السيرة الحلبية = إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون

نور الدين الحلبي

الجزء الأول

الجزء الأول بسم الله الرّحمن الرّحيم تقديم الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على صاحب أزكى سيرة محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد. فهذا كتاب «إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون» المعروف ب «السيرة الحلبية» لمؤلفه الشيخ علي الحلبي؛ ذكر فيه أن أحسن ما ألّف فيه هو كتاب «عيون الأثر» للحافظ أبي الفتح ابن سيّد الناس؛ غير أنه أطال بذكر الإسناد. ثم ذكر سيرة الشمس الشامي فقال: «وأما سيرة الشمس الشامي فهو وإن أتى فيها بما يعدّ في صفائح وجوه الصحائف حسنات، لكنه أتى فيها بما هو في أسماع ذوي الأفهام كالمعادات؛ ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم والضعيف والبلاغ والمرسل والمنقطع والمعضل دون الموضوع» «1» اهـ. فرأى أن يلخص هاتين السيرتين مع الضميمة إليهما بإشارة الشيخ أبي المواهب محمد البكري، ثم ذكر شيئا من أبيات القصيدة الهمزية للبوصيري وتائية السبكي من ديوانه المسمى ب «بشرى اللبيب بذكر الحبيب» «2» . وقبل تقديم الكتاب إلى القرّاء لا بدّ من ترجمة موجزة للمؤلف، فنقول: هو علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، أبو الفرج نور الدين ابن برهان الدين: مؤرخ أديب. أصله من حلب، وولد بمصر سنة 975 هـ (1567 م) وتوفي بها سنة 1044 هـ (1635 م) . له- عدا «إنسان العيون» وهو الكتاب الذي بين أيدينا- تصانيف كثيرة، منها: - زهر المزهر. اختصر به مزهر السيوطي. - مطالع البدور؛ في قواعد العربية. - غاية الإحسان فيمن لقيته من أبناء الزمان.

_ (1) انظر مقدمة المؤلف في أول هذا الكتاب. (2) انظر كشف الظنون (ص 180) .

- أعلام الطراز المنقوش في محاسن الحبوش. - حاشية على شرح المنهج؛ في فقه الشافعية. - فرائد العقود العلوية في حلّ ألفاظ شرح الأزهرية؛ في النحو. - النصيحة العلوية؛ في الطريقة الأحمدية. - عقد المرجان فيما يتعلق بالجان. - ملح الشيخ الأكبر. - النفحة العلوية. وغير ذلك «1» .

_ (1) انظر الأعلام للزركلي (4/ 251، 252) .

[المقدمة]

بسم الله الرّحمن الرّحيم [المقدّمة] حمدا لمن نضر وجوه أهل الحديث، وصلاة وسلاما على من نزل عليه أحسن الحديث، وعلى آله وأصحابه أهل التقدم في القديم والحديث، صلاة وسلاما دائمين ما سارت الأئمة في جمع سير المصطفى السير الحثيث. وبعد: فيقول أفقر المحتاجين، وأحوج المفتقرين، لعفو ذي الفضل والطول المتين، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي: إن سيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام من أهم ما اهتم به العلماء الأعلام، وحفاظ ملة الإسلام، كيف لا وهو الموصل لعلم الحلال والحرام، والحامل على التخلق بالأخلاق العظام، وقد قال الزهري رحمه الله: في علم المغازي «خير الدنيا والآخرة» وهو أول من ألف في السير. قال بعضهم: أول سيرة ألفت في الإسلام سيرة الزهري، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه فيقول: يا بنيّ هذه شرف آبائكم فلا تنسوا ذكرها، وأحسن ما ألف في ذلك وتداولته الأكياس، سيرة الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس، لما جمعت من تلك الدراري والدرر، ومن ثم سماها «عيون الأثر» غير أنه أطال بذكر الإسناد الذي كان للمحدثين به مزيد الاعتداد، وعليه لهم كثير الاعتماد، إذ هو من خصائص هذه الأمة، ومفتخر الأئمة، لكنه صار الآن لقصور الهمم لا تقبله الطباع، ولا تمتد إليه الأطماع. وأما سيرة الشمس الشامي، فهو وإن أتى فيها بما يعد في صفائح وجوه الصحائف حسنات، لكنه أتى فيها بما هو في أسماع ذوي الأفهام كالمعادات. ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم، والضعيف والبلاغ، والمرسل والمنقطع والمعضل دون الموضوع، ومن ثم قال الزين العراقي رحمه الله: وليعلم الطالب أن السيرا ... تجمع ما صح وما قد أنكرا وقد قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة: إذا روينا في الحلال والحرام

شددنا وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا. وفي الأصل: والذي ذهب إليه كثير من أهل العلم الترخص في الرقائق، وما لا حكم فيه من أخبار المغازي وما يجري مجرى ذلك، وأنه يقبل منها ما لا يقبل في الحلال والحرام، لعدم تعلق الأحكام بها، فلما رأيت السيرتين المذكورتين على الوجه الذي لا يكاد ينظر إليه لما اشتملتا عليه، عنّ لي أن ألخص من تينك السيرتين أنموذجا لطيفا يروق للأحداق، ويحلو للأذواق، يقرأ مع ما أضمه إليه بين يدي المشايخ على غاية الانسجام، ونهاية الانتظام، ولا زلت في ذلك أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لكوني لست من أهل هذا الشأن، ولا ممن يسابق في ميدانه على خيل الرهان، حتى أشار عليّ بذلك، وبسلوك تلك المسالك، من إشارته واجبة الاتباع، ومخالفة أمره لا تستطاع. ذو البديهة المطاوعة، والفضائل البارعة، والفواضل الكثيرة النافعة، من إذا سئل عن أي معضلة أشكلت على ذوي المعرفة والوقوف، لا تراه يتوقف، ولا يخرج عن صوب الصواب ولا يتعسف، ولا أخبر في كثير من الأوقات عن شيء من المغيبات وكاد أن يتخلف، وهو الأستاذ الأعظم والملاذ الأكرم، مولانا الشيخ أبو عبد الله وأبو المواهب محمد فخر الإسلام البكري الصديقي كيف لا وهو محل نظر والده، من نشر ذكره ملأ المشارق والمغارب، وسرى سره في سائر المساري والمسارب، ولي الله، والقائم بخدمته في الأسرار والإعلان، والعارف به الذي لم يتمار في أنه القطب الفرد الجامع اثنان مولانا: الأستاذ أبو عبد الله، وأبو بكر محمد البكري الصديقي. ولا بدع فإنه نتيجة صدر العلماء العاملين، وأستاذ جميع الأستاذين، والمعدود من المجتهدين، صاحب التصانيف المفيدة في العلوم العديدة، مولانا الأستاذ «محمد أبو الحسن» تاج العارفين البكري الصديقي، أعاد الله تعالى عليّ وعلى أحبابي من بركاتهم، وجعلنا في الآخرة من جملة أتباعهم، فلما أشار عليّ ذلك الأستاذ بتلك الإشارة ورأيتها منه أعظم بشارة، شرعت معتمدا في ذلك على من يبلغ كل مؤمل أمله، ولم يخيب من قصده وأمله وقد يسر الله تعالى ذلك على أسلوب لطيف، ومسلك شريف، لا تمله الأسماع، ولا تنفر منه الطباع، والزيادة التي أخذتها من سيرة الشمس الشامي على سيرة أبي الفتح ابن سيد الناس، الموسومة ب «عيون الأثر» إن كثرت ميزتها بقولي في أولها قال، وفي آخرها انتهى: وإن قلت أتيت بلفظة أي وجعلت في آخر القولة دائرة هكذا بالحمرة وربما أقول وفي السيرة الشامية، وربما عبرت عن الزيادة القليلة بقال، وعن الكثيرة بأي، وما ليس بعده تلك الدائرة فهو من الأصل، أعني «عيون الأثر» غالبا، وقد يكون من زيادتي على الأصل والشامي كما يعلم بالوقوف عليهما، وربما ميزت تلك الزيادة بقولي في أولها أقول، وفي آخرها والله أعلم، وقد يكون من الزيادة ما أقول. وفي السيرة الهشامية بتقديم الهاء على

الشين: وحيث أقول قال في الأصل أو ذكر في الأصل أو نحو ذلك فالمراد به عيون الأثر، ثم عنّ لي أن أذكر من أبيات «القصيدة الهمزية» المنسوبة لعالم الشعراء وأشعر العلماء وهو الشيخ شرف الدين البوصيري ناظم القصيدة المعروفة «بالبردة» ما تضمنته تلك الأبيات، وأشارت إليه من ذلك السياق، فإنه أحلى في الأذواق، وربما أحل ذلك النظم بما يوضح معناه، ويظهر تركيب مبناه، وربما أذكر أيضا من أبيات «تائية الإمام السبكي» ما يناسب المقام، وربما أذكر أيضا بعض أبيات من كلام صاحب الأصل من قصائده النبوية المجموعة بديوانه المسمى، ب «بشرى اللبيب بذكرى الحبيب» . وقد سميت مجموع ذلك: «إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون» . وأسأل من لا مسؤول إلا إياه، أن يجعل ذلك وسيلة لرضاه آمين.

باب: نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم

باب: نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم هو محمد صلى الله عليه وسلم (ابن عبد الله) ومعنى عبد الله: الخاضع الذليل له تعالى، وقد جاء «أحب أسمائكم» وفي رواية: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» وجاء «أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به» وقد سمي صلى الله عليه وسلم بعبد الله في القرآن، قال الله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجنّ: الآية 19] وعبد الله هذا هو (ابن عبد المطلب) ويدعى شيبة الحمد لكثرة حمد الناس له: أي لأنه كان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور، فكان شريف قريش وسيدها كمالا وفعالا من غير مدافع. وقيل: قيل له شيبة الحمد، لأنه ولد وفي رأسه شيبة: أي وفي لفظ كان وسط رأسه أبيض، أو سمي بذلك تفاؤلا بأنه سيبلغ سن الشيب قيل اسمه عامر، وعاش مائة وأربعين سنة: أي وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وكان مجاب الدعوة، وكان يقال له الفياض لجوده، ومطعم طير السماء لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال. قال: وكان من حلماء قريش وحكمائها، وكان نديمه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان، وكان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة، فأغرى عليه حرب من قتله، فلما علم عبد المطلب بذلك ترك منادمة حرب، ولم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي حفظا لجواره، ثم نادم عبد الله بن جدعان انتهى ملخصا. وقيل له عبد المطلب، لأن عمه المطلب لما جاء به صغيرا من المدينة أردفه خلفه: أي وكان بهيئة رثة: أي ثياب خلقة، فصار كل من يسأل عنه ويقول من هذا؟ يقول عبدي أي حياء أن يقول ابن أخي، فلما دخل مكة أحسن من حاله وأظهر أنه ابن أخيه وصار يقول لمن يقول له عبد المطلب: ويحكم إنما هو شيبة ابن أخي هاشم لكن غلب عليه الوصف المذكور فقيل له عبد المطلب: أي وقيل لأنه تربى في حجر عمه المطلب، وكان عادة العرب أن تقول لليتيم الذي يتربى في حجر أحد هو عبده وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور. وكان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبهم عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكر وقال: والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته: أي فالمظلوم شأنه في الدنيا ذلك، حتى إذا خرج من الدنيا ولم تصبه

العقوبة فهي معدة له في الآخرة، ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله سبحانه وتعالى. وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها: منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤدة، وتحريم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان كذا في كلام سبط ابن الجوزي (ابن هاشم) وهاشم: هو عمرو العلا أي لعلو مرتبته، وهو أخو عبد شمس وكانا توأمين، وكانت رجل هاشم أي أصبعها ملصقة بجبهة عبد شمس، ولم يكن نزعها إلا بسيلان دم، فكانوا يقولون سيكون بينهما دم، فكان بين ولديهما أي بين بني العباس وبين بني أمية سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة، ووقعت العداوة بين هاشم وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس، لأن هاشما لما ساد قومه بعد أبيه عبد مناف حسده أمية ابن أخيه، فتكلف أن يصنع كما يصنع هاشم فعجز، فعيرته قريش وقالوا له أتتشبه بهاشم، ثم دعا هاشما للمنافرة فأبى هاشم ذلك لسنه وعلو قدره، فلم تدعه قريش، فقال هاشم لأمية: أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة، والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية بذلك، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وكان بعسفان، فخرج كل منهما في نفر، فنزلوا على الكاهن، فقال قبل أن يخبروه خبرهم «والقمر الباهر» والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر فنصر هاشم على أمية، فعاد هاشم إلى مكة ونحر الإبل، وأطعم الناس، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية، وتوارث ذلك بنوهما، وكان يقال لهاشم وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل أقداح النضار: أي الذهب، ويقال لهم المجيرون لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على سائر العرب. قال بعضهم: ولا يعرف بنو أب تباينوا في محالّ موتهم مثلهم، فإن هاشما مات بغزة: أي كما سيأتي، وعبد شمس مات بمكة، وقبره بأجياد، ونوفلا مات بالعراق، والمطلب مات ببرعاء من أرض اليمن: أي وقيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد بعد جده إبراهيم، فإن ابراهيم أول من فعل ذلك: أي ثرد الثريد وأطعمه المساكين وفيه أن أول من ثرد الثريد، وأطعمه بمكة بعد إبراهيم جد هاشم قصي. ففي الإمتاع: وقصي أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة. وفيه أيضا هاشم عمرو العلا، أول من أطعم الثريد بمكة، وسيأتي أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي، فليتأمل. وقد يقال: لا منافاة لأن الأولية في ذلك إضافية، فأولية قصي لكونه من قريش وأولية عمرو بن لحي لكونه من خزاعة، وأولية هاشم باعتبار شدة مجاعة حصلت لقريش وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله: وأطعم في المحل عمرو العلا ... فللمسنتين به خصب عام

وقال أيضا: عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه ... مر السحاب ولا ريح تجاريه جفانه كالجوابي للوفود إذا ... لبوا بمكة ناداهم مناديه أو أمحلوا أخصبوا منها وقد ملئت ... قوتا لحاضره منهم وباديه وقد قيل فيه: قل للذي طلب السماحة والندى ... هلا مررت بآل عبد مناف الرائشون وليس يوجد رائش ... والقائلون هلمّ للأضياف وعن بعض الصحابة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله تعالى عنه على باب بني شيبة فمر رجل وهو يقول: يا أيها الرجل المحوّل رحله ... ألا نزلت بآل عبد الدار هبلتك أمك، لو نزلت برحلهم ... منعوك عن عدم ومن إقتار فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، ولكنه قال: يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن اقراف الخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هكذا سمعت الرواة ينشدونه، وكان هاشم بعد أبيه عبد مناف على السقاية والرفادة، فكان يعمل الطعام للحجاج، يأكل منه من لم يكن له سعة ولا زاد، ويقال لذلك الرفادة. واتفق أنه أصاب الناس سنة جدب شديد فخرج هاشم إلى الشام، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام، فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم، فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر وجعله ثريدا، وأطعم الناس حتى أشبعهم، فسمي بذلك هاشما. وكان يقال له أبو البطحاء وسيد البطحاء. قال بعضهم: لم تزل مائدته منصوبة لا ترفع في السراء والضراء. قال ابن الصلاح: روينا عن الإمام سهل الصعلوكي رضي الله عنه أنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» أراد فضل ثريد عمرو العلا، الذي عظم نفعه وقدره، وعم خيره وبره، وبقي له ولعقبه ذكره. وقد أبعد سهل في تأويل الحديث.

والذي أراه أن معناه تفضيل الثريد من الطعام على باقي الطعام، لأن سائر بمعنى باقي أي فالمراد أي ثريد لا خصوص ثريد عمرو العلا حتى يكون أفضل من ثريد غيره. وكان هاشم يحمل ابن السبيل، ويؤمن الخائف. قال: وقد ذكر أنه كان إذا هل هلال ذي الحجة قام صبيحته وأسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ويخطب ويقول في خطبته: يا معشر قريش إنكم سادة العرب، أحسنها وجوها، وأعظمها أحلاما أي عقولا، وأوسط العرب: أي أشرفها أنسابا، وأقرب العرب بالعرب أرحاما. يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله تعالى، أكرمكم الله تعالى بولايته، وخصكم بجواره دون بني إسمعيل، وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من أكرم أضياف الله أنتم فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فو رب هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام؟ فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا، لم يؤخذ ظلما، ولم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصبا، فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجونه من أموالهم فيضعونه في دار الندوة انتهى. وقيل في تسمية شيبة الحمد عبد المطلب غير ما تقدم. فقد قيل: إنما سمي شيبة الحمد عبد المطلب، لأن أباه هاشما قال للمطلب الذي هو أخو هاشم وهو بمكة حين حضرته الوفاة أدرك عبدك يعني شيبة الحمد بيثرب، فمن ثم سمي عبد المطلب كذا في المواهب وقدمه على ما تقدم. وفيه أنه حكى غير واحد أن هاشما خرج تاجرا إلى الشام، فنزل على شخص من بني النجار بالمدينة وتزوج بنته على شرط أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها: أي ثم مضى لوجهه قبل أن يدخل بها ثم انصرف راجعا فبنى بها في أهلها ثم ارتحل بها إلى مكة، فلما أثقلت بالحمل خرج بها فوضعها عند أهلها بالمدينة ومضى إلى الشام فمات بغزة، قيل وعمره حينئذ عشرون سنة، وقيل أربع، وقيل خمس وعشرون. وولدت شيبة الحمد فمكث بالمدينة سبع سنين وقيل ثمان، فمر رجل على غلمان يلعبون أي ينتضلون بالسهام وإذا غلام فيهم إذا أصاب قال أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الرجل: ممن أنت يا غلام؟ فقال أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف، فلما قدم الرجل مكة وجد المطلب جالسا بالحجر فقص عليه ما رأى، فذهب إلى المدينة، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه خفية من أمه. وفي لفظ أنه عرفه بالشبه وقال لمن كان يلعب معه: أهذا ابن هاشم؟ قالوا

نعم، فعرفهم أنه عمه، فقالوا له: إن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه، فإنها إن علمت بك لم تدعك وحالت بينك وبينه، فدعاه المطلب وقال يا ابن أخي أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك، وأناخ ناقته فجلس على عجز الناقة، فانطلق به ولم تعلم به أمه حتى كان الليل فقامت تدعوه، فأخبرت أن عمه قد ذهب به وكساه حلة يمانية، ثم قدم به مكة، فقالت قريش: هذا عبد المطلب: أي فإن هذا السياق يدل على أن عبد المطلب إنما ولد بعد موت أبيه هاشم بغزة، وكون عمه المطلب كساه حلة لا ينافي ما سبق أنه دخل به مكة وثيابه رثة خلقة، لأنه يجوز أن تكون هذه الحلة ألبست له عند أخذه ثم نزعت عنه في السفر: أي أو أن هذه الحلة اشتراها بمكة كما يصرح به كلام بعضهم. وما وقع هنا من تصرف الراوي على أنه يجوز أن يكون اشترى له حلتين واحدة ألبسها له بالمدينة وأخرى اشتراها بمكة وألبسها له. وفي السيرة الهشامية أن أم عبد المطلب كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلا فارقته: أي وإنها لا تلد ولدا إلا في أهلها كما تقدم، وأن عمه المطلب لما جاءه لأخذه قالت له لست بمرسلته معك، فقال لها المطلب: إني غير منصرف حتى أخرج به معي، إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف في قومنا، وقومه وعشيرته وبلده خير من الإقامة في غيرهم، فقال شيبة لعمه: إني لست بمفارقها إلا أن تأذن لي، فأذنت له ودفعته إليه، فأردفه خلفه على بعيره. ويحتاج إلى الجمع بين هذا وما قبله، فقالت قريش عبد المطلب ابتاعه: أي ظنا منهم أنه اشتراه من المدينة فإن الشمس أثرت فيه وعليه ثياب أخلاق، فقال لهم: ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم. ولا يخالف هذا ما سبق، من أنه صار يقول لمن يسأله عنه من هذا؟ فيقول عبدي، لأنه يجوز أن يكون بعض الناس قال من عند نفسه هذا عبد المطلب ظنا منه، وبعضهم سأله فأجابه بقوله هذا عبدي كما تقدم، ولما دخل مكة قال لهم ويحكم إلى آخره. وهاشم (بن عبد مناف) وعبد مناف اسمه المغيرة. أي وكان يقال له قمر البطحاء لحسنه وجماله، وهذا هو الجد الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان، والجد التاسع لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنهما. ووجد كتاب في حجر: أنا المغيرة بن قصي، أوصي قريشا بتقوى الله جل وعلا، وصلة الرحم، ومناف أصله مناة اسم صنم كان أعظم أصنامهم، وكانت أمه جعلته خادما لذلك الصنم. وقيل وهبته له لأنه كان أول ولد لقصي على ما قيل، لأن عبد مناف بن قصي أي ويسمى قصي زيدا. وعن إمامنا الشافعي رضي الله عنه أن اسمه يزيد، ويدعى مجمعا أيضا. وقيل

له قصي لأنه قصي: أي بعد عن عشيرته إلى أخواله بني كلب في ناديهم. وقيل بعد إلى قضاعة مع أمه لأنها كانت منهم. أقول: لا مناقاة، لجواز أن تكون أم قصي من بني كلب وأبوها من قضاعة، وأنها رحلت بعد موت عبد مناف إلى بني كلب، ثم لما تزوجت من قضاعة رحلت إليها، ولعل قضاعة كانت جهة الشام، فلا يخالف ما قيل. وقيل له قصي لأنه بعد مع أمه إلى الشام، لأن أمه تزوجت بعد موت أبيه وهو فطيم بشخص يقال له ربيعة بن حزام. وقيل حزام بن ربيعة العذري، فرحل بها إلى الشام وكان قصي لا يعرف له أبا إلا زوج أمه المذكور، فلما كبر وقع بينه وبين آل زوج أمه شرا: أي فإنه ناضل رجلا منهم فنضله قصي أي غلبه، فغضب ذلك الرجل وعير قصيا بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك وببلادك فإنك لست منا. وفي لفظ: لما قيل له ذلك، قال ممن أنا؟ قيل له سل أمك فشكا ذلك إلى أمه، فقالت له: بلادك خير من بلادهم، وقومك خير من قومهم، أنت أكرم أبا منهم، أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك بمكة عند البيت الحرام تفد إليه العرب، وقد قالت لي كاهنة رأتك صغيرا إنك تلي أمرا جليلا، فلما أراد الخروج إلى مكة قالت له أمه: لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام فتخرج مع حجاج قضاعة، فإني أخاف عليك، فشخص مع الحجاج، فقدم قصي مكة على قومه مع حجاج قضاعة، فعرفوا له فضله وشرفه، فأكرموه وقدموه عليهم، فساد فيهم ثم تزوج بنت حليل بالحاء المهملة المضمومة الخزاعي وكان أمر مكة والبيت إليه، وهو آخر من ولي أمر البيت والحكم بمكة من خزاعة، فجاء منها بأولاده الآتي ذكرهم، فلما انتشر ولده وكثر ماله وعلم شرفه مات حليل، فرأى قصي أنه أولى بأمر مكة من خزاعة، لأن قريشا أقرب إلى إسمعيل من خزاعة، فدعا قريشا وبني كنانة إلى إخراج خزاعة من مكة فأجابوه إلى ذلك وانضم له قضاعة، جاء بهم أخو قصي لأمه فأزاح قصي يد خزاعة وولي أمر مكة. وقيل إن حليلا جعل أمر البيت لقصي. ولا منافاة لجواز أن تكون خزاعة لم ترض بما فعله حليل من أن يكون أمر البيت لقصي فحاربهم وأخرجهم من مكة. وقيل إن حليلا أوصى بذلك لأبي غبشان بضم الغين المعجمة بعد أن أوصى بذلك لابنته زوج قصي وقالت له لا قدرة لي على فتح البيت وإغلاقه، وأن قصيا أخذ ذلك منه بزق خمر، فقالت العرب: أخسر صفقة من أبي غبشان. وقيل إن أبا غبشان أعطى ذلك لبنت حليل زوج قصي، وأعطاه قصي أثوابا وأبعرة، فكان أبو غبشان آخر من ملك أمر مكة والبيت من خزاعة.

ولا يخالف ذلك ما تقدم من أن حليلا آخر من ولي أمر البيت والحكم بمكة، لجواز أن يكون المراد آخر من ولي ذلك، واستمر كذلك إلى أن مات. قال بعضهم: وكان أبو غبشان خالا لقصي، وكان في عقله شيء، فخدعه قصي فاشترى منه أمر مكة والبيت بأذواد من الإبل. والجمع بين هذه الروايات من أن قصيا أخذه من أبي غبشان بزق خمر، وبين أنه أخذ ذلك بأثواب وأبعرة، وبين أنه أخذ ذلك بأذواد من الإبل ممكن، لجواز أن يكون جمع بين الخمر والأثواب والإبل فوقع الاقتصار على بعضها من بعض الرواة تأمل. ثم جمع قصي قريشا بعد تفرقها في البلاد وجعلها اثنتي عشرة قبيلة كما سيأتي، ومن ثم قيل له مجمع. وفي كلام بعضهم: ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم مجمعا، وإلى ذلك يشير قول الشاعر: قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر وهذا البيت من قصيدة مدح بها عبد المطلب مدحه بها حذافة بن غانم، فإن ركبا من جذام فقدوا رجلا منهم غالته بيوت مكة، فلقوا حذافة فأخذوه فربطوه ثم انطلقوا به، فتلقاهم عبد المطلب مقبلا من الطائف معه ابنه أبو لهب يقوده وقد ذهب بصره، فلما نظر إليه حذافة هتف به، فقال عبد المطلب لأبي لهب: ويلك ما هذا؟ قال: هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب، قال الحقهم واسألهم ما شأنهم، فلحقهم فأخبروه الخبر، فرجع إلى عبد المطلب، فقال ما معك؟ قال: والله ما معي شيء، قال: الحقهم لا أم لك وأعطهم ما بيدك وأطلق الرجل، فلحقهم أبو لهب فقال: قد عرفتم تجارتي ومالي، وأنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا وعشرا من الإبل وفرسا، وهذا ردائي رهنا بذلك، فقبلوه منه وأطلقوا حذافة فأقبل به، فلما سمع عبد المطلب صوت أبي لهب قال: وأبي إنك لعاص؟ ارجع لا أم لك، قال: يا أبتاه هذا الرجل معي، فناداه يا حذافة أسمعني صوتك فقال: ها أنا ذا بأبي أنت يا ساقي الحجيج أردفني، فأردفه خلفه حتى دخل مكة، فقال حذافة هذه القصيدة ومطلعها: بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ... يضيء ظلام الليل كالقمر البدر وهي قصيدة جيدة. فإن قيل: كيف قبل القوم من أبي لهب رهن ردائه على ما ذكره لهم في أن يخلوا عن الرجل مع أن رداءه لا يقع موقعا من ذلك؟ أجيب: بأن سنة العرب وطريقتهم أن الواحد منهم إذا رهن غيره ولو شيئا حقيرا على أمر جليل لا يقدر، بل يحرص على وفاء ما رهن عليه، ومن ثم لما أجدبت أرض تميم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذهب سيدهم حاجب بن زرارة والد عطارد

رضي الله تعالى عنه إلى كسرى ليأخذ منه أمانا لقومه لينزلوا ريف العراق لأجل المرعى، فقال له كسرى: أنتم قوم غدر، وأخاف على الرعايا منكم، فقال له حاجب: أنا ضامن أن لا تفعل قومي شيئا من ذلك، فقال له كسرى: ومن لي بوفائك؟ قال: هذه قوسي رهينة، فحمقه كسرى وجلساؤه وضحكوا منه، فقيل له: العرب لو رهن أحدهم شيئا لا بد أن يفي به، فلما أخصبت أرض تميم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم لما وفد إليه جماعة منهم وأسلموا ومات حاجب، أمر عطارد رضي الله عنه قومه بالذهاب إلى بلادهم، وجاء عطارد رضي الله عنه إلى كسرى فطلب قوس أبيه، فقال: إنك لم تسلم إليّ شيئا فقال: أيها الملك، أنا وارث أبي وقد وفينا بالضمان، فإن لم تدفع إلي قوس أبي صار عارا علينا وسبة، فدفعها له وكساه حلة، فلما وفد عطارد على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم دفعها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلها وقال «إنما يلبس هذه الحلة من لا خلاق له» فكانت بنو تميم تعد ذلك القوس من مفاخرهم، وإلى هذا أشار بعض الشعراء وقد أحسن وأجاد وتلطف بقوله: تزهو علينا بقوس حاجبها ... تيه تميم بقوس حاجبها وصار قصي رئيسا لقريش على الإطلاق حين أزاح يد خزاعة عن البيت، وأجلاهم عن مكة بعد أن لم يسلموا لقصي في ولاية أمر البيت، ولم يجيزوا ما فعل حليل وأبو غبشان على ما تقدم، وذلك بعد أن اقتتلوا آخر أيام منى بعد أن حذرتهم قريش الظلم والبغي، وذكرتهم ما صارت إليه جرهم حين ألحدوا في الحرم بالظلم، فأبت خزاعة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكثر القتل والجراح في الفريقين إلا أنه في خزاعة أكثر، ثم تداعوا للصلح واتفقوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن عوف وكان رجلا شريفا، فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غدا، فلما اجتمعوا قام يعمر، فقال: ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدميّ هاتين، فلا تباعة لأحد على أحد في دم. وقيل قضى بأن كل دم أصابته قريش من خزاعة موضوع، وأن ما أصابته خزاعة من قريش فيه الدية، وقضى لقصيّ بأنه أولى بولاية مكة، فتولاها. قيل: وكان يعشر من دخل مكة من غير أهلها، أي بتجارة، وكانت خزاعة قد أزالت يد جرهم عن ولاية البيت، فإن مضاض بن عمرو الجرهمي الأكبر ولي أمر البيت بعد ثابت بن إسمعيل عليه الصلاة والسلام، فإنه كان جدا لثابت وغيره من أولاد إسمعيل لأمهم، واستمرت جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسمعيل في ذلك لخؤولتهم، وإعظاما لأن يكون بمكة بغي. ثم إن جرهما بغوا بمكة، وظلموا من يدخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، حتى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني ولم يجد مكانا دخل البيت فزنى فيه، فأجمعت- أي عزمت- خزاعة لحربهم وإخراجهم من مكة،

ففعلوا ذلك بعد أن سلط الله تعالى على جرهم دواب تشبه النغف بالغين المعجمة والفاء: وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم، فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب. وقيل سلط الله عليهم الرعاف فأفنى غالبهم: أي وجاز أن يكون ذلك الدم ناشئا عن ذلك الدود فلا مخالفة، وذهب من بقي إلى اليمن مع عمرو بن الحرث الجرهمي آخر من ملك أمر مكة من جرهم، وحزنت جرهم على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا وقال عمرو أبياتا منها: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر وكنا ولاة البيت من بعد ثابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والدهور البواتر ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أكتب بين يدي الوزير يحيى بن خالد البرمكي أيام الرشيد فأخذه النوم، فنام برهة ثم انتبه مذعورا فقال: الأمر كما كان، والله ذهب ملكنا، وذل عزنا، وانقضت أيام دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: سمعت منشدا أنشدني: كأن لم يكن بين الحجون البيت، وأجبته من غير روية: بلى نحن كنا أهلها البيت، فلما كان اليوم الثالث وأنا بين يديه على عادتي إذ جاءه إنسان وأكب عليه، وأخبره أن الرشيد قتل جعفرا الساعة قال: أو قد فعل؟ قال نعم، فما زاد أن رمى القلم من يده وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة. ومما يؤثر عن يحيى هذا: ينبغي للإنسان أن يكتب أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، ويحدث بأحسن ما يحفظ. وقال: من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما. وصارت خزاعة بعد جرهم ولاة البيت والحكام بمكة كما تقدم، وكان كبير خزاعة عمرو بن لحي، وهو ابن بنت عمرو بن الحارث الجرهمي آخر ملوك جرهم المتقدم ذكره. وقد بلغ عمرو بن لحي في العرب من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده في الجاهلية. وهو أول من أطعم الحج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد. والسدائف: جمع سديف، وهو شحم السنام، وذهب شرفه في العرب كل مذهب حتى صار قوله دينا متبعا لا يخالف. وفي كلام بعضهم: صار عمرو للعرب ربا، لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم، وربما نحر لهم في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة. وهو أول من غير دين إبراهيم: أي فقد قال بعضهم: تظافرت نصوص العلماء

على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه: أي من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي، فهو أول من غير دين إبراهيم، وشرع للعرب الضلالات، فعبد الأصنام وسيب السائبة وبحر البحيرة. وقيل أول من بحر البحيرة رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيته في النار يخبطانه بأخفافهما، ويعضانه بأفواههما» . وعمرو أول من وصل الوصيلة، وحمى الحامي، ونصب الأصنام حول الكعبة وأتى بهبل من أرض الجزيرة ونصبه في بطن الكعبة فكانت العرب تستقسم عنده بالأزلام على ما سيأتي. وأول من أدخل الشرك في التلبية، فإنه كان يلبي بتلبية إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وهي «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك» فعند ذلك تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه، فلما قال عمرو لبيك لا شريك لك، قال له ذلك الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر عمرو ذلك، فقال له ذلك الشيخ: تملكه وما ملك، وهذا لا بأس به، فقال ذلك عمرو، فتبعته العرب على ذلك: أي فيوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده، قال تعالى توبيخا لهم وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) [يوسف: الآية 106] وهو أول من أحل أيضا أكل الميتة، فإن كل القبائل من ولد إسمعيل لم تزل تحرم أكل الميتة حتى جاء عمرو بن لحي فزعم أن الله تعالى لا يرضى تحريم أكل الميتة، قال: كيف لا تأكلون ما قتل الله وتأكلون ما قتلتم؟. وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبه في النار» وفي رواية «أمعاءه» أي وهي المراد بالقصب بضم القاف. وفي رواية «رأيته يؤذي أهل النار بريح قصبه» ويقال للأمعاء الأقتاب واحدها قتب بكسر القاف وسكون المثناة الفوقية آخره باء موحدة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار» والاندلاق: الخروج بسرعة. وقال صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي واسمه عبد العزى وأكثم بالثاء المثلثة: وهو في اللغة واسع البطن «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه من رجل منك به ولا بك منه، فقال أكثم: فعسى أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسمعيل فنصب الأوثان» أي ودين إسماعيل هو دين إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فإن العرب من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام استمرت على دينه لم يغيره أحد إلى عهد عمرو المذكور كما تقدم. وفي كلام بعضهم أن أكثم هذا هو أبو معبد زوج أم معبد التي مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الهجرة، وأكثم هذا هو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت

الدجال، فإذا أشبه الناس به أكثم بن عبد العزى، فقام أكثم فقال: أيضرني شبهي إياه؟ فقال: لا، أنت مؤمن وهو كافر» ورده ابن عبد البر حيث قال: الحديث الذي فيه ذكر الدجال لا يصح إنما يصح ما قاله في ذكر عمرو بن لحي. وإنما كان عمرو بن لحي أول من نصب الأوثان، لأنه خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فرأى بأرض البلقاء العماليق ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، ورآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم، ما هذه؟ قالوا هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب؟ فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة فنصبه في بطن الكعبة على بئرها، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه فكان الرجل إذا قدم من سفره بدأ به قبل أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده، وكان عند هبل سبع قداح: قدح فيه مكتوب العقل اذا اختلفوا فيمن يحمله منهم ضربوا به فعلى من خرج حمله. وقدح مكتوب فيه نعم. وقدح مكتوب فيه لا وذلك للأمر الذي يريدونه، وقدح فيه منكم. وقدح فيه ملصق من غيركم إذا اختلفوا في ولد هل هو منهم أو لا. وقدح فيه بها. وقدح فيه ما بها إذا أرادوا أرضا يحفرونها للماء وكان هبل من العقيق على صورة إنسان. وعاش عمرو بن لحي هذا ثلاثمائة سنة وأربعين سنة، ورأى من ولده وولد ولده ألف مقاتل: أي ومكث هو وولده من بعده في ولاية البيت خمسمائة سنة، وكان آخرهم حليل الذي تزوج قصيّ ابنته كما تقدم. وقيل: وكان لعمرو تابع من الجن، فقال له: اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام، وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فذهب وأتى بها إلى مكة ودعا إلى عبادتها، فانتشرت عبادة الأصنام في العرب، فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، وقيل لهذيل، ويغوث لمذحج بالذال المعجمة على وزن مسجد أبو قبيلة من اليمن، ويعوق لمراد. وقيل لهمدان، ونسر لحمير أي وكانوا هؤلاء على صور عباد ماتوا، فحزن أهل عصرهم عليهم فصوّر لهم إبليس اللعين أمثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم، فجعلوها في مؤخر المسجد، فلما هلك أهل ذلك العصر قال اللعين لأولادهم: هذه آلهة آبائكم تعبدونها، ثم إن الطوفان دفنها في ساحل جدة فأخرجها اللعين. وفي كلام بعضهم أن آدم كان له خمسة أولاد صلحاء، وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فمات ودّ فحزن الناس عليه حزنا شديدا، واجتمعوا حول قبره لا يكادون يفارقونه، وذلك بأرض بابل، فلما رأى إبليس ذلك من فعلهم جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم: هل لكم أن أصور لكم صورته إذا نظرتم إليها ذكرتموه؟ قالوا نعم، فصوّر لهم صورته، ثم صار كلما مات واحد منهم صور صورته وسموا

تلك الصور بأسمائهم، ثم لما تقادم الزمان وماتت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال لمن حدث بعدهم إن الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصور فعبدوها، فأرسل الله لهم نوحا، فنهاهم عن عبادتها فلم يجيبوه لذلك، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق. فأول ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح، فأرسله الله تعالى إليهم فنهاهم عن ذلك. ويقال إن عمرو بن لحي هو الذي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد، وكانت الأزد يحجون إليه ويعظمونه، وكذلك الأوس والخزرج وغسان. وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني في تفسيره لبعض الآيات القرآنية عند قوله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: الآية: 15] أن أصل وضع الأصنام إنما هو من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين، فإنهم نزهوا الله تعالى عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم، فلما رأوا أن بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلي والجواهر، وعظموها بالسجود وغيره ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم، وغاب عن أولئك العلماء أن ذلك لا يجوز إلا بإذن من الله تعالى، هذا كلامه. وكان في زمان جرهم رجل فاجر يقال له إساف فجر بامرأة يقال لها نائلة في جوف الكعبة أي قبلها فيها كما في تاريخ الأزرقي. وقيل زنى بها فمسخا حجرين، فأخرجا منها ونصبا على الصفا والمروة ليكونا عبرة، فلما كان زمن عمرو بن لحي أخذهما ونصبهما حول الكعبة أي على زمزم وجعلا في وجهها وصار من يطوف يتمسح بهما يبدأ بإساف ويختم بنائلة، وذلك قبل أن يقدم عمرو بهبل وبتلك الأصنام، وكانت قريش تذبح ذبائحها عندهما. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما كسر نائلة عند فتح مكة خرجت منها امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها وهي تنادي بالويل والثبور، وكان عمرو يخبر قومه بأن الرب يشتي بالطائف عند اللات ويصيف عند العزى، فكانوا يعظمونهما وكانوا يهدون إلى العزى كما يهدون إلى الكعبة. وقصي هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم حول البيت وقال لهم إن فعلتم ذلك هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم، فبنوا حول البيت من جهاته الأربع وجعلوا أبواب بيوتهم جهته لكل بطن منهم باب ينسب الآن إليه، كباب بني شيبة، وباب بني سهم، وباب بني مخزوم، وباب بني جمع، وتركوا قدر الطواف بالبيت، فبنى قصي دار الندوة وهي أول دار بنيت بمكة، واستمر الأمر على أنه ليس حول الكعبة إلا قدر المطاف، وليس حوله جدار زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن ولاية الصديق رضي الله

عنه فلما كان زمن ولاية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اشترى تلك الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم لما كان زمن ولاية عثمان رضي الله عنه اشترى دورا آخر وغالى في ثمنها وهدمها وزاد في سعة المسجد، ثم إن ابن الزبير رضي الله عنهما زاد في المسجد زيادة كثيرة، ثم إن عبد الملك بن مروان رفع جداره وسقفه بالساج وعمره عمارة حسنة ولم يزد فيه شيئا، ثم إن الوليد بن عبد الملك وسع المسجد وحمل إليه أعمدة الرخام، ثم زاد فيه المهدي والد الرشيد مرتين، واستقر بناؤه على ذلك إلى الآن. وكانت قريش قبل ذلك: أي قبل بناء منازلهم في الحرم يحترمون الحرم ولا يبيتون فيه ليلا، وإذا أراد أحدهم قضاء حاجة الإنسان خرج إلى الحل. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس بكسر الميم أفصح من فتحها، وهو على ثلثي فرسخ من مكة، وهابت قريش قطع شجر الحرم التي في منازلهم التي بنوها، فقد كان بمكة شجر كثير من العضاه والسلم، وشكوا في ذلك إلى قصي فأمرهم بقطعها، فهابوا ذلك، فقالوا نكره أن ترى العرب أنا استخففنا بحرمنا، فقال قصي: إنما تقطعونه لمنازلكم وما تريدون به فسادا، بهلة الله: أي لعنته على من أراد فسادا، فقطعها قصي بيده وبيد أعوانه. وفي كلام السهيلي عن الواقدي: الأصح أن قريشا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي كيف نصنع في شجر الحرم، فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك، فكان أحدهم يحدق بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله. قال: وأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبد الله بن الزبير حين ابتنى دورا بقعيقعان، لكنه جعل فداء كل شجرة بقرة فليتأمل الجمع. وأنزل قصي القبائل من قريش: أي فإنه جعلها اثنتي عشرة قبيلة كما تقدم في نواحي مكة بطاحها وظواهرها، ومن ثم قيل لمن سكن البطاح قريش البطاح، ولمن سكن الظواهر قريش الظواهر، والأولى أشرف من الثانية، ومن الأولى بنو هاشم، وإلى ذلك يشير صاحب الأصل في وصفه صلى الله عليه وسلم بقوله: من بني هاشم بن عبد مناف ... وبنو هاشم بحار الحباء من قريش البطاح من عرف النا ... س لهم فضلهم بغير امتراء قال بعضهم: كان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا ولما حضر الحج قال لقريش: قد حضر الحج وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجا ففعلوا، فجمع من ذلك شيئا كثيرا، فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من

طرق مكة جزورا ونحر بمكة وجعل الثريد واللحم، وسقي الماء المحلى بالزبيب وسقي اللبن. وهو أول من أوقد النار بمزدلفة ليراها الناس من عرفة ليلة النفر. ومما يؤثر عن قصي: من أكرم لئيما أشركه في لؤمه. ومن استحسن قبيحا نزل إلى قبحه. ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان. ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان. والحسود العدو الخفي. ولما احتضر قال لأولاده: اجتنبوا الخمرة، فإنها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان. وحاز قصي شرف مكة كله، فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة. وكان عبد الدار أكبر أولاد قصي وعبد مناف أشرفهم: أي لأنه شرف في زمان أبيه قصي، وذهب شرفه كل مذهب، وكان يليه في الشرف أخوه المطلب، كان يقال لهما البدران، وكانت قريش تسمي عبد مناف الفياض لكثرة جوده، فأعطى قصي ولده عبد الدار جميع تلك الوظائف التي هي السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة: أي فإنه قال له: أما والله يا بني لألحقنك بالقوم يعني أخويه عبد مناف والمطلب وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له: أي بسبب الحجابة للبيت، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك: أي وهذا هو المراد باللواء، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، وهذا هو المراد بالسقاية، ولا يأكل أحد من أهل الموسم إلا من طعامك: أي وهذا هو المراد بالرفادة ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك يعني دار الندوة: أي ولا يكون أحد قائد القوم إلا أنت وذلك بسبب القيادة. فلما مات عبد الدار وأخوه عبد مناف أراد بنو عبد مناف وهم هاشم وعبد شمس والمطلب، وهؤلاء إخوة لأب وأم، أمهم عاتكة بنت مرة، ونوفل أخوهم لأبيهم، أمه واقدة بنت حرمل أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبد الدار، وأجمعوا على المحاربة: أي وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاقدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبين: أي أخرجتها لهم أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه، ووضعتها في الحجر وقالت: من تطيب بهذا فهو منا، فتطيب منها مع بني عبد مناف بنو زهرة وبنو أسد بن عبد العزى وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر، فالمطيبون من قريش خمس قبائل. وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم، وهم: بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب، على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا،

فسموا الأحلاف لتحالفهم بعد أن أخرجوا جفنة مملوءة دما من دم جزور نحروها ثم قالوا: من أدخل يده في دمها فلعق منه فهو منا وصاروا يضعون أيديهم فيها ويلعقونها فسموا لعقة الدم. وقيل الذين لعقوا الدم فسموا لعقة الدم بنو عدي خاصة، ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، ودار الندوة بينهم بالاشتراك، وتحالفوا على ذلك هذا. والذي رأيته «في المشرق فيما يحاضر به من آداب المشرق» : ولما شرف عبد مناف بن قصي في حياة أبيه، وذهب شرفه كل مذهب، وكان قصي يحب ابنه عبد الدار أراد أن يبقي له ذكرا فأعطاه الحجابة ودار الندوة واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة، وجعل عبد الدار الحجابة لولده عثمان، وجعل دار الندوة لولده عبد مناف بن عبد الدار، ثم وليها عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده من بعده. والسقاية كانت حياضا من أدم توضع بفناء الكعبة، وينقل إليها الماء العذب من الآبار على الإبل في المزاود والقرب قبل حفر زمزم، وربما قذف فيها التمر والزبيب في غالب الأحوال لسقي الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا، وهذه السقاية قام بها وبالرفادة بعد عبد مناف ولده هاشم، وبعده ولده عبد المطلب، وكان شريفا مطاعا جوادا، وكانت قريش تسميه الفياض لكثرة جوده، فلما كبر عبد المطلب فوّض إليه أمر السقاية والرفادة، فلما مات المطلب وثب عليه عمه نوفل بن عبد مناف وغصبه أركاحا: أي أفنية ودورا، فسأل عبد المطلب رجالا من قومه النصرة على عمه نوفل فأبوا وقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك فكتب إلى أخواله بني النجار بالمدينة بما فعله معه عمه نوفل، فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النجار على كتابه بكى، وسار من المدينة في ثمانين راكبا حتى قدم مكة فنزل الأبطح، فتلقاه عبد المطلب وقال له المنزل يا خال، فقال: لا والله حتى ألقى نوفلا، فقال: تركته في الحجر جالسا في مشايخ قريش، فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم، فقام نوفل قائما وقال: يا أبا سعد، أنعم صباحا فقال له أبو سعد: لا أنعم الله لك صباحا، وسل سيفه وقال: ورب هذه البنية لئن لم تردّ على ابن أختي أركاحه لأملأن منك هذا السيف، فقال: قد رددتها عليه، فأشهد عليه مشايخ قريش، ثم نزل على عبد المطلب، فأقام عنده ثلاثا ثم اعتمر ورجع إلى المدينة. ولما جرى ذلك حالف نوفل وبنوه بني أخيه عبد شمس على بني هاشم، وحالفت بنو هاشم خزاعة على بني نوفل وبني عبد شمس: أي فإن خزاعة قالت: نحن أولى بنصرة عبد المطلب، لأن عبد مناف جد عبد المطلب أمه حبى بنت حليل

سيد خزاعة كما تقدم، فقالوا لعبد المطلب: هلم فلنحالفك، فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وتعاقدوا وكتبوا بينهم كتابا: باسمك اللهم، هذا ما تحالف عليه بنو هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة على النصرة والمواساة ما بلّ بحر صوفة، وما أشرقت الشمس على ثبير، وهبّ بفلاة بعير، وما أقام الأخشبان، واعتمر بمكة إنسان، والمراد من ذلك الأبد. وعبد المطلب لما حفر زمزم صار ينقل الماء منها لتلك الأحواض ويقذف فيها التمر والزبيب، ثم بعده قام بها ولده أبو طالب، ثم اتفق أن أبا طالب أملق: أي افتقر في بعض السنين، فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف درهم إلى الموسم الآخر، فصرفها أبو طالب في الحجيج عامه ذلك فيما يتعلق بالسقاية، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء، فقال لأخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل لأعطيك جميع مالك، فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لأكفلها؟ فقال نعم، فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطيه لأخيه العباس فترك له السقاية، فصارت للعباس، ثم لولده عبد الله بن عباس، واستمر ذلك في بني العباس إلى زمن السفاح، ثم ترك بنو العباس ذلك. والرفادة: إطعام الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا، فإن قريشا كانت على زمن قصي تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه إلى قصي، فيصنع به طعاما للحاج يأكل منه من لم يكن معه سعة ولا زاد كما تقدم حتى قام بها بعده ولده عبد مناف ثم بعد عبد مناف ولده هاشم ثم بعد هاشم ولده عبد المطلب، ثم ولده أبو طالب وقيل ولده العباس، ثم استمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء بعده ثم استمر ذلك في الخلفاء إلى أن انقرضت الخلافة من بغداد ثم من مصر. وأما القيادة: وهي إمارة الركب، فقام بها بعد عبد مناف ولده عبد شمس ثم كانت بعد عبد شمس لابنه أمية ثم لابنه حرب، ثم لابنه أبي سفيان، فكان يقود الناس في غزواتهم، قاد الناس يوم أحد ويوم الأحزاب، ومن ثم لما قال الوليد بن عبد الملك لخالد بن يزيد بن معاوية: لست في العير ولا في النفير، قال له: ويحك، العير والنفير عيبتي: أي وعائي، لأن العيبة ما يجعل فيه الثياب، جدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير. ودار الندوة كانت قريش تجتمع فيها للمشاورة في أمورها، ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين، وكانت الجارية إذا حاضت تدخل دار الندوة ثم يشق عليها بعض ولد عبد الدار درعها ثم يدرعها إياه وانقلب بها فتحجب، وهذه كانت سنة قصي، فكان لا ينكح رجل امرأة من قريش إلا في دار قصي التي هي دار الندوة، ولا يعقد لواء حرب إلا فيها، ولا تدرع جارية من قريش إلا في تلك الدار فيشق عنها درعها

ويدرعها بيده، فكانت قريش بعد موت قصي يتبعون ما كان عليه في حياته كالدين المتبع، ولا زالت هذه الدار في يد بني عبد الدار إلى أن صارت إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم، فلامه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وقال أتبيع مكرمة آبائك وشرفهم؟ فقال حكيم رضي الله عنه: ذهبت المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف، وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله تعالى فأينا المغبون؟ قيل وقصي: هو جماع قريش، فلا يقال لأحد من أولاد من فوقه قرشي، ونسب هذا القول لبعض الرافضة، وهو قول باطل، لأنه توصل به إلى أن لا يكون سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما من قريش فلا حق لهما في الإمامة العظمى التي هي الخلافة، لقوله صلى الله عليه وسلم «الأئمة من قريش» ولقوله صلى الله عليه وسلم لقريش: «أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه» لأنهما لم يلتقيا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا فيما بعد قصي، لأن أبا بكر رضي الله عنه يجتمع معه في مرة كما سيأتي، لأن تيم بن مرة بينه وبين أبي بكر رضي الله عنه خمسة آباء، وعمر رضي الله عنه يجتمع معه في كعب كما سيأتي، وبين عمر رضي الله عنه وكعب سبعة آباء وقصي (بن كلاب) أي واسمه حكيم، وقيل عروة، ولقب بكلاب لأنه كان يحب الصيد وأكثر صيده كان بالكلاب، وهو الجد الثالث لآمنة أمه صلى الله عليه وسلم، ففي كلاب يجتمع نسب أبيه وأمه (ابن مرة) وهو الجد السادس لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، والإمام مالك رضي الله تعالى عنه يجتمع معه صلى الله عليه وسلم في هذا الجد الذي هو مرة أيضا (ابن كعب) أي وهو الجد الثامن لعمر رضي الله تعالى عنه، وكان كعب يجمع قومه يوم العروبة: أي يوم الرحمة الذي هو يوم الجمعة، ويقال إنه أول من سماء يوم الجمعة لاجتماع قريش فيه إليه، لكن في الحديث كان أهل الجاهلية يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، واسمه عند الله تعالى يوم الجمعة. قال ابن دحية: ولم تسم العروبة الجمعة إلا منذ جاء الإسلام، وسيأتي في ذلك كلام فكانت قريش تجتمع إلى كعب ثم يعظهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، ويقول: سيأتي لحرمكم نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، وينشد أبياتا آخرها: على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوق خبيرها وينشد أيضا: يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلان وكان بينه وبين مبعثه صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وستون سنة. وفي الإمتناع: وعشرون سنة، لأن الحق أن الخمسمائة والستين إنما هي بين موت كعب والفيل الذي هو

مولده صلى الله عليه وسلم كما ذكره أبو نعيم في الدلائل النبوية. وقيل إن كعبا أول من قال «أما بعد» فكان يقول: أما بعد فاسمعوا وافهموا، وتعلموا واعلموا، ليل داج. وفي رواية: ليل ساج، ونهار صاح، والأرض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، فصلوا أرحامكم واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون: أي وقيل له كعب لعلوه وارتفاعه، لأن كل شيء علا وارتفع فهو كعب، ومن ثم قيل للكعبة كعبة ولعلوه وارتفاع شأنه أرّخوا بموته حتى كان عام الفيل أرخوا به ثم أرخوا بعد عام الفيل بموت عبد المطلب (وكعب بن لؤي) أي بالهمزة أكثر من عدمها. أي وفي سبب تصغيره خلاف (ابن غالب بن فهر) سماه أبوه فهرا، وقيل هو لقب واسمه قريش، والمناسب أن يكون لقبا لقولهم: إنما سمي قريشا لأنه كان يفرش: أي يفتش على خلة حاجة المحتاج فيسدها بماله، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن حوائجهم فيرفدونهم، فسموا بذلك قريشا. قال بعضهم: وهو جماع قريش عند الأكثر، قال الزبير بن بكار: أجمع النسابون من قريش وغيرهم على أن قريشا إنما تفرقت عن فهر، وفهر هذا هو الجد السادس لأبي عبيدة بن الجراح. ولما جاء حسان بن عبد كلال من اليمن في حمير وغيرهم لأخذ أحجار الكعبة إلى اليمن ليا بني بها بيتا، ويجعل حج الناس إليه ونزل بنخلة، خرج فهر إلى مقاتلته بعد أن جمع قبائل العرب، فقاتله وأسره، وانهزمت حمير ومن انضم إليهم واستمر حسان في الأسر ثلاث سنين ثم افتدى نفسه بمال كثير، وخرج فمات بين مكة واليمن، فهابت العرب فهرا وعظموه وعلا أمره. ومما يؤثر عن فهر قوله لولده غالب: قليل ما في يديك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك (وفهر هو ابن مالك) قيل له ذلك لأنه ملك العرب (ابن النضر) أي ولقب به لنضارته وحسنه وجماله، واسمه قيس، وهو جماع قريش عند الفقهاء، فلا يقال لأحد من أولاد من فوقه قرشي ويقال لكل من أولاده الذين منهم مالك وأولاده قرشي، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قريش؟ فقال من ولد النضر» أي وعلى أن جماع قريش فهر كما تقدم، فمالك وأولاده والنضر جده وأولاده ليسوا من قريش (والنضر بن كنانة) قيل له كنانة، لأنه لم يزل في كنّ من قومه. وقيل لستره على قومه وحفظه لأسرارهم، وكان شيخا حسنا عظيم القدر تحج إليه العرب لعلمه وفضله. وكان يقول: قد آن خروج نبي من مكة يدعى أحمد يدعو إلى الله وإلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق، فاتبعوه تزدادوا شرفا وعزا إلى عزكم، ولا تعتدوا أي تكذبوا ما جاء به فهو الحق. قال ابن دحية رحمه الله تعالى: كان كنانة يأنف أن يأكل وحده، فإذا لم يجد

أحدا أكل لقمة ورمى لقمة إلى صخرة ينصبها بين يديه أنفة من أن يأكل وحده. ومما يؤثر عنه: رب صورة تخالف المخبرة، قد غرت بجمالها، واختبر قبح فعالها فاحذر الصور واطلب الخبر (وكنانة بن خزيمة بن مدركة) ومدركة اسمه عمرو، وقيل له مدركة لأنه أدرك كل عز وفخر كان في آبائه، وكان فيه نور رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ولعل المراد ظهوره فيه (ومدركة بن إلياس) بهمزة قطع مكسورة، وقيل مفتوحة أيضا، وقيل همزة وصل. ونسب للجمهور، قيل سمي بذلك، لأن أباه مضر كان قد كبر سنه ولم يولد له ولد فولد له هذا الولد فسماه إلياس، وعظم أمره عند العرب حتى كانت تدعوه بكبير قومه وسيد عشيرته، وكانت لا تقضي أمرا دونه. وهو أول من أهدى البدن إلى البيت، وأول من ظفر بمقام إبراهيم لما غرق البيت في زمن نوح عليه السلام فوضعه في زاوية البيت كذا في حياة الحيوان فليتأمل، وجاء في حديث «لا تسبوا إلياس فإنه كان مؤمنا» وقيل إنه جماع قريش: أي فلا يقال لأولاد من فوقه قرشي. وكان إلياس يسمع من صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم المعروفة في الحج. قيل وكان في العرب مثل لقمان الحكيم في قومه. وهو أول من مات بعلة السل، ولما مات حزنت عليه زوجته خندف حزنا شديدا، لم يظلها سقف بعد موته حتى ماتت. ومن ثم قيل: أحزن من خندف (وإلياس بن مضر) قيل هو جماع قريش فلا يقال لأولاد من فوق مضر قرشي. ففي جماع قريش خمسة أقوال: قيل قصي، وقيل فهر، وقيل النضر، وقيل إلياس، وقيل مضر، ويقال له مضر الحمراء، قيل لأنه لما اقتسم هو وأخوه ربيعة مال والدهما أعني نزارا أخذ مضر الذهب فقيل له مضر الحمراء، وأخذ ربيعة الخيل ومن ثم قيل له ربيعة الفرس. وجاء في حديث «لا تسبوا ربيعة ولا مضر فإنهما كانا مؤمنين» أي وفي رواية «لا تسبوا مضر فإنه كان على ملة إبراهيم» وفي حديث، غريب «لا تسبوا مضر فإنه كان على دين إسمعيل» . ومما حفظ عنه: من يزرع شرا يحصد ندامة. أقول: سيأتي في بنيان قريش الكعبة أنهم وجدوا فيها كتبا بالسريانية من جملتها كتاب فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة، إلى آخر ما يأتي. وعن أبي عبيدة البكري أن قبر مضر بالروحاء يزار، والروحاء على ليلتين من المدينة والله أعلم. وكان مضر من أحسن الناس صوتا، وهو أول من حدا للإبل، فإنه وقع فانكسرت يده فصار يقول يا يداه يا يداه فجاءت إليه الإبل من المرعى، فلما صح وركب حدا. وقيل أول من سن الحداء للإبل عبد له ضرب مضر يده ضربا وجيعا فصار يقول يا يداه يا يداه فجاءت إليه الإبل من مرعاها: أي لأن الحداء مما ينشط الإبل لا سيما إن كان بصوت حسن، فإنها عند سماعه تمد أعناقها وتصغي إلى

الحادي وتسرع في سيرها وتستخف الأحمال الثقيلة، فربما قطعت المسافة البعيدة في زمن قصير، وربما أخذت ثلاثة أيام في يوم واحد، وفي ذلك حكاية مشهورة، ولأجل ما ذكر ذكر أئمتنا أنه مستحب. وفي الأذكار للإمام النووي رضي الله تعالى عنه: باب استحباب الحداء، للسرعة في السير، وتنشيط النفوس وترويحها، وتسهيل السير عليها فيه أحاديث كثيرة مشهورة (ومضر بن نزار) بكسر النون كان يرى نور النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه. وهو أول من كتب الكتاب العربي على الصحيح، والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يجتمع معه صلى الله عليه وسلم في هذا الجد الذي هو نزار بن (معد بن عدنان) هذا هو النسب المجمع عليه في نسبه صلى الله عليه وسلم عند العلماء بالأنساب، ومن ثم لما قال فقهاؤنا: شرط الإمام الأعظم أن يكون قرشيا، فإن لم يوجد قرشي جامعا للشروط التي ذكروها فكناني. قال بعضهم: وقياس ذلك أن يقال: فإن لم يوجد كناني فخزيمي فإن لم يوجد حزيمي فمدركي، فإن لم يوجد مدركي فإلياسي، فإن لم يوجد إلياسي فمضري. فإن لم يوجد مضري فنزاري، فإن لم يوجد نزاري فمعدي، فإن لم يوجد معدي فعدناني، فإن لم يوجد عدناني فمن ولد إسمعيل، لأن من فوق عدنان لا يصح فيه شيء، ولا يمكن حفظ النسب فيه منه إلى إسمعيل. وقيل له معد لأنه كان صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل، ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر والظفر. قال بعضهم: ولا يخرج عربي في الأنساب عن عدنان وقحطان. وقيل وولد عدنان يقال لهم قيس، وولد قحطان يقال لهم يمن. ولما سلط الله يختنصر على العرب أمر الله تعالى أرمياء أن يحمل معه معدّ بن عدنان على البراق كيلا تصيبه النقمة، وقال: فإني سأخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل، ففعل أرمياء ذلك، واحتمله معه إلى أرض الشام، فنشأ مع بني إسرائيل، ثم عاد بعد أن هدأت الفتن: أي بموت بختنصر. وكان عدنان في زمن عيسى عليه السلام، وقيل في زمن موسى عليه السلام. قال الحافظ ابن حجر، وهو أولى: أي ومما يضعف الأول ما في الطبراني عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لما بلغ ولد معد بن عدنان أربعين رجلا وقعوا في عسكر موسى عليه الصلاة والسلام فانتهبوه فدعا عليهم موسى عليه الصلاة والسلام، فأوحى الله تعالى إليه: لا تدع عليهم فإن منهم النبي الأمي البشير النذير» الحديث، إذ يبعد بقاء معد إلى زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أنه لا خلاف في أن عدنان من ولد إسمعيل نبي الله تعالى: أي أرسله الله تعالى إلى جرهم وإلى العماليق وإلى قبائل اليمن في زمن أبيه إبراهيم، وكذا بعث أخوه إسحق إلى أهل الشام، وبعث

ولده يعقوب إلى الكنعانيين في حياة إبراهيم، فكانوا أنبياء على عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وذكر بعضهم أن من العماليق فرعون موسى عليه الصلاة والسلام، ومنهم الريان بن الوليد فرعون يوسف عليه الصلاة والسلام. وكان إسمعيل بكر أبيه جاء له وقد بلغ أبوه من العمر سبعين سنة، وقيل ستا وثمانين سنة. ولد بين الرملة وإيليا، وكان بيد عدنان وإسمعيل أربعون أبا. وقيل سبعة وثلاثون. وفي النهر لأبي حيان رحمه الله أن إبراهيم هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه. ولا يخفى أن إسمعيل أول من تسمى بهذا الاسم من بني آدم، ومعناه بالعبرانية مطيع الله. وأول من تكلم بالعربية أي البينة الفصيحة، وإلا فقد تعلم أصل العربية من جرهم، ثم ألهمه الله العربية الفصيحة البينة فنطق بها. وفي الحديث «أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسمعيل وهو ابن أربع عشرة سنة» . وفي كلام بعضهم: «لما خرج إبراهيم بهاجر وولدها إسمعيل إلى مكة على البراق واحتمل معه قربة ماء ومزودا فيه تمر، فلما أنزلهما بها وولى راجعا تبعته هاجر وهي تقول: الله أمرك أن تدعني وهذا الصبي في هذا المحل الموحش الذي ليس به أنيس؟ قال نعم، فقالت: إذن لا يضيعنا، ولا زالت تأكل من التمر وتشرب من الماء إلى أن نفد الماء» الحديث. وكان إنزاله لهما بموضع الحجر، وذلك لمضي مائة سنة من عمر إبراهيم. وكون إسمعيل أول من تكلم بالعربية البينة لا ينافي ما قيل: أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، وقحطان أول من قيل له: أبيت اللعن. وأول من قيل له: أنعم صباحا. ويعرب هذا قيل له أيمن، لأن هودا نبي الله عليه الصلاة والسلام قال له أنت أيمن ولدي، وسمي اليمن يمنا بنزوله فيه. وهو أول من قال القريض والرجز، وقيل سمي اليمن يمنا لأنه على يمين الكعبة. وقيل إن أول من كتب الكتاب العربي إسمعيل والصحيح أن أول من كتب ذلك نزار بن معد كما تقدم، وكذا كون إسمعيل أول من تكلم بالعربية البينة لا ينافي ما قيل: أول من تكلم بالعربية آدم في الجنة فلما أهبط إلى الأرض تكلم بالسريانية. قيل وسميت سريانية، لأن الله تعالى علمها آدم سرا من الملائكة وأنطفه بها. وقيل إن أول من كتب الكتاب العربي والفارسي والسرياني والعبراني وغيرها من بقية الاثنى عشر كتابا، وهي الحميري، واليوناني، والرومي، والقبطي والبربري،

والأندلسي، والهندي، والصيني آدم عليه الصلاة والسلام، كتبها في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه، فأصاب إسمعيل الكتاب العربي: أي وأما ما جاء: أول من خط بالقلم إدريس فالمراد به خط الرمل. وفي كلام بعضهم: أول من تكلم بالعربية المحضة، وهي عربية قريش التي نزل بها القرآن إسمعيل. وأما عربية قحطان وحمير فكانت قبل إسمعيل، ويقال لمن يتكلم بلغة هؤلاء العرب العاربة، ويقال لمن يتكلم بلغة إسمعيل العرب المستعربة وهي لغة الحجاز وما والاها. وجاء «من أحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق» . وقد ذكر بعضهم أن أهل الكهف كلهم أعجام، ولا يتكلمون إلا بالعربية، وأنهم يكنون وزراء المهدي. واشتهر على ألسنة الناس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أفصح من نطق بالضاد» قال جمع: لا أصل له، ومعناه صحيح لأن المعنى أنا أفصح العرب لكونهم هم الذين ينطقون بالضاد ولا توجد في غير لغتهم. وإسمعيل عليه الصلاة والسلام أول من ركب الخيل وكانت وحوشا: أي ومن ثم قيل لها العراب، أو لما سيأتي. وقد قال صلى الله عليه وسلم «اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسمعيل عليه الصلاة والسلام» . وفي رواية «أوحى الله تعالى إلى إسمعيل: أن اخرج إلى أجياد» الموضع المعروف، سمي بذلك لأنه قتل فيه مائة رجل من العمالقة من جياد الرجال «فادع يأتك الكنز، فخرج إلى أجياد فألهمه الله تعالى دعاء فدعا به فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من نواصيها، وذللها الله تعالى له، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسمعيل» . وذكر الحافظ السيوطي رحمه الله أن له كتابا في الخيل سماه «جر الذيل في علم الخيل» وفي العرائس «أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخيل قال لريح الجنوب: إني خالق منك خلقا، فاجعله عزا لأوليائي، ومذلة على أعدائي، وجمالا لأهل طاعتي، فقالت: افعل ما تشاء، فقبض قبضة فخلق فرسا فقال لها: خلقتك عربيا، وجعلت الخير معقودا بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، وعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطيري بلا جناح، فأنت للطلب وأنت للهرب» . وعن وهب أنه قيل لسليمان صلوات الله وسلامه عليه: إن خيلا بلقا لها أجنحة تطير بها وترد ماء كذا، فقال للشياطين عليّ بها فصبوا في العين التي تردها خمرا، فشربت فسكرت فربطوها وساسوها حتى تأنست. وقيل ويجوز أن يكون المراد من تلك الخيل الفرس الذي قال فيه صلى الله

عليه وسلم «أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل عليه الصلاة والسلام» . وجاء «إن الله تعالى لما عرض على آدم عليه الصلاة والسلام كل شيء مما خلق قال له اختر من خلقي ما شئت، فاختار الفرس، فقيل له: اخترت عزك وعز ولدك، خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا أبد الآبدين ودهر الداهرين» وهذا صريح في أن الخيل خلقت قبل آدم. وقد سئل الإمام السبكي: هل خلقت الخيل قبل آدم أو بعده؟ وهل خلقت الذكور قبل الإناث أو الإناث قبل الذكور؟ فأجاب بأنا نختار أن خلق الخيل قبل آدم عليه الصلاة والسلام، لأن الدواب خلقت يوم الخميس، وآدم خلق يوم الجمعة بعد العصر وأن الذكور خلقت قبل الإناث لأمرين: أحدهما أن الذكر أشرف من الأنثى. والثاني حرارة الذكر أقوى من الأنثى، ولذلك كان خلق آدم قبل خلق حواء فليتأمل. وقد ذكر الإمام السهيلي أن في الفرس عشرين عضوا كل عضو منها يسمى باسم طائر، ذكرها وبينها الأصمعي. فمنها النسر، والنعامة، والقطاط، والذباب، والعصفور والغراب، والصرد، والصقر. قالوا: وفي الحيوان أعضاء باردة يابسة كالعظام نظير السوداء، وأعضاء باردة رطبة كالدماغ نظير البلغم. وأعضاء حارة يابسة كالقلب نظير الصفراء. وأعضاء حارة رطبة كالكبد نظير الدم. وعن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شيء أحب إليه بعد النساء من الخيل» وجاء «ما من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ويقول: رب إنك سخرتني لابن آدم، وجعلت رزقي في يده اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده» وقيل لبعض الحكماء: أي المال أشرف؟ قال فرس يتبعها فرس، وفي بطنها فرس. ومن ثم قيل: ظهر الخيل حرز، وبطنها كنز. وفي الحديث «لما أراد ذو القرنين أن يسلك في الظلمة إلى عين الحياة سأل أي الدواب في الليل أبصر؟ فقالوا الخيل، فقال: أي الخيل أبصر؟ فقالوا الإناث، قال: فأي الإناث أبصر؟ قالوا البكارة، فجمع من عسكره ستة آلاف فرس كذلك» . وأعطى الله إسمعيل القوس العربية، وكان لا يرمي شيئا إلا أصابه. وفي الحديث ارموا بني إسمعيل، فإن أباكم كان راميا» أي قال ذلك لجماعة مر عليهم وهم ينتضلون، فقال «حسن هذا اللهو مرتين أو ثلاثا» زاد في بعض الروايات «ارموا وأنا مع بني فلان فأمسك الفريق الآخر، فقال لهم، ما بالكم لا ترمون؟ فقالوا يا رسول الله كيف نرمي وأنت معهم؟ إذا ينضلونا قال: ارموا وأنا معكم كلكم» أخرجه البخاري في صحيحه. زاد البيهقي في دلائل النبوة «فرموا عامة يومهم ذلك، ثم

تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضا» . وقد جاء «أحب اللهو إليّ إجراء الخيل والرمي، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا» وقد جاء «أحب اللهو إلى الله تعالى إجراء الخيل والرمي» وجاء «كلّ شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رمي الرجل بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنه من الحق» وجاء «علموا أولادكم السباحة والرمي» وفي رواية «الرماية» وفي رواية «علموا بنيكم الرمي، فإنه نكاية العدو» وقد جاء «تعلموا الرمي؟ فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة» وروي مرفوعا «حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي» وجاء «من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا» وفي رواية «فهو نعمة جحدها» . قال الحافظ السيوطي رضي الله عنه والأحاديث المتعلقة بالرمي كثيرة. قال: وقد ألفت كتابا في الرمي سميته «غرس الأنشاب في الرمي بالنشاب» وفي العرائس: كان إسمعيل مولعا بالصيد، مخصوصا بالقنص والفروسية والرمي والصراع، والرمي سنة إذا نوى به التأهب للجهاد، لقوله تعالى وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: الآية 60] وقوله صلى الله عليه وسلم «القوة الرمي» على حد قوله «الحج عرفة» وإلا فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: الآية 60] قال: الرمي والسيوف والسلاح. وسئل الحافظ السيوطي رضي الله عنه هل ما ذكره الطبري والمسعودي في تاريخيهما أن أول من رمى بالقوس العربية آدم عليه الصلاة والسلام، وذلك لما أمره الله تعالى بالزراعة حين أهبط من الجنة وزرع، أرسل الله تعالى له طائرين يخرجان ما بذره ويأكلانه، فشكا الله تعالى ذلك، فهبط عليه جبريل وبيده قوس ووتر وسهمان، فقال آدم: ما هذا يا جبريل؟ فأعطاه القوس وقال: هذه قوة الله تعالى، وأعطاه الوتر وقال: هذه شدة الله تعالى، وأعطاه السهمين وقال: هذه نكاية الله تعالى، وعلمه الرمي بهما فرمى الطائرين فقتلهما، وجعلهما، يعني السهمين، عدة في غربته، وأنسا عند وحشته ثم صار القوس العربية إلى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ثم إلى ولده إسمعيل، وهو يدل على أن قوس إبراهيم هي القوس التي هبطت على آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة، وأنه ادخرها لإبراهيم، وهو خلاف قول بعضهم إنها غيرها أهبطت إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الجنة. فأجاب الحافظ السيوطي رضي الله عنه بقوله: راجعت تاريخ الطبري في تاريخ آدم وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام فلم أجده فيه، ولا تبعد صحته فإن الله تعالى علم آدم علم كل شيء. وذكر أن ابن أبي الدنيا ذكر في كتاب الرمي من طريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «أول من عمل القسي إبراهيم، عمل لإسمعيل ولإسحق قوسين فكانا يرميان بها» وتقدم أن إسحق جاء لإبراهيم بعد إسمعيل بثلاث عشرة، وقيل بأربع عشرة سنة: أي حملت به أمه سارة في الليلة التي خسف الله تعالى بقوم لوط فيها. ولها من العمر تسعون سنة.

وفي جامع ابن شداد يرفعه «كان اللواط في قوم لوط في النساء قبل الرجال بأربعين سنة، ثم استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال، فخسف الله تعالى بهم» قيل ولا يعمل عمل قوم لوط من الحيوان إلا الحمار والخنزير. وكان أول من اتخذ القسي الفارسية نمروذ فليتأمل الجمع. وقد يقال: لا منافاة، لجواز أن يكون إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من عمل القسي بعد ذهاب تلك القوس، فالأولية إضافية. ومعلوم أن إسمعيل بن إبراهيم خليل الله تعالى عليهما الصلاة والسلام: أي ولم يبعث بشريعة مستقلة من العرب بعد إسمعيل إلا محمد صلى الله عليه وسلم. وأما خالد بن سنان وإن كان من ولد إسمعيل على ما قيل، فقال بعضهم: لم يكن في بني إسمعيل نبي غيره قبل محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يبعث بشريعة مستقلة، بل بتقرير شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام: أي وكان بينه وبين عيسى ثلاثمائة سنة، وخالد هذا هو الذي أطفأ النار التي خرجت بالبادية بين مكة والمدينة، كادت العزب أن تعبدها كالمجوس، كان يرى ضوؤها من مسافة ثمان ليال، وربما كان يخرج منها العنق فيذهب في الأرض فلا يجد شيئا إلا أكله، فأمر الله تعالى خالد بن سنان بإطفائها، وكانت تخرج من بئر ثم تنتشر، فلما خرجت وانتشرت أخذ خالد بن سنان يضربها ويقول: بدا بدا بدا كل هدى وهي تتأخر حتى نزلت إلى البئر، فنزل إلى البئر خلفها فوجد كلابا تحتها فضربها وضرب النار حتى أطفأها، ويذكر أنه كان هو السبب في خروجها فإنه لما دعا قومه وكذبوه وقالوا له إنما تخوفنا بالنار، فإن تسل علينا هذه الحرة نارا اتبعناك، فتوضأ ثم قال: اللهم إن قومي كذبوني ولم يؤمنوا بي إلا أن تسيل عليهم هذه الحرة نارا فأرسلها عليهم نارا، فخرجت، فقالوا: يا خالد أرددها فإنا مؤمنون بك، فردها. قيل وكان خالد بن سنان إذا استسقى يدخل رأسه في جيبه فيجيء المطر ولا يقلع إلا إن رفع رأسه. قيل «وقدمت ابنته وهي عجوز على النبي صلى الله عليه وسلم، فتلقاها بخير وأكرمها، وبسط لها رداءه وقال لها: مرحبا بابنة أخي، مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه فأسلمت» وهذا الحديث مرسل رجاله ثقات. وفي البخاري «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، وليس بيني وبينه نبي» قال بعضهم: وبه يرد على من قال كان بينهما خالد بن سنان. وقد يقال مراده صلى الله عليه وسلم بالنبي الرسول الذي يأتي بشريعة مستقلة. وحينئذ لا يشكل هذا لما علمت أنه لم يأت بشريعة مستقلة، ولا ما جاء في رواية أخرى «ليس بيني وبينه نبيّ ولا رسول» ولا ما في كلام البيضاوي تبعا للكشاف من أن بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان، وبعده حنظلة بن صفوان عليهما الصلاة والسلام، أرسله الله تعالى لأصحاب الرس بعد خالد بمائة سنة لأنه يجوز أن يكون كل من هؤلاء الثلاثة

لم يبعث بشريعة مستقلة، بل كان مقررا لشريعة عيسى عليه الصلاة والسلام أيضا كخالد بن سنان. والرس: البئر الغير المطوية: أي الغير المبنية، كذا في الكشاف، والذي في القاموس كالصحاح المطوية بإسقاط غير، فإنهم قتلوا حنظلة ودسوه فيها: أي وحين دسوه فيها، غار ماؤها، وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم، وانقطعت ثمارهم بعد أن كان ماؤها يرويهم ويكفي أرضهم جميعا، وتبدلوا بعد الأنس الوحشة، وبعد الاجتماع الفرقة لأنهم كانوا ممن يعبد الأصنام: أي وكان ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم ذي عنق طويل كان فيه من كل لون، فكان ينقضّ على صبيانهم يخطفهم إذا أعوزه الصيد، وكان إذا خطف أحدا منهم أغرب به: أي ذهب به إلى جهة المغرب، فقيل له لطول عنقه ولذهابه إلى جهة المغرب عنقاء مغرب، فشكوا ذلك إلى حنظلة عليه الصلاة والسلام، فدعا على تلك العنقاء، فأرسل الله تعالى عليها صاعقة فأهلكتها ولم تعقب، وكان جزاؤه منهم أن قتلوه وفعلوا به ما تقدم. وذكر بعضهم أن حنظلة هذا كان من العرب من ولد إسمعيل أيضا عليه الصلاة والسلام: ثم رأيت ابن كثير ذكر أن حنظلة هذا كان قبل موسى عليه الصلاة والسلام، وأنه لما ذكر أن في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فتحت تستر المدينة المعروفة وجدوا تابوتا، وفي لفظ: سريرا عليه دانيال عليه الصلاة والسلام، ووجدوا طول أنفه شبرا، وقيل ذراعا، ووجدوا عند رأسه مصحفا فيه ما يحدث إلى يوم القيامة، وأن من وفاته إلى ذلك اليوم ثلاثمائة سنة، وقال: إن كان تاريخ وفاته القدر المذكور فليس بنبي بل هو رجل صالح، لأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي بنص الحديث في البخاري. أقول: قد علمت الجواب عن ذلك، بأن المراد بالنبي الرسول. وفيه أن هذا يبعده عطف الرسول على النبي المتقدم في بعض الروايات، إلا أن يجعل من عطف التفسير والله أعلم. والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة، وقيل ستمائة، وقيل بزيادة عشرين سنة. قالت عائشة رضي الله عنها: ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا أي كذبا لأن الخراص الكذاب كذا قيل. أقول: لعل المراد بالكذب الغير المقطوع بصحته، لأن الخرص حقيقته الحزر والتخمين، وكل من تكلم كلاما بناه على ذلك قيل له خراص، ثم قيل للكذاب خراص توسعا، وحينئذ كان القياس أن يقال إلا خرصا: أي حزرا وتخمينا. وعلى هذا كأن الصدّيقة رضي الله تعالى عنها أرادت المبالغة للتنفير عن الخوض في ذلك. والله أعلم.

وعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم انتسب حتى بلغ النضر بن كنانة ثم قال: فمن قال غير ذلك» أي مما زاد على ذلك «فقد كذب» . أقول: إطلاق الكذب على من زاد على كنانة إلى عدنان يخالف ما سبق من أن المجمع عليه إلى عدنان إلا أن يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون عمرو بن العاص لم يسمع ما زاد على النضر بن كنانة إلى عدنان مع ذكره صلى الله عليه وسلم له الذي سمعه غيره. وفي إطلاقه الكذب على ذلك التأويل السابق. وأخرج الجلال السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم انتسب فقال «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إلى أن قال: ابن مضر بن نزار» وهذا هو الترتيب المألوف، وهو الابتداء بالأب ثم بالجد ثم بأبي الجد وهكذا. وقد جاء في القرآن على خلافه في قوله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف: الآية 38] قال بعضهم: والحكمة في ذلك أنه لم يرد مجرد ذكر الآباء، وإنما ذكرهم ليذكر ملتهم التي اتبعها، فبدأ بصاحب الملة ثم بمن أخذها عنه أولا فأولا على الترتيب، والله أعلم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان بن أدد، ثم يمسك ويقول: كذب النسابون مرتين أو ثلاثا» . قال البيهقي: والأصح أن ذلك: أي قوله «كذب النسابون» من قول ابن مسعود رضي الله عنه: أي لا من قوله صلى الله عليه وسلم. أقول: والدليل على ذلك ما جاء: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [إبراهيم: الآية 9] قال: كذب النسابون، يعني الذين يدعون علم الأنساب، ونفى الله تعالى علمها عن العباد. ولا مانع أن يكون هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم أولا ثم تابعه ابن مسعود عليه. وقد يقال: هذه الرواية تقتضي إما الزيادة على المجمع عليه، وإما النقص عنه: أي زيادة أدد أو نقص عدنان، فهي مخالفة لما قبلها. وفي كلام بعضهم أن بين عدنان وأدد أد، فيقال عدنان بن أد بن أدد قيل له أدد لأنه كان مديد الصوت، وكان طويل العز والشرف. قيل وهو أول من تعلم الكتابة: أي العربية من ولد إسمعيل، وتقدم أن الصحيح أن أول من كتب نزار. وانظر هل يشكل على ذلك ما رواه الهيثم بن عدي أن الناقل لهذه الكتابة يعني العربية من الحيرة إلى الحجاز حرب بن أمية بن عبد شمس. وقد يقال: الأولية

إضافية: أي من قريش وعدنان، سمي بذلك، قيل لأن أعين الإنس والجن كانت إليه ناظرة. قال بعضهم: اختلف الناس فيما بين عدنان وإسمعيل من الآباء، فقيل سبعة، وقيل تسعة، وقيل خمسة عشر، وقيل أربعون، والله أعلم، قال الله عز وجل وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الفرقان: الآية 38] أي لا يكاد يحاط بها، فقد جاء «كان ما بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون، وبين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة قرون» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن مدة الدنيا: أي من آدم عليه السلام سبعة آلاف سنة: أي وقد مضى منها قبل وجود النبي صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وسبعمائة وأربعون سنة. وعن أبي خيثمة وثمانمائة سنة. قلت: وفي كلام بعضهم من خلق آدم إلى بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة وثلاثون سنة. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق صحاح أنه قال «الدنيا سبعة أيام كل يوم ألف سنة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها» . وفي كلام الحافظ السيوطي: دلت الأحاديث والآثار على أن مدة هذه الأمة تزيد على الألف سنة، ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة أصلا، وإنما تزيد بنحو أربعمائة سنة تقريبا وما اشتهر على ألسنة الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكث في قبره أكثر من ألف سنة باطل لا أصل له، هذا كلامه. وقوله لا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة، هل يخالفه ما أخرجه أبو داود «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم يعني خمسمائة سنة» . وفي كلام بعضهم قد أكثر المنجمون في تقدير مدة الدنيا. فقال بعضهم عمرها سبعة آلاف سنة بعدد النجوم السيارة أي وهي سبعة. وبعضهم اثنا عشر ألف سنة بعدد البروج. وبعضهم بثلاثمائة ألف وستون ألفا بعدد درجات الفلك، وكلها تحكمات عقلية لا دليل عليها. وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: أكمل الله خلق الموجودات من الجمادات والنباتات والحيوان بعد انتهاء خلق العالم الطبيعي بإحدى وسبعين ألف سنة، ثم خلق الله الدنيا بعد أن انقضى من مدة خلق العالم الطبيعي أربع وخمسون ألف سنة. ثم خلق الله تعالى الآخرة يعني الجنة والنار بعد الدنيا بتسعة آلاف سنة، ولم يجعل الله تعالى للجنة والنار أمدا ينتهي إليه بقاؤهما فلهما الدوام. قال: وخلق الله تعالى طينة آدم بعد أن مضى من عمر الدنيا سبع عشرة ألف سنة، ومن عمر الآخرة التي لا نهاية لها في الدوام ثمانية آلاف سنة وخلق الله تعالى الجان في

الأرض قبل آدم بستين ألف سنة: أي ولعل هذا هو المعنى بقول بعضهم: خلق الله قبل آدم خلقا في صورة البهائم، ثم أماتهم قبل، وهم الجن والبن والطم والرم والحس والبس فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء كما سيأتي. قال الشيخ محيي الدين: وقد طفت بالكعبة مع قوم لا أعرفهم، فقال لي واحد منهم: أما تعرفني؟ فقلت لا، قال: أنا من أجدادك الأول، فقلت له: كم لك منذ مت؟ قال لي بضع وأربعون ألف سنة فقلت: ليس لآدم هذا القدر من السنين، فقال لي: عن أي آدم تقول عن هذا الأقرب إليك، أم عن غيره؟ فتذكرت حديثا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق مائة ألف آدم» فقلت: قد يكون ذلك الجد الذي نسبتي إليه من أولئك، والتاريخ في ذلك مجهول مع حدوث العالم بلا شك هذا كلامه. وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني: وكان وهب بن منبه رضي الله تعالى عنه يقول: سأل بنو إسرائيل المسيح عليه الصلاة والسلام أن يحيي لهم سام بن نوح عليهما الصلاة والسلام، فقال: أروني قبره، فوقف على قبره وقال: يا سام قم بإذن الله تعالى، فقام وإذا رأسه ولحيته بيضاء، فقال إنك مت وشعرك أسود، فقال: لما سمعت النداء ظننت أنها القيامة فشاب رأسي ولحيتي الآن، فقال له عيسى عليه السلام: كم لك من السنين ميت؟ قال خمسة آلاف سنة، إلى الآن لم تذهب عني حرارة طلوع روحي. وسبب الاختلاف فيما بين عدنان وآدم أن قدماء العرب لم يكونوا أصحاب كتب يرجعون إليها، وإنما كانوا يرجعون إلى حفظ بعضهم من بعض، ولعله لا يخالفه ما تقدم من أن أول من كتب معد أو نزار. وفي كلام سبط ابن الجوزي أن سبب الاختلاف المذكور اختلاف اليهود، فإنهم اختلفوا اختلافا متفاوتا فيما بين آدم ونوح وفيما بين الأنبياء من السنين. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لعلمه: أي لو أراد أن يعلم ذلك للناس لعلمه لهم، وهذا أولى من يعلمه بفتح الياء وسكون العين. وذكر ابن الجوزي أن بين آدم ونوح شيثا وإدريس، وبين نوح وإبراهيم هود وصالح، وبين إبراهيم وموسى بن عمران إسمعيل وإسحق ولوط وهو ابن أخت إبراهيم وكان كاتبا لإبراهيم، وشعيب وكان يقال له خطيب الأنبياء ويعقوب ويوسف، ولد يوسف ليعقوب، وله من العمر إحدى وتسعون سنة، وكان فراقه له وليوسف من العمر ثماني عشرة سنة وبقيا مفترقين إحدى وعشرين سنة، وبقيا مجتمعين بعد ذلك سبع عشرة سنة هذا. وفي الإتقان: ألقي يوسف في الجب وهو ابن ثنتي عشرة سنة، ولقي أباه بعد

الثمانين، وعاش مائة وعشرين سنة، وكان كاتبا للعزيز. قيل وسبب الفرقة بين سيدنا يعقوب وسيدنا يوسف عليهما السلام أن سيدنا يعقوب ذبح جديا بين يدي أمه فلم يرض الله تعالى له ذلك، فأراه دما بدم، وفرقة بفرقة، وحرقة بحرقة، وموسى بن عمران بن منشاء. وبين موسى بن عمران وهو أول أنبياء بني إسرائيل وداود يوشع، وكان يوشع كهارون يكتب لموسى. ويذكر أن مما أوصى به داود ولده سليمان عليهما السلام لما استخلفه: يا بني إياك والهزل فإن نفعه قليل، ويهيج العداوة بين الإخوان، أي ومن ثم قيل: لا تمازح الصبيان فتهون عليهم، ولا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الدنيء فيجترىء عليك، ولكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح. وقد قيل المزاح يذهب بالمهابة ويورث الضغينة. وقيل آكد أسباب القطيعة المزاح. وقد قيل: من كثر مزاحه لم يخل من استخفاف به أو حقد عليه، واقطع طمعك من الناس فإن ذلك هو الغنى. وإياك وما تعتذر فيه من القول أو الفعل، وعود لسانك الصدق، والزم الإحسان ولا تجالس السفهاء، وإذا غضبت فالصق نفسك بالأرض: أي وقد جاء في الحديث «إذا جهل على أحدكم جاهل، فإن كان قائما جلس، وإن كان جالسا فليضطجع» . وممن مات من الأنبياء فجأة داود وولده سليمان وإبراهيم الخليل عليهم أفضل الصلاة والسلام، ثم بعد يوشع كالب بن يوفنا، وهو خليفة يوشع، ثم حزقيل وهو خليفة كالب، ويقال له ابن العجوز لأن أمه سألت الله تعالى أن يرزقها ولدا بعد ما كبرت وعقمت فجاءت به، وهو ذو الكفل لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل. وإلياس ثم طالوت الملك: أي فإن شمويل عليه السلام لما حضرته الوفاة سأله بنو إسرائيل أن يقيم فيهم ملكا فأقام فيهم طالوت ملكا، ولم يكن من أعيانهم بل كان راعيا، وقيل سقاء، وقيل غير ذلك. وبين داود وعيسى عليهما السلام وهو آخر أنبياء بني إسرائيل: أيوب ثم يونس ثم شعياء ثم أحصياء ثم زكرياء ويحيى عليهم السلام. وفي النهر لأبي حيان في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة: الآية 87] كان بينه وبين عيسى من الرسل يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير: أي وهو من أولاد هارون بن عمران، وحزقيل وإلياس ويونس وزكرياء ويحيى. وكان بين موسى وعيسى ألف نبي، هذا كلامه، وكان يحيى يكتب لعيسى، وتقدم الكلام على من بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على شرف هذا النسب وارتفاع شأنه وفخامته وعلو مكانه ما جاء عن

سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال «قيل يا رسول الله قتل فلان لرجل من ثقيف، فقال أبعده الله، إنه كان يبغض قريشا» . وفي الجامع الصغير «قريش صلاح الناس، ولا يصلح الناس إلا بهم، كما أن الطعام لا يصلح إلا بالملح، قريش خالصة الله تعالى، فمن نصب لها حربا سلب، ومن أرادها بسوء خزي في الدنيا والآخرة» . قال: وعن سعد بن أبي وقاص أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد هوان قريش أهانه الله تعالى» اهـ. أي وأشد الإهانة ما كان في الآخرة، وحينئذ إما أن يراد بالإرادة العزم والتصميم، أو المراد المبالغة، أو يكون ذلك من خصائص قريش، فلا ينافي أن حكم الله المطرد في عدله أن لا يعاقب على مجرد الإرادات، إنما يعاقب ويجازي على الأفعال والأقوال الواقعة، أو ما هو منزل منزلة الواقعة كالتصميم، فإن من خصائص هذه الأمة عدم مؤاخذتها بما تحدث به نفسها. وعن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل قريشا» أي ذكر تفضيلهم «بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم، ولا يعطاها أحد بعدهم: النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل» أي على أصحابه «وعبدوا الله سبع سنين» وفي لفظ عشر سنين «لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش» وتسمية لإيلاف قريش سورة يرد ما قيل إن سورة الفيل ولإيلاف قريش سورة واحدة، ولينظر ما معنى عبادتهم الله تعالى دون غيرهم في تلك المدة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه «حب قريش إيمان وبغضهم كفر» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه «الناس تبع لقريش، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» وقال صلى الله عليه وسلم «العلم في قريش» أي وقال «الأئمة من قريش» وقد جمع الحافظ ابن حجر طرق هذا الحديث في كتاب سماه «لذة العيش في طرق حديث الأئمة من قريش» . وفي الحديث «عالم قريش يملأ طباق الأرض علما» وفي رواية «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما» وفي رواية «اللهم اهد قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما» قال جماعة من الأئمة منهم الإمام أحمد: هذا العالم هو الشافعي رضي الله تعالى عنه، لأنه لم ينتشر في طباق الأرض من علم عالم قرشي من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعي. وفي كلام بعضهم: ليس في الأئمة المتبوعين في الفروع قرشي غيره. وفيه أن الإمام مالك بن أنس من قريش. ويجاب بأنه إنما يكون قرشيا على القول الباطل من

أن جماع قريش قصي. وقد ذكر السبكي أنهم ذكروا أن من خواص الشافعي رضي الله تعالى عنه من بين الأئمة أن من تعرض إليه أو إلى مذهبه بسوء أو نقص هلك قريبا، وأخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم «من أهان قريشا أهانه الله تعالى» هذا كلامه. قال الحافظ العراقي: إسناد هذا الحديث يعني «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما» لا يخلو عن ضعف، وبه يرد ما زعمه الصغاني من أنه موضوع، وحاشا الإمام أحمد أن يحتج بحديث موضوع أو يستأنس به على فضل الشافعي. وقال ابن حجر الهيتمي: هو حديث معمول به في مثل ذلك أي في المناقب، وزعم وضعه حسد أو غلط فاحش: أي وعن الربيع قال: رأيت في المنام كأن آدم مات، فسألت عن ذلك؟ فقيل لي هذا موت أعلم أهل الأرض، لأن الله علم آدم الأسماء كلها، فما كان إلا يسير حتى مات الشافعي رضي الله تعالى عنه ورضي عنا به. ومما يؤثر عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: من أطراك في وجهك بما ليس فيك فقد شتمك، ومن نقل إليك نقل عنك، ومن نمّ عندك نم عليك، ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك إذا أسخطته قال فيك ما ليس فيك. وقال صلى الله عليه وسلم «قدموا قريشا ولا تقدموا» أي لا تتقدموها. وفي رواية «ولا تعالموها: أي لا تغالبوها بالعلم ولا تكاثروها فيه» . وفي رواية «ولا تعلموها» أي لا تجعلوها في المقام الأدنى الذي هو مقام المتعلم بالنسبة للمعلم. وقال صلى الله عليه وسلم «أحبوا قريشا، فإنه من أحبهم أحبه الله تعالى» وقال صلى الله عليه وسلم «لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله عز وجل» . وفي السنن المأثورة عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه رواية المزني عنه. قال الطحاوي: حدثنا المزني قال: حدثنا الشافعي رضي الله تعالى عنه «أن قتادة بن النعمان وقع بقريش وكأنه نال منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا قتادة لا تشتم قريشا فإنك لعلك ترى منهم رجالا إذا رأيتهم عجبت بهم، لولا أن تطغى قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله تعالى» أي لولا أنها إذا علمت ما لها عند الله من الخير المدخر لها تركت العمل، بل ربما ارتكبت ما لا يحل اتكالا على ذلك لأعلمتها به، لكن في رواية «لأخبرتها بما لمحسنها عند الله من الثواب» . وهذا دليل على علو منزلتها وارتفاع قدرها عند الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم يوما «يا أيها الناس إن قريشا أهل أمانة، من بغاها العواثر» أي من طلب لها المكايد «أكبه الله تعالى لمنخريه» أي أكبه الله على وجهه «قال ذلك ثلاث مرات» وعن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان بالمسجد فمر عليه سعيد بن العاص فسلم عليه، فقال له: والله يا ابن أخي ما قتلت أباك يوم بدر، وما لي أن أكون أعتذر من قتل مشرك، فقال له سعيد بن العاص: لو

قتلته كنت على الحق وكان على الباطل، فعجب عمر من قوله وقال: قريش أفضل الناس أحلاما، وأعظم الناس أمانة، ومن يرد بقريش سوآ يكبه الله لفيه. هذا كلامه. والذي قتل العاص والد سعيد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقيل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: قتلت يوم بدر العاص وأخذت سيفه ذا الكثيفة وقال صلى الله عليه وسلم «شرار قريش خير شرار الناس» وفي رواية «خيار قريش خيار الناس، وشرار قريش شرار الناس» أي ولعله سقط من هذه الرواية قبل شرار الثانية لفظ خيار لتوافق الرواية قبلها المقتضي لذلك المقام. ويحتمل إبقاء ذلك على ظاهره لأنه ممن يقتدى به. فكانوا أشر الأشرار، ويكون هذا هو المراد بوصفهم بأنهم خيار شرار الناس. ثم رأيت في كتاب السنن المأثورة عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه ما رواه المزني عنه «خيار قريش خيار الناس، وشرار قريش خيار شرار الناس» وفي الحديث «ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم» ومن ثم قال الطحاوي: قريش أهل أمانة، هكذا قرأه علينا المزني أهل أمانة أي بالنون، وإنما هو أهل إمامة أي بالميم. وفي كلام فقهائنا «قريش قطب العرب وفيهم الفتوة» . ومما يدل على شرف هذا النسب أيضا ما جاء عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه «إن الله اختار العرب على الناس، واختارني على من أنا منه من أولئك العرب» وما جاء عن وائلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله اصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» . أقول: وجاء بلفظ آخر عن وائلة بن الأسقع وهو «إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم عليهما السلام. واتخذه خليلا، واصطفى من ولد إبراهيم إسمعيل، ثم اصطفى من ولد إسمعيل نزارا، ثم اصطفى من ولد نزار مضر، ثم اصطفى من ولد مضر كنانة، ثم اصطفى من كنانة قريشا، ثم اصطفى من قريش بني هاشم، ثم اصطفى من بني هاشم بني عبد المطلب ثم اصطفاني من بني عبد المطلب» والله أعلم. قال وفي رواية «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسمعيل، واصطفى من ولد إسمعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» . وما جاء عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتاني جبريل فقال لي: يا محمد إن الله بعثني فطفت شرق الأرض ومغربها وسهلها وجبلها، فلم أجد حيا خيرا من مضر، ثم أمرني فطفت في مضر فلم أجد حيا خيرا من كنانة، ثم أمرني فطفت في كنانة فلم أجد حيا خيرا من قريش، ثم أمرني فطفت في قريش فلم

أجد حيا خيرا من بني هاشم. ثم أمرني أن أختار في أنفسهم» أي أختار نفسا من أنفسهم «فلم أجد نفسا خيرا من نفسك» انتهى. وفي الوفاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: الآية 128] قال: ليس من العرب قبيلة إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضرها وربيعتها ويمانيها. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار إلى خيار» انتهى. وقوله واختار من مضر قريشا يدل على أن مضر ليس جماع قريش وإلا كانت أولاده كلها قريشا. وعن أبي هريرة يرفعه بسند حسنه الحافظ العراقي «إن الله حين خلق الخلق بعث جبريل فقسم الناس قسمين: قسم العرب قسما، وقسم العجم قسما، وكانت خيرة الله في العرب. ثم قسم العرب إلى قسمين، فقسم اليمن قسما وقسم مضر قسما وكانت خيرة الله في مضر، وقسم مضر قسمين فكانت قريش قسما وكانت خيرة الله في قريش، ثم أخرجني من خيار من أنا فيه» . قال بعضهم: وما جاء في فضل قريش فهو ثابت لبني هاشم والمطلب، لأنهم أخص وما ثبت للأعم يثبت للأخص ولا عكس. وفي الشفاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله سبحانه وتعالى قسم الخلق قسمين فجعلني من خيرهم قسما فذلك قوله تعالى: أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) [الواقعة: الآية 27] وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة: الآية 41] فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله تعالى فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: الآية 8]- وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ [الواقعة: الآية 9]- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) [الواقعة: الآية 10] فأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني من خيرها قبيلة، وذلك قوله تعالى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ [الحجرات: الآية 13] الآية فأنا أبر ولد آدم وأكرمهم على الله تعالى ولا فخر، وجعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا ولا فخر، فذلك قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: الآية 33] هذا كلام الشفاء، فليتأمل. وإلى شرف هذا النسب يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله: وبدا للوجود منك كريم ... من كريم آباؤه كرماء نسب تحسب العلا بحلاه ... قلدتها نجومها الجوزاء حبذا عقد سودد وفخار ... أنت فيه اليتيمة العصماء

أي ظهر لهذا العالم منك كريم: أي جامع لكل صفة كمال، وهذا على حد قولهم: لي من فلان صديق حميم، وذلك الكريم الذي ظهر وجد من أب كريم سالم من نقص الجاهلية آباؤه الشامل للأمهات جميعهم كرماء: أي سالمون من نقائص الجاهلية: أي ما يعد في الإسلام نقصا من أوصاف الجاهلية، وهذا نسب لا أجل منه، ولجلالته إذا تأملته تظن بسبب ما تحلى به من الكمالات: أي معاليها جعلت الجوزاء نجومها التي يقال لها نطاق الجوزاء قلادة لتلك المعالي، وهذه القلادة نعم هي قلادة سيادة وتمدح موصوفة بأنك في تلك القلادة الدرة اليتيمة التي لا مشابه لها المحفوظة عن الأعين لجلالتها. لا يقال: شمول الآباء للأمهات لا يناسب قوله نسب، لأن النسب الشرعي في الآباء خاصة. لأنا نقول: المراد بالنسب ما يعم اللغوي أو قد يقال سلامة آبائه من النقائص إنما هو من حيث أبيه: أي كونه متفرعا عنه، وذلك يستلزم أن تكون أمهاته كذلك، وسيأتي «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى. وقد قال الماوردي في كتاب «أعلام النبوة» : وإذا اختبرت حال نسبه صلى الله عليه وسلم وعرفت طهارة مولده صلى الله عليه وسلم علمت أنه سلالة آباء كرام ليس فيهم مسترذل، بل كلهم سادة قادة، وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة، هذا كلامه ومن كلام عمه أبي طالب: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها وإن حصلت أنساب عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها وكريمها بالرفع عطفا على المصطفى، وسر القوم: وسطهم، فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فخذه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» . وعن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله تعالى؟ قال: تبغض العرب فتبغضني» . وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبغض العرب إلا منافق» . وفي الترمذي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي» قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقال صلى الله عليه وسلم «ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» وقال صلى الله عليه وسلم: «أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لواء الحمد يوم القيامة بيدي وإن أقرب الخلق من لوائي يومئذ العرب» وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا ذلت العرب ذل الإسلام» وفي كلام فقهائنا: العرب أولى الأمم، لأنهم المخاطبون أولا والدين عربي. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «خير العرب مضر، وخير مضر عبد مناف، وخير بني عبد مناف بنو هاشم، وخير بني هاشم بنو عبد المطلب، والله ما افترق فرقتان منذ خلق الله تعالى آدم إلا كنت في خيرهما» . أقول: وفي لفظ آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حين خلقني جعلني من خير خلقه، ثم حين خلق القبائل جعلني من خيرهم قبيلة، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم بيتا وأنا خيرهم نسبا» وفي لفظ آخر عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهم قسما، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، ثم جعل الثلث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا» وتقدم عن الشفاء مثل ذلك مع زيادة الاستدلال بالآيات، وتقدم الأمر بالتأمل في ذلك، والله أعلم. وفيه أنه ورد النهي في الأحاديث الكثيرة عن الانتساب إلى الآباء في الجاهلية على سبيل الافتخار، من ذلك «لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية، فو الذي نفسي بيده ما يدحرج الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية» أي والذي يدحرجه الجعل هو النتن. وجاء في الحديث «ليدعن الناس فخرهم في الجاهلية. أو ليكونن أبغض إلى الله تعالى من الخنافس» وجاء «آفة الحسب الفخر» أي عاهة الشرف بالآباء التعاظم بذلك. وأجاب الإمام الحليمي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك الفخر، إنما أراد تعريف منازل أولئك ومراتبهم: أي ومن ثم جاء في بعض الروايات قوله ولا فخر: أي فهو من التعريف بما يجب اعتقاده وإن لزم منه الفخر، وهو إشارة إلى نعمة الله تعالى عليه، فهو من التحدث بالنعمة وإن لزم من ذلك الفخر أيضا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «في قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) [الشعراء: الآية 219] قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا» أي وجدت الأنبياء في آبائه فسيأتي «أنه قذف بي في صلب آدم، ثم في صلب نوح، ثم في صلب إبراهيم عليهما الصلاة والسلام» بدليل ما يأتي فيه. وفي لفظ آخر عنه «ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء» أي المذكورين أو غيرهم

«حتى ولدته أمه» أي وهذا كما لا يخفى لا ينافي وقوع من ليس نبيا في آبائه، فالمراد وقوع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في نسبه عليه الصلاة والسلام كما علمت، ضرورة أن آباءه كلهم ليسوا أنبياء، لكن قال غيره: لا زال نوره صلى الله عليه وسلم ينقل من ساجد إلى ساجد. قال أبو حيان: واستدل بذلك، أي بما ذكر من الآية المذكورة: أي المفسرة بما ذكر الرافضة على أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين: أي لأن الساجد لا يكون إلا مؤمنا، فقد عبر عن الإيمان بالسجود، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك، وهو استدلال ظاهري، وإلا فالآية قيل معناها وتصفحك أحوال المتهجدين من أصحابك لأنه لما نسخ فرض قيام الليل عليه وعليهم بناء على أنه كان واجبا عليه وعلى أمته وهو الأصح. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان واجبا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله صلى الله عليه وسلم «طاف صلى الله عليه وسلم تلك الليلة على بيوت أصحابه لينظر حالهم» أي هل تركوا قيام الليل لكونه نسخ وجوبه بالصلوات الخمس ليلة المعراج حرصا على كثرة طاعتهم فوجدها كبيوت الزنابير: أي لأن الله عز وجل افترض عليه صلى الله عليه وسلم: أي وعلى أمته قيام الليل أو نصفه أو أقل أو أكثر في أول سورة المزمل، ثم نسخ ذلك في آخر السورة بما تيسر: أي وكان نزول ذلك بعد سنة، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس ليلة المعراج كما سيأتي. وجعل بعضهم ذلك من نسخ الناسخ فيصير منسوخات، لما علمت أن آخر هذه السورة ناسخ لأولها ومنسوخ بفرض الصلوات الخمس. واعترض بأن الأخبار دالة على أن قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمّل: الآية 20] إنما نزل بالمدينة يدل على ذلك قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمّل: الآية 20] لأن القتال في سبيل الله إنما كان بالمدينة، فقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ [المزمّل: الآية 20] اختيار لا إيجاب. وقيل معنى وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) [الشّعراء: الآية 219] وتقلبك في أركان الصلاة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا في الساجدين: أي في المصلين، ففي الساجدين ليس متعلقا بتقلبك بل بساجدا المحذوف. لا يقال: يعارض جعل الساجدين عبارة عن المؤمنين أن من جملة آبائه صلى الله عليه وسلم آزر والد إبراهيم الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم وكان كافرا. لأنا نقول: أجمع أهل الكتاب على أن آزر كان عمه، والعرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما فقد حكى الله عن يعقوب عليه السلام أنه قال: «آبائي إبراهيم وإسماعيل» ومعلوم أن إسماعيل إنما هو عمه. أي ويدل لذلك أن أبا إبراهيم كان اسمه تارخ بالمثناة فوق والمعجمة كما عليه جمهور أهل النسب، وقيل بالمهملة وعليه اقتصر الحافظ في الفتح لا آزر، لكن ادعى بعضهم أنه لقب له، لأن آزر اسم

صنم كان يعبده فصار له اسمان: آزر وتارخ كيعقوب وإسرائيل. قال بعضهم: وقد تساهل من أخذ بظاهر الآية كالقاضي البيضاوي وغيره فقال: إن أبا إبراهيم مات على الكفر وما قيل إنه عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل. ويوافقه ما في النهر نقلا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آزر كان اسم ابيه، ويرد ذلك قول الحافظ السيوطي رحمه الله: يستنبط من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) [إبراهيم: الآية 41] وكان ذلك بعد موت عمه بمدة طويلة، أن المذكور في القرآن بالكفر والتبري من الاستغفار له: أي في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة: الآية 114] هو عمه لا أبوه الحقيقي. قال: فلله الحمد على ما ألهم: أي ولا يخفى أن هذا لا يتم إلا إذا كان أبوه الحقيقي حيا وقت التبري منه، وأن التبري سببه الموت: أي موت عمه على الكفر لا الوحي بأنه يموت كافرا فليتأمل، وحينئذ يكون أبوه الحقيقي هو المعني بقول أبي هريرة: أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم. أن قال لما رأى ولده وقد ألقي في النار أي على تلك الحالة أي في روضة خضراء وحوله النار: لم تحرق منه إلا كتافه نعم الرب ربك يا إبراهيم، وكان سنه حين ألقي في النار ست عشرة سنة كما في الكشاف. وفي كلام غيره كان سنه ثلاثين سنة بعد ما سجن ثلاث عشرة سنة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «إن قريشا كانت نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم عليه الصلاة والسلام بألفي عام يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام ألقى ذلك النور في صلبه، قال صلى الله عليه وسلم: فأهبطني الله تعالى إلى الأرض في صلب آدم، وجعلني في صلب نوح، وقذفني في صلب إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ثم لم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط» . أقول: قوله صلى الله عليه وسلم: «فأهبطني» ينبغي أن لا يكون معطوفا على ما قبله من قوله: «إن قريشا كانت نورا بين يدي الله تعالى الخ» فيكون نوره صلى الله عليه وسلم من جملة نور قريش، وإنه صلى الله عليه وسلم انفرد عن نور قريش وأودع في صلب نوح عليه الصلاة والسلام الخ، بل على ما يأتي من قوله: «كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام» اللازم لذلك أن يكون نوره سابقا على نور قريش، ويكون نور قريش من نوره صلى الله عليه وسلم. وحكمة اقتصاره صلى الله عليه وسلم على من ذكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تخفى. وهي أنهم آباء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن ذرية نوح هود وصالح عليهما

الصلاة والسلام، ومن ذرية إبراهيم إسمعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وشعيب وموسى وهارون بناء على أنه شقيق موسى أو لأبيه وإلا فسيأتي أن نوره انتقل إلى شيث، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم من ذرية إسمعيل. وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام بأربعة عشر ألف عام» ورأيت في كتاب التشريفات في الخصائص والمعجزات لم أقف على اسم مؤلفه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال يا جبريل كم عمرت من السنين؟ فقال يا رسول الله لست أعلم، غير أن في الحجاب الرابع نجما يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة، رأيته اثنين وسبعين ألف مرة فقال: «يا جبريل وعزة ربي جل جلاله أنا ذلك الكوكب» رواه البخاري، هذا كلامه، فلما خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام جعل ذلك النور في ظهره: أي فهو حالة كونه نورا سابق على قريش حالة كونها نورا، بل سيأتي ما يدل على أن نوره صلى الله عليه وسلم سابق على سائر المخلوقات، بل وتلك المخلوقات خلقت من ذلك النور آدم وذريته وحينئذ يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره صلى الله عليه وسلم، وجعل نوره صلى الله عليه وسلم في ظهر آدم عليه الصلاة والسلام، فقد تقدم في الخبر «لما خلق الله تعالى آدم جعل ذلك النور في ظهره» أي فكان يلمع في جبينه فيغلب على سائر نوره الخ ما يأتي، ثم انتقل إلى ولده شيث الذي هو وصيه، وكان من جملة ما أوصاه به أنه يوصي من انتقل إليه ذلك النور من ولده أنه لا يضع ذلك النور الذي انتقل إليه إلا في المطهرة من النساء، ولم تزل هذه الوصية معمولا بها في القرون الماضية إلى أن وصل ذلك النور إلى عبد المطلب: أي وهذا السياق يدل على أن ذلك النور كان ظاهرا فيمن ينتقل إليه من آبائه، وهو قد يخالف ما تقدم من تخصيص بعض آبائه بذلك، ولم تلد حواء ولدا مفردا إلا شيث كرامة لهذا النور، قيل مكث في بطنها حتى نبتت أسنانه وكان ينظر إلى وجهه من صفاء بطنها وهو الثالث من ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وكانت تلد ذكرا وأنثى معا: أي فقد قيل إنها ولدت لآدم أربعين ولدا في عشرين بطنا، وقيل ولدت مائة وعشرين ولدا، وقيل مائة وثمانين ولدا، وقيل خمسمائة. ويقال إن آدم عليه الصلاة والسلام لما مات بكى عليه من ولده وولد ولده أربعون ألفا، ولم يحفظ من نسل آدم إلا ما كان من صلب شيث دون إخوته: أي فإنهم لم يعقبوا أصلا فهو أبو البشر. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره» الحديث، وفيه أنه أصل لكل موجود،

باب: تزويج عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم آمنة أمه صلى الله عليه وسلم وحفر زمزم وما يتعلق بذلك

والله سبحانه وتعالى أعلم. واختلف الناس في عد طبقات أنساب العرب وترتيبها، والذي في الأصل عن الزبير بن بكار أنها ست طبقات، وأن أولها شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة بكسر العين المهملة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة قال: وقد نظمها الزين العراقي في قوله: للعرب العربا طباق عدة ... فصلها الزبير وهي ستة أعم ذاك الشعب فالقبيلة ... عمارة بطن فخذ فصيلة أي فالشعب أصل القبائل، والقبيلة أصل العمارة، والعمارة أصل البطون، والبطن أصل الفخذ، والفخذ أصل الفصيلة، فيقال: مضر شعب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي وقيل شعبه خزيمة، وكنانة قبيلته صلى الله عليه وسلم، وقريش عمارته صلى الله عليه وسلم، وقصي بطنه صلى الله عليه وسلم، وهاشم فخذه صلى الله عليه وسلم، وبنو العباس فصيلته صلى الله عليه وسلم. وقيل بعد الفصيلة العشيرة، وليس بعد العشيرة شيء. وقيل بعدها الفصيلة قال: ثم الرهط. وزاد بعضهم الذرية والعترة والأسرة، ولم يرتب بينها. وقد ذكرها محمد بن سعد اثني عشر فقال: الجذم، ثم الجمهور، ثم الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرهط، ثم الأسرة، ثم الذرية، وسكت عن العترة. وفي كلام بعضهم: الأسباط بطون بني إسرائيل، والشعب في لسان العرب: الشجرة الملتفة الكثيرة الأغصان والأوراق، والقبائل بطون العرب والشعوب بطون العجم، فليتأمل. باب: تزويج عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم آمنة أمه صلى الله عليه وسلم وحفر زمزم وما يتعلق بذلك قيل خرج عبد المطلب ومعه ولده عبد الله، وكان أحسن رجل في قريش خلقا، وخلقا، وكان نور النبي صلى الله عليه وسلم بينا في وجهه. وفي رواية أنه كان أحسن رجل رئاء بكسر الراء وبضمها ثم همزة مفتوحة: منظرا في قريش. وفي رواية أنه كان أكمل بني أبيه، وأحسنهم وأعفهم، وأحبهم إلى قريش، وقد هدى الله تعالى والده فسماه بأحب الأسماء إلى الله تعالى. ففي الحديث «أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن» وهو الذبيح. وذلك لأن أباه عبد المطلب حين أمر في النوم بحفر زمزم بئر إسمعيل عليه السلام: أي لأن الله تعالى أخرج زمزم لإسمعيل بواسطة جبريل كما يأتي إن شاء الله تعالى في بناء الكعبة، أخرج زمزم مرتين: مرة لآدم، ومرة لإسمعيل عليهما الصلاة

السلام، وكانت جرهم قد دفنتها: أي فإن جرهما لما استخفت بأمر البيت الحرام، وارتكبوا الأمور العظام، قام فيهم رئيسهم مضاض بكسر الميم وحكى ضمها، ابن عمرو خطيبا: ووعظهم فلم يرعووا فلما رأى ذلك منهم عمد إلى غزالتين من ذهب كانتا في الكعبة وما وجد فيها من الأموال: أي السيوف والدروع على ما سيأتي التي كانت تهدى إلى الكعبة ودفنها في بئر زمزم. وفي مرآة الزمان أن هاتين الغزالتين أهداهما للكعبة وكذا السيوف ساسان أول ملوك الفرس الثانية. ورد بأن الفرس لم يحكموا على البيت ولا حجوه هذا كلامه. وفيه أن هذا لا ينافي ذلك، فليتأمل. وكانت بئر زمزم نضب ماؤها: أي ذهب فحفرها مضاض بالليل وأعمق الحفر ودفن فيها ذلك: أي ودفن الحجر الأسود أيضا كما قيل، وطم البئر، واعتزل قومه فسلط الله تعالى عليهم خزاعة، فأخرجتهم من الحرم، وتفرقوا وهلكوا كما تقدم، ثم لا زالت زمزم مطمومة لا يعرف محلها مدة خزاعة ومدة قصي، ومن بعده إلى زمن عبد المطلب. ورؤياه التي أمر فيها بحفرها. قيل وتلك المدة خمسمائة سنة: أي وكان قصي احتفر بئرا في الدار التي سكنتها أم هانئ أخت علي رضي الله تعالى عنهما، وهي أول سقاية احتفرت بمكة. فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال احفر طيبة، فقلت: وما طيبة؟ فذهب وتركني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال احفر برة، فقلت: وما برة فذهب وتركني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني وقال احفر المضنونة، فقلت: وما المضنونة؟ فذهب وتركني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال احفر زمزم، فقلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف، ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل. وقوله لا تنزف: أي لا يفرغ ماؤها، ولا يلحق قعرها. وفيه أنه ذكر أنه وقع فيها عبد حبشي فمات بها وانتفخ فنزحت من أجله، ووجدوا قعرها فوجدوا ماؤها يفور من ثلاثة أعين، أقواها وأكثرها التي من ناحية الحجر الأسود. وقوله ولا تذم بالذال المعجمة: أي لا توجد قليلة الماء، من قولهم: بئر ذمة أي قليلة الماء قيل وليس المراد أنه لا يذمها أحد، لأن خالد بن عبد الله القسري أمير العراق من جهة الوليد بن عبد الملك ذمها وسماها أم جعلان، واحتفر بئرا خارج مكة باسم الوليد بن عبد الملك، وجعل يفضلها على زمزم ويحمل الناس على التبرك بها. وفيه أن هذا جرأة منه على الله تعالى وقلة حياء منه، وهو الذي كان يعلن

ويفصح بلعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على المنبر، فلا عبرة بذمه. وقيل لزمزم طيبة لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم، وقيل لها برة لأنها فاضت للأبرار، وقيل لها المضنونة لأنها ضن بها على غير المؤمنين، فلا يتضلع منها منافق، وقد جاء في رواية «يقول الله تعالى ضننت بها على الناس إلا عليك» ولعل المراد إلا على أتباعك، فيكون بمعنى ما قبله. وفي رواية أنه قيل لعبد المطلب احفر زمزم، ولم يذكر له علامتها فجاء إلى قومه وقال لهم: إني قد أمرت أن أحفر زمزم، قالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال لا، قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يكن حقا من الله تعالى بين لك، وإن يكن من الشيطان فلن يعود إليك، فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتاه فقال احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم، وهي ميراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، فقال عبد المطلب: أين هي؟ فقال: هي بين الفرث والدم، عند قرية النمل حيث ينقر الغراب الأعصم غدا: أي والأعصم، قيل أحمر المنقار والرجلين، وقيل أبيض البطن، وعلى هذا اقتصر الإمام الغزالي حيث قال في قوله صلى الله عليه وسلم «مثل المرأة الصالحة في النساء مثل الغراب الأعصم بين مائة غراب» يعني الأبيض البطن، هذا كلامه. وقيل الأعصم أبيض الجناحين، وقيل أبيض إحدى الرجلين، فلما كان الغد ذهب عبد المطلب وولده الحارث ليس له ولد غيره، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الفرث والدم: أي في محلهما وذلك بين إساف ونائلة: الصنمين اللذين تقدم ذكرهما، وتقدم أن قريشا كانت تذبح عندهما ذبائحها: أي التي كانت تتقرب بها، وهذا يبعد ما جاء في رواية أنه لما قام بحفرها رأى ما رسم له من قرية النمل ونقرة الغراب، ولم ير الفرث والدم فبينما هو كذلك ندت بقرة من ذابحها فلم يدركها حتى دخلت المسجد فنحرها في الموضع الذي رسم له. وقد يقال لا يبعد لأنه يجوز أن يكون فهم أن يكون الفرث والدم موجودين بالفعل فلا يلزم من كون المحل المذكور محلهما وجودهما فيه في ذلك الوقت، فلم يكتف بنقرة الغراب في محلهما، فأرسل الله له تلك البقرة ليرى الأمر عيانا. وذكر السهيلي رحمه الله لذكر هذه العلامات الثلاث حكمة لا بأس بها، ولعل إسافا ونائلة نقلا بعد ذلك إلى الصفا والمروة بعد أن نقلهما عمرو بن لحي من جوف الكعبة إلى المحل المذكور، فلا يخالف ما ذكره القاضي البيضاوي وغيره أن إسافا كان على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما: أي ومن ثم لما جاء الاسلام وكسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف أي السعي بينهما، وقالوا يا رسول الله هذا كان شعارنا في الجاهلية لأجل التمسح بالصنمين، فأنزل الله تعالى- إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: الآية 158]- الآية: ويقال إن

بقرة نحرت بالحزورة بوزن قسورة فانفلتت ودخلت المسجد في موضع زمزم فوقعت مكانها، فاحتمل لحمها، فأقبل غراب أعصم فوقع في الفرث فليتأمل الجمع. وقد يقال: لا منافاة، لأن قوله في الرواية الأولى: فندت بقرة من ذابحها: أي ممن شرع في ذبحها ولم يتمه حتى دخلت المسجد فنحرها: أي تمم ذبحها، فقد نحرت بالحزورة وبالمسجد أو يراد بنحرها في الحزورة ذبحها، وبنحرها في المسجد سلخها وتقطيع لحمها فقد رأينا الحيوان بعد ذبحه يذهب إلى موضع آخر ثم يقع به، وعند ذلك جاء عبد المطلب بالمعول وقام ليحفر، فقامت إليه قريش، فقالوا له: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما فقال عبد المطلب لولده الحارث ذد عني: أي امنع عني حتى أحفر، فو الله لأمضين لما أمرت به، فلما رأوه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطي: أي البناء، فكبر وقال هذا طي إسمعيل عليه السلام: أي بناؤه، فعرفت قريش أنه أصاب حاجته، فقاموا إليه وقالوا والله يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسمعيل، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك، فقال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، فقالوا نخاصمك فيها، فقال: اجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بأعالي الشام: أي ولعلها التي لما حضرتها الوفاة طلبت شقا وسطيحا وتفلت في فمهما، وذكرت أن سطيحا يخلفها في كهانتها ثم ماتت في يومها ذلك، وسطيح ستأتي ترجمته. وأما شق فقيل له ذلك، لأنه كان شق إنسان يدا واحدة، ورجلا واحدة، وعينا واحدة، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، وكان إذ ذاك ما بين الحجاز والشام مفازات لا ماء بها، فلما كان عبد المطلب ببعض تلك المفاوز فني ماؤه وماء أصحابه، فظمؤوا ظمأ شديدا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فقال عبد المطلب لأصحابه ما ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فقال: إني أرى أن يحفر كل أحد منكم حفيرة يكون فيها إلى أن يموت فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد: أي يترك بلا مواراة أيسر من ضيعة ركب جميعا، فقالوا: نعم ما أمرت به فحفر كل حفيرة لنفسه ثم قعدوا ينتظرون الموت، ثم قال عبد المطلب لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا إلى الموت لعجز، فلنضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا، فانطلقوا، كل ذلك وقومهم ينظرون إليهم ما هم فاعلون فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه وملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل فقال: هلموا إلى الماء فقد

سقانا الله فاشربوا واستقوا، فجاؤوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا لعبد المطلب قد والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، فلما جاء وأخذ في الحفر وجد فيها الغزالتين من الذهب اللتين دفنتهما جرهم، ووجد فيها أسيافا وأدراعا، فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك، فقال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم. والنصف: بكسر النون وسكون الصاد المهملة وبفتحها النصفة بفتحات نضرب عليها بالقداح قالوا: وكيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له، قالوا أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوها لصاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل: أي وجعلوا الغزالتين قسما والأسياف والأدراع قسما آخر، وقام عبد المطلب يدعو ربه بشعر مذكور في الأمتاع، فضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على الغزالتين، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع، وتخلف قدحا قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالتين، فكان أول ذهب حليت به الكعبة ذلك. ومن ثم جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: والله إن أول من جعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب. وفي شفاء الغرام أن عبد المطلب علق الغزالتين في الكعبة، فكان أول من علق المعاليق بالكعبة، وسيأتي الجمع بين كونهما علقا بالكعبة وبين جعلهما حليا لباب الكعبة وقد كان بالكعبة بعد ذلك معاليق، فإن عمر رضي الله تعالى عنه لما فتحت مدائن كسرى كان مما بعث إليه منها هلالان فعلقا بالكعبة، وعلق بها عبد الملك بن مروان شمستين وقدحين من قوارير، وعلق بها الوليد بن يزيد سريرا وعلق بها السفاح صحفة خضراء، وعلق بها المنصور القارورة الفرعونية، وبعث المأمون ياقوتة كانت تعلق كل سنة في وجه الكعبة في زمن الموسم في سلسلة من ذهب. ولما أسلم بعض الملوك في زمنه أرسل إليها بصنمه الذي كان يعبده، وكان من ذهب متوجا ومكللا بالجواهر والياقوت الأحمر والأخضر والزبرجد، فجعل في خزانة الكعبة. ثم إن الغزالتين سرقتا وأبيعتا من قوم تجار قدموا مكة بخمر وغيرها، فاشتروا بثمنها خمرا. وقد ذكر أن أبا لهب مع جماعة نفدت خمرهم في بعض الأيام، وأقبلت قافلة من الشام معها خمر، فسرقوا غزالة واشتروا بها خمرا، وطلبتها قريش، وكان أشدهم

طلبا لها عبد الله بن جدعان، فعلموا بهم فقطعوا بعضهم وهرب بعضهم، وكان فيمن هرب أبو لهب: هرب إلى أخواله من خزاعة فمنعوا عنه قريشا، ومن ثم كان يقال لأبي لهب سارق غزالة الكعبة. وقد قيل منافع الخمر المذكورة فيها أنهم كانوا يتغالون فيها إذا جلبوها من النواحي لكثرة ما يربحون فيها لأنه كان المشتري إذا ترك المماكسة في شرائها عدوه فضيلة له ومكرمة فكانت أرباحهم تتكثر بسبب ذلك. وما قيل في منافعها أنها تقوي الضعيف، وتهضم الطعام، وتعين على الباه، وتسلي المحزون، وتشجع الجبان، وتصفي اللون، وتنعش الحرارة الغريزية، وتزيد في الهمة والاستعلاء، فذلك كان قبل تحريمها، ثم لما حرمت سلبت جميع هذه المنافع، وصارت ضررا صرفا، ينشأ عنها الصداع والرعشة في الدنيا لشاربها، وفي الآخرة يسقى عصارة أهل النار. وفي كلام بعضهم: من لازم شربها حصل له خلل في جوهر العقل، وفساد الدماغ والبخر في الفم، وضعف البصر والعصب، وموت الفجاءة ومميتة للقلب، ومسخطة للرب، ومن ثم جاء أنها أي الخمرة ليست بدواء ولكنها داء. وجاء «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر» أي كان مغلقا. وجاء «الخمر أم الفواحش» وفي رواية «أم الخبائث» وجاء في الخمر «لا طيب الله من تطيب بها، ولا شفى الله من استشفى بها» . وقد قيل لا منافاة بين كون الغزالتين علقتا في الكعبة وسرقتا أو سرقت إحداهما، وبين كون عبد المطلب جعلهما حليا للباب، لأنه يجوز أن يكون عبد المطلب استخلص الغزالتين أو الغزالة من التجار، ثم جعلهما حليا للباب بعد أن كان علقهما. وفي الإمتاع: وكان الناس قبل ظهور زمزم تشرب من آبار حفرت بمكة، وأول من حفر بها بئرا قصي كما تقدم، وكان الماء العذب بمكة قليلا. ولما حفر عبد المطلب زمزم بنى عليها حوضا وصار هو وولده يملآنه فيكسره قوم من قريش ليلا حسدا فيصلحه نهارا حين يصبح، فلما أكثروا من ذلك وجاء شخص واغتسل به غضب عبد المطلب غضبا شديدا فأري في المنام أن قل: اللهم إن لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل: أي حلال مباح ثم كفيتهم، فقام عبد المطلب حين اختلفت قريش في المسجد ونادى بذلك، فلم يكن يفسد حوضه أحد، أو اغتسل إلا رمى في جسده بداء. ثم إن عبد المطلب لما قال لولده الحارث ذد عني: أي امنع عني حتى أحفر،

وعلم أنه لا قدرة له على ذلك نذر إن رزق عشرة من الولد الذكور يمنعونه ممن يتعالى عليه ليذبحن أحدهم عند الكعبة. أي وقيل إن سبب ذلك أن عدي بن نوفل بن عبد مناف أبا المطعم قال له: يا عبد المطلب تستطيل علينا وأنت فذّ لا ولد لك: أي متعدد، بل لك ولدا واحدا ولا مال لك، وما أنت إلا واحد من قومك، فقال له عبد المطلب: أتقول هذا، وإنما كان نوفل أبوك في حجر هاشم: أي لأن هاشما كان خلف على أم نوفل وهو صغير، فقال له عدي: وأنت أيضا قد كنت في يثرب عند غير أبيك كنت عند أخوالك من بني النجار، حتى ردك عمك المطلب، فقال له عبد المطلب: أو بالقلة تعيرني، فلله علي النذر لئن آتاني الله عشرة من الأولاد الذكور لأنحرن أحدهم عند الكعبة. وفي لفظ: أن أجعل أحدهم لله نحيرة. قيل إن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم، فعن معاوية رضي الله عنه أن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر الله إن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولده، فلما صاروا عشرة: أي وحفر زمزم أمر في اليوم بالوفاء بنذره: أي قيل له قرّب أحد أولادك: أي بعد أن نسي ذلك وقد قيل له قبل ذلك: أوف بنذرك، فذبح كبشا وأطعمه الفقراء ثم قيل له في النوم: قرب ما هو أكبر من ذلك فذبح ثورا، ثم قيل له في النوم قرب ما هو أكبر من ذلك فذبح جملا، ثم قيل له في النوم قرب ما هو أكبر من ذلك فقال: وما هو أكبر من ذلك؟ فقيل له قرب أحد أولادك الذي نذرت ذبحه، فضرب القداح على أولاده بعد أن جمعهم وأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء وأطاعوه. ويقال إن أول من أطاعه عبد الله وكتب اسم كل واحد على قدح، ودفعت تلك القداح للسادن والقائم بخدمة هبل، وضرب تلك القداح، فخرجت على عبد الله: أي وكان أصغر ولده، وأحبهم إليه مع ما تقدم من أوصافه، فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به على إساف ونائلة وألقاه على الأرض، ووضع رجله على عنقه، فجذب العباس عبد الله من تحت رجل أبيه حتى أثر في وجهه شجة لم تزل في وجه عبد الله إلى أن مات، كذا قيل. وفيه أن العباس لما ولد صلى الله عليه وسلم كان عمره ثلاث سنين ونحوها، فعنه رضي الله عنه: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها فجيء به حتى نظرت إليه وجعلت النسوة يقلن لي قبل أخاك فقبلته، وقيل منعه أخواله بنو مخزوم وقالوا له: والله ما أحسنت عشرة أمه، وقالوا له ارض ربك وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، وفي رواية «وأعظمت قريش ذلك» أي وقامت سادة قريش من أنديتها إليه ومنعوه من ذلك وقالوا له: والله لا نفعل حتى تستفتي فيه فلانة الكاهنة أي لعلك تعذر فيه إلى

ربك لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه أي ويكون سنة، ولعل المراد إذا وقع له مثل ما وقع لك من النذر وقال له بعض عظماء قريش لا تفعل إن كان فداؤه بأموالنا فديناه، وتلك الكاهنة قيل اسمها قطبة وقيل غير ذلك كانت بخيبر فأتها فاسألها فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته، فأتاها أي مع بعض قومه وفيهم جماعة من أخوال عبد الله بن مخزوم، فسألها وقص عليها القصة فقالت: ارجعوا عني اليوم حتى يأتي تابعي فأسأله، فرجعوا من عندها ثم غدوا عليها، فقالت لهم: قد جاءني الخبر كم الدية فيكم؟ فقالوا عشرة من الإبل، فقالت: تخرج عشرة من الإبل وتقدح، وكلما وقعت عليه يزاد الإبل حتى تخرج القداح عليها، فضرب على عشرة فخرجت عليه فما زال يزيد عشرة عشرة حتى بلغت مائة، فخرجت القداح عليها، فقالت قريش ومن حضره قد انتهى رضا ربك، فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات: أي ففعل ذلك وذبح الإبل عند الكعبة لا يصدّ عنها أحد، أي من آدمي ووحش وطير. قال الزهري: فكان عبد المطلب أول من سن دية النفس مائة من الإبل: أي بعد أن كانت عشرة كما تقدم. وقيل أول من سن ذلك أبو يسار العدواني. وقيل عامر بن الظرب، فجرت في قريش: أي وعلى ذلك فأولية عبد المطلب إضافية ثم فشت في العرب، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأول من ودي بالإبل عن العرب زيد بن بكر من هوازن قتله أخوه: أي وأما ما قيل إن القدح بعد المائة خرج على عبد الله أيضا، ولا زال يخرج عليه حتى جعلوا الإبل ثلاثمائة، فخرج على الإبل فنحرها عبد المطلب فضعيف جدا. وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن ابن عباس رضي الله عنهما سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الإبل أخذا من هذه القصة ثم سألت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن ذلك فلم يفتها بشيء فبلغ مروان بن الحكم وكان أميرا على المدينة، فأمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير بدل ذبح ولدها وقال: إن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما لم يصيبا الفتيا، ولا يخفى أن هذا نذر باطل عندنا معاشر الشافعية فلا يلزمها به شيء. وعند أبي حنيفة ومحمد يلزمها ذبح شاة في أيام النحر في الحرم أخذا من قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قال القاضي البيضاوي: وليس فيه ما يدل عليه. وفي الكشاف أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أنا ابن الذبيحين» أي عبد الله وإسمعيل وعن بعضهم قال: كنا عند معاوية رضي الله تعالى عنه فتذاكر القوم الذبيح هل هو إسمعيل أو إسحق، فقال معاوية على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي: أي يشكو جدب أرضه، فقال: يا رسول الله خلفت البلاد يابسة هلك المال وضاع

العيال، فعد عليّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فقال القوم من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ قال عبد الله وإسمعيل. قال الحافظ السيوطي: هذا حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف حاله. قال بعضهم: لما أحب إبراهيم ولده إسمعيل بطبع البشرية أي لا سيما وهو بكره ووحيده إذ ذاك، وقد أجرى الله العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالد: أي وخصوصا إذا كان لا ولد له غيره، أمره الله بذبحه ليخلص سره من حب غيره بأبلغ الأسباب الذي هو الذبح للولد، فلما امتثل وخلص سره له ورجع عن عادة الطبع فداه بذبح عظيم، لأن مقام الخلة يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، فلما خلصت الخلة من شائبة المشاركة لم يبق في الذبح مصلحة فنسخ الأمر وفدى هذا. وجاء مما يدل على أن الذبيح إسحق حديث «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي النسب أشرف» وفي رواية «من أكرم الناس؟ فقال: يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله عليهم الصلاة والسلام» كذا روي. قال بعضهم والثابت: يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وما زاد على ذلك من الراوي. وما ذكر أن يعقوب لما بلغه أن ولده بنيامين أخذ بسبب السرقة كتب إلى العزيز وهو يومئذ ولده يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم، من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر. أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدي فربطت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه بردا وسلاما، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليذبح، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إليّ فذهب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به، وإنك حبسته، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام لم يثبت. ففي كلام القاضي البيضاوي، وما روي أن يعقوب كتب ليوسف من يعقوب بن إسحق ذبيح الله لم يثبت: أي ولعله لم يثبت أيضا ما في (أنس الجليل) أن موسى لما أراد مفارقة شعيب وذهابه إلى وطنه بمملكة فرعون بسط شعيب يديه وقال: يا رب إبراهيم الخليل، وإسمعيل الصفي، وإسحق الذبيح، ويعقوب الكظيم، ويوسف الصديق رد علي قوتي وبصري فأمّن موسى على دعائه، فرد الله عليه بصره وقوّته. وذكر أن يعقوب رأى ملك الموت في منامه، فقال له: هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا والله هو حي وعلمه ما يدعو به وهو: يا ذا المعروف الدائم الذي

لا ينقطع معروفه أبدا، ولا يحصيه غيره فرج عني. وذكر أن سبب ذبح إسحق أي على القول بأنه الذبيح أن الخليل قال لسارة إن جاءني منك ولد فهو لله ذبيح، فجاءت سارة بإسحق، وكان بينه وبين ولادة هاجر لإسمعيل ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة، وإسحق اسمه بالعبرانية الضحاك. وجاء في حديث راويه ضعيف «الذبيح إسحق» وأن داود سأل ربه فقال أي ربي اجعلني مثل آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب، فأوحى الله إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر، وابتليت إسحق بالذبح فصبر، وابتليت يعقوب: أي بفقد ولده يوسف فصبر الحديث. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا [الصافات: الآية 112] قال بشر به نبيا حين فداه الله تعالى من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده: أي لما صبر الأب على ما أمر به وسلم الولد لأمر الله تعالى جعلت المجازاة على ذلك بإعطاء النبوة. قال الحافظ السيوطي: وجزم بهذا القول عياض في الشفاء، والبيهقي في التعريف والإعلام، وكنت ملت إليه في علم التفسير، وأنا الآن متوقف عن ذلك أي كون إسحق هو الذبيح، هذا كلامه. وقد تنبأ كل من إسمعيل وإسحق ويعقوب في حياة إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فبعث الله إسمعيل لجرهم، وإسحق إلى أرض الشام، ويعقوب إلى أرض كنعان. ولا ينافي ذلك أي كون إسحق هو الذبيح تبسمه صلى الله عليه وسلم من قول القائل له يا ابن الذبيحين ولم ينكر عليه، لأن العرب كما تقدم تسمي العمّ أبا. وفي الهدى: إسمعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحق فمردود بأكثر من عشرين وجها. ونقل عن الإمام ابن تيمية أن هذا القول متلقى من أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم الذي هو التوراة، فإن فيه أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره. وفي لفظ وحيده، وقد حرفوا ذلك في التوراة التي بأيديهم اذبح ابنك إسحق، أي ومن ثم ذكر المعافى بن زكريا أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا أسلم من علماء اليهود أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين إن اليهود يعلمون أنه إسمعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون أباكم للفضل الذي ذكره الله تعالى عنه، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحق لأن إسحق أبوهم، ولي رسالة في ذلك سميتها «القول المليح في تعيين الذبيح» رجحت فيها القول بأن الذبيح إسمعيل جوابا عن سؤال رفعه إلي بعض الفضلاء. وعلى أن الذبيح إسمعيل فمحل الذبح بمنى. وعلى أنه إسحق فمحله معروف بالأرض المقدسة على ميلين من بيت المقدس. وفي كلام ابن القيم تأييد كون الذبيح إسمعيل لا إسحق، ولو كان الذبيح

بالشام كما يزعم أهل الكتاب لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة. واستشكل كون أولاد عبد المطلب عند إرادة ذبح عبد الله كانوا عشرة بأن حمزة ثم العباس إنما ولدا بعد ذلك، وإنما كانوا عشرة بهما، وحينئذ يشكل قول بعضهم: فلما تكامل بنوه عشرة وهم الحرث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد الله هذا كلامه. وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون له حينئذ أي عند إرادة الذبح ولدا ولد: أي فقد ذكر أن لولده الحرث ولدين أبو سفيان ونوفل، وولد الولد يقال له ولد حقيقة، هذا. وذكر بعضهم أن أعمامه صلى الله عليه وسلم كانوا اثني عشر، بل قيل ثلاثة عشر، وأن عبد الله ثالث عشرهم، وعليه فلا إشكال، ولا يشكل كون حمزة أصغر من عبد الله والعباس أصغر من حمزة، وكلاهما أصغر من عبد الله، على ما تقدم من أن عبد الله كان أصغر بني أبيه وقت الذبح، لأنه يجوز أن يكون المراد أنه كان أصغرهم حين أراد ذبحه: أي لا بقيد كونهم عشرة أو بذلك القيد. ولا ينافيه كونه ثالث عشرهم، لأن المراد به واحد من الثلاثة عشر. وكان عبد الله كما تقدم أحسن فتى يرى في قريش وأجملهم، وكان نور النبي صلى الله عليه وسلم يرى في وجهه كالكوكب الدري: أي المضيء المنسوب إلى الدر، حتى شغفت به نساء قريش، ولقي منهن عناء، ولينظر ما هذا العناء الذي لقيه منهن. قيل إنه لما تزوج آمنة لم تبق امرأة من قريش من بني مخزوم وعبد شمس وعبد مناف إلا مرضت: أي أسفا على عدم تزوجها به، فخرج مع أبيه ليزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، بضم الزاي وإسكان الهاء وأما الزهرة التي هي النجم فبضم الزاي وفتح الهاء. والزهرة في الأصل هي البياض: أي وأم وهب اسمها قيلة بنت أبي كبشة: أي وكان عمر عبد الله حينئذ نحو ثمان عشرة سنة فمر على امرأة من بني أسد بن عبد العزى أي يقال لها قتيلة، وقيل رقية، وهي أخت ورقة بن نوفل وهي عند الكعبة، وكانت تسمع من أخيها ورقة أنه كائن في هذه الأمة نبي أي وأن من دلائله أن يكون نورا في وجه أبيه، أو أنها ألهمت ذلك، فقالت لعبد الله: أي وقد رأت نور النبوة في غرته أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي، قالت: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن، قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، وأنشد: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه يحمي الكريم عرضه ودينه ... فكيف بالأمر الذي تبغينه

قال: ومن شعر عبد الله والده صلى الله عليه وسلم كما في تذكرة الصلاح الصفدي: لقد حكم البادون في كل بلدة ... بأن لنا فضلا على سادة الأرض وإن أبي ذو المجد والسؤدد الذي ... يشار به ما بين نشز إلى خفض أي ارتفاع وانخفاض. وعن أبي يزيد المديني أن عبد المطلب لما خرج بابنه عبد الله ليزوجه، فمر به على امرأة كاهنة من أهل تبالة: بضم التاء المثناة فوق بلدة باليمن قد قرأت الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت له: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال عبد الله ما تقدم اهـ. أقول: قال الكلبي: كانت أي تلك الكاهنة من أجمل النساء وأعفهن، فدعته إلى نكاحها فأبى. ولا منافاة، لأنه جاز أن تكون أرادت بقولها قم علي الآن أي بعد النكاح وفهم عبد الله أنها تريد الأمر من غير سبق نكاح، فأنشد الشعر المتقدم الدال على طهارته وعفته، وهذا بناء على اتحاد الواقعة، وأن المرأة في هاتين الواقعتين واحدة، وأنه اختلف في اسمها، وأنه مر على تلك المرأة في ذهابه مع أبيه ليزوجه آمنة، ويدل لذلك «فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت» . وظاهر سياق المواهب يقتضي أنهما قضيتان، وأن الأولى عند انصرافه مع أبيه ليزوجه آمنة. وقوله قد قرأت الكتب: أي فجاز أنها رأت في تلك الكتب أن النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر يكون نورا في وجه أبيه، وأنه يكون من أولاد عبد المطلب، أو أنها ألهمت ذلك فطمعت أن يكون ذلك النبي منها، ويؤيد الثاني ما سيأتي عنها، والله أعلم. فأتى عبد المطلب عم آمنة وهو وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا، وكانت في حجره لموت أبيها وهب بن عبد مناف. وقيل أتى عبد المطلب إلى وهب بن عبد مناف فزوجه ابنته آمنة، وقدم هذا في الاستيعاب، فزوجها لعبد الله وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، فدخل بها عبد الله حين أملك عليها مكانه، فوقع عليها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل ذلك النور إليها. قيل وقع عليها يوم الاثنين في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى. أقول فيه: إنه سيأتي في فتح مكة أنه نزل بالحجون، بفتح الحاء المهملة عند شعب أبي طالب بالمكان الذي حصرت فيه بنو هاشم وبنو المطلب. ويمكن أن يقال: ذلك الشعب الذي كان في الحجون كان محلا لسكن أبي

طالب في غير أيام منى، وهذا الشعب الذي عند الجمرة الوسطى كان ينزل فيه أبو طالب أيام منى فلا مخالفة، والله أعلم. ثم أقام عندها ثلاثة أيام، وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته أي عند أهلها أي فهي وأهلها كانوا بشعب أبي طالب، ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس؟ فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي اليوم بك حاجة. قال: وفي رواية أنه لما مر عليها بعد أن وقع على آمنة قال لها: ما لك لا تعرضين علي ما عرضت بالأمس؟ قالت: من أنت؟ قال: أنا فلان، قالت له: ما أنت هو، لقد رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن، ما صنعت بعدي؟ فأخبرها، فقالت: والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكن رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون فيّ، وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، اذهب فأخبرها أنها حملت بخير أهل الأرض اهـ. أقول: وفي رواية أن المرأة التي عرضت نفسها عليه هي ليلى العدوية، وأن عبد الله كان في بناء له وعليه الطين والغبار، وأنه قال: حتى أغسل ما علي وأرجع إليك، وأنه رجع إليها بعد أن وقع على آمنة وانتقل منه النور إليها، وقال لها: هل لك فيما قلت، قالت: لا، قال: ولم؟ قالت: لقد دخلت بنور وما خرجت به. أي وفي سيرة ابن هشام مررت بي وبين عينيك غرة فدعوتك فأبيت ودخلت على آمنة فذهبت بها، ولئن كنت أي وحيث كنت ألممت بآمنة لتلدن ملكا. ولا يخفى أن تعدد الواقعة ممكن، وأن هذا السياق يدل على أن هذه المرأة كان عندها علم بأن عبد الله تزوج آمنة، وأنه يريد الدخول بها، وأنها علمت أنه كائن نبي يكون له الملك والسلطان. وغير خاف أن عرض عبد الله نفسه على المرأة لم يكن لريبة، بل ليستبين الأمر الذي دعاها إلى بذل القدر الكثير من الإبل في مقابلة هذا الشيء على خلاف عادة النساء مع الرجال، ولا يخالف ذلك، بل يؤكده ما في الوفاء من قوله: ثم تذكر الخثعمية وجمالها وما عرضت عليه، فأقبل إليها الحديث، والله أعلم. وعن الكلبي أنه قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم: أي من قبل أمه وأبيه، فما وجدت فيهن سفاحا، والمراد بالسفاح الزنا: أي فإن المرأة كانت تسافح الرجل مدة ثم يتزوجها إن أراد ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية أي من نكاح الأم: أي زوجة الأب، لأنه كان في الجاهلية يباح إذا مات الرجل أن يخلفه على زوجته أكبر أولاده من غيرها. وفي كلام بعضهم: كان أقبح ما يصنعه أهل الجاهلية الجمع بين

الأختين، وكانوا يعيبون المتزوج بامرأة الأب ويسمونه الضيزن. والضيزن: الذي يزاحم أباه في امرأته. ويقال له نكاح المقت: وهو العقد على الرابة، وهي امرأة الأب، والراب: زوج الأم. وما قيل إن هذا أي نكاح امرأة الأب وقع في نسبه صلى الله عليه وسلم لأن خزيمة أحد آبائه صلى الله عليه وسلم لما مات خلف على زوجته أكبر أولاده وهو كنانة فجاء منها بالنضر فهو قول ساقط غلط، لأن الذي خلف عليها كنانة بعد موت أبيه ماتت ولم تلد منه، ومنشأ الغلط أنه تزوج بعدها بنت أخيها، وكان اسمها موافقا لاسمها فجاء منها بالنضر. وبهذا يعلم أن قول الإمام السهيلي نكاح زوجة الأب كان مباحا في الجاهلية بشرع متقدم ولم يكن من المحرمات التي انتهكوها ولا من العظائم التي ابتدعوها، لأنه أمر كان في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم، فكنانة تزوج امرأة أبيه خزيمة، وهي برة بنت مرة فولدت له النضر بن كنانة. وهاشم أيضا قد تزوج امرأة أبيه واقدة فولدت له ضغيفة، ولكن هذا خارج من عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها أي واقدة لم تلد جدا له صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم «أنا من نكاح لا من سفاح» ولذلك قال الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النّساء: الآية 22] أي إلا ما قد سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام. وفائدة هذا الاستثناء أن لا يعاب نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم أنه لم يكن في أجداده صلى الله عليه وسلم من كان من بغية ولا من سفاح. ألا ترى أنه لم يقل في شيء نهى عنه في القرآن: أي مما لم يبح لهم إلا ما قد سلف نحو قوله تعالى وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: الآية 32] ولم يقل إلا ما قد سلف وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [الأنعام: الآية 151] ولم يقل إلا ما قد سلف، ولا في شيء من المعاصي التي نهى عنها إلا في هذه. وفي الجمع بين الأختين، لأن الجمع بين الأختين قد كان مباحا أيضا في شرع من كان قبلنا. وقد جمع يعقوب عليه السلام بين راحيل وأختها ليا، فقوله إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: الآية 22] التفات هذا المعنى، هذا كلامه، فلا التفات إليه ولا معول عليه. على أن قوله إن يعقوب جمع بين الأختين ينازعه قول القاضي البيضاوي: إن يعقوب عليه السلام إنما تزوج ليا بعد موت أختها راحيل. وفي أسباب النزول للواحدي أن في البخاري عن أسباط. قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها فألقى ثوبه على تلك المرأة وصار أحق بها من نفسها ومن غيرها، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها من غير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها وضارّها لتفتدي منه، فمات

بعض الأنصار فجاء ولد من غيرها وطرح ثوبه عليها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها ليضارها لتفتدي منه، فأتت تلك المرأة وشكت حالها للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: الآية 22] الآية. وقيل توفي أبو قيس فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إني أعدك ولدا، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره، فأتته فأخبرته، فأنزل الله تعالى الآية. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لقيت خالي يعني أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه ومعه الراية، فقلت: أين تريد؟ قال «أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أضرب عنقه» زاد في رواية أحمد «وآخذ ماله» . وذكر بعضهم في أن الجاهلية كان إذا أراد الشخص أن يتزوج يقول خطب، ويقول أهل الزوجة نكح، ويكون ذلك قائما مقام الإيجاب والقبول. ومن نكاح الجاهلية الجمع بين الأختين، فإنه كان مباحا عندهم: أي مع استقباحهم له كما تقدم. وذكر بعضهم أن قبل نزول التوراة كان يجوز الجمع بين الأختين: أي ثم حرم ذلك بنزولها. قال: وقد افتخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجداته أي تحدث بنعمة ربه قاصدا به التنبيه على شرف هؤلاء النسوة وفضلهن على غيرهن، فقال «أنا ابن العواتك والفواطم» . فعن قتادة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى فرسه مع أبي أيوب الأنصاري فسبقته فرس المصطفى، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا ابن العواتك، إنه لهو الجواد البحر يعني فرسه» . وقال صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته أي في غزوة حنين وفي غزوة أحد «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، أنا ابن العواتك» . وجاء «أنا ابن العواتك من سليم» والعاتكة في الأصل المتلطخة بالطيب أو الطاهرة. وعن بعض الطالبيين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في يوم أحد «أنا ابن الفواطم» أي ولا ينافيه ما سبق أنه قال في ذلك اليوم «أنا ابن العواتك» لأنه يجوز أن يكون قال كلا من الكلمتين في ذلك اليوم. واختلف الناس في عدد العواتك من جداته صلى الله عليه وسلم، فمن مكثر ومن مقلّ. وقد نقل الحافظ ابن عساكر أن العواتك من جداته صلى الله عليه وسلم أربع عشرة وقيل إحدى عشرة: أي وأولهن أم لؤي بن غالب واللواتي من بني سليم. منهن عاتكة بنت هلال أم عبد مناف، وعاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال أم هاشم، وعاتكة بنت مرة بن هلال أم أبي أمه وهب: أي وقيل أراد بالعواتك من سليم ثلاثة من بني سليم أبكارا أرضعنه كما سيأتي في قصة الرضاع، وكل واحدة منهن تسمى عاتكة. قال وعن سعد

أن الفواطم من جداته عشرة اهـ. أقول: وقيل خمس، وقيل ست، وقيل ثمان، ولم أقف على من اسمه فاطمة من جداته من جهة أبيه إلا على اثنين: فاطمة أم عبد الله، وفاطمة أم قصي، إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يرد الأمهات التي في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم، بل أراد الأعم حتى يشمل فاطمة أم أسد بن هاشم، وفاطمة بنت أسد التي هي أم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وفاطمة أمها. وهؤلاء الفواطم غير الثلاث الفواطم اللاتي قال صلى الله عليه وسلم فيهن لعلي وقد دفع إليه ثوبا حريرا وقال له: «اقسم هذا بين الفواطم الثلاثة» فإن هؤلاء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت أسد. ثم رأيت بعضهم عدّ فيهن أم عمرو بن عائذ، وفاطمة بنت عبد الله بن رزام وأمها فاطمة بنت الحارث، وفاطمة بنت نصر بن عوف أمّ أم عبد مناف، والله أعلم. وعن عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خرجت من نكاح غير سفاح» أي زنا، فقد تقدم أن المرأة كانت تسافح الرجل مدة ثم يتزوجها إن أراد، فكانت العرب تستحل الزنا إلا أن الشريف منهم كان يتورع عنه علانية وإلا بعض أفراد منهم حرمه على نفسه في الجاهلية: أي وفي حديث غريب، «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح الإسلام» . قال: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ولدني بغي قط منذ خرجت من صلب آدم ولم تزل تنازعني الأمم كابرا عن كابر حتى خرجت من أفضل حيين من العرب هاشم وزهرة» اهـ. أقول: والبغايا كنّ في الجاهلية ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون به شبهه، فالتاط: أي تعلق والتحق به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك، والله أعلم. قال: وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التّوبة: الآية 128] بفتح الفاء وقال: أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح كلها نكاح» وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما «كنكاح الإسلام» أي يخطب الرجل إلى الرجل موليته فيصدقها ثم يعقد عليها اهـ. وعن الإمام السبكي: الأنكحة التي في نسبه صلى الله عليه وسلم منه إلى آدم كلها مستجمعة شروط الصحة كأنكحة الإسلام، ولم يقع في نسبه صلى الله عليه وسلم منه إلى آدم إلا نكاح صحيح مستجمع لشرائط الصحة كنكاح الإسلام الموجود اليوم. قال: فاعتقد هذا بقلبك

وتمسك به، ولا تزل عنه فتخسر الدنيا والآخرة. قال بعضهم: وهذا من أعظم العناية به صلى الله عليه وسلم، أن أجرى الله سبحانه وتعالى نكاح آبائه من آدم إلى أن أخرجه من بين أبويه على نمط واحد من وفق شريعته صلى الله عليه وسلم ولم يكن كما كان يقع في الجاهلية إذا أراد الرجل أن يتزوج قال خطب وتقول أهل الزوجة نكح كما تقدم، ويكون ذلك قائما مقام الإيجاب والقبول. والمراد بنكاح الإسلام ما يفيد الحل حتى يشمل التسرّي، بناء على أن أم إسمعيل كانت مملوكة لإبراهيم حين حملت بإسمعيل، ولم يعتقها ولم يعقد عليها قبل ذلك. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها كما في البخاري: «إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: نكاح كنكاح الناس اليوم» أي بإيجاب وقبول شرعيين دون أن يقول الزوج خطب ويقول أهل الزوجة نكح، وحينئذ يزيد على ذلك النكاح الذي كان يقال فيه ذلك «ونكاح البغايا. ونكاح الاستبضاع. ونكاح الجمع» أي ومن أنكحة الجاهلية نكاح زوجة الأب الأكبر أولاده والجمع بين الأختين، على ما تقدم، وحينئذ يكون المراد ليس في نسبه صلى الله عليه وسلم نكاح زوجة الأب، خلافا لم تقدم عن السهيلي، ولا الجمع بين الأختين، ولا نكاح البغايا، وهو أن يطأ البغيّ جماعة متفرقين واحدا بعد واحد، فإذا حملت وولدت ألحق الولد بمن غلب عليه شبهه منهم، ولا الاستبضاع، وذلك أن المرأة كانت في الجاهلية إذا طهرت من حيضها يقول لها زوجها أرسلي إلى فلان استبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وليس فيه نكاح الجمع، وهو أن تجتمع جماعة دون العشرة ويدخلون على امرأة من البغايا ذوات الرايات كلهم يطؤها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت منهم، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل إن لم يغلب شبهه عليه. فنكاح البغايا قسمان، وحينئذ يحتمل أن تكون أم عمرو بن العاص رضي الله عنه من القسم الثاني من نكاح البغايا، فإنه يقال إنه وطئها أربعة: وهم العاص، وأبو لهب، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، وادعى كلهم عمرا فألحقته بالعاص. وقيل لها لما اخترت العاص؟ قالت: لأنه كان ينفق على بناتي. ويحتمل أن يكون من القسم الأول ويدل عليه ما قيل إنه ألحق بالعاص لغلبة شبهه عليه، وكان عمرو يعير بذلك، عيره بذلك عليّ وعثمان والحسن وعمار بن ياسر وغيرهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وسيأتي ذلك في قصة قتل عثمان عند الكلام على بناء مسجد المدينة.

قال: وجاء، أنه صلى الله عليه وسلم قال «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» أي وفي رواية «لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة» . وروى البخاري «بعثت من خير قورن بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت في القرن الذي كنت فيه» وقد تقدم في قوله تعالى وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) [الشّعراء: الآية 219] قيل من ساجد إلى ساجد، وتقدم ما فيه، ومن جملته قول أبي حيان إن ذلك استدل به بعض الرافضة على أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين أي متمسكين بشرائع أنبيائهم. ثم رأيت الحافظ السيوطي قال: الذي تلخص أن أجداده صلى الله عليه وسلم من آدم إلى مرة بن كعب مصرح بإيمانهم: أي في الأحاديث وأقوال السلف، وبقي بين مرة وعبد المطلب أربعة أجداد لم أظفر فيهم بنقل، وعبد المطلب سيأتي الكلام فيه. وقد ذكر في عبد المطلب ثلاثة أقوال: أحدها وهو الأشبه أنه لم تبلغه الدعوة: أي لأنه سيأتي أنه مات وسنه صلى الله عليه وسلم ثمان سنين. والثاني أنه كان على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: أي لم يعبد الأصنام. والثالث أن الله تعالى أحياه له بعد البعثة حتى آمن به ثم مات، وهذا أضعف الأقوال وأوهاها، لم يرد قط في حديث ضعيف ولا غيره، ولم يقل به أحد من أئمة السنة وإنما حكي عن بعض الشيعة. قال بعضهم: وقوله صلى الله عليه وسلم «من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» دليل على أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر، لأن الكافر لا يوصف بأنه طاهر. وفيه أن الطاهرية فيه يجوز أن يكون المراد بها ما قابل أنكحة الجاهلية المتقدمة. وقد أشار إلى إسلام آبائه وأمهاته صاحب الهمزية بقوله: لم تزل في ضمائر الكون تختا ... ر لك الأمهات والآباء أي لأن الكافر لا يقال إنه مختار لله. والسبب الذي دعا عبد المطلب لاختيار بني زهرة ما حدّث به ولده العباس رضي الله تعالى عنه قال: قال عبد المطلب: قدمنا اليمن في رحلة الشتاء، فنزلنا على حبر من اليهود يقرأ الزبور: أي الكتاب، ولعل المراد به التوراة فقال: من الرجل؟ قلت: من قريش، قال من أيهم؟ قلت من بني هاشم قال: أتأذن لي أن أنظر بعضك؟ قلت نعم ما لم يكن عورة، قال: ففتح إحدى منخريّ فنظر فيه ثم نظر في الأخرى فقال: أنا أشهد أن في إحدى يديك وهو مراد الأصل بقوله في منخريك ملكا وفي الأخرى نبوة، وإنما نجد ذلك: أي كلا من الملك والنبوة في بني زهرة،

فكيف ذاك؟ قلت: لا أدري، قال: هل لك من شاعة؟ قلت: وما الشاعة؟ قال: الزوجة، أي لأنها تشايع أي تتابع وتناصر زوجها، قلت: أما اليوم فلا: أي ليست لي زوجة من بني زهرة إن كان معه غيرها، أو مطلقا إن لم يكن معه غيرها، فقال: إذا تزوجت فتزوج منهم: أي وهذا الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه، فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة يقال له حزاء بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة. وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني عن شيخه سيدي علي الخواص نفعنا الله تعالى ببركاتهما أنه كان إذا نظر لأنف إنسان يعرف جميع زلاته السابقة واللاحقة إلى أن يموت على التعيين من صحة فراسته هذا كلامه. أي ومن ذلك أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما تزوج امرأة ولم يدخل بها، فقال لزوجته ميسون أم ابنه يزيد اذهبي فانظري إليها، فأتتها فنظرت إليها ثم رجعت إليه وقالت: هي بديعة الحسن والجمال ما رأيت مثلها، لكن رأيت خالا أسود تحت سرتها، وذلك يدل على أن رأس زوجها يقطع ويوضع في حجرها، فطلقها معاوية رضي الله تعالى عنه ثم تزوجها النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه وكان واليا على حمص، فدعا لابن الزبير وترك مروان ثم خاف من أهل حمص لما تبعوا مروان ففر هاربا فتبعه جماعة منها فقطعوا رأسه ووضعوها في حجر تلك المرأة، ثم بعثوا بتلك الرأس إلى مروان، وقتل النعمان هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لأن أمه لما ولدته وكان أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة على ما سيأتي حملته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بتمرة فمضغها ثم وضعها في فيه فحنكه بها، فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يكثر ماله وولده، فقال: «أما ترضين أن يعيش حميدا ويقتل شهيدا ويدخل الجنة» وهو الذي أشار على يزيد بن معاوية بإكرام آل البيت لما قتل الحسين ممن كان مع الحسين من أولاده وأولاد أخيه وأقاربه، وقال له: عاملهم بما كان يعاملهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رآهم على هذه الحالة، فرقّ لهم يزيد وأكرمهم، ورده معهم، وأمره بإكرامهم على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ومما يروى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن للشيطان مصالي وفخوخا، وإن مصاليه وفخوخه البطر بنعم الله، والفخر بعطاء الله، والتكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله» . وقد ذكر أن حمص نزل بها تسعمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سبعون بدريا. وفي حياة الحيوان أن حمص لا تعيش بها العقارب، وإذا طرحت فيها عقرب غريبة ماتت لوقتها، قيل لطلسم بها.

وفي حديث ضعيف أن حمص من مدن الجنة، وقيل الحزاء هو الكاهن، وقيل هو الذي يحزر الأشياء ويقدرها بظنه، ويقال للذي ينظر في النجوم فإنه ينظر فيها بظنه فربما أخطأ: أي لأن من علوم العرب الكهانة والعيافة والقيافة والزجر والخط: أي الرمل والطب، ومعرفة الأنواء ومهابّ الرياح. فلما رجع عبد المطلب إلى مكة تزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف فولدت له حمزة وصفية وزوّج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب أخي وهيب فولدت له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فكات قريش تقول فلج عبد الله على أبيه: أي فاز وظفر لأن الفلج بالفاء واللام المفتوحتين والجيم الفوز والظفر، أي فاز وظفر بما لم ينله أبوه من وجود هذا المولود العظيم الذي وجد عند ولادته ما لم يوجد عند ولادة غيره. أي وفي كلام ابن المحدّث أن عبد المطلب خطب هالة بنت وهيب عم آمنة في مجلس خطبة عبد الله لآمنة وتزوّجا وأولما ثم ابتنيا بهما. ثم رأيت في أسد الغابة ما يوافقه، وهو أن عبد المطلب تزوج هو وعبد الله في مجلس واحد، قيل: وفيه تصريح بأن عبد الله كان موجودا حين قال الحبر لعبد المطلب إن النبوة موجودة فيه، وكيف تكون موجودة فيه مع انتقالها لعبد الله؟ وقد يقال، من أين أن عبد المطلب تزوج هالة عقب مجيئه من عند الحبر حتى يكون قول الحبر لعبد المطلب صادرا بعد وجود عبد الله؟ جاز أن يكون ذلك صدر من الحبر لعبد المطلب قبل ولادة عبد الله. وفيه أن هذا لا يحسن إلا لو كانت أم عبد الله من بني زهرة، إلا أن يقال يجوز أن يكون عبد الله وجد من بني زهرة لجواز أن يكون عبد المطلب تزوج من بني زهرة غير هالة فأولدها عبد الله. ثم إن قول الحبر لعبد المطلب: إنه يجد في إحدى يديه الملك وإنه يكون في بني زهرة مشكل أيضا، لأن الملك لم يكن إلا في أولاد ولده العباس، ولا يستقيم إلا لو كانت أم العباس من بني زهرة. أما هالة التي هي أم حمزة أو غيرها وأم العباس ليست من بني زهرة، خلافا لما وقع في كلام بعضهم أن العباس ولدته هالة فهو شقيق حمزة لأنه خلاف ما اشتهر عن الحافظ، إلا أن يقال جاز أن يكون الملك والنبوة اللذان عناهما الحبر هما نبوته وملكه صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم أعطيهما: أي كلا من الملك والنبوة المنتقلين إليه من أبيه عبد الله، بناء على أن أم عبد الله من بني زهرة، ولعله لا ينافيه قول بعضهم: تزوج عبد المطلب فاطمة بنت عمرو وجعل مهرها مائة ناقة ومائة رطل من الذهب، فولدت له أبا طالب وعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يجوز أن تكون فاطمة هذه من بني زهرة، وحينئذ لا يشكل قول الحبر: إذا تزوجت فتزوج منهم: أي من بني زهرة بعد قوله: ألك شاعة.

وقيل الذي دعا عبد المطلب لاختيار آمنة من بني زهرة لولده عبد الله أن سودة بنت زهرة الكاهنة وهي عمة وهب والد آمنة أمه صلى الله عليه وسلم كان من أمرها أنها لما ولدت رآها أبوها زرقاء شيماء أي سوداء وكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة، أي يدفنونها حية، ويمسكون من لم يكن على هذه الصفة مع ذل وكآبة: أي لأنه سيأتي أن الجاهلية كانوا يدفنون البنات وهنّ أحياء خصوصا كندة قبيلة من العرب خوف العار أو خوف الفقر والإملاق. وكان عمرو بن نفيل يحيي المؤودة لأجل الإملاق يقول للرجل إذا أراد أن يفعل ذلك لا تفعل أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها. وكان صعصعة جد الفرزدق يفعل مثل ذلك فأمر أبوها بوأدها وأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك، فلما حفر لها الحافر وأراد دفنها سمع هاتفا يقول: لا تئد الصبية وخلها في البرية فالتفت فلم ير شيئا، فعاد لدفنها فسمع الهاتف يسجع بسجع آخر في المعنى فرجع إلى أبيها وأخبره بما سمع، فقال: إن لها لشأنا وتركها، فكانت كاهنة قريش فقالت يوما لبني زهرة: فيكم نذيرة أو تلد نذيرا، فاعرضوا عليّ بناتكنّ فعرضن عليها، فقالت في كل واحدة منهن قولا ظهر بعد حين حتى عرضت عليها آمنة بنت وهب، فقالت: هذه النذيرة أو تلد نذيرا له شأن وبرهان منيرا: أي فاختيار عبد المطلب لآمنة من بني زهرة عبد الله واضح من سياق قصة هذه الكاهنة. وأما اختياره لتزوجه بعض نساء بني زهرة، فسببه ما تقدم عن الحبر، بناء على أن أم عبد الله كانت من بني زهرة. وأما جعل الشمس الشامي ما تقدم عن الحبر سببا لتزويج عبد المطلب ابنه عبد الله امرأة من بني زهرة ففيه نظر ظاهر، إذ كيف يتأتى ذلك مع قوله إذا تزوجت فتزوج منهم بعد قوله: ألك شاعة، أي زوجة. ثم رأيت ابن دحية رحمه الله تعالى ذكر في التنوير عن البرقي: أن سبب تزويج عبد الله آمنة أن عبد المطلب كان يأتي اليمن، وكان ينزل فيها على عظيم من عظمائهم فنزل عنده مرة فإذا عنده رجل ممن قرأ الكتب، فقال له ائذن لي أن أفتش منخرك، فقال دونك فانظر، فقال: أرى نبوّة وملكا، وأراهما في المنافين عبد مناف بن قصي وعبد مناف بن زهرة، فلما انصرف عبد المطلب انطلق بابنه عبد الله فتزوج عبد المطلب هالة بنت وهيب فولدت له حمزة، وزوج ابنه عبد الله آمنة فولدت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح لأنه أسقط قول الحبر لعبد المطلب هل لك من شاعة إلى آخره، فاحتاط عبد المطلب فتزوج من بني زهرة وزوّج ولده عبد الله منهم، وحينئذ كان المناسب للبرقي رحمة الله تعالى أن يزيد بعد قوله إن سبب تزويج عبد الله آمنة قوله وتزوج عبد المطلب هالة.

باب ذكر حمل أمه به صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين

باب ذكر حمل أمه به صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين عن الزهري رحمه الله تعالى قال: قالت آمنة: لقد علقت به صلى الله عليه وسلم فما وجدت له مشقة حتى وضعته. وعنها أنها كانت تقول: ما شعرت بفتح أوله وثانيه: أي ما علمت بأني حملت به، ولا وجدت له ثقلا بفتح القاف كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي بكسر الحاء: الهيئة التي تلزمها الحائض من التجنب. وأما بالفتح فالمرة الواحدة من دفعات الحيض: أي والذي ينبغي أن يكون الثاني هو المراد أن بعضهم نقل أن الحيضة بالكسر اسم للحيض، قالت: وربما ترفعني وتعود: أي فلم يكن رفعها دليلا على الحمل: أي وهذا ربما يفيد أن حيضها تكرر قبل حملها به صلى الله عليه وسلم ولم أقف على مقدار تكرره. وقد ذكر أن مريم عليها السلام حاضت قبل حملها بعيسى عليه الصلاة والسلام حيضتين، قالت آمنة: وأتاني آت أي من الملائكة وأنا بين النائمة واليقظانة، وفي رواية بين النائم: أي الشخص النائم واليقظان، فقال: هل شعرت بأنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها؟ أي وفي رواية بسيد الأنام: أي اعلمي ذلك، وأمهلني حتى دنت ولادتي أتاني فقال قولي أي إذا ولدتيه: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد. أي ثم سميه محمدا فإن اسمه في التوراة والإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، وفي القرآن محمد أي والقرآن كتابه، وسيأتي عن محمد الباقر رضي الله تعالى عنه أن تسميه أحمد. قال بعضهم: ويذكر بعد هذا البيت أبيات لا أصل لها. وإذا ثبت أنها قالت له ذلك بعد ولادته كان دليلا لما يقوله بعض الناس أن آمنة رقت النبي صلى الله عليه وسلم من العين. أقول: ظاهر هذا السياق أنها لم تعلم بحملها إلا من قول الملك لأنها لم تجد ما تستدل به على ذلك لأنها لم تجد ثقلا، وعادتها أن حيضها ربما عاد بعد عدم وجوده في زمنه المعتاد لها: أي ولم تعوّل على مفارقة النور لعبد الله وانتقال النور إلى وجهها على ما ذكر بعضهم. ففي كلام هذا البعض: لما فارق النور وجه عبد الله انتقل إلى وجه آمنة، ولا على خروج النور منها مناما أو يقظة بناء على أنه غير الحمل على ما يأتي لخفاء دلالة ما ذكر على ذلك، ولعل أباه صلى الله عليه وسلم عبد الله لم يبلغها قول المرأة التي عرضت نفسها عليه اذهب فأخبرها أنها حملت بخير أهل الأرض، والثقل في ابتداء الحمل الذي حمل عليه بعض الروايات كما سيأتي يجوز أن يكون بعد إخبار الملك لها. لكن في المواهب في رواية عن كعب رضي الله تعالى عنه أن

مجيء الملك لها كان بعد أن مضى من حملها ستة أشهر فليتأمل، فإن الستة أشهر لا يقال إنها ابتداء الحمل. ونص الرواية: كانت آمنة تحدث وتقول: أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام وقال لي: يا آمنة إنك حملت بخير العالمين، فإذا ولدتيه فسميه محمدا واكتمي شأنك، إلا أن يقال يجوز تعدد الملك أو تكرر مجيء الملك لها فليتأمل والله أعلم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان من دلالة حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة أي التي حمل فيها: أي في اليوم قبلها برسول الله صلى الله عليه وسلم أي بناء على ما هو الظاهر مما تقدم أنه حين وقع عليها انتقل إليها ذلك النور وقالت: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا: أي ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي. أقول: دلالة الأول على مطلق الحمل به صلى الله عليه وسلم لا على خصوص حمل آمنة به صلى الله عليه وسلم حينئذ واضحة. وأما دلالة الثاني عليه فقد يتوقف فيها إلا أن يقال إن ذلك كان من علامة الحمل به في الكتب القديمة مع أن المدعي في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما هو خصوص حمل آمنة به. على أن السياق يدل على أن المراد علم أمه يحملها به، والله أعلم. وعن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أن في صبيحة تلك الليلة أصبحت أصنام الدنيا منكوسة: أي ولعل ذلك كان من علامة حمل أمه في الكتب القديمة، وقول الصادق لا يتخلف، وسيأتي أن عند ولادته أيضا تنكست الأصنام، ولا مانع من التعدد. قال: وروى الحاكم وصححه «أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، فقال: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور» وفي لفظ «سراج» وفي لفظ «شهاب» «أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» قال الحافظ العراقي: وسيأتي أنها رأت النور خرج منها عند الولادة، وهو أولى لكون طرقه متصلة. ويجوز أن يكون خرج منها النور مرتين: مرة حين حملت به، ومرة حين وضعته: أي وكلاهما يقظة، ولا مانع من ذلك، أو هذه أي رؤية النور حين حملت به كانت مناما كما تصرح به الرواية الآتية وتلك يقظة، فلا تعارض بين الحديثين اهـ. أقول: الرواية الآتية هي رواية شداد بن أوس، ولفظها أنها رأت في المنام أن

الذي في بطنها خرج نورا: أي وهي تفيد أن ذلك النور هو نفس حملها، فهو بعد تحقق الحمل ووجوده، والرواية التي هنا تفيد أن النور غيره، وأنه كان وقت ابتداء وجود الحمل، فلا يصح حمل إحداهما على الأخرى، إلا أن يقال المراد بحين حملت زمن حملها، وأن النور كان هو ذلك الحمل، لكن الذي ينبغي أن تكون رواية شداد التي حملت عليها الرواية الأولى حاصلة قبيل الولادة، فتكون رأت النور عند الولادة مناما ويقظة تأنيسا لها. على أنه يجوز إبقاء الروايات الثلاث على ظاهرها وأنها رأت مناما أنها خرج منها نور عند ابتداء الحمل، ثم رأت كذلك عند قرب ولادتها أن الذي في بطنها خرج نورا، ثم رأت يقظة عند وضعه خروج النور. وسيأتي في رواية عن أمه أنها قالت لما وضعته: خرج معه نور، وهي لا تخالف هذه الرواية الثالثة حتى تكون الرابعة، فبصرى أول بقعة من الشام خلص إليها نور النبوة. وعلى أنه مرتين ناسب قدومه صلى الله عليه وسلم لها مرتين مرة مع عمه أبي طالب ومرة مع ميسرة غلام خديجة رضي الله تعالى عنها كما سيأتي، وبها مبرك الناقة التي يقال إن ناقته صلى الله عليه وسلم بركت فيه، فأثر ذلك فيه، وبني على ذلك المحل مسجد، ولهذا كانت أول مدينة فتحت من أرض الشام في الإسلام، وكان فتحها صلحا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه على يد خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، وبها قبر سعد بن عبادة، وهي من أرض حوران، والله أعلم. ووقع الاختلاف في مدة حمله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عايذ أي بالياء المثناة تحت والذال المعجمة «أنه صلى الله عليه وسلم بقي في بطن أمه تسعة أشهر كملا لا تشكو وجعا ولا مغصا ولا ريحا ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء» أي وقد ولد عند وجود المشتري وهو كوكب نير سعيد، فقد كانت ولادته صلى الله عليه وسلم عند وجود السعد الأكبر، والنجم الأنور، وكانت أمه صلى الله عليه وسلم تقول: ما رأيت من حمل هو أخفّ منه ولا أعظم بركة منه. وروى ابن حبان رحمه الله عن حليمة رضي الله تعالى عنها عن آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت «إن لابني هذا شأنا، إني حملت به فلم أجد حملا قط كان أخف عليّ ولا أعظم منه بركة» وقيل بقي عشرة أشهر، وقيل ستة أشهر، وقيل سبعة أشهر، وقيل ثمانية أشهر: أي ويكون ذلك آية، كما أن عيسى عليه السلام ولد في الشهر الثامن كما قيل به مع نص الحكماء والمنجمين على أن من يولد في الشهر الثامن لا يعيش، بخلاف التاسع والسابع والسادس الذي هو أقل مدة الحمل: أي فقد قال الحكماء في بيان سبب ذلك إن الولد عند استكماله سبعة أشهر يتحرك للخروج حركة عنيفة أقوى من حركته في الشهر السادس، فإن خرج عاش، وإن لم يخرج استراح في البطن عقب تلك الحركة المضعفة له، فلا يتحرك في الشهر الثامن ولذلك تقل حركته في

البطن في ذلك الشهر، فإذا تحرك للخروج وخرج فقد ضعف غاية الضعف فلا يعيش لاستيلاء حركتين مضعفتين له مع ضعفه. وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله تعالى: لم أر للثمانية صورة في نجوم المنازل، ولهذا كان المولود إذا ولد في الشهر الثامن يموت ولا يعيش. وعلى فرض أن يعيش يكون معلولا لا ينتفع بنفسه، وذلك لأن الشهر الثامن يغلب فيه على الجنين البرد واليبس وهو طبع الموت: أي وقيل بل كان حمله ووضعه في ساعة واحدة، وقيل في ثلاث ساعات: أي وقيل بذلك في عيسى عليه السلام: أي وكانت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لها سنة الفتح والابتهاج، فإن قريشا كانت قبل ذلك في جدب وضيق عظيم، فاخضرت الأرض، وحملت الأشجار، وأتاهم الرغد من كل جانب في تلك السنة وفي حديث مطعون فيه «قد أذن الله تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم» أي ولم أقف على ما يجري على ألسنة المداح من أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في بطن أمه، كما نقل عن عيسى عليه السلام أنه كان يكلم أمه إذا خلت عن الناس ويسبح الله ويذكره إذا كانت مع الناس وهي تسمع، وعن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه قال «بينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل شيخ كبير من بني عامر هو بدرة قومه» أي المقدم فيهم «يتوكأ على عصا فمثل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه إلى جده، فقال: يا ابن عبد المطلب إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ألا أنك فهت بعظيم، وإنما كانت الأنبياء والخلفاء» أي معظمهم «في بيتين من بني إسرائيل وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فما لك وللنبوة، ولكن لكل حق حقيقة فأنبئني بحقيقة قولك وبدء شأنك؟ قال: فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بمسألته ثم قال: يا أخا بني عامر إن لهذا الحديث الذي سألتني عنه نبأ ومجلسا فاجلس فثنى رجليه ثم برك كما يبرك البعير، فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث فقال: يا أخا بني عامر إن حقيقة قولي وبدء شأني أني دعوة أبي إبراهيم عليه السلام: أي حيث قال رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) [البقرة: الآية 129] أي وعند ذلك قيل له قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان» كذا في تفسير ابن جرير. قال في ينبوع الحياة: أجمعوا على أن الرسول المذكور ههنا هو محمد صلى الله عليه وسلم. أقول: وفيه أن جبريل عليه السلام أعلم إبراهيم عليه السلام قبل ذلك بأنه يوجد نبي من العرب من ذرية ولده إسمعيل. فقد جاء أن إبراهيم لما أمر بإخراج هاجر أمّ ولده إسمعيل عليه السلام حمل هو وهي وولدها على البراق، فلما أتى مكة

قال له جبريل: انزل فقال: حيث لا زرع ولا ضرع قال: نعم ههنا يخرج النبي الأمي من ذرية ولدك يعني إسمعيل عليه السلام الذي تتم به الكلمة العليا، إلا أن يقال الغرض من دعائه صلى الله عليه وسلم بذلك تحقيق حصوله، وتقدم أن أم إسمعيل قالت لإبراهيم ما قاله لجبريل، والله أعلم، ثم قال «وبشري أخي عيسى» وفي رواية «إن آخر من بشر بي عيسى عليه السلام» أي آخر نبي بشر بي من الأنبياء عيسى، بدليل الرواية الأخرى «وكان آخر من بشر بي عيسى» لأن الأنبياء بشرت به قومها، وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله: ما مضت فترة من الرسل إلا ... بشرت قومها بك الأنبياء وبشرى عيسى في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: الآية 6] أي والمبشر بهم من الأنبياء قبل وجودهم أيضا أربعة: إسحق ويعقوب ويحيى وعيسى، قال الله تعالى في حق سارة فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) [هود: الآية 71] قيل بشرت بأن تبقى إلى أن يولد يعقوب لولدها إسحق، وقال في حق زكريا أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آل عمران: الآية 39] وقال: في حق مريم إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ [آل عمران: الآية 45] ثم قال «وإني كنت بكر أبي وأمي وإنها حملتني كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشكو إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إنها رأت في المنام أن الذي في بطنها خرج نورا، قالت فجعلت أتبع بصري النور والنور يسبق بصري حتى أضاءت له مشارق الأرض ومغاربها» الحديث، وستأتي تتمته في الرضاع: أي وقال ابن الجوزي: ممن روى عن أمه صلى الله عليه وسلم هو صلى الله عليه وسلم لما قيل له يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، قالت خرج مني نور أضاءت له قصور الشام» . قال الحافظ أبو نعيم: الثقل الذي وقع في هذه الرواية كان في ابتداء الحمل، والخلفة التي جاءت فيما سبق من الروايات كانت عند استمرار الحمل ليكون ذلك خارجا عن المعتاد كذا قال. أقول: قد قدمنا أنه يجوز أن يكون هذا الثقل الواقع في ابتداء الحمل كان بعد إخبار الملك لها بالحمل، فلا يخالف ما سبق. وفيه ما سبق والجواب عنه لكن تقدم عن الزهري قال: قالت آمنة لقد علقت به فما وجدت له مشقة حتى وضعته. ويمكن أن يكون المراد بالمشقة ما تقدم في بعض الروايات «لم تشك وجعا ولا مغصا ولا ريحا، ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء» أي فمع وجود الثقل لم يحصل لها المشقة المذكورة وحينئذ لا ينافي ذلك شكواها ما تجده من ثقله، والله تعالى أعلم.

باب وفاة والده صلى الله عليه وسلم

باب وفاة والده صلى الله عليه وسلم عن ابن إسحق: لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أن توفي وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به: أي كما عليه أكثر العلماء أي وصححه الحافظ الدمياطي، وسيأتي في بعض الروايات ما يدل على أن ذلك من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة قيل وإن موت والده صلى الله عليه وسلم كان بعد أن تم لها من حملها شهران، قيل قبل ولادته بشهرين، وقيل كان في المهد حين توفي أبوه ابن شهرين. وذكر السهيلي أن عليه أكثر العلماء، فليتأمل مع ما قبله، وقيل كان ابن سبعة أشهر. أي وقيل ابن تسعة أشهر، وقيل وعليه الأكثرون. والحق أنه قول كثيرين لا الأكثرين، وقيل ابن ثمانية عشر شهرا وقيل: ابن ثمانية وعشرين شهرا: أي وما يأتي في الرضاع من أن المراضع أبته ليتمه يخالفه لتمام زمن الرضاع وكذا يخالف القول الذي قبله، لأنه لم يبق من زمن الرضاع إلا شهران، وكانت وفاته بالمدينة خرج إليها ليمتار تمرا أو لزيارة أخواله بها: أي أخوال أبيه عبد المطلب بني عدي بن النجار: أي ولا مانع من قصد الأمرين معا، وقيل خرج إلى غزة في عير من عيرات قريش، والعيرات بكسر العين وفتح المثناة تحت جمع عير: وهي التي تحمل الميرة، خرجوا للتجارة ففرغوا من تجارتهم وانصرفوا فمروا بالمدينة وعبد الله مريض، فقال أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، والنجار هذا اسمه تميم وقيل له النجار لأنه اختتن بقدوم: أي وهو آلة النجار، وقيل لأنه نجر وجه رجل بقدوم فأقام عندهم مريضا شهرا: أي وهذا أثبت من الأول ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم أبوه عبد المطلب عنه، فقالوا خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه أخاه الحارث وهو أكبر أولاد عبد المطلب كما تقدم: أي ومن ثم كان يكنى به، ولم يدرك الإسلام فوجده قد توفي. أي وفي أسد الغابة أن عبد المطلب أرسل إليه ابنه الزبير شقيق عبد الله فشهد وفاته، ودفن في دار التابعة بالتاء المثناة فوق والباء الموحدة والعين المهملة: أي وهو رجل من بني عدي بن النجار: أي فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ونظر إلى تلك الدار عرفها وقال: «ها هنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار» . ومن هذا ومما جاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم «أنه صلى الله عليه وسلم كان هو أصحابه يسبحون في غدير أي في الحجفة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ليسبح كل رجل منكم إلى صاحبه، فسبح كل رجل إلى صاحبه وبقي النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر فسبح النبي عليه الصلاة والسلام إلى أبي بكر

رضي الله تعالى عنه حتى اعتنقه وقال أنا وصاحبي أنا وصاحبي» وفي رواية «أنا إلى صاحبي أنا إلى صاحبي» يعلم رد قول بعضهم وقد سئل هل عام صلى الله عليه وسلم؟ الظاهر لا، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم سافر في بحر ولا بالحرمين بحر، قال: وقيل قد توفي ودفن أبوه بالأبواء: محل بين مكة والمدينة اهـ. أقول سيأتي أن الذي بالأبواء قبر أمه صلى الله عليه وسلم على الأصح، فلعل قائل ذلك اشتبه عليه الأمر، لأنه يجوز أن يكون سمعه صلى الله عليه وسلم يقول وهو بالأبواء «هذا قبر أحد أبوي» . وقد ذكر بعضهم في حكمة تربيته صلى الله عليه وسلم يتيما ما لا نطيل به، وقد جاء «ارحموا اليتامى وأكرموا الغرباء، فإني كنت في الصغر يتيما، وفي الكبر غريبا» وقد جاء «إن الله لينظر كل يوم إلى الغريب ألف نظرة» والله أعلم. وأورد الخطيب عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الله أحيا له أباه وآمن به وفي المواهب «أحيا الله له أبويه حتى آمنا به» قال السهيلي: وفي إسناده مجاهيل. وقال الحافظ ابن كثير: إنه حديث منكر جدا وسنده مجهول. وقال ابن دحية: هو حديث موضوع. قال: ويرده القرآن والإجماع وعلى ثبوته يكون ناسخا أي معارضا لقوله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل «أين أبي؟ فقال في النار، فلما قفا أي ولى دعاه وقال له إن أبي وأباك في النار» وفيه أن هذا رواه مسلم فلا يكون ذلك الحديث ناسخا أي معارضا له. أقول: هو على تقدير ثبوته يكون معارضا على أن حديث مسلم هذا لم تتفق الرواة على قوله فيه إن أبي وأباك في النار، وهذه اللفظة إنما رواها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وخالفه معمر عن ثابت عن أنس، فروي بدل ذلك إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار، وقد نصوا على أن معمرا أثبت من حماد، فإن حمادا تكلم في حفظه، ووقع في أحاديثه مناكير. ذكروا أن ربيعة دسها في كتبه، وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها. وأما معمر فلم يتكلم في حفظه ولا استنكر شيء من حديثه. وأيضا ما رواه معمر ورد من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عائذ بن سعد عن أبيه «أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أين أبي؟ فقال، في النار، قال: فأين أبوك؟ قال حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» وهذا الإسناد على شرط الشيخين، فاللفظ الأول من تصرف الراوي رواه بالمعنى بحسب ما فهم فأخطأ. وذكر الحافظ السيوطي أن مثل هذا وقع في الصحيحين في روايات كثيرة، من ذلك حديث مسلم عن أنس في نفي قراءة البسملة، والثابت من طريق آخر نفي سماعها ففهم منه الراوي نفي قراءتها، فرواها بالمعنى على ما فهمه فأخطأ، كذا أجاب إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه عن حديث نفي قراءة البسملة. والذي

ينبغي أن يقال: يجوز أن يكون هذا أي ما في الصحيح كان قبل أن يسأل الله تعالى أن يحييه له فأحياه وآمن به كما أشار إليه الأصل، أو أنه قال ذلك لمصلحة إيمان ذلك السائل، بدليل أنه لم يتدارك صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما قفا، فظهر له صلى الله عليه وسلم من حاله أنه تعرض له فتنة: أي يرتد عن الإسلام، فأتى له بما هو شبيه بالمشاكلة مريدا بأبيه عمه أبا طالب لا عبد الله، لأنه كان يقال لأبي طالب: قل لابنك يرجع عن شتم آلهتنا، وقالوا له: أعطنا ابنك وخذ هذا مكانه، فقال أعطيكم ابني تقتلونه، إلى غير ذلك مما يأتي. على أنه تقدم أن العرب تسمي العم أبا. لا يقال على ثبوت هذا الحديث وصحته التي صرح بها غير واحد من الحفاظ ولم يلتفتوا لمن طعن فيه: كيف ينفع الإيمان بعد الموت. لأنا نقول: هذا من جملة خصوصياته صلى الله عليه وسلم، لكن قال بعضهم: من ادعى الخصوصية فعليه الدليل: أي لأن الخصوصية لا تثبت بمجرد الاحتمال، ولا تثبت إلا بحديث صحيح. وفي كلام القرطبي: قد أحيا الله سبحانه وتعالى على يديه صلى الله عليه وسلم جماعة من الموتى. وإذا ثبت ذلك فما يمنع إيمان أبويه بعد إحيائهما، ويكون ذلك زيادة في كرامته وفضيلته صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن إحياء أبويه نافعا لإيمانهما وتصديقهما لما أحييا كما أن رد الشمس لو لم يكن نافعا في بقاء الوقت لم ترد، والله أعلم. قال الواقدي: المعروف عندنا وعند أهل العلم أن آمنة وعبد الله لم يلدا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونقل سبط ابن الجوزي أن عبد الله لم يتزوج قط غير آمنة، ولم تتزوج آمنة قط غيره. ونقل إجماع علماء النقل على أن آمنة لم تحمل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قولها: لم أحمل حملا أخف منه المفيد أنها حملت بغيره صلى الله عليه وسلم أنه خرج على وجه المبالغة اهـ. أقول: هذه الرواية لم أقف عليها، والذي تقدم ما رأيت من حمل هو أخف منه. وفي رواية أخرى: حملت به فلم أجد حملا قط أخف منه علي وحمل الرؤية والوجدان على العلم الحاصل بإخبار غيرها من ذوات الحمل لها عن حالهن ممكن، فلا يقتضي ذلك أنها حملت بغيره. ولا ينافيه قولها أخف عليّ لأن المراد عليّ فيما علمت، والله أعلم. قال: والحافظ ابن حجر نسب سبط ابن الجوزي في نقل الإجماع إلى المجازفة فقال: وجازف سبط ابن الجوزي كعادته في نقل الإجماع، ولا يمتنع أن تكون آمنة أسقطت من عبد الله سقطا فأشارت بقولها المذكور إليه اهـ. أقول: وحينئذ تكون حملت بذلك السقط بعد ولادته صلى الله عليه وسلم، بناء على أن

والده صلى الله عليه وسلم لم يمت وهو حمل، بل بعد وضعه، وأنها وجدت المشقة في حمل ذلك السقط، وأن أخبارها بذلك تأخر عن حملها بذلك السقط، وأنها رأت في حملها بذلك السقط من الشدة ما لم تجده في حمله صلى الله عليه وسلم. وأما حملها بذلك السقط قبل حملها به صلى الله عليه وسلم فلا يأتي، لمخالفته لما تقدم من أن عبد الله دخل بها حين أملك عليها، وانتقل إليها النور عند ذلك، ولأنه يخرج بذلك عن كونه بكر أبيه وأمه. وأما رواية حملت الأولاد فما وجدت حملا، فقال فيها الواقدي: لا نعرف عند أهل العلم كما بينا ذلك في الكوكب المنير. على أن إمكان حملها بسقط لا يقدح في نقل الإجماع على أنها لم تحمل بغيره صلى الله عليه وسلم، لإمكان أن مراده حملا تاما. وفي الخصائص الصغرى للجلال السيوطي: ولم يلد أبواه غيره صلى الله عليه وسلم والله أعلم. قال: وترك عبد الله جاريته أم أيمن بركة الحبشية، أسلمت قديما هي وولدها أيمن وكان من عبد حبشي يقال له عبيد اهـ. أقول: في كلام ابن الجوزي أنه صلى الله عليه وسلم أعتقها حين تزوج خديجة، وزوّجها عبيدا الحبشي بن زيد من بني الحرث فولدت أيمن. ولا ينافيه ما في الإصابة: كانت أم أيمن تزوجت في الجاهلية بمكة عبيدا الحبشي بن زيد، وكان قدم مكة وأقام بها، ثم نقل أم أيمن إلى يثرب فولدت له أيمن، ثم مات عنها، فرجعت إلى مكة، فتزوجها زيد بن حارثة قاله البلاذري، والله أعلم. قال: وقد زوجها صلى الله عليه وسلم أي بعد النبوة مولاه زيد بن حارثة: أي وإنما رغب زيد فيها لما سمعه صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج بأم أيمن» فجاءت منه بأسامة فكان يقال له الحب ابن الحب. وقيل أعتقها عبد الله قبل موته. وقيل كانت لأمه صلى الله عليه وسلم، وترك: أي عبد الله خمسة أجمال وقطعة من غنم، فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيه اهـ أي فهو صلى الله عليه وسلم يرث ولا يورث. قال صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» . ودعوى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يرث بناته اللاتي متن في حياته، فعلى تقدير صحته جاز أن يكون صلى الله عليه وسلم ترك أخذ ميراثه تعففا وسيأتي. وقال ابن الجوزي وأصاب أم أيمن هذه عطش في طريقها لما هاجرت: أي إلى المدينة على قدميها وليس معها أحد وذلك في حر شديد، فسمعت شيئا فوق رأسها، فتدلى عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض فشربت منه حتى رويت، وكانت تقول: ما أصابني عطش بعد ذلك ولو تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر ما عطشت: أي وفي مزيل الخفاء قال الواقدي: كانت أم أيمن عسرة اللسان، فكانت إذا دخلت على قوم قالت سلام لا عليكم: أي

باب ذكر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم

بدل سلام الله عليكم، فرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقول: سلام عليكم أو السلام عليكم، هذا كلامه فليتأمل، فإن هذا يقتضي أن الصيغة الأصلية في السلام سلام الله عليكم، مع أن الصيغة في السلام إما السلام عليكم أو سلام عليكم، وكذا عليكم السلام، ولم تذكر أئمتنا تلك الصيغة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وأم أيمن عنده، فقالت: يا رسول الله اسقني، فقلت لها ألرسول الله صلى الله عليه وسلم تقولين هذا؟ فقالت: ما خدمته أكثر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدقت، فسقاها» . وذكر بعض المؤرخين أن بركة هذه من سبي الحبشة أصحاب الفيل وكانت سوداء: أي لونها أسود، ولهذا خرج ابنها أسامة في السواد: أي وكان أبوه زيد أبيض، ومن ثم كان المنافقون يطعنون في نسب أسامة، ويقولون: هذا ليس هو ابن زيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتشوش من ذلك. وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم مسرورا، فقال: ألم تري أن مجززا المدلجي قد دخل علي فرأى أسامة وزيدا عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وقد بدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» وقد جعل أئمتنا ذلك أصلا لوجوب الأخذ بقول القائف في إلحاق النسب. قال الأبي رحمه الله: والمعروف أن الحبشية إنما هي بركة أخرى جارية أم حبيبة، قدمت معها من الحبشة، وكانت تكنى أم يوسف، كانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم أي وهي التي شربت بوله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. قيل وورث صلى الله عليه وسلم من أبيه مولاه شقران، وكان عبدا حبشيا فأعتقه بعد بدر. وقيل اشتراه من عبد الرحمن بن عوف وأعتقه. وقيل بل وهبه عبد الرحمن بن عوف له صلى الله عليه وسلم. باب ذكر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا أي مقطوع السرة. وجاء «أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ولد نزل جبريل عليه السلام وقطع سرته، وأذن في أذنه، وكساه ثوبا أبيض» وولد نبينا صلى الله عليه وسلم مختونا أي على صورة المختون: أي مكحولا ونظيفا ما به قذر. أقول: أي لم يصاحبه قذر وبلل، فلا ينافي جواز وجود البلل والقذر بعده: أي في زمن إمكان النفاس، فلا يستدل بذلك على أن أمه صلى الله عليه وسلم لم تر نفاسا، فإن النفاس عندنا معاشر الشافعية هو البلل الحاصل بعد الولادة في زمن إمكانه، وهو قبل مضي

خمسة عشر يوما لا الحاصل مع الولد، والله أعلم. قال: وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتي» أي لئلا يرى أحد سوأتي عند الختان. قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا. وتعقبه الذهبي فقال: ما أعلم صحة ذلك، فكيف يكون متواترا: أي وأجيب بأنه أراد بالتواتر الاشتهار، فقد جاءت أحاديث كثيرة في ذلك. قال الحافظ ابن كثير: فمن الحافظ من صححها، ومنهم من ضعفها، ومنهم من رآها من الحسان: أي وقد يدعى أنه لا مخالفة بين هذه الأقوال الثلاثة، لأنه يجوز أن يكون من قال صحيحة أراد صحيحة لغيرها، والصحيحة لغيرها قد تكون حسنة لغيرها، ومن قال ضعيفة أراد في حد ذاتها. وفي الهدى أن الشيخ جمال الدين بن طلحة صنف في أنه ولد مختونا مصنفا أجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام. ورد عليه في ذلك الشيخ جمال الدين بن العديم وذكر أنه صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب. وولد من الأنبياء على صورة المختون أيضا غير نبينا صلى الله عليه وسلم ستة عشر نبيا، وقد نظم الجميع بعضهم فقال: وفي الرسل مختون لعمرك خلقة ... ثمان وتسع طيبون أكارم وهم زكريا شيث إدريس يوسف ... وحنظلة عيسى وموسى وآدم ونوح شعيب سام لوط وصالح ... سليمان يحيى هود يس خاتم وليس هذا من خصائص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل غيرهم من الناس يولد كذلك. ومن خرافات العامة أن يقولوا لمن يولد كذلك: ختنه القمر: أي لأن العرب تزعم أن المولود في القمر تنفسخ قلفته فيصير كالمختون، وربما قالت العامة ختنته الملائكة وبهذا يرد على ما ذكره الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم ولادته مختونا. وقيل ختن صلى الله عليه وسلم: أي ختنه الملك الذي هو جبريل كما صرح به بعضهم يوم شق قلبه صلى الله عليه وسلم عند ظئره: أي مرضعته حليمة. قال الذهبي: إنه خبر منكر. وقيل ختنه جده يوم سابع ولادته صلى الله عليه وسلم. قال العراقي، وسنده غير صحيح اهـ: أي لما عق عنه صلى الله عليه وسلم بكبش كما سيأتي. أقول: وقد يجمع بأنه يجوز أن يكون ولد مختونا غير تام الختان كما هو الغالب في ذلك، فتمم جده ختانه، لكن ينازع فيه ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «من كرامتي

على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي» أي لأجل الختان كما هو الظاهر إن صح كما قدمنا. وفي كلام بعضهم أن عيسى عليه الصلاة والسلام ختن بآلة. وعلى صحته يجمع بنحو ما تقدم. والظاهر أن المراد بالآلة التي ختن بها عيسى والتي ختن بها صلى الله عليه وسلم بناء على أن جده ختنه كانت بالآلة المعروفة التي هي الموس وإلا لنقلت، لأن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله. لا يقال عدم وجود القلفة نقص من أصل الخلقة الإنسانية، فقد قالوا في حكمة وجود العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان فيه ولم يخلق بدونها، بل خلق بها تكملة للخلق الإنساني. لأنا نقول: إنما لم يخلق بتلك القلفة ليحصل كمال الخلقة الإنسانية، لأن هذه القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة، كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال، بخلاف العلقة السوداء. وكره الحسن أن يختن الولد يوم السابع، لأن فيه تشبيها باليهود، أي لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ختن ولده إسحق عليه الصلاة والسلام يوم سابع ولادته، اتخذه بنو إسرائيل في ذلك اليوم سنة، وختن ولده إسمعيل عليه الصلاة والسلام لثلاث عشرة سنة. قال أبو العباس بن تيمية، فصار ختان إسمعيل عليه الصلاة والسلام، أي في ذلك الوقت سنة في ولده يعني العرب، ويؤيده قول ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا لا يختنون الغلام حتى يدرك: أي لأن الثلاثة عشر هي مظنة الإدراك، ومن ثم لما سئل ابن عباس عن سنه حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأنا يومئذ مختون، أي في أوائل زمن الختان، والله أعلم. ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على الأرض مقبوضة أصابع يده يشير بالسبابة كالمسبح بها. أقول: وفي رواية عن أمه أنها قالت «لما خرج من بطني نظرت إليه، فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه كالمتضرع المبتهل» ولا مخالفة، لجواز أن يراد بأصبعيه السبابتان من اليدين، والله أعلم. وفي سجوده إشارة إلى أن مبدأ أمره على القرب من الحضرة الإلهية قال وروى ابن سعد «أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد وقع على يديه رافعا رأسه إلى السماء» وفي رواية «وقع على كفيه وركبتيه شاخصا ببصره إلى السماء» اهـ. أقول: وفي رواية: «وقع جاثيا على ركبتيه» ولا يخالف هذا ما سبق من أنها نظرت إليه، فإذا هو ساجد، لجواز أن يكون سجوده بعد رفع رأسه وشخوص بصره إلى السماء. ولا مخالفة بين كونه وقع على الأرض مقبوضة أصابع يده ووقوعه على

كفه، لجواز أن يكون قبض أصابعه ما عدا السبابة بعد ذلك. ولا ينافيه قوله مقبوضة المنصوب على الحال لقرب زمنها من الوقوع على الأرض، والاقتصار على الركبتين لا ينافي الجمع بينهما وبين الكفين. ورأيت في كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم ولد واضعا إحدى يديه على عينيه والأخرى على سوأتيه فليتأمل، والله أعلم. وإلى رفع رأسه صلى الله عليه وسلم وشخوص بصره إلى السماء يشير صاحب الهمزية بقوله: رافعا رأسه وفي ذلك الرف ... ع إلى كل سودد إيماء رامقا طرفه السماء ومرمى ... عين من شأنه العلو العلاء أي وضعته حال كونه رافعا رأسه إلى السماء، وفي ذلك الرفع الذي هو أول فعل وقع منه بعد بروزه صلى الله عليه وسلم إلى هذا العالم إشارة إلى حصول كل رفعة وسيادة ووضعته حالة كونه رامقا ببصره إلى السماء، وسر ذلك الإشارة إلى علو مرماه، إذ مرمى عين الذي قصده ارتفاع مكانه الرفعة والشرف. قال: وقد روي «أنه صلى الله عليه وسلم قبض قبضة من تراب، وأهوى ساجدا، فبلغ ذلك رجلا من بني لهب، فقال لصاحبه: لئن صدق هذا الفأل ليغلبن هذا المولود أهل الأرض» : أي لأنه قبض عليها وصارت في يده. والفأل بالهمز وبدونه، يقال فيما يسر والتطير فيما يسوء فالفأل ضد الطيرة بكسر الطاء. وقد جاء «إني أتفاءل ولا أتطير» وقيل له صلى الله عليه وسلم «ما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» وقال صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة» وفي رواية «وأحب الفأل الصالح» . وفرق بعضهم بين الفأل والتفاؤل بأن الأول يكون في سماع الآدميين. والثاني يكون في الطير بأسمائها وأصواتها وممرها. وقوله: لا عدوى معارض لما جاء أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم «إنا قد بايعناك فارجع فرجع ولم يصافحه» وجاء «لا تديموا النظر للمجذومين» وسيأتي الجواب عنه بما يحصل به الجمع بينه وبين ما جاء «أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال: كل بسم الله عز وجل وتوكلا عليه» وبنو لهب بكسر اللام وسكون الهاء: حي من الأزد أعلم الناس بالزجر: أي زجر الطير والتفاؤل بها وبغيرها. فقد كان في الجاهلية إذا أراد الشخص أن يخرج لحاجة جاء إلى الطير وأزعجها عن أوكارها، فإن مر الطائر على اليمين سمي سانحا واستبشر مريد الحاجة بقضائها، وإن مر على اليسار سمي بارحا بالموحدة والراء والحاء مهملة، وقعد مريد الحاجة عنها تفاؤلا بعدم قضائها: أي وهذا ما فسر به إمامنا الشافعي الحديث الآتي: «أقروا الطير في مكامنها» فعن سفيان بن عيينة قال: قلت للشافعي رضي الله تعالى

عنه: يا أبا عبد الله ما معنى هذا الحديث؟ فقال: علم العرب كان في زجر الطير، كان الرجل منهم إذا أراد سفرا جاء إلى الطير في مكامنها فطيرها الحديث. ويحكى عن وائل بن حجر وكان زاجرا حسن الزجر أنه خرج يوما من عند زياد بالكوفة، وهو الذي ألحقه معاوية بأبيه أبي سفيان، وهو والد عبيد الله بن زياد الذي قاتل الحسين، وكان أميرها المغيرة بن شعبة فرأى غرابا ينغق بالغين المعجمة: أي يصيح فرجع إلى زياد وقال له هذا غراب يرحلك من ههنا إلى خير، فقدم رسول معاوية إلى زياد من يومه بولاية البصرة. وقد ذكر أن أبا ذؤيب الهذلي الشاعر كان مسلما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجتمع به قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، ولما كان وقت السحر هتف بي هاتف وأنا نائم وهو يقول: قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام قال: فقمت من نومي فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض، فركبت ناقتي وحثثتها حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطير فأخبرني بوفاته صلى الله عليه وسلم، فلما قدمت المدينة فإذا فيها ضجيج بالبكاء كضجيج الحاج فسألت، فقيل لي: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى وقد خلا به أهله، وأبو هذيل هذا هو القائل: أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع ومن زجر الطير ما حكاه بعضهم قال: جاء أعرابي إلى دار القاضي أبي الحسين الأزدي المالكي، فجاء غراب فقعد على نخلة في تلك الدار وصاح ثم طار، فقال الأعرابي هذا الغراب يقول إن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام، فصاح الناس عليه وزجروه فقام وانصرف، ففي سابع يوم مات هذا القاضي. وقد جاء النهي عن ذلك: أي عن الزجر والطيرة في قوله صلى الله عليه وسلم «أقروا الطير على مكامنها» أي لا تزجروها. وجاء «الطيرة شرك» وجاء «من أرجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» أي حيث اعتقد أنها تؤثر. وجاء «إذا رأى أحدكم من الطيرة ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» وفي رواية «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك

ثم يمضي لحاجته» وقد جاء «لا عدوى ولا طيرة ولا هام» وفي لفظ «ولا هامة» بالتخفيف زاد في رواية «ولا صفر» والهامة هو أنه كان أهل الجاهلية يزعمون أنه إذا قتل القتيل ولم يؤخذ بثأره يخرج له طائر يقول عند قبره اسقوني من دم قاتلي، اسقوني من دم قاتلي، ولا يزال يقول ذلك حتى يؤخذ بثأر القتيل، كانت العرب تسميه الهامة بالتخفيف. وأما الهامة بالتشديد فواحدة الهوام، وهي الحيات والعقارب وما شاكلها، ومن ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في تعويذه للحسن والحسين «أعيذ بكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ثم يقول: هكذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعوذ إسمعيل وإسحق» ، وقوله «ولا صفر» ذكر الإمام النووي أن المراد به حية صفراء تكون في جوف الإنسان إذا جاع تؤذيه، كذا كانت العرب تزعم ذلك قال: وهذا التفسير هو الصحيح الذي عليه عامة العلماء، وقد ذكره مسلم عن جابر راوي الحديث، فتعين اعتماده. وروى ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور أضاءت له قصور بصرى» وفي رواية «أنها قالت لما وضعته خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، فأضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى» . وفي الخصائص الصغرى «ورأت أمه عند ولادته نورا خرج منها أضاء له قصور الشام» وكذلك أمهات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرين اهـ، ولعل المراد يرين مطلق النور لا الذي تضيء منه قصور الشام. وقوله «قصور الشام» الخ ظاهر في أن المراد جميع الإقليم لا خصوص بصرى، ولعل الاقتصار على بصرى في الروايات لكون النور كان بها أتمّ، ومن ثم قالت «حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى» أو رأت مرة وصول النور إلى بصرى خاصة ومرة جاوزها تأمل، وإلى هذا النور يشير عمه العباس رضي الله تعالى عنه بقوله في قصيدته التي امتدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وقد قال له في مرجعه من تلك الغزوة «يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال له رسول الله: قل، لا يفضض الله فاك، فقال قصيدة منها: وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق فنحن في ذلك الضياء وفي الن ... ور سبل الرشاد نخترق» وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية رحمه الله بقوله: وتراءت قصور قيصر بالرو ... م يراها من داره البطحاء أي رؤيت قصوره ملك الروم في بلاد الروم يبصرها الذي داره بمكة قال: وهذا ظاهر في أنها رأت ذلك النور يقظة، وتقدم في حديث شداد أنها رأته مناما،

وقد تقدم الجمع اهـ: أي وتقدم ما في ذلك الجمع. وذكر أن أم إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه رأت وهي حامل به أن النجم المسمى بالمشتري خرج من فرجها فوقع في مصر ثم وقع في كل بلدة منه شظية، فتأول ذلك أصحاب تأويل الرؤيا بأنها تلد عالما يكون علمه بمصر أولا ثم ينتشر إلى سائر البلدان. وروى السهيلي على الواقدي «أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد تكلم، فقال: جلال ربي الرفيع» وروي «أن أول ما تكلم به لما ولدته أمه حين خروجه من بطنها الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا» ولا مانع من أنه صلى الله عليه وسلم تكلم بكل ذلك والأولوية في الرواية الثانية إضافية لما لا يخفى. وقد وقع الاختلاف في وقت ولادته صلى الله عليه وسلم: أي هل كان ليلا أو نهارا وعلى الثاني في أي وقت من ذلك النهار وفي شهره وفي عامه وفي محله؟ فقيل ولد يوم الاثنين، قال بعضهم: لا خلاف فيه والله، بل أخطأ من قال ولد يوم الجمعة: أي فعن قتادة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن يوم الاثنين، فقال ذلك يوم ولدت فيه» وذكر الزبير بن بكار والحافظ ابن عساكر أن ذلك كان حين طلوع الفجر ويدل له قول جده عبد المطلب: ولد لي الليلة مع الصبح مولود. وعن سعيد بن المسيب «ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إبهار النهار» أي وسطه «وكان ذلك اليوم لمضي اثني عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول» أي وكان ذلك في فصل الربيع، وقد أشار إلى ذلك بعضهم بقوله: يقول لنا لسان الحال منه ... وقول الحق يعذب للسميع فوجهي والزمان وشهر وضعي ... ربيع في ربيع في ربيع قال: وحكي الإجماع عليه وعليه العمل الآن، أي في الأمصار خصوصا أهل مكة في زيارتهم موضع مولده صلى الله عليه وسلم، وقيل لعشر ليال مضت من ربيع وصحح اهـ أي صححه الحافظ الدمياطي: أي لأن الأول قال فيه ابن دحية: ذكره ابن إسحق مقطوعا دون إسناد، وذلك لا يصح أصلا، ولو أسنده ابن إسحق لم يقبل منه لتجريح أهل العلم له فقد قال كل من ابن المديني وابن معين أن ابن إسحاق ليس بحجة ووصفه مالك رضي الله تعالى عنه بالكذب. قيل وإنما طعن فيه مالك لأنه بلغه عنه أنه قال: هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله، فعند ذلك قال مالك: وما ابن إسحق إنما هو رجل من الدجاجلة أخرجناه من المدينة. قال بعضهم: وابن إسحق من جملة من يروي عنه شيخ مالك يحيى بن سعيد. وقال بعضهم: ابن إسحق فقيه ثقة لكنه مدلس وقيل ولد لسبع عشرة ليلة خلت منه. وقيل لثمان مضت منه. قال ابن دحية: وهو

الذي لا يصح غيره وعليه أجمع أهل التاريخ. وقال القطب القسطلاني: وهو اختيار أكثر أهل الحديث: أي كالحميدي وشيخه ابن حزم. وقيل لليلتين خلتا منه، وبه جزم ابن عبد البر. وقيل لثمان عشرة ليلة خلت منه، رواه ابن أبي شيبة، وهو حديث معلول. وقيل لاثنتي عشرة بقين منه. وقيل لاثني عشرة. وقيل لثمان ليال خلت من رمضان وصححه كثير من العلماء، وهذا هو الموافق لما تقدم من أن أمه صلى الله عليه وسلم حملت به في أيام التشريق أو في يوم عاشوراء وأنه مكث في بطنها تسعة أشهر كوامل، لكن قال بعضهم: إن هذا القول غريب جدا ومستند قائله أنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم في رمضان فيكون مولده في رمضان، وعلى أنها حملت به في أيام التشريق الذي لم يذكروا غيره يعلم ما في بقية الأقوال قال، وقيل ولد في صفر. وقيل في ربيع الآخر، وقيل في محرم، وقيل في عاشوراء أي كما ولد عيسى عليه السلام، وقيل لخمس بقين منه اهـ. أي وذكر الذهبي أن القول بأنه ولد صلى الله عليه وسلم في عاشوراء من الإفك: أي الكذب، وفيه إن كان ذلك لأنه لا يجامع أنها حملت به صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق، وأنه مكث في بطنها تسعة أشهر كوامل لا يختص الإفك بهذا القول، بل يأتي فيما عدا القول بأنه ولد في رمضان، ثم رأيت بعضهم حكى أنه حمل في شهر رجب، وحينئذ يصح القول المشهور بولادته في ربيع الأول. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ولد يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في ربيع الأول، وهاجر إلى المدينة يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين في ربيع الأول. قال بعضهم: وهذا غريب جدا. وقيل لم يولد نهارا، بل ولد ليلا. فعن عثمان بن أبي العاص عن أمه رضي الله تعالى عنهما أنها شهدت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ليلا، قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نورا، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي. قال ابن دحية وهو حديث مقطوع. قال بعضهم: ولا يصح عندي بوجه أنه ولد ليلا، لقوله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بنقل العدل عن العدل «أنه سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: فيه ولدت» واليوم إنما هو النهار بنص القرآن. وأيضا الصوم لا يكون إلا نهارا. وأفاد البدر الزركشي أن هذا الحديث: أي المتقدم عن أم عثمان بن أبي العاص على تقدير صحته لا دلالة فيه على أنه ولد ليلا، قال: فإن زمان النبوة صالح للخوارق. ويجوز أن تسقط النجوم نهارا: أي فضلا عن أن تكاد تسقط سيما إن قلنا ولد عند الفجر لأن ذلك ملحق بالليل، وإلى التردد في وقت ولادته صلى الله عليه وسلم هل هو في الليل أو النهار أشار صاحب الهمزية بقوله:

ليلة المولد الذي كان للد ... ين سرور بيومه وازدهاء فهنيئا به لآمنة الف ... ضل الذي شرفت به حواء من لحواء أنها حملت أح ... مد أو أنها به نفساء يوم نالت بوضعه ابنة وهب ... من فخار ما لم تنله النساء أي ليلة المولد الذي وجد فيه الفرح والافتخار للدين بيومه، وقد أضاف كلا من الليل واليوم للولادة مراعاة للخلاف في ذلك، فهنيئا لآمنة الفضل الذي حصل لها بسبب ولادتها له صلى الله عليه وسلم: أي لا يشوب ذلك الفضل كدر ولا مشقة الذي شرفت بذلك الفضل حواء التي هي أم البشر، ومن يشفع لحواء في أنها حملت به وأنه أصابها نفاس به يوم أعطيت آمنة بنت وهب بسبب وضعه من الفخار، وهو ما يتمدح به من الخصال العلية، والشيم المرضية، ما لم يعطها غيرها من النساء. أي وقد أقسم الله بليلة مولده صلى الله عليه وسلم قوله تعالى وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ [الضحى: الآيتان 1 و 2] وقيل أراد بالليل ليلة الإسرى، ولا مانع أن يكون الإقسام وقع بهما، أي استعمل الليل فيهما. ويدل لكون ولادته صلى الله عليه وسلم كانت ليلا قول بعض اليهود ممن عنده علم الكتاب لقريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلم قال: ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، إلى آخر ما يأتي، وسيأتي ما يدل على ذلك، وهو وضعه تحت الجفنة. وولادته صلى الله عليه وسلم قيل كانت في عام الفيل، قيل في يومه. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل. وعن قيس بن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل ضحا فنحن لدان، قال الحافظ ابن حجر المحفوظ لفظ العام: أي بدل لفظ اليوم، وقد يراد باليوم مطلق الوقت فيصدق بالعام، كما يقال يوم الفتح ويوم بدر، وعليه فلدان معناه متقاربان في السن بالموحدة، وعلى أن المراد باليوم حقيقته يكون بالنون. وفي تاريخ ابن حبان: ولد عام الفيل في اليوم الذي بعث الله تعالى الطير الأبابيل فيه على أصحاب الفيل. وعند ابن سعد: ولد يوم الفيل يعني عام الفيل اهـ: أي لما تقدم عن ابن حجر، وعليه فيكون قول ابن حبان في اليوم تفسيرا للعام. على أن المراد باليوم مطلق الوقت الصادق بالعام. وقيل ولد بعد الفيل بخمسين يوما، كما ذهب إليه جمع منهم السهيلي. قال بعضهم: وهو المشهور. قال: وقيل بخمسة وخمسين يوما. وقيل بأربعين يوما، وقيل بشهر، وقيل بعشر سنين، وقيل بثلاث وعشرين سنة، وقيل بثلاثين سنة، وقيل

بأربعين سنة، وقيل بسبعين سنة اهـ: أي وعلى أنه بعد الفيل بخمسة وخمسين يوما اقتصر الحافظ الدمياطي رحمه الله. وعبارة المواهب: حكاه الدمياطي في آخرين، وكونه في عام الفيل قال الحافظ ابن كثير: هو المشهور عند الجمهور. وقال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري رحمه الله لا يشك فيه أحد من العلماء، ونقل غير واحد فيه الإجماع. وقال: كل قول يخالفه وهم: أي وقيل قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة. قال بعضهم: وهذا غريب منكر وضعيف أيضا. أقول: والقول بأنه ولد قبل عام الفيل أو فيه أو بعده بعشر سنين يقتضي تضعيف ما ذكره الحافظ أبو سعيد النيسابوري أن نور النبي صلى الله عليه وسلم كان يضيء في غرة جده عبد المطلب، وكانت قريش إذا أصابها قحط أخذت بيد عبد المطلب إلى جبل ثبير يستسقون به، فيسقيهم الله تعالى ببركة ذلك النور، وأنه لما قدم صاحب الفيل لهدم الكعبة لتكون كنيسته التي بناها. ويقال إنها القليس كجميز لارتفاع بنائها وعلوها ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس مكان الكعبة في الحج إليها. وقد اجتهد أبرهة في زخرفتها، فجعل فيها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، كان ينقل ذلك من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام، وجعل فيها صلبانا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والآبنوس، وشدد على عمالها بحيث إذا طلعت الشمس قبل أن يأخذ العامل في عمله قطع يده، فنام رجل منهم ذات يوم حتى طلعت الشمس، فجاءت معه أمه وهي امرأة عجوز، فتضرعت إليه في أن لا يقطع يد ولدها فأبى إلا قطع يده، فقالت له اضرب بمعولك اليوم، فاليوم لك وغدا لغيرك، فقال لها: ويحك ما قلت؟ فقالت نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك فكذلك يصير منك إلى غيرك، فأخذته موعظتها فعفا عنه، ورجع عن هذا الأمر، فعند ذلك ركب عبد المطلب في قريش إلى جبل ثبير فاستدار ذلك النور، في وجه عبد المطلب كالهلال، وألقى شعاعه على البيت الحرام مثل السراج، فلما نظر عبد المطلب لذلك قال: يا معشر قريش ارجعوا فقد كفيتم هذا الأمر فو الله ما استدار هذا النور مني إلا أن يكون الظفر لنا فرجعوا فلما دخل رسول صاحب الفيل إلى مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيا عليه أي فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خر ساجدا لعبد المطلب: أي فإن صاحب الفيل أمره أن يقول لقريش: إن الملك إنما جاء لهدم البيت، فإن لم تحولوا بينه وبينه لم يزد على هدمه، وإن أحلتم بينه وبينه أتى عليكم، فقال له عبد المطلب؟ ما عندنا منعة ولا ندفع عن هذا البيت، وله رب إن شاء منعه: أي وفي لفظ قال عبد المطلب، والله ما نريد حربه وما لنا منه بذلك طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليل الله، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن لم يحل بينه وبينه فو الله ما

عندنا دفع عنه وأمر أبرهة رسوله أيضا أن يأتي له بسيد القوم، فقال لعبد المطلب: قد أمرني أن آتيه بك، فقال عبد المطلب أفعل، فجاءه راعي إبله وخيله، وأخبره أن الحبشة أخذت الإبل والخيل التي كانت ترعى بذي المجاز. وفي سيرة ابن هشام بل وفي غالب السير الاقتصار على الإبل، وأنها كانت مائتي بعير، وقيل أربعمائة ناقة. فركب عبد المطلب صحبة رسول صاحب الفيل وركب معه ولده الحارث فاستؤذن له على أبرهة أي قيل له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة يعني زمزم، وهو يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له. فلما دخل ورآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه على سرير ملكه، فنزل عن سريره وأجلسه معه على البساط وقال لترجمانه اسأله عن حاجته، فذكر إبله وخيله، فذكر الترجمان له ذلك، فقال للترجمان بلسان الحبشة قل له كنت أعجبتني إذ رأيتك ثم قد زهدت فيك إذ سألتني إبلا وخيلا، وتركت أن تسأل عن البيت الذي هو عزك، فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب أنا رب الإبل والخيل التي سألتها الملك، وأما البيت فله رب إن شاء أن يمنعه من الملك، فقال أبرهة ما كان ليمنعه مني، فرد عليه ما كان أخذ له وانصرف. وأبرهة بلسان الحبشة: الأبيض الوجه. ثم إن الفيل لما نظر إلى وجه عبد المطلب برك كما يبرك البعير وخر ساجدا، وأنطق الله سبحانه وتعالى الفيل، فقال: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب. وفي كلام بعضهم أن أبرهة لما بلغه مجيء عبد المطلب إليه أمر أن عبد المطلب قبل دخوله عليه أن يذهب به إلى الفيلة ليراها ويرى الفيل العظيم وكان أبيض اللون. أقول: رأيت أن ملك الصين كان في مربطه ألف فيل أبيض، وكان مع الفرس في قتال أبي عبيد بن مسعود الثقفي أمير الجيش في خلافة الصديق أفيلة كثيرة عليها الجلاجل، وقدّموا بين أيديهم فيلا عظيما أبيض، وصارت خيول المسلمين كلما حملت وسمعت حس الجلاجل نفرت، فأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة فقتلوها عن آخرها، وتقدم أبو عبيد لهذا الفيل العظيم الأبيض فضربه بالسيف فقطع زلومه، فصاح الفيل صيحة هائلة، وحمل على أبي عبيد فتخبطه برجله ووقف فوقه فقتله، فحمل على الفيل شخص كان أبو عبيد أوصى أن يكون أميرا بعده فقتله، ثم آخر حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحدا بعد واحد، وهذا من أغرب الاتفاقيات والله أعلم. وإنما أرى عبد المطلب الفيلة إرهابا لها وتخويفا فإن العرب لم تكن تعرف الأفيال، وكانت الأفيال كلها ما عدا الفيل الأعظم تسجد لأبرهة. وأما الفيل الأعظم فلم يسجد إلا للنجاشي، فلما رأت الفيلة عبد المطلب

سجدت حتى الفيل الأعظم. وقيل إن أبرهة لم يخرج إلا بالفيل الأعظم، ولما بلغ أبرهة سجود الفيلة لعبد المطلب تطير ثم أمر بإدخال عبد المطلب عليه، فلما رآه ألقيت له الهيبة في قلبه، فنزل عن سريرة تعظيما لعبد المطلب. ثم رأيت العلامة ابن حجر في شرح الهمزية حاول الجواب عن هذا الذي تقدم عن الحافظ النيسابوري، من أن النور استدار في وجه عبد المطلب إلى آخره: أي وقول الفيل: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب مع أن ولادته صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، يلزمها أن يكون النور انتقل من عبد المطلب إلى عبد الله، ثم انتقل من عبد الله إلى آمنة، بأن النور وإن انتقل من عبد المطلب، لكن الله سبحانه وتعالى أكرم عبد المطلب فأحدث ذلك النور في ظهره، وفي وجهه وأطلع الفيل عليه هذا كلامه فليتأمل. وذكر بعضهم أن الفيل مع عظم خلقته صوته ضئيل أي ضعيف، ويفرق أي يخاف من السنور الذي هو القط ويفزع منه. وفي المواهب: والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعد الفيل، لأن قصة الفيل كانت توطئة لنبوته ومقدمة لظهوره وبعثته، هذا كلامه. وفيه أنه قد يقال الإرهاصات إنما تكون بعد وجوده وقبل مبعثه الذي هو دعواه الرسالة، لا قبل وجوده بالكلية الذي هو المراد بظهوره. وحينئذ فقول القاضي البيضاوي: إنها من الإرهاصات، إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بعد وجوده. ومن ثم قال ابن القيم في الهدى: إن مما جرت به عادة الله تعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل لها، فمن ذلك قصة مبعثه صلى الله عليه وسلم تقدمها قصة الفيل، هذا كلامه. قال: فلما شرع أبرهة في الذهاب إلى مكة وصل الفيل إلى أول الحرم، والمواهب أسقط هذا، وهو يوهم أنهم دخلوا مكة، وأن الفيل برك دون البيت فليتأمل، وعند وصوله إلى أول الحرم برك، فصاروا يضربون رأسه ويدخلون الكلاليب في مراق بطنه فلا يقوم، فوجهوا وجهه إلى جهة اليمين، فقام يهرول، وكذا إلى جهة الشام فعل ذلك مرارا فأمر أبرهة أن يسقى الفيل الخمر ليذهب تمييزه فسقوه فثبت على أمره. ويقال إنما برك لأن نفيل بن حبيب الخثعمي قام إلى جنب الفيل فعرك أذنه وقال: ابرك محمودا وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك. قال السهيلي رحمه الله: الفيل لا يبرك، فيحتمل أن يكون بروكه سقوطه على الأرض لما جاءه من أمر الله سبحانه. ويحتمل أن يكون فعل البرك وهو الذي يلزم موضعه ولا يبرح فعبر بالبروك عن ذلك.

قال: وقد سمعت من يقول إن في الفيلة صنفا منها يبرك كما يبرك الجمل، وعند ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم الطير الأبابيل، خرجت من البحر أمثال الخطاطيف. ويقال إن حمام الحرم من نسل تلك الطير فأهلكتهم. وقد يقال إن هذا اشتباه، لأن الذي قيل إنه من نسل الأبابيل إنما هو شيء يشبه الزرازير يكون بباب إبراهيم من الحرم. وإلا فسيأتي أن حمام الحرم من نسل الحمام الذي عشش على فم الغار على ما سيأتي فيه. وفي حياة الحيوان أن الطير الأبابيل تعشش وتفرخ بين السماء والأرض. ولما هلك صاحب الفيل وقومه عزت قريش وهابتهم الناس كلهم، وقالوا: أهل الله لأن الله معهم. وفي لفظ: لأن الله سبحانه وتعالى قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم الذي لم يكن لسائر العرب بقتاله قدرة، وغنموا أموال أصحاب الفيل: أي ومن حينئذ مزقت الحبشة كل ممزق، وخرب ما حول تلك الكنيسة التي بناها أبرهة، فلم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والحيات ومردة الجن، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئا أصابته الجن، واستمرت كذلك إلى زمن السفاح الذي هو أول خلفاء بني العباس، فذكر له أمرها، فبعث إليها عامله على اليمن فخرّ بها وأخذ خشبها المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من الذهب، فحصل له منها مال عظيم، وحينئذ عفا رسمها وانقطع خبرها، واندرست آثارها. وقد كان عبد المطلب أمر قريشا أن تخرج من مكة وتكون في رؤوس الجبال خوفا عليهم من المعرة، وخرج هو وإياهم إلى ذلك بعد أن أخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش، يدعون الله سبحانه وتعالى، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، وقال: لا هم إن العبد يح ... مى رحله فامنع حلالك لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك أي فإنهم كانوا نصارى. ولا هم: أصله اللهم، فإن العرب تحذف الألف واللام، وتكتفي بما يبقى، وكذلك تقول: لاه أبوك، تريد لله أبوك، والحلال بكسر الحاء المهملة: جمع حلة، وهي البيوت المجتمعة. والمحال بكسر الميم: القوة والشدة، والغدو بالغين المعجمة أصله الغد: وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك الذي أنت فيه. ويقال إن عبد المطلب جمع قومه وعقد راية وعسكر بمنى. وجمع ابن ظفر بينه وبين ما تقدم من أنه خرج مع قومه إلى رؤوس الجبال، بأنه يحتمل أنه أمر أن تكون الذرية في رؤوس الجبال: أي وخرج معه تأنيسا لهم ثم رجع وجمع إليه المقاتلة: أي ويؤيد ذلك قول المواهب: ثم إن أبرهة أمر رجلا من

قومه يهزم الجيش، فلما وصل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع إلى آخر ما تقدم. فإسقاط المواهب كون قريش جيشت جيشا مع قومه، ثم إن أبرهة أرسل رجلا من قومه ليهزم الجيش لا يحسن. ثم ركب عبد المطلب لما استبطأ مجيء القوم إلى مكة ينظر ما الخبر فوجدهم قد هلكوا: أي غالبهم، وذهب غالب من بقي، فاحتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم آذن: أي أعلم أهل مكة بهلاك القوم فخرجوا فانتهبوا. وفي كلام سبط ابن الجوزي: وسبب غنى عثمان بن عفان أن أباه عفان وعبد المطلب وأبا مسعود الثقفي لما هلك أبرهة وقومه كانوا أول من نزل مخيم الحبشة، فأخذوا من أموال أبرهة وأصحابه شيئا كثيرا ودفنوه عن قريش، فكانوا أغنى قريش وأكثرهم مالا. ولما مات عفان ورثه عثمان رضي الله تعالى عنه. أي ومن جملة من سلم من قوم أبرهة ولم يذهب بل بقي بمكة سائس الفيل وقائده. فعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس. وأورد على هذا أن الحجاج خرّب الكعبة بضرب المنجنيق ولم يصبه شيء؟. ويجاب بأن الحجاج لم يجىء لهدم الكعبة ولا لتخريبها ولم يقصد ذلك، وإنما قصد التضييق على عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ليسلم نفسه، وهذا أولى من جواب المواهب كما لا يخفى، والله أعلم. وكان مولده صلى الله عليه وسلم بمكة في الدار التي صارت تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج: أي وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب، ولم تزل بيد أولاده بعد وفاته إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار قاله الفاكهي: أي فأدخلها في داره وسماها البيضاء: أي لأنها بنيت بالجص ثم طليت به، فكانت كلها بيضاء، وصارت تعرف بدار ابن يوسف، لكن سيأتي في فتح مكة أنه قيل له صلى الله عليه وسلم «يا رسول الله تنزل في الدور؟ قال: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» فإن هذا السياق يدل على أن عقيلا باع تلك الدار فلم يبق بيده ولا بيد أولاده بعده. إلا أن يقال المراد باع ما عدا هذه الدار التي هي مولده صلى الله عليه وسلم: أي لأنه كما سيأتي في الفتح باع دار أبيه أبي طالب، لأنه وطالبا أخاه ورثا أبا طالب، لأنهما كانا كافرين عند موت أبي طالب، دون جعفر وعلي رضي الله تعالى عنهما فإنهما كانا مسلمين، وعقيل أسلم بعد دون طالب، فإن طالبا اختطفته الجن ولم يعلم به، وإن عقيلا باع دار رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي دار خديجة: أي التي يقال لها مولد فاطمة رضي الله تعالى

عنها، وهي الآن مسجد يصلى فيه، بناه معاوية رضي الله تعالى عنه أيام خلافته. قيل وهو أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام: أي واشتهر بمولد فاطمة رضي الله تعالى عنها لشرفها، وإلا فهو مولد بقية إخوتها من خديجة، ولعل معاوية رضي الله تعالى عنه اشترى تلك الدار ممن اشتراها من عقيل. ويدل لما قلناه قول بعضهم: لم يتعرض صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة لتلك الدار التي أبقاها في يد عقيل: أي التي هي دار خديجة، فإنه لم يزل بها صلى الله عليه وسلم حتى هاجر فأخذها عقيل. وفي كلام بعضهم: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ضرب مخيمه بالحجون، فقيل له: ألا تنزل منزلك من الشعب فقال «وهل ترك لنا عقيل منزلا» وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنازل إخوته حين هاجروا من مكة، ومنزل كل من هاجر من بني هاشم. وفي كلام بعضهم: كان عقيل تخلف عنهم في الإسلام والهجرة، فإنه أسلم عام الحديبية التي هي السنة السادسة وباع دورهم، فلم يرجع النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها، وهي أي تلك الدار التي ولد بها صلى الله عليه وسلم عند الصفا، قد بنتها زبيدة زوجة الرشيد أم الأمين مسجدا لما حجّت. وفي كلام ابن دحية أن الخيزران أم هارون الرشيد لما حجت أخرجت تلك الدار من دار ابن يوسف وجعلتها مسجدا. ويجوز أن تكون زبيدة جددت ذلك المسجد الذي بنته الخيزران فنسب لكل منهما، وسيأتي أن الخيزران بنت دار الأرقم مسجدا، وهي عند الصفا أيضا، ولعل الأمر التبس على بعض الرواة لأن كلا منهما عند الصفا. وقيل ولد صلى الله عليه وسلم في شعب بني هاشم. أقول: قد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون تلك الدار من شعب بني هاشم، ثم رأيت التصريح بذلك. ولا ينافيه ما تقدم في الكلام على الحمل من أن شعب أبي طالب وهو من جملة بني هاشم كان عند الحجون، لأنه يجوز أن يكون أبو طالب انفرد عنهم بذلك الشعب، والله أعلم. قال: وقيل ولد صلى الله عليه وسلم في الردم: أي ردم بني جمح، وهم بطن من قريش، ونسب لبني جمح لأنه ردم على من قتلوا في الجاهلية من بني الحارث، فقد وقع بين بني جمح وبين بني الحارث في الجاهلية مقتلة، وكان الظفر فيها لبني جمح على بني الحارث فقتلوا منهم جمعا كثيرا، وردم على تلك القتلى بذلك المحل. وقيل ولد بعسفان انتهى. أقول: مما يردّ القول بكونه ولد بعسفان ما ذكره بعض فقهائنا، أن من جملة ما يجب على الولي أن يعلم موليه إذا ميز أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة ودفن بالمدينة، إلا أن يقال

ذاك بناء على ما هو الأصح عندهم. والردم: هو المحل الذي كانت ترى منه الكعبة قبل الآن، ويقال له الآن المدعي، لأنه يؤتى فيه بالدعاء الذي يقال عند رؤية الكعبة، ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم وقف به، ولعله لم يكن مرتفعا في زمنه صلى الله عليه وسلم عليه السلام، لأنه إنما رفعه وبناه سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته، لما جاء السيل العظيم الذي يقال له سيل أم نهشل، وهي بنت عبيدة بن سعيد بن العاص، فإنه أخذها وألقاها أسفل مكة فوجدت هناك ميتة، ونقل المقام إلى أن ألقاه بأسفل مكة أيضا فجيء به وجعل عند الكعبة، وكوتب عمر رضي الله عنه بذلك فحضر وهو فزع مرعوب، ودخل مكة معتمرا فوجد محل المقام دثر، وصار لا يعرف، فهاله ذلك ثم قال: أنشد الله عبدا عنده علم من محل هذا المقام، فقال المطلب بن رفاعة رضي الله تعالى عنه: أنا يا أمير المؤمنين عندي علم بذلك، فقد كنت أخشى عليه مثل ذلك، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بحفاظ، فقال له اجلس عندي وأرسل، فأرسل فجيء بذلك الحفاظ فقيس به ووضع المقام بمحله الآن، وأحكم ذلك واستمر إلى الآن. فعند ذلك بني هذا المحل الذي يقال له الردم بالصخرات العظيمة ورفعه فصار لا يعلوه السيل، وصارت الكعبة تشاهد منه، والآن قد حالت الأبنية فصارت لا ترى، ومع ذلك لا بأس بالوقوف عنده والدعاء فيه تبركا بمن سلف، ولعل هذا محمل قول من قال: أول من نقل المقام إلى محله. وكان ملصقا بالكعبة- عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فلا ينافي أن الناقل له هو صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، لكن رأيت ابن كثير قال: وقد كان هذا الحجر أي الذي هو المقام ملصقا بباب الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأخره عنه لئلا يشغل المصلين عنده الطائفون بالبيت هذا كلامه. وقوله من قديم الزمان ظاهره من عهد إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فليتأمل. وعن كعب الأحبار: إني أجد في التوراة: عبدي أحمد المختار، مولده بمكة: أي وهو ظاهر في أن كعب الأحبار كان قبل الإسلام على دين اليهودية. قال وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه عن أمه الشفاء: أي بكسر الشين المعجمة وتخفيف الفاء، وقيل بفتحها وتشديد الفاء مقصورا قالت: لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي: أي فهي دايته صلى الله عليه وسلم. ووقع في كلام ابن دحية أن أم أيمن دايته صلى الله عليه وسلم. وقد يقال إطلاق الداية على أم أيمن، لأنها قامت بخدمته صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قيل لها حاضنته، وللشفاء قابلته.

وقد قيل: في اسم الوالدة والقابلة الأمن والشفاء، وفي اسم الحاضنة البركة والنماء، وفي اسم مرضعته أولا التي هي ثويبة الثواب، وفي اسم مرضعته المستقلة برضاعه التي هي خليمة السعدية الحلم والسعد. قالت أم عبد الرحمن: فاستهل، فسمعت قائلا يقول: يرحمك الله تعالى، أو رحمك ربك: أي أو يرحمك ربك، ولهذا القول الذي لا يقال إلا عند العطاس: أي الذي هو التشميت بالشين المعجمة والمهملة، حمل بعضهم الاستهلال الذي هو في المشهور صياح المولود أول ما يولد: يقال استهل المولود: إذا رفع صوته على العطاس مع الاعتراف بأنه لم يجىء في شيء من الأحاديث تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لما ولد عطس انتهى: أي فقد قال الحافظ السيوطي: لم أقف في شيء من الأحاديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد عطس بعد مراجعة أحاديث المولد من مظانها: أي وعطس بفتح الطاء يعطس بالكسر والضم وحكي بالفتح، ولعله من تداخل اللغتين، لكن في الجامع الصغير «استهلال الصبي العطاس» وحينئذ يكون استهلال المولود له معنيان: هما مجرد رفع الصوت والعطاس، وحمل هنا على العطاس بقرينة الجواب الذي لا يقال إلا عند العطاس، وقد أشار إلى التشميت صاحب الهمزية رحمه الله بقوله: شمتته الأملاك إذ وضعته ... وشفتنا بقولها الشفاء أي قالت له الأملاك: رحمك الله، أو رحمك ربك وقت وضع أمه له، وفرحتنا بقولها المذكور الشفاء التي هي أم عبد الرحمن بن عوف. أقول: قال بعضهم: ولعله صلى الله عليه وسلم حمد الله بعد عطاسه لما استقر من شرعه الشريف أنه لا يسن التشميت: إلا لمن حمد الله تعالى، هذا كلامه. ويدل لما ترجاه ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم حين خروجه من بطن أمه قال «الحمد لله كثيرا» . وفي كلام بعض شراح الهمزية: ويجوز أن يكون شمت من غير حمد، تعظيما لقدره صلى الله عليه وسلم. وقد جاء «العاطس إن حمد الله تعالى فشمتوه، وإن لم يحمد فلا تشمتوه» وجاء «إذا عطس فحمد الله تعالى فحق على كل من سمعه أن يشمته» وفي الصحيح «أن رجلا عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم وحمد الله فشمته. وعطس آخر فلم يحمد الله فلم يشمته» وفي حديث حسن «إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، فإذا زاد على ثلاث فهو مزكوم فلا يشمت بعد ثلاث» وتمسك بذلك: أي بالأمر بالتشميت بصيغة افعل التي الأصل فيها الوجوب، وبقوله حتى أهل الظاهر على وجوب التشميت على كل من سمع. وذهب بعض الأئمة إلى وجوبه على الكفاية، وهو منقول عن مشهور مذهب مالك رضي الله تعالى عنه: أي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس على إبليس أشد من تشميت العاطس.

وعن سالم بن عبيد الله الأشجعي وكان من أهل الصفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا عطس أحدكم فليحمد الله عز وجل، وليقل من عنده يرحمك الله، وليردّ عليه بقوله: يغفر الله لي ولكم» . ومن لطيف ما اتفق أن الخليفة المنصور وشي عنده ببعض عماله، فلما حضر عنده عطس المنصور فلم يشمته ذلك العامل، فقال له المنصور: ما منعك من التشميت؟ فقال: إنك لم تحمد الله، فقال: حمدت في نفسي، فقال: قد شمتك في نفسي، فقال له: ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لا تحابي غيري. قال بعضهم: والحكمة في قول العاطس ما ذكر أنه ربما كان العطاس سببا لالتواء عنقه فيحمد الله على معافاته من ذلك. وقال غيره: لأن الأذى وهي الأبخرة المحتقنة تندفع به عن الدماغ الذي فيه قوة التذكر والتفكر: أي فهو بحران الرأس، كما أن العرق بحران بدن المريض، وذلك نعمة جليلة، وفائدة عظيمة، ينبغي أن يحمد الله تعالى عليها: أي ولأن الأطباء كما زعمه بعضهم نصوا على أن العطاس من أنواع الصرع، أعاذنا الله تعالى من الصرع. وقد ينازع فيه ما تقدم، وما ذكره بعض الأطباء أن العطاس للدماغ كالسعال للرئة. قال: والعطاس أنفع الأشياء لتخفيف الرأس، وهو مما يعين على نقص المواد المحتبسة ويسكن ثقل الرأس فيحصل منه النشاط والخفة. وفي نوادر الأصول للترمذي قال صلى الله عليه وسلم «هذا جبريل يخبركم عن الله تعالى: ما من مؤمن يعطس ثلاث عطسات متواليات إلا كان الإيمان في قلبه ثابتا» . وفي الجامع الصغير «إن الله تعالى يحب العطاس، ويكره التثاؤب» والعطسة الشديدة من الشيطان. وفي الحديث «العطاس شاهد عدل» وفي حديث حسن «أصدق الحديث ما عطس عنده» . وقد جاء أن روح آدم عليه السلام لما نزلت إلى خياشيمه عطس، فلما نزلت إلى فمه ولسانه قال الله تعالى له قل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [الفاتحة: الآية 2] فقالها آدم عليه السلام، فقال الحق يرحمك الله يا آدم، ولذلك خلقتك» وفي رواية «وللرحمة خلقتك» أي للموت. وقد روى الترمذي مرفوعا بسند ضعيف «العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان» وروى ابن أبي شيبة موقوفا بسند ضعيف أيضا «إن الله يكره التثاؤب، ويحب العطاس في الصلاة» أي فمع كون كل واحد من العطاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان العطاس فيها أحب إلى الله تعالى من التثاؤب فيها، والتثاؤب فيها أكره إلى الله تعالى من العطاس فيها، لأن الكراهة مقولة بالتشكيك.

ويمكن حمل كون العطاس من الشيطان على شدته ورفع الصوت به كما تقدم التقييد بذلك في الرواية السابقة، ومن ثم جاء «إذا عطس أحدكم» أي هم بالعطاس «فليضع كفيه على وجهه، وليخفض صوته» أي ولا ينافي وجود الشفاء ووجود أم عثمان بن العاص عند أمه صلى الله عليه وسلم عند ولادته ما روي عنها أنها قالت «لما أخذني ما يأخذ النساء» أي عند الولادة «وإني لوحيدة في المنزل رأيت نسوة كالنخل طولا كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بي» وفي كلام ابن المحدّث «ودخل عليّ نساء طوال كأنهن من بنات عبد المطلب ما رأيت أضوأ منهن وجوها، وكأنّ واحدة من النساء تقدمت إليّ فاستندت إليها، وأخذني المخاض، واشتد عليّ الطلق، وكأنّ واحدة منهن تقدمت إليّ وناولتني شربة من الماء أشد بياضا من اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من الشهد، فقالت لي: اشربي فشربت، ثم قالت الثالثة: ازدادي فازددت، ثم مسحت بيدها على بطني وقالت: بسم الله اخرج بإذن الله تعالى، فقلن لي: أي تلك النسوة: ونحن آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وهؤلاء من الحور العين» لجواز وجود الشفاء وأم عثمان عندها بعد ذلك، وتأخر خروجه صلى الله عليه وسلم عن القول المذكور حتى نزل على يد الشفاء، لما تقدم من قولها «وقع على يديّ» ولعل حكمة شهود آسية ومريم لولادته كونهما تصيران زوجتين له صلى الله عليه وسلم في الجنة مع كلثم أخت موسى. ففي الجامع الصغير: «إن الله تعالى زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وامرأة فرعون وأخت موسى» وسيأتي عند موت خديجة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «أشعرت أن الله تعالى قد أعلمني أنه سيزوجني» وفي رواية «أما علمت أن الله تعالى قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى. وآسية امرأة فرعون؟ فقالت: الله أعلمك بهذا؟ قال نعم. قالت بالرفاء والبنين» وقد حمى الله هؤلاء النسوة عن أن يطأهن أحد. فقد ذكر أن آسية لما ذكرت لفرعون أحب أن يتزوجها فتزوجها على كره منها ومن أبيها مع بذله لها الأموال الجليلة، فلما زفت له وهم بها أخذه الله عنها وكان ذلك حاله معها، وكان قد رضي منها بالنظر إليها. وأما مريم فقيل إنها تزوجت بابن عمها يوسف النجار ولم يقربها، وإنما تزوجها ليرفقها إلى مصر لما أرادت الذهاب إلى مصر بولدها عيسى عليه السلام، وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة، ثم عادت مريم وولدها إلى الشام ونزلا الناصرة. وأخت موسى عليه الصلاة والسلام لم يذكر أنها تزوجت، وهذا يفيد أن بنات عبد مناف أو بنات عبد المطلب على ما تقدم كنّ متميزات عن غيرهن من النساء في إفراط الطول.

وقد رأيت أن علي بن عبد الله بن عباس وهو جد الخليفتين السفاح والمنصور أول خلفاء بني العباس أبو أبيهما محمد كان مفرطا في الطول، كان إذا طاف كأن الناس حوله وهو راكب، وكان مع هذا الطول إلى منكب أبيه عبد الله بن عباس، وكان عبد الله بن عباس إلى منكب أبيه العباس، وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب. لكن ابن الجوزي اقتصر في ذكر الطوال على عمر بن الخطاب، والزبير بن العوام، وقيس بن سعد، وحبيب بن سلمة، وعلي بن عبد الله بن العباس. وسكت عن عبد الله بن عباس، وعن أبيه العباس، وعن أبيه عبد المطلب. وفي المواهب أن العباس كان معتدلا، وقيل كان طوالا. ورأيت أن عليا هذا جد الخلفاء العباسيين كان على غاية من العبادة والزهادة والعلم والعمل وحسن الشكل، حتى قيل: إنه كان أجمل شريف على وجه الأرض، وكان يصلي في كل ليلة ألف ركعة ولذلك كان يدعى السجاد، وأن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو الذي سماه عليا وكناه أبا الحسن. فقد روي أن عليا رضي الله تعالى عنه افتقد عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في وقت صلاة الظهر، فقال لأصحابه ما بال أبي العباس يعني عبد الله لم يحضر؟ فقالوا ولد له مولود، فلما صلى عليّ كرم الله وجهه قال امضوا بنا إليه، فأتاه فهنأه، فقال: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. زاد بعضهم. ورزقت بره، وبلغ أشده، ما سميته؟ قال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه؟ فأمر به فأخرج إليه فأخذه فحنكه، ودعا له ثم رده إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك، قد سميته عليا، وكنيته أبا الحسن، فلما ولى معاوية الخلافة قال لابن عباس: ليس لكم اسمه ولا كنيته يعني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كراهة في ذلك، وقد كنيته أبا محمد فجرت عليه. وقد يخالف ذلك ما ذكر بعضهم أن عليا المذكور لما قدم على عبد الملك بن مروان قال له غير اسمك أو كنيتك، فلا صبر لي على اسمك وهو عليّ وكنيتك وهي أبو الحسن، قال: أما الاسم فلا أغيره. وأما الكنية فأكتني بأبي محمد، وإنما قال عبد الملك ذلك كراهة في اسم علي بن أبي طالب وكنيته. وعليّ هذا دخل هو وولدا ولده محمد وهما السفاح والمنصور وهما صغيران يوما على هشام بن عبد الملك بن مروان وهو خليفة، فأكرمه هشام، فصار يوصيه عليهما ويقول له: سيليان هذا الأمر يعني الخلافة، فصار هشام يتعجب من سلامة باطنه وينسبه في ذلك إلى الحمق. ويقال إن الوليد بن عبد الملك: أي لما ولي الخلافة وبلغه عنه أنه يقول ذلك ضربه بالسياط على قوله المذكور، وأركبه بعيرا،

وجعل وجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله بن عباس الكذاب، قال بعضهم: فأتيته وقلت له ما هذا الذي يسنده إليك من الكذب؟ قال: بلغهم عني أني أقول إن هذا الأمر يعني الخلافة ستكون في ولدي، والله لتكوننّ فيهم، فكان الأمر على ما ذكر فقد ولي السفاح الخلافة ثم المنصور. وفي دلائل النبوة للبيهقي أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قدم على معاوية رضي الله تعالى عنه، فأجازه وأحسن جائزته، ثم قال: يا أبا العباس هل تكون لكم دولة؟ قال اعفني يا أمير المؤمنين، قال لتخبرني، قال نعم، قال فمن أنصاركم؟ قال: أهل خراسان: أي وهو أبو مسلم الخراساني، يجيء بجيشه معه رايات سود يسلب دولة بني أمية، ويجعل الدولة لبني العباس. ويقال إن أبا مسلم هذا قتل ستمائة ألف رجل صبرا غير الذي قتله في الحروب، وهذه الرايات السود غير التي عناها صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فأتوها، فإن فيها خليفة الله المهدي» فإن تلك الرايات تأتي قبيل قيام الساعة. ثم صارت الخلافة في أولاد المنصور. وقول عليّ في ولدي واضح، لأن ولد الولد ولد. وقد حكي في مرآة الزمان عن المأمون، أنه قال: حدثني أبي يعني هارون الرشيد، عن أبيه المهدي، عن أبيه المنصور، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه عليّ، عن أبيه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيد القوم خادمهم» وذكر أنه مما يؤثر عن المأمون أنه كان يقول: استخدام الرجل ضيفه لؤم. وكان يقول: لو عرف الناس حبي للعفو لتقربوا إليّ بالجرائم، وإني أخاف إني لا أوجر على العفو، أي لأنه صار لي طبيعة وسجية. قالت أمه صلى الله عليه وسلم: ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات: علما بالمشرق، وعلما بالمغرب، وعلما على ظهر الكعبة، والله أعلم. ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعت عليه جفنة بفتح الجيم، فانفلقت عنه فلقتين قال: وهذا مما يؤيد أنه صلى الله عليه وسلم ولد ليلا. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان في عهد الجاهلية إذا ولد لهم مولود من تحت الليل وضعوه تحت الإناء لا ينظرون إليه حتى يصبحوا، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوه تحت برمة. زاد في لفظ ضخمة. والبرمة: القدر، فلما أصبحوا أتوا البرمة، فإذا هي قد انفلقت ثنتين وعيناه إلى السماء، فتعجبوا من ذلك. وعن أمه أنها قالت: فوضعت عليه الإناء فوجدته قد تفلق الإناء عنه وهو يمص إبهامه يشخب أي يسيل لبنا اهـ.

أي وفي العرائس أن فرعون لما أمر بذبح أبناء بني إسرائيل جعلت المرأة: أي بعض النساء كما لا يخفى إذا ولدت الغلام انطلقت به سرا إلى واد أو غار فأخفته فيه، فيقيض الله سبحانه وتعالى له ملكا من الملائكة يطعمه ويسقيه حتى يختلط بالناس، وكان الذي أتى السامري لما جعلته أمه في غار من الملائكة جبريل عليه الصلاة والسلام، فكان أي السامري يمص من إحدى إبهاميه سمنا ومن الأخرى عسلا، ومن ثم إذا جاع المرضع يمص إبهامه فيروى من المص، قد جعل الله له فيه رزقا. والسامري هذا كان منافقا يظهر الإسلام لموسى عليه الصلاة والسلام ويخفي الكفر. وفي رواية أن عبد المطلب هو الذي دفعه للنسوة ليضعوه تحت الإناء. أقول: هذا هو الموافق لما سيأتي عن ابن إسحق من أن أمه صلى الله عليه وسلم لما ولدته أرسلت إلى جده: أي وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها: أي فقالت له يا أبا الحارث ولد لك مولود له أمر عجيب، فذعر عبد المطلب وقال: أليس بشرا سويا؟ فقالت نعم، ولكن سقط ساجدا، ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء، فأخرجته له ونظر إليه. وأخذه ودخل به الكعبة ثم خرج فدفعه إليها، وبه يظهر التوقف في قول ابن دريد: أكفئت عليه جفنة لئلا يراه أحد قبل جده، فجاء جده والجفنة قد انفلقت عنه، إلا أن يقال يجوز أن يكون جده أخذه بعد انفلاق الجفنة ثم دخل به الكعبة، ثم بعد خروجه به من الكعبة دفعه لها وللنسوة ليضعوه تحت جفنة أخرى إلى أن يصبح، فانفلقت تلك الجفنة الأخرى حتى لا ينافي ذلك ما تقدم عن أمه: فوجدت الإناء قد تفلق وهو يمص إبهامه. وعن إياس الذي يضرب به المثل في الذكاء قال: أذكر الليلة التي وضعت فيها وضعت أمي على رأسي جفنة وقال لأمه ما شيء سمعته لما ولدت؟ قالت: يا بني طست سقط من فوق الدار إلى أسفل ففزعت فولدتك تلك الساعة. وقال بعضهم: يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل، وإن إياسا منهم ولعل هذا هو المراد بما جاء في الحديث «يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر ديتها» والمراد برأسها آخرها بأن يدرك أوائل المائة التي تليها بأن تنقضي تلك المائة وهو حي، إلا أني لم أقف على أن إياسا هذا كان من المجددين والله أعلم. وفي تفسير ابن مخلد الذي قال في حقه ابن حزم. ما صنف مثله أصلا: أن إبليس رن أي صوّت بحزن وكآبة أربع رنات: رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي وهو المراد بقول بعضهم يوم بعثه، ورنة حين أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، وإلى رنته حين ولادته صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الأصل بقوله.

لمولده قد رنّ إبليس رنة ... فسحقا له ماذا يفيد رنينه وعن عطاء الخراساني لما نزل قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) [النساء: الآية 110] صرخ إبليس صرخة عظيمة اجتمع إليه فيها جنوده من أقطار الأرض قائلين: ما هذه الصرخة التي أفزعتنا؟ قال: أمر نزل بي لم ينزل قط أعظم منه، قالوا: وما هو؟ فتلا عليهم الآية وقال لهم: فهل عندكم من حيلة؟ قالوا ما عندنا من حيلة، فقال: اطلبوا فإني سأطلب، قال: فلبثوا ما شاء الله، ثم صرخ أخرى فاجتمعوا إليه وقالوا: ما هذه الصرخة التي لم نسمع منك مثلها إلا التي قبلها؟ قال: هل وجدتم شيئا؟ قالوا: لا، قال: لكني قد وجدت؛ قالوا: وما الذي وجدت؟ قال أزين لهم البدع التي يتخذونها دينا ثم لا يستغفرون: أي لأن صاحب البدعة يراها بجهلة حقا وصوابا ولا يراها ذنبا حتى يستغفر الله منها. وقد جاء في الحديث «أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته» أي لا يثيبه على عمله ما دام متلبسا بتلك البدعة. وعن الحسن قال: بلغني أن إبليس قال: سوّلت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المعاصي فقطعوا ظهري بالاستغفار، فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون الله منها وهي الأهواء أي البدع. وقد جاء في الحديث «أخاف على أمتي بعدي ثلاثا: ضلالة الأهواء» الحديث، وأهل الأهواء هم أهل البدع. وعن عكرمة أن إبليس لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى تساقط النجوم قال أي لجنوده؟ لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا، وهذا يدل على أن تساقط النجوم كان عند إبليس علامة على وجود نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال له جنوده: لو ذهبت إليه فخبلته، فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الله جبريل عليه الصلاة والسلام فركضه برجله ركضة وقع بعدن. وكون تساقط النجوم كان عند إبليس علامة على وجود نبينا صلى الله عليه وسلم، مشكل مع قول بعضهم، لما رجمت الشياطين ومنعت من مقاعدها في السماء لاستراق السمع شكوا ذلك لإبليس، فقال لهم: هذا أمر حدث في الأرض، وأمرهم أن يأتوه بتربة من كل أرض، فصار يشمها إلى أن أتى بتربة من أرض تهامة، فلما شمها قال: من ههنا الحدث، هكذا ساقه بعضهم عند ولادته صلى الله عليه وسلم. إلا أن يقال: لا إشكال لأن تساقط النجوم وإن كان علامة على وجود نبينا صلى الله عليه وسلم لكن في أي أرض! على أن بعضهم أنكر كون ما ذكر كان عند الولادة. وقد تقدم أن المذكور في كلام غيره إنما هو عند مبعثه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، ولعله من خلط بعض الرواة. وعبارة بعضهم: روي أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء ثم تجاوز سماء

الدنيا إلى غيرها، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام، منعوا من مجاوزة سماء الدنيا وصاروا يسترقون السمع في سماء الدنيا حتى ولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمنعوا من التردد إلى السماء إلا قليلا: أي فصاروا يسترقون السمع في سماء الدنيا في بعض الأحايين، وفي أكثر الأحايين يسترقون دونها حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فمنعوا أصلا فصاروا لا يسترقون السمع إلا دون سماء الدنيا، ثم رأيتني نقلت في «الكوكب المنير في مولد البشير النذير» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها مما سيقع في الأرض فيلقونها على الكهنة، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام حجبوا عن ثلاث سموات. وعن وهب عن أربع سموات، ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم حجبوا عن الكل، وحرست بالشهب فما يريد أحد منهم استراق السمع إلا رمي بشهاب، وسيأتي عند المبعث إيضاح هذا المحل. وقد أخبرت الأحبار والرهبان بليلة ولادته صلى الله عليه وسلم. فعن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال: إني لغلام يفعة، أي غلام مرتفع ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت، إذ بيهودي بيثرب يصيح ذات يوم غداة على أطمة: أي محل مرتفع: يا معشر يهود فاجتمعوا إليه وأنا أسمع وقالوا ويلك، ما لك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به في هذه الليلة: أي الذي طلوعه علامة على ولادته صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة في بعض الكتب القديمة، وحسان هذا سيأتي أنه ممن عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام مثلها، وكذا عاش هذا القدر وهو مائة وعشرون سنة أبوه وجده ووالد جده. قال بعضهم: ولا يعرف أربعة تناسلوا وتساوت أعمارهم سواهم. وكان حسان رضي الله عنه يضرب بلسانه أرنبة أنفه وكذا ابنه وأبوه وجده. وعن كعب الأحبار رضي الله عنه: رأيت في التوراة أن الله تعالى أخبر موسى عن وقت خروج محمد صلى الله عليه وسلم أي من بطن أمه، وموسى عليه الصلاة والسلام أخبر قومه أن الكوكب المعروف عندكم اسمه كذا إذا تحرك وسار عن موضعه فهو وقت خروج محمد صلى الله عليه وسلم: أي وصار ذلك مما يتوارثه العلماء من بني إسرائيل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يهودي يسكن مكة، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من مجالس قريش: هل ولد فيكم الليلة مولود؟، فقال القوم: والله ما نعلمه، قال: احفظوا ما أقول لكم، ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة: أي وهو منكم معاشر قريش، على كتفه أي عند كتفه علامة: أي شامة فيها شعرات متواترات، أي متتابعات كأنهن عرف فرس: أي وتلك العلامة هي خاتم النبوة أي علامتها، والدليل عليها لا يرضع لليلتين، وذلك في الكتب القديمة من دلائل نبوته، أي وعدم رضاعه لعله لتوعك يصيبه. وفي كلام الحافظ ابن حجر

وأقره تعليلا لعدم رضاعه: لأن عفريتا من الجن وضع يده على فيه. وعند قول اليهودي ما ذكر تفرق القوم من مجالسهم وهم متعجبون من قوله، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم آله وفي لفظ أهله، فقالوا: لقد ولد الليلة، لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا، فالتقى القوم حتى جاؤوا لليهودي وأخبروه الخبر: أي قالوا له أعلمت، ولد فينا مولود؟ قال: اذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا حتى أدخلوه على أمه، فقال أخرجي إلينا ابنك، فأخرجته وكشفوا على ظهره فرأى تلك الشامة فخر مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا ويلك ما لك؟ قال: والله ذهبت النبوة من بني إسرائيل أفرحتم به يا معشر قريش؟ أما والله ليسطون عليكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب. أي وعن الواقدي رحمه الله أنه كان بمكة يهودي يقال له يوسف، لما كان اليوم أي الوقت الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم به أحد من قريش قال: يا معشر قريش قد ولد نبي هذه الأمة الليلة في بحرتكم، أي ناحيتكم هذه، وجعل يطوف في أنديتهم فلا يجد خبرا، حتى انتهى إلى مجلس عبد المطلب فسأل، فقيل له: قد ولد لابن عبد المطلب: أي لعبد الله غلام، فقال، هو نبيّ والتوراة. وكان بمرّ الظهران راهب من أهل الشام يدعى عيصا، وقد كان آتاه الله علما كثيرا وكان يلزم صومعة له، ويدخل مكة فيلقى الناس ويقول: يوشك أي يقرب أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة تدين له العرب، أي تذل وتخضع، ويملك العجم: أي أرضها وبلادها هذا زمانه، فمن أدركه أي أدرك بعثته واتبعه أصاب حاجته: أي ما يؤمله من الخير، ومن أدركه وخالفه أخطأ حاجته، فكان لا يولد بمكة مولود إلا ويسأل عنه ويقول ما جاء بعد أي الآن، فلما كان صبيحة اليوم أي الوقت الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد المطلب حتى أتى عيصا فوقف على أصل صومعته فناداه، فقال: من هذا؟ فقال: أنا عبد المطلب: أي وقيل الجائي له عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم بناء على أنه لم يمت وأمه حامل به: أي ولعل قائله أخذ ذلك من قول الراهب لما قيل له ما ترى عليه، أي على ذلك المولود، فقال: كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه وأن نجمه أي الذي طلوعه علامة على وجوده طلع البارحة، وعلامة ذلك أي أيضا أنه الآن وجع فيشتكي ثلاثا ثم يعافى. أقول: أي ولا يرضع في تلك الثلاث ليلتين، فلا يخالف ما سبق من قول الآخر لا يرضع ليلتين، ولا دلالة في قوله كن أباه على أن الجائي للراهب عبد الله، لأن عبد المطلب كان يقال له أبو النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال للنبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن عبد المطلب» كما تقدم والله أعلم ثم قال له فاحفظ لسانك: أي لا تذكر ما قلته لك لأحد من قومك، فإنه لم يحسد حسده أحد، ولم يبغ على أحد

كما يبغي عليه. قال فما عمره؟ قال: إن طال عمره لم يبلغ السبعين يموت في وتر دونها في إحدى وستين أو ثلاث وستين، زاد في رواية وذلك جلّ أعمار أمته. وعند ولادته صلى الله عليه وسلم تنكست الأصنام أي أصنام الدنيا، وتقدم أيضا أنها تنكست عند الحمل به، وتقدم أنه لا مانع من تعدد ذلك. وجاء أن عيسى عليه السلام لما وضعته أمه خر كل شيء يعبد من دون الله في مشارق الأرض ومغاربها ساجدا لوجهه وفزع إبليس. فعن وهب بن منبه: لما كانت الليلة التي ولد فيها عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم أصبحت الأصنام في جميع الأرض منكسة على رؤوسهم، وكلما ردوها على قوائمها، انقلبت، فحارت الشياطين لذلك ولم تعلم السبب فشكت إلى إبليس، فطاف إبليس في الأرض ثم عاد إليهم، فقال: رأيت مولودا والملائكة قد حفت به فلم أستطع أن أدنو إليه، وما كان نبي قبله أشد علي وعليكم منه، وإني لأرجو أن أضل به أكثر ممن يهتدي به. أقول: قد علمت أن تنكيس الأصنام تكرر لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم عند الحمل وعند الولادة، فالخاص به ما كان عند الحمل لا ما كان عند الولادة، لمشاركة عيسى عليه السلام له في ذلك، وبهذا يعلم ما في قول الجلال السيوطي في خصائصه الصغرى إن من خصائصه صلى الله عليه وسلم تنكيس الأصنام لمولده. وعن عبد المطلب قال: كنت في الكعبة فرأيت الأصنام سقطت من أماكنها وخرت سجدا، وسمعت صوتا من جدار الكعبة يقول: ولد المصطفى المختار الذي تهلك بيده الكفار، ويطهر من عبادة الأصنام، ويأمر بعبادة الملك العلام. ولا يقال: قال إبليس في حق عيسى عليه السلام لا أستطيع أن أدنو إليه، وتقدم في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أن إبليس دنا منه فركضه جبريل عليه السلام. لأنا نقول يجوز أن يكون الدنو في حق نبينا صلى الله عليه وسلم دنوا إلى محله الذي هو فيه لا إلى جسده، والدنو المنفي في حق عيسى عليه السلام دنو إلى جسده. فإن قيل: جاء في الحديث «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها» رواه الشيخان: أي لقول أم مريم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) [آل عمران: الآية 36] وفي رواية «كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب» أي وهي المشيمة التي يكون فيها الولد، ولعل المراد بجنبه جنبه الأيسر. وعن قتادة: «كل مولود يمسه الشيطان بأصبعه في جنبه فيستهل صارخا إلا عيسى ابن مريم وأمه مريم ضرب الله عليهما حجابا، فأصابت الطعنة الحجاب فلم

ينفذ إليهما منه شيء» ولعل هذا الحجاب هو المشيمة. ويحتمل أن يكون غيرها. قلت: وجاء عن مجاهد: «أن مثل عيسى في عدم طعن الشيطان في جسده حين يولد سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وذلك لا يقال من قبل الرأي. وعلى تقدير صحة ذلك يكون تخصيص عيسى وأمه بالذكر كان قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم بأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كعيسى وأمه. وهذا الكلام يرد بيان القاضي عياض للضرر المنفي في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال إذا أراد أن يأتي أهله بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن قدر بينهما في ذلك الوقت ولد من ذلك الجماع لم يضره الشيطان أبدا» بأن المراد أنه لا يطعن فيه عند ولادته، بخلاف غيره، وهذا: أي عدم قربه من نبينا صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون في حق خصوص إبليس، فلا ينافي ما تقدم عن الحافظ ابن حجر أن عدم ارتضاعه صلى الله عليه وسلم في ليلتين بوضع عفريت من الجن يده في فيه على تسليم صحته. وصاحب الكشاف أخرج المس ومثله الطعن عن حقيقته وقال: المراد به طمع الشيطان في إغوائه، وتبعه القاضي على ذلك، وسيأتي في شق صدره صلى الله عليه وسلم كلام يتعلق بذلك. وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: اعلم أنه لا بد لجميع بني آدم من العقوبة والألم شيئا بعد شيء إلى دخولهم الجنة، لأنه إذا نقل إلى البرزخ فلا بد له من الألم، أدناه سؤال منكر ونكير، فإذا بعث فلا بد له من ألم الخوف على نفسه أو غيره، وأول الألم في الدنيا استهلال المولود حين ولادته صارخا، لما يجده من مفارقة الرحم وسخونته، فيضربه الهواء عند خروجه من الرحم، فيحس بألم البرد فيبكي، فإن مات فقد أخذ حظه من البلاء. وقال بعد ذلك في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام (والسلام علي يوم ولدت) : معناه السلامة من إبليس الموكل بطعن الأطفال عند الولادة حين يصرخ الولد إذا خرج من طعنته، فلم يصرخ عيسى عليه السلام بل وقع ساجدا لله حين خرج، فليتأمل هذا مع قوله إن استهلال المولود وصراخه حين يولد لحسه ألم البرد الذي يجده بعد مفارقة سخونة الرحم. وقوله: بل وقع ساجدا يدل على أن سجود نبينا صلى الله عليه وسلم حين ولد ليس من خصائصه والله أعلم. وذكر أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وعبد الله ابن جحش كانوا يجتمعون إلى صنم، فدخلوا عليه ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوه منكسا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه فردوه إلى حاله فانقلب انقلابا عنيفا فردوه فانقلب كذلك الثالثة، فقالوا: إن هذا الأمر حدث، ثم أنشد بعضهم أبياتا يخاطب بها الصنم ويتعجب من أمره: ويسأله فيها عن سبب تنكسه، فسمع هاتفا من جوف الصنم بصوت جهير أي مرتفع يقول:

تروى لمولود أضاءت بنوره ... جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب الأبيات. وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله: وتوالت بشرى الهواتف أن قد ... ولد المصطفى وحق الهناء أي تتابعت بشارة الهواتف جمع هاتف، وهو ما يسمع صوته، ولا يرى شخصه، بأن قد ولد المصطفى المختار على الخلق كلهم، وثبت لهم الفرح والسرور. وليلة ولادته صلى الله عليه وسلم تزلزلت الكعبة، ولم تسكن ثلاثة أيام ولياليهن وكان ذلك أول علامة رأت قريش من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وارتجس: أي اضطرب وانشق إيوان كسرى أنوشروان. ومعنى أنوشروان: مجدد الملك: أي وكان بناء محكما مبنيا بالحجارة الكبار والجص بحيث لا تعمل فيه الفؤوس؟ مكث في بنائه نيفا وعشرين سنة: أي وسمع لشقه صوت هائل، وسقط من ذلك الإيوان أربع عشرة شرفة بضم الشين المعجمة وسكون الراء، أي وليس ذلك لخلل في بنائه، وإنما أراد الله تعالى أن يكون ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم باقية على وجه الأرض. أي وقد ذكر أن الرشيد أمر وزيره يحيى بن خالد البرمكي: أي والد جعفر والفضل بهدم إيوان كسرى، فقال له يحيى: لا تهدم بناء دل على فخامة شأن بانيه، قال: بلى يا مجوسي، ثم أمر بنقضه، فقدر له نفقة على هدمه، فاستكثرها الرشيد، فقال له يحيى ليس يحسن بك أن تعجز عن هدم شيء بناه غيرك. هذا والذي رأيته في بعض المجاميع أن المنصور لما بنى بغداد أحب أن ينقض إيوان كسرى. فإن بينه وبينها مرحلة ويا بني به، فاستشار خالد بن برمك، فنهاه وقال: هو آية الإسلام ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزول أمره، وهو مصلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والمؤونة في نقضه أكثر من الإنفاق عليه، ولا مانع من تكرر طلب نقضه من المنصور ومن ولد ولده الرشيد. وإنما قال الرشيد ليحيى بن خالد يا مجوسي، لأن جده والد خالد البرمكي وهو برمك كان من خراسان، وكان أولا مجوسيا ثم أسلم، وكان كاتبا عارفا محصلا لعلوم كثيرة، جاء إلى الشام في دولة بني أمية، فاتصل بعبد الملك بن مروان، فحسن موقعه عنده وعلا قدره. ثم لما أن زالت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس صار وزيرا للسفاح، ثم لأخيه المنصور من بني العباس، ورأيت عن برمك هذا حكاية عجيبة، وهي أنه سار إلى زيارة ملك الهند، فأكرمه وأنس به وأحضر له طعاما وقال كل، فأكلت حتى انتهيت، فقال لي كل، فقلت لا أقدر والله أيها الملك،

فأمر بإحضار قضيب فأخذه الملك وأمرّ به على صدري فكأني لم آكل شيئا قط، ثم أكلت أكلا كثيرا حتى انتهيت، فقال لي كل، فقلت لا والله لا أقدر أيها الملك، فأمرّ بالقضيب على صدري فكأني لم آكل شيئا قط، فأكلت حتى انتهيت، فقال لي كل، فقلت والله ما أقدر على ذلك، فأراد أن يمر بالقضيب على صدري، فقلت أيها الملك إن الذي دخل يحتاج إلى أن يخرج، فقال: صدقت، وأمسك عني، فسألته عن القضيب، فقال: تحفة من تحف الملوك. ومما يحفظ عن يحيى بن خالد هذا زيادة على ما تقدم عنه: إذا أحببت إنسانا من غير سبب فارج خيره، وإذا أبغضت إنسانا من غير سبب فتوق شره. ومما يحفظ عنه أيضا وقد قال له ولده وأظنه الفضل، وقد كان معه مقيدا في حبس الرشيد بعد قتله لولده جعفر وصلبه ونهبه أموال البرامكة ومن يلوذ بهم: يا أبت بعد العز ونفوذ الكلمة صرنا إلى هذه الحالة، فقال: يا ولدي دعوة مظلوم سرت ليلا غفلنا عنها وما غفل الله عنها: أي فقد قال أبو الدرداء: إياكم ودمعة اليتيم ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام. أي ولأن الله تعالى يقول: «أنا أظلم الظالمين إن غفلت عن ظلم الظالم» وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اتق دعوة المظلوم فإنما يسأل الله حقه، وإن الله تعالى لن يمنع ذا حق حقه» وجاء «اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» وجاء «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» والمراد بالغمام: الغمام الأبيض الذي فوق السماء السابعة، المعنيّ بقوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: الآية 25] أي لا تقوى على حمله إذا سقط. ونصر دعوة المظلوم: استجابتها ولو بعد زمن طويل، فهو سبحانه وتعالى وإن أمهل الظالم لا يهمله، وجاء «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة» أي تصعد إلى السماء السابعة فما فوقها وجاء «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب» . وقد قال القائل: تنام عيناك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم ومما قيل في يحيى بن خالد هذا من المدح البليغ: سألت الندى هل أنت حر فقال لا ... ولكنني عبد ليحيى بن خالد فقلت شراء؟ قال لا بل وراثة ... توارثني من والد بعد والد ومما يحفظ عن والده خالد: التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمولود. ومما يحفظ عن جعفر ولد يحيى قوله: شر المال ما لزمك الإثم في كسبه، وحرمت الأجر في

إنفاقه، وقوله: المسيء لا يظن في الناس إلا سوآ لأنه يراهم بعين طبعه. ومما قيل في جعفر من المدح قول الشاعر: تروم الملوك ندى جعفر ... ولا يصنعون كما يصنع وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفه أوسع وخمدت نار فارس أي مع إيقاد خدامها لها: أي كتب له صاحب فارس: إن بيوت النار خمدت تلك الليلة ولم تخمد قبل ذلك بألف عام. وغاضت أي غارت بحيرة ساوة أي بحيث صارت يابسة كأن لم يكن بها شيء من الماء مع شدة اتساعها: أي كتب له بذلك عامله باليمن، وإلى هذا يشير صاحب الأصل بقوله: لمولده إيوان كسرى تشققت ... مبانيه وانحطت عليه شؤونه لمولده خرت على شرفاته ... فلا شرف للفرس يبقى حصينه لمولده نيران فارس أخمدت ... فنورهم إخماده كان حينه لمولده غاضت بحيرة ساوة ... وأعقب ذاك المدّ جور يشينه كأن لم يكن بالأمس ريا لناهل ... ووردا لعين المستهام معينه وإلى ذلك أيضا يشير صاحب الهمزية رحمه الله بقوله: وتداعى إيوان كسرى ولولا ... آية منك ما تداعى البناء وغدا كل بيت نار وفيه ... كربة من خمودها وبلاء وعيون للفرس غارت فهل كا ... ن لنيرانهم بها إطفاء أي ومن العجائب التي ظهرت ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم انهدام إيوان كسرى أنو شروان الذي كان يجلس به مع أرباب مملكته، وكان من أعاجيب الدنيا سعة وبناء وإحكاما، ولولا وجود علامة صادرة عنك إلى الوجود ما تهدّم هذا البناء العجيب الإحكام. ومن ذلك أيضا أنه صار تلك الليلة كل واحد من بيوت نار فارس التي كانوا يعبدونها خامدة نيرانه والحال أن في ذلك البيت غما وبلاء عظيما من أجل سكون لهب تلك النيران التي كانوا يعبدونها في وقت واحد. ومن ذلك أيضا غور ماء عيون الفرس في الأرض حتى لم يبق منها قطرة. وحينئذ يستفهم توبيخا وتقريعا لهم، فيقال: هل تلك المياه التي غارت كان بها إطفاء لتلك النيران؟ ويقال في جوابه، لا بل إطفاؤها إنما هو لوجود هذا النبي العظيم وظهوره. ورأى الموبذان: أي القاضي الكبير. وفي كلام ابن المحدث، هو خادم النار

الكبير ورئيس حكامهم، وعنه يأخذون مسائل شرائعهم، ورأى في نومه إبلا صعابا تقود خيلا عرابا: أي وهي خلاف البراذين، قد قطعت دجلة، أي وهي نهر بغداد، وانتشرت في بلادها، أي والإبل كناية عن الناس، ورأى كسرى ما هاله وأفزعه أي الذي هو ارتجاس الإيوان وسقوط شرافاته، فلما أصبح تصبر: أي لم يظهر الانزعاج لهذا الأمر الذي رآه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك: أي هذا الأمر الذي هاله وأفزعه عن مرازبته بضم الزاي: أي فرسانه وشجعانه، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيما بعثت إليكم؟ قالوا لا إلا أن يخبرنا الملك، فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النيران، أي وورد عليه كتاب من صاحب إيليا يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة. وورد عليه كتاب صاحب الشام يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة. وورد عليه كتاب صاحب طبرية يخبره أن الماء لم يجر في بحيرة طبرية، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله: أي وهو ارتجاس الإيوان وسقوط شرافاته، فقال الموبذان، فأنا. أصلح الله الملك- قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل، فقال أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب، فابعث إلى عاملك بالحيرة بوجه إليك رجلا من علمائهم، فإنهم أصحاب علم بالحدثان. فكتب كسرى عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد: فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح الغساني: أي وهو معدود من المعمرين، عاش مائة وخمسين سنة فلما ورد عليه قال: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه، قال ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي علم منه، وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بالذي وجه إليه فيه، قال علم ذلك عند خالي يسكن مشارف الشام بالفاء: أي أعاليها: أي وهي الجابية المدينة المعروفة، يقال له سطيح، قال فأته فاسأله عما سألتك عنه، ثم ائتني بتفسيره، فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى أي أشرف على الضريح. أي الموت: أي احتضر، وعمره إذ ذاك ثلاثمائة سنة، وقيل سبعمائة سنة: أي ولم يذكره ابن الجوزي في المعمرين، وكان جسدا ملقى لا جوارح له، وكان لا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب فإنه ينتفخ فيجلس، وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق. وفي كلام غير واحد: لم يكن له عظم سوى عظم رأسه وفي لفظ لم يكن له عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفين، ولم يتحرك منه إلا اللسان، قيل لكونه مخلوقا من ماء امرأة لأن ماء الرجل يكون منه العظم والعصب: أي كما سيأتي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «نطفة الرجل يخلق منها العظم والعصب، ونطفة المرأة يخلق منها اللحم والدم» .

قال صلى الله عليه وسلم ذلك لما سأله اليهود فقالوا له: مم يخلق الولد؟ فلما قال لهم ما ذكر، قالوا له: هكذا كان يقول من قبلك: أي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وفيه أن عيسى عليه الصلاة والسلام على تسليم أنه خلق من نطفة وهي نطفة أمه كان فيه العظم والعصب. فقد قيل: تمثل لها الملك في صفة شاب أمرد حتى انحدرت شهوتها إلى أقصى رحمها، وقيل لم يخلق من نطفة أصلا. وقد صرح بالأول الشيخ محيي الدين ابن العربي رحمه الله حيث قال: أنكر الطبيعيون وجود ولد من ماء أحد الزوجين دون الآخر، وذلك مردود عليهم بعيسى عليه السلام فإنه خلق من ماء أمه فقط، وذلك أن الملك لما تمثل لها بشرا سويا لشدة اللذة بالنظر إليه، فنزل الماء منها إلى الرحم، فتكون عيسى عليه السلام من ذلك الماء المتولد عن النفخ الموجب للذة منها، فهو من ماء أمه فقط هذا كلامه. أي وكون سطيح كان وجهه في صدره لم يختص سطيح بهذا الوصف. فقد رأيت أن عمرا ذا الأذعار إنما قيل له ذلك لأنه سبى أمة وجوهها في صدورها فذعرت الناس منهم وعمرو هذا كان في زمن سليمان بن داود عليهما السلام، وقيل قبله بقليل، وملكت بعده بلقيس بعد قتلها له. وكان لسطيح سرير من الجريد والخوص إذا أريد نقله إلى مكان يطوي من رجليه إلى ترقوته. وفي لفظ إلى جمجمته كما يطوى الثوب، فوضع على ذلك السرير فيذهب إلى حيث يشاء، وإذا أريد استخباره ليخبر عن المغيبات يحرك كما يحرك وطب المخيض: أي سقاء اللبن الذي يخض ليخرج زبده، فينتفخ ويمتلئ ويعلوه النفس، فيسأل فيخبر عما يسأل عنه، وكانت جمجمته إذا لمست أثر اللمس فيها للينها. قيل وهو أول كاهن كان في العرب، وهذا يدل على أنه سابق على شق. وقد تقدم في حفر زمزم أن الكاهنة التي ذهب إليها عبد المطلب وقريش ليتحاكموا عندها تفلت في فم سطيح وفم شق، وذكرت أن سطيحا يخلفها، ومن ثم قال بعضهم: لم يكن أحد أشرف في الكهانة، ولا أعلم بها ولا أبعد فيها صيتا من سطيح وكان في غسان. وذكر بعضهم أن سطيحا كان في زمن نزار بن معد بن عدنان، وهو الذي قسم الميراث بين بني نزار وهم مضر وإخوته، وهو يؤيد ما تقدم من أنه عمر سبعمائة سنة، ثم شق وعبد المسيح، وهؤلاء كانوا رؤوس الكهنة وأهل العلم الغامض منهم بالكهانة: أي وإلا فمنهم أي من أهل العلم الغامض: مسيلمة الكذاب في بني حنيفة،

وسجاح كانت في بني تميم، وسجاح أخرى كانت في بني سعد. والكهانة: هي الإخبار عن الغيب، والكهانة من خواص النفس الإنسانية، لأن لها استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها. فسلم عبد المسيح على سطيح وكلمه، فلم يرد عليه سطيح جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول: أصم أم يسمع غطريف اليمن أي سيدهم إلى آخر أبيات ذكرها، فلما سمع سطيح شعر عبد المسيح رفع رأسه. أقول: قد يقال لا منافاة بين إثبات الرأس هنا، ونفيه في قوله: ولم يكن له رأس، لأنه يجوز أن يكون المراد بالرأس المثبت الوجه، لكن قد تقدم أنه لم يكن له عظم سوى ما في رأسه أو الجمجمة، ففي ذلك إثبات الرأس. وقد يقال: لما كان رأسه وتلك الجمجمة يؤثر فيهما اللمس للينهما لمخالفتهما لرأس غيره ساغ إثبات الرأس له ونفيه عنه والله أعلم. وعند رفع رأسه قال: عبد المسيح، على جمل مشيح: أي سريع إلى سطيح، وقد وافى على الضريح: أي القبر، والمراد به الموت كما تقدم. بعثك ملك ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، أي تلاوة القرآن، وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاما، ولا الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت. ثم قضى سطيح مكانه: أي مات من ساعته. والهراوة بكسر الهاء: وهي العصا الضخمة: أي وهو النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يمسك العصا كثيرا عند مشيه. وكان يمشي بالعصا بين يديه وتغرز له فيصلي إليها التي هي العنزة. وفي الحديث «حمل العصا علامة المؤمن، وسنة الأنبياء» وفي الحديث «من بلغ أربعين سنة ولم يأخذ العصا عدله» أي عدم أخذ العصا «من الكبر والعجب» . وقد يقال: مراد سطيح بالعصا العنزة التي تغرز ويصلي إليها في غير المسجد، لأنه لم يحفظ أن ذلك كان لمن قبله من الأنبياء. وذكر الطبري أن أبرويز بن هرمز جاء له جاء في المنام فقيل له: سلم ما في يدك إلى صاحب الهراوة، فلم يزل مذعورا من ذلك حتى كتب إليه النعمان بظهور النبي صلى الله عليه وسلم بتهامة، فعلم أن الأمر سيصير إليه.

وعند موت سطيح نهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول شعرا منه: شمر فإنك ماضي العزم شمير ... ولا يغرنك تفريق وتغيير والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور فلما قدم عبد المسيح على كسرى وأخبره بما قاله سطيح، قال له كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه: أي فقد ذكر أن آخر من هلك منهم كان في أول خلافة عثمان رضي الله عنه. أي وكانت مدة ملكهم ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وأربعا وستين سنة. ومن ملوك بني ساسان سابورذ والأكتاف، قيل له ذلك، لأنه كان يخلع أكتاف من ظفر به من العرب. ولما جاء لمنازل بني تميم وجدهم فروا منه ومن جيشه، ووجد بها عمير بن تميم وهو ابن ثلاثمائة سنة، وكان معلقا في قفة لعدم قدرته على الجلوس، فأخذ وجيء به إليه، فاستنطقه فوجد عنده أدبا ومعرفة، فقال للملك: أيها الملك لم تفعل فعلك هذا بالعرب؟ فقال: يزعمون أن ملكنا يصير إليهم على يد نبي يبعث في آخر الزمان فقال له عمير: فأين حلم الملوك وعقلهم؟ إن يكن هذا الأمر باطلا فلن يضرك، وإن يكن حقا ألفوك ولم تتخذ عندهم يدا يكافئونك عليها ويعظمونك بها في دولتك، فانصرف سابور وترك تعرضه للعرب، وأحسن إليهم بعد ذلك. وقول سطيح يملك منهم ملوك وملكات، لم أقف على أنه ملك منهم من النساء إلا واحدة وهي بوران ولما بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «لا يفلح قوم ملكتهم امرأة» فملكت سنة ثم هلكت. وذكر ابن إسحق رحمه الله أن أمه صلى الله عليه وسلم لما ولدته أرسلت خلف جده عبد المطلب إنه قد ولد لك غلام فانظر إليه، فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأته، فأخذه عبد المطلب ودخل به الكعبة: أي وقام يدعو الله: أي وأهله يؤمنون ويشكر له ما أعطاه. ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، وقد تقدم الوعد بذلك وتقدم ما فيه. قال وتكلم صلى الله عليه وسلم في المهد في أوائل ولادته. وأول كلام تكلم به أن قال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا اهـ. أقول: وتقدم أنه قال حين ولد: جلال ربي الرفيع، كما أورده السهيلي عن

الواقدي وروي أنه تكلم حين خروجه من بطن أمه، فقال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. ولا مانع من تكرر ذلك حين خروجه وحين وضعه في المهد وأنه زاد في المرة الثالثة وسبحان الله بكرة وأصيلا، وحينئذ يكون تكلمه حين خروجه من بطن أمه لم يشاركه فيه غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا الخليل وإلا نوح كما سيأتي، بخلاف تكلمه في المهد. على أنه سيأتي أنه يجوز أن يكون المراد بالتكلم في المهد التكلم في غير أوان الكلام ويقال: إنه قال ذلك عند فطامه، وتقدم أنه قال: الحمد لله لما عطس على الاحتمال الذي أبداه بعضهم كما تقدم بما فيه. ولا مانع من وجود هذه الأمور الثلاثة التي هي: جلال ربي الرفيع، والله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا حين ولادته، وعلم ترتيبها يتوقف على نقل، وحينئذ تكون الأولية في الواقعة في بعض ذلك إما حقيقية أو إضافية. وقدمنا أن الأولية في قوله جلال ربي الرفيع بالنسبة لقوله: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا إضافية. قال وقد تكلم جماعة في المهد نظمهم الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في قوله: تكلم في المهد النبي محمد ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم وما شطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم اهـ. قال بعضهم لكن هو صلى الله عليه وسلم حصر من تكلم في المهد في ثلاثة ولم يذكر نفسه، أي فقد روي عن أبي هريرة مرفوعا «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وصاحب جريج، وابن المرأة التي مر عليها بامرأة يقال لها إنها زنت» وقد يقال: هذا الحصر إضافي أي ثلاثة من بني إسرائيل، أو أن ذلك كان قبل أن يعلم مما زاد. وذكر أن عيسى عليه الصلاة والسلام تكلم في المهد وهو ابن ليلة. وقيل وهو ابن أربعين يوما أشار بسبابته وقال بصوت رفيع إني عبد الله لما مر بنو إسرائيل على مريم عليها السلام وهي حاملة له صلى الله عليه وسلم وأنكروا عليها ذلك، وأشارت إليهم أن كلموه وضربوا بأيديهم على وجوههم تعجبا وقالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا

[مريم: الآية 29] قال لهم ما قصة الله سبحانه وتعالى، ثم رأيتني في الكلام على قصة الإسراء والمعراج ذكرت ذلك، وأن عيسى تكلم يوم ولادته، قال لابن خال أمه يوسف النجار وقد خرج في طلب أمه وقد خرجت لما أخذها ما يأخذ النساء من الطلق عند الولادة خارج بيت المقدس، وجلست تحت نخلة يابسة، فاخضرت النخلة من ساعتها وتدلت عراجينها وجرت من تحتها عين ماء ووضعته تحتها: أبشر يا يوسف وطب نفسا وقر عينا، فقد أخرجني ربي من ظلمة الأرحام إلى ضوء الدنيا، وسآتي بني إسرائيل وأدعوهم إلى طاعة الله، فانصرف يوسف إلى زكريا عليه الصلاة والسلام وأخبره بولادة مريم وقول ولدها ما ذكر صلى الله عليه وسلم. وفي النطق المفهوم أن عيسى عليه الصلاة والسلام كلم يوسف المذكور وهو في بطن أمه. فقد قيل: إنه أول من علم بحمل مريم عليها السلام، فقال لها مقرعا لها: يا مريم هل تنبت الأرض زرعها من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير فحل؟ فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام وهو في بطن أمه: قم فانطلق إلى صلاتك، واستغفر الله مما وقع في قلبك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام تكلم في المهد ثلاث مرات ثم لم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان عادة: أي ولعل المرة الثالثة هي التي حمد الله فيها بحمد لم تسمع الآذان مثله، فقال: اللهم أنت القريب في علوك المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيء من خلقك، حارت الأبصار دون النظر إليك. ومبري جريج تكلم كذلك أي في بطن أمه، قيل له: من أبوك، فقال الراعي عبد بني فلان، وتكلم بعد خروجه من بطن أمه، فقد تكلم مرتين مرة في بطن أمه ومرة وهو طفل كذا في «النطق المفهوم» ولم أقف على وقت كلامه، ولا على ما تكلم به حينئذ. وأما يحيى عليه الصلاة والسلام فتكلم وهو ابن ثلاث سنين، قال لعيسى: أشهد أنك عبد الله ورسوله. والخليل تكلم وقت ولادته، وسيأتي ما تكلم به، وفي كون ابن ثلاث سنين وفي كون من تكلم وقت ولادته يكون في المهد نظر، إلا أن يكون المراد بالتكلم في المهد التكلم في غير أوان الكلام. ولم أقف على سن من تكلم في المهد حين تكلم غير من ذكر وغير الطفل الذي لذي الأخدود، فإنه لما جيء بأمه لتلقي في نار الأخدود لتكفر وهو معها مرضع: فتقاعست قال لها: يا أماه اصبري فإنك على الحق: قال ابن قتيبة: كان سنه

سبعة أشهر. وفي «النطق المفهوم» أن شاهد يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام كان عمره شهرين وكان ابن داية زليخا. وفي الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بكلام الصبيان في المراضع، وشهادتهم له بالنبوة، ذكر ذلك البدر الدماميني رحمه الله، هذا كلامه، وفيه نظر، لأنه لم يشهد له بالنبوة من هؤلاء إلا مبارك اليمامة حسبما وقفت عليه. ورأيت في الأجوبة المسكتة لابن عون رحمه الله «أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست لم تزل نبيا؟ قال نعم، قالوا: فلم لم تنطق في المهد كما نطق عيسى؟ قال: إن الله خلق عيسى من غير فحل، فلولا أنه نطق في المهد لما كان لمريم عذر وأخذت بما يؤخذ به مثلها، وأنا ولدت بين أبوين» هذا كلامه، وهو يخالف ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تكلم في المهد إلا أن يقال مرادهم لم لم تنطق في المهد بمثل الذي نطق به عيسى، أو أن ذلك منه صلى الله عليه وسلم إرخاء للعنان فليتأمل. ثم رأيت أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما سقط على الأرض استوى قائما على قدميه وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، الحمد لله الذي هدانا لهذا. قال في «النطق المفهوم» ولد بالغار الذي ولد به نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام ويقال لهذا الغار في التوراة غار النور، ويضم لهؤلاء ما ذكره الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله قال: قلت لبنتي زينب مرة وهي في سن الرضاعة قريبا عمرها من سنة ما تقولين في الرجل يجامع حليلته ولم ينزل؟ فقالت يجب عليه الغسل فتعجب الحاضرون من ذلك، ثم إني فارقت تلك البنت وغبت عنها سنة في مكة وكنت أذنت لوالدتها في الحج، فجاءت مع الحج الشامي، فلما خرجت لملاقاتها رأتني من فوق الجمل وهي ترضع، فقالت بصوت فصيح قبل أن تراني أمها هذا أبي، وضحكت وأرمت نفسها إلي. قال: وقد رأيت أي علمت من أجاب أمه بالتشميت وهو في بطنها حين عطست وسمع الحاضرون كلهم صوته من جوفها شهد عندي الثقات بذلك، قال: وهذا واحد يخصه الله بعلمه وهو في بطن أمه ولا يحجبك قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النّحل: الآية 78] لأنه لا يلزم من العالم حضوره مع علمه دائما. وفي «النطق المفهوم» أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه تكلم في بطن أمه فقال: أنا المفقود والمغيب عن وجه أبي زمنا طويلا، فأخبرت أمه والده بذلك، فقال لها: اكتمي أمرك.

باب: تسميته صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمدا

وفيه أن نوحا عليه الصلاة والسلام تكلم عقب ولادته، فإن أمه ولدته في غار خوفا على نفسها وعليه فلما وضعته وأرادت الانصراف قالت وانوحاه، فقال لها لا تخافي أحدا علي يا أماه، فإن الذي خلقني يحفظني. وفيه أن أم موسى عليه الصلاة والسلام لما وضعت موسى استوى قاعدا وقال: يا أماه لا تخافي، أي من فرعون، إن الله معنا. ومبارك اليمامة قال بعض الصحابة، دخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت فيها عجبا: جاءه رجل بصبي يوم ولد وقد لفه في خرقة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، يا غلام من أنا؟ قال الغلام بلسان طلق: أنت رسول الله، قال صدقت بارك الله فيك. ثم إن الغلام لم يتكلم بشيء فكنا نسميه مبارك اليمامة. وكانت هذه القصة في حجة الوداع، وكان صلى الله عليه وسلم يناغي القمر وهو في مهده: أي يحدثه يقال ناغت المرأة الصبي إذا كلمته بما يسره ويعجبه، وعد ذلك من خصائصه. ففي حديث فيه مجهول، وقيل فيه إنه غريب المتن والإسناد، عن عمه العباس رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك إشارة أي علامة نبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر: أي تحدثه، فتشير إليه بأصبعك، فحيثما أشرت إليه مال قال: كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته: أي سقطته حين يسجد تحت العرش أي ولم أقف على سنه صلى الله عليه وسلم حين ذلك، وكان مهده صلى الله عليه وسلم يتحرك بتحريك الملائكة، وعده ابن سميع رحمه الله تعالى من خصائصه. باب: تسميته صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمدا لا يخفى أن جميع أسمائه صلى الله عليه وسلم مشتقة من صفات قامت به توجب له المدح والكمال، فله من كل وصف اسم. قال: وكما أن الله عزّ وجل ألف اسم للنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم. عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الباقر، من بقر العلم، أتقنه قال: أمرت آمنة أي في المنام وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه أحمد وعن ابن إسحق رحمه الله أن تسميه محمد وقد تقدم قال: والثاني هو المشهور في الروايات أي وعلى الأول اقتصر الحافظ الدمياطي رحمه الله. والمسمي له بمحمد جده عبد المطلب. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عقّ عنه: أي يوم سابع ولادته جده بكبش وسماه محمدا؟ فقيل له: يا أبا الحرث ما حملك على أن تسميه محمدا ولم تسمه باسم آبائه. وفي لفظ: وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وتحمده الناس في الأرض» اهـ.

أقول: وهذا هو الموافق لما اشتهر أن جده سماه محمدا بإلهام من الله تعالى تفاؤلا بأن يكثر حمد الخلق له، لكثرة خصاله الحميدة التي يحمد عليها، ولذلك كان أبلغ من محمود وإلى ذلك يشير حسان رضي الله عنه بقول: فشق له من اسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد وهذا الإلهام لا ينافي أن تكون أمه قالت له إنها أمرت أن تسميه بذلك، وقد حقق الله رجاءه بأنه صلى الله عليه وسلم تكاملت فيه الخصال المحمودة والخلال المحبوبة فتكاملت له صلى الله عليه وسلم المحبة من الخالق والخليقة، فظهر معنى اسمه على الحقيقة. وفي الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم باشتقاق اسمه من اسم الله تعالى وبأنه صلى الله عليه وسلم سمي أحمد ولم يسم به أحد قبله، ولإفادته الكثرة في معناه، لأنه لا يقال إلا لمن حمد المرة بعد المرة، لما يوجد فيه من المحاسن والمناقب. ادّعى بعضهم أنه من صيغ المبالغة: أي الصيغ المفيدة للمبالغة بالمعنى المذكور استعمالا لا وضعا لأن الصيغ الموضوعة لإفادة المبالغة منحصرة في الصيغ الخمسة وليس هذا منها. وهذا السياق يدل على أن تسميته صلى الله عليه وسلم بذلك كانت في يوم العقيقة، وأن العقيقة كانت في اليوم السابع من ولادته، وتقدم: ولد الليلة لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا، وهو يدل على أن تسميته صلى الله عليه وسلم بذلك كانت في ليلة ولادته أو يومها. وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون قوله هنا: وسماه محمدا، معناه أظهر تسميته بذلك لعموم الناس، وهذا التعليل للتسمية بهذا الاسم يرشد إلى ما قيل: اقتضت الحكمة أن يكون بين الاسم والمسمى تناسب في الحسن والقبح واللطافة والكثافة، ومن ثم غير صلى الله عليه وسلم الاسم القبيح بالحسن وهو كثير، وربما غير الاسم الحسن بالقبيح للمعنى المذكور كتسميته لأبي الحكم بأبي جهل، وتسميته لأبي عامر الراهب بالفاسق. وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه ادع لي إنسانا يحلب ناقتي، فجاءه بإنسان، فقال له ما اسمك؟ فقال له حرب، فقال اذهب. فجاءه بآخر فقال: ما اسمك؟ فقال يعيش، فقال احلبها» . ويروى «أنه صلى الله عليه وسلم طلب شخصا يحفر له بئرا، فجاءه رجل، فقال له ما اسمك؟ قال مرة، فال اذهب» وليس هذا من الطيرة التي كرهها ونهى عنها، وإنما هو من كراهة الاسم القبيح، ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم يكتب لامرائه «إذا أبردتم لي بريدا فأبردوه» أي إذا أرسلتم لي رسولا فأرسلوه «حسن الاسم حسن الوجه» ومن ثم لما قال له سيدنا عمر رضي الله عنه لما قال لمن أراد أن يحلب له ناقته أو يحفر له البئر ما تقدم «لا

أدري أقول أم أسكت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل، قال: قد كنت نهيتنا عن التطير، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما تطيرت ولكن آثرت الاسم الحسن» وللجلال السيوطي كتاب فيمن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، ولم أقف عليه. ورأيت في كلام بعضهم «أن حزن بن أبي وهب أسلم يوم الفتح وهو جد سعيد ابن المسيب أراد النبي صلى الله عليه وسلم تغيير اسمه وتسميته سهلا فامتنع وقال لا أغير اسما سمانيه أبواي، قال سعيد: فلم تزل الحزونة فينا» والله أعلم. أي وفي حديث «أنه صلى الله عليه وسلم عقّ عن نفسه بعد ما جاءته النبوة» قال الإمام أحمد، هذا منكر: أي حديث منكر، والحديث المنكر من أقسام الضعيف لا أنه باطل كما قد يتوهم، والحافظ السيوطي لم يتعرض لذلك وجعله أصلا لعمل المولد، قال لأن العقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن هذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهارا للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين، وتشريعا لأمته، كما كان يصلي على نفسه لذلك. قال: فيستحب لنا إظهار الشكر بمولده صلى الله عليه وسلم هذا كلامه. ويروى أن عبد المطلب إنما سماه محمدا لرؤيا رآها: أي في منامه، رأى كأن سلسلة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق وأهل المغرب يتعلقون بها فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه، يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه محمدا: أي مع ما حدثته به أمه بما رأته على ما تقدم. وعن أبي نعيم عن عبد المطلب قال: بينما أنا نائم في الحجر، إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش، فلما نظرت إليّ عرفت في وجهي التغير فقالت: ما بال سيدهم قد أتى متغير اللون؟ هل رابه من حدثان الدهر شيء؟ فقلت لها بلى، فقلت لها، إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها، ورأيت العرب والعجم ساجدين لها وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم، ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا فلم أنله، فانتبهت مذعورا فزعا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك، ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب، وتدين له الناس، وعند ذلك قال عبد المطلب لابنه أبي طالب: لعلك أن تكون هذا المولود، فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعد ما ولد صلى الله عليه وسلم ويقول: كانت الشجرة هي محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي الإمتاع: لما مات قثم بن عبد المطلب قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين وهو ابن تسع سنين وجد عليه وجدا شديدا، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه قثم حتى أخبرته أمه آمنة أنها أمرت في منامها أن تسميه محمدا، فسماه محمدا: أي ولا مخالفة بين هذه الروايات على تقدير صحتها كما لا يخفى، لأنه يجوز أن يكون نسي تلك الرؤية ثم تذكرها، ويكون معنى سؤاله: ما حملك على أن تسميه محمدا وليس من أسماء قومك؟ أي لم استقر أمرك على أن تسميه محمدا؟ وذكر بعضهم أنه لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم: يعني محمدا قبله إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين وفدوا على بعض الملوك وكان عنده علم من الكتاب الأول، وأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم: أي بالحجاز وبقرب زمنه وباسمه المذكور الذي هو محمد، وهو يدل على أن اسمه في بعض الكتب القديمة محمد، وكان كل واحد منهم قد خلف زوجته حاملا فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا، ففعلوا ذلك. وفي الشفاء أن في هذين الاسمين محمد وأحمد من بدائع آياته: أي المصطفى وعجائب خصائصه أن الله تعالى حماهما عن أن يسمى بهما أحد قبل زمانه: أي قبل شيوع وجوده. أما أحمد الذي أتى في الكتب القديمة وبشرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمنع الله تعالى بحكمته أن يتسمى به أحد غيره، ولا يدعى به مدعو قبله منذ خلقت الدنيا وفي حياته. زاد الزين العراقي: ولا في زمن أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى لا يدخل لبس أو شك على ضعيف القلب: أي فالتسمية به من خصائصه صلى الله عليه وسلم على جميع الناس ممن تقدمه، خلافا لما يوهمه كلام الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أنه من خصائصه على الأنبياء فقط. ومن ثم ذهب بعضهم إلى أفضليته على محمد. وقال الصلاح الصفدي: إنّ أحمد أبلغ من محمد، كما أن أحمر وأصفر أبلغ من محمر ومصفر، ولعله لكونه منقولا عن أفعل التفضيل، لأنه صلى الله عليه وسلم أحمد الحامدين لرب العالمين، لأنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم تفتح على أحد قبله. وفي الهدى: لو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه لكان الأولى أن يسمى الحماد كما سميت بذلك أمته، وأما هذا فهو الذي يحمده أهل السماء والأرض وأهل الدنيا والآخرة، لكثرة خصاله المحمودة التي تزيد على عد العادين وإحصاء المحصين: أي أحق الناس وأولاهم بأن يحمد، فهو كمحمد في المعنى، فهو مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول لا الواقع من الفاعل. وحينئذ فالفرق بين محمد وأحمد أن محمدا من كثر حمد الناس له، وأحمد من يكون حمد الناس له أفضل من حمد غيره، وسيأتي عن الشفاء أنه أحمد المحمودين، وأحمد الحامدين، فيجوز أن

يكون أحمد مأخوذا من الفعل الواقع عن المفعول، كما يجوز أن يكون مأخوذا من الفعل الواقع من الفاعل. وفي كلام السهيلي: ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان قبل أحمد، فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، وأطال في بيان ذلك. وفي كلام بعض فقهائنا معاشر الشافعية: أنه ليس في أحمد من التعظيم ما في محمد، لأنه أشهر أسمائه الشريفة وأفضلها فلذلك لا يكفي الإتيان به في التشهد بدل محمد. وقد جاء «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» قال بعضهم: وعبد الله أحب من عبد الرحمن لإضافة العبد إلى الله المختص به تعالى اتفاقا والرحمن مختص به على الأصح ومن ثم سمى نبينا صلى الله عليه وسلم في القرآن بعبد الله في قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: الآية 19] وعلى ما ذكر هنا يكون بعد عبد الرحمن المذكور في القرآن في قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الفرقان: الآية 63] أحمد ثم محمد: أي وبعدهما إبراهيم خلافا لمن جعله بعد عبد الرحمن. وذكر بعضهم أن أول من تسمى بأحمد بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ولد لجعفر بن أبي طالب، وعليه يشكل ما تقدم عن الزين العراقي. وقيل والد الخليل: أي ولعل المراد به الخليل بن أحمد صاحب العروض. ثم رأيت الزين العراقي صرح بذلك حيث قال: وأول من تسمى في الإسلام أحمد والد الخليل بن أحمد العروضي. ويشكل على ذلك وعلى قوله لم يسمّ به أحد في زمن الصحابة تسمية ولد جعفر بن أبي طالب بذلك، إلا أن يقال لم يصح ذلك عند العراقي، أو يقال مراد العراقي أصحابه الذين تخلفوا عنه بعد وفاته، فلا يرد جعفر لأنه مات في حياته صلى الله عليه وسلم وهو خامس خمسة كل يسمي الخليل بن أحمد، وزاد بعضهم سادسا، وكذلك محمد أيضا لم يتسم به أحد قبل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده إلا بعد أن شاع أن نبيا يبعث اسمه محمد بالحجاز وقرب زمنه، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك، وحمى الله تعالى هؤلاء أن يدّعي أحد منهم النبوة أو يدعيها أحد له، أو يظهر عليه شيء من سماتها، أي علاماتها حتى تحققت له صلى الله عليه وسلم. وفي دعوى أن الذي في الكتب القديمة إنما هو أحمد مخالفة لما سبق، وما يأتي عن التوراة والإنجيل: أي فالمراد بالكتب القديمة غالبها، فلا ينافي أن في بعضها اسمه محمد، وفي بعضها اسمه أحمد، وفي بعضها الجمع بين محمد وأحمد. قال بعضهم: سمعت محمد بن عدي وقد قيل له: كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا؟ قال: سألت أبي، أي عما سألتني عنه، قال: خرجت رابع أربعة من تميم نريد الشام، فنزلنا عند غدير عند دير، فأشرف علينا الديراني وقال: إن هذه

للغة قوم ما هي لغة أهل هذه البلد، فقلنا له: نحن قوم من مضر، فقال: من أيّ المضائر؟ فقلنا: من خندف، فقال لنا: إن الله سيبعث فيكم نبيا وشيكا: أي سريعا فسارعوا إليه، وخذوا حظكم ترشدوا، فإنه خاتم النبيين، فقلنا له: ما اسمه؟ قال محمد، ثم دخل ديره، فو الله ما بقي أحد منا إلا زرع قوله في قلبه، فأضمر كل واحد منا إن رزقه الله غلاما سماه محمدا، رغبة فيما قاله: أي فنذر كل واحد منا ذلك، فلا يخالف ما سبق. قال: فلما انصرفنا ولد لكل واحد منا غلام فسماه محمدا رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. أقول: يجوز أن يكون هؤلاء الأربعة منهم الثلاثة الذين وفدوا على بعض الملوك. وحينئذ تكرر لهم هذا القول من الملك ومن صاحب الدير، وإضمار ذلك لا ينافي نذره المتقدم، فالمراد باضماره نذره كما قدمناه. ويجوز أن يكونوا غيرهم فيكونوا سبعة. وذكر ابن ظفر أن سفيان بن مجاشع نزل على حيّ من تميم فوجدهم مجتمعين على كاهنتهم وهي تقول: العزيز من والاه، والذليل من خالاه، فقال لها سفيان: من تذكرين لله أبوك؟ فقالت: صاحب هدى وعلم وحرب وسلم، فقال سفيان: من هو لله أبوك؟ فقالت نبي مؤيد، قد آن حين يوجد، ودنا أوان يولد، يبعث للأحمر والأسود اسمه محمد، فقال سفيان: أعربي أم عجمي؟ فقالت: أما والسماء ذات العنان والشجر ذوات الأفنان، إنه لمن معدّ بن عدنان، حسبك فقد أكثرت يا سفيان، فأمسك عن سؤالها ومضى إلى أهله وكانت امرأته حاملا فولدت له ولدا فسماه محمدا، رجاء منه أن يكون هو النبي الموصوف، والله أعلم. وقد عدّ بعضهم ممن سمي بمحمد ستة عشر، ونظمهم في قوله: إن الذين سموا باسم محمد ... من قبل خير الخلق ضعف ثمان ابن البراء مجاشع بن ربيعة ... ثم ابن مسلم يحمدي حرماني ليثي السليمي وابن أسامة ... سعدي وابن سواءة همداني وابن الجلاح مع الأسيدي يا فتى ... ثم الفقيمي هكذا الحمراني قال بعضهم: وفاته آخران لم يذكرهما، وهما: محمد بن الحارث، ومحمد بن عمر بن مغفل بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام. ووقع النزاع الكثير والخلاف الشهير في أوّل من سمي بذلك الاسم منهم. أقول: وفي شرح الكفاية لابن الهائم. ويمكن أن يكون من زاد على أولئك الأربعة أو السبعة سمع ذلك من بعضهم فاقتدى به في ذلك، طمعا فيما طمع فيه. ومثل ذلك وقع لبني إسرائيل، فإن يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما حضرته

الوفاة أعلم بني إسرائيل بحضور أجله، وكان أول أنبيائهم، فقالوا له: يا نبي الله إنا نحب أن تعلمنا بما يؤول إليه أمرنا بعد خروجك من بين أظهرنا في أمر ديننا فقال لهم: إن أموركم لم تزل مستقيمة حتى يظهر فيكم رجل جبار من القبط، يدعي الربوبية، يذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم، ثم يخرج من بني إسرائيل رجل اسمه موسى بن عمران فينجيكم الله به من أيدي القبط، فجعل كل واحد من بني إسرائيل إذا جاء له ولد يسميه عمران رجاء أن يكون ذلك النبي منه. ولا يخفى أن بين عمران أبي موسى وعمران أبي مريم أم عيسى. وهو آخر أنبياء بني إسرائيل- ألف وثمانمائة سنة، والله أعلم. والذي أدرك الإسلام ممن تسمى باسمه عليه الصلاة والسلام محمد بن ربيعة ومحمد بن الحارث، ومحمد بن مسلمة. وادعى بعضهم أن محمد بن مسلمة ولد بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من خمسة عشر سنة. أي وقد ذكر ابن الجوزي أن أول من تسمى في الإسلام بمحمد محمد بن حاطب. وعن ابن عباس «اسمي في القرآن أي كالتوراة محمد، وفي الإنجيل أحمد» . وأما فضل التسمية بهذا الاسم: أعني محمدا، فقد جاء في أحاديث كثيرة، وأخبار شهيرة: أي منها أنه صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا أعذب أحدا تسمى باسمك في النار» أي باسمك المشهور وهو محمد أو أحمد. ومنها «ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد» أي وفي رواية: «فيها اسمي إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين» ومنها قال: «يوقف عبدان أي اسم أحدهما أحمد والآخر محمد بين يدي الله تعالى فيؤمر بهما إلى الجنة، فيقولان ربنا بما استأهلنا الجنة ولم نعمل عملا تجازينا به الجنة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة، فإني آليت على نفسي أن لا يدخل النار من اسمه أحمد أو محمد» لكن قال بعضهم: ولم يصح في فضل التسمية بمحمد حديث، وكل ما ورد فيه فهو موضوع، قال بعض الحفاظ: وأصحها أي أقربها للصحة «من ولد له مولود فسماه محمدا حبا لي وتبركا باسمي كان هو ومولوده في الجنة» . وعن أبي رافع عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سميتموه محمدا فلا تضربوه ولا تحرموه» وفي رواية طعن فيها بأن بعض رواتها متهم بالوضع «فلا تسبوه، ولا تجبهوه، ولا تعنفوه، وشرّفوه، وعظموه، وأكرموه، وبروا قسمه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجها، بورك في محمد، وفي بيت فيه محمد، وفي مجلس فيه محمد» وفي رواية «تسمونه محمدا ثم تسبونه» وفي رواية طعن فيها «أما يستحي أحدكم أن يقول يا محمد ثم يضربه» وعن ابن عباس رضي الله

تعالى عنهما «من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمدا فقد جهل» أي وفي رواية «فهو من الجفاء» وفي أخرى «فقد جفاني» . وذكر بعضهم وإن لم يرد في المرفوع «من أراد أن يكون حمل زوجته ذكرا فليضع يده على بطنها وليقل إن كان هذا الحمل ذكرا فقد سميته محمدا فإنه يكون ذكرا» . وجاء عن عطاء قال: «ما سمي مولود في بطن أمه محمدا إلا كان ذكرا» قال ابن الجوزي في الموضوعات: وقد رفع هذا بعضهم: أي وروي «ما اجتمع قوم قط في مشورة فيهم رجل اسمه محمد لم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك فيه» أي في الأمر الذي اجتمعوا له، وفي رواية: «فيهم رجل اسمه محمد أو أحمد فشاوروه إلا خير لهم: أي إلا حصل لهم الخير فيما تشاوروا فيه: «وما كان اسم محمد في بيت إلا جعل الله في ذلك البيت بركة» واتهم راوي ذلك بأنه مجروح. وروي «ما قعد قوم قط على طعام حلال فيهم رجل اسمه اسمي إلا تضاعفت فيهم البركة» أي اسمه المشهور وهو أحمد أو محمد كما تقدم. وفي الشفاء: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض عبادتهم» أي بالباء الموحدة «كل دار فيها اسم محمد» أي حراسة أهل كل دار فيها اسم محمد. وقد ذكر الحافظ السيوطي أن هذا الحديث غير ثابت. وعن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما قال: «من كان له حمل فنوى أن يسميه محمدا حوّله الله تعالى ذكرا وإن كان أنثى» قال بعض رواة الحديث فنويت سبعة كلهم سميتهم محمدا. وعنه صلى الله عليه وسلم «من كان له ذو بطن فأجمع أن يسميه محمدا رزقه الله تعالى غلاما» . وشكت إليه صلى الله عليه وسلم امرأة بأنها لا يعيش لها ولد، فقال لها: «اجعلي لله عليك أن تسميه- أي الولد الذي ترزقينه- محمدا، ففعلت فعاش ولدها» . وعن علي رضي الله تعالى عنه مرفوعا «ليس أحد من أهل الجنة إلا يدعى باسمه- أي ولا يكنى- إلا آدم صلى الله عليه وسلم فإنه يدعى أبا محمد تعظيما له وتوقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم» أي لأن العرب إذا عظمت إنسانا كنته، ويكنى الإنسان بأجلّ ولده قاله الحافظ الدمياطي. وفي رواية «ليس أحد- أي من أهل الجنة- يكنى إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد» أي وفي حديث معضل «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يا محمد قم فادخل الجنة بغير حساب، فيقوم كل من اسمه محمد يتوهم أن النداء له، فلكرامة محمد صلى الله عليه وسلم لا يمنعون» . وفي الحلية لأبي نعيم عن وهب بن منبه قال: كان رجل عصى الله مائة سنة-

أي في بني إسرائيل- ثم مات فأخذوه وألقوه في مزبلة، فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن أخرجه فصل عليه، قال: يا رب إن بني إسرائيل شهدوا أنه عصاك مائة سنة، فأوحى الله إليه: هكذا، إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم محمد قبله ووضعه على عينيه، فشكرت له ذلك وغفرت له وزوجته سعبين حوراء» . ومن الفوائد أنه جرت عادة كثير من الناس إذا سمعوا بذكر وضعه صلى الله عليه وسلم أن يقوموا تعظيما له صلى الله عليه وسلم، وهذا القيام بدعة لا أصل لها: أي لكن هي بدعة حسنة، لأنه ليس كل بدعة مذمومة. وقد قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في اجتماع الناس لصلاة التراويح: نعمت البدعة. وقد قال العز بن عبد السلام: إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة، وذكر من أمثلة كل ما يطول ذكره. ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا. أي شرعنا- ما ليس منه فهو رد عليه» لأن هذا عام أريد به خاص. فقد قال: إمامنا الشافعي قدس الله سره: ما أحدث وخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهو البدعة الضلالة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئا من ذلك فهو البدعة المحمودة. وقد وجد القيام عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم من عالم الأمة ومقتدي الأئمة دينا وورعا الإمام تقي الدين السبكي، وتابعه على ذلك مشايخ الإسلام في عصره، فقد حكى بعضهم أن الإمام السبكي اجتمع عنده جمع كثير من علماء عصره فأنشد منشد قول الصرصري في مدحه صلى الله عليه وسلم: قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب ... على ورق من خط أحسن من كتب وأن تنهض الأشراف عند سماعه ... قياما صفوفا أو جثيا على الركب فعند ذلك قام الإمام السبكي رحمه الله وجميع من في المجلس، فحصل أنس كبير بذلك المجلس، ويكفي مثل ذلك في الاقتداء. وقد قال ابن حجر الهيتمي: والحاصل أن البدعة الحسنة متفق على ندبها، وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة، ومن ثم قال الإمام أبو شامة شيخ الإمام النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكر الله على ما منّ به من إيجاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين، هذا كلامه. قال السخاوي: لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة، وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد، ويتصدقون

باب ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما اتصل به

في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. قال ابن الجوزي: من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام. وأول من أحدثه من الملوك صاحب أربل وصنف له ابن دحية كتابا في المولد سماه «التنوير بمولد البشير النذير» فأجازه بألف دينار، وقد استخرج له الحافظ ابن حجر أصلا من السنة، وكذا الحافظ السيوطي، وردا على الفاكهاني المالكي في قوله إن عمل المولود بدعة مذمومة. باب ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما اتصل به يقال إنه صلى الله عليه وسلم ارتضع من ثمانية من النساء، وقيل من عشرة بزيادة: خولة بنت المنذر، وأم أيمن عزيزة قالت: أول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثويبة: أي بعد إرضاع أمه له كما سيأتي، قال: وثويبة هي جارية عمه أبي لهب، وقد أعتقها حين بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم: أي فإنها قالت له: أما شعرت أن آمنة ولدت ولدا. وفي لفظ غلاما لأخيك عبد الله، فقال لها: أنت حرة، فجوزي بتخفيف العذاب عنه يوم الاثنين، بأن يسقى ماء في جهنم في تلك الليلة: أي ليلة الاثنين، في مثل النقرة التي بين السبابة والإبهام اهـ: أي أن سبب تخفيف العذاب عنه يوم الاثنين ما يسقاه تلك الليلة في تلك النقرة. ويذكر أن بعض أهل أبي لهب: أي وهو أخوه العباس رضي الله تعالى عنه رآه في النوم في حالة سيئة، فعن العباس رضي الله تعالى عنه قال: مكثت حولا بعد موت أبي لهب لا أراه في نوم، ثم رأيته في شرّ حال: فقلت له: ماذا لقيت. فقال له أبو لهب: لم أذق بعدكم رخاء. وفي لفظ: فقال له بشر خيبة، بفتح الخاء المعجمة، وقيل بكسر الخاء: وهي سوء الحال، غير أني سقيت في هذه وأشار إلى النقرة المذكورة بعتاقتي ثويبة، ذكره الحافظ الدمياطي. والذي في المواهب: وقد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم: فقيل له: ما حالك؟ فقال في النار، إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمصّ من بين أصبعيّ هاتين ماء، وأشار برأس أصبعيه، وأن ذلك بإعتاقي لثوبية عند ما بشرتين بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له فليتأمل. وقيل إنه إنما أعتقها لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: أي فإن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت تكرمها وطلبت من أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب.

أقول: قد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون لما أعتقها لم يظهر عتقها وإباؤه بيعها لكونها كانت معتوقة ثم أظهر عتقها بعد الهجرة والله أعلم. وإرضاعها له صلى الله عليه وسلم كان أياما قلائل قبل أن تقدم حليمة، وكان بلبن ابن لها يقال له مسروح، وهو بضم الميم وسين مهملة ساكنة ثم راء مضمومة ثم حاء مهملة، كذا في النور. وفي السيرة الشامية بفتح الميم، وكانت قد أرضعت قبله أبا سفيان ابن عمه صلى الله عليه وسلم الحارث. وفي كلام بعضهم كان تربا له صلى الله عليه وسلم، وكان يشبهه، وكان يألفه إلفا شديدا قبل النبوة فلما بعث صلى الله عليه وسلم عاداه وهجره وهجا أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فإنه كان شاعرا مجيدا وسيأتي إسلامه رضي الله تعالى عنه عند توجهه صلى الله عليه وسلم لفتح مكة وأرضعت ثويبة رضي الله تعالى عنها قبلهما عمه صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان أسنّ منه صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل بأربع سنين. أقول: هذا يخالف ما تقدم من أن عبد المطلب تزوج من بني زهرة هالة وأتى منها بحمزة، وأن عبد الله تزوج من بني زهرة آمنة وذلك في مجلس واحد، وأن آمنة حملت برسول صلى الله عليه وسلم عند دخول عبد الله بها، وأنه دخل بها حين أملك عليها فكيف يكون حمزة أسنّ منه صلى الله عليه وسلم بسنتين، إلا أن يقال ليس فيما تقدم تصريح بأن عبد المطلب وعبد الله دخلا على زوجتيهما في وقت واحد. وعبارة السهيلي: هالة بنت وهيب عبد بن مناف بن زهرة عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عبد المطلب، وتزوج ابنه عبد الله آمنة في ساعة واحدة، فولدت هالة لعبد المطلب حمزة، وولدت آمنة لعبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أرضعتهما ثويبة، هذا كلامه، وليس فيه كقول «أسد الغابة» المتقدم أن عبد المطلب تزوج هو وعبد الله في مجلس واحد تصريح بأنهما دخلا بزوجتيهما في وقت واحد، لإمكان حمل التزوج على الخطبة المصرح بها فيما تقدم عن ابن المحدث: أن عبد المطلب خطب هالة في مجلس خطبة عبد الله لآمنة، والله أعلم. ثم رأيت في الاستيعاب قال: كان أي حمزة أسنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع سنين، وهذا لا يصح عندي لأن الحديث الثابت أن حمزة أرضعته ثويبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين، هذا لفظه، وفيه ما علمت، وفيه أيضا على تسليم أنها أرضعتهما في زمانين، لكن بلبن ابنها مسروح كما سيأتي. ويبعد بقاء لبن ابنها مسروح أربع سنين ثم أرضعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الجواب عنه. وأرضعت ثويبة رضي الله تعالى عنها بعده صلى الله عليه وسلم أبا سلمة بن عبد الأسد أي ابن عمته الذي كان زوجا لأم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.

فقد أرضعت ثويبة حمزة ثم أبا سفيان ابن عمه الحارث ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبا سلمة، وهو مخالف بظاهره لقول المحب الطبري. وأرضعته ثويبة جارية أبي لهب وأرضعت معه حمزة بن عبد المطلب وأبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد بلبن ابنها مسروح، هذا كلامه، وفيه ما علمت. وقد يجاب بأنه ممكن بأن تكون لم تحمل على ولدها مسروح في المدة المذكورة فاستمر لبنها. وأيضا هي أرضعت بين حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه أبا سفيان الحارث كما علمت. وذكر بعضهم أن أبا سلمة أول من يدعى للحساب اليسير، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا، فعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال: «لا تصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف عليّ خيرا منها إلا فعل به» قال الترمذي حسن غريب. ويدل لكون أبي سلمة أخاه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ما جاء عن أم حبيبة قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: هل لك في أختي بنت أبي سفيان» أي وهي عزة بعين مهملة ثم زاي: أي وفي رواية «هل لك في أختي حمنة بنت أبي سفيان» والذي في مسلم «انكح أختي عزة» أي وفي البخاري «أنكح أختي بنت أبي سفيان، قال: أو تحبين ذلك؟ قالت نعم، لست لك بمخلية» بضم الميم وسكون الخاء وكسر اللام وبالتحتية: أي لست لك بتاركة عدم أخذها، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن ذلك لا يحل لي، قالت: فو الله إني أنبئت» أي وفي لفظ «إنا لنتحدث أنك تخطب درة» أي وفي لفظ «تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة» أي بضم الدال المهملة، وأما ضبطه بفتح الذال المعجمة قال بعضهم: هو تصحيف لا شك فيه، تعني بدرة بنتها من أبي سلمة «قال: ابنة أبي سلمة؟ قلت نعم، فقال: والله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة: أرضعتني وإياه ثويبة» أي وفي رواية «لولا أني لم أنكح أم سلمة يعني أم حبيبة التي هي أمها لم تحل لي، إن أباها أخي من الرضاعة» أي وأختك على فرض أن لا تكون بنت أخي من الرضاعة لا يحل لي أن أجمعها معك «فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن» قيل وفي هذا: أي وفي قوله «لو لم تكن ربيبتي في حجري» وفي قوله: تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النّساء: الآية 23] حجة لداود الظاهري أن الربيبة لا تحرم إلا إذا كانت في حجر زوج أمها، فإن لم تكن في حجره فهي حلال له: أي وقيل لها ربيبة لأنها مأخوذة من الرب وهو الإصلاح، لأن زوج أمها يقوم بإصلاح أحوالها. قال: ولك

أن تقول: كان الظاهر الاقتصار على الأخوات، لأن أم حبيبة هي التي عرضت أختها ولم تعرض بنتها التي هي درة. وقد يجاب بأنه صلى الله عليه وسلم جعل خطاب أم حبيبة خطابا لجميع زوجاته صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الحكم لا يختص بواحدة دون أخرى اهـ. أقول: فيه أن هذا واضح لو كان في زوجاته صلى الله عليه وسلم من عرض عليه بنته، إلا أن يقال المراد فلا تعرضن لا ينبغي لكن أن تعرضن، وذلك لا يستلزم وقوع العرض بالفعل. ثم رأيت الإمام النووي رحمه الله ذكر أن هذا من أم حبيبة: أي من عرض أختها محمول على أنها لم تكن تعلم تحريم الجمع بين الأختين عليه صلى الله عليه وسلم. قال: وكذا لم تعلم من عرض بنت أم سلمة تحريم الربيبة، هذا كلامه، وهو يقتضي أن بعض الناس عرض عليه بنت أم سلمة. وإذا كان من عرضها عليه إحدى نسائه اتجه قوله: «فلا تعرضن عليّ بناتكن» تأمل. وبهذا الحديث استدل من قال: إنه لا يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وأختها، وهو الراجح من وجهين. ومقابله يقول: خص بجواز ذلك له، ولا يجمع بين المرأة وبنتها، خلافا لوجه حكاه الرافعي، وهذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لو لم أنكح أم سلمة لم تحل لي» يردّ هذا الوجه. وعبارة الخصائص الصغرى: وله صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وأختها وعمتها وخالتها في أحد الوجهين، وبين المرأة وابنتها في وجه حكاه الرافعي وتبعه في الروضة. وجزموا بأنه غلط، والله أعلم. ومما يدل أيضا على أن عمه صلى الله عليه وسلم حمزة أخوه من الرضاعة ما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه قال: «قلت: يا رسول الله ما لك لا تتوّق في قريش» أي بمثناتين فوق مفتوحتين ثم واو مشددة ثم قاف: أي لا تتشوق إليهم، مأخوذ من التوق الذي هو الشوق. وفي رواية بالتاء والنون: أي لا تختار ولا تتزوج منهم. قال: أو عندك؟ قلت نعم ابنة حمزة: أي عمه، وهي أمامة وهي أحسن فتاة في قريش، قال: «تلك ابنة أخي من الرضاعة» أي وهذا، من عليّ رضي الله تعالى عنه محمول على أنه لم يكن يعلم بتحريم بنت الأخ من الرضاعة عليه صلى الله عليه وسلم، أو أنه لم يكن يعلم أن عمه حمزة أخ له صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. وفيه أنه جاء رواية «أليس قد علمت أنه أخي من الرضاعة، وأن الله قد حرم من الرضاعة ما حرم من النسب» إلا أن يراد بقوله: «قد علمت» أي أعلم. قال:

ولعله لم يقل أرضعتني وإياه ثويبة كما قال ذلك في أبي سلمة، لأن ثويبة أرضعت حمزة، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبا سلمة لأن حمزة رضيعه أيضا من امرأة من بني سعد غير حليمة، كان حمزة رضي الله تعالى عنه مسترضعا عندها في بني سعد، أرضعته صلى الله عليه وسلم يوما وهي عند حليمة: أي فهو رضيعه صلى الله عليه وسلم من جهة ثويبة، ومن جهة تلك المرأة السعدية، ولم أقف على اسم تلك المرأة اهـ: أي ولو اقتصر على ثويبة لأوهم أنه لم يرتضع معه على غيرها. وذكر في الأصل أن بعضهم ذكر من مراضعه صلى الله عليه وسلم خولة بنت المنذر. أقول: وتقدم ذلك، ونسب هذا البعض في ذلك للوهم، وأن خولة بنت المنذر التي هي أم بردة إنما كانت مرضعة لولده إبراهيم. وقد يجاب عنه بأنه يجوز أن تكون خولة بنت المنذر اثنتان: واحدة أرضعته صلى الله عليه وسلم، وواحدة أرضعت ولده إبراهيم، وأن خولة التي أرضعته صلى الله عليه وسلم هي السعدية التي كانت ترضع حمزة التي قال فيها الشمس الشامي: لم أقف على اسم تلك المرأة، والله أعلم، ولم يذكر إسلام ثويبة إلا ابن منده. قال الحافظ ابن حجر: وفي طبقات ابن سعد ما يدل على أنها لم تسلم، ولكن لا يدفع نقل ابن منده به. وفي الخصائص الصغرى: لم ترضعه صلى الله عليه وسلم مرضعة إلا أسلمت ولم أقف على إسلام ابنها مسروح. أقول: ومما يدل على عدم إسلامه ما جاء بسند ضعيف «إذا كان يوم القيامة أشفع لأخ لي في الجاهلية» قال الحافظ السيوطي: يعني أخاه من الرضاعة لأنه لم يدرك الإسلام. لا يقال: من أين أنه مسروح جاز أن يكون ابن حليمة، وهو عبد الله الذي كان يرضع معه صلى الله عليه وسلم، بناء على أنه لم يدرك الإسلام، لأنه لم يعرف له إسلام. لأنا نقول: سيأتي عن شرح الهمزية لابن حجر أن عبد الله ولد حليمة أسلم، والله أعلم. أي وقد يدل على عدم إسلام ثويبة وابنها المذكور الذي هو مسروح ما جاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث لها بصلة وكسوة وهي بمكة، حتى جاءه خبر وفاتها مرجعه صلى الله عليه وسلم من خيبر سنة سبع، فقال: ما فعل ابنها مسروح، فقيل مات قبلها» أي ولو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة. أقول: وهذا بظاهره يدل على أن مسروحا أدرك الإسلام. وقد ينافي علم وفاتهما مرجعه صلى الله عليه وسلم من خيبر ما ذكر السهيلي أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلها من المدينة، فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح، فأخبر أنهما ماتا.

وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون سؤاله الثاني للتثبت لوصوله محل إقامتهما. والقول بأنهما لو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة. يقال عليه: يجوز أن تكون الهجرة تعذرت عليهما لعارض عرض لهما، والله أعلم. قال: وجاء أن أمه أرضعته صلى الله عليه وسلم تسعة أيام. أقول: وعن عيون المعارف للقضاعي سبعة أيام. وفي الإمتاع أنها أرضعته صلى الله عليه وسلم سبعة أشهر، ثم أرضعته ثويبة أياما قلائل، هذا كلامه، وقوله ثم أرضعته ثويبة يخالف ما تقدم، من أن أول من أرضعه ثويبة، إلا أن يقال المراد أول من أرضعه غير أمه ثويبة فلا مخالفة. وبهذا يرد نقل ابن المحدث عن الأصل أن أول لبن نزل جوفه صلى الله عليه وسلم لبن ثويبة، فإنه فهم ذلك من قول الأصل: أول من أرضعه ثويبة، لما علمت أن الأولية إضافية لا حقيقية، إلا أن يدعى ذلك في نقل ابن المحدّث أيضا: أي أول لبن نزل جوفه صلى الله عليه وسلم بعد لبن أمه والله أعلم. قال: وأرضعه صلى الله عليه وسلم ثلاث نسوة: أي أبكار من بني سليم، أخرجن ثديهن فوضعنها في فمه فدرت في فيه فرضع منهن، وأرضعته صلى الله عليه وسلم أم فروة اهـ. أي وهؤلاء النسوة الأبكار كل واحدة منهن تسمى عاتكة، وهى اللاتي عناهن صلى الله عليه وسلم بقوله: «أنا ابن العواتك من سليم» على ما تقدم. وما تقدم من أن أم أيمن أرضعته صلى الله عليه وسلم ذكره في الخصائص الصغرى، ردّ بأنها حاضنته لا مرضعته. وعلى تقدير صحته ينظر بلبن أي ولد لها كان، فإنه لا يعرف لها ولد إلا أيمن وأسامة، إلا أن يقال جاز أن لبنها در له صلى الله عليه وسلم من غير وجود ولد كما تقدم في النسوة الأبكار. وأرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة بنت أبي ذؤيب، وتكنى أم كبشة: أي باسم بنت لها اسمها كبشة، ويكنى بها أيضا والدها الذي هو زوج حليمة: أي وكانت من هوازن أي من بني سعد بن بكر بن هوازن، وسيأتي الكلام على إسلامها. وعنها أنها كانت تحدّث أنها خرجت من بلدها معها ابن لها ترضعه اسمه عبد الله، ومعها زوجها. قال: وهو الحارث بن عبد العزى، ويكنى أبا ذؤيب: أي كما يكنى أبا كبشة أدرك الإسلام وأسلم. فقد روى أبو داود بسند صحيح عن عمرو بن السائب أنه بلغه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلسه بين يديه» .

وعن ابن إسحق: بلغني أن الحارث إنما أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يؤيد قول بعضهم: لم يذكر الحارث كثير ممن ألف في الصحابة اهـ. أقول: يدل للأول ظاهر ما روي «أن الحارث هذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد نزول القرآن عليه صلى الله عليه وسلم» فقالت له قريش: أو تسمع يا حارث ما يقول ابنك؟ فقال: وما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله يبعث من في القبور، وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه، ويكرم فيهما من أطاعه: أي يعذب في إحداهما من عصاه وهي النار، ويكرم في الأخرى من أطاعه وهي الجنة، فقد شتت أمرنا، وفرق جماعتنا، فأتاه فقال: أي بني، ما لك ولقومك، يشكونك ويزعمون أنك تقول كذا: أي أن الناس يبعثون، بعد الموت ثم يصيرون إلى جنة ونار «فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم أنا أقول ذلك» وفي لفظ «أنا أزعم ذلك، ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت فلآخذن بيدك حتى أعرّفك حديثك اليوم» فأسلم الحارث بعد ذلك وحسن إسلامه: أي وقد كان يقول حين أسلم: لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني حتى يدخلني الجنة، وإنما قلنا ظاهر، لأنه قد يقال قوله بعد ذلك يصدق بما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلا دلالة في ذلك على أنه أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم. وفي شرح الهمزية لابن حجر: ومن سعادتها يعني حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها، وهم: عبد الله، والشيما، وأنيسة، هذا كلامه. وفي الإصابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا- أي على ثوب- فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه صلى الله عليه وسلم فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه» ورجاله ثقات، ولعل المراد بجلوسه بين يديه جلوسه مقابله، وحينئذ ففاعل جلس النبي صلى الله عليه وسلم، وضمير يديه راجع لأخيه: أي قام صلى الله عليه وسلم عن محل جلوسه على الثوب، وأجلس أخاه على الثوب مكانه وجلس صلى الله عليه وسلم قبالة أخيه، فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ليكون أخوه هو وأبواه جميعا على الثوب، والله أعلم. قالت: وخرجت في نسوة من بني سعد: أي ابن بكر بن هوازن عشرة يطلبن الرضعاء في سنة شهباء: أي ذات جدب وقحط لم تبق شيئا، على أتان قمراء بفتح القاف والمد: أي شديد البياض، ومعنى شارف أي ناقة مسنة، ما تبض بالضاد المعجمة، وربما روي بالمهملة: أي ما ترشح بقطرة لبن، قالت: وما كنا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع، ما في ثديي. وفي رواية ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه بمعجمتين، وقيل بمعجمة ثم مهملة، وقيل بإسكان العين المهملة وكسر الذال المعجمة وضم الباء الموحدة: أي ما يكفيه بحيث يرفع رأسه وينقطع عن الرضاعة. قالت حليمة: ولكنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على

أتاني تلك، فلقد أدمت بالدال المهملة وتشديد الميم بالركب: أي حبسته بتأخرها عنه لشدة عنائها وتعبها لضعفها وهزالها، حتى شق ذلك عليهم، حتى قدمنا مكة نلتمس: أي نطلب الرضعاء جمع رضيع، وأدمّ مأخوذ من الماء الدائم، يقال أدم بالركب: إذا أبطأ حتى حبسهم، ويروى بالمعجمة: أي جاء بما يذم عليه وهو هنا الإبطاء. أقول: لأنه كان من شيم العرب وأخلاقهم إذا ولد لهم ولد يلتمسون له مرضعة في غير قبيلتهم، ليكون أنجب للولد، وأفصح له. وقيل لأنهم كانوا يرون أنه عار على المرأة أن ترضع ولدها انتهى: أي تستقل برضاعه. ويدل للأول ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه «أنا أعربكم» أي أفصحكم عربية «أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد» وجاء «أنا أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما قال له صلى الله عليه وسلم: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله، فقال له: ما يمنعني وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد؟» فهذا كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات. ومن ثم نقل عن عبد الملك بن مروان أنه كان يقول: أضر بنا حب الوليد، يعني ولده، لأنه لمحبته له أبقاه مع أمه في المصر ولم يسترضعه في البادية مع الأعراب، فصار لحانا لا عربية له. وأخوه سليمان استرضع في البادية مع الأعراب فصار عربيا غير لحان. قالت حليمة: فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها يتيم، وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق: أي عزمنا عليه، قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك الرضيع فلآخذنه، قال: لا عليك: أي لا بأس عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته. أقول: وهذا السياق قد يخالف قول بعضهم: إن عبد المطلب خرج يلتمس له المراضع فجاءت له حليمة ابنة أبي ذؤيب، إلا أن يقال: جاز أن يكون التماسه للمراضع غير حليمة كان عند قدومهن، وأبين أن يقبلن، ثم طلب من حليمة ذلك بعد أن لم يجد رضيعا. ويدل لذلك قول صاحب «شفاء الصدور» إن حليمة قالت: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بني سعد قال: ما اسمك؟ قلت حليمة، فتبسم عبد المطلب وقال: بخ بخ، سعد وحلم، خصلتان فيهما خير الدهر وعز الأبد، يا حليمة إن عندي غلاما يتيما، وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلن وقلن: ما عند اليتيم من الخير، إنما نلتمس الكرامة من

الآباء، فهل لك أن ترضعيه، فعسى أن تسعدي به؟ فقلت: ألا تذرني حتى أشاور صاحبي، فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته، فكأن الله قذف في قلبه فرحا وسرورا، فقال لي: يا حليمة خذيه، فرجعت إلى عبد المطلب فوجدته قاعدا ينتظرني، فقلت: هلمّ الصبي، فاستهل وجهه فرحا، فأخذني وأدخلني بيت آمنة، فقالت لي أهلا وسهلا، وأدخلتني في البيت الذي فيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن، وتحته حريرة خضراء، راقد على قفاه يغط، يفوح منه رائحة المسك، فأشفقت: أي خفت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكا وفتح عينيه إليّ، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه وأخذته، وما حملني على أخذه: أي أكد أخذه إلا أني لم أجد غيره، وإلا فما ذكرته من أوصافه مقتض لأخذه: أي وهذه الرواية ربما تدل على أنها لم تره قبل ذلك، وأن إباءها كان قبل رؤيتها له، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل ثدياي بما شاء الله من لبن فشرب حتى روي: أي من الثدي الأيمن، وعرضت عليه الأيسر فأباه. قالت حليمة: وكانت تلك حالته بعد: أي بعد ذلك: لا يقبل إلا ثديا واحدا وهو الأيمن. وفي السبعيات للهمداني: أن أحد ثديي حليمة كان لا يدر اللبن منه، فلما وضعته في فم رسول الله صلى الله عليه وسلم در اللبن منه. قالت: وشرب معه أخوه حتى روي ثم نام، وما كنا ننام معه قبل ذلك: أي فعدم نومه من الجوع، فقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا هي حافل: أي ممتلئة الضرع من اللبن، فجلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، قلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته صلى الله عليه وسلم معي عليها فو الله لقطعت بالركب: أي صيرته خلفها ما يقدر عليها: أي على مرافقتها ومصاحبتها شيء من حمرهن، حتى أن صواحبي يقلن لي: يا بنت أبي ذؤيب، ويحك، اربعي: أي اعطفي علينا بالرفق وعدم الشدة في السير، أليس هذا أتانك التي كنت خرجت عليها تخفضك طورا وترفعك أخرى؟ فأقول لهن: بلى والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأنا: أي وقالت حليمة فكنت أسمع أتاني تنطق وتقول: والله إن لي لشأنا ثم شأنا، شأني بعثني الله بعد موتي، ورد لي سمني بعد هزالي، ويحكن يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة، وهل تدرين من على ظهري؟ على ظهري خير النبيين، وسيد المرسلين، وخير الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين، ذكره في النطق المفهوم. وذكرت أنها لما أرادت فراق مكة رأت تلك الأتان سجدت: أي خفضت رأسها نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت. قالت: ثم قدمنا

منازل بني سعد ولا أعلم أرضا من أراضي الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا: أي غزيرات اللبن، فنحلب ونشرب. ولفظ: فنحلب، ما شئنا والله ما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضر: أي المقيم في المنازل من قومنا يقول لرعاتهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب يعنونني، فتروح أغنامهم جياعا تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا، فلم نزل نعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبا لا يشبه الغلمان، فلم يقطع سنتيه حتى كان غلاما جفرا: أي غليظا شديدا. وعن حليمة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ شهرين كان يجيء إلى كل جانب: أي وهذا يضعف ما تقدم عن الامتناع من أن أمه صلى الله عليه وسلم أرضعته سبعة أشهر. قالت حليمة: فلما بلغ صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يسمع كلامه، ولما بلغ تسعة أشهر كان يتكلم الكلام الفصيح، ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان. وعنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: إنه لفي حجري ذات يوم إذ مرت به غنيماتي، فأقبلت واحدة منهن حتى سجدت له وقبلت رأسه ثم ذهبت إلى صواحبها. أقول: وقد سجدت له صلى الله عليه وسلم الغنم، وكذا الجمل بعد بعثته والهجرة، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا: أي بستانا للأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجال من الأنصار وفي الحائط غنم، فسجدت له، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله كنا أحق بالسجود لك من هذه الغنم؟ فقال: إنه لا ينبغي في أمتي أن يسجد أحد لأحد، ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» زاد في رواية «ولو أن رجلا أمر زوجته أن تنقل من جبل إلى جبل لكان نولها: أي حقها أن تفعل» «وحرب جمل بكسر الراء: أي اشتد غضبه، فصار لا يقدر أحد يدخل عليه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: افتحوا عنه، فقالوا: إنا نخشى عليك يا رسول الله، فقالوا: افتحوا عنه ففتحوا عنه فلما رآه الجمل خرّ ساجدا: أي فأخذ بناصيته ثم دفعه لصاحبه وقال استعمله وأحسن علفه، فقال القوم: يا رسول الله كنا أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة، فقال كلا» الحديث. وفي هذا دلالة على عظيم حق الزوج على زوجته. وجاء مما يدل على ذلك أيضا ما روي «أن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، ونحن معاشر النساء، مقصورات مخدرات، قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا بالجماعات، وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا لهم أولادهم،

أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى أصحابه وقال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: انصرفي يا أسماء، واعلمي بأنك من النساء، إنّ حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال» أي من حضور الجماعات وشهود الجنائز والجهاد، فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشارا بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتبعل: ملاعبة المرأة لزوجها، والله أعلم. قالت حليمة: وكان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم كل يوم نور كنور الشمس ثم ينجلي عنه، وإلى قصة رضاعه صلى الله عليه وسلم يشير صاحب الهمزية بقوله: وبدت في رضاعه معجزات ... ليس فيها عن العيون خفاء إذ أتته ليتمه مرضعات ... قلن ما في اليتيم عنا غناء فأتته من آل سعد فتاة ... قد أبتها لفقرها الرضعاء أرضعته لبانها فسقتها ... وبنيها ألبانهن الشاء أصبحت شوّلا عجافا وأمست ... ما بها شائل ولا عجفاء أخصب العيش عندها بعد محل ... إذ غدا للنبي منها غذاء يا لها منة لقد ضوعف الأجر ... عليها من جنسها والجزاء وإذا سخر الإله أناسا ... لسعيد فإنهم سعداء أي وظهرت في رضاعه؟ وفي زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم أمور خارقة للعادة لوضوحها لا تخفى على العيون. فمن ذلك أن المراضع أبين أن يأخذنه صلى الله عليه وسلم لأجل يتمه، فبعد أن تركته أتت فتاة من آل سعد قد أبتها أهل الرضعاء لفقرها فسقته لبنها فسقتها وبنيها الشاء ألبانها، وكانت تلك الشياه لا لبن بها بل هزيلات، فصارت ذات ألبان وسمن. ومن ذلك أن العيش كثر عندها بعد شدة المحل لأجل حصول غذاء النبي صلى الله عليه وسلم: يا لها أي لتلك الخصلة الصادرة من حليمة وهي سقيها له لبنها نعمة منها عليه، لقد كرر الثواب والجزاء على تلك النعمة من جنس تلك النعمة، لأن الجزاء من جنس العمل فلما سقت اللبن سقيته، ولا بدع فإن الله تعالى إذا سخر أناسا لمحبة سعيد والقيام بخدمته فإنهم بسبب ذلك سعداء. أقول: لم أقف على رواية فيها أن حليمة أبتها أهل الرضعاء لفقرها وكأن الناظم أخذ ذلك من قولها: فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره ولا دلالة في ذلك.

واستفتي الحافظ ابن حجر عن بعض الوعاظ يذكر عند اجتماع الناس للمولد حادثات أي وقائع تتعلق به صلى الله عليه وسلم جاءت بها الأخبار هي مخلة بالتعظيم حتى يظهر من السامعين لها حزن، فيبقى صلى الله عليه وسلم في حيز من يرحم لا في حيز من يعظم. من ذلك أنهم يقولون إن المراضع حضرن ولم يأخذنه لعدم ماله ونحو ذلك، فما قولكم في ذلك؟ فأجاب بما نصه: ينبغي لمن يكون فطنا أن يحذف من الخبر: أي الحديث ما يوهم في المخبر عنه نقصا ولا يضره ذلك، بل يجب كما وقع لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه حيث قال في بعض نصوصه «وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لها شرف فكلم فيه، فقال: لو سرقت فلانة لامرأة شريفة لقطعتها، يعني فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم» فلم يصرح باسمها تأدبا معها أن تذكر في هذا المعرض. وإن كان صلى الله عليه وسلم ذكرها- لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلم حسن دلّ على أن الخلق عنده صلى الله عليه وسلم في الشرع سواء، فهذا من كمال أدب الإمام رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ونفعنا ببركاته: أي فإذا جاز حذف بعض الحديث الموهم نقصا في بعض أهل بيته، فما بالك بما يوهم النقص فيه صلى الله عليه وسلم، وهذا من الحافظ يدل على أن إباء المراضع له صلى الله عليه وسلم وارد حيث أقره ولم ينكره، والله أعلم. قال: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «كان أول كلام تكلم به صلى الله عليه وسلم حين فطمته حليمة رضي الله تعالى عنها، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا» أي وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا عند خروجه من بطن أمه. وفي رواية «أوّل كلام تكلم صلى الله عليه وسلم به في بعض الليالي: أي وهو عند حليمة: لا إله إلا الله قدوسا قدوسا نامت العيون والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم» وكان صلى الله عليه وسلم لا يمس شيئا إلا قال بسم الله. وعن حليمة رضي الله عنها «لما دخلت به صلى الله عليه وسلم إلى منزلي لم يبق منزل من منازل بني سعد إلا شممنا منه ريح المسك، وألقيت محبته صلى الله عليه وسلم: أي واعتقاد بركته في قلوب الناس، حتى إنّ أحدهم كان إذا نزل به أذى في جسده أخذ كفه صلى الله عليه وسلم فيضعها على موضع الأذى فيبرأ بإذن الله تعالى سريعا. وكذلك إذا اعتل لهم بعير أو شاة انتهى. قالت حليمة: فقدمنا مكة على أمه صلى الله عليه وسلم: أي بعد أن بلغ سنتين ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرى من بركته صلى الله عليه وسلم، فكلمنا أمه وقلت لها: لو تركتي بنيّ عندي حتى يغلظ. وفي كلام ابن الأثير: قلنا لها دعينا نرجع به هذه السنة الأخرى فإني أخشى

عليه وباء مكة: أي مرضها ووخمها فلم نزل بها حتى ردّته صلى الله عليه وسلم معنا. وقيل إن أمه صلى الله عليه وسلم آمنة قالت لحليمة: ارجعي بابني، فإني أخاف عليه وباء مكة، فو الله ليكونن له شأن أي ولا مخالفة بينهما لجواز أن حليمة لما قالت لها ما تقدم قالت لحليمة ارجعي بابني على الفور فإني أخاف عليه وباء مكة: أي كما تخافين عليه ذلك. قالت حليمة: فرجعنا به صلى الله عليه وسلم فو الله إنه بعد مقدمنا به صلى الله عليه وسلم بأشهر. عبارة ابن الأثير: بعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه يعني من الرضاعة، لفي بهم لنا، ولعل هذا لا ينافيه قول المحب الطبري: فلما شب وبلغ سنتين لأنه ألغي أي ذلك الكسر، فبينما هو صلى الله عليه وسلم وأخوه في بهم لنا خلف بيوتنا. والبهم: أولاد الضأن، إذ أتى أخوه يشتد. أي يعدو، فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه، فشقا بطنه فهما يسوطانه: أي يدخلان يديهما في بطنه، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه. وفي لفظ لونه أي متغير أي صار لونه كلون النقع الذي هو الغبار وهو صفة ألوان الموتى، وذلك لما ناله من الفزع أي من رؤية الملائكة، لا من مشقة نشأت عن ذلك الشق، لما يأتي في بعض الروايات: فلم أجد لذلك حسا ولا ألما، ومن ثم قال ابن الجوزي: فشقة وما شق عليه، وإطلاقه شامل لهذه المرة التي هي الأولى، وقد قال بعضهم: إنه لم ينتقع لونه إلا وهو صلى الله عليه وسلم صغير في بني سعد. قالت: فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له: ما لك يا بني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: جاءني رجلان عليها ثياب بيض أي وهما جبريل وميكائيل: أي وهما المراد بقوله في رواية: فأقبل إليّ طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا أي طلباه، فوجداه فأخذاه وطرحاه ولا أدري ما هو: أي وسيأتي أن هذا الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه وما أدري ما هو أنه علقة سوداء استخرجاها من قلبه بعد شق بطنه، ففي هذه الرواية طي ذكر القلب وشقه، وسيأتي ذكر ذلك في بعض الروايات. وفي رواية غريبة: نزل عليه كركيان، فشق أحدهما بمنقاره جوفه، ومجّ الآخر فيه بمنقاره ثلجا أو بردا. وقد يقال إن الطيرين تارة شبها بالنسرين وتارة شبها بالكركيين. وفي كون مجيء جبريل وميكائيل على صورة النسر لطيفة لأن النسر سيد الطيور. فقد جاء في الحديث «هبط عليّ جبريل فقال: يا محمد إن لكل شيء سيد، فسيد البشر آدم وأنت سيد ولد آدم وسيد الروم صهيب، وسيد فارس سلمان، وسيد الحبش بلال، وسيد الشجر السدر، وسيد الطير النسر» وفي بحر العلوم «وسيد الملائكة إسرافيل، وسيد الشهداء هابيل، وسيد الجبال جبل موسى، وسيد الأنعام الثور، وسيد الوحوش الفيل، وسيد السباع الأسد» زاد بعضهم «وسيد الشهور

رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام العربية، وسيد العربية القرآن، وسيد القرآن سورة البقرة» . قالت حليمة: فرجعنا به صلى الله عليه وسلم إلى خبائنا: أي محل الإقامة وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك. وفي رواية: قال الناس يا حليمة رديه على جده واخرجي من أمانتك. وفي رواية وقال: زوجي أرى أن ترديه على أمه لتعالجه، والله إن أصابه ما أصابه إلا حسد من آل فلان لما يرون من عظيم بركته. قالت: فحملناه فقدمنا به مكة على أمه. قال الواقدي وكان ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين أي وزاد في الاستيعاب ويومين من مولده صلى الله عليه وسلم، وكان غيره أي غير ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن أربع سنين. وذكر الأموي أنه رجع إلى أمه وهو ابن ست سنين انتهى. أقول سياق ما قبله يدل على أن قدوم حليمة به على أمه كان عقب الواقعة المذكورة، وتقدم أن سنه حينئذ كان سنتين وأشهر، وسيأتي ما فيه والله أعلم. وعن ابن عباس أن حليمة كانت تحدث أنه صلى الله عليه وسلم لما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم، فقال لي يوما: يا أماه ما لي لا أرى إخوتي بالنهار يعني إخوته من الرضاعة وهم أخوه عبد الله وأختاه أنيسة والشيماء بفتح المعجمة وسكون التحتية أولاد الحارث، قلت فدتك نفسي، إنهم يرعون غنما لنا فيروحون من ليل إلى ليل، قال ابعثيني معهم، فكان عليه الصلاة والسلام يخرج مسرورا ويعود مسرورا: أي وهذا لا يخالف قولها السابق كان مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا، ولا قوله صلى الله عليه وسلم الآتي «فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا» ولا قوله «فبينما أنا ذات يوم منتبذا من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الفتيان» كما لا يخفى. قالت حليمة: فلما كان يوما من ذلك خرجوا، فلما انتصف إليها أتاني أخوه، أي وفي رواية إذ أتى ابني ضمرة يعدو فزعا وجبينه يرشح باكيا ينادي يا أبت ويا أمه الحقا أخي محمدا فما تلحقانه إلا ميتا. قلت: وما قضيته، قال: بينا نحن قيام إذ أتاه رجل فاختطفه من وسطنا وعلا به ذروة الجبل ونحن ننظر إليه حتى شق صدره إلى عانته ولا أدري ما فعل به. أقول: ولعل ضمرة هذا هو أخوه عبد الله المتقدم ذكره، لقب بذلك لخفة جسمه، ولا يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الآتي إن أترابه الذين كانوا معه انطلقوا هربا مسرعين إلى الحي يؤذونهم ويستصرخونهم لأنه يجوز أن يكون ضمرة سبقهم، والله أعلم.

قالت حليمة: فانطلقت أنا وأبوه نسعى سعيا فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل شاخصا ببصره إلى السماء يتبسم ويضحك فأكببت عليه وقبلته بين عينيه، وقلت له: فدتك نفسي، وما الذي دهاك؟ قال خيرا كذا بالنصب يا أماه، بينا أنا الساعة قائم إذ أتاني رهط ثلاثة بيد أحدهم إبريق فضة، وفي يد الآخر طست من زمردة خضراء والزمردة بالضم والزاي المعجمة. الزبرجد، وهو معرب، فأخذوني وانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فأضجعوني على الجبل إضجاعا لطيفا، وفيه أن هذا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم الآتي: «فأخذوني حتى أتوا شفير الوادي، فعمد أحدهم فأضجعني إلى الأرض ثم شق من صدري إلى عانتي» وسيأتي الجمع بينهما وقوله: «ثم شق من صدري إلى عانتي» هو المراد ببطنه ببطنه ففيما تقدم وما يأتي. قال: «وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ولا ألما» الحديث وفي هذه الرواية طيّ ذكر القلب وشقه أيضا. أقول: ولا منافاة في تلك الرواية بين قولها فوجدناه قائما وبين قولها في هذه الرواية: فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل، لجواز أن تكون أرادت بقولها قائما كونه حيا وبكونه قاعدا كونه ماكثا، كما لا منافاة بين قولها في تلك الرواية منتقعا وجهه، وبين قولها في هذه الرواية يتبسم ويضحك، لأن ذلك لا ينافي الفزع: أو لجواز أن يكون تبسمه وضحكه تعجبا لما رأى من الحالة التي عليها أمه من التعب والشدة والله أعلم. قال: وذكر ابن إسحق أن حليمة لما قدمت به صلى الله عليه وسلم مكة لترده على أمه أي بعد شق صدره صلى الله عليه وسلم وقد بلغ أربع سنين أو خمسا أو ستا على ما تقدم أضلته في أعالي مكة فأتت جده عبد المطلب، فقال: إني قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعالي مكة أضلني، فو الله ما أدري، أين هو؟ فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده عليه. وفي مرآة الزمان أنه أنشد: يا رب رد لي ولدي محمدا ... اردده ربي واصطنع عندي يدا وسيأتي أن هذا البيت أنشده عبد المطلب حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليرد إبلا له ضلت. وقد يقال: لا مانع من تكرر ذلك منه فسمع هاتفا من السماء يقول: أيها الناس لا تضجوا إن لمحمد ربا لن يخذله ولا يضيعه، فقال عبد المطلب، من لنا به، فقال: إنه بوادي تهامة عند الشجرة اليمنى، فركب عبد المطلب نحوه، وتبعه ورقة بن نوفل، وسيأتي بعض ترجمة ورقة، فوجداه صلى الله عليه وسلم قائما تحت شجرة يجذب غصنا من أغصانها، فقال له جده: من أنت يا غلام؟ فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال وأنا عبد المطلب جدك فدتك نفسي، واحتمله وعانقه وهو يبكي، ثم

رجع إلى مكة وهو قدامه على قربوس فرسه، ونحر الشياه والبقر، وأطعم أهل مكة. أقول: وقول جده له من أنت يا غلام؟ لعله لكونه وجده على حالة لا توجد لمن يكون في سنه عادة كما تقدم عن حليمة من قولها: كان يشب شبابا لا يشبه الغلمان. وفي السيرة الهاشمية أن الذى وجده هو ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب: أي ويقال إن عمرو بن نفيل رآه وهو لا يعرفه، فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى أتى به عبد المطلب. وفي كلام بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) [الضّحى: الآية 7] روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي وصار ينشد وهو متعلق بأستار الكعبة: يا رب رد ولدي محمدا البيت، فجاء أبو جهل بين يديه على ناقة وقال لجدي ألا تدري ما وقع من ابنك؟ فسأله فقال: أنخت الناقة وأركبته من خلفي، فأبت أن تقوم، فأركبته من أمامي فقامت» ويحتاج إلى جمع على تقدير صحة كل مما ذكر. وقد يقال: لا مانع من تعدد ذلك، ويدل لذلك أن بعض المفسرين قال في تفسير قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) [الضّحى: الآية 7] قيل ضل عن حليمة مرضعته. وقيل ضل عن جده عبد المطلب وهو صغير. قالت حليمة: فقالت أمه: ما أقدمك به يا ظئر، أي يا مرضعة؟ ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثة عندك. قلت: قد بلغ والله، وقضيت الذي عليّ وتخوفت عليه الأحداث فأديته إليك كما تحبين، فقالت: ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك؟ قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها، قالت: افتخوفت عليه الشيطان؟ قلت نعم، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإن لابني شأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قلت بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به فو الله ما رأيت: أي ما علمت من حمل قط كان أخف علي ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته إنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة. قال: وعن حليمة أنه مر عليها جماعة من اليهود فقالت: ألا تحدثوني عن ابني هذا، حملته كذا ووضعته كذا، ورأيت كذا كما وصفت لها أمه: أي فإنها ذكرت لها ذلك مرتين عند دفعه لها وعند أخذه منها انتهى. أقول: ولا ينافي ذلك قول آمنة لحليمة: أولا أخبرك خبره، وقول حليمة لها

بلى، لجواز أن تكون أمه لم تكن متذكرة أنها أخبرتها بذلك قبل ذلك، وأن حليمة كذلك، أو جوّزت حليمة أنها تخبرها بزيادة عما أخبرتها به أولا، بناء على اتحاد ما أخبرتها به أولا وثانيا، والله أعلم. قالت: ولما أخبرت أولئك اليهود بذلك قال بعضهم لبعض اقتلوه، فقالوا: أيتيم هو؟ فقالت لا، هذا أبوه وأنا أمه، فقالوا لو كان يتيما قتلناه. أقول: وهذا يدل على أن ما ذكرته أمه لحليمة من أنها حين حملت به خرج منها نور إلى آخر ما تقدم، وأن يكون لا أب له مذكورا في بعض الكتب القديمة أنه من علامة نبوة النبي المنتظر، والله أعلم. قال: وعنها أنها نزلت به سوق عكاظ: أي وكان سوقا للجاهلية بين الطائف ونخلة المحل المعروف، كانت العرب إذا حجت أقامت بهذا السوق شهر شوال، فكانوا يتفاخرون فيه، وللمفاخرة فيه سمي عكاظ، يقال: عكظ الرجل صاحبه إذا فاخره وغلبه في المفاخرة. وفي كلام بعضهم كان سوق عكاظ لثقيف وقيس غيلان، فرآه كاهن من الكهان فقال يا أهل سوق عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له ملكا، فزاغت: أي مالت به وحادت عن الطريق، فأنجاه الله تعالى: أي وفي الوفاء: لما قامت سوق عكاظ انطلقت حليمة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عرّاف من هذيل يريه الناس صبيانهم، فلما نظر إليه صاح: يا معشر هذيل، يا معشر العرب، فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم، فقال اقتلوا هذا الصبي، فانسلت حليمة به، فجعل الناس يقولون: أي صبي، فيقول هذا الصبي، فلا يرون شيئا، فيقال له ما هو؟ فيقول: رأيت غلاما والآلهة ليقتلنّ أهل دينكم، وليكسرن آلهتكم، وليظهر أمره عليكم فطلب فلم يوجد. وعنها رضي الله عنها أنها لما رجعت به مرت بذي المجاز: وهو سوق للجاهلية على فرسخ من عرفة: أي وهذا السوق قبله سوق يقال له سوق مجنة، كانت العرب تنتقل إليه بعد انفضاضهم من سوق عكاظ فتقيم فيه عشرين يوما من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى هذا السوق الذي هو سوق ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج، وكان بهذا السوق عراف: أي منجم يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي نظر إلى خاتم النبوة وإلى الحمرة في عينيه صاح: يا معشر العرب اقتلوا هذا الصبي، فليقتلن أهل دينكم، وليكسرن أصنامكم، وليظهرن أمره عليكم، إن هذا لينظر أمرا من المساء، وجعل يغري بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث أن وله فذهب عقله حتى مات اهـ. أي وفي السيرة الهاشمية أن نفرا نصراني من الحبشة رأوه صلى الله عليه وسلم مع أمه السعدية

حين رجعت به إلى أمه بعد فطامه، فنظروا إليه وقلبوه: أي رأوا خاتم النبوة بين كتفيه وحمرة في عينيه، وقالوا لها هل يشتكي عينيه؟ قالت، لا ولكن هذه الحمرة لا تفارقه، ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا الغلام كائن لنا وله شأن، نحن نعرف أمره، فلم تكد تنفلت به صلى الله عليه وسلم منهم وأتت به إلى أمه. وعنه صلى الله عليه وسلم «واسترضعت في بني سعد، وفبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا، أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بيد أحدهما طست من ذهب مملوءة ثلجا فأخذاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، أي وقيل هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله» وفي رواية «فاستخرجا منه علقتين سوداوين» أي ولا مخالفة، لجواز أن تكون تلك العلقة انفلقت نصفين. وفي رواية «فاستخرجا منه مغمز الشيطان» أي وهو المعبر عنه في الرواية قبلها بحظ الشيطان. ولا ينافي ذلك قوله في الرواية السابقة «ولا أدري ما هو» لجواز أن تكون إخباره صلى الله عليه وسلم بهذا بعد أن علمه، والمراد بمغمز الشيطان محل غمزه: أي محمد ما يلقيه من الأمور التي لا تنبغي، لأن تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه فلم يبق فيه مكان لأن يلقى الشيطان فيه شيئا فلم يكن للشيطان فيه حظ، وليست هي محل غمزه عند ولادته صلى الله عليه وسلم كما يوهمه كلام غير واحد. وفيه أنه هذا يقتضي أن يكون قبل إزالة ذلك كان للشيطان عليه سبيل. أجاب السبكي بأنه لا يلزم من وجود القابل لما يلقيه الشيطان حصول الإلقاء، أي بالفعل فليتأمل. وسئل السبكي رحمه الله تعالى: فلم خلق الله ذلك القابل في الذات الشريفة وكان من الممكن أن لا يخلقه الله فيها؟ وأجاب بأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقت تكملة للخلق الإنساني، ثم نزعت تكرمة له صلى الله عليه وسلم: أي وليظهر للخلق بذلك التكرمة ليتحققوا كمال باطنه كما تحققوا كمال ظاهره: أي لأنه لو خلق صلى الله عليه وسلم خاليا عنها لم تظهر تلك الكرامة. وفيه أنه يرد على ذلك ولادته صلى الله عليه وسلم من غير قلفة. وأجيب بالفرق بينهما بأن القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال، وقد تقدم كل ذلك. وذكمر السهيلي رحمه الله ما يفيد أن هذه العلقة هي محل مغمز الشيطان عند الولادة حيث قال: إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما لم يخلق من منيّ الرجال وإنما

خلق من نفخة روح القدس أعيذ من مغمز الشيطان. قال: ولا يدل هذا على فضل عيسى عليه الصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نزع منه ذلك الغمز هذا كلامه، وقد علمت أنه إنما هو محل ما يلقيه الشيطان من الأمور التي لا تنبغي، وأن ذلك مخلوق في كل واحد من الأنبياء عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره، ولم تنزع إلا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: «ثم غسلا قلبي بذلك الثلج» أي الذي في ذلك الطست» حتى أنقياه أي وملآه حكمة وإيمانا» كما في بعض الروايات: أي وفي رواية «ثم قال أحدهما لصاحبه ائتني بالسكينة، فأتى بها فذراها في قلبي» وهذه السكينة يحتمل أن تكون هي الحكمة والإيمان. ويحتمل أن تكون غيرهما وهذه الرواية فيها أن الطست كان من ذهب، وكذا في الرواية الآتية. وفي الرواية قبل هذه «كانت من زمردة خضراء» ويحتاج إلى الجمع وسنذكره في هذه الرواية وكذا الرواية الآتية أن الثلج كان في الطست. وفي الرواية قبل هذه «كان في يد أحدهما إبريق فضة» ويحتاج إلى الجمع لأن الواقعة لم تتعدد، وهو عند حليمة، وفي غسله بالثلج إشعار بثلج اليقين وبرده على الفؤاد، ذكره السهيلي رحمه الله. وذكر في حكمة كون الطست من ذهب كلاما طويلا قال صلى الله عليه وسلم: «وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن» وفي الروايات السابقة طيّ ذكر الخاتم. وتتمة الجواب الذي أجاب به صلى الله عليه وسلم أخا بني عامر التي وعدنا بذكرها هنا هو قوله صلى الله عليه وسلم: «وكنت مسترضعا في بني سعد، فبينا أنا ذات يوم منتبذا أي منفردا «من أهلي في بطن واد مع أتراب لي» أي المقاربين بالموحدة أو النون «لي في السن من الصبيان، إذ أتى رهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملآن ثلجا فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هرابا حتى أتوا على شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم؟ أي ما حاجتم إلى هذا الغلام؟ فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش، وهو مرتضع فينا، يتيم ليس له أب، فما يرد عليكم أن يفيدكم قتله، وماذا تصيبون من ذلك؟ فإن كنتم لا بد قاتلوه أي إن كان لا بدّ لكمن من قتل واحد فاختاروا منا من شئتم فليأتكم مكانه، فاقتلوه ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم، فلما رأى الصبيان أن القوم لا يجيبون جوابا انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحيّ يؤذنونهم» أي يعلمونهم «ويستصرخونهم على القوم، فعمد أحدهم إليّ فأضجعني على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شق بطني ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك مسا» أي أدنى مشقة «واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها» أي بالغ في غسلها «ثم أعادها مكانها» أي وقد طوي ذكر استخراج الأحشاء وغسلها في الروايات السابقة. ولا يخفى أن من جملة الأحشاء ظاهر القلب

«ثم قال الثاني منهم لصاحبه تنح عنه، فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي، فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء» تقدم التعبير عنها بالعلقة السوداء «ثم رمى بها، ثم قال بيده يمنة منه كأنه يتناول شيئا، وإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه فختم به قلبي» أي بعد التئام شقه «فامتلأ نورا وذلك نور النبوة والحكمة» وقد تقدم «وملأه حكمة وإيمانا» وإن السكينة ذرت فيه ثم أعاده مكانه فوجدت برد الخاتم في قلبي دهرا، وفي رواية «فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي» . أقول: نقل شيخ بعض مشايخنا الشيخ نجم الدين الغيطي عن مغازي بن عائذ في حديثه صلى الله عليه وسلم لأخي بني عامر «وأقبل أي الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه» فليتأمل، وقوله «فصدعه» يدل بظاهره على أن صدعه كان بيد الملك، فلم يشقه بآلة، وحينئذ يكون المراد بالشق الصدع بلا آلة. وقد طوى في هذه الرواية ذكر ملء قلبه حكمة وإيمانا، وأنه ذرّ فيه السكينة. وذكر في هذه الرواية أن الختم كان لقلبه صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية قبلها «أنه كان بين كتفيه» وفي رواية ابن عائذ «وبين ثدييه» ويحتاج إلى الجمع. والظاهر أن متعاطي الختم جبريل، ويدل عليه قول صاحب الهمزية رحمه الله في هذه القصة ختمته يمنى الأمين. وسيأتي التصريح بذلك لكن في غيره هذه القصة والله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: «ثم قال الثالث لصاحبه تنحّ عنه فنحاه عني فأمرّ يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، وختم عليه» وفي رواية «قال أحدهما للآخر خطه فخاطه وختم عليه» . أقول: وقد يقال معنى خطه ألحمه، فخاطه «أي لحمه» أي مرّ بيده عليه فالتحم أي فلا يخالف ما سبق، ولا ينافيه ما في الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم، لجواز أن يكون المراد يرون أثرا كأثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم وهو أثر مرور يد جبريل عليه الصلاة والسلام، وهذا طوى ذكره في الروايات السابقة، وقوله ختم عليه يقتضي أن الختم كان في صدره صلى الله عليه وسلم وهو الموافق لما تقدم عن ابن عائذ أنه بين ثدييه لكنه زاد بين كتفيه، وتقدم أن الختم كان بقلبه. وقد يقال في الجمع، لا مانع من تعدد الختم في المحال المذكورة أي في قلبه وصدره وبين كتفيه، فختم القلب لحفظ ما فيه، وختم الصدر وبين الكتفين مبالغة في حفظ ذلك لأن الصدر وعاؤه القريب، وجسده وعاؤه البعيد، وخص بين الكتفين لأنه أقرب إلى القلب من بقية الجسد، ولعله أولى من جواب القاضي عياض رحمه الله بأن الذي بين كتفيه هو أثر ذلك الختم الذي كان في صدره، إذ هو خلاف الظاهر من قوله: «وجعل الخاتم بين كتفيّ» وفيه السكوت عن ختم قلبه، ولا يحسن أن يراد بالصدر القلب من باب تسمية الحالّ باسم محله، لأنه يصير ساكتا عن ختم الصدر.

وأولى من جواب الحافظ ابن حجر رحمه الله أيضا بأنه يجوز أن يكون الختم لقلبه ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر، لأن القلب في ذلك الجانب لما علمت، وفيهما أن الذي عند الأيسر خاتم النبوة: أي الذي هو علامة على النبوة الذي ولد صلى الله عليه وسلم به على ما هو الصحيح. وفي الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان لغيره وسائر الأنبياء كلهم كان الخاتم في يمينهم. أي فقد أخرج الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه قال: «لم يبعث الله نبيا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنى إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه» هذا كلامه، ولم أقف على بيان تلك الشامات التي كانت للأنبياء ما هي. وكتب الشهاب القسطلاني على هامش الخصائص قوله: «وجعل خاتم النبوة بظهره الخ» مشكل إذ مفهومه أن موضع الدخول لقلوب الأنبياء غير نبينا لم يختم، ولا يخفى ما فيه من المحظور، فما أشنعها من عبارة وأخطأها من إشارة، هذا كلامه. ولك أن تقول: المراد بغيره في قوله حيث يدخل الشيطان لغيره من غير الأنبياء، لما علم وتقرر في النفوس من عصمة الأنبياء من الشيطان واختص نبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالختم في المحل المذكور مبالغة في حفظه من الشيطان وقطع أطماعه فليتأمل. لا يقال: كل من جواب القاضي والحافظ ابن حجر يجوز أن يكون مبنيا على أن خاتم النبوة هو أثر هذا الختم، وهو موافق لما تمسك به القائل بأن خاتم النبوة لم يولد به، وإنما حدث بعد الولادة. لأنا نقول: على تسليم أنه حدث بعد الولادة فقد وجد عقبها، فعن أبي نعيم في الدلائل أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج صرة من حرير أبيض فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة، وبذلك يعلم أن خاتم النبوة ليس أثرا لهذا الخاتم. وكلام السهيلي يقتضي أنه هو حيث قال: إن هذا الحديث الذي في شق صدره في الرضاعة فيه فائدة من تبيين العلم، وذلك أن خاتم النبوة لم يدر أنه خلق به أو وضع فيه بعد ما ولد، أو حين نبئ، فبين في هذا الحديث متى وضع وكيف وضع ومن وضعه زادنا الله تعالى علما، وأوزعنا شكر ما علم هذا كلامه. ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر ما يوافقه حيث قال: ومقتضى الأحاديث التي فيها شق الصدر ووضع الخاتم أنه لم يكن موجودا حين ولادته، وإنما كان أول

وضعه لما شق صدره عند حليمة، خلافا لمن قال ولد به أو حين وضع هذا كلامه. ولا يخفى أن ما قلناه من أن هذا الخاتم غير خاتم النبوة أولى، لأن به يجتمع القولان، وتندفع المخالفة. والجمع أولى من التضعيف، لما صح من أنه صلى الله عليه وسلم ولد به، وعلى أنه هو يلزم أن يكون خاتم النبوة تعدد محله، فوجد بين كتفيه وفي صدره وفي قلبه. لا يقال: قد أشير إلى الجواب عن ذلك بأن الموجود بين كتفيه إنما هو أثر ما في صدره وقلبه. لأنا نقول يبطله ما تقدم عن الدلائل لأبي نعيم، وما تقدم عن بعض الروايات «فأقبل الملك وفي يده خاتم فوضعه بين كتفيه وثدييه» وأيضا يلزم عليه أن يكون خاتم النبوّة تكرر الإتيان به ثانيا في قصة المبعث، وثالثا في قصة الإسراء. ففي قصة المبعث «فأكفأني كما يكفأ الإناء ثم ختم في ظهري» وفي قصة الإسراء «ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة» وكل منهما يبطل كون ما في ظهره أو بين كتفيه أثرا لذلك الختم الذي وجد في صدره أو قلبه. إلا أن يقال ما في قصة المبعث وقصة الإسراء غير خاتم النبوّة وإن خاتم النبوة إنما هو الأثر الحاصل من ختم صدره وقلبه وفي قصة الرضاعة، وإنه تكرر الختم على ذلك الأثر في المبعث وفي قصة الإسراء، وفيه أنه لا معنى لتكرر الختم في محل واحد. ولا يقال: الغرض منه المبالغة في الحفظ، لأن ذلك إنما يكون عند تعدد محل الختم لا عند إعادته ثانيا وثالثا في محل واحد. وأيضا هو خلاف ظاهر كلامهم من أنه في المحالّ الثلاثة خاتم النبوة، ويؤيده أن المتبادر من القول في قصة الإسراء «ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوّة» أنه جعل خاتم النبوة بين كتفيه، وإلا فما معنى كون الخاتم بمعنى الطابع: أي خاتم النبوّة. فإن قلت: على دعوى الغيرية يحتاج إلى الجواب عن قوله بخاتم النبوّة. قلت: قد يقال هذا ليس برواية عن الشارع، وإنما وقعت تلك العبارة عن بعضهم. ويجوز أن يكون الباء في كلامهم بمعنى مع: أي مع خاتم النبوّة فتأمل، والله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: «ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا، ثم قال الأول للذي شق صدري زنه بعشرين من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال دعه فلو وزنتموه بأمته كلهم لرجحهم كلهم، ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا يا حبيب الله لم ترع، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك» .

أقول في بعض الروايات «زنه بعشرة ثم قال زنه بمائة» ففي هذه الرواية طي ذكر وزنه بعشرين، وفي تلك الرواية طي ذكر وزنه بعشرة والله أعلم. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وبينا نحن كذلك إذا بالحي قد أقبلوا بحذافيرهم. أي بأجمعهم- وإذا بظئري- أي مرضعتي- أمام الحي تهتف- أي تصيح بأعلى صوتها- وتقول: واضعيفاه، فأكبوا عليّ- يعني الملائكة الذين هم أولئك الرهط الثلاثة- وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عينيّ، وقالوا حبذا أنت من ضعيف، ثم قالت ظئري يا وحيداه، فأكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد، إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض، ثم قالت ظئري يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقلت لضعفك، فأكبوا عليّ وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله لو تعلم ما أريد بك من الخير لقرّت عينك، فوصلوا يعني الحي إلى شفير الوادي: فلما أبصرتني أمي وهي ظئري قالت: لا أراك إلا حيا بعد، فجاءت حتى أكبت عليّ ثم ضمتني إلى صدرها فو الذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها ويدي في أيديهم يعني الملائكة، وجعل القوم لا يعرفونهم- أي لا يبصرونهم- فأقبل بعض القوم يقول إن هذا الغلام قد أصابه لمم: أي طرف من الجنون أو طائف من الجن أي وهي اللمة فانطلقوا به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه، فقلت يا هذا ما بي مما تذكر، إن آرابي أي أعضائي سليمة وفؤادي صحيح ليس بي قلبة أي علة يقلب بها إلى من ينظر فيها، فقال أبي وهو زوج ظئري: ألا ترون كلامه صحيحا إني لأرجو أن لا يكون بابني بأس، واتفقوا على أن يذهبوا بي إليه: أي إلى الكاهن، فلما انصرفوا بي إليه فقصوا عليه قصتي، فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم، فسألني فقصصت عليه أمري من أوّله إلى آخره فوثب قائما إلي وضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: يا للعرب يا للعرب من شرّ قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فو اللات والعزى لئن تركتموه فأدرك مدرك الرجال ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم وليخالفن أمركم وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله» وفي رواية «ليسفهن أحلامكم أي عقولكم وليكذبن أوثانكم وليدعونكم إلى رب لم تعرفونه ودين تنكرونه فعمدت ظئري وانتزعتني من حجره وقالت لأنت أعته وأجن ولو علمت أن هذا قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك فأنا غير قاتلي هذا الغلام ثم احتملوني إلى أهلهم وأصبحت مفزعا مما فعلوا، يعني الملائكة بي» أي من حملي من بين أترابي وإلقائي إلى الأرض، لا من خصوص الشق لما تقدم «وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي» أي أثر التئام الشق الناشئ عن إمرار يد الملك كأنه الشراك اهـ.

أقول: الشراك أحد سيور النعل الذي هو المداس الذي يكون على وجههنا، ولعل حكمة بقائه ليدل على وجود الشق. واعلم أنه حيث كانت قصة شق صدره الشريف في زمن الرضاع عند حليمة واحدة يكون هذه الروايات المراد منها واحد، وأن بعضها وقع فيها الاختصار عما وقعت به الإطالة في بعضها، وأن إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة كانوا ثلاثة لا ينافي إخباره بأنهم كانوا اثنين، ونسبة الأخذ والإضجاع والشق للبطن أو الصدر إلى الثلاثة أو إلى الاثنين، لا ينافي أن متعاطي ذلك واحد منهم كما أخبر به أخوه، وجاء التصريح به في بعض الروايات، وأن التعبير في بعضها بشق البطن هو المراد بشق الصدر إلى منتهى العانة في بعضها، وأنه ليس المراد بشق البطن أو شق الصدر شق القلب، لما تقدم في الرواية «واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها ثم أعادها مكانها، ثم قال لصاحبه تنح عنه، فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي فصدعه الحديث» وأنه يجوز أن يكون الطست كان متعددا واحدا من زمردة خضراء وواحدا من ذهب، وأن الأول كان فارغا معدا لأن يلقى فيه ماء يغسل به باطنه أي مع أحشائه ومنها أي من جملة الأحشاء ظاهر قلبه من الإبريق الفضة وأن الثاني كان مملوآ ثلجا معدا لأن يغسل به قلبه: أي داخل قلبه. وحينئذ يكون في بعض الروايات اقتصر على القلب، وفي بعضها جمع بينه وبين الأحشاء في ذلك ويحتاج إلى الجمع بين كون الشق في ذروة الجبل وكونه في شفير الوادي، وكون المخرج علقة وكونه مضغة. وقد يقال جاز أن تكون ذروة الجبل قريبة من شفير الوادي، وأنه عبر عن الذي أخرجه وألقاه تارة بالعلقة وتارة بالمضغة، ولعل تلك المضغة كانت قريبة من العلقة ولا يخفى أن هذه العلقة يحتمل أنها غير حبة القلب التي أخذت منها المحبة وهي علقة سوداء في صميمه المسماة بسويداء القلب. ويحتمل أنها هي والله أعلم، وقد أشار إلى هذه القصة صاحب الهمزية بقوله: وأتت جده وقد فصلته ... وبها من فصاله البرحاء إذ أحاطت به ملائكة الله ... فظنت بأنهم قرناء ورأى وجدها به ومن الوج ... د لهيب تصلى به الأحشاء فارقته كرها وكان لديها ... ثاويا لا يمل منه الثواء شق عن قلبه وأخرج منه ... مضغة عند غسله سوداء ختمته يمنى الأمين وقد أو ... دع ما لم يذع له أنباء

صان أسراره الختام فلا الف ... ض ملمّ به ولا الإفضاء أي وأتت حليمة به جده والحال أنها فطمته والحال أنه لحق بها من أجل فطامه، ورده التألم الزائد، وردها له لأجل أنه أحدقت به ملائكة الله فظنتهم شياطين، ورأى شدة محبتها له وتعلقها به، وقد حصل لها من الوجد الذي بها لهب تحترق الأحشاء به، وهي ما تحويه الضلوع، وفارقته بعد ردها له كارهة لفراقه والحال أنه كان مقيما عندها لا تملّ ذلك منه، وقد شق عن قلبه وأخرج من ذلك القلب عند غسله مضغة سوداء ختمت على ذلك القلب يمين الأمين جبريل بخاتم، والحال أن ذلك القلب الشريف قد أودع من الأسرار الإلهية ما لم تنشره أخبار، لأن تلك الأسرار لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، حفظ ذلك الختام أسراره التي أودعت فيه، فلا الكسر واقع بذلك الختم ولا الإشاعة واقعة لتلك الأسرار. أقول: قد علمت أن صدره الشريف شق مرّتين غير هذه المرة: مرّة عند مجيء الوحي، ومرّة عند المعراج: وزاد بعضهم أنه شق عند بلوغه عشر سنين كما في مسلم. ولما بلغ عمره صلى الله عليه وسلم عشرين سنة: أي ولعلها هي المعنية بقول صاحب المواهب وروي خامسة ولم تثبت وستأتي تلك الخامسة عن الدرّ المنثور، وسيأتي ما فيها والله أعلم. قال: وفي المرة التي كان ابن عشر سنين: أي وأشهر قال صلى الله عليه وسلم: «جاءني رجلان، فقال أحدهما لصاحبه أضجعه فأضجعني لحلاوة القفا، ثم شقا بطني فكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب، والآخر يغسل جوفي، ثم شق قلبي فقال أخرج الغل والحسد منه، فأخرج منه العلقة» . والمتبادر أن أل في العلقة للعهد، وهي العلقة السوداء، التي تقدم أنها حظ الشيطان وأنها مغمزة فهي محل الغلّ والحسد. وفيه أنه تقدم أيضا أن تلك العلقة أخرجت وألقيت قبل هذه المرة وتكرر نبذها مستحيل إلا أن تحمل العلقة على جزء بقي من أجزائها بناء على جواز أنها تجزأت أكثر من جزأين، المعبر عنهما فيما تقدم عن بعض الروايات علقتين سوداوين، إلا أن يقال المراد بقوله فأخرج منه العلقة أي أخرج ما هو كالعلقة: أي شيئا يشبه العلقة كما سيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات «فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذره عليه أي على شق القلب ليلتحم به ثم نقر إبهامي ثم قال اغد واسلم» . أقول: لم يذكر في هذه المرة الختم. وظاهر هذه الرواية أن الصدر التحم

بمجرد ذر الذرور. وتقدم في قصة الرضاع أن ذلك كان من إمرار يد الملك واستمر أثر التئام الشق بشاهد كالشراك. وفي الدر المنثور عن زوائد مسند الإمام أحمد عن أبي بن كعب، عن أبي هريرة قال: «يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوّة؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال: لقد سألت يا أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر، إذا بكلام فوق رأسي، وإذا برجل يقول لرجل أهو هو، فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إليّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأخذهما مسا فقال أحدهما لصاحبه أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر» أي من غير إتعاب «فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغلّ والحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج» أي ليدخله شبه الفضة «ثم نقر إبهام رجلي اليمنى وقال اغد واسلم فرجعت أغدو بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير» ولم يذكر في هذه المرة الغسل فضلا عما يغسل به، ولم يذكر الختم، ولكن قول الرجل للآخر أهو هو يدل على أن الرجلين ليسا جبريل وميكائيل لأنهما يعرفانه، وقد فعلا به ذلك في قصة الرضاع. وقد يدعي أن هذه الرواية هي عين الرواية قبلها، وذكر عشرين سنة غلط من الراوي، وإنما هي عشر سنين. ثم رأيت ما يصرح بذلك وهو كان سنه عشر حجج، وقد تحمل هذه المرة أي كونه ابن عشرين سنة، على أن ذلك كان في المنام وإن كان خلاف ظاهر السياق. وقال صلى الله عليه وسلم في المرة التي هي عند ابتداء الوحي: «جاءني جبريل وميكائيل فأخذني جبريل وألقاني لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبي فاستخرجه، ثم استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج» ولم يبين ذلك ما هو «ثم غسله في طست من ماء زمزم ثم أعاده مكانه ثم لأمه: أي بذلك الذرور: أي بإمرار يده أو بهما جميعا ثم أكفأني كما يكفى الإناء ثم ختم في ظهري» . يحتمل أن يكون المراد في غير المحل الذي ختمه في قصة الرضاع وهو بين كتفيه. ويحتمل أن المراد بظهره المحل الذي ختمه في قصة الرضاع. وفيه أنه لا معنى لوضع الختم على الختم كما تقدم ويمكن أن تكون الحكمة في الجمع بين جبريل وميكائيل أن ميكائيل ملك الرزق الذي به حياة الأجساد والأشباح، وجبريل ملك الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، والمرة التي هي عند المعراج سيأتي الكلام عليها. وفيها أن الختم وقع بين كتفيه وفيه ما علمت. وقد علمت أن شق الصدر والبطن غير شق القلب، وأن شق القلب وإخراج

العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان ومغمزه مما اختص به صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وما في بعض الآثار أن التابوت أي تابوت بني إسرائيل كان فيه الطست الذي غسلت فيه قلوب الأنبياء المراد ظاهر قلوبهم، لأن القلب من جملة الأحشاء التي غسلت بغسل الصدر أو البطن كما تقدم على أن ابن دحية ذكر أنه أثر باطل. وقد يطلق الصدر على القلب من باب تسمية الحال باسم محل. ومنه ما وقع في قصة المعراج «ثم أتى بطست ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغ في صدره» ومنه قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: إن شق صدره الشريف من خصائصه صلى الله عليه وسلم على الأصح من القولين: أي شق قلبه. وسيأتي الكلام على ذلك في الكلام على المعراج بما هو أبسط مما هنا. وعن حليمة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت بعد رجوعها به صلى الله عليه وسلم من مكة لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا: أي عنها، فغفلت عنه صلى الله عليه وسلم يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه فوجدته مع أخته أي من الرضاعة وهي الشيماء، وكانت تحضنه مع أمها أي ولذلك تدعى أمّ النبي أيضا أي وكانت ترقصه بقولها: هذا أخ لي لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي فأنمه اللهم فيما تنمي فقالت في هذا الحر: أي لا ينبغي أن يكون في هذا الحر، فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظلّ عليه، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع، فجعلت تقول: أحقا يا بنية؟ قالت: إي والله، فجعلت تقول: أعوذ بالله من شرّ ما يحذر على ابني: أي وفي كلام بعضهم: ورأت يعني حليمة الغمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت. وقد يقال الرؤية في حق حليمة علمية، وفي حق أخته بصرية فلا مخالفة، أو أنها أبصرتها بعد الإخبار بها كما يدل على ذلك القول بأنه أفزعها ذلك من أمره أي وفي كونها فزعت من ذلك بعد إخبار أخته لها بذلك شيء، فقدمت به على أمه. أقول: عن الواقدي أن حليمة لما قدمت به صلى الله عليه وسلم إلى مكة لترده لأمه رأت غمامة تظله في الطريق، إن سار سارت، وإن وقف وقفت. وسياق هذه الرواية يقتضي أنها ردته إلى أمه عقب مجيئها به من مكة، وأن ذلك كان قبل شقّ صدره عندها. وحينئذ تكون هذه قدمة ثانية لحليمة إلى مكة كانت قبل شق صدره، ففي القدمة الأولى كان سنه صلى الله عليه وسلم سنتين، وفي هذه القدمة كان سنه صلى الله عليه وسلم سنتين وأشهرا

وتكون هذه المرة الثانية محمل قول حليمة: فو الله إنه بعد مقدمنا بأشهر. وقول ابن الأثير بشهرين أو ثلاثة. وأما في القدمة الثالثة وهي التي بعد شق صدره وتركها له صلى الله عليه وسلم عند أمه كان سنه أربع سنين، وفيها كانت وفاتها على ما يأتي، وقيل خمس سنين قاله ابن عباس، وقيل ست سنين، ويكون بعض الرواة اشتبه عليه الأمر، وظن أن هذه القدمة الثانية التي قبل شق صدره هي الثالثة التي بعد شق صدره صلى الله عليه وسلم فلزم الإشكال، فتأمل ذلك تأملا حميدا، ولا تكن ممن يفهم تقليدا، والله أعلم. ووفدت عليه صلى الله عليه وسلم حليمة بعد تزوجه خديجة تشكو إليه ضيق العيش، فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرات، جمع بكرة: وهي الثنية من الإبل: أي وفي رواية أربعين شاة وبعيرا اهـ. ووفدت عليه يوم حنين فبسط لها رداءه فجلست عليه، أي فقد قال بعضهم: لم تره بعد أن ردته إلا مرتين: إحداهما بعد تزوّجه خديجة: أي وعليه تكون هذه المرة هي التي قدمت فيها مع زوجها وولدها وأجلسهم على ردائه أي ثوبه الذي كان جالسا عليه كما تقدم، والمرة الثانية يوم حنين. وفي كلام القاضي عياض: ثم جاءت أبا بكر ففعل ذلك: أي بسط لها رداءه، ثم جاءت عمر ففعل كذلك. وفي كلام ابن كثير أن حديث مجيء أمه صلى الله عليه وسلم إليه في حنين غريب وإن كان محفوظا، فقد عمرت دهرا طويلا لأن من وقت أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقت الجعرانة: أي بعد رجوعه من حنين أزيد من ستين سنة. وأقل ما كان عمرها حين أرضعته عليه الصلاة والسلام ثلاثين سنة وكونها وفدت على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما تزيد المدة على المائة. وعن أبي الطفيل قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لحما بالجعرانة: أي بعد رجوعه من حنين، كما تقدم، والطائف وأنا غلام شاب فأقبلت امرأة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه، فقيل: من هذه؟ قيل: أمه التي أرضعته صلى الله عليه وسلم» وفي رواية «استأذنت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت ترضعه، فلما دخلت عليه قال: أمي أمي وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه» اهـ. وتقدم عن شرح الهمزية لابن حجر أن من سعادة حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها. وفي الأصل ومن الناس من ينكر إسلامها، وأشار بذلك إلى شيخه الحافظ الدمياطي فإنه من جملة المنكرين حيث قال: أي في سيرته: حليمة لا يعرف لها صحبة ولا إسلام، وقد وهم غير واحد فذكروها في الصحابة وليس بشيء، وكان

الأنسب أن يقول ذكروا إسلامها وليس بشيء ويوافقه قول الحافظ ابن كثير الظاهر أن حليمة لم تدرك البعثة. ورده بعضهم فقال: إسلامها لا شك فيه عند جماهير العلماء، ولا يعول على قول بعض المتأخرين إنه لم يثبت. فقد روى ابن حبان حديثا صحيحا دل على إسلامها، وأنكر الحافظ الدمياطي وفودها عليها في حنين وقال: الوافدة عليه في ذلك إنما هي أخته من الرضاعة وهي الشيماء. أقول: وعلى صحة ما قاله الحافظ الدمياطي لا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: «أمي أمي» لأنه كان يقال لأخته الشيماء أم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها كانت تحضنه مع أمها كما تقدم، ولا قول بعض الصحابة أمه التي أرضعته، لأنه يجوز أنه لما قيل أمه حملها على المرضعة له صلى الله عليه وسلم لتيقن موت أمه من النسب. وعلى كون الوافدة عليه في حنين أخته اقتصر في الهدى والله أعلم. أقول: قال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد عدة آثار في مجيء أمه من الرضاعة إليه صلى الله عليه وسلم في حنين، وفي تعدد هذه الطرق ما يقتضي أن لها أصلا أصيلا، وفي اتفاق الطرق على أنها أمه رد على من زعم أن التي قدمت عليه أخته اهـ. أقول: لا رد في ذلك، لأنه علم أن أخته المذكورة كان يقال لها أم النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف بعض الصحابة لها بأنها أمه من الرضاعة تقدم أنه يجوز أن يكون بحسب ما فهم. ومما يعين أنها أخته ما سيأتي أنها لما أخذت في حنين من جملة سبي هوازن قالت للمسلمين: أنا أخت صاحبكم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له: يا رسول الله أنا أختك، قال: وما علامة ذلك، قالت عضة عضيتنيها في ظهري وأنا متوركتك فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فقام لها قائما وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت عيناه إلى آخر ما يأتي. وكلام المواهب يقتضي أنهما قضيتان: واحدة كانت فيها أخته، والأخرى كانت فيها أمه من الرضاعة حيث قال: «وقد روي أن خيلا له صلى الله عليه وسلم أغارت على هوازن، فأخذوها يعني أخته من الرضاعة التي هي الشيماء، فقالت أنا أخت صاحبكم إلى أن قال فبسط لها رداءه وأجلسها عليه فأسلمت» ثم قال: وجاءته يعني أمه من الرضاعة التي هي حليمة يوم حنين فقام إليها وبسط رداءه لها وجلست عليه. وهذا كما ترى يوهم أن الخيل التي أغارت على هوازن التي كانت فيها أخته لم تكن في حنين، وأن أمه لم تكن يوم حنين في سبي هوازن مع أن القصة واحدة، وأن سبي هوازن كان يوم حنين. فيلزم أن يكون جاء إليه يوم حنين كل من أمه وأخته من الرضاعة الأولى في غير السبي والثانية في السبي. وأنه فرش لكل رداءه، وهو

تابع في ذلك لابن عبد البر حيث قال في الاستيعاب: حليمة السعدية أم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة جاءت إليه يوم حنين، فقام لها وبسط لها رداءه فجلست عليه وروت عنه: وروى عنها عبد الله بن جعفر، ثم قال حذافة أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة يقال لها الشيماء، أغارت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على هوازن، فأخذوها فيما أخذوا من السبي الحديث، وكون عبد الله بن جعفر روى عن حليمة. قال الحافظ ابن حجر: لا يتهيأ له السماع منها إلا بعد الهجرة بسبع سنين فأكثر، لأنه قدم من الحبشة مع أبيه الذي هو جعفر بن أبي طالب في خيبر سنة سبع، وتبعد حياتها وبقاؤها إلى ذلك الزمن. وفيه أن حنينا بعد خيبر، وأبعد من ذلك وقوفها على أبي بكر وعمر، وقد تقدم ما يشعر باستبعاد ذلك عن ابن كثير. والذي يتجه أن الوافدة عليه في حنين أخته لا أمه كما يقول الحافظ الدمياطي، والله أعلم. قال: قال أبو الفرج بن الجوزي: ثم قدمت، أي حليمة، عليه بعد النبوة فأسلمت وبايعت أي فلا يقال: سلمنا أن حليمة هي القادمة عليه: أي بعد النبوة، فما الدليل على إسلامها اهـ. أقول: كان من حقه أن يقول بدل هذه العبارة التي ذكرها وإنما قال يعني ابن الجوزي فأسلمت بعد قوله قدمت عليه بعد النبوة لأنه لا يلزم من قدومها عليه بعد النبوة إسلامها. وفي كون قول ابن الجوزي فأسلمت دليلا على إسلامها نظر، بل هي دعوى تحتاج إلى دليل، إلا أن يقال: قول ابن الجوزي فأسلمت دليل لنا على إسلامها: والله أعلم. وذكر الذهبي أن التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم في الجعرانة يجوز أن تكون ثويبة، ونظر فيه بأن ثويبة توفيت سنة سبع: أي من الهجرة أي مرجعه من خيبر على ما تقدم. أقول ذكر في النور أن الحافظ مغلطاي له مؤلف في إسلام حليمة سماه: التحفة الجسيمة في إسلام حليمة. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم ترضعه مرضعة إلا وأسلمت، لكن هذا البعض قال: ومرضعاته صلى الله عليه وسلم أربع: أمه وحليمة السعدية وثويبة وأم أيمن أيضا. وهو يؤيد ما تقدم عن ابن منده من إسلام ثويبة: وأما إسلام آمنة فسنذكره، وكون أم أيمن أرضعته صلى الله عليه وسلم تقدم ما فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب: وفاة أمه صلى الله عليه وسلم وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب له

باب: وفاة أمه صلى الله عليه وسلم وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب له أي اختصاصه بذلك. ذكر ابن اسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت أمه لما بلغ ست سنين. وقيل كان سنه أربع سنين، وبه صدر في المواهب: أي وهو يرد القول بأن حليمة لما ردته إلى أمه كان عمره خمس أو ست سنين: قال: وقيل كان سنه صلى الله عليه وسلم سبع سنين، وقيل ثمان، وقيل تسع، وقيل اثنتي عشرة وشهرا وعشرة أيام اهـ. ووفاتها كانت بالأبواء، وهو محل بين مكة والمدينة: أي وهو إلى المدينة أقرب. وسمي بذلك لأن السيول تتبوّأه: أي تحل فيه ودفنت به. فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما مر بالأبواء في عمرة الحديبية قال: إن الله أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه وأصلحه، وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكائه صلى الله عليه وسلم وقيل له في ذلك، فقال: أدركتني رحمتها فبكيت وكان موتها وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم من المدينة من زيارة أخواله: أي أخوال جده عبد المطلب، لأن أم عبد المطلب من بني عدي بن النجار كما تقدم، بعد أن مكثت عندهم شهرا ومرضت في الطريق ومعها أم أيمن بركة الحبشية التي ورثها من أبيه عبد الله على ما تقدم، فحضنته وجاءت به إلى جده عبد المطلب: أي بعد خمسة أيام من موت أمه، فضمه إليه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده. هذا وفي كلام بعضهم: وبقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أمه بالأبواء حتى أتاه الخبر إلى مكة: وجاءت أم أيمن مولاة أبيه عبد الله فاحتملته، وذلك لخامسة من موت أمه فليتأمل. وكون موت أمه صلى الله عليه وسلم كان في حياة عبد المطلب هو المشهور الذي لا يكاد يعرف غيره، وبه يرد قول من قال إن موت عبد المطلب كان قبل موت أمه صلى الله عليه وسلم بسنتين. أي وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأم أيمن: «أنت أمي بعد أمي» ويقول: «أم أيمن أمي بعد أمي» وفي القاموس: دار رابغة- بالغين المعجمة- بمكة فيها مدفن أمه صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على محل تلك الدار من مكة قال: وقيل توفيت: أي دفنت بالحجون بشعب أبي ذؤيب، وغلط قائله. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فمر على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم إنه طفق» أي شرع يقول: «يا حميراء استمسكي، فاستندت إلى جنب البعير، فمكث عني طويلا ثم عاد

إليّ وهو فرح متبسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك، ثم إنك عدت إليّ وأنت فرح متبسم فمم ذاك؟ قال ذهبت لقبر أمي فسألت ربي أن يحييها، فأحياها فآمنت وردها الله تعالى» . وهذا الحديث قد حكم بضعفه جماعة، منهم الحافظ أبو الفضل بن ناصر الدين، والجوزقاني وابن الجوزي، والذهبي في الميزان، وأقره على ذلك الحافظ ابن حجر في لسان الميزان جعله ابن شاهين ومن تبعه ناسخا لأحاديث النهي عن الاستغفار: أي لها. منها ما جاء «أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة» أي ولعله في عمرة القضاء، لأنه لم يقدم مكة نهارا «مع أصحابه قبل حجة الوداع إلا في ذلك أتى رسم قبر أمه فجلس إليه فناجاه طويلا ثم بكى، قال ابن مسعود فبكينا لبكائه صلى الله عليه وسلم، ثم قام ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ قلنا بكينا لبكائك، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة» الحديث. وفي رواية «أتى قبر أمه فجلس إليه، فجعل يخاطبه، ثم قام مستعبرا، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله قد رأينا ما صنعت، قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي» وفي رواية «إن جبريل عليه الصلاة والسلام ضرب في صدره صلى الله عليه وسلم وقال: لا تستغفر لمن مات مشركا، فما رئي باكيا أكثر منه يومئذ» وفي رواية «استأذنته في الدعاء لها: أي بالاستغفار، فلم يأذن لي وأنزل علي ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التّوبة: الآية 113] فأخذني ما يأخذ الولد للوالد» قال القاضي عياض: بكاؤه صلى الله عليه وسلم على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به أي النافع إجماعا، وكونه ناسخا لذلك غير جيد، لأن أحاديث النهي عن الاستغفار بعض طرقها صحيح رواه مسلم وابن حبان في صحيحيهما. ونص مسلم «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة» وفي لفظ «تذكركم الموت» وهذا الحديث: أي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها على تسليم ضعفه أي دون وضعه لا يكون ناسخا للأحاديث الصحيحة. أقول: ذكر الواحدي في أسباب النزول أن آيتي ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [التّوبة: الآية 113]- وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ [التّوبة: الآية 114] نزلتا لما استغفر صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بعد موته فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذي قرابتنا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه، وقد استغفر إبراهيم لأبيه: أي فنزولهما كان عقب موت أبي طالب. لا يقال جاز أن تكون آية ما كانَ لِلنَّبِيِّ [التّوبة: الآية 113] تكرر نزولها لما استغفر صلى الله عليه وسلم لعمه ولما استغفر لأمه، لأنا نقول كونه يعود للاستغفار بعد أن نهى عنه فيه ما

فيه، أو المراد بالنسخ المعارضة، يعني قول ابن شاهين إنه ناسخ أحاديث النهي عن الاستغفار: أي معارض لها، إذ لا معنى للنسخ هنا، على أنه لا معارضة، لأن النهي عن الاستغفار لها كان قبل أن تؤمن. وإذا ثبت ما تقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها وما بعده كان دليلا لمن يقول قبر أمه صلى الله عليه وسلم بمكة. وعلى كونها دفنت بالأبواء اقتصر الحافظ الدمياطي في سيرته، وكذا ابن هشام في سيرته. وفي الوفاء عن ابن سعد: أن كون قبرها بمكة غلط وإنما قبرها بالأبواء. وقد يقال: على تقدير صحة الحديثين: أي أنها دفنت بالأبواء وأنها دفنت بمكة يجوز أنها تكون دفنت أولا بالأبواء ثم نقلت من ذلك المحل إلى مكة، فعلم أن بكاءه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يحييها الله له وتؤمن به. ومن ثم قال الحافظ السيوطي إن هذا الحديث: أي حديث عائشة قيل إنه موضوع، لكن الصواب ضعفه لا وضعه هذا كلامه. ويجوز أن يكون قوله لشخصين: «أمي وأمكما في النار» على تقدير صحته التي ادعاها الحاكم في المستدرك كان قبل إحيائها وإيمانها به كما تقدم نظير ذلك في أبيه صلى الله عليه وسلم. وقولنا على تقدير صحة الحديث إشارة لما تقرر في علوم الحديث أنه لا يقبل تفرد الحاكم بالتصحيح في المستدرك، لما عرف من تساهله فيه في التصحيح. وقد بين الذهبي ضعف هذا الحديث، وحلف على عدم صحته يمينا. وتقدم الجواب عما يقال كيف ينفع الإيمان بعد الموت، وتقدم ما فيه. على أن هذا: أي منع الاستغفار لها إنما يأتي على القول بأن من بدّل أو غيّر أو عبد الأصنام من أهل الفترة معذب، وهو قول ضعيف مبني على وجوب الإيمان والتوحيد بالعقل. والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنه لا يجب ذلك إلا بإرسال الرسل. ومن المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسمعيل، وأن إسمعيل انتهت رسالته بموته كبقية الرسل، لأن ثبوت الرسالة بعد الموت من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعليه أهل الفترة من العرب لا تعذيب عليم وإن غيروا أو بدلوا أو عبدوا الأصنام، والأحاديث الواردة بتعذيب من ذكر أي من غيّر أو بدّل أو عبد الأصنام مؤولة، أو خرجت مخرج الزجر للحمل على الإسلام. ثم رأيت بعضهم رجح أن التكليف بوجوب الإيمان بالله تعالى وتوحيده: أي بعدم عبادة الأصنام يكفي فيه وجود رسول دعا إلى ذلك وإن لم يكن ذلك الرسول مرسلا لذلك الشخص بأن لم يدرك زمنه حيث بلغه أنه دعا إلى ذلك أو أمكنه علم ذلك، وأن التكليف بغير ذلك من الفروع لا بد فيه من أن يكون ذلك الرسول مرسلا

لذلك الشخص وقد بلغته دعوته. وعلى هذا فمن لم يدرك زمن نبينا صلى الله عليه وسلم ولا زمن من قبله من الرسل معذب على الاشراك بالله بعبادة الأصنام لأنه على فرض أن لا تبلغه دعوة أحد من الرسل السابقين إلى الإيمان بالله وتوحيده، لكنه كان متمكنا من علم ذلك فهو تعذيب بعد بعث الرسل لا قبله. وحينئذ لا يشكل ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بعث الله نبيا إلى قوم ثم قبضه إلا جعل بعده فترة يملأ من تلك الفترة جهنم» ولعل المراد المبالغة في الكثرة، وإلا فقد أخرج الشيخان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول (هل من مزيد) حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيرتد بعضها إلى بعض وتقول قط قط» أي حسبي بعزتك وكرمك، وأما بالنسبة لغير الإيمان والتوحيد من الفروع فلا تعذيب على تلك الفروع، لعدم بعثة رسول إليهم فأهل الفترة وإن كانوا مقرين بالله إلا أنهم أشركوا بعبادة الأصنام. فقد حكى الله تعالى عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر: الآية 3] وقد جاء النهي عن ذلك على ألسنة الرسل السابقين. ووجه التفرقة بين الإيمان والتوحيد وغير ذلك: أن الشرائع بالنسبة للإيمان بالله وتوحيده كالشريعة الواحدة لاتفاق جميع الشرائع عليه. قيل وهو المراد من قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشّورى: الآية 13] فقد قال بعضهم: المراد من الآية استواء الشرائع كلها في أصل التوحيد: أي ومن ثم قال في تمام الآية وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: الآية 103] فيه وقال: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: الآية 59] وقال وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: الآية 73] ومن ثم قاتل بعض الأنبياء غير قومه على الشرك بعبادة الأصنام، ولو لم يكن الإيمان والتوحيد لازما لهم لم يقاتلهم، بخلاف غيره من الفروع فإن الشرائع فيها مختلفة. قال بعضهم: سبب اختلاف الشرائع اختلاف الأمم في الاستعداد والقابلية. والدليل على أن الأنبياء متفقون على الإيمان والتوحيد ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الأنبياء أولاد علات» أي أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع شرائعهم، لأن العلات الضرائر، فأولادهم إخوة من الأب وأماتهم مختلفة. وقد جاء هذا التفسير في نفس الحديث. ففي بعض الروايات «الأنبياء إخوة من علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» وبه يعلم ما في كلام العلامة ابن حجر الهيتمي حيث ذكر أن الحق الواضح الذي لا غبار عليه أن أهل الفترة جميعهم ناجون، وهم من لم يرسل لهم رسول

يكلفهم بالإيمان بالله عز وجل، فالعرب حتى في زمن أنبياء بني إسرائيل أهل فترة لأن تلك الرسل لم يؤمروا بدعايتهم إلى الله تعالى وتعليمهم الإيمان قال: نعم، من ورد فيه حديث صحيح من أهل الفترة بأنه من أهل النار، فإن أمكن تأويله فذاك، وإلا لزمنا أن نؤمن بهذا الفرد بخصوصه. قال: وأما قول الفخر الرازي: لم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد معلومة، فجوابه أن كل رسول إنما أرسل إلى قوم مخصوصين، فمن لم يرسل إليه لا يعذب. وجواب ما صح من تعذيب أهل الفترة أنها أخبار آحاد، فلا تعارض القطع، أو يقصر التعذيب على ذلك الفرد بخصوصه: أي حيث لا يقبل التأويل، كما تقدم، هذا كلامه. هذا وقد جاء أنهم: أي أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة. فقد أخرج البزار عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم فيقولون: ربنا لم ترسل لنا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأن تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا: ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها، فيقول: ادخلوها داخرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما» . قال الحافظ ابن حجر: فالظن بآله صلى الله عليه وسلم، يعني الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الامتحان إكراما له صلى الله عليه وسلم لتقرّ عينه ويرجو أن يدخل عبد المطلب الجنة في جماعة من يدخلها طائعا إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن به أي بعد أن طلب منه الإيمان. ومما استدل به الحافظ السيوطي على أن أبويه صلى الله عليه وسلم ليسا في النار قال: لأنهما لو كانا في النار لكانا أهون عذابا من أبي طالب، لأنهما أقرب منه وأبسط عذرا لأنهما لم يدركا البعثة، ولا عرض عليهما الإسلام فامتنعا بخلاف أبي طالب. وقد أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه أهون أهل النار عذابا، فليسا أبواه صلى الله عليه وسلم من أهلها. قال: وهذا يسمى عند أهل الأصول دلالة الإشارة. وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد من أهل بيته: أي ولا أحد من أشراف قريش إجلالا له، فكان بنوه وسادات قريش يحدقون به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر: أي شديد قوي حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب: إذا رأى: أي علم ذلك منهم دعوا ابني، فو الله إن له لشأنا، ثم يجلسه عليه معه، ويمسح ظهره ويسرّه ما يراه يصنع.

قال: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: دعوا ابني يجلس، فإنه يحس من نفسه بشيء: أي بشرف، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه به عربي قبله ولا بعده. وفي رواية: دعوا ابني إنه ليؤنس ملكا: أي يعلم من نفسه أن له ملكا. وفي لفظ: ردوا ابني إلى مجلسي، فإنه تحدثه نفسه بملك عظيم وسيكون له شأن. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت، أبي يقول: كان لعبد المطلب مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره، وكان حرب بن أمية فمن دونه من عظماء قريش يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو غلام لم يبلغ الحلم فجلس على المفرش، فجذبه رجل فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد المطلب وذلك بعد ما كف بصره ما لابني يبكي، قالوا له: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال عبد المطلب: دعوا ابني يجلس عليه فإنه يحس من نفسه بشرف: أي يتيقن في نفسه شرفا، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده: أي فكانوا بعد ذلك لا يردونه عنه حضر عبد المطلب أو غاب: أي ولعل هذا كان في آخر الأمر، فلا ينافي ما تقدم الدّال ظاهرا على تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم، من اختلاف قول عبد المطلب، وإلا فيحتمل أن اختلاف قول عبد المطلب جاء من اختلاف الرواة. وقال لعبد المطلب قوم من بني مدلج: أي وهم القافة العارفون بالآثار والعلامات: احتفظ به، فإنا لم نر قط ما أشبه بالقدم التي في المقام منه: أي وهي قدم إبراهيم عليه الصلاة والسلام. أقول: أي فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أثرت قدماه في المقام: وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت كما سيأتي، وهو الذي يزار الآن بالمكان الذي يقال له مقام إبراهيم: أي وقد أشار إلى ذلك عمه أبو طالب في قصيدته بقوله مقسما: وبالحجر المسود إذ يلثمونه ... إذا اكتنفوه في الضحى والأصائل وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل قال الحافظ ابن كثير: يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: رأيت في المقام أثر أصابع إبراهيم وعقبيه وأخمص قدميه غير أن مسح الناس بأيديهم أذهب ذلك: أي ومشابهة قدمه صلى الله عليه وسلم لقدم سيدنا إبراهيم تدل على أن تلك الأقدام بعضها من بعض كما تقدم في قول مجزز المدلجي في زيد بن أسامة رضي الله عنهما وقد ناما وغطيا رؤوسهما وبدت

أقدامهما: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسرّ بذلك صلى الله عليه وسلم لأن في ذلك ردا على من كان يطعن في نسب أسامة بن زيد كما تقدم. وذكر بعضهم أن نبينا صلى الله عليه وسلم أثر قدمه في الحجر أيضا، فقد أثر في صخرة بيت المقدس ليلة الإسراء، وإن ذلك الأثر موجود إلى الآن. وذكر الجلال السيوطي أنه لم يقف لذلك: أي لتأثير قدمه صلى الله عليه وسلم في الحجر على أصل ولا سند. قال: ولا رأيت من خرجه في شيء من كتب الحديث. وقال مثل ذلك فيما اشتهر على الألسنة من أن مرفقه الشريف لما ألصقه بالحائط غاص في الحجر وأثر فيه وبه يسمى ذلك المحل بمكة بزقاق المرفق. ومن العجب أن الجلال السيوطي مع قوله المذكور قال في الخصائص الصغرى: ولا وطئ على صخر إلا وأثر فيه هذا كلامه، ولعله ظهر له صحة ذلك بعد إنكاره. ودعوى أنه صلى الله عليه وسلم ما وطئ على صخر إلا وأثر فيه قد يتوقف فيه. ثم رأيت الإمام السبكي ذكر تأثير قدمه الشريف في الأحجار حيث قال في تائيته: وأثر في الأحجار مشيك ثم لم ... يؤثر برمل أو ببطحاء رطبة قال شارحها: ولعل عدم تأثير قدمه الشريف في الرمل كان ليلة ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الغار: أي فليس كان هذا شأنه في كل رمل مشى عليه «وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع قدمه عن الرمل يقول لأبي بكر ضع قدمك موضع قدمي فإن الرمل لا ينمّ» أراد به إخفاء أثر سيره ليتحير المشركون في طلبه. وفيه أن هذا التعليل مقتض لتأثير قدمه الشريف في الرمل لا لعدم تأثيره في ذلك. ويؤيد ذلك أنه سيأتي أنهم قصوا أثره إلى أن انقطع الأثر عند الغار: أي وقال لهم القاص هذا أثر قدم ابن أبي قحافة، وأما القدم الآخر فلا أعرفه إلا أنه يشبه القدم الذي في المقام يعني مقام إبراهيم، فقالت قريش: ما وراء هذا شيء أي محل كما سيأتي. وفيه أن هذا أي تميز قدمه الشريف من قدم سيدنا أبي بكر ربما ينافيه قوله لأبي بكر: «ضع قدمك موضع قدمي فإن الرمل لا ينم» . وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون قدم أبي بكر لم يكن مساويا لقدمه صلى الله عليه وسلم ولا يضر في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن الرمل لا ينم» لجواز أن يكون المراد لا يظهر فيه قدمي ظهور أبينا فصح قول القائل هذا أثر قدم ابن أبي قحافة، وأما القدم الآخر إلى آخره، ولم يعترض هذا الشارح على تأثير قدمه صلى الله عليه وسلم في الحجارة بل أبدى لذلك حكما لا بأس بها فلتراجع. وقوله في الأحجار يدل على أنه تكرر تأثير قدمه الشريف في الأحجار ولكن لم

يكن ذلك شأنه صلى الله عليه وسلم في كل حجر مشى عليه كما دلت عليه عبارة الجلال السيوطي، والله أعلم. قال: وبينا عبد المطلب يوما في الحجر وعنده أسقف نجران. والأسقف: رئيس النصارى في دينهم اشتق من السقف بالتحريك وهو طول الانحناء لأنه يتخاشع: أي يظهر الخشوع وذلك الأسقف يحادثه ويقول له إنا نجد صفة نبي بقي من ولد إسمعيل وهذا البلد مولده، ومن صفته كذا وكذا، وأتى برسول صلى الله عليه وسلم فنظر إليه الأسقف إلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدمه، وقال: هو هذا ما هذا منك قال: هذا ابني، قال: ما نجد أباه حيا، قال: هو ابن ابني، وقد مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت، فقال عبد المطلب لبنيه تحفظوا بابن أخيكم، ألا تسمعون ما يقال فيه؟ انتهى. وعن أم أيمن «كنت أحضن النبي صلى الله عليه وسلم أي أقوم بتربيته فغفلت، عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول يا بركة. قلت لبيك، قال: أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت لا أدري، قال: وجدته مغ غلمان قريبا من السدرة لا تغفلي عن ابني فإن أهل الكتاب أي ومنهم سيف بن ذي يزن كما سيأتي يزعمون أنه نبي هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم، وكان لا يأكل يعني عبد المطلب طعاما إلا يقول عليّ بابني أي أحضروه، قال: وكان عبد المطلب إذا أتي بطعام أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وربما أقعده على فخذه فيؤثره بأطيب طعامه انتهى. وعن بعضهم أي وهو حيدة بن معاوية العامري كان من المعمرين، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم. قال بعضهم: مات وهو عم ألف رجل وامرأة، قال: حججت في الجاهلية، فبينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل. وفي رواية: إذا شيخ طويل يطوف بالبيت وهو يقول: رد إلى راكبي محمدا وفي رواية: يا رب رد راكبي محمدا ... اردده ربي واصطنع عندي يدا قلت من هذا؟ قالوا: عبد المطلب بن هاشم، بعث ابن ابنه في طلب إبل له ضلت وما بعثه في شيء إلا جاء به، قال وفي رواية هذا سيد قريش عبد المطلب له إبل كثيرة فإذا ضل منها شيء بعث فيه بنيه يطلبونها، فإذا غابوا بعث ابن ابنه ولم يبعثه في حاجة إلا أنجح فيها، وقد بعثه في حاجة أعيا عنها بنوه وقد أبطأ عليه انتهى، فما برحت: أي ما زلت عن مكاني حتى جاء بالإبل معه، فقال له: يا بني حزنت عليك حزنا لا يفارقني بعده أبدا، وتقدم عن بعض المفسرين ما لا يحتاج إلى إعادته هنا.

وعن رقيقة بنت أبي صيفي: أي ابن هاشم بن عبد مناف زوجة عبد المطلب، ذكرها ابن سعد في المسلمات المهاجرات أقول: وقال أبو نعيم: لا أراها أدركت الإسلام. وقال ابن حبان: يقال إن لها صحبة والله أعلم. قالت تتابعت على قريش سنون: أي أزمنة قحط وجدب ذهبت بالأموال، وأشفين: أي أشرفن على الأنفس، قالت فسمعت قائلا يقول في المنام: يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم هذا إبان أي وقت خروجه وبه يأتيكم الحيا أي بالقصر المطر العام والخصب، فانظروا رجلا من أوساطكم: أي أشرافكم نسبا طولا عظاما أي طويلا عظيما أبيض مقرون الحاجبين أهدب الأشفار أي طويل شعر الأجفان، أسيل الخدين: أي لا نتوّ بهما رقيق العرنين أي الأنف. وقيل أوله فليخرج هو وجميع ولده وليخرج منكم من كل بطن رجل فيتطهروا ويتطيبوا، ثم استلموا الركن، ثم ارقوا إلى رأس أبي قبيس، ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقي وتؤمنون، فإنكم تسقون، فأصبحت وقصت رؤياها عليهم، فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب فاجتمعوا عليه، وأخرجوا من كل بطن رجلا ففعلوا ما أمرتهم به، ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فتقدم عبد المطلب فقال: لا هم هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنو إمائك، وقد نزل بنا ما ترى، وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر: أي الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، فأشفت على الأنفس: أي أشرفت على ذهابها فأذهب عنا الجدب، وائتنا بالحيا والخصب فما برحوا حتى سالت الأودية. قال: وفي رواية أخرى عن رقيقة قالت: تتابعت على قريش سنون جدبة أقحلت، أي أيبست الجلد، وأدقت العظم، فبينا أنا نائمة أو مهمومة أي بين اليقظانة والنائمة إذ هاتف هو الذي يسمع صوته ولا يرى شخصه كما تقدم يصرخ بصوت صحل: أي فيه بحوحة وهي خشونة الصوت وغلظه يقول: يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه: أي قربت منكم، وهذا إبان مخرجه فحيعلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم وسطا عظاما أبيض بضا أي شديد البياض، أوطف الأهداب أي كثير شعر العينين أسهل الخدين، أشم العرنين أي مرتفع الأنف، له فخر يكظم عليه أي يسكت عليه ولا يظهره وسنن يهتدى إليها أي يرشد إليها، فليخلص هو وولده وولد ولده وليدلف أي يتقدم إليه من كل بطن رجل فليسنوا من الماء: أي يفرغوه على أجسادهم أي يغتسلوا به، وليمسوا من الطيب، ثم يلتمسوا الركن وليطوفوا بالبيت العتيق سبعا، ثم ليرقوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمن القوم ألا وفيهم الطيب الطاهر فغثتم إذا ما شئتم أي جاءكم الغيث على ما تريدون. قالت: فأصبحت مذعورة قد اقشعر جلدي ووله أي ذهب عقلي، واقتصيت رؤياي أي ذكرتها على وجهها فنمت أي فشت وكثرت في شعاب مكة، فما بقي أبطحي إلا قال

هذا شيبة الحمد يعني عبد المطلب وقامت عنده قريش وانفض إليه من كل بطن رجل فسنوا من الماء، ومسوا من الطيب واستلموا وطافوا. ثم ارتقوا أبا قبيس، فطفق القوم يدنون حوله ما إن يدركه بعضهم مهلة وهي التؤدة والتأني ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أيفع أي ارتفع أو كرب أي قرب من ذلك، فقام عبد المطلب فقال اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة أنت عالم غير معلم مسؤول غير مبخل، وهذه عبيدك وإماؤك بغدرات حرمك أي أفنيته يشكون إليك سنتهم التي أقحلت أي أيبست الظلف والخف: أي الإبل والبقر فأمطرن، اللهم غيثا سريعا مغدقا فما برحوا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي: أي ضاق بثجيجه أي بسيله فلسمعت شيخان قريش وهي تقول لعبد المطلب: هنيئا لك يا أبا البطحاء، بك عاش أهل البطحاء انتهى: أي والظاهر أن القصة واحدة فليتأمل الجمع. وقد يدعى أن الاختلاف من الرواة منهم من عبر بالمعنى. وفي سقيا الناس بعبد المطلب وأن ذلك ببركته صلى الله عليه وسلم تقول رقيقة: بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... وقد عدمنا الحيا واجلوذ المطر أي امتد زمن تأخره. فجاد بالماء جونيّ له سبل ... دان............ أي أمطرها طل كثير الهطل قريب. ............... ... ... فعاشت به الأنعام والشجر منّا من الله بالميمون طائره.............. أي المبارك حظّه. ............ ... وخير من بشّرت يوما به مضر مبارك الاسم يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر أي لا معادل ولا مماثل له. ولما سقوا لم يصل المطر إلى بلاد قيس ومضر فاجتمع عظماؤهم وقالوا قد أصبحنا في جهد وجدب وقد سقى الله الناس بعبد المطلب، فاقصدوه لعله يسأل الله تعالى فيكم فقدموا مكة ودخلوا على عبد المطلب فحيوه بالسلام. فقال لهم: أفلحت الوجوه وقام خطيبهم، فقال: قد أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك، وصح عندنا خبرك، فاشفع لنا عند من شفعك وأجري الغمام لك، فقال عبد المطلب: سمعا وطاعة، موعدكم غدا عرفات، ثم أصبح غاديا إليها وخرج معه الناس وولده ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصب لعبد المطلب كرسي فجلس عليه وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم

باب: وفاة عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب له صلى الله عليه وسلم

فوضعه في حجره ثم قام عبد المطلب ورفع يديه، ثم قال: اللهم رب البرق الخاطف، والرعد القاصف، رب الأرباب، وملين الصعاب، هذه قيس ومضر، من خير البشر، قد شعثت رؤوسها، وحدبت ظهورها تشكو إليك شدة الهزال وذهاب النفوس والأموال. اللهم فأتح لهم سحابا خوارة وسماء خرارة لتضحك أرضهم ويزول ضرهم، فما استتم كلامه حتى نشأت سحابة دكناء لها دويّ وقصدت نحو عبد المطلب، ثم قصدت نحو بلادهم، فقال عبد المطلب: يا معشر قيس ومضر انصرفوا فقد سقيتم فرجعوا وقد سقوا. وذكر بعضهم أنهم كانوا في الجاهلية يستسقون إذا أجدبوا فإذا أرادوا ذلك أخذوا من ثلاثة أشجار، وهي سلع وعشر وشبرق، من كل شجرة شيئا من عيدانها وجعلوا ذلك حزمة وربطوا بها على ظهر ثور صعب وأضرموا فيها النار ويرسلون ذلك الثور، فإذا أحس بالنار عدا حتى يحترق ما على ظهره ويتساقط، وقد يهلك ذلك الثور فيسقون. وفي حياة الحيوان كانت العرب إذا أرادت الاستسقاء جعلت النيران في أذناب البقر وأطلقوها فتمطر السماء، فإن الله يرحمها بسبب ذلك. قال: وذكر ابن الجوزي أنه صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من مولده أصابه رمد شديد، فعولج بمكة فلم يغن، فقيل لعبد المطلب إن في ناحية عكاظ راهبا يعالج الأعين فركب إليه ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناداه وديره مغلق فلم يجبه، فتزلزل ديره حتى خاف أن يسقط عليه، فخرج مبادرا. فقال: يا عبد المطلب إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج إليك لخر علي ديري، فارجع به واحفظه لا يقتله بعض أهل الكتاب، ثم عالجه وأعطاه ما يعالجه به. هذا ورأيت في كتاب سماه مؤلفه «كريم الندماء ونديم الكرماء» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمد وهو صغير، فمكث أياما يشكو، فقال قائل لجده عبد المطلب: إن بين مكة والمدينة راهبا يرقي من الرمد، وقد شفى على يديه خلق كثير، فأخذه جده وذهب به إلى ذلك الراهب، فلما رآه الراهب دخل إلى صومعته فاغتسل ولبس ثيابه ثم أخرج صحيفة فجعل ينظر إلى الصحيفة وإليه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هو والله خاتم النبيين، ثم قال: يا عبد المطلب هو أرمد؟ قال نعم، قال: إن دواءه معه، يا عبد المطلب خذ من ريقه وضعه على عينيه فأخذ عبد المطلب من ريقه صلى الله عليه وسلم ووضعه على عينيه صلى الله عليه وسلم فبرئ لوقته ثم قال الراهب يا عبد المطلب وتالله هذا هو الذي أقسم على الله به فأبرأ المرضى وأشفى الأعين من الرمد فليتأمل، فإن تعدد الواقعة لا يخلو عن بعد، والله أعلم. باب: وفاة عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب له صلى الله عليه وسلم ثم لما كان سنه صلى الله عليه وسلم ثمان سنين: أي بناء على الراجح من الأقوال المتكاثرة،

ويرجحه ما يأتي: توفي عبد المطلب وله من العمر خمس وتسعون سنة، وقيل مائة وعشرون، وقيل وأربعون: أي ولعل ضعف هذا القول اقتضى عدم ذكر ابن الجوزي لعبد المطلب في المعمرين. قال: وقيل اثنان وثمانون: أي وعليه اقتصر الحافظ الدمياطي، قال: وقيل مائة وأربعة وأربعون اهـ. وقد قيل له صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله أتذكر موت عبد المطلب؟ قال نعم وأنا يومئذ ابن ثمان سنين» . وعن أم أيمن أنها كانت تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي خلف سرير عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين. ودفن بالحجون عند جده قصيّ. وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث جدي عبد المطلب في زيد الملوك، وأبهة الأشراف» . ولما حضرته الوفاة أوصى به صلى الله عليه وسلم إلى عمه شقيق أبيه أبي طالب: أي وكان أبو طالب ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية كأبيه عبد المطلب كما تقدم، واسمه على الصحيح عبد مناف. وزعمت الروافض أن اسمه عمران، وأنه المراد من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) [آل عمران: الآية 33] قال الحافظ ابن كثير وقد أخطؤوا في ذلك خطأ كبيرا، ولم يتأملوا القرآن قبل أن يقولوا هذا البهتان، فقد ذكر بعد هذه قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران: الآية 35] وحين أوصى به جده لأبي طالب أحبه حبا شديدا لا يحبه لأحد من ولده، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، وكان يخصه بأحسن الطعام: أي وقيل اقترع أبو طالب هو والزبير شقيقه فيمن يكفله صلى الله عليه وسلم منهما، فخرجت القرعة لأبي طالب، وقيل بل هو صلى الله عليه وسلم اختار أبا طالب لما كان يراه من شفقته عليه وموالاته له قبل موت عبد المطلب، فسيأتي أنه كان مشاركا له في كفالته. وقيل كفله الزبير حين مات عبد المطلب، ثم كفله أبو طالب: أي بعد موت الزبير، وغلط قائله بأن الزبير شهد حلف الفضول ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر نيف وعشرون سنة كذا في «أسد الغابة» مقدما للاقتراع على ما قبله. وفي كون عمره صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول كان نيفا وعشرين سنة نظر، لما سيأتي أن عمره إذا ذاك كان أربع عشرة سنة. وفي كلام بعضهم: فلما مات عبد المطلب كفله عماه شقيقا أبيه الزبير وأبو طالب، ثم مات عمه الزبير وله من العمر أربع عشرة سنة فانفرد به أبو طالب، وكفالة جده وعمه له صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه وأمه مذكورة في الكتب القديمة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم. ففي خبر سيف بن ذي يزن: يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه: أي وفي

سيرة ابن هشام عن ابن إسحق أن عبد المطلب لما حضرته الوفاة وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ست نسوة: صفية، وهي أم الزبير بن العوام وبرة وعاتكة، وأم حكيم البيضاء: أي وهي جدة عثمان بن عفان لأمه، وأميمة وأروى، فقال لهن: ابكين عليّ حتى أسمع ما تقلن فيّ قبل أن أموت، فقالت كل واحدة منهن شعرا في وصفه مذكور في تلك السيرة، ولما سمع جميع ذلك أشار برأسه أن هكذا فابكينني. ويقال إنه إنما أشار بذلك لما سمع قول أميمة وقد أمسك لسانه وكان من قولها: أعينيّ جودا بدمع درر ... على ماجد الخيم والمعتصر على ماجد الجد واري الزناد ... جميل المحيا عظيم الخطر على شيبة الحمد ذي المكرمات ... وذي المجد والعز والمفتخر وذي الحلم والفضل في النائبات ... كثير المفاخر جمّ الفخر له فضل مجد على قومه ... متين يلوح كضوء القمر قال ابن هشام رحمه الله: لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر إلا أنه: أي ابن إسحق لما رآه عن ابن المسيب كتبه. قال بعضهم: ولم يبك أحد بعد موته ما بكي عبد المطلب بعد موته، ولم يقم لموته بمكة سوق أياما كثيرة. وروى أبو نعيم والبيهقي: أن سيف بن ذي يزن الحميري لما ولي على الحبشة، وذلك بعد مولد رسول صلى الله عليه وسلم بسنتين أتاه وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئه: أي بهلاك ملوك الحبشة وبولايته عليهم: أي لأن ملك اليمن كان لحمير، فانتزعته الحبشة منهم، واستمر في يد الحبشة سبعين سنة ثم إن سيف بن ذي يزن الحميري استنقذ ملك اليمن من الحبشة، واستقر فيه على عادة آبائه، وجاءت العرب تهنئه من كل جانب، وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب وأمية بن عبد شمس، وغالب وجهائهم أي كعبد الله بن جدعان بضم الجيم وإسكان الدال المهملة وبالعين المهملة التيمي، وهو ابن عم عائشة رضي الله تعالى عنها، وكأسد بن عبد العزى، ووهب بن عبد مناف، وقصي بن عبد الدار، فأخبر بمكانهم: أي وكان في قصره بصنعاء وهو مضمخ بالمسك، وعليه بردان، والتاج على رأسه وسيفه بين يديه، وملوك حمير عن يمينه وشماله، فأذن لهم فدخلوا عليه، ودنا منه عبد المطلب. وفي الوفاء وجدوه جالسا على سرير من الذهب، وحوله أشراف اليمن على كراسي من الذهب، فوضعت لهم كراسي من الذهب فجلسوا عليها إلا عبد المطلب فإنه قام بين يديه واستأذنه في الكلام، فقال: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك، فقال: إن الله عز وجل أحلك أيها الملك محلا رفيعا شامخا: أي

مرتفعا باذخا: أي عاليا منيعا، وأنبتك نباتا طالت أرومته، وعظمت جرثومته: أي والأرومة والجرثومة هما الأصل، وثبت أصله وبسق: أي طال فرعه في أطيب موضع وأكرم معدن، وأنت أبيت اللعن أي أبيت أن تأتي من الأمور ما يعلن عليه، ملك العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، وكهفها الذي تلجأ إليه العباد سلفك خير سلف. وأنت لنا فيهم خير خلف، فلن يهلك ذكر من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه، نحن أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا: أي أحضرنا إليك الذي أبهجنا من كشف الكرب الذي فدحنا أي أثقلنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة أي التعزية، فعند ذلك قال له الملك من أنت أيها المتكلم؟ قال عبد المطلب ابن هاشم، قال: ابن أختنا بالتاء المثناة فوق، لأن أم عبد المطلب من الخزرج وهم من اليمن، قال نعم، قال ادنه، ثم أقبل عليه وعلى القوم، فقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا وملكا ربحلا: أي كثير العطاش، يعطى عطاء جزلا. قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فإنكم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء: أي العطاء إذا ظعنتم، ثم انهضوا إلى دار الضيافة والوفود، وأجرى عليهم الأنزال، فأقاموا بذلك شهرا لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب فأدناه، ثم قال له: يا عبد المطلب إني مفض إليك من سر علمي أمرا لو غيرك يكون لم أبح له به، ولكن رأيتك معدنه فأطلعتك طلعه أي عليه، فليكن عندك مخبأ حتى يأذن الله عز وجل فيه، إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه: أي كتمناه دون غيرنا خبرا عظيما، وخطرا جسيما فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة، فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سرّ وبرّ، فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر؟ قال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة ولكن به الزعامة أي السيادة إلى يوم القيامة، فقال له عبد المطلب: أيها الملك أبت، أي رجعت بخير ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من مساره: أي من مساررته إياي بما ازداد به سرورا، فقال له الملك: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا: وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض أي جميعا، ويستفتح بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويدحض: أي يزجر الشيطان، ويخمد النيران، ويكسر الأوثان. قوله فصل، وحكمه عدل، ويأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله: قال له عبد المطلب: جد جدك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك ساريّ بإفصاح، فقد وضح لي بعض الإيضاح، قال: والبيت ذي

الحجب، والعلامات على النقب: أي الطرق، إنك لجده يا عبد المطلب غير كذب، قال: فخرّ عبد المطلب ساجدا، فقال له ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك؟ قال، نعم أيها الملك، إنه كان لي ابن، وكنت به معجبا وعليه رقيقا، وإني زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام فسميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه: يعني أبا طالب، وهذا يدل على أن وفود عبد المطلب على سيف بن ذي يزن كان بعد موت أمه صلى الله عليه وسلم. وحينئذ لا ينافي ذلك ما تقدم أن عمره صلى الله عليه وسلم كان سنتين، لأن ذلك كان سنه صلى الله عليه وسلم حين ولي سيف بن ذي يزن على الحبشة، وتأخر وفود عبد المطلب عليه بعد موت أمه صلى الله عليه وسلم. ويدل على أن أبا طالب كان مشاركا لعبد المطلب في كفالته صلى الله عليه وسلم في حياة عبد المطلب، ثم اختص هو بذلك بعد موته: أي وعبارة سيف بن ذي يزن صادقة بالحالين. فقال له: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحتفظ على ابنك، واحذر عليه من اليهود فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا: أي، فحفظه والخوف عليه منهم من باب الاحتياط والإعلام بقدره. قال واطو ما ذكرته لك عن هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تداخلهم النفاسة من أن تكون له الرياسة، فينصبون له الحبائل، ويبغون له الغوائل، وهم فاعلون ذلك، أو أبناؤهم من غير شك. ولولا أعلم أن الموت مجتاحي: أي مهلكي قبل مبعثه، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه. فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق أن يثرب دار ملكه، واستحكام أمره، وأجل نصرته، وموضع قبره. ولولا أني أقيد الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنه أمره، وأعليت على أسنان العرب كعبه، ولكن سأصرف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك. ثم دعا بالقوم، وأمر لكل واحد منهم بعشرة أعبد سود، وعشرة إماء سود، وحلتين من حلل البرود، وعشرة أرطال ذهبا، وعشرة أرطال فضة، ومائة من الإبل، وكرش مملوء عنبرا. وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا جاء الحول فأتني بخبره وما يكون من أمره، فمات الملك قبل أن يحول عليه الحول، وكان عبد المطلب كثيرا ما يقول لمن معه: لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره، فإذا قيل له ما هو؟ قال سيعلم ما أقول ولو بعد حين اهـ. وهذا القصر الذي كان فيه الملك سيف بن ذي يزن يقال له بيت عمدان، يقال إنه كان هيكلا للزهرة تعبد فيه الزهرة. وكان سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يقول لا

أفلحت العرب ما دام فيها عمدانها، فلما ولي عثمان رضي الله تعالى عنه الخلافة هدمه. وكان أبو طالب مقلا من المال، فكان عياله إذا أكلوا جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم النبي صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يغشيهم يقول لهم، كما أنتم حتى يأتي ابني، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فيفضلون من طعامهم، وإن كان لبنا شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم، ثم تتناول العيال القعب: أي القدح الذي من الخشب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم: أي جميعهم من القعب الواحد وإن كان أحدهم ليشرب قعبا واحدا. فيقول أبو طالب: إنك لمبارك. أقول: وفي الإمتاع وكان أي أبو طالب يقرب إلى الصبيان يصبحهم أول البكرة فيجلسون وينتهبون فيكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده لا ينتهب معهم. فلما رأى ذلك أبو طالب عزل له طعامه على حدة، هذا كلامه، ولا ينافي ما قبله، لأنه يجوز أن يكون ذلك خاصا بما يحضر في البكرة الذي يقال له الفطور دون الغداء والعشاء، فإنه كان يأكل معهم وهو المقدم، والله أعلم. وكان الصبيان يصبحون شعثا رمصا بضم الراء وإسكان الميم ثم صاد مهملة ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهينا كحيلا. قالت أم أيمن: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جوعا قط ولا عطشا لا في صغره ولا في كبره. وكان صلى الله عليه وسلم يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغداء فيقول أنا شعبان: أي في بعض الأوقات، فلا ينافي ما سبق. وكان يوضع لأبي طالب وسادة يجلس عليها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، فقال: إن ابن أخي ليحسّ بنعيم: أي بشرف عظيم. قال: واستسقى أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جلهمة بن عرفطة: قدمت مكة وقريش في قحط فقائل منهم يقول اعتمدوا اللات والعزى. وقائل منهم يقول اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى، فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي أنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عن الحق وفيكم باقية إبراهيم، وسلالة إسمعيل عليهما السلام؟ أي فكيف تعدلون عنه إلى ما لا يجدي. قالوا: كأنك عنيت أبا طالب، قال: إيها، فقاموا بأجمعهم وقمت معهم، فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه، عليه إزار قد اتشح به فثاروا أي قاموا إليه، فقالوا، يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق لنا، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجنة بدال مهملة فجيم

مضمومتين أي ظلمة. وفي رواية كأنه شمس دجن: أي ظلام تجلت عنه سحابة قتماء أي من القتام بالفتح وهو الغبار وحوله أغيلمة جمع غلام، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ أي طاف بأصبعه الغلام، زاد في بعض الروايات، وبصبصت الأغيلمة حوله: أي فتحت أعينها، وما في السماء قزعة: أي قطعة من سحاب، فأقبل السحاب من ههنا ومن ههنا واغدودق: أي كثر مطره، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي. وفي ذلك يقول أبو طالب من قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم أكثر من ثمانين بيتا: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل أي ملجأ وغياثا لليتامى، ومانع الأرامل من الضياع. والأرامل: المساكين من النساء والرجال، وهو بالنساء أخص وأكثر استعمالا. أقول: وأخذت الشيعة من هذه القصيدة القول بإسلام أبي طالب: أي لأنه صنفها بعد البعثة وسيأتي الكلام في إسلامه. وأما ما نقله الدميري في شرح المنهاج عن الطبراني وابن سعد أن هذه القصيدة التي منها هذا البيت من إنشاء عبد المطلب فهو وهم، لما درج عليه أئمة السير أن المنشئ لها هو أبو طالب، واحتمال توارد كل من أبي طالب وعبد المطلب على هذه القصيدة بعيدا جدا. ومما يصرح بالوهم ما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة هذا البيت لأبي طالب، والله أعلم. قال: وعن أبي طالب قال: كنت بذي المجاز: أي وهو موضع على فرسخ من عرفة كان سوقا للجاهلية كما تقدم مع ابن أخي يعني النبي صلى الله عليه وسلم فأدركني العطش فشكوت إليه فقلت يا ابن أخي قد عطشت وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئا إلا الجزع: أي لم يحملني على ذلك إلا الجزع: وعدم الصبر. قال: فثنى وركه: أي نزل عن دابته. ثم قال: يا عم عطشت. قلت نعم فأهوى بعقبه إلى الأرض. وفي رواية: إلى صخرة فركضها برجله وقال شيئا، فإذا أنا بالماء لم أر مثله، فقال اشرب، فشربت حتى رويت، فقال أرويت؟ قلت نعم، فركضها ثانية فعادت كما كانت وسافر: أي وقد أتت عليه صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة مع عمه الزبير بن عبد المطلب شقيق أبيه كما تقدم إلى اليمن، فمروا بواد فيه فحل من الإبل يمنع من يجتاز، فلما رآه البعير برك وحك الأرض بكلكله: أي صدره فنزل صلى الله عليه وسلم عن بعيره وركب ذلك الفحل، وسار حتى جاوز الوادي ثم خلى عنه فلما رجعوا من سفرهم مروا بواد

باب: ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام

مملوء ماء يتدفق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتبعوني ثم أقتحمه فاتبعوه فأيبس الله عز وجل الماء فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك، فقال الناس: إن لهذا الغلام شأنا اهـ. أي وفي السيرة الهشامية أن رجلا من لهب كان قائفا. وكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويقتاف لهم فيهم، فأتى أبو طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام مع من يأتيه فنظر إليه صلى الله عليه وسلم، ثم شغل عنه بشيء، فلما فرغ قال عليّ بالغلام، وجعل يقول ويلكم ردوا عليّ الغلام الذي رأيت آنفا فو الله ليكوننّ له شأن، فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه وانطلق به، والله أعلم. باب: ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام عن ابن إسحق لما تهيأ أبو طالب للرحيل صبّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الصاد المهملة وتشديد الباء الموحدة. والصبابة: رقة الشوق، قاله في الأصل. قال: وعند بعض الرواة: فضبث به أي بفتح الضاد المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة كضرب لزمه وقبض عليه، يقال ضبثت على الشيء: إذا قبضت عليه. فقد جاء: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قل للملأ من بني إسرائيل لا يدعوني والخطايا بين أضباثهم: أي قبضاتهم: أي وهم يحملون الأوزار غير مقلعين عنها: أي وعلى ما عند بعض الرواة اقتصر الحافظ الدمياطي، فلفظه: لما تهيأ يعني أبا طالب للرحيل ضبث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجنّ به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا. أقول: رأيت بعضهم نقل عن سيرة الدمياطي: وضبث به أبو طالب ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط وإنه ضبث بالضاد المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة. قال وهو القبض على الشيء، وهذا لا يناسب قوله ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط، لأن ذلك إنما يناسب صب بالصاد المهملة: أي الذي هو الرقة كما لا يخفى. على أن مصدر ضبث إنما هو الضبث، ومن ثم لم أجد ذلك في السيرة المذكورة. والذي رأيته فيها ما قدمته عنها، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم مسك بزمام ناقة أبي طالب، وقال: يا عم إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم. وكان سنه صلى الله عليه وسلم تسع سنين على الراجح. وقيل اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام: أي وهذا القيل صدر به في الإمتاع وقال إنه أثبت: أي ومن ثم اقتصر عليه المحب الطبري. وذكر أنه لما سار به أردفه خلفه فنزلوا على صاحب دير، فقال صاحب الدير ما هذا الغلام منك؟ قال ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون له أب حي هذا نبي: أي لأن من كانت هذه الصفة صفته فهو نبي: أي النبي المنتظر.

ومن علامة ذلك النبي في الكتب القديمة أن يموت أبوه وأمه حامل به كما تقدم وسيأتي أو بعد وضعه بقليل من الزمن: أي ومن علامته أيضا في تلك الكتب موت أمه وهو صغير كما تقدم في خبر سيف بن ذي يزن. ولا ينافي ذلك الاقتصار من بعض أهل الكتب القديمة على الأول الذي هو موت أبيه وهو حمل. قال أبو طالب لصاحب الدير وما النبي؟ قال: الذي يأتي إليه الخبر من السماء فينبئ أهل الأرض. قال أبو طالب الله أجل مما تقول، قال: فاتق عليه اليهود، ثم خرج حتى نزل براهب أيضا صاحب دير، فقال له: ما هذا الغلام منك، قال ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون له أب حي. قال ولم؟ قال لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي: أي النبي الذي يبعث لهذه الأمة الأخيرة، لأن ما ذكر علامته في الكتب القديمة. قال أبو طالب: سبحان الله! الله أجل مما تقول. ثم قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي ألا تسمع ما يقول؟ قال: أي عم لا تنكر لله قدرة، والله أعلم. فلما نزل الركب بصرى وبها راهب يقال له بحيرا، بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة، واسمه جرجيس، وقيل سرجيس. وحينئذ يكون بحيرا لقبه في صومعة له. وكان انتهى إليه علم النصرانية: أي لأن تلك الصومعة كانت تكون لمن ينتهي إليه علم النصرانية، يتوارثونها كابرا عن كابر، وعن أوصياء عيسى عليه الصلاة والسلام. وفي تلك المدة انتهى علم النصرانية إلى بحيرا، وقيل كان بحيرا من أحبار اليهود يهود تيما. أقول: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون تنصر بعد أن كان يهوديا كما وقع لورقة ابن نوفل كما سيأتي. هذا وقال ابن عساكر: إن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفو، بينها وبين بصرى ستة أميال. وقيل كان يسكن البلقاء من أرض الشام بقرية، يقال لها ميفعة، ويحتاج إلى الجمع. وقد يقال يجوز: أنه كان يسكن في كلّ من القريتين كل واحدة يسكن فيها زمنا، وكان في بعض الأحايين يأتي لتلك الصومعة فليتأمل. وقد سمع مناد قبل وجوده صلى الله عليه وسلم ينادي ويقول: ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة: رباب بن البراء، وبحيرا الراهب، وآخر لم يأت بعد. وفي لفظ: والثالث المنتظر يعني النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن قتيبة. قال ابن قتيبة: وكان قبر رباب وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش: وهو المطر الخفيف، والله أعلم.

وكانت قريش كثيرا ما تمر على بحيرا فلا يكلمهم حتى كان ذلك العام صنع لهم طعاما كثيرا، وقد كان رأى وهو بصومعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم، ثم لما نزلوا في ظلّ شجرة نظر إلى الغمامة قد أظلت الشجرة وتهصرت: أي مالت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية وأخضلت: أي كثرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استظلّ تحتها: أي وقد كان صلى الله عليه وسلم وجدهم سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس صلى الله عليه وسلم مال فيء الشجرة عليه، ثم أرسل إليهم: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم لم أقف على اسم هذا الرجل: يا بحيرا إن لك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرا فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رجال القوم: أي تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم ولم ير الصفة: أي لم ير في أحد منهم الصفة التي هي علامة للنبي المبعوث آخر الزمان التي يجدها عنده: أي ولم ير الغمامة على أحد من القوم، ورآها متخلفة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي. فقالوا: يا بحيرا ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا. قال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الغلام معكم أي وقال: فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم فقال القوم: هو والله أوسطنا نسبا، وهو ابن أخي هذا الرجل، يعنون أبا طالب، وهو من ولد عبد المطلب، فقال رجل من قريش: واللات والعزى إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه: أي وجاء به وأجلسه مع القوم: أي وذلك الرجل هو عمه الحارث بن عبد المطلب، ولعله لم يقل هو ابن أخي مع كونه أسن من أبي طالب، لأن أبا طالب كان شقيقا لأبيه عبد الله كما تقدم دون الحارث مع كون أبي طالب هو المقدم في الركب. وقيل الذي جاء به صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقدمه ابن المحدث على ما قبله فليتأمل. ولما سار به من احتضنه لم تزل الغمامة تسير على رأسه صلى الله عليه وسلم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته صلى الله عليه وسلم، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه صلى الله عليه وسلم بحيرا، فقال له: أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما: أي وفي الشفاء أنه اختبره بذلك، فقال له

رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فو الله ما أبغض شيئا قط بغضهما، فقال بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته: أي صفة النبي المبعوث آخر الزمان التي عنده: أي ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم، فقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا. فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال ابني، قال: ما هو ابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال مات وأمه حبلى به، قال صدقت: أي ثم قال ما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا، قال صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلاده واحذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لتبغينه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم أي نجده في كتبنا ورويناه عن آبائنا. واعلم أني قد أديت إليك النصيحة فاسرع به إلى بلده. وفي لفظ لما قال له ابن أخي قال له بحيرا أشفيق عليه أنت؟ قال نعم، قال: فو الله لئن قدمت به إلى الشام أي جاوزت هذا المحل ووصلت إلى داخل الشام الذي هو محل اليهود لتقتلنه اليهود، فرجع به إلى مكة. ويقال إنه قال لذلك الراهب: إن كان الأمر كما وصفت فهو في حصن من الله عز وجل. وقد يقال: لا مخالفة لأن ما صدر من بحيرا كان على ما جرت به العادة من طلب التوقي، فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام. وفي الهدى فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى المدينة، فليتأمل. وذكر أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى بحيرا وأرادوا به سوآ فردهم عنه بحيرا، وذكرهم الله وما يجدونه في الكتاب من ذكره وصفاته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لا يخلصون إليه، فعند ذلك تركوه وانصرفوا عنه. وفي رواية أخرى: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب بحيرا، وكانوا قبل ذلك يمرون عليه فلا يخرج إليهم ولا يلتفت إليهم، فجعل وهم يحلون رحالهم يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال الأشياخ من قريش: ما أعلمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدا، ولا يسجد إلا لنبي: أي وإن الغمامة صارت تظلله دونهم، وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة.

أي والغضروف تقدم أنه رأس لوح الكتف، ثم رجع وصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، فأرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة: فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى فيء هذه الشجرة مال عليه. فبينما هو قائم عليهم وهو يعاهدهم أن لا يذهبوا به إلى أرض الروم: أي داخل الشام، فإنهم إن عرفوه قتلوه، فالتفت فإذا سبعة من الروم قد أقبلوا، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا جئنا إلى هذا النبي الذي هو خارج في هذا الشهر: أي مسافر فيه، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا لا، فبايعوه: أي بايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم أخذه وأذيته على حسب ما أرسلوا فيه، وأقاموا عند ذلك الراهب خوفا على أنفسهم ممن أرسلهم إذا رجعوا بدونه. قال بحيرا لقريش: أنشدكم الله: أي أسألكم بالله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه بلالا. وفي لفظ: وبعث معه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلالا، وزوده بحيرا من الكعك والزيت: أي وإذا كانت القصة واحدة فالاختلاف في إيرادها من الرواة كما تقدم نظيره. فبعض الرواة قدم في هذه الرواية وأخر. على أنه في الهدى قال: وقع في كتاب الترمذي وغيره أن عمه: أي وأبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث معه بلالا، وهو من الغلط الواضح، فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا، وإن كان فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر. وذكر في الأصل أن في هذه الرواية أمورا منكرة حيث قال: قلت ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرّج له في الصحيح، ومع ذلك: أي مع صحة سنده، ففي متنه نكارة: أي أمور منكرة: وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا، فإن بلالا لم ينقل لأبي بكر إلا بعد هذه السفرة بأكثر من ثلاثين عاما، ولأن أبا بكر لم يبلغ العشر سنين حينئذ، لأنه صلى الله عليه وسلم أسن منه بأزيد من عامين بقليل: أي بشهر. ولا ينافي ما يأتي: وتقدم أن سنه صلى الله عليه وسلم حينئذ تسع سنين على الراجح أي فيكون سن أبي بكر نحو سبع سنين وكان بلال أصغر من أبي بكر رضي الله عنهما، فلا يتجه هذا بحال: أي لأن أبا بكر حينئذ لم يكن أهلا للإرسال عادة، وكذا بلال لم يكن أهلا لأن يرسل. وكون النبي صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر هو ما عليه الجمهور من أهل العلم بالأخبار والسير والآثار. وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر فقال له: من الأكبر أنا أو أنت؟ فقال له أبو بكر: أنت أكرم وأكبر وأنا أسن. قيل فيه إنه وهم وإن ذلك إنما يعرف عن عمه

العباس رضي الله تعالى عنه، وكون بلال أصغر من أبي بكر ينازعه قول ابن حبان: بلال كان تربا لأبي بكر: أي قرينه في السن، وبه يردّ قول الذهبي: بلال لم يكن خلق. قال: وذكر الحافظ ابن حجر أن إرسال أبي بكر معه بلال وهم من بعض الرواة، وهو مقتطع من حديث آخر أدرجه ذلك الراوي في هذا الحديث انتهى. أقول: ولأجل هذا الوهم قال الذهبي في الحديث أظنه موضوعا بعضه باطل: أي لم يوافق الواقع: أي فمع كون الحديث موضوعا، بعضه موافق للواقع، وبعضه لم يوافق الواقع. وحينئذ فمراد الأصل بالنكارة في قوله في متنه نكارة البطلان كما أشرت إليه، وليس هذا من قبيل قولهم: هذا حديث منكر، الذي هو من أقسام الضعيف وهو يرجع إلى الفردية ولا يلزم من الفردية ضعف متن الحديث فضلا عن بطلانه. وقال الحافظ الدمياطي: في هذا الحديث وهمان أحدهما قوله فبايعوه وأقاموا معه والوهم الثاني قوله وبعث معه أبو بكر بلالا، ولم يكونا معه، ولم يكن بلال أسلم ولا ملكه أبو بكر. وفيه أن الحافظ الدمياطي فهم أن الضمير في بايعوه للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أنه لبحيرا فلا وهم فيه. وتوجيه الوهم الثاني بعدم وجود أبي بكر وبلال مع النبي صلى الله عليه وسلم واضح إن ثبت ذلك، وإلا فمجرد النفي لا يرد به الإثبات. وحينئذ لا حاجة معه إلى ذكر ما بعده من أن بلالا لم يكن أسلم ولا ملكه أبو بكر، إلا أن يقال هو على تسليم وجود أبي بكر وبلال مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يقال على تسليم ذلك: إرسال أبي بكر لبلال لا يتوقف على إسلام بلال ولا على ملك أبي بكر له، جاز أن يكون سيد بلال وهو أمية بن خلف أرسله في ذلك العير لأمر، فأذن أبو بكر لبلال في العود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون خادما، ويستأنس ويأمن به، اعتمادا على رضا سيده بذلك، إذ ليس من لازم إرساله أن يكون مملوكا له. وكون أبي بكر لم يكن في سن من يرسل عادة تقدم ما فيه، والله أعلم. قال: وروى ابن منده بسند ضعيف عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة: أي فالنبي صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر بعامين: أي وشهر كما تقدم. ولقلة هذه الزيادة على العامين التي هي الشهر الواردة مبهمة في الرواية السابقة لم يذكرها ابن منده، وهم يريدون الشام في تجارتهم، حتى إذا نزل منزلا وهو سوق بصرى من أرض الشام، وفي ذلك

المحل سدرة فقعد صلى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرا يسأله عن شيء، فقال: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ قال له: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال له: والله هذا نبي هذه الأمة، ما استظل تحتها بعد عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلا محمد عليه الصلاة والسلام: أي وقد قال عيسى: لا يستظل تحتها بعدي إلا النبي الأمي الهاشمي كما سيأتي في بعض الروايات. قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون أي سفر أبي بكر معه صلى الله عليه وسلم في سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب انتهى. أقول: وهي سفرته مع ميسرة غلام خديجة، فإنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام أكثر من مرتين. ويؤيده ما تقدم من قول الراوي وهم يريدون الشام في تجاراتهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج تاجرا إلا في تلك السفرة، وسيأتي أن هذا القول قاله الراهب نسطورا لا بحيرا، قاله لميسرة لا لأبي بكر. إلا أن يقال: لا مانع أن يكون قال ذلك لميسرة ولأبي بكر، لكن ربما يبعده ما سيأتي أن سنه صلى الله عليه وسلم حين سافر مع ميسرة كان خمسا وعشرين سنة على الراجح لا عشر سنين. وعلى هذا فالشجرة لم تكن إلا عند صومعة الراهب نسطورا لا عند صومعة الراهب بحيرا، وذكر بحيرا موضع نسطورا، وهو ما وقع في شرف المصطفى للنيسابوري وهم من بعض الرواة سرى إليه من اتحاد محلهما وهو سوق بصرى. إلا أن يقال: يجوز أن يكون الراهب نسطورا خلف بحيرا في ذلك الصومعة لموته مثلا، وهو أقرب من دعوى تعدد الشجرة، فتكون واحدة عند صومعة بحيرا، وواحدة عند صومعة نسطورا، وكلاهما قال فيها عيسى ما ذكرا. ومن دعوى اتحادها وأنها بين صومعة بحيرا وصومعة نسطورا وأن العير الذي كان فيه أبو طالب نزل جهة صومعة بحيرا، والعير الذي كان فيه أبو بكر وميسرة نزل جهة صومعة نسطورا، وسيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدّق بأنه صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام، لأنهما لم يدركا البعثة: أي الرسالة بناء على اقترانهما بالنبوة، أو أن المراد بها النبوة: أي لم يدركا النبوة فضلا عن الرسالة بناء على تأخرها عن النبوة. ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال في بحيرا: ما أدري أدرك البعثة أم لا؟ هذا كلامه في الإصابة، وليس هذا بحيرا الراهب الصحابي الذي هو أحد الثمانية الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة. فعنه رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا شرب الرجل كأسا من خمر» الحديث، ومن قال: إن هذا الحديث منكر ظن أن بحيرا هذا هو بحيرا المذكور هنا الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، والله أعلم.

باب: ما حفظه الله تعالى به في صغره صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية

باب: ما حفظه الله تعالى به في صغره صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية أي من أقذارهم ومعايبهم: أي بحسب ما آل إليه شرعه، لما يريد الله تعالى به من كرامته، حتى صار أحسنهم خلقا، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزيها وتكريما: أي حتى كان صلى الله عليه وسلم أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا فسموه الأمين، لما جمع الله عز وجل فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة، من الحلم والصبر، والشكر والعدل، والزهد والتواضع والعفة والجود، والشجاعة والحياء والمروءة. فمن ذلك ما ذكر ابن إسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيتني. أي رأيت نفسي- في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرّى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم: أي من الملائكة ما أراها لكمة وجيعة» وفي لفظ «لكمني لكمة شديدة» . وقد يقال: لا منافاة، لأنها مع شدتها لم تكن وجيعة له صلى الله عليه وسلم: «ثم قال شدّ عليك إزارك، فأخذته فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليّ من بين أصحابي» أي وقد وقع له صلى الله عليه وسلم مثل ذلك: أي نقل الحجارة عاريا عند إصلاح أبي طالب لزمزم. فعن ابن إسحق وصححه أبو نعيم قال: «كان أبو طالب يعالج زمزم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة وهو غلام، فأخذ إزاره واتقى به الحجارة فغشي عليه، فلما أفاق سأله أبو طالب، فقال أتاني آت عليه ثياب بيض، فقال لي استتر» فما رؤيت عورته صلى الله عليه وسلم من يومئذ. وفي الخصائص الصغرى: ونهى صلى الله عليه وسلم عن التعري وكشف العورة من قبل أن يبعث بخمس سنين. وقد وقع له صلى الله عليه وسلم مثل ذلك: أي نهيه عن التعري عند بنيان الكعبة كما سيأتي، وسيأتي ما فيه. ومن ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول «ما هممت بقبيح مما همّ به أهل الجاهلية» أي ويفعلونه «إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله عز وجل منهما» أي من فعلهما «قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها» أي وفي لفظ «قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلها» لم أقف على اسم هذا الفتى «أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة

بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم» وأصل السمر: الحديث ليلا «فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان قد تزوج بفلانة» لرجل من قريش تزوج من امرأة من قريش «فلهوت بذلك الصوت حتى غلبتني عيناي فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس» أي وفي لفظ «فجلست أنظر- أي أسمع- وضرب الله على أذني، فو الله ما أيقظني إلا حر الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك» . أقول: المناسب لقوله عصمين الله ما في الرواية الثانية لا ما ذكر في الرواية الأولى، إلا أن يحمل قوله في الرواية الأولى فلهوت على أردت أن ألهو، والله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما هممت بغيرهما بسوء مما تعمله أهل الجاهلية» : أي ما هممت بسوء مما يعمله أهل الجاهلية غيرهما، وفي لفظ «فو الله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك» أي مما يعمله أهل الجاهلية «ولا هممت به حتى أكرمني الله تعالى بنبوّته» . ومن ذلك ما جاء عن أم أيمن رضي الله عنها أنها قالت، كان بوانة بضم الموحدة وبفتح الواو مخففة بعدها ألف ونون، صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك- أي تذبح له- وتحلق عنده، وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك، حتى قالت رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، ويقلن ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا، فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع مرعوبا فزعا، فقلن: ما دهاك؟ قال إني أخشى أن يكون بي لمم: أي لمة وهي المس من الشيطان، فقلن: ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت؟ قال: إني كلما دنوت من صنم منها: أي من تلك الأصنام التي عند ذلك الصنم الكبير الذي هو بوانة تمثل لي رجل أبيض طويل، أي وذلك من الملائكة يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه، قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ صلى الله عليه وسلم. أقول: ظاهر هذا السياق أن اللمم يكون من الشيطان، وحينئذ يكون بمعنى اللمة: وهي المس من الشيطان كما قدمناه، فقد أطلق اللمم على اللمة، وإلا فاللمم نوع من الجنون كما تقدم في قصة الرضاع: قد أصابه لمم أو طائف من الجن، إذ هو يدل على أن اللمم يكون من غير الشيطان كمرض. وعبارة الصحاح: اللمم طرف من الجنون، وأصاب فلانا من الجن لمة: وهي المس أي فقد غاير بينهما، والله أعلم.

ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذبح لغير الله تعالى: أي فكان يقول لقريش: الشاة خلقها الله عز وجل، وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم تذبحونها على غير اسم الله، فما ذقت شيئا ذبح على النصب- أي الأصنام- حتى أكرمني الله تعالى برسالته» أي وزيد بن عمرو كان قبل النبوة زمن الفترة على دين إبراهيم عليه السلام، فإنه لم يدخل في يهودية ولا نصرانية، واعتزل الأوثان والذبائح التي تذبح للأوثان، ونهى عن الوأد، وتقدم أنه كان يحييها إذا أراد أحد ذلك، أخذ الموؤودة من أبيها وتكفلها، وكان إذا دخل الكعبة يقول: لبيك حقا، تعبدا وصدقا. وقيل: ورقا عذت بما عاذ به إبراهيم، ويسجد للكعبة، قال صلى الله عليه وسلم: «إنه يبعث أمة وحده» أي يقوم مقام جماعة انتهى: أي فإن ولده سعيدا قال: «يا رسول الله إن زيدا كان كما قد رأيت وبلغك فاستغفر له، قال نعم أستغفر له فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده» . وفي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وقد قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة- أي فيها شاة ذبحت لغير الله عز وجل أو قدمها النبي صلى الله عليه وسلم إليه- فأبى أن يأكل منها وقال: إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه» ولعل هذا كان قبل ما تقدم عنه صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك كان هو السبب في ذلك. قال الإمام السهيلي: وفيه سؤال كيف وفق الله عز وجل زيدا إلى ترك ما ذبح على النصب وما لم يذكر اسم الله عليه، ورسوله صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية، لما ثبت من عصمة الله تعالى له؟ أي فكان صلى الله عليه وسلم يترك ذلك من عند نفسه لا تبعا لزيد بن عمرو. وحينئذ لا يحسن الجواب الذي أشرنا إليه بقولنا. وأجاب أي السهيلي بأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أكل من تلك السفرة: أي ولا من غيرها. سلمنا أنه أكل قبل ذلك مما ذبح على النصب، فتحريم ذلك لم يكن من شرع إبراهيم وإنما كان تحريم ذلك في الإسلام والأصل في الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، هذا كلامه. وفيه أن هذا التسليم يبطل عدّ الشمس الشامي ذلك من أمر الجاهلية التي حفظه الله تعالى منه في صغره، ويخالف ما ذكره بعضهم من أن زيد بن عمرو هذا هو رابع أربعة من قريش فارقوا قومهم، فتركوا الأوثان والميتة وما يذبح للأوثان. كانوا يوما في عيد لصنم من أصنامهم ينحرون عنده، ويعكفون عليه، ويطوفون به في ذلك اليوم، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤوا دين

أبيهم إبراهيم، فما حجر تطوف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ثم تفرقوا في البلاد يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم، وظاهر هذا السياق أن تركهم للأوثان كان بعد عبادتهم لها، وسيأتي عن ابن الجوزي أنهم لم يعبدوها. وهؤلاء الثلاثة الذين زيد بن عمرو رابعهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش ابن عمته صلى الله عليه وسلم أميمة، وعثمان بن الحويرث. وزاد ابن الجوزي على هؤلاء الأربعة جماعة آخرين سيأتي الكلام عليهم عند الكلام على أول من أسلم. وزيد بن عمرو بن نفيل هذا كان ابن أخي الخطاب والد سيدنا عمر أخاه لأمه. فأما ورقة فلم يدرك البعثة على ما سيأتي. وكان ممن دخل في النصرانية: أي بعد دخوله في اليهودية كما سيأتي. وأما عبيد الله بن جحش، فأدرك البعثة وأسلم وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر من المسلمين ثم تنصر هناك كما سيأتي، وكان يمر على المسلمين ويقول لهم: فتحنا وصأصأتم: أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا ومات على النصرانية. وأما عثمان بن الحويرث، فلم يدرك البعثة، وقدم على قيصر ملك الروم وتنصر عنده. وأما زيد بن عمرو بن نفيل هذا، كان يوبخ قريشا ويقول لهم: والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، حتى أن عمه الخطاب أخرجه من مكة وأسكنه بحراء، ووكل به من يمنعه من دخول مكة كراهة أن يفسد عليهم دينهم، ثم خرج يطلب الحنيفية دين إبراهيم، ويسأل الأحبار والرهبان عن ذلك حتى بلغ الموصل، ثم أقبل إلى الشام فجاء إلى راهب به كان انتهى إليه علم أهل النصرانية فسأله عن ذلك، فقال له: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها: يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق بها فإنه مبعوث الآن هذا زمانه، فخرج سريعا يريد مكة، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه وقتلوه ودفن بمكان يقال له ميفعة. وقيل دفن بأصل جبل حراء. هذا وفي كلام الواقدي عن زيد بن عمرو أنه قال لعامر بن ربيعة وأنا أنتظر نبيا من ولد إسمعيل. ولا أرى أن أدركه، وأن أدين به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فسلم مني عليه، قال عامر: فلما أسلمت بلغته صلى الله عليه وسلم عن زيد السلام قال: فرد عليه السلام وترحم عليه. وتقدم أن ولده سعيدا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه زيد، فقال نعم أستغفر له الحديث. قال: وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت

الجنة فوجدت لزيد بن عمرو دوحتين» أي شجرتين عظيمتين. قال الحافظ ابن كثير إسناده جيد قوي: أي وقال إلا أنه ليس في شيء من الكتب. وفي رواية «رأيته في الجنة يسحب ذيولا» وعن الزهري «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل ما يذبح للجن وعلى اسمهم» وأما ما قيل عند ذبحه بسم الله واسم محمد فحلال أكله وإن كان القول المذكور حراما لإيهامه التشريك، وهذا من جملة المحال المستثناة من قوله تعالى له: لا أذكر إلا وتذكر معي فقد جاء «أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول لك: أتدري كيف رفعت ذكرك؟» أي على كل حال أي جعلت ذكرك مرفوعا مشرفا المذكور ذلك في قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) [الشّرح: الآية 1] إلى قوله: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) [الشّرح: الآية 4] «قلت الله أعلم، قال: لا أذكر إلا وتذكر معي» أي في غالب المواطن وجوبا أو ندبا. ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل عبدت وثنا قط؟ قال لا، قالوا: هل شربت خمرا قط؟ قال لا، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان» انتهى. أقول: تحريم شرب الخمر في الجاهلية ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم، بل حرّمها على نفسه في الجاهلية جماعة كثيرون سيأتي ذكر بعضهم، وتقدم ذكر بعض منهم وكون شرب الخمر من الكفر على ما هو ظاهر السياق بمعنى ينبغي أن يجتنب كما يجتنب الكفر، ولعل صدور هذا منه صلى الله عليه وسلم كان بعد تحريم الخمر، ويكون الإتيان بذلك للمبالغة في الزجر عنها، والتباعد منه لأنها أم الخبائث، وقد كانت نفوس غالبهم ألفتها، وهذا محمل ما جاء «أتاني جبريل فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا» أي مصدقا بما جئت به «دخل الجنة» أي لا بد وأن يدخل الجنة وإن دخل النار «قلت: يا جبريل وإن زنى وإن سرق؟ قال نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم، وإن شرب الخمر» والمراد بتحريمها تحريمها على الناس، وإلا ففي الخصائص الصغرى للسيوطي: وحرمت عليه الخمر من قبل ما يبعث قبل أن تحرم على الناس بعشرين سنة، والله أعلم. قال: وأما ما رواه جابر بن عبد الله «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه، واحد يقول لصاحبه اذهب بنا نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام قبل فلم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهدهم» قال الحافظ ابن حجر: أنكره الناس أي فقد قال الإمام أحمد كما في الشفاء إنه موضوع أو يشبه الموضوع. وقال الدارقطني: إن ابن أبي شيبة وهم في إسناده، والحديث بالجملة منكر فلا يلتفت إليه، والمنكر فيه قول الملك عهده باستلام الأصنام قبل، فإن ظاهره أنه باشر الاستلام، وليس ذلك مرادا

باب: رعيته صلى الله عليه وسلم الغنم

أبدا، بل المراد أنه شاهد مباشرة المشركين استلام أصنامهم: أي لشهوده بعض مشاهدهم التي تكون عند الأصنام. وقال غيره: والمراد بالمشاهد التي شهدها: أي التي كان يشهدها مشاهد الحلف ونحوها كالضيافات الآتي بيانها لا مشاهدة استلام الأصنام، فإنه يرده ما تقدم عن أم أيمن انتهى: أي من قولها إن بوانة كان صنما لقريش تعظمه وتعتكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة إلى آخره: أي ويرده أيضا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم لبحيرا لما حلفه باللات والعزى: لا تسألني بهما؟ فإني والله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، لأن مثل اللات والعزى غيرهما من الأصنام في ذلك، وما سيأتي من قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله تعالى عنها: «والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط» وما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما نشأت بغضت إليّ الأوثان، وبغض إليّ الشعر» والله سبحانه وتعالى أعلم. باب: رعيته صلى الله عليه وسلم الغنم قال: رعيته بكسر الراء، المراد الهيئة انتهى. أقول: المبين في هذا الباب إنما هو فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو رعيه للغنم، لا بيان هيئة رعيه للغنم، فرعيته بفتح الراء لا بكسرها، والله أعلم. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط» أي وهي أجزاء من الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة. قال سويد بن سعيد: بعني كل شاة بقيراط، وقيل القراريط موضع بمكة. فقد قال إبراهيم الحربي: قراريط موضع، ولم يرد بذلك القراريط من الفضة أي والذهب، قال: وأيد هذا الثاني بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الذهب والفضة بدليل أنه جاء في الصحيح «ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط» ولأنه جاء في بعض الروايات «لأهلي» ولا يرعى لأهله بأجرة: أي كما قضت بذلك العادة. وأيضا جاء في بعض الروايات بدل بالقراريط «بأجياد» فدل ذلك على أن القراريط اسم محل، عبر عنه تارة بالقراريط وتارة بأجياد. وردّ بأن أهل مكة لا يعرفون بها محلا يقال له القراريط، وحينئذ يكون أراد بأهله أهل مكة لا أقاربه التي تقضي العادة بأنه لا يرعى لهم بالأجرة، والإضافة تأتي لأدنى ملابسة، ويدل لذلك ما جاء في رواية البخاري «كنت أرعاها» أي الغنم «على قراريط لأهل مكة» وذكره البخاري كذلك في باب الإجارة، وذلك يبعد أن المراد بالقراريط المحل، وجعل على بمعنى الباء.

ويردّ القول بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الدراهم والدنانير: أي ويمنع دلالة قوله صلى الله عليه وسلم «ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط» على ذلك لجواز أن يكون المراد يذكر فيها القيراط كثيرا لكثرة التعامل به فيها، أو أن المراد بالقيراط ما يذكر في المساحة. وجمع الحافظ ابن حجر بأنه رعى لأهله أي أقاربه بغير أجرة، ولغيرهم بأجرة، والمراد بقوله «أهلي» أهل مكة: أي الشامل لأقاربه ولغيرهم. قال: فيتجه الخبران ويكون في أحد الحديثين بين الأجرة أي التي هي القراريط، وفي الآخر بين المكان: أي الذي هو أجياد، فلا تنافي في ذلك، هذا كلامه ملخصا. وعبارته تقتضي وقوع الأمرين منه صلى الله عليه وسلم، وهو مما يتوقف على النقل في ذلك. قال ابن الجوزي: كان موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم رعاة غنم. وهذا يرد قول بعضهم لم يرد ابن إسحق برعايته صلى الله عليه وسلم الغنم إلا رعايته لها في بني سعد مع أخيه من الرضاع: أي وقد يتوقف في كون قول ابن الجوزي هذا بمجرده يردّ قول هذا البعض، نعم يرده ما تقدم وما يأتي. وفي الهدى أنه صلى الله عليه وسلم آجر نفسه قبل النبوة في رعية الغنم. ومن حكمة الله عز وجل في ذلك أن الرجل إذا استرعى الغنم التي هي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذب أولا من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. ووقع الافتخار بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم: أي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاستطال أصحاب الإبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم وبعثت أنا وأنا راعي غنم أهلي بأجياد» أي وهو موضع بأسفل مكة من شعابها، ويقال له جياد بغير همزة، ولعل المراد بقوله: «راعي غنم» أي وكذا قوله: «وأنا راعي غنم» أي وقد رعى الغنم، وقد رعيت الغنم، إذ الأخذ بظاهر الحالية بعيد، ولتنظر حكمة الاقتصار على من ذكر من الأنبياء مع قوله السابق: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» وما يأتي من قوله «وما من نبي إلا وقد رعاها» وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الغنم بركة والإبل عز لأهلها» وقال في الغنم «سمنها معاشنا، وصوفها رياشنا، ودفؤها كساؤنا» وفي رواية «سمنها معاش، وصوفها رياش» أي وفي الحديث «الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» ولعل هذا لا ينافي ما جاء في الأمثال قالوا: أحمق. وفي لفظ: أجهل من راعي ضأن لما بين، لأن الضأن تنفر من كل شيء فيحتاج راعيها إلى جمعها: أي وذلك سبب لحمقه فليتأمل. وفي رواية «الفخر والخيلاء» وفي لفظ «والرياء في أهل الخيل والوبر» قال: وفيما تقدم في الباب قبل هذا من أمر السمر دليل على ذلك: أي على رعايته للغنم أيضا، وما رواه

باب: حضوره صلى الله عليه وسلم حرب الفجار

جابر رضي الله تعالى عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكباث» بكاف فباء موحدة مفتوحتين فثاء مثلثة: أي وهو النضيج من ثمر الأراك، وفي الحديث «عليكم بالأسود من ثمر الأراك فإنه أطيبه، فإني كنت أجتنيه إذ كنت أرعى الغنم. قلنا: وكيف ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: نعم، وما من نبي إلا وقد رعاها» اهـ. أقول: وحينئذ لا ينبغي لأحد عير برعاية الغنم أن يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم، فإن قال ذلك أدب، لأن ذلك كما علمت كما في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دون غيرهم، فلا ينبغي الاحتجاج به، ويجرى ذلك في كل ما يكون كمالا في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره كالأمية، فمن قيل له أنت أمي فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا يؤدب، والله أعلم. باب: حضوره صلى الله عليه وسلم حرب الفجار أي بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال بمعنى المقاتلة، وهو فجار البرّاض بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وضاد معجمة عن ابن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد حضرته» يعني الحرب المذكورة «مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت» وكان له من العمر أربع عشرة سنة: أي وهذا الفجار الرابع. وأما الفجار الأول فكان عمره صلى الله عليه وسلم حينئذ عشر سنين. وسببه أي هذا الفجار الأول أن بدر بن معشر الغفاري كان له مجلس يجلس فيه بسوق عكاظ ويفتخر على الناس، فبسط يوما رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف، فوثب عليه رجل فضربه بالسيف على ركبته فأندرها: أي أسقطها وأزالها، وقيل جرحه جرحا يسيرا. قال بعضهم: وهو الأصح، فاقتتلوا. وسبب الفجار الثاني أن امرأة من بني عامر كانت جالسة بسوق عكاظ فأطاف بها شاب من قريش من بني كنانة فسألها أن تكشف وجهها فأبت فجلس خلفها وهي لا تشعر وعقد زيلها بشوكة، فلما قامت انكشف دبرها فضحك الناس منها فنادت المرأة يا آل عامر، فثاروا بالسلاح ونادى الشاب يا بني كنانة، فاقتتلوا. وقوله: «فسألها أن تكشف وجهها فأبت» يدل على أن النساء في الجاهلية كنّ يأبين كشف وجوههن. وسبب الفجار الثالث أنه كان لرجل من بني عامر دين على رجل من بني كنانة فلواه به: أي مطله فجرت بينهما مخاصمة، فاقتتل الحيان. وقد ذكر أن عبد الله بن جدعان تحمل ذلك الدين في ماله، وكان ذلك سببا لانقضاء الحرب. وقيل لم يقاتل صلى الله عليه وسلم في فجار البراض، وعليه اقتصر في الوفاء: أي

لم يرم فيه بأسهم، بل قال: «كنت أنبل على أعمامي» أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموه. وقد يقال: لا مخالفة، لأنه ليس في هذه العبارة أنه لم يرم، بل فيها أنه كان ينبل. ويجوز أن يكون أغلب أحواله صلى الله عليه وسلم ذلك أي أنه كان ينبل: أي يرد النبل، فلا ينافي أنه رمى في بعض الأوقات بأسهم: أي وفي كلام بعضهم: كان أبو طالب يحضر أيام الفجار: أي فجار البراض، وكانت أربعة أيام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فإذا جاء هزمت قيس، ولعل المراد قيس هوازن، فلا ينافي ما يأتي من الاقتصار على هوازن. وإذا لم يجئ هو أي في يوم من تلك الأيام هزمت كنانة، فقالوا: لا أبا لك لا تغب عنا ففعل، ذكره في الإمتاع. وذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم طعن أبا براء ملاعب الأسنة في تلك الحروب: أي في بعض تلك الأيام، وأبو براء هذا كان رئيس بني قيس وحامل رايتهم في تلك الحرب، والطعن ظاهر في الرمح محتمل للنبل. وظاهر كلامهم أنه لم يقاتل فيه بغير الرمي للأسهم على تقدير صحة تلك الرواية بذلك. ولا يبعد أن يكون رمى ولم يصب أحدا، إذ لو أصاب أحدا لنقل لأنه مما توفر الدواعي على نقله إلا أن يقال بجواز أن يكون أصاب ثمرة لم تذكر فليتأمل. قال: وسميت الفجار، لأن العرب فجرت فيه لأنه وقع في الشهر الحرام اهـ. أقول: ظاهره حروب الفجار الأربعة: أي التي هي فجار البراض وغيرها. وظاهر كلامهم صلى الله عليه وسلم أنه لم يحضر إلا في الفجار الرابع، الذي هو فجار البراض، ثم رأيت التصريح بذلك في الوفاء وسأذكره، وسيأتي في الباب الذي يلي هذا أن حرب الفجار لم يكن في شهر حرام، وسيأتي في هذا الباب ما يدل على ذلك. أي أن القتال في ذلك لم يكن في الشهر الحرام وإنما سببه كان في الشهر الحرام وهو قتل البراض لعروة الرحال. فقد قيل سبب القتال أن عروة الرحّال بتشديد الحاء المهملة، وكان من أهل هوازن أجار لطيمة للنعمان بن المنذر ملك الحيرة. واللطيمة: العير التي تحمل الطيب والبز للتجارة: أي فإن المنذر كان يرسل تلك اللطيمة لتباع في سوق عكاظ ويشتري له بثمن ذلك أدم من أدم الطائف، ويرسل تلك اللطيمة في جوار رجل من أشراف العرب، فلما جهز اللطيمة كان عنده جماعة من العرب كان فيهم البرّاض وهو من بني كنانة، وعروة الرحال وهو من هوازن، فقال البراض: أنا أجيرها على بني كنانة يعني قومه، فقال له النعمان: ما أريد إلا من يجيرها على أهل نجد وتهامة، فقال له عروة الرحال: أنا أجيرها لك، فقال له البراض أتجيرها على كنانة؟ فقال نعم وعلى أهل الشيح والقيصوم، ونال من البراض، فخرج عروة الرحال مسافرا وخرج

البراض خلفه يطلب غفلته، فلما استغفله وثب عليه فقتله: أي فإنه شرب الخمر وغنته القينات، فسكر ونام، فجاءه البراض وأيقظه، فقال له الرحال: ناشدتك الله لا تقتلني فإنها كانت مني زلة وهفوة، فلم يلتفت إليه وقتله وذلك في الشهر الحرام، فأتى آت كنانة وهم بعكاظ مع هوازن، فقال لكنانة: إن البراض قد قتل عروة الرحال وهو في الشهر الحرام، فانطلقوا وهوازن لا تشعر ثم بلغهم الخبر، فاتبعوهم فأدركوهم قبيل دخولهم الحرم، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم وعاونت قريش كنانة. ولا يخفى أن في هذا تصريحا بأن القتال لم يكن في الشهر الحرام، لأنهم إذا كانوا في الشهر الحرام لا يقاتلون مطلقا أي وإن لم يدخلوا الحرم، فكفهم عن قتالهم لمقاربتهم دخول الحرم، وقتالهم لهم في اليوم الثاني دليل على أن قتالهم لم يكن في الشهر الحرام، ومكث القتال بينهم أربعة أيام: أي كما تقدم. أقول: قال السهيلي: الصواب ستة أيام، والله أعلم. قال: وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض تلك الأيام، أخرجه أعمامه معهم: أي ويدل له ما تقدم من أنه كان إذا حضر غلبت كنانة وإذا لم يحضر هزمت، وفي بعض تلك الأيام وهو أشدها: أي وهو اليوم الثالث قيد أمية وحرب ابنا أمية بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب أنفسهم كيلا يفروا، فسموا العنابس: أي الأسود اهـ. أي وحرب والد أبي سفيان وأمية أخوه ماتا على الكفر، وأبو سفيان أسلم كما سيأتي، ثم تواعدوا للعام المقبل بعكاظ، فلما كان العام المقبل جاؤوا للوعد: أي وكان أمر قريش وكنانة إلى عبد الله بن جدعان. وقيل كان إلى حرب بن أمية والد أبي سفيان، لأنه كان رئيس قريش وكنانة يومئذ، وكان عتبة ابن أخيه ربيعة بن عبد شمس يتيما في حجره، فضنّ أي بخل به حرب، وأشفق: أي خاف من خروجه معه، فخرج عتبة بغير إذنه، فلم يشعر أي يعلم به إلا وهو على بعير بين الصفين ينادي: يا معشر مضر غلام تفانون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم وتعفوا عن دمائنا: أي فإن قريشا وكنانة كان لهم الظفر على هوازن يقتلونهم قتلا ذريعا: أي وذلك لا ينافي انهزامهم في بعض الأيام، قالوا: وكيف؟ قال: ندفع لكم رهنا منا إلى أن نوفي لكم ذلك، قالوا: ومن لنا بهذا؟ قال أنا، قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فرضيت به هوازن وكنانة وقريش، ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام، وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فلما رأت هوازن الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء وأطلقوهم، وانقضت حرب الفجار. وفي رواية: وودت قريش قتلى هوازن، ووضعت الحرب أوزارها.

باب: شهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول

وقد يقال: على تقدير صحة هذه الرواية دماء بردت التزمت أن تديها فكان انقضاؤها على يد عتبة بن ربيعة وهو ممن قتل كافرا ببدر، وهو أبو هند زوج أبي سفيان أم معاوية رضي الله عنها وعن زوجها وولدها المذكور. وكان يقال لم يسد مملق: أي فقير إلا عتبة بن ربيعة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال: أي وفي كلام بعضهم: ساد عتبة بن ربيعة، وأبو طالب وكانا أفلس من أبي المزلق وهو رجل من بني عبد شمس لم يكن يجد مؤنة ليلته وكذا أبوه وجده وأبو جده وجد جده كلهم يعرفون بالإفلاس. هذا والذي في الوفاء الاقتصار على أن حرب الفجار كان مرتين: المرة الأولى كانت المحاربة فيه ثلاث مرات. المرة الأولى سببها قضية بدر بن معشر الغفاري. والمرة الثانية كان سببها قضية المرأة، والثالثة سببها قضية الدين ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرات، وأما المرأة الثانية فكانت بين هوازن وكنانة، وقد حضرها صلى الله عليه وسلم، وقد يقال لا خلاف في المعنى. باب: شهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وهو أشرف حلف في العرب. والحلف في الأصل: اليمين والعهد؟ وسمي العهد حلفا لأنهم يحلفون عند عقده، وكان عند منصرف قريش من حرب الفجار، لأن حرب الفجار كان في شوال: أي وقيل في شعبان لا في الشهر الحرام: أي وإن كان سببه وهو قتل البراض لعروة الرحال كان في الشهر الحرام كما تقدم. وكون هذا الحلف كان منصرف قريش من حرب الفجار ظاهر في أنه كان بعد انقضاء الحرب وقبل مجيء الفريقين للموعد من قابل، لأن عند مجيئهم من قابل للموعد لم يقع حرب، إلا أن يقال: أطلق عليه حرب باعتبار أنهم كانوا عازمين على المحاربة، وهذا الحلف كان في ذي القعدة. وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب: أي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه كما تقدم فاجتمع إليه بنو هاشم وزهرة وبنو أسد بن عبد العزى، وذلك في دار عبد الله بن جدعان التيمي، كان بنو تيم في حياته كأهل بيت واحد يقوتهم، وكان يذبح في داره كل يوم جزورا، وينادي مناديه: من أراد الشحم واللحم فعليه بدار ابن جدعان، وكان يطبخ عنده الفالوذج فيطعمه قريشا. أي وسبب ذلك أنه كان أولا يطعم التمر والسويق، ويسقي اللبن، فاتفق أن أمية بن أبي الصلت مر على بني عبد المدان، فرأى طعامهم لباب البر والشهد، فقال أمية: ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني المدان

البر يلبك بالشهاب طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان فبلغ شعره عبد الله بن جدعان فأرسل إلى بصرى الشام يحمل إليه البر والشهد والسمن وجعل ينادي مناد ألا هلموا إلى جفنة عبد الله بن جدعان. ومن مدح أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان قوله: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن سيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثناء كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء يباري الريح مكرمة وجودا ... إذا ما الضب أجحره الشتاء وكان عبد الله بن جدعان ذا شرف وسن، وإنه من جملة من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد أن كان بها مغرما. وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمد يده ويقبض على ضوء القمر ليمسكه، فضحك منه جلساؤه ثم أخبروه بذلك حين صحا، فحلف أن لا يشربها أبدا. وممن حرمها على نفسه في الجاهلية عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، وقال: لا أشرب شيئا يذهب عقلي، ويضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي من لا أريد. فصنع لهم عبد الله بن جدعان طعاما، وتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بلّ بحر صوفة: أي الأبد. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف، ويفعل المعروف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال: لا، لأنه لم يقل يوما، وفي رواية: أنه لم يقل ساعة من ليل أو نهار رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» رواه مسلم: أي لم يكن مسلما، لأن القول المذكور لا يصدر إلا عن مسلم، فلا يقال مقتضى الحديث أنه لو قال ذلك لنفعه ما ذكر يوم القيامة مع كونه كان كافرا، لأنه ممن أدرك البعثة ولم يؤمن، وحينئذ يسأل عن الحكمة عن عدوله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك عن قوله لأنه لم يؤمن بي، أو لم يكن مسلما: أي وكان يكنى أبا زهير، وقد قال صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر: «لو كان أبو زهير أو مطعم بن عدي حيا فاستوهبهم لوهبتهم له» . وقد ذكر أن جفنة ابن جدعان كان يأكل منها الراكب على البعير: أي وسيأتي في غزوة بدر «أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه ازدحم هو وأبو جهل وهما غلامان على مائدة لابن جدعان، وأنه صلى الله عليه وسلم دفع أبا جهل لعنه الله فوقع على ركبته فجرحت جرحا أثر فيها»

وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أستظل بجفنة عبد الله بن جدعان في صكة عمي» أي في الهاجرة، وسميت الهاجرة بذلك، لأن عمى تصغير أعمى على الترخيم: رجل من العماليق أوقع بالعدو القتل في مثل ذلك الوقت. وقيل هو رجل من عدوان كان فقيه العرب في الجاهلية، فقدم في قومه معتمرا، فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة: من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين، فصكوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في وقت الظهيرة، ولعل هذا لا يخالفه قول ابن عباس رضي الله عنهما: عجلنا الرواح للمسجد صكة الأعمى، فقيل ما صكة الأعمى؟ قال: إنه لا يبالي أية ساعة خرج. وكان عبد الله بن جدعان في ابتداء أمره صعلوكا، وكان مع ذلك شريرا فتاكا لا يزال يجني الجنايات، فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته، وطرده أبوه، وحلف لا يأويه أبدا، فخرج هائما في شعاب مكة يتمنى الموت، فرأى شقا في جبل فدخل فإذا ثعبان، عظيم له عينان تتقدان كالسراج، فلما قرب منه حمل عليه الثعبان فلما تأخر انساب: أي رجع عنه، فلا زال كذلك حتى غلب على ظنه أن هذا مصنوع، فقرب منه ومسكه بيده فإذا هو من ذهب وعيناه ياقوتتان، فكسره ثم دخل المحل الذي كان هذا الثعبان على بابه، فوجد فيه رجالا من الملوك، ووجد في ذلك المحل أموالا كثيرة من الذهب والفضة، وجواهر كثيرة من الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، فأخذ منه ما أخذ، ثم علم ذلك الشق بعلامة وصار ينقل منه ذلك شيئا فشيئا، ووجد في ذلك الكنز لوحا من رخام فيه: أنا نفيلة بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله، عشت خمسمائة عام، وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك، فلم يكن ذلك ينجي من الموت، ثم بعث عبد الله بن جدعان إلى أبيه بالمال الذي دفعه في جناياته، ووصل عشيرته كلهم فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس، ويفعل المعروف. قال: وفي رواية: تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها، ولا يقر ظالم على مظلوم: أي وحينئذ فالمراد بالفضول ما يؤخذ ظلما. وقيل: إن هذا أي رد الفضول مدرج من بعض الرواة. زاد بعضهم: على ما بلّ بحر صوفة، وما رسا حراء وثبير مكانيهما اهـ: أي والمراد الأبد كما تقدم، وكان معهم في ذلك الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار بني جدعان حمر النعم» أي الإبل «وأني أغدر به» بالغين المعجمة والدال المهملة: أي لا أحب الغدر به وإن أعطيت حمر النعم في ذلك. قال: وفي رواية «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم» أي

بفواته «ولو دعي به في الإسلام لأجبت» أي لو قال قائل من المظلومين يا آل حلف الفضول لأجبت، لأن الإسلام إنما جاء بإقامة الحق ونصرة المظلوم. وفيه إن الإسلام قد رفع ما كان من دعوى الجاهلية من قولهم، يا لفلان عند الحرب والتعصب. وأجيب بأن هذا مستثنى، فالدعوى به جائزة. وفي أخرى «ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين، شهدته مع عمومتي، وما أحب أن لي به حمر النعم، وأني كنت نقضته» أي لا أحب نقضه وإن دفع لي حمر الإبل في مقابلة نقضه. والمطيبون: هم هاشم وزهرة: أي بنو زهرة بن كلاب وأمية ومخزوم. قال البيهقي كذا روي هذا التفسير: أي أن المطيبين هاشم وزهرة وأمية ومخزوم مدرجا، ولا أدري من قاله. وعبارته في السنن الكبرى: لا أدري هذا التفسير من قول أبي هريرة، أو من دونه؟ هذا كلامه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين: أي لأنه كما تقدم وقع بين بني عبد مناف بن قصي، وهم هاشم، وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل، وبنو زهرة، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو تميم، وبنو الحرث بن فهر، وهم المطيبون. وبين بني عمهم عبد الدار بن قصي وأحلافهم بني مخزوم وغيرهم، ويقال لهم الأحلاف كما تقدم، وذلك قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيث لم يدرك صلى الله عليه وسلم حلف المطيبين يصير المدرج لفظ المطيبين مع تفسيره بمن ذكر، لا أن المدرج تفسيره فقط بمن ذكر كما يقتضيه كلام البيهقي. وحينئذ تكون الرواية «ما شهدت حلفا لقريش إلا حلفا مع عمومتي إلى آخره» ظن الراوي أن حلف الفضول هو حلف المطيبين، فذكر لفظ المطيبين وبنيهم. وقد يقال: ذكر ابن إسحق أنه لما قام عبد الله بن جدعان هو والزبير بن عبد المطلب في الدعوى للتحالف، أجابهما بنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تميم، هذا كلامه. ولا يخفى أن هؤلاء أجلّ المطيبين، أطلق على هذا الحلف والذي هو حلف الفضول حلف المطيبين، لأنهم العاقدون له، فليتأمل. وسمي بالفضول، قيل لما تقدم من أنهم تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها، وقيل لأنه يشبه حلفا وقع لثلاثة من جرهم كل واحد يقال له الفضل. وعبارة بعضهم: لأن الداعي إليه كان ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم فضل وهم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث، والضمير في أشرافهم يتبادر رجوعه إلى قريش، وهؤلاء الثلاثة تحالفوا على نصرة المظلوم على ظالمه، فالفضول جمع الفضل.

وقيل لأنهم أي هؤلاء الذين تحالفوا كانوا أخرجوا فضول أموالهم للأضياف، وقيل لأن قريشا قالوا عن هؤلاء الذين تحالفوا لقد دخل هؤلاء في فضول من الأمر. والسبب في هذا الحلف والحامل عليه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان من أهل الشرف والقدر بمكة، فحبس عنه حقه، فاستدعى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار ومخزوما وجمح وسهما وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص، وانتهروه أي الزبيدي، فلما رأى الزبيدي الشرّ رقي على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والقفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر إن الحرام لمن تمت مكارمه ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر والحرام بمعنى الاحترام، فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب مع عبد الله بن جدعان كما تقدم، واجتمع إليه من تقدم. وقيل قام فيه العباس وأبو سفيان، وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه شريفا أو وضيعا، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه اهـ. أقول: ذكر السهيلي أن رجلا من خثعم قدم مكة معتمرا أو حاجا ومعه بنت له من أضوإ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج، فقيل له: عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يا لحلف الفضول، فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم: أي جردوها، يقولون: جاءك الغوث فما لك؟ فقال: إن نبيها ظلمني في بنتي، فانتزعها مني قسرا فساروا إليه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم، فقالوا له: أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاهدنا عليه، فقال: أفعل، ولكن متعوني بها الليلة. فقالوا: لا والله ولا شخب لقحة: أي مقدار زمن ذلك، فأخرجها إليهم. وفي سيرة الحافظ الدمياطي: أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال متعلق بالحسين. فقال الحسين للوليد: احلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي: ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون لحلف الفضول: أي لحلف كحلف الفضول وهو نصرة المظلوم على ظالمه، ووافقه على ذلك جماعة منهم عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه كان إذ ذاك في المدينة، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي، والله أعلم.

باب: سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام ثانيا

باب: سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام ثانيا وذلك مع ميسرة غلام خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة أي على الراجح من أقوال ستة، وعليه جمهور العلماء، وتلك أقوال ضعيفة لم تقم لها حجة على ساق، وليس له صلى الله عليه وسلم اسم بمكة إلا الأمين، لما تكامل فيه من خصال الخير كما تقدم. وسبب ذلك أن عمه صلى الله عليه وسلم أبا طالب قال له: يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان: أي القحط وألحت علينا: أي أقبلت ودامت سنون منكرة: أي شديدة الجدب، وليس لنا مادة: أي ما يمدنا وما يقوّمنا ولا تجارة، وهذه عير قومك وتقدم أنها الإبل التي تحمل الميرة. وفي رواية. عيرات، جمع عير قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها، فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك وإن كنت لأكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهودها ولكن لا تجد لك من ذلك بدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلها أن ترسل إليّ في ذلك. فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك، فتطلب أمرا مدبرا فافترقا، فبلغ خديجة رضي الله تعالى عنها ما كان من محاورة عمه أبي طالب له. فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، ثم أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم فقالت: إني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك. وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقي عمه أبا طالب فذكر له ذلك. فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك، فخرج صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة: أي يريد الشام وقالت خديجة لميسرة: لا تعص له أمرا ولا تخالف له رأيا، وجعل عمومته يوصون به أهل العير: أي ومن حين سيره صلى الله عليه وسلم أظلته الغمامة. فلما قدم صلى الله عليه وسلم الشام نزل في سوق بصرى في ظل شجرة قريبة من صومعة راهب يقال له نسطورا: أي بالقصر، فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه. فقال: يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: رجل من قريش من أهل الحزم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي: أي صانها الله تعالى أن ينزل تحتها غير نبيّ. ثم قال له: أفي عينيه حمرة؟ قال ميسرة نعم لا تفارقه فقال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج: أي يبعث، فوعى ذلك ميسرة: أي والحمرة كانت في بياض عينيه وهي الشكلة. ومن ثم قيل في وصفه صلى الله عليه وسلم: أشكل العينين، فهذه الشكلة من علامات نبوّته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة، أي وقد تقدم ذلك.

قال: وفي الشرف للنيسابوري: فلما رأى الراهب الغمامة تظله صلى الله عليه وسلم فزع وقال: ما أنتم عليه: أي أيّ شيء أنتم عليه؟ قال: ميسرة غلام خديجة رضي الله تعالى عنها، فدنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرا من ميسرة وقبل رأسه وقدمه وقال: آمنت بك، وأنا أشهد أنك الذي ذكره الله في التوراة، ثم قال: يا محمد قد عرفت فيك العلامات كلها: أي العلامات الدالة على نبوتك المذكورة في الكتب القديمة، خلا خصلة واحدة، فأوضح لي عن كتفك، فأوضح له فإذا هو بخاتم النبوة يتلألأ، فأقبل عليه يقبله ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى ابن مريم، فإنه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأميّ الهاشمي العربي المكي، صاحب الحوض والشفاعة، وصاحب لواء الحمد انتهى. أقول: قال في النور: ولم أجد أحدا عدّ هذا الراهب الذي هو نسطورا في الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما عدّ بعضهم فيها بحيرا الراهب، وينبغي أن يكون هذا مثله هذا كلامه. وقد قدمنا أنه سيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدّق بأنه صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام فضلا عن كونه صحابيا، لأن المسلم من أقرّ برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها إلى آخر ما يأتي. ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة أن بحيرا ممن ذكر في كتب الصحابة غلطا، قال: لأن تعريف الصحابي لا ينطبق عليه، وهو مسلم لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، ومات على ذلك قال: فقولي مسلم يخرج من لقيه مؤمنا به قبل أن يبعث كهذا الرجل يعني بحيرا، هذا كلامه، ومراده ما ذكرنا، ولعل نسطورا هذا هو الذي تنسب إليه النسطورية من النصارى، فإن النصارى افترقت ثلاث فرق، نسطورية قالوا عيسى ابن الله. ويعقوبية قالوا عيسى هو الله عز وجل هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء. وملكانية قالوا عيسى عبد الله ونبيه. زاد بعضهم فرقة رابعة وهم إسرائيلية قالوا هو إله وأمه إله والله إله. هذا وفي القاموس: النسطورية بالضم ويفتح: أمة من النصارى تخالف بقيتهم، وهم أصحاب نسطورا الحكيم الذي ظهر في أيام المأمون وتصرف في الإنجيل برأيه وقال إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة، وهو بالرومية نسطورس، كما افترقت اليهود ثلاث فرق، فإنها افترقت إلى قرائية وربانية وسامرية. ولا يخفى أن بقاء تلك الشجرة هذا الزمن الطويل قبل عيسى وبعده إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم على خلاف العادة، وصرف غير الأنبياء عن النزول تحت تلك الشجرة وكذا صرف الأنبياء الذين وجدوا بعد عيسى على ما تقدم عن النزول تحت تلك الشجرة بعد عيسى الذي دلت عليه الرواية الأولى والرواية الثانية ممكن، وإن كانت الشجرة

لا تبقي في العادة هذا الزمن الطويل، ويبعد في العادة أن تكون شجرة تخلو عن أن ينزل تحتها أحد غير الأنبياء، لأن هذا الأمر مع كونه ممكنا خارق للعادة، والأنبياء لهم خرق العوائد سيما نبينا صلى الله عليه وسلم. وبهذا يردّ قول السهيلي: يريد ما نزل تحت هذه الشجرة الساعة إلا نبي ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي لبعد العهد بالأنبياء عليهم السلام قبل ذلك وإن كان في لفظ الخبر «قط» أي كما تقدم، فقد تكلم بها على جهة التأكيد للنفي، والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدرى أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبياء. ويبعد في العادة أيضا أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد حتى يجيء نبي، هذا كلامه. وقد يقال: يجوز أن تكون تلك الشجرة كانت شجرة زيتون. فقد ذكر أن شجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة، على أن في بعض الروايات: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يابسة نخر عودها، فلما اطمأن تحتها اخضرت ونورت، واعشوشب ما حولها، وأينع ثمرها، ودلت أغصانها ترفرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: المختار عند جمهور المحققين من أهل السنة أن كل ما جاز وقوعه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المعجزات جاز للأولياء مثله من الكرامات بشرط عدم التحدي، لأن المعجزة يعتبر فيها التحدي وأن تكون بعد النبوة، وما قبل النبوة كما هنا يقال له إرهاص. وحينئذ لا يستبعد ما ذكر عن الشيخ رسلان رحمه الله أنه كان إذا استند إلى شجرة يابسة قد ماتت تورق ويخرج ثمرها في الحال. على أنه سيأتي في الكلام على غزاة الخندق أن كرامات الأولياء معجزات لأنبيائهم. ولما رأى الراهب ما ذكر لم يتمالك الراهب أن انحدر من صومعته، وقال له: باللات والعزى ما اسمك؟ فقال له: إليك عني، ثكلتك أمك، ومع ذلك الراهب رقّ مكتوب، فجعل ينظر في ذلك الرق، ثم قال هو هو ومنزل التوراة، فظن بعض القوم أن الراهب يريد بالنبي صلى الله عليه وسلم مكرا، فانتضى سيفه وصاح: يا آل غالب يا آل غالب، فأقبل الناس يهرعون إليه من كل ناحية يقولون: ما الذي راعك؟ فلما نظر الراهب إلى ذلك أقبل يسعى إلى صومعته فدخلها وأغلق عليه بابها، ثم أشرف عليهم فقال: يا قوم ما الذي راعكم مني؟ فو الذي رفع السموات بغير عمد إني لأجد في هذه الصحيفة أن النازل تحت هذه الشجرة هو رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، يبعثه الله بالسيف المسلول، وبالريح الأكبر، وهو خاتم النبيين، فمن أطاعه نجا، ومن عصاه غوى، ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى، فباع سلعته التي خرج بها واشترى. قال: ولم أقف على تعيين ما باعه وما اشتراه انتهى.

وكان بينه صلى الله عليه وسلم وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احلف باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حلفت بهما قط» ، فقال الرجل القول قولك، ثم قال الرجل لميسرة وقد خلا به: يا ميسرة هذا نبي، والذي نفسي بيده إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتا: أي في الكتب، فوعى ميسرة ذلك: أي وقبل أن يصلوا إلى بصرى عيي بعيران لخديجة وتخلف معهما ميسرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الركب فخاف ميسرة على نفسه وعلى البعيرين، فانطلق يسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البعيرين، فوضع يده على أخفافهما وعوذهما، فانطلقا في أول الركب ولهما رغاء. قال: وفي الشرف أنهم باعوا متاعهم، وربحوا ربحا ما ربحوا مثله قط. قال ميسرة: يا محمد اتجرنا لخديجة أربعين سنة ما ربحنا ربحا قط أكثر من هذا الربح على وجهك انتهى. وأقول: لا يخفى ما في قول ميسرة: أتجرنا لخديجة أربعين سنة، ولعلها مصحفة عن سفرة، أو هو على المبالغة، والله أعلم. ثم انصرف أهل البعير جميعا راجعين مكة، وكان ميسرة يرى ملكين يظللانه صلى الله عليه وسلم من الشمس وهو على بعيره إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، وهذا هو المعنى بقول الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بإظلال الملائكة له في سفره. ويحتمل أن المراد في كل سفر سافره، لكن لم أقف على إظلال الملائكة له صلى الله عليه وسلم في غير هذه السفرة. وقد ألقى الله تعالى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب ميسرة، فكان كأنه عبده، فلما كانوا بمرّ الظهران: أي وهو واد بين مكة وعسفان، وهو الذي تسميه العامة بطن مرو، وهو المعروف الآن بوادي فاطمة. قال ميسرة للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك أن تسبقني إلى خديجة فتخبرها بالذي جرى، لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك: أي وفي رواية: تخبرها بما صنع الله تعالى لها على وجهك، فركب النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية: أي في غرفة مع نساء، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظللان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا، وهو ضعف ما كانت تربح، فسرت بذلك وقالت: أين ميسرة؟ قال: «خلفته في البادية» ، قالت: عجل إليه ليعجل بالإقبال وإنما أرادت أن تعلم أهو الذي رأت أم غيره؟ فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصعدت خديجة تنظر فرأته على الحالة الأولى، فاستيقنت أنه هو. فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله:

وميسرة قد عاين الملكين إذ ... أظلاك لما سرت ثاني سفرة وأخبرها ميسرة بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذي حالفه: أي استحلفه في البيع: أي وقصة البعيرين. وحينئذ أعطت خديجة له صلى الله عليه وسلم ضعف ما سمته له: أي وما سمته له ضعف ما كانت تعطيه لرجل من قومه كما تقدم. وقول ميسرة له صلى الله عليه وسلم فيما تقدم: لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك يدل على أنها سمت له بكرتين، وكانت تسمي لغيره بكرة. وفي كلام بعضهم: وفي الروض الباسم: استأجرته على أربع بكرات. وفي الجامع الصغير ما نصه: آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوصين. ثم رأيت في الإمتاع ما يوافق ذلك، ونصه: وأجر صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة سفرتين بقلوصين، وفي السفرة الأولى أرسلته مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة: أي وهو مكان بأرض اليمن بينه وبين مكة ست ليال كانوا يبتاعون فيه ثلاثة أيام، من أول رجب في كل عام، فابتاعا منه بزا ورجعا إلى مكة، فربحا ربحا حسنا. وفي السفرة الثانية أرسلته مع عبدها ميسرة إلى الشام. وفيه أن سفره مع ميسرة إلى الشام سفرة ثالثة. فعن مستدرك الحاكم وصححه وأقره الذهبي عن جابر: أن خديجة استأجرته صلى الله عليه وسلم سفرتين إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء: موضع باليمن كل سفرة بقلوص، وهي الشابة من الإبل، وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم سافر لها ثلاث سفرات كما تقدم، ولعل سوق حباشة هو جرش، وإلا لزم أن يكون صلى الله عليه وسلم سافر لها خمس سفرات: أربعة إلى اليمن، وواحدة إلى الشام، وما تقدم عن الروض الباسم من أنها استأجرته في سفرة إلى الشام بأربع بكرات لا يناسب ما تقدم عن ميسرة. قد جاء في بعض الروايات: أن أبا طالب جاء لخديجة، وقال لها: هل لك أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرتين، وليس نرضى لمحمد دون أربع بكرات، فقالت خديجة: لو سألت لبعيد بغيض، فكيف وقد سألت لحبيب قريب؟. ثم لا يخفى أن كون سفره صلى الله عليه وسلم مع ميسرة بسوق حباشة قبل سفره معه إلى الشام مخالف لظاهر ما تقدم من قول عمه أبي طالب، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها، وقول خديجة ما علمت أنه يريد هذا. وإنما قلنا ظاهر، لأنه يجوز أن يكون بعد قول أبي طالب، وقولها المذكور أرسلته صلى الله عليه وسلم مع ميسرة إلى سوق حباشة لقرب مسافته وقصر زمنه، ثم أرسلته مع ميسرة إلى الشام، أو كانت خديجة لا تجوّز أن أبا طالب يرضى بسفره إلى الشام، وأنه صلى الله عليه وسلم يوافق على ذلك فليتأمل.

وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم من حين سيره: أي من مكة صارت الغمامة تظله، فإن كانت غير الملكين، فالغمامة كانت تظله في الذهاب والملكان يظلانه في العود، ولعل عدم ذكر ميسرة لخديجة تظليل الغمامة له صلى الله عليه وسلم في ذهابه أنه لم يفطن لها مثلا، ولكن سيأتي في كلام صاحب الهمزية ما يدل على أن الملكين هما الغمامة. وفيه وقوع رؤية البشر غير نبينا صلى الله عليه وسلم للملائكة غير جبريل، وسيأتي رؤية جمع من الصحابة لجبريل. وفي المنقذ من الضلال للغزالي أن الصوفية يشاهدون الملائكة في يقظتهم: أي لحصول طهارة نفوسهم، وتزكية قلوبهم، وقطعهم العلائق، وحسمهم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال، وإقبالهم على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا، والله أعلم. قال: ولم أقف على اسم الرجل الذي حالفه: أي استحلفه. وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على رواية صحيحة صريحة فيه بأنه: أي ميسرة بقي إلى البعثة انتهى. ثم إن خديجة ذكرت ما رأته من الآيات وما حدثها به غلامها ميسرة لابن عمها ورقة بن نوفل وكان نصرانيا: أي بعد أن كان يهوديا على ما يأتي، قد تتبع الكتب، فقال لها: إن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا نبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي منتظر هذا زمانه: أي وكان صلى الله عليه وسلم يتجر قبل النبوة قبل أن يتجر لخديجة، وكان شريكا للسائب بن أبي السائب صيفي. ولما قدم عليه السائب يوم فتح مكة قال له: مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري: أي لا يرائي، ولا يماري: أي يخاصم صاحبه، وهذا يدل على أن قوله كان لا يداري الخ من مقوله صلى الله عليه وسلم. وقد قال فقهاؤنا: والأصل في الشركة خبر السائب بن يزيد أنه كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وافتخر بشركته بعد المبعث: أي قال: كان صلى الله عليه وسلم نعم الشريك لا يداري ولا يماري ولا يشاري. والمشاراة: المشاحة في الأمر واللجاج فيه، وهو يدل على أن ذلك كان من مقول السائب. ولا مانع أن يكون كل من النبي صلى الله عليه وسلم والسائب قال في حق الآخر: كان لا يداري ولا يماري. وبهذا يندفع قول بعضهم: اختلفت الروايات في هذا الكلام الذي هو كان خير شريك، كان لا يشاري، ولا يماري، فمنهم من يجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم في السائب، ومنهم من يجعله من قول السائب في حق النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن لا يكون مخالفة بين السائب بن أبي السائب صيفي وبين السائب بن يزيد، لأنه يجوز أن يكون صيفي لقبا لوالده اسمه يزيد.

باب: تزوجه صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ابن أسد بن عبد العزى بن قصي

وفي الاستيعاب: وقع اضطراب هل الشريك كان أبا السائب، أو ولده السائب بن السائب، أو ولد السائب وهو قيس بن السائب بن أبي السائب لا أخ السائب، وهو عبد الله بن أبي السائب. قال: وهذا اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة. والسائب بن أبي السائب من المؤلفة، أعطاه صلى الله عليه وسلم يوم الجعرانة من غنائم حنين. وبه يرد قول بعضهم إن السائب بن أبي السائب قتل يوم بدر كافرا. ومما يدل على أن الشركة كانت لقيس بن السائب قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية شريكي، فكان خير شريك: كان لا يشاريني، ولا يماريني. ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم سمع قوله: كان شريكي وأقره عليه. وذكر في الإمتاع «إن حكيم بن حزام اشترى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بزا من بزّ تهامة بسوق حباشة وقدم به مكة فكان ذلك سببا لإرسال خديجة له صلى الله عليه وسلم مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة ليشتريا لها بزا» . وفي «سفر السعادة» أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه أنه باع واشترى، إلا أنه بعد الوحي وقبل الهجرة كان شراؤه أكثر من البيع وبعد الهجرة لم يبع إلا ثلاث مرات. وأما شراؤه فكثير. وآجر واستأجر، والاستئجار أغلب، ووكل وتوكل، وكان توكله أكثر. باب: تزوجه صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ابن أسد بن عبد العزى بن قصيّ فهي تجتمع معه صلى الله عليه وسلم في قصي. قال الحافظ ابن حجر: وهي من أقرب نسائه صلى الله عليه وسلم إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، هذا كلامه. وعن نفيسة بنت منبه رضي الله تعالى عنها: أي وهي أخت يعلى بن منبه. ففي الإمتاع منية أخت يعلى بن منبه، وعليه يكون ضمير وهي راجع لمنية لا لنفيسة. قالت: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة: أي ضابطة جلدة: أي قوية شريفة: أي مع ما أراد الله تعالى لها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا: أي وأحسنهم جمالا، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة. وفي لفظ: كان يقال لها سيدة قريش، لأن الوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل، يقال: فلان أوسط القبيلة: أعرقها في نسبها، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وذكروا لها الأموال فلم تقبل، فأرسلتني دسيسا: أي خفية إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: فإن كفيت

ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاية ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ بكسر الكاف لأنه خطاب لنفيسة. قلت: بلى وأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته فزوّجه أحدهم: أي وهو أبو طالب على ما يأتي. وقال في خطبته: وابن أخي له في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك، فقال عمرو بن أسد: هذا الفحل لا يقدع أنفه: أي بالقاف والدال المهملة: أي لا يضرب أنفه لكونه كريما، لأن غير الكريم إذا أراد ركوب الناقة الكريمة يضرب أنفه ليرتدع، بخلاف الكريم، وكون المزوّج لها عمها عمرو بن أسد قال بعضهم هو المجمع عليه. وقيل المزوّج لها أخوها عمرو بن خويلد. وعن الزهريّ أن المزوّج لها أبوها خويلد بن أسد وكان سكرانا من الخمر، فألقت عليه خديجة حلة وهي ثوب فوق ثوب، لأن الأعلى يحل فوق الأسفل، وضمخته بخلوق: أي لطخته بطيب مخلوط بزعفران فلما صحا من سكره قال: ما هذه الحلة والطيب؟ فقيل له: لأنك أنكحت محمدا خديجة وقد ابتنى بها فأنكر ذلك، ثم رضيه وأمضاه: أي لأن خديجة استشعرت من أبيها أنه يرغب عن أن يزوجها له، فصنعت له طعاما وشرابا، ودعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا، فلما سكر أبوها قالت له: إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه، فزوّجها، فخلقته وألبسته، لأن ذلك: أي إلباس الحلة وجعل الخلوق به كان عادتهم أن الأب يفعل به ذلك إذا زوّج بنته، فلما صحا من سكره قال: ما هذا؟ قالت له خديجة: زوجتني من محمد بن عبد الله، قال: أنا أزوّج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري، فقالت له خديجة: ألا تستحي، تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبرهم أنك كنت سكرانا؟ فلم تزل به حتى رضي: أي وهذا مما يدل على أن شرب الخمر كان عندهم مما يتنزه عنه. ويدل له أن جماعة حرّموها على أنفسهم في الجاهلية، منهم من تقدم، ومنهم من يأتي. وفي رواية أنها عرضت نفسها عليه فقالت: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، فذكر ذلك صلى الله عليه وسلم لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فزوّجها. أقول: قال في النور ولعل الثلاثة: أي أباها وأخاها وعمها حضروا ذلك فنسب الفعل إلى كل واحد منهم، هذا كلامه. وفي كون المزوج لها أبوها خويلد أو كونه حضر تزويجها نظر ظاهر، لأن المحفوظ عن أهل العلم أن خويلد بن أسد مات قبل حرب الفجار المتقدم ذكرها. قال بعضهم: وهو الذي نازع تبعا: أي حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى

اليمن، فقام في ذلك خويلد، وقام معه جماعة من قريش، ثم رأى تبع في منامه ما ردعه عن ذلك، فترك الحجر الأسود مكانه. وعلى كون المزوّج له عمه حمزة اقتصر ابن هشام في سيرته. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقها عشرين بكرة. وعبارة المحب الطبري: فلما ذكر ذلك لأعمامه خرج معه منهم حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه ففعل، وحضره أبو طالب ورؤساء مضر فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله القصة، والله أعلم. قال: وعن ابن إسحق أنها قالت له: يا محمد ألا تتزوج؟ قال: ومن؟ قالت: أنا، قال: ومن لي بك؟ أنت أيمّ قريش وأنا يتيم قريش؟ قالت: اخطبني الحديث: أي وفيه إطلاق اليتيم على البالغ، وذلك بحسب ما كان، والمراد به المحتاج، وإلا فالعرف أي الشرعي واللغوي خصه بغير البالغ ممن مات أبوه الحقيقي. وعن بعضهم قال: مررت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على أخت خديجة فنادتني فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما لصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ فأخبرته، فقال: بلى لعمري، فذكرت ذلك لها، فقالت اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا خديجة حلة، الحديث. وفي الإمتاع بعد أن ذكر أن السفير بينهما نفيسة بنت منية، ذكر أنه قيل: كان السفير بينهما غلامها، وقيل مولاة مولدة. وقد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون كل ممن ذكر كان سفيرا. وفي الشرف أن خديجة رضي الله تعالى عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى عمك فقل له تعجل إلينا بالغداة، فلما جاءها ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له: يا أبا طالب تدخل على عمي فكلمه يزوجني من ابن أخيك محمد بن عبد الله فقال أبو طالب: يا خديجة لا تستهزئي، فقالت: هذا صنع الله، فقام فذهب وجاء مع عشرة من قومه إلى عمها، الحديث: أي وفي رواية ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر. ولا مخالفة لجواز أن يكون المراد ببني هاشم أولئك العشرة، وأنهم كانوا هم المراد برؤساء مضر في ذلك الوقت. وذكر أبو الحسين بن فارس وغيره أن أبا طالب خطب يومئذ فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسمعيل، وضئضيء معدّ: أي معدنه، وعنصر مضر: أي أصله، وجعلنا حضنة بيته: أي المتكفلين بشأنه، وسوّاس حرمه: أي القائمين بخدمته، وجعله لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا حكام الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا

وعقلا، وإن كان في المال قلّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنتي عشرة أوقية ونشا: أي وهو عشرون درهما والأوقية: أربعون درهما، أي وكانت الأواقي والنش من ذهب كما قال المحب الطبري: أي فيكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي. وقيل أصدقها عشرين بكرة، أي كما تقدم. أقول: لا منافاة لجواز أن تكون البكرات عوضا عن الصداق المذكور. وقال بعضهم: يجوز أن يكون أبو طالب أصدقها ما ذكر وزاد صلى الله عليه وسلم من عنده تلك البكرات في صداقها فكان الكل صداقا، والله أعلم. قال: وما قيل إن عليا رضي الله تعالى عنه ضمن المهر فهو غلط، لأن عليا لم يكن ولد على جميع الأقوال في مقدار عمره، وبه يردّ قول بعضهم: وكون عليّ ضمن المهر غلط، لأن عليا كان صغيرا لم يبلغ سبع سنين: أي لأنه ولد في الكعبة وعمره صلى الله عليه وسلم ثلاثون سنة فأكثر، وسنه حين تزوج خديجة كان خمسا وعشرين سنة على ما تقدم أو زيادة بشهرين وعشرة أيام. وقيل خمسة عشر يوما على ما يأتي وقيل الذي ولد في الكعبة حكيم بن حزام. قال بعضهم: لا مانع من ولادة كليهما في الكعبة، لكن في النور: حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره. وأما ما روي أن عليا ولد فيها فضعيف عند العلماء. قال النووي: وعند ذلك قال عمها عمرو بن أسد: هو الفحل لا يقدع أنفه وأنكحها منه. وقيل قائل ذلك ورقة بن نوفل: أي فإنه بعد أن خطب أبو طالب بما تقدم خطب ورقة، فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله لا ينكر العرب فضلكم، ولا يردّ أحد من الناس فخركم وشرفكم ورغبتنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليّ معاشر قريش إني قد زوّجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله وذكر المهر، فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا عليّ معاشر قريش إني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد، وأو لم عليها صلى الله عليه وسلم: نحر جزورا، وقيل جزورين، وأطعم الناس، وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وفرح أبو طالب فرحا شديدا، وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الغموم، وهي أول وليمة أولمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: ولا ينافي هذا ما تقدم من قوله: فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا خديجة حلة، لجواز أن يكون ذلك كان عند العقد، وهذا عند إرادة الدخول. ولا

ينافي ذلك ما تقدم من قوله، وقد ابتنى بها، لأن تلك الرواية غير صحيحة، ولا ينافي كون المزوّج له عمه أبو طالب ما تقدم أن المزوج له عمه حمزة، لجواز أن يكون حضر مع أبي طالب فنسب التزويج إليه أيضا، والله أعلم. والسبب في ذلك: أي في عرض خديجة رضي الله تعالى عنها نفسها عليه صلى الله عليه وسلم أيضا مع ما أراد الله تعالى بها من الخير، ما ذكره ابن إسحق. قال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد، فاجتمعن يوما فيه، فجاءهن يهودي وقال أيا معشر نساء قريش إنه يوشك فيكنّ نبي قرب وجوده، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشا له فلتفعل، فحصبته النساء: أي رمينه بالحصباء، وقبحنه وأغلظن له، وأغضت خديجة على قوله، ووقع ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات وما رأته هي: أي وما قاله لها ورقة لما حدثته بما حدثها به ميسرة مما تقدم قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقا ما ذاك إلا هذا. وذكر الفاكهي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب، فاستأذن أبا طالب في أن يتوجه إلى خديجة: أي ولعله بعد أن طلبت منه صلى الله عليه وسلم الحضور إليها وذلك قبل أن يتزوجها، فأذن له وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة، فقال: انظري ما تقول له خديجة، فخرجت خلفه، فلما جاء صلى الله عليه وسلم إلى خديجة أخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي أنت وأمي، والله ما أفعل هذا الشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي سيبعثك لي، فقال لها والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن كان غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا، فرجعت نبعة وأخبرت أبا طالب بذلك، وكان تزويجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها بعد مجيئه من الشام بشهرين أو خمسة عشر يوما، وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة على ما هو الصحيح الذي عليه الجمهور كما تقدم. زاد بعضهم على الخمسة والعشرين سنة شهرين وعشرة أيام، وقد أشار إلى ما تقدم صاحب الهمزية بقوله: ورأته خديجة والتقى والزه ... د فيه سجية والحياء وأتاها أن الغمامة والسر ... ح أظلته منهما أفياء وأحاديث أن وعد رسول الله ... بالبعث حان منه الوفاء فدعته إلى الزواج وما أح ... سن ما يبلغ المنى الأذكياء أي وعلمته خديجة رضي الله تعالى عنها، ذات الشرف الطاهر، والمال الوافر الظاهر، والحسب الفاخر، والحال أن التقى والزهد والحياء فيه صلى الله عليه وسلم سجية وطبيعة،

باب: بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى

وأتاها الخبر بأن الغمامة والشجر أظلته: أفياء: أي أظلال حالة كون تلك الأفياء من الغمامة والشجر. وفيه أن هذا يدل على أن الملكين هما الغمامة. قال بعضهم: وتظليل الغمامة له صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة تأسيسا لها، وانقطع ذلك بعد النبوة، وأتى خديجة الأحاديث والأخبار من بعض الأحبار بأن وعد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالبعث والإرسال إلى الخلق قرب الوفاء به منه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فبسبب ذلك خطبته إلى أن يتزوج بها وعرضت نفسها عليه. وما أحسن بلوغ الأذكياء ما يتمنونه. وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ بنت أربعين سنة. قال: وقيل خمس وأربعين سنة، وقيل ثلاثين، وقيل ثمان وعشرين اهـ: أي وقيل خمس وثلاثين وقيل خمس وعشرين. وتزوجت قبله صلى الله عليه وسلم برجلين. أولهما عتيق بن عابد: أي بالموحدة والمهملة، وقيل بالمثناة تحت والمعجمة فولدت له بنتا اسمها هند، وهي أم محمد بن صيفي المخزومي. وثانيهما أبو هالة، واسمه هند، فولدت له ولدا اسمه هالة، وولدا اسمه هند أيضا فهو عند بن هند: أي وكان يقول: أنا أكرم الناس أبا وأما وأخا وأختا، أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه زوج أمه، وأمي خديجة، وأخي القاسم، وأختي فاطمة، قتل هند هذا مع عليّ يوم الجمل رضي الله تعالى عنه. وفي كلام السهيلي أنه مات بالطاعون بالبصرة، وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفا فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته، فلم يوجد من يحملها، فصاحت نادبته: واهنداه بن هنداه، واربيب رسول الله، فلم تبق جنازة إلا تركت واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاما لربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا. هذا وفي المواهب أنها كانت تحت أبي هالة أولا، ثم كانت تحت عتيق ثانيا، وستأتي بقية ترجمتها رضي الله عنها في أزواجه صلى الله عليه وسلم. باب: بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة على ما هو الصحيح جاء سيل حتى أتى من فوق الردم الذي صنعوه لمنعه السيل فأخربه: أي ودخلها وصدّع جدرانها بعد توهينها من الحريق الذي أصابها. وذلك أن امرأة بخرتها فطارت شرارة في ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها، فخافوا أن تفسدها السيول: أي تذهبها بالمرة. وقيل تبخير المرأة كان لها في زمن

عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما. ولا مانع من التعدد، وكان ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لها سقف: أي وكان الناس يلقون الحليّ والمتاع كالطيب أي الذي يهدى إليها في بئر داخلها عند بابها على يمين الداخل منه أعدت لذلك، يقال لها خزانة الكعبة كما سيأتي ذلك. فأراد شخص في أيام جرهم أن يسرق من ذلك شيئا فوقع على رأسه وانهار البئر عليه فهلك. وفي كلام بعضهم: فسقط عليه حجر فحبسه في تلك البئر حتى أخرج منها وانتزع المال منه، فليتأمل الجمع. وقد يقال على بعد: جاز أن يكون هذا الرجل تكرر منه السرقة، وكان هلاكه في المرة الثانية، فعند ذلك بعث الله حية بيضاء سوداء الرأس والذنب رأسها كرأس الجدي، فأسكنها تلك البئر لحفظ تلك الأمتعة، وكانت قد تخرج منها إلى ظاهر البيت فتشرق بالقاف أي تبرز للشمس على جدار الكعبة، فيبرق لونها، وربما التفت عليه فتصير رأسها عند ذنبها، فلا يدنو منها أحد إلا كشت: أي صوّتت وفتحت فاها معطوف على كشت. ففي حياة الحيوان قال الجوهري: كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فيها، فحرست بئره وخزانة البيت خمسمائة عام، لا يقربه أحد: أي لا يقرب بئره وخزانته إلا أهلكته: أي ولعل المراد لو قرب منه أحد أهلكته، إذ لو هلكت أحدا قرب من تلك البئر لنقل، فلم تزل كذلك حتى كان زمن قريش ووجد هذا السيل والحريق، أرادوا هدمها وإعادة بنائها، وأن يشيدوا بنيانها: أي يرفعوه ويرفعوا بابها، حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا واجتمعت القبائل من قريش تجمع الحجارة كل قبيلة تجمع على حدة، وأعدوا لذلك نفقة أي طيبة، ليس فيها مهر بغيّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس أي بعد أن قام أبو وهب عمرو بن عابد، فتناول منها حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، الحديث: أي وفي لفظ أنه قال لهم: لا تدخلوا في نفقة هذا البيت مهر بغيّ: أي زانية ولا بيع ربا وفي لفظ: لا تجعلوا في نفقة هذا البيت شيئا أصبتموه غصبا ولا قطعتم فيه رحما، ولا انتهكتم فيه حرمة أو ذمة بينكم وبين أحد من الناس. وأبو وهب هذا خال عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شريفا في قومه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة. روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس رضي الله تعالى عنه ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة: أي كبقية القوم، فإنهم كانوا يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل صلى الله عليه وسلم فخرّ إلى الأرض،

فطمحت عيناه إلى السماء: أي وندوي: عورتك، فقال إزاري إزاري: أي شدوا عليّ إزاري، فشدّ عليه. وفي رواية: سقط فغشي عليه، فضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن شأنه، فأخبره أنه نودي من السماء أن شد عليك إزارك، وهذا يبعد ما جاء في رواية قال له العباس أي بعد أن أمر بستر عورته وسترها: يا ابن أخي اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابني ما أصابني إلا من التعرّي. وفي رواية: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته، فنودي يا محمد خمر عورتك: أي غطها، فلم ير عريانا أي مكشوف العورة بعد ذلك. أي وقد يقال: هذا لا يخالف ما تقدم عن العباس رضي الله تعالى عنه، لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر من العباس حينئذ، وغايته أنه سمى النمرة إزارا له. قال: واستبعد بعض الحفاظ ذلك: أي وقوع هذا مع ما تقدم من نهيه عن ذلك: أي الذي تضمنه الأمر بالستر عند إصلاح عمه أبي طالب لزمزم قبل هذا، قال لأنه صلى الله عليه وسلم إذا نهي عن شيء مرة لا يعود إليه ثانيا بوجه من الوجوه اهـ: أي وقد عاد إلى ذلك. أقول: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يفهم أن أمره بستر عورته أولا عزيمة، بل جواز الترك، وفي الثانية علم أنه عزيمة. لا يقال: تقدم «من كرامتي على ربي أن أحدا لم ير عورتي» وتقدم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. ففي الخصائص الصغرى «أنه صلى الله عليه وسلم لم تر عورته قط، ولو رآها أحد طمست عيناه» لأنه لا يلزم من كشف عورته صلى الله عليه وسلم رؤيتها كما لم يلزم من حضانته وتربيته ومجامعة زوجاته ذلك. فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «ما رأيت منه، صلى الله عليه وسلم» والظاهر أن بقية زوجاته كذلك، والله أعلم. ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر: أي خوف من أن يمنعهم الله تعالى ما أرادوا: أي بأن يوقع بهم البلاء قبل ذلك، سيما وقد شاهدوا ما وقع لعمرو بن عائذ. أي قال: وعند ابن إسحق أن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه أي خافوا من أنه يحصل لهم بسببه بلاء، فقال الوليد بن المغيرة لهم، أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل نريد الإصلاح، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، قالوا من الذي يعلوها فيهدمها، قال أنا أعلوها وأنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع أي بالراء والعين المهملتين، والضمير في ترع للكعبة: أي لا تفزع الكعبة لا نريد إلا الخير: أي وفي رواية لم نزغ بالنون والزاي

المعجمة: أي لمن نحل عن دينك ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء هدمناها فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة: أي أسنمة الإبل. وفي لفظ كالأسنة. قال السهيلي: وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحق، هذا كلامه: أي وقد يقال: هي كالأسنة في الخضرة وكالأسمنة في العظم. لا يقال: الأسنة زرق. لأنا نقول شديد الزرقة يرى أخضر، أخذ بعضها ببعض، فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منهما ليقلع بها بعضها فلما تحرك الحجر تنفضت مكة: أي تحركت بأسرها، وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل، فانتهوا عن ذلك الأساس. ووجدت قريش في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا يزول أخشباها أي جبلاها، وهما أبو قبيس وهو جبل مشرف على الصفا. وقعيقعان: وهو جبل مشرف على مكة وجهه إلى أبي قبيس يبارك لأهلها في الماء واللبن، ووجدوا في المقام: أي محله، كتابا آخر مكتوب فيه: مكة بلد الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاث سبل. ووجدوا كتابا آخر مكتوب فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة: أي ما يغبط أي يحسد حسدا محمودا عليه، ومن يزرع شرا يحصد ندامة: أي ما يندم عليه. تعملون السيئات، وتجزون الحسنات، أجل: أي نعم، كما يجنى من الشوك العنب أي الثمر. أي وفي السيرة الشامية أن ذلك وجد مكتوبا في حجر في الكعبة. وفي كلام بعضهم: وجدوا حجرا فيه ثلاثة أسطر: الأول أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر إلى آخره. وفي الثاني: أنا الله ذو بكة خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته. وفي الثالث: أنا الله ذو بكة خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه. قال ابن المحدث: ورأيت في مجموع أنه وجد بها حجر مكتوب عليه: أنا الله ذو بكة، مفقر الزناة، ومعري تارك الصلاة، أرخصها والأقوات فارغة، وأغليها والأقوات ملآنة: أي فارغ محلها وملآن محلها، هذا كلامه. وقد يقال: لا مانع من أن يكون ذلك حجرا آخر، أو يكون هو ذلك الحجر، وما ذكر مكتوب في محل آخر منه: أي وفي الإصابة عن الأسود بن عبد يغوث عن أبيه أنهم وجدوا كتابا بأسفل المقام، فدعت قريش رجلا من حمير، فقال: إن فيه

لحرفا لو حدثتكموه لقتلتموني قال: وظننا أن فيه ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فكتمناه، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى ساحل جدة: أي الذي به جدة الآن، وكان ساحل مكة قبل ذلك الذي يرمي به السفن يقال له الشعيبية بضم الشين، فلا يخالف قول غير واحد، فلما كانت السفينة بالشعيبية ساحل مكة انكسرت. وفي لفظ حبسها الريح، وتلك السفينة كانت لرجل من تجار الروم اسمه باقوم وكان بانيا. وقيل كانت تلك السفينة لقيصر ملك الروم يحمل له فيها الرخام والخشب والحديد، سرحها مع باقوم إلى الكنيسة التي حرقها الفرس بالحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة، وقيل من الشعيبية بعث الله تعالى عليها ريحا فحطمها: أي كسرها. فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها، فأعدوه لسقف الكعبة. وقيل هابوا هدمها من أجل تلك الحية العظيمة، فكانوا كلما أرادوا القرب منه أي البيت ليهدموه بدت لهم تلك الحية فاتحة فاها، فبينا هي ذات يوم تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله طائرا أعظم من النسر، فاختطفها وألقاها في الحجون فالتقمتها الأرض، قيل وهي الدابة التي تكلم الناس يوم القيامة. وقد جاء أن الدابة تخرج من شعب أجياد. وفي حديث «أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يريه الدابة التي تكلم الناس فأخرجها له من الأرض، فرأى منظرا هاله وأفزعه، فقال: أي رب ردها فردها» . فقالت قريش عند ذلك: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا: أي بعد أن اجتمعوا عند المقام، وعجوا إلى الله تعالى: ربنا لن نراع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك فأتمه واشغل عنا هذا الثعبان يعنون الحية، وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا في السماء صوتا ووجبة وإذا بالطائر المذكور أخذها وذهب بها إلى أجياد، فقالوا ما ذكر، وقالوا: عندنا عامل رفيق وعندنا أخشاب، وقد كفانا الله الحية وذلك العامل هو باقوم الرومي الذي كان بالسفينة وكان بانيا كما تقدم، فإنهم جاؤوا به معهم إلى مكة، أو هو باقوم مولى سعيد بن العاص وكان نجارا، وتلك الأخشاب هي التي اشتروها من تلك السفينة التي كسرت. أقول: ومع أخذ الطائر لتلك الحية يجوز أن يقال هابوا هدمها حتى قدم عليه الوليد بن المغيرة، فلا مخالفة بين ما تقدم عن ابن إسحق وبين هذا الظاهر في أنهم هدموها عند أخذ الطائر لتلك الحية ولم يهابوا هدمها حتى فعل الوليد ما تقدم، والله أعلم. أي ثم لما أرادوا بنيانها تجزأتها قريش: أي بعد أن أشار عليهم بذلك أو وهب

عمرو بن عائذ، فقال لهم: إني أرى أن تقسموا أربعة أرباع، فكان شق الباب لعبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركنين الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم ابني عمرو، وكان شق الحجر أي الجانب الذي فيه الحجر الآن لبني عبد الدار ولبني أسد ولبني عدي. والذي في كلام المقريزي: كان لبني عبد مناف ما بين الحجر الأسود إلى ركن الحجر أي وهو شق الباب، وصار لأسد وعبد الدار وزهرة الحجر كله: أي الجانب الذي فيه الحجر وصار لمخزوم دبر البيت، وصار لسائر قريش ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود هذا كلامه فليتأمل. وفي كلام بعضهم: وسمي الركن اليماني باليماني، لأن رجلا من اليمن بناه وكان الباني لها باقوم النجار: أي الذي هو مولى سعيد بن العاص. أقول: وكان المناسب أن يكون الذي بناها باقوم الرومي الذي كان صحبة السفينة التي كسرت، لأنه كما تقدم كان بانيا، وسيأتي التصريح بذلك. وأما باقوم مولى سعيد بن العاص فتقدم أنه كان نجارا، إلا أن يقال باقوم مولى سعيد كان نجارا بناء، واشتهر بالوصف الأول، فكان الباني لها. وفيه يحتمل أن يكون باقوم الرومي البناء كان نجارا، أيضا، واشتهر بالوصف الأول. ثم رأيت في كلام بعضهم التصريح بذلك، فقال: وكان أي باقوم الرومي نجارا بناء. فقول القائل: وكان الباني لها باقوم النجار مراده باقوم الرومي لا مولى سعيد. ثم رأيت في بعض الروايات ما يؤيد ذلك، وهو وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا. ونصها: فخرجت قريش لتأخذ خشبها: أي السفينة التي كسرت، فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا، فقدموا به وبالخشب. فقد دلت الروايتان على أنه موصوف بالوصفين. ويحتمل أن يكون أحدهما بناها والآخر عمل سقفها، أو أنهما اشتركا فيها لما علمت أن كلا منهما كان بانيا نجارا. ثم رأيت عن ابن إسحق: وكان بمكة قبطي يعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم سقف الكعبة ويساعده باقوم، أي الرومي، فالقبطي هو مولى سعيد بن العاص. وحينئذ ففي هذه الرواية وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا كالرواية التي قبلها، وسيأتي في الرواية التي تلي هذه أنه الذي بناها. وهي في الإصابة اسم الرجل الذي بنى الكعبة لقريش باقوم. وكان روميا، وكان في سفينة حبستها الريح فخرجت إليها قريش فأخذوا خشبها وقالوا له: ابنها على بنيان الكنائس، وإن باقوم الرومي أسلم ثم مات فلم يدع وارثا فدفع النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه لسهيل بن عمرو.

ثم لما بنوها جعلوها مدماكا من خشب الساج، ومدماكا من الحجارة من أسفلها إلى أعلاها، وزادوا فيها تسعة أذرع، فكان ارتفاعها ثمانية عشر ذراعا، ورفعوا بابها من الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج، وضاقت بهم النفقة عن بنيانها على تلك القواعد فأخرجوا منها الحجر، وفي لفظ: أخرجوا من عرضها أذرعا من الحجر وبنوا عليه جدارا قصيرا علامة على أنه من الكعبة. ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى أعدّوا للقتال، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي: أي تحالفوا على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم، وقد تقدم في حلف المطيبين، ومكث النزاع بينهم أربع أو خمس ليال ثم اجتمعوا في المسجد الحرام. وكان أبو أمية بن المغيرة، واسمه حذيفة أسنّ قريش كلها يومئذ: أي وهو والد أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهو أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم، وكان يعرف بزاد الراكب، لأنه كان إذا سافر لا يتزود معه أحد، بل يكفي كل من سافر معه الزاد. أي وذكر بعضهم أن أزواد الراكب من قريش ثلاثة: زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد مناف، قتل يوم بدر كافرا، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وأبو أمية ابن المغيرة وهو أشهرهم بذلك. وفي كلام بعضهم: لا تعرف قريش زاد الراكب إلا أبا أمية بن المغيرة وحده، يحتمل أن المراد لا تكاد تعرف قريش غيره بهذا الوصف لشهرته فلا مخالفة، وأبو أمية هذا مات على دينه، ولعله لم يدرك الإسلام، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم: أي وهو باب بني شيبة، وكان يقال له في الجاهلية باب بني عبد شمس الذي يقال له الآن باب السلام. وفي لفظ أوّل من يدخل من باب الصفا: أي وهو المقابل لما بين الركنين اليماني والأسود ففعلوا أي وفي كلام البلاذري أن الذي أشار على قريش بأن يضع الركن أوّل من يدخل من باب بني شيبة مهشم بن المغيرة ويكنى أبنا حذيفة. وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون اسمه حذيفة، ويكنى بأبي حذيفة كما يكنى بأبي أمية ومهشم لقبه، وأن الراوي عنه اختلف كلامه، فتارة قيل عنه يقضي بينكم، وتارة قيل عنه يضع الركن، والمشهور الأول، ويدل له ما يأتي، فكان أول داخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا، هذا محمد: أي لأنهم كانوا يتحاكمون إليه صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، لأنه كان لا يداري ولا يماري، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إليّ ثوبا فأتي به: أي وفي رواية: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاره وبسطه في الأرض أي ويقال إنه كساء أبيض من متاع الشام.

ويقال إن ذلك الثوب كان للوليد بن المغيرة، فأخذ صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود فوضعه فيه بيده الشريفة، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب: أي بزاوية من زواياه ثم ارفعوه جميعا ففعلوا، فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وكان في الربع الثاني زمعة، وكان في الربع الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، وكان في الربع الرابع قيس بن عدي، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم: أي ولما مات أبو أمية بن المغيرة رثاه أبو طالب بقصيدة طويلة، ورثاه أبو جحيفة بقوله: ألا هلك الماجد الرافد ... وكل قريش له حامد ومن هو عصمة أيتامنا ... وغيث إذا فقد الراعد قال: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن: أي الحجر ذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى الله عليه وسلم حجرا يشد به الركن، فقال العباس لا، وناول العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شدّ به الركن، فغضب النجدي وقال: واعجبا لقوم أهل شرف وعقول وأموال عمدوا إلى رجل أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم كأنهم خدم له، أما والله ليفرقنهم شيعا، وليقسمنّ بينهم حظوظا، فكاد يثير شرا فيما بينهم، ولعل هذا النجدي هو إبليس. فقد ذكر السهيلي أن إبليس تمثل في صورة شيخ نجدي حين حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الركن من يرفعه، وصاح: يا معشر قريش أرضيتهم أن يلي هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أنسابكم؟ انتهى. وإنما تصوّر بصورة نجدي، لأن في الحديث، نجد طلع منها قرن الشيطان. ولما قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا وفي نجدنا، فأعاد الأول، والثاني قال: هناك الزلازل والفتن، وفيها يطلع قرن الشيطان» . أقول: سيأتي أنه تصور بهذه الصورة أيضا عند دخول قريش دار الندوة ليتشاوروا في كيفية قتله صلى الله عليه وسلم ودخل معهم، وسيأتي. ثم في حكمة تصوره بذلك غير ما ذكر. ولا مانع أن يكونا حكمة لما هنا ولما يأتي. وأعادوا الصور التي كانت في حيطانها، لأنه كان في حيطانها صور الأنبياء بأنواع الأصباغ، ومن جملتهم صورة إبراهيم وفي يده الأزلام: أي وإسمعيل وفي يده الأزلام، وصورة الملائكة وصورة مريم كما سيأتي في فتح مكة، وكساها زعماؤهم أرديتهم وكانت من الوصائل، ولم يكسها أحد بعد ذلك حتى كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرات في حجة الوداع، والله أعلم. وهذه المرة الرابعة أي من بناء الكعبة بناء على أن أول من بناها الملائكة. ففي بعض الآثار أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض كان

عرشه على الماء أي العذب، فلما اضطرب العرش كتب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكن، فلما أراد أن يخلق السموات والأرض أرسل الريح على ذلك الماء فتموج فعلاه دخان، فخلق من ذلك الدخان السموات، ثم أزال ذلك الماء عن موضع الكعبة فيبس» وفي لفظ «أرسل على الماء ريحا هفافة فصفق الريح الماء» أي ضرب بعضه بعضا «فأبرز عنه خشفة» الحديث، وبسط الله سبحانه وتعالى من ذلك الموضع جميع الأرض طولها والعرض، فهي أصل الأرض وسرتها. وقد يخالفه ما في «أنس الجليل» كذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: وسط الدنيا بيت المقدس وأرفع الأرضين كلها إلى السماء بيت المقدس. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومعاذ بن جبل أنه أقرب إلى السماء باثني عشر ميلا ثم بين ذلك في أنس الجليل. ولما ماجت الأرض وضع عليها الجبال، فكان أول جبل وضع عليها أبو قبيس، وحينئذ كان ينبغي أن يسمى أبا الجبال، وأن يكون أفضلها مع أن أفضلها كما قال الجلال السيوطي استنباطا: أحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أحد يحبنا ونحبه» ولما ورد أنه على باب من أبواب الجنة، قال: ولأنه من جملة أرض المدينة التي هي أفضل البقاع: أي عنده تبعا لجمع، ولأنه مذكور في القرآن باسمه في قراءة من قرأ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [آل عمران: الآية 153] أي بضم الهمزة والحاء، ثم فتق الأرض فجعلها سبع أرضين. وقد جاء «بدأ الله خلق الأرض في يومين غير مدحوّة ثم خلق السموات فسواهن في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين» . وبهذا يظهر التوقف في قول مغلطاي: إن لفظة بعد في قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النّازعات: الآية 30] بمعنى قبل، لأن خلق الأرض قبل خلق السماء، لما علمت أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوة، ثم بعد خلق السماء دحى الأرض. ثم رأيت بعضهم سأل ابن عباس عن ذلك، حيث قال له: يا إمام اختلف عليّ من القرآن آيات، ثم ذكر منها أنه قال: قال الله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصّلت: الآية 9] . حتى بلغ- طائِعِينَ [فصّلت: الآية 11] ثم قال في الآية الأخرى: أَمِ السَّماءُ بَناها [النّازعات: الآية 27] ثم قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النّازعات: الآية 30] فأجابه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. أما قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصّلت: الآية 9] فإن الأرض خلقت قبل السماء، وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض. وأما قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النّازعات: الآية 30] يقول: جعل فيها جبلا، وجعل فيها نهرا، وجعل فيها شجرا، وجعل

فيها بحورا. وبه يرد قول بعضهم: خلق السماء قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار فليتأمل. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطّلاق: الآية 12] قال: سبع أرضين، وفي كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسكم، رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد. وقال البيهقي: إسناده صحيح لكنه شاذ بالمرة: أي لأنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، فقد يكون فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته فهو ضعيف. قال الحافظ السيوطي: ويمكن أن يؤول على أن المراد بهم النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر. ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه هذا كلامه: أي وحينئذ كان لنبينا صلى الله عليه وسلم رسول من الجن اسمه كاسمه، ولعل المراد اسمه المشهور وهو محمد فليتأمل. ولما خاطب الله السموات والأرض بقوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصّلت: الاية 11] كان المجيب من الأرض موضع الكعبة، ومن السماء ما حاذاها، الذي هو محل البيت المعمور. وعن كعب الأحبار رضي الله عنه: لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدا صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف، وهي بيضاء منيرة لها شعاع عظيم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض بمكة. قال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا تلك الطينة: أي وقد ذكر الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: أتعرف يوم يوم؟ فقال أبو بكر نعم والذي بعثك بالحق نبيا، يا رسول الله سألتني عن يوم المقادير، يعني يوم- أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: الآية 172]- ولقد سمعتك تقول حينئذ: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» وقد سئل الشيخ علي الخواص نفعنا الله تعالى ببركاته لم لم تتكلم الأنبياء بلسان الباطن الذي تكلم به الصوفية. فأجاب بأنه إنما لم تتكلم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك لأجل عموم خطابهم للأمة، ولا يعتبر بالأصالة إلا فهم العامة دون فهم الخاصة إلا بعض تلويحات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للصديق رضي الله تعالى عنه: «أتعرف يوم يوم؟ فقال نعم يا رسول الله» الحديث، وتلك الطينة لما تموّج الماء رمى بها من مكة إلى محل تربته صلى الله عليه وسلم ومدفنه بالمدينة.

وبهذا يندفع ما يقال: مقتضى كون أصل طينته صلى الله عليه وسلم بمكة أن يكون مدفنه بها، لأن تربة الشخص تكون في محل مدفنه ثم عجنها بطينة آدم، ولعل هذه الطينة هي المعبر عنها بالنور في قوله صلى الله عليه وسلم وقد قال له جابر: «يا رسول الله أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا لوح ولا قلم» الحديث. وجاء «أول ما خلق الله نوري» وفي رواية: «أول ما خلق الله العقل» قال الشيخ عليّ الخواص: ومعناهما واحد، لأن حقيقته صلى الله عليه وسلم يعبر عنها بالعقل الأول وتارة بالنور. فأرواح الأنبياء والأولياء مستمدة من روح محمد صلى الله عليه وسلم هذا كلامه، وهذا هو المعني بقول بعضهم: لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها. وفيه أن هذا لا يناسبه قوله: «ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض» إذ كيف يأتي ذلك مع قول كعب الأحبار، أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض إلى آخره؟ ومع قول ابن عباس: أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض. إلا أن يقال إن ذلك النور بعد إيجاده أودع تلك الطينة التي هي قلب الأرض وسرتها. وحينئذ لا يخالف ذلك ما جاء أن الله خلق آدم من طين العزة من نور محمد صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم الجنس العالي لجميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس. هذا وقد جاء في حديث بعض رواته متروك الحديث «خلق الله آدم من تراب الجابية، وعجنه بماء الجنة» وجاء «خلق الله آدم من تربة دحنا ومسح ظهره بنعمان الأراك» ودحنا: محل قريب من الطائف، وتقدم أنه يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره وجعل نوره في ظهر آدم. ولما خلق الله آدم وقبل نفخ الروح فيه، استخرج ذلك النور من ظهره وأخذ عليه العهد أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: الآية 172] فقد خص بذلك عن بقية خلقه من بني آدم فإن بني آدم ما أخرجوا من ظهر آدم وأخذ عليهم الميثاق إلا بعد نفخ الروح في آدم. ونقل بعضهم أن الله تعالى لما أخرج الذرية وأعاده في صلب آدم، أمسك روح عيسى إلى أن أتى وقت خلقه. ولا يخفى أن هذا يفيد أن أخذ العهد على الصديق كان بعد نفخ الروح في آدم، وأخذ العهد عليه صلى الله عليه وسلم كان سابقا على ذلك، وحينئذ فيكون المراد بقول الصديق حينئذ لما قال له صلى الله عليه وسلم: «أتعرف يوم يوم، وقال نعم» إلى قوله: «ولقد سمعتك تقول حينئذ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» أي حين أخذ العهد على بني آدم، لا حين أخذ العهد عليه صلى الله عليه وسلم كما قد يتبادر فليتأمل. ثم لما نفخت الروح في آدم صار ذلك النور في ظهر آدم فصارت الملائكة

تقف صفوفا خلف آدم يتعجبون من ظهور ذلك النور، فقال آدم يا رب: ما بال هؤلاء ينظرون إلى ظهري؟ قال: ينظرون إلى نور محمد خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فسأل الله تعالى أن يجعله في مقدمه لتستقبله الملائكة، فجعله الله في جبهته، ثم سأل الله تعالى أن يجعله في محل يراه، فكان في سبابته، فلما أهبط آدم إلى الأرض، انتقل ذلك النور إلى ظهره، فكان يلمع في جبهته، وفي رواية: لما انتقل النور إلى سبابته قال: يا رب هل بقي في ظهري من هذا النور شيء؟ قال: نعم، نور أخصاء أصحابه، فقال: يا رب اجعله في بقية أصابعي، فكان نور أبي بكر في الوسطى، ونور عمر في البنصر ونور عثمان في الخنصر، ونور عليّ في الإبهام، فلما أكل من الشجرة عاد ذلك النور إلى ظهره كذا في بحر العلوم عن ابن عباس. ثم انتقل ذلك النور من آدم إلى ولده شيث، ولما قال تعالى للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: الآية 30] وقالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: الآية 30] يعنون الجن الذين أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، غضب عليهم. وفي لفظ: ظنت الملائكة: أي علمت أن ما قالوا ردا على ربهم، وأنه قد غضب عليهم من فوقهم، فلاذوا بالعرش وطافوا به سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضي عليهم. وفي لفظ: فنظر الله إليهم، ونزلت الرحمة عليهم، فعند ذلك قال لهم ابنوا لي بيتا في الأرض يعوذ به من سخطت عليه من بني آدم: أي الذي هو الخليفة، فيطوفون حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم، فبنوا الكعبة. وفي هذه الرواية اختصار، بدليل ما قيل: وضع الله تحت العرش البيت المعمور على أربع أساطين من زبرجد يغشاهن ياقوتة حمراء، وقال للملائكة: طوفوا بهذا البيت: أي لأرضى عنكم، ثم قال لهم: ابنوا لي بيتا في الأرض بمثاله وقدره: أي ففعلوا، وقدره عطف تفسير على مثاله، فالمراد بالمثال القدر. وفي لفظ لما قال تعالى للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: الآية 30] وقالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: الآية 30] الآية خافوا أن يكون الله تعالى عابها عليهم لاعتراضهم في علمه، فطافوا بالعرش سبعا يسترضون ربهم، ويتضرعون إليه، فأمرهم أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة، وأن يجعلوا طوافهم به فكان ذلك أهون عليهم من الطواف بالعرش، ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتا، وفي كل أرض بيتا. قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتا متقابلة، لو سقط بيت منها لسقط على مقابله، والبيت المعمور في السماء السابعة، وله حرمة كحرمة مكة في الأرض، واسم البيت الذي في السماء الدنيا بيت العزة. وفي كلام بعضهم: في كل سماء بيت تعمره الملائكة بالعبادة كما يعمر أهل

الأرض البيت العتيق بالحج في كل عام. والاعتمار في كل وقت، والطواف في كل أوان، ولينظر ما معنى بناء الملائكة للبيوت في السموات. وإذا لم يصح أن الملائكة بنت الكعبة تكون هذه المرة من بناء قريش هي المرة الثالثة، بناء على أنّ أول من بناها آدم صلى الله عليه وسلم أي أو ولده شيث، فقد قال بعضهم: ما تقدم من الأثرين الدالين على أن أول من بناها الملائكة لم يصح واحد منها، وكانت قبل ذلك: أي وكان محلها قبل بناء آدم، لها خيمة من ياقوتة حمراء، أنزلت لآدم من الجنة: أي لها بابان من زمرد أخضر شرقي، وباب غربي من ذهب، منظومان من در الجنة، فكان آدم يطوف بها ويأنس إليها. وقد حج إليها من الهند ماشيا أربعين حجة ويجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور وعبر عنها بحمراء لأن سقف البيت المعمور كان ياقوتة حمراء. قال: وذكر أن آدم، لما أهبط إلى الأرض كان رجلاه بها، ورأسه في السماء. وفي لفظ: كان رأسه يمسح السحاب فصلع، فأورث ولده الصلع أي بعض ولده، فسمع تسبيح الملائكة ودعاءهم، فاستأنس بذلك، فهابته الملائكة: أي صارت تنفر منه فشكا إلى الله تعالى، فنقص إلى ستين ذراعا بالذراع المتعارف. وقيل بذراع آدم، فلما فقد أصوات الملائكة حزن وشكا إلى الله تعالى، فقال: يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به: أي تطوف به الملائكة كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي: أي كان ذلك أي الطواف بالعرش والصلاة عنده شأن الملائكة أولا، فلا ينافي ما تقدم أنهم بعد ذلك صاروا يطوفون بالبيت المعمور كما تقدم، فاخرج إليه: أي طف به وصلّ عنده، وهذا البيت هو هذه الخيمة التي أنزلت لأجله. وقد علمت أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور. وقيل أهبط آدم وطوله ستون ذراعا: أي على الصفة التي خلق عليها، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله تعالى آدم على صورته وطوله ستون ذراعا» أي أوجده الله تعالى على الهيئة التي خلقه عليها، لم ينتقل في النشأة أحوالا، بل خلقه كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح، فالضمير في صورته يرجع لآدم، وعلى رجوعه إلى الحق سبحانه وتعالى المراد على صفته: أي حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما. وقد يخالف هذا قول ابن خزيمة قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صورته» فخرج على سبب، وهو «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يضرب وجه رجل فقال: لا تضربه على وجهه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته» أي صورة هذا الرجل، فهو ينتقل أطوارا. ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، ومن ثم عبر بقوله أوجده، وهذا القيل المتقدم من أنه أهبط آدم وطوله ستون ذراعا، يوافقه ما جاء في الحديث المرفوع،

«كان طوله ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا» ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: إنما روي أن آدم لما أهبط كانت رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء فحطه الله تعالى إلى ستين ذراعا: أي الذي تقدم ظاهر الخبر الصحيح يخالفه، وهو أنه خلق في ابتداء الأمر على طول ستين ذراعا وهو الصحيح. وكان آدم أمرد. وفي الصحيحين «فكل من يدخل الجنة يكون على صورة آدم» وقد جاء في صفة أهل الجنة «جرد مرد على صورة آدم» . وفي بعض الأخبار أن آدم لما كثر بكاؤه على فراق الجنة نبتت لحيته، ولم يصح ولم تنبت اللحية إلا لولده، وكان مهبطه بأرض الهند بجبل عال يراه البحريون من مسافة أيام، وفيه أثر قدم آدم مغموسة في الحجر، ويرى على هذا الجبل كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب، ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل قدمي آدم، وذروة هذا الجبل أقرب ذرا جبال الأرض إلى السماء، ولعل هذا وجه النظر الذي أبداه بعض الحفاظ في قول بعضهم: إن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. قال بعض الحفاظ: وفيه نظر. قيل: ونزل معه من ورق الجنة فبثه هناك فمنه كان أصل الطيب بالهند. وعن عطاء بن أبي رباح: إن آدم هبط بأرض الهند ومعه أربعة أعواد من الجنة، فهي هذه التي يتطيب الناس بها. وجاء أنه نزل بنخلة العجوة. ثم لما أمر آدم بالخروج لتلك الخيمة خرج إليها ومدّ له في خطوه، قيل كانت خطوته مسيرة ثلاثة أيام. فقد قيل لمجاهد: هل كان آدم يركب؟ قال: وأي شيء كان يحمله، فو الله إن خطوته لمسيرة ثلاثة أيام. وفيه أن هذا يقتضي أن آدم لم يكن يركب البراق، فقول بعضهم: إن الأنبياء كانت تركبه مراده مجموعهم لا جميعهم، وقيض الله تعالى له ما كان في الأرض من مخاض أو بحر، فلم يكن يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا، وصار بين كل خطوة مفازة حتى انتهى إلى مكة، فإذا خيمة في موضع الكعبة: أي الموضع الذي به الكعبة الآن، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة مجوفة: أي ولها أربعة أركان بيض، وفيها ثلاثة قناديل من ذهب، فيها نور يلتهب من نور الجنة، طولها ما بين السماء والأرض، كذا في بعض الروايات، ولعل وصف الخيمة بما ذكر لا ينافي ما تقدم أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور، ووصف بأنه ياقوتة حمراء، لأن سقفه كان ياقوتة حمراء، لأن التعدد بعيد فليتأمل، ونزل مع تلك الخيمة الركن وهو الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من أرض الجنة، وكان كرسيا لآدم يجلس عليه: أي ولعل المراد يجلس عليه في الجنة.

أقول: وهذا السياق يدل على أن آدم أهبط من الجنة إلى أرض الهند ابتداء. وذكر في مثير الغرام عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن الله تعالى أهبط آدم إلى موضع الكعبة، وهو مثل الفلك من شدة رعدته، ثم قال: يا آدم تخطّ فتخطى فإذا هو بأرض الهند، فمكث هنالك ما شاء الله، ثم استوحش إلى البيت، فقيل له: حج يا آدم، فأقبل يتخطى فصار موضع كل قدم قرية، وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة» الحديث. والسياق المذكور أيضا يدل على أن الخيمة والحجر الأسود نزلا بعد خروج آدم من الجنة. ويدل لكون الحجر الأسود نزل عليه ما في مثير الغرام «وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء، فأخذه آدم فضمه إليه استئناسا به» هذا كلامه. وفي رواية عنه «أنزل الركن والمقام مع آدم ليلة نزل آدم من الجنة، فلما أصبح رأى الركن والمقام فعرفهما فضمهما إليه وأنس بهما» فليتأمل الجمع. وفي رواية أن آدم نزل بتلك الياقوتة: أي فعن كعب: أنزل الله من السماء ياقوتة مجوّفة مع آدم فقال له: يا آدم هذا بيتي أنزلته معك، يطاف حوله كما يطاف حول عرشي ويصلى حوله كما يصلى حول عرشي: أي على ما تقدم، ونزل معه الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة، ثم وضع البيت: أي تلك الياقوتة عليها. وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما. وقد يقال في الجمع: يجوز أن تكون المعية ليست حقيقية، والمراد أنه نزل بعده قريبا من نزوله، فلقرب الزمن عبر بالمعية، فلا ينافي ما تقدم من قوله: «يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به فأخرج إليه» وجاء «إن آدم نزل من الجنة ومعه الحجر الأسود متأبطه» أي تحت إبطه، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة، ولولا أن الله تعالى طمس ضوءه ما استطاع أحد أن ينظر إليه» . وكون آدم نزل بالحجر الأسود متأبطا له يخالف الرواية المتقدمة أنه نزل مع تلك الخيمة التي هي الياقوتة بعد نزوله. وحينئذ يحتاج للجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما. وأيضا يحتاج إلى الجمع بين ذلك وبين ما روي عن وهب بن منبه رحمه الله أن آدم لما أمره الله تعالى بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة: أي التي هي الحجر الأسود مسح بها دموعه، فلما نزل إلى الأرض لم يزل يبكي ويستغفر الله ويمسح دموعه بتلك الجوهرة حتى اسودت من دموعه، ثم لما بنى البيت أمره جبريل عليه الصلاة والسلام أن يجعل تلك الجوهرة في الركن ففعل. وفي «بهجة الأنوار» أن الحجر الأسود كما في الابتداء ملكا صالحا. ولما خلق الله تعالى آدم أباح له الجنة كلها إلا الشجرة التي نهاه عنها، ثم جعل ذلك الملك

موكلا على آدم أن لا يأكل من تلك الشجرة، فلما قدّر الله تعالى أن آدم يأكل من تلك الشجرة غاب عنه ذلك الملك، فنظر الله تعالى إلى ذلك الملك بالهيبة فصار جوهرا. ألا ترى أنه جاء في الأحاديث «الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله يد ولسان وأذن وعين» لأنه كان في الابتداء ملكا. أقول: ورأيت في ترجمة كلام الشيخ كمال الدين الأخميمي أنه لما جاور بمكة رأى الحجر الأسود وقد خرج من مكانه وصار له يدان ورجلان ووجه، ومشى ساعة ثم رجع إلى مكانه. وقد جاء «أكثروا من استلام هذا الحجر، فإنكم توشكون أن تفقدوه، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه، إن الله عز وجل لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة» أي فقد جاء «ليس في الأرض من الجنة إلا الحجر الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة، ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى» وجاء «استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع» وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة، والله أعلم. وجاء «أن آدم أتى ذلك، أي تلك الخيمة: أي التي هي البيت المعمور على ما تقدم ألف مرة من الهند ماشيا من ذلك ثلاثمائة حجة وسبعمائة عمرة، وأول حجة حجها جاءه جبريل وهو واقف بعرفة فقال له: يا آدم برّ نسكك، أما إنا قد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة. وفي رواية: لما حج آدم استقبلته الملائكة بالردم: أي ردم بين جمح الذي هو محل المدعي، فقالوا: بر حجك يا آدم، قد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام. أقول: وفي تاريخ مكة للأزرقي أن آدم عليه الصلاة والسلام حج على رجليه سبعين حجة ماشيا، وأن الملائكة لقيته بالمأزمين فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. والمأزمان: موضع بين عرفة والمزدلفة. قال الطبري: ودون مني أيضا مأزمان، والله أعلم بالمراد منهما هذا كلامه. وجاء «أنه وجد الملائكة بذي طوى وقالوا له: يا آدم ما زلنا ننتظرك ههنا منذ ألفي سنة» وكان بعد ذلك إذا وصل إلى المحل المذكور خلع نعليه، ويحتاج للجمع بين كون الملائكة استقبلته بالردم، وكونها لقيته بالمأزمين، وكونه وجدهم بذي طوي، وبين كونهم حجوا البيت قبله بألف عام، وكونهم حجوا قبله بألفي عام، وبخمسين ألف عام، وهل الملائكة خلقوا دفعة واحدة أم خلقوا جيلا بعد جيل. ومما يدل على أنهم جيلا بعد جيل ما جاء من نحو «من قال سبحان الله وبحمده، خلق الله ملكا له عينان وجناحان وشفتان ولسان يطير مع الملائكة ويستغفر لقائلها إلى يوم القيامة» وما جاء «إن جبريل في كل غداة يدخل بحر النور فينغمس

فيه» الحديث، لكن في «سفر السعادة» الحديث المنسوب إلى أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يأمر الله تعالى جبريل كل غداة أن يدخل بحر النور ينغمس فيه انغماسة، ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله عز وجل من كل قطرة منها ملكا» لهذا الحديث طرق كثيرة ولم يصح منها شيء؟ ولم يثبت في هذا المعنى حديث هذا لفظه، والله أعلم. وعند ذلك قال آدم للملائكة: «فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال آدم: زيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله فكان آدم إذا طاف يقولها، وكان طوافه سبعة أسابيع بالليل وخمسة أسابيع بالنهار: أي ولما فرغ من الطواف صلى ركعتين تجاه باب الكعبة، ثم أتى الملتزم أي محله فقال: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنبي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي» الحديث. أقول: قول الملائكة قد طفنا بهذا البيت لا يحسن أن يعنوا به تلك الخيمة المذكورة المعنية بقوله تعالى لآدم: قد أهبطت بيتا إلى آخر ما تقدم، أو كونها أهبطت مع آدم، بل المراد محل ذلك البيت الذي هو الخيمة قبل أن تنزل. ويجوز أن يكون المراد تلك الخيمة أو نفس تلك الخيمة، بناء على أنها البيت المعمور، وأن الملائكة طافوا بها قبل نزولها إلى الأرض كما تقدم. قال: وعن وهب ابن منبه: قرأت في كتاب من كتب الأول: ليس من ملك بعثه الله إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت فينقض من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر، ثم يطوف سبعا بالبيت، ويصلي في جوفه ركعتين، ثم يصعد. أقول: يجوز أن يكون المراد بإحرامه بنية الطواف بالبيت لا إحرامه بالعمرة بدليل قولة «ثم يطوف سبعا بالبيت» إلى آخره. ويجوز أن يكون المراد بالبيت في كلام وهب محل تلك الخيمة ما يعم من وجد من الملائكة وبمن بعث بعد ذلك. ولا يخفى أن الأول يبعده قوله حتى يستلم الحجر. وعلى الثاني يكون فيه دلالة على أن الحجر الأسود كان في تلك الخيمة يبتدأ الطواف بها منه. وجاء عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهما «إن الله عز وجل أوحى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض، ابن لي بيتا، ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بيتي الذي في السماء» وفي رواية «وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي» أي على ما تقدم، وهذا السياق بظاهره يوافق ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هبوط آدم كان من الجنة إلى موضع الكعبة ابتداء،

والله أعلم. قال «وجاء أن جبريل عليه الصلاة والسلام بعثه الله تعالى إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا» أي قال لهما إن الله تعالى يقول لكما ابنيا لي بيتا. فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى أجابه الماء ونودي من تحته: «حسبك يا آدم» وفي رواية «حتى إذا بلغ الأرض السابعة. فقذفت فيها الملائكة الصخر، ما يطيق الصخرة ثلاثون رجلا» اهـ. وفيه أنه كان أمر آدم ببناء البيت بعد مجيئه إلى تلك الخيمة من الهند ماشيا خالف ظاهر ما تقدم عن عطاء وسعيد بن المسيب «أوحى الله تعالى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض ابن لي بيتا» إذ ظاهره أنه أوحى إليه بذلك وهو في الجنة، إلا أن يقال المراد بالأرض في قوله اهبط إلى الأرض أرض الحرم: أي اذهب إلى أرض الحرم ابن لي بيتا. ثم لا يخفى أن قوله فقذفت فيه الملائكة الصخر، يقتضي أن إلقاء الملائكة للصخرة كان بعد حفر آدم، وهو لا يخالف ما تقدم عن كعب. «أنزل الله من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم، فقال له: يا آدم هذا بيتي أنزلته معك، ونزل معه الملائكة، فرفعوا قواعده من الحجارة ثم وضع البيت عليها» فيكون إلقاء الملائكة للصخر بعد حفر آدم «فلما تم ذلك الأس جعل ذلك البيت فوق تلك الصخور» ويكون المراد بقوله ونزل معه الملائكة: أي صحبوه من أرض الهند إلى أرض الحرم. وجاء في بعض الروايات إن آدم وحواء لما أسساه نزل البيت من السماء من ذهب أحمر وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك فوضعوه على أس آدم، ونزل الركن فوضع موضعه اليوم من البيت فطاف به آدم أي كما كان يطوف به قبل ذلك، وبهذا تجتمع الروايات. وحينئذ لا مانع أن ينسب بناء هذا الأساس الذي وضعت الملائكة عليه تلك الخيمة لآدم وأن ينسب للملائكة. أما نسبته للملائكة فواضح. وأما نسبته لآدم فلأنه السبب فيه، أو لأنه كان إذا ألقت الملائكة الصخر يضع آدم بعضه على بعض، وعلى نسبة بناء ذلك الأس للملائكة ولآدم يحتمل القول بأن أول من بنى الكعبة الملائكة. والقول بأن أول من بنى الكعبة آدم فليتأمل. وقد جاء أن آدم بناه من لبنان جبل بالشام، ومن طور زيتا جبل من جبال القدس، ومن طور سينا جبل بين مصر وإيليا. وفي كلام بعضهم أنه جبل بالشام، وهو الذي نودي منه موسى عليه الصلاة والسلام، ومن الجودي وهو جبل بالجزيرة، ومن حرا حتى استوى على وجه الأرض.

أقول: وفي رواية بناه من ستة أجبل: من أبي قيس ومن رضوى ومن أحد فالمتحصل من الروايتين أنه بناء من ثمانية أجبل، ولا مانع من ذلك، واستمر ذلك البيت الذي هو الخيمة إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام، فلما كان الغرق بعث الله تعالى سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور كما في الكشاف، وكان رفعه لئلا يصيبه الماء النجس، وبقيت قواعده التي هي الأس. وفي العرائس: ثم طافت السفينة بأهلها الأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شيء، حتى أتت الحرم: فلم تدخله ودارت بالحرم أسبوعا. وقد رفع الله البيت الذي كان يحجه آدم صيانة له من الغرق، وهو البيت المعمور أي وكون حواء أسست البيت مع آدم يخالف ما جاء أن حواء أهبطت بجدة، وحرّم الله عليها دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم وإلى شيء من مكة لأجل خطيئتها، وأنها أرادت أن تدخل مع آدم إلى مكة فقال لها: إليك عني، قد خرجت من الجنة بسببك فتريدين أن أحرم هذا، فكان آدم إذا أراد أن يلقاها ليلم بها خرج من الحرم كله حتى يلقاها بالحل. وذكر محمد بن جرير أن الله أهبط آدم على جبل سرنديب بالهند: أي وتقدم ما فيه وحواء بحدة بالحاء المهملة. وقيل بالجيم. فجاء آدم في طلبها فتعارفا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك عرفة، فاجتمعا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك جمع، وزلفت إليه في المحل الذي قيل له بسبب ذلك مزدلفة، وهذا يدل على أن جمع غير مزدلفة، وهو خلاف المشهور من أن جمع هو مزدلفة، إلا أن يقال كل من المحلين من جملة البقعة، وأطلق كل من الاسمين على جميع تلك البقعة. وقيل سمي المحل عرفة، لأن جبريل عليه الصلاة والسلام لما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام المناسك وانتهى إلى عرفة وقال له أعرفت مناسك؟ قال نعم. فسمى عرفة: أي والمراد مناسكه التي قبل عرفة، وإلا فعظم المناسك بعد عرفة، فليتأمل. وفي الخصائص الصغرى عن رزين أنه روي «أن آدم عليه الصلاة والسلام. قال: إن الله أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم أربع كرامات لم يعطنيها: كانت توبتي بمكة وأحدهم يتوب في كل مكان» الحديث، وهو يدل على أن توبته كانت بسبب طوافه بالبيت. ويذكر أن حواء عاشت بعد آدم سنة. وجاء «أن آدم لما فرغ من بناء البيت أمره الله تعالى بالمسير إلى أن يا بني بيت المقدس، فسار وبناه ونسك فيه» وحينئذ لا يشكل قوله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له: «أي مسجد وضع في الأرض أولا المسجد الحرام، قيل ثم أيّ؟ قال بيت المقدس، قيل: كم كان بينهما؟ قال أربعون سنة» وحينئذ لا حاجة لجواب الإمام البلقيني إن المراد أن

المدة المذكورة بين أرضيهما في الدحوّ أي دحيت أرض المسجد الحرام، ثم بعد مضي مقدار أربعين سنة دحيت أرض بيت المقدس» . وفيه أن الإمام البلقيني إنما أجاب بذلك بناء على أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الباني للمسجد الحرام، والباني لمسجد بيت المقدس سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام، فإن بينهما كما قيل أكثر من ألف عام. وكذا لا إشكال إذ كان الباني للمسجد الحرام آدم، والباني لمسجد بيت المقدس أحد أولاده كما قيل بذلك، ومن ثم أجاب بعضهم بأن سليمان إنما كان مجددا لبناء بيت المقدس: وأما المؤسس له فسيدنا يعقوب بن إسحق بعد بناء جده إبراهيم للمسجد الحرام بالمدة المذكورة، وأما على أن الباني لهما آدم فلا إشكال. وفي رواية أن أول من بنى الكعبة أي كلها بعد أن رفعت تلك الخيمة بعد موت آدم شيث ولد آدم بناها بالطين والحجارة: أي فهي أولية إضافية، ثم لما جاء الطوفان انهدم وبقي محله. وقيل إنه استمر ولم يبنه أحد إلى زمن ابراهيم عليه الصلاة والسلام. ففي رواية «أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد بناء الكعبة جاء جبريل فضرب بجناحه الأرض، فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة ثم بناها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام على ذلك الأس» ويقال له القواعد: أي كما تقدم، وهذا الأس كما علمت لآدم أو للملائكة أولهما، وإنما قيل له أساس إبراهيم وقواعد إبراهيم لأنه بني على ذلك ولم ينقضه. ومما يدل للقيل المذكور ما جاء في بعض الروايات عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دثر مكان البيت أي بسبب الطوفان، بدليل ما جاء في رواية «قد درس مكان البيت بين نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وكان موضعه أكمة حمراء، وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض وما دعا عنده أحد إلا استجيب له» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «لم يحجه هود ولا صالح عليهما الصلاة والسلام، لتشاغل هود بقومه عاد، وتشاغل صالح بقومه ثمود» . وجاء «إن بين المقام والركن وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا» ، وجاء «إن حول الكعبة لقبور ثلاثمائة نبي، وإن ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود لقبور سبعين نبيا، وكل نبي من الأنبياء إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم وأتى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت» وجاء «ما بين الركن اليماني والحجر الأسود روضة من رياض الجنة، وإن قبر هود وصالح وشعيب وإسمعيل في تلك البقعة» . أقول: ويوافق ذلك قول بعضهم: إن إسمعيل دفن حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود، لكن جاء «إن قبر إسمعيل في الحجر» وذكر المحب الطبري أن

البلاطة الخضراء التي بالحجر قبر إسمعيل عليه الصلاة والسلام. وقد يقال: لا منافاة بين كون هود وصالح لم يحجا البيت، وبين كونهما دفنا في تلك البقعة، لأنه يجوز أن يكونا ماتا قبل وصولهما إلى البيت، فجيء بهما ودفنا في تلك البقعة. على أن بعضهم ضعف كونهما لم يحجا: أي ويدل له أنه قد جاء «حجه هود وصالح ومن آمن معهما» وفي بعض الروايات «لم يحجه بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء» ويحتاج إلى الجمع بينه وبين ما تقدم من أن كل نبي إذا كذبه قومه إلى آخره على تقدير صحتها. وقد يقال: لا يحتاج إلى الجمع إلا أن يثبت أن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه، على أنه لم يكن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه، إلا هود وصالح، وهو يؤيد القول بأنهما لم يحجا، وتقدم ضعفه. وجاء في حديث، راويه متروك «إن نوحا حجت به السفينة، فوقفت بعرفات، وباتت بمزدلفة، وطافت به أي بالحرم» كما تقدم أن السفينة لم تجاوز الحرم، وهذا لا يناسبه قوله «وسعت» لأن السعي بين الصفا والمروة، إلا أن يراد بالسعي نفس الطواف، فهو من عطف التفسير. وفي أنس الجليل ورد حديث شريف «إن السفينة طافت ببيت المقدس أسبوعا، واستوت على الجودي» أي وجاء «إن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت العتيق، إنكم في حرم الله وحول بيته، لا يمس أحد امرأة، وجعل بينهم وبين النساء حاجزا» ويذكر أن ولده حاما تعدى ووطئ زوجته، فدعا عليه بأن يسود الله لون بنيه، فأجاب الله دعاءه في أولاده، فجاء ولده أسود، وهو أبو السودان. وقيل في سبب دعوة نوح وسوادهم غير ذلك. وقد بينت ذلك في كتابي «إعلام الطراز المنقوش في فضائل الحبوش» والله أعلم. وقبر آدم وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف في بيت المقدس: أي بعد نقل يوسف من بحر النيل كما سنذكره. قال: وقد جاء «إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم: أن ابن لي بيتا. فقال إبراهيم: أي رب أين أبنيه؟ فأوحى الله تعالى إليه أن اتبع السكينة: أي وهي ريح لها وجه كوجه الإنسان: أي وقيل كوجه الهر وجناحان، ولها لسان تتكلم به: أي وفي الكشاف في تفسير السكينة التي كانت في التابوت الذي هو صندوق التوراة، قيل هو صورة من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه» . وعن علي رضي الله تعالى عنه «كان لها وجه كوجه الإنسان» هذا كلام الكشاف. وفي رواية «بعث الله ريحا يقال لها الخجوج لها جناحان، ورأس في صورة حية، فكشف لإبراهيم واسماعيل صلى الله عليه وسلم ما حول البيت من أساس البيت الأول» . وفي رواية «أرسل الله سحابة فيها رأس، فقال الرأس: يا إبراهيم إن ربك

يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس له: قد فعلت قال نعم، فارتفعت» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات وبينها وبين ما تقدم أن جبريل ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أس إلى آخره. وجاء «إن السكينة جعلت تسير ودليله الصرد» وهو الطائر المعروف: أي وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير وغيرها، لأن له صفيرا مختلفا يصفر لكل طائر يريد صيده بلغته فيدعوه إلى القرب منه فإذا قرب منه قصمه من ساعته وأكله. ويقال له الصوام، لأنه ورد أنه أول طائر صام عاشوراء. فعن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه «رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يدي صرد فقال: هذا أول طير صام عاشوراء» لكن قال الذهبي هو حديث منكر. وقال الحاكم: حديث باطل. ويذكر أن خالد بن الوليد لما قتل طليحة الكذاب الذي ادعى النبوة في زمنه صلى الله عليه وسلم، وقوي أمره بعد موته صلى الله عليه وسلم قال خالد لبعض أصحابه ممن أسلم: ما كان يقول لكم طليحة من الوحي؟ فقال: كان يقول: والحمام واليمام، والصدر الصوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام. وقد سمع نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام الصرد يصوّت فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبون. وفي الكشاف أن ذلك صياح الهدهد، ولا مانع أن يكون ذلك صياحهما. وسمع طاووسا يصوت فقال: يقول كما تدين تدان. وسمع هدهدا يصوت فقال: يقول: من لا يرحم لا يرحم. ويجمع بينه وبين ما تقدم بأنه يجوز أن الهدهد تارة يقول استغفروا الله يا مذنبون، وتارة يقول من لا يرحم لا يرحم. وسمع خطافا يصوت، فقال: يقول قدموا خيرا تجدوه. وسمع ديكا يصوت فقال: يقول: اذكروا الله يا غافلون. وسمع بلبلا يصوت فقال: يقول: إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاختة، فقال: إنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا. وسمع رخمة تصوت فقال: تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. وقال: الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغا تقول: ويل لمن الدنيا همه. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول: في البعد عن الناس أنس. وعن سيدنا سليمان صلوات الله وسلامه عليه: ليس من الطيور أنصح لبني آدم وأشفق عليهم من البومة، تقول إذا وقفت عند خربة: أين الذين كانوا يتنعمون بالدنيا، ويسعون فيها؟ ويل لبني آدم، كيف ينامون وأمامهم الشدائد، تزودوا، يا غافلون، وتهيؤوا لسفركم. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأينا طيرا أعمى يضرب بمنقاره على شجرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدري ما يقول:

فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: إنه يقول: اللهم أنت العدل وقد حجبت عني بصري وقد جعت، فأقبلت جرادة فدخلت في فمه، ثم ضرب بمنقاره الشجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: أتدري ما يقول: قلت: لا، قال إنه يقول: من توكل على الله كفاه» . ويقال لما قال سليمان للهدهد، لأعذبنك عذابا شديدا، قال له الهدهد: اذكر يا بني الله وقوفك بين يدي الله، فلما سمع سليمان صلوات الله وسلامه عليه ذلك ارتعد فرقا وعفا عنه: أي فإن الهدهد كان دليلا له على الماء، لأن الهدهد يرى الماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، فلما فقد سليمان الماء تفقد الهدهد فلم يجده، فأرسل خلفه العقاب، فرآه الهدهد مقبلا من جهة اليمن، فلما رآه الهدهد منقضا عليه قال له بحق من أقدرك علي إلا ما رحمتني. قيل لابن عباس: يا سبحان الله! الهدهد يرى الماء تحت الأرض ولا يرى الفخ؟ فقال: إذا وقع القضاء عمي البصر. قيل عني سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام بالعذاب الشديد الذي يعذبه به الهدهد التفرقة بينه وبين إلفه، وقيل إلزامه خدمة أقرانه، وقيل صحبة الأضداد وقد قيل: أضيق السجون عشرة الأضداد. وقيل الزوجة العجوز. قال تعالى حكاية عنه عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النّمل: الآية 16] . قال بعضهم: عبر عن أصواتها بالمنطق، لما يتخيل منها من المعاني التي تدرك من النطق، فسليمان صلوات الله وسلامه عليه مهما سمع من صوت طائر علم بقوته القدسية الغرض الذي أراده ذلك الطائر، وهذا في طائر لم يفصح بالعبارة، وإلا فقد يسمع من بعض الطيور الإفصاح بالعبارة. فنوع من الغربان يفصح بقوله: الله حق. وعن بعضهم قال: شاهدت غرابا يقرأ سورة السجدة، وإذا وصل إلى محل السجود سجد وقال: سجد لك سوادي، وآمن بك فؤادي، والدرة تنطق بالعبارة الفصيحة. وقد وقع لي أني دخلت منزلا لبعض أصحابنا وفيه درة لم أرها، فإذا هي تقول لي: مرحبا بالشيخ البكري وتكرر ذلك، فعجبت من فصاحة عبارتها. وكان عليه السلام يعرف نطق الحيوان غير الطير، فقد جاء أن سليمان عليه الصلاة والسلام سمع النملة وقد أحست بصوت جنود سليمان، تقول للنمل ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النّمل: الآية 18] فعند ذلك أمر سليمان الريح فوقفت حتى دخل النمل مساكنها، ثم جاء سليمان إلى تلك النملة وقال لها: حذرت النمل ظلمي، قالت: أما سمعت قولي وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف: الآية 95] على أني لم أرد حطم النفوس أي إهلاكها، إنما أردت حطم القلوب خشية أن يشتغلن بالنظر إليك عن التسبيح: أي فيمتن.

فقد جاء مرفوعا «آجال البهائم كلها وخشاش الأرض في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها، قبض الله أرواحها» ويروى «ما من صيد يصاد ولا شجرة تقطع إلا بغفلتها عن ذكر الله تعالى» وفي الحديث «الثوب يسبح، فإذا اتسخ انقطع تسبيحه» وفي رواية «إن النملة قالت له إنما خشيت أن تنظر إلى ما أنعم الله به عليك فتكفر نعم الله عليها، فقال لها: عظيني، قالت: هل تدري لم جعل ملكك في فص خاتمك؟ قال لا، قالت: أعلمك أن الدنيا لا تساوي قطعة من حجر» . ومن عجيب صنع الله تعالى أن النملة تغتذي بشم الطعام، لأنها لا جوف لها يكون به الطعام. ويذكر أن هذه النملة التي خاطبت سيدنا سليمان أهدت له نبقة فوضعتها في كفه. ويحكى عنها لطيفة لا نطيل بذكرها. وفي فتاوى الجلال السيوطي. قال الثعالبي في زهرة الرياض: لما تولى سليمان عليه الصلاة والسلام الملك جاءه جميع الحيوانات يهنئونه إلا نملة واحدة فجاءت تعزيه، فعاتبها النمل في ذلك، فقالت: كيف أهنيه وقد علمت أن الله تعالى إذا أحب عبدا زوى عنه الدنيا وحبب إليه الآخرة. وقد شغل سليمان بأمر لا يدرى ما عاقبته، فهو بالتعزية أولى من التهنئة. وجاء في بعض الأيام شراب من الجنة، فقيل له: إن شربته لم تمت، فشاور جنده، فكل أشار بشربه إلا القنفذ فإنه قال له: لا تشربه، فإن الموت في عز خير من البقاء في سجن الدنيا، قال صدقت، فأراق الشراب في البحر. قال: وصار إبراهيم وإسمعيل صلوات الله وسلامه عليهما يتبعان الصرد حتى وصلا إلى محل البيت صارت السكينة سحابة، وقالت: يا إبراهيم خذ قدر ظلي فابن عليه: أي وفي لفظ «لما أمر إبراهيم ببناء البيت ضاق به ذرعا فأرسل إليه السكينة وهي ريح خجوج ملتوية في هبوبها لها رأس» الحديث فحفر إبراهيم واسمعيل عليهما الصلاة والسلام فأبرزا أي الحفر عن أس ثابت في الأرض. فبنى إبراهيم واسمعيل يناول الحجارة: أي التي تأتي بها الملائكة، كما سيأتي حتى ارتفع البناء اهـ. أقول: يحتمل أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما أوحى الله إليه بذلك كان في مكة عند إسمعيل وإنهما كانا بمحل بعيد عن محل البيت. ويحتمل أنهما كانا بغيرها ثم جاآ. وقد قيل في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [النّحل: الآية 120] الآية: أي قائما مقام الأمة لانفراده بعبادة الله تعالى في أرضه، لأنه لم يكن على وجه الأرض من يعبد الله سواه، والله أعلم. قال: ثم لما ارتفع البناء جاء بالمقام أي وهو الحجر المعروف، فقام عليه وهو

يا بني وهما يقولان رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: الآية 127] وصار كلما ارتفع البناء ارتفع به المقام في الهواء، فأثر قدم إبراهيم في ذلك الحجر. وقيل إنما أثر في صخرة اعتمد عليها وهو قائم حين غسلت زوجة إسمعيل له رأسه، لأن سارة كانت أخذت عليه عهدا حين استأذنها في الذهاب إلى مكة لينظر كيف حال إسمعيل وهاجر، فحلف لها إنه لا ينزل عن دابته: أي التي هي البراق ولا يزيد على السلام واستطلاع الحال، غيرة من سارة عليه من هاجر، فحين اعتمد على الصخرة ألقى الله تعالى فيها أثر قدمه آية، وفيه كيف يعتمد بقدمه على الصخرة وهو راكب دابته؟ إلا أن يقال لما مال بشقه اعتمد عليها بإحدى رجليه مع ركوبه، وهذا يدل على أن الموجود في المقام أثر قدمه لا قدميه، ووقوفه عليه في حال البناء يدل على أن الموجود فيه أثر قدميه فلينظر، وجعل ارتفاع البيت تسعة أذرع، قيل وعرضه ثلاثين ذراعا. قال بعضهم: وهو خلاف المعروف، ولم يجعل له سقفا ولا بناه بمدر، وإنما رصه رصا وجعل له بابا: أي منفذا لاصقا بالأرض، غير مرتفع عنها، ولم ينصب عليه بابا: أي يقفل، وإنما جعله تبع الحميري بعد ذلك، وحفر له بئرا داخله عند بابه: أي على يمين الداخل منه يلقى فيها ما يهدي إليه، وكان يقال لها خزانة الكعبة كما تقدم. ولما أراد أن يجعل حجرا يجعله علما للناس: أي يبتدئون الطواف منه ويختمون به، ذهب إسمعيل عليه الصلاة والسلام إلى الوادي يطلب حجرا، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بالحجر الأسود يتلألأ نورا: أي فكان نوره يضيء إلى منتهى أبواب الحرم من كل ناحية. وفي الكشاف: إنه اسودّ لما لمسته الحيض في الجاهلية، وتقدم أنه اسودّ من مسح آدم به دموعه. وجاء «إن خطايا بني آدم سودته» وأما شدة سواده فبسبب إصابة الحريق له أولا في زمن قريش، وثانيا في زمن عبد الله ابن الزبير، وقد كان رفع إلى السماء حين غرقت الأرض زمن نوح، بناء على أنه كان موجودا في تلك الخيمة كما تقدم. وفي رواية: إن إبراهيم عليه الصلاة لما قال لإسمعيل: يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا، قال: يا أبتي إني كسلان لغب أي تعب، قال: عليّ بذلك، فانطلق يأتيه بحجر، فجاءه جبريل بالحجر من الهند وهو الحجر الذي خرج به آدم من الجنة: أي كما تقدم فوضعه إبراهيم موضعه، وقيل وضعه جبريل وبنى عليه إبراهيم، وجاء إسمعيل بحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع ذلك الحجر: أي أو بنى عليه فقال: من أين هذا الحجر؟ من جاءك به؟ قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: من لا يكلني إليك ولا إلى حجرك: أي وفي لفظ «جاءني به من هو أنشط منك» وفي لفظ «إن إسمعيل جاءه بحجر من الجبل، قال: غير هذا، فرده مرارا لا يرضى ما يأتيه به» وجاء «إن الله تعالى استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه الصلاة والسلام، وقال: إذا رأيت خليلي يا بني بيتي فأخرجه له: أي فلما انتهى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمحل

الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم، فقال: يا إبراهيم هذا الركن فجاء فحفر عنه فجعله في البيت» وقيل تمحض أبو قبيس فانشق عنه. أقول: وفي لفظ قال: «يا إبراهيم يا خليل الرحمن إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من يواقيت الجنة» ومن ثم كان أبو قبيس يسمى في الجاهلية الأمين لحفظه ما استودع، ويسمى أبا قبيس باسم رجل من جرهم اسمه قبيس هلك فيه. وقيل باسم رجل من مذحج بنى فيه يقال له أبو قبيس. وقيل لأنه اقتبس منه الحجر الأسود فسمي بذلك، ويحتاج إلى الجمع بين ما ذكر على تقدير صحته، وما ذكر في ترجمة إلياس أحد أجداده صلى الله عليه وسلم أنه أول من وضع الركن: أي الحجر الأسود حين غرق البيت وانهدم زمن نوح، فكان أول من سقط عليه: أي أول من علم به، فوضعه في زاوية البيت فليتأمل ذلك، والله أعلم: أي وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال عند المقام: أشهد بالله يكررها لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا أن نورهما طمس لأضاء ما بين المشرق والمغرب» أي من نورهما، ولعل طمس نور الحجر كان سببه ما تقدم فلا مخالفة. وجاء «إنهما يقفان يوم القيامة وهما في العظم مثل أبي قبيس، يشهدان لمن وافاهما بالوفاء» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لولا ما مسهما من أهل الشرك، ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى» . وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: لما خلق الله الخلق، قال لبني آدم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: الآية 172] فكتب القلم إقرارهم، ثم ألقم ذلك الكتاب الحجر، فهذا الاستلام له إنما هو بيعة على إقرارهم الذي كانوا أقروا به. قال رضي الله تعالى عنه: وكان أبي عليّ يقول: إذا استلم الحجر يقول: اللهم أمانتي أديتها، وميثاقي وفيت به ليشهد لي عندك بالوفاء. وفي كلام السهيلي «إن العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين مسح ظهره أن لا يشركوا به شيئا كتبه في صك وألقمه الحجر الأسود، ولذلك يقول المستلم اللهم إيمانا بك، ووفاء بعدك» وقد جاء «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» . قال الإمام ابن فورك: وكان ذلك سببا لاشتغالي بعلم الكلام، فإني لما سمعت ذلك سألت فقيها كنت أختلف إليه عن معناه فلم يحر جوابا، فقيل لي: سل عن ذلك فلانا من المتكلمين، فسألته فأجاب بجواب شاف، فقلت لا بد لي من معرفة هذا العلم، فاشتغلت به، وهذا الذي قاله السهيلي يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فعن سيدنا عمر رضي الله عنه «أنه لما دخل المطاف قام عند الحجر وقال:

والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك. فقال له عليّ رضي الله تعالى عنه: بلى يا أمير المؤمنين، هو يضر وينفع. قال ولم؟ قلت: ذاك بكتاب الله، قال: وأين ذلك من كتاب الله؟ قلت: قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ [الأعراف: الآية 172] الآية. وكتب ذلك في رق، وكان هذا الحجر له عينان ولسان، فقال له افتح فاك فألقمه ذلك الرق، وجعله في هذا الموضع، فقال: تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، فقال عمر رضي الله عنه: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن» . وعن قتادة قال: ذكر لنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بني البيت من خمسة أجبل من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجوديّ وحراء. وذكر لنا أن قواعده من حراء التي وضعها آدم مع الملائكة. أقول: تقدم أن تلك القواعد كانت من جبل لبنان، ومن طور سيناء، ومن طور زيتا، ومن الجودي، ومن حراء، إلا أن يقال يجوز أن يكون معظم ذلك كان من حراء فليتأمل. وذكر بعضهم أنه كان له ركنان، وهما اليمانيان: أي لم يجعل له إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا الركنين المذكورين، فجعلت له قريش حين بنته أربعة أركان. وذكر الحافظ ابن حجر أن ذا القرنين الأول وهو المذكور في القرآن في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وهو إسكندر الرومي، قدم مكة فوجد إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام يبنيان الكعبة فاستفهمهما عن ذلك، فقالا: نحن عبدان مأموران، فقال لهما: من يشهد لكما؟ فقامت خمسة أكبش شهدت: أي قلن نشهد أن إبراهيم وإسمعيل عبدان مأموران بالبناء، فقال: رضيت وسلمت وقال لهما صدقتما. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام بمكة وأقبل ذو القرنين: عليهما فلما كان بالأبطح قيل له: في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن. فقال ذو القرنين: ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن، فنزل ذو القرنين ومشى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه إبراهيم واعتنقه، فكان هو أول من عانق عند السلام. قال الفاكهي: وأظن أن الأكبش المذكورة: أي التي شهدت أحجارا، ويحتمل أن تكون غنما. ووصف ذي القرنين بالأكبر احترازا من ذي القرنين الأصغر وهو الإسكندر اليوناني فإنه كان قريبا من زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وبين عيسى وإبراهيم

عليهما الصلاة والسلام أكثر من ألفي سنة وكان كافرا والله أعلم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما فرغ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من بناء البيت، قال: يا رب قد فرغت، قال: أذن في الناس بالحج، قال: أي رب ومن يبلغ صوتي؟ قال الله جل ثناؤه: أذن وعليّ البلاغ، قال: أي رب كيف أقول؟ قال قل: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم عز وجل، فوقف على المقام وارتفع به حتى كان أطول الجبال، فنادى وأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه شرقا وغربا ينادي بذلك ثلاث مرات: أي وزويت الأرض له يومئذ سهلها وجبلها وبحرها وبرها وإنسها وجنها حتى أسمعهم جميعا فقالوا؟ لبيك اللهم لبيك، وبدأ بشق اليمن، وحينئذ يكون أول من أجاب أهل اليمن، وسيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان أهل اليمن أكثر إجابة ومن ثم جاء في الحديث «الإيمان يمان» وقال صلى الله عليه وسلم في حق أهل اليمن «يريد أقوام أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم» . وروى الطبراني بإسناده عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أهل اليمن فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني» . ومما يؤثر عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقد ذكر في تفسير قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: الآية 97] هو نداء إبراهيم على المقام بما ذكر. وقيل له البيت العتيق لأنه أعتق من الجبابرة لم يدعه: أي بحيث ينسب إليه جبار من الجبابرة الذين كانوا بمكة مع العمالقة وجرهم. وقال القاضي تبعا للكشاف: لأنه أعتق من تسلط الجبابرة، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى. قال: وأما الحجاج فإنما كان قصده إخراج ابن الزبير عنه لما تحصن به دون التسلط عليه كذا قال. قال بعضهم: وعن عبد الله بن عمر أنه قال: إنما سميت بكة أي بالموحدة، لأنها كانت تبك أعناق الجبابرة، ولينظر من قصده ليهدمه من الجبابرة غير أبرهة. ثم رأيت في المشرف أن ثلاثة غيره قصدوا هدمه: اثنان قاتلتهما خزاعة ومنعتهما، والثالث كان في أول زمان قريش، أراد هدمه حسدا على شرف الذكر لقريش به وأن يا بني عنده بيتا يصرف حجاج العرب إليه، فلما قارب مكة أظلمت الأرض وأيقن بالهلاك، فأقلع عن تلك النية ونوى أن يكسو البيت وينحر عنده، فانجلت الظلمة ففعل ذلك.

وفيه أن هذا الذي حصلت له الظلمة إنما هو تبع الأول، فإنه لما عمد إلى البيت يريد تخريبه، أرسلت عليه ريح كتعت منه يديه ورجليه، وأصابته وقومه ظلمة شديدة. وفي رواية أصابه داء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا: أي يثج ثجا حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه، فدعا بالأطباء فسألهم عن دائه فهالهم ما رأوا منه ولم يجد عندهم فرجا، فعند ذلك قال له الحبر: لعلك هممت بشيء في حق هذا البيت؟ فقال: نعم، أردت هدمه فقال له تب إلى الله مما نويت فإنه بيت الله وحرمه، وأمره بتعظيم حرمته ففعل فبرئ من دائه. وقيل لأنه أول بيت وضع في الأرض، وقيل لأنه أعتق من الغرق بسبب الطوفان في زمن نوح عليه الصلاة والسلام، كذا في الكشاف وغيره. وفيه نظر ظاهر، لما تقدم من دثوره بالطوفان، ولما ذكر في قصة نوح أنه لما بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض، فوقفت بوادي الحرم. فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها، إلا أن يقال إن معنى أعتق أنه لم يذهب بالمرة، بل بقي أثره. وفي الخميس عن ابن هشام أن ماء الطوفان لم يصل للكعبة، ولكن قام حولها، وبقيت هي في هواء السماء: أي بناء على الكعبة هي الخيمة التي كانت على زمن آدم عليه الصلاة والسلام. وتقدم عن الكشاف أنها رفعت إلى السماء الرابعة، وأنها البيت المعمور. وهذا كما علمت يدل على أن المراد بالكعبة الخيمة التي كانت لآدم، وقوله قام حولها يريد أنه لم يعل محل تلك الخيمة، ولعله لا ينافيه ما تقدم في قصة نوح فليتأمل. وفي رواية: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام نادى: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج» وفي لفظ «إن ربكم قد اتخذ بيتا وطلب منكم أن تحجوه فأجيبوا ربكم كرر ذلك ثلاث مرات، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك، فليس حاج يحج إلى أن تقوم الساعة إلا ممن كان أجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن لبى تلبية واحدة حج حجة واحدة ومن لبى مرتين حج حجتين وهكذا» وفي لفظ «لما نادى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فما خلق الله من جبل ولا شجر ولا شيء من المطيعين له إلا أجاب: لبيك اللهم لبيك» . أقول: لا يخفى أنه يحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات فيما نادى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وسيأتي. ومعلوم أن إجابة غير العقلاء إجابة إجلال وتعظيم، ولعل المراد بالكتب مطلق الطلب لا خصوص الوجوب، لأنه لم يفرض الحج على هذه الأمة إلا بعد الهجرة في السنة السادسة، وقيل التاسعة، وقيل العاشرة كما

سيأتي. وأما بقية الأمم من بعد إبراهيم فلم أقف على وجوب الحج عليها. وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا أن الصحيح أنه لم يجب الحج إلا على هذه الأمة واستغرب. وفي الخصائص الصغرى: وافترض عليهم أي على هذه الأمة ما افترض على الأنبياء والرسل وهو الوضوء والغسل من الجنابة والحج والجهاد، وهو يفيد أنه كان واجبا على الأنبياء والرسل. وفيه أن الأصل أن ما وجب في حق نبي وجب في حق أمته إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية، وقوله وهو الوضوء سيأتي ما في الوضوء والله أعلم: أي ثم أمر بالمقام فوضعه قبله: أي ملصقا بالبيت على يمين الداخل، فكان يصلي إليه مستقبل الباب: أي جهته، وأول من أخره عن ذلك المحل ووضعه موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أي وقد تقدم ذلك عن ابن كثير. أقول: وقيل إن أول من وضعه موضعه الآن النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة. وسيأتي الجمع بين هذين القولين ويأتي ما فيه. وذكر الطبري أن محله أولا المنخفض: أي الذي تسميه العامة المعجنة: أي محل عجن الطين للكعبة، وذلك المنخفض هو محل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في اليومين كما سيأتي. ونازع في ذلك العز بن جماعة، وقال: لو كان ذلك لشهر عليه بالكتابة في الحفرة. وردّ بأن ذلك ليس بلازم والناقل ثقة، وهو حجة على من لم ينقل. وذكر ابن حجر الهيتمي أن في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام صعد أبا قبيس، وقيل صعد ثبيرا وأذن، وأن أول من أجابه أهل اليمن: أي لما تقدم أنه بدأ بشق اليمن. ولا مانع من تعدد ذلك: أي وقوفه على تلك الأماكن التي هي المقام وأبو قبيس وثبير. ويجوز أن يكون قال في بعض تلك الأماكن ما لم يقله في غيره مما تقدم، فلا مخالفة بين تلك الروايات فيما نادى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وجاء إنه لما فرغ من دعائه ذهب به جبريل، فأراه الصفا والمروة وحدود الحرم، وأمره أن ينصب عليها الحجارة، ففعل وعلمه المناسك: أي مع إسمعيل عليهما الصلاة والسلام. ففي العرائس: خرج جبريل بهما يوم التروية إلى منى، فصلى بهما الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم باتا بها حتى أصبحا، فصلى بهما صلاة الصبح، ثم غدا بهما إلى عرفة، فقام بهما هناك حتى زالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر، ثم رجع بهما إلى الموقف من عرفة، فوقف بهما على الموقف الذي يقف عليه الناس الآن، فلما غربت الشمس دفع بهما إلى مزدلفة،

فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثم بات بهما حتى طلع الفجر، ثم صلى بهما صلاة الغداة، ثم وقف بهما على قزح حتى إذا أسفر أفاض بهما إلى منى، فأراهما كيف رمى الجمار، ثم أمرهما بالذبح، وأراهما المنحر من منى وأمرهما بالحلق، ثم أفاض بهما إلى البيت، فليتأمل ذلك فإن فيه التصريح بأن إبراهيم وإسمعيل صليا مع جبريل جماعة الصلوات الخمس، وجمعا تقديما بين الظهر والعصر، وتأخيرا بين المغرب والعشاء للنسك، وهو مخالف لقول أئمتنا لم تجمع الصلوات الخمس إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم. ففي الخصائص الصغرى: وخص بمجموع الصلوات الخمس، ولم تجتمع لأحد، وبالعشاء ولم يصلها أحد، وبالجماعة في الصلاة إلا أن يدعى أن المراد الجمع على جهة المداومة على ذلك لجواز أن يكون إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام لم يداوما على ذلك، وفيه ما لا يخفى. وفي الوفاء عن وهب قال: أوحى الله تعالى إلى آدم عليه الصلاة والسلام «أنا الله ذو بكة، أهلها جيرتي، وزوارها وفدي وفي كنفي، أعمره بأهل السماء وأهل الأرض، يأتونه أفواجا شعثا غبرا، يعجون بالتكبير عجا، ويرجّون بالتلبية ترجيحا، ويثجون بالكباء ثجا. فمن اعتمره لا يريد غيره فقد زارني وضافني ووفد إليّ ونزل بي، وحق لي أن أتحفه بكرامتي، أجعل ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه لنبي من ولدك يقال له إبراهيم، أرفع له قواعده، وأقضي على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرمه، وأعلمه مشاعره، ثم يعمره الأمم والقرون حتى ينتهي إلى نبي من ولدك يقال له محمد خاتم النبيين، وأجعله من سكانه وولاته وحجابه وسقاته، فمن سأل عني يومئذ فأنا من الشعث الغبر، الموفين بنذورهم، المقبلين على ربهم» . ولما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إبراهيم: الآية 37] أي دعا بذلك وهو على ثنية كداء بالمد. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إبراهيم: الآية 37] كان على الثنية العليا ذكره السهيلي، وعند ذلك نقل له الطائف من فلسطين من أرض الشام: أي وببركة دعائه عليه الصلاة والسلام يوجد بمكة الفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، ذكره في الكشاف. ثم لما فرغ: أي من بناء البيت وحج وطاف بالبيت لقيته الملائكة في الطواف فسلموا عليه، فقال لهم: ما تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول قبل أبيك آدم: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فأعلمناه بذلك، فقال: زيدوا

ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: زيدوا فيها العليّ العظيم. فقالت الملائكة ذلك. وكان بناء إبراهيم للبيت بعد مضي من عمره مائة سنة، ثم بناه العماليق، ثم بنته جرهم، وقيل عكسه. وقد يتوقف في بناء العماليق له. أما في الأول فلأن أول من نزل مكة مع هاجر وولدها إسمعيل جرهم، وإنهم بعد إسمعيل وبعض ولده كانوا ولاة البيت. وأما في الثاني، فلأن ولاية البيت كانت لخزاعة بعد جرهم كما تقدم، وكيف يبنون البيت ولا ولاية لهم عليه، إلا أن يقال: لا مانع أن يكونوا حينئذ أهل ثروة، بخلاف جرهم وخزاعة. ثم رأيت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن العماليق كانوا في عزّ وكانت لهم أموال كثيرة، وأن الله سلبهم ذلك لما تظاهروا بالمعاصي، وسلط عليهم الذر حتى خرجوا من الحرم، وتفرقوا وهلكوا، والذر في النمل كالزنبور في النحل. وفي تاريخ مكة للفاكهي أن العماليق قدموا مكة لما قدم وفد عاد للاستسقاء بالبيت. وقيل كانوا بعرفة. ولما أخرج الله تعالى زمزم لإسماعيل بواسطة جبريل. ففي «ربيع الأبرار» أن جبريل أخرج ماء زمزم مرتين: مرة لآدم، ومرة لإسمعيل، وعند ذلك تحولوا إلى مكة. قال المقريزي: لما علموا بذلك. وقيل كانوا بعد جرهم، ولا يصح ذلك. ثم رأيت المقريزي قال: وفي كتاب أخبار مكة للفاكهي ما يدل على تقدم بناء جرهم على بناء العمالقة، ولا يصح ذلك لاتفاقهم على أن ولاية العمالقة على مكة كانت قبل ولاية جرهم، وعلى أنه لم يل مكة بعد جرهم إلا خزاعة. ولا يخفى أن هذا صريح في أن العمالقة بنته ولا بد، وأن بناءهم له كان قبل بناء جرهم له، والعماليق من ولد عملاق أو عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام. قيل وهو أول من كتب بالعربية، وقيل من ولد العيص بن إسحق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. ثم بناه قصي جده صلى الله عليه وسلم، وسقفه بخشب الروم وجريد النخل. ثم بنته قريش كما تقدم. ثم بناه بعد قريش عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أي ويكنى أبا خبيب، بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة، وكني بأبي خبيب لأن خبيبا كان رجلا بالمدينة من النساك، طويل الصلاة، قليل الكلام: أي وعبد الله رضي الله تعالى عنه كان مشابها له في ذلك، فكني به. هذا، وفي كلام ابن الجوزي أنه كان لعبد الله بن الزبير ولد يقال له خبيب حيث قال خبيب بن عبد الله بن الزبير ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مائة سوط فمات، لأنه لما حدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا،

وفي رواية ثلاثين رجلا، وفي رواية: إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا. وفي رواية إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا اتخذوا عباد الله تعالى خولا: أي عبيدا، ومال الله دولا، ودين الله دغلا. وفي رواية بدل دين الله كتاب الله. قال ابن كثير: وهذا الحديث أي ذكر بني أمية وذكر الأربعين منقطع. ولما بلغ الوليد ما ذكر خبيب كتب لابن عمه عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة أن يضرب خبيبا هذا مائة سوط ففعل، ثم برّد ماء في جرة وصبه أي في يوم شات عليه وحبسه، فلما اشتد وجعه أخرجه وندم على ما فعل. فلما مات وسمع بموته سقط إلى الأرض واسترجع، واستعفى من ولاية المدينة، فكان عمر بن عبد العزيز إذا قيل له أبشر، قال: كيف أبشر وخبيب على الطريق أي عائق لي. وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال: كنت عند معاوية بن أبي سفيان ومعه ابن عباس على السرير، فدخل عليه مروان بن الحكم، فكلمه في حاجته وقال: اقض حاجتي يا أمير المؤمنين، فو الله إن مؤنتي لعظيمة، فإني أبو عشرة، وعم عشرة، وأخو عشرة، فلما أدبر مروان قال معاوية لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أشهدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله تعالى خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة؟ فقال ابن عباس: اللهم نعم» ثم ذكر مروان حاجة فردّ مروان ولده عبد الملك إلى معاوية فكلمه فيها، فلما أدبر عبد الملك قال معاوية: أنشدك الله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا؟ فقال: أبو الجبابرة الأربعة، فقال ابن عباس: اللهم نعم، فإن أربعة من ولدة ولوا الخلافة، فليتأمل هذا فإنه ربما يدل على أن عبد الملك صحابي، إلا أن يقال ذكره قبل وجوده فهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وفي كلام ابن كثير: هذا الحديث فيه غرابة ونكارة شديدة. هذا، وقد رأيت عن بعض حواشي الكشاف أن أعداء عبد الله ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما هم الذين كانوا يكنونه بأبي خبيب، لأن خبيبا كان من أخس أولاده، ويرده قول بعضهم: يغلب للشرف كالخبيبين لخبيب بن عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب. وذكر ابن الجوزي أيضا فيمن ضرب بالسياط من العلماء سعيد بن المسيب، ضربه عبد الملك بن مروان مائة سوط، لأنه بعث ببيعة الوليد إلى المدينة فلم يبايع سعيد، فكتب أن يضرب مائة سوط ويصب عليه جرة ماء في يوم شات ويلبس جبة صوف ففعل به ذلك، أي كما فعل بخبيب. ثم رأيت في تاريخ الحافظ ابن كثير لما عهد به عبد الملك لولده الوليد في حياته وانتهت البيعة إلى المدينة امتنع سعيد بن المسيب أن يبايع، فضربه نائب المدينة

ستين سوطا، وألبسه ثيابا من شعر، وأركبه جملا وطاف به في المدينة، ثم أودع السجن، فلما بلغ ذلك عبد الملك أرسل يعنف والي المدينة على ذلك ويأمره بإخراجه من الحبس، هذا كلامه. وفي كلام البلاذري، وكان جابر بن الأسود عاملا لابن الزبير على المدينة وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا، إذ لم يبايع لابن الزبير، هذا كلامه. إلا أن يقال: لا مانع أن يكون سعيد فعل به الأمران لأن ولاية ابن الزبير سابقة على ولاية عبد الملك والد الوليد. ثم رأيت الحافظ ابن كثير صرح بذلك حيث ذكر أن سعيد بن المسيب ضرب بالسياط المذكورة، وفعل به ما تقدم لما امتنع من المبايعة لابن الزبير، وفعل به ذلك أيضا لما امتنع من البيعة للوليد. وفي طبقات الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في ترجمة سعيد بن المسيب: وضربه عبد الملك بن مروان حيث امتنع من مبايعته، وألبسه المسوح، ونهى الناس عن مجالسته، فكان كل من جلس إليه يقول له: قم لا تجالسني فإنهم قد جلدوني ومنعوا الناس عن مجالستي هذا كلامه، إلا أن يقال، المراد امتنع من قبول مبايعة عبد الملك لولده الوليد فلا مخالفة، وإنما امتنع سعيد بن المسيب من المبايعة للوليد، لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد فهو شر لأمتي من فرعون لقومه» وفي رواية «هو أضر على أمتي من فرعون على قومه» زاد في رواية «يسد به ركن من أركان جهنم» وفي لفظ «زاوية من زوايا جهنم» فكان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك. قال ابن كثير: وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، لا الوليد بن عبد الملك الذي هو عمه. وكان سعيد بن المسيب أعبر الناس للرؤيا قال له رجل: رأيت كأني أبول في يدي، فقال: تحتك ذات محرم، فنظر فإذا بينه وبين امرأته رضاعة. وأخذ سعيد تعبير الرؤيا عن أسماء بنت أبي بكر وهي أخذت ذلك عن والدها أبي بكر رضي الله تعالى عنهما. وعن سعيد أخذ ابن سيرين ذلك. وعن ابن سيرين. كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعبر الرؤيا في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي حضرته. وعن الزهري «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا فقصها على أبي بكر. فقال: رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف. قال: يا رسول الله يقبضك الله إلى مغفرة ورحمة، وأعيش بعدك سنتين ونصفا» فكان كما عبر فقد عاش بعده صلى الله عليه وسلم سنتين وسبعة أشهر وقال له: «رأيتني أردفت غنما سودا ثم أردفتها غنما بيضا حتى ما ترى السود فيها، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما الغنم السود فإن العرب يسلمون ويكثرون، والغنم البيض الأعاجم يسلمون حتى لا ترى

العرب فيهم من كثرتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك عبرها الملك سحيرا» . وسبب بناء عبد الله بن الزبير للكعبة أن يزيد بن معاوية لما وجه الجيش عشرين ألف فارس وسبعة آلاف راجل وأميرهم مسلم بن قتيبة لقتال أهل المدينة، لما علم أنهم خرجوا عن طاعته: أي وأظهروا شتمه وأعلنوا بأنه ليس له دين، لأنه اشتهر عنه نكاح المحارم وإدمان شرب الخمر وترك الصلاة وأنه يلعب بالكلاب: أي فقد ذكر بعض ثقات المؤرخين أنه كان له قرد يحضره مجلس شرابه ويطرح له وسادة ويسقيه فضلة كأسه، واتخذ له أتانا وحشية قد ربضت له وصنع لها سرجا من ذهب يركب عليها ويسابق بها الخيل في بعض الأيام، وكان يلبس عليه قباء وقلنسوة من الحرير الأحمر. وقد استفتى الكيا الهراسي من أكابر أئمتنا معاشر الشافعية، كان من رؤوس تلامذة إمام الحرمين نظير الغزالي عن يزيد هذا هل هو من الصحابة؟ وهل يجوز لعنه؟ فأجاب بأنه ليس من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب. وللإمام أحمد قولان: أي في لعنه تلويح وتصريح، وكذلك الإمام مالك وكذا لأبي حنيفة. ولنا قول واحد التصريح دون التلويح، وكيف لا يكون كذلك، وهو اللاعب بالنرد والمصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معلوم، هذا كلامه. وسئل الغزالي هل من صرح بلعن يزيد يكون فاسقا؟ وهل يجوز الترحم عليه؟ فأجاب بأن من لعنه يكون فاسقا عاصيا، لأنه لا يجوز لعن المسلم، ولا يجوز لعن البهائم، فقد ورد النهي عن ذلك، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم، ويزيد صح إسلامه وما صح أمره بقتل الحسين ولا رضاه بقتله، وما لم يصح منه ذلك لا يجوز أن يظن به ذلك، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام، وإذا لم يعرف حقيقة الأمر وجب إحسان الظن به، ومع هذا فالقتل ليس بكفر بل هو معصية، وأما الترحم عليه فهو جائز بل هو مستحب، لأنه داخل في المؤمنين في قولنا في كل صلاة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، هذا كلامه. وكان على ما أفتى به الكيا الهراسي من جواز التصريح بلعنه استاذنا الأعظم الشيخ محمد البكري تبعا لوالده الأستاذ الشيخ أبي الحسن. وقد رأيت في كلام بعض أتباع أستاذنا المذكور في حق يزيد ما لفظه: زاده الله خزيا وضعه، وفي أسفل سجين وضعه. وفي كلام ابن الجوزي: أجاز العلماء الورعون لعنه، وصنف في إباحة لعنه مصنفا. وقال السعد التفتازاني: إني لأشك في إسلامه، بل في إيمانه، فلعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه، وعلى هذا يكون مستثنى من عدم جواز لعن الكافر المعين بالشخص.

ولما خلعوا: أي أهل المدينة بيعة يزيد ولوا عليهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة وأخرجوا والي يزيد من المدينة وهو مروان بن الحكم وبني أمية حتى قال بعضهم: ما خرجنا عليه حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء، فكانت وقعة الحرة المشهورة التي كادت تبيد أهل المدينة عن آخرهم، قتل فيها الجم الكثير من الصحابة والتابعين. وقيل المقتول فيها من الصحابة ثلاثة: منهم عبد الله بن حنظلة، ونهبت المدينة، وافتض فيها ألف عذراء: أي ولم تقم الجماعة ولا الأذان في المسجد النبوي مدة المقاتلة وهي ثلاثة أيام. وفي كلام بعضهم: ووقع من ذلك الجيش الذي وجهه يزيد للمدينة، من القتل، والفساد العظيم، والسبي، وإباحة المدينة، وقتل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين خلق كثيرون. وكانت عدة المقتولين من قريش والأنصار ثلاثمائة وستة رجال، ومن قراء القرآن نحو سبعمائة نفس. وفي التنوير لابن دحية: وقتل من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة، ومن حملة القرآن سبعمائة، وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراثت بين القبر الشريف والمنبر، واختفت أهل المدينة حتى دخلت الكلاب المسجد وبالت على منبره صلى الله عليه وسلم، ولم يرض أمير ذلك الجيش من أهل المدينة إلا بأن يبايعوه ليزيد على أنهم خول: أي عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق، حتى قال له بعض أهل المدينة: البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه. وروى البخاري «أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما لما أرجف أهل المدينة يزيد دعا بنيه ومواليه وقال لهم: إنا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله وبيعة رسوله، وإنه والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه خلع يدا من طاعته إلا كان التنصل بيني وبينه ثم لزم بيته» ولزم أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه بيته أيضا، فدخل عليه جمع من الجيش بيته، فقالوا له: من أنت أيها الشيخ؟ فقال: أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد سمعنا خبرك، ولنعم ما فعلت حين كففت يدك ولزمت بيتك، ولكن هات المال، فقال: قد أخذه الذين دخلوا قبلكم عليّ وما عندي شيء، فقالوا كذبت ونتفوا لحيته. وأما جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، فخرج في يوم من تلك الأيام وهو أعمى يمشي في بعض أزقة المدينة، وصار يعثر في القتلى ويقول: تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له قائل من الجيش: من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ، فحمل عليه جماعة من الجيش ليقتلوه، فأجاره منهم مروان وأدخله بيته» . قال السهيلي: وقتل في ذلك اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار رضي الله

تعالى عنهم ألف وسبعمائة، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان. فقد ذكر أن امرأة من الأنصار دخل عليها رجل من الجيش وهي ترضع صبيها وقد أخذ ما وجده عندها، ثم قال لها، هات الذهب وإلا قتلتك وقتلت ولدك، فقالت له: ويحك إن قتلته فأبوه أبو كبشة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا من النسوة اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الصبي من حجرها وثديها في فمه وضرب به الحائط حتى انتثر دماغه في الأرض، فما خرج من البيت حتى اسودّ نصف وجهه وصار مثلة في الناس. قال السهيلي، وأحسب هذه المرأة جدة للصبي لا أما له، إذ يبعد في العادة أن تبايع امرأة وتكون يوم الحرة في سن من ترضع، أي ولدا صغيرا لها. ووقعة الحرة هذه من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم. ففي الحديث «أنه صلى الله عليه وسلم وقف بهذه الحرة وقال: ليقتلنّ بهذا المكان رجال هم خيار أمتي بعد أصحابي» . وعن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد وجدت قصة هذه الوقعة في كتاب يهوذا بن يعقوب الذي لم يدخله تبديل، وأنه يقتل فيها رجال صالحون، يجيئون يوم القيامة وسلاحهم على عواتقهم، وهذه الواقعة كانت سنة ثلاث وستين، ويقال كان يزيد أعذر أهل المدينة قبل هذه الوقعة فيما ذكروه، وبذل لهم من العطاء أضعاف ما يعطي الناس، رغبة في استمالتهم إلى الطاعة، وتحذيرهم من الخلاف، ولكن يأبى الله إلا ما أراد. وفي التنوير أن الله ابتلى أمير هذا الجيش الذي هو مسلم بن قتيبة بعد ثلاثة أيام من أخذه البيعة بمرض صار ينبح منه كالكلب إلى أن مات، وولي أمر الجيش بعده الحصين بن نمير بأمر يزيد، فإنه وصى مسلم بن قتيبة لما ولاه إمرة الجيش وقال له: إذا أشرفت على الموت أي لأنه كان مريضا بالاستسقاء فولّ أمر الجيش للحصين، وهذا الذي وقع من يزيد فيه تصديق لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد» . وقد جاء عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه: لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان والإقامة من القبر الشريف. ومما يؤثر عن سعيد بن المسيب: الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال، ومن استغنى بالله افتقر إليه الناس. ومن جملة من خلع يزيد وقتل من الصحابة في تلك الوقعة مغفل بن سنان

الأشجعي رضي الله تعالى عنه. روى علقمة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها مثل مهر نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام مغفل بن سنان وقال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت» ففرح ابن مسعود. وسبب مقاتلة عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، لأنه امتنع من المبايعة ليزيد أيضا هو والحسين رضي الله تعالى عنهما لما أرسل إليهما يطلب منهما المبايعة له، فامتنعا من ذلك وفرّا من المدينة إلى مكة. ثم لما قتل الحسين رضي الله تعالى عنه: أي لأن الحسين أرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه، فأراد الذهاب إليهم فنهاه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وبين له غدرهم، وقتلهم لأبيه، وخذلانهم لأخيه الحسن رضي الله تعالى عنه. ونهاه ابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، فأبى إلا أن يذهب، فبكى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال: واحبيباه. وقال له ابن عمر: أستودعك الله من قتيل. وكان أخوه الحسن قال له: إياك وسفهاء الكوفة أن يستخفوك فيخرجوك ويسلموك فتندم ولات حين مناص، وقد تذكر ذلك ليلة قتله، فترحم على أخيه الحسن، ولم يبق بمكة إلا من حزن على مسيره، وقدم أمامه إلى الكوفة مسلم بن عقيل، فبايعه من أهل الكوفة للحسين اثنا عشر ألفا، وقيل أكثر من ذلك. ولما شارف الكوفة جهز إليه أميرها من جانب يزيد وهو عبد الله بن زياد عشرين ألف مقاتل، وكان أكثرهم ممن بايع له لأجل السحت العاجل على الخير الآجل، فلما وصلوا إليه ورأى كثرة الجيش طلب منهم إحدى ثلاث، إما أن يرجع من حيث جاء، أو يذهب إلى بعض الثغور، أو يذهب إلى يزيد يفعل فيه ما أراد، فأبوا وطلبوا منه نزوله على حكم بن زياد وبيعته ليزيد فأبى، فقاتلوه إلى أن أثخنته الجراحة فسقط إلى الأرض، فحزوا رأسه وذلك يوم عاشوراء عام إحدى وستين، ووضع ذلك الرأس بين يدي عبد الله بن زياد، ولما جاء خبر قتل الحسين رضي الله تعالى عنه قام ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما في الناس يعظم قتل الحسين وجعل يظاهر بعيب يزيد، وبذكر شربه الخمر وغير ذلك، ويثبط الناس عن بيعته. ويذكر مساوئ بني أمية، ويطنب في ذلك. ولما بلغ يزيد ذلك أقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولا، فجاء إليه رجل من أهل الشام في خيل من خيل الشام، وتكلم مع ابن الزبير وعظم على ابن الزبير الفتنة وقال: لا يستحل الحرم بسببك، فإن يزيد غير تاركك ولا تقوى عليه، وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولا، وقد عملت لك غلا من فضة وتلبس فوقه الثياب وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبة، وأجمل بك وبه، فقال له: انظر في أمري، ثم

دخل على أمه أسماء رضي الله تعالى عنها واستشارها فقالت: يا بني عش كريما ومت كريما ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك، فامتنع وصار يبايع الناس سرا، ثم أظهر المبايعة، فاجتمع عليه أهل الحجاز ولحق به من انهزم من وقعة الحرة، فلما جاء الجيش إلى مكة حاصر عبد الله وضرب بالمنجنيق، نصبه على أبي قبيس قيل وعلى الأقمر وهما أخشبا بمكة فأصاب الكعبة من ناره ما حرق ثيابها وسقفها فإن الكعبة كانت في زمن قريش مبنية، مدماك من خشب الساج، ومدماك من حجارة كما تقدم. وذكر في الشرف أن الله تعالى بعث عليهم صاعقة بعد العصر، فأحرقت المنجنيق، وأحرقت تحته ثمانية عشر رجلا من أهل الشام، ثم عملوا منجنيقا آخر فنصبوه على أبي قبيس. ويذكر أن النار لما أصابت الكعبة أتت بحيث يسمع أنينها كأنين المريض آه آه، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد جاء إنذاره صلى الله عليه وسلم بتحريق الكعبة فعن ميمونة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا مرج الدين، فظهرت الرغبة والرهبة، وحرق البيت العتيق» وفي العرائس: إن أول يوم تكلم الناس في القدر ذلك اليوم، فقيل إحراق الكعبة من قدر الله، وقيل ليس من قدر الله، والمتكلم بذلك حينئذ قيل أبو معبد الجهني، وقيل أبو الأسود الدؤلي، وقيل غير ذلك. وقوله أول يوم تكلم الناس في القدر، لعل المراد أول يوم اشتهر واستفيض فيه الكلام من الناس في القدر، فلا يخالف ما حكي أن شخصا قال لعلي رضي الله تعالى عنه وهو بصفين: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا هذا؟ أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: نعم والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئا، ولا قطعنا واديا، ولا علونا شرفا إلا بقضائه وقدره. والتكلم في القدر ليس من خصائص هذه الأمة، فقد تكلمت فيه الأمم قبلها، وفي الحديث «ما بعث الله نبيا إلا في أمته قدرية يشوشون عليه أمر أمته، ألا وإن الله تعالى قد لعن القدرية على لسان سبعين نبيا» وقد جاء في ذم القدرية زيادة على ما تقدم منها «القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» وجاء «اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية» وجاء «أخاف على أمتي التكذيب بالقدر» . وإنما كانت القدرية مجوس هذه الأمة، لأن طائفة من القدرية تقول يأتي الخير من الله والشر من العبد، وهؤلاء الطائفة أشبه بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن الخير من النور والشر من الظلمة وهم المانوية، وإنما كان القدر شعبة

من النصرانية، لأن أكثر القدرية على أنه ليس من أفعال العبد من خير أو شر ناشئا عن إقدار الله تعالى له على ذلك، بل هو ناشئ عن قدرة العبد واختياره، فقد أثبتوا لله تعالى شريكا، كما أن النصارى أثبتوا الشريك لله تعالى، فهذه الفرقة من القدرية أشبهت النصارى، فكان القدر شعبة من النصرانية بهذا الاعتبار، وقد أوضحت ذلك في تعليقي المسمى ب «المصباح المنير على الجامع الصغير» وفيه «أخر الكلام على القدر لشرار أمتي في آخر الزمان» فإن الحق إسناد الفعل إلى الله تعالى إيجادا وللعبد اكتسابا. وقيل إن سبب بناء عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما للكعبة أن امرأة بخرتها فطارت شرارة فعلقت بثيابها فحصل ذلك، ولا مانع من التعدد. وقد وقع أيضا احتراقها بتبخير المرأة في زمن قريش، ولا مانع من تعدد ذلك كما تقدم. وعدّ بعضهم أن من البدع تجمير المسجد وأن مالكا كرهه. وقد روي أن مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يجمر المسجد النبوي إذا جلس عمر رضي الله عنه على المنبر يخطب، ومع حرق الكعبة حرق قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل فإنهما كانا معلقين بالسقف. أقول: ولعل تعليقهما في السقف كان بعد تعليقهما في الميزاب. فقد ذكر بعضهم جاء الإسلام ورأس الكبش معلق بقرنية في ميزاب الكعبة، ويدل لتعليقهما في السقف ما جاء عن صفية بنت شيبة قالت لعثمان بن طلحة «لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من البيت؟ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت قرني الكبش في البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا» . وذكر الجلال المحلي في قطعة التفسير أن الكبش المذكور هو الذي قرّبه هابيل جاء به جبريل، فذبحه السيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام مكبرا: أي وحينئذ تكون النار التي أنزلت في زمن هابيل لم تأكله، بل رفعته إلى السماء، وحينئذ يكون قول بعضهم: فنزلت النار فأكلته على التسمح، ويدل لما ذكر الجلال ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه الصلاة والسلام: «ما كان ذبح إبراهيم؟ أي مذبوحه، قال: الذي قرّب ابن آدم» قال بعضهم: وهذا الحديث لم يثبت. قيل ووصف بأنه عظيم، لأنه رعى في الجنة أربعين عاما، وقيل كان الكبش اختراعا اخترعه الله هناك في ذلك الوقت قال بعضهم: فقد فدى من الموت بصورة الموت وهذا كله بناء على أن الذي قرّبه هابيل كان كبشا. وقيل كان جملا سمينا، وعليه اقتصر القاضي. فلينظر الجمع على تقدير صحة كل، وانصدع الحجر من تلك النار من ثلاثة أماكن، وعند محاصرة الجيش لعبد الله جاء الخبر بموت يزيد.

ويقال إن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أن يعلم الجيش وهم أهل الشام، فنادى فيهم يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم يعني يزيد، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فعل، ومن أحب أن يرجع إلى شأنه فليفعل، فانفلّ الجيش، وبايع عبد الله بن الزبير جماعة بالخلافة، ودخلوا في طاعته ظاهرا. ويقال إن أمير الجيش طلب من ابن الزبير أن يحدثه فخرج من الصفين حتى اختلفت رؤوس فرسيهما وجعل فرس أمير الجيش ينفر ويكفها فقال له ابن الزبير: ما لك؟ فقال: إن حمام الحرم تحت رجليها فأكره أن أطأ حمام الحرم، فقال تفعل هذا، وأنت تقتل المسلمين فقال له: تأذن لنا أن نطوف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا، فأذن لهم فطافوا، وقال له: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر يعني الخلافة فارحل معي إلى الشام، فو الله لا يختلف عليك اثنان، فلم يثق به ابن الزبير وأغلظ عليه القول، فكرّ راجعا وهو يقول: أعده بالملك وهو يعدني بالقتل. ومن ثم قيل: كان في ابن الزبير خلال لا تصلح معها الخلافة: منها سوء الخلق، وكثرة الخلاف. ودخل في طاعة ابن الزبير جميع أهل البلدان إلا الشام ومصر، فإن مروان بن الحكم تغلب عليهما بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية. فإن معاوية هذا مكث في الخلافة أربعين يوما، وقيل عشرين يوما بعد أن كان مروان عزم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق. وقد كان ابن الزبير لما ولى أخاه نائبا عنه بالمدينة أمره بإجلاء بني أمية وفيهم مروان وابنه عبد الملك إلى الشام، فلما أراد مروان أن يبايع ابن الزبير بدمشق ثنى عزمه عن ذلك جماعة، وقالوا له: أنت شيخ قريش وسيدها، وقد فعل معكم ابن الزبير ما فعل فأنت أحق بهذا الأمر، فوافقهم ومكث تسعة أشهر في الخلافة وهو الرابع من خلفاء بني أمية. وقام بالأمر بعده ولده عبد الملك، وهو أول من سمي عبد الملك في الإسلام، ثم عهد عبد الملك لأولاده الأربعة من بعده: الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام. وادعى عمرو بن سعيد أن مروان عهد إليه بعد ابنه عبد الملك، فضاق عبد الملك بذلك ذرعا، واستعجل أمر عمرو بدمشق، فلم يزل به عبد الملك حتى قتله. وفي كلام ابن ظفر أن عبد الملك لما خرج لمقاتلة عبد الله بن الزبير خرج معه عمرو بن سعيد، وقد انطوى على دغل نية وفساد طوية وطماعيته في نقل الخلافة، فلما ساروا عن دمشق أياما تمارض عمرو بن سعيد واستأذن عبد الملك في العودة إلى دمشق، فأذن له، فلما عاد ودخل دمشق صعد المنبر وخطب خطبة نال فيها من عبد الملك، ودعا الناس إلى خلعه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، فاستولى على دمشق وحصن سورها، وبذل الرغائب، وبلغ ذلك عبد الملك وهو متوجه إلى ابن الزبير،

فأشير على عبد الملك أن يرجع إلى دمشق ويترك ابن الزبير، لأن ابن الزبير لم يعطه طاعة ولا وثب له على مملكة، فهو في صورة ظالم له، وقصده لعمرو بن سعيد في صورة مظلوم، لأنه نكث بيعته وخان أمانته، وأفسد رعيته، فرجع إلى دمشق فظفر بعمرو بن سعيد. ويقال إن سبب بناء عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه للكعبة أنه جاء سيل فطبقها فكان عبد الله رضي الله تعالى عنه يطوف سباحة: أي ولا مانع من وجود الأمرين الحرق والسيل، فلما رأى عبد الله ما وقع في الكعبة شاور من حضر ومن جملتهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في هدمها، فهابوا هدمها وقالوا: نرى أن يصلح ما وهى ولا تهدم، فقال: لو أن بيت أحدكم أحرق لم يرض له إلا بأكمل إصلاح، ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها. وقد حدثته خالته عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: «ألم تري قومك يعني قريشا حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين عجزت بهم النفقة، لولا حدثان قومك بالجاهلية. أي قرب عهدهم- بها» أي وفي لفظ «لولا الناس حديثو عهد بالجاهلية» أي قريب عهدهم بها. أي وفي لفظ «لولا الناس حديثو عهد بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائها لهدمتها وجعلت لها خلفا» أي بابا «من خلفها» أي وفي لفظ «لجعلت لها بابا يدخل منه وبابا بحياله يخرج الناس منه» وفي لفظ «وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، وألصقت بابها بالأرض» أي كما كان عليه في زمن إبراهيم «ولأدخلت الحجر فيها» أي وفي رواية: «لأدخلت نحو ستة أذرع» وفي رواية «ستة أذرع وشيئا» وفي رواية «وشبرا» وفي رواية «قريبا من سبعة أذرع» فقد اضطربت الروايات في القدر الذي أخرجته قريش. وفي لفظ «لأدخلت فيها ما أخرج منها» وفي لفظ «لجعلتها على أساس إبراهيم وأزيد» أي بأن أزيد في الكعبة من الحجر: أي ذلك ما أخرجته قريش خشي صلى الله عليه وسلم أن تنكر قلوبهم هدم بنائهم الذي يعدونه من أكمل شرفهم، فربما حصل لهم الارتداد عن الإسلام. وقد ذكر بعضهم أن كل من بنى الكعبة بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم بينها إلا على قواعد إبراهيم، غير أن قريشا ضاقت بهم النفقة: أي الحلال الحديث، وهذا بناء على أن من بعد إبراهيم وقبل قريش بناها كلها وليس كذلك، بل الحاصل منهم إنما هو ترميم لها فقوله لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم ليس على ظاهره، بل المراد أنه أبقاها على ذلك. قال: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال لعبد الله: دع بناء وأحجارا أسلم عليها المسلمون وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم: أي فإنه يوشك أن يأتي بعدك من

يهدمها فلا يزال يهدم ويا بني، فيتهاون الناس بحرمتها ولكن ارفعها: أي رمها فقال عبد الله: إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عازم على أمري، فلما مضى الثلاث أجمع أمره على أن ينقضها، فتحاماها الناس وخشوا أن ينزل بأول الناس يقصدها أمر من السماء، حتى صعدها رجل فألقى منها حجارة فلم ير الناس أصابه شيء فتابعوه اهـ. أي وقيل أول فاعل لذلك عبد الله بن الزبير نفسه رضي الله تعالى عنه وخرج ناس كثير من مكة إلى منى ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأقاموا بها ثلاثا مخافة أن يصيبهم عذاب شديد بسبب هدمها، وأمر ابن الزبير جماعة من الحبشة بهدمها رجاء أن يكون فيهم الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم أنه يهدمها. وفيه أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يهدمها ذكر صفته حيث قال: «كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجرا حجرا» وجاء في وصفه أنه مع كونه أفحج الساقين أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، ووصف أيضا «بأنه أصلع» وفي لفظ «أجلح» وهو من ذهب شعر مقدم رأسه، ووصف «بأنه أصعل» أي صغير الرأس، «وبأنه أصمع» أي صغير الأذنين «معه أصحابه يتقضونها حجرا حجرا، ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر» . أي وقوله «ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر» لعله لم يثبت عند ابن الزبير وكذا تلك الأوصاف، وهدم الحبشة لها يكون بعد موت عيسى عليه الصلاة والسلام، ورفع القرآن من الصدور والمصاحف: أي وورد أن أول ما يرفع رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام والقرآن. وأول نعمة ترفع من الأرض العسل، وقيل يكون هدمها في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام. وجمع بأنه يهدم بعضها في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، فإذا جاءهم الصريخ هربوا فإذا مات عيسى عادوا وكملوا هدمها. فهدمها عبد الله إلى أن انتهى الهدم إلى القواعد: أي التي هي الأساس. قال وفي رواية: كشف له عن أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوجده داخلا في الحجر ستة أذرع وشيئا، وأحجار ذلك الأساس كأنها أعناق الإبل، حجارة حمراء، آخذ بعضها في بعض مشبكة كتشبك الأصابع، وأصاب فيه قبر أم إسمعيل عليه الصلاة والسلام، وهذا ربما يدل على أنه لم يصب فيه قبر إسمعيل، وهو يؤيد القول بأن قبره في حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود، لا في الحجر كما ذكره الطبري، وأنه تحت البلاطة الخضراء التي بالحجر كما تقدم، فدعا عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم، وأشهدهم على ذلك الأساس، وأدخل عبد الله بن المطيع العدوي عتلة كانت بيده في ركن من أركان البيت فتزعزعت الأركان كلها، فارتج جوانب البيت، ورجفت مكة بأسرها رجفة

شديدة وطارت منه برقة فلم يبق دار من دور مكة إلا دخلت فيها ففزعوا اهـ. أقول: تقدم في بناء قريش أنهم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها ببعض وأن رجلا أدخل عتلته بين حجرين منها فحصل نحو ما ذكر. وقد يقال: لا مخالفة بين كون تلك الأحجار كانت خضراء وبين كونها حمراء، لأنه يجوز أن تكون حمرة تلك الأحجار ليست صافية، بل هي قريبة من السواد، ومن ثم وصفت: بأنها زرق كما تقدم والأسود يقال له أخضر، كما أن الأخضر غير الصافي يقال له أسود، والصافي يقال له أزرق والله أعلم. وجعل عبد الله على تلك القواعد ستورا فطاف الناس بتلك الستور حتى بني عليها، وارتفع البناء وزاد في ارتفاعها على ما كانت عليه في بناء قريش تسعة أذرع، فكانت سبعا وعشرين ذراعا. زاد بعضهم وربع ذراع، وبناها على مقتضى ما حدثته به خالته عائشة رضي الله تعالى عنها، فأدخل فيه الحجر: أي لأنه يجوز أن يكون إدخال الحجر هو الذي سمعه من عائشة فعمل به دون غير ذلك من الروايات المتقدمة الدال على أن الحجر ليس من البيت، وإنما منه ستة أذرع وشبر أو قريب من سبعة أذرع. وفيه أن هذا أي قوله فأدخل فيه الحجر هو الموافق لما تقدم من أن قريشا أخرجت منها الحجر، وهو واضح إن كان وجد الأساس خارجا عن جميع الحجر. وأما إذا لم يكن خارجا عن جميع الحجر كيف يتعداه ولا يا بني عليه اعتمادا على ما حدثته به خالته عائشة رضي الله تعالى عنها. على أنه سيأتي عن نص حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوا فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من ستة أذرع» فليتأمل، وجعل لها خلفا: أي بابا من خلفها وألصقه بالأس كالمقابل له. قال: ولما ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود وكان في وقت الهدم وجد مصدعا بسبب الحريق كما تقدم، فشده بالفضة، ثم جعله في ديباجة، وأدخله في تابوت وأقفل عليه، وأدخله دار الندوة، فحين وصل البناء إلى محله أمر ابنه حمزة وشخصا آخر أن يحملاه ويضعاه محله وقال: إذا وضعتماه وفرغتما فكبرا حتى أسمعكما فأخفف صلاتي، فإنه صلى بالناس بالمسجد اغتناما لشغلهم عن وضعه لما أحس منهم بالتناقض في ذلك: أي أن كل واحد يريد أن يضعه وخاف الخلاف، فلما كبرا تسامع الناس بذلك، فغضب جماعة من قريش حيث لم يحضرهم. وكون الحجر وجد مصدعا بسبب الحريق، وكون ابن الزبير شده كذلك بالفضة لا ينافي ما وقع بعد ذلك من أن أبا سعيد كبير القرامطة وهم طائفة ملاحدة ظهروا

بالكوفة سنة سبعين ومائتين، يزعمون أن لا غسل من الجنابة، وحل الخمر، وأنه لا صوم في السنة إلا يوم النيروز والمهرجان، ويزيدون في أذانهم، وأن محمد ابن الحنفية رسول الله وأن الحج والعمرة إلى بيت المقدس وافتتن بهم جماعة من الجهال وأهل البراري، وقويت شوكتهم حتى انقطع الحج من بغداد بسببه وسبب ولده أبي طاهر، فإن ولده أبا طاهر بنى دارا بالكوفة وسماها دار الهجرة، وكثر فساده، واستيلاؤه على البلاد وقتله المسلمين وتمكنت هيبته من القلوب، وكثرت أتباعه، وذهب إليه جيش الخليفة المقتدر بالله السادس عشر من خلفاء بني العباس غير ما مرة وهو يهزمهم. ثم إن المقتدر سير ركب الحاج إلى مكة فوافاهم أبو طاهر يوم التروية فقتل الحجيج بالمسجد الحرام وفي جوف الكعبة قتلا ذريعا، وألقى القتلى في بئر زمزم، وضرب الحجر الأسود بدبوسه فكسره، ثم اقتلعه وأخذه معه، وقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها وشققها بين أصحابه، وهدم قبة زمزم وارتحل عن مكة بعد أن أقام بها أحد عشر يوما ومعه الحجر الأسود، وبقي عند القرامطة أكثر من عشرين سنة: أي والناس يضعون أيديهم محله للتبرك، ودفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع، وهو الرابع والعشرون من خلفاء بني العباس، فأعيد الحجر إلى موضعه، وجعل له طوق فضة شد به زنته ثلاثة آلاف وسبعمائة وتسعون درهما ونصف. قال بعضهم: تأملت الحجر وهو مقلوع فإذا السواد في رأسه فقط وسائره أبيض، وطوله قدر عظم الذراع. وبعد القرامطة في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة قام رجل من الملاحدة وضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بدبوس فتشقق وجه الحجر من تلك الضربات، وتساقطت منه شظيات مثل الأظفار، وخرج مكسره أسمر يضرب إلى الصفرة محببا مثل حب الخشخاش فجمع بنو شيبة ذلك الفتات وعجنوه بالمسك واللك وحشوه في تلك الشقوق وطلوه بطلاء من ذلك، وجعل طول الباب أحد عشر ذراعا والباب الآخر بإزائه كذلك. فلما فرغ من بنائها خلقها من داخلها وخارجها بالخلوق أي الطيب والزعفران، وكساها القباطيّ: أي وهي ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر. وفي كلام بعضهم أول من كسا الكعبة الديباج عبد الله بن الزبير. وأقول: وبناء عبد الله للكعبة من جملة أعلام النبوة لأنه من الإخبار بالمغيبات. ففي نص حديث عائشة رضي الله تعالى عنها «فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه

فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من ستة أذرع» وتقدم أن هذا يرد قول بعضهم: أن ابن الزبير أدخل في بنائه جميع الحجر. قال بعضهم: وهذا منه صلى الله عليه وسلم تصريح بالإذن في أن يفعل ذلك بعده صلى الله عليه وسلم عند القدرة عليه والتمكن منه. وقد قال المحب الطبري: وهذا الحديث يعني حديث عائشة رضي الله تعالى عنها يدل تصريحا وتلويحا على جواز التغيير في البيت إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة. قال الشهاب ابن حجر الهيتمي: ومن الواضح البين أن ما وهى وتشقق منها في حكم المنهدم أو المشرف على الانهدام فيجوز إصلاحه، بل يندب بل يجب هذا كلامه. وفي شعبان سنة تسع وثلاثين وألف جاء سيل عظيم بعد صلاة العصر يوم الخميس لعشرين من الشهر المذكور هدم معظم الكعبة، سقط به الجدار الشامي بوجهيه، وانحدر معه في الجدار الشرقي إلى حد الباب، ومن الجدار الغربي من الوجهين نحو السدس، وهدم أكثر بيوت مكة، وأغرق في المسجد جملة من الناس خصوصا الأطفال، فإن الماء ارتفع إلى أن سد الأبواب. وعند مجيء الخبر بذلك إلى مصر جمع متوليها الوزير محمد باشا وهو الوزير الأعظم الآن: أي في سنة ثلاثة وأربعين وألف جمعا من العلماء كنت من جملتهم، ووقعت الإشارة بالمبادرة للعمارة، وقد جعلت للوزير المذكور في ذلك رسالة لطيفة وقعت منه موقعا كبيرا، وأعجب بها كثيرا، حتى أنه دفعها لمن عبر عنها باللغة التركية، وأرسل بها لحضرة مولانا السلطان مراد أعز الله أنصاره، وذكرت فيها أن الحق أن الكعبة لم تبن جميعها إلا ثلاث مرات المرة الأولى: بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والثانية: بناء قريش، وكان بينهما ألفا سنة وسبعمائة سنة وخمس وسبعون سنة. والثالثة: بناء عبد الله بن الزبير: أي وكان بينهما نحو اثنتين وثمانين سنة: أي وأما بناء الملائكة وبناء آدم وبناء شيث لم يصح. وأما بناء جرهم والعمالقة وقصي فإنما كان ترميما. ولم تبن بعد هدمها جميعها إلا مرتين: مرة زمن قريش، ومرة زمن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه. وحينئذ يكون ما جاء في الحديث «استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع، وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة» معناه قد يهدم مرتين ويرفع في الهدم الثالث من الدنيا. وذكر الإمام البلقيني أن كون ابن الزبير أول من كسا الكعبة الديباج أشهر من

القول بأن أول من كساها الديباج أم العباس بن عبد المطلب كما سيأتي. وجاز أن يكون عبد الله بن الزبير كساها أوّلا القباطي ثم كساها الديباج، والله أعلم. وكان كسوتها: أي في زمن الجاهلية المسوح والأنطاع، فإن أول من كساها تبع الحميري، كساها الأنطاع ثم كساها الثياب الحميرية: أي وفي رواية كساها الوصائل: وهي برود حمر فيها خطوط خضر تعمل باليمن. وفي كلام الإمام البلقيني: ويروى أن تبعا اليماني لما كساها الخسف انتفضت فزال ذلك عنها فكساها المسوح والأنطاع فانتفضت، فزال ذلك عنها، فكساها الوصائل فقبلتها قال: والوصائل ثياب موصولة من ثياب اليمن. وفي الكشاف: كان تبع الحميري مؤمنا، وكان قومه كافرين، ولذلك ذم الله قومه ولم يذمه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا تبعا: فإنه كان قد أسلم» وعنه عليه الصلاة والسلام «ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي» . هذا: وقد نقل الشمس الحموي في كتابه «المناهج الزهية، والمباهج المرضية» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان نبيا. وقيل أول من كساها عدنان بن أدد، وكانت قريش تشترك في كسوة الكعبة حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة فقال لقريش: أنا أكسو الكعبة سنة وحدي. وجميع قريش سنة: أي وقيل كان يخرج نصف كسوة الكعبة في كل سنة، ففعل ذلك إلى أن مات فسمته قريش العدل، لأنه عدل قريشا وحده في كسوة الكعبة. ويقال لبنيه بنو العدل، وكانت كسوتها لا تنزع فكان كلما تجدد كسوة تجعل فوق، واستمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلم، ثم كساها النبي صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية. وفي كلام بعضهم: أول من كسا الكعبة القباطيّ النبي صلى الله عليه وسلم، وكساها أبو بكر وعمر وعثمان القباطي. وكساها معاوية الديباج والقباطي والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء والقباطي في آخر رمضان، والاقتصار على ذلك ربما يفيد أن عطف الحبرات على القباطي من عطف التفسير، فليتأمل. وكساها المأمون الديباج الأحمر والديباج الأبيض والقباطي، فكانت تكسى الأحمر يوم التروية، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان قال بعضهم: وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكل العباسي، ثم في زمن الناصر العباسي كسيت السواد من الحرير، واستمر ذلك إلى الآن في كل سنة، وكسوتها من غلة قريتين يقال لهما بيسوس وسندبيس من قرى القاهرة، وقفهما على

ذلك الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاون في سنة نيف وخمسين وسبعمائة: أي والآن زادت القرى على هاتين القريتين. والحاصل أن أول من كساها على الإطلاق تبع الحميري كما تقدم على الراجح، وذلك قبل الإسلام بتسعمائة سنة. قيل وسبب كسوة أم عمه صلى الله عليه وسلم لها الديباج أن العباس ضل وهو صبي فنذرت إن وجدته لتكسونّ الكعبة فوجدته، فكست الكعبة الديباج: أي وكانت من بيت مملكة. وقيل أول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان: أي وهو المراد بقول ابن إسحق أول من كساها الديباج الحجاج، لأن الحجاج كان من أمراء عبد الملك. وقد سئل الإمام البلقيني هل تجوز كسوة الكعبة بالحرير المنسوج بالذهب، ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف؟ فأجاب بجواز ذلك. قال: لما فيه من التعظيم لكسوتها الفاخرة التي ترجى بكسوتها الخلع السنية في الدنيا والآخرة. ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف، فإن في ذلك المناسبة للحال المنيف، هذا كلامه. أي وأول من حلى بابها بالذهب جده صلى الله عليه وسلم عبد المطلب، فإنه لما حفر بئر زمزم وجد فيها الأسياف والغزالتين من الذهب، فضرب الأسياف بابا لها، وجعل في ذلك الباب الغزالتين، فكان أول ذهب حليته الكعبة على ما تقدم. وأول من ذهب الكعبة في الإسلام عبد الملك بن مروان. وقيل عبد الله بن الزبير جعل على أساطينها صفائح الذهب، وجعل مفاتيحها من الذهب، وجعل الوليد ابن عبد الملك الذهب على الميزاب. يقال إنه أرسل لعامله على مكة ستة وثلاثين ألف دينار يضرب منها على باب الكعبة وعلى الميزاب وعلى الأساطين التي داخلها وعلى أركانها من داخل. وذكر أن الأمين بن هارون الرشيد أرسل إلى عامله بمكة بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة، فقطع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها ذلك، وجعل مساميرها وحلقتي الباب والعتب من الذهب وإن أمّ المقتدر الخليفة العباسي أمرت غلامها لؤلؤا أن يلبس جميع أسطوانات البيت ذهبا ففعل. وقال عبد الله بن الزبير لما فرغ من بنائها: من كان لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، فإن لم يقدر فشاة، ومن لم يقدر فليتصدق بما تيسر وأخرج مائة بدنة، فلما طاف استلم الأركان الأربعة جميعا، فلم تزل الكعبة على بناء عبد الله بن الزبير تستلم أركانها الأربعة: أي لأنها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويدخل إليها من باب ويخرج من باب، حتى قتل: أي قتله شخص من جيش الحجاج بحجر رماه به فوقع بين عينيه فقتل وهو

بالمسجد، لأن الحجاج كان أميرا على الجيش الذي أرسله عبد الملك بن مروان لقتاله. وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: أن اهدم ما زاده ابن الزبير فيها، أي يهدم البناء الذي جعله على آخر الزيادة التي أدخلها في الكعبة، وكانت قريش أخرجتها بدليل قوله وردها إلى ما كانت عليه، وسد الباب الذي فتح: أي وأن يرفع الباب الأصلي إلى ما كان عليه زمن قريش، واترك سائرها: أي لأنه اعتقد أن ابن الزبير فعل ذلك من تلقاء نفسه: فكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بأن عبد الله بن الزبير وضع البناء على أسّ قد نظر إليه العدول من أهل مكة: أي وهم خمسون رجلا من وجوه الناس وأشرافهم كما تقدم. فكتب إليه عبد الملك: لسنا من تخبيط ابن الزبير في شيء، فنقض الحجاج ما أدخل من الحجر وسد الباب الثاني، أي الذي في ظهر الكعبة عند الركن اليماني، ونقص من الباب الأول خمسة أذرع: أي ورفعه إلى ما كان عليه في زمن قريش، فبنى تحته أربعة أذرع وشبرا، وبنى داخلها الدرجة الموجودة اليوم. وفي لفظ أن الحجاج لما ظفر بابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس فيها وأحدث فيها بابا آخر، واستأذن في ردّ ذلك على ما كانت عليه في الجاهلية. فكتب إليه عبد الملك أن يسد بابها الغربي ويهدم ما زاد فيها من الحجر، ففعل ذلك الحجاج، فسائرها قبل وقوع هذا الهدم بالسيل الواقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف، وبنيانه على بنيان ابن الزبير إلا الحجاب الذي يلي الحجر، فإنه من بنيان الحجاج: أي والبناء الذي تحت العتبة وهو أربعة أذرع وشبر، فإن باب الكعبة كان على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لاصقا بالأرض حتى رفعته قريش كما تقدم، وما سد به الباب الغربي والردم كان بالحجارة التي كانت داخل أرض الكعبة، أي التي وضعها عبد الله بن الزبير: أي ولعله إنما وضع في ذلك المحل الحجارة التي تصلح للبناء، فلا ينافي ما أخبرني به بعض الثقات أن بعض بيوت مكة كان فيها بعض الحجارة التي أخرجت من الكعبة زمن عبد الله بن الزبير. ويقال إن ذلك البيت الذي كان فيه تلك الحجارة كان بيتا لعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه، وبناء الحجاج كان في السنة التي قتل فيها عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه وهي سنة ثلاث وسبعين. قيل ولما دخل عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه وهو محاصر، حاصره الحجاج خمسة أشهر وقيل سبعة أشهر وسبع عشرة ليلة على أمه أسماء رضي الله تعالى عنهما قبل قتله بعشرة أيام وهي شاكية: أي مريضة فقال لها: كيف تجدينك يا

أمه؟ قالت: ما أجدني إلا شاكية، فقال لها: إن في الموت لراحة فقالت: لعلك تبغيه لي ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قتلت، وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني. ولما كان اليوم الذي قتل فيه دخل عليها في المسجد، فقالت له: يا بنيّ لا تقبلنّ منهم حطة تخاف فيها على نفسك، الذي تخافه القتل، فو الله لضربة بالسيف في عزّ خير من ضربة سوط في ذل. ويقال إن الناس لا زالوا يتنقلون عن ابن الزبير إلى الحجاج لطلب الأمان وهو يؤمنهم، حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف حتى كان من جملة من خرج إليه حمزة وخبيب ابنا عبد الله بن الزبير وأخذ لأنفسهما أمانا من الحجاج فأمنهما. ودخل عبد الله على أمه فشكا إليها خذلان الناس له وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه فقد قتل أصحابك عليه، ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك كم خلودك في الدنيا، فدنا منها وقبل رأسها وقال: والله ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته. وبعد أن قتل وصلب على الجذع فوق الثنية ومضت ثلاثة أيام جاءت أمه أسماء رضي الله تعالى عنها تقاد، لأن بصرها كان قد كف حتى وقفت عليه، فدعت له طويلا ولم يقطر من عينها دمعة، وقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل، فقال لها الحجاج المنافق: رأيت كيف نصر الله الحق وأظهر أن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحجّ: الآية 25] وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم. وفي كلام سبط ابن الجوزي أن ابن الزبير لما قال لعثمان رضي الله تعالى عنه وهو محاصر إن عندي نجائب أعددتها لك فهل لك أن تنجو إلى مكة فإنهم لا يستحلونك بها، قال له عثمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يلحد رجل في الحرم من قريش أو بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم، فلن أكون أنا» . وفي رواية قال له، لا لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبد الله عليه مثل نصف أوزار الناس» هذا كلامه. وعندي أن المراد بعبد الله الحجاج لا ابن الزبير. ولا مانع أن يكون الحجاج من قريش على أن الذي في الصواعق لابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى أن القائل لعثمان ذلك المغيرة بن شعبة.

ولما سمعت سيدتنا أسماء رضي الله تعالى عنها الحجاج يقول في ولدها المنافق، قالت له: كذبت، والله ما كان منافقا، ولكنه كان صوّاما قوّاما برا كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنكه بيده، وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به، كان عاملا بكتاب الله، حافظا لحرم الله، يبغض أن يعصى الله عز وجل، قال: انصرفي فإنك عجوز قد خرفت، قالت: والله ما خرفت ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير» أما الكذاب فقد رأيناه تعني المختار بن أبي عبيد الثقفي والي العراق، فإنه لما قتل الحسين رضي الله تعالى عنه اتفق مع طائفة من الشيعة ممن كان خذل الحسين، ولما قتل ندموا على ذلك، فوافقوا المختار على مقاتلة من قتل الحسين من أهل الكوفة، فتوجهوا إليه وقتلوا جميع من قاتل الحسين وملكوا الكوفة وشكر الناس للمختار ذلك، ثم قالت: وأما المبير فأنت المبير. ولما بلغ عبد الملك ما قاله الحجاج لأسماء كتب إليه يلومه على ذلك: أي ومن ثم أرسل إليها الحجاج، فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول وقال: إما أن تأتيني أو لأبعثنّ إليك من يسحبك بقرونك، فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إليّ من يسحبني بقروني فعند ذلك أخذ نعليه ومشى حتى دخل عليها، فقال: يا أمه إن أمير المؤمنين أوصاني بك، فهل لك من حاجة؟ فقالت: لست لك بأمّ ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكن انتظر حتى أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير» فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت، فقال الحجاج: مبير للمنافقين. ومن كذب المختار أنه ادعى النبوّة وأنه يأتيه الوحي ويسر ذلك لأحبابه. وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال: كنت أقوم بالسيف على رأس المختار ابن أبي عبيد، فسمعته يوما يقول: قام جبريل عن هذه النمرقة، وفي رواية من على هذا الكرسي، فأردت أن أضرب عنقه، فتذكرت حديثا حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء الغدر يوم القيامة» فكففت عنه، ولعل هذا مستند ما نقل عن كتاب الإملاء لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه من القول بأن المسلم يقتل بالمستأمن. وقد كتب المختار للأحنف بن قيس وجماعته: وقد بلغني أنكم تسموني الكذاب وقد كذب الأنبياء من قبلي ولست بخير منهم. وقد كان يقع منه أمور تشبه الكهانة، منها أنه لما جهز جيشا لقتال عبيد الله بن زياد المجهز لمقاتلة الحسين رضي الله تعالى عنه كما تقدم قال لأصحابه في غد يأتي إليكم خبر النفير. وقتل ابن زياد فكان كما أخبر، وجيء برأس ابن زياد وألقيت بين

يدي المختار وكان قتله يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين. ثم قتل المختار، وكان قتل المختار على يد مصعب بن الزبير، جيء برأس المختار بين يدي مصعب لما ولي العراق من جانب أخيه لأبيه عبد الله بن الزبير. ومما يؤثر عن مصعب: العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين، ثم قتل مصعب وقطعت رأسه ووضعت بين يدي عبد الملك بن مروان. وعن بعضهم أنه حدّث عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين دخلت القصر قصر الإمارة بالكوفة فإذا رأس الحسين على ترس بين يديه عبيد الله بن زياد وعبيد الله ابن زياد على السرير. ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار والمختار على السرير. ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير ومصعب بن الزبير على السرير. ثم دخلت بعد ذلك بحين فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك وأنت على السرير، فقال عبد الملك لا أراك الله الخامسة ثم أمر بهدم ذلك القصر. وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن أبا الحجاج لما دخل بأم الحجاج واقعها، فنام فرأى قائلا يقول له في المنام: ما أسرع ما أنجبت بالمبير. وفي كلام سبط ابن الجوزي أن أم الحجاج كانت قبل أبيه مع المغيرة بن شعبة فطلقها بسبب أنه دخل عليها يوما فوجدها تتخلل حين انقلبت من صلاة الصبح، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لقذرة، وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة، كنت فبنت، قالت: والله ما فرحنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بنا، ولا هو شيء مما ظننت، ولكني استكت فأردت أن أتخلل من السواك، فندم المغيرة على طلاقها، فخرج فلقي يوسف بن أبي عقيل والد الحجاج، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلت عن سيدة نساء ثقيف وهي الفارعة، فتزوجها تنجب لك، فتزوجها فولدت له الحجاج. وفي حياة الحيوان إنها كانت قبل أبي الحجاج عند أمية بن أبي الصلت، هذا كلامه. وقد يقال لا مانع أنها تزوجت الثلاثة وإن تزوجها لأمية كان قبل المغيرة، وكونها سيدة نساء ثقيف يبعد القول بأنها المتمنية التي مر بها سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه وهي تنشد: هل من سبيل إلى خمر فأشربها الأبيات وأنه كان يعير بها فيقال له ابن المتمنية.

وفي مدة صلب عبد الله بن الزبير صارت أمه تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته. وذهب أخوه عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان يسأل في إنزاله عن الخشبة فأجابه وأنزله، قال غاسله: كنا لا نتناول عضوا من أعضائه إلا جاء معنا، فكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه، وقامت فصلت عليه أمه وماتت بعده بجمعة، ذكر ذلك في الاستيعاب، وقيل بعده بمائة يوم. قال الحافظ ابن كثير وهو المشهور. وبلغت من العمر مائة سنة، ولم يسقط لها سنّ، ولم ينكر لها عقل. وقتل مع ابن الزبير مائتان وأربعون رجلا، منهم من سال دمه في جوف الكعبة. وكان من جملة من قتل عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي. قتل يوم قتل ابن الزبير وقطع رأسه، وبعث الحجاج برأسه ورأس ابن الزبير إلى المدينة فنصبوهما وصاروا يقربون رأس عبد الله بن صفوان إلى رأس ابن الزبير كأنه يساره يلعبون بذلك، ثم بعثوا بهما إلى عبد الملك بن مروان. ولما وضعت رأس عبد الله بن الزبير بين يدي عبد الملك سجد وقال: والله كان أحب الناس إليّ وأشدهم إليّ إلفا ومودة، ولكن الملك عقيم: أي فإن الرجل يقتل ابنه أو أخاه على الملك فإذا فعل ذلك انقطعت بينهما الرحم، وستأتي مدحة عبد الملك لعبد الله بن الزبير، وتوبيخ أمير الجيش الذي أرسله يزيد لمقاتلته. وقد كان ابن الزبير قال لعبد الله بن صفوان: إني قد أقلتك بيعتي، فاذهب حيث شئت، فقال: إنما أقاتل عن ديني، وكان سيدا شريفا مطاعا حليما كريما قتل وهو متعلق بأستار الكعبة. وحينئذ يشكل كونه حرما آمنا. ومما يدل لما تقدم من أن عبد الله بن الزبير كان عنده سوء خلق، ما حكي أنه جاء إليه شخص فقال له: إن الناس على باب عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلبون العلم وإن الناس على باب أخيه عبيد الله يطلبون الطعام، فأحدهما يفقه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة، فدعا شخصا وقال له: انطلق إلى ابني العباس رضي الله تعالى عنهم وقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين اخرجا عني وإلا فعلت وفعلت، فخرجا إلى الطائف: أي وقيل ما خرج عبد الله من مكة إلى الطائف إلا لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحجّ: الآية 25] . فقد قال الشيخ محيي الدين بن العربي: اعلم أن الله تعالى قد عفا عن جميع الخواطر التي لا تستقر عندنا إلا بمكة، لأن الشرع قد ورد أن الله يؤاخذ فيه من يرد فيه بإلحاد بظلم، وكان هذا سبب سكنى عبد الله بن عباس بالطائف احتياطا لنفسه، لأنه ليس في قدرة الإنسان أن يدفع عن قلبه الخواطر. قال بعضهم: كان يقال من أراد الفقه والجمال والسخاء فليأت دار العباس،

الجمال للفضل، والسخاء لعبيد الله، والفقه لعبد الله. قال: ولما حج عبد الملك: أي وذلك في سنة خمس وسبعين قال له الحارث: أنا أشهد لابن الزبير بالحديث الذي سمعه من خالته عائشة رضي الله تعالى عنها قال: أنت سمعته منها؟ قال نعم، فجعل ينكت، بالمثناة فوق، بقضيب كان في يده الأرض ساعة، ثم قال: وددت أني كنت تركته يعني ابن الزبير وما تحمل. وفي رواية أن عبد الملك كتب إلى الحجاج وددت أنك تركت ابن الزبير وما تحمل وهذا هو الموافق لما في تاريخ الأزرقي أن الحرث وفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة رضي الله تعالى عنها ما كان يزعم أنه سمع منها في بناء الكعبة. قال الحرث: أنا سمعته منها، قال عبد الملك: أنت سمعته منها؟ الحديث وكون عائشة حدثت ابن الزبير بما ذكر لا ينافي ما في تاريخ ابن كثير عن بعضهم. قال سمعت ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما يقول: حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام» الحديث، وفي رواية «أن عائشة رضي الله تعالى عنها نذرت إن فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلي في البيت ركعتين، فلما فتحت مكة، أي وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتح لها باب الكعبة ليلا، فجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إنها لم تفتح ليلا قط، قال فلا تفتحها ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحجر وقال: صلي ههنا، فإن الحطيم» أي الحجر «من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة» أي الحلال «فأخرجوه من البيت، ولولا حدثان قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة، وأظهرت قواعد الخليل، وأدخلت الحطيم في البيت وألصقت العتبة على الأرض، ولئن عشت إلى قابل لأفعلن ذلك» ولم يعش عليه الصلاة والسلام ولم تتفرغ الخلفاء لذلك. وبما ذكر يعلم ما في قول الأصل فهدمها: أي عبد الملك وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد علمت أن الحجاج لم يبن إلا الحجاب الذي يليه الحجر، والبناء الذي تحت العتبة والدرجة التي في باطنها. وأما التراب الذي جعل في باطنها، فيحتمل أن يكون هو التراب الذي أخرجه عبد الله بن الزبير استمر باقيا فأعاده الحجاج، ويحتمل أنه غيره، ولم أقف على بيان ذلك في كلام أحد.

والشاذروان الذي أخرجه عبد الله بن الزبير من عرض الأساس الذي بنته قريش لأجل مصلحة استمساك البناء وثباته. ومن العجب ما حدث به بعضهم قال: كنت أميرا على الجيش الذي بعث به يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير بمكة، فدخلت مسجد المدينة، فجلست بجانب عبد الملك بن مروان، فقال لي عبد الملك: أنت أمير هذا الجيش؟ قلت نعم، قال ثكلتك أمك، أتدري إلى من تسير؟ تسير إلى أول مولود ولد في الإسلام: أي بالمدينة من أولاد المهاجرين، وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ابن ذات النطاقين يعني أسماء، وإلى من حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما والله إن جئته نهارا وجدّته صائما، وإن جئته ليلا وجدته قائما، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله في النار جميعا، فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه. وذكر بعضهم أن عبد الملك بن مروان لما رأى جيش يزيد متوجها إلى مكة قال: أعوذ بالله أيبعث الجيش إلى حرم الله، فضرب منكبه شخص كان يهوديا وأسلم وكان يقرأ الكتب وقال له: جيشك إليه أعظم. ويقال إن هذا اليهودي مرّ على دار مروان والد عبد الملك هذا، فقال: ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار: أي لأن مروان كان سببا لقتل عثمان، وعبد الملك ابنه كان سببا لقتل عبد الله بن الزبير، ووقع من الوليد بن يزيد بن عبد الملك الأمور الفظيعة. وسبب ولاية الحجاج على الجيش أنه قال لعبد الملك بن مروان: رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته فولني قتاله فولاه، فأرسله في جيش كثيف من أهل الشام، فحضر ابن الزبير ورمى الكعبة بالمنجنيق. ولما رمي به أرعدت السماء وأبرقت فخاف أهل الشام، فصاح الحجاج: هذه صواعق تهامة وأنا ابنها، ثم قام ورمى المنجنيق بنفسه فزاد ذلك، ولم تزل صاعقة تتبعها أخرى حتى قتلت اثني عشر رجلا فخاف أهل الشام زيادة. قال بعضهم: ولا زال الحجج يحضهم على الرمي بالمنجنيق، ولم تزل الكعبة ترمى بالمنجنيق حتى هدمت وحرقت أستارها حتى صارت كالفحم. أي وفيه أنه لو كانت هدمت أو حرقت لأعيد بناؤها أو أصلحت بالترميم، ولو وقع ذلك لنقل، لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، ولعل هذا اشتبه على بعض الرواة، ظن أن الذي وقع من جيش يزيد واقع من الحجاج. فإن قيل هلا أهلك الله من نصب المنجنيق على الكعبة كما أهلك أبرهة؟ قلنا لأن من نصب المنجنيق لم يرد هدم الكعبة، بخلاف أبرهة كما تقدم. وفيه أنه قد يشكل كونه حرما آمنا.

وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال حين وقع بينه وبين ابن الزبير: أي وأمره بأن يخرج إلى الطائف ويهدده على ما تقدم، قلت أبوه الزبير، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وجده أبو بكر، وجدّته صفية. وفي رواية عنه أنه قال: أما أبوه فحواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الزبير، وأما جده فصاحب الغار يريد أبا بكر، وأما أمه فذات النطاقين يريد أسماء، وأما خالته فأم المؤمنين يريد عائشة، وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد خديجة، وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته يريد صفية، ثم عفيف في الإسلام، وقارئ للقرآن. ولما قتل عبد الله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فجمع الحجاج الناس وخطبهم وقال في خطبته: ألا إن ابن الزبير كان من أخيار هذه الأمة إلا أنه نازع الحق أهله، إن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة اذكروا الله يذكركم. ومن أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم ما روي «أن عبد الله بن الزبير لما ولد نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هو هو، فلما سمعت بذلك أمه أمسكت عن إرضاعه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذئاب وذئاب عليها ثياب، ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه» . وفي حياة الحيوان: العرب إذا أرادوا مدح الإنسان قالوا كبش، وإذا أرادوا ذمه قالوا تيس، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم في المحلل: «التيس المستعار» . ويقال إن الحجاج بعد قتل ابن الزبير ذهب إلى المدينة وعلى وجهه لثام، فرأى شيخا خارجا من المدينة فسأله عن حال أهل المدينة، فقال شرّ حال، قتل ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من قتله؟ قال: الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله ورسله، من قليل المراقبة لله، فغضب الحجاج غضبا شديدا، ثم قال: أيها الشيخ أتعرف الحجاج إذا رأيته؟ قال نعم ولا عرّفه الله خيرا، ولا وقاه ضيرا، فكشف الحجاج اللثام عن وجهه وقال: ستعلم الآن إذا سال دمك الساعة، فلما تحقق الشيخ أنه الحجاج قال: إن هذا لهو العجب يا حجاج، أنا فلان أصرع من الجنون في كل يوم خمس مرات، فقال الحجاج: اذهب لا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه، وخلوص هذا من يد الحجاج من العجب، لأن إقدامه على القتل ومبادرته إليه أمر لم ينقل مثله عن أحد. وكان يخبر عن نفسه ويقول: إن أكبر لذاته سفك الدماء. قال بعضهم: والأصل في ذلك أنه لما ولد لم يقبل ثديا فتصور لهم إبليس في صورة الحرث بن كلدة طبيب العرب، وقال: اذبحوا له تيسا أسود، وألعقوه من دمه، واطلوا به

وجهه، ففعلوا به ذلك فقبل ثدي أمه. وذكر أنه أتي إليه بامرأة من الخوارج، فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه كلاما، فقال لها بعض أعوانه: يكلمك الأمير وأنت معرضة، فقالت: إني أستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فأمر بها فقتلت. وقد أحصي الذي قتل بين يديه صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا. ولما عزى سيدتنا أسماء عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم، وأمرها بالصبر قالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل، وقد جاء أن هذه البغي أول من يدخل النار. ويقال إن عبد الله بن الزبير قال لأمه يوم قتل: يا أمه إني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يعمد لإتيان منكر ولا عمل فاحشة. وفي كون عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما تأخر موته عن ابن الزبير نظر، فقد قيل: إن عبد الله بن عمر مات قبل ابن الزبير بثلاثة أشهر. وسبب موته أن الحجاج سفه عليه، فقال له عبد الله: إنك سفيه مسلط فغيره ذلك عليه، فأمر الحجاج شخصا أن يسمّ زجّ رمحه ويضعه على رجل عبد الله، ففعل به ذلك في الطواف، فمرض من ذلك أياما ومات. ويذكر أن الحجاج دخل ليعوده فسأله عمن فعل به ذلك وقال له: قتلني الله إن لم أقتله، فقال له عبد الله: لست بقاتل له، قال ولم؟ قال: لأنك الذي أمرته. وقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما للحجاج إنك سفيه مسلط، يشير إلى قول أبيه عمر رضي الله تعالى عنهما، فإنه لما بلغه أن أهل العراق حصبوا أميرهم: أي رجموه بالحجارة خرج غضبان فصلى فسها في صلاته، فلما سلم قال: اللهم إنهم قد لبسوا عليّ، فألبس عليهم، وعجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم، وكان ذلك قبل أن يولد الحجاج. ثم رأيت في تاريخ ابن كثير: لما مات ابن الزبير واستقر الأمر لعبد الملك بن مروان بايعه عبد الله بن عمر. ويوافقه ما في الدلائل للبيهقي أن ابن عمر وقف على ابن الزبير وهو مصلوب وقال: السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواما قواما وصولا للرحم. ويذكر أنه كان لعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما مائة غلام لكل غلام

منهم لغة لا يشاركه غيره فيها، وكان يكلم كل واحد منهم بلغته، وهذا أغرب مما استغرب. وهو أن ترجمان الواثق بالله من خلفاء بني العباس كان عارفا بألسن كثيرة، حتى قيل إنه يعرف أربعين لغة، ويماري فيها. وقد قال الحجاج لعروة بن الزبير يوما في كلام جرى بينهما: لا أم لك، فقال: إليّ تقول هذا وأنا ابن عجائز الجنة؟ يعني جدته صفية وعمته خديجة وخالته عائشة وأمه أسماء. وقال الحجاج يوما لشخص: ما تقول في عبد الملك بن مروان؟ فقال الرجل: ما أقول في رجل أنت سيئة من سيئاته. وقد أطلق سليمان بن عبد الملك لما ولي الخلافة من سجن الحجاج سبعين ألفا قد حبسهم للقتل ليس لواحد منهم ذنب يستوجب به الحبس فضلا عن القتل. وذكر أنه كان يحبس الرجال مع النساء، ولم يكن لحبسه بيوت أخلية، فكان الرجل يبول بجانب المرأة والمرأة تبول بجانب الرجل، فتبدو العورات، وكان كل عشرة في سلسلة، ويطعمهم خبز الدخن مخلوطا بالملح والرماد. ومر يوم جمعة فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ فقيل له أهل السجن يقولون قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون، فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعه. وآخر من قتله الحجاج من التابعين سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه، ولم يقتل بعد ابن جبير إلا رجلا واحدا. وقال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بفرعونها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم. وقال سليمان بن عبد الملك لرجل من أخصاء الحجاج بعد موت الحجاج: أبلغ الحجاج قعر جهنم؟ فقال: يا أمير المؤمنين يجيء الحجاج يوم القيامة بين أبيك عبد الملك، وبين أخيك الوليد بن عبد الملك، فضعه في النار حيث شئت. ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم، قال: مات رجل، فلما وضع على مغتسله استوى قاعدا وقال: نظرت بعيني هاتين. وأهوى بيديه إلى عينيه- الحجاج وعبد الملك في النار يسحبان بأمعائهما ثم عاد ميتا كما كان. والحجاج متأصل في الظلم. فقد رأيت بعضهم حكى أنه يقال في المثل: أظلم من ابن الجلندي، وهو المشار إليه بقوله تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف: الآية 79] وإنه من أجداد الحجاج، بينه وبينه سبعون جدا. واستحلف الحجاج رجلا في أمر فقال: لا والذي أنت في يديه غدا أذل مني بين يديك اليوم، فقال: والله إني يومئذ لذليل.

وأول من ضرب الدراهم في الإسلام الحجاج بأمر عبد الملك بن مروان، وكتب عليها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) [الإخلاص: الآية 1- 2] أي على أحد وجهي الدراهم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] وعلى وجهه الثاني اللَّهُ الصَّمَدُ (2) [الإخلاص: الآية 2] . ولم توجد الدراهم الإسلامية إلا في زمن عبد الملك بن مروان، وكانت الدراهم قبل ذلك رومية وكسروية. وفي زمن الخليفة المستنصر بالله وهو السابع والثلاثون من خلفاء بني العباس ضرب دراهم وسماها النقرة، وكانت كل عشرة بدينار، وذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة. ولما دخل سليمان بن عبد الملك المدينة سأل هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: أبو حازم، فأرسل إليه، فلما دخل عليه سأله فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من عمران إلى خراب، فقال له: وكيف القدوم على الله؟ قال: أما المحسن فكغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: يا ليت شعري، ما لنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله تعالى، فقال: في أي مكان أجده؟ فقال: في قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) [الانفطار: الآيتان 13 و 14] قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين، قال: فأي عباد الله أكرم؟ قال: أولو المروءة. وجاء أعرابي إلى سليمان بن عبد الملك هذا، فقال: يا أمير المؤمنين إني أكلمك بكلام فاحتمله، فإن وراءه إن قبلته ما تحب. فقال سليمان: هاته يا أعرابي، فقال الأعرابي: إني طلق لساني بما خرست عنه الألسن تأدية لحق الله. إنه قد اكتنفك رجال قد أساؤوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما استخلفك الله عليه، فإنهم لن يبالوا بالأمانة، وأنت مسؤول عما اجترموا فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله عيبا من باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: أنت ما أنت بأعرابي، فقد سللت لسانك وهو سيفك، قال: أجل يا أمير المؤمنين لك لا عليك. ولما حج بالناس قال لولد عمه وولى عهده عمر بن عبد العزيز: ألا ترى هذا الخلق، الذي لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ولا يسع رزقهم غيره؟ فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غدا خصماؤك عند الله، فبكى سليمان بكاء شديدا، ثم قال: بالله أستعين، وقال يوما لعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه حين أعجبه ما صار إليه من الملك: يا عمر كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال: يا أمير

المؤمنين هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، وملك لولا أنه هلك، وفرح لو لم يعقبه ترح، ولذات لو لم تقترن بآفات، وكرامة لو صحبتها سلامة، فبكى سليمان رحمه الله حتى أخضلت دموعه لحيته. وولاية عمر بن عبد العزيز بشّر بها جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. فعنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شين. وفي رواية: علامة، يملأ الأرض عدلا، فكان ولده عبد الله يقول كثيرا: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر بن الخطاب في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا. وفي رواية عنه كان يقول: يا عجبا يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر. قال بعضهم: فإذا هو عمر بن عبد العزيز، لأن أمه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. ومما يؤثر عن سليمان رحمه الله تعالى أنه لما ولي الخلافة وقام خطيبا قال: الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما شاء رفع، ومن شاء وضع، ومن شاء أعطى، ومن شاء منع، إن الدنيا دار غرور، تضحك باكيا وتبكي ضاحكا، وتخيف آمنا، وتؤمن خائفا. وقال في خطبة من خطبه أيضا: أيها الناس أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد؟ أسمعهم الداعي، واستردّ العواري، واضمحل ما كان كائن، لم يكن أذهب عنهم ثابت الحياة، وفارقوا القصور، واستبدلوا بلين الوطئ خشن التراب، فهم رهناء فيه إلى يوم المآب، فرحم الله عبدا مهد لنفسه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: الآية 30] . ولما ولي الخلافة أبو جعفر المنصور أراد أن يا بني الكعبة على ما بناها ابن الزبير وشاور الناس في ذلك، فقال له الإمام مالك بن أنس: أنشدك الله: أي بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة: أي أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس، فصرفه عن رأيه فيه. قال: وذكر الطبري في مناسكه أن الذي أراد ذلك ونهاه مالك هو الرشيد اهـ. أقول: وكونه الرشيد هو الذي ذكره المقريزي. واقتصر عليه، ولأن المنصور مات محرما ببئر ميمونة لستة أيام خلون من ذي الحجة فلم يدخل مكة. وقد يقال: يجوز أن يكون دخل المدينة قبل سيره إلى مكة، واستشار الناس في المدينة فقال له الإمام مالك ما تقدم، وأن الرشيد أيضا أراد ذلك، واستشار الإمام مالكا فأشار عليه بما ذكر.

ثم رأيت في تاريخ ابن كثير: لما كان في زمن المهدي بن المنصور استشار الإمام مالكا في ردها: أي الكعبة على الصفة التي بناها ابن الزبير، فقال له: إني أخشى أن تتخذها الملوك لعبة. ورأيت في كلام بعضهم أن المنصور حج، وأنه لما قضى الحج والزيارة توجه إلى زيارة بيت المقدس، ولعل هذا كان في حجة غير هذه التي مات فيها. ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور حج وهو خليفة أربع حجاب غير الحجة التي مات فيها. وكذا في «القرى لقاصد أم القرى» للطبري. وذكر أنه مات في الحجة الخامسة قبل يوم التروية بيومين، وأنه أحرم في بعض حججه من بغداد. وقد ذكر الشيخ الصفوي أن المنصور بلغه أن سفيان الثوري ينقم عليه في عدم إقامة الحق، فلم توجه المنصور إلى الحج وبلغه أن سفيان بمكة أرسل جماعة أمامه، وقال لهم: حيثما وجدتم سفيان خذوه واصلبوه، فنصبوا الخشب ليصلبوا سفيان عليه، وكان سفيان بالمسجد الحرام، رأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر سفيان بن عيينة، فقيل له خوفا عليه: بالله لا تشمت بنا الأعداء، قم فاختف، فقام ومشى حتى وقف بالملتزم وقال:: ورب هذه الكعبة لا يدخلها يعني مكة المنصور، وكان وصل إلى الحجون فزلقت به راحلته فوقع عن ظهرها ومات من فوره، فخرج سفيان وصلى عليه، هذا كلامه. وقد يقال: لا مخالفة بين هذا وبين ما تقدم أنه مات ببئر ميمونة، لأنه يجوز أن يكون المراد بوصوله إلى الحجون وصول خيله وركبه فليتأمل. ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور لما خرج للحج وجاوز الكوفة بمراحل، أخذه وجعه الذي مات فيه، وأفرط به الإسهال، ودخل مكة فنزل بها وتوفي، ولعل هذا لا يخالف ما سبق، لأنه يجوز أنه أطلق مكة على المحل القريب منها، وأنه مع انطلاق بطنه زلقت به فرسه. قيل وآخر ما تكلم به المنصور: اللهم بارك لي في لقائك. ومما يؤثر عنه: أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه، والله أعلم. وتقدم أن قصيا لما أمر قريشا أن تبني حول الكعبة بيوتها، فبنيت بيوتها من جهاتها الأربع وتركوا قدر المطاف، واستمر الأمر على ذلك زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فلما ولي عمر رضي الله تعالى عنه رأى أن يوسع حول الكعبة، فاشترى دورا وهدمها ووسع حول الكعبة، وبنى جدارا قصيرا على ذلك، وجعل فيه أبوابا، ثم وسعه عثمان، ثم عبد الله بن الزبير.

باب: ما جاء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان وعلى غير ألسنتهم، وما سمع من الهواتف ومن بعض الوحوش ومن بعض الأشجار، وطرد الشياطين من استراق السمع عند مبعثه بكثرة

ثم إن عبد الملك بن مروان رفع الجدران وسقفه بالساج، ثم إن الوليد بن عبد الملك نقض ذلك، ونقل إليه الأساطين الرخام، وسقفه بالساج المزخرف، وأزر المسجد بالرخام، ثم زاد فيه المنصور ورخم الحجر، ثم زاد فيه المهدي أولا وثانيا حتى صارت الكعبة في وسط المسجد. وفي أيام المعتضد أدخلت دار الندوة في المسجد، وتسمى مكة فاران، وتسمى قرية النمل لكثرة نملها، أو لأن الله سلط فيها النمل على العماليق لما أظهروا فيها الظلم حتى أخرجهم من الحرم كما تقدم، ولها أسماء كثيرة قد أفردها صاحب القاموس بمؤلف. أقول: وسيأتي عن الإمام النووي أنه قال: ليس في البلاد أكثر أسماء من مكة والمدينة، والله أعلم. قال: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «خلقت الكعبة أي موضعها قبل الأرض بألفي سنة، كانت حشفة على الماء، عليها ملكان يسبحان، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الأرض دحاها منها، فجعلها في وسط الأرض» انتهى. وسئل الجلال السيوطي رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الأعراف: 54] هل كانت أيام ثم موجودة قبل خلق السموات والأرض؟. فأجاب: بأن خلق السموات والأرض وخلق الأيام كان دفعة واحدة من غير تقديم لأحدهما على الآخر، واستند في ذلك لمأثور التفسير. وفي الحديث «إن الله حرم مكة قبل أن يخلق السموات والأرض» الحديث. وحينئذ فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرم مكة» معناه أظهر حرمتها. باب: ما جاء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان وعلى غير ألسنتهم، وما سمع من الهواتف ومن بعض الوحوش ومن بعض الأشجار، وطرد الشياطين من استراق السمع عند مبعثه بكثرة تساقط النجوم، وما وجد من ذكره صلى الله عليه وسلم مكتوبا من النبات والأحجار وغيرهما قال ابن إسحق: وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه. أما الأحبار من

يهود والرهبان من النصارى، فلما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه. وأما الكهان من العرب، فجاءهم به الشياطين فيما تسترق به من السمع، إذ كانت لا تحجب عن ذلك كما حجبت عند الولادة والمبعث، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره، ولا تلقي العرب لذلك بالا حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرونها فعرفوها. وهذا فيه تصريح بأن الملائكة كانت تذكره صلى الله عليه وسلم في السماء قبل وجوده. فأما أخبار الأحبار من اليهود فمنها ما تقدم ذكره. ومنها ما جاء عن سلمة بن سلامة وكان من أصحاب بدر قال: كان لنا جار من يهود بني عبد الأشهل، فذكر أي عند قوم أصحاب أوثان القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، فقالوا له: ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال نعم، والذي يحلف به، وليودّ أي الشخص أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، بأن ينجو من تلك النار غدا، فقالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبيّ يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن، قالوا ومن يراه؟ فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنا، فقال: إن يستنفد: أي يستكمل هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو: أي ذلك اليهودي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر بغيا وحسدا فقلنا له: ويحك يا فلان، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به. ومن ذلك ما جاء عن عمرو بن عنبسة السلمي رضي الله تعالى عنه قال: رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية: أي ترك عبادتها، قال: فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء: أي وهي قرية بين المدينة والشام فقلت: إني امرؤ ممن يعبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم إله فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار، فيعين ثلاثة لقذره أي يستنجي بها، ويجعل أحسنها إلها يعبده، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه شكلا قبل أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره وإذا نزل منزلا سواه ورأى ما هو أحسن منه تركه وأخذ ذلك الأحسن، فرأيت أنه إله باطل لا ينفع ولا يضر، فدلني على خير من هذا، قال: يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه، ويدعو إلى غيرها. فإذا رأيت ذلك فاتبعه، فإنه يأتي بأفضل الدين، فلم يكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة، آتي فأسأل هل حدث حدث؟ فيقال لا، ثم قدمت مرة فسألت، فقيل لي: حدث، رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، فشددت راحلتي ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزله بمكة، فسألت عنه فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا عليه أشداء، فتلطفت له حتى دخلت عليه، فسألته: أي شيء أنت؟ قال نبي. قلت: من نبأك؟ قال الله.

قلت: وبم أرسلك؟ قال «بعبادة الله وحده لا شريك له، وبحقن الدماء، وبكسر الأوثان، وصلة الرحم، وأمان السبيل» فقلت: نعم ما أرسلت به، قد آمنت بك وصدقتك، أتأمرني أن أمكث معك أو أنصرف؟ فقال: ألا ترى كراهة الناس ما جئت به، فلا تستطيع أن تمكث، كن في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني، فكنت في أهلي حتى خرج صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فسرت إليه، فقدمت المدينة، فقلت يا نبي الله أتعرفني؟ قال: «نعم أنت السلمي الذي أتيتني بمكة» . ومن ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهداه ما كنا نسمع من أحبار يهود. كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وإرم: أي يستأصلكم بالقتل فكان كثيرا ما نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله عز وجل وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا ففي ذلك نزلت هذه الآيات في البقرة وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) [البقرة: الآية 89] . ومن ذلك ما حدث به شيخ من بني قريظة قال: إن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان أي الجبان، قدم إلينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه: أي لا أظن أحدا من غير المسلمين، لأن المسلمين يصلون الخمس فلا أصلية لا زائدة، فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر: أي احتبس قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي نجواكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول صاعا من تمر ومدين من شعير فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا فو الله ما يبرح من محله حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة: أي لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا بل أكثر من ذلك، ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت، قال: يا معشر يهود ما ترينه أخرجني من أهل الخمر- بالتحريك وبإسكان الميم: الشجر الملتف والخمير- إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم، قال: فإنما قدمت هذه الأرض أتوكف: أي أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه: أي أقبل وقرب كأنه لقربه أظلهم: أي ألقى عليهم ظله وهذا البلد مهاجره، وكنت أرجو أن يبعث فاتبعه، فقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وبسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه، فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة، قال لهم نفر من هدل- بفتح الهاء وفتح الدال المهملة- وقيل بسكونها إخوة بني

قريظة، وهم ثعلبة بن سعية وأسد بن سعية، ويقال أسيد بالتصغير وأسد بن عبيد وكانوا شبانا أحداثا، يا بني قريظة والله إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم كما سيأتي. قال: ومن ذلك خبر العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال: خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب فيه أبو سفيان بن حرب، فورد كتاب حنظلة بن أبي سفيان: إن محمدا قائم في أبطح مكة يقول: أنا رسول الله أدعوكم إلى الله، ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن فجاءنا حبر من اليهود فقال: بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال. قال العباس: فقلت نعم، قال نشدتك الله هل كان لابن أخيك صبوة؟ قلت: لا والله ولا كذب ولا خان، وما كان اسمه عند قريش إلا الأمين. قال: هل كتب بيده؟ فأردت أن أقول نعم، فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويرد عليّ، فقلت: لا يكتب، فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود، قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن يهود تفزع من ابن أخيك فقلت: قد رأيت لعلك أن تؤمن به، قال: لا أومن به حتى أرى الخيل في كداء: أي بالمد. قلت ما تقول: قال كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع على كداء، قال العباس: فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونظر أبو سفيان إلى الخيل قد طلعت من كداء. قلت: يا أبا سفيان تذكر تلك الكلمة قال: إي والله إني لأذكرها انتهى. أي ومن ذلك ما جاء عن أمية بن أبي الصلت الثقفي قال لأبي سفيان: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا فكنت أظن أني هو، وكنت أتحدث بذلك، ثم ظهري لي أنه من بني عبد مناف، فنظرت فلم أجد فيهم من هو متصف بأخلاقه إلا عتبة بن ربيعة، إلا أنه قد جاوز الأربعين ولم يوح إليه، فعرفت أنه غيره. قال أبو سفيان: فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قلت لأمية، فقال أمية: أما إنه حق فاتبعه. فقلت له: فأنت ما يمنعك قال: الحياء من نساء ثقيف، إني كنت أخبرهن أني هو، ثم أصير تبعا لفتى من بني عبد مناف، وسيأتي ذلك بأبسط مما هنا. وأما أخبار الرهبان من النصارى، فمنها ما تقدم ذكره. قال: ومنها خبر طلحة بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم هل فيكم أحد من أهل الحرم؟ فقلت نعم أنا، قال هل ظهر أحمد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، أي الذي يبعث فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخلة وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة، فوقع في قلبي ما قال الراهب، فلما قدمت مكة حدثت أبا بكر بذلك، فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم

فأخبره، فسر بذلك وأسلم طلحة. فأخذ نوفل بن العدوية أبا بكر وطلحة رضي الله تعالى عنهما فشدهما في حبل واحد، فلذلك سميا القرينين اهـ. أقول: يحتمل أن هذا الراهب هو بحيرا، ويحتمل أن يكون نسطورا، لأن كلا منهما كان ببصرى كما تقدم في سفره. ويحتمل أن يكون غيرهما، وهو أولى، لما تقدم أن كلا من بحيرا ونسطورا لم يدرك البعثة والله أعلم. أي ومنها ما حدث به سعيد بن العاص بن سعيد، قال: لما قتل أبي العاص يوم بدر كنت في حجر عمي أبان بن سعيد، وكان يكثر السب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج تاجرا إلى الشام فمكث سنة ثم قدم، فأول شيء سأل عنه قال: ما فعل محمد؟ قال له عمي عبد الله بن سعيد: هو والله أعز ما كان وأعلاه، فسكت ولم يسبه كما كان يسبه، ثم صنع طعاما وأرسل إلى سراة بني أمية أي أشرافهم، فقال لهم: إني كنت بقرية فرأيت بها راهبا يقال له بكاء لمن ينزل إلى الأرض منذ أربعين سنة: أي من صومعته، فنزل يوما، فاجتمعوا ينظرون إليه، فجئت فقلت: إن لي حاجة، فقال: ممن الرجل؟ فقلت: إني من قريش، وإن رجلا هناك خرج يزعم أن الله أرسله، قال: ما اسمه؟ فقلت محمد، قال: منذ كم خرج؟ فقلت عشرين سنة، قال: ألا أصفه لك؟ قلت بلى فوصفه، فما أخطأ في صفته شيئا، ثم قال لي: هو والله نبي هذه الأمة، والله ليظهرن، ثم دخل صومعته وقال لي اقرأ عليه السلام، وكان ذلك في زمن الحديبية: أي والحديبية سيأتي أنها كانت سنة ست فالعشرون تقريب. أي ومنها ما حدث به حكيم بن حزام بالزاي رضي الله تعالى عنه قال: دخلنا الشام لتجارة قبل أن أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأرسل إلينا ملك الروم فجئناه، فقال: من أي العرب أنتم؟ من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال حكيم: فقلت يجمعني وإياه الأب الخامس، فقال: هل أنتم صادقيّ فيما أسألكم عنه؟ فقلنا نعم، فقال: أنتم ممن اتبعه أم ممن رد عليه؟ فقلنا: ممن رد عليه وعاداه، فسألنا عن أشياء مما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، ثم نهض واستنهضنا معه، فأتى محلا في قصره وأمر بفتحه، وجاء إلى ستر فأمر بكشفه فإذا صورة رجل، فقال أتعرفون من هذه صورته؟ قلنا لا، قال: هذه صورة آدم، ثم تتبع أبوابها ففتحها ويكشف عن صور الأنبياء ويقول: أما هذا صاحبكم؟ فنقول لا، فيقول لنا هذه صورة فلان، حتى فتح بابا وكشف عن صورة، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا نعم، هذا صورة محمد بن عبد الله صاحبنا، قال: أتدرون متى صورت هذه الصور؟ قلنا لا، قال: منذ أكثر من ألف سنة، وإن صاحبكم لنبي مرسل فاتبعوه، ولوددت أني عبده فأشرب ما يغسل من قدميه.

ووقع نظير ذلك لجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه، وأنه رأى صورة أبي بكر آخذه بعقب تلك الصورة، وإذا صورة عمر آخذة بعقب صورة أبي بكر، فقال: من ذا الذي آخذ بعقبه؟ قلنا نعم هو ابن أبي قحافة، قال: فهل تعرف الذي آخذ بعقبه؟ قلت نعم هو عمر بن الخطاب. قال: أشهد أن هذا رسول الله، وأن هذا هو الخليفة بعده، وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا. ومنها ما حدّث به سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ بفتح الجيم وتشديد الياء: أي وفي لفظ: من قرية من قرى الأهواز يقال لها رامهرمز، وفي لفظ: ولدت برامهرمز وبها نشأت، وأما أبي فمن أصبهان، وكان أبي دهقان قريته: أي كبير أهل قريته: أي وفي لفظ: كنت من أبناء أساوة فارس، وكنت أحب خلق الله تعالى إلى أبي، لم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار بفتح القاف وكسر الطاء المهملة ويروى بفتحها بمعنى قاطن: أي خادمها الذي يوقدها، لا يتركها تخبأ: أي تطفأ ساعة. وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي: يا بنيّ إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم، فاذهب إليها وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني، إن احتبست عني كنت أهمّ إليّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري، فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون؟ فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت: والله هذا خير من الذي نحن عليه، فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أهل هذا الدين؟ قالوا بالشام، فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بنيّ أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فو الله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بنيّ ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا، والله إنه لخير من ديننا، قال: فخافني أي خاف مني أن أهرب، فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته، وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم، فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة فأخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي، ثم قدمت معهم إلى الشام، فلما قدمتها قلت من أجلّ هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، والأسقف بتخفيف الفاء وتشديدها: هو عالم النصارى ورئيسهم في الدين، فجئته فقلت له: إني

قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، فأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه أشياء منها اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ثم مات، فاجتمعت النصارى ليدفنوه. فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا، فقالوا لي: وما أعلمك بذلك؟ فقلت: أنا أدلكم على كنزه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا. وفي رواية: وجدوا ثلاثة قماقم فيها نحو نصف أردب فضة، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة: أي ولم يصلوا عليه صلاتهم مع أن هذا الراهب كان يصوم الدهر، وكان تقيا عن الشهوات. ومن ثم قال في الفتوحات المكية: أجمع أهل كل ملة على أن الزهد في الدنيا مطلوب. وقالوا: إن الفراغ من الدنيا أحب لكل عاقل خوفا على نفسه من الفتنة التي حذرنا الله تعالى منها بقوله: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: الآية 28] هذا كلامه. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رضي الله تعالى عنه: ومن فوائد الرهبان أنهم لا يدّخرون قوت الغد، ولا يكنزون فضة ولا ذهبا. قال: ورأيت شخصا قال لراهب: انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي الملوك؟ فلم يرض، وقال: النظر إلى الدنيا منهيّ عنه عندنا. قال: ورأيت الرهبان مرة، وهم يسحبون شخصا ويخرجونه من الكنيسة، ويقولون له: أتلفت علينا الرهبان، فسألت عن ذلك، فقالوا رأوا على عاتقه نصفا مربوطا. فقلت لهم: ربط الدرهم مذموم؟ فقالوا: نعم عندنا وعند نبيكم صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه. وعند ذلك جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه: أي لا أظن أحدا غير المسلمين أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، فأحببته حبا شديدا لم أحبه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا حتى حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصني؟ قال: أي بنيّ، والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فلما مات وغيب: أي دفن لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل. فلما احتضر، قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق

بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: يا بنيّ والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به. فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فو الله ما لبث أن نزل به الموت، فلما احتضر: أي حضرته الملائكة لقبض روحه، قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان، ثم إن فلانا أوصى بي إليك، فإلى من توصي بي وإلى من تأمرني؟ قال: يا بنيّ والله ما أعلم بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته. فلما مات وغيب: أي دفن لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، فاكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله تعالى. فلما احتضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: أي بنيّ، والله ما أعلم أصبح ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل: أي أقبل وقرب زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات. يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ثم مات وغيب. أقول: وهذا السياق يدل على أن الذين اجتمع بهم من النصارى على دين عيسى أربعة. وفي كلام السهيلي أنهم ثلاثون، وفي النور أنهم بضعة عشر، وأن هذا أظهر، والله أعلم. قال سلمان: ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتي هذه وغنمي هذه، فقالوا نعم، فأعطيتهموها: أي أعطيتهم إياها، وحملوني معهم حتى إذا بلغوا بي وادي القرى: وهو محل من أعمال المدينة المنوّرة ظلموني، فباعوني إلى رجل يهودي. فمكثت عنده، فرأيت النخل، فرجوت أن تكون البلدة التي وصف لي صاحبي ولم يحق عندي: أي لم أتحقق ذلك. فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عمّ له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة. فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها: أي تحققتها بصفة صاحبي، فأقمت بها. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة، فو الله إني لفي رأس عذق: أي نخل لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عمّ له حتى وقف عليه. فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة: أي وهم الأوس والخزرج، لأن قيلة أمهما. فقد جاء

«إن الله أمدّني بأشد العرب ألسنا وأدرعا، بابني قيلة الأوس والخزرج» والله إنهم الآن لمجتمعون بقبا بالمد والقصر، وربما قيل قباة- بتاء التأنيث والقصر- على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، فلما سمعتها أخذتني العرواء: وهي الحمى النافض: أي الرعدة، والبرحاء: الحمى الصالب حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ما تقول؟ فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك، فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أثبته فيما قال وقد كان عندي شيء جمعته: أي وهو محتمل لأن يكون تمرا، ولأن يكون رطبا. فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه، فقلت له: إني قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقرّبته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كلوا وأمسك يده، فلم يأكل. فقلت في نفسي هذه واحدة: أي ومن ثم لما أخذ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وهو طفل تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة» رواه مسلم. وروي أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها» ووجد صلى الله عليه وسلم تمرة فقال: «لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها» وقال: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» وفي رواية «إن هذه الصدقات، إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» والراجح من مذهبنا حرمة الصدقتين عليه صلى الله عليه وسلم وحرمة صدقة الفرض دون النفل على آله. وقال الثوري: لا تحل الصدقة لآل محمد لا فرضها ولا نفلها ولا لمواليهم، لأن مولى القوم منهم، بذلك جاء الحديث. قال سلمان: ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا هو أيضا يحتمل أن يكون تمرا ولأن يكون رطبا. وتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي: هاتان ثنتان: أي ومن ثم روى مسلم «كان إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قيل هدية أكل منها، وإن قيل صدقة لم يأكل منها» . قال سلمان: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد، وقد تبع جنازة رجل من أصحابه: أي وهو كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء لما قدم المدينة. وقيل هو أول من دفن به، وقيل أول من دفن به أسعد بن زرارة، وقيل أوّل

من دفن به عثمان بن مظعون. وجمع بأن أوّل من دفن به من المهاجرين عثمان: أي وقد مات في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة. وأول من دفن به من الأنصار كلثوم أو أسعد: أي وفي الوفيات لابن زيد: مات كلثوم، ثم من بعده أبو أمامة أسعد بن زرارة في شوّال من السنة الأولى من الهجرة، ودفن بالبقيع هذا كلامه، ولم يذكر الوقت الذي مات فيه كلثوم. وفي النور عن الطبري أنه مات بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بأيام قليلة. وأوّل من مات من الأنصار البراء بن معرور، مات قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا بشهر. ولما حضره الموت أوصى بأن يدفن ويستقبل به الكعبة ففعلوا به ذلك، ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى على قبره هو وأصحابه وكبر أربعا، ولم أقف على محل دفنه. وقولهم إن أول من دفن بالبقيع كلثوم يدل على أن البراء لم يدفن بالبقيع إلا أن يراد الأولية بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة. والظاهر أن هذه أول صلاة صليت على القبر. قال سلمان: وكان عليه الصلاة والسلام عليه شملتان وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه، ثم ابتدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي؟ فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، فتحولت بين يديه فقصصت عليه حديثي. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه: أي وفي شواهد النبوة لما جاء سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فطلب ترجمانا فأتى بتاجر من اليهود كان يعرف الفارسية والعربية، فمدح سلمان النبي صلى الله عليه وسلم وذم اليهود بالفارسية فغضب اليهودي وحرف الترجمة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم إن سلمان يشتمك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الفارسي جاء ليؤذينا فنزل جبريل وترجم عن كلام سلمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: أي الذي ترجمه له جبريل لليهودي، فقال اليهودي: يا محمد إن كنت تعرف الفارسية فما حاجتك إلي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما كنت أعلمها من قبل والآن علمني جبريل أو كما قال. فقال اليهودي: يا محمد قد كنت قبل هذا أتهمك والآن تحقق عندي أنك رسول الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: علم سلمان العربية. فقال: قل له ليغمض عينيه ويفتح فاه ففعل سلمان، فتفل جبريل في فيه فشرع سلمان يتكلم بالعربي الفصيح، وهذا السياق يدل على أن ذلك كان عند مجيئه في المرة الثالثة. وحينئذ يشكل مجيئه أولا وثانيا وقوله ما تقدم بالعربية إلا أن يقال ذاك لقلته سهل عليه أن يعبر عنه بالعربية، بخلاف حكاية حاله لكثرته لم يحسن أن يعبر عنه بالعربية. قال: وقد اختلفت الروايات عن سلمان في الشيء الذي جاء به للنبي صلى الله عليه وسلم أولا

وثانيا، فالرواية الأولى المتقدمة ظاهرها يقتضي أنه تمر اهـ: أي وفيه من أين أن ظاهرها ذلك: بل هي محتملة، وقد جاء التصريح بكونه تمرا في الأولى والثانية. ففي بعض الروايات: فسألت سيدي أن يهب لي يوما ففعل، فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر وجئت به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته لا يأكل الصدقة سألت سيدي أن يهب لي يوما آخر فعملت فيه على ذلك: أي على صاع أو صاعين من تمر، ثم جئت به النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وأكله منه. أي والذي في كلام السهيلي قال سلمان: كنت عبدا لامرأة فسألت سيدتي أن تهب لي يوما، الحديث. وقد يقال: لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عني بسيدته زوجة سيده، لأنه يقال لها سيدة في المتعارف بين الناس، أو أن المرأة هي التي اشترته، ويؤيده ما يأتي، وزوج تلك المرأة يقال له في المتعارف بين الناس سيد. قال: وقيل إن الذي جاء به أولا وثانيا رطب. وفي رواية: احتطبت حطبا فبعته واشتريت بذلك طعاما والطعام خبز ولحم. وفي رواية جئت بمائدة عليها بط. وفي رواية عليها رطب. وجمع بأنه أولا قدم الخبز واللحم الذي هو البط والتمر، ثم قدم الرطب فلم يتحد المقدم. وفي مسند الإمام أحمد أن المرات ثلاث، وأن المقدم فيها متحد اهـ. أقول: تقديم الرطب في المرة الثانية يخالفه ما تقدم أنه في المرة الثانية كان تمرا، والله أعلم. ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد، فكان أول مشاهده الخندق كما سيأتي، وكان بعد ذلك يقال له سلمان الخير، وكان معدودا من أخصائه صلى الله عليه وسلم. قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أي ودية، على وزن فعيلة: وهي النخلة الصغيرة التي يقال لها الفسيلة أحييها له، بالتفقير بالفاء ثم القاف: أي الحفر؟ أي ومن ثم قيل للبئر الفقير: أي احفر لها واغرسها بتلك الحفرة وتصير حية بتلك الحفرة: أي وأتعهدها إلى أن تثمر. والودية والفسيلة: هي النخلة الصغيرة التي جرت العادة بأن تنقل من المحل الذي تنبت فيه إلى محل آخر، لكن في كلام بعضهم: إذا خرجت النخلة من النواة قيل لها غريسة ثم يقال لها ودية، ثم فسيلة، ثم إشاءة، فإذا فاتت اليد فهي جبارة ويقال للنخلة الطويلة عوانة بلغة عمان. وفي الحديث «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليغرسها» وعلى أربعين أوقية أي من ذهب كما سيأتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل الرجل بستين، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل يعين بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية» قال: وفي رواية «أنه كوتب على أن يغرس لهم خمسمائة فسيلة» : أي يحفر لها ويغرسها أي ويتعهدها إلى أن تثمر وعلى أربعين أوقية. قال سلمان: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب يا سلمان ففقر: أي بالفاء. وفي رواية فنقر أي بالنون: أي احفر لها، فإذا فرغت فائتني أنا أضعها بيدي ففقرت. وفي رواية فنقرتها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، فيضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي عليّ المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة: أي وفي رواية مثل بيضة الحمامة من ذهب من بعض المعادن، ولعل هذه البيضة كانت مترددة بين بيضة الدجاجة وبين بيضة الحمامة: أي أكبر من بيضة الحمامة وأصغر من بيضة الدجاجة، فاختلف فيها التشبيه، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما فعل الفارسي المكاتب؟» فدعيت له. فقال: «خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان: أي تكون بعضا مما عليك» . وحينئذ قد يتوقف في جواب سلمان بقوله قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليّ لأن النبي يؤدي بعضه وإن قل ذلك البعض. إلا أن يقال العادة قاضية بأن ذلك البعض لا يقبل إلا إذا كان له وقع بالنسبة لكله. وقد أشار صلى الله عليه وسلم للرد على سلمان بأن هذا الذي قلت فيه إنه لا يحسن أن يكون بعضا مما عليك يوفي به الله عنك جميع ما عليك، حيث قال: خذها فإن الله سيؤدي بها عنك، فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم: أي وبقي عندي مثل ما أعطيتهم. قال: وهذا أي سؤال سلمان وجوابه صلى الله عليه وسلم كالصريح في أن الأواقي التي كاتب عليها كانت ذهبا لا فضة. وقد جاء أي مما يدل على ذلك في بعض الروايات أن سلمان لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم وأين تقع هذه مما عليّ؟ فقلبها صلى الله عليه وسلم على لسانه ثم قال: «خذها فأوفهم منها» . وأيضا أي مما يدل على ذلك أيضا أن المعلوم أن قدر بيضة الدجاجة من الذهب يعدل أكثر من أربعين أوقية من الفضة اهـ: أي فلا يحسن قول سلمان وأين تقع هذه مما عليّ وقد صرح بذلك أي بكونها ذهبا البلاذري والقاضي عياض في الشفاء، فقالا: على. أربعين أوقية من ذهب، وإلى القصة أشار صاحب الهمزية بقوله: ووفى قدر بيضة من نضار ... دين سلمان حين حان الوفاء كان يدعى قنا فأعتق لما ... أينعت من نخيله الأقناء

أفلا تعذرون سلمان لما ... أن عرته من ذكره العرواء أي ووفى قدر بيضة من بيض الدجاج أو الحمام من ذهب دين سلمان، وهو أربعون أوقية من ذهب حين قرب حلول الدين، وتقدم أنه وفي دينه منها وبقي عنده منها قدر ما أعطاهم. وسبب هذا الدين على سلمان أنه كان يدعى قنا، أي أرقّ بالباطل كما تقدم، فكوتب على ذلك وعلى أن يغرس تلك النخيل ويتعهدها إلى أن تثمر، وأعتق بأداء هذا الدين حين أينعت العراجين من نخيله التي غرسها: أي غرست له، أفلا ترون لسلمان عذرا يمنعكم من إيذائه حين أن غشيته قوة الحمى من أجل سماع ذكره صلى الله عليه وسلم. قال سلمان: وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد. وعن بريدة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى سلمان أي كان سببا لشرائه أي مكاتبته من قوم اليهود بكذا وكذا درهما، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر رضي الله تعالى عنه، فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرسها؟ قالوا عمر، فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فأطعمت من عامها» . وذكر البخاري «أن سلمان رضي الله تعالى عنه غرس بيده ودية واحدة وغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرها فعاشت كلها إلا التي غرسها سلمان» قال: ويجوز أن يكون كل من سلمان وعمر غرس هذه النخلة أحدهما قبل الآخر انتهى. أقول: وهذا الحائط الذي غرس فيه سلمان من حوائط بني النضير وكان يقال له المنبت، وقد آل إليه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. ولا يخفى أن قول صاحب الهمزية كان يدعى قنا أنه لم يرقّ حقيقة، وقد تقدم ذلك. وفيه أنه لو لم يرق حقيقة لما أقره على الرق، وأمره صلى الله عليه وسلم بالمكاتبة وأدى عنه وكونه فعل ذلك تطييبا لخاطر ساداته بعيد فليتأمل. فإن قيل: إذ رقّ حقيقة كيف جاز له صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه أن يأكلوا مما جاء به صدقة ويأكل هو وهم مما جاء به هدية والرقيق لا يملك وإن ملكه سيده على الأصح عندنا معاشر الشافعية، بل وعند باقي الأئمة؟ قلنا: يجوز أن يكون الرقيق كان في صدر الإسلام يملك ما ملكه له سيده ثم نسخ ذلك. على أن بعض أصحابنا ذهب إلى صحته، وفي كلام السهيلي: وذكر أبو عبيد أن حديث سلمان حجة على من قال إن العبد لا يملك هذا كلامه، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم رقه حينئذ، لأن الأصل في الناس الحرية، ولعدم تحقق رق سلمان وعدم مجيء مكاتبته على قواعد أئمتنا لم يستدلوا على مشروعية الكتابة بقصة سلمان.

وفي كلام السهيلي أن في خبر: سلمان من الفقه: قبول الهدية، وترك سؤال المهدي، وكذلك الصدقة. وفي الحديث «من قدم إليه الطعام فليأكل، ولا يسأل» والله أعلم. وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بالقصة المتقدمة: زاد أن صاحب عمورية قال له: ائت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فاسأله عن هذا الدين فهو يخبرك به. قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصفه لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني عليه فلم أخلص حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخلها إلا منكبه فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إليّ فقلت: يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فإنه يحملك عليه، ثم دخل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كنت صدقتني لقد لقيت عيسى ابن مريم. والغيضة: الشجر الملتف. قال السهيلي: هذا الحديث مقطوع، وفيه رجل مجهول. ويقال إن الرجل هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف بإجماع منهم، وإن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه. فقد ذكر الطبري أن المسيح عليه الصلاة والسلام نزل بعد ما رفع وأمه وامرأة أخرى أي كانت مجنونة فأبرأها المسيح عند الجذع الذي فيه الصليب يبكيان، فأهبط إليهما فكلمهما وقال لهما علام تبكيان؟ فقالا عليك، فقال: إني لم أقتل ولم أصلب، ولكن الله رفعني وأكرمني، وأخبرهما أن الله أوقع شبهه على الذي صلب وأرسل إلى الحواريين: أي قال لأمه ولتلك المرأة أبلغا الحواريين أمري أن يلقوني في موضع كذا ليلا، فجاء الحواريون ذلك الموضع فإذا الجبل قد اشتعل نورا لنزوله فيه، ثم أمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه وعبادة ربهم ووجههم إلى الأمم. وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا لكن لا نعلم أنه هو: أي حقيقة حتى ينزل النزول الظاهر «فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير» كما جاء في الصحيح هذا كلامه. ويروى «أنه إذا نزل تزوج امرأة من جذام قبيلة باليمن. ويولد له ولدان يسمى أحدهما محمدا والآخر موسى، يمكث أربعين سنة، وقيل خمسا وأربعين، وقيل سبع سنين» كما في مسلم، وقيل ثمان سنين وقيل تسعا، وقيل خمسا: أي وجمع بين كون مدة مكثه أربعين سنة أو خمسا وأربعين سنة وبين كونها سبع سنين: أي وما بعد ذلك بأن المراد بالأول مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده والسبعة: أي وما

بعدها من الأقوال يكون بعد نزوله ويدفن إذا مات في روضة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وقيل في حجرته صلى الله عليه وسلم: أي عند قبره الشريف، وقيل في بيت المقدس انتهى. أي وقيل يدفن معه صلى الله عليه وسلم في قبره، ويؤيده ما ورد «ويدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر» . أقول: وكما قتل عيسى عليه الصلاة والسلام الخنزير يقتل الدجال. فقد جاء «ينزل عيسى حكما مقسطا يحكم بشرعنا يقتل الدجال، ونزوله يكون عند صلاة الفجر، فيصلي خلف المهدي بعد أن يقول له المهدي تقدم يا روح الله، فيقول له تقدم فقد أقيمت لك» وفي رواية «ينزل بعد شروع المهدي في الصلاة، فيرجع المهدي القهقرى ليتقدم عيسى فيضع يده بين كتفيه ويقول له تقدم، فإذا فرغ من الصلاة أخذ حربته وخرج خلف الدجال فيقتله عند باب لدّ الشرقي» وورد أن المهدي يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال. وقد جاء أن المهدي من عترة النبي صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة. قيل من ولد الحسين، وقيل من ولد الحسن، وقيل من ولد عمه العباس. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن أمه أم الفضل مرت به صلى الله عليه وسلم، فقال: إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتيني به قالت: فلما ولدته أتيته به، فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وألبأه. أي أسقاه اللبأ من ريقه- وسماه عبد الله، وقال اذهبي بأبي الخلفاء، فأخبرت العباس، فأتاه فذكر له فقال: هو ما أخبرتك هذا أبو الخلفاء، حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي أي الخليفة» وهو أبو الرشيد بدليل قوله: «حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم: أي وهو المهدي الذي يأتي آخر الزمان اسمه محمد بن عبد الله، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد» وفي رواية «إلا ليلة واحدة يطول الله ذلك حتى يبعث، وظهوره يكون بعد أن يكسف القمر في أول ليلة من رمضان، وتكسف الشمس في النصف منه مثل ذلك لم يوجد منذ خلق الله السموات والأرض عمره عشرون سنة، وقيل أربعون سنة، ووجهه كوكب دري على خده الأيمن خال أسود، يخرج في زمان الدجال، وينزل في زمانه عيسى ابن مريم» وأما ما ورد «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم» فلا ينافي ذلك لجواز أن يكون المراد لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام. فقد جاء «لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى ابن مريم آخرها، والمهدي من أهل بيتي في وسطها» وعن العباس رضي الله تعالى عنه قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال انظر هل ترى في السماء من شيء؟ قلت نعم، قال ما ترى؟ قلت الثريا، قال: أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك» أي وقد اختلف الناس في عددها المرئي فقيل سبعة أنجم، وقيل تسعة.

وجمعنا بينهما بأن الأول يكون هو المرئي لغالب الناس ولو غير حديد البصر والثاني لمن يكون حديد البصر منهم، وأما المرئي له صلى الله عليه وسلم، فقيل كان يرى أحد عشر نجما. وقيل اثني عشر نجما. وجمعنا بينهما بحمل الأول على ما إذا لم يمعن النظر. والثاني على ما إذا أمعن النظر، وحينئذ يقتضي هذا أن تكون الخلفاء من بني العباس اثني عشر. وعن سعيد بن جبير: سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: يكون منا ثلاثة أهل البيت السفاح والمنصور والمهدي. ورواه الضحاك عن ابن عباس مرفوعا. والمهدي في هذه الرواية يحتمل أن المراد به أبو الرشيد، ويحتمل أن يكون المنتظر. وروى أبو نعيم بسند ضعيف «أنه صلى الله عليه وسلم خرج فتلقاه العباس، فقال: ألا أسرك يا أبا الفضل؟ قال بلى يا رسول الله، قال: إن الله فتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه» وفي رواية «ويختمه بولدك» . وقد أفردت ترجمة المهدي المنتظر بالتأليف في مجلد حافل سماه مؤلفه «الفواصم عن الفتن القواصم» . وقد رويت قصة سلمان رضي الله تعالى عنه على غير هذا الوجه الذي تقدم. فعنه قال: كان لي أخ أكبر مني، وكان يتقنع بثوبه ويصعد الجبل يفعل ذلك غير ما مرة متنكرا، فقلت له: أما إنك تفعل كذا وكذا فلم لا تذهب بي معك؟ قال: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء. قلت: لا تخف، قال: إن في هذا الجبل قوما لهم عبادة وصلاح يذكرون الله ويذكرون الآخرة ويزعمون أنا على غير دين. قلت: فاذهب بي معك إليهم قال: حتى استأمرهم فاستأمرهم، فقالوا جيء به فذهبت معه فانتهيت إليهم فإذا هم ستة أو سبعة وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا فصعدنا إليهم، فحمدوا الله تعالى وأثنوا عليه، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم. قالوا: ولد بغير ذكر، وبعثه الله رسولا، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى، وخلق الطير، وإبراء الأعمى والأبرص؟ فكفر به قوم وتبعه قوم. ثم قالوا: يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا، وإن بين ذلك جنة ونارا لهما تصير وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة، لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دين، ثم انصرفنا ثم عدنا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن، فلزمتهم ثم اطلع عليهم الملك فأمرهم بالخروج من بلاده، فقلت: ما أنا بمفارقكم فخرجت معهم حتى قدمنا الموصل، فلما دخلوا حفوا بهم، ثم أتاهم رجل من كهف جبل فسلم وجلس فحفوا به، فقال لهم: أين كنتم؟ فأخبروه، فقال: ما هذا الغلام معكم. فأثنوا عليّ خيرا

وأخبروه باتباعي إياهم ولم أر مثل إعظامهم له، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر من أرسله الله من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم، حتى ذكر عيسى ابن مريم، ثم وعظهم. وقال: اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى، ولا تخالفوا يخالف بكم، ثم أراد أن يقوم. فقلت: ما أنا بمفارقك، فقال: يا غلام إنك لا تستطيع أن تكون معي، إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد. قلت: ما أنا بمفارقك فتبعته حتى دخل الكهف فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر، فلما أصبحنا خرجنا واجتمعوا إليه، فتكلم نحو المرة الأولى، ثم رجع إلى كهفه ورجعت معه، فلبثت ما شاء الله أن يخرج في كل يوم أحد ويخرجون إليه ويعظهم ويوصيهم، فخرج في أحد. فقال مثل ما كان يقول. ثم قال: يا هؤلاء إني قد كبر سني ورق عظمي وقرب أجلي، وإني لا عهد لي بهذا البيت يعني بيت المقدس منذ كذا وكذا سنة فلا بد لي من إتيانه، فقلت: ما أنا بمفارقك، فخرج وخرجت معه حتى أتيت إلى بيت المقدس فدخل وجعل يصلي وكان فيما يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد، يخرج من جبال تهامة، علامته أن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأما أنا فشيخ كبير لا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه. فقلت: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه. قال: وإن أمرك، ثم خرج من بيت المقدس وعلى بابه مقعد، فقال له ناولني يدك فناوله يده فقال له قم باسم الله فقام كأنما نشط من عقال، فقال لي المقعد: يا غلام احمل علي ثيابي حتى أنطلق، فحملت عليه ثيابه، فذهب الراهب وذهبت في أثره أطلبه كلما سألت عنه، قالوا أمامك حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم، فلما سمعوا لغتي أناخ رجل بعيره وحملني عليه، فجعلني خلفه حتى أتوا بي بلادهم فباعوني، فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها: أي بستان، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائطي ثم أتيته، فوجدت عنده أناسا، فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا؟ قلت صدقة قال للقوم كلوا ولم يأكل هو، ثم لبثت ما شاء الله، ثم أخذت مثل ذلك، ثم أتيته فوجدت عنده أناسا فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا؟ فقلت هدية، قال: بسم الله وأكل وأكل القوم فقلت في نفسي هذه من آياته. ويحتاج للجمع بين هذه الرواية وما تقدم على تقدير صحتهما. وفي «الدر المنثور» «أن امرأة من جهينة اشترته وصار يرعى غنما لها، بينما هو يوما يرعى إذ أتاه صاحب له، فقال له: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى أتيك، فهبط سلمان إلى المدينة فاشترى بدينار ببعضه شاة فشواها وببعضه خبزا ثم أتاه به، فقال، ما هذا؟ قال سلمان: هذه

صدقة، قال لا حاجة لي بها، فأخرجها فأكلها أصحابه، ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا؟ قال: هذه هدية: قال فاقعد فكل، فقعد وأكلا جميعا منها، فدرت خلفه ففطن بي فأرخى ثوبه، فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته، ثم درت حتى جلست بين يديه، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله» وهذه الرواية تخالف ما تقدم فليتأمل، ولينظر كيف الجمع. ونقل بعضهم الإجماع على أن سلمان عاش مائتين وخمسين سنة، وكان حبرا عالما فاضلا زاهدا متقشفا، وكان يأخذ من بيت المال في كل سنة خمسة آلاف، وكان يتصدق بها ولا يأكل إلا من عمل يده، وكان له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها. قال بعضهم: دخلت عليه وهو أمير على المدائن، وهو يعمل الخوص، فقلت له لم تعمل هذا وأنت أمير وهو يجري عليك رزق؟ فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي وربما اشترى اللحم وطبخه ودعا المجذومين فأكلوا معه. وأول مشاهده الخندق كما تقدم، قيل وشهد بدرا وأحدا قبل أن يعتق: أي وهو مكاتب، فيكون أول مشاهده الخندق بعد عتقه، والله أعلم. وأما أخبار الكهان لا عن ألسنة الجان فكثيرة، منها ما تقدم في ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم وفي أيام رضاعه. قال: ومنها أيضا خبر عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه قال: والله لقد علمت أن محمدا رسول الله قبل أن يبعث، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: فزعنا إلى كاهن لنا في أمر نزل بنا، فقال الكاهن: أقسم بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الأدراج، والريح ذات العجاج، إن هذا لا مراج، لعله من أجيج النار وهو التهابها ولقاح ذي نتاج، قالوا وما نتاجه؟ قال: نتاجه ظهور نبي صادق، بكتاب ناطق، وحسام فالق، قالوا: وأين يظهر؟ وإلى ماذا يدعو! قال: يظهر بصلاح، ويدعو إلى فلاح، ويعطل القداح، وينهى عن الراح والسفاح، وعن كل أمر قباح، قالوا ممن هو؟ قال: من ولد الشيخ الأكرم، حافر زمزم، وعزه سرمد، وخصمه مكمد، انتهى. ومنها خبر قس بن ساعدة الإيادي، وهو أول من قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وأول من اتكأ على عصا أو قوس أو سيف عند الخطبة. وقيل إن أول من تكلم بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر داود عليه الصلاة والسلام، وأن ذلك فصل الخطاب. وردّ بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيكم يعرف القس بن ساعدة

الإيادي؟ قالوا: كلنا يا رسول الله نعرفه، قال: فما فعل؟ قالوا: هلك، قال: ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أقسم قس قسما حاتما لأن كان في الأمر رضا ليكونن سخطا، إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فقاموا أم تركوا هناك فناموا؟ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم يروي شعره؟ فأنشدوه عليه الصلاة والسلام: في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... تسعى الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي إلى ... ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قدم الجارود بن عبد الله وكان سيدا في قومه، وقيل له الجارود لأنه أغار على قوم من بني بكر بن وائل فجردهم: أي أخذ جميع أموالهم، وإلى ذلك الإشارة بقول الشاعر: ودسناهم بالخيل من كل جانب ... كما جرد الجارود بكر بن وائل فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قسا؟ قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله» قال الجارود: وأنا بين يدي القوم كنت أقفو أي أتبع أثره، كان من أسباط العرب أي من ولد ولدهم، شيخا عمر سبعمائة سنة: أي وقيل ستمائة سنة، أدرك من الحواريين سمعان، فهو أول من تأله: أي تعبد من العرب: أي ترك عبادة الأصنام، وأول من قال أما بعد: أي وقيل أول من قال ذلك كعب بن لؤي كما تقدم، وقيل سحبان بن وائل، وقيل يعقوب، وقيل يعرب بن قحطان، وقيل داود وهو فصل الخطاب. وردّ بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته: أي وبعد لفظة عربية، وفصل الخطاب الذي أوتيه هو فصل الخصومة: أي وهذا يؤيد ما تقدم عنه أنه أول من قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر وتقدم ما فيه. وجمع بأن الأولية بالنسبة لداود حقيقية، ولغيره إضافية، فلكعب بن لؤي بالنسبة للعرب ولغيره بالنسبة لقبيلته. وقس أول من كتب من فلان إلى فلان. قال الجارود: كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغنّ الكتاب أجله، وليوفين كل عامل عمله، ثم أنشأ يقول:

هاج للقلب من جواه ادكار ... وليال خلالهن نهار وجبال شوامخ راسيات ... وبحار مياههن غزار ونجوم تلوح في ظلم الليل ... تراها في كل يوم تدار والذي قد ذكرت دل على ... الله نفوسا لها هدى واعتبار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا جارود، والرسل بكسر الراء: التؤدة فلست أنساه بسوق عكاظ: أي وهو سوق بين بطن نخلة والطائف، كان سوقا لثقيف وقيس عيلان كما تقدم، على جمل أورق: أي يضرب لونه إلى السواد، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه وفي لفظ «تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه الآن، فقال أبو بكر: يا رسول الله فإني أحفظه كنت حاضرا ذلك اليوم بسوق عكاظ، فقال في خطبته: يا أيها الناس- اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات جمع وأشتات، وآيات بعد آيات، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ليل داج: أي مظلم، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا، أقسم قس قسما حاتما، لا حنثا فيه ولا آثما إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيا قد حان حينه، وأظلكم زمانه؟ فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه فعصاه، ثم قال: تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية. يا معشر إياد: هي قبيلة من اليمن- أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعوّاد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بني وشيد. وزخرف ونجد؟ أي من زين وطول، وغره المال والولد؟ أين من بغى وطغى؟ وجمع فأوعى؟ وقال أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا وأبعد منكم آمالا، طحنهم التراب بكلكله: أي بصدره، ومزقهم بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية، كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس بوالد ولا مولود، ثم أنشأ يقول الأبيات المتقدمة. أي وفي رواية: «لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر وفد إياد، ما فعل قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: هلك يا رسول الله، قال: لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر، يتكلم بكلام معجب موفق، لا أجدني أحفظه الآن، فقام امرؤ أعرابي من أقاصي القوم، فقال: أنا أحفظه يا رسول الله، فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. كان يقول: يا معشر الناس اجتمعوا، فكل من مات فات، وكل شيء آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحر عجاج، نجوم تزهر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية» الحديث.

وفي رواية «أين الصعب ذو القرنين؟ ملك الخافقين، وأذلّ الثقلين، وعمر ألفين، ثم كان ذلك كلمحة عين» . قال: وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن قس بن ساعدة كان يخطب قومه بسوق عكاظ فقال: سيأتيكم حق من هذا الوجه؟. وأشار بيده إلى نحو مكة، قالوا له: وما هذا الحق؟ قال: رجل أبلج أحور، من ولد لؤي بن غالب، يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش ونعيم لا ينفدان، فإذا دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه. وقد رويت هذه القصة من طرق متعددة. قال الحافظ ابن كثير: هذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة. وقال الحافظ ابن حجر: طرق هذا الحديث كلها ضعيفة، وهو يردّ قول ابن الجوزي في موضوعاته: حديث قس بن ساعدة من جميع جهاته باطل اهـ. أقول: ذكر في «النور» أن في قصة قس ما يرشد إلى التعدد مرتين: مرة حفظ صلى الله عليه وسلم كلامه، وكان قس على جمل أحمر. والثانية التي لم يحفظ صلى الله عليه وسلم فيها كلامه كان قس على جمل أورق. قال: لكن لا أدري أي المرتين كانت أوّلا، هذا كلامه. وقد يقال: النسيان جائز عليه صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم نسي كلام قس بعد الإخبار به أولا، ويدل لذلك قوله: «لا أظن أني أحفظه الآن» أو قبل الإخبار به، فيكون خبره صلى الله عليه وسلم متأخرا عن خبر أبي بكر، فلا دلالة في ذلك على التعدد، ووصف الجمل بأنه أحمر، ووصفه بأنه أورق لا يدل على التعدد، لأنه يجوز أن يكون شديد الحمرة وشدة الحمرة تميل إلى السواد وهو الأورق، فأخبر عنه مرة بأنه أحمر، ومرة بأنه أورق. وهذا السياق يدل على تعدد مجيء وفد عبد القيس، مرة جاؤوا وحدهم، ومرة جاؤوا مع سيدهم الجارود، وقد جاء «رحم الله قسا إنه كان على دين أبي إسمعيل بن إبراهيم» والله أعلم. ومن ذلك خبر نافع الجرشي، نسبة إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة قبيلة من حمير تسمى به بلدهم: أن بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر في العرب، وجاؤوا إلى كاهنهم واجتمعوا إليه في أسفل جبل، فنزل إليهم حين طلعت الشمس، فوقف لهم قائما متكئا على قوس، فرفع رأسه إلى السماء طويلا. ثم قال: يا أيها الناس، إن الله أكرم محمدا واصطفاه وطهر قلبه وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل. وأما أخبار الكهان على ألسنة الجان فكثيرة أيضا: منها خبر سواد بن قارب رضي الله تعالى عنه، وكان يتكهن في الجاهلية،

وكان شاعرا ثم أسلم. فعن محمد بن كعب القرظي قال: بينا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ذات يوم جالسا إذ مرّ به رجل، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المارّ؟ قال: ومن هذا؟ قالوا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه: أي تابعه من الجن، الذي يتراءى له، أتاه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد أن قال عمر رضي الله تعالى عنه على المنبر أي منبر النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ فلم يجبه أحد، فلما كان السنة المقبلة ولعل ذلك كان في زمن المجيء للزيارة من الآفاق قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ قال بعضهم: يا أمير المؤمنين ما سواد بن قارب؟ قال: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا. قال البراء: فبينا نحن كذلك، إذ طلع سواد بن قارب، فأرسل إليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال له: أنت سواد بن قارب؟ قال نعم، قال: أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم، قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك، فغضب سواد بن قارب وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين، فقال له: سبحان الله: ما كنا عليه من الشرك: أي من عبادة الأصنام أعظم مما كنت عليه من كهانتك: أي وفي رواية أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: اللهم غفرا، قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام والأوثان، حتى أكرمنا الله برسوله صلى الله عليه وسلم وبالإسلام. أقول: وفيه أن المتبادر أن غضب سواد إنما هو بسبب ما فهمه من نسبته إلى الكهانة بعد الإسلام لا قبلها، بدليل قوله ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت. وجواب سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يدل على أنه فهم أن غضب سواد بسبب نسبته للكهانة قبل الإسلام، فلذلك قال: سبحان الله متعجبا منه. وفي كلام السهيلي أن عمر رضي الله تعالى عنه مازح سوادا رضي الله تعالى عنه فقال له: ما فعلت كهانتك يا سواد؟ فغضب وقال له سواد رضي الله تعالى عنه: قد كنت أنا وأنت على شر من هذا من عبادة الأصنام وأكل الميتات، أفتعيرني بأمر قد تبت منه؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: اللهم غفرا فليتأمل والله أعلم. ثم قال لسواد: أخبرني ما نبأ رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية قال: يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال نعم يا أمير المؤمنين. بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان: إذ أتاني رئيي، فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قدماها كأذنابها فقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا، فلما كانت الليلة الثانية أتاني، فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجن ككفارها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها فقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب، فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتحساسها ... وشدها العيس بأحلاسها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خيّر الجن كأنحاسها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... وارم بعينيك إلى رأسها فقمت فقلت: قد امتحن الله قلبي، فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة. وفي رواية: حتى أتيت مكة وهي كما قال البيهقي أقرب إلى الصحة من الأولى: أي لأن الجن إنما جاءت إليه صلى الله عليه وسلم للإيمان به في مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله. وفي لفظ: والناس حوله. وفي لفظ: والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني قال: مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك. قلت: يا رسول الله، قد قلت شعرا، فاسمع مقالتي يا رسول الله، فقال: هات فأنشأت: أي ابتدأت أقول: أتاني نجيي بعد هدء ورقدة وفي لفظ: أتاني رئيي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد تلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب فشمرت من ذيل الإزار وفي لفظ: عن ساقي الإزار ... ووسطت بي الذعلب الوجناء بين السباسب فأشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب وفي رواية: وكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب قال: ففرح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رئي الفرح في وجوههم: أي وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: أفلحت يا سواد، فرأيت عمر رضي الله تعالى عنه التزمه وقال: لقد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث منك، فهل يأتيك رئيك اليوم؟ قال: منذ قرأت القرآن فلا، ونعم العوض كتاب الله تعالى من الجن: أي وهذا السياق يدل على أن سيدنا عمر لم يكن حاضرا عند النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره سواد. ولما مات صلى الله عليه وسلم وخشي سواد على قومه الردة قام فيهم خطيبا فقال: يا معشر دوس، من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم، ومن شقائهم أن لا يتعظوا إلا بأنفسهم. وإنه من لم تنفعه التجارب ضربه، ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل، وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس. ولا ينبغي لأهل البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية، ولست أدري لعله يكون للناس جولة، فإن لم تكن فالسلامة منها الأناة، والله يحبها فأحبوها، فأجابه القوم بالسمع والطاعة. أي ومن ذلك أن امرأة كانت كاهنة بالمدينة يقال لها حطيمة، كان لها تابع من الجن فجاءها يوما فوقف على جدارها، فقالت له: ما لك لا تدخل تحدثنا ونحدثك؟ فقال: إنه قد بعث نبي بمكة يحرم الزنا، فحدثت بذلك، فكان أول خبر تحدث به بالمدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما ما سمع من جوف الأصنام فكثير أيضا. فمنها أي غير ما تقدم في ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم خبر عباس بن مرداس قال: كان لمرداس السلمي وثن يعبده يقال له ضمار بكسر الضاد المعجمة وميم مخففة بعدها ألف ثم راء مهملة، فلما حضرت مرداسا الوفاة قال للعباس ولده أي بني اعبد ضمارا فإنه ينفعك ويضرك، فبينا عباس يوما عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول: من للقبائل من سليم كلها ... أودى ضمار وعاش أهل المسجد إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد أودى ضمار وكان يعبد مدة ... قبل الكتاب إلى النبي محمد

فحرق عباس ضمارا ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ أن عباس بن مرداس كان في لقاح له نصف النهار، إذ طلع عليه راكب على نعامة بيضاء وعليه ثياب بيض فقال له: يا عباس ألم تر أن السماء قد تعب أحراسها، وأن الحرب قد حرقت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي نزل عليه البر والتقوى صاحب الناقة القصواء؟ فقال عباس: فراعني ذلك، فجئت وثنا لنا يقال له الضمار كنا نعبده وتكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به، فإذا صائح يصيح من جوفه: قل للقبائل من قريش كلها ... هلك الضمار وفاز أهل المسجد هلك الضمار وكان يعبد مدة ... قبل الصلاة على النبي محمد إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد قال عباس: فخرجت مع قومي بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فدخلت المسجد، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم وقال: يا عباس كيف إسلامك، فقصصت عليه القصة، فقال: صدقت، وأسلمت أنا وقومي. ومن ذلك خبر مازن بن الغضوبة قال: كنت أسدن: أي أخدم صنما بقرية بعمان: أي بالتخفيف تدعى سمائل، وسمال يقال له بادر. وفي لفظ باحر بالحاء المهملة، فعترنا ذات يوم عنده عتيرة وهي الذبيحة مطلقا. وقيل في رجب خاصة. فسمعنا صوتا من جوف الصنم يقول: يا مازن اسمع تسرّ ظهر خير وبطن شر، بعث نبي من مضر بدين الله الكبر، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حرّ سقر. قال مازن: ففزعت لذلك وقلت: إن هذا لعجب، ثم عترت بعد أيام عتيرة: أي ذبحت ذبيحة لذلك الصنم، فسمعت صوتا من الصنم يقول: أقبل إليّ أقبل ... تسمع ما لا تجهل هذا نبي مرسل ... جاء بحق منزل آمن به كي تعدل ... عن حر نار تشعل وقودها بالجندل فقلت: إن هذا لعجب، وإنه لخير يراد بي. أقول: ورأيت في بعض السير تقديم هذه الأبيات على ما قبلها، وأن مازنا قال: ثم سمعت صوتا أبين من الأول، وهو يقول: يا مازن اسمع إلى آخره، والله أعلم. قال مازن: فبينا نحن كذلك، إذ قدم رجل من أهل الحجاز قلنا له: ما الخبر وراءك؟ قال: قد ظهر رجل يقال له أحمد، يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله، فقلت

هذا نبأ ما سمعته، فنزلت إلى الصنم فكسرته جذاذا، وركبت راحلتي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح لي الإسلام وأسلمت، وقلت: كسرت بادر أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف به ضلا بتضلال بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه شيئا على بالي يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها ... أني لما قال ربي بادر قالي عني بعمرو وإخوتها بني خطامة، وهي بطن من طيئ، وهذه الأبيات ساقطة في «أسد الغابة» قال مازن. فقلت: يا رسول الله إني مولع بالطرب: أي مغرم به، وبشرب الخمر وبالهلوك: أي الفاجرة من النساء التي تتمايل وتتثنى عند جماعها: وقيل الساقطة على الرجال أي لشدة شبقها، وألحت: أي دامت علينا سنون: أي أعوام القحط والجدب فذهبن بالأموال، وهزلن الذراري والعيال، وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد، ويأتيني بالحيا، ويهب لي ولدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وبالخمر ريا لا إثم فيه، وبالعهر أي الزنا عفة الفرج، وأته بالحيا: أي المطر، وهب له ولدا، قال مازن فأذهب الله عني ما كنت أجده، وتعلمت شطر القرآن، وحججت حججا، وأخصبت عمان يعني قريته وما حولها من قرى عمان، وتزوّجت أربع حرائر، ووهب الله لي حيان: يعني ولده وأنشأت أقول: إليك رسول الله حنت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج لتشفع لي يا خير من وطئ الحصا ... فيغفر لي ذنبي وأرجع بالفلج أي بالفوز والظفر بالمطلوب: إلى معشر خالفت في الله دينهم ... ولا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي أي بالشين والجيم: أي لا شكلهم شكلي، ولا طريقهم طريقي. وكنت امرأ بالعهر والخمر مولعا ... شبابي حتى آذن الجسم بالنهج أي البلاء. فبدلني بالخمر خوفا وخشية ... وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي فأصبحت همي في الجهاد ونيتي ... فلله ما صومي ولله ما حجي قال مازن: فلما رجعت إلى قومي أنبوني: أي عنفوني، ولا موني وشتموني وأمروا شاعرهم فهجاني، فقلت: إن هجوتهم فإنما أهجو نفسي، وتنحيت عنهم وأتيت مسجدا أتعبد فيه، وكان لا يأتي هذا المسجد مظلوم فيتعبد فيه ثلاثا ويدعو على من ظلمه إلا استجيب له ولا دعا ذو عاهة من برص أو غيره إلا عوفي. ثم إن

القوم ندموا وطلبوا مني الرجوع إليهم فأسلموا كلهم، وضعف هذا الحديث. وأما ما سمع من أجواف الذبائح. فمنه ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم آل ذريح بالحاء المهملة، وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار يعالجه، إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا: يا آل ذريح، أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح. يشهد أن لا إله إلا الله: أي والمراد بالذريح: العجل الذي ذبح، لأنه ملطخ بالدم الأحمر، لقولهم: أحمر ذريحيّ: أي شديد الحمرة. والذي في البخاري يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله، والمراد بالجليح: العجل المذبوح أيضا، لأنه قد جلح: أي كشف عنه جلده. وأما ما سمع من الهواتف، ولم يجىء على ألسنة الكهان، ولا سمع من جوف الأصنام، ولا من جوف الذبائح فكثير. من ذلك ما حدّث به بعضهم وذكره النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، لقد رأيت من قس عجبا، خرجت أطلب بعيرا لي حتى إذا عسعس الليل: أي أدبر، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول: يا أيها الراقد في الليل الأحم أي بالحاء المهملة يعني الأسود قد بعث الله نبيا بالحرم ... من هاشم أهل الوفاء والكرم يجلو دجنات الليالي والبهم أي الظلمات والأمور المشكلة، فأدرت طرفي فما رأيت شخصا فأنشأت أقول: يا أيها الهاتف في داجي الظلم ... أهلا وسهلا بك من طيف ألمّ بين هداك الله في لحن الكلم ... من ذا الذي تدعو إليه يغتنم فإذا أنا بنحنحة وقائل يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحبور: أي السرور، صاحب النجيب الأحمر: أي الكريم من الإبل، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر: أي الأبيض المشرب بالحمرة، والحاجب: أي الجبين الأقمر: أي الأبيض، والطرف الأحور: أي شديد سواده، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله، فذاك محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر، أهل المدر والوبر: أي العجم والعرب، ثم أنشأ يقول: الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبث أرسل فينا أحمدا ... خير نبي قد بعث صلى عليه الله ما ... حج له ركب وحث

وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله: وتغنت بمدحه الجن حتى ... أطرب الإنس منه ذاك الغناء أي أظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الجميلة في صورة الغناء الذي تألفه النفس، ولا تصبر منها عند سماعه، فتسمع لغيره، حتى أطرب الإنس ذاك الغناء: الذي سمعوه من الجن، قال: فلاح الصباح، وإذا بالفنيق يشقشق. والفنيق: بفتح الفاء وكسر النون وسكون المثناة تحت ثم قاف: الفحل الكريم من الإبل، ويشقشق بشينين معجمتين وقافين: أي يهدر إلى النوق، فملكت خطامه، وعلوت سنامه، حتى إذا لغب بالغين المعجمة والموحدة: أي تعب، فنزل في روضة خضراء؟ فإذا أنا بقسّ بن ساعدة في ظل شجرة وبيده قضيب من أراك ينكت به الأرض. والنكت بالمثناة، وهو يقول: يا ناعي الموت والملحود في جدث ... عليهم من بقايا بزهم خرق أي (القبر) ، أي (والبز الثياب) دعهم فإن لهم يوما يصاح به ... فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا (أي خافوا) حتى يعودوا بحال غير حالهم ... خلقا جديدا كما من قبله خلقوا منهم عراة ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها المنهج الخلق والمنهج من الثياب: الذي أخذ في البلى، قال: فدنوت منه، فسلمت عليه فرد عليّ السلام، فإذا بعين خرارة: أي لمائها خرير: أي صوت في الأرض، خوارة: أي ضعيفة، ومسجد بين قبرين وأسدين عظيمين يلوذان به، وإذا بأحدهما قد سبق الآخر إلى الماء فتبعه الآخر يطلب الماء، فضربه بالقضيب الذي في يده وقال: ارجع، ثكلتك أمك: أي فقدتك حتى يشرب الذي قبلك فرجع، ثم ورد بعده، فقلت له: ما هذان القبران؟ قال: هذان قبرا أخوين كانا لي يعبدان الله عز وجل معي في هذا المكان لا يشركان بالله شيئا: أي اسم أحدهما سمعون والآخر سمعان، فأدركهما الموت فقبرتهما، وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما، ثم نظر إليهما وأنشد أبياتا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله قسا، إني أرجو أن يبعثه الله أمة وحده: أي واحدا يقوم مقام جماعة كما تقدم، وقد أشار إلى ذلك صاحب الأصل بقوله: وعنه أخبر قس قومه فلقد ... حلى مسامعهم من ذكره شنفا ولما مات قس قبر عندهما، وتلك القبور الثلاثة بقرية يقال لها روحين، من أعمال حلب، وعليها بناء والناس يزورونهم، وعليهم وقف ولهم خدام.

ومن ذلك ما ذكره الواقدي بإسناد له قال: كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا، وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم، فبينا الخثعميون عند صنم لهم إذ سمعوا هاتفا يهتف ويقول: يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ومسند والحكم إلى الأصنام أما ترون ما أرى أمامي ... من ساطع يجلو دجى الظلام ذاك نبي سيد الأنام ... من هاشم في ذروة السنام مستعلن بالبلد الحرام ... جاء يهدّ الكفر بالإسلام أكرمه الرحمن من إمام قال أبو هريرة: فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا، فلم يمض بهم ثالثهم حتى فجأهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ظهر بمكة، أي جاءهم ذلك بغتة، فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند أصنامهم. وأما خبر زمل بن عمرو العذري قال: كان لبني عذرة، وهي قبيلة من اليمن صنم يقال له خمام بالخاء المعجمة المضمومة وتخفيف الميم وكانوا يعظمونه، وكان في بني هند بن حرام بالحاء المهملة المفتوحة والراء، وكان سادنه: أي خادمه رجلا يقال له طارق، قال في النور: لا أعلم له ترجمة ولا إسلاما، وكانوا يعترون، أي يذبحون الذبائح عنده، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا صوتا يقول: يا بني هند بن حرام، ظهر الحق وأودى خمام، أي هلك، ورفع الشرك الإسلام. قال زمل: ففزعنا لذلك، وهالنا أي أفزعنا فمكثنا أياما ثم سمعنا صوتا يقول: يا طارق يا طارق، بعث النبي الصادق، بوحي ناطق، صدع صدعة بأرض تهامة، لناصريه السلامة، ولخاذليه الندامة، هذا الوداع مني إلى يوم القيامة، فوقع الصنم لوجهه. فإن كان ذلك الصوت من جوف الصنم ويرشد إليه قوله: هذا الوداع مني إلى يوم القيامة، فهو من غير هذا النوع، وإن لم يكن فهو من هذا النوع. قال زمل: فابتعت أي اشتريت راحلة، ورحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من قومي وأنشدته: إليك رسول الله أعلمت نصها النص: هو الغاية في السير. أكلفها حزنا وقوزا من الرمل والحزن ما ارتفع من الأرض، والقوز بالقاف والزاي: التل الصغير. لأنصر خير الناس نصرا موزرا (أي قويا) .

وأعقد حبلا من حبالك في حبلى والحبل العهد والميثاق. وأشهد أن الله لا شيء غيره أدين له (أي أخضع وأضيع) ما أثقلت قدمي نعلي ومن هذا النوع خبر تميم الداري: أي ويكنى أبا رقية اسم ابنة له لم يولد له غيرها روى عنه صلى الله عليه وسلم قصة الجساسة مع الدجال على المنبر، فقال: حدثني تميم الداري، وذكر القصة، قال بعضهم: وهذا أولى ما يخرّجه المحدثون في رواية الكبار عن الصغار. وقد يكون من ذلك ما ذكر أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر يوما على ابنته عائشة رضي الله تعالى عنها، فقال: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء؟ فقالت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء كان يعلمناه، وذكر أن عيسى ابن مريم كان يعلمه أصحابه ويقول: لو كان أحدكم جبل دين ذهبا قضاه الله عنه، قال نعم يقول: «اللهم فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني، فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك» وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: «كان عليّ دين وكنت له كارها فقلته، فلم ألبث إلا يسيرا حتى قضيته» . قال تميم الداري رضي الله تعالى عنه: كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى بعض حاجاتي فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي، فلما أخذت مضجعي إذا مناد ينادي لا أراه، عذ بالله، فإن الجن لا تجير أحدا على الله، فقلت أيم تقوله؟ وأيم بتشديد الياء وبإسكانها وفتح الميم فيهما: أي أيما شيء تقول؟ فقال: «قد خرج رسول الأميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا خلفه بالحجون: أي وهو مقبرة مكة التي يقال لها المعلاة كما تقدم وأسلمنا واتبعناه، وذهب كيد الجن، ورميت بالشهب، فانطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأسلم، فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب، فسألت راهبة وأخبرته، فقال: صدقوك نجده يخرج من الحرم أي مكة، ومهاجره الحرم: أي المدينة، وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه، قال تميم: فطلبت الشخوص: أي الذهاب حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت. أقول: وهذا يدل ظاهرا على أن تميما الداري أسلم بمكة قبل الهجرة، فهو مما الكلام فيه، بل رأيت في تتمة الخبر: فسرت إلى مكة، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان مستخفيا فآمنت به. ورأيت بعضهم قال: وهذه الرواية غلط، لأن تميما الداري إنما أسلم سنة تسع من الهجرة، والله أعلم.

قال: ومن ذلك ما حدّث به سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه أن رجلا من بني تميم حدث عن بدء إسلامه قال: إني لأسير برمل عالج ذات ليلة، إذ غلبني النوم، فنزلت عن راحلتي، وأنختها ونمت وتعوذت قبل نومي، فقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي عن الجن، فرأيت في منامي رجلا بيده حربة يريد أن يضعها في نحر ناقتي، فانتبهت فزعا فنظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئا، فقلت: هذا حلم، ثم عدت فتعوذت، فرأيت مثل ذلك وإذا بناقتي ترعد. ثم غفوت، فرأيت مثل ذلك، فانتبهت، فرأيت ناقتي تضطرب، فالتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيته في منامي بيده حربة ورجل شيخ يمسك بيده يرده عن ناقتي، وبينهما نزاع. فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش، فقال الشيخ للفتى: قم فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الإنسي، فقام الفتى وأخذ منها ثورا وانصرف، ثم التفت إلى الشيخ وقال: يا فتى إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله، فقل: أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي، ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها، فقلت له: ومن محمد؟ قال: نبي عربي لا شرقي ولا غربي، فقلت: أين مسكنه؟ قال: يثرب ذات النخل، فركبت ناقتي، وحثثت السير حتى أتيت المدينة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثني قبل أن أذكر له منه شيئا، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت، وهذا السياق يدل على أن هذه القصة بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه. ونظير هذا ما حدث به بعض الصحابة قال: خرجت في طلب إبل لي وكنا إذا نزلنا بواد قلنا نعوذ بعزيز هذا الوادي، فتوسدت ناقتي، وقلت: أعوذ بعزيز هذا الوادي فإذا هاتف يهتف بي ويقول: ويحك عذ بالله ذي الجلال ... منزل الحرام والحلال ووحد الله ولا تبال ... ما كيد ذي الجن من الأهوال إذ يذكر الله على الأحوال ... وفي سهول الأرض والجبال وصار كيد الجن في سفال ... إلا النبي وصالح الأعمال فقلت له: يا أيها القائل ما تقول ... أرشد عندك أم تضليل فقال: هذا رسول الله ذو الخيرات ... جاء بيس وحاميمات وسور بعد مفصلات ... يأمر بالصلاة والزكاة ويزجر الأقوام عن هنات ... قد كنّ في الإسلام منكرات

فقلت: أما لو كان لي من يؤدي إبلي هذه إلى أهلي لأتيته حتى أسلم فقال: أنا أؤديها فركبت بعيرا منها ثم قدمت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر. وفي رواية: فوافيت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة، فإني أنيخ راحلتي، إذ خرج إلى أبو ذر فقال لي: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخل، فدخلت، فلما رآني قال: ما فعل الرجل. وفي لفظ: ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدي إبلك، أما إنه قد أداها سالمة، وقد قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان عليه الناس قبل بعثته، من أن الإنسان إذا نزل منزلا مخوفا قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه بقوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ [الجنّ: الآية 6] أي يستعيذون برجال (من الجن) أي حين ينزلون في أسفارهم بمكان مخوف يقول كل رجل أعوذ بسيد هذا المكان من شر سفهائه فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجنّ: الآية 6] أي زادوا الجن: أي ساداتهم باستعاذتهم بهم طغيانا، فيقولون: سدنا الإنس والجن. أي ومن ذلك ما حكاه وائل بن حجر الحضرمي، ويكنى أبا هنيدة، كان قيلا من أقيال حضرموت، وكان أبوه من ملوكهم. قال: «وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بشر أصحابه بقدومي، فقال: يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الله عز وجل وفي رسوله، وهو بقية أبناء الملوك. قال وائل فما لقيني أحد من الصحابة إلا قال: بشرنا بك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومك بثلاث، فلما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم رحب بي وأدناني من نفسه وقرب مجلسي وبسط لي رداءه فأجلسني عليه وقال: اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده، ثم صعد المنبر وأقامني بين يديه ثم قال: أيها الناس هذا وائل بن حجر أتاكم من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الإسلام فقلت: يا رسول الله بلغني ظهورك وأنا في ملك عظيم، فمن الله على أن رفضت ذلك كله، وآثرت دين الله قال صدقت، اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده» . قال: وسبب وفودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لي صنم من العقيق فبينما أنا نائم في الظهيرة إذا سمعت صوتا منكرا من المخدع الذي به الصنم فأتيت الصنم وسجدت بين يديه، وإذا قائل يقول: وا عجبا لوائل بن حجر ... يخال يدري وهو ليس يدري ماذا يرجي من نحيت صخر ... ليس بذي نفع ولا ذي ضر لو كان ذا حجر أطاع أمري قال: فقلت: أسمعت أيها الهاتف الناصح، فماذا تأمرني؟ فقال: ارحل إلى يثرب ذات النخل ... تدين دين الصائم المصلي

محمد النبي خير الرسل ثم خر الصنم لوجهه، فاندقت عنقه فقمت إليه فجعلته رفاتا، ثم سرت مسرعا، حتى أتيت المدينة فدخلت المسجد الحديث. وفيه أنه إن كان الصوت من جوف الصنم فهو من غير هذا النوع. ولوائل هذا حديث مع معاوية تركناه لطوله. وأما ما سمع من بعض الوحوش، فمنه ما حدث به أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: «بينا راع يرعى بالجزيرة إذ عرض الذئب لشاة من شياهه فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة فأقعى الذئب على ذنبه فقال ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إليّ؟ فقال الراعي أعجب من ذئب يكلمني بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب مني؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين» . وفي رواية بيثرب يحدث الناس بأنباء ما قد سبق، وفي لفظ: يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم، فساق الراعي شياهه فأتى المدينة فغدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بما قال الذئب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الراعي، إن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل شراك نعله أي وهو أحد سيورها الذي يكون على وجهها كما تقدم، وعذبة سوطه، أي طرفه وقيل أحد سيوره، ويخبره بما فعل أهله» أي وفي لفظ «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنودي بالصلاة جامعة، ثم خرج فقال للأعرابي: أخبرهم فأخبرهم» . وفي رواية أن راعي الغنم كان يهوديا. وفي رواية أن الذئب قال له أنت أعجب مني واقفا على غنمك وتركت نبيا لم يبعث الله قط أعظم منه قدرا وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها وأصحابه ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلا هذا الشعب، فتصير في جنود الله تعالى، فقال له الراعي: من لي بغنمي، فقال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم إليه غنمه ومضى إليه صلى الله عليه وسلم، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عد إلى غنمك تجدها بوفرها فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها» وفيه أن هذا وما تقدم من خبر سعيد بن جبير كما علمت بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه. قال في النور هذا الراعي لا أعرف اسمه. قال وكلم الذئب غير واحد، فانظرهم في تعليقي على البخاري. أقول: ذكر في حياة الحيوان عن ابن عبد البر: كلم الذئب من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثلاثة: رافع بن عميرة، وسلمة بن الأكوع، ووهبان بن أوس. وأما ما سمع من بعض الأشجار، فقد روي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: هل رأيت قبل الإسلام شيئا من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم، بينا أنا

قاعد في ظل شجرة في الجاهلية، إذ تدلى علي غصن من أغصانها حتى صار على رأسي فجعلت أنظر إليه وأقول: ما هذا؟ فسمعت صوتا من الشجرة: هذا النبي يخرج في وقت كذا وكذا فكن أنت من أسعد الناس به، والله أعلم. وأما تساقط النجوم، وطرد الجن بها عن استراق السمع. فقد قال ابن إسحق لما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها فرموا بالنجوم فعرف الجن أن ذلك لأمر حدث من الله في العباد، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الجنّ: الآية 8] أي طلبنا استراق السمع منها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً [الجنّ: الآية 8] أي ملائكة أقوياء يمنعون عنها وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ [الجنّ: الآية 9] لخلوها عن الحرس والشهب فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجنّ: الآية 9] أي أرصد له ليرمي به، أي ومن يخطف الخطفة منهم بخفة حركته يتبعه شهاب ثاقب يقتله: أي أو يحرق وجهه أو يخبله قبل أن يلقيها إلى الكاهن، وذلك لئلا يلتبس أمر الوحي بشيء من خبر الشياطين مدة نزوله وبعد انقضائه وموته صلى الله عليه وسلم، لئلا تدخل الشبهة على ضعفاء العقول، فربما توهموا عود الكهانة التي سببها استراق السمع، وأن أمر رسالته صلى الله عليه وسلم تم فاقتضت الحكمة حراسة السماء في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته، ومن ثم قال «لا كهانة بعد اليوم» . وقد حدث بعضهم قال: إن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمى بها ثقيف، وإنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية، وكان أدهى العرب، وأنكرها رأيا: أي أدهاها رأيا، وكان ضريرا، وكان يخبرهم بالحوادث فقالوا له: يا عمرو ألم تر: أي تعلم ما حدث في السماء من الرمي بهذه النجوم، فقال: بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم أي النجوم المشهورة التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء هي التي يرمي بها فهو والله طي هذه الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهو لأمر أراد الله بهذا الخلق: أي والنوء بالنون والهمز هنا: ما يحصل عند سقوط نجم في المغرب وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما. وحقيقة النوء سقوط النجم وطلوع رقيبه في المدة المذكورة. وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع منها، فتقول: مطرنا بنوء كذا، وسيأتي الكلام على ذلك في غزوة الحديبية. وفي لفظ: فأمر أراد الله ونبي يبعث في العرب فقد تحدث بذلك. لا يقال: قد رجمت الشياطين بالنجوم قبل ذلك، وذلك عند مولده صلى الله عليه وسلم. لأنا نقول: المراد رجمت الآن بأكثر مما كان قبل ذلك، أو صارت تصيب ولا تخطئ.

ومن ثم حدث بعضهم، قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أي قرب زمن بعثه رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل، فأتوا عبد يا ليل بن عمرو وهو بمثناتين تحتيتين وكسر اللام الأولى الثقفي وكان أعمى فقالوا: إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم، فقال لهم: لا تعجلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي تعرف أي وهي التي يهتدى بها في البر والبحر، وتعرف بها الأنواء فهي عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهي من حديث، فنظروا فإذا نجوم لا تعرف، فقالوا: هذا من حدث. أي وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما يوعدون، وأنا آمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون، فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم» . وفي لفظ: فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب فقال: ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل. وهذا قد يخالف ما يأتي عن ابن عمر «لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من خبر السماء بالشهب» ولا مانع من تكرر سؤال ثقيف مرة لعمرو ابن أمية ومرة لعبد يا ليل بن عمرو، وأن كلا منهما كان أعمى. ويحتمل اتحاد الواقعة. ووقع الاختلاف في اسم الذي سألوه، فسماء بعضهم عمرو بن أمية، وبعضهم سماه عبد يا ليل بن عمرو، وهذا كما ترى إنما كان عند المبعث، وبه يعلم ما في قول الماوردي الذي نقله عن شيخ بعض شيوخنا النجم الغيطي في معراجه وأقره. وسببه أي رمي النجوم أن الله تعالى لما أراد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، ففزع أكثر العرب منها، وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير وكان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها، فقال: انظروا البروج الاثني عشر، فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم، فإنه يقتضي أن المراد ببعثه ولادته فكان يتعين إسقاط قوله قبل مولده، لما علمت أن هذا: أي كثرة تساقط النجوم إنما كان عند بعثه ونبوته لا عند ولادته. ومنه خبر أبي لهب أو لهيب بن مالك أي من بني لهب، فإن بني لهب فزعوا لفزع ثقيف. قال: «حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة، فقلت: بأبي وأمي، نحن أول من عرف حراسة السماء ومنع الجن من استراق السمع، وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن يقال له خطر بالخاء المعجمة والطاء المهملة والراء ابن مالك قال في النور: لا أعرف له ترجمة ولا إسلاما، وكان

شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة، وكان من أعلم كهاننا، فقلنا له يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها؟ فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها، فقال ائتوني بسحر أي قبيل الفجر أخبركم الخبر الخير، أم ضرر أم لأمن أو حذر. قال. فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من الغد في وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه، فناديناه: يا خطر يا خطر، فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه أصابه، جمع وصب كجمل وجمال، فالهمزة بدل من الواو، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوابه: أي زال عنه جوابه، يا ويله ما حاله، بلبله بلباله، البلبال الغم، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله، ثم أمسك طويلا، ثم قال: يا معشر بني قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أقسم بالكعبة والأركان، والبلد المؤتمن السدان أي الخدام، قد منع السمع عتاة الجان، بثاقب يكون ذا سلطان، من أجل مبعوث عظيم الشأن، يبعث بالتنزيل والفرقان، وبالهدى وفاضل القرآن، تبطل به عبادة الأوثان، قال فقلنا له: ويلك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما، فماذا ترى لقومك؟ فقال: أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنس برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث في مكة دار الحمس بمحكم التنزيل غير اللبس والحمس بضم الحاء المهملة وإسكان الميم والسين المهملة: هم قريش وما ولدت من غيرها فإنهم كانوا لا يزوجون بناتهم لأحد من أشراف العرب إلا على شرط أن يتحمس أولادهم، فإن قريشا من بين قبائل العرب دانوا بالتحمس، ولذلك تركوا الغزو، لما في ذلك من استحلال الأموال والفروج ومالوا للتجارة، ومن ثم يقال: قريش الحمس، سموا بذلك لتشددهم في دينهم، لأن الحماسة هي الشدة، فقلنا له: يا خطر ومن هو؟ فقال والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما في حكمه طيش. أي عدول عن الحق، من قولهم طاش السهم عن الهدف: إذا عدل عنه، ولا في خلقه هيش. أي ليس في طبيعته وسجيته قول قبيح، يكون في جيش، وأي جيش، من آل قحطان، وآل أيش، وآل قحطان هم الأنصار، قال صلى الله عليه وسلم: «رحى الإيمان دائرة في ولد قحطان» وآل أيش قبيلة من الجن المؤمنين، ينسبون إلى أبيهم أيش، شخص من كبير الجن. وقيل أراد بهم المهاجرين. أي ومن المهاجرين الذي يقال فيهم أيش، لأنه يقال في مقام المدح فلان أيش على معنى أي شيء هو؟ أي شيء عظيم لا يمكن أن يعبر عن عظمته وجلالته. وروي بدل أيش ريش. فقلنا له بين لنا من أي قريش؟ فقال: والبيت ذي الدعائم، يعني الكعبة، والركن يعني الحجر

الأسود والأحائم، يعني بئر زمزم لأن الأحائم جمع أحوام والأحوام جمع أحوم وهو الماء في البئر؟ وأراد بئر زمزم أو أن الأصل الحوائم، ففيه قلب مكاني الأصل فواعل فصار أفاعل، والحوائم: هي الطير التي تحوم على الماء، والمراد حمام مكة لهو نجل أي نسل هاشم، من معشر أكارم، يبعث بالملاحم يعني الحروب وقتل كل ظالم، ثم قال هذا هو البيان: أخبرني به رئيس الجان، ثم قال الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر، ثم سكن وأغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة أيام، فقال لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة» أي وحي وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده: أي مقام جماعة كما تقدم في نظيره. قال: ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن نفر من الأنصار قالوا: «بينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية؟» أي قبل البعث قالوا: يا رسول الله كنا نقول إذا رأينا يرمى بها: مات ملك ولد مولود، مات مولود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك كذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعته حملة العرش فسبحوا فسبح من تحتهم بتسبيحهم فسبح من تحت ذلك، فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا، ثم يقول بعضهم لبعض لم سبحتم؟ فيقولون: قضى الله في خلقه كذا وكذا له الأمر الذي كان» أي يكون في الأرض «فيهبط به من سماء إلى سماء» أي تقوله أهل كل سماء لمن يليهم «حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاس، ثم يأتون به إلى الكهان، فيحدثونهم فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا» . أي وفي البخاري «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كالسلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه» الحديث. وقولهم قال الحق: أي ثم يذكرونه، لما تقدم من قولهم قضى الله في خلقه كذا وكذا، ولما يأتي. وقوله صلى الله عليه وسلم، يرمى بها في الجاهلية صريح في أنه كان يرمى بالنجوم للحراسة في زمن الفترة بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه الصلاة والسلام قبل مولده صلى الله عليه وسلم. ويخالفه ما يأتي عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه «وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال: إنهم ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانا بالشيء يكون حقا، قال: تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة» ثم إنّ الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة.

أي وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة تتحدث في العنان- أي الغمام- بالأمر يكون في الأرض، فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن، فيزيدونها مائة كذبة» . وعن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه «لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بها، فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد يا ليل» الحديث. أقول: وهذا يفيد أنه لم يرم بها قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم: أي قبل قربه الشامل لزمن الولادة، فلا يخالف ما تقدم، وأن النجوم كان يرمى بها قبل أن يرفع عيسى عليه الصلاة والسلام وذلك صادق بزمن آدم فمن بعده من الرسل، وهو الموافق لقول الزهري: الحجب وتساقط النجوم كان موجودا قبل البعث في سالف الأزمان: أي في زمن الرسل لا في زمن الفترات بين الرسل، لقول الكشاف: وقول بعضهم: ظاهر الأخبار يدل على أن الرجم للشياطين بالشهب كان في زمن غيره صلى الله عليه وسلم من الرسل وهو كذلك، وعليه أكثر المفسرين- حراسة لما ينزل من الوحي على الرسل. وأما في الزمن الذي ليس فيه رسول: أي وهو زمن الفترات بين الرسل، فكانوا يسترقون السمع في مقاعد لهم، ويلقون ما يسمعون للكهان: أي لأن الله تعالى ذكر فائدتين في خلق النجوم، فقال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: الآية 5] وقال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) [الصافات: 6 و 7] وكونها إنما جعلت رجوما وحفظا ليس إلا عند قرب مبعثه صلى الله عليه وسلم، خاصة دون بقية الرسل من أبعد البعيد. وحيث كان الغرض من الرمي بالنجوم منع الشياطين من استراق السمع اقتضى ذلك أنه لم يرم بها قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم، ومنه زمن ولادته. ويوافق ذلك قول ابن إسحق: لما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين، وقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من خبر السماء، رموا بالشهب فذكروا ذلك لإبليس، فقال: بعث أي لعله بعث نبي، عليكم بالأرض المقدسة أي لأنها محل الأنبياء، وهذا يدل على أن عند إبليس أن الرمي بالنجوم علامة على بعث الأنبياء، فذهبوا ثم رجعوا، فقالوا ليس بها أحد، فخرج إبليس يطلبه بمكة: أي لأنها مظنة ذلك بعد محل الأنبياء، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء منحدرا معه جبريل، فرجع إلى أصحابه، فقال: بعث أحمد ومعه جبريل» . وفي رواية «إن إبليس قال لما أخبروه بأنهم منعوا من خبر السماء: إن هذا الحدث حدث في الأرض، فائتوني من تربة كل أرض فأتوه بذلك، فجعل يشمها، فلما شم تربة مكة قال: من ههنا الحدث، فمضوا

فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث» . أقول: قد يقال لا منافاة بين الروايتين، لأنه يجوز أنهم لم يخبروه بمبعثه صلى الله عليه وسلم لما وجدوه، فذهب أو ذهب بعد إخبارهم له بذلك للاستيقان، وهذا يفيد أن الرمي بالنجوم إنما كان عند مبعثه: أي عند تقارب زمنه لا قبل ذلك الذي منه زمن ولادته. وحينئذ يشكل حصول مثل ذلك لإبليس وجنوده عند مولده صلى الله عليه وسلم. ومن ثم قدمنا أنه يجوز أن يكون من خلط بعض الرواة، وهذه الرواية تدل على أن إبليس لم يكن عنده علم بأن سقوط النجم على الشياطين علامة على مبعث النبي صلى الله عليه وسلم والرواية التي قبلها تدل على ذلك كما علمت. وكلتا الروايتين يدل على أنه لم يعلم عينه ولا محله والله أعلم، وقد أشار صاحب الهمزية إلى أن حجب الشياطين كان عند مبعثه صلى الله عليه وسلم بقوله: بعث الله عند مبعثه الشه ... ب حراسا وضاق عنها الفضاء تطرد الجن عن مقاعد للسم ... ع كما يطرد الذئاب الرعاء فمحت آية الكهانة آيا ... ت من الوحي ما لهن انمحاء أي أرسل الله زمن إرساله صلى الله عليه وسلم الشعل من النار على الجن لأجل حراسة السماء منهم، ولكثرة تلك الشعل ضاقت عنها المفازات حال كون تلك الشهب تطرد الجن عن أمكنة قريبة يقاعدون فيها لأجل أن يسمعوا شيئا من الملائكة المتكلمين بما سيقع في الأرض من المغيبات، وطرد تلك الشهب لأولئك الشياطين في الشدة كطرد الرعاة للذئاب عن الغنم إذا أرادت أن تعدو عليها، فبسبب ذلك الطرد البالغ للجن عن خبر السماء محت آيات من الوحي آية الكهانة التي هي الإخبار بالأمور المغيبة، ما لتلك الآيات من الوحي انمحاء: أي ذهاب، بل هي باقية إلى يوم القيامة. وفيه أنه لزم على كون الغرض من الرمي بالنجوم حفظ الوحي أن ذلك لا يكون إلا عند مبعثه صلى الله عليه وسلم ولا يكون قبل ذلك الذي قبل منه وقت ولادته. وأيضا لو كان ذلك موجودا قبل مبعثه واستمر إلى مبعثه لم تفزع العرب منه عند مبعثه. وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون الغرض الأصلي من الرمي بها حفظ الوحي، فلا ينافي وجود ذلك قبل ذلك عند ولادته إرهاصا وتخويفا. وكان هذا السؤال الثاني هو الحامل لأبيّ بن كعب على دعوى أنه لم يرم بالنجوم منذ رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بها، ومن ثم قال: فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد يا ليل. ويجاب بأنه يجوز أن يكون الرمي بالنجوم عند المبعث مخالفا للرمي بها قبله، إما لفرط كثرتها وإما لأن الرمي بها بعد المبعث كان من كل جانب. وقيل كان من جانب واحد، وإما لأن الرمي بها صار لا يخطئ أبدا، وقبل ذلك كان يخطئ تارة ويصيب أخرى، فمنهم

من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله: أي يصيره غولا يضل الناس في البراري، وكان ذلك سبب فزع العرب لأنه كان قبل ذلك لم يكن من كل جانب، ولم يكثر ويخطىء فيعود الشيطان إلى مكانه فيسترق السمع ويلقي ما يسترقه إلى كاهنه أي فلم تنقطع الكهانة قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بالمرة، بل كانت موجودة إلى زمن مبعثه صلى الله عليه وسلم، وعند مبعثه انقطعت بالمرة ومن ثم قال: «لا كهانة اليوم» وهذا كله على تسليم رواية ابن عباس أن النجوم رمى بها عند ولادته صلى الله عليه وسلم. وحفظ الوحي بالرمي بالشهب لا يخالف ما حكاه في الإتقان عن سعيد بن جبير «ما جاء جبريل بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة» وسيأتي عن الينبوع عن ابن جرير «ما نزل جبريل بوحي قط إلا ونزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما، لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى ذلك النبي من الغيب الذي يوحيه إليه فيبلغوه إلى أوليائهم» . وعن بعضهم قال: سافرت عن زوجتي فخلفني عليها شيطان على صورتي وكلامي وسائر حالاتي التي تعرفها مني، فلما قدمت من السفر لم تفرح بي ولم تتهيأ لي، وكانت إذا قدمت من سفر تتهيأ لي كما تتهيأ العروس فقلت لها في ذلك، فقالت: إنك لم تغب، فبينما أنا كذلك، وقد ظهر لي ذلك الشيطان وقال لي أنا رجل من الجن عشقت امرأتك وكنت آتيها في صورتك فلا تنكر ذلك، فاختر إما أن يكون لك الليل ولي النهار، أو لك النهار ولي الليل، فراعني ذلك ثم اخترت النهار، فلما كان في بعض الليالي جاءني وقال: بت الليلة عند أهلك فقد حضرت نوبتي في استراق السمع من السماء فقلت: أنت تسترق السمع؟ فقال: نعم هل لك أن تكون معي؟ قلت: نعم، فلما جاء الليل أتاني، وقال حوّل وجهك فحولت وجهي، فإذا هو في صورة خنزير له جناحان فحملني على ظهره فإذا له معرفة كمعرفة الخنزير، فقال لي: استمسك بها فإنك ترى أمورا وأهوالا فلا تفارقني تهلك، ثم صعد حتى لصق بالسماء فسمعت قائلا يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» فهوى بي ووقع من وراء العمران فحفظت الكلمات فلما أصبحت أتيت أهلي، فلما كان الليل جاء فقلتهن، فاضطرب، فلم أزل أقولهن حتى صار رمادا، وإن لم يحمل وقوع ذلك في زمن الجاهلية وإلا كان كذبا لأنهم أجابوا عن إيراد أن القول بقدرة الجن على التصور يلزمه رفع الثقة بشيء، فإن من رأى نحو ولده وزوجته احتمل أنه جني فيشك بأن الله تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي إلى ما يترتب عليه ريبة في الدين فليتأمل. وقد جاء في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله «من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، والذي نفسي بيده إن لا حول ولا قوة إلا بالله

شفاء من سبعين داء أدناها الهمّ والغم والحزن» وفرق بين الغم والهم، بأن الغم يعرض منه السهر، والهم يعرض منه النوم. وفي حكمة آل داود: العافية ملك خفي، وهمّ ساعة هرم سنة. وقال الأطباء: الهم يوهن القلب، وفيه ذهاب الحياة، كما أن في الحزن ذهاب البصر. وفي الحديث «من كثر همه سقم بدنه» فعلم أن النجوم على تسليم أنه كان يرمي بها قبل الولادة وبعدها إلى البعثة كانت قبل قرب زمن المبعث تصيب تارة ولا تصيب أخرى مع قلتها، وعند البعثة تصيب ولا بد مع كثرتها، وإن الكثرة هي سبب الفزع لا دوام الإصابة، وإلا فمجرد دوام الإصابة لا يكون حاملا على الفزع لأنه لا يظهر لكل أحد، بخلاف الكثرة، ومجرد الكثرة لا يكون سببا لقطع الكهانة، أو أنها قبل البعث كانت ترمي من جانب دون آخر، وبعد البعثة رميت من جميع الجوانب وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً [الصافات: الآية 8 و 9] فكان ذلك سببا للفزع، والمراد وجود ذلك مع دوام الإصابة ليكون سببا لقطع الكهانة، وإلا فمجرد الرمي من كل جانب مع قلة الإصابة لا يكون سببا لقطع الكهانة، ولما انقطعت الكهانة بعدم إخبار الجن قالت العرب هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة حتى أسرعوا في أموالهم أي في إتلافها، فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها الناس أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي، والشمس والقمر؟ كذا في كلام بعضهم، ولعله لا يخالف ما تقدم من أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم ثقيف، وأنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية، ولرجل آخر يقال له عبد يا ليل، لجواز أن يكون ما ذكر هنا صدر من بعضهم لبعض، ثم اجتمعوا على عمرو وعبد ياليل والله أعلم. وظاهر القرآن والأخبار أن الذي يرمي به الشياطين المسترقون نفس النجم، وإنه المعبر عنه بالكوكب وبالمصباح وبالشهاب. وقيل الشهاب عبارة عن شعلة نار تنفصل من النجم أي كما قدمنا فأطلق عليها لفظ النجم، ولفظ المصباح، ولفظ الكوكب، ويكون معنى وَجَعَلْناها رُجُوماً [الملك: الآية 5] جعلنا منها رجوما وهي تلك الشهب، ومعنى كونها حفظا باعتبار ما ينشأ عنها من تلك الشهب. وقالت الفلاسفة: إن الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجوّ عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة واتصالها بالنار التي دون الفلك. وقيل السحاب إذا اصطكت أجرامه تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدّتها سريعة الخمود. فقد حكي أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت قاله في الكشاف.

ومما يؤيد أن الشعل منفصلة من النجوم، ما جاء عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أن النجوم كلها كالقناديل معلقة في السماء الدنيا كتعليق القناديل بالمساجد مخلوقة من نور. وقيل إنها معلقة بأيدي ملائكة، ويعضد هذا القول قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) [الانفطار: الآية 1 و 2] إن انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة. وقيل إن هذا ثقب في السماء، وقد وقع في سنة تسع وتسعين من القرن السادس أن النجوم ماجت وتطايرت تطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر وأفزع الخلق، فلجؤوا إلى الله تعالى بالدعاء قال بعضهم: ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: وقد وقع نظير ذلك في سنة إحدى وأربعين من القرن الثالث: ماجت النجوم في السماء، وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل، كان أمرا مزعجا لم ير مثله. ووقع في سنة ثلاثمائة تناثر النجوم تناثرا عجيبا إلى ناحية المشرق، والله أعلم. وأما ما جاء من ذكره صلى الله عليه وسلم: أي ذكر اسمه وصفته وصفة أمته في الكتب القديمة: أي كالتوراة المنزلة على موسى عليه الصلاة والسلام لست ليال خلون من رمضان اتفاقا. والإنجيل المنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام لثنتي عشرة خلت من رمضان، وقيل لثلاث عشرة، وقيل لثمان عشرة. والزبور المنزل على داود عليه الصلاة والسلام لثنتي عشرة، وقيل لثلاث عشرة، وقيل لثمان عشرة، وقيل في ست خلت من رمضان، وصحف شعياء، ويقال له أشعياء أو مزامير داود. وصحف شيث، فقد أنزلت عليه خمسون صحيفة، وقيل ستون. وصحف إبراهيم، فقد أنزل عليه عشرون صحيفة، وقيل ثلاثون أول ليلة من رمضان اتفاقا. وفي كتاب شعيب: ولم يذكر صحف إدريس، وقد أنزلت عليه ثلاثون صحيفة. وذكر بعضهم أن موسى عليه الصلاة والسلام أنزل عليه قبل التوراة عشرون صحيفة، وقيل عشر صحائف، وهذا كما لا يخفى يزيد على ما اشتهر أن الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب. وفي كلام بعضهم اتفقوا على أن القرآن أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان. وعن أبي قلابة «أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان» وحينئذ يكون من حكى الاتفاق في التوراة وصحف إبراهيم لم يطلع على هذا أو لم يعتد به، فقد أشار إلى ذكره صلى الله عليه وسلم في جميع الكتب المنزلة الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله: وفي كل كتب الله نعتك قد أتى ... يقص علينا ملة بعد ملة وهذا كما لا يخفى أبلغ من قول بعضهم:

ومن قبل مبعثه جاءت مبشرة ... به زبور وتوراة وإنجيل وقد اعترض على هذا القائل بعض الأغبياء بأن التوراة والإنجيل قد صحت بشارتهما به صلى الله عليه وسلم. وأما الزبور فلا ندري ولا نقول إلا ما نعلم. ويرده ما ذكره الإمام السبكي، وسنده قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) [الشّعراء: الآية 196] أي كتبهم. فقد قال بعض المفسرين إن الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الإضافة حيث لا عهد تحمل على العموم، وسيأتي أيضا التصريح بوجود اسمه في الزبور وقد جاء «إن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء والأرض» كما تقدم. وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة: الآية 130] أن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسمعيل نبيا اسمه أحمد من آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبي مهاجر، فأنزل الله الآية، وفيها أيضا محمد واسمه فيها أيضا حمياطا، وقيل: حمطايا أي يحمي الحرم من الحرام. واسمه في التوراة أيضا قدمايا: أي الأول السابق، واسمه فيها أيضا ينديند. واسمه أيضا أحيد وقيل أحيد: أي يمنع نار جهنم عن أمته، واسمه فيها أيضا طاب طاب: أي طيب. واسمه فيها أيضا كما في الشفاء محمد حبيب الرحمن، ووصف فيها بالضحوك: أي طيب النفس. وفيها محمد بن عبد الله مولده بمكة، ومهاجره إلى طابة، وملكه بالشام. والتوراة أي على فرض أن تكون اسما عربيا مأخوذة من التوراة وهو كتمان السر بالتعريض، لأن أكثرها معاريض من غير تصريح. واسمه في الإنجيل المنحمنا، والمنحمنا بالسريانية: محمد. أي وما جاء عن سهل مولى خيثمة. قال: كنت يتيما في حجر عمي فأخذت الإنجيل فقرأته حتى مرت لي ورقة ملصقة بغراء ففتقتها فوجدت فيها وصف محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء عمي، فلما رأى الورقة ضربني. وقال: ما لك وفتح هذه الورقة وقراءتها، فقلت فيها وصف النبي أحمد، فقال: إنه لم يأت بعد: أي الآن. أي وفي الإنجيل أيضا اسمه حبنطا: أي يفرق بين الحق والباطل، ووصفه بأنه صاحب المدرعة وهي الدرع، وفيه أيضا وصفه بأنه يركب الحمار والبعير، وسيأتي أن راكب الحمار عيسى عليه الصلاة والسلام، وراكب الجمل محمد صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الجواب. وفي الإنجيل إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى ربي فيعطيكم بارقليط، والبارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب: أي وما جاء بذلك وأخبر بالحوادث والغيوب إلا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبارقليط أو الفارقليط: الحكيم والرسول. قيل والإنجيل: أي على

فرض أن يكون اسما عربيا، مأخوذ من النجل: وهو الخروج، ومن ثم سمي الولد نجلا لخروجه، أو مشتق من النجل: وهو الأصل، يقال لعن الله أناجيله: أي أصوله، فسمي هذا الكتاب بهذا الاسم لأنه الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين. وقيل من النجلة وهي سعة العين لأنه أنزل وسعة لهم: أي لأن فيه تحليل بعض ما حرم عليهم. ومن ذلك ما جاء من عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) [الأحزاب: الآية 45] ، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك بالمتوكل، ليس بفظ: أي سيئ الخلق، ولا غليظ: أي شديد القول، ولا صخاب بالسين والصاد في الأسواق: أي لا يصيح فيها» وفي الحديث «أشد الناس عذابا كل جعار نعار سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء. أي ملة إبراهيم التي غيرتها العرب وأخرجتها عن استقامتها، بأن يقولوا لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا» أي لا تفهم كأنها في غلاف. قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه فسألته فما أخطأ في حرف. أقول: لكن في رواية كعب: وأعطى المفاتيح، ليبصرنّ الله به أعينا عورا، وليسمع به آذانا صما، ويقيم به ألسنة معوجة، يعين المظلوم، ويمنعه من أن يستضعف. وفيها وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. وعن بعض أحبار اليهود أنه قال: على جميع ما وصف به صلى الله عليه وسلم في التوراة وقفت إلا هذين الوصفين، وكنت أشتهي الوقوف عليها، فجاءه شخص يطلب منه ما يستعين به، وذكر له أنه لم يكن عنده ما يعينه به، فقلت: هذه دنانير ندفعها له، وتكون على كذا من التمر ليوم كذا ففعل، فجئته قبل الأجل بيومين أو ثلاثة، فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ إنكم يا بني عبد المطلب مطل، فقال لي عمر: أي عدو الله: تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وهمّ بي، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: «أنا وهو أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة- أي المطالبة- اذهب وأوفه حقه، وزده عشرين صاعا مكان ما رعته أي خفته فأسلم اليهوديّ» وذكر القصة. وفي التوراة: لا يزال الملك في يهود إلى أن يجيء الذي إياه تنتظر الأمم: أي

لا يزال أمرهم ظاهرا إلى أن يجيء الذي تنتظره الأمم. أي المرسل إليهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه المرسل لجميع الأمم. وما زعمه اليهود بأنه يوشع رد بنص التوراة في محل آخر: إن الله ربكم يقيم نبيا من إخوتكم مثلي، وقد قال لي: إنه سوف يقيم نبيا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلمتي في فيه، وأيما إنسان لم يطع كلامه أنتقم منه، لأن قوله مثلي: أي رسولا بكتاب مشتمل على الأحكام والشرائع، وذكر المبدأ والمعاد، لأن يوشع لم يكن له كتاب، بل كان متابعا لسنة موسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل خاصة، وأيضا يوشع منهم لا من إخوتهم، فلو كان يوشع لقال منكم. وما زعمه النصارى إنه المسيح ردّ عليهم بنصوص الإنجيل التي منها: إن الله يقيم لكم نبيا من إخوتكم، لأن المسيح ليس من إخوتهم بل منهم، لأنه من نسل داود. ففي زبور داود: سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا، وإخوة بني إسرائيل إنما هم أولاد إسمعيل الذي هو أخو إسحق وبنو إسرائيل منه. وأيضا لو كان المسيح لم يحسن أن يخاطب بهذا اللفظ. وفي الإنجيل: جاء الله من طور سينا، وظهر بساعير، وأعلن بفاران: أي عرف الله بإرساله موسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم، لأن ظهور نبوّة موسى كان في طور سينا، وتقدم أنه جبل بالشام. قيل هو الذي بين مصر وإيليا، وأنزلت التوراة عليه فيه. وظهور نبوّة عيسى كان في ساعير وهو جبل القدس، لأن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يسكن بقرية بأرض الخليل يقال لها ناصرة، وباسمها سمي من اتبعه، وأنزل عليه الإنجيل بها. وظهور نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كان في فاران وهي مكة، وأنزل عليه القرآن بها. وفي التوراة أن إسمعيل أقام بقرية فاران، وإنما عبر في جانب موسى بالمجيء لأنه أول المشرعين، لأن كتابه الذي هو التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، بخلاف ما قبله من الكتب فإنها لم تشتمل على ذلك، وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله تعالى وتوحيده، ومن ثم قيل لها صحف، وإطلاق الكتب عليها مجاز. ولما حصل بعيسى وبكتابه الذي هو الإنجيل نوع ظهور عبر في جانبه بالظهور الذي هو أقوى من المجيء، ثم لما زاد الظهور بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالإعلان الذي هو أقوى من مجرد الظهور. وقد قيل في تفسير قوله تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: الآية 157] إنهم يجدون نعته يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [الأعراف: الآية 157] وهو مكارم الأخلاق وصلة الأرحام وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف: الآية 157] وهو الشرك وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ [الأعراف: الآية 157] وهي الشحوم التي حرمت على

بني إسرائيل، والبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام التي حرمتها الجاهلية وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: الآية 157] التي كانت تستحلها الجاهلية من الميتة والدم ولحم الخنزير وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [الأعراف: الآية 157] من تحريم العمل يوم السبت، وعدم قبول دية المقتول، وأن يقطعوا ما أصابهم من البول والله أعلم. ومن ذلك ما جاء عن النعمان السبائي رضي الله تعالى عنه وكان من أحبار يهود باليمن قال: لما سمعت بذكر النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه وسألته عن أشياء، ثم قلت له: إن أبي كان يختم على سفر ويقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه. قال النعمان: فلما سمعت بك فتحت السفر، فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا فيه ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنت خير الأنبياء، وأمتك خير الأمم، واسمك أحمد صلى الله عليه وسلم، وأمتك الحمادون: أي يحمدون الله في السراء والضراء قربانهم دماؤهم: أي يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بإراقة دمائهم في الجهاد، وأناجيلهم في صدورهم: أي يحفظون كتابهم، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم، يتحنن الله عليهم كتحنن الطير على فراخه، ثم قال لي: يعني أباه: إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدقه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه، فأتاه يوما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا نعمان حدثنا، فابتدأ النعمان الحديث من أوله، فرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم، ثم قال: أشهد أني رسول الله» . أقول: والنعمان هذا قتله الأسود العنسي الذي ادعى النبوة، وقطعه عضوا عضوا وهو يقول: إن محمدا رسول الله، وإنك كذاب مفتر على الله، ثم حرقه بالنار: أي ولم يحترق كما وقع للخليل. وقيل الذي أحرقه الأسود العنسي بالنار ولم يحترق ذؤيب بن كليب أو ابن وهب، ولما بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك قال لأصحابه، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل، وهذا السفر يحتمل أن يكون ملخصا من التوراة، وقوله إلا وجبريل معهم يدل على أن جبريل يحضر كل قتال صدر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم للكفار، بل ظاهره كل قتال صدر حتى من جميع الأمة. وفي رواية بعضهم نقلا عن سفر من التوراة: لا يلقون أي أمته، عدوّا إلا وبين أيديهم ملائكة معهم رماح. وفي التوراة في صفة أمته صلى الله عليه وسلم زيادة على ما سبق: يؤضؤون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم. وقد جاء «ائتزوا كما رأيت الملائكة» أي ليلة الإسراء «تأتزر» أي مؤتزرة عند ربها إلى اتصاف سوقها. وقد جاء «عليكم بالعمائم وأرخوها خلف ظهوركم فإنها سيما الملائكة»

وكلاهما أي الاتزار وإرخاء العذبة من خصائص هذه الأمة. وقد جاء «إن العمائم تيجان المسلمين» وفي رواية «من سيما المسلمين» أي علاماتهم المميزة لهم عن غيرهم. ويؤخذ من وصفهم بأنهم يوضؤون أطرافهم أن الأمم السابقة كانوا لا يتوضؤون، ويوافقه قول الحافظ ابن حجر: إن الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة، ويوافقه ما رواه ابن مسعود مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى: افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء» أي أن يكونوا طاهرين، أو أن هذا أي وجوب الطهر لكل صلاة كان في صدر الإسلام ولم ينسخ إلا في فتح مكة كما سيأتي. ويخالف كون الوضوء من خصائص هذه الأمة ما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه ابن لهيعة عن بريدة قال: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ واحدة واحدة فقال: هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال: هذا وضوء الأمم قبلكم، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي» فإن هذا يفيد أن الوضوء كان للأمم السابقة، لكن مرتين ولأنبيائهم كان ثلاثا، وعليه فالخاص بهذه الأمة التثليث كوضوء الأنبياء: أي كما اختصت هذه الأمة عمن عداها بالغرة والتحجيل. وعلى هذا يحمل قول ابن حجر الهيتمي إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم. وفي كلام ابن عبد البر قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضؤون، ولا أعرفه من وجه صحيح. وفي كلام ابن حجر: والذي من خصائصنا إما الكيفية المخصوصة أو الغرة والتحجيل، هذا كلامه، وهو يفيد أن كون الكيفية المخصوصة ومنها الترتيب من خصائصنا غير مقطوع به، بل الأمر فيه على الاحتمال. ولا يخفى أن الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: «هذا وضوء الأمم» يدل على الترتيب، فقد استدل أئمتنا على وجوب الترتيب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ إلا مرتبا باتفاق أصحابه، ولو كان جائزا لتركه في بعض الأحايين. وما اعترض به على دعوى الاتفاق بأنه جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم «فتوضأ فغسل وجهه ثم يديه ثم رجليه ثم مسح رأسه» أجيب عنه بضعف هذه الرواية. وعلى تقدير صحتها يجوز أن يكون ابن عباس نسي مسح الرأس فذكره بعد غسل رجليه فمسحه ثم أعاد غسل رجليه. والراوي عن ابن عباس لم يقف على إعادة ابن عباس غسل رجليه.

وفي التوراة في صفة أمته صلى الله عليه وسلم: «دويهم في مساجدهم كدوي النحل» وفي رواية: «أصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل، رهبان بالليل، ليوث بالنهار وإذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر حسنات. وإذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول: أي وهو التوراة أو جنس الكتب السابقة والكتاب الآخر: أي وهو القرآن. وروى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح قال الله تعالى لعيسى: يا عيسى إني باعث من بعدك نبيا، أمته إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون صبروا واحتسبوا ولا حلم ولا علم. قال: كيف يكون ذلك لهم ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي. وحينئذ يكون المراد ولا حلم ولا علم لهم كامل، وأن الله تعالى يكمل علمهم وحلمهم من علمه وحلمه، ويدل لذلك ما ذكره بعضهم أن هذه الأمة آخر الأمم فكان العلم والحلم الذي قسم بين الأمم كما شهد به حديث «إن الله قسم بينكم أخلاقكم» قد دق جدا فلم يدرك هذه الأمة إلا يسير من ذلك مع قصر أعمارهم فأعطاهم الله من حلمه وعلمه. وجاء أنهم مسمون في التوراة: صفوة الرحمن. وفي الإنجيل: حلماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء. وفي الطبراني أن عمر قال لكعب الأحبار: كيف تجدني يعني في التوراة؟ قال خليفة قرن من حديد، أمير شديد، لا تخاف في الله لومة لائم. وزاد عن جواب السؤال قوله: ثم الخليفة من بعدك يقتله أمة ظالمون له ثم يقع البلاء بعد. وفي صحف شعياء اسمه صلى الله عليه وسلم ركن المتواضعين. وفيها: إني باعث، نبيا أميا أفتح به آذنا صما، وقلوبا غلفا، وأعينا عميا، مولده بمكة ومهاجرته بطيبة، وملكه بالشام، رحيما بالمؤمنين، يبكي للبهيمة المثقلة، ويبكي لليتيم في حجر الأرملة، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته ولو يمشي على القضيب الرعراع يعني اليابس لم يسمع من تحت قدميه، إلى آخر الرواية فإن فيها طولا، وقد ساقها الجلال السيوطي في الخصائص الكبرى. وشعياء هذا كان بعد داود وسليمان، وقبل زكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام. ولما نهي بني إسرائيل عن ظلمهم وعتوهم طلبوه ليقتلوه فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له ودخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها، فلما رأوا ذلك جاؤوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها. وكان من جملة الرسل الذي عناهم الله تعالى بقوله: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ [البقرة: الآية 87] أي موسى بِالرُّسُلِ [البقرة: الآية 87] وهم سبعة، وهو ثالث تلك الرسل السبعة: أي وهو المبشر بعيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم، فقال يخاطب بيت المقدس لما شكا

له الخراب وإلقاء الجيف فيه: أبشر يأتيك راكب الحمار، يعني عيسى، وبعده راكب الجمل يعني محمد صلى الله عليه وسلم، وتقدم في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه يركب الحمار والبعير. وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون عيسى اختص بركوب الحمار، بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان يركبهما، هذا تارة وهذا أخرى، فليتأمل: ومن جملتهم أرمياء، قيل وهو الخضر، والله أعلم. واسمه صلى الله عليه وسلم في الزبور حاط حاط، والفلاح الذي يمحق الله به الباطل وفارق وفاروق. أي يفرق بين الحق والباطل، وهو كما تقدم معنى فارقليط أو بارقليط، بالفاء في الأول والموحدة في الثاني. وقيل معناه الذي يعلم الأشياء الخفية، وفي «الينبوع» ومن الألفاظ التي رضوها لأنفسهم، يعني النصارى وترجموها على اختيارهم أن المسيح عليه الصلاة والسلام قال: إني أسأل الله أن يبعث إليك بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد، وهو يعلمكم كل شيء، ويفسر لكم الأسرار، وهو يشهد لي كما شهدت له، ويكون خاتم النبيين، ولم يشهد له بالبراءة والصدق في النبوة بعده إلا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر صاحب الدرّ المنظم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعمر رضي الله تعالى عنه: «يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الذي بعثني الله في التوراة لموسى، وفي الإنجيل لعيسى، وفي الزبور لداود ولا فخر» أي لا أقول ذلك على سبيل الافتخار، بل على سبيل التحدث بالنعمة «يا عمر أتدري من أنا؟ أنا اسمي في التوراة أحيد، وفي الإنجيل البارقليط، وفي الزبور حمياطا، وفي صحف إبراهيم طاب طاب ولا فخر» . وذكر صاحب كتاب «شفاء الصدور» في مختصره أن من فضائله صلى الله عليه وسلم ما رواه مقاتل بن سليمان قال: وجدت مكتوبا في زبور داود. إني أنا الله لا إله إلا أنا ومحمد رسولي، ووصف في مزامير داود بأنه يقوي الضعيف الذي لا ناصر له، ويرحم المساكين ويبارك عليه في كل وقت، ويدوم ذكره إلى الأبد. وبالجبار، ففيها تقلد أيها الجبار سيفك. فإن قيل: قال الله تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: الآية 45] . أجيب بأن الأول هو الذي يجبر الخلق إلى الحق. والثاني هو المتكبر. وفيها: يا داود سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقا لا أغضب عليه أبدا، ولا يعصيني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر: أي على فرض وقوع ذلك الذنب، والمراد به خلاف الأولى من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين: أي ما يعد حسنة بالنسبة لمقام الأبرار قد يعدّ سيئة بالنسبة لمقام المقربين، لعلوّ مقامهم وارتفاع شأنهم وأمته مرحومة، يأتون يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء.

وفي بعض مزامير داود: إن الله أظهر من صهيون إكليلا محمودا، وصهيون: اسم مكة. والإكليل: الإمام الرئيس وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وفي صحف شيث: أخو ناخ، ومعناه صحيح الإسلام، وهذا يدل على أن مزامير داود نسخة مختلفة بالزيادة والنقص. وفي صحف إبراهيم اسمه يوذموذ. وقيل إن ذلك في التوراة، ولا مانع من وجوده فيهما. وتقدم أنه في صحف إبراهيم اسمه طاب طاب، ولا مانع من وجود الوصفين في تلك الصحف. وفي كتاب شعيب عليه السلام: عبدي الذي يثبت شأنه، أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي، لا يضحك: أي مع رفع الصوت، ومن ثم قال: ولا يسمع صوته في الأصوات، لأن ضحكه كان التبسم، يفتح العيون العور والآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيته لا أعطيه أحدا. وفيه أيضا مشقح بالشين المعجمة والقاف والحاء المهملة: أي زاهي، يحمد الله حمدا جديدا، أي مخترعا لم يسبقه إليه أحد، يأتي من أقصى الأرض، لعل المراد به مكة، به تفرح البرية وسكانه، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ، سلطانه على كتفه. وذكر البرية وسكانها إشارة لدولة العرب، والمراد بسلطانه على كتفه خاتم النبوة لأنه علامة وبرهان على نبوته. أي وذكر ابن ظفر أن في بعض كتب الله المنزلة: إني باعث رسولا من الأميين، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل الحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والإسلام ملته، أرفع به من الوضيعة، وأهدي به من الضلالة، وأؤلف به بين قلوب متفرقة وأهواء مختلفة، وأجعل أمته خير الأمم. وأما ما جاء مما يدل على وجود اسمه الشريف أعني لفظ محمد مكتوبا في الأحجار والنبات والحيوان وغير ذلك بقلم القدرة فكثير. من ذلك ما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله» قال: المراد فص خاتمه. فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «إن فص خاتم سليمان بن داود كان سماويا: أي من السماء، ألقي إليه فوضعه في خاتمه» أي وكان به انتظام ملكه، وكان نقشه «أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي» وحينئذ يكون ما تقدم عن جابر وما يأتي يجوز أن يكون روي بالمعنى. وكان ينزعه إذا دخل الخلاء وإذا

جامع، وكان عند نزعه يتنكر عليه أمر الناس ولم يجد من نفسه ما كان يجده قبل نزعه. وفي «أنس الجليل» «كان نقش خاتم سليمان لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد عبده ورسوله» ووجد على بعض الحجارة القديمة مكتوب: محمد تقي مصلح، وسيد أمين. وفي جامع مدينة قرطبة بالمغرب عمود أحمر مكتوب فيه بقلم القدرة «محمد» . وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم إلا غفرت لي، قال وكيف عرفت محمدا» وفي لفظ كما في «الوفاء» وما محمد ومن محمد؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، قال: صدقت يا آدم، ولولا محمد لما خلقتك» أي وفي لفظ كما في «الشفاء» «قال آدم لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك، فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله تعالى إليه، وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك، ولولاه ما خلقتك» . وفي الوفاء، عن ميسرة «قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا. قال: لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، وكتب اسمي، أي موصوفا بالنبوة أو بما هو أخص منها وهو الرسالة على ما هو المشهور، على الأبواب والأوراق والقباب والخيام، وآدم بين الروح والجسد. أي قبل أن تدخل الروح جسده- فلما أحياه الله نظر إلى العرش فرأس اسمي فأخبره الله تعالى أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه» أي فقد وصف صلى الله عليه وسلم بالنبوة قبل وجود آدم. وفيه أيضا عن سعيد بن جبير اختصم ولد آدم أيّ الخلق أكرم على الله تعالى؟ فقال بعضهم: آدم خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته. وقال آخرون: بل الملائكة لأنهم لم يعصوا الله عز وجل، فذكروا ذلك لآدم، فقال: لما نفخ في الروح لم تبلغ قدميّ حتى استويت جالسا فبرق لي العرش فنظرت فيه محمد رسول الله فذاك أكرم الخلق على الله عز وجل. قيل وكان يكنى آدم بأبي محمد وبأبي البشر، وظاهره أنه كان يكنى بذلك في الدنيا، وتقدم أنه يكنى بأبي محمد في الجنة. ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا رضي الله تعالى عنه، قال لكعب

الأحبار رضي الله تعالى عنه: أخبرنا عن فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مولده، قال: نعم يا أمير المؤمنين. قرأت أن إبراهيم الخليل وجد حجرا مكتوبا عليه أربعة أسطر الأول: أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني. والثاني: أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي، طوبى لمن آمن به واتبعه. والثالث: أنا الله لا إله إلا أنا الحرم لي، والكعبة بيتي من دخل بيتي أمن من عذابي، ولينظر الرابع. أي وذكر بعضهم أن في سنة أربع وخمسين وأربعمائة عصفت ريح شديدة بخراسان كريح عاد انقلبت منها الجبال وفرت منها الوحوش، فظن الناس أن القيامة قد مات، وابتهلوا إلى الله تعالى، فنظروا فإذا نور عظيم قد نزل من السماء على جبل من تلك الجبال ثم تأملوا الوحوش؟ فإذا هي منصرفة إلى ذلك الجبل الذي سقط فيه ذلك النور، فساروا معها إليه فوجدوا به صخرة طولها ذراع في عرض ثلاثة أصابع وفيها ثلاثة أسطر. سطر فيه لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: الآية 25] . وسطر فيه محمد رسول الله القرشي. وسطر ثالث، فيه احذروا وقعة المغرب فإنها تكون من سبعة أو تسعة. والقيامة قد أزفت أي قربت. وجاء أن آدم عليه الصلاة والسلام قال: طفت السموات فلم أر في السموات موضعا إلا رأيت اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا عليه، ولم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوب عليه، ولقد رأيت اسمه صلى الله عليه وسلم على نحور الحور العين وورق آجام الجنة أي ورق قص آجام الجنة، وشجرة طوبى، وسدرة المنتهى والحجب، وبين أعين الملائكة، وهذا الحديث قد حكم بعض الحفاظ بوضعه. أي وقد قيل: إن أول شيء كتب القلم في اللوح المحفوظ: بسم الله الرحمن الرحيم، إني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي وشكر على نعمائي، ورضي بحكمي، كتبته صديقا، وبعثته يوم القيامة من الصديقين. وفي رواية: مكتوب في صدر اللوح المحفوظ: لا إله إلا الله، دينه الإسلام محمد عبده ورسوله، فمن آمن بهذا أدخله الله الجنة. وفي رواية «لما أمر الله القلم أن يكتب ما كان وما يكون كتب على سرادق العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله» يتأمل هذا فإنه إن كان المراد كما هو المتبادر أن القلم لما أمر أن يكتب ما ذكر كان أول شيء كتبه على سرادق العرش ما ذكر ثم تمم كتابة ما أمر به على ذلك كما كتب أول ما ذكر البسملة في اللوح المحفوظ ثم تمم كتابة ما أمر به يلزم أن يكون القلم كتب ما كان وما يكون في اللوح وعلى سرادق العرش. ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن آدم عليه الصلاة والسلام قال: وجدت اسم محمد صلى الله عليه وسلم على ورق شجرة طوبى،

وعلى ورق سدرة المنتهى: أي وعلى ورق قصب آجام الجنة، ومن ثم قال السيوطي في الخصائص الكبرى: من خصائصه صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه الشريف مع اسم الله تعالى على العرش. وفيها: ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن» ومكتوب اسمه صلى الله عليه وسلم على سائر ما في الملكوت: أي من السموات والجنان وما فيهن. وفي «الخصائص الصغرى» له أيضا: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه الشريف على العرش وكل سماء والجنان وما فيها وسائر ما في الملكوت. أقول: ولا يخالف هذا: أي ما تقدم عن آدم ما جاء على تقدير صحته أن آدم لما نزل إلى الأرض استوحش فنزل جبريل عليه السلام فنادى بالأذان: الله أكبر الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين، قال آدم: من محمد؟ قال جبريل: هو آخر ولدك من الأنبياء لجواز أن يكون آدم عليه السلام أراد أن يستثبت هل هو محمد الذي رأى اسمه مكتوبا وأخبر بأنه آخر الأنبياء من ذريته، وأنه لولاه ما خلقه واستشفع به أو غيره فليتأمل. وإنما قلنا على تقدير صحته لأنه سيأتي في بدء الأذان أن في سند هذ الحديث مجاهيل. وذكر صاحب كتاب «شفاء الصدور» في مختصره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: «يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي، ولا رفعت هذه الخضراء، ولا بسطت هذه الغبراء» . وفي رواية عنه «ولا خلقت سماء ولا أرضا ولا طولا ولا عرضا» . وبهذا يرد على من رد على القائل في مدحه صلى الله عليه وسلم: لولاه ما كان لا فلك ولا فلك ... كلا ولا بان تحريم وتحليل بأن قوله لولاه ما كان لا فلك ولا فلك مثل هذا يحتاج إلى دليل، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على ذلك، فيقال له: بل جاء في السنة ما يدل على ذلك، والله أعلم. ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: غزونا الهند فوقعت في غيضة فإذا فيها شجر عليه ورق أحمر مكتوب عليه بالبياض: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وعن بعضهم: رأيت في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة، مكتوب عليه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله تعالى بقدرته، في الورقة ثلاثة أسطر: الأول لا إله إلا الله، والثاني محمد رسول الله، والثالث إن الدين عند الله الإسلام. وعن بعض آخر قال: دخلت بلاد الهند فرأيت في بعض قراها شجر ورد أسود

ينفتح عن وردة كبيرة سوداء طيبة الرائحة مكتوب عليها بخط أبيض: لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق. عمر الفاروق، فشككت في ذلك وقلت إنه معمول، فعمدت إلى وردة كبيرة لم تفتح فرأيت فيها كما رأيت في سائر الورق وفي البلد منها شيء كثير، وأهل تلك البلد يعبدون الحجارة. ونقل ابن مرزوق في شرح البردة عن بعضهم قال: عصفت بنا ريح ونحن في لجج بحر الهند فأرسينا في جزيرة، فرأينا فيها وردا أحمر ذكي الرائحة مكتوب عليه بالأصفر: براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات النعيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله. أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال: رأيت في بلاد الهند شجرة تحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران، فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية، مكتوب عليها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله كتابة جلية، وهم يتبركون بتلك الشجرة، ويستسقون بها إذا منعوا الغيث. هذا وفي «مزيل الخفاء» الاقتصار على لا إله إلا الله: أي وحينئذ لا يكون شاهدا على ما ذكرنا. أي ومن ذلك ما حكاه الحافظ السلفي عن بعضهم أن شجرة ببعض البلاد لها أوراق خضر، وعلى كل ورقة مكتوب بخط أشد خضرة من لون الورق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان أهل تلك البلاد أهل أوثان، وكانوا يقطعونها ويبقون أثرها فترجع إلى ما كانت عليه في أقرب وقت، فأذابوا الرصاص وجعلوه في أصلها. فخرج من حول الرصاص أربع فروع على كل فرع لا إله إلا الله محمد رسول الله، فصاروا يتبركون ويستشفون بها من المرض إذا اشتد ويخلقونها بالزعفران وأجلّ الطيب. ومن ذلك أنه وجد في سنة سبع أو تسع وثمانمائة حبة عنب، فيها بخط بارع، بلون أسود «محمد» . ومن ذلك ما ذكره بعضهم أنه اصطاد سمكة مكتوب على جنبها الأيمن: لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر: محمد رسول الله، قال: فلما رأيتها ألقيتها في النهر احتراما لها. وعن بعض آخر قال: ركبت بحر الغرب ومعنا غلام معه سنارة فأدلاها في البحر فاصطاد سمكة قدر شبر بيضاء، فنظرنا فإذا مكتوب بالأسود على أذنها الواحدة: لا إله إلا الله، وفي قفاها وخلف أذنها الأخرى: محمد رسول الله فقذفناها في البحر. وعن بعضهم أنه ظهرت له سمكة بيضاء، وإذا على قفاها مكتوب بالأسود: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بطائر

في فمه لوزة خضراء فألقاها فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فيها دودة خضراء مكتوب عليها بالأصفر: لا إله إلا الله محمد رسول الله» . ومن ذلك ما حكاه بعضهم أنه كان بطبرستان قوم يقولون لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا يقرّون لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وحصل منهم افتتان؟ ففي يوم شديد الحر ظهرت سحابة شديدة البياض، فلم تزل تنشأ حتى أخذت ما بين الخافقين، وأحالت بين السماء والبلد، فلما كان وقت الزوال ظهر في السحابة بخط واضح: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلم تزل كذلك إلى وقت العصر، فتاب كل من كان افتتن، وأسلم أكثر من كان بالبلد من اليهود والنصارى. ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: بلغني في قول الله تعالى: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما [الكهف: الآية 82] قال: كان لوحا من ذهب. وقيل لوح من رخام مكتوب فيه: عجبا لمن أيقن بالموت: أي بأنه يموت كيف يفرح، عجبا لمن أيقن بالحساب: أي أنه يحاسب كيف يغفل، عجبا لمن أيقن بالقضاء: أي أن الأمور بالقضاء والقدر كيف يحزن، عجبا لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وروى البيهقي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن الكنز الذي ذكره الله تعالى في كتابة لوح من ذهب، فيه بسم الله الرحمن الرحيم: عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب أي يتعب. عجبت لمن ذكر النار ثم يضحك. عجبت لمن ذكر الموت ثم غفل، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي لفظ: لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي. وفي تفسير القاضي البيضاوي: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق: أي أن الله رازقه كيف ينصب أي يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. أقول: قد يقال يجوز أن يكون ما ذكر أولا في أحد وجهي ذلك اللوح، وما ذكر ثانيا في الوجه الثاني، أو أن بعض الرواة زاد، وبعضهم نقص، وبعضهم روى بالمعنى وحفظ ذلك الكنز لأجل صلاح أبيهما وكان تاسع أب لهما. وقد قال محمد بن المنكدر: إن الله يحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي هو فيها والدويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله وستره. ويذكر أن بعض العلوية همّ هارون الرشيد بقتله، فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله فقيل له: بماذا دعوت حتى نجاك الله؟ فقال قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي، كذا في العرائس، والله أعلم.

باب: سلام الحجر والشجر عليه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه

ومن ذلك ما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «مكتوب بين كتفي آدم محمد رسول الله خاتم النبيين» . أي وذكر بعضهم أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا، على أحد جنبيه مكتوب: لا إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال: ولد عندي في عام أربعة وسبعين وستمائة جدي أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة، وفيها مكتوب «محمد» بخط في غاية الحسن والبيان. وما حكاه بعضهم قال: شاهدت ببلدة من بلاد إفريقية بالمغرب رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل، مكتوب بعرق أحمر كتابة مليحة «محمد رسول الله» . وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته في كتابه «لواقح الأنوار القدسية في قواعد السادة الصوفية» ، وفي يوم كتابتي لهذا الموضع رأيت علما من أعلام النبوّة، وذلك أن شخصا أتاني برأس خروف شواها وأكلها وأراني فيها مكتوبا بخط إلهيّ على الجبين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق، يهدي به من يشاء. قال الشيخ عبد الوهاب: وتكرير ذلك لحكمة، فإن الله لا يسهو، هذا كلامه. وقد يقال: لعل الحكمة التأكيد لعلو مقام الهداية، كيف وهو المجانب لمقام الضلالة والغواية. وعن الزهري قال: شخصت إلى هشام بن عبد الملك، فلما كنت بالبلقاء رأيت حجرا مكتوبا عليه بالعبرانية، فأرشدت إلى شيخ يقرأه، فلما قرأه ضحك وقال: أمر عجيب، مكتوب عليه: باسمك اللهم، جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله وكتبه موسى بن عمران. باب: سلام الحجر والشجر عليه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبلي أن أبعث، إني لأعرفه الآن» قال جاء في بعض الروايات أن هذا الحجر هو الحجر الأسود: أي وقيل غيره، وأنه هو الذي في زقاق بمكة يعرف بزقاق الحجر: أي ولعله غير الحجر الذي به أثر المرفق، ذكر أنه صلى الله عليه وسلم اتكأ عليه بمرفقه، وهو الذي يقال له زقاق المرفق وغير الحجر الذي به أثر الأصابع. وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله تعالى كرامته بالنبوّة، كان إذا خرج لحاجة أي لحاجة الإنسان أبعد حتى لا يرى ببناء، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا» اهـ وإلى ذلك يشير صاحب

الأصل بقوله: لم يبق من حجر صلب ولا شجر ... إلا وسلم بل هناه ما وهبا وإلى ذلك يشير أيضا صاحب الهمزية بقوله: والجمادات أفصحت بالذي أخ ... رس عنه لأحمد الفصحاء أي والجمادات التي لا روح فيها نطقت بكلام فصيح لا تلعثم فيه: أي بالشهادة له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولم تنطق به أهل الفصاحة والبلاغة وهم الكفار من قريش وغيرهم. وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله» . أقول: «وإلى تسليم الحجر قبل البعثة يشير الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله: وما جزت بالأحجار إلا وسلمت ... عليك بنطق شاهد قبل بعثة وأما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أوحي إليّ جعلت لا أمرّ بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله» وما ذكره بعضهم أن الجن قالوا له صلى الله عليه وسلم بمكة: من يشهد أنك رسول الله؟ قال تلك الشجرة، ثم قال لها من أنا؟ فقالت: رسول الله» فليس من المترجم له. وفي الخصائص الصغرى: وخصى بتسليم الحجر، وبكلام الشجر، وبشهادتهما له بالنبوة، وإجابتهما دعوته. وفي كلام السهيلي: يحتمل أن يكون نطق الحجر والشجر كلاما مقرونا بحياة وعلم. ويحتمل أن يكون صوتا مجردا غير مقترن بحياة وعلم. وعلى كل هو علم من أعلام النبوة. وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: أكثر العقلاء، بل كلهم يقولون عن الجمادات لا تعقل، فوقفوا عند بصرهم. والأمر عندنا ليس كذلك؟ فإذا جاءهم عن نبيّ أو وليّ أن حجرا كلمه مثلا يقولون خلق الله فيه العلم والحياة في ذلك الوقت. والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة سار في جميع العالم. وقد ورد «أن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له، ولا يشهد إلا من علم وأطال في ذلك» وقال قد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله كنحن وأضرابنا، فإنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك، لكون

باب: بيان حين المبعث وعموم بعثته صلى الله عليه وسلم

الحق تعالى قد كشف لنا عن حياتها عينا وأسمعنا تسبيحها ونطقها، وكذلك اندكاك الجبل لما وقع التجلي إنما كان ذلك منه لمعرفته بعظمة الله عز وجل، ولولا ما عنده من العظمة لما تدكدك، والله أعلم. باب: بيان حين المبعث وعموم بعثته صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحق: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين. وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبيّ بعثه قبله بالإيمان به، والتصديق له، والنصر على من خالفه، وأن يؤدّوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم: أي فهم وأممهم من حملة أمته صلى الله عليه وسلم كما سيأتي عن السبكي. فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين» . قال: وهذا هو المشهور بين الجمهور من أهل السير، والعلم بالأثر. وقيل بزيادة يوم. وقيل بزيادة عشرة أيام، وقيل بزيادة شهرين. وقيل بزيادة سنتين، وهو شاذ، وأكثر منه شذوذا ما قيل إنه بزيادة ثلاث سنين، وما قيل إنه بزيادة خمس سنين. قال بعضهم: والأربعون هي سن الكمال، ونهاية بعث الرسل: أي لا يرسلون دونها، ومن ثم قال في الكشاف: ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة، هذا كلام الكشاف. وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة: أي ومعلوم أنه دعا إلى الله قبل ذلك، فهو قول شاذ حكاه وهب بن منبه عن النصارى اهـ: أي وعليه جرى غير واحد من المفسرين، بل قال في ينبوع الحياة: لم يبلغني أن أحدا من المفسرين ذكر في مبلغ سنه إذ رفع أكثر من ثلاث وثلاثين سنة هذا كلامه. وفي الهدى: وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة، فهذا لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه، هذا كلامه. ويوافق ما تقدم عن المفسرين وما في «العرائس» : ولما تمت له يعني عيسى عليه الصلاة والسلام ثلاثون سنة أوحى الله تعالى إليه أن يبرز للناس، ويدعوهم، ويضرب الأمثال لهم، ويداوي المرضى والزمنى والعميان والمجانين، ويقمع الشياطين، ويذلهم ويدحرهم، ففعل ما أمر به، وأظهر المعجزات، فأحيا ميتا يقال له عازر بعد ثلاثة أيام من موته. وعبارة الجلال المحلي في قطعة التفسير: أحيا عيسى عليه الصلاة والسلام أربعة. عازر صديقا له، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، هذا كلامه. وذكر البغوي قصة كل واحد فراجعه. وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يمشي على الماء، ومكث في الرسالة ثلاث سنوات ثم رفع، ويوافق ذلك أيضا قول ابن الجوزي: وأما حديث: وما من نبي إلا نبىء بعد الأربعين فموضوع، لأن عيسى عليه

الصلاة والسلام نبىء ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، بل قيل نبىء وهو طفل، فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء، هذا كلامه: أي وفيه أن هذا بمجرده لا يدل على وضع الحديث، ويوافقه أيضا قول القاضي البيضاوي: ونبىء نوح وهو ابن خمسين سنة، وقيل أربعين، ويوافقه أيضا قول بعضهم: ومما يدل على أن بلوغ الأربعين ليس شرطا للنبوة، وقصة سيدنا يحيى صلوات الله وسلامه عليه بناء على أن الحكم في قوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: الآية 12] النبوة، لا الحكمة وفهم التوراة كما قيل بذلك، بل أحكم إليه عقله في صباه واستنبأه، قيل كان ابن سنتين أو ثلاث. ولما ولي الخلافة المقتدر وهو غير بالغ صنف الإمام الصولي له كتابا فيمن ولي الأمر وهو غير بالغ، واستدل على جواز ذلك بأن الله بعث يحيى بن زكريا نبيا وهو غير بالغ، وذكر فيه كل من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم من الصبيان. قال بعضهم: وهو كتاب حسن، فيه فوائد كثيرة. وكان ذبح يحيى قبل رفع عيسى عليهما الصلاة والسلام بسنة ونصف سنة. ومما يدل على ما تقدم عن الهدى: أي من إنكار أن عيسى عليه الصلاة والسلام رفع وله ثلاث وثلاثون سنة قول بعضهم: الأحاديث الصحيحة تدل على أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة. من تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها «أخبرني جبريل أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين» وفي الجامع الصغير «ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله» وعلى كون كل نبي عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله يشكل أن نوحا كان أطول الأنبياء عمرا، ومن ثم قيل له كبير الأنبياء، وشيخ المرسلين. وهو أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم رأيت أن الحافظ الهيتمي ضعف حديث: ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله. وقال العماد بن كثير: إنه غريب جدا. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه: أي ينتظرون فراغه من الصلاة، لأن نزول وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: الآية 67] كان قبل هذا، حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال لهم: لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي» زاد في رواية «لا أقولهن فخرا. أما أولاهنّ فأرسلت إلى الناس كلهم عامة» أي من في زمنه وغيرهم ممن تقدم أو تأخر: أي وللشجر والحجر إلى آخر ما يأتي «وكان من قبلي» وفي لفظ «وكان كل نبي إنما يرسل إلى قومه» أي جميع أهل زمنه أو جماعة منهم خاصة. ومن الأول نوح، فإنه كان مرسلا لجميع من كان في زمنه من أهل الأرض، ولما

أخبر بأنه لا يؤمن منهم إلا من آمن معه وهم أهل السفينة وكانوا ثمانين: أربعين رجلا، وأربعين امرأة. وفي عوارف المعارف: أصحاب السفينة، كانوا أربعمائة. وقد يقال من الآدميين وغيرهم فلا مخالفة، دعا على من عدا من ذكر باستئصال العذاب لهم، فكان الطوفان الذي كان به هلاك جميع أهل الأرض إلا من آمن، ولو لم يكن مرسلا إليهم ما دعا عليهم بسبب مخالفتهم له في عبادة الأصنام، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ [الإسراء: الآية 15] أي حتى في الدنيا حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: الآية 15] . وقد ثبت أن نوحا أول الرسل: أي لمن يعبد الأصنام، لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه وأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك، وحينئذ لا يخالف كون أول الرسل آدم أرسله الله تعالى إلى أولاده بالإيمان بالله تعالى وتعليم شرائعه. وذكر بعضهم أنه كان مرسلا لزوجته حواء في الجنة، لأن الله تعالى أمره أن يأمرها وينهاها في ضمن أخباره بأمره ونهيه، بقوله تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة: الآية 35] وذلك عين الإرسال كما ادعاه بعضهم. فعلم أن عموم رسالة نوح عليه الصلاة والسلام لجميع أهل الأرض في زمنه لا يساوي عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، لما علمت أن رسالته عامة حتى لمن يوجد بعد زمنه، وحينئذ يسقط السؤال وهو لم يبق بعد الطوفان إلا مؤمن، فصارت رسالة نوح عليه الصلاة والسلام عامة. ويسقط جواب الحافظ ابن حجر عنه بأن هذا العموم الذي حصل بعد الطوفان لم يكن من أصل بعثته بل طرأ بعد الطوفان، بخلاف رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قيل كان بين الدعوة والطوفان مائة عام، وقد حققنا فيما سبق أن آدم ومن بعده دعا إلى الإيمان بالله تعالى وعدم الإشراك به، إلا أن الإشراك به وعبادة الأصنام اتفق أنه لم يقع إلا زمن نوح ومن بعده. وأما قول اليهود أو بعضهم وهم العيسوية طائفة من اليهود أتباع عيسى الأصفهاني: إنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث للعرب خاصة دون بني إسرائيل، وإنه صادق ففاسد، لأنهم إذا سلموا أنه رسول الله، وأنه صادق لا يكذب لزمهم التناقض، لأنه ثبت بالتواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله لكل الناس. أقول: قال بعضهم: ولا ينافيه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: الآية 4] لأنه لا يدل على اقتصار رسالته عليهم، بل على كونه متكلما بلغتهم ليفهموا عنه أولا، ثم يبلغ الشاهد الغائب، ويحصل الإفهام لغير أهل تلك اللغة من الأعاجم بالتراجم الذين أرسل إليهم، فهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الكافة وإن كان هو وكتابه عربيين كما كان موسى وعيسى عليها الصلاة والسلام مبعوثين لبني إسرائيل بكتابيهما

العبراني: أي وهو التوراة، والسرياني وهو الإنجيل، مع أن من جملتهم جماعة لا يفهمون بالعبرانية ولا بالسريانية كالأروام، فإن لغتهم اليونانية والله أعلم. وأشار إلى الثانية من الخمس بقوله: «ونصرت بالرعب على العدو ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر» أي أمامه وخلفه «يملأ مني رعبا» أي يقذف الرعب في قلوب أعدائه صلى الله عليه وسلم، وجعل الغاية شهرا لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه: أي المحاربين له أكثر من شهر. أي وجاء أن سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام ذهب هو وجنده من الإنس والجن وغيرهما إلى الحرم. وكان يذبح كل يوم خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة لأن مساحة جنده كانت مائة فرسخ، قال لمن حضر من أشراف جنده: هذا مكان يخرج منه نبي عربي يعطى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. ثم قالوا: فبأي دين يا نبي الله يدين؟ قال: بدين الحنيفية، فطوبى لمن آمن به، قالوا: كم بين خروجه وزماننا، قال مقدار ألف عام. وأشار إلى الثالثة بقوله: «وأحلت لي الغنائم كلها، وكان من قبلي» أي من أمر بالجهاد منهم «يعطونها ويحرمونها» أي لأنهم كانوا يجمعونها: أي والمراد ما عدا الحيوانات من الأمتعة والأطعمة والأموال، فإن الحيوانات تكون ملكا للغانمين دون الأنبياء. ولا يجوز للأنبياء أخذ شيء من ذلك بسبب الغنيمة كذا في الوفاء. وجاء في بعض الروايات «وأطعمت أمتك الفيء ولم أحله لأمة قبلها» أي والمراد بالفيء ما يعم الغنيمة، كما أنه قد يراد بالغنيمة ما يعم الفيء. هذا وفي بعض الروايات «وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار، أي نار بيضاء من السماء فتأكله» أي حيث لا غلول «وأمرت أن أقسمه في فقراء أمتي» وفي تكملة تفسير الجلال السيوطي لتفسير الجلال المحلي أن ذلك لم يعهد في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، ولعله لم يكن ممن أمر بالجهاد، فلا يخالف ما سبق. وأشار إلى الرابعة بقوله: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت» أي تيممت حيث لا ماء «وصليت» فلا يختص السجود منها بموضع دون غيره «وكان من قبلي لا يعطون ذلك» أي الصلاة في أي محل أدركتهم فيه، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم: أي ولم يكن أحد منهم يتيمم، لأن التيمم من خصائصنا. وفي رواية جابر «ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه» . وجاء في تفسير قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: الآية 155] الآيات. من المأثور أن الله تعالى قال لموسى: «أجعل لكم الأرض مسجدا؟ فقال لهم موسى: إن الله قد جعل لكم الأرض مسجدا، قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في كنائسنا، فعند ذلك قال

الله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [الأعراف: الآية 156] إلى قوله الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: الآية 157] أي وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه قيل إن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يسيح في الأرض يصلي حيث أدركته الصلاة. ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين ما تقدم من قوله: لم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه، إلا أن يقال لا يصلي مع أمته إلا في محرابه. وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فخص بأنه كان يصلي حيث أدركته الصلاة وسيأتي في الخصائص الكلام على ذلك. وأشار إلى الخامسة بقوله: «قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله، وهي لإخراج من في قلبه ذرة من الإيمان ليس له عمل صالح إلا التوحيد» أي إخراج من ذكر من النار لأن شفاعة غيره صلى الله عليه وسلم تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك قاله القاضي عياض. أي وقد جاء في بيان من يشفع بإذن الله له في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع وفي رواية «ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون، فيشفعهم الله عز وجل» وقد جاء «إن أول شافع جبريل ثم إبراهيم، ثم موسى ثم يقوم نبيكم رابعا لا يقوم بعده أحد فيما يشفع فيه» . وفي الحديث «آتي تحت العرش فأخر ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول يا رب أمتي يا رب أمتي، فيقال انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من بر أو شعير من إيمان» وفي لفظ «حبة من خردل» وفي لفظ «أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل فأخرجه» أي من النار «فانطلق فأفعل» أي أخرجه من النار «وأدخله الجنة» . وله صلى الله عليه وسلم شفاعة قبل هذه في إدخال أهل الجنة الجنة بعد مجاوزة الصراط، ففي الحديث «فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا، فيأذن الله لي في حمده وتمجيده، ثم يقول: ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع واسأل تعطه، فأقول: يا رب شفعني في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فيأذن الله تعالى في الشفاعة إلى آخر ما تقدم. ومن هذا يعلم أن الشفاعة في الإخراج من النار، إنما تكون منه صلى الله عليه وسلم وهو في الجنة، فما تقدم من قوله: «آتي تحت العرش فأخر ساجدا» إلى آخره، إنما ذلك في الشفاعة في فصل القضاء، فهذا خلط من بعض الرواة: أي خلط الشفاعة في الموقف التي هي الشفاعة في فصل القضاء بالشفاعة، بعد مجاوزة الصراط في دخول أهل الجنة الجنة وبالشفاعة بعد دخول الجنة في إخراج أهل التوحيد من النار، والشفاعة في فصل القضاء هي المشار إليها في قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعطيت الشفاعة» فقد قال ابن دقيق

العيد: الأقرب أن اللام فيها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف: أي وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون، المعني بقوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: الآية 79] . وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه «تجمع الناس في صعيد واحد، فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: لبيك وسعديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» . وقد هاجت فتنة كبيرة ببغداد بسبب هذه الآية، أعني عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) [الإسراء: الآية 79] فقالت الحنابلة: معناه يجلسه الله تعالى على عرشه. وقال غيرهم: بل هي الشفاعة العظمى في فصل القضاء، فدام الخصام إلى أن اقتتلوا فقتل كثيرون. وهذه الشفاعة إحدى الشفاعات الثلاث المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم: «لي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن» . وفي كلام بعضهم: له صلى الله عليه وسلم تسع شفاعات أخر غير فصل القضاء، جرى في اختصاصه ببعضها خلاف، وهي: الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب ولا عقاب. قال النووي وجماعة: هي مختصة به صلى الله عليه وسلم، والشفاعة في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها. قال القاضي عياض وغيره: ويشترك فيها من يشاء الله تعالى. والشفاعة في إخراج من أدخل النار من الموحدين وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم. والشفاعة في إخراج من أدخل منهم النار وفي قلبه أزيد من ذرة من إيمان، ويشاركه فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون. وظاهر هذا السياق أن المراد بمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى آخره عام في أمته وغيرهم من الأمم. وهو يخالف قول بعضهم: جاء في الصحيح «فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. أي ومات على ذلك- قال: ليس ذلك لك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله» . ولا يشكل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أتاني آت من عند ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي» وفي رواية «ثلثي أمتي الجنة» أي بلا حساب ولا عذاب «وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا، فاخترت الشفاعة وعلمت أنها أوسع لهم» . لأنا نقول: المراد بالذين تناله شفاعته صلى الله عليه وسلم ممن مات لا يشرك بالله شيئا

خصوص أمته: وأما من قيل له فيه ليس ذلك لك فهم الموحدون من الأمم السابقة فليتأمل مع ما سبق من شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين. والشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها. وجوّز النووي اختصاصها به صلى الله عليه وسلم. والشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض الكفار كأبي طالب وأبي لهب في كل يوم اثنين بالنسبة لأبي لهب، والشفاعة لمن مات بالمدينة الشريفة، ولعل المراد أنه لا يحاسب. وقد أوصل ابن القيم شفاعاته صلى الله عليه وسلم إلى أكثر من عشرين شفاعة. وفي رواية «أعطيت ما لم يعطه أحد من الأنبياء: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض» أي وفي لفظ «وبينا أنا نائم رأيتني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض، فوضعت بين يديّ» ولا منافاة، لأنه يجوز أنه أعطى ذلك يقظة بعد أن أعطيه مناما «وسميت أحمد» أي ومحمدا أي لأن أحدا من الأنبياء لم يسمّ بذلك، فهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأنبياء، كذا في الخصائص الصغرى، وتقدم أن التسمية بأحمد من خصائصه صلى الله عليه وسلم على جميع الناس: وفي وصفه صلى الله عليه وسلم نفسه بما ذكر، وقول عيسى عليه الصلاة والسلام إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: الآية 30] الآية، وقول سليمان عليه الصلاة والسلام عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النّمل: الآية 16] الآية هو الأصل في ذكر العلماء مناقبهم في كتبهم، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) [الضّحى: الآية 11] ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «التحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر» قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: الآية 7] . صعد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه المنبر فقال: الحمد لله الذي صيرني ليس فوقي أحد ثم نزل، فقيل له في ذلك؟ فقال: إنما فعلت ذلك إظهارا للشكر. وعن سفيان الثوري رحمه الله: من لم يتحدث بنعمة الله فقد عرّضها للزوال. والحق في ذلك التفصيل، وهو أن من خاف من التحدث بالنعمة وإظهارها الرياء، فعدم التحدث بها وعدم إظهارها أولى، ومن لم يخف ذلك فالتحدث بها وإظهارها أولى أي وفي الشفاء أنه أحمد المحمودين، وأحمد الحامدين، ويوم القيامة يحمده الأولون والآخرون لشفاعته لهم، فحقيق أن يسمى محمدا وأحمد، وتقدم أن هذا يوافق ما تقدم عن الهدى أن أحمد مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول. وقد جاء «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي، وجعلت أمتي خير الأمم» . قال القاضي البيضاوي، وفي التسمية بالأسماء العربية تنويه إلى تعظيم المسمى، هذا كلامه. وفي رواية «لما أسري بي إلى السماء قرّبني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى، قيل لي: قد جعلت أمتك آخر الأمم لأفضح الأمم

عندهم» أي بوقوفهم على أخبارهم «ولا أفضحهم عند الأمم» أي لتأخرها عنهم، وعليه فالضمير في (دنا) يعود إليه صلى الله عليه وسلم. وذكر بعضهم أن دَنا فَتَدَلَّى [النجم: الآية 8] الآية، عبارة عن تقريبه تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، فالضمير في دنا إلى آخره يعود إلى الله تعالى وهو معنى لطيف. وفي رواية «نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيّ لهم قبل الخلائق» وفي رواية «نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، تنفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرّ محجلين من أثر الطهور» وفي رواية «من آثار الوضوء، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها» هذا، وفي رواية «غرا من أثر السجود محجلين من أثر الوضوء» وفي رواية «فضلت على الأنبياء بست» أي ولا مخالفة بين ذكر الخمس أولا وبين ذكر الست هنا، لأنه يجوز أن يكون اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي، هذا على اعتبار مفهوم العدد، ثم أشار إلى بيان الست بقوله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة» والخلق يشمل الإنس والجن والملك والحيوانات والنبات والحجر. قال الجلال السيوطي: وهذا القول، أي إرساله للملائكة. رجحته في كتاب الخصائص وقد رجحه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي، وزاد أنه مرسل لجميع الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم إلى قيام الساعة. ورجحه أيضا البارزي، وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات، وأزيد على ذلك أنه أرسل إلى نفسه. وذهب جمع إلى أنه لم يرسل للملائكة منهم ما الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع، ومشيت عليه في شرح التقريب. وحكى الفخر الرازي في تفسيره والبرهان النسفي في تفسيره فيه الإجماع هذا كلامه، وبهذا الثاني أفتى والد شيخنا الرملي، وعليه فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: «أرسلت للخلق كافة» وقوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: الآية 1] من العام المخصوص أو الذي أريد به الخصوص. ولا يشكل عليه حديث سلمان «إذا كان الرجل في أرض وأقام الصلاة صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه، يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده» لأنه يجوز أن لا يكون ذلك صادرا عن بعثته إليهم. ولا يشكل ما ورد «بعثت إلى الأحمر والأسود» لما تقدم أن المراد بذلك العرب والعجم. وفي الشفاء: وقيل الحمر الإنس، والسود الجانّ، واستدل للقول الأول القائل بأنه أرسل للملائكة بقوله تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ [الأنبياء: الآية 29] أي من الملائكة إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: الآية 29] فهي إنذار للملائكة على لسانه صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم الذي أنزل عليه، فثبت بذلك إرساله إليهم

ودعوى الإجماع منازع فيها، فهي دعوى غير مسموعة، ثم رأيت الجلال السيوطي ذكر هذا الاستدلال وهو واضح، وذكر تسعة أدلة أيضا، وهي لا تثبت المدعي الذي هو أن الملائكة يكلفون بشرعه صلى الله عليه وسلم، كما لا يخفى على من رزق نوع فهم بالوقوف عليها. فعلم أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لجميع الأنبياء وأممهم على تقدير وجوده في زمنهم، لأن الله تعالى أخذ عليهم وعلى أممهم الميثاق على الإيمان به ونصرته مع بقائهم على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل، وتكون شريعته في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، لأن الأحكام والشرائع تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات قاله السبكي: أي فجميع الأنبياء وأممهم من جملة أمته صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: «والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه الصلاة والسلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» . وأخرج أحمد وغيره عن عبد الله بن ثابت، قال: «جاء عمر رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، فسرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم، «إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين» . وفي النهر لأبي حيان «إن عبد الله بن سلام استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل فلم يأذن له» وكون جميع الأنبياء وأممهم من أمته صلى الله عليه وسلم، فالمراد أمة الدعوة لا أمة الإجابة لأنها مخصوصة بمن آمن به بعد البعثة على ما تقدم ويأتي. وبعثته صلى الله عليه وسلم رحمة حتى للكفار بتأخير العذاب عنهم، ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة، وحتى للملائكة، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: الآية 107] . وقد ذكر في الشفاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى العاقبة، فآمنت لثناء الله تعالى عليّ في القرآن بقوله عز وجل: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) [التكوير: الآية 20] » . قال الجلال السيوطي: إن هذا الحديث لم نقف له على إسناد، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر المرسلين وجميع الملائكة المقربين، وفي لفظ آخر «فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأحلت لي الغنائم، وجعلت أمتي خير الأمم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرعب، والذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه» وفي رواية «فما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة

ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، أنا أمشي ويمشي الناس معي حتى آتي باب الجنة» الحديث. أقول: قد سئلت عما حكاه الجلال السيوطي أنه ورد إلى مصر نصراني من الفرنج وقال لي: شبهة إن أزلتموها أسلمت، فعقد له مجلس بدار الحديث الكاملية، ورأس العلماء إذ ذاك الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقال له النصراني والناس يسمعون: أي أفضل عندكم المتفق عليه، أو المختلف فيه؟ فقال له الشيخ عز الدين: المتفق عليه، فقال له النصراني: قد اتفقنا نحن وأنتم على نبوة عيسى واختلفنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يكون عيسى أفضل من محمد، فأطرق الشيخ عز الدين ساكتا من أول النهار إلى الظهر حتى ارتج المجلس واضطرب أهله، ثم رفع الشيخ رأسه وقال عيسى قال لبني إسرائيل وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصّف: الآية 6] فيلزمك أن تتبعه فيما قال، وتؤمن بأحمد الذي بشر به فأقام الحجة على النصراني وأسلم بأنه كيف أقام الحجة على كون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من عيسى إذ غاية ما ذكر أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأجبت بأنه حيث ثبت أن محمدا رسول الله وجب الإيمان به وبما جاء به ومما جاء به، وأخبر به أنه أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد سئل أبو الحسن الحمال بالحاء المهملة من فقهائنا معاشر الشافعية: محمد وموسى أيهما أفضل؟ فقال محمد، فقيل له: ما الدليل على ذلك؟ فقال: إنه تعالى أدخل بينه وبين موسى لام الملك فقال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه: الآية 41] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: الآية 10] ففرق بين من أقام بوصفه وبين من أقامه مقام نفسه والله أعلم. وفي رواية «إذا كان يوم القيامة كان لي لواء الحمد وكنت إمام المرسلين وصاحب شفاعتهم» وفي لفظ «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر، وأنا أول شافع، وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة: أي حلق بابها، فيفتح الله لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر» أي وفي رواية «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، أي بتحريك حلقة الباب أو قرعه بها لا بصوت، فيقول الخازن أي وهو رضوان: من أنت؟ فأقول محمد» وفي رواية «أنا محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح» وفي رواية «أن لا أفتح لأحد قبلك» زاد في رواية «ولا أقوم لأحد بعدك لأفتح له» فمن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن رضوان لا يفتح إلا له، ولا يفتح لغيره من الأنبياء وغيرهم، وإنما يتولى ذلك غيره من الخزنة، وهي خصوصية عظيمة نبه عليها القطب الخضري، وكون الفاتح له صلى الله عليه وسلم الخازن لا ينافي ما قبله من كون الفاتح له الحق سبحانه وتعالى لما علم أن الخازن إنما فتح بأمر الله فهو الفاتح الحقيقي.

وفي رواية «أنا أول من يفتح له باب الجنة ولا فخر فآتي فآخذ بحلقة الجنة، فيقال من هذا؟ فأقول محمد، فيفتح لي، فيستقبلني الجبار جل جلاله فأخر له ساجدا» أي فالكلام في يوم القيامة، فلا يرد إدريس بناء على أن دخوله الجنة مترتب على فتح الباب غالبا، لأن ذلك قبل يوم القيامة، وفي يوم القيامة يخرج إلى الموقف، فيكون مع أمته للحساب. ولا ينافيه ما جاء «أول من يقرع باب الجنة بلال ابن حمامة» على تقدير صحته، لأنه يجوز أن يكون يقرع الباب الأصليّ لا حلقه، أو الأول من الأمة والله أعلم. وفي الأوسط للطبراني بإسناد حسن «حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» وسيأتي أن هذا من جملة ما أوحي إليه ليلة المعراج، الذي أشار إليه قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) [النّجم: الآية 10] ولعل هذا هو المراد مما جاء في المرفوع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرمت الجنة على جميع الأمم حتى أدخلها أنا وأمتي» وأن ظاهرها من أنه لا يدخلها أحد من الأنبياء إلا بعد دخول هذه الأمة ليس مرادا. وفي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لهذه الأمة المحمدية، وهي أنه لا يدخل أحد الجنة من الأمم السابقة ولو من صلحائها وعلمائها وزهادها حتى يدخل من كان يعذب في النار من عصاة هذه الأمة بناء على أنه لا بد من تعذيب طائفة من هذه الأمة في النار. ولا بعد في ذلك، لأنه تقدم أن أول من يحاسب من الأمم، هذه الأمة. فيجوز أن الأمم لا يفرغ حسابهم، ولا يأتون إلى باب الجنة إلا وقد خرج من كان يعذب من هذه الأمة في النار ودخل الجنة. وجاء «إنه يدخلها قبله من أمته سبعون ألفا مع كل واحد سبعون ألفا لا حساب عليهم» وذلك معارض لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يدخل الجنة» إلا أن يقال: أول من يدخل الجنة من الباب، وهؤلاء السبعون ألفا ورد أنهم يدخلون من أعلى حائط الجنة فلا معارضة. ولا يعارض ذلك ما جاء «أول من يدخل الجنة أبو بكر» لأن المراد أول من يدخلها من رجال هذه الأمة غير الموالي. ولا يعارض ذلك ما تقدم عن بلال رضي الله تعالى عنه «أنه أول من يقرع باب الجنة» لأنه لا يلزم من القرع الدخول وعلى تسليم أن القرع كناية عن الدخول، فالمراد من الموالي. ولا يعارض ذلك أيضا ما جاء «أول من يدخل الجنة بنتي فاطمة» كما لا يخفى، لأن المراد أول من يدخلها من نساء هذه الأمة فالأولية إضافية.

وجاء «لأشفعنّ يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر» وعن أنس رضي الله تعالى عنه «فضلت على الناس بأربع: بالسخاء، والشجاعة، وقوة البطش، وكثرة الجماع» أي فعن سلمى مولاته صلى الله عليه وسلم أنها قالت «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه التسع ليلته وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى وقال: هذا أطهر وأطيب» . ومما يدل على قوة بطشه صلى الله عليه وسلم ما وقع له مع ركانة كما سيأتي. وفي الخصائص الصغرى: وكان أفرس العالمين، فهو صلى الله عليه وسلم أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأشجعهم وأعلمهم وأكملهم في جميع الأخلاق الجميلة والأوصاف الحميدة. قال ابن عبد السلام: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أخبره بالمغفرة: أي لما تقدم وتأخر، ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك: أي ولأنه لو وقع لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، بل ومما اختص به صلى الله عليه وسلم وقوع غفران نفس الذنب المتقدم والمتأخر، كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في بيان ما اختص به عن الأنبياء «وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر» أي ولا ينافي ذلك قوله تعالى في حق داود فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ [ص: الآية 25] لأنه غفران لذنب واحد. قال ابن عبد السلام: بل الظاهر أنه لم يخبرهم أي بغفران ذنوبهم، بدليل قولهم في الموقف «نفسي نفسي، لأني» إلى آخره. وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بي من يهودي أو نصراني ثم لم يسلم دخل النار» أي لأنه يجب عليه أن يؤمن به. أقول: والذي في مسلم «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» أي من سمع بنبينا صلى الله عليه وسلم ممن هو موجود في زمنه وبعده إلى يوم القيامة ثم مات غير مؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار. أي ومن جملة ما أرسل به أنه أرسل إلى الخلق كافة لا لخصوص العرب تأمل، وإنما خص اليهود والنصارى بالذكر تنبيها على غيرهما لأنه إذا كان حالهما ذلك مع أن لهم كتابا فغيرهم مما لا كتاب له كالمجوسي أولى، لأن اليهود كتابهم التوراة، والنصارى كتابهم الإنجيل لأن شريعة التوراة التي هي شريعة موسى يقال لها اليهودية أخذا من قول موسى عليه الصلاة والسلام إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: الآية 156] أي رجعنا إليك، فمن كان على دين موسى يسمى يهوديا، وشريعة الإنجيل يقال لها النصرانية، أخذا من قول عيسى عليه الصلاة والسلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: الآية 52] فمن كان على دين عيسى يسمى نصرانيا، وكان القياس أن يقال له أنصاري. وقيل النصراني نسبة إلى ناصرة قرية من قرى الشام نزل بها عيسى عليه السلام كما تقدم، ولا مانع من رعاية الأمرين في ذلك. وجاء في رواية «وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» أي والأمم السابقة كانوا يصلون متفرقين كل واحد على حدته، وإن أمته صلى الله عليه وسلم حط عنها الخطأ والنسيان وحمل ما لا تطيقه،

باب: بدء الوحي له صلى الله عليه وسلم

الذي أشارت إليه خواتيم سورة البقرة، وإن شيطانه صلى الله عليه وسلم أسلم وفي الخصائص الصغرى «وأسلم قرينه» ومجموع تلك الخصال سبع عشرة خصلة. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وذكر أبو سعيد النيسابوري في كتابه «شرف المصطفى» أنه عد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فإذا هو ستون خصلة: أي ومن ذلك أي مما اختص به صلى الله عليه وسلم في أمته أن وصف الإسلام خاص بها لم يوصف به أحد من الأمم السابقة سوى الأنبياء فقط فقد شرفت هذه الأمة المحمدية بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو الإسلام على القول الراجح نقلا ودليلا لما قام عليه من الأدلة الساطعة قاله الجلال السيوطي رحمه الله. باب: بدء الوحي له صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله تعالى كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة «لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق» أي وفي لفظ «كفرق الصبح» أي كضيائه وإنارته، فلا يشك فيها أحد كما لا يشك أحد في وضوح ضياء الصبح ونوره. وفي لفظ «فكان لا يرى شيئا في المنام إلا كان» أي وجد في اليقظة كما رأى، فالمراد بالصالحة الصادقة. وقد جاءت في رواية البخاري في التفسير: أي ولا يخفى أن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم كلها صادقة وإن كانت شاقة كما في رؤياه يوم أحد. قال القاضي وغيره وإنما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك الذي هو جبريل عليه السلام بالنبوة: أي الرسالة، فلا تتحملها القوى البشرية: أي لأن القوى البشرية لا تتحمل رؤية الملك وإن لم يكن على صورته التي خلقه الله عليها ولا على سماع صورته ولا على ما يخبر به لا سيما الرسالة، فكانت الرؤيا تأنيسا له صلى الله عليه وسلم والمراد بالملك جبريل، لكن ذكر بعضهم أن من لطف الله تعالى بنا عدم رؤيتنا للملائكة أي على الصورة التي خلقوا عليها لأنهم خلقوا على أحسن صورة فلو كنا نراهم لطارت أعيننا وأرواحنا لحسن صورهم. وعن علقمة بن قيس «أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، أي ما يكون في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي» اهـ: أي في اليقظة لأن رؤيا الأنبياء وحي وصدق وحق، لا أضغاث أحلام ولا تخيل من الشيطان، إذ لا سبيل له عليهم، لأن قلوبهم نورانية، فما يرونه في المنام له حكم اليقظة، فجميع ما ينطبع في عالم مثالهم لا يكون إلا حقا، ومن ثم جاء «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» . أقول: وحينئذ يكون في القول بأن من خصوصياته صلى الله عليه وسلم اجتماع أنواع الوحي

الثلاثة له وعد منها الرؤيا في المنام، وعد منها الكلام من غير واسطة، وبواسطة جبريل نظر، لما علمت أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعهم مشتركون في الرؤيا، وموسى عليه الصلاة والسلام حصل له كل من الكلام بلا واسطة وبواسطة جبريل. وذكر بعضهم أن مدة الرؤيا ستة أشهر قال فيكون ابتداء الرؤيا حصل في شهر ربيع الأول، وهو مولده صلى الله عليه وسلم ثم أوحى الله إليه في اليقظة أي في رمضان ذكره البيهقي وغيره. وجاء في الحديث: «الرؤيا الصادقة» وفي البخاري «الرؤيا الحسنة: أي الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة» . قال بعضهم: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين يوحي إليه ومدة الوحي إليه في اليقظة ثلاث وعشرون سنة، ومدة الوحي إليه في المنام أي التي هي الرؤيا ستة أشهر، فالمراد خصوص رؤيته وخصوص نبوته صلى الله عليه وسلم، وهذا القيل نقله في الهدى وأقره حيث قال: كانت الرؤيا ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاثا وعشرين سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزآ، هذا كلامه. وحينئذ يكون المعنى ورؤيتي جزء من ستة وأربعين جزآ من نبوتي، ولا يخفى أن هذا لا يناسب «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح» إذ هو يقتضي أن مطلق الرؤيا الصالحة جزء من مطلق النبوة الشامل لنبوته صلى الله عليه وسلم ونبوة غيره فليتأمل. ولم أقف في كلام أحد على مشاركة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم في هاتين المدتين. وحينئذ تحمل الخصوصية التي ادعاها بعضهم على هذا. ومما يدل على أن المراد مطلق الرؤيا ومطلق النبوة لا خصوص رؤياه ونبوته صلى الله عليه وسلم، ما جاء في ذلك من الألفاظ التي بلغت خمسة عشر لفظا. ففي رواية «أنها جزء من سبعين جزآ» وفي رواية «من أربعة وأربعين» وفي رواية «أنها جزء من خمسين جزآ من النبوة» وفي رواية «من تسعة وأربعين» وفي أخرى «أنها جزء من ستة وسبعين» وفي أخرى «من خمسة وعشرين جزآ» وفي أخرى «من ستة وعشرين جزآ» وفي أخرى «من أربعة وعشرين جزآ» فإن ذلك باعتبار الأشخاص لتفاوت مراتبهم في الرؤيا. وذكر الحافظ ابن حجر أن أصح الروايات مطلقا رواية ستة وأربعين، ويليها رواية أنها جزء من سبعين جزآ. فعلم أن الرؤية المذكورة جزء من مطلق النبوة: أي كجزء منها من جهة الاطلاع على بعض الغيب، فلا ينافي انقطاع النبوة بموته صلى الله عليه وسلم.

ومن ثم جاء «ذهبت النبوة» أي لا توجد بعدي. «وبقيت المبشرات» أي المرائي التي كانت مبشرات للأنبياء بالنبوة، بدليل ما في رواية «لم يبق بعدي من المبشرات» أي مبشرات النبوة «إلا الرؤيا» أي مجرد الرؤيا الخالية عن شيء من مبشرات النبوة، بدليل ما في لفظ «لم يبق إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم» أي لنفسه «أو ترى له» . لا يقال: الرؤيا الصادقة تكون من الكافر أو ترى له، وهو خارج بالرجل الصالح وبالمسلم. لأنا نقول: لو فرض وقوع ذلك كان استدراجا. وفيه أنها واقعة، وظاهر سياق الحديث الحصر، وكما تكون الرؤيا مبشرة بخير عاجل أو آجل تكون منذرة بشر كذلك قال بعضهم: وقد تطلق البشارة التي هي الخبر السار على ما يشمل النذارة التي هي الخبر الضار بعموم المجاز، بأن يراد بالبشارة ما يعود إلى الخير، لأن النذارة ربما قادت إلى الخير. وفي الإتقان: ومن المجاز تسمية الشيء باسم ضده نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: الآية 21] اهـ أي وهي في هذه الآية للتهكم. وجاء رجل أي وهو أبو قتادة الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله إني أرى في المنام الرؤيا تمرضني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة من الله، والسيئة من الشيطان، فإذا رأيت الرؤيا تكرهها فاستعذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاث مرات فإنها لا تضرك» أي وحكمة التفل احتقار الشيطان واستقذاره. وفي رواية «إذا رأى أحدكم ما يكره فليعذ بالله من شرها ومن الشيطان، كأن يقول: أعوذ بالله من شر ما رأيت ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثا، ولا يحدّث بها أحدا فإنها لا تضره» زاد في رواية «وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه» زاد في أخرى «وليقم فليصلّ» أي ليكون فعل ذلك سببا للسلامة من المكروه الذي رآه. وفي البخاري «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليتحدث بها: أي ولا يخبر بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما كره فإنما هي من الشيطان» أي لا حقيقة لها، وإنما هي تخيل يقصد به تخويف الإنسان والتهويل عليه «فليستعذ بالله من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره» وفي الأذكار «ثم ليقل: اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام» وفي الحديث «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان» . قيل في معناه لأن صاحب الرؤيا يرى الشيء على ما هو عليه، بخلاف صاحب الحلم فإنه يراه على خلاف ما هو عليه، فإن الحلم مأخوذ من حلم الجلد: إذا فسد. والرؤيا قيل إنها أمثلة يدركها الرائي بجزء من القلب لم تستول عليه آفة النوم،

وإذا ذهب النوم من أكثر القلب كانت الرؤيا أصفى وذكر الفخر الرازي أن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها، أي أثرها عن قرب، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين. والسبب فيه أن حكمة الله تعالى تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل. وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدما على ظهوره بزمان طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذكر الخير أكثر، وهذا جري على ما هو الغالب، وإلا فقد قيل لجعفر الصادق: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: «رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه كأن كلبا أبقع يلغ في دمه» فكان أي ذلك الكلب الأبقع شمرا قاتل الحسين وكان أبرص، فكان تأخير الرؤيا بعد خمسين سنة. وجاء عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إذا خلوت سمعت نداء أن يا محمد يا محمد» وفي رواية «أرى نورا» أي يقظة لا مناما «وأسمع صوتا وقد خشيت أن يكون والله لهذا الأمر» وفي رواية «والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط ولا الكهان، وإني لأخشى أن أكون كاهنا» أي فيكون الذي يناديني تابعا من الجن، لأن الأصنام كانت الجن تدخل فيها، وتخاطب سدنتها، والكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وفي رواية «وأخشى أن يكون بي جنون» أي لمة من الجن «فقالت: كلا يا بن عم ما كان الله ليفعل ذلك بك، فو الله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث» وفي رواية «إن خلقك لكريم» أي فلا يكون للشيطان عليك سبيل. استدلت رضي الله تعالى عنها بما فيه من الصفات العلية والأخلاق السنية على أنه لا يفعل به إلا خيرا، لأن من كان كذلك لا يجزى إلا خيرا. ونقل الماوردي عن الشعبي أن الله قرن إسرافيل عليه السلام بنبيه ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، يعلمه الشيء بعد الشيء ولا يذكر له القرآن، فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة، وأمهله هذه المدة ليتأهب لوحيه. وفيه أنه لو كان في تلك المدة مبشرا بالنبوة ما قال لخديجة ما تقدم، إلا أن يقال ما تقدم إنما قاله لخديجة في أول أمر، ويدل لذلك ما قيل إنه صلى الله عليه وسلم مكث خمس عشرة سنة يسمع الصوت أحيانا ولا يرى شخصا، وسبع سنين يرى نورا ولم ير شيئا غير ذلك، وإن المدة التي بشر فيها بالنبوة كانت ستة أشهر من تلك المدة التي هي اثنان وعشرون سنة، وهذا الشيء الذي كان يعلمه له إسرافيل لم أقف على ما هو، والله أعلم. وبعد ذلك حبب الله إليه صلى الله عليه وسلم الخلوة التي يكون بها فراغ القلب والانقطاع عن

الخلق فهي تفرغ القلب عن أشغال الدنيا لدوام ذكر الله تعالى، فيصفو وتشرق عليه أنوار المعرفة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده. وكان يخلو بغار حراء بالمد والقصر، وهذا الجبل هو الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إلي يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فكان صلى الله عليه وسلم يتحنث: أي يتعبد به أي بغار حراء الليالي ذوات العدد، ويروى أولات العدد: أي مع أيامها، وإنما غلب الليالي لأنها أنسب بالخلوة. قال بعضهم: وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد، فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهر رمضان أو غيره. وفي كلام بعضهم ما قد يدل على أنه لم يختل صلى الله عليه وسلم أقل من شهر، وحينئذ يكون قوله في الحديث الليالي ذوات العدد محمول على القدر الذي كان يتزود له فإذا فرغ زاده رجع إلى مكة وتزود إلى غيرها إلى أن يتم الشهر، وكذا قول بعضهم؟ فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهرا. ولم يصح أنه صلى الله عليه وسلم اختلى أكثر من شهر. قال السراج البلقيني في شرح البخاري: لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام، هذا كلامه وسيأتي بيان ذلك قريبا. ثم إذا مكث صلى الله عليه وسلم تلك الليالي: أي وقد فرغ زاده يرجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فيتزود لمثلها: أي قيل وكانت زوادته صلى الله عليه وسلم الكعك والزيت. وفيه أن الكعك والزيت يبقى المدة الطويلة، فيمكث جميع الشهر الذي يختلى فيه ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر مدة الخلوة كانت شهرا، فكان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله يتزود قدر ذلك، ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش، وكان غالب أدمهم اللبن واللحم، وذلك لا يدخر منه لغاية شهر لئلا يسرع الفساد إليه، ولا سيما وقد وصف بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم من يرد عليه هذا كلامه. وهو يشير فيه إلى ثلاثة أجوبة: الأول: أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت. الثاني: أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا. الثالث: أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم فربما نفد ما ادخره. وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع، بخلاف اللبن واللحم، ومن ثم جاء «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة» وقوله: «ائتدموا من هذه الشجرة المباركة» أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت. وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف

البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء: أي في اليوم والشهر المتقدم ذكر. وعن عبيد بن عمير رضي الله عنه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية» أي المتألهين منهم: أي وكان أول من تحنث فيه من قريش جده صلى الله عليه وسلم عبد المطلب، فقد قال ابن الأثير: أول من تحنث بحراء عبد المطلب، كان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين ثم تبعه على ذلك من كان يتأله: أي يتعبد كورقة بن نوفل وأبي أمية بن المغيرة، وقد أشار إلى تعبده صلى الله عليه وسلم صاحب الهمزية بقوله: ألف النسك والعبادة والخل ... وة طفلا وهكذا النجباء وإذا حلت الهداية قلبا ... نشطت في العبادة الأعضاء أي ألف صلى الله عليه وسلم العبادة والخلوة في حال كونه طفلا، ومثل هذا الشأن العلى شأن الكرام، وإنما كان هذا شأن الكرام، لأنه إذا حلت الهداية قلبا نشطت الأعضاء في العبادة، لأن القلب رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده ولعل الخلوة في كلام صاحب الهمزية المراد بها مطلق اعتزاله للناس، وأراد بطفلا زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم عند حليمة. فقد تقدم عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لما ترعرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الصبيان وهم يلعبون فيتجنبهم لا خصوص اعتزاله الناس في غار حراء فلا ينافي قوله طفلا ظاهر ما تقدم من أن خلوته صلى الله عليه وسلم بغار حراء كانت في زمن تزوجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها، فكان صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر، يطعم من جاءه من المساكين: أي لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية: أي في ذلك المحل أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين. وقد قيل إن هذا كان تعبده في غار حراء أي مع الانقطاع عن الناس، وإلا فمجرد إطعام المساكين لا يختص بذلك المحل: إلا إن كان ذلك المحل صار في ذلك الشهر مقصودا للمساكين دون غيره. وقيل كان تعبده صلى الله عليه وسلم التفكر مع الانقطاع عن الناس: أي لا سيما إن كانوا على باطل، لأن في الخلوة يخشع القلب وينسى المألوف من مخالطة أبناء الجنس المؤثرة في البنية البشرية، ومن ثم قيل: الخلوة صفوة الصفوة. وقول بعضهم: كان يتعبد بالتفكر: أي مع الانقطاع عما ذكرنا، وإلا فمجرد التفكر لا يختص بذلك المحل، إلا أن يدعي أن التفكر فيه أتم من التفكر في غيره لعدم وجود شاغل به. وقيل تعبده صلى الله عليه وسلم كان بالذكر وصححه في «سفر السعادة» وقيل بغير ذلك.

من ذلك الغير أنه قيل كان يتعبد قبل النبوة بشرع إبراهيم. وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا. وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: تعبد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته بشريعة إبراهيم حتى فجأه الوحي وجاءته الرسالة، فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن، ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق. وكان صلى الله عليه وسلم إذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله تعالى ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته صلى الله عليه وسلم وذلك شهر رمضان، وقيل شهر ربيع الأول، وقيل شهر رجب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله: أي عياله التي هي خديجة رضي الله تعالى عنها إما مع أولادها أو بدونهم، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها، وتلك الليلة ليلة سبع عشرة من ذلك الشهر، وقيل رابع عشر منه، وقيل كان ذلك ليلة ثمان من ربيع الأول: أي وقيل ليلة ثالثة. قال بعضهم: القول بأنه في ربيع الأول يوافق القول بأنه بعث على رأس الأربعين لأن مولده صلى الله عليه وسلم كان في ربيع الأول على الصحيح: أي وهو قول الأكثرين وقيل كان ذلك ليلة أو يوم السابع والعشرين من رجب. فقد أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا» وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبريل هذا كلامه، أي أول يوم هبط فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهبط عليه قبل ذلك، وسيأتي في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام نزل في سحر تلك الليلة التي هي ليلة الاثنين. ويجوز أن يكون كل من تلك الليالي كانت ليلة الاثنين، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «لا يفوتك صوم يوم الاثنين، لأني ولدت فيه، ونبئت فيه» فلا مخالفة بين كونه نبئ في الليل وبين كونه نبئ في اليوم، لأن السحر قد يلحق بالليل. وفي كلام بعضهم أتاه صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان في حراء، فجاء بأمر الله تعالى وهذا القول: أي أن البعث كان في رمضان قال به جماعة، منهم الإمام الصرصري حيث قال: وأتت عليه أربعون فأشرقت ... شمس النبوة منه في رمضان

واحتجوا بأن أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن. وأجيب بأن المراد بنزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فجاءني وأنا نائم بنمط» وهو ضرب من البسط، وفي رواية «جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج، فيه كتاب أي كتابة، فقال اقرأ، فقلت: ما أقرأ» أي أنا أمي لا أحسن القراءة أي قراءة المكتوب أو مطلقا «فغطني، أو فغتني» بالتاء بدل من الطاء به: أي غمني بذلك النمط، بأن جعله على فمه وأنفه قال: «حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال اقرأ أي من غير هذا المكتوب، فقلت: ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه: أي تخلصا منه أن يعود لي بمثل ما صنع أي إنما استفهمت عما أقرؤه ولم أنف خوفا أن يعود لي بمثل ما صنع عند النفي: أي وفي رواية «فقلت والله ما قرأت شيئا قط، وما أدري شيئا أقرؤه» : أي لأني ما قرأت شيئا فهو من عطف السبب على المسبب قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق: الآيات 1- 5] فقرأتها فانصرف عني، وهببت» أي استيقظت «من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا» . أقول: أي استقر ذلك في قلبي وحفظته. ثم لا يخفى أن كلام هذا البعض، وهو أنه جاءه ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له يوم الاثنين، محتمل لأن يكون أتاه بذلك النمط في ليلة السبت وليلة الأحد، وسحر يوم الاثنين وهو نائم لا يقظة لقوله: «ثم هببت من نومي» . ولا ينافي ذلك قوله، ثم ظهر له بالرسالة، أي أعلن له بما يكون سببا للرسالة الذي هو أقرأ الحاصل في اليقظة. وحينئذ يكون تكرر مجيئه هو السبب في استقرار ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم. وحينئذ لا يبعده قوله في الليلة الثانية: «ما قرأت شيئا» لأن المراد لم يتقدم لي قراءة قبل مجيئك إلي، ولا يبعده أيضا قوله: «ما أدري ما أقرأ» لأنه لم يستقر ذلك في قلبه لما علمت أن سبب الاستقرار التكرر، فلم يستقر ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى. وفي سيرة الشامي أن مجيء جبريل عليه السلام له صلى الله عليه وسلم بالنمط لم يتكرر، وأنه كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم غار حراء، وهذا السياق يدل على أنه كان بعده. وفي «سفر السعادة» ما يقتضي أنه جاء بالنمط يقظة في حراء، ونصه «فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حراء إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة، ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصعة بالجواهر ووضعها في يده وقال: اقرأ، قال والله ما أنا بقارئ ولا أدري في هذه الرسالة كتابة» أي لا أعلم ولا أعرف المكتوب فيها، قال: «فضمني إليه وغطني حتى

بلغ مني الجهد، فعل ذلك بي ثلاثا وهو يأمرني بالقراءة، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. هذا كلامه فليتأمل، والله أعلم «قال فخرجت» أي من الغار: أي وذلك قبل مجيء جبريل إليه صلى الله عليه وسلم باقرأ خلافا لما يقتضيه السياق «حتى إذا كنت في شط من الجبل» أي في جانب منه «سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، فإذا جبريل على صورة رجل صافّ قدميه» أي وفي رواية «واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء» أي نواحيها «يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا، ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة: أي في الغار، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها أي مستندا إليها، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي» . أقول: وهذا يدل على أن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت معه بغار حراء، وهو الموافق لما تقدم من قوله ومعه أهله أي خديجة رضي الله تعالى عنها على ما تقدم. وقد يخالف ذلك ما روي أن خديجة رضي الله تعالى عنها صنعت طعاما ثم أرسلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجده بحراء، فأرسلت في طلبه إلى بيت أعمامه وأخواله فلم تجده، فشق ذلك عليها، فبينما هي كذلك إذا أتاها فحدثها بما رأى وسمع، فإن هذا يدل على أنها لم تكن معه صلى الله عليه وسلم بحراء. وقد يقال: يجوز أن تكون خرجت معه أولا وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم وهي بحراء فلم تجده، وأن الرسل أخطؤوا محل وقوفه صلى الله عليه وسلم بالجبل الذي هو حراء، ثم رجعت إلى مكة وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم بحراء، لاحتمال عوده إليه، ثم أرسلت إلى بيت أعمامه وأخواله لما لم تجده صلى الله عليه وسلم بحراء، فإرسالها تكرر مرتين مع اختلاف محلها، ويكون قوله: «وانصرفت راجعا إلى أهلي» : أي بمكة لا بحراء، لأنه يجوز أن يكون بلغه رجوع خديجة رضي الله تعالى عنها إلى مكة. هذا على مقتضى الجمع. وأما على ظاهر الرواية الأولى يكون رجوعه إلى أهله بحراء كما ذكرنا، وهو يدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى شط الجبل كان من غار حراء كما ذكرنا لا من مكة الذي يدل عليه قول الشمس الشامي «فخرج مرة أخرى إلى حراء، قال: فخرجت حتى أتيت الشط من الجبل سمعت صوتا» إلى آخره فليتأمل والله أعلم.

قال «ثم حدثتها بالذي رأيت» : أي من سماع الصوت ورؤية جبريل، وقوله له: يا محمد أنت رسول الله، فقالت أبشر يا ابن عمي واثبت، فو الذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها: أي التي تتجمل بها عند الخروج. ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع: أي رأى جبريل وسمع منه أنت رسول الله وأنا جبريل، فقال ورقة: قدوس قدوس بالضم والفتح، والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى الذي هو جبريل، وإنه لنبيّ هذه الأمة، فقولي له يثبت. والقدوس: الطاهر المنزه عن العيوب، وهذا يقال للتعجب، أي وجاء بدل قدوس سبوح سبوح، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان، جبريل أمين الله بينه وبين رسله: أي لأن هذا الاسم لم يكن معروفا بمكة ولا غيرها من بلاد العرب، فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف: أي فرغ ما تزوّده وليس المراد انقضاء جواره بانقضاء الشهر، لأن ذلك كان قبل أن يجيء إليه جبريل باقرأ باسم ربك يقظة كما تقدم. أي وذلك كان في الشهر الذي أكرمه الله فيه برسالته. فعند ذلك صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه، ولتقاتلنه ولتخرجنه بها السكت، ولا تكون إلا ساكنة. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه، ثم أدنى ورقة رأسه صلى الله عليه وسلم منه وقبل يأفوخه، أي وسط رأسه، لأن اليأفوخ بالهمزة وسط الرأس إذا استد وقبل استداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله أي ولا مانع من تكرار مراجعة ورقة فتارة قال قدوس قدوس، وتارة قال سبوح سبوح، أو جمع بين ذلك في وقت واحد. وبعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين، وقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل على خديجة أي وليس عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا عتيق اذهب بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ورقة: أي بعد أن أخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيذكر، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة، وذهب به إلى ورقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا إلى الأرض، فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني: أي وهذا قبل أن يراه ويجتمع به ويجيء إليه بالقرآن. وحينئذ يكون تكرر سؤال ورقة

ثلاث مرات، الأولى على يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وذلك قبل أن يرى جبريل. والثانية التي رأى فيها جبريل وسمع منه ولم يجتمع به، وذلك عند اجتماعه صلى الله عليه وسلم به في المطاف. والثالثة التي بعد مجيء جبريل له يقظة بالقرآن أي باقرأ باسم ربك على المشهور، من أنه أوّل ما نزل، وذلك على يد خديجة، ولا ينافي ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر كما سيأتي أن القصة واحدة لم تتعدد ومخرجها متحد، لأن مراده قصة مجيء جبريل له يقظة باقرأ باسم ربك وسيأتي ما فيه. وإنما قال ورقة له صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي، قيل لأنه يجتمع مع عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم في قصيّ فكان عبد الله بمثابة الأخ له أو أنه قال ذلك توقيرا له وإنما ذكر ورقة موسى دون عيسى عليهما الصلاة والسلام، مع أن عيسى أقرب منه وهو على دينه لأنه كان على دين موسى، ثم صار على دين عيسى عليهما الصلاة والسلام أي كان يهوديا. ثم صار نصرانيا، أي لأن نبوّة موسى عليه الصلاة والسلام مجمع عليها أي على أنها ناسخة لما قبلها، وأن شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، قيل إنها متممة ومقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا ناسخة لها، قيل ولأن ورقة كان ممن تنصر أي كما علمت، والنصارى لا يقولون بنزول جبريل على عيسى عليه الصلاة والسلام أي بل كان يعلم الغيب، لأنهم يقولون فيه إنه أحد الأقانيم الثلاثة اللاهوتية وذلك الأقنوم هو أقنوم الكلمة التي هي العلم حل بناسوت المسيح واتحد به، فلذلك كان يعلم علم الغيب ويخبر بما في الغد. أقول: وفيه أن في رواية «وإنك على مثل ناموس موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام» أي ففي بعض الروايات جمع وفي بعضها اقتصر على موسى. وفي الاقتصار على موسى دون الاقتصار على عيسى ما علمت، ثم رأيت أنه جاء في غير الصحيح الاقتصار على عيسى فقال هذا الناموس الذي نزل على عيسى، فهو كما جاء الجمع بينهما جاء الاقتصار على كل منهما. ولا ينافي ذلك أي مجيء جبريل لعيسى ما تقدم عن النصارى من أنهم لا يقولون بنزول جبريل على عيسى، لجواز أن يكون المراد لا ينزل عليه دائما وأبدا بالوحي، بل في بعض الأحيان، وفي بعضها يعلم الغيب بغير واسطة. ثم رأيت في فتح الباري أن عند إخبار خديجة لورقة بالقصة قال لها هذا ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له بالقصة قال له هذا ناموس موسى للمناسبة بينهما لأن موسى أرسل بالنقمة على فرعون، وقد وقعت النقمة على يد نبينا صلى الله عليه وسلم على فرعون هذه الأمة الذي هو أبو جهل، هذا كلامه فليتأمل. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق أبي جهل في يوم بدر «هذا فرعون هذه الأمة» والله أعلم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «جاءه الملك سحرا» أي سحر يوم الاثنين

يقظة لا مناما، أي بغير نمط «فقال له اقرأ. قال: ما أنا بقارئ» أي لا أوجد القراءة، قال: «فأخذني فغطني» أي ضمني وعصرني. وفي لفظ «فأخذ بحلقي حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ» أي لا أحسن القراءة، أي لا أحفظ شيئا أقرؤه «فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ» أي أيّ شيء أقرؤه. وفيه أنه لو كان كذلك لقال ما أقرأ، أو ماذا أقرأ. إلا أن يقال أطلق ذلك وأراد لازمه الذي هو الاستفهام، خصوصا وقد قدمه قال: «فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق: الآيات 1- 5] » . أقول: فقولنا: أي بغير نمط هو ظاهر الروايات، ويجوز أن يكون لفظ النمط سقط في هذه الرواية كغيرها من الروايات، ويؤيده اقتصار السيرة الشامية على مجيئه بالنمط. وأيضا كيف الجمع بين قوله هنا ما ذكر وبين قوله هناك: «فكأنما كتب في قلبي كتابا» «وما بالعهد من قدم» . إلا أن يقال يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جوز أن يكون جبريل يريد منه قراءة غير الذي قرأه وكتب في قلبه. ولا يخفى أنه علم أن قول جبريل اقرأ أمر بالقراءة. وفيه أنه من التكليف بما لا يطاق، أي في الحال: أي ومن ثم ادعى بعضهم أنه لمجرد التنبيه واليقظة لما يلقى إليه. وفيه أنه لو كان كذلك لم يحسن أن يقال في جوابه: ما أنا بقارئ الذي معناه لا أوجد القراءة. إلا أن يقال جبريل عليه الصلاة والسلام أراد التنبيه لا الأمر، وجوابه صلى الله عليه وسلم بناء على مقتضى ظاهر اللفظ. وعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ في المواضع الثلاثة معناه مختلف: ففي الأول معناه الإخبار بعدم إيجاد القراءة، والثاني معناه الإخبار بأنه لا يحسن شيئا يقرؤه وإن كان ذلك هو مستند الأول، والثالث معناه الاستفهام عن أي شيء أن يقرؤه، وفيه ما علمت. وبعضهم جعل قوله الأول لا أقرأ: لا أحسن القراءة بدليل أنه جاء في بعض الروايات ما أحسن أن أقرأ. وحينئذ يكون بمعنى الثاني، فيكون تأكيدا له: أي الغرض منهما شيء واحد. قال بعضهم: وجه المناسبة بين الخلق من العلق والتعليم وتعليم العلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة، وأعلاها كونه عالما، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها، وهي تعلم العلم.

وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الاستهلال: وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله، إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان. قال فيه: من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله، وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة. وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات. وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لابن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات» . وذكر السهيلي أن في ذلك: أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له صلى الله عليه وسلم الشعب والتضييق عليه. والثانية اتفاقهم على الاجتماع على قتله صلى الله عليه وسلم. والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه، وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل وميكائيل: أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه، إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل: اقرأ الحديث، فعلم أن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ نزلت من غير بسملة، وقد صرح بذلك الإمام البخاري، وما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «بأن أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ قال الحافظ ابن كثير. هذا الأثر غريب، في إسناده ضعف وانقطاع، أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم، حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره، وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال: وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه، فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق، هذا كلامه والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر: هذا الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في ابتداء الوحي من خصائصه، إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء عليه الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك. «ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية رجع بها ترجف بوادره» والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق، تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائص: أي وفي رواية «فؤاده» أي قلبه، ولا مانع من اجتماع الأمرين، لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب «حتى دخل صلى الله عليه وسلم على خديجة فقال: زملوني زملوني» أي غطوني بالثياب «فزملوه حتى ذهب عنه الروع» بفتح الراء: أي الفزع «ثم أخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي» وفي رواية «على عقلي» كما في «الأمتاع» «قالت له خديجة: كلا أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا» أي لا يفضحك «إنك لتصل الرحم، وتصدق

الحديث، وتحمل الكل» أي الشيء الذي يحصل منه التعب والإعياء لغيرك «وتكسب المعدوم» بضم التاء. والمعدوم الذي لا مال له لأن من لا مال له كالمعدوم: أي توصل إليه الخير الذي لا يجده عند غيرك. وبهذا يعلم سقوط قول الخطابي الصواب المعدوم بلا واو، لأن المعدوم: أي الشخص المعدوم لا يكسب: أي لا يعطى الكسب «وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» أي على حوادثه «فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، فقالت له خديجة رضي الله تعالى عنها: أي عم اسمع من ابن أخيك» أي وقولها أي عم صوابه ابن عم، لأنه ابن عمها لا عمها كما وقع في مسلم. قال ابن حجر: وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد: أي فلا يقال يجوز أنها جاءت إليه بعد نزول الآية مرتين، قالت في مرة أي عم، وفي مرة أي ابن عم «قال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى» أي صاحب سر الوحي وهو جبريل «يا ليتني فيها جذعا» أي يا ليتني حينئذ أكون في زمن الدعوى إلى الله: أي إظهاره الذي جاء به وأنذر، أو أصل وجودها بناء على تأخر الدعوى التي هي الرسالة عن النبوة على ما يأتي شابا حتى أبالغ في نصرتها «يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟» بتشديد الياء المفتوحة لأنه جمع مخرج، والأصل أو مخرجوني حذفت النون للإضافة فصار مخرجوي، قلبت الواو ياء وأدغمت، قال ورقة: «نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا عودي» أي فتكون المعاداة سببا لإخراجه. وهذا يفيد بظاهره أن من تقدم من الأنبياء أخرجوا من أماكنهم لمعاداة قومهم لهم، وإلا فمجرد المعاداة لا يقتضي الإخراج، فلا يحسن أن يكون علامة عليه، وقد يؤيد ذلك ما تقدم عند الكلام على بناء الكعبة أن كل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت وتقدم ما فيه. وفي كونه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا في جواب قول ورقة إنه يكذب ويؤذي ويقاتل، وقال في جواب قوله: إنه يخرج أو مخرجيّ هم؟ استفهاما إنكاريا، دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته، خصوصا وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه، قال ورقة: «وإن أدركت يومك أنصرك نصرا مؤزرا» أي شديدا قويا، من الأزر وهو الشدة. الذي في الحديث الصحيح «وإن يدركني يومك» وسيأتي في بعض الروايات «وإن يدركني ذلك» قال السهيلي: وهو القياس، لأن ورقة سابق بالوجود، والسابق: هو الذي يدركه ما سيأتي بعده كما جاء «أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي» هذا كلامه.

أي وفي بعض الروايات أنه قال لها: «إن ابن عمك لصادق وإن هذا لبدء نبوة» وفي لفظ «إنه لنبي هذه الأمة» أي وفي الشفاء أن قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة: «لقد خشيت على نفسي» ليس معناه الشك فيما آتاه الله تعالى من النبوة، ولكنه لعله خشي أن لا تحتمل قوته صلى الله عليه وسلم مقاومة الملك وأعباء الوحي، بناء على أنه قال ذلك بعد لقاء الملك وإرساله إليه بالنبوة، فإن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل. وفي كلام الحافظ ابن حجر، اختلف العلماء في هذه الخشية على اثني عشر قولا، وأولاها بالصواب وأسلمها من الارتياب أن المراد بها الموت أو المرض أو دوام المرض هذا كلامه، فليتأمل مع رواية «خشيت على عقلي» . قال: وفي بعض الروايات أن خديجة قبل أن تذهب به إلى ورقة ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى: قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام، فقالت له: يا عداس أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل: أي فإن هذا الاسم لم يكن معروفا بمكة ولا بغيرها من أرض العرب كما تقدم، فقال عداس: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان؟ أي والقدوس المنزه عن العيوب وأن هذا يقال للتعجب كما تقدم، فقالت: أخبرني بعلمك فيه؟ قال: هو أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام اهـ. وفيه أنه سيأتي عند الكلام على ذهابه صلى الله عليه وسلم للطائف بعد موت أبي طالب يلتمس إسلام ثقيف اجتماعه بعداس الموصوف بما ذكر، لكن في تلك القصة ما قد يبعد معه كل البعد أنه المذكور هنا فليتأمل، ثم رأيت أن عداسا المذكور هنا كان راهبا وكان شيخا كبير السن، وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر، وأن خديجة قالت له: أنعم صباحا يا عداس، فقال: كأن هذا الكلام كلام خديجة سيدة نساء قريش، قالت أجل، قال ادني مني فقد ثقل سمعي، فدنت منه ثم قالت له ما تقدم، وهذا صريح في أنه غير عداس الآتي ذكره، وأنهما اشتركا في الاسم والبلد والدين، أي وكونهما غلامين لعتبة بن ربيعة. ففي كلام ابن دحية: عداس كان غلاما لعتبة بن ربيعة من أهل نينوى، عنده علم من الكتاب، فأرسلت إليه خديجة تسأله عن جبريل، فقال: قدوس قدوس الحديث ولا يخفى أن هذا اشتباه وقع من بعض الرواة بلا شك. وفي رواية أن عداسا هذا قال لها: يا خديجة إن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا، فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك، فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه، وإن كان من الله فلن يضره، فانطلقت بالكتاب معها، فلما دخلت منزلها إذا هي برسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل يقرئه هذه الآيات ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ

(1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) [القلم: الآيات 1- 6] فلما سمعت خديجة قراءته اهتزت فرحا ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي، امض معي إلى عداس، فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه، فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول: قدوس قدوس، أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى الحديث. وفيه إن كان هذا قبل أن تذهب به إلى ورقة اقتضى أن نزول سورة ن قبل اقرأ، ولا يحسن ذلك مع قوله لجبريل ما أنا بقارئ، إذ هو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قبل ذلك شيئا، ومن ثم كان المشهور أن أول ما نزل اقرأ. وكون ن نزلت لهذا السبب مخالف لما ذكر في أسباب النزول أنها نزلت لما وصفه المشركون بأنه مجنون، إلا أن يقال لا مانع من تعدد النزول. وذكر ابن دحية أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرها بجبريل ولم تكن سمعت به قط، كتبت إلى بحيرا الراهب فسألته عن جبريل، فقال لها: قدوس قدوس يا سيدة نساء قريش، أنى لك بهذا الاسم؟ فقالت: بعلي وابن عمي أخبرني بأنه يأتيه، فقال: إنه السفير بين الله وبين أبنائه، وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به، ولا أن يتسمى باسمه. وهذه العبارة: أي كون جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه صدرت من الحافظ السيوطي، وزاد: ولا يعرف ذلك لغيره من الملائكة. واعترض عليه بعضهم بأن إسرافيل كان سفيرا بين الله وبينه صلى الله عليه وسلم. فعن الشعبي أنه جاءته صلى الله عليه وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة، وقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، وفي لفظ عنه: فلما مضت ثلاث سنين تولى عنه إسرافيل وقرن به جبريل: أي وقد تقدم أن إسرافيل قرن به صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، يعلمه الشيء بعد الشيء إلى آخره، وحينئذ يلزم أن يكون قرن به بعد النبوة ثلاث سنين أيضا، وسيأتي عن بحث بعض الحفاظ أنها مدة فترة الوحي فليتأمل. وأجاب الحافظ السيوطي عن ذلك بأن السفير هو المرصد لذلك، وذلك لا يعرف لغير جبريل، ولا ينافي ذلك مجيء غيره من الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان. ولك أن تقول: إن كان المراد بالمجيء إليه بوحي من الله كما هو المتبادر فليس في هذه الرواية أن إسرافيل وغيره من الملائكة كان يأتيه بوحي من الله قبل مجيء جبريل له صلى الله عليه وسلم بوحي غير النبوة، ولا يخرجه ذلك عن الاختصاص باسم السفير، وبأن إسرافيل لم ينزل لغير النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما ثبت في الحديث، فلم يكن السفير بين الله وجميع أنبيائه. قيل وإنما خص بذلك لأنه أول من سجد من الملائكة لآدم. ورأيته سئل هل

عيسى بعد نزوله يوحى إليه؟ فأجاب بنعم، وأورد حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. وفيه التصريح بأنه يوحى إليه. قال: والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل قال: بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه، لأن ذلك وظيفته وهو السفير بين الله تعالى وبين أنبيائه، لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة ثم استدل على ذلك بما يطول. قال: وما اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو شيء لا أصل له، وزعم زاعم أن عيسى إنما يوحى إليه وحي إلهام ساقط قال: وحديث «لا وحي بعدي» باطل، أي ويدل له ما رأيته في كلام بعضهم: جبريل ملك عظيم ورسول كريم، مقرب عند الله، أمين على وحيه، وهو سفيره إلى أنبيائه كلهم، وسماه روح القدس، والروح الأمين، واختصه بوحيه من بين الملائكة المقربين. قال: ورأيت في بعض التواريخ أن جبريل نزل عليه صلى الله عليه وسلم ستا وعشرين ألف مرة ولم يبلغ أحد من الأنبياء هذا العدد، والله أعلم. وفي أسباب النزول للواحدي عن علي رضي الله تعالى عنه «لما سمع النداء: يا محمد قال: لبيك، قال قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال قل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة: الآيات 2- 4] حتى فرغ من السورة» : أي فلما بلغ «ولا الضالين، فقال: قل آمين فقال آمين» كما في رواية وكيع وابن أبي شيبة وجاء في حديث قال بعضهم إسناده ليس بالقائم «إذا دعا أحدكم فليختم بآمين، فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة» وفي الجامع الصغير «آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين» أي خاتم دعاء رب العالمين أي يمنع من أن يتطرق إليه ردّ وعدم قبول. ومن ثم «لما سمع صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو، قال قد وجب إن ختم بآمين» . فأتى صلى الله عليه وسلم ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فإني أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم، فإنك على مثل ناموس موسى، وإنك نبي مرسل، وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك. أقول: هذا لا يدل للقول بأن الفاتحة أول ما نزل، وعليه كما قال في الكشاف أكثر المفسرين، إذ يبعد كل البعد أن تكون هذه الرواية قبل نزول اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] ثم رأيت عن البيهقي أنه قال فيما تقدم عن أسباب النزول، هذا مرسل ورجاله ثقات، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر: أي والمدثر نزلت بعد يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) [المزمّل: الآية 1] . ثم رأيت ابن حجر اعترض ما تقدم عن الكشاف بقوله: الذي ذهب إليه أكثر

الأمة هو الأول: أي القول بأنه اقرأ، وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول، هذا كلامه. ثم رأيت الإمام النووي قال: القول بأن الفاتحة أول ما نزل بطلانه أظهر من أن يذكر: أي ومما يدل على ذلك ما جاء من طرق عن مجاهد أن الفاتحة نزلت بالمدينة. ففي تفسير وكيع عن مجاهد: فاتحة الكتاب مدنية، وفيه أنه جاء عن قتادة أنها نزلت بمكة. وعن علي كرم الله وجهه كما في أسباب النزول للواحدي أنها نزلت بمكة من كنز تحت العرش. وفيها عنه «لما قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [الفاتحة: الآية 1 و 2] قالت قريش رض الله فاك» . وفي الكشاف أن الفاتحة نزلت بمكة، وقيل نزلت بالمدينة، فهي مكية مدنية، هذا كلامه وتبعه على ترجيح أنها مكية القاضي البيضاوي حيث قال: وقد صح أنها مكية. وفي الإتقان وذكر قوم منه أي مما تكرر نزوله الفاتحة، فليتأمل فإنه لا يقال ذلك إلا بناء على أنها نزلت بهما: أي نزلت بمكة ثم بالمدينة مبالغة في شرفها. وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أن تكرير نزولها ليس مجزوم به. وقيل نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة. قال في الإتقان: والظاهر أن النصف الذي نزل بالمدينة النصف الثاني، قال ولا دليل لهذا القول، هذا كلامه. واستدل بعضهم على أنها مكية بأنه لا خلاف أن سورة الحجر مكية، وفيها وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) [الحجر: الآية 87] وهي الفاتحة. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرئ عليه الفاتحة «والذي نفسي بيده ما أنزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» . وقد حكى بعضهم الاتفاق على أن المراد بالسبع المثاني في آية الحجر هي الفاتحة. ويردّ دعوى الاتفاق قول الجلال السيوطي: وقد صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير السبع المثاني في آية الحجر بالسبع الطوال. ومما يدل على أن المراد بها الفاتحة، ما ذكر في سبب نزولها وهو أن عيرا لأبي جهل قدمت من الشام بمال عظيم وهي سبع قوافل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينظرون إليها وأكثر الصحابة بهم عري وجوع، فخطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم شيء لحاجة أصحابه فنزل وَلَقَدْ آتَيْناكَ [الحجر: الآية 87] أي أعطيناك سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: الآية 87] مكان سبع قوافل، ولا تنظر إلى ما أعطيناه لأبي جهل وهو متاع الدنيا الدنية وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [الحجر: الآية 88] أي على أصحابك وَاخْفِضْ جَناحَكَ [الحجر: الآية 88]

لهم، فإن تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما تحب من أسباب الدنيا. وفي زوائد الجامع الصغير «لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات» . وفي لفظ «فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» وفي لفظ «فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن» فليتأمل، ولها اثنان وعشرون اسما. وذكر بعضهم أن لها ثلاثين اسما. وذكرها الاستاذ الشيخ أبو الحسن البكري في تفسيره الوسيط، قال السهيلي: ويكره أن يقال لها أم الكتاب: أي لما ورد «لا يقولنّ أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب» قال الحافظ السيوطي رحمه الله: ولا أصل له في شيء من كتب الحديث، وإنما أخرجه ابن الضريس بهذا اللفظ عن ابن سيرين. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك هذا كلامه، ولا يخفى أنه جاء في تسمية الفاتحة ذكر المضاف تارة وهو سورة كذا وإسقاطه أخرى. وتارة جوّزوا الأمرين معا، وهو يشكل على أن تسمية السور توقيفي. ثم رأيت في الإتقان قال: قال الزركشي في البرهان: ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسمائها وهو بعيد هذا كلامه. ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة كان يصلي بغير الفاتحة. قال في أسباب النزول: وهذا مما لا تقبله العقول: أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة: أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان «لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب» وفي رواية «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب» والمراد في كل ركعة، لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته «إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت» إلى أن قال: «ثم اصنع ذلك- أي القراء بأم القرآن- في كل ركعة» وجاء على شرط الشيخين «أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها منها عوضا» ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله، لأنه تفرد بهذا القول، والعلماء على خلافه: أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى الله عليه وسلم صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي: أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي. وقد يقال: لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة، لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس، وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس. وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة، يدل على أنها نزلت بالمدينة.

فقد أخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة» هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بقاب قوسين. ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات، وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها. ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم: إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» . وقد أخرج الدارقطني عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين، فقيل له إنما هي ست آيات، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) آية وقيل لها السبع المثاني، لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة. وقيل المثاني كل القرآن، لأنه يثني فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد. قال بعضهم: والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال: أي كما أنها المراد بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: الآية 87] على ما تقدم، وهي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة يونس. وقيل براءة وقيل الكهف. وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم عدّ البسملة آية من الفاتحة» وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من «أنه صلى الله عليه وسلم عدّ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية» فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة، والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها. منها أنها ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيتها، فيقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) وفي رواية عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين» والاستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضي أن البسملة ليست آية من

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] ومن ثم قال الحافظ الدمياطي: نزول اقرأ بدون بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة، واستدل به: أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور: أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم وهو قول قدماء الحنفية. قال: وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة: أي سورة اقرأ. وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها، واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها. ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضي سلب القرآنية عنها. وردّ هذا الردّ بأن الإمام الكافيجي قال: المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر: أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله: أي وفي الفتوحات: البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله، وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات، وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة، ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال: نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة. وفي كلام أبي بكر بن العربي: وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد، فإنه لم يعدّها أحد آية من سائر السور. ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور. فعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم، وأول البقرة الم قال بعضهم: وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور، فإنها ليست آية من أولها، بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها، وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بالسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» كما سيأتي، وسيأتي ما فيه. قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة، والتبرئ الذي يدل عليه أول براءة. ورده في الفتوحات، بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال: وأين الرحمة من الويل.

وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة: أي فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سألت عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لم لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) [الفاتحة: الآية 1] ؟ فقال: كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة، وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة. وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبد العزيز. أنهما كانا يقولان: إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً [الضّحى: الآية 6] وليس كذلك، لأن تلك حال اغتمامه صلى الله عليه وسلم بإيذاء الكفار، فهي حال محنة وضيق، وهذه حال انشراح الصدر وتطيب القلب فكيف يجتمعان؟ هذا كلامه. وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد، ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفي كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين، وقد جهر بها صلى الله عليه وسلم كما رواه جمع من الصحابة. قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا. وأما ما رواه مسلم عن أنس قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» أجيب عنه بأنه لم ينف إلا السماع، ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز. ويؤيده قول بعضهم: كانوا يخفون البسملة. وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن. ولا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبد الله بن مغفل أنه قال: «سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني إياك والحدث، فإني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله، فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين، فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا، فقال ذلك، وكذا يقال فيما روي «كانوا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم» فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ. ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة: أي الفاتحة- بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال:

الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: فوّض إليّ عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذه بيني وبين عبد ولعبدي ما سأل، فيقول عبدي: اهدنا الصراط المستقيم» إلى آخرها. قال أبو بكر بن العربي المالكي: فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين: أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة. والثاني أنها صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد، لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه، ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها، وأطال في ذلك، وسيأتي في الحديبية أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب: باسمك اللهم موافقة للجاهلية. قيل كتب ذلك في أربعة كتب. وأول من كتبها أمية ابن أبي الصلت، فلما أنزل بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: الآية 41] كتب بِسْمِ اللَّهِ [الفاتحة: الآية 1] ثم لما نزل ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: الآية 110] كتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ [الفاتحة: الآية 1] ثم نزلت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) [النّمل: الآية 30] كتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) كذا نقل عن الشعبي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) [الفاتحة: الآية 1] حتى نزلت سورة النمل» وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور، ويؤيده قول السهيلي: ثم كان بعد ذلك: أي بعد نزول وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النّمل: الآية 30] ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة: أي تمييزا لها عن غيرها. وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك، هذا كلامه، فليتأمل ما فيه، فإنه قد يدل للقول بأن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات. ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم. وفي الإتقان عن الدارقطني «أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: «على نبي بعد سليمان غيري» يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه صلى الله عليه وسلم وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة. وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال، فقالت قريش: سحر محمدا الجبال قال السهيلي: إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح مع داود، والله أعلم. ثم لم يلبث ورقة أن توفي. قال سبط ابن الجوزي: وهو آخر من مات في

الفترة، ودفن بالحجون فلم يكن مسلما، ويؤيده ما جاء في رواية في سندها ضعف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه مات على نصرانيته. وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدّق بنبوّته صلى الله عليه وسلم ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكوم مسلما بل من أهل الفترة، فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير» أي والقس بكسر القاف: رئيس النصارى، وبفتحها تتبع الشيء. هذا، وفي القاموس: القس مثلث القاف: تتبع الشيء وطلبه كالتقسس، وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها، ورئيس النصارى في العلم. وفي رواية «أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس» وفي رواية «قد رأيته، فرأيت عليه ثيابا بيضا، وأحسبه- أي أظنه- لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض» . أقول: صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة، فقد تعددت الرؤية. وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير، فلا دلالة في ذلك على التعدد، والله أعلم. وفي رواية «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين لأنه آمن بي وصدقني» : أي قبل الدعوة التي هي الرسالة، وحينئذ يكون معنى قوله له: «جنة أو جنتين» هيئت له جنة أو جنتان، ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة، إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدّق به لم يقل فيه صلى الله عليه وسلم: «وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وجزم ابن كثير بإسلامه. قال بعضهم: وهو الراجح عند جهابذة الأئمة: أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة. ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث، ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحق، وعن كتاب الخميس. وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «لأنه آمن بي وصدقني» واضحا، لكن ينازع في ذلك قوله: «وأحسبه لو كان أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه. ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة. وعن يحيى بن بكير قال: سألت جابر بن عبد الله، يعني عن ابتداء الوحي، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض» أي وفي رواية «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي» زاد في رواية «متربعا عليه» وفي لفظ «على عرش بين السماء والأرض» فرعبت منه، فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني» أي وفي رواية «زملوني زملوني، وصبوا عليّ ماء بارد فدثروني وصبوا عليّ

ماء باردا فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] أي الملتف بثيابه قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) [المدثر: الآية 2 و 3] » ، ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة، إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل، وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل: أي قبل اقرأ وأن النبوّة والرسالة مقترنان. قال الإمام النووي: والقول بأن أول ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] ضعيف باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحي: أي ومما يدل على ذلك قوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه صلى الله عليه وسلم حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي. فما تقدم من قول بعضهم يعني عن ابتداء الوحي فيه نظر، وكذا في قول الراوي عن جابر «جاروت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت» لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي، إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان: واحدة في ابتداء الوحي، وأخرى في فترة الوحي، وبعض الرواة خلط، فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي، وعجزها بدل على أن ذلك كان في فترة الوحي. هذا، ويجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاور بحراء في مدة فترة الوحي. ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير «أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان، وكان ذلك في مدة فترة الوحي» وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل. وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير «أنه حدث عن خديجة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال نعم» أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن: أي بشيء منه، وهو اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] بناء على أنه أول ما نزل. ولا ينافي ذلك قولها: «هذا الذي يأتيك إذا جاءك» لأن المعنى الذي يترائ لك إذا رأيته، فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني: أي قد رأيته، لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة، «قالت: قم يا بن عمي فاجلس على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، قالت، فتحول فاجلس في حجري، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال لا، قالت: يابن عمي اثبت وأبشر فو الله إنه لملك ما هذا بشيطان» وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله: وأتاه في بيتها جبرائيل ... ولذي اللب في الأمور ارتياء فأماطت عنها الخمار لتدري ... أهو الوحي أم هو الإغماء فاختفى عند كشفها الرأس جبر ... يل فما عاد أو أعيد الغطاء فاستبانت خديجة أنه الكن ... ز الذي حاولته والكيمياء

أي وأتاه. قال ابن حجر: أي بعد البعثة أي النبوة، واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل، ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار، فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له صلى الله عليه وسلم هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم، عليهم الصلاة والسلام. وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشئ عن لمة الجن، فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي، وسيأتي أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه: أي من الإغماء إلى آخره، فبسبب إزالتها ما تغطي به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه، فاستبانت: علمت علم اليقين أن ما يعرض له صلى الله عليه وسلم هو الوحي: أي لا الجني، لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجني. وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم، لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما. أقول: وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له صلى الله عليه وسلم، وقبل اجتماعه به. وقول بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة؟ فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى، فإذا رآه فتحسري، فإن لم يكن من عند الله لا يراه: أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت، قالت: فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره، فرجعت فأخبرت ورقة، فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر. وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحق أن ورقة كان يمر ببلال رضي الله تعالى عنه وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام: أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن الوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به، وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة، وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي، ومخالف أيضا لقول الذهبي: الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة، أي بناء على تأخرها، ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة: «يا ليتني فيها جذع» فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة: أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما، بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب، بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن

من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع. وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للمتمكن منه وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم، وحينئذ يكون صحابيا. ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال: لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها، وأنه يفرق بينه وبين بحيرا، بأن ورقة أدرك البعثة، وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر، والتعريف السابق يشمله هذا كلامه. وتعريفه السابق للصحابي: هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا. وعبارة شرح النخبة: هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر. ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا: ما أدري أدرك البعثة أم لا؟ ولا يخفى عليك ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة، فإنه يقتضي أن البعثة عبارة عن النبوّة لا عن الرسالة، وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة. وروى ابن إسحق عن شيوخه «أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقي من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك» هذا يدل على «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة، وتغميض عينيه، وتربد وجهه، ويغط كغطيط البكر، فقالت له خديجة: أوجه إليك من يرقيك؟ قال: أما الآن فلا» ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به. واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة، يعني أمه صلى الله عليه وسلم رقت النبي من العين، ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءه الملك، وقال لها قولي إذا ولدتيه: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك. وعن أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «يا رسول الله إن ابني جعفر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقي لهما؟ قال نعم، لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» . فإن قيل بهذه الأمور علم صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك لا جني، فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى؟ أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده

العلم، فقد يقال: خلق الله تعالى فيه صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه جبريل، وأنه يتكلم عن الله تعالى، كما خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحي إليه هو الله. وقد ذكر بعض المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم كان له عدوّ من شياطين الجن يقال له الأبيض، كان يأتيه في صورة جبريل. واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي. وأجيب عنه بمثل ما هنا، وهو أن الله تعالى جعل في النبي صلى الله عليه وسلم علما ضروريا يميز به بين جبريل عليه السلام وبين هذا الشيطان، ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم. وفي كلام ابن العماد: وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض، والأنبياء معصومون منه، وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة، وهو المعنيّ بقوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ [الحشر: الآية 16] هذا كلامه والله أعلم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان من الأنبياء من يسمع الصوت: أي ولا يرى مصوّتا، فيكون بذلك نبيا» قال بعضهم: يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو: أي ليس من جنس الكلام، وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه. ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا. قال صلى الله عليه وسلم: «وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب» أي وفي رواية «كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال» . ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي. وحينئذ إما أن يكون جبريل عليه السلام على صورة دحية الكلبي، وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكي فتحها، أو على صورة غيره، ومنه ما وقع في حديث عمر رضي الله تعالى عنه «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد» الحديث. ورواية البخاري تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه إلا في آخر الأمر، وورد «ما جاءني- يعني جبريل- في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة» . وفي صحيح ابن حبان «والذي نفسي بيده ما اشتبه عليّ منذ أتاني قبل مرّته هذه، وما عرفته حتى ولى» وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام، حيث قال في تائيته:

ولازمك الناموس إما بشكله ... وإما بنفث أو بحلية دحية فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة. فإن قيل إذا جاء جبريل عليه السلام على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل؟ وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح، أو يصير ميتا؟. أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن، فيكون الجسد واحدا، ومن ثم قال الحافظ بن حجر: إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة عليّ رضي الله تعالى عنه وأولاده: أي الأئمة الاثني عشر، وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعفر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم علي الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد علي التقي. والحادي عشر حسن العسكري. والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان، وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام على ما فيه. فقد قال عبد الله ابن سبأ يوما لعلي رضي الله تعالى عنه: أنت أنت، يعني أنت الإله، فنفاه عليّ إلى المدائن وقال: لا تساكني في بلد أبدا. وكان عبد الله بن سبأ هذا يهوديا، كان من أهل صنعاء، وأمه يهودية سوداء، ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، وكان أوّل من أظهر سب الشيخين ونسبهما للافتيات على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه. ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك، فقال علي: معاذ الله أني أضمر لهما ذلك، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان، وقيل في أول خلافة عمر، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله. وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في عليّ. وكان يقول في عليّ إنه حي لم يقتل، وإن فيه الجزء الإلهي، وإنه يجيء في السحاب، والرعد صوته والبرق سوطه، وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما. وعبد الله هذا كان يظهر أمر الرجعة: أي أنه صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى. وكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب

برجعة محمد، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: الآية 85] فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وأظهر أمر الوصية: أي أن عليا رضي الله تعالى عنه أوصى له صلى الله عليه وسلم بالخلافة، وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان رضي الله تعالى عنه كما سيأتي. ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة: محمد صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم. ومنهم من قال «بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه» وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر، وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول، وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج. كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها. وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله عز وجل حل في صورة آدم، ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو، فافتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم، فإنه كان يعرف شيئا من السحر والنيرنجيات، فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب. ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه. وجاؤوا إلى القلعة التي كان متحصنا بها. فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات، ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقي حي بها من أتباعه. والقول بالاتحاد كفر، فقد قال العز بن عبد السلام: من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر، وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف. وأنه لا يجري فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة، ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين. وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي: سبحاني ما أعظم شأني، وقوله: «إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون. وقوله: وأنا ربي الأعلى، وقوله: أنا الحق وهو أنا وأنا هو: ليس من دعوى الحلول في شيء، وإنما قوله: سبحاني إني أنا الله، محمول على الحكاية: أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث «إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده» وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ. إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى، بحيث استغرق في بحر التوحيد، بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه، وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى، الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى، وترك الإرادة منه والاختيار. فالعارف إذا وصل إلى هذا المقام ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال

الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول. وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالاتحاد. ولا مشاحة في الاصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه، فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب، فقد فني عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا الله ولا يبغض إلا الله، ولا يوالي إلا الله، ولا يعادي إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يرجو إلا لله، ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وفي كلام سيدي عليّ رضي الله تعالى عنه حيث أطلق القول بالاتحاد في كلام القوم من الصوفية، فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا، كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النّحل: الآية 60] هذا كلامه رضي الله تعالى عنه ورضي عنا به، وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال: أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين. فقد قال بعض العلماء: حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب، والعبد في حال فناء العبد، فيكون العبد معدوما موجودا في آن واحد، ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين، ومن لم يشهد ذلك أنكره. ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا، وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال، لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي بدلا عنه. وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع، وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة، قال: وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال، ومنه قصة قضيب البان وغيره: أي كواقعة الشيخ عبد القادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به. فقد ذكر الجلال السيوطي رحمه الله تعالى أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن وليّ الله الشيخ عبد القادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها، فهل يقع الطلاق على أحدهما! قال: فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك، فقال: ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان. وقد قيل في الأبدال: إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه، ويقال عالم

المثال كما تقدم، فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح، فهو ألطف من عالم الأجساد، وأكثف من عالم الأرواح، فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال. قال: وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل، بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر. ومما يدل على وجود المثال رؤيته صلى الله عليه وسلم للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: الآية 24] بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام. ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض الأولياء في غير مكانها. وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ولعل مجيء جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر، فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها، إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه. قال الشيخ الأكبر رضي الله تعالى عنه: دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة، فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال، وهي التي لك عندي، فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر، فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه، وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة، إلا أن يدعي أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره، وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك، لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة: أي بالوعيد والزجر فليتأمل. وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقي القرآن طريقان: أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل: أي لأن الأنبياء يحصل لهم الانسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير اكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر. والثاني أن الملك انخلع من الملكية إلى البشرية حتى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هذا كلامه. والراجح أن المنزّل اللفظ، والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا، أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل، وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى، وأوحاه إليه صلى الله عليه وسلم كذلك، أو حفظه جبريل من اللوح المحفوظ ونزل به.

واعلم أن من حالات الوحي النفث: أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس» أي المخلوق من الطهارة يعني جبريل «نفث» أي ألقى. والنفث في الأصل: النفخ اللطيف الذي لا ريق معه «في روعي» بضم الراء: أي قلبي «أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» أي عاملوا بالجميل في طلبكم، وتتمته «ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله» أي كالكذب «فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته» . وفي كلام ابن عطاء الله: الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة: منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به. ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا، لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه. ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى، وشاهد حسن اختياره إذا منع. ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه، ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه. ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة. وفي حديث ضعيف «اطلبوا الحوائج بعزة النفس، فإن الأمور تجري بالمقادير» . ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس: وهي أشد الأحوال عليه صلى الله عليه وسلم: أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة. أقول: روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه، وهو أخو أبي جهل لأبويه، وكان يضرب به المثل في السؤدد حتى قال الشاعر: أحسبت أن أباك حين تسبني ... في المجد كان الحارث بن هشام أولى قريش بالمكارم والندى ... في الجاهلية كان والإسلام أسلم يوم الفتح، وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانئ أخت علي بن أبي طالب وأراد عليّ قتله، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» وحسن إسلامه، وشهد حنينا، وكان من المؤلفة كما سيأتي «سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ أي حامله الذي هو جبريل، قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيقصم. بالفاء- أي يقلع عني وقد وعيت ما قال» وفي رواية «يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا» أي يتصور بصورة الرجل. وفي رواية «في صورة الفتي، فيكلمني فأعي ما يقول» وروي أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى.

ونص هذه الرواية «كان الوحي يأتيني على نحوين، يأتيني جبريل فيلقيه عليّ كما يلقي الرجل على الرجل، فذلك ينفلت مني. ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني» . قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله، لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده، فلا يثبت فيما ألقي إليه بخلافه في الحالة الثانية، لأن سماع مثل هذا الصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي اضطر إلى التثبت في ذلك، وقولنا: أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصلة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله. وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال، وقول بعضهم: الصلصلة المذكورة هي صوت الملك بالوحي، وقوله: «يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا» وكان صلى الله عليه وسلم يجد ثقلا عند نزول الوحي، ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان، وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه. وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه «كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل لذلك. ومرة وقع فخذه على فخذي، فو الله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربما أوحي إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت» . أي وجاء «أنه لما نزلت سورة المائدة عليه صلى الله عليه وسلم كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها» . وفي رواية «فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة» ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك. وجاء «ما من مرة يوحي إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض منه» وعن أسماء بنت عميس «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه» وفي رواية «يصير كهيئة السكران» . أقول: أي يقرب من حال المغشي عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران: أي مع بقاء عقله وتمييزه. ولا ينافي ذلك قول بعضهم: ذكر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ عن الدنيا، لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة، وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم، وحينئذ لا ينتفض وضوءه. ثم رأيت صاحب الوفاء قال: فإن قال قائل ما كان يجري عليه صلى الله عليه وسلم من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتفض وضوءه؟

والجواب لا، لأنه صلى الله عليه وسلم كان محفوظا في منامه، تنام عيناه ولا ينام قلبه، فإذا كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوءه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى، لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه. وما ذكرناه أولى، لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل. وفي كلام الشيخ محيي الدين ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وجميع من يأتيه الوحي من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقي على ظهره حيث قال: سبب اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره، فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده، فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء» قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم كان يخضب بالحناء، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام لم يخضب، لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه. وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب، فقد جاء «اختضبوا بالحناء، فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم» وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضي الوحي» وفي لفظ «كان إذا نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي استقبلته الرعدة» وفي رواية «كرب لذلك وتربد له وجهه، وغمض عينيه، وربما غط كغطيط البكر» . وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: «كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة، وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها» . وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: «كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل» . وذكر الحافظ ابن حجر أن دوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس: أي المتقدم ذكرها، لأن سماع الدوي بالنسبة للحاضرين. والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالراوي شبه بدويّ النحل، والنبي صلى الله عليه وسلم شبه بصلصلة الجرس: أي فالمراد بهما شيء واحد، والله أعلم. ومن حالاته: أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح. أقول: فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر. وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته التي

خلقه الله عليها إلا مرتين: حين سأله أن يريه نفسه، فقال: وددت أني رأيتك في صورتك: أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض، وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) [التكوير: الآية 23] وبقوله تعالى فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) [النجم: الآية 6 و 7] «طلع جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه، فنزل جبريل عليه السلام في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه» الحديث. والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) [النجم: الآية 13 و 14] وسيأتي الكلام على ذلك. وفي الخصائص الصغرى: خص صلى الله عليه وسلم برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها: أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية، وليست كأجنحة الطير. ولا ينافي ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسدّ ما بين المشرق والمغرب، هذا كلامه فليتأمل. ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط؟ والله أعلم. ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة ملك؟ بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا، وذلك ليلة المعراج. واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء. ويحتمل أن يكون نوعا واحدا، وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية. والثاني بناء على القول بالرؤية. وحينئذ لا يناسب عدّ ذلك نوعين كما فعل الشامي، ومن ثم نسب ابن القيم هذا النوع الثاني لبعضهم كالمتبرئ منه حيث قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية، وهي تكليم الله تعالى له صلى الله عليه وسلم كفاحا بغير حجاب هذا كلامه، لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية؟ فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت. وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج، وعلى هذا جاء قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشّورى: الآية 51] . وقول ابن القيم السادسة: أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها، لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير

واسطة ملك، وهذا محتمل لأن يكون من غير حجاب، وأن يكون من وراء الحجاب، فهي لم تخرج عما تقدم. وكذا قوله السابعة: أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى: أي من وراء حجاب، فهي لم تخرج عما تقدم. وحينئذ يكون كلمه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب. وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الاعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر، والجواب عنه، وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى، والله أعلم. قال الحافظ السيوطي: وليس في القرآن من هذا النوع: أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم. نعم يمكن أن يعدّ منه آخر سورة البقرة: أي آمن الرسول إلى آخر الآيات، لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين. وروى الديلمي «قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال آخر سورة البقرة، فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش، ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه» ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله صلى الله عليه وسلم، وقد قيل له: «يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم؟ قال آية الكرسي أعظم» وما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه مرسلا. أفضل القرآن البقرة، وأفضل آية فيه آية الكرسي» وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي» وفي الجامع الصغير «آية الكرسي ربع القرآن» . ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى، وبعض سورة ألم نشرح. قال صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته، سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فقال: يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك، وضالا فهديتك، وعائلا فأغنيتك، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفع لك ذكرك، فلا أذكر إلا وتذكر معي» انتهى. أقول: قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله: «فقال محمد ألم أجدك إلى آخره» ليس هذا نص التلاوة، وإن هذا ظاهر في أن المتلوّ الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك، وأن هذا تذكير به، والله أعلم. ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ «أتاني ربي» وفي لفظ «رأيت ربي في أحسن صورة. أي خلقة- فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض» أي وفي كلام الشيخ محيي الدين

ابن العربي رضي الله تعالى عنه، فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوى الحسية أو المعنوية، وهذا لا يبعد أن يقع مثله للأولياء بطريق الإرث: أي تجلى له الحق بالتجلي الخاص الذي ما ذكر عبارة عنه. وفي رواية «فعلمت علم الأولين والآخرين» أي ومن حالات الوحي رؤيا النوم، قال صلى الله عليه وسلم: «رؤيا الأنبياء وحي» كما تقدم. ومن حالات العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه عند الاجتهاد في الأحكام بناء على ثبوته لا بواسطة ملك، وبذلك فارق النفث في الروع. وبذكر هذه الأنواع للوحي يعمل أن ما تقدم من حصره في الحالتين المذكورتين عند سؤال الحارث له صلى الله عليه وسلم أغلبيّ أو أن ما عداهما وقع بعد سؤال الحارث له. وفي «ينبوع الحياة» عن ابن جرير «ما نزل جبريل بوحي قط إلا وينزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحي إليه، يطردون الشياطين عنهما، لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من الغيب الذي يوحيه إليه، فيلقوه إلى أوليائهم» ثم رأيته في «الإتقان» ذكر أن من القرآن ما نزل معه الملائكة مع جبريل تشيعه، من ذلك سورة الأنعام، شيعها سبعون ألف ملك، وفاتحة الكتاب شيعها ثمانون ألف ملك، وآية الكرسي شيعها ثمانون ألف ملك، وسورة يس شيعها ثلاثون ألف ملك وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزّخرف: الآية 45] شيعها عشرون ألف ملك، ولعل هذا لا ينافي ما تقدم من أن الغرض من تساقط النجوم عند البعثة حراسة السماء من استراق الشياطين لما يوحى، لجواز أن يكون هذا لحفظ ما يوحى من استراقه في الأرض وبين السماء والأرض. وعن النخعي: إن أول سورة أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] قال الإمام النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، هذا كلامه. ولا يخفى أن مراد النخعي بالسورة هنا القطعة من القرآن: أي أوّل آيات أنزلت، فلا ينافي ما تقدم من رواية عمرو بن شرحبيل مما يدل على أن أول سورة أنزلت فاتحة الكتاب، لأن المراد أول سورة كاملة نزلت لا في شأن الإنذار، فلا ينافي ما تقدم من رواية جابر مما يقتضي أن أوّل ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] لأن المراد بذلك أوّل سورة كاملة نزلت في شأن الإنذار بعد فترة الوحي: أي فإنها نزلت قبل تمام نزول سورة اقرأ، وهذا الجمع تقدم الوعد به، أي لكن يشكل عليه ما في الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما نزل عليّ القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا، ما خلا سورة براءة- وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1]- فإنهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» فإن هذا السياق يدل على أنه لم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم سورة كاملة إلا براءة وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] ويخالفه ما في «الإتقان» أن مما نزل جملة سورة الفاتحة وسورة الكوثر، وسورة تبت، وسورة لم يكن، وسورة النصر والمرسلات والأنعام. لكن ذكر ابن

الصلاح أن هذا روي بسند فيه ضعف قال: ولم أر له إسنادا صحيحا. وقد روي ما يخالفه، ولم يذكر في «الإتقان» مما نزل جملة سورة براءة، وذكر أن المعوذتين نزلتا دفعة واحدة. وحينئذ يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «إلا آية آية وحرفا حرفا» أي كلمة، والمراد بها ما قابل السورة، وإلا فقد أنزل عليه ثلاث آيات وأربع آيات وعشر آيات كما أنزل عليه آية وبعض آية. فقد صح نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النّساء: الآية 95] منفردة وهي بعض آية. وفي الإتقان عن جابر بن زيد قال: «أوّل ما أنزل الله تعالى من القرآن بمكة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] ثم ن وَالْقَلَمِ [القلم: الآية 1] ثم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) [المزمّل: الآية 1] ثم يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] ثم الفاتحة، إلى آخر ما ذكر. ثم قال: قلت هذا السياق غريب، وفي هذا الترتيب نظر، وجابر بن زيد من علماء التابعين، هذا كلامه. وذكر بعض المفسرين أن سورة والتين أول ما نزل من القرآن، والله أعلم. وما تقدم من أن نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] كان في شأن الإنذار بعد فترة الوحي، لأنه كان بعد نزول جبريل عليه ب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] ، مكث مدة لا يرى جبريل. أي وإنما كان كذلك ليذهب ما كان يجده من الرعب، وليحصل له التشوف إلى العود، ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما وافى بذروة كي يلقي نفسه منها تبدّى له جبريل عليه السلام؟ فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه: أي قلبه وتقرّ نفسه ويرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا وافى ذروة جبل تبدى له مثل ذلك. قال: وفي رواية «أنه لما فتر الوحي عنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى يريد أن يلقي نفسه منه، فكلما وافى ذروة جبل منهما كي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ويرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك، وكانت تلك المدة أربعين يوما، وقيل خمسة عشر يوما، وقيل اثني عشر يوما، وقيل ثلاثة أيام. قال بعضهم وهو الأشبه بحاله عند الله تعالى انتهى. أقول: ويبعد هذا الأشبه قوله فإذا طالت عليه فترة الوحي، والله أعلم. وفي الأصل وهذه الفترة لم يذكر لها ابن إسحق مدة معينة. أقول: في فتح الباري أن ابن إسحق جزم بأنها ثلاث سنين، والله أعلم. قال أبو القاسم السهيلي: وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أن مدة هذه الفترة كانت سنتين ونصف سنة: أي وفي كلام الحافظ ابن حجر: وهذا الذي اعتمده

السهيلي لا يثبت. وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مدة الفترة كانت أياما أي وأقلها ثلاثة: أي وتقدم ما فيه. قال: قال بعض الحفاظ: والظاهر- والله أعلم- أنها أي مدة الفترة كانت بين اقرأ ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] هي المدة التي اقترن معه فيها إسرافيل كما قال الشعبي انتهى. أقول: ويوافق ذلك ما في الاستيعاب لابن عبد البر أن الشعبي قال: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين، وقرن بنبوته إسرافيل عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين وقد تقدم ذلك. وفي الأصل عن الشعبي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يترائ له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ولم ينزل القرآن» أي شيء منه على لسانه «ثم وكل به جبريل فجاءه بالوحي والقرآن» وهو موافق في ذلك لما في سيرة شيخه الحافظ للدمياطي حيث قال: قال بعض العلماء: وقرن به إسرافيل، ثم قرن به جبريل، وهو ظاهر في أن اقتران إسرافيل به كان بعد النبوة، ويؤيده قوله: «ويأتيه بالكلمة من الوحي» ومحتمل لأن يكون ذلك قبل النبوة، فيوافق ما تقدم عن الماوردي، لكن تقدم أنه كان يسمع حسه ولا يرى شخصه؟ إلا أن يقال: لا يلزم من كونه يترائ له أن يراه، وقوله يأتيه بالكلمة من الوحي هو معنى قوله يأتيه بالشيء بعد الشيء، ثم رأيت الواقدي أنكر على الشعبي كون إسرافيل قرن به أولا. وقال: لم يقترن به من الملائكة إلا جبريل: أي بعد النبوة، ويحتمل مطلقا. قال بعضهم: ما قاله الشعبي هو الموافق لما هو المشهور المحفوظ الثابت في الأحاديث الصحيحة، وخبر الشعبي مرسل أو معضل، فلا يعارض ما في الأحاديث الصحيحة هذا كلامه. ثم رأيت الحافظ ابن حجر نظر في كلام الواقدي بأن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم، هذا كلامه. لا يقال: قد وجد الدليل، فقد جاء «بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل إذ سمع نغيضا: أي هدة من السماء، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط» قال جماعة من العلماء: إن هذا الملك إسرافيل. لأنا نقول هذا مجرد دعوى لا دليل عليها؟ ولا يحسن أن يكون مستندهم في ذلك ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل، فقال أنا رسول ربك» الحديث. ومن ثم عدّ السيوطي من خصائصه صلى الله عليه وسلم هبوط إسرافيل عليه، إذ ليس في ذلك دليل على أن إسرافيل لم يكن نزل إليه قبل ذلك حتى يكون دليلا على أن اقتران

جبريل به سابق على اقتران إسرافيل به. هذا، وفي كلام الحافظ السيوطي أن مجيء إسرافيل كان بعد ابتداء الوحي بسنتين، قال كما يعرف ذلك من سائر طرق الأحاديث، وهو بظاهره يرد ما في «سفر السعادة» أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ تسع سنين أمر الله تعالى إسرافيل أن يقوم بملازمته. ولما بلغ إحدى عشرة سنة أمر جبريل بملازمته صلى الله عليه وسلم فلازمه تسعا وعشرين سنة فليتأمل. وعن يحيى بن بكير قال: ما خلق الله خلقا في السموات أحسن صوتا من إسرافيل، فإذا قرأ في السماء يقطع على أهل السماء ذكرهم وتسبيحهم. ثم رأيت في فتح الباري: ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين: أي على ما تقدم ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن عليه فقط هذا كلامه: أي فكان جبريل يأتي إليه بغير قرآن بعد مجيئه إليه باقرأ، ولم يجئ إليه بالقرآن الذي هو يا أيها المدثر إلا بعد الثلاث سنين على ما تقدم، ثم في تلك المدة مكث أياما لا يأتيه أصلا، ثم جاءه بيا أيها المدثر، فكان قبل تلك الأيام يختلف إليه هو وإسرافيل، وهذا السياق كما لا يخفى يؤخذ منه عدم المنافاة بين كون مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما يقول ابن إسحق، وسنتين ونصفا كما يقول السهيلي، وسنتين كما يقول الحافظ السيوطي، وبين كونها أياما أقلها ثلاثة وأكثرها أربعون كما تقدم عن ابن عباس، لأن تلك الأيام التي كانت لا يرى فيها جبريل أصلا على ما تقدم: أي ولا يرى فيها إسرافيل أيضا. وفي غير تلك الأيام كان يأتيه بغير القرآن، وحينئذ لا يحسن رد الحافظ فيما سبق على السهيلي. وينبغي أن تكون تلك الأيام التي لا يرى فيها جبريل وإسرافيل هي التي يريد فيها أن يلقي نفسه من رؤوس شواهق الجبال، وهذا السياق أيضا يدل على أن النبوة سابقة على الرسالة بناء على أن الرسالة كانت بيا أيها المدثر، ويصرح به ما تقدم من قول بعضهم نبأه بقوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] وأرسله بقوله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) [المدثر: الآيات 1- 4] وأن بينهما فترة الوحي وعليه أكثر الروايات. وقيل النبوة والرسالة مقترنان، ولعل من يقول بتلك يقول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [دلت على طلب الدعوة إلى الله تعالى، وهذا غير إظهار الدعوة والمفاجأة بها الذي دل عليه قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: الآية 94] فليتأمل. وذكر السهيلي أن من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم مشتق من الحالة التي هو عليها، فلاطفه الحق سبحانه وتعالى بقوله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] فبذلك علم رضاه الذي هو غاية مطلوبه، وبه كان يهون عليه

باب: ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة

تحمل الشدائد، ومن هذه الملاطفة قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقد نام وترب جنبه «قم يا أبا تراب» وقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة في غزوة أحد وقد نام إلى الأسفار «قم يا نومان» . وذكر الشيخ محيي الدين بن العربي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) [المدثر: الآية 1- 2] اعلم أن التدثر إنما يكون من البرودة التي تحصل عقب الوحي، وذلك أن الملك إذا ورد على النبي صلى الله عليه وسلم بعلم أو حكم تلقى ذلك الروح الإنساني، وعند ذلك تشتعل الحرارة الغريزية فيتغير الوجه لذلك، وتنتقل الرطوبات إلى سطح البدن لاستيلاء الحرارة فيكون من ذلك العرق، فإذا سريّ عنه ذلك سكن المزاج، وانقشعت تلك الحرارة، وانفتحت تلك المسام، وقبل الجسم الهواء من خارج، فيتحلل الجسم، فيبرد المزاج، فتأخذه القشعريرة فتزاد عليه الثياب ليسخن هذا ملخص كلامه. وذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) [المدّثّر: الآية 4] أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي نفعنا الله تعالى ببركاته قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا أبا الحسن طهر ثيابك من الدنس، تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس، فقلت: يا رسول الله وما ثيابي؟ قال: إن الله كساك حلة التوحيد وحلة المحبة وحلة المعرفة، قال: ففهمت حينئذ قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) . وجاء في وصف إسرافيل في بعض الأحاديث «لا تفكروا في عظم ربكم، ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة، فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله، وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سموات، وإنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتى يصير كأنه الوصع» فهو عند نزوله يكون حاملا لزاوية العرش أو يخلفه غيره من الملائكة في ذلك. باب: ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة أي أول الإرسال إليه باقرأ. أقول: في المواهب «أنه روي أن جبريل عليه الصلاة والسلام بدا له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة، فقال له: يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام، ويقول لك: أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول: لا إله إلا الله، ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء، فتوضأ منها جبريل، ثم أمره أن يتوضأ، وقام جبريل يصلي، وأمره أن يصلي معه، فعلمه الوضوء والصلاة» الحديث. وقوله «فعلمه الوضوء» يحتمل أن يكون بفعله المذكور. ويحتمل أن يكون

علمه بقوله افعل كذا في وضوئك وصلاتك، ويدل للأول ما سيأتي. وفيه أن قول جبريل المذكور إنما كان عند أمره بإظهار الدعوة والمفاجأة بها إلى الله تعالى بعد فترة الوحي كما سيأتي، فالجمع بينه وبين قوله ثم ضرب برجله الأرض إلى آخره لا يحسن، لأنه سيأتي أن ذلك كان في يوم نزوله له اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] ولعله من تصرف بعض الرواة، والله أعلم. فعن ابن إسحق: حدثني بعض أهل العلم «أن الصلاة حين افترضت على النبي صلى الله عليه وسلم: أي قبل الإسراء أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ليريه كيف الطهور- أي الوضوء للصلاة- أي فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه وغسل رجليه إلى الكعبين» كما في بعض الروايات أي وفي رواية «فغسل كفيه ثلاثا، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه، ثم غسل يديه إلى المرفقين، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ مثل وضوئه» . أقول: وبهذه الرواية، يردّ قول بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في الوضوء التسمية وغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق ومسح جميع الرأس والتخليل ومسح الأذنين والتثليث، إلا أن يقال مراد هذا البعض أن ما ذكر زاده على ما في الآية. وفي كلام بعضهم: كانت العرب في الجاهلية يغتسلون من الجنابة، ويداومون على المضمضة والاستنشاق والسواك، والله أعلم. ثم قام جبريل فصلى به صلى الله عليه وسلم ركعتين يحتمل أن تلك الصلاة كانت بالغداة قبل طلوع الشمس. ويحتمل أنها كانت بالعشي: أي قبل غروب الشمس. وفي الإمتاع وإنما كانت الصلاة قبل الإسراء صلاة بالعشيّ: أي قبل غروب الشمس، ثم صارت صلاة بالغداة، وصلاة بالعشي ركعتين: أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي. والعشي: هو العصر. ففي كلام بعض أهل اللغة: العصر العشاء، والعصران الغداة والعشي، وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة، واستقبل الحجر الأسود: أي جعل الحجر الأسود قبالته وهذا يدل على أنه لم يستقبل في تلك الصلاة بيت المقدس، لأنه لا يكون مستقبلا لبيت المقدس إلا إذا صلى بين الركنين الأسود واليماني كما كان يفعل بعد فرض الصلوات الخمس وهو بمكة، كما سيأتي «أنه كان يصلي بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود، ويجعل الكعبة بينه وبين الشام» أي بينه وبين بيت المقدس: أي صخرته، إلا أن يقال يجوز أن يكون عند صلاته إلى الكعبة كان بينهما إلا أنه كان إلى الحجر الأسود أقرب منه إلى اليماني، فقيل استقبل الحجر الأسود فلا مخالفة، لكن سيأتي ما قد يفيد أنه لم يستقبل بيت المقدس إلا في الصلوات الخمس: أي بعد الإسراء

وقبل ذلك كان يستقبل الكعبة إلى أي جهة من جهاتها «ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل، قال جبريل: هكذا الصلاة يا محمد، ثم انصرف جبريل، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وأخبرها، فغشي عليها من الفرح، فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل عليه الصلاة والسلام» . وفي سيرة الحافظ الدمياطي ما يفيد أن ذلك كان في يوم نزول جبريل عليه الصلاة والسلام له ب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] حيث قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلى فيه، وصلت خديجة آخر يوم الاثنين، ويوافقه ظاهر ما جاء «أتاني جبريل في أول ما أوحي إليّ فعلمني الوضوء والصلاة، فلما فرغ الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه «أي رش بها فرجه أي محل الفرج من الإنسان، بناء على أنه لا فرج له، وكون الملك لا فرج له لو تصور بصورة الإنسان استدل عليه بأنه ليس ذكرا ولا أنثى، وفيه نظر، لأنه يجوز أن يكون له آلة ليست كآلة الذكر ولا كآلة الأنثى كما قيل بذلك في الخنثى ويقال لذلك فرج. وبعض شراح الحديث حمل الفرج على ما يقابل الفرج من الإزار، وبذلك استدل أئمتنا على أنه يستحب لمن استنجى بالماء أن يأخذ بعد الاستنجاء كفا من ماء ويرش في ثيابه التي تحاذي فرجه، حتى إذا خيل له أن شيئا خرج ووجد بللا قدّر أنه من ذلك الماء، ولعل هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «علمني جبريل الوضوء، وأمرني أن أنضح تحت ثوبي مما يخرج من البول بعد الوضوء» أي دفعا لتوهم خروج شيء من البول بعد الوضوء لو وجد بلل بالمحل. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «كان ينضح سراويله حتى يبلها» وما جاء «أنه لما أقرأه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] ، قال له جبريل: انزل عن الجبل، فنزل معه إلى قرار الأرض قال: فأجلسني على درنوك. بالدال المهملة والراء والنون: أي وهو نوع من البسط ذو خمل- ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء، فتوضأ منها جبريل» الحديث فمشروعية الوضوء كانت مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس، وإن ذلك كان في يوم نزول جبريل باقرأ، وهو مخالف لقول ابن حزم: لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة. ومما يرد ما قاله ابن حزم نقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم قط إلا بوضوء، قال: وهذا مما لا يجهله عالم، هذا كلامه، إلا أن يقال مراد ابن حزم أنه لم يشرع وجوبا إلا في المدينة، وهو الموافق لقول بعض المالكية إنه كان قبل الهجرة مندوبا: أي وإنما وجب بالمدينة بآية المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: الآية 6] الآية. ويرده ما في الإتقان أن هذه الآية مما تأخر نزوله عن حكمه يعني قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة: الآية 6] إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: الآية 6] فالآية مدنية إجماعا، وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة: أي فالوضوء على هذا مكي بالفرض، مدني بالتلاوة. قال: والحكمة في ذلك: أي في نزول الآية بعد تقدم العمل لما يدل عليه أن تكون قرآنيته متلوة هذا كلامه. وقوله مع فرض الصلاة، يحتمل أن المراد صلاة الركعتين بناء على أنهما كانتا واجبتين عليه صلى الله عليه وسلم، وهو الموافق لما تقدم عن ابن إسحق. ويحتمل أن المراد الصلاة الخمس: أي ليلة الإسراء، وهو الموافق لما اقتصر عليه شيخنا الشمس الرملي حيث قال: وكان فرضه مع فرض الصلاة قبل الهجرة بسنة، هذا كلامه. وحينئذ يكون قبل ذلك مندوبا حتى في صلاة الليل. وقول صاحب المواهب: ما ذكر من أن جبريل عليه الصلاة والسلام علمه الوضوء وأمره به يدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء فيه نظر ظاهر، إذ لا دلالة في ذلك على الفرضية، إذ يحتمل أن يكون اللفظ الصادر من جبريل له أمرتك أن تفعل كفعلي وصيغة أمره مشتركة بين الوجوب والندب. وذكر بعضهم أن الغرض من نزول آية المائدة بيان أن من لم يقدر على الوضوء والغسل لمرض أو لعدم الماء يباح له التيمم: أي ففرضية الوضوء والغسل سابقة على نزولها ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية: فأنزل الله تعالى آية التيمم، ولم تقل آية الوضوء وهي هي، لأن الوضوء كان مفروضا قبل أن توجد تلك الآية، ويوافقه ما ذكره ابن عبد البر من اتفاق أهل السير على أن الغسل من الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما يقتضي أن فرض الغسل كان مع فرض الصلوات ليلة الإسراء. فقد جاء عنه «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعل الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة» . قال بعض فقهائنا: رواه أبو داود ولم يضعفه، وهو إما صحيح أو حسن، قال ذلك البعض. ويجوز أن يكون المراد بها: أي الغرض من نزولها فرض غسل الرجلين في قراءة من قرأ «وأرجلكم بالنصب» فإن حديث جبريل ليس فيه إلا مسحهما: أي وهو أن جبريل أول ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي توضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين وسجد سجدتين: أي ركع ركعتين مواجهة البيت، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم كما يرى جبريل يفعله، هذا كلامه، وفيه نظر، لأن أكثر الروايات «وغسل رجليه» كما تقدم فرجليه في هذه الرواية معطوفة على وجهه كما أن أرجلكم في الآية على قراءة الجر معطوفة على الوجوه، وإنما جرّ للمجاورة

وإن كان الجر للمجاورة في غير النعت قليلا، أو عبر عن الغسل الخفيف بالمسح. وفي كلام الشيخ محيي الدين مسح الرجلين في الوضوء بظاهر الكتاب، وغسلهما بالسنة المبينة للكتاب. قال: ويحتمل العدول عن الظاهر بناء على أن المسح فيه يقال للغسل، فيكون من الألفاظ المترادفة، وفتح أرجلكم لا يخرجها عن الممسوح، فإن هذه الواو قد تكون واو المعية. وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة» أي عملا بظاهر قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: الآية 6] الآية «فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال له سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: فعلت شيئا لم تكن تفعله، فقال عمدا فعلته يا عمر» أي للإشارة إلى جواز الاقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس، وجواز ذلك ظاهر في نسخ وجوب الوضوء عليه لكل صلاة، ويوافقه قول بعضهم: قيل كان ذلك الوضوء لكل صلاة واجبا عليه ثم نسخ، هذا كلامه: أي ويؤيد ذلك ظاهر ما جاء أنه أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وضع عنه الوضوء إلا من حدث، أي ويكون وقت المشقة يوم فتح مكة، لما علمت أنه لم يترك الوضوء لكل صلاة إلا حينئذ. وهذا السياق يدل على أن وجوب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. ويدل لذلك ما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، قيل لهم كيف تصنعون: أي هل كنتم تفعلون كفعله صلى الله عليه وسلم قال: يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث» أي فوجوب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ثم نسخ. وذكر فقهاؤنا أن الغسل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة فنسخ بالنسبة للحدث الأصغر تخفيفا، فصار الوضوء بدلا عنه، ثم نسخ الوضوء لكل صلاة فظاهر سياقهم يقتضي أن وجوب الغسل ثم الوضوء لكل صلاة كان عاما في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته. ويحتاج إلى بيان وقت نسخ وجوب الغسل في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته وبيان وقت نسخ وجوب الوضوء، لكل صلاة في حق الأمة، ومنه يعلم أن نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة يكون بالنسبة للأمة ثم بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم. وحينئذ لا يشكل قول فقهائنا الآية تقتضي وجوب الطهر بالماء أو التراب لك صلاة، خرج الوضوء بالسنة، أي بما تقدم من فعله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وبتجويزه صلى الله عليه وسلم للأمة أن يصلي الواحد منهم الصلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على مقتضى الآية، فقد وقع النسخ أوّلا بالنسبة للأمة، ثم ثانيا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، ولعل وجوب الغسل لكل صلاة كان بوحي غير قرآن أو باجتهاد. ولا يخفى أن كون ظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء والتيمم لكل صلاة إنما هو بقطع النظر عما نقله إمامنا رضي الله تعالى عنه عن زيد بن أسلم أن الآية فيها تقديم وحذف، وأن التقدير إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ

الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [المائدة: 6، والنساء: 43] فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] الآية، والله أعلم. وعن مقاتل بن سليمان فرض الله تعالى في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشيّ أي قبل غروب الشمس. أقول: إن كان المراد بأول الإسلام نزول جبريل عليه باقرأ يردّ ما تقدم عن الإمتاع أن أول ما وجب ركعتان بالعشيّ ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين إلا أن يراد الأولية الإضافية. وفي بعض الأحاديث ما يدل على أن وجوب الركعتين كان خاصا به صلى الله عليه وسلم دون أمته. منها قوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس» ، وفيه أنه افترض عليها قبل ذلك صلاة الليل ثم نسخ بالصلوات الخمس. وفي الإمتاع «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلي صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى: أي فيصلون صلاة العشي، وكانوا يصلون الضحى والعصر، ثم نزلت الصلوات الخمس» هذا كلامه. وهو يفيد أن الركعتين الأوليين كان يصليهما وقت الضحى لا قبل الشمس فليتأمل والله أعلم، ثم فرضت الخمس ليلة المعراج. وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة: أي لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد: أي بقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ [المزمّل: الآية 20] أي صلوا. أقول: وهو الناسخ لما وجب قبل ذلك من التحديد في أول السورة الحاصل بقوله: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: الآية 2- 4] وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء، ولم يذكر أئمتنا وجوب صلاة الركعتين عليه صلى الله عليه وسلم، بل قالوا: أول ما فرض عليه الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض عليه قيام الليل المذكور في أول سورة المزمل، ثم نسخ بما في آخرها، ثم نسخ بالصلوات الخمس، وهو مخالف لما تقدم عن ابن إسحق من وجوب صلاة الركعتين عليه، ويوافقه قول ابن كثير في قولهم ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلوات: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء. قال بعضهم: وإنما قال ذلك، لأن أصل الصلاة قد فرض في حياة خديجة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي. وفي كلام ابن حجر الهيتمي: لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط، ثم استمر

باب: ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم

على ذلك مدة مديدة، ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل، ثم نسخ ذلك كله بالصلوات الخمس، ثم لم تكثر الفرائض وتتتابع إلا بالمدينة، ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب، وكان كلما زاد ظهورا وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت هذا كلامه. ولم أقف على ما كان يقرأ في صلاة الركعتين قبل فترة الوحي وبعدها وقبل نزول الفاتحة، بناء على تأخر نزولها عن ذلك كما هو الراجح، ثم رأيته في الإتقان ذكر أن جبريل حين حولت القبلة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة، هذا كلامه. وينبغي حمله على الصلوات الخمس، وحينئذ يكون ما تقدم من قول بعضهم لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة محمولا على ذلك أيضا، وقد تقدم ذلك، والله أعلم. باب: ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم أي بعد البعثة: أي الرسالة، وهي المرادة عند الإطلاق بناء على أنها مقارنة للنبوة. لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أخفى أمره وجعل يدعو إلى الله سرا، واتبعه ناس عامتهم ضعفاء من الرجال والنساء، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود كما بدا، فطوبى للغرباء» ولا يخفى أن أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم على الإطلاق خديجة رضي الله عنها. أقول: نقل الثعلبي المفسر اتفاق العلماء عليه. وقال النووي: إنه الصواب عند جماعة من المحققين. وقال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة. وفيه أن بناته الأربع كنّ موجودات عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن، إلا أن يقال خديجة تقدم لها إشراك بخلافهن، أخذا مما يأتي. وعن ابن إسحق أن خديجة كانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت ما جاء به عن الله تعالى، وكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها وأخبرها به. ثم عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. ففي المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول هذه الأمة ورودا على الحوض أوّلها إسلاما عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه» وجاء «أنه لما زوجه فاطمة قال لها زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة، وإنه لأول أصحابي إسلاما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما» وكان لم يبلغ

الحلم كما سيأتي حكاية الإجماع عليه، كان سنة ثمان سنين، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره، لأن قريشا كان أصابهم قحط شديد وكان أبو طالب كثير العيال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، تأخذ واحدا وأنا واحدا فجاآ إليه وقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا قيل وطالبا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه وتركا له عقيلا وطالبا، فلم يزل عليّ مع رسول الله» . وفي خصائص العشرة للزمخشري «أن النبي صلى الله عليه وسلم تولى تسميته بعليّ وتغذيته أياما من ريقه المبارك بمصه لسانه» فعن فاطمة بنت أسد أم عليّ رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «لما ولدته سماه عليا وبصق في فيه، ثم إنه ألقمه لسانه، فما زال يمصه حتى نام، قالت: فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد، فدعونا له محمدا صلى الله عليه وسلم فألقمه لسانه فنام، فكان كذلك ما شاء الله عز وجل» هذا كلامه فليتأمل. وعنها رضي الله تعالى عنها أنها في الجاهلية أرادت أن تسجد لهبل وهي حامل بعليّ فتقوّس في بطنها فمنعها من ذلك. وكان عليّ رضي الله تعالى عنه أصغر إخوته، فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنين، وبين جعفر وأخيه عقيل كذلك، وبين عقيل وأخيه طالب ذلك أيضا، فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين، فأكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم عليّ: أي وكلهم أسلموا إلا طالبا فإنه اختطفته الجن فذهب ولم يعلم إسلامه. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لعقيل لما أسلم «يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني، وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك» . وكان عقيل أسرع الناس جوابا وأبلغهم في ذلك قال له معاوية يوما: أين ترى عمك أبا لهب من النار؟ فقال: إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترشا عمتك حمالة الحطب، والراكب خير من المركوب. ولما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه عليّ لما طلب منه عطاءه وقال له اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك، فقال له: لأذهبنّ إلى رجل هو أوصل إليّ منك، فذهب إلى معاوية فأعطاه معاوية مائة ألف درهم، ثم قال له معاوية: اصعد المنبر فاذكر ما أولاك عليّ وما أوليتك، فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليّا على دينه فاختار دينه، وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه. وفي رواية أن معاوية قال لجماعة يوما بحضرة عقيل: هذا أبو يزيد يعني عقيلا، لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا

وتركه، فقال عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي، وأسأل الله تعالى خاتمه الخير. توفي عقيل في خلافة معاوية. قال: وسبب إسلام علي كرم الله تعالى وجهه «أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خديجة وهما يصليان سرا، فقال: ما هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وإلى الكفر باللات والعزى، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدّث أبا طالب، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا عليّ إذا لم تسلم فاكتم هذا، فمكث ليلته. ثم إن الله تبارك وتعالى هداه للإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم» اهـ. أقول: وذلك في اليوم الثاني من صلاته صلى الله عليه وسلم هو وخديجة، وهو يوم الثلاثاء كما في سيرة الدمياطي: أي لأنه تقدم أن صلاته صلى الله عليه وسلم مع خديجة كانت آخر يوم الاثنين، وهذا إنما يأتي على القول بأن النبوة والرسالة تقارنتا لا على أن الرسالة تأخرت عن النبوة، وأن بينهما فترة الوحي على ما تقدم. وفي أسد الغابة «أن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعليا يصليان وعليّ على يمينه، فقال لجعفر رضي الله تعالى عنه: صل جناح ابن عمك، فصلى عن يساره، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. قال بعضهم: وإنما صح إسلام علي: أي مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم: أي ومن ثم نقل عنه أنه قال: سبقتكمو إلى الإسلام طرّا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمي أي كان عمره ثمان سنين على ما سبق، لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين، لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر. وعن البيهقي أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق. وفي لفظ في عام الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز. هذا، وقد ذكر أنه لم يحفظ عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال شعرا. وقيل لم يقل إلا بيتين: أي ولعل أحدهما ما تقدم، ثم رأيت عن القاموس أن البيتين هما قوله: تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما برّوا ولا ظفروا فإن هلكت فرهن مهجتي لهمو ... بذات ودقين لا تبقي ولا تذر وذات ودقين: هي الداهية. وقد ذكر أن الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين، وقيل ابن خمس عشرة

سنة، وقيل ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل ابن ست عشرة سنة. ومما يدل للأول ما جاء عن بعضهم: كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد. ومن العجب أن الزمخشري في خصائص العشرة اقتصر على أن سنّ الزبير حين أسلم ست عشرة سنة، وذكر بعد ذلك بأسطر أنه أول من سلّ سيفا في سبيل الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة مقتصرا على ذلك. ومما يدل للأول أيضا ما جاء في كلام بعض آخر: أسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وهما ابنا ثمان سنين، وإجماعهم على أن عليا لم يكن بلغ الحلم يرد القول بأن عمره كان إذ ذاك عشر سنين: أي بناء على أن سن إمكان الاحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا. ويوافقه ما حكاه بعضهم أن الراشد بالله وهو الحادي والثلاثون من خلفاء بني العباس لما كان عمره تسع سنين وطئ جارية حبشية فحملت منه، فولدت ولدا حسنا. ويرد القول بأن سنه إذ ذاك كان ثلاث عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة سنة. أقول: قال بعض متأخري أصحابنا: وإنما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه، لأن عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به. وعلى هذا مع ما تقدم يشكل ما في الإمتاع: وأما علي بن أبي طالب فلم يكن مشركا بالله أبدا، لأنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفالته كأحد أولاده، يتبعه في جميع أموره، فلم يحتج أن يدعى للإسلام فيقال أسلم، هذا كلامه فليتأمل، فإن عليا كان تابعا لأبيه في دينه ولم يكن تابعا له صلى الله عليه وسلم كأولاده. وقوله فلم يحتج أن يدعى للإسلام يرده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له: أدعوك إلى الله وحده إلى آخره. ثم رأيت في الحديث ما يدل لما في «الإمتاع» وهو «ثلاثة ما كفروا بالله قط: مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب، ة وآسية امرأة فرعون» . والذي في العرائس: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار صاحب يس، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وهو أفضلهم» إلا أن يراد بعدم كفرهم أنهم لم يسجدوا لصنم. وفيه أنه قد يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم له: «وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى» وأنه قيل أيضا إن أبا بكر لم يسجد لصنم قط. وقد عد ابن الجوزي من رفض عبادة الأصنام الجاهلية: أي لم يأت بها: أبا

بكر الصديق، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، ورباب بن البراء، وأسعد بن كريب الحميري، وقس بن ساعدة الإيادي، وأبا قيس بن صرمة. ولا يخفى أن عدم السجود للأصنام لا ينافي الحكم بالكفر على من لم يسجد لها، لكن في كلام السبكي: الصواب أن يقال الصديق لم يثبت عنه حال كفر بالله تعالى، فلعل حاله قبل البعث كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه، فلذلك خص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة، هذا كلامه، وهو واضح إذا لم يكن أحد من جميع من ذكر أسلم. وفي كلام الحافظ ابن كثير: الظاهر أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم آمنوا قبل كل أحد: خديجة وزيد وزوجة زيد أم أيمن وعلي رضي الله تعالى عنهم، فليتأمل قوله آمنوا قبل كل أحد، وكذا يتأمل قول ابن إسحق: أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن. وعن ابن إسحق: ذكر بعض أهل العلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي مستخفيا من قومه فيصليان فيها، فإذا أمسيا رجعا كذلك، ثم إن أبا طالب عثر: أي اطلع عليهما يوما وهما يصليان: أي بنخلة، المحل المعروف، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به؟ فقال: هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إلى الله تعالى وأعانني عليه، فقال أبو طالب: إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه» . وفي رواية «أنه قال له: ما بالذي تقول من بأس، ولكن والله لا تعلوني استي أبدا» وهذا كما لا يخفى ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدم من قوله لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك وصلّ على يساره لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وعليا على يمينه، لكن يروى أن عليا رضي الله تعالى عنه ضحك يوما وهو على المنبر فسئل عن ذلك؟ فقال: تذكرت أبا طالب حين فرضت الصلاة ورآني أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، فقال: ما هذا الفعل الذي أرى؟ فلما أخبرناه قال: هذا حسن ولكن لا أفعله أبدا، إني لا أحب أن تعلوني استي، فلما تذكرت الآن قوله ضحكت. وقوله حين فرضت الصلاة يعني الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي، وهذا يؤيد القول بأن ذلك كان واجبا. وذكر أن أبا طالب قال لعلي: أي بني، ما هذا الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله ورسوله، وصدقت ما جاء به، ودخلت معه واتبعته، فقال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه. أي ويذكر عنه أنه كان يقول: إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أني

أخاف أن تعيرني نساء قريش لا تبعته. وعن عفيف الكندي رضي الله تعالى عنه قال: كنت امرأ تاجرا قدمت للحج، وأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان العباس لي صديقا، وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم، فبينما أنا عند العباس بمنى: أي وفي لفظ بمكة في المسجد إذا رجل مجتمع: أي بلغ أشده خرج من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت توضأ فأسبغ الوضوء: أي أكمله ثم قام يصلي: أي إلى الكعبة كما في بعض الروايات، ثم خرج غلام مراهق: أي قارب البلوغ فتوضأ ثم قام إلى جنبه يصلي، ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما، ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة، ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة، فقلت: ويحك يا عباس ما هذا الدين؟ فقال: هذا دين محمد بن عبد الله أخي، يزعم أن الله بعثه رسولا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه امرأته خديجة، قال عفيف بعد أن أسلم: يا ليتني كنت رابعا» أي ولعل زيد بن حارثة لم يكن موجودا عندهم في ذلك الوقت، فلا ينافي أنه كان يصلي معهم أو أن ذلك كان قبل إسلامه، لأنه سيأتي قريبا أن إسلامه كان قبل إسلام علي، وكذا أبو بكر لم يكن موجودا عندهم، بناء على أن إسلامه كان قبل إسلام علي، ويؤيده ما قيل: أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، لكن في الاستيعاب لابن عبد البر أن العباس قال لعفيف الكندي لما قال له ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام. وفيه أن عليا قال: لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين، أي ولعل المراد أنه عبده بغير الصلاة. وقوله في هذا الحديث: فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت توضأ وصلى قد يخالف ما تقدم من أن فرض الصلاة كان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي قبل غروب الشمس فقط. أقول: قد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون صلاته في الوقت ليست مما فرض عليه، والجماعة في ذلك جائزة، وقد فعلها صلى الله عليه وسلم في النقل المطلق، وهذا يدل على أن الجماعة كانت مشروعة بمكة حتى في صدر الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس. وفي كلام بعض فقهائنا أنها لم تشرع إلا في المدينة دون مكة لقهر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إلا أن يقال المراد بمشروعيتها طلبها، فكانت في المدينة مطلوبة استحبابا أو وجوبا، كفاية أو عينا على الخلاف عندنا في ذلك، وفي مكة كانت مباحة، لكن في كلام بعض آخر من فقهائنا أن الجماعة لم تفعل بمكة لقهر

الصحابة. وفيه أن القهر إنما ينافي إظهار الجماعة لا فعلها، إلا أن يقال تركت حسما للباب. وفيه أنه يبعد تركها وهم مستخفون في دار الأرقم فليتأمل، والله أعلم. ثم بعد إسلام علي رضي الله تعالى عنه أسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم زيد بن حارثة بن شرحبيل. وقال ابن هشام: شرحبيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له خديجة، أي لما تزوجها صلى الله عليه وسلم، أي وكان اشتراه لها ابن أخيها حكيم بن حزام ممن سباه من الجاهلية، أي فإن عمته خديجة أمرته أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا، فلما قدم سوق عكاظ وجد زيدا يباع، أي وعمره ثمان سنين، فإنه أسر من عند أخواله طي، وعليه اقتصر السهيلي. فإن أمه لما خرجت به لتزيره أهلها فأصابته خيل فباعوه فاشتراه، أي وقيل اشتراه من سوق حباشة بأربعمائة درهم، ويقال بستمائة درهم، فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته أي ولعل هذا مراد من قال فباعه من عمته خديجة أي اشتراه لها، فلما تزوّجها صلى الله عليه وسلم وهو عندها أعجب به فاستوهبه منها فوهبته له، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه قبل الوحي. أي وقيل اشتراه صلى الله عليه وسلم لها فإنها جاء إلى خديجة، فقال: «رأيت غلاما بالبطحاء قد أوقفوه ليبيعوه، ولو كان لي ثمنه لاشتريته، قالت وكم ثمنه؟ قال سبعمائة درهم، قالت: خذ سبعمائة درهم فاذهب فاشتره، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء به إليها، وقال: إنه لو كان لي لأعتقته، قالت: هو لك فأعتقه» وقيل بل اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام لخديجة حيث توجه مع ميسرة فوهبته له فليتأمل ذلك. وزعم أبو عبيدة أن زيد بن حارثة لم يكن اسمه زيدا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه بذلك باسم جدّه قصيّ حين تبناه. ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه فقام إليه وقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال لا، قال: فحر أنت أم مملوك؟ قال: مملوك، قال: عربيّ أنت أم أعجمي؟ قال: بل عربيّ، قال: ممن أهلك؟ قال من كلب، قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ود، قال: ويحك ابن من أنت؟ قال ابن حارثة بن شرحبيل، قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي قال: ومن أخوالك؟ قال: طيّ، قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى، فالتزمه وقال ابن حارثة ودعا أباه، فقال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت، فركب معه أبوه وعمه وأخوه. وفي رواية أنا ناسا من قومه حجوا فرأوا زيدا فعرفوه وعرفهم فانطلقوا وأعلموا

أباه ووصفوا له مكانه، فجاء أبوه وعمه. وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن يكون اجتماعه بعمه وأبيه كان بعد إخبار أولئك الناس، فلما جاء أهلك في طلبه ليفدوه خيره النبي صلى الله عليه وسلم بين المكث عنده والرجوع إلى أهله، فاختار المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد ذكر أنهم لما جاؤوا للنبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا ابن عبد المطلب يا ابن سيد قومه: أي وفي لفظ، لما قدم أبوه وعمه في فدائه سألا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا ابن عبد المطلب يا ابن هشام يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون الأسير العاني، وتطعمون الجائع جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك، فقال: وما ذاك؟ قال: زيد بن حارثة، فقال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال ادعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء، وإن اختارني فو الله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء، فقالوا، زدت على النصف. وفي لفظ زدتنا على النصف وأحسنت، فدعاه فقال: تعرف هؤلاء؟ قال: نعم أبي وعمي، ولعل سكوته عن أخيه لاستصغاره بالنسبة لأبيه وعمه، على أن أكثر الروايات الاقتصار على مجيء أبيه وعمه. وفي كلام السهيلي «أن زيدا لما جاء قال صلى الله عليه وسلم له من هذان؟ فقال: هذا أبي حارثة بن شرحبيل، وهذا كعب بن شرحبيل عمي. فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم له: أنا من علمت، وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني مكان الأب والعم، فقالا، ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال نعم، ما أنا بالذي أختار عليه أحدا، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما رأى أخرجه إلى الحجر: أي الذي هو محل جلوس قريش، فقال إن زيدا ابني أرثه ويرثني فطابت أنفسهما وانصرفا» . وفي كلام ابن عبد البر أنه حين تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سنه ثمان سنين، وأنه حين تبناه طاف به على حلق قريش يقول: هذا ابني وارثا وموروثا، ويشهدهم على ذلك، وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول، دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف: أي من حالفه، فنسخ ذلك، وهذا الذي ذكره ابن عبد البر من أنه صلى الله عليه وسلم حين تبناه كان عمره ثمان سنين يدل على أن ذلك كان عقب ملكه صلى الله عليه وسلم له قبل الوحي، وأن ذلك كان قبل مجيء أبيه وعمه، وحينئذ يكون عتقه وتبنيه بعد مجيء أبيه وعمه إظهارا لما تقدم فليتأمل. وفي أسد الغابة أن حارثة أسلم. وفي كلام بعضهم: لم يثبت إسلام حارثة إلا المنذري.

ولما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كان يقال له زيد بن محمد، ولم يذكر في القرآن من الصحابة أحد باسمه إلا هو كما سيأتي. قال ابن الجوزي: إلا ما يروى في بعض التفاسير أن السجلّ الذي في قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: الآية 104] اسم رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم. أي وقد أبدى السهيلي حكمة لذكر زيد باسمه في القرآن، وهي أنه لما نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: الآية 5] وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد، ونزع منه هذا التشريف شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة، فصار اسمه يتلى في المحاريب. ولا يخفى أنه يأتي في زيد ما تقدم في علي، ولم تذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم ولزيد أخ اسمه جبلة أسنّ منه. سئل جبلة: من أكبر أنت أم زيد؟ فقال زيد: أكبر مني وأنا ولدت قبله: أي لأن زيدا أفضل منه لسبقه للإسلام. ثم أسلم من الصحابة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. قال بعضهم في سبب إسلامه، إنه كان صديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر غشيانه في منزله ومحادثته، وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه كما تقدم، فكان متوقعا لذلك، فهو مع حكيم بن حزام في بعض الأيام إذ جاءت مولاة لحكيم وقالت له: إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبيّ مرسل مثل موسى، فانسل أبو بكر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن خبره، فقص عليه قصته المتضمنة لمجيء الوحي له بالرسالة، فقال صدقت، بأبي أنت وأمي وأهل الصدق أنت، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فيقال إنه سماه يومئذ الصديق، وهذا السياق ربما يدل على أن إسلام أبي بكر تأخر إلى نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثر: الآية 1] بعد فترة الوحي، بناء على ما تقدم، وكونه سماه يومئذ الصديق لا ينافي ما سيأتي أنه سمي بذلك صبيحة الإسراء لما صدقه وقد كذبته قريش، لجواز أنه لم يشتهر بذلك إلا حينئذ. وقد جاء في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزّمر: الآية 33] أن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر. قال: ولما سمعت خديجة مقالة أبي بكر، خرجت وعليها خمار أحمر فقالت: الحمد لله الذي هداك يا ابن أبي قحافة، واسمه عبد الله: أي سماه بذلك رسول صلى الله عليه وسلم وكان اسمه قبل ذلك عبد الكعبة، فأبو بكر رضي الله تعالى عنه أول من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، ولقبه عتيق لحسن وجهه، أو لأنه عتق من الذمّ والعيب أي أو نظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال هذا عتيق من النار، فهو أول لقب وجد في الإسلام. وقيل سمته بذلك أمه لأنه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة

ثم قالت اللهم هذا عتيقك من الموت فهبه لي فعاش. قيل ويدل له ما ذكر بعضهم أن أمه كانت إذا هزته تقول: عتيق وما عتيق، ذو المنظر الأنيق. وفي كلام ابن حجر الهيتمي: وصح أن الملقب له به النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه في بيت عائشة، وأنه غلب عليه من يومئذ. قال: وبه يندفع أن الملقب له أبوه وزعم أنه أمه هذا كلامه، وليتأمل قوله في بيت عائشة مع ما تقدم وما في كلام السهيلي. قيل وسمي عتيقا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم أنت عتيق من النار. وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صدرا معظما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق من رؤساء قريش ومحط مشورتهم، وكان من أعف الناس. كان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال، محببا في قومه، حسن المجالسة، وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا، ومن ثم قال ابن سيرين وهو المقدم في هذا العلم اتفاقا كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الناس بأنساب العرب. فقد جاء عن جبير بن مطعم البالغ النهاية في ذلك أنه قال: إنما أخذت النسب من أبي بكر لا سيما أنساب قريش، فإنه كان أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر، وكان لا يعدّ مساويهم، فمن ثم كان محببا فيهم، بخلاف عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فإنه كان بعد أبي بكر، أعلم قريش بأنسابها وبآبائها وما فيها من خير وشر لكن كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم، وكان عقيل يجلس إليه في المسجد النبوي لأخذ علم الأنساب وأيام العرب ووقائعهم. وفي كلام بعضهم: كان أبو بكر عند أهل مكة من خيارهم، يستعينون به فيما يأتيهم وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد. قال الزمخشري: ولعله كني بأبي بكر، لابتكاره الخصال الحميدة، وكان نقش خاتمه «نعم القادر الله» وكان نقش خاتم عمر رضي الله تعالى عنه «كفى بالموت واعظا يا عمر» وكان نقش خاتم عثمان «آمنت بالله مخلصا» وكان نقش خاتم عليّ «الملك لله» وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح «الحمد لله» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة. أي وقفة وتأخر وتردد- إلا ما كان من أبي بكر» . وفي رواية «ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبي عليّ وراجعني في الكلام، إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه» أي ومن ثم كان أسدّ الصحابة رأيا، وأكملهم عقلا، لخبر تمام «أتاني جبريل فقال لي إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر» ونزل فيه وفي عمر وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: الآية 159] كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه بمكان الوزير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يشاوره في أموره كلها.

وقد جاء «إن الله تعالى أيدني بأربعة وزراء: اثنين من أهل السماء جبريل ومكائيل، واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر» وفي حديث رواته ثقات «إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر» وفي رواية «إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض» . وجاء الحسن بن علي وهو صغير إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر، فقال له: انزل عن مجلس أبي، فقال: مجلس أبيك والله لا مجلس أبي، فأجلسه في حجره وبكى، فقال علي: والله ما هذا عن رأيي، فقال: والله ما اتهمتك. ووقع نظير ذلك لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع سيدنا الحسين، فإنه قال له وهو يخطب: انزل عن منبر أبي، فقال له: منبر أبيك لا منبر أبي، من أمرك بهذا؟ فقام عليّ فقال له: ما أمره بهذا أحد، ثم قال للحسين: لأوجعنك يا غدر، فقال: لا توجع ابن أخي، صدق منبر أبيه. قال: وسبب مبادرته إلى التصديق ما علمه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وبراهين صدق دعوته قبل دعوته، ولرؤيا رآها قبل ذلك. رأى القمر نزل إلى مكة فدخل في كل بيت منه شعبة ثم كان جميعه في حجره، فقصها على بعض أهل الكتاب، فعبرها له بأنه يتبع النبي المنتظر الذي قد ظل زمانه، وأنه يكون أسعد الناس به، ولعل هذا الذي من أهل الكتاب هو بحيرا. فقد رأيت أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه رأى رؤيا فقصها على بحيرا، فقال له: إن صدقت رؤياك فإنه سيبعث نبي من قومك تكون أنت وزيره في حياته، وخليفته بعد مماته. أي وأخرج أبو نعيم عن بعض الصحابة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة: أي علم أنه النبي المنتظر، لما مر عن بحيرا الراهب، ولما سمعه من شيخ عالم من الأزد قد قرأ الكتب نزل به في اليمن، فقال له أحسبك حرميا، فقال أبو بكر نعم، فقال له أحسبك قرشيا، قال نعم، فقال له أحسبك تيميا، قال نعم قال له: بقيت لي فيك واحدة، قال وما هي؟ قال له: تكشف لي عن بطنك، فقال له لا أفعل أو تخبرني لم ذلك؟ فقال: أجد في العلم النجيح الصادق أن نبيا يبعث في الحرم يعاون على أمره فتى وكهل. فأما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة: أي مع كونه حرميا قرشيا تيميا، بدليل قوله أحسبك حرميا أحسبك قرشيا أحسبك تيميا، وما عليك أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت فيك الصفة: أي كونه حرميا قرشيا تيميا أبيض نحيفا إلا ما خفي عليّ، فقال أبو بكر فكشفت له عن بطني فرأى شامة بيضاء أو سوداء فوق سرتي، أي ورأى العلامة على الفخذ الأيسر، فقال أنت هو ورب الكعبة، قال أبو بكر: فلما قضيت أربي من اليمن أتيته لأودعه، فقال: أحافظ عني

أبياتا من الشعر قلتها في ذلك النبي؟ قلت نعم، فذكر له أبياتا، قال أبو بكر: فقدمت مكة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش كعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأبي جهل وأبي البختري، فقالوا يا أبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا انتظارك ما انتظرنا به، فإذا قد جئت فأنت الغاية والكفاية: أي لأن أبا بكر كما تقدم كان صديقا له صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر: فصرفتهم على أحسن شيء ثم جئته صلى الله عليه وسلم فقرعت عليه الباب فخرج إليّ وقال لي: يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله، فقلت: وما دليلك على ذلك؟ قال: الشيخ الذي أفادك الأبيات، فقلت: ومن أخبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلي، قلت مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي. وفي لفظ أشد سرورا مني بإسلامي، ولا مانع من صدور الأمرين منه رضي الله تعالى عنه. ويحتاج للجمع بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان مع حكيم بن حزام يوما إلى آخره على تقدير صحة الروايتين، وما جاء من شعر حسان رضي الله تعالى عنه من أن أبا بكر أول الناس إسلاما حيث يقول فيه: وأول الناس منهم صدق الرسلا وأنه صلى الله عليه وسلم سمع ذلك منه ولم ينكره، بل قال: صدقت يا حسان كما سيأتي عند الكلام على الهجرة. وقول بعض الحفاظ إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أوّل الناس إسلاما بعد خديجة، ثم مولاه زيد بن حارثة، لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أسلم أبو بكر. أي وعبارة ابن الصلاح والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار. أي غير الموالي أبو بكر، ومن الصبيان عليّ ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، وهذا ما قبله يدل على أن إسلام زيد بن حارثة كان بعد البلوغ، وإلا فلا حاجة لزيادة «ليس من الموالي» تأمل. أو أن مراد من قال إن أبا بكر سبق عليا في الإسلام: أي في إظهار الإسلام، لأنه حين أسلم أظهر إسلامه بخلاف عليّ، فقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن أبا بكر رضي الله عنه سبقني إلى أربع وعدّ منها إظهار الإسلام وقال وأنا أخفيته، ولعله لا ينافي ذلك ما جاء بسند حسن أن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب، لأن ذلك كان عند اختفائه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في دار الأرقم كما سيأتي، فالأولية في إظهار الإسلام إضافية.

قال ابن كثير: وورد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: أنا أول من أسلم، ولا يصح إسناد ذلك إليه. قال وقد روي في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة كلها لا يصح شيء منها هذا كلامه. وعلى تقدير صحتها مراده أول من أسلم من الصبيان؟ فالأولية إضافية. ومما يؤثر عن علي رضي الله تعالى عنه: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم. البشاشة فخ المودة، والصبر قبر العيوب، والغالب بالظلم مغلوب، العجب ممن يدعو ويستبطئ الإجابة وقد سد طرقها بالمعاصي. وأول من أسلم من النساء بعد خديجة رضي الله تعالى عنها أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبي بكر، وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب. وينبغي أن تكون أم أيمن سابقة في الإسلام على أم الفضل على ما تقدم. وقول السراج البلقيني موافقة للزين العراقي: إن أول رجل أسلم ورقة بن نوفل، لقوله للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أشهد أنك الذي بشر بك عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل قد علمت ما فيه، وأنه إنما كان من أهل الفترة كما صرح به الحافظ الذهبي، وهو يردّ القول المتقدم بأن وفاة ورقة تأخرت عن البعثة، فورقة ونحوه كبحيرا ونسطورا من أهل الفترة لا من أهل الإسلام. ويؤيده ما تقدم أنه بإجماع المسلمين لم يتقدم خديجة في الإسلام لا رجل ولا امرأة، لكن هؤلاء من القسم الذي تمسك بدين قبل نسخه وآمن وصدق بأنه صلى الله عليه وسلم الرسول المنتظر، وذلك نافع له في الآخرة. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لما توفي ورقة: «لقد رأيت القس- يعني ورقة- في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني» إلى آخر ما تقدم. وعلى تسليم أنه لا يشترط في المسلم: أن يؤمن ويصدق برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها، بل يكفي ولو قبل ذلك، فليس ورقة بصحابي لأن الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة مؤمنا بما جاء به عن الله تعالى: أي محكوما بإيمانه. ومن ثم رد الحافظ الذهبي على ابن منده أي ومن وافقه كالزين العراقي في عده له من الصحابة: أي كما عد منهم بحيرا ونسطورا بقوله: الأظهر أن من مات بعد النبوة وقبل الرسالة فهو من أهل الفترة هذا كلام الحافظ الذهبي. والمراد بالرسالة نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثر: الآية 1] لا إظهارها، ونزول قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: الآية 94] بناء على تأخر الرسالة عن النبوة. وحين أسلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه دعا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من وثق به من قومه. فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس.

أي ولما أسلم عثمان رضي الله تعالى عنه أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان فأوثقه كتافا وقال: ترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد؟ والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه، وقيل عذبه بالدخان ليرجع فما رجع. وفي كلام ابن الجوزي أن المعذب بالدخان ليرجع عن الإسلام الزبير بن العوام هذا كلامه، ولا مانع من تعدد ذلك. وجاء «لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيقي فيها عثمان بن عفان» . وأسلم بدعاء أبي بكر أيضا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه وكان عمره ثمان سنين على ما تقدم. وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: أي وكان اسمه في الجاهلية عبد عمر، وقيل عبد الكعبة، وقيل عبد الحارث، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن قال: وكان أمية بن خلف لي صديقا، فقال لي يوما: أرغبت عن اسم سماك به أبواك؟ فقلت نعم، فقال لي: إني لا أعرف الرحمن ولكن أسميك بعبد الإله، فكان يناديني بذلك. قال: وسبب إسلام عبد الرحمن بن عوف ما حدث به قال: سافرت إلى اليمن غير مرة وكنت إذا قدمت نزلت على عسكلان بن عواكف الحميري، فكان يسألني هل ظهر فيكم رجل له نبأ له ذكر؟ هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم؟ فأقول لا حتى كانت السنة التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت اليمن فنزلت عليه إلى آخر القصة. وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الرحمن ابن عوف: «أنت أمين في أهل الأرض أمي في أهل السماء» وجاء «أنه وصفه بالصادق الصالح البار» . وأسلم بدعاية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أيضا سعد بن أبي وقاص: أي فإن أبا بكر لما دعاه إلى الإسلام لم يبعد، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره فأخبر به فأسلم وكان عمره تسع عشرة سنة، وهو رضي الله تعالى عنه من بني زهرة، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه: «سعد خالي فليرني امرؤ خاله» . وفي كلام السهيلي أنه عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم، وكرهت أمه إسلامه وكان بارا بها، فقالت له: ألست تزعم أن الله يأمرك بصلة الرحمن وبر الوالدين؟ قال: فقلت نعم، فقالت: والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد: أي وتمس إسافا ونائلة، فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب، فأنزل الله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [العنكبوت: الآية 8] الآية، وفي رواية أنها مكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت وقد خمدت ثم مكثت يوما وليلة لا تأكل ولا تشرب. قال سعد: فلما

رأيت ذلك قلت لها: تعلمين والله يا أمه لو كان لك مائة نفس تخرج نفسا نفسا ما تركت دين هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فكلي إن شئت أو لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت. وفي الأنساب للبلاذري عن سعد قال: أخبرت أمي أني كنت أصلي العصر: أي الركعتين اللتين كانوا يصلونهما بالعشي فجئت فوجدتها على بابها تصيح: ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي أو عشيرته فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث؟ فرجعت من حيث جئت، وقلت: لا أعود إليك ولا أقرب منزلك فهجرتها حينا، ثم أرسلت إليّ أن عد إلى منزلك ولا تتضيفن فيلزمنا عار فرجعت إلى منزلي، فمرة تلقاني بالبشر ومرة تلقاني بالشر وتعيرني بأخي عامر وتقول: هو البر لا يفارق دينه، ولا يكون تابعا، فلما أسلم عامر لقي منها ما لم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة، ولقد جئت والناس مجتمعون على أمي وعلى أخي عامر فقلت: ما شأن الناس؟ فقالوا: هذه أمك قد أخذت أخاك عامرا، وهي تعطي الله عهدا لا يظلها نخل ولا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى يدع صبأته، فقلت لها: والله يا أمه لا تستظلين ولا تأكلين ولا تشربين حتى تتبوئي مقعدك من النار. وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة طبيب العرب ليستوصفه في مرض نزل بسعد وكان ذلك في حجة الوداع، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبد الرحمن بن عوف لمرض نزل به فوجد عنده الحارث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضرّ بك قوم وينتفع بك آخرون، ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدا مما به وكان سعد بالمجلس، فقال: والله إني لأرجو شفاءه فيما ينفعه من رجله، هل معك من هذه الثمرة العجوة شيء؟ قال نعم، فخلط ذلك الثمر بحلبة ثم أوسعها سمنا ثم أحساه إياها فكأنما نشط من عقال» وهذا استدل به على إسلام الحارث بن كلدة، لأن حجة الوداع لم يحج فيها مشرك، فهو معدود من الصحابة. وأنكر بعضهم إسلامه وجعله دليلا على جواز استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله. وممن أسلم بدعاية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا طلحة بن عبد الله التيمي فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجاب له فأسلم. أي ولما تظاهر أبو بكر وطلحة بالإسلام أخذهما نوفل بن العدوية، وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم، ولذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اكفنا شر ابن العدوية» . أقول: سبب إسلام طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه ما تقدم أنه قال: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم هل ثم

من أهل الحرم أحد؟ فقلت: نعم أنا، قال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى أرض ذات نخل وسباخ، فإياك أن تسبق إليه، قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين يدعو إلى الله، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فخرجت حتى دخلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأخبرته بما قال الراهب، فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فسر بذلك وأسلم طلحة. وطلحة هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد شاركه رجل آخر في اسمه واسم أبيه ونسبه، وهو طلحة بن عبيد الله التيمي، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ [الأحزاب: الآية 53] الآية، لأنه قال لئن مات محمد رسول الله لأتزوجن عائشة. وفي لفظ يتزوّج محمد بنات عمنا ويحجبهنّ عنا، لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده، فنزلت الآية. قال الحافظ السيوطي: وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر، لأن طلحة أحد العشرة أجلّ مقاما من أن يصدر عنه ذلك، حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبه هذا كلامه. والحاصل أن أبا بكر أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم: عثمان وطلحة بن عبيد الله، ويقال له طلحة الفياض، وطلحة الجود، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وزاد بعضهم سادسا، وهو أبو عبيدة ابن الجراح وكان كل من أبي بكر وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بزازا، وكان الزبير جزارا، وكان سعد بن أبي وقاص يصنع النبل، والله أعلم، ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء. وذكر في الأصل جماعة من السابقين للإسلام منهم عبد الله بن مسعود وأن سبب إسلامه ما حدث به، قال: «كنت في غنم لآل عقبة بن أبي معيط، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر بن أبي قحافة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك لبن؟ فقلت نعم ولكني مؤتمن، قال: هل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل؟ قلت نعم فأتيته بشاة شصوص لا ضرع لها فمسح النبي صلى الله عليه وسلم مكان الضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنا» كذا في الأصل. وفي الصحاح كما في النهاية الشصوص التي ذهب لبنها، وحينئذ يكون قول الأصل لا ضرع لها، أي لا لبن لها، ويدل لذلك قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين «فمسح ضرعها» وقول ابن مسعود فمسح مكان الضرع، أي محل اللبن «فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصخرة منقورة فاحتلب النبي صلى الله عليه وسلم فسقى أبا بكر وسقاني، ثم

شرب، ثم قال للضرع: اقلص فرجع كما كان» أي لا وجود له على ظاهر ما في الأصل، أو لا لبن فيه على ما في النهاية كالصحاح، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله: ورب عناق ما نزا الفحل فوقها ... مسحت عليها باليمين فدرّت قال ابن مسعود: فلما رأيت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله علمني، فمسح رأسي وقال: «بارك الله فيك فإنك غلام معلم» . أقول: فإن قيل قول ابن مسعود ولكني مؤتمن، وعدوله صلى الله عليه وسلم عن ذات اللبن إلى غيرها يخالف ما سيأتي في حديث المعراج والهجرة أن العادة كانت جارية بإباحة مثل ذلك اللبن لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك، فكان كل راع مأذونا له في ذلك وإذا كان ذلك أمرا متعارفا مشهورا يبعد خفاؤه. قلنا: قد يقال لا مخالفة لأن ابن السبيل المسافر، وجاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يكونا مسافرين، لجواز أن تكون تلك الغنم التي كان فيها ابن مسعود ببعض نواحي مكة القريبة منها، التي لا يعدّ قاصدها مسافرا، ولعله لا ينافي ذلك ما سيأتي أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلى الله عليه وسلم إليهما، وأنه يجب على مالكهما بذل ذلك له. وكان عبد الله بن مسعود يعرف بأمه وهي أم عبد، وكان قصيرا جدا طوله نحو ذراع خفيف اللحم، ولما ضحكت الصحابة رضي الله تعالى عنهم من دقة رجليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لرجل عبد الله في الميزان أثقل من أحد» وقال صلى الله عليه وسلم في حقه: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد» . وقوله: «لرجل عبد الله في الميزان» يدل للقول بأن الموزون الإنسان نفسه لا عمله، وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويدنيه ولا يحجبه، فلذلك كان كثير الولوج عليه صلى الله عليه وسلم، وكان يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم ومعه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلبسه نعليه إذا قام، فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه، ولذلك كان مشهورا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولم أقف على أنه أسلم حين أجفلت الشاة، لكن قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين: أسلم قديما بمكة لما مرّ به صلى الله عليه وسلم وهو يرعى غنما إلى آخره، يدل على أنه أسلم حينئذ. ومما يؤثر عنه: الدنيا كلها هموم، فما كان فيها من سرور فهو ربح، والله أعلم. وذكر في الأصل أن من السابقين أبا ذر الغفاري، واسمه جندب بن جنادة بضم الجيم فيهما قال: وسبب إسلامه ما حدث به قال: صليت قبل أن ألقى النبي صلى الله عليه وسلم

ثلاث سنين لله أتوجه حيث يوجهني ربي، فبلغنا أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي أنيس انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وأتني بخبره، فلما جاء أنيس قلت له: ما عندك فقال: والله رأيت رجلا يأمر بخير وينهي عن الشر، وفي رواية: رأيتك على دينه يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق، قلت فما يقول الناس فيه؟ قال: يقولون شاعر كاهن ساحر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون، فقلت اكفني حتى أذهب فأنظر، قال نعم وكن على حذر من أهل مكة، فحملت جرابا وعصا ثم أقبلت حتى أتيت مكة، فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه، فمكثت في المسجد ثلاثين ليلة ويوما، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على بطني سحنة جوع. والسحنة: بالتحريك، قيل حرارة يجدها الإنسان من الجوع، ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه جاآ فطافا بالبيت، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته أتيته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فرأيت الاستبشار في وجهه ثم قال من الرجل؟ قلت من غفار بكسر المعجمة قال: متى كنت؟ قال: كنت من ثلاثين ليلة ويوما ههنا، قال: فمن كان يطعمك قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على بطني سحنة جوع قال: «مبارك، إنها طعام طعم وشفاء سقم» أي وجاء «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته لتشفى شفاك الله، وإن شربته لتشبع أشبعك الله، وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله، وهي همزة جبريل، وسقيا الله إسمعيل» وجاء «التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق» وجاء «آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم» . وذكر أن أبا ذر أول من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك التي هي تحية الإسلام، فهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق ولو كان مرا، ومن ثم قال رسول صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء» أي السماء «ولا أقلت الغبراء» أي الأرض «أصدق من أبي ذر» وقال صلى الله عليه وسلم في حقه: «أبو ذر يمشي في الأرض على زهد عيسى ابن مريم» وفي الحديث «أبو ذر أزهد أمتي وأصدقها» وقد هاجر أبو ذر إلى الشام بعد وفاة أبي بكر، واستمر بها إلى أن ولي عثمان، فاستقدمه من الشام لشكوى معاوية منه وأسكنه الربذة، فكان بها حتى مات، فإن أبا ذر صار يغلظ القول لمعاوية ويكلمه بالكلام الخشن. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن لقيا أبي ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بدلالة عليّ رضي الله تعالى عنه، وأنه قال له: ما أقدمك هذه البلدة، فقال له أبو ذر: إن كتمت عليّ أخبرتك» وفي رواية «إن أعطيتني عهدا وميثاقا أن ترشدني

أخبرتك، ففعل قال أبو ذر: فأخبرته فأرشدني وأوصلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت» . وفي الإمتاع «أن عليا استضاف أبا ذر ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء وهو لا يخبره، ثم في الثالث قال له: ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة؟ قال له: إن كتمت علي أخبرتك قال: فإني أفعل، قال له: بلغنا أنه خرج هنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه فقال له: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي أي خروجي إليه فاتبعني، أدخل حيث أدخل فإن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي «وفي لفظ» كأني أريق الماء فامض أنت، قال أبو ذر: «فمضى ومضيت حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: «أعرض علي الإسلام فعرضه علي فأسلمت مكاني» الحديث. وما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له: «من كان يطعمك» وجواب أبي ذر له صلى الله عليه وسلم بقوله: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم يبعد أن يكون عليّ رضي الله تعالى عنه أضاف أبا ذر ولم يأكل عنده، وكذا يبعده ما جاء أن أبا بكر قال: يا رسول الله ائذن لي في إطعامه الليلة، قال أبو ذر: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا، فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته، إلا أن يحمل الطعام على خصوص الزبيب. ويمكن التوفيق بين الروايتين: أي رواية دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم مع علي فأسلم، ورواية اجتماعه به في الطواف فأسلم، بأن يكون أبو ذر دخل عليه أولا مع عليّ ثم لقيه في الطواف، ويكون المراد حينئذ بإسلامه الثاني الثبات عليه بتكرير الشهادتين، وعذره في عدم اجتماعه به في المسجد مدة ثلاثين يوما عدم خلو المطاف، كما يرشد لذلك قوله: ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد إلى آخره، وإلا فيبعد أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يدخل المسجد للطواف مدة ثلاثين يوما. ويعد هذا الجمع قوله صلى الله عليه وسلم له: «من الرجل إلى آخره» ثم قال صلى الله عليه وسلم: لأبي ذر «يا أبا ذر اكتم هذا الأمر، وارجع إلى قومك فأخبرهم يأتوني، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل، فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخنّ بهذا بين ظهرانيهم، قال: وكنت في أول الإسلام خامسا» وفي رواية «رابعا» ولعل المراد من الإعراب فلا ينافي ما يأتي في وصف خالد بن سعيد «فلما اجتمعت قريش بالمسجد ناديت بأعلى صوتي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا قوموا إلى هذا الصابىء فضربت لأموت» وفي لفظ «فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي فأكب عليّ العباس، ثم قال لهم: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم عليهم، فخلوا عني، قال: فجئت زمزم فغسلت عني الدماء، فلما أصبحت

الغداة رجعت لمثل ذلك، فصنع بي مثل ما صنع، وأدركني العباس، وكان منه كالأمس، فخرجت وأتيت أنيسا فقال ما صنعت؟ فقلت: قد أسلمت وصدقت، فقال: ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا، فقالت: ما لي رغبة عن دينكما، فإني أسلمت وصدقت ثم أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا، فلما جاء المدينة أسلم نصفهم الثاني» أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «إني وجهت إلى الأرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم، وجاءت أسلم: القبيلة المعروفة فقالوا يا رسول الله نسلم على الذي أسلم عليه إخواننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله» . أي وقد ذكر أن أبا ذر وقف يوما عند الكعبة: أي في حجة حجها أو عمرة اعتمرها فاكتنفه الناس فقال لهم: لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يعد زادا؟ فقالوا بلى، فقال سفر القيامة أبعد مما تريدون، فخذوا ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوما شديدا حره ليوم النشور، وصلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور. وممن أسلم خالد بن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه. قيل كان حين أسلم رابعا وقيل ثالثا وقيل خامسا. وهو أول من أسلم من إخوته. ويمكن أن يكون ذلك محمل قول ابنته أم خالد: أول من أسلم أبي: أي من إخوته. وسبب إسلامه أنه رأى في النوم النار ورأى من فظاعتها وأهوالها أمرا مهولا، ورأى أنه على شفيرها، وأن أباه يريد أن يلقيه فيها، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحجزته يمنعه من الوقوع فيها، فقام من نومه فزعا وقال: أحلف بالله أن هذه الرؤيا حق وعلم أن نجاته من النار تكون على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى أبا بكر فذكر له ذلك، فقال له: أريد بك خير، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فأتاه فقال يا محمد إلا م تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده، لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، فأسلم خالد. وفي الوفاء عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت: كان خالد بن سعيد ذات ليلة نائما، قبيل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه، فبينما هو كذلك إذ خرج نور أي من زمزم، ثم علا في السماء فأضاء في البيت، ثم أصاب مكة كلها، ثم تحول إلى يثرب فأصابها حتى أني لأنظر إلى البسر في النخل، فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي، فقال: يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبد المطلب ألا ترى أنه خرج من حفر أبيهم ثم إنه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد مبعثه، فقال: يا خالد أنا والله

ذلك النور، وأنا رسول الله، وقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد، وعلم أبوه بذلك، أبوه وهو سعيد أبو أجيحة وكان من عظماء قريش، كان إذا اعتمّ لم يعتم قرشي إعظاما له، ومن ثم قال فيه القائل: أبا أجيحة من يغتم عمته ... يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد وعند إسلام ولده خالد أرسل في طلبه فانتهره وضربه: أي بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه لقومه، وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم، فقال: والله تبعته على ما جاء به، فغضب أبوه وقال: اذهب يا لكع حيث شئت، وقال: والله لأمنعنك القوت، قال إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، فأخرجه وقال لبنيه ولم يكونوا أسلموا: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به، فانصرف خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يلزمه ويعيش معه، ويغيب عن أبيه في نواحي مكة، حتى خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فكان خالد أول من هاجر إليها. وذكر عن والده سعيد أنه مرض فقال إن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدا، فقال خالد عند ذلك: اللهم لا ترفعه، فتوفي في مرضه ذلك. وخالد هذا أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم، وأسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه. قيل وسبب إسلامه أنه رأى نورا خرج من زمزم أضاءت له منه نخل المدينة حتى رأى البسر فيها، فقص رؤياه، فقيل له هذه بئر بني عبد المطلب، وهذا النور منهم يكون فكان سببا لإسلامه، وتقدم قريبا أن هذه الرؤيا وقعت لخالد، فكانت سبب إسلامه، وأنه قصها على أخيه عمرو المذكور، فهو من خلط بعض الرواة، إلا أن يقال لا مانع من تعدد هذه الرؤية لخالد ولأخيه عمرو، وأنها كانت سببا لإسلامهما، وأسلم من بني سعيد أيضا أبان والحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. أي ومن السابقين للإسلام صهيب، كان أبوه عاملا لكسرى، أغارت الروم عليهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير، فنشأ في الروم حتى كبر، ثم ابتاعه جماعة من العرب وجاؤوا به إلى سوق عكاظ، فابتاعه منهم بعض أهل مكة، أي وهو عبد الله ابن جدعان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ صهيب على دار رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عمار ابن ياسر، فقال له عمار بن ياسر: أين تريد يا صهيب؟ قال: أريد أن أدخل إلى محمد فاسمع كلامه وما يدعو إليه، قال عمار: وأنا أريد ذلك، فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهما بالجلوس فجلسا، وعرض عليهما السلام، وتلا عليهما ما حفظ من القرآن، فتشهدا ثم مكثا عنده يومهما ذلك حتى أمسيا خرجا مستخفيين،

باب: استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه، وما لقي هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى

فدخل عمار على أمه وأبيه فسألاه أين كان؟ فأخبرهما بإسلامه وعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك، فأعجبهما فأسلما على يده فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه الطيب المطيب. وأسلم أيضا حصين والد عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما بعد إسلام والده عمران. وسبب إسلامه أن قريشا جاءت إليه وكانت تعظمه وتجله، فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا ويسبها، فجاؤوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل حصين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوسعوا للشيخ، وعمران ولده في الصحابة، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرها؟ فقال: يا حصين كم تعبد من إله؟ قال سبعة في الأرض وواحد في السماء، فقال: فإذا أصابك الضرّ لمن تدعو؟ قال الذي في السماء، قال: فإذا هلك المال من تدعو؟ قال الذي في السماء، قال: فيستجيب لك وحده وتشرك معه، أرضيته في الشرك؟ يا حصين أسلم تسلم فأسلم، فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فبكى صلى الله عليه وسلم وقال: بكيت من صنع عمران، دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم وفي حقه فدخلني من ذلك الرقة، فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: شيعوه إلى منزله، فلما خرج من سدة الباب: أي عتبته رأته قريش، قالوا: قد صبا وتفرقوا عنه» . باب: استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه، وما لقي هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه عن ابن اسحاق أن مدة ما أخفى صلى الله عليه وسلم أمره: أي المدة التي صار يدعو الناس فيها خفية بعد نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثر: الآية 1] ثلاث سنين: أي فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفي بصلاته من المشركين: أي كما تقدم، فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا منهم بلحى بعير فشجه، فهو أول دم

أهريق في الإسلام، ثم دخل صلى الله عليه وسلم وأصحابه مستخفين في دار الأرقم: أي بعد هذه الواقعة، فإن جماعة أسلموا قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، ودار الأرقم هي المعروفة الآن بدار الخيزران عند الصفا، اشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي، ثم أعطاها المهدي للخيزران أم ولديه موسى الهادي وهارون الرشيد، ولا يعرف امرأة ولدت خليفتين إلا هذه، وولادة جارية عبد الملك بن مروان، فإنها «أم الوليد وسليمان» . وقد روت الخيزران عن زوجها المهدي عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من اتقى الله وقاه كل شيء» . فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم، ويعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين: أي وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم إلى أن أظهر الدعوة، وأعلن صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة: أي وقيل مدة استخفائه صلى الله عليه وسلم أربع سنين وأعلن في الخامسة. وقيل أقاموا في تلك الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون. وقد يقال الإقامة شهرا مخصوصة بالعدد المذكور، فلا منافاة، وإعلانه صلى الله عليه وسلم كان في الرابعة أو الخامسة بقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) [الحجر: الآية 94] وبقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) [الشعراء: الآية 214] أي أظهر ما تؤمر به من الشرائع، وادع إلى الله تعالى، ولا تبال بالمشركين، وخوّف بالعقوبة عشيرتك الأقربين وهم بنو هاشم وبنو المطلب: أي وبنو عبد شمس وبنو نوفل أولاد عبد المطلب بدليل ما يأتي. قال بعضهم: آية فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: الآية 94] اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها. وقال بعضهم: إنما أمر بالصدع لغلبة الرحمة عليه صلى الله عليه وسلم. قال: ذكر بعضهم أنه لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) [الشّعراء: الآية 214] اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وضاق به ذرعا: أي عجز عن احتماله فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أنه شاك: أي مريض، فدخلن عليه عائدات، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني بقوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) [الشّعراء: الآية 214] فأريد أن أجمع بني عبد المطلب لأدعوهم إلى الله تعالى، قلن: فادعهم ولا تجعل عبد العزى فيهم، يعنين عمه أبا لهب، فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه، وخرجن من عنده صلى الله عليه وسلم: أي وكني عبد العزى بأبي لهب لجمال وجهه ونضارة لونه كأن وجهه وجبينه ووجنتيه لهب النار: أي خلافا لما زعمه بعضهم أن ولده عقير الأسد أو ولد آخر غيره كان اسمه لهبا. قال في الإتقان: ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب ولم يذكر اسمه وهو عبد العزى أي الصنم، لأنه حرام شرعا، هذا كلامه وفيه أن الحرام وضع ذلك لا استعماله.

وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الاستعمال حرام أيضا إلا أن يشتهر بذلك كما في الأوصاف المنقصة كالأعمش. وفي كلام القاضي: وإنما كناه والكنية تكرمة أي بالعدول عن الاسم إليها لاشتهاره بكنيته، ولأن اسمه عبد العزى الذي هو الصنم فاستكره ذكره، ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله في الآخرة، فهي كنية تفيد الذم. فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف، لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح لا الذم ولم يشتهر بها صاحبها. قال: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب، فلما أخبرهم بما أنزل الله عليه أسمعه ما يكره، قال: تبا لك، ألهذا جمعتنا: أي وأخذ حجرا ليرميه به، وقال له: ما رأيت أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بأشرّ ما جئتهم به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس انتهى. أي وفي الإمتاع: أن أبا لهب ظن أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون، فقال له هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك، فتكلم بما تريد واترك الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة، وإن أحق من أخذك وحبسك أسرتك وبنو أبيك إن أقمت على أمرك، فهو أيسر عليك من أن تتب عليك بطون قريش وتمدها العرب، فما رأيت يا ابن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به، وعند ذلك أنزل الله تعالى تَبَّتْ [المسد: الآية 1] أي خسرت وهلكت يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: الآية 1] أي خسر وهلك بجملته: أي والمراد بالأول جملته، عبر عنها باليدين مجازا، والمراد به الدعاء، وبالثاني الخبر على حد قولهم: أهلكه الله وقد هلك. أي ولما قال أبو لهب عند نزول تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) [المسد: الآية 1] إن كان ما يقوله محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي نزل ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) [المسد: الآية 2] أي وأولاده، لأن الولد من كسب أبيه: أي وفي رواية وهي في الصحيحين «أنه دعا قريشا فاجتمعوا، فخص وعم فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار: أي وفيه أنه إنما أمر بالإنذار لعشيرته الأقربين، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني زهرة أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، يا صفية عمة محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا» وفي لفظ «لا أملك لكم من الدنيا منفعة، ولا من الآخرة نصيبا، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله: أي لا تبقوا على كفركم اتكالا على قرابتكم مني» فهو حث لهم على صالح الأعمال، وترك الاتكال «غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها» أي أصلها بالدعاء: أي والبلال

بالفتح كقطام ما يبل الحلق من الماء أو اللبن، وبل رحمه إذا وصلها، وبلوا أرحامكم: ندّوها بالصلة، وفي الحديث «بلو أرحامكم ولو بالسلام» أي صلوها: أي وقد ذكر أئمتنا ضابط الصلة. وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم فاطمة من بين بناته مع أنها أصغرهن، وقيل أصغر بناته رقية. وتخصيصه صلى الله عليه وسلم صفية من بين عماته حكمة لا تخفى. ومن الغريب ما في الكشاف من زيادة «يا عائشة بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر» . وعندي أن ذكر عائشة وحفصة بل وفاطمة هنا من خلط بعض الرواة، وأن هذا ذكره صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فذكره بعض الرواة هنا، فإن المراد بالإنقاذ من النار الإتيان بالإسلام، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إلى أن تقولوا لا إله إلا الله» مع أنه تقدم أن بناته عليه الصلاة والسلام لم يكن كفارا فليتأمل. ثم مكث صلى الله عليه وسلم أياما ونزول عليه جبريل وأمره بإمضاء أمر الله تعالى، فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا وخطبهم ثم قال لهم: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوآ وإنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا، والله يا بني عبد المطلب ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به؟ إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة» فتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب، فإنه قال: يا بني عبد المطلب هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم، فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم، وإن منعتموه قتلتم، فقالت له أخته صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها: أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك، فو الله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضيء- أي أصل- عبد المطلب نبي فهو هو، قال: هذا والله الباطل والأماني، وكلام النساء في الحجال، إذا قامت بطون قريش وقامت معها العرب فما قوتنا بهم، فو الله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس، فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع قريش وهو قائم على الصفا، وقال: «إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سنح- بالنون والحاء المهملة- أي أصل، وفي لفظ: سفح بالفاء والحاء المهملة- هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذبوني؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، إني لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد» ، أي وفي لفظ «إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه أتيتم أتيتم» . ومن أمثاله صلى الله عليه وسلم «أنا النذير العريان» أي الذي ظهر صدقه، من قولهم: عري

الأمر، إذا ظهر، وقولهم: الحق عار: أي ظاهر، وقيل الذي جرده العدو فأقبل عريانا ينذر بالعدو، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل. واختلفت الروايات في محل وقوفه. ففي رواية «وقف على الصفا» كما تقدم، وفي رواية «وقف على أضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا يهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد فاجتمعوا إليه، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا» الحديث وفي رواية «صاح على أبي قبيس: يا آل عبد مناف إني نذير» وروي أنه لما نزل قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) [الشّعراء: الآية 214] جمع بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون» وفي الإمتاع خمسة وأربعون رجلا وامرأتان، فصنع لهم عليّ طعاما: أي رجل شاة مع مدّ من البر وصاعا من لبن، فقدّمت لهم الجفنة، وقال: كلوا بسم الله، فأكلوا حتى شبعوا، وشربوا حتى نهلوا. وفي رواية «حتى رووا» وفي رواية «قال ادنوا عشرة عشرة فدنا القوم عشرة عشرة، ثم تناول القعب الذي فيه اللبن فجرع منه ثم ناولهم، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة» وفي رواية «يشرب العس من الشراب في مقعد واحد» فقهرهم ذلك، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم بدره أو لهب بالكلام، فقال: لقد سحركم صاحبكم سحرا عظيما. وفي رواية: محمد، وفي رواية: ما رأينا كالسحر اليوم، فتفرقوا ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد قال: «يا عليّ عد لنا بمثل ما صنعت بالأمس من الطعام والشراب، قال عليّ: ففعلت، ثم جمعتهم له صلى الله عليه وسلم فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا، ثم قال لهم: يا بني عبد المطلب إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) [الشّعراء: الآية 214] وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيا بني إلى هذا الأمر ويوازرني- أي يعاونني- على القيام به؟ قال عليّ: أنا يا رسول الله، وأنا أحدثكم سنا وسكت القوم» زاد بعضهم في الرواية «يكن أخي ووزيرا وورثي وخليفتي من بعدي، فلم يجبه أحد منهم، فقام عليّ وقال أنا يا رسول الله، قال اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانيا فصمتوا، فقام عليّ وقال أنا يا رسول الله، فقال: اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثالثا فلم يجبه أحد منهم، فقام عليّ فقال: أنا يا رسول الله، فقال اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي» . قال الإمام أبو العباس بن تيمية أي في الزيادة المذكورة أنها كذب وحديث موضوع من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك، وقد رواه: أي الحديث مع زيادته المذكورة ابن جرير والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه. وقال أحمد: إنه ليس بثقة، عامة أحاديثه بواطيل وقال ابن المديني: كان يضع الحديث، وفي رواية عن عليّ رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خديجة فصنعت له

طعاما، ثم قال لي ادع لي بني عبد المطلب، فدعوت أربعين رجلا» الحديث، ولا مانع من تكرر فعل ذلك ويجوز أن يكون عليّ فعل ذلك عند خديجة وجاء به إلى بيت أبي طالب، ولعل جمعهم هذا كان متأخرا عن جمعهم مع غيرهم المتقدم ذكره ويشهد له السياق، فعل ذلك حرصا على إسلام أهل بيته، فلما دعا قومه ولم يردوا عليه ولم يجيبوه: أي وفي رواية: صار كفار قريش غير منكرين لما يقول فكان صلى الله عليه وسلم إذ مرّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء، وكان ذلك دأبهم حتى عاب آلهتهم: أي وسفه عقولهم وضلل آباءهم: أي حتى أنه مر يوما وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام، فقال: «يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم، فقالوا إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إلى الله فأنزل الله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: الآية 31] فتناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم، وجاؤوا إلى أبي طالب وقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وعقولنا، ينسبنا إلى قلة العقل، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر دين الله ويدعو إليه لا يرده عن ذلك شيء، وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله: ثم قام النبي يدعو إلى الله ... وفي الكفر شدة وإباء أمما أشربت قلوبهم الكف ... ر فداء الضلال فيهم عياء أي ثم قام صلى الله عليه وسلم يدعو جماعاتهم إلى الله تعالى بأن يقولوا لا إله إلا الله حسبما أمر، فقد جاء أن جبريل تبدى له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة وقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أنت رسول الله إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله فدعاهم والحال أن في أهل الكفر قوة تامة وامتناعا عن اتباعه، اختلط الكفر بقلوبهم وتمكن فيها حبه حتى صارت لا تقبل غيره، وبسبب ذلك صار داء الضلال: أي داء هو الضلال فيهم عضال يعيي الأطباء مداواته وحصول شفائه، ثم شري الأمر- أي بالشين المعجمة وكسر الراء وفتح المثناة تحت- كثر وتزايد وانتشر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا: أي أضمروا العداوة والحقد وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وتذامروا عليه- بالذال المعجمة- وحض أي حث بعضهم بعضا عليه أي على حربه وعداوته ومقاطعته، ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد طلبنا منك أن تنهي ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا: أي عقولنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى

يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه، فعظم علي بن أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بأن يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي حصلت له العبرة التي هي دمع العين فبكى، ثم قام» فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك وأنشد أبياتا منها: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا وحكمة تخصيص الشمس والقمر بالذكر وجعل الشمس في اليمين والقمر في اليسار لا تخفى، لأن الشمس النير الأعظم واليمين أليق به، والقمر النير الممحو واليسار أليق به وخص النيرين حيث ضرب المثل بهما لأن الذي جاء به نور، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التّوبة: الآية 32] . ومن غريب التعبير أن رجلا كان عاملا لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقال لسيدنا عمر: إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما نجوم فقال له عمر: مع أيهما كنت؟ قال مع القمر، قال: كنت مع الآية الممحوة، اذهب فلا تعمل لي عملا؟ فاتفق أن هذا الرجل كان مع معاوية يوم صفين وقتل ذلك اليوم. فلما عرفت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالو له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد. أي أشد- وأقوى فتى في قريش وأحمله، فخذه لك ولدا: أي بأن تتبناه وأسلم إلينا ابن أخيك الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل، فقال لهم أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله لا يكون أبدا: أي وقال أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها قال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال له أبو طالب: والله ما أنصفوني، ولكن قد أجمعت: أي قصدت خذلاني ومظاهرة القوم: أي معاونتهم عليّ فاصنع ما بدا لك: أي وقد مات عمارة بن الوليد هذا على كفره بأرض الحبشة بعد أن سحر وتوحش وسار في البراري والقفار كما سيأتي. ومات

المطعم بن عدي المذكور على كفره أيضا فعند عدم قبول أبي طالب ما أرادوه اشتد الأمر. ولما رأى أبو طالب من قريش ما رأى دعا بني هاشم، وبني المطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه فأجابوه إلى ذلك، غير أبي لهب فكان من المجاهرين بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به، وتوالى الأذى من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من أسلم معه. فما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عمه العباس رضي الله تعالى عنه قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال: لله عليّ إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ عنقه، فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبان حتى دخل المسجد، فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم من الحائط، وقرأ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) [العلق: الآية 1- 2] حتى بلغ شأن أبي جهل كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) [العلق: الآية 6 و 7] إلى أن بلغ آخر السورة سجد، فقال إنسان لأبي جهل يا أبا الحكم، هذا محمد قد سجد، فأقبل إليه ثم نكص راجعا، فقيل له في ذلك، فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى، لقد سد أفق السماء عليّ. وفي رواية: رأيت بيني وبينه خندقا من نار، وسيأتي أن قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) [العلق: الآية 9 و 10] إلى آخر السورة نزل في أبي جهل. ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: ذكر أن أبا جهل بن هشام قال يوما لقريش: يا معشر قريش إن محمدا قد أتى إلى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم وتسفيه أحلامكم وسب آبائكم إني أعاهد الله لأجل له يعني النبي صلى الله عليه وسلم غدا بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد، فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو إلى الصلاة: أي وكانت قبلته صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى صخرة بيت المقدس، فكان يصلي بين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام على ما تقدم، وقريش جلوس في أنديتهم وهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه: أي متغيرا بالصفرة مع الكدرة من الفزع وقد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده: أي بعد أن عالجوا فكه من يده فلم يقدروا كما سيأتي، وقامت إليه رجال من قريش وقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي فحل

من الإبل والله ما رأيت مثله قط، همّ بي أن يأكلني، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذاك جبريل لو دنا لأخذه» وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله: وأبو جهل إذ رأى عنق الفح ... ل إليه كأنه العنقاء أي وأبو جهل الذي هو أشد الأعداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أن همّ أن يلقي الحجر عليه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أبصر عنق الفحل وقد برزت إليه كأنه الداهية العظيمة: أي فرجع عن ذلك الرمي بذلك الحجر: أي وفي رواية أن أبا جهل قال: رأيت بيني وبينه كخندق من نار. ولا مانع أن يكون وجد الأمرين معا. وذكر في سبب نزول قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) [يس: الآية 8] أي إنا جعلنا أيديهم متصلة بأعناقهم واصلة إلى أذقانهم ملصقة بها، رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها من أقمح البعير رفع رأسه وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) [يس: الآية 9] إن الآية الأولى نزلت في أبي جهل لما حمل الحجر ليرضخ به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه أثبتت يداه إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم فلم يفكوا الحجر من يده إلا بعد تعب شديد. والآية الثانية نزلت في آخر لما رأى ما وقع لأبي جهل قال أنا ألقي هذا الحجر عليه، فذهب إليه صلى الله عليه وسلم، فلما قرب منه عمي بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إليهم فأخبرهم بذلك. وعن الحكم بن أبي العاص: أي وابنه مروان بن الحكم، أن ابنته قالت له: ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا وأعجز في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم يا بني أمية، فقال لها: لا تلومينا يا بنية إني لا أحدثك إلا ما رأيت، لقد أجمعنا ليلة على اغتياله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيناه يصلي ليلا جئنا خلفه فسمعنا صوتا ظننا أنه ما بقي بتهامة جبل إلا تفتت علينا: أي ظننا أنه يتفتت، وأنه يقع علينا، فما عقلنا حتى قضى صلاته صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى، فلما جاء نهضنا إليه فرأينا الصفا والمروة التصقتا إحداهما على الأخرى، فحالتا بينا وبينه، ويتأمل هذا لأن صلاته صلى الله عليه وسلم إنما تكون عند الكعبة وليست بين الصفا والمروة. وفي رواية «كان صلى الله عليه وسلم يصلي فجاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا فأنزل الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) [العلق: الآية 9 و 10] إلى آخر السورة» . وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاته زأره أبو جهل أي انتهره وقال: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) [العلق: الآية 17 و 18] » قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله: أي وقال يوما: ولقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد علمت أني أمنع

أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم، فأنزل الله تعالى فيه ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) [الدّخان: الآية 49] كذا قاله الواحدي: أي تقول له الزبانية عند إلقائه في النار ما ذكر توبيخا له. ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: لما أنزل الله تعالى سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: الآية 1] جاءت امرأة أبي لهب وهي أم جميل واسمها العوراء، وقيل اسمها أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر: أي بكسر الفاء وسكون الهاء حجر يملأ الكف، فيه طول يدق به في الهاون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فلما رآها قال: يا رسول الله إنها امرأة بذية: أي تأتي بالفحش من القول، فلو قمت لتؤذيك، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنها لن تراني» فجاءت فقالت: يا أبا بكر صاحبك هجاني: أي وفي لفظ: ما شأن صاحبك ينشد فيّ الشعر؟ قال لا وما يقول الشعر أي ينشئه. وفي لفظ: لا ورب هذا البيت ما هجاك، والله ما صاحبي بشاعر وما يدري ما الشعر: أي لا يحسن إنشاءه، قالت له: أنت عندي تصدق، وانصرفت: أي وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها: أي تعني عبد مناف جدّ أبيها، ومن كان عبد مناف أباه لا ينبغي لأحد أن يتجاسر على ذمه، قلت: يا رسول الله لم لم ترك؟ قال: «لم يزل ملك يسترني بجناحه» أي فقد جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: «قل لها: هل ترين عندي أحدا، فسألها أبو بكر، فقالت أتهزأ بي، والله ما أرى عندك أحدا» . أقول: وفي الإمتاع أنها جاءت وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وفي يدها فهر، فلما وقفت على النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الله على بصرها فلم تره ورأت أبا بكر وعمر، فأقبلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقالت: أين صاحبك؟ قال وما تصنعين به؟ قالت بلغني أنه هجاني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فمه، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ويحك إنه ليس بشاعر، فقالت إني لا أكلمك يا ابن الخطاب: أي لما تعلمه من شدته، ثم أقبلت على أبي بكر لم تعلمه من لينه وتواضعه، فقالت: والثواقب أي النجوم إنه لشاعر وإني لشاعرة: أي فكما هجاني لأهجونه وانصرفت، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لن تراك، فقال إنها لن تراني، جعل بيني وبينها حجاب: أي لأنه قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) [الإسراء: الآية 45] وفي رواية أقبلت ومعها فهران وهي تقول: مذمما أبينا* ... ودينه قلينا* وأمره عصينا* فقالت: أين الذي هجاني وهجا زوجي، والله لئن رأيته لأضربن أنثييه بهذين الفهرين. قال أبو بكر: فقلت لها يا أم جميل والله ما هجاك ولا هجا زوجك، قالت: والله ما أنت بكذاب، وإن الناس ليقولون ذلك، ثم ولت ذاهبة، فقلت: يا

رسول الله إنها لم ترك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حال بيني وبينها جبريل» ولعل مجيئها قد تكرر فلا منافاة بين ما ذكر وكذا ما يأتي، وكما يقال في الحمد محمد يقال في الذم مذمم، لأنه لا يقال ذلك إلا لمن ذم مرة بعد أخرى، كما أن محمدا لا يقال إلا لمن حمد مرة بعد أخرى كما تقدم. وقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم قال: ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمما، ويلعنون مذمما وأنا محمد» . وفي الدر المنثور «أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الملأ، فقالت: يا محمد علام تهجوني؟ قال: إني والله ما هجوتك، ما هجاك إلا الله. قالت: رأيتني أحمل حطبا أو رأيت في جيدي حبلا من مسد» وهذا مما يؤيد ما قاله بعض المفسرين أن الحطب عبارة عن النميمة، يقال: فلان يحطب عليّ: أي ينمّ، لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة، وتغري زوجها وغيره بعداوته صلى الله عليه وسلم، وتبلغهم عنه أحاديث لتحثهم بها على عداوته صلى الله عليه وسلم، وأن الحبل عبارة عن حبل من نار محكم. وعن عروة بن الزبير: مسد النار سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا، والله أعلم وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله: وأعدت حمالة الحطب الفهر ... وجاءت كأنها الورقاء ثم جاءت غضبى تقول أفي ... مثلي من أحمد يقال الهجاء وتولت وما رأته ومن أين ... ترى الشمس مقلة عمياء أي وهيأت حمالة الحطب الفهر؟ ولقبت بذلك، لأنها كانت تحتطب: أي تجمع الحطب وتحمله لبخلها ودناءة نفسها، أو كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريقه صلى الله عليه وسلم. ولا مانع من اجتماع الأوصاف الثلاثة، لكن استفهامها يبعد الوصفين الأخيرين. والفهر الحجر الذي يملأ الكف كما تقدم، لتضرب به النبي صلى الله عليه وسلم والحال أنها جاءت في غاية السرعة والعجلة كأنها في شدة السرعة الحمامة الشديدة الإسراع، حالة كونها غضبى من شدة ما سمعت من ذمها في سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: الآية 1] ، تقول: أفي مثلي وأنا بنت سيد بني عبد شمس يقال الهجاء والسب حالة كونه من أحمد وتولت والحال أنها ما رأته، وكيف ترى الشمس عين عمياء. أقول: في ينبوع الحياة أنها لما بلغها سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: الآية 1] جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي مضطرمة: أي متحرقة غضبى، فقالت له: ويحك يا أخمس: أي يا شجاع أما تغضب أن هجاني محمد، فقال سأكفيك إياه، ثم أخذ سيفه وخرج ثم عاد سريعا فقالت: هل قتلته؟ فقال لها: يا أخية أيسرك أن رأس أخيك في فم الثعبان؟ قالت: لا والله، قال: فقد كان ذلك يكون الساعة. أي فإنه رأى ثعبانا لو قرب منه صلى الله عليه وسلم لالتقم رأسه.

ولما نزلت هذه السورة التي هي تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: الآية 1] قال أبو لهب لابنه عتبة أي بالتكبير رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم يوم الفتح كما سيأتي: رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد، يعني رقية رضي الله عنها فإنه كان تزوّجها ولم يدخل بها ففارقها ووقع في كلام بعضهم طلقها لما أسلم فليتأمل. وكان أخوه عتيبة بالتصغير متزوجا ابنته صلى الله عليه وسلم أم كلثوم، ويدخل بها. فقال: أي وقد أراد الذهاب إلى الشام: لآتين محمدا فلأوذينه في ربه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم: أي وفي لفظ برب النَّجْمِ إِذا هَوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وردّ عليه ابنته وطلقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم سلط» وفي رواية «اللهم ابعث عليه كلبا من كلابك» وكان أبو طالب خاضرا فوجم لها أبو طالب. وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتيبة إلى أبيه أبي لهب فأخبره بذلك، ثم خرج هو وأبوه إلى الشام في جماعة، فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير. فقال لهم: إن هذه الأرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه إنكم قد عرفتم نسبي وحقي، فقالوا أجل يا أبا لهب. فقال أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فأجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا لابني عليه ثم افرشوا حوله، ففعلوا ثم جمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله. وفي رواية «فضخ رأسه» وفي رواية «ثنى ذنبه ووثب وضربه بذنبه ضربة واحدة فخدشه فمات مكانه» وفي رواية «فضغمه ضغمة فكانت إياها» فقال وهو بآخر رمق ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة ومات، فقال أبوه: قد عرفت والله ما كان ليفلت من دعوة محمد: أقول: وحلفه بالنجم إلى آخره يدل على أن ذلك كان بعد الإسراء والمعراج. ووقع مثل ذلك لجعفر الصادق، قيل له: هذا فلان ينشد الناس هجاءكم يعني أهل البيت بالكوفة، فقال لذلك القائل: هل علقت من قوله بشيء؟ قال نعم قال فأنشد: صلبنا لكم زيدا على رأس نخلة ... ولم أر مهديا على الجذع يصلب وقستم بعثمان عليا سفاهة ... وعثمان خير من عليّ وأطيب فعند ذلك رفع جعفر يديه، وقال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك، فخرج ذلك الرجل فافترسه الأسد، وإنما سمي الأسد كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله. ومن ثم قيل: إن كلب أهل الكهف كان أسدا. وقيل كان رجلا منهم جلس عند الباب طليعة لهم، فسمي باسم الكلب لملازمته للحراسة، ووصف ببسط الذراعين لأن ذلك من صفة الكلب الذي هو الحيوان.

وقد جاء «أنه ليس في الجنة من الحيوان إلا كلب أهل الكهف، وحمار العزير، وناقة صالح» والله أعلم. ومما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدّث به عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يصلي، وقد نحر جزور وبقي فرثه: أي روثه في كرشه. فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد» أي وفي رواية «قال: قائل: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه» وفي رواية: «أيكم يأخذ سلي جزور بني فلان لجزور ذبحت من يومين أو ثلاثة فيضعه بين كتفيه إذا سجد، فقام شخص من المشركين» وفي لفظ «أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط. وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد: أي فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض أي من شدة الضحك. قال ابن مسعود: فهبنا أي خفنا أن نلقيه عنه صلى الله عليه وسلم» وفي لفظ «وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها أي بعد أن ذهب إليها إنسان وأخبرها بذلك واستمر صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه، واستمراره في الصلاة عند فقهائنا لعدم علمه بنجاسة ما ألقي عليه، ولما ألقته عنه أقبلت عليهم تشتمهم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول وهو قائم يصلي: اللهم اشدد وطأتك: أي عقابك الشديد، على مضر سنين كسني يوسف. اللهم عليك بأبي الحكم بن هشام، يعني أبا جهل، وعتبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف. زاد بعضهم: وشيبة بن أبي ربيعة، والوليد بن عتبة» بالمثناة فوق لا بالقاف كما وقع في رواية مسلم. فقد اتفق العلماء على أنه غلط، لأنه لم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان صغيرا جدا وعمارة بن الوليد: أي وهو المتقدم ذكره الذي أرادوا أن يجعلوه عوضا عنه صلى الله عليه وسلم. أقول: والذي في المواهب «فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، ثم سمى، اللهم عليك بعمرو بن هشام» إلى آخر ما تقدم ذكره. وفي الإمتاع: «فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع يديه ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا ثلاثا ثم قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش فلما سمعوا صوته ذهب منهم الضحك وهابوا دعوته، ثم قال: اللهم عليك بأبي جهل بن هشام» الحديث، وإن ابن مسعود قال: والله لقد رأيتهم، وفي رواية: رأيت الذي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر. واعترض بأن عمارة بن الوليد مات بالحبشة كافرا كما تقدم ويأتي، وبأن

عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر وإنما أخذ أسيرا منها وقتل بعرق الظبية كما سيأتي، وبأن أمية بن خلف لم يطرح بالقليب وأجيب بأن قول ابن مسعود: رأيتهم أي رأيت أكثرهم. وقد يقال: لا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم أتى بهذا الدعاء وهو قائم يصلي، وبعد الفراغ من الصلاة فلا منافاة والله أعلم. والمراد بسني يوسف بتخفيف الياء، ويروى سنين بإثبات النون مع الإضافة: القحط والجدب: أي فاستجاب الله دعاءه، فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام والعلهز وهو الوبر والدم، أي يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع، وجاءه صلى الله عليه وسلم جمع من المشركين فيهم أبو سفيان، قالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم «فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، فشكا الناس كثرة المطر فقال: اللهم حوالينا ولا علينا. فانحدرت السحابة» . وجاء أنهم قالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) [الدخان: الآية 12] أي لا نعود لما كنا عليه، فلما كشف عنهم ذلك عادوا: أي وفيه أن هذا إنما كان بعد الهجرة فسيأتي «أنه صلى الله عليه وسلم مكث شهرا إذا رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء، وسيأتي ما فيه. وقد يقال: لا مانع أن يكون حصل لهم ذلك قبل الهجرة وبعد الهجرة مرة أخرى سيأتي الكلام عليها. ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يوافق ذلك حيث قال: قال البيهقي: قد روي في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك كان بعد الهجرة، ولعله كان مرتين، أي وسيأتي في السرايا أن ثمامة لما منع عن قريش الميرة أن تأتي من اليمن حصل لهم مثل ذلك وكتبوا في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي البخاري «لما استعصت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فبقيت السماء سبع سنين لا تمطر» وفي رواية فيه أيضا: لما أبطؤوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام قال: اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصت كل شيء» الحديث. وفي رواية «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة

الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) [الدخان: الآية 10 و 11] فأتى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى صلى الله عليه وسلم فسقوا، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) [الدّخان: الآية 16] » يعني يوم بدر. ومن ذلك ما حدث به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر وفي الحجر ثلاثة نفر جلوس: عقبة ابن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، فمرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، فلما حاذاهم أسمعوه بعض ما يكره، فعرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدنوت منه حتى وسطته: أي جعلته وسطا، فكان صلى الله عليه وسلم بيني وبين أبي بكر وأدخل أصابعه في أصابعي وطفنا جميعا، فلما حاذاهم قال أبو جهل: والله لا نصالحك ما بلّ بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا ذلك، ثم مشى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك، حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه، أي قاموا له صلى الله عليه وسلم، ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه صلى الله عليه وسلم، فدفعت في صدره فوقع على استه، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف. ثم قال: أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه أي ينزل عليكم عاجلا. قال عثمان: فو الله ما منهم رجل إلا وقد أخذته الرعدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بئس القوم أنتم لنبيكم، ثم انصرف إلى بيته وتبعناه حتى انتهى إلى باب بيته، ثم أقبل علينا بوجهه. فقال: أبشروا، فإن الله عز وجل مظهر دينه، ومتمم كلمته، وناصر نبيه، إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله على أيديكم عاجلا، ثم انصرفنا إلى بيوتنا، فو الله لقد ذبحهم الله بأيدينا يوم بدر» . أقول: ولا يخالف ذلك كون عقبة بن أبي معيط حمل أسيرا من بدر وقتل بعرق الظبية صبرا وهم راجعون من بدر، ولا كون عثمان بن عفان لم يحضر بدرا والله أعلم. وفي رواية «أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته صلى الله عليه وسلم الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان» . أي وفي رواية «دخل عقبة بن أبي معيط الحجر فوجده صلى الله عليه وسلم يصلي فيه فوضع ثوبه على عنقه صلى الله عليه وسلم وخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر: الآية 28] . أي وفي البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال: «قلت

لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبيه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» الحديث، ولعل أشدية ذلك باعتبار ما بلغ عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أو ما رآه. وعنه رضي الله تعالى عنه قال: «ما رأيت قريشا أصابت من عداوة أحد ما أصابت من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد حضرتهم يوما وقد اجتمع ساداتهم وكبراؤهم في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما صبرنا لأمر كصبرنا لأمر هذا الرجل قط ولقد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي، حتى استلم الركن ثم مرّ طائفا بالبيت، فلما مر بهم لمزوه ببعض القول فعرفنا ذلك في وجهه ثم مر بهم الثانية فلمزوه بمثلها فعرفنا ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فلمزوه، فوقف عليهم وقال: أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح، فارتعبوا لكلمته صلى الله عليه وسلم تلك، وما بقي رجل منهم إلا كأنما على رأسه طائر واقع، فصاروا يقولون، يا أبا القاسم انصرف، فو الله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منك وما بلغكم عنه حتى إذا ناداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به وهم يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا. يعني عيب آلهتهم ودينهم- فقال نعم: أنا الذي أقول ذلك، فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه عليه الصلاة والسلام، فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، فأطلقه الرجل ووقعت الهيبة في قلوبهم فانصرفوا عنه» فذلك أشد ما رأيتهم نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية «ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا؟ قال بلى، فتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقيل له أدرك صاحبك، فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه، فقال: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا على أبي بكر يضربونه، قالت بنته أسماء: فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا أجابه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام» . وجاء «أنهم جذبوا رأسه صلى الله عليه وسلم ولحيته حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله: أي وهو يبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهم يا أبا بكر، فو الذي نفسي بيده إني بعثت إليهم بالذبح ففرجوا عنه صلى الله عليه وسلم» .

وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت: «اجتمعت مشركو قريش في الحجر، فقالوا إذا مر محمد فليضربه كل واحد منا ضربة فسمعت فدخلت على أبي فذكرت ذلك له: أي قالت له وهي تبكي، تركت الملأ من قريش قد تعاقدوا في الحجر، فحلفوا باللات والعزى ومناة وإساف ونائلة إذا هم رأوك يقومون إليك فيضربونك بأسيافهم فيقتلونك فقال صلى الله عليه وسلم: يا بنية اسكتي، وفي لفظ: لا تبكي، ثم خرج صلى الله عليه وسلم أي بعد أن توضأ فدخل عليهم المسجد، فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم، ثم قال: شاهت الوجوه فما أصاب رجلا منهم إلا قتل ببدر» . أي وكان بجواره صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان وعقبة بن أبي معيط فكانوا يطرحون عليه صلى الله عليه وسلم الأذى فإذا طرحوه عليه أخذه وخرج به ووقف على بابه ويقول: يا بني عبد مناف أيّ جوار هذا ثم يلقيه في الطريق، ولم يسلم ممن ذكر إلا الحكم وكان في إسلامه شيء. وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم نفاه إلى وج الطائف، وأنه سيأتي السبب في نفيه، وأشار صاحب الهمزية إلى أن هذه الأذية له صلى الله عليه وسلم لا يظن ظانّ أنها منقصة له صلى الله عليه وسلم، بل هي رفعة له، ودليل على فخامة قدره وعلو مرتبته وعظيم رفعته ومكانته عند ربه، لكثرة صبره وحلمه واحتماله مع علمه باستجابة دعائه ونفوذ كلمته عند الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء» وذلك سنة من سنن النبيين السابقين عليهم الصلاة والسلام بقوله: لا تخل جانب النبي مضاما ... حين مسته منهم الأسواء كل أمر ناب النبيين فالش ... دة فيه محمودة والرخاء لو يمس النضار هون من النا ... ر لما اختير للنضار الصلاء أي لا تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له الضيم وقت مسته الأذيات حالة كونها صادرة منهم، لأن كل أمر من الأمور العظيمة التي أصابت النبيين فالشدة التي تحصل لهم منه محمودة، لأنها لرفع الدرجات، والضيقة التي تحصل لهم أيضا محمودة، لأنه لو كان يمس الذهب هوان من إدخاله النار لما اختير له العرض على النار، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالذهب والشدائد التي تصيبهم كالنار التي يعرض عليها الذهب، فإن ذلك لا يزيد الذهب إلا حسنا، فكذلك الشدائد لا تزيد الأنبياء إلا رفعة. قال: ومما وقع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه من الأذية، ما ذكره بعضهم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل دار الأرقم ليعبد الله تعالى ومن معه من أصحابه فيها سرا أي كما تقدم، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألحّ أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور. أي الخروج إلى المسجد- فقال: يا أبا بكر إنا قليل، فلم

يزل به حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه إلى المسجد، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ودعا إلى الله ورسوله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين، أي مطبقتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب إلى أن أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، أي ثم رجعوا فدخلوا المسجد، فقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب، حتى إذا كان آخر النهار تكلم وقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعذلوه، فصار يكرر ذلك، فقالت أمه والله ما لي علم بصاحبك، فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب: أي فإنها كانت أسلمت رضي الله تعالى عنها كما تقدم، وهي تخفي إسلامها فأسأليها عنه، فخرجت إليها وقالت لها، إن أبا بكر يسأل عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا أعرف محمدا ولا أبا بكر، ثم قالت لها: تريدين أن أخرج معك؟ قالت نعم، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فوجدته صريعا، فصاحت وقالت إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم، فقال لها أبو بكر، ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت له: هذه أمك تسمع، قال: فلا عين عليك منها، أي أنها لا تفشي سرك، قالت سالم، فقال: أين هو؟ فقالت في دار الأرقم، فقال والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس فخرجنا به يتكئ عليّ حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق له رقة شديدة، وأكب عليه يقبله، وأكب عليه المسلمون كذلك، فقال: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، فعسى الله أن ينقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام فأسلمت انتهى. هذا، وذكر الزمخشري في كتابه خصائص العشرة أن هذه الواقعة حصلت لأبي بكر لما أسلم وأخبر قريشا بإسلامه فليتأمل، فإنّ تعدد الواقعة بعيد. ومما وقع لابن مسعود رضي الله تعالى عنه من الأذية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا يوما، فقال: والله ما سمعت قريش القرآن جهرا إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فيكم يسمعهم القرآن جهرا؟ فقال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنا فقالوا نخشى عليك منهم، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم، فقال: دعوني فإن الله سيمنعني منهم. ثم إنه قام عند المقام وقت الشمس وقريش في أنديتهم فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) [الفاتحة: الآية 1] رافعا صوته الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) [الرحمن: الآية 1 و 2] واستمر فيها فتأملته قريش، وقالوا ما بال ابن أم عبد، فقال بعضهم: يتلو بعض ما جاء به محمد ثم قاموا إليه يضربون وجهه وهو مستمر في قراءته حتى قرأ غالب السورة، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أدمت قريش وجهه، فقال له أصحابه: هذا الذي خشينا عليكم منه فقال: والله ما رأيت أعداء الله أهون عليّ مثل اليوم، ولو شئتم لأتيتهم بمثلها غدا، قالوا لا قد أسمعتهم ما يكرهون. ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية، أنه كان إذا قرأ القرآن تقف له جماعة من يمينه وجماعة عن يساره ويصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، لأنهم تواصوا وقالوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: الآية 26] حتى كان من أراد منهم سماع القرآن أتى خفية واسترق السمع خوفا منهم. ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه، وهو ما حدث به ابن إسحق قال: حدثني به رجل من أسلم أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا: أي وقيل عند الحجون، فآذاه وشتمه ونال منه ما يكرهه: أي وقيل إنه صب التراب على رأسه: أي وقيل ألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبد الله بن جدعان في سكن لها تسمع ذلك وتبصره، ثم انصرف أبو جهل إلى نادي قريش: أي محل تحدثهم في المسجد فجلس معهم، فلم يلبث حمزة أن أقبل متوحشا بسيفه راجعا من قنصه: أي من صيده، وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت، فمرّ على تلك المولاة، فأخبرته الخبر: أي فقالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد صلى الله عليه وسلم آنفا من أبي الحكم بن هشام، تعني أبا جهل، وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم: أي وقيل الذي أخبرته مولاة أخته صفية بنت عبد المطلب، قالت له: إنه صب التراب على رأسه، وألقى عليه فرثا، ووطئ برجله على عاتقه. وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان في النهر، فقال لها حمزة: أنت رأيت هذا الذي تقولين؟ قالت نعم. وفي رواية فلما رجع حمزة من صيده إذا امرأتان تمشيان خلفه، فقالت إحداهما: لو علم ماذا صنع أبو جهل بابن أخيه أقصر عن مشيته، فالتفت إليهما فقال: ما ذاك؟ قالت أبو جهل فعل بمحمد كذا وكذا. ولا مانع من تعدد الأخبار من المرأتين والمولاتين فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد، فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه رفع القوس وضربه فشجه شجة منكرة، ثم

قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد عليّ ذلك إن استطعت. أي وفي لفظ: أن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول: سفه عقولنا وسب آلهتنا، وخالف آباءنا قال ومن سفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقامت رجال من بني مخزوم: أي من عشيرة أبي جهل إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقالوا: ما نراك إلا قد صبأت، فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي منه، أنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقوله حق، والله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين. فقال لهم أبو جهل: دعوا أبا عمارة: أي ويكنى أيضا بأبي يعلى اسم ولد له أيضا فإني والله لقد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا، وتم حمزة على إسلامه: أي استمر، أي بعد أن وسوس له الشيطان، فقال لنفسه لما رجع إلى بيته أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابي وتركت دين آبائك؟ الموت خير لك مما صنعت، ثم قال: اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة، ثم لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح، فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غيّ شديد فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره، فألقى الله تعالى في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك لصادق، فأظهر يا ابن أخي دينك. وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن هذه الواقعة سبب لنزول قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام: الآية 122] يعني حمزة كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام: الآية 122] يعني أبا جهل، وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام حمزة سرورا كبيرا لأنه كان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة: أي أعظمهم في عزة النفس وشهامتها، ومن ثمّ لما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزّ كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم، وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم الذين لا جوار لهم: أي لا ناصر لهم، فإن كل قبيلة غدت على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه بالحبس والضرب، والجوع والعطش، وغير ذلك: أي حتى أن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي به، وكان أبو جهل يحرضهم على ذلك، وكان إذا سمع بأن رجلا أسلم وله شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له: ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك، وإن كان تاجرا قال: والله لتكسدنّ تجارتك ويهلك مالك، وإن كان ضعيفا أغرى به حتى أن منهم من فتن عن دينه ورجع إلى الشرك، كالحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج، وكل هؤلاء قتلوا على كفرهم يوم بدر.

وممن فتن عن دينه وثبت عليه ولم يرجع للكفر بلال رضي الله تعالى عنه وكان مملوكا لأمية بن خلف، فعن بعضهم أن بلالا كان يجعل في عنقه حبل يدفع إلى الصبيان يلعبون به ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول «أحد، أحد» بالرفع والتنوين أو بغير تنوين: أي الله أحد أو يا أحد، فهو إشارة لعدم الإشراك، وقد أثر الحبل في عنقه. وعن ابن إسحق أن أمية بن خلف كان يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة بعد أن يجيعه ويعطشه يوما وليلة فيطرحه على ظهره في الرمضاء أي الرمل إذا اشتدت حرارته لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال هكذا، حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول أحد أحد: أي أنا لا أشرك بالله شيئا، أنا كافر باللات والعزى. أي وقيل كان بلال مولدا من مولدي مكة، وكان لعبد الله بن جدعان التيمي وكان من جملة مائة مملوك مولدة له، فلما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أمر بهم فأخرجوا من مكة: أي خوف إسلامهم، فأخرجوا إلا بلالا فإنه كان يرعى غنمه، فأسلم بلال وكتم إسلامه فسلح بلال يوما على الأصنام التي حول الكعبة. ويقال إنه صار يبصق عليها ويقول خاب وخسر من عبدكنّ، فشعرت به قريش فشكوه إلى عبد الله وقالوا له أصبوت؟ قال ومثلي يقال له هذا، فقالوا له إن أسودك صنع كذا وكذا فأعطاهم مائة من الإبل ينحرونها للأصنام ومكنهم من تعذيب بلال، فكانوا يعذبونه بما تقدم، أي ويجوز أن يكون ابن جدعان بعد ذلك ملكه لأمية بن خلف. فلا يخالفه ما تقدم من أن أمية بن خلف كان يتولى تعذيبه، وما يأتي من أنا أبا بكر رضي الله عنه اشتراه منه. ويقال إنه صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو يعذب فقال سينجيك أحد أحد. أي وقيل مر عليه ورقة بن نوفل، وهو يقول أحد أحد فقال نعم أحد أحد والله يا بلال، ثم أتى إلى أمية، وقال له: والله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما، لأنه من أهل الجنة، وتقدم أن هذا يدل على أن ورقة أدرك البعثة التي هي الرسالة، وتقدم ما فيه، فكان بلال بقوله أحد أحد يمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان. وقد وقع له رضي الله تعالى عنه أنه لما احتضر وسمع امرأته تقول واحزناه صار يقول: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه، فكان بلال يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء. وقد ذكر بعضهم أن هذا قاله أبو موسى الأشعري، ومن معه لما وفدوا عليه صلى الله عليه وسلم وهو في خيبر: أي صاروا يقولون: غدا نلقى الأحبة، محمدا وحزبه.

ومر به أبو بكر رضي الله تعالى عنه يوما وهو ملقى على ظهره في الرمضاء، وعلى ظهره تلك الصخرة، فقال لأمية بن خلف: ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين؟ حتى متى تعذبه؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر: عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى: أي على دينك، أعطيكه به؟ قال: قبلت، قال: هو لك، فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه. وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في بلال حين قال أتبيعنيه؟ قال: نعم أبيعه بقسطاس، يعني عبدا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، كان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركا يأبى الإسلام، فاشتراه أبو بكر به، هذا كلامه. وفي الإمتاع: لما ساوم أبو بكر أمية بن خلف في بلال، قال أمية لأصحابه: لألعبن بأبي بكر لعبة ما لعبها أحد بأحد، ثم تضاحك وقال له: أعطني عبدك قسطاس، فقال أبو بكر: إن فعلت تفعل؟ قال نعم. قال: قد فعلت، فتضاحك، وقال لا والله حتى تعطيني معه امرأته، قال: إن فعلت تفعل؟ قال نعم، قال: قد فعلت ذلك، فتضاحك وقال: لا والله حتى تعطيني ابنته مع امرأته، قال: إن فعلت تفعل؟ قال نعم، قال: قد فعلت ذلك، فتضاحك وقال: لا والله حتى تزيدني معه مائتي دينار، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنت رجل لا تستحي من الكذب، قال: لا واللات والعزى لأن أعطيتني لأفعلنّ، فقال: هي لك، فأخذه، هذا كلامه. وقيل اشتراه بتسع. وقيل بخمس أواق، أي ذهبا: أي وقيل ببردة وعشرة أواق من فضة، وفي رواية برطل من ذهب. ويروى أن سيده قال لأبي بكر: لو أبيت إلا أوقية أي لو قلت لا أشتريه إلا بأوقية لبعناكه، فقال: لو طلبت مائة أوقية لأخذته بها. ولما قال المشركون: إنما أعتق أبو بكر بلالا ليد كانت له عنده فيكافئه بها أنزل الله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) [اللّيل: الآية 1] السورة، فالأتقى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، والأشقى أمية بن خلف. قال الإمام فخر الدين، أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر. وذهب الشيعة إلى أن المراد به عليّ رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه. ويرده وصف الأتقى بقوله تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) [الليل: الآية 19] لأن هذا الوصف لا يصدق على عليّ رضي الله تعالى عنه، لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم أي كما تقدم، فكان صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب عليه جزاؤها: أي نعمة دنيوية، لأنها التي يجازى عليها، بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم عليه نعمة دنيوية، وإنما كان له نعمة الهداية وهي نعمة لا يجازى عليها. قال الله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ

أَجْراً [الأنعام: الآية 90] فتعين حمل الآية على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فيلزم من ذلك أن يكون أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل الخلق، لأن الله تعالى يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: الآية 13] والأكرم هو الأفضل، وبين ذلك الفخر الرازي بأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما علي، فلا يمكن حمل الآية على عليّ لما تقدم، فتعين حملها على أبي بكر. وذكر بعض أهل المعاني: أي المبينين لمعاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش أن المراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي، فأوقع أفعل التفضيل موضع فعيل، فهو عام في أمية بن خلف وأبي بكر وغيرهما وإن كان السبب خاصا، والذي بخل واستغنى المراد به أبو سفيان، لأنه كان عاتب أبا بكر في إنعامه وإعتاقه وقال له أضعت مالك والله لا تصيبه أبدا، وقيل المراد به أمية بن خلف. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر اشترى بلالا قال له الشركة يا أبا بكر، فقال: قد أعتقته يا رسول الله: أي لأن بلالا قال لأبي بكر حين اشتراه: إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله عز وجل فدعني لله فأعتقه. هذا، وذكر «أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال لو كان عندنا مال اشتريت بلالا، فانطلق العباس رضي الله تعالى عنه فاشتراه فبعث به إلى أبي بكر: أي ملكه له فأعتقه» فليتأمل الجمع بين هذا وما تقدم. وقد اشترى أبو بكر رضي الله تعالى عنه جماعة آخرين ممن كان يعذب في الله، منهم حمامة أم بلال. ومنهم عامر بن فهيرة، فإنه كان يعذب في الله تعالى حتى لا يدري ما يقول، وكان لرجل من بني تيم من ذوي قرابة أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ومنهم أبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية، أسلم حين أسلم بلال، فمر به أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقد أخذه أمية أبو صفوان وأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء، فوضع على بطنه صخرة، فخرج لسانه وأخو أمية يقول له زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره فاشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه. ومنهم امرأة وهي زنيرة بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة، وهي في اللغة الحصاة الصغيرة، عذبت في الله تعالى حتى عميت، قال لها يوما أبو جهل: إن اللات والعزى فعلا بك ما ترين، فقالت له: كلا والله لا تملك اللات والعزى نفعا ولا ضرا، هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد عليّ بصري، فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله تعالى عليها بصرها، فقالت قريش: إن هذا من سحر محمد صلى الله عليه وسلم، فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها، أي وكذا ابنتها. وفي السيرة الشامية أم عنيس بالنون أو الباء الموحدة فمثناة تحتية فسين مهملة،

أمة لبني زهرة، كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها ولم يصفها بأنها بنت زنيرة، فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها. وكذا النهدية وابنتها، وكانتا للوليد بن المغيرة. وكذا امرأة يقال لها لطيفة. وكذا أخت عامر بن فهيرة أو أمه، كانت لعمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم. فقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يعذب جارية أسلمت استمر يضربها حتى ملّ قبل أن يسلم، ثم قال لها: إني أعتذر إليك فإني لم أتركك حتى مليت، فقالت له كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم، فاشتراها منه وأعتقها. وفي السيرة الشامية وصفها بأنها جارية بني المؤمل بن حبيب، وكان يقال لها لبينة، فجملة هؤلاء تسعة. وممن فتن عن دينه فثبت عليه خباب بن الأرتّ بالمثناة فوق، فإنه سبي في الجاهلية فاشترته أم أنمار أي وكان قينا أي حدادا، وكان صلى الله عليه وسلم يألفه ويأتيه، فلما أسلم وأخبرت بذلك مولاته صارت تأخذ الحديدة وقد أحمتها بالنار فتضعها على رأسه، فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم انصر خبابا، فاشتكت مولاته رأسها فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة وقد أحماها فيكوي رأسها» . وفي البخاري عن خباب قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة» ولقد لقينا يعني معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد صلى الله عليه وسلم محمرا وجهه، فقال: إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرن الله تعالى هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه» . قال: وعن خباب رضي الله تعالى عنه أنه حكى عن نفسه، قال: لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ظهري: أي دهنه. وممن فتن عن دينه فثبت عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، كان يعذب بالنار. وفي كلام ابن الجوزي «كان صلى الله عليه وسلم يمرّ به وهو يعذب بالنار فيمرّ يده على رأسه، ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم» هذا كلامه. ثم إن عمارا كشف عن ظهره فإذا هو قد برص، أي صار أثر النار أبيض

كالبرص، ولعل حصول ذلك كان قبل دعائه صلى الله عليه وسلم بأن النار تكون بردا وسلاما عليه. وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن عمار بن ياسر وأباه ياسرا وأخاه عبد الله، وسمية أم عمار رضي الله تعالى عنهم كانوا يعذبون في الله تعالى، فمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة» أي وفي رواية «صبرا يا آل ياسر، اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت» فمات ياسر في العذاب، وأعطيت سمية لأبي جهل: أي أعطاها له عمه أبو حذيفة بن المغيرة، فإنها كانت مولاته فطعنها في قلبها فماتت: أي بعد أن قال لها: إن آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا لأنك عشقتيه لجماله، ثم طعنها بالحربة في قبلها حتى قتلها، فهي أول شهيدة في الإسلام اهـ. أي وعن بعضهم كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه، ويجعل لعمار درعا من حديد في اليوم الصائف، فنزل قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) [العنكبوت: الآية 2] . وجاء «أن عمار بن ياسر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صبرا أبا اليقظان، ثم قال: اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار» . قال بعضهم: وحضر عمار بدرا ولم يحضرها من أبواه مؤمنان إلا هو: أي من المهاجرين. فلا ينافي أن بشر بن البراء بن معرور الأنصاري حضر بدرا وأبواه مؤمنان. ومما أوذي به أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: «لما ابتلي المسلمون بأذى المشركين: أي وحصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب، وأذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الثانية، خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد» بالغين المعجمة موضع بأقاصي هجر، وقيل موضع وراء مكة بخمسة أميال، أي وفي رواية «حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة- بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون- وهو سيد القارة: أي وهو اسمه الحارث» والقارة: قبيلة مشهورة كان يضرب بهم المثل في قوّة الرمي، ومن ثم قيل لهم: رماة الحدق لا سيما ابن الدغنة. والقارة: أكمة سوداء نزلوا عندها فسموا بها «قال له: أين تريد يا أبا بكر؟ قال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك، فرجع مع ابن الدغنة. فطاف ابن الدغنة في

أشراف قريش، وقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق وهو في جواري؟ فلم تكذب قريش بجواب ابن الدغنة» أي لم يردّ جواره «وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، فمكث أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، وكان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فكانت نساء قريش يزدحمن عليه، فأفزع ذلك كثيرا من أشراف قريش» أي مع المشركين «فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يبعد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن نساؤنا وأبناءنا بهذا، فإن أحب أن يقتصر على عبادة ربه في داره فعل، وإن رأى أن يعلن فاسأله أن يردّ إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك- أي نزيل خفارتك- أي ننقض جوارك ونبطل عهدك، فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي قد عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت: أي أزيلت خفارتي في رجل عقدت له، فقال له أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى، قال: ولما رد جوار ابن الدغنة لقيه بعض سفهاء قريش وهو عابر إلى الكعبة فحثى على رأسه ترابا، فمرّ عليه بعض كبراء قريش من المشركين، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ألا ترى ما صنع هذا السفيه؟ فقال له: أنت فعلت بنفسك، فصار أبو بكر يقول: رب ما أحلمك، قال ذلك ثلاثا انتهى» . أي وفي كلام بعضهم: وينبغي لك أن تتأمل فيما وصف به ابن الدغنة، أبا بكر بين أشراف قريش بتلك الأوصاف الجليلة المساوية لما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يطعنوا فيها مع ما هم متلبسون به من عظيم بغضه ومعاداته بسبب إسلامه، فإن هذا منهم اعتراف: أي اعتراف بأن أبا بكر كان مشهورا بينهم بتلك الأوصاف شهرة تامة، بحيث لا يمكن أحد أن ينازع فيها، ولا أن يجحد شيئا منها، وإلا لبادروا إلى جحدها بكل طريق أمكنهم، لما تحلوا به من قبيح العداوة له بسبب ما كانوا يرون منه من صدق موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته له. ومما يؤثر عنه رضي الله تعالى عنه: صنائع المعروف تقي مصارع السوء. ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي، والنكث، والمكر.

باب: عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون، وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات، وبعثهم إلى أحبار يهود بالمدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه و

باب: عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون، وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات، وبعثهم إلى أحبار يهود بالمدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به، وحديث الزبيدي، وحديث المستهزئين به صلى الله عليه وسلم، ومن حديثهم حديث الأراشي ومن قصد أذيته صلى الله عليه وسلم فردّ خائبا حدث محمد بن كعب القرظي قال: حدثت «أن عتبة بن ربيعة. وكان سيدا مطاعا في قريش- قال يوما وهو جالس في نادي قريش: أي متحدثهم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم وأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه إياها ويكف عنا؟ قالوا: يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. قال: وفي رواية «أن نفرا من قريش اجتمعوا» وفي أخرى «أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا وقالوا ابعثوا إلى محمد حتى تعذروا فيه، فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يريد؟ فقالوا لا نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة» انتهى. «فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب- أي من الوسط أي الخيار حسبا ونسبا- وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم» قال زاد بعضهم أنه قال أيضا: «أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أي فسكت، إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فقل يسمع لقولك، لقد أفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، ما تريد إلا أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى» انتهى «فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع، فقال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا» أي فيصير لك الأمر والنهي، فهو أخص مما قبله «وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب

التابع على الرجل، حتى يداوى، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال: لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال: فاسمع مني، قال أفعل، قال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) [فصلت: الآية 0- 4] ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقرأها عليه وقد أنصت عتبة لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) [فصّلت: الآية 13] فأمسك عتبة على فيه صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف عن ذلك، ثم انتهى إلى السجدة فيها فسجد. ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: يحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسخر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم» قال: وفي رواية «أن عتبة لما قام من عند النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عنهم ولم يعد عليهم، فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه كلامه فانطلقوا بنا إليه، فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبك أمره، فقص عليهم القصة، فقال: والله الذي نصبها بنية يعني الكعبة ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسكت بفيه فأنشدته الرحم أن يكف، وقد علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب، فقالوا له: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: والله ما سمعت مثله، والله ما هو بالشعر» إلى آخر ما تقدم «فقالوا: والله سحرك يا أبا الوليد، قال: هذا رأيي فيكم، فاصنعوا ما بدا لكم» اهـ. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا: أي أشرافهم وشيختهم، منهم الأسود بن زمعة، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل. وفي الينبوع «أتى الوليد بن المغيرة في أربعين رجلا من الملأ: أي من السادات منزل أبي طالب وسألوه أن يحضر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمره بأشكائهم ما يشكون منه» أي أن يزيل شكواهم منه «ويجيبهم إلى أمر فيه الألفة والإصلاح، فأحضره وقال: يا ابن أخي هؤلاء الملأ من قومك فأشكهم وتألفهم، فعاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم على تسفيه أحلامهم وأحلام آبائهم وعيب آلهتهم» الحديث: أي قالوا له «يا محمد إنا بعثنا

إليك لنكلمك، فإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعيبت الدين، وسببت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، ولم يبق أمر قبيح إلا أتيته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك ونشرفك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك» . وفي رواية «أنهم لما اجتمعوا ودعوه صلى الله عليه وسلم، فجاءهم مسرعا طمعا في هدايتهم حتى جلس إليهم وعرضوا عليه الأموال والشرف والملك، فقال صلى الله عليه وسلم: ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، وأن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم» . وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «دعت قريش النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون به أغنى رجل بمكة، ويزوّجوه ما أراد من النساء، ويكف عن شتم آلهتهم ولا يذكرها بسوء» فقد ذكر «أن عتبة بن ربيعة قال له: إن كان أنّ ما بك الباءة، فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرا، وقالوا له: ارجع إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك، وقالوا له: إن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة لك فيها صلاح، قال: وما هي؟ قال: تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ونعبد إلهك سنة، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبده خيرا مما نعبد كنت أخذت منه بحظك، وإن كان الذي نعبد خيرا مما تعبد كنا قد أخذنا منه بحظنا، فقال لهم: حتى أنظر ما يأتي من ربي، فجاء الوحي بقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) [النصر: الآية 1- 4] السورة» . وعن جعفر الصادق أن المشركين قالوا له: اعبد معنا آلهتنا يوما نعبد معك إلهك عشرة، واعبد معنا آلهتنا شهرا نعبد معك إلهك سنة، فنزلت» أي لا أعبد ما تعبدون يوما، ولا أنتم عابدون ما أعبد عشرة، ولا أنا عابد ما عبدتم شهرا ولا أنتم عابدون ما أعبد سنة، روى ذلك التقدير جعفر ردا على بعض الزنادقة حيث قالوا له طعنا في القرآن: لو قال امرؤ القيس: قفا نبك من ذكر حبيب ومنزل وكرر ذلك أربع مرات في نسق أما كان عيبا؟ فكيف وقع في القرآن قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [الكافرون: الآية 1] السورة وهي مثل ذلك وقوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ

(6) [الكافرون: الآية 6] نسخ بآية القتال، وبقوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزّمر: الآية 64] بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) [الزمر: الآية 66] . ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل لما كرهتموه القرآن، قالوا ائت بقرآن غير هذا، فأنزل الله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا [الحاقّة: الآية 44] الآيات. وقد يقال: المناسب للرد عليهم قوله تعالى قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي [يونس: الآية 15] الآية، ثم رأيت في الكشاف ما يوافق ذلك. وهو لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأصنام والوعيد الشديد قالوا ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك، أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها، نزل قوله تعالى قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ [يونس: الآية 15] الآية. قال «وجلس أي صلى الله عليه وسلم مجلسا فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل بن هشام وعتبة بني ربيعة، أي وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة، فقال لهم: أليس حسنا ما جئت به؟ فيقولون بلى والله» وفي لفظ «هل ترون بما أقول بأسا؟ فيقولون لا، فجاء عبد الله ابن أم مكتوم- وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين، وهو ممن أسلم بمكة قديما- والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بأولئك القوم وقد رأى منهم مؤانسة وطمع في إسلامهم، فصار يقول: يا رسول الله علمني مما علمك الله وأكثر عليه، فشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك، فأعرض عن ابن أم مكتوم ولم يكلمه» انتهى. أي وفي رواية «أشار صلى الله عليه وسلم إلى قائد ابن أم مكتوم بأن يكفه عنه حتى يفرغ من كلامه، فكفه القائد، فدفعه ابن أم مكتوم، فعبس صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه مقبلا على من كان يكلمه، فعاتبه الله تعالى في ذلك بقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ [عبس: الآية 1- 3] السورة» أي والمجيء مع العمى ينشأ عن مزيد الرغبة وتجشم الكلفة والمشقة في المجيء، ومن كان هذا شأنه فحقه الإقبال عليه لا الإعراض عنه «فكان بعد ذلك إذا جاءه يقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويبسط له رداءه» قال: وبهذا يسقط ما للقاضي أبي بكر بن العربي هنا انتهى. أقول: لعل الذي له هو ما ذكره تلميذه السهيلي، وهو أن ابن أم مكتوم لم يكن أسلم حينئذ، وإلا لم يسمه بالاسم المشتق من العمى دون الاسم المشتق من الإيمان لو كان دخل في الإيمان قبل ذلك، وإنما دخل فيه بعد نزول الآية، ويدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم استدنني يا محمد، ولم يقل استدنني يا رسول الله، ولعل في قوله تعالى: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: الآية 3] ، ما يعطى الترجي والانتظار، ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والانتظار للتزكي، هذا كلامه. وعن الشعبي قال: دخل رجل على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها ابن أم مكتوم وهي تقطع له الأترج وتجعله في العسل وتطعمه، فقيل لها في ذلك، فقالت:

ما زال هذا له من آل محمد منذ عاتب الله عز وجل فيه نبيه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وفي فتاوى الجلال السيوطي من جملة أسئلة رفعت إليه، فأجاب عنها بأنها باطلة: أن أبا جهل قال: يا محمد إن أخرجت لنا طاوسا من صخرة في داري آمنت بك، فدعا ربه عز وجل فصارت الصخرة تئن كأنين المرأة الحبلى ثم انشقت عن طاوس صدره من ذهب ورأسه من زبرجد، وجناحاه من ياقوتة، ورجلاه من جوهر، فلما رأى ذلك أبو جهل أعرض ولم يؤمن. ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات غير المعينات على ما رواه الشيخان أو معينة كما في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وسيأتي ما يعلم منه أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم أولا آية غير معينة ثم عينوها فلا مخالفة. فقد ذكر ابن عباس أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية: أي وفي رواية عن ابن عباس «اجتمع المشركون أي بمنى، منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، نصفا على أبي قبيس، ونصفا على قعيقعان، وقيل يكون نصفه بالمشرق ونصفه الآخر بالمغرب، وكانت ليلة أربعة عشر: أي ليلة البدر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا نعم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما سألوا، فانشق القمر نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان» وفي لفظ «فانشق القمر فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه» ولعل الفرقة التي كانت فوق الجبل كانت جهة المشرق، والتي كانت دون الجبل كانت في جهة المغرب» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا اشهدوا» ولا منافاة بين الروايتين، ولا بينهما وبين ما جاء في رواية «فانشق القمر نصفين: نصفا على الصفا، ونصفا على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظر إليه ثم غاب» أي ثم إن كان الانشقاق قبل الفجر فواضح وإلا فمعجزة أخرى، لأن القمر ليلة أربعة عشر يستمر جميع الليل، وسيأتي عن زين العمر «أنه عاد بعد غروبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشهدوا» والفرقتان هما المرادتان بالمرتين في بعض الروايات التي أخذ بظاهرها بعضهم كالزين العراقي «فقال إنه انشق مرتين» لأن المرة قد تستعمل في الأعيان وإن كان أصل وضعها الأفعال. فقد قال ابن القيم: كون القمر انشق مرتين مرة بعد مرة في زمانين من له خبرة بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته يعلم أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة «وعند ذلك قال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة» أي وهو أبو كبشة أحد أجداده صلى الله عليه وسلم من قبل أمه، لأن وهب بن عبد مناف بن زهرة جد أبي آمنة أمه يكنى أبا كبشة، أو هو من قبل مرضعته حليمة، لأن والدها أو جدها كان يكنى بذلك، أو كان لها بنت

تسمى كبشة فكان زوجها الذي هو أبوه من الرضاعة يكنى بتلك البنت كما تقدم في الرضاع. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم فقال: «حدثني حاضني أبو كبشة أنهم لما أرادوا دفن سلول وكان سيدا عظيما حفروا له فوقعوا على باب مغلق ففتحوه، فإذا سرير وعليه رجل وعليه حلل عدة وعند رأسه كتاب: أنا أبو شهر ذو النون مأوى المساكين، ومستفاد الغارمين، أخذني الموت غصبا، وقد أعيي الجبابرة» قيل: قال صلى الله عليه وسلم «كان ذو النون هذا هو سيف بن ذي يزن الحميري» وقيل أبو كبشة جده صلى الله عليه وسلم لأبيه، لأن أبا أم جده عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة، وكان يعبد النجم الذي يقال له الشعرى، وترك عبادة الأصنام مخالفة لقريش، فهم يشيرون بذلك إلى أن له في مخالفته سلفا. وقيل الذي عبد الشعرى وترك عبادة الأصنام رجل من خزاعة، فشبهوه صلى الله عليه وسلم به في مخالفته لهم في عبادة الأصنام: أي ومما قد يؤيد هذا الأخير ما في الإتقان حيث مثل بهذه الآية للنوع المسمى بالتنكيت، وهو أن يخص المتكلم شيئا من بين الأشياء بالذكر لأجل نكتة كقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) [النّجم: الآية 49] خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء، لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة، عبد الشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها، فأنزل الله تعالى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) [النّجم: الآية 49] التي ادعيت فيها الربوبية هذا كلامه. وكبشة ليس مؤنث كبش، لأن مؤنث الكبش ليس من لفظه، فقال رجل منهم: إن محمدا إن كان سحر القمر أي بالنسبة إليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها: أي جميع أهل الأرض. وفي رواية «لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر، هل رأوا هذا؟ فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك» . وفي رواية «أن أبا جهل قال هذا سحر، فاسألوا أهل الآفاق» وفي لفظ «انظروا ما يأتيكم به السفار حتى تنظروا هل رأوا ذلك أم لا، فأخبروا أهل الآفاق» وفي لفظ «فجاء السفار وقد قدموا من كل وجه فأخبروهم أنهم رأوه منشقا، فعند ذلك قالوا هذا سحر مستمر» أي مطرد، فهو إشارة إلى ذلك وإلى ما قبله من الآيات. وفي لفظ «قالوا هذا سحر، أسحر السحرة، فأنزل الله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) [القمر: الآية 1- 2] أي مطرد كما تقدم، أو محكم أو قوي شديد، أو مارّ ذاهب لا يبقى، وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقا أهل مكة، بل جميع أهل الآفاق. وبه يرد قول بعض الملاحدة: لو وقع انشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص بها أهل مكة. ولا يحسن الجواب عنه بأنه طلبه جماعة خاصة، فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه، ولا بأنه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض، ولا

بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام. وفي فتح الباري حنين الجذع وانشقاق القمر، نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث. أقول: وإلى انشقاق القمر أشار صاحب الهمزية بقوله: شق عن صدره وشق له البد ... ر ومن شرط كل شرط جزاء أي شق عن صدره صلى الله عليه وسلم. وفي نسخة قلبه وكل منهما صحيح، لأنه شق صدره أولا ثم شق قلبه ثانيا، وشق لأجله القمر ليلة أربعة عشر، وإنما شق له صلى الله عليه وسلم، لأن من شرط كل شرط جزاء، لأنه لما شق صدره صلى الله عليه وسلم جوزي على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة، وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن، وقد أشار إلى ذلك أيضا الإمام السبكي في تائيته بقوله: وبدر الدياجي انشق نصفين عندما ... أرادت قريش منك إظهار آية أي فإنهم ائتمروا فيما بينهم، فاتفقوا على أن يقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم انشقاق القمر الذي هو بعيد عن الأطماع في غاية الامتناع: أي فقد سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها. وفي الإصابة عن بعضهم قال: «وأنا ابن تسع عشرة سنة سافرت مع أبي وعمي من خراسان إلى الهند في تجارة، فلما بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى ضيعة من الضياع، فعرج أهل القافلة نحوها فسألناهم عن ذلك، فقالوا هذه ضيعة الشيخ زين الدين المعمر، فرأينا شجرة خارج الضيعة تظل خلقا كثيرا وتحتها جميع عظيم من أهل تلك الضيعة، فلما رأونا رحبوا بنا، فرأينا زنبيلا معلقا في بعض أغصان تلك الشجرة، فسألناهم فقالوا في هذا الزنبيل الشيخ زين الدين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بطول العمر ست مرات، فبلغ ستمائة سنة كل دعوة بمائة سنة، فسألناهم أن ينزلوا الشيخ لنسمع كلامه وحديثه، فتقدم شيخ منهم فأنزل الزنبيل، فإذا هو مملوء بالقطن والشيخ في وسط القطن وهو كالفرخ فوضع فمه على أذنه وقال: يا جداه هؤلاء قوم قد قدموا من خراسان وقد سألوا أن تحدثهم كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا قال لك؟ فعند ذلك تنفس الشيخ وتكلم بصوت كصوت النحل بالفارسية ونحن نسمع، فقال: سافرت مع أبي وأنا شاب من هذه البلاد إلى الحجاز في تجارة، فلما بلغنا بعض أودية مكة وكان المطر قد ملأ الأودية فرأيت غلاما حسن الشمائل يرعى إبلا في تلك الأودية وقد حالت السيل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض الماء لقوة السيل، فعلمت حاله، فأتيت إليه وحملته وخضت به السيل إلى عند إبله من غير

معرفة سابقة، فلما وضعته عند إبله نظر إليّ ودعا لي، ثم عدنا إلى بلادنا وتطاولت المدة، ففي ليلة ونحن جلوس في ضيعتنا هذه في ليلة مقمرة ليلة البدر والبدر في كبد السماء، إذ نظرنا إليه قد انشق نصفين، فغرب نصف في المشرق ونصف في المغرب وأظلم الليل ساعة، ثم طلع النصف من المشرق والثاني من المغرب إلى أن التقيا في وسط السماء كما كان أول مرة، فتعجبنا من ذلك غاية العجب، ولم نعرف لذلك سببا، فسألنا الركبان عن سببه فأخبرونا أن رجلا هاشميا ظهر بمكة وادعى أنه رسول الله إلى كافة العالم وأن أهل مكة سألوه معجزة، واقترحوا عليه أن يأمر لهم القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه في المشرق ونصفه في المغرب، ثم يعود إلى ما كان عليه، ففعل لهم ذلك، فاشتقت إلى رؤياه، فذهبت إلى مكة وسألت عنه فدلوني على موضعه، وأتيت إلى منزله، واستأذنت فأذن لي في الدخول فدخلت عليه، فلما سلمت عليه نظر إليّ وتبسم وقال: ادن مني وبين يديه طبق فيه رطب، فتقدمت وجلست وأكلت من الرطب، وصار يناولني، إلى أن ناولني ست رطبات، ثم نظر إليّ وتبسم وقال لي: ألم تعرفني؟ قلت لا، فقال: ألم تحملني في عام كذا في السيل؟ ثم قال: أمدد يدك فصافحني وقال: قل أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقلت ذلك، فسرّ أي وقال عند خروجي من عنده بارك الله في عمرك، قال ذلك ست مرات، فبارك الله لي في عمري بكل دعوة مائة سنة، فعمري اليوم ستمائة سنة: أي في المائدة السادسة مشرف على تمامها تأمل. وسئل الحافظ السيوطي عن مثل هذا الحديث، وهو الحديث الذي رواه معمر، الذي يزعم أنه صحابي، وأنه يوم الخندق صار ينقل التراب بغلقين: وبقية الصحابة بغلق واحد، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفه الشريف بين كتفيه أربع ضربات، وقال له: عمرك الله يا معمر، فعاش بعد ذلك أربعمائة سنة ببركة الضربات التي ضربها بين كتفيه كل ضربة مائة سنة، وقال له بعد أن صافحه: من صافحك إلى ست أو سبع لم تسمه النار، هل هو صحيح أم هو كذب وافتراء لا تجوز روايته؟ فأجاب بأنه باطل وأن معمرا هذا كذاب دجال، لأنه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهر «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» وقد قال أهل الحديث وغيرهم: إن من ادعى الصحبة بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فهو كذاب، ومعلوم أن آخر الصحابة مطلقا موتا أبو الطفيل، مات سنة عشرة ومائة من الهجرة ثبت ذلك في صحيح مسلم» واتفق عليه العلماء، فمن ادعى الصحبة بعد أبي الطفيل فهو كذاب. ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات المعينات ما حدث به بعضهم، قال: «إن قريشا قالت له صلى الله عليه وسلم: سل ربك يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا

بلادنا، وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن بعث لنا قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل. قال: زاد في رواية: فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بهذا بعثت لكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به» اهـ. ثم قالوا له: «واسأل ربك يبعث معك ملكا يصدقك فيما تقول ويراجعنا عنك» أي وفي لفظ «قالوا له لم لا ينزل علينا الملائكة، فتخبرنا بأن الله أرسلك أو نرى ربنا فيخبرنا بأنه أرسلك فنؤمن حينئذ بك. وقال آخر: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه» أي فلا بد أن تتميز عنا حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا: أي وفي لفظ «قالوا إن محمدا يأكل الطعام كما نحن نأكل، ويمشي في الأسواق، ويلتمس المعاش كما نلتمس نحن، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وأنزل الله تعالى وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: الآية 7] ولما قالوا الله أعظم أن يكون رسوله بشرا منا أنزل الله تعالى أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس: الآية 2] ثم قالوا: وأسقط السماء علينا كسفا: أي قطعا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، وقد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبدا: أي وقد عنوا بالرحمن مسيلمة، وقيل عنوا كاهنا كان لليهود باليمامة، وقد رد الله تعالى عليهم بأن الرحمن المعلم له هو الله تعالى بقوله قُلْ هُوَ [البقرة: الآية 222] أي الرحمن رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرّعد: الآية 30] أي توبتي ورجوعي وعند ذلك قام صلى الله عليه وسلم حزينا آسفا على ما فاته من هدايتهم التي طمع فيها، وقال له عبد الله ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه: يا محمد قد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل، ثم سألوك أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، والله لن نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك: أي كتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول، وايم الله إنك لو فعلت ذلك، ما ظننت أني أصدقك، فأنزل الله تعالى عليه الآيات التي فيها شرح هذه المقالات في سورة الإسراء، وفيها الإشارة إلى أنه تعالى خيره بين أن يعطيه جميع ما سألوا، وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة، وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه راجعون، فاختار الثاني، لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم من كثير منهم العناد، وأنهم لا يؤمنون، وإن حصل ما سألوا فيستأصلوا بالعذاب،

لأن الله تعالى يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: الآية 25] . وعن محمد بن كعب ما حاصله «أن الملأ من قريش أقسموا للنبي صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهبا، فقام يدعو الله تعالى أن يعطيهم ما سألوه فأتاه جبريل: فقال له: إن شئت كان ذلك ولكني لم آت قوما بآية اقترحوها فلم يؤمنوا بها إلا أمرت بتعذيبهم» وفيه أنه حينئذ يشكل رواية سؤالهم انشقاق القمر. وفي رواية «أتاه جبريل، فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن شئت أن يصبح لهم الصفا ذهبا، فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب، عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت أن لا تصير ذهبا وفتحت لهم باب الرحمة والتوبة، فقال: لا، بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة» . وفي رواية «وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلى الله عليه وسلم، بل حتى يتوب تائبهم» . وأيضا وافق على فتح باب الرحمة والتوبة، لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن سؤالهم لذلك جهل، لأنه خفيت عليهم حكمة إرسال الرسل، وهي امتحان الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل، ليكون إيمانهم عن نظر واستدلال، فيحصل الثواب لمن فعل ذلك، ويحصل العقاب لمن أعرض عنه، إذ مع كشف الغطاء يحصل العلم الضروري، فلا يحتاج إلى إرسال الرسل، ويفوت الإيمان بالغيب. وأيضا لم يسألوا ما سألوا من تلك الآيات إلا تعنتا واستهزاء، لا على جهة الاسترشاد ودفع الشك، وإلى سؤالهم تلك الآيات وارتيابهم في القرآن، وقولهم فيه إنه سحر وافتراء: أي سحر يأثره: أي يأخذه عن مثله وعن أهل بابل، يفرّق به بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) [المدثر: الآية 25] من قول أبي اليسر، وهو عبد لبني الحضرمي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجالسه وإلى قول أبي جهل أيضا: تزاحمنا نحن وبنو عبد المطلب الشرف، حتى صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزل قوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام: الآية 124] وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله: عجبا للكفار زادوا ضلالا ... بالذي فيه للعقول اهتداء والذي يسألون منه كتاب ... منزل قد أتاهم وارتقاء أي أعجب عجبا من حال الكفار حالة كونهم زادوا ضلالا بالقرآن الذي فيه اهتداء للعقول، وأعجب عجبا أيضا من الأمر الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم، وهو كثير من جملته كتاب منزل معه عليهم من السماء وهو القرآن:

أو لم يكفهم من الله ذكر ... فيه للناس رحمة وشفاء أعجز الإنس آية منه والجن ... فهلا يأتي به البلغاء كل يوم يهدي إلى سامعيه ... معجزات من لفظه القراء تتحلى به المسامع والأف ... واه فهو الحلي والحلواء رقّ لفظا وراق معنى فجاءت ... في حلاها وحليها الخنساء وأرتنا فيه غوامض فضل ... رقة من زلاله وصفاء إنما تجتلي الوجوه إذا ما ... جليت عن مرآتها الأصداء سور منه أشبهت صورا من ... اومثل النظائر النظراء والأقاويل عندهم كالتماث ... يل فلا يوهمنك الخطباء كم أبانت آياته عن علوم ... من حروف أبان عنها الهجاء فهي كالحب والنوى أعجب الزرا ... ع منها سنابل وزكاء فأطالوا فيه التردد والري ... ب فقالوا سحر وقالوا افتراء وإذا البينات لم تغن شيئا ... فالتماس الهدى بهن عناء وإذا ضلت العقول على عل ... م فماذا تقوله الفصحاء أي أو لم يكفهم عما سألوه عنادا ذكر واصل إليهم، حالة كونه من الله تعالى رحمة وشفاء للناس والجن والملائكة، أعجز الإنس والجن آية منه، فهلا يأتي بتلك الآية أهل البلاغة، كل وقت يهدي قراؤه إلى سامعيه معجزات من لفظه، ولذلك تتحلى بسماعه المسامع، من التحلية التي هي لبس الحلي، وتتحلى بألفاظه الأفواه من الحلواء فهو الحلي، والحلواء حسن من جهة اللفظ، وتصفى من شوائب النقص من جهة المعنى، فأرتنا رقة من زلاله، وصفاء من ذلك الزلال، خبايا فضل فيه وهي العلوم المستنبطة منه، وإنما تظهر الوجوه ظهورا واضحا لإخفاء معه بوجه إذا قوبلت بمرآه، وقت جلاء الأصداء عن تلك المرآة سور منه أشبهت صورا منا، من حيث اشتمال كل صورة منا على عقل وفهم، وخلق لا يشاركه فيه غيره، والأقاويل الصادرة من الكفار في القرآن كالصور التي يصورها المصورون فإنه لا وجود لها في الحقيقة؛ فما قالوه في القرآن باطل قطعي البطلان، فاحذر الخطباء أن توقع في وهمك أن ما تأتي به يقارب القرآن، كم أوضحت آياته علوما حالة كونها متولدة من حروف قليلة كشف عنها التهجي، كالحب الذي يلقيه الزارع، والنوى الذي يلقيه الغارس، أعجب الزراع والغراس منها: أي من تلك الحبوب والنوى سنابل وثمار

ونمو فاق الحصر، فأطالوا في تلك السور الشك فقالوا سحر وتمويه لا حقيقة له، وقالوا مرة أخرى أساطير الأولين، وإذا كانت الحجج والبراهين لم تفدهم شيئا من الهدى، فطلب الهدى منهم بتلك الحجج تعب لا يفيد شيئا، وإذا ضلت العقول عن طرق الحق مع علم منها بتلك الطرق فأي قول يقوله الفصحاء: أي وقال الوليد بن المغيرة يوما: أينزل القرآن على محمد، وأترك أنا وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود الثقفي سيد ثقيف ونحن عظماء القريتين: أي مكة والطائف؟ فأنزل الله تعالى وَقالُوا لَوْلا [الأنعام: الآية 8] أي هلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) [الزخرف: الآية 31] أي أعظم وأشرف من محمد صلى الله عليه وسلم، فرد الله تعالى عليهم بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزّخرف: الآية 32] الآية. وفي لفظ قال بعضهم: «كان الأحق بالرسالة الوليد بن المغيرة من أهل مكة أو عروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف» . ثم لا يخفى أن كفار قريش بعثوا مع النضر بن الحارث عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما: أسألهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول: أي التوراة، لأنه قبل الإنجيل وعندهم علم ليس عندنا، فخرجا، حتى قدما المدينة وسألا أحبار يهود: أي قالا لهم: أتيناكم لأمر حدث فينا، منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما، يزعم أنه رسول الله. وفي لفظ «رسول الرحمن، قالوا صفوا لنا صفته، فوصفوا، قالوا فمن يتبعه منكم؟ قالوا سفلتنا، فضحك حبر منهم وقالوا: هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة. قالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول: أي وهم أهل الكهف ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها: أي وهو ذو القرنين ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك: أي بحقيقة الأولين وبعارض من عوارض الثالث، وهو كونها من أمر الله فاتبعوه فإنه نبي، فرجع النضر وعقبة إلى قريش وقالا لهم: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وأخبراهم الخبر، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: أخبركم غدا، ولم يستثن: أي لم يقل إن شاء الله تعالى وانصرفوا، فمكث صلى الله عليه وسلم خمسة عشرة يوما، وقيل ثلاثة أيام، وقيل أربعة أيام لا يأتيه الوحي، وتكلمت قريش في ذلك بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن محمدا قلاه ربه وتركه: أي ومن جملة من قال ذلك له صلى الله عليه وسلم أم جميل امرأة عمه أبي لهب، قالت له: ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك: أي تركك وبغضك. وفي رواية قالت: امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانه، وشقّ عليه صلى الله عليه وسلم ذلك منهم. ثم جاءه

جبريل بسورة الكهف وفيها خبر الفتية الذين ذهبوا وهم أهل الكهف» . ويروى «أنهم يكونون مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إذا نزل، ويحجون البيت. وخبر الرجل الطواف وهو ذو القرنين: أي وهو إسكندر ذو القرنين كان له قرنان صغيران من لحم تواريهما العمامة» . وفي لفظ: كان له شبه القرنين في رأسه، وقيل غديرتان من شعر، وقيل لأنه قرن ما بين طلوع الشمس ومغربها: أي بلغ قطري المشرق والمغرب، وقيل ضرب على قرن رأسه فمات ثم أحيي، ثم ضرب على قرنه الآخر فمات ثم أحيي. وقيل لأنه ملك الروم وفارس، وقيل لأنه انقرض في زمنه قرنان من الناس، والقرن زمان مائة سنة، وكان ذو القرنين رجلا صالحا من أهل مصر من ولد يونن. وفي لفظ يونان بن يافث بن نوح، وكان من الملوك العادلة، وكان الخضر صاحب لوائه الأكبر. وقيل كان نبيا قاله الضحاك. وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل بالجواب عن الروح المذكور ذلك في سورة الإسراء، وهو أن الروح من أمر الله: أي قل لهم الروح من أمر ربي: أي من علمه لا يعلمه إلا هو: أي وكان في كتبهم أن الروح من أمر الله: أي مما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، ومن ثم جاء في بعض الروايات ما تقدم «إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي، وإلا بأن أجابكم عنها بأنها من أمر الله فهو نبي» ولعل هذا هو المراد كما جاء في بعض الروايات «سلوه عن الروح، فإن أخبركم به فليس بنبي، وإن لم يخبركم فهو نبي» . أقول: إذا كان في كتبهم أن حقيقة الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه كيف يسألونه فيخبرهم بذلك؟ إلا أن يقال: المراد إن أجابكم بغير قوله من أمر ربي فاعلموا أنه غير نبي، فإنه يحاول أن يخبركم عن حقيقتها، وحقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى. ويوافقه ما في مأثور التفسير «من أمر ربي» من علم ربي لا علم لي به. وفي بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم، فإن قال لكم من الله تعالى، فقولوا له كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه» . وحاصل الجواب الذي أشارت إليه الآية أن الروح أمر بمعنى مأمور: أي مأمور من مأموراته، وخلق من خلقه، لا أنها جزء منه، والله أعلم: أي وهذا يدل على أن المسؤول عنه روح الإنسان التي هي سبب في إفادة الحياة للجسد. وفي كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أن الروح روحان: حيواني، وهي التي

تسميه الأطباء المزاج، وهو جسم لطيف بخاريّ معتدل، سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة والقوى الجسمانية، وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت. وروح روحاني وهي التي يقال لها النفس الناطقة، ويقال لها اللطيفة الربانية، ويقال لها العقل، ويقال لها الروح ويقال لها القلب، من الألفاظ الدالة على معنى واحد، لها تعلق بقوى النفس الحيواني، وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن، وتبقى بعد الموت، هذا كلامه. وفي كلام بعضهم: والروح عند أكثر أهل السنة جسم لطيف، مغاير للأجسام ماهية وهيئة، متصرف في البدن، حالّ فيه حلول الدهن في الزيتون يعبر عنه بأنا وأنت. وإذا فارق البدن مات. وذهب جمع منهم الغزالي والإمام الرازي وفاقا للحكماء والصوفية إلى أنه جوهر مجرّد غير حالّ بالبدن، يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق، يدبر أمره على وجه لا يعلمه إلا الله اهـ. ورأيت في كلام الشيخ الأكبر أن الإمام ركن الدين السمرقندي لما فتح المسلمون بلاد الهند، خرج بعض علمائها ليناظر المسلمين، فسأل عن العلماء، فأشاروا إلى الإمام ركن الدين السمرقندي، فقال له الهندي: ما تعبدون؟ قالوا: نعبد الله بالغيب، قال: ما أنبأكم؟ قالوا: محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فما الذي قال في الروح؟ قال: هو من أمر ربي، فقال صدقتم فأسلم، وليس المراد بالروح خلق من الملائكة على صورة بني آدم، أو ملك عظيم عرض شحمة أذنه خمسمائة عام إلى غير ذلك مما قيل. قال بعضهم: قلت كذا في هذه الرواية أنهم سألوه: أي مشركو مكة عن الروح. وحديث ابن مسعود يدل على أن السؤال عن الروح ونزول الآية كان بالمدينة: أي من اليهود، هذا كلامه. وفيه أنه سيأتي جواز تكرار السؤال وتكرر نزول الآية إلى آخر ما يأتي، وبه يعلم ما في الإتقان حيث تعقب قول بعضهم: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سألوه عن الروح وعن ذي القرنين بقوله: قلت: السائل عن الروح وذي القرنين مشركو مكة أو اليهود كما في أسباب النزول لا الصحابة. وفي الإتقان: قد يعدل عن الجواب أصلا إذا كان السائل قصده التعنت نحو وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: الآية 85] قال صاحب الإفصاح: إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليطا إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة، فقصد اليهود أن يسألوه صلى الله عليه وسلم، فبأيّ مسمى أجابهم؟ قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا. وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم، وفي سورة الكهف أيضا آية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ

يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الكهف: الآية 23] أي إذا أردت أن تقول سأفعل شيئا فيما يستقبل من الزمان تقول إن شاء الله، فإن نسيت التعليق بذلك ثم تذكرت تأتي بها، فذكرها بعد النسيان كذكرها بعد القول. قال جمع منهم الحسن: ما دام في المجلس: أي وظاهره وإن طال الفصل. وفي الخصائص الكبرى أن هذا: أي الإتيان بالمشيئة بعد التذكر من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منا أن يستثني: أي يأتي بالمشيئة إلا في صلة يمينه. أقول: كان ينبغي أن يقول في صلة إخباره، لأن مساق الآية في الإخبار لا في الحلف. فإن قيل: هي عامة في الخبر والحلف. قلنا كان ينبغي أن يقول حينئذ في صلة كلامه وحينئذ يقتضي كلامه أن نشاركه في الخبر دون الحلف والله أعلم. ثم لا يخفى أنه قيل سبب احتباس الوحي أنه لم يقل إن شاء الله تعالى وهو المشهور، وقيل لأنه كان في بيته كلب. وفي لفظ: كان تحت سريره جرو ميت، فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم لما عاتب جبريل في احتباسه، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب: أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال لخادمته خولة: يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني، قالت: فقلت في نفسي: لو كنست البيت، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو ميتا» . أقول: قال ابن كثير: قد ثبت في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعه من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب» وقد أورد بعض الزنادقة سؤالا، وهو إذا كانت الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة: أي صورة التماثيل التي فيها الأرواح، يلزم أن لا يموت من عنده كلب أو صورة، وأن لا يكتب عمله. وأجيب عنه بأن المراد لا تدخل ذلك البيت دخول إكرام لصاحبه وتحصيل بركة، فلا ينافي دخولهم لكتابة الأعمال وقبض الأرواح، والله أعلم. وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم زجر سائلا ملحا، وقد كان قبل ذلك يرد السائل بقوله: «آتاكم الله من فضله» أي وربما سكت، فقد روى الشيخان «ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا» قال الحافظ ابن حجر: المراد بذلك أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده شيء أعطاه وإلا سكت، وهذا هو المراد بما جاء أنه صلى الله عليه وسلم ما ردّ سائلا قط: أي ما شافهه بالرد. وقد حكى بعضهم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله استغفر لي، فسكت، فقلت: يا رسول الله إن ابن عيينة حدثنا عن جابر أنك ما سئلت شيئا

قط فقلت لا، فتبسم صلى الله عليه وسلم واستغفر لي، أي فكان يأتي بالأول حيث لا يكون المقام يقتضي الاقتصار على السكوت، ولعل هذا في غير رمضان. فلا يخالف ما رواه البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل» وبين الشيخ ابن الجوزي في النشر سبب إلحاح هذا السائل، فقال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه قطف عنب قبل أوانه، فهمّ أن يأكل منه، فجاءه سائل فقال: أطعموني مما رزقكم الله، فسلم إليه ذلك القطف، فلقيه بعض الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه إياه، فلقيه رجل آخر من الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد السائل فسأله فانتهره وقال: إنك ملحّ» قال: وهذا سياق غريب جدا، وهو معضل. وقيل سبب ذلك غير ذلك، من ذلك الغير «أن جبريل عليه السلام لما قال له صلى الله عليه وسلم: ما حبسك عني؟ قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم، ولا تأخذون شعوركم، ولا تستاكون» . أقول: واختلاف هذه الأسباب ظاهر في أن الواقعة متعددة. ولا ينافيه قوله: ونزلت: أي آية سورة الضحى ردا عليهم في قولهم إن محمدا قلاه ربه وتركه، وهي ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضّحى: الآية 3] أي ما قطعك قطع المودع، وما أبغضك، لأنه يجوز أن يكون مما تكرر نزوله لاختلاف سببه. ويمكن أن يقال: يجوز أن تكون الواقعة واحدة وتعددت أسبابها. ولا ينافيه إخبار جبريل عليه السلام تارة بأن سبب احتباسه عدم قص الأظفار وما ذكر معه، وتارة بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، وتارة بقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: الآية 64] كما يأتي قريبا، وكما سيأتي في قصة الإفك، لكن قال الحافظ ابن حجر: قصة إبطال جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية أي ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضّحى: الآية 3] غريب فالمعتمد ما في الصحيح هذا كلامه. أقول: ومما يدل على أن واقعة الجرو كانت بالمدينة ما في بعض التفاسير أن هذا الجرو كان للحسن والحسين رضي الله عنهما، وما رواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه، فجاء تلك الساعة ولم يأته فيها، قالت: وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول: ما يخلف الله وعده ولا رسله، ثم التفت فإذا كلب تحت السرير، فقال: متى دخل هذا الكلب؟ فقلت: والله ما دريت به، فأمر به فأخرج، فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعدتني فجلست لك ولم تأت؟ فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة» .

وفي زيادة الجامع الصغير «أتاني جبريل فقال لي: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فأمر صلى الله عليه وسلم برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، وأمر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن، وأمر بالكلب فأخرج» ومعلوم أن مجيء جبريل له صلى الله عليه وسلم إكرام وتشريف له صلى الله عليه وسلم، فلا ينافي ما تقدم فليتأمل. ولما نزلت السورة المذكورة كبر صلى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي، واستمر صلى الله عليه وسلم لا يجاهر قومه بالدعوة حتى نزل وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) [الضّحى: الآية 11] فعند ذلك كبر صلى الله عليه وسلم أيضا، وكان ذلك سببا للتكبير في افتتاح السورة التي بعدها وفي ختمها إلى آخر القرآن. وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه «أنه قرأ كذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمره له بذلك، وأنه كان كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال: الله أكبر» . هذا، وقيل ابتداء التكبير من أول ألم نشرح لا من أول والضحى. وقيل إن التكبير إنما هو لآخر السورة، وابتداؤه من آخر سورة الضحى إلى آخر قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) [النّاس: الآية 1] والإتيان بالتكبير في الأول والآخر جمع بين الروايتين والرواية التي جاءت بأنه كبر في أول السورة المذكورة والرواية الأخرى أنه كبر في آخرها. ومما يدل على أن التكبير أول سورة الضحى، ما جاء عن عكرمة بن سليمان قال: «قرأت على إسمعيل بن عبد ربه، فلما بلغت الضحى قال: كبر، فإني قرأت على عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة، فلما بلغت وَالضُّحى (1) [الضّحى: الآية 1] قال لي: كبر حتى تختم. وأخبرني ابن كثير أنه قرأ على مجاهد، فأمره بذلك، وأخبره أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيّ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك» قال بعضهم: حديث غريب. ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال لآخر: إذا تركت التكبير: أي من الضحى إلى الحمد في الصلاة وخارجها فقد تركت سنة من سنن نبيك صلى الله عليه وسلم، لكن في كلام الحافظ ابن كثير: ولم يرد ذلك أي التكبير عند نزول سورة الضحى بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. وقد ذكر الشيخ أبو المواهب الشاذلي رضي الله تعالى عنه عن شيخه أبي عثمان أنه قال: إنما نزلت سورة أَلَمْ نَشْرَحْ [الشّرح: الآية 1] عقب قوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) [الضّحى: الآية 11] إشارة إلى أن من حدث بنعمة الله فقد شرح الله صدره قال: كأنه تعالى يقول إذا حدثت بنعمتي ونشرتها بين عبادي فقد شرحت صدرك. وعن ابن إسحق: ذكر لي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: لقد احتبست عني يا

جبريل حتى سؤت ظنا» وفي لفظ «ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فقال له جبريل وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) [مريم: الآية 64] أي لا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته على مقتضى حكمته، وما كان ربك تاركا لك كما زعم الكفار، بل كان ذلك لحكمة رآها. وأما حديث الزبيدي، فقد حدث بعضهم الزبيدي، فقد حدث بعضهم قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومن معه من الصحابة إذا رجل من زبيد يطوف على حلق قريش حلقة بعد أخرى وهو يقول: يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المارة أو يجلب إليكم جلب، أو يحل بضم الحاء أي ينزل بساحتكم تاجر وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم؟ حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فقال له صلى الله عليه وسلم: ومن ظلمك؟ فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال خيرة إبله أي أحسنها فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها، ثم لم يسمه بها لأجله سائم، قال: فأكسد عليّ سلعتي فظلمني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأين جمالك؟ قلا: هذه هي بالحزورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أصحابه فنظروا إلى الجمال فرأى جمالا حسنا، فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه، وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع جملين منها بالثمن، وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه، وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم، ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل فترى مني ما تكره، فجعل يقول: لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل على أبي جهل أمية بن خلف ومن معه من القوم، فقالوا له: ذللت في يد محمد، فإما أن تكون تريد أن تتبعه، وإما رعب دخلك منه، فقال لهم: لا أتبعه أبدا، إن الذي رأيتم مني لما رأيته، رأيت معه رجالا عن يمينه ورجالا عن شماله معهم رماح يشرعونها إليّ، لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي» . ونظير ذلك «أن أبا جهل كان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده، فاستغاث اليتيم بالنبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل، فمشى معه إليه ورد عليه ماله، فقيل له في ذلك فقال: خفت من حربة عن يمينه وحربة عن شماله لو امتنعت أن أعطيه لطعنني» . وأما حديث المستهزئين. فمما استهزئ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث به بعضهم «أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص يقال له الإراشي بكسر الهمزة نسبة إلى إراشة بطن من خثعم أجمالا فمطله بأثمانها، فدلته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل: أي بعد أن وقف على ناديهم فقال: يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن

هشام فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني علي حقي، فقالوا له أترى ذلك الرجل؟ يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، اذهب إليه فهو يعينك عليه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له حاله مع أبي جهل- أي قال له: يا أبا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله وأنا غريب وابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يأخذ لي بحقي منه فأشاروا إليك، فخذ حقي منه يرحمك الله- فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال محمد، فخرج إليه وقد انتقع لونه: أي تغير وصاح كلون النقع- الذي هو التراب، وهو الصفرة مع كدرة كما تقدم- فقال له: أعط هذا حقه، قال نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له، فدفعه إليه. قال: ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا يعني النبي صلى الله عليه وسلم- فقد والله أخذ لي بحقي، وقد كانوا أرسلوا رجلا ممن كان معهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له انظر ماذا يصنع؟ فقالوا لذلك الرجل ماذا رأيت؟ قال: رأيت عجبا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال: أعط هذا حقه، فقال نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إليه، فعند ذلك قالوا لأبي جهل: ويلك ما رأينا مثل ما صنعت، قال: ويحكم، والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله قط، لو أبيت أو تأخرت لأكلني» وإلى هذه القصة أشار صاحب الهمزية بقوله: واقتضاه النبي دين الإراشي ... وقد ساء بيعه والشراء ورأى المصطفى أتاه بما لم ... ينج منه دون الوفاء النجاء هو ما قد رآه من قبل لكن ... ما على مثله يعد الخطاء أي وطلب صلى الله عليه وسلم من أبي جهل أن يؤدي دين الإراشي وقد ساء بيعه وشراؤه مع ذلك الرجل ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أتاه بفحل من الإبل لم ينج منه دون الوفاء لذلك الدين. كثير النجاء، وذلك الذي أتاه به هو الفحل الذي قد رآه من قبل: أي لما أراد عدو الله أن يلقي عليه صلى الله عليه وسلم الحجر وهو ساجد كما تقدم، لكن ما على مثله فضلا عنه يعدّ الخطأ لأن خطأه لا ينحصر. أي ومن استهزاء أبي جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم «أنه في بعض الأوقات سار خلف النبي صلى الله عليه وسلم يخلج بأنفه وفمه يسخر به، فاطلع عليه صلى الله عليه وسلم، فقال له: كن كذلك، فكان كذلك إلى أن مات» . قال ابن عبد البر: وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى فيهم إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) [الحجر: الآية 95] أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أبي معيط والحكم بن

العاص بن أمية وهو والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان، والعاص بن وائل، فمن استهزاء أبي جهل ما تقدم. ومن استهزاء أبي لهب به صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرح القذر على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ومرّ يوما من الأيام فرآه أخوه حمزة رضي الله تعالى عنه قد فعل ذلك، فأخذه وطرحه على رأسه، فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول صابئ أحمق. ومن استهزاء عقبة بن أبي معيط به صلى الله عليه وسلم أنه كان يلقي القذر أيضا على بابه صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كنت بين شرّ جارين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحونها على بابي» كما تقدم. ومن استهزائه «أنه بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فعاد بصاقه على وجهه وصار برصا: أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر مجالسة عقبة بن أبي معيط، فقدم عقبة يوما من سفر فصنع طعاما ودعا الناس من أشراف قريش ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قرب إليهم الطعام أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل، فقال: ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فأكل صلى الله عليه وسلم من طعامه وانصرف الناس، وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف، فأخبر الناس أبيا بمقالة عقبة، فأتى إليه وقال: يا عقبة صبوت؟ قال: والله ما صبوت، ولكن دخل منزلي رجل شريف، فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم والشهادة ليست في نفسي، فقال له أبيّ وجهي ووجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فقال له عقبة: لك ذلك، ثم إن عقبة لقي النبي صلى الله عليه وسلم ففعل به ذلك» قال الضحاك: لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار فاحترق مكانها، وكان أثر الحرق في وجهه إلى الموت. وحينئذ يكون المراد بقوله فيما تقدم «فعاد بصاقه برصا في وجهه» أي صار كالبرص «وأنزل الله تعالى في حقه وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ [الفرقان: الآية 27] أي في النار يأكل إحدى يديه إلى المرفق ثم يأكل الأخرى، فتنبت الأولى فيأكلها وهكذا» . ومن استهزاء الحكم بن العاص «أنه كان صلى الله عليه وسلم يمشي ذات يوم وهو خلفه يخلج بفمه وأنفه، يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كن كذلك فكان كذلك» أي كما تقدم نظير ذلك لأبي جهل «واستمر الحكم بن العاص يخلج بأنفه وفمه بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه حتى مات» أسلم يوم فتح مكة وكان في إسلامه شيء «اطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة، فخرج إليه صلى الله عليه وسلم بالعنزة- أي وقيل بمدرى في يده- والمدرى كالمسلة يفرق به شعر الرأس- وقال: من عذيري من هذه الوزغة، لو أدركته لفقأت عينه، ولعنه وما ولد، وغربه

عن المدينة إلى وجّ الطائف، فلم يزل حتى ولي ابن أخي عثمان رضي الله تعالى عنه الخلافة، فدخل المدينة بعد أن سأل عثمان أبا بكر في ذلك، فقال: لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأل عمر لما ولي الخلافة فقال له مثل ذلك، ولما أدخله عثمان نقم عليه الصحابة بسبب ذلك، فقال: أنا كنت شفعت فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعدني برده: أي أني أردّه» ولا ينافي ذلك سؤال عثمان لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم في ذلك كما لا يخفى، لأنه يحتمل أن يرده عثمان إما بنفسه أو بسؤاله، وسيأتي ذلك في جملة أمور نقهما عليها الصحابة. وعن هند ابن خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بالحكم، فجعل يغمز بالنبي صلى الله عليه وسلم، فرآه فقال: اللهم اجعل به وزغا فرجف وارتعش مكانه» والوزغ: الارتعاش. وفي رواية «فما قام حتى ارتعش» . وعن الواقدي «استأذن الحكم بن العاص على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف صوته، فقال: ائذنوا له، لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منهم وقليل ما هم، ذو مكر وخديعة، يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق» «وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي إليه بمروان لما ولد، فقال: هو الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون» وعلى هذا فهو صحابي إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه، لأنه يحتمل أنه أتي به إليه صلى الله عليه وسلم فلم يأذن بإدخاله عليه، وربما يدل لذلك قوله هو الوزغ إلى آخره. وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة. وفي كلام بعض آخر أنه ولد بالطائف بعد أن نفي أبوه إلى الطائف: أي ولم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس بصحابي، ومن ثم قال البخاري: مروان بن الحكم لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت لمروان «نزل في أبيك وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) [القلم: الآية 10 و 11] وقالت له «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية: إنهم الشجرة الملعونة في القرآن» ولي مروان الخلافة تسعة أشهر. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم، حيث قال لأخيها عبد الرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فقال عبد الرحمن: بل سنة هرقل وقيصر، وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية، فقال له مروان: أنت الذي أنزل الله فيك وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الأحقاف: الآية 17] فبلغ ذلك عائشة، فقالت كذب والله ما هو به، ثم قالت له: أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه. وعن جبير بن مطعم «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرّ الحكم بن العاص، فقال

النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل لأمتي مما في صلب هذا» قال بعضهم: وكون النبي صلى الله عليه وسلم مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك، يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده. وعن حمران بن جابر الجعفي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل لبني أمية ثلاث مرات» أي وقد ولي منهم الخلافة أربعة عشر رجلا، أوّلهم معاوية بن أبي سفيان، وآخرهم مروان بن محمد، وكانت مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة، وهي ألف شهر. وقال بعضهم: لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما. قال ابن كثير: وهذا غريب جدا، وفيه نظر، لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين، واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة، وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه. ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول: غرّ محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث. أي ومن استهزائه. أن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه كان قينا بمكة: أي حدادا يعمل السيوف، وقد كان باع للعاص سيوفا فجاءه يتقاضى ثمنها، فقال له: يا خباب أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم أو ولد؟ قال خباب بلى، قال: فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هناك حقك، وو الله لا تكونن أنت وصاحبك آثر عند الله مني ولا أعظم حظا في ذلك. وفي لفظ أن العاص قال له: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال: والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتي مالا وولدا فأقضيك، فأنزل الله تعالى فيه أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) [مريم: الآيات 77- 80] !. وفي كلام ابن حجر الهيتمي، وفي البخاري من عدة طرق: أن خبابا رضي الله تعالى عنه طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له عليه، قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يبعثك. وفيه أن هذا تعليق للكفر بممكن: أي وتعليق الكفر ولو بمحال عادي، وكذا شرعي أو عقلي على احتمال كفر، لأنه ينافي عقد التصميم الذي هو شرط في الإسلام.

وأجيب بأنه لم يقصد التعليق قطعا، وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في إنكار البعث، ولا ينافيه قوله «حتى» لأنها تأتي بمعنى إلا المنقطعة فتكون بمعنى لكن الذي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف، وعليه خرج ابن هشام الخضراوي حديث «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه» أي لكن أبواه. وعد بعضهم من المستهزئين الحارث بن عيطلة، ويقال ابن عيطل ينسب إلى أمه، وكان من استهزائه ما تقدم عن العاص بن وائل وأبي جهل من الاختلاج خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعد منهم الأسود بن يغوث، وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر: أي لأن الصحابة كانوا متقشفين، ثيابهم رثة، وعيشهم خشن، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد، وما أشبه هذا القول. وعد منهم الأسود بن عبد المطلب. ومن استهزائه أنه كان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويصفرون إذا رأوهم. وعد منهم النضر بن الحارث، فهلك غالبهم قبيل الهجرة بضروب من البلاء. أقول: والذي ينبغي أن يكون المراد بالمستهزئين في الآية وهي إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) [الحجر: الآية 95] الوليد بن المغيرة والد خالد وعم أبي جهل، فإنه كان من عظماء قريش، وكان في سعة من العيش ومكنة من السيادة، كان يطعم الناس أيام منى حيسا، وينهي أن توقد نار لأجل طعام غير ناره، وينفق على الحاج نفقة واسعة، وكانت الأعراب تثني عليه، كانت له البساتين من مكة إلى الطائف، وكان من جملتها بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا، وببركته صلى الله عليه وسلم أصابته الجوائح والآفات في أمواله حتى ذهبت بأسرها ولم يبق له في أيام الحج ذكر. وكان المقدم في قريش فصاحة، وكان يقال له ريحانة قريش، ويقال له الوحيد أي في الشرف والسودد والجاه والرياسة. قال بعضهم: بل هو وحيد في الكفر والخبث والعناد. والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن عيطلة. وفي لفظ: ابن الطلاطلة. والطلاطلة في اللغة: الداهية، قال بعضهم وهو اشتباه، لأن ابن الطلاطلة اسمه مالك لا حارث. والحارث بن العيطلة كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وإليه كانت الحكومة والأموال التي تجعل للآلهة، وذكره ابن عبد البر في الصحابة. قال في أسد الغابة: لم أر أحدا ذكره في الصحابة إلا أبا عمرو يعني ابن عبد البر. والصحيح أنه كان من المستهزئين، وهؤلاء الخمسة هم الذين اقتصر عليهم القاضي البيضاوي، لما يروى «أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد: أي يطوف بالبيت؛ وقال له أمرت أن

أكفيكهم، فلما مر الوليد بن المغيرة قال له: يا محمد كيف تجد هذا؟ فقال: بئس عبد الله، فأومأ إلى ساق الوليد وقال كفيته، ومرّ العاص بن وائل، فقال: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال عبد سوء، فأشار إلى أخمصه وقال كفيته، ثم مرّ الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: عبد سوء، فأومأ إلى عينه، وقال كفيته، ثم مر الأسود بن عبد يغوث فقال: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال عبد سوء، فأومأ إلى رأسه وقال كفيته، ثم مر الحارث بن عيطلة فقال: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: عبد سوء، فأومأ إلى بطنه وقال كفيته» وحينئذ يكون معنى كفاية هذا له صلى الله عليه وسلم أنه لم يسع ولم يتكلف في تحصيل ذلك، وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله: وجبريل لما استهزأت فرقة الردى ... أشار إلى كل بأقبح ميتة والله أعلم. قال: وروى الزهري «أن الأسود بن عبد يغوث خرج من عند أهله فأصابته السموم فاسودّ وجهه، فأتى أهله فلم يعرفوه وأقفلوا دونه الباب، وسلط عليه العطش فلا زال يشرب الماء حتى انشق بطنه» وهذا يناسب ما سيأتي عن الهمزية، ولا يناسب أن جبريل عليه الصلاة والسلام أشار إلى رأسه، وفي كلام البلاذري عن عكرمة «أن جبريل أخذ بعنق الأسود بن عبد يغوث فحنى ظهره حتى احقوقف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خالي خالي» أي لأنه كما تقدم ابن خاله، فهو إما على حذف المضاف، أو لأجل مراعاة أبيه: أي يراعى لأجل أبيه الذي هو خالي «فقال جبريل: يا محمد دعه» وفي رواية «قال له جبريل: خلّ عنك، ثم حثاه حتى قتله» وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه. والمناسب لذلك ما ذكره بعضهم أنه امتخض رأسه قيحا، ثم لم يزل يضرب برأسه أصل شجرة حتى مات، وكذا الحارث بن عيطلة: أي وفي كلام القاضي وحارث بن قيس. وفي تكملة الجلال السيوطي عدي بن قيس، فقد أكل حوتا مملحا فلم يزل يشرب عليه الماء حتى انقدّ بطنه، وهذا المناسب لما ذكر هنا أن جبريل أشار إلى بطنه، لكن لا يناسب ما قاله القاضي البيضاوي أنه أشار إلى أنفه فامتخض قيحا. وأما الأسود بن المطلب فقد عمي بصره. فقد ذكر «أنه خرج ليستقبل ولده، وقد قدم من الشام، فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة، فجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها حتى عمي، فجعل يستغيث بغلامه، فقال له غلامه: لا أحد يصنع بك شيئا: أي وقيل ضربه بغصن فيه شوك، فسالت حدقتاه،

وصار يقول: ها هو ذا طعن بالشوك في عيني، فيقال له ما نرى شيئا، وقيل أتى شجرة فجعل ينطح رأسه بها حتى خرجت عيناه» أي وفعل ذلك لا ينافي ما ورد «فأشار أي جبريل إلى وجهه فعمي بصره في الحال» لجواز أن يراد بالحال الزمن القريب، وفي رواية: أنه كان يقول «دعا عليّ محمد بالعمى فاستجيب له، ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي» وسيأتي عن بعضهم في غزوة بدر «أنه صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود بن المطلب بالعمي وفقد أولاده، فجعل له العمى وفقد أولاده ببدر. وأما الوليد بن المغيرة فمر بشخص يعمل النبل فتعلق بثوبه سهم فلم ينقلب لينحيه تعاظما، فعدا فأصاب السهم عرقا في ساقه فقطعه فمات. وأما العاص بن وائل، فدخلت شوكة في أخمصه فانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات» وإلى الخمسة الذين ذكرنا أنهم المرادون بقوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) [الحجر: الآية 95] أشار صاحب الهمزية بقوله: وكفاه المستهزئين وكم سا ... ء نبيا من قومه استهزاء خمسة كلهم أصيبوا بداء ... والردى من جنوده الأدواء فدهي الأسود بن مطلب ... أيّ عمي ميت به الأحياء ودهي الأسود بن عبد يغوث ... أن سقاه كأس الرد استسقاء وأصاب الوليد خدشة سهم ... قصرت عنها الحية الرقطاء وقضت شوكة على مهجة العا ... ص فلله النقعة الشوكاء وعلى الحارث القيوح وقد سا ... ل بها رأسه وسال الوعاء خمسة طهرت بقطعهم الأر ... ض فكف الأذى بهم شلاء أي وكفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم المستهزئين به، ومرات كثيرة أحزن نبينا صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء استهزاء قومه به، وهؤلاء المستهزئون به صلى الله عليه وسلم خمسة كلهم أصيبوا بداء عظيم، والهلاك من جملة جنوده الأمراض. فأهلك الأسود بن المطلب عمى عظيم الأحياء أموات بسببه، وهو المناسب لكون جبريل أشار إلى عينيه. ودهي أيضا الأسود بن عبد يغوث استسقاء سقاه كأس الموت، وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه. وأصاب الوليد أثر سهم في ساقه قصرت عنه الحية الرقطاء: أي سمها. وقضت شوكة على مهجة العاص دخلت في رجله، فلله هذه النقعة الخشنة اللمس. وقضت على الحارث القيوح والحال أنه قد سار رأسه، وفسد ذلك الوعاء لتلك القيوح، وهذا هو المناسب لكون جبريل أشار إلى أنفه، لا لقول بعضهم إنه أشار إلى بطنه. خمسة طهرت بهلاكهم الأرض، فكف

الأذى بهم شلاء: فاقدة الحركة. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الخمسة هلكوا في ليلة واحدة، فعلم أن هؤلاء هم المرادون بقوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) [الحجر: الآية 95] كما ذكرنا، وإن كان المستهزئون غير منحصرين فيهم فلا ينافي عدّ منبه ونبيه ابني الحجاج منهم. فقد قيل: كانا ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانا يلقيانه فيقولان له أما وجد الله من يبعثه غيرك؟ إن هاهنا من هو أسن منك وأيسر، فإن كنت صادقا فأتنا بملك ليشهد لك ويكون معك، وإذا ذكر لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا معلم مجنون يعلمه أهل الكتاب ما يأتي به. ولا ينافي عدّ أبي جهل وغيره منهم كما تقدم. وفي سيرة ابن المحدث قال عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه» . ومن استهزاء أبي جهل أيضا بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لقريش: يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذين يقذفونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا، فيعجز كل مائة رجل منكم عن واحد منهم؟. أي وفي رواية «أن بعض قريش وكان شديدا قويّ البأس، بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه، قال له: أنا أكفيك سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، ويقال إن هذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة، وقال له: يا محمد إن صرعتين آمنت بك، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مرارا فلم يؤمن» . أي وفي رواية أنا أبا جهل قال: أنا أكفيكم عشرة فاكفوني تسعة، فأنزل الله تعالى وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [المدّثر: الآية 31] أي لا يطاقون كما تتوهمون وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً [المدّثّر: الآية 31] ضلالا لِلَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة: الآية 212] الآية: أي بأن يقولوا ما ذكر، أو يقولوا لم كانوا تسعة عشر؟ وماذا أراد الله بهذا العدد: أي وهذا العدد لحكمة استأثر الله تعالى بعملها، وقد أبدى بعض المفسرين لذلك حكما يراجع. وقد جاء في وصف تلك الملائكة «أن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي» أي القرون «ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة» وفي رواية «ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب، لأحدهم قوة مثل قوة الثقلين، نزعت الرحمة منهم» . وأخرج العتبي في «عيون الأخبار» عن طاوس: إن الله خلق مالكا وخلق له أصابع على عدد أهل النار، فما من أهل النار معذب إلا ومالك يعذبه بأصبع من

أصابعه، فو الله لو وضع مالك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها، وهؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء، ولكل واحد أتباع لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. قال تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدّثّر: الآية 31] أي وهؤلاء الأتباع منهم. وأخرج هناد عن كعب قال: يؤمر بالرجل إلى النار فيبتدره مائة ألف ملك: أي والمتبادر أن هؤلاء من خزنتها. وفي كلام بعضهم: لم يثبت لملائكة النار عدد معين سوى ما في قوله تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) [المدّثّر: الآية 30] وإنما ذلك لسقر التي هي إحدى دركات النار، لقوله تعالى قبل ذلك سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) [المدّثّر: الآية 26] وقد يكون على كل واحدة منها مثل هذا العدد أو أكثر. قيل و «بسم الله الرحمن الرحيم» عدد حروفها على عدد هؤلاء الزبانية التسعة عشر، فمن قرأها وهو مؤمن دفع الله تعالى عنه بكل حرف منها واحدا منهم. أقول: ومن استهزاء أبي جهل أيضا أنه قال يوما لقريش وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الحق: يا معشر قريش يخوّفنا محمد بشجرة الزقوم، يزعم أنها شجرة في النار يقال لها شجرة الزقوم، والنار تأكل الشجر، إنما الزقوم التمر والزبد. وفي لفظ: العجوة تترب بالزبد، هاتوا تمرا وزبدا وتزقموا، فأنزل الله تعالى إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) [الصّافات: الآية 64] أي منبتها في أصل جهنم ولا تسلط لجهنم عليها، أما علموا أن من قدر على خلق من يعيش في النار ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها؟ وقد قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه: إنها تحيا باللهب كما يحيا شجر الدنيا بالمطر، وثمر تلك الشجرة مرّ له زفرة. وأخرج الترمذي وصححه النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون طعامه؟» أي وقال: يا محمد لتتركن سبّ آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد، فأنزل الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: الآية 108] فكف عن سبّ آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ. ثم رأيت في الدر المنثور في تفسير إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) [الحجر: الآية 95] قيل نزلت في جماعة مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بهم، فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون. هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل، فغمز جبريل عليه الصلاة والسلام بأصبعه في أجسادهم فصارت جروحا وأنتنت، فلم يستطع أحد يدنو منهم حتى ماتوا فلينظر الجمع على تقدير الصحة. وقد يدّعى أنهم طائفة آخرون غير من ذكر، لأنهم المستهزئون ذلك الوقت،

أي فقد تكرر نزول الآية، والله أعلم. قال: ومن استهزاء النضر بن الحارث أنه كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا يحدّث فيه قومه ويحذرهم ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله تعالى خلفه في مجلسه ويقول لقريش: هلموا فإني والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم «ثم يحدثهم عن ملوك فارس، لأنه كان يعلم أحاديثهم ويقول: ما حديث محمد إلا أساطير الأولين. ويقال إنه الذي قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: الآية 93] انتهى: أي لأنه ذهب إلى الحيرة واشترى منها أحاديث الأعاجم ثم قدم بها مكة فكان يحدث بها ويقول: هذه كأحاديث محمد عن عاد وثمود وغيرهم. ويقال إن ذلك كان سببا لنزول قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان: الآية 6] . قال في الينبوع: والمشهور أنها نزلت في شراء المغنيات. وقال: ولا بعد في أن تكون الآية نزلت فيهما ليتحقق العطف في قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان: الآية 7] أي فإن هذا الوصف الثاني إنما يناسب النضر، فليتأمل، ولما تلا عليهم صلى الله عليه وسلم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث: لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين، فأنزل الله تعالى تكذيبا له قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: الآية 88] أي معينا له. وجاء «أن جماعة من بني مخزوم منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة تواصوا على قتله صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي سمعوا قراءته، فأرسلوا الوليد ليقتله، فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه، فانصرف إليهم وأعلمهم بذلك فأتوه، فلما سمعوا قراءته قصدوا الصوت، فإذا الصوت من خلفهم، فذهبوا إليه فسمعوه من أمامهم ولا زالوا كذلك حتى انصرفوا خائبين، فأنزل الله تعالى قوله: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) [يس: الآية 9] وتقدم في سبب نزولها غير ذلك. ويمكن أن يدعي أنها نزلت لوجود الأمرين فليتأمل. وجاء «أن النضر بن الحارث رأى النبي صلى الله عليه وسلم منفردا أسفل ثنية الحجون فقال: لا أجده أبدا أخلى منه الساعة فأغتاله، فدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتاله، فرأى أسود تضرب بأذنابها على رأسه فاتحة أفواهها فرجع على عقبه مرعوبا فلقي أبا جهل فقال: من أين؟ فأخبره النضر الخبر، فقال أبو جهل: هذا بعض سحره» . ومما تعنتوا به أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: الآية 98] أي وقودها. وحصب بالزنجية حطب: أي حطب

باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر إليها من المسلمين إلى مكة وإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه

جهنم. وقد قرأتها عائشة رضي الله تعالى عنها كذلك أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) [الأنبياء: الآية 99] شق على كفار قريش وقالوا لعبد الله بن الزبعرى: قد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا حصب جهنم، فقال ابن الزبعرى: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي، فدعوه له، فقال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ فقال: بل لكل من عبد من دون الله، فقال ابن الزبعرى: أخصمت ورب هذه البنية. يعني الكعبة- ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد من دون الله وكذا عزير والملائكة، عبدت النصارى عيسى واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة، فضج الكفار وفرحوا فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) [الأنبياء: الآية 101] يعني عيسى وعزيرا والملائكة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر إليها من المسلمين إلى مكة وإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بالمسلمين من توالي الأذى عليهم من كفار قريش مع عدم قدرته على انقاذهم مما هم فيه، قال لهم: تفرقوا في الأرض فإن الله تعالى سيجمعكم قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: هاهنا وأشار بيده إلى جهة أرض الحبشة؛ قال: وفي رواية «قال لهم اخرجوا إلى جهة أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد؛ أي وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» انتهى. أي ويجوز أن يكون قال ذلك عند استفساره صلى الله عليه وسلم عن محل اشارته. فقد جاء في الحديث «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم خليل الله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم» فهاجر إليها ناس ذو عدد مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله تعالى بدينهم. ومنهم من هاجر بأهله. ومنهم من هاجر بنفسه؛ فممن هاجر بأهله عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، هاجر ومعه زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أول خارج. وقيل أول من هاجر إلى الحبشة حاطب بن أبي عمرو. وقيل سليط بن عمرو، ولا ينافيهما قوله صلى الله عليه وسلم «إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط» أي حيث قال إني مهاجر إلى ربي فهاجر إلى عمه إبراهيم الخليل، ثم هاجرا عليهما الصلاة والسلام حتى أتيا حران، ثم هاجرا إلى أن نزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فلسطين، ونزل لوط عليه الصلاة والسلام المؤتفكة. ووجه عدم المنافاة أن كلا من حاطب وسليط يجوز أن يكون هاجر بغير أهله

وكان مع رقية أم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم، وكانت رقية رضي الله تعالى عنها ذات جمال بارع وكذا عثمان رضي الله تعالى عنه، ومن ثم كان النساء يغنينهما بقولهن: أحسن شيء قد يرى إنسان ... رقية وبعدها عثمان ومن ثم ذكر «أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلا إلى عثمان ورقية رضي الله تعالى عنهما فاحتبس عليه الرسول، فلما جاء إليه قال له صلى الله عليه وسلم: إن شئت أخبرتك ما حبسك؟ قال نعم، قال: وقفت تنظر إلى عثمان ورقية تعجب من حسنهما» أي ومعلوم أن ذلك كان قبل آية الحجاب. ويذكر أن نفرا من الحبشة كانوا ينظرون إليها فتأذت من ذلك فدعت عليهم فقتلوا جميعا. وقد جاء في وصف حسن عثمان رضي الله تعالى عنه قوله صلى الله عليه وسلم «قال لي جبريل: «إن أردت أن تنظر من أهل الأرض شبيه يوسف الصديق فانظر إلى عثمان بن عفان» وسيأتي ذلك مع زيادة. وأبو سلمة هاجر ومعه زوجته أم سلمة: أي وقيل هو أول من هاجر بأهله، وهو مخالف للرواية السابقة أن عثمان أول من هاجر بأهله. ويمكن أن تكون الأولية فيه إضافية فلا ينافي ما سبق عن عثمان. وعامر بن ربيعة هاجر ومعه امرأته ليلى: أي وعنها رضي الله تعالى عنها كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما ركبت بعيري أريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة إذا أنا بعمر بن الخطاب، فقال لي: إلى أين يا أمّ عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، نذهب في أرض الله حيث لا نؤذى، فقال صحبكم الله، ثم ذهب فجاء زوجي عامر فأخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال: ترجين أن يسلم عمر، والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب: أي استبعاد لما كان يرى من قسوته وشدته على أهل الإسلام، وهذا دليل على أن إسلام عمر كان بعد الهجرة الأولى للحبشة، وهو كذلك: أي خلافا لمن قال: إنه كان تمام الأربعين من المسلمين: أي ممن أسلم. وفيه أن المهاجرين إلى أرض الحبشة كانوا فوق ثمانين كما قاله بعضهم، اللهم إلا أن يقال إنه كان تمام الأربعين بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة، وربما يدل لذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الصديق وفي ضرب قريش له رضي الله تعالى عنه لما قام خطيبا في المسجد الحرام، وقد تقدمت حيث قالت: وكان المسلمون تسعة وثلاثين رجلا، لكن في الرواية أنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر فليتأمل.

وفي لفظ عن أم عبد الله زوج عامر قالت: إنا لنرحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر، تعني زوجها، إلى بعض حاجته، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليّ وكنا نتقي منه الأذى والبلاء والشدة علينا، فقال: إنه لخروج يا أم عبد الله، فقلت: والله لنخرجن إلى أرض فقد آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا وفرجا، فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وتفرست فيه حزنا لخروجنا، وقلت لعامر: يا أبا عبد الله لو رأيت ما وقع من عمر وذكرت ما تقدم. وممن هاجر أبو سبرة، وهو أخو أبي سلمة رضي الله تعالى عنهما لأمه، أمهما برة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر ومعه امرأته أم كلثوم. وممن هاجر بنفسه عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهما: أي وكان أميرا عليهم كما قيل، وجزم به ابن المحدث في سيرته. وقال الزهري: لم يكن لهم أمير. وسهيل ابن البيضاء: أي والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهم. وقيل إنما كان عبد الله بن مسعود في الهجرة الثانية فخرجوا سرا: أي متسللين، منهم الراكب، ومنهم الماشي حتى انتهوا إلى البحر، فوفق الله تعالى لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار: أي وفي المواهب: وخرجوا مشاة إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار؛ هذا كلامه فليتأمل. وكان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة من النبوة، فخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا إلى البحر، فلم يجدوا أحدا منهم، ولعل خروجهم سرا لا ينافيه ما تقدم عن ليلى امرأة عامر بن ربيعة من سؤال عمر لها وإخبارها له بأنها تريد أرض الحبشة، فلما وصلوا إلى أرض الحبشة نزلوا بخير دار عند خير جار، فمكثوا في أرض الحبشة بقية رجب وشعبان إلى رمضان، فلما كان شهر رمضان قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) [النّجم: الآية 1] أي وقد أنزلت عليه في ذلك الوقت. ففي كلام بعضهم «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع المشركين، وأنزل الله تعالى عليه سورة وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) [النّجم: الآية 1] فقرأها عليهم حتى إذا بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) [النجم: الآية: 19] وسوس إليه الشيطان بكلمتين، فتكلم بهما ظانا أنهما من جملة ما أوحي إليه، وهما: تلك الغرانيق العلى: أي الأصنام، وإن شفاعتهن لترتجى» وفي لفظ: «لهي التي ترتجى» شبهت الأصنام بالغرانيق التي هي طير الماء، جمع غرنوق بكسر الغين المعجمة وإسكان الراء ثم نون مفتوحة، أو غرنوق بضم الغين والنون أيضا، أو غرنوق بضم الغين وفتح النون: وهو طير طويل العنق وهو الكركي أو يشبهه. ووجه الشبه بين الأصنام وتلك الطيور أن تلك الطيور تعلو وترتفع في السماء، فالأصنام شبهت بها في علو القدر وارتفاعه ثم مضى يقرأ السورة

حتى بلغ السجدة فسجد وسجد القوم جميعا: أي المسلمون والمشركون. أقول: قال بعضهم: ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان، وإنما سمع ذلك المشركون فسجدوا لتعظيم آلهتهم، ومن ثم عجب المسلمون من سجود المشركين معهم من غير إيمان. قال بعضهم: والنجم هي أول سورة نزل فيها سجدة: أي أول سورة نزلت جملة كاملة فيها سجدة فلا ينافي أن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] سورة نزلت فيها سجدة، لأن النازل منها أوائلها كما علمت. وقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم قرأ يوما اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] فسجد في آخرها وسجد معه المؤمنون فقام المشركون على رؤوسهم يصفقون» . وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه صلى الله عليه وسلم سجد في النجم: أي غير سجدته المتقدمة التي سجد معه المشركون» ومجموع ذلك يردّ حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل قبل أن يتحول إلى المدينة» لأن سورة النجم من المفصل، لأن عند أئمتنا أن أول المفصل الحجرات على الراجح من أقوال عشرة. لا يقال: لعل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ممن يرى أن النجم ليس من المفصل. لأنا نقول اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] من المفصل اتفاقا. وعلى ما قال أئمتنا يكون في المفصل ثلاث سجدات: في النجم والانشقاق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] وهي أي النجم أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وذكر الحافظ الدمياطي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأى من قومه كفا عنه: أي تركا وعدم تعرض له، فجلس خاليا فتمنى، فقال: ليته لم ينزل عليّ شيء ينفرهم عني» وفي رواية: «تمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبينهم حرصا على إسلامهم، وقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ودنا منهم ودنوا منه، فجلس يوما مجلسا في ناد من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ عليهم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) [النّجم: الآية 1] » إلى آخر ما تقدم والله أعلم. ومن جملة من كان من المشركين حينئذ الوليد بن المغيرة لكنه رفع ترابا إلى جبهته فسجد عليه، لأنه كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود. وقيل الذي فعل ذلك، سعيد بن العاص، ويقال كلاهما فعل ذلك، وقيل الفاعل لذلك أمية بن خلف وصحح، وقيل عتبة بن ربيعة، وقيل أبو لهب، وقيل المطلب. وقد يقال: لا مانع أن يكونوا فعلوا ذلك جميعا، بعضهم فعل ذلك تكبرا،

وبعضهم فعل ذلك عجزا، وممن فعل ذلك تكبرا أبو لهب، فقد جاء «وفيها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس، غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته، وقال يكفي هذا» . ولا يخالف ذلك ما نقل عن ابن مسعود «ولقد رأيت الرجل أي الفاعل لذلك قتل كافرا» لأنه يجوز أن يكون المراد بقتل مات «فعند ذلك قال المشركون له صلى الله عليه وسلم: قد عرفنا أن الله تعالى يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما إذا جعلت لنا نصيبا فنحن معك، فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس في البيت» . وفيه أنه كيف يكبر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك مع أنه موافق لما تمناه من أن الله ينزل عليه ما يقارب بينه وبين المشركين حرصا على إسلامهم المتقدم ذلك عن سيرة الدمياطي، إلا أن يقال هذا كان بعد ما عرض السورة على جبريل، وقال له: ما جئتك بهاتين الكلمتين المذكور ذلك في قولنا: «فلما أمسى صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل: فعرض عليه السورة وذكر الكلمتين فيها، فقال له جبريل: ما جئتك بهاتين الكلمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت على الله ما لم يقل أي فكبر عليه ذلك- فأوحى الله تعالى إليه ما في سورة الإسراء وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ [الإسراء: الآية 73] بموافقتك لهم على مدح آلهتهم بما لم نرسل به إليك وإذا لو فعلت أي دمت عليه لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الإسراء: الآية 73] إلى قوله ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً [الإسراء: الآية 75] أي مانعا يمنع العذاب عنك، وهذا يدل لما تقدم أنه تكلم بذلك ظانا أنه من جملة ما أوحي إليه. وقيل نزل ذلك لما قال له اليهود حسدا له صلى الله عليه وسلم على إقامته بالمدينة: لئن كنت نبيا فالحق بالشام لأنها أرض الأنبياء حتى نؤمن بك، فوقع ذلك في قلبه فخرج برحله فنزلت، فرجع أي بدليل ما بعدها. وقيل إن التي بعدها نزلت في أهل مكة وقيل إن آية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: الآية 73] نزلت في ثقيف، قالوا: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خلالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر، ولا نحشر، ولا ننحني في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك؟ فقل إن الله أمرني. وقيل نزلت في قريش قالوا: لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلمّ بآلهتنا وتمسها بيدك. وقد يدعى أن هذا مما تعدد أسباب نزوله، والقاضي البيضاوي اقتصر على ما عدا الأول، والله أعلم.

قال: وقيل إن هاتين الكلمتين لم يتكلم بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ارتصد الشيطان سكتة عند قوله الأخرى، فقالهما محاكيا نغمته صلى الله عليه وسلم، فظنهما النبي صلى الله عليه وسلم كما في «شرح المواقف» ومن سمعه أنهما من قوله صلى الله عليه وسلم: أي حتى قال: قلت على الله ما لم يقل، وتباشر بذلك المشركون، وقالوا إن محمدا قد رجع إلى ديننا: أي دين قومه حتى ذكر أن آلهتنا لتشفع لنا، وعند ذلك أنزل الله تعالى قوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحجّ: الآية 52] أي قراءته ما ليس من القرآن: أي مما يرضاه المرسل إليهم. وفي البخاري «إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [الحج: الآية 52] يبطله ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج: الآية 52] أي يثبتها وَاللَّهُ عَلِيمٌ [الحج: الآية 52] بالقاء الشيطان ما ذكر حَكِيمٌ (52) [الحج: الآية 52] في تمكينه من ذلك، يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الإيمان من المتزلزل فيه، ولم أقف على بيان أحد من الأنبياء والمرسلين وقع له مثل ذلك. وفيه كيف يجترئ الشيطان على التكلم بشيء من الوحي. ومن ثم قيل: هذه القصة طعن في صحتها جمع وقالوا إنها باطلة وضعها الزنادقة: أي ومن ثم أسقطها القاضي البيضاوي. ومن جملة المنكرين لها القاضي عياض، فقد قال: هذا الحديث لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل وإنما أولع به المفسرون المؤرخون، المولعون بكل غريب. أي وقال البيهقي: رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم. وقال الإمام النووي نقلا عنه وأما ما يرويه الإخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى على لسانه من الثناء على آلهتهم فباطل لا يصح منه شيء، لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل، لأن مدح إله غير الله كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يقوله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك: أي وألا يلزم عدم الوثوق بالوحي. وقال الفخر الرازي: هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها. قال الله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [النجم: الآيتان 3 و 4] أي الشيطان لا يجترئ أن ينطق بشيء من الوحي. وقال بصحتها جمع منهم خاتمة الحفاظ الشهاب ابن حجر، وقال: رد عياض لا فائدة فيه، ولا يعول عليه، هذا كلامه، وفشا أمر تلك السجدة في الناس حتى بلغ أرض الحبشة أن أهل مكة: أي عظماءهم قد سجدوا وأسلموا حتى الوليد بن المغيرة، وسعيد بن العاص. وفي كلام بعضهم: والناقل لإسلامه أنه لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم أسلموا واصطلحوا معه، ولم يبق نزاع معهم، فطار الخبر

بذلك، وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة، فظنوا صحة ذلك، فقال المهاجرون بها: من بقي بمكة: إذا أسلم هؤلاء عشائرنا أحب إلينا فخرجوا: أي خرج جماعة منهم من أرض الحبشة راجعين إلى مكة: أي وكانوا ثلاثة وثلاثين رجلا، منهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام وعثمان بن مظعون، وذلك في شوال، حتى إذا كانوا دون مكة ساعة من نهار لقوا ركبا فسألوهم عن قريش، فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعه الملأ، ثم عاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشر، وتركناهم على ذلك، فائتمر القوم في الرجوع إلى أرض الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا مكة فندخل ننظر ما فيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله ثم نرجع فدخلوا مكة؛ أي بعضهم بجوار وبعضهم مستخفيا. قال في الإمتاع: ويقال إن رجوع من كان مهاجرا بالحبشة إلى مكة كان بعد الخروج من الشعب، هذا كلامه. وفيه نظر ظاهر، ويرشد إليه التبري لأنهم مكثوا في الشعب ثلاث سنين أو سنتين، ومكث هؤلاء عند النجاشي حينئذ كان دون ثلاثة أشهر كما علمت. وأيضا الهجرة الثانية للحبشة إنما كانت بعد دخول الشعب كما سيأتي. قال في الأصل: ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار إلا ابن مسعود؛ فإنه مكث يسيرا ثم رجع إلى أرض الحبشة. أي وهذا من صاحب الأصل تصريح بأن ابن مسعود كان في الهجرة الأولى، وهو موافق في ذلك لشيخه الحافظ الدمياطي، لكن الحافظ الدمياطي جزم بأن ابن مسعود كان في الهجرة الأولى ولم يحك خلافا، وصاحب الأصل حكى خلافا أنه لم يكن فيها، وبه جزم ابن إسحاق حيث قال: إن ابن مسعود إنما كان في الهجرة الثانية، فكان ينبغي للأصل أن يقول على ما تقدم. هذا، وفي كلام بعضهم: فلم يدخل أحد منهم مكة إلا مستخفيا، وكلهم دخلوا مكة إلا عبد الله بن مسعود فإنه رجع إلى أرض الحبشة. وقد يقال: لما لم يطل مكث ابن مسعود بمكة ظن به أنه لم يدخلها، فلا ينافي ما سبق. ويجوز أن يكون أكثرهم دخل مكة بلا جوار فأطلقوا على الكل أنهم دخلوا مستخفين، فلا يخالف ما سبق أيضا، ولما رجعوا لقوا من المشركين أشد ما عهدوا. قال: وممن دخل بجوار: عثمان بن مظعون، دخل في جوار الوليد بن المغيرة، ولما رأى ما يفعل بالمسلمين من الأذى قال: والله إن غدويّ ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من الأذى في الله ما لا

يصيا بني لنقص كبير، فمشى إلى الوليد فقال: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك، قال له: يا ابن أخي لعله آذاك أحد من قومي وأنت في ذمتي فأكفيك ذلك؟ قال: لا والله ما اعترض لي أحد ولا آذاني، ولكن أرضى بجوار الله عز وجل وأريد أن لا أستجير بغيره، قال: انطلق إلى المسجد فأردد إليّ جواري علانية كما أجرتك علانية، فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد عليّ جواري، فقال عثمان صدق، وقد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني لا أستجير بغير الله عز وجل، قد رددت عليه جواره، فقال الوليد أشهدكم أني بريء من جواره إلا أن يشاء، ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك في مجلس من قريش ينشدهم قبل إسلامه، فجلس عثمان معهم، فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش ما كان يؤذي جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه. فمن سفاهته فارق ديننا فلا تجدنّ في نفسك من قوله، فردّ عليه عثمان، فقام ذلك الرجل فلطم عينه والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا بن أخي كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة فخرجت منها، وكنت عن الذي لقيت غنيا، فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: بل كنت إلى الذي لقيت فقيرا، والله إن عيني الصحيحة التي لم تلطم لفقيره إلى مثل ما أصاب أختها في الله عز وجل، ولي فيمن هو أحب إليّ منكم أسوة، وإني لفي جوار من هو أعزّ منك انتهى، فعثمان فهم أن لبيدا أراد بالنعيم ما هو شامل لنعيم الآخرة ومن ثم قال له نعيم الجنة لا يزول. لا يقال: لولا أن لبيدا يريد مطلق النعيم الشامل لنعيم الآخرة لما تشوش من الردّ عليه. لأنا نقول: يجوز أن يكون تشوشه من مشافهة عثمان له بقوله كذبت. على أن هذا السياق دالّ على أن لبيدا قال هذا الشعر قبل إسلامه، ويؤيده ما قيل: أكثر أهل الأخبار على أن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم، وبه يردّ ما في الاستيعاب أن هذا: أي قوله: ألا كل شيء إلى آخره شعر حسن، فيه ما يدل على أنه قاله في الإسلام، وكذلك قوله: وكل امرئ يوما سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصل وقد يقال: لا يلزم من قوله المذكور الذي لا يصدر غالبا إلا عن مسلم أن يكون قاله في حال إسلامه، كما وقع لأمية بن أبي الصلت حيث قال في شعره ما لا

يقوله إلا مسلم مع كفره، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيه «آمن شعره وكفر قلبه» وفي رواية «كاد يسلم» . وذكر محيي الدين ابن العربي في قوله صلى الله عليه وسلم «أصدق بيت قالته العرب» وفي رواية «أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» اعلم أن الموجودات كلها وإن وصفت بالباطل فهي حق من حيث الوجود، ولكن سلطان المقام إذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله تعالى باطلا من حيث إنه ليس له وجود من ذاته، فحكمه حكم العدم، وهذا معنى قول بعضهم قوله باطل: أي كالباطل، لأن العالم قائم بالله تعالى لا بنفسه، فهو من هذا الوجه باطل، والعارف إذا وصل إلى مقامات القرب في بداية عرفانه ربما تلاشت هذه الكائنات وحجب عن شهودها بشهود الحق، لا أنها زالت من الوجود بالكلية، ثم إذا كمل عرفانه يشهد الحق تعالى والخلق معا في آن واحد، وما كل أحد يصل إلى هذا المقام، فإن غالب الناس إن شهد الحق لم يشهد الخلق، وإن شهد الخلق لم يشهد الحق كما تقدم عند الكلام على الوحدة أنه لا يدركها إلا من أدرك اجتماع الضدين، ولعل من المشهد الأول قول الأستاذ الشيخ أبي الحسن البكري رضي الله تعالى عنه: أستغفر الله مما سوى الله، لأن الباطل يستغفر من إثبات وجوده لذاته. ويوافق قول أكثر أهل الأخبار: قول السهيلي: وأسلم لبيد وحسن إسلامه، وعاش في الإسلام ستين سنة لم يقل فيها بيت شعر، فسأله عمر رضي الله تعالى عنه: أي في خلافته عن تركه للشعر، فقال: ما كنت لأقول شعرا بعد أن علمني الله تعالى البقرة وآل عمران، فزاده عمر في عطائه خمسمائة من أجل هذا القول، فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة. وقيل إنه قال بيتا واحدا في الإسلام وهو: الحمد لله الذي لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا قال: وممن دخل بجوار أبو سلمة بن عبد الأسد ابن عمته صلى الله عليه وسلم، فإنه دخل في جوار خاله أبي طالب. ولما أجاره مشى إليه رجال من بني مخزوم. فقالوا: يا أبا طالب منعت منا ابن أختك فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ فقال: إنه استجار بي وهو ابن أختي، وأنا إن لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي. فقام أبو لهب على أولئك الرجال، وقال لهم: يا معشر قريش لا تزالون تعارضون هذا الشيخ في جواره من قومه، والله لتنتهن أو لأقومنّ معه في كل مقام يقوم فيه حتى يبلغ ما أراد، قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة: أي لأنه كان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى: أي وطمع أبو طالب في أبي لهب حيث سمعه يقول ما ذكر، ورجا أن يقوم معه في شأنه صلى الله عليه وسلم، وأنشد أبياتا يحرضه فيها على نصرته صلى الله عليه وسلم.

وممن أوذي في الله بعد إسلامه ووقع له نظير ما وقع لعثمان بن مظعون رضي الله عنه عمر بن الخطاب. وسبب إسلامه على ما حدّث به بعضهم قال: قال لنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء إسلامي أي ابتداؤه والسبب فيه؟ قلنا: نعم قال: كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا في يوم حار شديد الحرّ بالهاجرة في بعض طرق مكة، إذ لقيني رجل من قريش: أي وهو نعيم بن عبد الله النحام بالحاء المهملة. قيل له ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم قال فيه: لقد سمعت نحمته في الجنة، أي صوته وحسه، كان يخفي إسلامه خوفا من قومه، وأخبرني أن أختي يعني أم جميل، واسمها فاطمة كما تقدم، وقيل زينب، وقيل آمنة قد صبئت: أي أسلمت وكذا زوجها وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهو ابن عمّ عمر، وكانت أخت سعيد عاتكة تحت عمر، فرجعت مغضبا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوّة يكونان معه يصيبان من طعامه وقد ضم إلى زوج أختي رجلين ممن أسلم: أي أحدهما خباب بن الأرت بالمثناة فوق، والآخر لم أقف على اسمه. وفي السيرة الهشامية الاقتصار على خباب، وأنه كان يختلف إليهما ليعلمهما القرآن، فجئت حتى قرعت الباب، فقيل لي: من بالباب؟ قلت: ابن الخطاب، وكان القوم جلوسا يقرؤون صحيفة معهم، فلما سمعوا صوتي تبادروا: أي واستخفوا ونسوا الصحيفة، فقامت المرأة يعني أخته ففتحت لي فقلت لها يا عدوة نفسها قد بلغني أنك قد صبوت وضربتها بشيء كان في يدي فسال الدم، فلما رأت الدم بكت وقالت: يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت، فدخلت وجلست على السرير، فنظرت فإذا بالصحيفة في ناحية من البيت، فقلت: ما هذا الكتاب؟ أعطينيه: أي فإن عمر كان كاتبا، فقالت: لا أعطيكه لست من أهله، أنت لا تغتسل من الجنابة ولا تتطهر، وهذا لا يسمه إلا المطهرون، فلم أزل حتى أعطتنيه: أي بعد أن اغتسل كما في بعض الروايات، وفي بعض الروايات قالت له: يا أخي إنك نجس على شركك فإنه لا يمسه إلا المطهرون، وقولها لا تغتسل من الجنابة، ربما يخالف قول بعضهم إن أهل الجاهلية كانوا يغتسلون من الجنابة، وكون عمر كان يخالفهم في ذلك من البعيد، وكون هذا منها يحمل على أنه لم يغتسل غسلا يعتدّ به يخالفه ما تقدم عن بعض الروايات أنه لما اغتسل دفعت له تلك الرقعة وفي لفظ قالت له: إنا نخشاك عليها، قال لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها، فدفعتها له، أي وطمعت في إسلامه، فإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم، قال: فلما مررت على بسم الله الرحمن الرحيم ذعرت أي فزعت ورميت الصحيفة من يدي: ثم

رجعت إلي نفسي فأخذتها، فإذا فيها سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) [الحديد: الآية 1] فكلما مررت باسم من أسمائه عز وجل ذعرت: أي فألقيها ثم ترجع إليّ نفسي فآخذها حتى بلغت آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النّساء: الآية 136] إلى قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: الآية 91] فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا مني، وحمدوا الله عز وجل، ثم قالوا: يا بن الخطاب أبشر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا، فقال «اللهم أعزّ الإسلام» وفي لفظ «أيد الإسلام بأحد الرجلين، إما بأبي جهل بن هشام، وإما بعمر بن الخطاب» أي وفي لفظ «بأحب هذين الرجلين إليك أبي الحكم عمرو بن هشام يعني أبا جهل وعمر بن الخطاب» أي وفي غير ما رواية بعمر بن الخطاب، من غير ذكر أبي جهل. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إنما قال صلى الله عليه وسلم «اللهم أعزّ عمر بالإسلام» لأن الإسلام يعزّ ولا يعزّ، ولعل قول عائشة ما ذكر نشأ عن اجتهاد منها، بدليل تعليلها واستبعادها أن يعزّ الإسلام بعمر فليتأمل. وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك يوم الأربعاء فأسلم عمر يوم الخميس. قال عمر رضي الله تعالى عنه: «فلما عرفوا مني الصدق، قلت لهم أخبروني بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: هو في بيت بأسفل الصفا ووصفوه: أي وهي دار الأرقم فخرجت» وفي رواية «أن عمر قال: يا خباب انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خباب وابن عمه سعيد معه قال عمر: فلما قرعت الباب قيل من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، فما اجترأ أحد أن يفتح لي الباب لما عرفوه من شدّتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلموا إسلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افتحوا له، فإن يرد الله به خيرا يهده» . وفي لفظ يهديه بإثبات الياء، وهي لغة «ففتحوا لي: أي والذي أذن في دخوله حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، فإن إسلام عمر كان بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام، وقيل بثلاثة أشهر. وكان إسلام عمر وهو ابن ست وعشرين سنة. قال: وأخذ رجلان بعضديّ حتى دنوت من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرسلوه، فأرسلوني، فجلست بين يديه صلى الله عليه وسلم فأخذ بمجامع قميصي فجذبني إليه ثم قال: أسلم يا بن الخطاب، اللهم اهده، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت، بطرف مكة» . أي وفي الأوسط للطبراني، ورواه الحاكم بإسناد حسن عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضرب صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول: اللهم أخرج ما في صدر عمر من غلّ وأبدله إيمانا» أي ولعل خبابا وسعيدا لم يدخلا معه وإلا لبشرا بإسلام عمر. وفي رواية «لما ضرب الباب وسمعوا صوته قام رجل فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا سيفه: أي ولم ير معه خبابا ولا سعيدا، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو فزع،

فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا سيفه، نعوذ بالله من شره، فقال حمزة بن عبد المطلب: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه» . وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن جاء بخير قبلناه، وإن جاء بشر قتلناه» وفي لفظ «إن يرد بعمر خير يسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له، فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في صحن الدار، فأخذ بحجزته وجذبه جذبة شديدة وقال: ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فو الله ما أدري أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة» . وفي لفظ «أخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه، وقال: ما أنت منته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل الله بالوليد بن المغيرة» أي أحد المستهزئين به صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فقال عمر: «يا رسول الله جئت لأؤمن بالله ورسوله أشهد أنك رسول الله» وفي رواية «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرفت» وفي رواية «سمعها أهل المسجد» . وفي رواية «لما جاء دفع الباب فوجد بلالا وراء الباب، فقال بلال: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقال: حتى استأذن لك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال بلال: يا رسول الله عمر بالباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يرد الله به خيرا أدخله في الدين، فقال لبلال: افتح له، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضبعه فهزه» . وفي رواية: «أخذ ساعده وانتهزه؛ فارتعد عمر هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس» وفي لفظ «أخذ بمجامع ثيابه ثم نتره نترة فما تمالك عمر أن وقع على ركبتيه، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، ما الذي تريد وما الذي جئت له؟ فقال عمر: اعرض عليّ الذي تدعو إليه فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأسلم عمر مكانه» . أقول: ولا ينافي هذا ما تقدم من إسلامه وإتيانه بالشهادتين في بيت أخته قبل خروجه إليه صلى الله عليه وسلم: وقوله ولم يعلموا إسلامي، لأنه يجوز أن يكون مراده بقوله جئت لأومن جئت لأظهر إيماني عندك وعند أصحابك، وعند ذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلم يا بن الخطاب» إلى آخره، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: اعرض عليّ الذي تدعو إليه يجوز أن يكون عمر جوّز أن الذي يدعو إليه ويصير به المسلم مسلما أخص مما نطق به من الشهادتين، والله أعلم. قال عمر: وأحببت أن يظهر إسلامي وأن يصيا بني ما يصيب من أسلم من الضرر والإهانة، فذهبت إلى خالي وكان شريفا في قريش وأعلمته أني صبوت: أي وهو أبو جهل.

وقد جاء في بعض الروايات، قال عمر: لما أسلمت تذكرت أيّ أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، فذكرت أبا الجهل فجئت له فدققت عليه الباب، فقال: من الباب؟ قلت عمر بن الخطاب، فخرج إليّ فقال: مرحبا وأهلا يا بن أختي، ما جاء بك؟ قلت جئت لأخبرك. وفي لفظ لأبشرك ببشارة، فقال أبو جهل: وما هي يا ابن أختي؟ فقلت: إني قد آمنت بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وصدّقت ما جاء به، فضرب الباب في وجهي: أي أغلقه، وهو بمعنى أجاف الباب كما في بعض الروايات وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به: أي وإنما كان أبو جهل خال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قيل لأن أم عمر أخت أبي جهل، وقيل لأن أم عمر بنت هشام بن المغيرة والد أبي جهل، فأبو جهل خال أم عمر وقيل إن أم عمر بنت عم أبي جهل وصححه ابن عبد البر، وعصبة الأم أخوال الابن. قال عمر: وجئت رجلا آخر من عظماء قريش وأعلمته أني صبوت فلم يصبني منها شيء، فقال لي رجل: تحب أن يعلم إسلامك؟ قلت نعم، قال: إذا جلس الناس يعني قريشا في الحجر واجتمعوا فائت فلانا لشخص كان لا يكتم السر وهو جميل بن معمر رضي الله عنه. أسلم يوم الفتح، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا، وكان يسمى ذا القلبين، وفيه نزلت ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: الآية 4] ومات في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، وحزن عليه عمر حزنا شديدا، فقال له فيما بينك وبينه إني قد صبوت، قال فلما اجتمع الناس في الحجر جئت الرجل فدنوت منه وأخبرته، فرفع صوته بأعلاه، فقال: ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ، فما زال الناس يضربوني وأضربهم، فقام خالي- يعني أبا جهل على الحجر فأشار بكمه وقال: ألا إني أجرت ابن أختي، فانكشف الناس عني، فصرت» أي بعد ذلك «أرى الواحد من المسلمين يضرب وأنا لا أضرب، فقلت: ما هذا بشيء حتى يصيا بني ما يصيب المسلمين، فأمهلت حتى جلس الناس في الحجر وصلت إلى خالي وقلت له: جوارك عليك ردّ، فقال: لا تفعل يا بن أختي، فقلت: بل هو ذاك، فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام» . أي وفي السيرة الهشامية: بينما القوم يقاتلونه ويقاتلهم، إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم: أي وهو العاص بن وائل فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا صبأ عمر، قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب مسلمين لكم صاحبهم هكذا، خلوا عن الرجل، فانفرجوا عنه كأنهم ثوب كشط عنه. أي وفي البخاري «لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره وقالوا صبأ عمر، فبينا عمر في داره خائفا إذ جاءه العاص بن وائل، فقال له: ما لك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت: أي إذ أسلمت، قال: أمنت لا سبيل إليك، فخرج

العاص فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نريد هذا عمر بن الخطاب الذي صبأ، قال: لا سبيل إليه فأنا له جار، فكسر الناس، وتصدعوا عنه» أي ويذكر «أن عتبة بن ربيعة وثب عليه فألقاه عمر إلى الأرض وبرك عليه وجعل يضربه وأدخل أصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، وصار لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشرا سيفه وهي أطراف أضلاعه» . وعن عمر رضي الله تعالى عنه في سبب إسلامه، قال «خرجت أتعرّض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح بسورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) [الحاقّة: الآيتان 40 و 41] قال: قلت كاهن علم ما في نفسي، فقرأ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) [الحاقّة: الآية 42] إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع» . أي ومن ذلك ما في السيرة الهشامية عن عمر رضي الله تعالى عنه «قال: جئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام» أي صخرة بيت المقدس «وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فكان مصلاه بين الركن الأسود والركن اليماني» أي لأنه لا يكون مستقبلا لبيت المقدس إلا حينئذ كما تقدم «قال: فقلت حين رأيته صلى الله عليه وسلم لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، قال: فقلت لئن دنوت منه أستمع لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها يعني الكعبة، فجعلت أمشي رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فقرأ صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائما في مكاني ذلك حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف فتبعته، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسي عرفني وظن إنما تبعته لأوذيه فنهمني أي زجرني، ثم قال: ما جاء بك يا بن الخطاب هذه الساعة؟ قلت: جئت لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله» وفي رواية «ضرب أختي المخاض ليلا، فخرجت من البيت فدخلت في أستار الكعبة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر فصلى فيه ما شاء الله ثم انصرف، فسمعت شيئا لم أسمع مثله، فخرج فاتبعته، فقال: من هذا؟ قلت عمر، قال: يا عمر ما تدعني لا ليلا ولا نهارا، فخشيت أن يدعو عليّ، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: يا عمر أتسرّه. قلت: لا والذي بعثك بالحق لأعلننه كما أعلنت الشرك، فحمد الله تعالى، ثم قال: هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بيته» . أي ويحتاج للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها، ثم رأيت العلامة ابن

حجر الهيتمي، قال: ويمكن الجمع بتعداد الواقعة قبل إسلامه، هذا كلامه فليتأمل ما فيه. قال: ومن ذلك أي مما كان سببا لإسلام عمر «أن أبا جهل بن هشام، قال: يا معشر قريش إن محمدا قد شتم آلهتكم وسفه أحلامكم، وزعم أن من مضى من أسلافكم يتهافتون في النار، ألا ومن قتل محمدا فله عليّ مائة ناقة حمراء وسوداء، وألف أوقية من فضة: أي وفي لفظ: جعلوا لمن يقتله كذا وكذا أوقية من الذهب، وكذا كذا أوقية من الفضة، وكذا كذا نافجة من المسك، وكذا كذا ثوبا وغير ذلك، فقال عمر: أنا لها، فقالوا له: أنت لها يا عمر وتعاهد معهم على ذلك، قال عمر: فخرجت متقلدا سيفي متنكبا كنانتي: أي جعلتها في منكبي أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمررت على عجل يذبح، فسمعت من جوفه صوتا يقول: يا آل ذريح، صائح يصيح، بلسان فصيح، يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت في نفسي: إن هذا الأمر لا يراد به إلا أنت، وذريح اسم للعجل المذبوح، وقيل له ذلك من أجل الدم، لأن الذريح شديد الحمرة، يقال أحمر ذريحي: أي شديد الحمرة، ثم مر برجل أسلم وكان يكتم إسلامه خوفا من قومه، يقال له نعيم: أي ابن عبد الله النحام كما تقدم، فقال له: أين تذهب يا بن الخطاب؟ فقال: أريد هذا الصابئ الذي فرّق أمر قريش وسفه أحلامها وسب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك: أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وقد قتلت محمدا؟ فلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك أي زوج أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأختك قد أسلما فعليك، وإنما فعل ذلك نعيم ليصرفه عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الذي لقيه سعد بن أبي وقاص، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمدا، قال له: أنت أصغر وأحقر من ذلك، تريد أن تقتل محمدا وتدعك بنو عبد مناف أن تمشي على الأرض، فقال له عمر: ما أراك إلا وقد صبأت فأبدأ بك فأقتلك، فقال سعد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فسلّ عمر سيفه وسلّ سعد سيفه وشد كل منهما على الآخر حتى كادا أن يختلطا، ثم قال سعد لعمر: ما لك يا عمر لا تصنع هذا بختنك وأختك، فقال صبآ قال نعم، فتركه عمر وسار إلى منزل أخته» أي ولا مانع أن يكون لقي كلا من نعيم وسعد بن أبي وقاص وقال له كل منهما ما ذكر. وفي هذه الرواية «وجد عندهم خباب بن الأرت معه صحيفة فيها سورة طه يقرؤها عليهم، وإنه دق عليهم الباب، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب: أي وترك الصحيفة، فلما دخل قال لأخته: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالت له: ما سمعت

شيئا غير حديث تحدثنا به بيننا، قال بلى والله لقد أخبرت أنكما- يخاطب أخته وزوجها- بايعتما محمدا على دينه، وبطش بزوج أخته فألقاه إلى الأرض وجلس على صدره وأخذ بلحيته، فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها: أي فلما رأت الدم قالت له: يا عدو الله أتضربني على أن أوحد الله تعالى؟ لقد أسلمت على رغم أنفك فاصنع ما أنت صانع، فلما رأى ما بأخته وما صنع بزوجها ندم وقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة أنظر ما هذا الذي جاء به محمد؟ وكان عمر كاتبا، قالت: أخشاك عليها، فحلف ليردنها إذا قرأها إليها، فقالت له: يا أخي أنت نجس ولا يمسه إلا الطاهر، فقام واغتسل: أي وفي لفظ فذهب يغتسل، فخرج إليها خباب وقال: أتدفعين كتاب الله تعالى إلى عمر وهو كافر؟ قالت نعم، إني أرجو أن يهدي الله أخي، ورجع خباب إلى محله ودخل عمر، فأعطته تلك الصحيفة؛ فلما قرأها عمر وبلغ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) [طه: الآية 16] قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا عبده ورسوله» اهـ أي وفي رواية «أنه لما قرأ الصحيفة قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه: أي وقيل إنه لما انتهى إلى قوله تعالى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) [طه: الآية 14] قال: ينبغي لمن يقول هذا أن لا يعبد معه غيره، فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال: يا عمر إني لأرجو أن يكون الله تعالى قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإني سمعته أمس وهو يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر، فقال له عند ذلك: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم: أي عنده وعند أصحابه، فلا ينافي ما في الرواية الأولى أنه أسلم، فقال له خباب هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه؛ فعمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» الحديث. أقول: ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين حيث كانت القصة واحدة ولم تتعدد؛ بأنه يجوز أن يكون زوج أخته استخفى أولا مع خباب ورفيقه ثم ظهر فأوقع به وبأخته ما ذكر، وأنه في الرواية الأولى اقتصر على ذكر أخته والصحيفة تعددت، واحدة فيها سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: الآية 1] والثانية فيها طه، اقتصر في الرواية الأولى على إحداهما وهي التي فيها سَبَّحَ لِلَّهِ [الحديد: الآية 1] وفي الرواية الثانية على الأخرى التي فيها (طه) وإنه في الرواية الأولى أسلم، وفي الرواية الثانية سكت عن ذلك، والله أعلم. وعن ابن عباس أيضا رضي الله تعالى عنهما: لما أسلم عمر رضي الله تعالى عنه قال المشركون: لقد انتصف القوم منا. وعن ابن عباس أيضا رضي الله تعالى عنهما: لما أسلم عمر رضي الله تعالى عنه نزل جبريل عليه الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد استبشر أهل

السماء بإسلام عمر» . قال: وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر» اهـ وزاد بعضهم عن ابن مسعود: والله لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة أي عندها ظاهرين آمنين حتى أسلم عمر، فقاتلهم حتى تركونا، فصلينا: أي وجهروا بالقراءة وكانوا قبل ذلك لا يقرؤون إلا سرا كما تقدم. وعن صهيب: لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقا. وفي كلام ابن الأثير: مكث صلى الله عليه وسلم مستخفيا في دار الأرقم ومن معه من المسلمين إلى أن كملوا أربعين بعمر بن الخطاب، وعند ذلك خرجوا، وتقدم ما في ذلك. ومما يؤثر عن عمر رضي الله تعالى عنه: من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه. السيد هو الجواد حين يسأل، الحليم حين يستجهل. أشقى الولاة من شقيت به رعيته. أعدل الناس أعذرهم للناس. وفي مختصر تاريخ الخلفاء لابن حجر الهيتمي أن عمر أول من قال: أطال الله تعالى بقاءك، وأيدك الله، قال ذلك لعلي رضي الله تعالى عنه. وهو أول من استقضى القضاء في الأمصار. ويروى أن الأرقم هذا لما كان بالمدينة بعد الهجرة تجهز ليذهب فيصلي في بيت المقدس فلما فرغ من جهازه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يودعه فقال له: ما يخرجك؟ أي من المدينة حاجة أم تجارة؛ قال: لا يا رسول الله بأبي أنت وأمي، ولكن أريد الصلاة في بيت المقدس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» فجلس الأرقم ولم يذهب لبيت المقدس. ولما حضرته الوفاة أوصى أن يصلي عليه سعد بن أبي وقاص، فلما مات كان سعد بالعقيق، فقال مروان: يحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل غائب وأراد الصلاة عليه فأبى ولده ذلك على مروان، ووقع بينهم كلام؛ ثم جاء سعد وصلى على الأرقم. أي وقيل لعمر رضي الله عنه: ما سبب تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لك بالفاروق؟ قال: لما أسلمت والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مختفون قلت يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم، فقلت: ففيم الاختفاء، والذي بعثك بالحق ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإسلام غير هائب ولا خائف، والذي بعثك بالحق لنخرجن، فخرجنا في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر، له: أي لذلك الجمع كديد ككديد الطحين أي

لذلك الجمع غبار ثائر من الأرض لشدة وطء الأقدام، لأن الكديد التراب الناعم إذا وطئ ثار غباره قال: حتى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إليّ وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها: أي فطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم رجع ومن معه إلى دار الأرقم، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق، فرق الله بي بين الحق والباطل. أي وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم خرج في صفين: حمزة في أحدهما. وعمر في الآخر، لهم كديد ككديد الطحين» . وفي رواية: أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له يا رسول الله لا ينبغي أن تكتم هذا الدين، أظهر دينك، وفي رواية «والله لا يعبد الله سرا بعد اليوم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون وعمر أمامهم، معه سيفه ينادي: لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد، ثم صاح مسمعا لقريش: كل من تحرك منكم لأمكنن سيفي منه، ثم تقدم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف والمسلمون، ثم صلوا حول الكعبة، وقرؤوا القرآن جهرا، وكانوا كما تقدم لا يقدرون على الصلاة عند الكعبة ولا يجهرون بالقرآن» . وفي المنتقى على ما نقله بعضهم «فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر أمامه، وحمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنهما، حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الأرقم» . وفيه أن صلاة الظهر لم تكن فرضت حينئذ، إلا أن يقال المراد بصلاة الظهر الصلاة التي وقعت في ذلك الوقت: أي ولعل المراد بها صلاة الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة صلاهما في وقت الظهر. وعن عمر رضي الله عنه «وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: الآية 125] وقلت: يا رسول الله: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التحريم: الآية 5] ، فنزلت، أي وقد قال له بعض نسائه صلى الله عليه وسلم: يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟» ومنع رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أبي ابن سلول. وفي البخاري «لما توفي عبد الله بن أبي جاء ولده عبد الله رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه» وهذا لا يخالف ما في تفسير القاضي البيضاوي، من أن ابن أبيّ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فلما دخل عليه، فسأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده الشريف ويصلي عليه،

فلما مات أرسل له صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه، لأنه يجوز أن يكون إرساله للقميص بسؤال ولده له صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه. قال في الكشاف: فإن قلت: كيف جازت له صلى الله عليه وسلم تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه. قلت: كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له؛ وذلك أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا، وكان رجلا طوالا، فكساه عبد الله قميصه: أي ولأن الضنة بإرساله القميص سيما وقد سئل فيه مخلّ بالكرم، وقال له المشركون يوم الحديبية: إنا لا نأذن لمحمد ولكن نأذن لك، فقال: لا، إن لي في رسول الله أسوة حسنة، فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك وإكراما لابنه. وفي هذا تصريح بأن ابن أبي كان مع المسلمين في بدر وفي الحديبية. ثم إن ابنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، فقال له: أسألك أن تقوم على قبره لا تشمت به الأعداء: أي وذلك بعد سؤال ولده له صلى الله عليه وسلم في ذلك كما تقدم عن القاضي البيضاوي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر رضي الله تعالى عنه، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرت، فقال اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التّوبة: الآية 80] وسأزيده على السبعين، وفي رواية: أتصلي على ابن أبيّ وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟ أعدّ عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التّوبة: الآية 84] إلى قوله وَهُمْ فاسِقُونَ [التّوبة: الآية 84] ولينظر ما معنى التخيير في الآية، وما الجمع بين قوله «سأزيد على السبعين» وقوله «ولو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» ؟. ثم رأيت القاضي البيضاوي قال في وجه التخيير: وقوله سأزيد على السبعين إنه صلى الله عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل، فجوّز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه، فبين له: أي الحق سبحانه أن المراد به التكثير بقوله في الآية الأخرى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: الآية 6] هذا كلامه وحينئذ يشكل قوله «لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» فإن هذا مقتض لعدم الصلاة عليه، لا للصلاة عليه فليتأمل، وقد قال علي رضي الله تعالى عنه: إن في القرآن لقرآنا من رأي عمر، وما قال الناس في شيء وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر. وقد أوصل بعضهم موافقاته: أي الذي نزل القرآن على وفق ما قال وما أراد

باب: اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف وكتابة الصحيفة

إلى أكثر من عشرين: أي وقد أفردها بعضهم بالتأليف، وقد سئل عنها الجلال السيوطي فأجاب عنها نظما. قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ما نزل بالناس أمر، فقال الناس وقال عمر إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر. وعن مجاهد: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن. وقد قال صلى الله عليه وسلم «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» ومن موافقاته ما سيأتي في أسارى بدر. ومنها أنه لما سمع قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) [المؤمنون: الآية 12] الآية، قال فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: الآية 14] فنزلت كذلك. ومنها أن بعض اليهود قال له إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدوّ لنا، فقال مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) [البقرة: الآية 98] فنزلت كذلك «واستأذن رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له وقال: يا أخي لا تنسانا من دعائك» أي وفي رواية «يا أخي أشركنا في صالح دعائك ولا تنسانا، قال عمر ما أحب أن لي بقوله: يا أخي ما طلعت عليه الشمس» وجاء «أول من يصافحه الحق عمر بن الخطاب، وأول من يسلم عليه» وجاء «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به» وجاء «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب» وممن نزل القرآن على وفق ما قال مصعب بن عمير أيضا رضي الله تعالى عنه، كان اللواء بيده يوم أحد وسمع الصوت أن محمدا قد قتل، فصار يقول وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: الآية 144] فنزلت. باب: اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف وكتابة الصحيفة قد اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا، وقالوا لقومه: خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحون أنفسكم، فأبى قومه، فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب، وإخراجهم من مكة إلى شعب أبي طالب. فيه تصريح بأن شعب أبي طالب كان خارجا عن مكة، والتضييق عليهم بمنع حضور الأسواق، وأن لا يناكحوهم، وأن لا يقبلوا لهم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل: أي وفي لفظ: لا تنكحوهم، ولا تنكحوا إليهم، ولا تبيعوهم شيئا، ولا تبتاعوا منهم شيئا، ولا تقبلوا منهم صلحا الحديث،

وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة: أي توكيدا على أنفسهم. وقيل كانت عند خالة أبي جهل. وقد يجمع بأنه يجوز أن تكون كانت عندها قبل أن تعلق في الكعبة على أنه سيأتي أنه يجوز أن الصحيفة تعددت، وكان اجتماعهم وتحالفهم في خيف بني كنانة بالأبطح ويسمى محصبا، وهو بأعلى مكة عند المقابر، فدخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الشعب إلا أبا لهب فإنه ظاهر عليهم قريشا، وكان سنه صلى الله عليه وسلم حين دخل الشعب ستة وأربعين سنة. وفي الصحيح «أنهم في الشعب جهدوا كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر» . وفي كلام السهيلي: كانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام يقتاته، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يده شيء يعللهم به، فيغدو التجار على أبي لهب فيربحهم، هذا كلامه. ولا منافاة بين خروج أحدهم السوق إذا جاءت العير بالميرة إلى مكة، وكونهم منعوا من الأسواق والمبايعة لهم كما لا يخفى. وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة، وحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة. أقول: وفي رواية «أن خروج بني هاشم وبني المطلب إلى الشعب لم يكن بإخراج قريش لهم، وإنما خرجوا إليه لأن قريشا لما قدم عليهم عمرو بن العاص من عند النجاشي خائبا، وردت معه هديتهم، وفقد صاحبه الذي هو عمارة بن الوليد، وبلغهم إكرام النجاشي لجعفر ومن معه من المسلمين: أي كما سيأتي، وظهور الإسلام في القبائل، كبر ذلك عليهم، واشتد أذاهم على المسلمين، واجتمع رأيهم على أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بني هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم، وأمرهم أن يدخلوا برسول الله عليه الصلاة والسلام الشعب ويمنعوه ففعلوا، فبنو هاشم وبنو المطلب كانوا شيئا واحدا، لم يفترقوا حتى دخلوا معهم في الشعب، وانخذل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل وقال في قصيدة أخرى: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما

باب الهجرة الثانية إلى الحبشة

فلما علمت قريش ذلك، أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق، على أن لا يجالسوهم» الحديث. وفيه أنه سيأتي أن خروج عمرو بن العاص إلى الحبشة إنما كان بعد الهجرة الثانية، وهي بعد دخول بني هاشم والمطلب إلى الشعب، والله أعلم. باب الهجرة الثانية إلى الحبشة لا يخفى أنه لما وقع ما ذكر انطلق إلى الحبشة عامة من آمن بالله ورسوله: أي غالبهم، فكانوا عند النجاشي ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة، وهذا بناء على أن عمار بن ياسر كان منهم. وقد اختلف في ذلك، وكلام الأصل يميل إلى ذلك، وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب ومعه زوجته أسماء بنت عميس، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود وعبيد الله بالتصغير ابن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فتنصر هناك ثم مات على النصرانية: أي وبقيت أم حبيبة رضي الله تعالى عنها على إسلامها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. وعن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها قالت «رأيت في المنام كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ حال وتغيرت صورته، فإذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في هذا الدين فلم أر دينا خيرا من دين النصرانية، وقد كنت دنت بها ثم دخلت في دين محمد ثم خرجت إلى دين النصرانية، قالت: فقلت والله ما خير لك، وأخبرته بما رأيته له فلم يحفل بذلك وأكب على الخمر يشربه حتى مات، فرأيت في المنام كأنّ آتيا يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني، فكان كذلك. أي وذكر ابن إسحاق أن أبا موسى الأشعري هاجر إلى الحبشة، ومراده أنه هاجر إليها من اليمن لا من مكة كما فهم الواقدي، فاعترض عليه في ذلك. فعن أبي موسى «أنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باليمن، فخرج هو ونحو خمسين رجلا في سفينة مهاجرين إليه صلى الله عليه وسلم، فألقتهم السفينة إلى النجاشي بالحبشة، فوجدوا جعفرا وأصحابه، فأمرهم جعفر بالإقامة، واستمروا كذلك حتى قدموا عليه صلى الله عليه وسلم هم وجعفر عند فتح خيبر كما سيأتي. وبهذا يندفع قول بعضهم: ما ذكره ابن إسحاق من أن أبا موسى الأشعري هاجر من مكة إلى الحبشة من الغريب جدا، ولعله مدرج من بعض الرواة، فأقاموا بخير دار عند خير جار، فبعثت قريش خلفهم عمرو بن العاص ومعه عمارة بن الوليد بن المغيرة التي أرادت قريش دفعه لأبي طالب ليكون بدلا عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا

قتلوه بهدية إلى النجاشي والهدية فرس وجبة ديباج: أي وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا ليرد من جاء إليه من المسلمين، فلما دخلا عليه سجدا له وقعد واحد من يمينه والآخر عن شماله. وفي كلام بعضهم: فأجلس عمرو بن العاص على سريره وقبل هديتهما، فقالا: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن آلهتنا: أي ولم يدخلوا في دينكم، بل جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قريش لتردوهم إليهم قال: وأين هم؟ قالوا بأرضك، فأرسل في طلبهم: أي وقال له عظماء الحبشة: ادفعهم إليهما فهما أعرف بحالهم، فقال: لا والله حتى أعلم على أي شيء هم؟ فقال عمرو: هم لا يسجدون للملك: أي وفي لفظ لا يخرون لك ولا يحيونك بما يحييك الناس إذا دخلوا عليك رغبة عن سنتكم ودينكم، فلما جاؤوا قال لهم جعفر رضي الله تعالى عنه: أنا خطيبكم اليوم: أي فإنه لما جاءهم رسول النجاشي يطلبهم اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه. قال جعفر ما ذكر، وقال: إنما نقول ما علمنا وما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودع يكون ما يكون، وقد كان النجاشي دعا أساقفته وأمرهم بنشر مصاحفهم حوله، فلما جاء جعفر وأصحابه صاح جعفر، وقال: جعفر بالباب يستأذن ومعه حزب الله، فقال النجاشي: نعم يدخل بأمان الله وذمته، فدخل عليه ودخلوا خلفه فسلم، فقال له الملك: ما لك لا تسجد؟. وفي لفظ: إن عمرا قال لعمارة: ألا ترى كيف يكتنون بحزب الله وما أجابهم به، وإن عمرا قال للنجاشي: ألا ترى أيها الملك أنهم مستكبرون لم يحيوك بتحيتك، فقال النجاشي: ما منعكم أن لا تسجدوا وتحيوني بتحيتي التي أحيى بها، فقال جعفر: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قال: ولم ذلك؟ قال: لأن الله تعالى أرسل فينا رسولا، وأمرنا أن لا نسجد إلا لله عز وجل، وأخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بالذي يحيي به بعضنا بعضا: أي وعرف النجاشي ذلك، لأنه كذلك في الإنجيل كما قيل: أي وأمرنا بالصلاة أي غير الخمس، لأنها لم تكن فرضت، بل التي هي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي: أي ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها على ما تقدم. والزكاة: أي مطلق الصدقة، لا زكاة المال لأنها إنما فرضت بالمدينة أي في السنة الثانية، ومراده بالزكاة الطهارة، قال عمرو بن العاص للنجاشي: فإنهم يخالفونك في ابن مريم، ولا يقولون إنه ابن الله عز وجل وعلا. قال: فما تقولون في ابن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله عز وجل: روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء: أي البكر البتول: أي المنقطعة عن الأزواج، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها أي يشقها. ويخرج منها ولد: أي غير عيسى صلى الله على

نبينا وعليه وسلم، فقال النجاشي: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيدون على ما تقولون؛ أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل: أي ومعنى كونه روح الله أنه حاصل عن نفخة روح القدس الذي هو جبريل، ومعنى كونه كلمة الله تعالى أنه قال له كن فكان: أي حصل في حال القول. وفي لفظ أن النجاشي قال لمن عنده من القسيسين والرهبان: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ أي صفته ما ذكر هؤلاء؛ فقالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى، فقال: من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي؛ فعند ذلك قال النجاشي: والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعله وأوضئه: أي أغسل يديه، وقال للمسلمين: أنزلوا حيث شئتم سيوم بأرضي: أي آمنون بها، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق، وقال: من نظر إلى هؤلاء الرهط نظرة تؤذيهم فقد عصاني. وفي لفظ، ثم قال: اذهبوا فأنتم آمنون، من سبكم غرم، قالها ثلاثا: أي أربع دراهم وضعفها كما جاء في بعض الروايات، وأمر بهدية عمرو ورفيقه فردت عليهما. وفي لفظ، أن النجاشي قال: ما أحب أن يكون لي ديرا من ذهب: أي جبلا وأن أوذي رجلا منكم، ردوا عليهم هداياهم فلا حاجة لي بها، فو الله ما أخذ الله تعالى مني الرشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. وكان النجاشي أعلم النصارى بما أنزل على عيسى، وكان قيصر يرسل إليه علماء النصارى لتأخذ عنه العلم. أي وقد بينت عائشة رضي الله تعالى عنها السبب في قول النجاشي: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي. وهو أن والد النجاشي كان ملكا للحبشة فقتلوه وولوا أخاه الذي هو عم النجاشي، فنشأ النجاشي في حجر عمه لبيبا حازما، وكان لعمه اثنا عشر ولدا لا يصلح واحد منهم للملك، فلما رأت الحبشة نجابة النجاشي خافوا أن يتولى عليهم فيقتلهم بقتلهم لأبيه، فمشوا لعمه في قتله، فأبى وأخرجه وباعه، ثم لما كان عشاء تلك الليلة مرت على عمه صاعقة فمات، فلما رأت الحبشة أن لا يصلح أمرها إلا النجاشي ذهبوا وجاؤوا من عند الذي اشتراه، وعقدوا له التاج، وملكوه عليهم، فسار فيهم سيرة حسنة. وفي رواية: ما يقتضي أن الذي اشتراه رجل من العرب، وأنه ذهب به إلى بلاده ومكث عنده مدة، ثم لما مرج أمر الحبشة وضاق عليهم ما هم فيه خرجوا في طلبه وأتوا به من عند سيده، ويدل لذلك ما سيأتي عنه أنه عند وقعة بدر أرسل

خلف من عنده من المسلمين فدخلوا عليه، فإذا هو قد لبس مسحا وقعد على التراب والرماد، فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟ فقال: إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا، وإن الله تعالى قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة، وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم التقى هو وأعداؤه بواد يقال له بدر كثير الأراك، كنت أرعى فيه الغنم لسيدي، وهو من بني ضمرة، وإن الله تعالى قد هزم أعداءه فيه، ونصر دينه. وذكر السهيلي أن بكاءه عند ما تليت عليه (سورة مريم) أي كما سيأتي حتى أخضل لحيته، يدل على طول مكثه ببلاد العرب حتى تعلم من لسان العرب ما فهم به تلك السورة. قال: وعن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا خير جار وأمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية: أي هيئوا له هدية؛ ولا يخالف ما تقدم من أن الهدية كانت فرسا وجبة ديباج، لأنه يجوز أن يكون بعض الأدم ضم إلى تلك الفرس والجبة للملك، وبقية الأدم فرق على أتباعه ليعاونوهما على ما جاء بصدده، والاقتصار على الفرس والجبة في الرواية السابقة لأن ذلك خاص بالملك. ثم بعثوا عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص يطلبان من النجاشي أن يسلمنا لهم: أي قبل أن يكلمنا، وحسن له بطارقته ذلك، لأنهما لما أوصلا هداياهم إليهم قالوا لهم: إذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم لنا قبل أن يكلمهم: أي موافقة لما وصت عليه قريش. فقد ذكر أنهم قالوا لهما: ادفعوا لكل بطريق هدية قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما للنجاشي هداياه، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، فلما جاآ إلى الملك قالا له: أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء؛ فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت: أي جاءهم به رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتبعه منا إلا السفهاء، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم إليهم؛ فهم أعلم بما عابوا عليهم، فقال بطارقته: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلم بهم فأسلمهم لهما ليرداهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب النجاشي وقال: لاها الله، أي لا والله لا أسلمهم، ولا يكاد قوم يجاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم، فإن كان كما يقولان سلمتهم إليهما،

وإلا منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني، ثم أرسل لنا ودعانا، فلما دخلنا سلمنا، فقال من حضره: ما لكم لا تسجدون للملك؟ قلنا، لا نسجد إلا الله عز وجلّ، فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من الملل، فقلنا: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، وذلك الرسول منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده، ونخلع: أي نترك ما كان يعبد آباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده، وأمرنا بالصلاة، أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، والزكاة، أي مطلق الصدقة، والصيام أي ثلاثة أيام من كل شهر: أي وهي البيض أو أي ثلاثة على الخلاف في ذلك. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء؛ أي ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعدا علينا قومنا ليردونا إلى عبادة الأصنام واستحلال الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحاولوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورجوناك أن لا نظلم عندك يا أيها الملك، فقال النجاشي لجعفر: هل عندك مما جاء به شيء؟ قلت نعم. قال: فاقرأه عليّ، فقرأت عليه صدرا من كهيعص، فبكى والله النجاشي حتى اخضل، أي بل لحيته وبكت أساقفته، وفي لفظ: هل عندك مما جاء به عن الله تعالى شيء؟ فقال جعفر نعم، قال: فاقرأه عليّ، قال البغوي: فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم ففاضت عيناه وأعين أصحابه بالدمع، وقالوا: زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب، فقرأ عليهم سورة الكهف فقال النجاشي: هذا والله الذي جاء به موسى: أي وفي رواية: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، أي وهذا كما قيل يدل على أن عيسى كان مقررا لما جاء به موسى، وفي رواية بدل موسى عيسى، ويؤيده ما في لفظ أنه قال: ما زاد هذا على ما في الإنجيل إلا هذا العود لعود كان في يده أخذه من الأرض. وفي لفظ أن جعفرا قال للنجاشي: سلهما أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم، فقال عمر: بل أحرار، فقال جعفر: سلهما هل أهرقنا دماء بغير حق فيقتص منا؟ هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه؟ فقال عمرو: لا، فقال النجاشي لعمرو وعمارة: هل لكما عليهما دين؟ قالا: لا، قال: انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا، زاد في رواية: ولو أعطيتموني ديرا من ذهب

أي جبلا من ذهب، ثم غدا عمرو إلى النجاشي: أي أتى إليه في غد ذلك اليوم وقال له: إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما: أي يقولون إنه عبد الله أي وإنه ليس ابن الله. أي وفي لفظ أن عمرا قال للنجاشي: أيها الملك إنهم يشتمون عيسى وأمه في كتابهم فاسألهم، فذكر له جعفر ما تقدم في الرواية الأولى. هذا، وعن عروة بن الزبير: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان، وهو حصر عجيب فليتأمل. وروى الطبراني عن أبي موسى الأشعري بسند فيه رجال الصحيح «أن عمرو بن العاص مكر بعمارة بن الوليد: أي للعداوة التي وقعت بينه وبينه في سفرهما: أي من أن عمرو بن العاص كان معه زوجته وكان قصيرا دميما، وكان عمارة رجلا جميلا فتن امرأة عمرو وهوته، فنزل هو وإياه في السفينة، فقال له عمارة: مر امرأتك فلتقبلني، فقال له عمرو: ألا تستحي، فأخذ عمارة عمرا ورمى به في البحر، فجعل عمرو يصيح وينادي أصحاب السفينة، ويناشد عمارة حتى أدخله السفينة وأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة، بل قال لامرأته: قبلي ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه، فلما أتيا أرض الحبشة مكر به عمرو، فقال: أنت رجل جميل والنساء يحببن الجمال، فتعرض لزوجة النجاشي لعلها أن تشفع لنا عنده، ففعل عمارة ذلك وتكرر تردده عليها حتى أهدت إليه من عطرها: أي ودخل عندها، فلما رأى عمرو ذلك أتى النجاشي وأخبره بذلك: أي فقال له: إن صاحبي هذا صاحب نساء، وإنه يريد أهلك وهو عندها الآن، فاعلم علم ذلك، فبعث النجاشي، فإذا عمارة عند امرأته، فقال: لولا أنه جاري لقتلته؛ ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل، فدعا بساحر فنفخ في إحليله نفخة، طار منها هائما على وجهه مسلوب العقل حتى لحق بالوحوش في الجبال إلى أن مات على تلك الحال اهـ. أي ومن شعر عمرو بن العاص يخاطب به عمارة بن الوليد: إذ المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما قضى وطرا منه وغادر سبة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما ولا زال عمارة مع الوحوش إلى أن كان موته في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وإن بعض الصحابة وهو ابن عمه عبد الله بن أبي ربيعة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قد استأذنه في المسير إليه لعله يجده، فأذن له عمر رضي الله تعالى عنه فسار عبد الله إلى أرض الحبشة، وأكثر النشدة عنه والفحص عن أمره، حتى أخبر أنه في جبل، يرد مع الوحوش إذا وردت ويصدر معها إذا

صدرت، فجاء إليه ومسكه، فجعل يقول له: أرسلني وإلا أموت الساعة، فلم يرسله فمات من ساعته، وسيأتي بعد غزوة بدر أنهم أرسلوا للنجاشي عمرو بن العاص أيضا وعبد الله بن أبي ربيعة. هذا وكان اسمه قبل أن يسلم بجيرا، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وأبو ربيعة الذي هو أبو عبد الله، كان يقال له ذو الرمحين، وأم عبد الله هي أم أبي جهل بن هشام، فهو أخو أبي جهل لأمه أرسلوهما إليه ليدفع لهما من عنده من المسلمين ليقتلوهم فيمن قتل ببدر. ومن العجب أن صاحب المواهب ذكر أن إرسال قريش لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ومعهما عمارة بن الوليد في الهجرة الأولى للحبشة، وإنما كان عمرو وعمارة في الهجرة الثانية، وابن أبي ربيعة إنما كان مع عمرو بعد بدر كما علمت، وإن كان يمكن أن يكون عبد الله بن أبي ربيعة أرسلته قريش مرتين إلا أنه بعيد. ويرده قول بعضهم: إن قريشا أرسلت في أمر من هاجر إلى الحبشة مرتين: الأولى أرسلت عمرو بن العاص وعمارة. والثانية أرسلت عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فليتأمل. ومكث بنو هاشم في الشعب ثلاث سنين. وقيل سنتين في أشد ما يكون في البلاء وضيق العيش، وولد عبد الله بن عباس في الشعب، فمن قريش من سره ذلك، ومنهم من ساءه وقالوا: انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة: أي من شلل يده كما تقدم؛ وصار لا يقدر أحد أن يوصل إليهم طعاما ولا أدما حتى أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي معه في الشعب؛ فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم، والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فقال له أبو البختري بن هشام: ما لك وما له؟ فقال أبو جهل: إنما يحمل الطعام لبني هاشم، فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها؟ خل سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البحتري لحى بعير: أي العظم الذي تنبت عليه الأسنان فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا. وأبو البختري- بالحاء المهملة- وفي مختصر أسد الغابة- بالخاء المعجمة- ممن قتل ببدر كافرا؛ وحتى أن هاشم بن عمرو بن الحارث العامري رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك- أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أجمال طعاما، فعملت بذلك قريش، فمشوا إليه حين أصبح وكلموه في ذلك، فقال: إني غير عائد لشيء خالفكم؛ ثم أدخل عليهم ثانيا جملا وقيل جملين، فعلمت به قريش فغالظته: أي أغلظت له القول وهمت به، فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه يصل رحمه، أما

إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا، وكان أبو طالب في كل ليلة يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي فراشه ويضجع به، فإذا نام الناس أقامه وأمر أحد بنيه أو غيرهم أي من إخوته أو بني عمه أن يضطجع مكانه خوفا عليه أن يغتاله أحد ممن يريد به السوء: أي وفي الشعب ولد عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الأرضة: أي وهي سوسة تأكل الخشب إذا مضى عليها سنة نبت لها جناحان تطير بهما، وهي التي دلت الجن على موت سليمان؛ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أكلت ما في الصحيفة من ميثاق وعهد: أي الألفاظ المتضمنة للظلم وقطيعة الرحم؛ ولم تدع فيها اسما لله تعالى إلا أثبتته فيها. وفي رواية ولم تترك الأرضة في الصحيفة اسما لله عز وجل إلا لحسته، وبقي ما فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، أي والرواية الأولى أثبت من الثانية. قال: وجمع بين الروايتين بأنهم كتبوا نسخا فأكلت الأرضة من بعض النسخ اسم الله تعالى، وأكلت من بعض النسخ ما عدا اسم الله تعالى، لئلا يجتمع اسم الله تعالى مع ظلمهم انتهى، أي والتي علقت في الكعبة هي التي لحست تلك الدابة ما فيها من اسم الله تعالى، كما يدل عليه ما يأتي، فذكر ذلك لعمه أبي طالب، فقال له عمه: والثواقب أي النجوم، لأنها تثقب الشياطين، وقيل التي تضيء لأنها تثقب الظلام بضوئها، وقيل الثريا خاصة لأنها أشد النجوم ضوآ- ما كذبتني قط: أي ما حدثتني كذبا. وفي رواية أنه قال له: أربك أخبرك بهذا الخبر؟ قال نعم، فانطلق في عصابة: أي جماعة من قومه أي من بني هاشم وبني المطلب. أي وفي رواية أن أبا طالب لما ذكر لأهله قالوا له: فما ترى؟ قال: أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم، وتخرجوا إلى قريش، فتذكروا ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر، فخرجوا حتى أتوا المسجد على خوف من قريش، فلما رأتهم قريش ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، فتكلم معهم أبو طالب، وقال: جرت أمور بيننا وبينكم، فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح: أي مخرج يكون سببا للصلح، وإنما قال أبو طالب ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها: أي فلا يأتون بها، فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم: أي لأنه الذي وقعت عليه العهود والمواثيق، فوضعوها بينهم وقالوا لأبي طالب: أي توبيخا له ولمن معه: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم في أمر نصف بيننا وبينكم: أي أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم، إن ابن أخي أخبرني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة لم تترك فيها اسما من أسماء الله تعالى إلا لحسته وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم.

أقول: هذه على الرواية الثانية، وأما على الرواية الأولى التي هي أثبت فيكون قوله لم تترك اسما إلا أثبتته ولحست مواثيقكم وعهدكم. ثم رأيت ابن الجوزي ذكر ذلك، فقال: إن أبا طالب قال: إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة، فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقي فيها كل ما ذكر به الله تعالى. وفي الينبوع أن أبا طالب قال لما حضرت الصحيفة: إن صحيفتكم هذه صحيفة إثم وقطيعة رحم، وإن ابن أخي أخبرني أن الله تعالى سلط عليها الأرضة، فلم تدع ما كتبتم إلا باسمك اللهم، والله أعلم. قال أبو طالب: فإن كان الحديث كما يقول، فأفيقوا: أي وفي رواية نزعتم: أي رجعتم عن سوء رأيكم: أي وإن لم ترجعوا فو الله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: قد رضينا بالذي تقول: أي وفي رواية أنصفتنا، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا: أي قال أكثرهم: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، وبعضهم ندم وقال: هذا بغي منا على إخواننا وظلم لهم. أي وقد جاء أن أبا طالب قال لهم أي بعد أن وجدوا الأمر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة؟ ودخلوا بين أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصرنا على من ظلمنا، وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا، ثم انصرفوا إلى الشعب، وعند ذلك مشى طائفة منهم وهم خمسة في نقض الصحيفة: أي ما تضمنته، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أمية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبد المطلب، وقد أسلم بعد ذلك كالذي قبله كما تقدم، والمطعم بن عدي مات كافرا كما تقدم. وأبو البختري بن هشام قتل ببدر كافرا. كما تقدم وزمعة بن الأسود قتل ببدر كافرا. واختلف في كاتب الصحيفة، فعند ابن سعد أنه بغيض بن عامر فشلت يده، ولم يعرف له إسلام: وعند ابن إسحاق أن الكاتب لها هشام بن عمرو المتقدم ذكره. قال: وقيل إن الكاتب لها منصور بن عكرمة: أي فشلت يده فيما يزعمون، كذا في النور نقلا عن سيرة ابن هشام. وقيل النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه، وهو ممن قتل على كفره عنده منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر. وقيل الكاتب لها طلحة بن أبي طلحة العبدري. قال ابن كثير رحمه الله: والمشهور أنه منصور.

ويجمع بين هذه الأقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ: أي فكل كتب نسخة انتهى: أي وينبغي أن يكون الذي شلت يده هو كاتب الصحيفة التي علقت في الكعبة، ولعلها هي التي كتبت أولا، وإلى أكل الأرضة الصحيفة، وإلى عد الخمسة الذين سعوا في نقض الصحيفة أشار صاحب الهمزية بقوله: فديت خمسة الصحيفة بالخمسة ... إذ كان للكرام فداء فتية بيتوا على فعل خير ... حمد الصبح أمره والمساء يا لأمر أتاه بعد هشام ... زمعة إنه الفتى الأتاء وزهير والمطعم بن عدي ... وأبو البختري من حيث شاؤوا نقضوا مبرم الصحيفة إذ شد ... دت عليه من العدا الأنداء أذكرتنا بأكلها أكل منسا ... ة سليمان الأرضة الخرساء وبها أخبر النبي وكم أخرج ... خبا له الغيوب خباء أي فديت خمسة الصحيفة: أي الناقضين لها بالخمسة المستهزئين السابق ذكرهم، فتية ثبتوا وتراودوا واشتوروا بالحجون ليلا على فعل خير وهو نقض الصحيفة، حمد الصباح والمساء منهم ذلك الفعل، بالأمر عظيم وهو نقض الصحيفة أتاه بعد هشام زمعة بن الأسود وإنه الكريم في قومه، الأتاء: أي المبالغ في إيتاء الخير، وأتاه زهير، وأتاه المطعم بن عدي، وأتاه أبو البختري من المكان الذي قصدوه فنقضوا مبرم الصحيفة: أي الأمر الذي أبرمته أذكرتنا الأرضة الخرساء بأكلها تلك الصحيفة. منسأة: أي عصى سليمان، وبأكلها للصحيفة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ومرات كثيرة أخرج صلى الله عليه وسلم شيئا مخبأ الغيوب له ساترة، والمراد أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين نقضوا الصحيفة فدى بأولئك الخمسة المستهزئين من الأذى الذي أصابهم المتقدم ذكره؛ فلا ينافي أن بعض هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة مات كافرا. قال: جاء أن هشام بن عمرو بن الحارث رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك كما تقدم- مشى إلى زهير بن أمية بن عاتكة بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك أيضا كما تقدم، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب وأخوالك قد علمت لا يباعون ولا يبتاعون؟ فقال: ويلك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت لأنقضها يعني الصحيفة قال: وجدت رجلا، قال من هو؟ قال: أنا، فقال زهير: ابغنا رجلا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن علي، فقال له: يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، يعني بني هاشم وبني المطلب وأنت شاهد على ذلك؟ فقال له: ويحك ماذا

باب ذكر خبر وفد نجران

أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قلت: أنا، قال ابغنا رجلا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قلت: زهير بن أمية، قال: ابغنا رابعا، فذهبت إلى أبي البختري بن هشام، فقلت له نحوا مما قلت للمطعم، فقال: وهل معين علي هذا الأمر؟ قلت نعم، قال: من هو؟ قلت: زهير بن أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال ابغنا خامسا، فذهبت إلى زمعة بن الأسود فكلمته، فقال وهل من أحد يعين على ذلك فسميت له القوم. ثم إن هؤلاء اجتمعوا ليلا عند الحجون، وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم؛ وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم، أي والمطلب هلكى؟ لا يباعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل كذبت والله لا تشق، قال زمعة بن الأسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، قال أبو البختري صدق زمعة، قال المطعم صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله تعالى منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بالليل، فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فشقها انتهى. أي وهذا يدل للرواية الدالة على أن الأرضة لحست اسم الله تعالى، وأثبتت ما فيها من العهود والمواثيق، وإلا فبعد امحاء ذلك منها لا معنى لشقها. وفي كلام بعضهم يحتمل أن أبا طالب إنما أخبرهم بعد سعيهم في نقضها. قال ابن حجر الهيتمي: ويبعده أن الإخبار بذلك حينئذ ليس له كبير جدوى، وقام هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ولبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا. باب ذكر خبر وفد نجران ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفد نجران، وهم قوم من النصارى، ونجران: بلدة بين مكة واليمن، على نحو من سبع مراحل من مكة، كانت منزلا للنصارى، وكانوا نحو عشرين رجلا حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين إلى الحبشة، فوجدوه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجلسوا إليه سألوه وكلموه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ينظرون إليهم، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به، وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم، فلما

باب ذكر وفاة عمه أبي طالب، وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها

قاموا عنه اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون أي تنظرون الأخبار لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال، لا نعلم ركبا أحمق: أي أقل عقلا منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، ويقال نزل فيهم قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [البقرة: الآية 121] إلى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: الآية 55] ونزل قوله تعالى وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: الآية 83] . وذكر في الوفاء وفود ضماد الأزدي عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من الريح: أي ولعل المراد به اللمعة من الجن، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي، قال: فأتيته فقلت: يا محمد إني أرقي من الريح، فإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فقال ضماد: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي. باب ذكر وفاة عمه أبي طالب، وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها لتعلم أنهما ماتا في عام واحد: أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما، وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله: وقضى عمه أبو طالب والد ... دهر فيه السراء والضراء ثم ماتت خديجة ذلك العا ... م ونالت من أحمد المناء وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين، وبعد مضي عشر سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم: أي من مجيء جبريل عليه الصلاة والسلام بالوحي. وهو يردّ قول ابن إسحاق ومن تبعه أن خديجة رضي الله تعالى عنها ماتت بعد الإسراء. وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب. وقيل كانت وفاة خديجة رضي الله تعالى عنها قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة. وقيل

بعده بثلاثة أيام. ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة رضي الله تعالى عنها: أي بثلاثة أيام. ودفنت بالحجون، ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت. وذكر الفاكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال: وروي «أن آدم عليه الصلاة والسلام لما توفي أتي بحنوط، وكفن من الجنة، ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه، ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث عليه الصلاة والسلام الذي هو وصيه معهم، فلما فرغوا قالوا له: هكذا فاصنع بولدك وإخوتك، فإنها سنتكم» هذا كلامه: أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له. ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير، لكن يبعده ما في العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صلّ عليه، فقال له جبريل: بل أنت تقدم فصلّ على أبيك، فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة» وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد، ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة، بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء. وحينئذ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش، إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك، وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك. وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى صلى الله عليه وسلم على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما الذي هو زوجها، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره، وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام، ومعرور معناه في الأصل مقصود. لا يقال: يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء. لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا. وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي، وسيأتي عن الإمتاع: لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى: ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية. وفي كلام بعضهم: صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة، وأول من صلى عليه صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة فليتأمل.

وفي كلام بعضهم: كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم، وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم. وهو أن يقوم ولي الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثني عليه ثم يقول: عليك رحمة الله ثم يدفن، أي وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي ذلك العام عام الحزن، ولزم بيته وأقلّ الخروج، وكانت مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح. ويذكر «أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة رضي الله تعالى عنها وهي مريضة فقال لها: يا خديجة أتكرهين ما أرى منك، وقد يجعل الله في الكرة خيرا؟ أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني» وفي رواية «أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء، وآسية امرأة فرعون، فقالت: آلله أعلمك بهذا يا رسول الله؟» وفي رواية «آلله فعل ذلك يا رسول الله؟ قال نعم، قالت: بالرفاء والبنين» زاد في رواية «أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة» وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به في الجاهلية عند التزويج، والمراد منه الموافقة والملائمة، مأخوذ من قولهم رفأت الثوب: ضممت بعضه إلى بعض، ولعل هذا كان قبل ورود النهي عن ذلك. هذا، وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني، فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت عليّ هذا كلامه، ولعل النهي لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله، كما لم يبلغ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهم. وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة، وكانت قبله عند السكران ابن عمها، وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها، فلما انقضت عدتها تزوّجها صلى الله عليه وسلم، وأصدقها أربعمائة درهم. وقد كانت رأت في نومها أن النبي صلى الله عليه وسلم وطئ عنقها فأخبرت زوجها، فقال: إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوّجك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رأت في ليلة أخرى أن قمرا انقضّ عليها من السماء وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها فقال: لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك. وعقد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها وهي بنت ست أو سبع سنين في شوّال. فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت «قلت لما ماتت خديجة: يا رسول الله ألا تتزوج؟ قال: من؟ قلت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، قال: فمن البكر؟ قلت: أحق خلق الله بك، بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، قال: ومن

الثيب؟ قلت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول، قال: فاذهبي فاذكريهما عليّ، قالت: فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه، قالت: وددت، ادخلي على أبي فاذكري ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال: من هذه؟ قلت: خولة بنت حكيم، قال: فما شأنك؟ قلت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة، قال: كفء كريم، قال: ما تقول صاحبتك؟ قالت تحب ذلك، قال ادعيها إلي، فدعوتها قال: أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك منه؟ قالت نعم، قال: ادعيه لي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها، ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثي على رأسه التراب، ولما أسلم قال: لقد كدني السفه يوم أحثي على رأسي التراب إذ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة يعني أخته» وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها «ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير؟ قد أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت له: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قلت: قد أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح أي تحل له؟ إنما هي بنت أخيه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: ارجعي إليه، فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي- أي تحل، فرجعت فذكرت ذلك له، قالت أم رومان رضي الله تعالى عنها: إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده، والله ما وعد وعدا قط فأخلفه- تعني أبا بكر- فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور، فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان في نفسه من عدته لمطعم، فإن المطعم لما قال له أبو بكر: ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها: ما تقولين يا هذه؟ فأقبلت على أبي بكر وقالت له: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصبيه وتدخله في دينك الذي أنت عليه، فأقبل أبو بكر على المطعم وقال له: ماذا تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع، فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذ بنت ست سنين، وقيل سبع سنين وهو الأقرب» . فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة، لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وعلى عائشة كان في شوّال، ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة. ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها

قبل ذهابها لسودة وعقده عليها، ولا تخفى المخالفة، إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها. وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة. ولما اشتكى أبو طالب: أي مرض وبلغ قريشا ثقله: أي اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أي يسلبونه، ومنه قولهم: من عزّ بز: أي من غلب أخذ السلب: وهو الثياب التي هي البز. وفي لفظ: إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء: أي قتل محمد كما في بعض الروايات، فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه، فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتي، وأرسلوا رجلا يدعى المطلب؛ فاستأذن لهم علي أبي طالب فقال: هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك، قال أدخلهم؛ فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت. وفي لفظ قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك؛ وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، فبعث إليه صلى الله عليه وسلم أبو طالب فجاءه، ولما دخل صلى الله عليه وسلم على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس، فخشي أبو جهل أن يجلس النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفرجة فيكون أرقى منه؛ فوثب أبو جهل فجلس فيها، فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب أبي طالب، فجلس عند الباب انتهى. وفي الوفاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: خلوا بيني وبين عمي، فقالوا: ما نحن بفاعلين؛ وما أنت بأحق به منا، إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك، فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك، وفي لفظ: هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم، وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك. وفي لفظ: سألوك النصف، وفي لفظ: أعط سادات قومك ما سألوك، فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتكم إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ أي تطيع وتخضع، فقال أبو جهل: نعم وآتيك عشر كلمات. وفي لفظ لنعطيكها وعشرا معها، فما هي؟ قال: تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب، فأنزل الله تعالى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص الآية 1] إلى آخر الآيات، وفي لفظ قالوا: أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد، وفي لفظ قالوا: سلنا غير هذه الكلمة. وفي لفظ أن أبا طالب قال: يا بن أخي

هل من كلمة غيرها، فإن قومك قد كرهوها، قال: يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها، ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا. وفي لفظ قالوا عند قيامهم: والله لنشتمك وإلهك الذي يأمرك بهذا، أي وفي لفظ لتكفن عن سبّ آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي أمرك بهذا. قال في الينبوع: وهذه العبارة أحسن من الأولى، لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله، وما كانوا ليسبوا الله عالمين، لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك، وذكر أن ذلك سبب نزول قوله تعالى وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: الآية 108] . هذا، وفي النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: إما أن تنهى محمدا عن سب آلهتنا والنقص منها، وإما أن نسبّ إلهه ونهجوه، قال فيه: وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة، فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر، ولا يتعرض لما يؤدي إلى ذلك، لأن الطاعة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه. وعند ذلك قال أبو طالب لرسول صلى الله عليه وسلم: والله يا بن أخي ما رأيتك سألتهم شحطا أي بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا، فلما قال ذلك طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فجعل يقول: أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة: أي لو ارتكبت ذنبا بعد قولها، وإلا فالإسلام يجبّ ما قبله، فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: والله يا بن أخي لولا مخافة السبة: أي العار عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا: أي بالجيم والزاي خوفا من الموت، وهذا هو المشهور. وقيل بالخاء المعجمة والراء، أي ضعفا لقلتها، وفي رواية: لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك، لكني أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف، فأنزل الله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: الآية 56] الآية. أي وعن مقاتل «أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال. فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى، فقال: يا بن أخي قد علمت أنك صادق لكني أكره أن يقال» الحديث، قال في الهدى: وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها: أي وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم، ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم

أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له، فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى أن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه، علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت. وذكر «أنه لما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه، فقال: يا بن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمع» . وفيه أنه لم يثبت أن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها في حق أبي طالب يردّ ذلك. ويرده أيضا ما في الصحيحين عن العباس رضي الله تعالى عنه أنه قال «قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ قال نعم، وجدته- أي كشف لي عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة- فوجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح» أي وفي لفظ آخر «قال نعم، هو- أي يوم القيامة- في ضحضاح من النار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام، إذ لو أداها لقبلت. وقد يقال: إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام، لأنه لما قال له صلى الله عليه وسلم أولا لم أسمع، فهم أنه حيث لم يسمعها صلى الله عليه وسلم لم يعتدّ بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا. ويرده أيضا ما جاء في رواية «أنه صلى الله عليه وسلم لما كرر علي أبي طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأتي إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك. أي عن الاستغفار لك فأنزل الله عز وجل ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) [التوبة: الآية 113] أي وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها، أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها، لجواز أنه صلى الله عليه وسلم جوّز الفرق بين أمه وعمه، لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه، وفي منع استغفاره لأمه ما تقدم. ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد «اللهم اغفر لقومي» لأن ذلك أي غفران الذنوب مشروط بالتوبة: أي الإسلام، فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالتوبة التي هي الإسلام، ويؤيده رواية «اللهم اهد قومي» أي للإسلام. قال: وأيضا جاء في صحيح ابن حبان عن علي رضي الله تعالى عنه قال «لما مات أبو طالب أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره، قال علي رضي الله تعالى عنه: فلما واريته جئت إليه، فقال لي اغتسل» . أقول: لأنه غسله، وبه وبقوله صلى الله عليه وسلم «من غسل ميتا فليغتسل» استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل.

وروى البيهقي خبر «أن عليا رضي الله تعالى عنه غسله بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك» لكن ضعفه وفي رواية عن علي رضي الله تعالى عنه «لما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب بكى وقال: اذهب فاغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه» . وأما ما روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبي طالب فقال: وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم» فقال الذهبي إنه خبر منكر، والله أعلم. وجاء أيضا «أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: إنه ستنفعه شفاعتي» وفي رواية «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار» أي مقدار ما يغطي بطن قدميه. وفي رواية «في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه» وفي لفظ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب، وأخ لي كان في الجاهلية» يعني أخاه من الرضاعة من حليمة كما في رواية تأتي. أقول: يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الاستغفار لهما، والله أعلم. وفي لفظ آخر «شفعت في أبي وعمي أبي طالب وأخي من الرضاعة- يعني من حليمة- ليكونوا من بعد البعث هباء» . ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء «أنه صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها وقد عزّت قوما من الأنصار في ميتهم: لعلك بلغت معهم الكدي- بالدال المهملة أو الكرا بالراء، يعني القبور- فقالت: لا، فقال: لو كنت بلغت معهم الكدي ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعني عبد المطلب» ولم يقل جدك يعني أباه الذي هو عبد الله، وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا. وعليه فيجوز أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك في أبيه وأمه. وفي رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث، وفي الثاني من هو ضعيف. وقال فيه ابن الجوزي: إنه موضوع بلا شك: أي وهذا أي قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب عد من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا يشكل بقوله تعالى فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) [المدّثّر: الآية 48] أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين في الإخراج من النار بالكلية: أي وفي هذا الثاني أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء: أي في صيرورتهم هباء، إلا أن يقال إنه لم يستجب له في ذلك. قال: وجاء أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن أهون أهل النار- أي وهم الكفار- عذابا أبو طالب، وهو ينتعل بنعلين يغلي منهما دماغه» أي وفي رواية «كما يغلى المرجل» أي القدر من النحاس «حتى يسيل

دماغه على قدميه» وفي رواية «كما يغلى المرجل بالقمقم» قيل والقمقم بكسر القافين: البسر الأخضر يطبخ في المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة. وذكر السهيلي الحكمة في اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم، واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر في الإصابة. أي وقد قال: وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب، ولم يثبت من ذلك شيء. وروى أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حدثني محمد أن الله أمره بصلة الأرحام» وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره» وقال «سمعت ابن أخي الأمين يقول اشكر ترزق، ولا تكفر تعذب» انتهى. وفي المواهب عن شرح التنقيح للقرافي أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، لأنه كان يقول: إني لا أعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أني أخاف أن يعيرني نساء قريش لاتبعته، فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان، غير أنه لم يذعن للأحكام، هذا كلامه. وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله، ولم يوجد ذلك منه كما علمت، وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار، التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع، وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع. وقد روى الطبراني عن أم سلمة «أن الحارث بن هشام- أي أخا أبي جهل بن هشام- أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع، فقال: إنك تحث على صلة الرحم، والإحسان إلى الجار، وإيواء اليتيم، وإطعام الضيف، وإطعام المسكين، وكل هذا مما يفعله هشام، يعني والده، فما ظنك به يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار، وقد وجدت عمي أبا طالب في طمطام من النار، فأخرجه الله لمكانه مني وإحسانه إليّ، فجعله في ضحضاح من النار» . وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم، وكان من وصيته أن قال: يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، فيكم المطاع، وفيكم المقدم الشجاع، والواسع الباع، لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة. أوصيكم بتعظيم هذه البنية: أي الكعبة، فإن فيها مرضاة للرب، وقواما للمعاش. صلوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإن في صلة الرحم منسأة- أي فسحة- في

الأجل، وزيادة في العدد. واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم. أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات. وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العام. وإني أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين في قريش- أي وهو الصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان مخافة الشنآن- أي البغض- وهو لغة في الشنآن- وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل البر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد. وفي لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره، فأطيعوه ترشدوا. ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب، حتى أن بعض سفهاء قريش نثر على رأس النبي صلى الله عليه وسلم التراب، فدخل صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكي لا تبكي يا بنية، فإن الله تعالى مانع أباك، وكان صلى الله عليه وسلم يقول «ما نالت قريش مني شيئا أكرهه- أي أشد الكراهة- حتى مات أبو طالب» وتقدم، وسيأتي بعض ما أوذي به. قال: ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك. ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له: يا محمد امض لما أردت، وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت. واتفق أن ابن العيطلة- أي وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه أبو لهب ونال منه، فولى وهو يصيح: يا معشر قريش صبا أبو عتبة- يعني أبا لهب- فأقبلت قريش على أبي لهب وقالوا له: أفارقت دين عبد المطلب؟ فقال: ما فارقت» وفي لفظ «قالوا له: أصبوت؟ قال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكن أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد، قالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبي معيط إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ أي المحل الذي يكون فيه، يزعم أنه في النار، فقال له أبو

باب ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف

لهب: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار، فقال أبو لهب: لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار، فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى. وفي لفظ «قال له: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟ قال: مع قومه، فخرج أبو لهب إلى أبي جهل وعقبة، فقال: قد سألته، فقال: مع قومه، فقالا: يزعم أنه في النار، فقال: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم» الحديث، ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة، وتقدم الكلام عليهم والله أعلم. باب ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف سميت بذلك، لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها: ألا أبني لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه، فسمي الطائف، وقيل غير ذلك. لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تكن نالته منه في حياته كما تقدم خرج إلى الطائف: أي وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقي من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبي لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب. وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال بعد موت أبي طالب «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له صلى الله عليه وسلم أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا؟ قال: فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» . وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان في شوال سنة عشر من النبوة وحده، وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا، وأن يناصروه على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه. قال في الإمتاع: لأنهم كانوا أخواله. قال بعضهم: ومن ثم أي من أجل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة، كذا قال. وفي كلام غيره: ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة، فهي راحة الأمة، ومتنفس كل ذي ضيق وغمة سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) [الأحزاب: الآية 62] فليتأمل. فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا إخوة ثلاثة: أحدهم عبد ياليل، أي واسمه كنانة لم يعرف له إسلام، وأخوه مسعود أي

وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا، وحبيب. قال الذهبي: في صحبته نظر، أي وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، وجلس صلى الله عليه وسلم إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أي من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة أي ينتفها ويقطعها، أي وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك. وقال له آخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك. وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسول الله كما تقول لأنت أعظم خطرا: أي قدرا من إن أراد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد أيس من خير ثقيف، وقال لهم: اكتموا عليّ، وكره صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له اخرج من بلدنا وألحق بمناجاتك من الأرض، وأغروا به- أي سلطوا عليه- سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أي دقوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: حتى اختضبت نعلاه بالدماء، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أزلقته الحجارة- أي وجد ألمها- قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، كل ذلك وزيد بن حارثة- أي بناء على أنه كان معه صلى الله عليه وسلم- يقيه بنفسه حتى لقد شجّ رأسه شجاجا، فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما عمد إلى حائط من حوائطهم: أي بستان من بساتينهم، فاستظل في حبلة- أي بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف- شجرة كرم، وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب. وقد فسر نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب. قال السهيلي: وهو غريب لم يذهب إليه أحد في تأويل الحديث، فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع» أي وقد جاء النهي عن أن يقال لشجر العنب الكرم في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يقولن أحدكم الكرم، فإن الكرم قلب المؤمن، ولكن قولوا حدائق العنب» قال وسبب النهي عن تسميتها كرما، لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم. وفي لفظ: ثم إن هؤلاء الثلاثة أي عبد ياليل وإخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فلما دخل الحائط رجعوا عنه. قال «وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء منه: اللهم إني أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي» اهـ وإذا في الحائط أي البستان عتبة

وشيبة ابنا ربيعة: أي وقد رأيا ما لقي من سفهاء أهل الطائف، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله، فلما رأياه وما لقي تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود في الصحابة، مات قبل الخروج إلى بدر، فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، أي وهذا لا ينافي كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل: أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده في الطعام قال بسم الله، ويأمر الآكل بالتسمية، وأمر من نسي التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره، فنظر عداس في وجهه وقال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أيّ البلاد أنت، وما دينك يا عداس؟ قال نصراني، وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية، وقيل بضمها: قرية على شاطىء دجلة في أرض الموصل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل قرية، أي وفي رواية «من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى» اسم أبيه، أي كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي تاريخ حماة أنه اسم أمه. قال: ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام. أي وفي مزيل الخفاء: فإن قيل قد ورد في الصحيح «لا تفضلوني على يونس ابن متى» ونسبه إلى أبيه وهو يقتضي أن متى أبوه لا أمه. أجيب بأن متى مدرج في الحديث من كلام الصحابي لبيان يونس بما اشتهر به، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ولما كان ذلك موهما أن الصحابي سمع هذه النسبة من النبي صلى الله عليه وسلم دفع الصحابي ذلك بقوله: ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه، هذا كلامه. «وعند ذلك قال عداس له صلى الله عليه وسلم: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فإني والله لقد خرجت منها- يعني نينوى- وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفت ابن متى وأنت أميّ وفي أمة أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي أمي. وفي رواية «أنا رسول الله، والله أخبرني خبره، وما وقع له مع قومه» أي حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوه وخرج عنهم، وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم، فلما فقدوه قذف الله تعالى في قلوبهم التوبة: أي الإيمان بما دعاهم إليه يونس. وقيل كما في الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة، فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما

أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم، فعند ذلك لبسوا المسوح، وأخرجوا المواشي، وفرقوا بين النساء وأولادها، وبين كل بهيمة وولدها، فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى، وبكى الناس والولدان، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وعجاجيلها، وثغت الغنم وسخالها، وقالوا: يا حيّ حيث لا حي، ويا حي يحيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت. وعن الفضيل أنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجلّ، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله. وفي الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة، وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم، وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل، فمر رجل على يونس فقال له: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم. قيل وكان في شرعهم أن من كذب قتل، فانطلق مغاضبا لقومه، وظن أن لن نقضي عليه بما قضى به عليه أي من الغم وضيق الصدر، قال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: الآية 87] أي لن نضيق عليه، وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة. أي وفي كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء، وأخرج فيه يونس من بطن الحوت، وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبي، التقمه ضحوة ونبذه عشية أي بعد العصر؛ وقاربت الشمس الغروب. وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس في بطنه لئلا يضيق عليه. وقال السدي: مكث أربعين يوما. وقال جعفر الصادق: سبعة أيام. وقال قتادة: ثلاثة أيام؛ وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر؛ فقال لهم: إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير حتى تلقوه في البحر وأشار إلى نفسه؛ فقالوا: لا نلقيك يا نبيّ الله أبدا؛ قال: فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مرات؛ فألقوه فالتقمه الحوت. وقيل قائل ذلك بعض الملاحين؛ وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه في البحر؛ وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت: وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له؛ وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم. وعن وهب بن منبه، وقد سئل عن يونس فقال: كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا، أي فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل، وهم نوح، وهود، وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. أما نوح فلقوله يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ [يونس: 71] الآية. وأما هود فلقوله إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ

دُونِهِ [هود: 54، 55] الآية. وأما إبراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: 4] الآية. وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلقول الله تعالى له فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: الآية 35] فصبر صلى الله عليه وسلم. فعند ذلك أكبّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه، أي فقال أحدهما: أي عتبة وشيبة للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قال له أحدهما: ويلك ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قال: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك. أقول: وفي رواية «قال له وما شأنك؟ سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحدنا؟ قال: هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى، فضحكا به وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه» وقد تقدم في بعض الروايات: أن خديجة رضي الله تعالى عنها قبل أن تذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى: قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام، وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به. وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه، وقست أثر رجل واحد منهم في الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثي شبر، والله أعلم. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها «إنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشدّ من أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال» أي والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية، أي فيقال عبد ياليل وكلال، أي وعبد كلال، ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه، أو لأنهما كانا المجيبين له صلى الله عليه وسلم بالقبيح دون حبيب، إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد يا ليل وعبد كلال، وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة، لأن ابن مفرد مضاف، ثم رأيته في النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت في الصحيح. والذي في كلام ابن اسحاق وأبي عبيد وغيرهما إسقاطه. ثم رأيت الشمس الشامي قال: الذي ذكره أهل المغازي أن الذي كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد ياليل نفسه لا ابنه. وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه: أي أبو أبيه كما لا يخفى «فلم

يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب» : أي ويقال له قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن، بينه وبين مكة يوم وليلة. وفي لفظ «وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن» بسكون الراء. ووهم الجوهري في تحريكها، وفي قوله إن أويسا القرني منسوب إليه، وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت في مسلم «فرفعت رأسي، فإذا أنا بالسحابة قد أظلتني؛ فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فنادى فقال: قد سمع قول قومك لك- أي أهل ثقيف كما هو المتبادر- وما ردوا عليك به، وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم، فناداه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وسلم عليه، وقال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت» أي وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى. فمن الأول قوله: وهما أبو قبيس وقعيقعان. وقيل الجبل الأحمر الذي يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان، ومن الثانية الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى فوق المسجد. وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما، بل الجبلان خارجان عنهم فيكف يطبقهما عليهم؟ وفي لفظ «إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال» أي التي بتلك الناحية. ثم رأيت الحافظ ابن حجر، قال: المراد بقوم عائشة في قوله: لقد لقيت من قومك قريش: أي لا أهل الطائف الذين هم ثقيف، لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه صلى الله عليه وسلم لثقيف؛ ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة رضي الله تعالى عنها؛ وعليه فلا إشكال. ويوافقه قول الهدى: فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين: وهما جبلاها التي هي بينهما. وعبارة الهدى في محل آخر: وفي طريقه صلى الله عليه وسلم أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال، فأمره بطاعته صلى الله عليه وسلم؛ وأن يطبق على قومه أخشبي مكة؛ وهما جبلاها إن أراد، هذا كلامه. ولا يخفى أن هذا خلاف السياق، إذ قوله «وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي» إلى آخره، وقول جبريل «قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به» ظاهر في أن المراد بهم ثقيف لا قريش. ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة في شرح منظومة جده بعد أن ساق دعاءه صلى الله عليه وسلم المتقدم بعضه «فأرسل الله عز وجل جبريل ومعه ملك الجبال؛ فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين» وحينئذ يكون المراد أطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلهما إلى محل ثقيف الذي هو الطائف لأن القدرة صالحة. وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبي صلى الله عليه وسلم «بل أرجو أن يخرج الله تعالى» وفي رواية «أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا

يشرك به شيئا، وعن ذلك قال له ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم» قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم ملك الجبال؛ وإلى حلمه وإغضائه صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الهمزية بقوله. جهلت قومه عليه فأغضى ... وأخو الحلم دأبه الإغضاء وسع العالمين علما وحلما ... فهو بحر لم تعيه الأعباء أي جهلت قومه صلى الله عليه وسلم فآذوه أذية لا تطاق؛ فأغضى عنهم حلما؛ وأخو الحلم: أي وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل؛ فإن علمه وسع علوم العالمين؛ ووسع حلمه حلمهم؛ فهو واسع العلم والحلم؛ لم تعيه الأعباء: أي لم تتعبه الأثقال؛ لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف؛ وقد علمت ما فيه فليتأمل. وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم المذكور من الطائف نزل نخلة وهي محلة بين مكة والطائف، فمر به نفر سبعة؛ وقيل تسعة من جن نصيبين: أي وهي مدينة بالشام؛ وقيل باليمن أثنى عليها صلى الله عليه وسلم بقوله «رفعت إلي نصيبين: حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها» وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل أي وسطه يصلي. وفي رواية «يصلي صلاة الفجر» وفي رواية «هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة» فلعله كان يقرأ في الصلاة، والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس، ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل. وفي قوله جوف الليل تجّوز من الراوي، أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما، أو جمع بين القراءة والصلاة، وأن الجن استمعوا للقراءتين، واطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ، وبهذا يندفع قول بعضهم: صلاة الفجر لم تكن وجبت، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الجن. وفيه: أي في الصحيحين «أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم» . وقد يقال: سيأتي ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع المذكور هنا، بل استماع سابق على ذلك، وهو المذكور في رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الآتية، ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر، وإلا فالروايات التي وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل، وصلاة الفجر كانت في ابتداء البعث في بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم- إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى- ولم يقولوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها. ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على ما لم ينزل، لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كله منزلا. قال: وأنكر ابن عباس رضي

الله تعالى عنهما اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن أي بأحد منهم. ففي الصحيحين عنه قال «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ- أي وكان بين الطائف ونخلة، كان لثقيف وقيس عيلان» كما تقدم «وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ففزعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: وما ذاك إلا من شيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة، فإذا هم بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا- يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد- فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: 1] أي قل أخبرت بالوحي من الله تعالى أنه استمع لقراءتي نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] أي جن نصيبين» . أقول: تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ، فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع، ويجوز أن يكون صلى بهم إماما، لأن الجماعة في ذلك جائزة. ولا يخفى أن هذه القصة التي تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف، يدل لذلك قوله «انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ» لأنه في تلك القصة التي هي قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ما تقدم، وكان مجيئه صلى الله عليه وسلم من الطائف قاصدا مكة. وفي هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ، وأنه قرأ في تلك أي مجيئه من الطائف سورة الجن، وفي هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة، وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك، لأن قصة ابن عباس كانت في ابتداء الوحي، لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت في ذلك الوقت، وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة. وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به صلى الله عليه وسلم ولا قرأ عليهم، وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم. وقد صرح به ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه، وصرح به الحافظ الدمياطي في تلك حيث قال في سيرته «فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين، فاستمعوا له صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الجن، ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: الآية 29] هذا كلامه، ونزول ما ذكره كان بعد انصرافهم.

فقد قال ابن إسحاق «فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله تعالى خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم» وبهذا يعلم ما في سفر السعادة. ولما وصل صلى الله عليه وسلم في رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه، وكذا يعلم ما في المواهب من قوله «ولما انصرف صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين» إلى أن قال: وفي الصحيح أن الذي آذنه صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد، فقال: كل عظم إلى آخره؛ لأن سؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد فرع اجتماعهم، وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه صلى الله عليه وسلم بهم إلا شجرة هناك. وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أي أعلمته بوجودهم، وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به صلى الله عليه وسلم، وأن دعوى ذلك لا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن، فسؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد كان في قصة أخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتي الكلام عليها. ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بنخلة وأسلموا، فأرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى قومهم منذرين، إذ لا جائز أن يكون ذلك في أول البعث، لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وحينئذ يؤيد الاحتمال الثاني الذي ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم بعد أن آذنته بهم الشجرة، وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف في شيء من الروايات على ما هو صريح في ذلك: أي أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف، ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: الآية 29] . وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبراني رويا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن الجن الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم» وهذا ليس صريحا في أنه صلى الله عليه وسلم كان عند رجوعه من الطائف. لا يقال: يعني ذلك إنكار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن المرة الأولى التي كانت عند البعث، لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم كان في بطن نخلة في مرة أخرى ثالثة. ثم رأيت في النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله «إنه لم يجتمع صلى الله عليه وسلم بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ» حيث قال: الذي في الصحيح وغيره أن اجتمع بهم، وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل. قال: وذكر «أنه صلى الله عليه وسلم أقام بنخلة أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا

يدع أحدا من أشرافهم» أي زيادة على عبد ياليل وأخويه «إلا جاء إليه وكلمه فلم يجبه أحد. فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم؟ يعني قريشا وهم قد أخرجوك: أي كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر، فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه، فسار صلى الله عليه وسلم إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أي رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك ليجيره: أي ليدخل صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير- أي في قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم- فبعث صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب» وفيه أنه لو كان كذلك لما سألهما صلى الله عليه وسلم، وكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف هذا الاصطلاح بعيد، إلا أن يقال جوّز صلى الله عليه وسلم مخالفة هذه الطريقة «فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عديّ- أي وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر- يقول له: إني داخل مكة في جوارك، فأجابه إلى ذلك، وقال له: قل له فليأت، فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ثم تسلح المطعم بن عديّ وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله. أي والمطعم بن عدي وولده مطيفون به صلى الله عليه وسلم» قال «وذكر أنه صلى الله عليه وسلم بات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه، وكانوا ستة أو سبعة، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: طف، واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه صلى الله عليه وسلم، وأقبل أبو سفيان على المطعم، فقال: أمجير أم تابع؟ فقال: بل مجير، فقال: إذن لا تخفر- أي لا تزال خفارتك. أي جوارك، قد أجرنا من أجرت، فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه» اهـ. أي ولا بدع في دخوله صلى الله عليه وسلم في أمان كافر، لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى، وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله. أي ولهذا المعروف الذي فعله المطعم قال صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» . ورأيت في أسد الغابة «أن جبيرا ولد المطعم رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بين الحديبية والفتح، وقيل يوم الفتح- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر فسأله في أسارى بدر، فقال: لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم» كما سيأتي، أي لأنه فعل معه صلى الله عليه وسلم هذا الجميل وكان من جملة ما سعى في نقض الصحيفة كما تقدم. قال: وعن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه «لما انصرف النفر السبعة من أهل

نصيبين من بطن نخلة جاؤوا قومهم منذرين، ثم جاؤوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون، فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك، فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من الليل بالحجون» اهـ. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال «أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن، فليقم معي رجل منكم ولا يقم رجل في قلبه مثقال حبة خردل من كبر، فقمت معه: أي بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم» ولعلهم فهموا أن من الكبر ما ليس منه وهو محبة الترفع في نحو الملبس الذي لا يكاد يخلو منه أحد. وقد بين صلى الله عليه وسلم الكبر في الحديث ببطر الحق وغمص الناس: أي استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له «يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر من بطر الحق وغمط الناس» بالطاء المهملة كما في رواية أبي داود، وجاء «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، ولا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان» قال الخطابي: المراد بالكبر هنا: أي في هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان. قال ابن مسعود «وذهب صلى الله عليه وسلم في بعض نواحي مكة- أي بأعلاها بالحجون- فلما برز خط لي خطا: أي برجله وقال: لا تخرج، فإنك إن خرجت لم ترني ولم أرك إلى يوم القيامة» وفي رواية «لا تحدثنّ شيئا حتى آتيك، لا يروعنك: أي لا يخوفنك ويفزعنك؛ ولا يهولنك: أي لا يعظم عليك شيء تراه، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط، وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطي، وكانوا كما قال الله تعالى كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن: الآية 19] أي لازدحامهم لِبَداً أي كاللبد في ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم، فأردت أن أقوم فأذبّ عنه، فذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكثت، ثم إنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم فسمعتهم يقولون: يا رسول الله إن شقتنا أن أرضنا التي نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون، فزوّدنا: أي لأنفسنا ودوابنا» ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم، فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدكم أوفر ما كان لحما» رواه مسلم. وفي رواية «إلا وجد عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل، وكل بعر علف دوابكم» . وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم الزاد، قال لهم: لكم كل عظم عراق، ولكم كل روثة خضرة» والعراق بضم العين وفتح الراء جمع

عرق بفتح العين وسكون الراء: العظم الذي أخذ عنه اللحم. وقيل الذي أخذ عنه معظم اللحم «قلت: يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم أي عن أنفسهم وعن دوابهم» بدليل قوله «فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت» وفي رواية «وجدوه- أي الروث والبعر- شعيرا» فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم، ويوافقه ما جاء «أن الشعير يعود خضرا لدوابهم» ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل، وبين كونه يعود شعيرا، وبين كونه يعود خضرا. هذا، وفي رواية لأبي نعيم «أن الروث يعود لهم تمرا» وهي تدل على أن الروث من مطعومهم، ويحتاج إلى الجمع. وجمع ابن حجر الهيتمي بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم، أي وفي لفظ «سألوني المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة» والحائل: البالي بمرور الزمن، لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم، كما لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لو حرق وصار فحما، ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا، لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل؛ وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة، وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه، فلا يأكلون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم: أي وكذا من طعام الانس سرقة كما جاء في بعض الأخبار. هذا، ولكن في رواية أبي داود «كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه» قال السهيلي: وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبي داود. وقال بعض العلماء: رواية «ذكر اسم الله عليه» في الجن المؤمنين. ورواية «لم يذكر اسم الله تعالى عليه» في حق الشياطين منهم، وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث. هذا كلامه، أي التي من تلك الأحاديث «أن إبليس قال: يا رب ليس أحد من خلقك إلا وقد جعلت له رزقا ومعيشة فما رزقي؟ قال: كل ما لم يذكر عليه اسمي» ومعلوم أن إبليس أبو الجن وأن ما لم يذكر اسم الله عليه يشمل عظم الميتة. ومقابلة الشياطين بالمؤمنين تدل على أن المراد بهم فسقتهم لا الكفار منهم؛ لأن في كون الكفار من الجن اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، وأن كلا من الفريقين سأله الزاد، وأنه خاطب كلا بما يليق به فيه بعد لا سيما مع ما تقدم عن ابن مسعود وما يأتي من قوله إخوانكم من الجن، ومن ثم قال بعضهم: إن السائلين له صلى الله عليه وسلم الزاد كانوا مسلمين فليتأمل. ولما ذكر صلى الله عليه وسلم لهم العظم والروث «قالوا: يا رسول الله إن الناس يقذرونهما علينا، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم أو بروثه بقوله: فلا يستنقينّ أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة، لأنه زاد إخوانكم من الجن» .

وفي رواية «قالوا له صلى الله عليه وسلم أنه أمتك عن الاستنجاء بهما، فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والبعر» أي وحرمة نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى، ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق والمخاط. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال «بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشي إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم فانصرفت، قال جابر: فسألته، فأخبرني أنه رجل من الجن، وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة: أي العظم، لأن الله تعالى جعل لنا في ذلك رزقا» ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضي أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك. وحينئذ يسأل ما كان زادهم قبل ذلك؟ وقد يقال: هو كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين، وحينئذ يكون ما تقدم في خبر إبليس المراد بما لم يذكر اسم الله عليه غير العظم فليتأمل، والنهي عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا. وقصة جابر هذه سيأتي في غزوة تبوك نظيرها «وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم في الطريق، فانحاز الناس عنها، فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إليّ يستمعون القرآن» قال في المواهب: وفي هذ ردّ على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب: أي وإنما يتغذون بالشم. أقول: ذكرت في كتابي «عقد المرجان فيما يتعلق بالجان» أن في أكل الجن ثلاثة أقوال: قيل يأكلون بالمضغ والبلع، ويشربون بالازدراد. والثاني لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم. والثالث أنهم صنفان: صنف يأكل ويشرب، وصنف لا يأكل ولا يشرب، وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم، والله أعلم. «قال ابن مسعود: فلما ولوا قلت من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جن نصيبين» وفي رواية «فتوارى عني حتى لم أره، فلما سطع الفجر أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: أراك قائما، فقلت ما قعدت، فقال: ما عليك لو فعلت أي قعدت؟ قلت: خشيت أن أخرج منه فقال: أما إنك لو خرجت لم ترني ولم أرك إلى يوم القيامة» أي وفي رواية «لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم» وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج. وفي رواية «قال لي: أنمت؟ فقلت: لا والله يا رسول الله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس، أي لما تراكموا عليك، وسمعت منهم لغطا شديدا

حتى خفت عليك إلى أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول: اجلسوا، وسأله عن سبب اللغط الشديد الذي كان منهم، فقال: إن الجن تداعت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ، فحكمت بينهم بالحق» . وفي رواية عن سعيد بن جبير أنه أي ابن مسعود قال له: أولئك جن نصيبين، وكانوا اثني عشر ألفا، والسورة التي قرأها عليهم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] أي ولا ينافي ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه افتتح القرآن، لأن المراد بالقرآن القراءة. زاد ابن مسعود على ما في بعض الروايات «ثم شبك أصابعه في أصابعي، وقال: إني وعدت أن تؤمن بي الجن والإنس، أما الإنس فقد آمنت، وأما الجن فقد رأيت» . أقول: وفي هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التي اختطها له صلى الله عليه وسلم وفي السيرة الهشامية ما يقتضي أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود «فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه صلى الله عليه وسلم من الجبال، فازدحموا عليه إلى آخره» فليتأمل. فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، فإن قصة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت في أول البعث، وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت، وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم «ثم قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: هل معك وضوء أي ماء نتوضأ به؟ قلت لا، فقال: ما هذه الإداوة أي وهي إناء من جلد؟ قلت فيها نبيذ؟ قال: ثمرة طيبة وماء طهور صبّ عليّ، فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى» . أقول: وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء، ومن ثم قال ماء طهور، وقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فيها نبيذ أي منبوذ الذي هو التمر، وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: الآية 36] وهذا بناء على فرض صحة الحديث، وإلا فقد قال بعضهم: حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين. وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه: الذي أقول به منع التطهر بالنبيذ، لعدم صحة الخبر المروي فيه، ولو أن الحديث صح لم يكن نصا في الوضوء به فإنه صلى الله عليه وسلم قال «ثمرة طيبة وماء طهور» ، أي قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء، وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة. قال: ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب، وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له. وعند أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة «قلت لابن مسعود هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما

صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا أستطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشرّ ليلة، فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل الحجون» وفي لفظ «من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشرّ ليلة، فقال إنه أتاني داعي الجن، فذهب معهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» وهذه القصة يجوز أن تكون هي المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهي سابقة على القصة التي كان فيها ابن مسعود. ويجوز أن تكون غيرها وهي المرادة بقول عكرمة «إنهم كانوا اثني عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل» لأن المتقدم في تلك عن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا ثلاثمائة من جن نصيبين. وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التي كان بها ابن مسعود، ويحتمل أن تكون متأخرة عنها، وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود، ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما. قال في الأصل: ويكفي في أمر الجن ما في سورة الرحمن وسورة- قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: الآية 1]- وسورة الأحقاف. أقول: فعلم أن الجن سمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم في المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ في ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم، ولا في المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمناه فيه، وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته صلى الله عليه وسلم في المرتين، وبه يعلم ما في المواهب عن الحافظ ابن كثير أنّ كون الجن اجتمعوا له صلى الله عليه وسلم في نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر، وإنما استماعهم له كان في ابتداء البعث كما يدلّ عليه حديث ابن عباس، أي من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ، وعلم أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم وآمنوا به في مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم. وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن قتادة «أنه قال: لما أهبط إبليس قال: أي رب قد لعنته فما علمه؟ قال السحر، قال: فما قراءته؟ قال الشعر، قال: فما كتابته؟ قال: الوشم، قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة ولم يذكر اسم الله عليه- أي من طعام الإنس يأخذه سرقة، قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكنه؟ قال: الحمام، قال: فأين محله؟ قال: في الأسواق، قال: فما صوته؟ قال المزمار، قال: فما مصايده؟ قال النساء» فالحمام محل أكثر اقامته، والسوق محل تردده في بعض الأوقات. والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن.

باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه رضي الله تعالى عنه

باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه رضي الله تعالى عنه كان الطفيل بن عمرو الدوسي شريفا في قومه شاعرا نبيلا، قدم مكة فمشى إليه رجال من قريش؛ فقالوا: يا أبا الطفيل؛ كنوه بذلك تعظيما له فلم يقولوا يا طفيل، إنك قدمت بلادنا؛ وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل أمره بنا: أي اشتد وفرّق جماعتنا وشتت أمرنا؛ وإنما قوله كالسحر؛ يفرق به بين المرء وأخيه؛ وبين الرجل وزوجته: وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا؛ فلا تكلمه ولا تسمع منه قال الطفيل: فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت: أي قصدت وعزمت على أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه: أي حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا وهو بضم الكاف وسكون الراء ثم سين مهملة مضمومة ثم فاء: أي قطنا، فرقا: أي خوفا من أن يبلغني شيء من قوله؛ فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله: أي فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: أنا ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلت، وإن كان قبيحا تركت، فمكثت حتى انصرف إلى بيته، فقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا حتى سددت أذني بكرسف حتى لا أسمع قولك، فاعرض عليّ أمرك، فعرض عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن: أي قرأ عليه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] إلى آخرها وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) [الفلق: الآية 1] إلى آخرها، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) [النّاس: الآية 1] إلى آخرها. وفيه أنه سيأتي أن نزول قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) [الفلق: الآية 1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) [النّاس: الآية 1] كان بالمدينة عندما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فقال: والله ما سمعت قط قولا أحسن من هذا، ولا أمر أعدل منه فأسلمت، فقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام، فادع الله أن يكون لي عونا عليهم قال: اللهم اجعل له آية، فخرجت حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر: أي وهم النازلون المقيمون على الماء لا يرحلون عنه، وكان ذلك في ليلة مظلمة وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظنوا أنه مثله، فتحول في رأس سوطي، فجعل الحاضر يتراؤون ذلك النور كالقنديل المعلق: أي ومن ثم عرف بذي النور، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:

باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس

وفي جبهة الدوسي ثم بسوطه ... جعلت ضياء مثل شمس منيرة قال: فأتاني أبي فقلت له: إليك عني يا أبت فلست مني ولست منك، فقال: لم يا بني؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بني ديني دينك، فأسلم، أي بعد أن قال له: اغتسل وطهر ثيابك ففعل، ثم جاء فعرض عليه الإسلام ثم أتتني صاحبتي فذكرت لها مثل ذلك: أي قلت لها إليك عني فلست منك ولست مني، قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، قالت: فديني دينك فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام أبطؤوا علي. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قد غلبني دوس وفي رواية «قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم فقال: اللهم اهد دوسا» قال زاد في رواية «وأت بهم، فقال الطفيل: فرجعت فلم أزل بأرض قومي أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق» اهـ فأسلموا، قال: فقدمت بمن أسلم من قومي عليه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر سبعين أو ثمانين بيتا من دوس: أي ومنهم أبو هريرة، فأسهم لنا مع المسلمين أي مع عدم حضورهم القتال اهـ. أقول: قال في النور: وفي الصحيح ما ينفي هذا «وإنه لم يعط أحدا لم يشهد القتال إلا أهل السفينة الجائين من أرض الحبشة جعفرا ومن معه: أي ومنهم الأشعريون أبو موسى الأشعري وقومه، فقد تقدم أنهم هاجروا من اليمن إلى الحبشة، ثم جاؤوا إلى المدينة. وفيه أنه سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه أن يشركوهم معهم في الغنيمة ففعلوا وسيأتي أنه إنما أعطى أهل السفينة: أي والدوسين على ما علمت من الحصنين اللذين فتحا صلحا، فقد أعطاهما مما أفاء الله عليه لا من الغنيمة، وسؤال أصحابه في إعطائهم من المشهورة العامة المأمور بها في قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: الآية 159] لا لاستنزالهم عن شيء من حقهم، والله أعلم. باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس اعلم أنه لا خلاف في الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ هو نص القرآن على سبيل الإجمال، وجاءت بتفصيله وشرح أعاجيبه أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة من الرجال والنساء نحو الثلاثين: أي ومن ثم ذهب الحاتمي الصوفي إلى أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة، فجعل كل حديث إسراء. واتفق العلماء على أن الإسراء كان بعد البعثة اهـ: أي الإسراء الذي كان في اليقظة بجسده صلى الله عليه وسلم، فلا ينافي حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «أن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم» لأن ذلك كان في نومه بروحه، فكان هذا الإسراء توطئة له وتيسيرا عليه، كما كان بدء نبوته صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة.

وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن إسراآته صلى الله عليه وسلم كانت أربعا وثلاثين، واحد بجسمه صلى الله عليه وسلم والباقي بروحه، وتلك الليلة: أي التي كانت بجسمه صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبع عشرة، وقيل سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول، وقيل ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان أي وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر، وقيل من رجب واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغني المقدسي وعليه عمل الناس، وقيل في شوّال، وقيل في ذي الحجة. وفي كلام الشيخ عبد الوهاب ما يفيد أن إسراآته صلى الله عليه وسلم كلها كانت في تلك الليلة التي وقع فيها هذا الخلاف فليتأمل، وذلك قبل الهجرة قيل بسنة وبه جزم ابن حزم، وادعى فيه الإجماع، وقيل بسنتين؛ وقيل بثلاث سنين، وكل من الإسراء والمعراج كان بعد خروجه صلى الله عليه وسلم للطائف كما دل عليه السياق، وعن ابن إسحاق أن ذلك كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وفيه نظر ظاهر. واختلف في اليوم الذي يسفر عن ليلتهما، قيل الجمعة، وقيل السبت. وقال ابن دحية: يكون يوم الاثنين إن شاء الله تعالى ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة: أي لأنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين فليتأمل. عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله تعالى عنها: أي واسمها على الأشهر فاختة، وسيأتي في فتح مكة أنها أسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها هبيرة إلى نجران ومات بها على كفره، قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس: أي في الظلام بعيد الفجر وأنا على فراشي، فقال: أشعرت: أي علمت أني نمت الليلة في المسجد الحرام أي عند البيت أو في الحجر» وهو المراد بالحطيم الذي وقع في بعض الروايات، وفي رواية «فرج سقف بيتي» . قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون السر في ذلك أي في انفراج السقف التمهيد لما يقع من شق صدره صلى الله عليه وسلم، فكأنّ الملك أراه بانفراج السقف والتئامه في الحال كيفية ما سيصنع به، لطفا به وتثبيتا له صلى الله عليه وسلم: أي زيادة تمهيد وتثبيت له، وإلا فشق صدره صلى الله عليه وسلم تقدم له غير مرة، وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم نام في بيت أم هانئ، قالت: فقدته من الليل فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش» . أي وحكى ابن سعد «أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد تلك الليلة، فتفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه، ووصل العباس إلى ذي طوى، وجعل يصرخ يا محمد، فأجابه لبيك لبيك، فقال: يا بن أخي عنيت قومك فأين كنت؟ قال: ذهبت إلى بيت المقدس قال: من ليلتك؟ قال نعم، قال: هل أصابك إلا خير؟ قال: ما أصابني إلا خير» ولعله صلى الله عليه وسلم نزل عن البراق في ذلك المحل.

وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها قالت «ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلم كان قبل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أقامنا من نومنا» ومن ثم جاء في رواية: «نبهنا، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانئ لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين» الحديث. والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاته التي كان يصليها وهي الركعتان في الوقتين المذكورين، وإلا فصلاة العشاء وصلاة الصبح التي هي صلاة الغداة لم يكونا فرضا، وفي قولها «وصلينا معه» نظر لما تقدم، ويأتي أنها لم تسلم إلا يوم الفتح، ثم رأيت في مزيل الخفاء: وأما قولها يعني أم هانئ وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه في الصلاة كذا أجاب. وأقرب منه أنها تكلمت على لسان غيرها، أو أنها لم تظهر إسلامها إلا يوم الفتح فليتأمل، فقال صلى الله عليه وسلم «إن جبريل أتاني» وفي رواية «أسرى به من شعب أبي طالب» قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الروايات «أنه صلى الله عليه وسلم نام في بيت أم هانئ وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج عن سقف بيته الذي هو بيت أم هانئ لأنه صلى الله عليه وسلم كان نائما به فنزل الملك وأخرجه إلى المسجد وكان به أثر النعاس: أي فاضطجع فيه عند الحجر» فيصح قوله صلى الله عليه وسلم: نمت الليلة في المسجد الحرام إلى آخره. وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر، أي وهو مضطجع في المسجد في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر رضي الله تعالى عنهما، فقال أحدهم: خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين، فاحتملوه حتى جاؤوا به زمزم، فاستلقوه على ظهره، فتولاه منهم جبريل، فشق من ثغرة نحره» وهو الموضع المنخفض بين الترقوتين «إلى أسفل بطنه» أي وفي رواية «إلى مراق بطنه» وفي رواية «إلى شعرته» أي أشار إلى ذلك؟ فانشق فلم يكن الشق في المرات كلها بآلة، ولم يسل منه دم، ولم يجد لذلك ألما كما تقدم التصريح به في بعض الروايات، لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات «ثم قال جبريل، لميكائيل: ائتني بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه، وأشرح صدره، فاستخرج قلبه: أي فشقه، فغسله ثلاث مرات، ونزع ما كان فيه من أذى» وهذا الأذى يحتمل أن يكون من بقايا تلك العلقة السوداء التي نزعت منه صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع في بني سعد بناء على تجزئتها كما تقدم في المرة الثانية، وهو ابن عشر سنين والثالث عند البعث، فلا يخالف أن العلقة السوداء نزعت منه صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو مسترضع في بني سعد، ويستحيل تكرار

إخراجها وإلقائها. والذي ينبغي أن يكون نزع تلك العلقة إنما هو في المرة الأولى والواقع في غيرها إنما هو إخراج الأذى، وأنه غير تلك العلقة، وأن المراد به ما يكون في الجبليات البشرية، وتكرر إخراج ذلك الأذى استئصاله ومبالغة فيه، وذكر العلقة في المرة الأولى، وقول الملك هذا حظ الشيطان وهم من بعض الرواة. «واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم، ثم أتى بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا» أي نفس الحكمة والإيمان، لأن المعاني قد تمثل بالأجسام، أو فيه ما هو سبب لحصول ذلك، والمراد كمالهما، فلا ينافي ما تقدم في قصة الرضاع أنه ملئ حكمة وإيمانا. «ووضعت فيه السكينة ثم أطبقه، ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوّة» وتقدم في قصة الرضاع أن في رواية أن الختم كان في قلبه، وفي أخرى أنه كان في صدره، وفي أخرى أنه كان بين كتفيه، وتقدم الكلام على ذلك. وأنكر القاضي عياض شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم صبي في بني سعد، وهو يتضمن إنكار شقه عند البعثة أيضا، أي والتي قبلها وعمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين. ورده الحافظ ابن حجر بأن الروايات تواردت بشق صدره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة وعند البعثة، أي زيادة على الواقع له صلى الله عليه وسلم في بني سعد، وأبدى لكل من الثلاثة حكمة، وتقدم أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين، وأنه صلى الله عليه وسلم شق صدره وهو ابن عشرين سنة، وتقدم ما فيه. أقول: ويمكن أن يكون إنكار القاضي عياض لشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على الوجه الذي جاء في بعض الروايات أنه أخرج من قلبه علقة سوداء، وقال الملك: هذا حظ الشيطان منك لأن هذا إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم مسترضع في بني سعد، ويستحيل تكرر إلقاء تلك العلقة، وحمل ذلك على بعض بقايا تلك العلقة السوداء كما قدمناه ينافي قول الملك هذا حظ الشيطان منك، إلا أن يقال المراد أنه من حظ الشيطان أي بعض حظ الشيطان فليتأمل ذلك، والأولى ما قدمناه في ذلك. ثم لا يخفى أنه ورد «غسل صدري» وفي رواية «قلبي» . وقد يقال: الغسل وقع لهما معا كما وقع الشق لهما معا، فأخبر صلى الله عليه وسلم بإحداهما مرة وبالأخرى أخرى، أي وتقدم في مبحث الرضاع في رواية شق بطنه صلى الله عليه وسلم ثم قلبه، وفي أخرى شق صدره ثم قلبه، وفي أخرى الاقتصار على شق صدره، وفي أخرى الاقتصار على شق قلبه، وتقدم أن المراد بالبطن الصدر، وليس المراد بأحدهما القلب. وفي كلام غير واحد ما يقتضي أن المراد بالصدر القلب، ومن ثم قيل: هل شق صدره وغسله مخصوص به صلى الله عليه وسلم، أو وقع لغيره من الأنبياء؟. وأجيب بأنه جاء في قصة تابوت بني إسرائيل الذي أنزله الله تعالى على آدم

حين أهبطه إلى الأرض «فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الرسل، وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من ياقوتة حمراء، ثلاثة أذرع في ذراعين» وقيل كان من نوع من الخشب تتخذ منه الأمشاط مموها بالذهب، فكان عند آدم إلى أن مات، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم كان عند إسماعيل ثم عند ابنه قيدار، فنازعه ولد إسحاق، ثم أمر من السماء أن يدفعه إلى ابن عمه يعقوب إسرائيل الله فحمله إلى أن أوصله له، ثم وصل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فوضع فيه التوراة وعصاه وعمامة هارون ورضاض الألواح التي تكسرت لما ألقاها، وأنه كان فيه الطشت طشت من ذهب الجنة الذي غسل فيه قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وذلك مقتض لعدم الخصوصية «وكان هذا التابوت إذا اختلفوا في شيء سمعوا منه ما يفصل بينهم، وما قدموه أمامهم في حرب إلا نصروا، وكان كل من تقدم عليه من الجيش لا بدّ أن يقتل أو ينهزم الجيش» . وفي الخصائص للسيوطي: ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله شق صدره في أحد القولين وهو الأصح. وجمع بعضهم بحمل الخصوصية على تكرر شق الصدر، لأن تكرر شق صدره الشريف ثبت في الأحاديث، وشق صدر غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أخذ من قصة التابوت، وليس فيها تعرض للتكرار، ولو جمع بأن شق الصدر مشترك وشق القلب، وإخراج العلقة السوداء مختص به صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بالقلب في قصة التابوت الصدر وبالصدر في كلام الخصائص القلب لم يكن بعيدا، إذ ليس في قصة التابوت ما يدل على أن تلك العلقة السوداء أخرجت من غير قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على أثر يدلّ على ذلك، وغسل قلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس من لازمه الشق، بل يجوز أن يكون غسله من خارج، وقد أحلنا على هذا الجمع في بحث الرضاع، وبهذا يردّ ما قدمناه من قول الشمس الشامي: الراجح المشاركة، ولم أر لعدم المشاركة ما يعتمد عليه بعد الفحص الشديد فليتأمل. ثم رأيته ذكر أنه جمع جزآ سماه «نور البدر فيما جاء في شق الصدر» ولم أقف عليه، والله أعلم. «قال فأتاني جبريل عليه الصلاة والسلام، فذهب بي إلى باب المسجد» أي وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه الصلاة والسلام، فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا؛ فعدت لمضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فأخذ بعضدي، فقمت معه فخرج بي إلى باب المسجد» .

وفيه أنه إذا لم يجد شيئا من أخذ بعضديه، إلا أن يقال ثم رآه عند أخذه يعضديه، فإذا دابة أبيض» أي ومن ثم قيل له البراق بضم الموحدة لشدة بريقه، وقيل: قيل له ذلك لسرعته، أي فهو كالبرق، وقيل لأنه كان ذا لونين أبيض وأسود، أي يقال شاة برقاء: إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء: أي وهي العفراء، ومن ثم جاء في الحديث «أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أذكى من دم سوداوين» أي ضحوا بالبلقاء وهي العفراء لكن في الصحاح الأعفر الأبيض، وليس بالشديد البياض، وشاة عفراء: يعلو بياضها حمرة، ولغلبة بياض شعره على سوداه أو حمرته قيل أبيض، ولعل سواد شعره لم يكن حالكا بل كان قريبا من الحمرة فوصف بأنه أحمر، وهذا لا يتم إلا لو كان البراق كذلك، أي شعره أبيض داخله طاقات سود أو حمر ولعله كان كذلك، ويدل له قول بعضهم: إنه ذو لونين، أي بياض وسواد، والسواد كما علمت إذا صفا شبه بالأحمر، وهذه الرواية طوي فيها ذكر أنه كان بين حمزة وجعفر، وأنه جاءه جبريل وميكائيل وملك آخر، وأنهم احتملوه إلى زمزم، وشق جبريل صدره إلى آخر ما تقدم «وذلك البراق فوق الحمار ودون البغل، مضطرب الأذنين» أي طويلهما «أي وكان مسرجا ملجما» كما في بعض الروايات «فركبته، فكان يضع حافره مد بصره» أي حيث ينتهي بصره. وفي رواية «ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها، إذا أخذ في هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه، إذا أخذ في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه» أي وقد ذكر هذا الوصف في فرس فرعون موسى. فقد قيل: كان لفرعون أربع عجائب، فذكر منها أن لحيته كانت خضراء ثمانية أشبار، وقامته سبعة أشبار، فكانت لحيته أطول منه بشبر، وكان له فرس، وقيل برذون إذا صعد الجبل قصرت يداه وطالت رجلاه، وإذا انحدر يكون على ضد ذلك. وفي رواية «أن البراق خطوه مد البصر» قال ابن المنير: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة، لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات في سبع خطوات انتهى، أي لأن بصر من يكون في سماء الدنيا يقع على السماء فوقها وهكذا، وهذا بناء على أنه عرج به صلى الله عليه وسلم على المعراج راكب البراق، وسيأتي ما فيه. قال صلى الله عليه وسلم «فلما دنوت منه اشمأز: أي نفر» وفي رواية «فاستصعب ومنع ظهره أن يركب؛ فقال جبريل: اسكن، فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد» وفي رواية «في فخذيها» أي تلك الدابة التي هي البراق «جناحان تحفز بهما» أي تدفع بهما «رجليهما» ففي اللغة: الحفز: الحث والإعجال «فلما دنوت لأركبها شمست» أي نفرت ومنعت ظهرها. وفي رواية «شمس» ، وفي رواية «صرّت أذنيها» أي جمعتهما، وذلك شأن الدابة إذا نفرت «فوضع جبريل يده على معرفتها، ثم قال: ألا تستحيين يا

براق مما تصنعين؟ والله ما ركب عليك أحد» وفي رواية «عبد الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم أكرم على الله منه، فاستحيت حتى أرفضت عرقا» أي كثر عرقها وسال «ثم قرت حتى ركبها» أي وفي رواية «فقال جبريل: مه يا براق، فو الله ما ركبك مثله من الأنبياء» أي لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت تركبها قبله صلى الله عليه وسلم. ففي البيهقي «وكانت الأنبياء تركبها قبلي» وعند النسائي «وكانت تسخر للأنبياء قبلي، وبعد عليها العهد من ركوبهم لأنها لم تكن ركبت في الفترة بين عيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام كما ذكره ابن بطال وهو يقتضي أنه لم يركبه أحد ممن كان بين عيسى ومحمد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجاء التصريح بذلك في بعض الروايات، أي والمتبادر منها أنها التي بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام، فيكون عيسى ممن ركبها دون من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير ثبوت وجود أنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد عيسى، وتقدم عن النهر أنه كان بينهما ألف نبي. وقوله لأن الأنبياء ظاهرة يدل على أن جميع الأنبياء أي عيسى ومن قبله ركبوه. قال الإمام النووي: القول باشتراك جميع الأنبياء في ركوبها يحتاج إلى نقل صحيح، هذا كلامه. ومما يدل على أن الأنبياء كانت تركبه قبله صلى الله عليه وسلم ما تقدم وظاهر ما سيأتي في بعض الروايات «فربطه بالحلقة التي توثق بها الأنبياء» وإنما قلنا ظاهر لأنه لم يذكر الموثق بفتح المثلثة، إذ يحتمل أن الأنبياء كانت تربط غير البراق من دوابهم بها. ثم رأيت في رواية البيهقي «فأوثقت دابتي» يعني البراق «التي كانت الأنبياء تربطها فيه» ومن ثم قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله: ما من رسول إلا وقد أسري به راكبا على ذلك البراق، هذا كلامه، وقد تقدم أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حمل هو وهاجر وولدهما يعني إسماعيل على البراق إلى مكة. وفي تاريخ الأزرقي: وكان إبراهيم يحج كل سنة على البراق، فعن سعيد بن المسيب وغيره «أن البراق هو دابة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كان يزور عليها البيت الحرام» وعلى تسليم أنه لم يركب البراق أحد قبله صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن دحية ووافقه الإمام النووي، فقول جبريل عليه الصلاة والسلام «ما ركبك» ونحوه لا ينافيه، لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع، ومن ثم قال في الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بركوب البراق في أحد القولين، أي وقيل إن الذي خص به هو ركوبه مسرجا ملجما. وفي المنتقى أن البراق وإن كان يركبه الأنبياء إلا أنه لم يكن يضع حافره عند منتهى طرفه إلا عند ركوب النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء في غريب التفسير «أن البراق لما شمس

قال له جبريل: لعلك يا محمد مسيت الصفر اليوم وهو صنم كان بعضه من ذهب وبعضه من نحاس كسره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما مسيته إلا أني مررت به وقلت تبا لمن يعبدك من دون الله، فقال جبريل وما شمس إلا لذلك» أي لمجرد مرورك عليه، وهذا حديث موضوع كما نقل عن الإمام أحمد. وقال الحافظ ابن حجر: إنه من الأخبار الواهية. وقال مغلطاي: لا ينبغي أن يذكر ولا يعزي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال فرس شموس: أي صعبة، ولا يقال شموسة، وذكر لاستصعاب البراق غير ذلك من الحكم لا نطيل بذكره. قال: وعن الثعلبي بسند ضعيف في صفة البراق عن ابن عباس «له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر» أي وحينئذ يكون إطلاق الخف على ذلك في الرواية السابقة «ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها» مجازا لأن مع كونها لها قوائم كقوائم الإبل لا خف لها بل ظلف وهو الحافر. وفي كلام بعضهم في صفة البراق «وجهه كوجه الإنسان، وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور، وذنبه كذنب الغزال، لا ذكر ولا أنثى» اهـ، ومن ثم وصف بوصف المذكر تارة وبوصف المؤنث أخرى، فهي حقيقة ثالثة، ويكون خارجا من قوله تعالى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذّاريات: الآية 49] كما خرجت من ذلك الملائكة، فإنهم ليسوا ذكورا ولا إناثا. وذكر بعضهم أن أذنيها كأذني الفيل، وعنقها كعنق البعير. وصدرها كصدر الفيل كأنه من ياقوت أحمر لها جناحان كجناح النسر، فيهما من كل لون قوائمها كقوائم الفرس، وذنبها كذنب البعير. ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير الصحة. قال صلى الله عليه وسلم «ثم سرت وجبريل عليه الصلاة والسلام لا يفارقني» أي وفي رواية «أنه ركب معه البراق» وفي الشفاء «ما زايلا ظهر البراق حتى رجعا» وفي رواية «ركبت البراق خلف جبريل» أي وفي صحيح ابن حبان «وحمله جبريل على البراق رديفا له» . قال: وفي الشرف «كان الآخذ بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل» وفي رواية «جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره» اهـ. أقول: ولا منافاة، لجواز أن يكون جبريل تارة ركب مردفا له صلى الله عليه وسلم وتارة أخذ بركابه من جهة اليمين، وميكائيل تارة أخذ بالزمام وتارة لم يأخذه، وكان جهة يساره أو كان آخذ بالزمام من جهة اليسار، ولا يخالف هذا الجمع قول الشفاء «ما زايلا ظهر البراق» لإمكان حمله على غالب المسافة. هذا، وفي حياة الحيوان: الظاهر

عندي أن جبريل لم يركب مع النبي صلى الله عليه وسلم البراق ليلة الإسراء لأنه المخصوص بشرف الإسراء، هذا كلامه فليتأمل، والله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم «ثم انتهيت إلى بيت المقدس، فأوثقته بالحلقة التي بالباب» أي باب المسجد «التي كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توثق» أي تربط «بها» أي تربطه بها على ما تقدم عن رواية البيهقي. وفي رواية «أن جبريل خرق بأصبعه الحجر» أي الذي هو الصخرة. وفي كلام بعضهم: فأدخل جبريل يده في الصخرة فخرقها وشدّ به البراق. أقول: لا منافاة، لجواز أن يكون المراد وسع الخرق بأصبعه أو فتحه لعروض انسداده، وأن هذا الخرق هو المراد بالحلقة التي في الباب، لأن الصخرة بالباب وقيل لهذا الخرق حلقة لاستدارته. وفي الإمتاع: وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين، فربط دابته فيها والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم هذا كلامه. وجمع بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم ربطه بالحلقة خارج باب المسجد الذي هو مكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأدبا، فأخذه جبريل فربطه في زاوية المسجد في الحجر الذي هو الصخرة التي خرقها بأصبعه، وجعله داخلا عن باب المسجد، فكأنه يقول له: إنك لست ممن يكون مركوبه على الباب بل يكون داخلا. وفي حديث أبي سفيان قبل إسلامه لقيصر، أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلم «ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرا تعلم منه أنه يكذب؟ قال: وما هو؟ قال: إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة، فقال: بطريق: أنا أعرف تلك الليلة، فقال له قيصر: ما علمك بها؟ قال: إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد: أي وهو الباب الفلاني غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم نقدر، فقالوا: إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتي بعض النجارين فيصلحه فتركته مفتوحا، فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذي من زاوية الباب مثقوب، أي زيادة على ما كان عليه على ما تقدم، وإذا فيه أثر مربط الدابة أي التي هي البراق: أي ولم أجد بالباب ما يمنعه من الإغلاق، فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده في العلم القديم أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء، وعند ذلك قلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا هذا الأمر، وسيأتي ذلك عند الكلام على كتابه صلى الله عليه وسلم لقيصر. ولا يخفى أن المراد بالصخرة الحجر الذي بالباب لا الصخرة المعروفة كما هو المتبادر من بعض الروايات، وهي «فأتى جبريل الصخرة التي في بيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشدّ بها البراق» لأن الذي في بابه

يقال إنها فيه، ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان آية، وإلا فجبريل عليه الصلاة والسلام لا يمنعه باب مغلق ولا غيره. وفي رواية عن شداد بن أوس أنه قال «ثم انطلق بي» أي جبريل «حتى دخلنا المدينة» يعني مدينة بيت المقدس من بابها اليماني «فأتى قبلة المسجد فربط فيها دابته» . قد يقال: لا يخالفه، لأنه يجوز أن يكون ذلك الباب كان بجانب قبلة المسجد، ولعل هذا الباب هو الباب اليماني الذي فيه صورة الشمس والقمر. ففي رواية «ودخل المسجد من باب فيه تمثال الشمس والقمر» أي مثالهما فيه، والله أعلم. وأنكر حذيفة رضي الله تعالى عنه رواية ربط البراق وقال لم يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة. وردّ عليه بأن الأخذ بالحزم لا ينافي صحة التوكل. فعن وهب بن منبه رضي الله عنه «الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقي المهالك» قال وهب: وجدته في سبعين من كتب الله عز وجل القديمة: أي ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «أعقلها وتوكل» وقد كان صلى الله عليه وسلم يتزود في أسفاره ويعد السلاح في حروبه، حتى لقد ظاهر بين درعين في غزوة أحد. قال وفي رواية «فلما استوى النبي صلى الله عليه وسلم في صخرة المسجد قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال نعم، قال جبريل: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فرددن عليه السلام، فقال: من أنتن؟ قلن خيرات حسان نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا» اهـ. أقول: في كلام بعضهم أنه لم يختلف أحد أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من عند القبة التي يقال لها قبلة المعراج من عند يمين الصخرة. وقد جاء «صخرة بيت المقدس من صخور الجنة» وفي لفظ «سيدة الصخور صخرة بيت المقدس» وجاء «صخرة بيت المقدس على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة» قال الذهبي: إسناده مظلم، وهو كذب ظاهر. قال الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه لموطأ مالك: صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى فإنها صخرة قائمة شعثاء في وسط المسجد الأقصى، قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، في أعلاها من جهة الجنوب قدم النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق، وقد مالت من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم، وفي الجهة الأخرى أصابع الملائكة التي أمسكتها لما مالت، ومن تحتها المغارة التي انفصلت من كل جهة، أي فهي معلقة بين السماء والأرض، وامتنعت

لهيبتها من أن أدخل تحتها، لأني كنت أخاف أن تسقط عليّ بالذنوب، ثم بعد مدة دخلتها فرأيت العجب العجاب، تمشي في جوانبها من كل جهة، فتراها منفصلة عن الأرض، لا يتصل بها من الأرض شيء ولا بعض شيء، وبعض الجهات أشد انفصالا من بعض، وهذا الذي ذكره ابن العربي، أن قدمه صلى الله عليه وسلم أثر في صخرة بيت المقدس حين ركب البراق، وأن الملائكة أمسكتها لما مالت، قال به الحافظ ناصر الدين الدمشقي حيث قال في معراجه المسجع: ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعماها، فصعد من جهة الشرق أعلاها، فاضطربت تحت قدم نبينا صلى الله عليه وسلم ولانت، فأمسكتها الملائكة لما تحركت ومالت. وقول ابن العربي حين ركب البراق يقتضي أنه عرج به على البراق، وسيأتي الكلام فيه، وتقدم أن الجلال السيوطي سئل عن غوض قدمه صلى الله عليه وسلم في الحجر هل له أصل في كتب الحديث؟ فأجاب بأنه لم يقف في ذلك على أصل ولا رأى من خرّجه في شيء من كتب الحديث، وتقدم ما فيه. وفي العرائس، قال أبيّ بن كعب: ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت الصخرة ببيت المقدس ثم يتفرق في الأرض، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال صلى الله عليه وسلم «فنشر لي» بضم النون وكسر الشين المعجمة: أي أحيا لي بعد الموت «رهط من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» لأن نشر الميت إحياؤه. والرهط: ما دون العشرة من الرجال «فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام» أي وحكمة تخصيص هؤلاء بالذكر لا تخفى «فصليت بهم، وكلمتهم» أي فالمراد نشروا عند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بهم ركعتين؛ ووصفهم بالنشور واضح في غير عيسى عليه الصلاة والسلام، لأنه لم يمت. ووصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإحياء بعد الموت سيأتي في قصة بدر في الكلام على أصحاب القليب ما يعلم منه أن المراد بإحياء الأنبياء بعد الموت شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى أنهم في البرزخ بسبب ذلك أحياء كحياتهم في الدنيا، وقد ذكرنا هناك الكلام على صلاتهم في البرزخ وحجهم وغير ذلك. وفي رواية «ثم صلى صلى الله عليه وسلم هو وجبريل كل واحد ركعتين، فلم يلبثا إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير» أي مع أولئك الرهط، فلا مخالفة بين الروايتين «فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة» . أقول: ذكر ابن حبيب أن آية وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: الآية 45] الآية، نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء. ويجوز أن يكون قوله وأقيمت الصلاة من عطف التفسير، فالمراد بالأذان الإقامة، وليس المراد بالإقامة الألفاظ المعروفة الآن لما سيذكر في الكلام على مشروعية الأذان والإقامة بالمدينة، وعلى أنه من عطف المغاير، ويدل له ما في بعض الروايات «فلما استوينا في المسجد أذن

مؤذن ثم أقام الصلاة» فليس من لازم ذلك أن يكون كل من التأذين والإقامة باللفظين المعروفين الآن، لأنهما كما علمت لم يشرعا إلا في المدينة: أي في السنة الأولى من الهجرة، وقيل في الثانية كما سيأتي. وحديث «لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أوحى الله تعالى إليه بالأذان فنزل به فعلمه بلالا» قال الحافظ ابن رجب: موضوع. وحديث «علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان ليلة أسري به» في إسناده متهم. وفي الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم علم الإقامة ليلة الإسراء. فقد جاء «لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الأذان» أي الإقامة «عرج به إلى أن انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن» أي يلي عرشه «خرج ملك من الحجاب، فقال: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله: فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي لا إله إلا أنا فقال الملك أشهد أن محمدا رسول الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدي أنا أرسلت محمدا، فقال الملك: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فأخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه يؤمّ بأهل السموات» قال في الشفاء: والحجاب إنما هو في حق المخلوق لا في حق الخالق فهم المحجوبون. قال: فإن صح القول بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى به، فيحتمل أنه في غير هذا الموطن بعد رفع الحجاب عن بصره حتى رآه. وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن ذلك الملك، فقال جبريل: إن هذا الملك ما رأيته قبل ساعتي هذه» وفي لفظ «والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه» وفيه أن هذا يقتضي أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان معه صلى الله عليه وسلم في هذا المكان، وسيأتي أنه تخلف عنه عند سدرة المنتهى، فليتأمل، والله أعلم. «ولما أقيمت الصلاة ببيت المقدس قاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم، فأخذ جبريل بيده صلى الله عليه وسلم فقدمه، فصلى بهم ركعتين» . أي وأما حديث «لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدمني فصليت بالملائكة» قال الذهبي منكر، بل موضوع. والغرض من تلك الصلاة الإعلام بعلوّ مقامه صلى الله عليه وسلم، وأنه المقدم لا سيما في الإمامة. وفي رواية «ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا» أي دفعوا «حتى قدموا محمد صلى الله عليه وسلم» أي ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون جبريل قدمه صلى الله عليه وسلم بعد دفعهم وتقديمهم له صلى الله عليه وسلم. وفي رواية «فأذن جبريل» أي أقام الصلاة «ونزلت الملائكة من السماء، وحشر الله له المرسلين» أي جميعهم «وقد نزلت الملائكة وحشر له الأنبياء» أي جميعهم، بدليل ما

في بعض الروايات «بعث له آدم فمن دونه» فهو تعميم بعد تخصيص بناء على أن الرسول أخص من النبي لا بمعناه، وهذا هو المراد بقول الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم إحياء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وصلاته إماما بهم وبالملائكة، لأن الأنبياء أحياء. وفيه إذا كان الأنبياء أحياء فما معنى إحيائهم له ليصلي بهم وقد علمت معنى إحيائهم. «فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال جبريل: يا محمد أتدري من صلى خلفك؟ قال: لا، قال كل نبي بعثه الله تعالى» أي والنبي غير الرسول بعثه الله تعالى إلى نفسه. أقول: ولا يخالف ما سبق من أنه عرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، لجواز أن يكون المراد عرف معظمهم، أو أنه عرفهم بعد هذا القول. وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس جمع الله له الأنبياء آدم فمن دونه وكانوا سبعة صفوف: ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين، وأربعة من سائر الأنبياء، وكان خلف ظهره إبراهيم الخليل، وعن يمينه إسماعيل وعن يساره إسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» والله أعلم. وفي رواية «ثم دخل أي مسجد بيت المقدس فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا الذي معك؟ قال: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، قالوا: وقد أرسل إليه، أي للمعراج بناء على أنه كان في ليلة الإسراء، قال نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة» وهذه الرواية قد يقال لا تخالف ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة مع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لأنه يجوز أن يكون إنما أفردهم بالذكر لسؤالهم. وفيه أن سؤالهم يدل على أن نزولهم من السماء لبيت المقدس لم يكن لأجل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض والأظهر أن صلاته صلى الله عليه وسلم بهم، يعني بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في بيت المقدس كان قبل العروج، أي كما يدل على ذلك سياق القصة. وقال الحافظ ابن كثير: صلى بهم في بيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك ولا مانع منه. قال: ومن الناس من يزعم أنه إنما أمهم في السماء، أي لا في بيت المقدس، أي وهذا الزاعم هو حذيفة، فإنه أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في بيت المقدس. قال بعضهم: والذي تظافرت به الروايات صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم

الصلاة والسلام ببيت المقدس. والظاهر أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إليه، أي فلم يصلّ في بيت المقدس إلا مرة واحدة وإنها بعد نزوله صلى الله عليه وسلم، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا وهو يخبره بهم. أي ولو كان صلى بهم أولا لعرفهم، بل تقدم أنه صلى الله عليه وسلم عرف النبيين ما بين قائم وراكع وساجد: وما بالعهد من قدم وهذا هو اللائق، لأنه صلى الله عليه وسلم أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوي: أي بناء على أن المعراج كان في ليلة الإسراء، وحيث كان مطلوبا لذلك، اللائق أن لا يشتغل بشيء عنه، فلما فرغ من ذلك اجتمع هو صلى الله عليه وسلم وإخوته من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم فقدمه في الإمامة، هذا كلامه. أقول: بحث أن صلاته صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ولم تكن إلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من العروج، والاستدلال على ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحدا واحدا في السماء، وأن ذلك هو اللائق فيه نظر ظاهر، لأنه لا بحث مع وجود النقل بخلافه، ومجرد الاستحسان العقلي لا يردّ النقل، فقد تقدم عن الحافظ ابن كثير أنه ثبت في الحديث ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، وكونه سأل عن الأنبياء في السماء لا ينافي صلاته بهم أولا، وأنه عرفهم بناء على تسليم أن معرفته لهم كانت عند صلاته بهم أوّلا، وأنه عرفهم كلهم لا معظمهم على ما قدمناه، لأنه يجوز أن يكونوا في السماء على صور لم يكونوا عليها ببيت المقدس، لأن البرزخ عالم مثال كما تقدم. وبهذا يعلم ما في قول بعضهم رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى وإدريس عليهما الصلاة والسلام، ورؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في بيت المقدس يحتمل لأن المراد أرواحهم، ويحتمل أجسادهم، ويدل للثاني «وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وفي رواية «فنشر لي الأنبياء من سمى الله ومن لم يسمّ، فصليت بهم» صلى الله عليه وسلم وعليهم، والاشتغال عن الجناب العلوي المدعو له بما فيه تأنيس له، وهو اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلاته بهم مناسب لائق بالحال، والله أعلم. واختلف في هذه الصلاة. فقيل العشاء، أي الركعتان اللتان كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بالعشاء بناء على أنه صلى ذلك قبل العروج. وفيه أنه صلى تينك الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة: أي وهذا يدل على أن الفجر طلع وهو صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس بعد العروج وتقدم، وسيأتي أنه صلى الغداة

بمكة، وعليه تكون معاد بمكة. قال: والذي يظهر- والله أعلم- أنها كانت من النفل المطلق انتهى. أي ولا يضر وقوع الجماعة فيها. وبقولنا أي الركعتان إلى آخره يسقط ما قيل: القول بأنها العشاء أو الصبح ليس بشيء، لأن أول صلاة صلاها من الخمس مطلقا الظهر، ومن حمل الأولية على مكة أي ويكون صلى الصبح ببيت المقدس فعليه الدليل أي دليل يدل على أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس. وفي زين القصص: كان زمن ذهابه صلى الله عليه وسلم ومجيئه ثلاث ساعات، وقيل أربع ساعات: أي بقيت من تلك الليلة. لكن في كلام السبكي أن ذلك كان في قدر لحظة حيث قال في تائيته وعدت وكل الأمر في قدر لحظة أي ولا يدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوي الطويل لمن يشاء، وقد فسح الله في الزمن القصير لبعض أولياء أمته ما يستغرق الأزمنة الكثيرة، وفي ذلك حكايات شهيرة. قال صلى الله عليه وسلم «وأتيت بإناءين أحمر وأبيض فشربت الأبيض، فقال لي جبريل: شربت اللبن وتركت الخمر، لو شربت الخمر لارتدّت أمتك» أي غوت وانهمكت في الشرب، بدليل الرواية الأخرى، وهي رواية البخاري «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيليا بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة» أي الاستقامة «لو أخذت الخمرة غوت أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل» أي يكونوا على ما أنت عليه من ترك ذلك؟ فالمراد بالارتداد الرجوع عما هو الصواب، وإتيانه بذلك وهو في المسجد ببيت المقدس، وسيأتي ما يدل على أنه أتي له صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم منه قبل العروج. قال صلى الله عليه وسلم «واستويت على ظهر البراق، فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعي جبريل فصليت به الغداة، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأمّ هانئ بعد أن أخبرها بذلك: أنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت، قالت أمّ هانئ: فعلقت بردائه صلى الله عليه وسلم، وقلت: أنشدك الله» أي بفتح الهمزة أسألك بالله «ابن عم» أي يا بن عم، أن تحدث أي لا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك» وفي رواية «إني أذكرك الله عز وجل أنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك فضرب بيده الشريفة على ردائه، فانتزعه من يديّ فارتفع على بطنه صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى عكنه: أي طبقات بطنه من السمن فوق ردائه صلى الله عليه وسلم وكأنه طي القراطيس» أي الورق «وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف» بفتح الطاء وربما كسرت «بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي إذ هو قد خرج، فقلت لجاريتي نبعة» أي وكانت حبشية معدودة في الصحابة

رضي الله عنها «اتبعيه وانظري ماذا يقول؟ فلما رجعت أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم» هو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود. وفي كلام بعضهم: بين الركن والمقام. سمي بذلك لأن الناس يحطم بعضهم بعضا فيه من الازدحام لأنه من مواطن إجابة الدعاء، قيل ومن حلف فيه آثما عجلت عقوبته، وربما أطلق كما تقدم على الحجر بكسر الحاء وأولئك النفر الذين انتهى صلى الله عليه وسلم إليهم فيهم المطعم بن عدي وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني صليت الليلة العشاء» أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت في هذا المسجد «وصليت به الغداة» أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت، وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت، وكذا صلاة الغداة التي هي الصبح لم تكن فرضت كما تقدم «وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس» . أي لا يقال كان المناسب لذلك أن يقول وأتيت في لحظة أو ساعات، وعلى ما تقدم فيما بين ذلك ببيت المقدس ولم يوسع لهم الزمن. لأنا نقول وسع لهم الزمن، لأن الطباع لا تنفر منه نفرتها من تلك فليتأمل. قال «وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد قطع وعرف أن الناس تكذبه» أي وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى، وما هو دليل على علوّ مقامه صلى الله عليه وسلم الباعث على اتباعه؟ فقعد صلى الله عليه وسلم حزينا، فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم، فقال كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال نعم أسري بي الليلة، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا قال: نعم، قال فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتني؟ قال نعم، قال: يا معشر بني كعب بن لؤيّ، فانقضت إليه المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما، فقال: حدث قومك بما حدثتني به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس» الحديث انتهى «فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلم وصليت بهم وكلمتهم فقال أبو جهل كالمستهزئ صفهم لي فقال صلى الله عليه وسلم: أما عيسى عليه الصلاة والسلام ففوق الربعة ودون الطويل» أي لا طويل ولا قصير «عريض الصدر، ظاهر الدم» أي لونه أحمر. وفي رواية «يعلوه حمرة كأنما يتحادر من لحيته الجمان» وفي رواية «كأنه خرج من ديماس» أي من حمام، وأصله الكن الذي يخرج منه الإنسان وهو عرقان، وأصله الظلمة. يقال: ليل دامس. والحمام لفظ عربي. وأول واضع له الجن، وضعته لسيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقيل الواضع له بقراط؛ وقيل شخص سابق على بقراط، استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن، فصار يستعمله حتى برئ.

وجاء من طرق عديدة كلها ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضا «إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما دخله ووجد حره وغمه قال: أوّاه من عذاب الله» لأن دخول الحمام يذكر النار، لأن الحمام أشبه شيء بجهنم، لأن النار أسفله، والسواد والظلمة أعلاه. وقد قيل: خير الحمام ما قدم بناؤه، واتسع فناؤه، وعذب ماؤه. قال بعضهم: ويصير قديما بعد سبع سنين. قال بعضهم: ولم يعرف الحمام في بلاد الحجاز قبل البعثة؟ وإنما عرفه الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحوا بلاد العجم. وفيه أن في البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدرون بيتا يقال له الحمام. قالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض قال فاستتروا» وفي رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا بيتا يقال له الحمام، فقالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض الوسخ، ويذكر النار، قال: إن كنتم لا بد فاعلين فمن دخله فليستتر» وهو صريح في أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عرفوه في زمنه صلى الله عليه وسلم، إلا أن يقال جاز أن يكونوا عرفوه من غيرهم بهذا الوصف لهم، والمنفي في كلام هذا البعض معرفتهم له بالدخول فيه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم بيتا يقال له الحمام، وقوله صلى الله عليه وسلم «ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات» . وأما ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه صلى الله عليه وسلم دخل حمام الجحفة» فلا يرد لأنه على تقدير صحته، فالمراد به أنه محلّ للاغتسال فيه لا بالهيئة المخصوصة وكذا لا يرد ما في معجم الطبراني الكبير عن أبي رافع أنه قال «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع، فقال: نعم موضع الحمام هذا» فبني فيه حمام لجواز أن يكون بني ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم، فهو من أعلام نبوته. قال بعضهم: ولعله قال ذلك لقبح الموضع أي فقول بعضهم ويكفي ذلك في فضيلة الحمام ليس في محله. وفيه أن هذا البعض لم يعول في الفضيلة على هذا فقط، بل عليه وعلى ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي فيه لأنه يذهب بالدرن وينفع المريض.. ولا يرد أيضا ما في مسند أحمد عن أم الدرداء رضي الله تعالى عنها «أنها خرجت من الحمام فلقيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها من أين يا أم الدرداء؟ قالت: من الحمام» لأن في سنده ضعيفا ومتروكا، ولأنه يجوز أن يكون المراد به أنه محل الاغتسال لا أنه المبني على الهيئة المخصوصة كما تقدم. وبه يجاب أيضا عما في مسند الفردوس إن صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر رضي تعالى عنهما، وقد خرجا من الحمام «طاب حمامكما» . قال ابن القيم: ولم يدخل المصطفى صلى الله عليه وسلم حماما قط، ولعله ما رآه بعينه هذا

كلامه. وعن فرقد السنجي «أنه ما دخل الحمام نبي قط» ويشكل عليه ما تقدم عن سليمان عليه الصلاة والسلام. واعترض بعضهم قول ابن القيم: لعله صلى الله عليه وسلم ما رأى الحمام بعينه بأنه صلى الله عليه وسلم دخل الشام وبها حمامات كثيرة فيبعد أنه ما رآها، نعم لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل شيئا منها. وفيه أنه قد يقال هو صلى الله عليه وسلم لم يدخل بلاد الشام إلا بصرى، وجاز أن لا يكون بها حمام حين دخوله صلى الله عليه وسلم إليها. وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «شر البيوت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله لا يدخله إلا مستترا» ورجاله رجال الصحيح إلا شخص منهم فيه مقال، وما أحسن قول الإمام الغزالي: ورد «نعم البيت الحمام يطهر البدن، ويذهب الدرن، ويذكر النار. وبئس البيت الحمام، يبدي العورة، ويذهب الحياء» فهذا تعرض لآفته، وذلك تعرض لفائدته، ولا بأس بطلب الفائدة مع التحرز عن الآفة. والحاصل أن الحمام تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجبا وحراما ومندوبا ومكروها ومباحا. والأصل فيه عندنا معاشر الشافعية الإباحة للرجال مع ستر العورة مكروه للنساء مع ستر العورة حيث لا عذر، وهو محمل ما جاء «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم، فلا يدخل الحمامات» ومع عدم ستر العورة حرام؛ وهو محمل ما جاء «الحمام حرام على نساء أمتي» . وأول من اتخذ الحمام في القاهرة العزيز بن المعز العبيدي أحد الفواطم. قال بعضهم: ليس في شأن الحمام ما يعوّل عليه إلا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في صفة عيسى عليه الصلاة والسلام» كأنما خرج من ديماس» . وقال غيره: أصح حديث في هذا الباب حديث «اتقوا بيتا يقال له الحمام، فمن دخله فليستتر» . وقال ابن عمر في وصف عيسى عليه الصلاة والسلام «إنما هو آدم» وحلف بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل في عيسى إنه أحمر، وإنما قال آدم، وإنما اشتبه على الراوي. وأجاب الإمام النووي بأن الراوي لم يرد حقيقة الحمرة بل ما قاربها: أي والحمرة المقاربة لها أي للأدمة يقال لها أدمة، أي كما يقال لها حمرة فلا منافاة، قال صلى الله عليه وسلم «جاعد الشعر» أي في شعره تثن وتكسر. أقول: ينبغي حمل جعد الذي جاء في بعض الروايات «وإذا هو بعيسى جعد» على هذا. ثم رأيت النووي قال: قال العلماء المراد بالجعد هنا جعودة الجسم، وهو اجتماعه واكتنازه، وليس المراد جعودة الشعر فليتأمل، والله أعلم. «تعلوه صهية» أي يعلو شعره شقرة «كأنه عروة بن مسعود الثقفي» أي رضي الله تعالى عنه، فإنه بعد

انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف لحق به قبل أن يدخل المدينة وأسلم ثم جاء إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه. وقال صلى الله عليه وسلم في حقه «إن مثله في قومه كصاحب يس» كما سيأتي ذلك. «وأما موسى عليه الصلاة والسلام فضخم آدم» أي أسمر، ومن ثم كان خروج يده بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده آية «طويل كأنه من رجال شنوءة» طائفة من اليمن: أي ينسبون إلى شنوءة؛ وهو عبد الله بن كعب من أولاد الأزد، لقب بذلك لشنآن كان بينه وبين أهله. وقيل لأنه كان فيه شنوءة: وهو التباعد من الأدناس. وفي رواية «كأنه من رجال أزد عمان» هو أبو حي من اليمن. وعمان هذه بضم العين المهملة وتخفيف الميم: بلدة باليمن، سميت بذلك لأنه نزلها عمان بن سنان من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وأما عمان بفتح العين وتشديد الميم: فبلدة بالشام؟ سميت بذلك لأن عمان بن لوط كان سكنها، وكما يقال أزد عمان يقال أزد شنوءة، ورجال الأزد معروفون بالطول. قال صلى الله عليه وسلم «كثير الشعر، غائر العنين، متراكم الأسنان، مقلص الشفتين، خارج اللثة» أي وهو اللحم الذي حول الأسنان «عابس الفم وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فو الله إنه لأشبه الناس بي خلقا وخلقا» . وفي رواية «لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه» يعني نفسه صلى الله عليه وسلم «فضجوا وأعظموا ذلك، وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا، فقال المطعم بن عدي: إن أمرك قبل اليوم كان أمما» أي يسيرا «غير قولك اليوم، وأنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا، أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة، واللات والعزى لا أصدقك، وما كان هذا الذي تقول قط، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته» أي استقبلته بالمكروه وكذبته، أنا أشهد أنه صادق. وفي رواية «حين حدثهم بذلك ارتد ناس كانوا أسلموا» أي وحينئذ فقول المواهب فصدقه الصديق وكل من آمن بالله فيه نظر إلا أن يراد من ثبت على الإسلام. وفي رواية «سعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قد قال ذلك؟ قالوا نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة» أي وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس «وروحة» أي وهي اسم للوقت من الزوال إلى الليل، أي وهذا تفسير لهما بحسب الأصل، وإلا فالمراد أنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة واحدة من ليل أو

نهار فأصدقه، فهذا أي مجيء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تعجبون منه أي وحينئذ يجوز أن يكون قول أبي بكر للمطعم ما تقدم كان بعد هذا القول: أي قاله بعد أن اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغته مقالته، فلا مخالفة بين الروايتين، وإلى إسرائه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتحديثه قريشا بذلك أشار صاحب الهمزية بقوله: حظي المسجد الحرام بممشا ... هـ ولم ينس حظه إيلياء ثم وافى يحدث الناس شكرا ... إذ أتته من ربه النعماء أي جميع المسجد الحرام حصل له الحظ الأوفر بممشاه صلى الله عليه وسلم فيه ففضل سائر البقاع، ولم ينس حظه من ممشاه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، بل شرفه الله تعالى بمشيه فيه أيضا، ففضل على ما عدا المسجدين: أي مسجد مكة ومسجد المدينة؛ ثم وافى صلى الله عليه وسلم مكة يحدث الناس لأجل قيامه بالشكر لله تعالى أو حال كونه شاكرا له تعالى وقت أو لأجل أن أتته من ربه النعماء في تلك الليلة. ثم قال المطعم: يا محمد صف لنا بيت المقدس أراد بذلك اظهار كذبه. وقيل القائل له ذلك أبو بكر، قال له: صفه لي فإني قد جئته أراد بذلك إظهار صدقه صلى الله عليه وسلم لقوله «فقال: دخلته ليلا وخرجت منه ليلا، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فصوّره في جناحه» أي جاء بصورته ومثاله في جناحه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول باب منه كذا في موضع كذا، وباب منه كذا في موضع كذا وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول صدقت، أشهد أنك رسول الله حتى أتى على أوصافه» أي ومعلوم أن من ذهب بيت المقدس من قريش يصدق على ذلك أيضا. وفي رواية «لما كذبتني قريش» أي وسألتني عن أشياء تتعلق ببيت المقدس لم أثبتها أي قالوا له كم للمسجد من باب؟ «فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط، قمت في الحجر فجلى الله عز وجل لي بيت المقدس» أي وجلى بتشديد اللام وربما خففت: كشفه لي أي بوجود صورته ومثاله في جناح جبريل. وفي رواية «فجيء بالمسجد» أي بصورته «وأنا أنظر إليه حتى وضع» أي بوضع محله الذي هو جناح جبريل، فلا مخالفة بين الروايات وهذا من باب التمثيل، ومنه رؤية الجنة والنار في عرض الحائط لا من باب طيّ المسافة وزوي الأرض، ورفع الحجب المانعة من الاستطراق، الذي ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما يحمل عليه حديث «رفع بيت المقدس حتى رآه النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء» إذ ذلك لا يجامع مجيء صورته في جناح جبريل، وإنما قلنا إن ذلك من باب التمثيل لأن من المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة

من بلدهم، فرفعه إنما هو برفع محله الذي هو جناح جبريل. ثم رأيت ابن حجر الهيتمي قال: الأظهر أنه رفع بنفسه كما جيء بعرش بلقيس إلى سليمان عليه الصلاة والسلام في أسرع من طرفة عين، ولك أن تتوقف فيه، فإن عرش بلقيس فقد بخلاف بيت المقدس، وكان ذلك التجلي عند دار عقيل، وتقدم أنها عند الصفا، وأنها استمرت في يد أولاد عقيل إلى أن آلت إلى يوسف أخي الحجاج، وأن زبيدة أو الخيزران جعلتها مسجدا لما حجت كما تقدم وتقدم ما فيه، قال صلى الله عليه وسلم «فطفقت» أي جعلت «أخبرهم عن آياته» : أي علاماته، «وأنا أنظر إليه» أي وذلك قبل أن تحول الأبنية بين الحجر تلك الدار، أي لقوله صلى الله عليه وسلم «فقمت في الحجر» وهم يصدقونه صلى الله عليه وسلم على ذلك. ومن ثم قيل إن حكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشا تعرفه فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفونه مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع. وأما قول المواهب: ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عما رأى أي في السماء لأنهم لا عهد لهم بذلك يقتضي سياقه أنه أخبرهم بالمعراج عند إخباره لهم بالإسراء، وسيأتي ما يخالفه. على أنه سيأتي أنه قيل إن المعراج كان بعد الإسراء في ليلة أخرى. وقيل في حكمة ذلك أيضا أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة، يقابل بيت المقدس فيحصل العروج مستويا من غير تعويج. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لورود أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة، فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج هذا كلامه، ويقال عليه وإن سلم ذلك، لكن لم يكن الباب في تلك الجهة فإن ثبت أن في السماء بابا يقابل الكعبة اتجه سؤاله. قالت نبعة جارية أم هانئ: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: «يا أبا بكر إن الله تعالى قد سماك الصديق» أي ومن ثم كان علي رضي الله تعالى عنه يحلف بالله تعالى إن الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق. وأما ما رواه إسحاق بن بشر بسنده إلى أبي ليلى الغفاري: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «سيكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فإنه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصدّيق الأكبر، وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين» قال في الاستيعاب: إسحاق بن بشر لا يحتج بنقله إذا انفرد لضعفه ونكارة أحاديثه، هذا كلامه. وفي مسند البزار بسند ضعيف «أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي

طالب: أنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل» . وفي رواية «أن كفار قريش لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى بيت المقدس ووصفه لهم، قالوا له ما آية ذلك يا محمد» أي ما العلامة الدالة على هذا الذي أخبرت به «فإنا لم نسمع بمثل هذا قط» أي: هل رأيت في مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أي لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه، قال صلى الله عليه وسلم «آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا فأنفرهم» أي أنفر عيرهم حس الدابة، يعني البراق «فندّ لهم بعير» أي شرد «فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بمحل كذا مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان» أي وفي كلام بعضهم «فعثرت الدابة يعني البراق: فقلب بحافره القدح الذي فيه الماء الذي كان يتوضأ به صاحبه في القافلة» وشرب الماء الذي للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن. مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل، على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يأخذ ما يحتاج إليه من مالكه المحتاج إليه، ويجب على مالكه حينئذ بذله. وأما الجواب عن ذلك بأنه مال حربي غير صحيح، لأن هذا كان قبل مشروعية الجهاد، ومع عدم مشروعيته لا يحل مال أهل الحرب كما لا يحل قتالهم، لأن الواجب حينئذ مسالمتهم ولا تتم إلا بترك التعرض لأموالهم كنفوسهم، قاله ابن حجر في شرح الهمزية: لكن في قطعة التفسير للجلال المحلي في تفسير قوله تعالى فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها [القصص: الآية 13] أن أمة أرضعته بأجرة وساغ لها أخذها، لأنها مال حربي: أي من مال فرعون، إلا أن يقال ذاك: أي أخذ مال الكافر كان جائزا في شريعتهم، قال صلى الله عليه وسلم «وآية ذلك» أي علامته المصدقة لما أخبر به صلى الله عليه وسلم «أن عيرهم الآن تصوب من الثنية يقدمها جمل أورق» وهو ما بياضه إلى سواد وهو أطيب الإبل لحما عند العرب، وأخسها عملا عندهم: أي ليس بمحمود عندهم، في عمله وسيره «عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء» أي فيها بياض وسواد، كما تقدم، فابتدر القوم الثنية فأوّل ما لقيهم الجمل الأورق عليه الغرارتان فسألوهم عن الإناء، وعن نفار العير، وعن ندّ البعير، وعن الشخص الذي دلهم عليه فصدقوا قوله. أقول: قد علم أن البعير التي نفرت وندّ منها البعير ودلهم عليه مرّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الشام، والعير كان بها الإناء الذي شربه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهو راجع إلى مكة، وهي التي صوبت من الثنية، وحينئذ لا يحسن سؤال أهلها عما وقع لأهل تلك العير تصديقهم له صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، إلا أن يقال: يجوز أن تكون هذه العير التي مر عليها صلى الله عليه وسلم في العود اجتمعت في عودها بتلك العير الذاهبة إلى الشام، وأخبروهم بما ذكر، والله تعالى أعلم.

وفي رواية: «قالوا يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا عن بيت المقدس» أي فقولهم ذلك كان بعد أن أخبرهم ببيت المقدس «يا محمد أخبرنا عن عيرنا» : أي عيراتنا الذاهبة والآتية «هل لقيت منها شيئا، فقال نعم أتيت على عير بني فلان بالروحاء» أي وهو محل قريب من المدينة، أي بينه وبين المدينة ليلتان «قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك، فقالوا هذه واللات والعزى آية» أي علامة. أقول: وهذه العير هي التي مر صلى الله عليه وسلم عليها في العود وهي قادمة إلى مكة، وفي هذه الرواية: زيادة أنهم أضلوا ناقة، وتقدم في تلك الرواية، أنه صلى الله عليه وسلم وجدهم نياما، وفي هذه الرواية: إنه ليس بها منه أحد. وقد يقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن يكون الراوي أسقط منها هذه الزيادة وهي إضلال الناقة، وأن قوله صلى الله عليه وسلم ليس بها منهم أحد، أي مستيقظ، بل بعضهم ذهب في طلب تلك الناقة، وبعضهم كان نائما، لكن في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهي بالروحاء، وهو لا يناسب قوله في تلك إنها الآن تصوب من الثنية لأن كونها تأتي من الروحاء إلى مكة في ليلة واحدة من أبعد البعيد، إلا أن يقال إن الروحاء مشتركة بين المحل المعروف المتقدم ذكره ومحل آخر قريب من مكة، والله أعلم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فانتهيت إلى عير بني فلان فنفرت منها» أي من الدابة التي هي البراق «الإبل» أي التي هي العير «وبرك منها جمل أحمر، عليه جوالق مخطط ببياض لا أدري أكسر البعير أم لا؟» وهذه الرواية يحتمل أنها ثالثة. ويمكن أن تكون هي الأولى، أسقط من تلك قوله في هذه: وبرك منها جمل إلى آخره، كما أسقط من هذه قوله: في تلك: فندّ لهم بعير. وفي رواية: «ثم انتهيت إلى عير بني فلان بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان، غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلما حاذت العير نفرت وصرع ذلك البعير وانكسر، أي وأضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان أي بدلالتي لهم عليه فسلمت عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد فاسألوهم عن ذلك» فعلم أن هذه الرواية والتي قبلها هي الأولى، غاية الأمر أنه زيد في هذه قوله: فسلمت عليهم فقالوا هذه واللات والعزى آية، قال صلى الله عليه وسلم «ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالأبواء» أي وهو كما تقدم غير مرة أنه محل بين مكة والمدينة «يقدمها جمل أورق أي بياضه إلى سواد كما تقدم ها هي تطلع عليكم من الثنية، فانطلقوا لينظروا فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم فقالوا صدق الوليد فيما قال أي في قوله إنه ساحر، وأنزل الله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: الآية 60] وهذا يدل على أن المراد رؤيا الإسراء وأنها رؤيا العين، وأنه يقال في مصدرها رؤيا بالألف كما يقال رؤية بالتاء خلافا لمن أنكر ذلك، إذ

لو كان رؤيا الإسراء مناما لما أنكر عليه في ذلك: أي وقيل نزلت وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولد الحكم بن أبي العاص أبي مروان وهم بنو أمية على منبره كأنهم القردة، وقد ورد «رأيت بني مروان يتعاورون منبري» وفي لفظ «ينزون على منبري نزو القردة» زاد في رواية «فما استجمع صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى مات» وأنزل الله تعالى في ذلك وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: الآية 60] وفي رواية: فنزل إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) [الكوثر: الآية 1] وفي رواية: فنزل إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) [القدر: 1- 3] قال بعضهم: أي خير من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية، فإن مدة ملك بني أمية كانت اثنتين وثمانين سنة، وهي ألف أشهر وكان جميع من ولي الخلافة منهم أربعة عشر رجلا، أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد. وقد قيل لبعضهم: ما سبب زوال ملك بني أمية مع كثرة العدد والعدد والأموال والموالي؟ فقال: أبعدوا أصدقاءهم ثقة بهم، وقربوا أعداءهم جهلا منهم، فصار الصديق بأبعاد عدوا، ولم يصر العدوّ صديقا بالتقريب له، وحديث «رأيت بني مروان» إلى آخره. قال الترمذي: هو حديث غريب، وقال غيره منكر، قال صلى الله عليه وسلم ورأيت بني العباس يتعاورون منبري فسرني ذلك: وقيل إن هذه الآية أي آية. وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: الآية 60] إنما نزلت في رؤيا الحديبية، حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه يدخلون المسجد محلقين رؤوسهم ومقصرين، ولم يوجد ذلك بل صدهم المشركون، وقال بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم: ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا: لا، قال فهو كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام كما سيأتي ذلك في قصة الحديبية. وقيل: إنما نزلت هذه الآية في رؤيا وقعة بدر، حيث أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبي صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم، فتسامعت بذلك قريش فسخروا منه، أي ولا مانع من تعدد نزول هذه الآية لهذه الأمور، فقد يتعدد نزول الآية لتعدد أسبابها. قال ابن حجر الهيتمي: إن اتحاد النزول لا ينافي تعدد أسبابه: أي وذلك إذا تقدمت الأسباب، ويروى أنه عين لهم اليوم الذي تقدم فيه العير: أي قالوا له: متى تجيء؟ قال لهم: يأتوكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل أورق عليه مسح آدم وغرارتان، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك وقد ولي النهار ولم تجىء حتى كادت الشمس أن تغرب أي دنت للغروب، فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدم العير: أي كما وصف صلى الله عليه وسلم. أقول: يجوز أن يكون هذا بالنسبة لبعض العيرات التي مرّ عليها فلا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال في بعض العيرات إنها الآن تصوب من الثنية، وإلى حبس الشمس

عن المغيب أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله: وشمس الضحى طاعتك وقت مغيبها ... فما غربت بل وافقتك بوقفة وجاء في بعض الروايات: أنها حبست له صلى الله عليه وسلم عن الطلوع، ففي رواية: أن بعضهم قال له أخبرنا عن عيرنا «قال مررت بها بالتنعيم، قالوا: فما عدتها وأحمالها ومن فيها؟ فقال: كنت في شغل عن ذلك، ثم قيل له ذلك فأخبر بعدتها وعدة أحمالها وعدة من فيها، وقال: تطلع عليكم عند طلوع الشمس، فحبس الله تعالى الشمس عن الطلوع حتى قدمت تلك العير» . فلما خرجوا لينظروا فإذا قائل يقول: هذه الشمس قد طلعت، وقال آخر: وهذه العير قد أقبلت فيها فلان وفلان كما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم» . وعلى تقدير صحة هذه الروايات يجاب عنها بمثل ما تقدم والله أعلم، وحبس الشمس وقوفها عن السير: أي عن الحركة بالكلية، وقيل بطء حركتها، وقيل ردها إلى ورائها، قالوا: ولم تحبس له صلى الله عليه وسلم إلا ذلك اليوم وما قيل إنها حبست له صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن الغروب أيضا حتى صلى العصر معارض بأنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بعد غروب الشمس وقال «شغلونا عن الصلاة الوسطى» كما سيأتي، ثم رأيت في كلام بعضهم ما يؤخذ منه الجواب، وهو أن وقعة الخندق كانت أياما فحبست الشمس في بعض تلك الأيام إلى الاحمرار والاصفرار وصلى حينئذ، وفي بعضها لم تحبس بلى صلى بعد الغروب قال ذلك البعض: ويؤيده أن راوي التأخير إلى الغروب غير راوي التأخير إلى الحمرة أو الصفرة. وجاء في رواية ضعيفة أن الشمس حبست عن الغروب لداود عليه الصلاة والسلام. وذكر البغوي أنها حبست كذلك لسليمان عليه الصلاة والسلام. أي فعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه «أن الله أمر الملائكة الموكلين بالشمس حتى ردوها على سليمان حتى صلى العصر في وقتها» وهذا ردّ لها لا حبس لها عن غروبها الذي الكلام فيه. والذي في كلام بعضهم إنما ضرب سيدنا سليمان سوق خيله وأعناقها حيث ألهاه عرضها عليه عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، ولم يتصدق بها مبادرة لتعظيم أمر الله تعالى بالصلاة في وقتها لأن التصدق يحتاج إلى صرف زمن في دفعها وأخذها. وحبست كذلك ليوشع ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وهو ابن نون بن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام، أي وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، لأن موسى عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى أن يورثه وقومه بني إسرائيل الأرض المقدسة التي هي أرض الشام، وكان سكنها الكنعانيون الجبارون، وأمر بمقاتلة أولئك الجبارين وهم العماليق، سار بمن معه وهم ستمائة ألف مقاتل حتى نزل قريبا من مدينتهم وهي أريحا، فبعث إليهم اثني عشر

رجلا من كل سبط واحدا ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة فرأوا أمرا هائلا من عظم أجسادهم. فقد ذكر بعضهم أنه رأى في فجاج: أي نقرة عين رجل منهم ضبعة رابضة، أي جالسة هي وأولادها حولها، والفجاج في الأصل الطريق الواسع، واستظل سبعون رجلا من قوم موسى في قحف رجل منهم، أي في عظم أمّ رأسه، وفي العرائس: وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم، ويدخل في قشرة الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة، وإن رجلا من العماليق أخذ الاثني عشر ووضعهم في كمه مع فاكهة كانت فيه، وجاء بهم إلى ملكهم فسألهم فقالوا نحن عيون موسى فقال ارجعوا وأخبروه. وفي العرائس أنه عوج بن عنق إحدى بنات آدم عليه السلام من صلبه، ويقال إنها أول بغيّ في الأرض. وفي العرائس: أنه لما لقيهم كان على رأسه حزمة حطب، وأخذ الاثني عشر في حجره وانطلق بهم لامرأته، وقال انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها، وقال لها: ألا أطحنهم برجلي، فقالت امرأته: لا ولكن خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك، فلما رجعوا أخبروا موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: اكتموا خوفا من بني إسرائيل أن يفشلوا ويرتدوا عن موسى فلم يفعلوا، وأخبر كل واحد سبطه بشدة ما رآه من أمرهم الهائل، ففشلوا وجبنوا عن القتال إلا رجلان لم يخبرا سبطيهما وهما يوشع بن نون من سبط يوسف، وكالب بن يوقنا من سبط بنيامين، وقالوا لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) [المائدة: الآية 24] فدعا عليهم وقال رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: الآية 25] أي: فإنه لم يبق معه موافق يثق به غير أخيه هارون وكالب ويوشع، وهما المذكوران بقوله تعالى قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ [المائدة: الآية 23] لأن الله منجز وعده وإنا قد خبرناهم فوجدنا أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: الآية 23] وحينئذ يكون مراد موسى بقوله وأخي من واخاه ووافقه لا خصوص هارون، ثم دعا بقوله فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: الآية 25] أي باعد بيننا وبينهم فضرب عليه التيه فتاهوا، أي تحيروا في ستة فراسخ من الأرض، يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وأنزل الله تعالى عليهم المنّ والسلوى، لأنهم شغلوا عن المعاش، وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ، وتطول مع الصغير إذا طال، وظلل عليهم الغمام من الشمس، ولما رأى موسى عليه الصلاة والسلام ما بهم من التعب ندم على دعائه عليهم. وفي حياة الحيوان: لما عبد بنو إسرائيل العجل أربعين يوما عوقبوا بالتيه أربعين سنة لكل يوم سنة، فأوحى الله تعالى له فَلا تَأْسَ أي لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ

الْفاسِقِينَ [المائدة: الآية 26] أي الذين فسقوا: أي خرجوا عن أمرك. قال في أنس الجليل: ومن عجب الاتفاق أن أريحا هذه كانت في زمن بني إسرائيل منزل الجبارين، وفي زمن الإسلام منزل حكام الشرطة فإنها الآن قرية من قرى بيت المقدس. ثم مات موسى وهارون بالتيه، مات هارون أولا ثم موسى بعد سنتين. وفي ذلك رد على من قال إن قبر هارون أخي موسى بأحدكما سيأتي. وفيه رد أيضا على من يقول موسى مات قبل هارون وأنه دفنه، وقيل إن هارون رأى سريرا في بعض الكهوف فقام عليه فمات، وإن بني إسرائيل قالوا قتل موسى هارون حسدا له على محبة بني إسرائيل له، فقال لهم موسى: ويحكم كان أخي ووزيري أفتراني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذي قام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه. وعلى الأول أن موسى انطلق ببني اسرائيل إلى قبره، ودعا الله أن يحييه فأحياه الله تعالى، وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى، وعند ذلك قام بالأمر يوشع بن نون المذكور؛ أي فإن موسى لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي، وإن الله أمره بقتال الجبارين، فسار بهم يوشع وقاتل الجبارين وكان يوم الجمعة، ولما كاد أن يفتحها كادت الشمس أن تغرب فقال للشمس: «أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور، بحرمتي عليك إلا ركدت، أي مكثت ساعة من النهار» . وفي رواية «قال اللهم احبسها عليّ فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة» أي قال ذلك خوفا من دخول السبت المحرم عليهم فيه المقاتلة، وقد عبر الإمام السبكي عن حبسها ليوشع بردها في قوله: وردت عليك الشمس بعد مغيبها ... كما أنها قدما ليوشع ردّت ولولا قوله بعد مغيبها لما أشكل، وأمكن أن يراد بالرد وقوفها وعدم غروبها، ومن ثم ذكر ابن كثير في تاريخه، أن في حديث رواه الإمام أحمد وهو على شرط البخاري «إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه الصلاة والسلام، ليالي سار إلى بيت المقدس» وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون لا موسى، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس، لا في فتح أريحا هذا كلامه وهو خلاف السياق. وفي العرائس أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمت في التيه، بل سار ببني إسرائيل إلى أريحا وعلى مقدمته يوشع، فدخل يوشع وقتل الجبارين ثم دخلها موسى عليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله ثم قبض، ولا يعلم موضع قبره من الخلق أحد، قال: وهذا أولى الأقاويل بالصدق وأقربها إلى الحق. وذكر بعد ذلك أن موسى لما حضرته الوفاة قال يا رب ادنني من الأرض المقدسة برمية

حجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» . قال ابن كثير: وقوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر، يدل على أن هذا من خصائص يوشع عليه الصلاة والسلام، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه أن الشمس رجعت أي بعد مغيبها أي في خيبر كما سنذكره هنا حتى صلى عليّ بن أبي طالب العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته، وهو حديث منكر، ليس في شيء من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعي على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها هذا كلامه، وسيأتي قريبا ما فيه. على أن قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر أي غيره صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن الحبس لها يكون منعا لها عن مغيبها والرد لها يكون بعد مغيبها فليتأمل. وفي كلام سبط ابن الجوزي: إن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك ولفسد النظام قلنا حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس في خرق العادات. وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد إذ قعد يعظ بعد العصر ثم أخذ في ذكر فضائل آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت، فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا، ثم أدار وجهه إلى ناحية الغرب وقال: لا تغربي يا شمس حتى ينتهي ... مدحي لآل المصطفى ولنجله إن كان للمولى وقوفك فليكن ... هذا الوقوف لولده ولنسله فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمي عليه من الحليّ والثياب هذا كلامه. ولما افتتحوا المدينة التي هي أريحا أصابوا بها أموالا عظيمة، وكانوا: أي الأمم السابقة إذا أصابوا الغنائم قربوها، فتجيء النار تأكلها أي إذا لم يكن فيها غلول كما تقدم، فمجيء النار وأكلها دليل على قبولها، ولم تحل إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، فلما أصابوا تلك الغنائم قربوها فلم تجئ إليها النار، فقالوا له: يا نبي الله ما لها لا تأكل قرباننا؟ قال: فيكم الغلول، فدعا رأس كل سبط وصافحه، فلصق كف واحد منهم في كف يوشع عليه السلام، فقال: الغلول في سبطك، فقال: كيف أعلم ذلك؟ قال: تصافح واحدا بعد واحد، فلصقت كفه بكف واحد منهم، فسئل فقال نعم: رأيت رأس بقرة من ذهب، عيناها من ياقوت وأسنانها من لؤلؤ فأعجبتني فغللتها فجاء بها ووضعها في الغنيمة فجاءت النار فأكلتها. وذكر البغوي أن الشمس حبست عن الطلوع لموسى عليه الصلاة والسلام كما

حبست كذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وكذا القمر حبس لموسى عليه الصلاة والسلام عن الطلوع له. فعن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: إن الله تعالى حين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بالمسير ببني إسرائيل إلى بيت المقدس، أمره أن يحمل معه عظام يوسف عليه الصلاة والسلام، وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها حتى يضعها بالأرض المقدسة، أي وفاء بما أوصى به يوسف عليه الصلاة والسلام. فقد ذكر أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أدركته الوفاة، أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه، فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك، فسأل موسى عليه الصلاة والسلام عمن يعرف موضع قبر يوسف، فما وجد أحدا يعرفه إلا عجوزا من بني إسرائيل، فقالت له: يا نبي الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتني معك ولم تخلفني بأرض مصر، قال أفعل، وفي لفظ: إنها قالت أكون معك في الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له أعطها طلبتها فأعطاها. وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف عليه الصلاة والسلام، ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته أيلة في ناحية من النيل، وفي لفظ في مستنقعة ماء أي وتلك المستنقعة في ناحية من النيل، فقالت لهم أنضبوا عنها الماء: أي ارفعوه عنها ففعلوا، قالت: احفروا فحفروا وأخرجوه. وفي لفظ: أنها انتهت به إلى عمود على شاطئ النيل، أي في ناحية منه فلا يخالفه ما سبق في أصله سكة من حديد فيها سلسلة؛ أي ويجوز أن يكون حفرهم الواقع في تلك الرواية كان على إظهار تلك السكة فلا مخالفة، ووجدوه في صندوق من حديد وسط النيل في الماء، فاستخرجه موسى عليه الصلاة والسلام، وهو في صندوق من مرمر أي داخل ذلك الصندوق الذي من الحديد فاحتمله. وفي أنس الجليل: أن موسى عليه الصلاة والسلام جاءه شيخ له ثلاثمائة سنة، فقال له يا نبي الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتي، فقال له موسى: قم معي إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها موسى: ألك علم بقبر يوسف؟ فقالت: نعم ولا أدلك على قبره إلا إذا دعوت الله تعالى أن يرد عليّ شبابي إلى سبع عشرة سنة ويزيد في عمري مثل ما مضى فدعا موسى لها، وقال لها كم عمرك؟ قالت له تسعمائة سنة فعاشت ألفا وثمانمائة سنة، فأرته قبر يوسف وكان في وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونون شركاء في بركته. وأما عود الشمس بعد غروبها، فقد وقع له صلى الله عليه وسلم في خيبر، فعن أسماء بنت عميس أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ، ولم يسر عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى غربت الشمس وعليّ لم يصل العصر أي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أصليت العصر؟ فقال لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس. قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت» . قال بعضهم: لا ينبغي لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ هذا الحديث، لأنه من أجلّ أعلام النبوّة وهو حديث متصل. وقد ذكر في الإمتاع: أنه جاء عن أسماء من خمسة طرق وذكرها، وبه يرد ما تقدم عن ابن كثير بأنه تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها، وبه يرد على ابن الجوزي، حيث قال فيه إنه حديث موضوع بلا شك لكن في الإمتاع ذكر في خامس الطرق «أن عليا اشتغل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عليّ صليت العصر؟ قال لا يا رسول الله، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس في المسجد فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش، فارتجعت الشمس كهيئتها في العصر فقام علي فتوضأ وصلى العصر ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك، فرجعت إلى مغربها فسمعت لها صريرا كالمنشار في الخشب» وذلك مخالف لسائر الطرق، إلا أن يدعي أن هذه الطريق فيها حذف، والأصل اشتغل مع النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم خيبر، ثم وضع رأسه في حجر علي ونام فما استيقظ حتى غابت الشمس فلا مخالفة. قال «وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى بيت المقدس ساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل؛ فقال له جبريل: انزل فصلّ هنا ففعل، ثم ركب فقال: أتدري أين صليت؟ قال لا، قال: صليت بطيبة وإليها المهاجرة» وسيأتي ما فيه في الكلام على الهجرة «فانطلق البراق يهوي يضع حافره حيث أدرك طرفه، حتى إذا بلغ أرضا فقال له جبريل انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب، فقال له جبريل أتدري أين صليت؟ قال لا، قال: صليت بمدين» أي وهي قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى، سميت باسم مدين ابن إبراهيم لما نزلها «ثم ركب فانطلق البراق يهوي به، ثم قال انزل فصل، ففعل ثم ركب، فقال له: أتدري أين صليت؟ قال لا، قال: صليت ببيت لحم» أي وهي قرية تلقاء بيت المقدس «حيث ولد عيسى عليه الصلاة والسلام» أي وفي الهدى وقيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة «وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه، فقال له جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخرّ لفيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم بلى، فقال جبريل: قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن، أي فقال ذلك فانكب لفيه وطفئت شعلته. ورأى حال المجاهدين في

سبيل الله» أي كشف له عن حالهم في دار الجزاء بضرب مثاله، فرأى قوما يزرعون في يوم أي في وقت «ويحصدونه في يوم» أي في ذلك الوقت كما يرشد إليه الحال «كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من خير فهو يخلفه» هذا الثاني هو المناسب لحالهم دون الأول، فالأولى الاقتصار عليه إلا أن يدعي أنه صلى الله عليه وسلم شاهد الحصاد والعود العدد المذكور الذي هو سبعمائة مرة على أن المضاعفة المذكورة لا تختص بالمجاهدين. فقد جاء «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا أن يقال المراد تكرر الجزاء العدد المذكور للمجاهدين أمر مؤكد لا يكاد يتخلف، وفي غيرهم بخلافه. «ووجد صلى الله عليه وسلم ريح ما شطة بنت فرعون، ووجد داعي اليهود وداعي النصارى، فأما الأول، فقد رأى عن يمينه داعيا يقول: يا محمد انظرني أسألك، فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل، فقال: داعي اليهود، أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك» أي لتمسكوا بالتوراة، والمراد غالب الأمة «وأما الثاني فقد رأى عن يساره داعيا يقول: يا محمد انظرني أسألك فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال هذا داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك» أي لتمسكت بالإنجيل، وحكمة كون داعي اليهود على اليمين وداعي النصارى على اليسار لا تخفى. «ورأى صلى الله عليه وسلم حال الدنيا أي كشف له عن حالتها بضرب مثال «فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها» كأن ذلك شأن المقتص لغيره «وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى» أي ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجذب القلوب إليه، فكيف بوجود سائر أنواع الزينة «فقالت يا محمد انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: من هذه يا جبريل؟ قال تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. ورأى عجوزا على جانب الطريق، فقالت: يا محمد انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: من هذه يا جبريل؟ فقال: إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز «أي فزينتها لا ينبغي الالتفات إليها لأنها على عجوز شوهاء لم يبق من عمرها إلا القليل» ولينظر لم لم يقل تلك الدنيا ولم يبق من عمرها إلى آخره؟. وفي كلام بعضهم: الدنيا قد يقال لها شابة وعجوز، بمعنى يتعلق بذاتها، وبمعنى يتعلق بغيرها، الأول وهو حقيقة أنها من أول وجود هذا النوع الإنساني إلى أيام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه سبعة بعدها تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم كهلة، ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا. واعترض بأن الأئمة صرحوا بأن الشباب ومقابله إنما يكون في الحيوان. ويجاب بأن الغرض من ذلك التمثيل.

وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال «فأتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها» . وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الصلاة المفروضة في دار الجزاء «فأتى على قوم ترضخ رؤوسهم، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال: يا جبريل ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة» أي المفروضة عليهم. وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه «ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع» وهو اليابس من الشوك «والزقوم» ثم شجر مر له زفرة، قيل إنه لا يعرف بشجر الدنيا وإنما هو بشجرة من النار، وهي المذكورة في قوله تعالى إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) [الصّافات: الآية 64] أي منبتها في أصل الجحيم، وتقم الكلام عليها عند الكلام على المستهزئين ويأكلون رضف جهنم أي حجاراتها المحماة، لأن الرضف بالضاد المعجمة الحجارة المحماة التي يكون بها «فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم» . وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال الزناة، بضرب مثال «ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور ولحم نيء أيضا في قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح» . وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال «ثم أتى على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شيء إلا خرقته، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقاعدون على الطريق فيقطعونه وتلا وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف: الآية 86] . وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يأكل الربا أي حالته التي يكون عليها في دار الجزاء «فرأى رجلا يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة، فقال له: من هذا؟ قال: آكل الربا» وقد شبهه الله تعالى في القرآن بقوله الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: الآية 275] أي إذا بعث الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم، إلا آكلة الربا فإنهم لا يقومون من قبورهم إلا مثل قيام الذي يصرعه الشيطان، فكلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم، كما

أن المصروع حاله ذلك، أي فهذه حالته في الذهاب إلى المحشر زيادة على حالته المتقدمة التي تكون في دار الجزاء. وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يعظ ولا يتعظ «ثم أتي على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء خطباء الفتنة، خطباء أمتك، يقولون ما لا يفعلون» . وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال المغتابين للناس «فمر على قوم لهم أظفار من نجاس يخدشون وجوههم وصدورهم، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» . وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال «فأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا الرجل يا جبريل؟ فقال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها» . وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال الجنة «فأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة كريح المسك وسمع صوتا، فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتني بما وعدتني» أي لأنه يجوز أن يكون محل الجنة من السماء السابعة مقابلا لذلك الوادي. وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال النار «فأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول يا رب ائتني بما وعدتني» أي وليست جهنم بذلك الوادي كما سيأتي أن الوادي التي هي به هو الذي ببيت المقدس، ولعل هذا الوادي مقابل لذلك الوادي، وينبغي أن لا يكون هذا هو المراد بما في الخصائص الصغرى للسيوطي. وخص صلى الله عليه وسلم باطلاعه على الجنة والنار، بل المراد بذلك رؤية ذلك في المعراج، وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الوادي الذي ببيت المقدس بالنسبة للنار. «ورأى صلى الله عليه وسلم الدجال شبيها بعبد العزى بن قطن» أي وهو من هلك في الجاهلية أي قبل البعثة. «ومرّ صلى الله عليه وسلم على شخص منتحيا على الطريق، يقول: هلم يا محمد، قال: جبريل: سر يا محمد، قال: من هذا؟ قال: هذا عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه» اهـ. وفي رواية «لما وصلت بيت المقدس وصليت فيه ركعتين أي إماما بالأنبياء والملائكة أخذني العطش أشدّ ما أخذني، فأتيت بإناءين في إحداهما لبن وفي

الأخرى عسل، فهداني الله تعالى، فأخذت اللبن فشربت، وبين يديّ شيخ متكئ على منبر له، فقال: أي مخاطبا لجبريل: أخذ صاحبك الفطرة، إنه لمهديّ، فلما خرجت منه جاءني جبريل عليه الصلاة والسلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة» أي الاستقامة التي سببها الإسلام، ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي على الإسلام. وفي رواية أخرى «فأتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا. وفي رواية: أنه لم يشرب منه شيئا، وأنه قيل له لو شربت الماء» أي جميعه أو بعضه «لغرقت أمتك» أي وفي رواية: «أنه سمع قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى روي» . أي وفي رواية «سمع قائلا يقول إن أخذ اللبن هدي وهديت أمته، ثم رفع إليه إناء فيه خمر، فقيل له اشرب، فقال: لا أريده فقد رويت، فقال له جبريل: إنها ستحرم على أمتك» أي بعد إباحتها لهم. وفي رواية أخرى «أنه قيل له لو شربت الخمر لغويت أمتك ولم تتبعك» أي لا يكون على طريقتك منهم إلا قليل. أي وفي رواية «أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الخمر غوى وغويت أمته» . أقول: وهذه الرواية محتملة لأن تكون وهو في بيت المقدس، ولأن تكون وهو خارج عنه، ومن هذا كله تعلم أنه تكرر عليه عرض اللبن والخمر داخل بيت المقدس وخارجه، ولا مانع من تكرر عرض آنيتي الخمر واللبن قبل خروجه من بيت المقدس وبعد خروجه منه قبل العروج. ولا تعارض بين الأخبار بأن إحداهما كان فيه عسل مع اللبن، وبين الإخبار بأن إحداهما كان فيه خمر مع اللبن. ولا بين الإخبار بإناءين، والإخبار بأواني ثلاثة، لأنه يجوز أن يكون بعض الرواة اقتصر على إناءين. ولا بين كون الإناء الثالث كان فيه عسل أو ماء، لأنه يجوز أن يكون إحدى الأواني الثلاثة كان فيها عسل ثم جعل فيها الماء بدل العسل، أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل، أو تكون الأواني أربعة وبعض الرواة اقتصر. وقد قال ابن كثير: مجموع الأواني أربعة، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي تخرج من أصل سدرة المنتهى، ولكن لم يسقط اللبن. وفي رواية بخلاف غيره، فإنه تارة ذكر معه الخمر فقط، وتارة ذكر معه العسل فقط، وتارة ذكر معه الماء والخمر. وعلى الاحتمال الأول يسأل عن سر عدم ذكر جبريل عليه الصلاة والسلام

حكمة عدم الشرب من العسل والله أعلم. قال «ومرّ على موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته: أكرمته، فضلته» اهـ. وفي رواية «سمعت صوتا وتذمرا» هو بالذال المعجمة: الحدة «فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى بن عمران، قال: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك، قال: أو يرفع صوته على ربه» والعتاب مخاطبة فيها إدلال، وهذا يدل على أن الصوت الذي سمعه كان مشتملا على عتاب وتذمر مع رفعه. وفي رواية «على من كان تذمره» أي حدته «قال على ربه، قلت: أعلى ربه؟ قال جبريل: إن الله عز وجل قد عرف له حدته» وهذا كما علمت كان كالذي بعده قبل وصوله إلى مسجد بيت المقدس والله أعلم. وجاء «وليلة أسري بي مر بي جبريل على قبر أبي إبراهيم، فقال: انزل فصل ركعتين قال: ومرّ على شجرة تحتها شيخ وعياله، فقال: ومن هذا يا جبريل؟ فقال: هذا أبوك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال: من هذا الذي معك يا جبريل؟ فقال: هذا ابنك أحمد، قال: مرحبا بالنبي العربي الأمي، ودعا له بالبركة» أي فموسى عرفه فلم يسأل عنه، وإبراهيم لم يعرفه فسأل عنه، لكن في السيرة الهشامية «أن موسى سأل عنه أيضا، فقال: من هذا يا جبريل. فقال: هذا أحمد، فقال: مرحبا بالنبي العربي الذي نصح أمته، ودعا له بالبركة. وقال: اسأل لأمتك اليسير» والظاهر أن قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم كانت تحت تلك الشجرة أو قريبا منها، فلا مخالفة بين الروايتين. «وسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى الوادي الذي في بيت المقدس، فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابيّ» أي وهي النمارق. أي الوسائد «فقيل: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال: مثل الحممة» أي الفحمة اهـ. قال صلى الله عليه وسلم «ثم عرج بنا إلى السماء» أي من الصخرة كما تقدم «أي على المعراج» بكسر الميم وفتحها «الذي تعرج أرواح بني آدم فيه» وهو كما في بعض الروايات «سلم له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب» أي عشر مراقي. وهو المراد بقول بعضهم: «كانت المعاريج ليلة الإسراء عشرة: سبع إلى السموات، والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى، والعاشر إلى العرش والرفرف» أي فأطلق على كل مرقاة معراجا «وهذا المعراج لم ير الخلائق أحسن منه. أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء» أي بعد خروج روحه «فإن ذلك عجبه بالمعراج الذي نصب لروحه لتعرج عليه، وذلك شامل للمؤمن والكافر، إلا أن المؤمن يفتح لروحه إلى السماء دون الكافر فتردّ بعد عروجها تحسيرا وندامة وتبكيتا له. وذلك المعراج أتي به

من جنة الفردوس وإنه منضد باللؤلؤ» أي جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض «عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة، فصعد هو وجبريل عليهما الصلاة والسلام» قال الحافظ ابن كثير: ولم يكن صعوده على البراق كما توهمه بعض الناس، أي ومنهم صاحب الهمزية كما يأتي عنه «حتى انتهى إلى باب من أبواب سماء الدنيا، أي ويقال له باب الحفظة عليه ملك يقال له إسماعيل، أي وهذا يسكن الهواء، لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة وتحت يده اثني عشر ألف ملك» . أي وفي رواية «أن تحت يده سبعين ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك، فاستفتح جبريل، فقيل من أنت» وفي رواية «فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل سماء الدنيا أي حفظتها من هذا؟ قال جبريل، فقيل: ومن معك؟ أي فإنهم رأوهما ولم يعرفوهما، ولعل جبريل لم يكن على الصورة التي يعرفونه بها «قال محمد» وفي رواية «قال معك أحد» يجوز أن يكون هذا القائل لم يرهما ويكون الرائي له معظم الحفظة «قال: نعم معي محمد، قيل: وقد بعث إليه» أي للإسراء والعروج، أي لأنه كان عندهم علم بأنه سيعرج به إلى السموات بعد الإسراء به إلى بيت المقدس، وإلا فبعثته صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الخلق يبعد أن تخفى على أولئك الملائكة إلى هذه المدة. وأيضا لو كان هذا مرادهم لقالوا وقد بعث ولم يقولوا إليه. فإن قيل قد جاء في حديث أنس «إن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أو قد بعث» قلنا تقدم أن حديث أنس كان قبل أن يوحى إليه، وأنه كان مناما لا يقظة. قال السهيلي: ولم نجد في رواية من الروايات أن الملائكة قالوا وقد بعث إلا في هذا الحديث. وفي رواية بدل بعث إليه «أرسل إليه. قال: قد بعث إليه ففتح لنا، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير» . واختلف في لفظ آدم؟ فقيل أعجمي، ومن ثم منع الصرف. وقيل عربي، لأنه مشتق من الأدمة التي هي السّمرة، والمراد بها هنا لون بين البياض والحمرة حتى لا ينافي كونه أحسن الناس، أو هو مشتق من أديم الأرض أي وجهها لأنه مخلوق منه. وعلى أنه عربي يكون مع صرفه للعلمية ووزن الفعل. وفي رواية «تعرض عليه أرواح بنيه فيسرّ بمؤمنها» أي عند رؤيته «ويعبس بوجهه عند رؤية كافرها» . قال وفي رواية «فإذا فيها آدم كيوم خلقه الله تعالى على صورته» أي على غاية من الحسن والجمال «فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة

ونفس طيبة، خرجت من جسد طيب، اجعلوها في عليين. وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث، اجعلوها في سجين» . أقول: وهذا وإن اقتضى كون أرواح العصاة من المؤمنين في عليين كأرواح الطائعين منهم، لكن لا يقتضي تساويهما في الدرجة كما لا يخفى. وفي رواية «تعرض عليه أعمال ذريته» وهو إما على حذف المضاف: أي صحف أعمالهم التي وقعت منهم، وهي التي في صحف الحفظة، أو التي ستقع منهم وهي ما في صحف الملائكة غير الحفظة. أو تعرض عليه نفس أعمال تجسمت لما سيأتي أن المعاني تجسم، ففي كل من الروايتين اقتصار، والله أعلم. وفي رواية سندها ضعيف، كما قاله الحافظ ابن حجر «وعن يمينه أسودة، وباب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله أسودة، وباب يخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر عن يمينه أي إلى تلك الأسودة ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله أي إلى تلك الأسودة حزن وبكى فسلم عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال: هذا أبوك آدم» أي وزاد في الجواب قوله «وهذه الأسودة نسيم» أي أرواح «بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، وأهل الشمال أهل النار؛ فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله حزن وبكى» وزاد في الجواب أيضا قوله «وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر من سيدخله من ذريته حزن وبكى» اهـ أي إذا نظر إلى أرواح من سيدخلهما، وفيه أن الجنة فوق السماء السابعة والنار في الأرض السابعة، وهي محيطة بالدنيا فكيف يكون بابهما في السماء الدنيا، وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما تقدم. وأجيب عن الثاني بأن عرضها: أي أرواح ذريته الكفار عليه نظرة إليها وهي دون السماء لأنها شفاقة أو من ذلك الباب، أي وكونها عن يساره الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم: أي في جهة يساره. ويجاب عن الأول بأن الباب الذي على يمينه يجوز أن يكون محاذيا لموضع الجنة من السماء السابعة، ولهذا قيل له باب الجنة، وكذا يقال في باب جهنم، لأن الاضافة تأتي لأدنى ملابسة، وبما أجبنا به عن كون أرواح ذريته الكفار عن جهة يساره يعلم أنه لا حاجة في الجواب عن ذلك إلى قول الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يقال إن النسم المرئية هي الأرواح التي لم تدخل الأجساد بعد: أي الآن، ومستقرها عن يمين آدم وشماله. وقد أعلم بما سيصيرون إليه، بناء على أن الأرواح مخلوقة قبل أجسادها. على أنه لا يناسب قوله روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب إلى آخره.

ولا حاجة لما نقل عن القرطبي في الجواب عن ذلك، من أن الكفار التي لا يفتح لها أبواب السماء المشركون دون الكفار من أهل الكتاب، فيجوز أن تكون تلك الأسودة أرواح كفار أهل الكتاب، إذ هو يقتضي أن المراد بأرواح بنيه في الروايتين السابقتين الأرواح التي خرجت من أجسادها. قال صلى الله عليه وسلم: «ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل» أي كشفاه الإبل «أي وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار» أي الحجارة التي كل واحد منها ملء الكف «يقذفونها في أفواهم تخرج من أدبارهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلا آكلة أموال اليتامى ظلما» وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في الأرض: أي ولعل المراد بالرجال الأشخاص، أو خصوا بذلك لأنهم أولياء الأيتام غالبا «قال صلى الله عليه وسلم: ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط» وفي رواية «أمثال البيوت» زاد في رواية «فيها حيات، ترى من خارج البطون بسبيل» أي طريق آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ولا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك: أي فتطؤهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر، المقتضي لشدة وطئهم لهم. والمهيومة: التي أصابها الهيام، وهو داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض ولا ترعى، وفي كلام السهيلي: الإبل المهيومة العطاش، والهيام: شدة العطش. أي وفي رواية «كلما نهض أحدهم خر» أي سقط «قال: قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء آكلة الربا» وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في الأرض، لا بهذا الوصف، بل إن الواحد منهم يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة: أي ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم: أي فيخرجون من ذلك النهر ويلقون في طريق من ذكر، وهكذا عذابهم دائما. قال صلى الله عليه وسلم «ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم خبيث منتن، يأكلون من الغث أي الخبيث المنتن، ويتركون السمين الطيب، قال: قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن» أي وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم أي الرجال والنساء في الأرض بنحو هذا الوصف. وفي رواية «رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام» أي من الأموال، أعمّ مما قبله: أي وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في الأرض. قال صلى الله عليه وسلم «ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم، أي بسبب زناهن: أي وهؤلاء لم يتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهن في الأرض، والذي تقدم رؤيته لهن الزانيات لا بهذا

القيد، وهو إدخالهن على أزواجهن ما ليس من أولادهم، على أنه يجوز أن يكون المراد مطلق الزانيات، لأن الزنا سبب في حصول ما ذكر غالبا، ولا مانع من اجتماع الوصفين لهن. قال «ثم مضى هنيهة، فإذا هو بأقوام يقطع اللحم من جنوبهم فيلقمونه، فيقال له أي لكل واحد منهم كل كما كنت تأكل لحم أخيك، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك، اللمازون: أي المغتابون للناس النمامون لهم» اهـ أي وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم للمغتابين في الأرض بغير هذا الوصف. أي وروي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى في هذه السماء النيل والفرات يطردان أي يجريان وعنصرهما: أي أصلهما» وهو يخالف ما يأتي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران» وأن الظاهرين النيل والفرات. وأجيب بأنه يجوز أن يكون منبعهما من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما وهو المراد بعنصرهما الذي هو أصلهما في السماء الدنيا: أي بعد مرورهما في الجنة، ومن سماء الدنيا ينزلان إلى الأرض. فقد جاء «في تفسير قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: الآية 18] أنهما النيل والفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل عليه الصلاة والسلام فأودعهما بطون الجبال» ثم إن الله سبحانه وتعالى سيرفعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان، وذلك قوله تعالى وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [المؤمنون: الآية 18] وذكره السهيلي وفي زيادة الجامع الصغير «أن النيل ليخرج من الجنة، ولو التمستم فيه حين يسبح لوجدتم فيه من ورقها» . قال صلى الله عليه وسلم: «ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه الصلاة والسلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: قد بعث إليه؟ قال نعم قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما، أي شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما، ومعهما نفر من قومهما، فرحبا بي ودعوا لي بخير» وفي بعض الروايات التي حكم عليها بالشذوذ «أنهما في السماء الثالثة» وقد ذكرها الجلال السيوطي في أوائل الجامع الصغير، وذكر بعضهم أنها رواية الشيخين عن أنس، والشذوذ لا ينافي الصحة المطلقة. فقد قال شيخ الإسلام في شرح ألفية العراقي عند قوله من غير ما شذوذ: خرج الشاذ، وهو ما خالف فيه الراوي من هو أرجح منه، ولا يرد عليه الشاذ الصحيح عند بعضهم، لأن التعريف للصحيح المجمع على صحته لا مطلقا هذا كلامه. وفي كلام السخاوي نقلا عن شيخه ابن حجر أن من تأمل الصحيحين وجد

فيهما أمثلة من ذلك، أي من الصحيح الموصوف بالشذوذ. أقول: وكونهما ابني الخالة: أي أن أم كل خالة الآخر هو المشهور. وعليه قال ابن السكيت: يقال ابنا خالة، ولا يقال ابنا عمة، ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خال؛ لكن في عيون المعارف للقضاعي أن يحيى إنما هو ابن خالة مريم أم عيسى لا ابن خالة عيسى، لأن أم يحيى أخت أم مريم لا أخت مريم. وكذا في كلام ابن إسحاق أن عمران وزكريا كلاهما من ذرية سليمان عليهم الصلاة والسلام، وأنهما تزوجا أختين؛ فزوجة زكريا ولدت يحيى قبل عيسى بستة أشهر، ثم ولدت مريم عيسى، وزوجة عمران ولدت مريم، فأم يحيى أخت أم مريم، فعيسى ابن بنت خالة يحيى، وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم «فإذا أنا بابني الخالة» على التجوّز، وكذا قول عيسى ليحيى يا ابن الخالة كما في تفسير التستري على التجوز. ففيه: حكي عن يحيى وعيسى عليهما السلام أنهما خرجا يمشيان، فصدم يحيى امرأة، فقال له عيسى: يا بن الخالة، لقد أخطأت اليوم خطيئة ما أرى الله عز وجل يغفرها لك، قال: وما هي؟ قال: صدمت امرأة قال: والله ما شعرت بها، قال عيسى: سبحان الله: بدنك معي فأين قلبك؟ قال: معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه طرفة عين لظننت أني ما عرفت الله عز وجل ووجه التجوز أنه أطلق على بنت الأخت لفظ الأخت. قال بعضهم: وهو كثير شائع في كلامهم. ثم رأيت المولى أبا السعود ذكر ما يجمع به بين القولين، وهو أنه قيل إن أم يحيى أخت أم مريم من الأم، وأخت مريم من الأب، فليتأمل تصويره بناء على تحريم نكاح المحارم لأن أم مريم حينئذ بنت موطوءة أبيها لأنها ربيبته إلا أن يكون في شريعتهم جواز ذلك. ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال: لا يبعد أن عمران تزوج أولا أم حنة فولدت أشياع: أي التي هي أم يحيى، ثم تزوج حنة بعد ذلك التي هي ربيبته بنت موطوءته فجاء منها بمريم، بناء على جواز ذلك في شريعتهم. وفيه أنه تقدم أن نوحا عليه الصلاة والسلام بعث بتحريم نكاح المحارم، إلا أن يقال المراد محارم النسب دون المصاهرة، ولم يسم أحد يحيى بعد يحيى هذا إلا يحيى بن خلاد الأنصاري جيء به للنبي صلى الله عليه وسلم يوم ولد فحنكه بتمرة؛ وقال: لأسمينه باسم لم يسم به بعد يحيى بن زكريا فسماه يحيى. ومما يدل على شرف سيدنا يحيى بن زكريا ما في الكشاف عن ابن عباس

رضي الله تعالى عنهما «كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فذكرنا نوحا بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله تعالى إياه، وعيسى برفعته إلى السماء، وقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم؟ بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء؛ أي فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فيم أنتم؟ فذكرنا له، فقال: لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولا همّ بها» أي ففي الحديث «ما من أحد إلا ويلقى الله عز وجل وقد همّ بمعصية عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهمّ بها ولم يعملها» فليتأمل ما في ذلك. وقد ذكر «أن والد زكريا لأمه على كثرة العبادة والبكاء، فقال له: أنت أمرتني بذلك يا أبت، ألست أنت القائل: إن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا البكاؤون من خشية الله عز وجل؟ فقال: بلى، فجدّ واجتهد» . وقد جاء في الحديث «أن يحيى هو الذي يذبح الموت يوم القيامة، يضجعه ويذبحه بشعرة تكون في يده والناس ينظرون إليه، أي فإن الموت يكون في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ويقال لأهلهما: أتعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت» أي يلقي الله عز وجل معرفته في قلوبهم، وتجسم المعاني جاء به الحديث الصحيح. على أنه جاء في تفسير قوله تعالى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: الآية 2] أن الموت في صورة كبش، لا يمر على أحد إلا مات. وخلق الحياة في صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيي، وهو يدل على أن الموت جسم، وأن الميت يشاهد حلول الموت به. وقيل الذي يذبح الموت جبريل عليه الصلاة والسلام. وقيل إن في هذه السماء الثانية إدريس، وهو قول شاذ. وقيل يوسف جاءت به رواية ذكرها الجلال السيوطي في أوائل الجامع الصغير، وذكر فيها أن ابني الخالة في السماء الثالثة كما تقدم، وتقدم أن بعضهم ذكر أنها رواية الشيخين عن أنس. قال أبو حيان: وعيسى لفظ أعجمي. والظاهر أن مثله يحيى، هذا كلامه. وفي كلام غيره أن يحيى عربي، ومنع صرفه العلمية ووزن الفعل. وقيل في عيسى إنه عربي مشتق من العيس: وهو بياض يخالطه صفرة. وعلى أنه أعجمي قيل عبراني. وقيل سرياني. «ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا

فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، أي ومعه نفر من قومه، وإذا هو أعطي شطر الحسن» أي وفي رواية «صورته صورة القمر ليلة البدر» والمراد بشطر الحسن نصف الحسن الذي أعطيه الناس. وفي الحديث: «أعطي يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا، وأعطي الناس الثلثين» ويحتاج للجمع بينها وبين ما جاء في رواية «قسم الله ليوسف من الحسن والجمال ثلثي حسن الخلق، وقسم بين سائر الخلق الثلث» وعن وهب بن منبه: الحسن عشرة أجزاء تسعة منها ليوسف وواحد منها بين الناس. وفي كلام بعضهم «كان فضل يوسف في الحسن على الناس كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء، وكان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يتلألأ نور الشمس وضوء القمر على الجدران» والمراد بالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن حسن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يشارك في شيء كما أشار إليه صاحب البردة بقوله: فجوهر الحسن فيه غير منقسم خلافا لابن المنير حيث ادعى أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وتبعه على ذلك شارح تائية الإمام السبكي. وعبارته «فإذا هو أي يوسف عليه الصلاة والسلام أعطي شطر الحسن الذي أعطيه كله صلى الله عليه وسلم» . هذا، وقد قيل إن يوسف ورث الحسن من إسحاق الذي هو جده، وإسحاق ورث الحسن من سارة التي هي أمه، وسارة أعطيت سدس الحسن، ورثت ذلك من حواء. أي وفي رواية «وصف يوسف وإنه أحسن ما خلق الله تعالى، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب» أي كفضل القمر ليلة البدر على بقية الكواكب الليلية، والمراد بخلق الله تعالى وبالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم، لما علمت أنه أعطي شطر الحسن الذي لغير نبينا صلى الله عليه وسلم ولأن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه على ما فيه. وقد جاء «إن يوسف أعطي نصف حسن آدم» وفي رواية «ثلث حسن آدم» وقد جاء «كان يوسف يشبه آدم يوم خلقه ربه» . وفي الخصائص الصغرى للسيوطي: وخص بأنه صلى الله عليه وسلم أوتي كل الحسن ولم يعط يوسف إلا شطره، فلينظر الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها. وقد جاء «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها أحسنهم صوتا» . قال: «فرحب بي ودعا لي بخير» وفي بعض الروايات «إن في هذه السماء

الثالثة ابني الخالة يحيى وعيسى» كما مر «ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير» وفي رواية «قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح» . وفي رواية قتادة «مرحبا بالابن الصالح» قال بعضهم: وهو القياس، لأنه جده الأعلى لأنه من ولد شيث، بينه وبين شيث أربعة آباء؛ أرسل بعد موت آدم بمائتي سنة. وهو أول من أعطي الرسالة من ولد آدم، وهو يقتضي أن شيثا لم يكن رسولا. ونوح من ولده، بينه وبينه ابنان، فإدريس في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون قوله بالأخ الصالح في تلك الرواية محمول على التواضع منه، خلافا لمن تمسك بذلك. على أن إدريس ليس جدا لنوح ولا هو من آباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) [مريم: الآية 57] أي حال حياته لأنه رفع إلى السماء. قيل من مصر بعد أن خرج منها ودار الأرض كلها وعاد إليها ودعا الخلائق إلى الله تعالى باثنتين وسبعين لغة، خاطب كل قوم بلغتهم وعلمهم العلوم. وهو أوّل من استخرج علم النجوم: أي علم الحوادث التي تكون في الأرض باقتران الكواكب. قال الشيخ محيي الدين بن العربي: وهو علم صحيح لا يخطئ في نفسه؛ وإنما الناظر في ذلك هو الذي يخطئ لعدم استيفاء النظر. ودعوى إدريس عليه السلام الخلائق يدل على أنه كان رسولا. وفي كلام الشيخ محيي الدين: لم يجئ نص في القرآن برسالة إدريس بل قيل فيه صديقا نبيا. وأول شخص افتتحت به الرسالة نوح عليه الصلاة والسلام، ومن كانوا قبله إنما كانوا أنبياء كل واحد على شريعة من ربه، فمن شاء دخل معه في شرعه، ومن شاء لم يدخل؛ فمن دخل ثم رجع كان كافرا. ومما يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام: حب الدنيا والآخرة لا يجتمعان في قلب أبدا. الناس اثنان: طالب لا يجد، وواجد لا يكتفي. من ذكر عار الفضيحة هان عليه لذتها. خير الإخوان من نسي ذنبك ومعروفه عندك. وقد قبضت روحه في هذه السماء الرابعة فصلت عليه الملائكة، ومدفنه بها، تصلي عليه الملائكة كلما هبطت. وحينئذ لا يقال: من كان في السماء الخامسة والسادسة والسابعة أرفع منه. على أنه قيل لما مات أحياه الله تعالى وأدخله الجنة، وهو فيها الآن: أي غالب أحواله في الجنة، فلا ينافي وجوده في السماء المذكورة في تلك الليلة، لأن الجنة أرفع من السموات، لأنها فوقها السماء السابعة، ولا ما جاء في الحديث أنه في السماء حيّ

كعيسى عليهما الصلاة والسلام. وفي بعض الروايات أن في هذه السماء الرابعة هارون. «ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون أي ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرّته من طولها وحوله قوم من بني إسرائيل وهو يقص عليهم، فرحب بي ودعا لي بخير» أي وفي رواية «فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا الرجل المحبب في قومه هارون بن عمران» أي لأنه كان ألين لهم من موسى عليهما الصلاة والسلام، لأن موسى عليه الصلاة والسلام كان فيه بعض الشدة عليهم، ومن ثم كان له منهم بعض الإيذاء. «ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه، قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم، فرحب بي ودعا لي بخير» أي وفي رواية «جعل يمر بالنبي والنبيين معهم القوم، والنبي والنبيين ليس معهم أحد، ثم مر بسواد عظيم فقال: من هذا؛ قيل موسى وقومه» المناسب هذا قوم موسى كما لا يخفى «لكن ارفع رأسك، فإذا هو بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب، فقيل: هؤلاء أمتك، هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب» أي منهم بدليل ما جاء في رواية «قيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقال عكاشة بن محصن: أنا منهم؟ قال نعم، ثم قال رجل آخر: أنا منهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة» لأن هذا الرجل كان منافقا، فلم يقل له صلى الله عليه وسلم لست منهم لأنك منافق، بل أجابه بما فيه ستر عليه. والقول بأن ذلك الرجل هو سعد بن عبادة مردود. وهذا تمثيل: أي مثل له صلى الله عليه وسلم أمته أي وأمة موسى أيضا، إذ يبعد وجودها حقيقة في السماء السادسة وهذا السياق يدل على أن الذي مر بهم من النبي والنبيين في السماء السادسة «فلما خلصا» أي جاوز ما ذكر من النبي والنبيين والسواد العظيم «فإذا موسى بن عمران رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر» أي مع صلابته «لو كان عليه قميصان لنفذ الشعر منهما» أي وكان إذا غضب يخرج شعر رأسه من قلنسوته وربما اشتعلت قلنسوته نارا لشدة غضبه. وفي كلام بعضهم: كان إذا غضب خرج شعره من مدرعته كسل النخل، ولشدة غضبه لما فرّ الحجر بثوبه صار يضربه حتى ضربه ست ضربات أو سبعا مع أنه لا إدراك له. ووجه بأنه لما فر صار كالدابة، والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها

بالضرب «فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له ولأمته بخير، وقال: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا؟ بل هذا أكرم على الله مني، فلما جاوزه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتي» أي وبل من سائر الأمم. فقد ذكر الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم في أمته في الآخرة أن أهل الجنة: أي من الأمم مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمانون وسائر الأمم أربعون. وجاء في المرفوع «كل أمة بعضها في الجنة وبعضها في النار إلا هذه الأمة، فإنها كلها في الجنة» . وفي العرائس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «لما كلم الله عز وجل موسى كان بعد ذلك يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصفا، من مسيرة عشرة فراسخ» . وفي الحديث «ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن عمران فإن لحيته إلى سرته ثم عرج بنا إلى السماء السابعة واسمها عريبا، واسم الأرض السابعة جريبا» . روى الخطيب بإسناد صحيح أن وهب بن منبه قال: من قرأ البقرة وآل عمران يوم الجمعة كان له ثواب يملأ ما بين عريبا وجريبا «فاستفتح جبريل، قيل: من هذا قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال نعم قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، أي رجل أشمط» وفي لفظ «كهل» ولا ينافي ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في وصفه إنه أشبه بصاحبكم يعني نفسه صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا «جالس عند باب الجنة» أي في جهتها كما تقدم، وإلا فالجنة فوق السماء السابعة على كرسي مسندا ظهره إلى البيت المعمور: أي وهو من عقيق ويقال له الضراح بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وفي آخره حاء مهملة، من ضرح: إذا بعد، ومنه الضريح. أي وفي كلام الحافظ ابن حجر: يقال له الضراح والضريح. وجاء «إنه مسجد بحذاء الكعبة لو خر لخرّ عليها» أي فهو في تلك السماء في محل يحاذي الكعبة، أي وقيل في السماء الرابعة» وبه جزم في القاموس، وقيل في السادسة، وقيل في الأولى، وتقدم أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن كل بيت منها بحيال الكعبة «وإذا هو يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه» .

أقول: عن بعضهم «أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك» وفي رواية «سبعون وجيها، مع كل وجيه سبعون ألف ملك» والوجيه: الرئيس، ولعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك بإعلام جبريل، وإلا فرؤيته صلى الله عليه وسلم له تلك الليلة لا تقتضي ذلك. ثم رأيت الشيخ عبد الوهاب الشعراني أشار إلى ذلك حيث قال «وسما له البيت المعمور، فنظر إليه وركع فيه ركعتين وعرّفه» أي جبريل «أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد، ويخرجون من الباب الآخر» فالدخول من باب مطالع الكواكب والخروج من باب مغاربها. والظاهر أن دخول هؤلاء الملائكة خاص بالذي في السماء السابعة. وقال السهيلي: وقد ثبت في الصحيح «أن أطفال المؤمنين والكافرين في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين رآهم مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا، قال له: وأولاد الكافرين؟ قال له: وأولاد الكافرين» أخرجه البخاري في الحديث الطويل في كتاب الجنائز، وخرجه في موضع آخر فقال «فيه أولاد الناس» . وقد روي في أطفال الكافرين أيضا أنهم خدم أهل الجنة، هذا كلامه. وجاء في حديث مرفوع، لكن سنده ضعيف «إن في السماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم» أي سحرا كما في بعض الروايات «فينغمس ثم يخرج فينتفض، فيخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا» وفي لفظ «يخلق الله عز وجل من كل قطرة كذا وكذا ألف ملك يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور يصلون فيه، فهم الذين يصلون في البيت المعمور ثم لا يعودون إليه أبدا، يولي عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم في السماء موقفا يسبحون الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة» وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن جبريل أخبره بذلك في تلك الليلة، والله أعلم. وفي رواية «وإذا أنا بأمتي شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس، وشطرا عليهم ثياب رمدة، فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة، فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور» أي والظاهر أنه ليس المراد بالشطر النصف حتى يكون العصاة من أمته بقدر الطائعين، وإن الصلاة محتملة للدعاء ولذات الركوع والسجود، ويناسبه ما تقدم من قوله ركعتين «وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له: يا نبي الله إنك ملاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك في أمتك فافعل» . وفي السيرة الشامية أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال له صلى الله عليه وسلم ذلك في

الأرض قبل وصول بيت المقدس، وقال له: هنا «مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة، وأرضها واسعة، فقال له: وما غراس الجنة؟ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله» وفي رواية أخرى «أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» . وقال يقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن يكون غراس الجنة مجموع ما ذكر وأن بعض الرواة اقتصر. قال صلى الله عليه وسلم «واستقبلتني جارية لعساء وقد أعجبتني، فقلت لها: يا جارية أنت لمن؟ قالت: لزيد بن حارثة» أي ولعل تلك الجارية خرجت من الجنة فيكون استقبالها له صلى الله عليه وسلم بعد مجاوزة السماء السابعة، لكن في رواية «فرأيت فيها أي في الجنة جارية» الحديث. وقد يقال: يجوز أن يكون رآها مرتين خارج الجنة وداخلها فيكون سؤالها في المرة الأولى. واللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك مستملح قاله في الصحاح. وفي رواية «فلما انتهى إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق» أي وهذه الرواية ظاهرة في أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك في السماء السابعة محتملة لأن يكون رآه قبل دخوله فيها، وحينئذ يكون قوله ثم أتى بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل على الاحتمالين المذكورين. وعند عرض تلك الأواني عليه صلى الله عليه وسلم أخذ اللبن فقال جبريل: أصبت الفطرة: أي بأخذك اللبن الذي هو الفطرة، أصاب الله عز وجل بك أمتك على الفطرة: أي أوجدهم على الفطرة ببركتك. وفي رواية «هذه الفطرة التي أنت عليها وأمتك» أي وتقدم أن المراد بها الإسلام. وورد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السادسة، وموسى في السماء السابعة، وهذه الرواية في البخاري عن أنس، وتقدم أن ذلك كان في الإسراء بروحه صلى الله عليه وسلم لا بجسده، وفيه أن رؤيا الأنبياء حق. فالأولى الجمع بين الروايات بالانتقال، وأن بعض الأنبياء نزل من محله إلى ما تحته لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند صعوده، وبعضهم خرج عن محله وصعد إلى ما فوقه لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند هبوطه، فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه تارة بأنه في سماء كذا وتارة بأنه في سماء كذا، والحافظ ابن حجر لا يرى الجمع، بل يحكم على ما خالف أصح الروايات بأنه لا يعمل به. قال: والجمع إنما هو مجرد استرواح لا ينبغي المصير إليه هذا كلامه.

وعندي فيه نظر ظاهر، والجمع أولى من اثبات المعارضة لا سيما بين الأصح والصحيح وإن كان الصحيح شاذا، لأنا لا نقدم الأصح أو الصحيح على غيره إلا حيث تعذر الجمع فليتأمل. وعلى المشهور من الروايات الذي صدّرنا به أبدى بعضهم لاختصاص هؤلاء الأنبياء بملاقاته صلى الله عليه وسلم واختصاص كل واحد منهم بالسماء الذي لقيه فيها حكمة يطول ذكرها. قال صلى الله عليه وسلم «ثم ذهب بي: أي جبريل إلى سدرة المنتهى، وإذا أوراقها كآذان الفيلة» وفي رواية «مثل آذان الفيول» وفي رواية «الورقة منها تظل الخلق» وفي رواية «تكاد الورقة تغطي هذه الأمة» وفي رواية «لو أن الورقة الواحدة ظهرت لغطت هذه الدنيا» وحينئذ يكون المراد بكونها كآذان الفيلة في الشكل، وهو الاستدارة لا في السعة «وإذا ثمرها كالقلال» وفي رواية «كقلال هجر» قرية بقرب المدينة، والواحدة من قلالها تسع قربتين ونصفا من قرب الحجاز، والقربة تسع من الماء مائة رطل بغدادي، فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشيها تغيرت» أي صار لها حالة من الحسن غير تلك الحالة التي كانت عليها «فما أحد من خلق الله عز وجل يستطيع أن ينعتها من حسنها» أي لأن رؤية الحسن تدهش الرائي، وهذا السياق يدل على أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة: أي وهو قول الأكثر، وفي بعض الروايات أن أغصانها تحت الكرسي، وعن وهب أن العرش والكرسي فوق السماء السابعة. قال: ويسأل هل ثمرة سدرة المنتهى كالثمار المأكولة في أنه يزول ويعقبه غيره هذا الزائل يؤكل أو يسقط، أي فلا يؤكل اهـ. قال صلى الله عليه وسلم «ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ» أي بالمعجمة «قباب اللؤلؤ» وفي لفظ «حبائل اللؤلؤ أي المعقود والقلائد، وإذا ترابها المسك، ورمانها كالدلاء وطيرها كالبخت» فدخوله صلى الله عليه وسلم للجنة كان قبل عروجه للسحابة. وفي الحديث «ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، والذي نفس محمد بيده لا يقطف رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله مكانها خيرا منها» وهذا القسم يرشد إلى أن ثمرة الجنة كلها حلوة تؤكل، وأنها تكون على صورة ثمرة الدنيا المرة. وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة: أي تؤكل من غير قطع: أي يؤكل منها، فالأكل موجود، والعين باقية في غصن الشجرة، وليس المراد أن الفاكهة غير مقطوعة في شتاء ولا صيف، أو يخلق مكان قطعها أخرى على الفور كما فهمه بعضهم، فعين ما يأكل العبد هو عين ما يشهد، وأطال في ذلك، وكأنه لم يقف على هذا الحديث، أو لم يثبت عنده فليتأمل.

قال «ويخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار: نهران باطنان» أي يبطنان ويغيبان في الجنة بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة «ونهران ظاهران» أي يستمران ظاهرين بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة فيجاوزان الجنة «فقال: ما هذه، أي الأنهار يا جبريل؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات» انتهى. أقول: قول جبريل أما الباطنان ففي الجنة لا يحسن أن يكون جوابا عن هذا السؤال: أي الذي هو سؤال عن بيان الحقيقة ويحصل بذكر اسمها، فكان المناسب بحسب الظاهر أن يقول وأما الباطنان فنهر كذا ونهر كذا، وهذا السياق يدل على أن النيل والفرات يمران في الجنة ويجاوزانها، وأن ما عداهما كسيحان وجيحان بناء على أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى يغيبان فيها ولا يجاوزانها، والنيل نهر مصر، والفرات نهر الكوفة. ويحتمل أن النهرين اللذين هما ما عدا النيل والفرات بناء على أنهما سيحان وجيحان، يبطنان في الجنة ولا يظهران إلا بعد خروجهما منها لوجودهما في الخارج، بخلاف النيل والفرات فإنهما يستمران ظاهرين فيها إلى أن يخرجا منها. وقد جاء في حديث «ما من يوم إلا وينزل ماء من الجنة في الفرات» قال بعضهم: ومصداقه أن الفرات مد في بعض السنين فوجد فيه رمان كل واحدة مثل البعير، فيقال إنه رمان الجنة. وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الأحاديث الواهية. وفي حديث موقوف على ابن عباس «إذا حان خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل، فرفع من الأرض هذه الأنهار والقرآن والعلم، والحجر والمقام، وتابوت موسى بما فيه إلى السماء» . هذا، وفي بعض الروايات ما يدل على أن سيحان وجيحان لا ينبعان من أصل شجرة المنتهى، فليسا هما المراد بالباطنين. وعن مقاتل: الباطنان السلسبيل والكوثر، أي ومعنى كونهما باطنين أنهما لم يخرجا من الجنة أصلا. ومعنى كون النيل والفرات ظاهرين أنهما يخرجان منها. وفي «السيرة الشامية» : لم يثبت في سيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك. وأما الباطان المذكوران: أي في الحديث فهما غير سيحان وجيحان. قال القرطبي: ولعل ترك ذكرهما: أي سيحان وجيحان في حديث الإسراء كونهما ليسا أصلا برأسهما، وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات، هذا كلامه، ولعل المراد أنهما يتفرعان عنهما بعد خروجهما من الجنة، فهما لم يخرجا من أصل السدرة ولا يبطنان في الجنة أصلا.

قال «وإذا فيها» في تلك الشجرة «عين» أي في أصلها أيضا «يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، فاغتسلت منه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر» انتهى: أي فهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، لكن لا من المحل الذي يخرج من النيل والفرات، وحينئذ يحسن القول بأنه يخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان. وفي جعل الكوثر قسما من السلسبيل يخالفه جعله قسيما كما تقدم عن مقاتل، فالباطنان الكوثر ونهر الرحمة؛ فالأنهار التي تخرج من أصل سدرة المنتهى أربعة بناء على أن سيحان وجيحان لا يخرجان منها أو ستة بناء على أنهما يخرجان منها. وعلى الأول لا ينافي قول القرطبي: ما في الجنة نهر إلا ويخرج من أصل سدرة المنتهى لأن المراد إما خروجه بنفسه أو أصله الذي يتفرع منه بناء على ما تقدم من أن سيحان وجيحان يتفرعان عن النيل والفرات. ولا ينافي ما عند مسلم «يخرج من أصلها يعني سدرة المنتهى أربعة أنهار من الجنة، وهي: النيل والفرات وسيحان وجيحان» ولا ما عند الطبراني «سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار: من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين ومن عسل مصفى» وعن كعب الأحبار: إن نهر العسل نهر النيل، أي ويدل لذلك قول بعضهم: لولا دخول بحر النيل في البحر الملح الذي يقال له البحر الأخضر قبل أن يصل إلى بحيرة الزنج ويختلط بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته. ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء نهر سيحان، لأن غاية ذلك سكوتهما عن النهرين الآخرين وهما الكوثر ونهر الرحمة. ومعنى كونها تخرج من أصل سدرة المنتهى من الجنة أنه يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة والأنهار تخرج من أصلها، فصح أنها من الجنة، هكذا ذكره العارف ابن أبي جمرة، ولم أقف على ما يدل على ثبوت هذا الاحتمال: أي أن سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، ولا حاجة لهذا الاحتمال في تصحيح هذه الرواية، لأن المعنى أن تلك الأنهار تخرج من أصل تلك الشجرة، ثم تكون خارجة من الجنة؛ ثم لا يخفى أن في كلام القاضي عياض أن سيحان يقال فيه سيحون وجيحان يقال فيه جيحون. ويخالفه قول صاحب النهاية: اتفقوا كلهم على أن جيحون غير جيحان، وسيحون غير سيحان، ومن ثم أنكر الإمام النووي على القاضي عياض حيث قال: الثاني أي من وجوه الإنكار على القاضي قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون، فجعل الأسماء مترادفة، وليس كذلك، فسيحان وجيحان غير سيحون وجيحون هذا كلامه.

وذكر صاحب النهاية أن جيحون نهر وراء خراسان عند بلخ، وسكت عن بيان سيحون فليتأمل. قال «والذي غشي الشجرة فراش من ذهب» والفراش: هو الحيوان الذي يلقي نفسه في السراج ليحترق» وملائكة على كل ورقة ملك يسبح الله تعالى، وملائكة أي آخرون يغشونها كأنهم الغربان يأوون إليها متشوقين إليها متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة» اهـ. «ورأى صلى الله عليه وسلم جبريل عند تلك السدرة على الصورة التي خلقه الله عز وجل عليها، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سدّ الأفق يتناثر من أجنحته تهاويل الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وغشيت تلك السدرة سحابة، فتأخر جبريل عليه الصلاة والسلام، ثم عرج به صلى الله عليه وسلم: أي في تلك السحابة حتى ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام» وفي رواية «صريف» أي صوت حركتها حال الكتابة: أي ما تكتبه الملائكة من الأقضية، وهذا السياق يدل على أن جبريل لم يتعد سدرة المنتهى ويدل على ما تقدم من أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة إلى آخر ما تقدم، وهو الموافق لقول بعضهم إنها على يمين العرش. وفي رواية «ثم انطلق بي أي جبريل إلى ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير أخضر نعم الطير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على رضاض من الياقوت والزمرد بالذال المعجمة كما تقدم «وماؤه أشد بياضا من اللبن، فأخذت من آنيته واغترفت من ذلك فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشدّ رائحة من المسك» . أقول: قد تقدم أن هذا النهر من العين التي تخرج من سدرة المنتهى التي يقال لها السلسبيل: أي فهو يخرج من تلك الشجرة ويمر على ما ذكر، ثم يدخل الجنة ويستقر بها فلا ينافي كون الكوثر نهرا في الجنة، وأن السلسبيل عين في الجنة، لأن السلسبيل على ما تقدم أصل الكوثر، والله أعلم. وفي رواية «إنها» أي سدرة المنتهى «في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيفيض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيفيض منها، وعندها تقف الحفظة وغيرهم فلا يتعدونها، ومن ثم سميت سدرة المنتهى. وعن تفسير ابن سلام عن بعض السلف قال: إنما سميت سدرة المنتهى، لأن روح المؤمن ينتهي بها إليها، فتصلي عليها هناك الملائكة المقرّبون وجمع الحافظ ابن حجر بين كون سدرة المنتهى في السادسة، وكونها في السابعة بأن أصلها في

السادسة وأغصانها في السابعة: أي فوق السابعة: أي جاوزت السابعة، فلا ينافي القول بأنها فوق السابعة على ما تقدم، وهذا الحمل المقتضي لكون أصلها في السادسة لا يناسب كون الأنهار تخرج من أصلها إلى آخر ما تقدم. ويروى «أن جبريل لما وصل إلى مقامه وهو سدرة المنتهى فوق السماء السابعة قال له صلى الله عليه وسلم: ها أنت وربك، هذا مقامي لا أتعداه، فزج بي في النور» أي لما غشيته تلك السحابة، ويعبر عن تلك السحابة بالرفرف. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني وهو نظير المحفة عندنا. وفي تاريخ الشيخ العيني شارح البخاري عن مقاتل بن حيان، قال «انطلق بي جبريل حتى انتهى إلى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى، قال جبريل: تقدم يا محمد، قال: فتقدمت حتى انتهيت إلى سرير من ذهب عليه فراش من حرير الجنة، فنادى جبريل من خلفي: يا محمد إن الله يثني عليك فاسمع وأطع ولا يهولنك كلامه، فبدأت بالثناء على الله عز وجل» الحديث، أي وفي ذلك النور المستوي الذي يسمع فيه صريف الأقلام ثم العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب. وفي رواية «أنه لما وقف جبريل، قال له صلى الله عليه وسلم: في مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ قال: إن تجاوزت احترقت بالنار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل هل لك من حاجة إلى ربك؟ قال: يا محمد سل الله عز وجل لي أن أبسط جناحي على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه، قال: ثم زج بي في النور فخرق بي إلى سبعين ألف حجاب ليس فيها حجاب يشبه حجابا، غلظ كل حجاب خمسمائة عام، وانقطع عني حس كل ملك، فلحقني عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادى مناد بلغة أبي بكر رضي الله تعالى عنه: قف إن ربك يصلي، فبينا أنا أتفكر في ذلك» أي في وجود أبي بكر في هذا المحل وفي صلاة ربي، فأقول: هل سبقني أبو بكر وكيف يصلي ربي وهو غني عن أن يصلي كما يدل على ذلك ما يأتي «فإذا النداء من العلي الأعلى: ادن يا خير البرية، ادن يا أحمد، ادن يا محمد، فأدناني ربي حتى كنت كما قال عز وجل ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) [النجم: الآية 8] . وفي الخصائص الصغرى «وخص بالإسراء وما تضمنه اختراق السموات السبع والعلوّ إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وهذه الرواية ككلام الخصائص تدل على أن فاعل دنا وتدلى واحد وكان هو صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون معنى تدلى زاد في القرب. وجعل بعض العلماء من جملة ما خالف شريك فيه المشهور من الروايات أنه جعل فاعل دنا فتدلّى الحق سبحانه وتعالى: أي دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر عن البيهقي أنه روي بسند حسن ما يوافق ما ذكر شريك، ومعلوم أن معنى

الدنو والتدلي الواقعين من الله سبحانه وتعالى، كمعنى النزول منه في «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير» وهو أي ذلك كعند أهل الحقائق من مقام التنزل؛ بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل في خطابه لهم، فيطلق على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو في حقهم حقيقة، وفي حقه تعالى مجاز. ورأيت بعضهم ذكر أن فاعل دنا جبريل، وفاعل تدلى محمد صلى الله عليه وسلم: أي سجد لربه سبحانه وتعالى شكرا على ما أعطي من الزلفى. ورأيت بعضا آخر ذكر أن فاعل تدلى الرفرف، وفاعل دنا محمد صلى الله عليه وسلم: أي تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جلس عليه، ثم دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى: أي قرب قرب منزلة وتشريف لا قرب مكان، تعالى الله عز وجل عن ذلك. قال صلى الله عليه وسلم «وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه عز وجل، فوضع يده عز وجل بين كتفيّ بلا تكييف ولا تحديد» أي يد قدرته تعالى، لأنه سبحانه منزه عن الجارحة «فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين والآخرين، وعلمني علوما شتى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري. وعلم خيرني فيه. وعلم أمرني بتبليغه إلى العامّ والخاص من أمتي، وهي الإنس والجن» أي وكذلك الملائكة على ما تقدم. أقول: هذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هي هذه العلوم الثلاثة، إلا أن يقال كل علم من هذه الثلاثة يشتمل على أنواع من العلوم، والله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم «ثم قلت: اللهم إنه لما لحقني استيحاش سمعت مناديا ينادي بلغة تشبه لغة أبي بكر، فقال لي قف فإن ربك يصلي، فعجبت من هاتين هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام، وإن ربي لغنيّ أن يصلي! فقال تعالى: أنا الغني عن أن أصلي لأحد وإنما أقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي غضبي، اقرأ يا محمد هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) [الأحزاب: الآية 43] فصلاتي رحمة لك ولأمتك، وأما أمر صاحبك يا محمد فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا، فلما أردنا كلامه قلنا وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ [طه: الآية 17- 18] وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة، وكذلك أنت يا محمد لما كان أنسك بصاحبك أبي بكر خلقنا ملكا على صورته ينادي بلغته ليزول عنك الاستيحاش لما يلحقك من عظم الهيبة» . أقول: لعل المراد خلقنا صورة على صورة صوته، لأنه ليس في الرواية أنه رأى ذلك الملك على صورة أبي بكر، وإنما سمع صوته والله أعلم.

«ثم قال الله عز وجل: يا محمد وأين حاجة جبريل؟ فقلت: اللهم إنك أعلم؛ فقال يا محمد قد أجبته فيما سأل، ولكن فيمن أحبك وصحبك» . أقول: لعل المراد بمن صحبك من كان تابعا لك في دينك عاملا بسنتك: أي وهو مراد جبريل بأمته صلى الله عليه وسلم في قوله أن أبسط جناحي لأمتك على الصراط، والله أعلم. وفي رواية «إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الحق سبحانه وتعالى خر ساجدا، قال صلى الله عليه وسلم: فأوحى الله عز وجل إليّ ما أوحى» . وقد ذكر الثعلبي والقشيري في تفسير قوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) [النّجم: الآية 10] أن من جملة ما أوحي إليه «إن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» قال القشيري: وأوحي إليه «خصصتك بحوض الكوثر، فكلّ أهل الجنة أضيافك بالماء ولهم الخمر واللبن والعسل، ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة» . أقول: تقدم أن من جملة ما أوحي إليه في هذا الموطن من القرآن: خواتيم سورة البقرة، وبعض سورة الضحى، وبعض ألم نشرح، وقد تقدم ذلك عند الكلام على أنواع الوحي، وقدمنا أنه يضم لذلك هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: الآية 43] الآية على ما تقدم. هذا. وفي حديث رواته ثقات «لما وصلت إلى السماء السابعة، قال لي جبريل عليه السلام: «رويدا» أي قف قليلا «فإن ربك يصلي، قلت: أهو يصلي؟» وفي لفظ «كيف يصلي» وفي لفظ آخر «قلت: يا جبريل أيصلي ربك؟ قال نعم، قلت: وما يقول؟ قال: يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي» ولا مانع من تكرر وقوع ذلك له صلى الله عليه وسلم من جبريل ومن غيره في السماء السابعة وفيما فوقها، لكن يبعد تعجبه صلى الله عليه وسلم من كونه عز وجل يصلي في المرة الثانية وما بعدها. وورد أن بني إسرائيل سألوا موسى هل يصلي ربك؟ فبكى موسى عليه الصلاة والسلام لذلك، فقال الله تعالى: يا موسى ما قالوا لك؟ فقال: قالوا الذي سمعت، قال: أخبرهم أني أصلي، وأن صلاتي تطفئ غضبي، والله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم «فنزلت إلى موسى» أي وفي رواية «ثم انجلت تلك السحابة» أي عند وصوله إلى سدرة المنتهى الذي هو المحل الذي وقف فيه جبريل «فأخذ بيده جبريل فانصرف سريعا، فأتى على إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتى على موسى وهذا يدل على ما هو المشهور في الروايات أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في السابعة، وموسى كان في السادسة، لا على غير ما هو المشهور أن إبراهيم عليه الصلاة

والسلام كان في السادسة وموسى كان في السابعة كما تقدم. «ولما أتى إلى موسى عليه الصلاة والسلام قال له: ما فرض ربك عليك» أي وفي لفظ «بم أمرت؟ قال: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني بلوت بني إسرائيل وخبرتهم» أي وفي البخاري «إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، أي فإنه فرض عليهم صلاتان فما قاموا بهما: أي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، وقيل فرض ركعتان عند الزوال: أي فما قاموا بذلك» . وفي «تفسير البيضاوي» أن الذي فرض على بني إسرائيل خمسون صلاة في اليوم والليلة، وسيأتي ذكر ذلك في بعض الروايات. ويرده قولهم: إن سبب طلب التخفيف أنه استكثر الخمس التي هي المرة الأخيرة فهو إنما يناسب ما تقدم. ثم رأيت القاضي البيضاوي قال في تفسير قوله تعالى رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة: الآية 286] أن من ذلك الإصر الذي كلفت به بنو إسرائيل خمسون صلاة في اليوم والليلة. وكتب عليه الجلال السيوطي في الحاشية أن كون بني إسرائيل كلفوا بخمسين صلاة في اليوم والليلة باطل وبسط الكلام على ذلك. «ثم قال موسى فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك» أي وإنما كانت أمته مأمورة بما أمر به ومفروض عليها ما فرض عليه، لأن الفرض عليه صلى الله عليه وسلم فرض على أمته، والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لها، لأن الأصل أن ما ثبت فيه حق كل نبي ثبت في حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية. قال «فرجعت إلى ربي أي انتهى إلى الشجرة فغشيته السحابة وخر ساجدا، فقلت: يا رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا قال: إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك واسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله تعالى: يا محمد إنهن خمس صلوات في كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، قال صلى الله عليه وسلم: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه» أي وفي رواية «أنه وضع عنه عشر صلوات عشر صلوات إلى أن أمر بخمس صلوات» وجاء في الحديث «أكثروا من الصلاة على موسى، فما رأيت أحدا من الأنبياء أحوط على أمتي منه» .

أقول في الوفاء أن رواية «وضعت خمس صلوات» من أفراد مسلم، ورواية «وضع عنه عشر صلوات» أصح، لأنه قد اتفق البخاري ومسلم عليها، والرواية التي فيها «حط خمسا خمسا» غلط من الرواة هذا كلامه فليتأمل. والمتبادر من قوله «إلى أن أمر بخمس صلوات» أنه رفع التعلق بجميع الخمسين وأثبت تعلقا جديدا بخمس ليست من الخمسين، فالمنسوخ جميع الخمسين. ويحتمل أنه رفع التعلق بجملة الخمسين مع اثبات التعلق بخمسة منها التي هي بعضها، فيكون المنسوخ ما عدا الخمس من الخمسين. قيل، وفي هذا وقوع النسخ قبل البلاغ. وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة على منعه. وردّ بأن هذا وقع بعد البلاغ بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كلف بذلك ثم نسخ، فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: وما قيل إن الخمس في ليلة الإسراء ناسخة للخمسين إنما هو في حقه صلى الله عليه وسلم لبلوغه له، لا في حق الأمة: أي لعدم بلوغه لهم، هذا كلامه. وإذا نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم نسخ في حق أمته كما هو الأصل إلا أن تثبت الخصوصية بدليل صحيح، وهذا يردّ ما في الخصائص الصغرى للسيوطي رحمه الله تعالى، من أن وجوب الخمسين لم ينسخ في حقه صلى الله عليه وسلم، وإنما نسخ في حق الأمة، ولعل مستنده في ذلك رواية «فرض الله على أمتي ليلة الإسراء خمسين صلاة، فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسا في كل يوم وليلة» أي على الأمة كما هو المتبادر، وقول موسى عليه الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم «إن أمتك لا تطيق ذلك» وربما يوافق ذلك قول الإمام السبكي في تائيته: وقد كان ربّ العالمين مطالبا ... بخمسين فرضا كل يوم وليلة فأبقيت أجر الكل ما اختل ذرة ... وخففت الخمسون عنا بخمسة وفيه النسخ قبل التمكن من الفعل، وهو يردّ قول المعتزلة القائلين بأنه لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل ودخول وقته. والظاهر من الخمسين التي فرضت أولا أن كل صلاة من الخمس تكرر عشر مرات فما زاد الخمس مساو لها. ويحتمل أن تكون صلوات أخر مغايرة لتلك الخمس، ولم أقف على بيان تلك الصلوات. وعلى أن الخمسين لم تنسخ في حقه صلى الله عليه وسلم لم أقف على ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم لها، وإلى عروجه صلى الله عليه وسلم ورجوعه أشار صاحب الهمزية بقوله:

وطوى الأرض سائرا والسموا ... ت العلا فوقها له إسراء فصف الليلة التي كان للمختار ... فيها على البراق استواء وترقى به إلى قاب قوسين ... وتلك السيادة القعساء رتب تسقط الأماني حسرى ... دونها ما وراءهن وراء وتلقى من ربه كلمات ... كل علم في شمسهن هباء زاخرات البحار يغرق في قط ... رتها العالمون والحكماء أي وطوى الأرض حالة كونه صلى الله عليه وسلم سائرا عليها إلى المدينة عند الهجرة كما طويت له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك السموات العلا لما كان له صلى الله عليه وسلم فوقها إسراء: أي ليلة الإسراء إلى أن جاوزها جميعها في أسرع وقت، فصف تلك الليلة التي كان للمختار فيها على البراق استواء واستقرار، وصعد به ذلك البراق إلى مقدار قاب قوسين، وتلك الرتبة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم هي السعادة الثابتة التي لا يعتريها نقص ولا زوال، وهذه رتب تسقط دونها الأماني حسرى ذات إعياء وتعب ما قدامهن قدام، أي ليس بعدها من رتبة ينالها أحد غيره صلى الله عليه وسلم، وتلقى من ربه كلمات ما عداها بالنسبة إليها كالهباء، وهو ما يرى في ضوء الشمس، وبث سبحانه وتعالى إليه علوما لا يدرك العلماء والحكماء شذرة منها؛ وكونه صلى الله عليه وسلم صعد السموات على البراق يوافقه ما في حياة الحيوان. إن قيل: لم عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء على البراق؛ ولم ينزل عند منصرفه عليه. فالجواب أنه عرج به إلى دار الكرامة ولم ينزل به عليه إظهارا لقدرة الله تعالى، هذا كلامه فليتأمل. وتقدم عن الحافظ ابن كثير إنكار صعوده صلى الله عليه وسلم على البراق، وقد جاء «كان موسى أشدهم عليّ حين مررت عليه، وخيرهم إليّ حين رجعت، ونعم الصاحب كان لكم أي فإنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم لما جاوزه عند الصعود بكى، فنودي ما يبكيك؟ قال: رب هذا غلام» أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان حديث السن بالنسبة لموسى صلى الله عليه وسلم، هذا هو المناسب للمقام «بعثته بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي» وفي رواية «تزعم بنو إسرائيل» أي وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام، ومعنى إسرائيل عبد الله، وقيل صفوة الله. وفي لفظ «تزعم الناس أنه أكرم على الله مني، ولو كان هذا وحده هان، ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله تعالى» أي انضم إلى شرفه شرف أمته على سائر الأمم. أقول: والغرض من هذا وما تقدم عنه عند مروره صلى الله عليه وسلم على قبره عليه الصلاة والسلام عند الكثيب الأحمر إظهار فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم وفضيلة أمته، بأنه أفضل الأنبياء

وأمته بأنها أفضل الأمم. وفي رواية عن ابن عمر «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل الثوب من البول سبع مرات، ولم يزل صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، وغسل الجنابة مرة، وغسل الثوب من البول مرة» . قال: وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة» انتهى. هذا والراجح عند أئمتنا أن درهم الصدقة أفضل من درهم القرض. وبيان كون درهم القرض بثمانية عشر درهما أن درهم القرض بدرهمين من دراهم الصدقة كما جاء في بعض الروايات، ودرهم الصدقة بعشر تصير الجملة عشرين، ودرهم القرض يرجع للمقرض بدله وهو بدرهمين من عشرين يتخلف ثمانية عشر. «وعرضت عليه صلى الله عليه وسلم النار، فإذا فيها غضب الله تعالى» أي نقمته «لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتهما» وفي هذه الرواية زيادة على ما تقدم، وهي «فإذا قوم يأكلون الجيف، فقال صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» أي وتقدم «أنه صلى الله عليه وسلم رأى هؤلاء في الأرض وأن لهم أظفارا من حديد يخمشون بها وجوههم وصدورهم، ورآهم في السماء الدنيا، وأنهم يقطعون اللحم من جنوبهم فيلقمونه» ولينظر ما الحكمة في تكرير رؤية هؤلاء دون غيرهم من بقية أهل الكبائر الذين رآهم في الأرض وفي السماء الدنيا، ولعل الحكمة في ذلك المبالغة في الزجر عن الغيبة لكثرة وقوعها. «ورأى فيها رجلا أحمر أرزق، فقال: من هذا يا جبريل؟ فقال: هذا عاقر الناقة» أي ولعل دخول الجنة وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن تغشاه السحابة ويزج به في النور، ولا مانع من أن تعرض عليه النار وهو فوق السماء السابعة وهي في الأرض السابعة. أقول: ونقل القرطبي في تفسيره عن الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوآت من الملائكة يسبحون الله عز وجل ويقدسونه، ويقولون في تسبيحهم: اللهم اغفر لمن شهد الجمعة» أي صلاتها «اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة» أي لصلاتها، وهذا يفيد أن هذه التسمية أي تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة معروفة عند الملائكة وعنده صلى الله عليه وسلم، وهو يوافق ما قيل إن المسمى لها بذلك كعب بن لؤيّ كما تقدم، ويخالف ما سيأتي من أن تسمية

ذلك اليوم بيوم الجمعة هداية من الله عز وجل للمسلمين بالمدينة، وأنه لما أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلوها في ذلك اليوم لم يسمه بيوم الجمعة، بل اقتصر على قوله اليوم الذي يليه اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، أي في أكثر الروايات، وإلا فقد رأيت السهيلي ذكر حديثا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سمي ذلك اليوم بيوم الجمعة، ونصه «كتب صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير: أما بعد، فانظر اليوم الذي يليه اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله تعالى فيه بركعتين» فعلى أكثر الروايات يجوز أن يكون اخباره صلى الله عليه وسلم بذلك هنا: أي في قصة المعراج كان بعد التسمية وصلاة الجمعة، وعبر بهذه العبارة لكونها عرفت لهم، فيكون الذي سمعه من الملائكة يوم العروبة مثلا، والله أعلم. قال «ورأى صلى الله عليه وسلم مالكا خازن النار، فإذا هو رجل عابس يعرف الغضب في وجهه، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم أي بالسلام ثم أغلقت دونه» انتهى. وفي الأصل: وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «وقد رأيتني: أي يخبر أنه صلى الله عليه وسلم رأى نفسه في جماعة من الأنبياء، فحانت الصلاة» أي حضرت إرادة الصلاة فأممتهم، أي صليت بهم إماما «قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فبدأني بالسلام. قال: وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ما لي لم آت لأهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا إلا غير واحد سلمت عليه فردّ عليّ السلام ورحب بي ودعا لي ولم يضحك لي؟ قال: ذلك مالك خازن النار، لم يضحك منذ خلق ولو ضحك لأحد لضحك إليك» انتهى. أقول: وهذا السياق يدل على أن ضحك من لقيه من الأنبياء والملائكة في السموات له صلى الله عليه وسلم سقط من جميع روايات المعراج، إذ لم يذكر في شيء منها على ما علمت. ويدل على أن مالكا خازن النار وجده في السماء السابعة وأنه مرة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام، ومرة بدأه النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام، والمناسب أن يكون في المرة الأولى هو الذي بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام وهو عند الباب. ثم رأيت الطيبي صرح بذلك حيث قال: إنما بدأ خازن النار بالسلام عليه، ليزيل ما استشعر من الخوف منه، لما ذكر من أنه رأى رجلا عابسا يعرف الغضب في وجهه، فلا ينافيه ما ذكره السهيلي من أنه صلى الله عليه وسلم لم يره على الصورة التي يراه عليها المعذبون في الآخرة، ولو رآه عليها لم يستطع أن ينظر إليه. وقوله صلى الله عليه وسلم «لم آت أهل سماء إلى آخره» قد يعارضه ما جاء «أنه صلى الله عليه وسلم، قال لجبريل: ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا؟ قال: ما ضحك منذ خلقت النار» وفيه أن هذا يفيد أن ميكائيل كان موجودا قبل خلق النار وإيجادها، وهذا لا ينافي أن ميكائيل

ضحك بعد ذلك، فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم تبسم في الصلاة، فسأل عن ذلك، فقال: رأيت ميكائيل راجعا من طلب القوم، أي يوم بدر، وعلى جناحه الغبار فضحك إليّ فتبسمت إليه» . ولعل هذا كان بعد ما أخرجه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قال لجبريل: إني لم أر ميكائيل ضاحكا قط، قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار» ومما يدل على أن جبريل عليه الصلاة والسلام خلق قبل النار أيضا ما في مسند أحمد عن أنس بن مالك، قال: قال صلى الله عليه وسلم لجبريل «لم تأتني إلا رأيتك صارّا بين عينيك، قال: إني لم أضحك منذ خلقت النار» وهذا مع ما تقدم من رؤية الجنة والنار يردّ على الجهمية وبعض المعتزلة كعبد الجبار وأبي هاشم، حيث زعموا أن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار، وأنهما ليستا موجودتين الآن، وإنما يخلقهما سبحانه وتعالى يوم الجزاء، مستدلين بأنه لا يحسن من الحكيم أن يخلق الجنة دار النعمة والنار دار النقمة قبل خلق أهلهما، وبأنهما لو كانا مخلوقتين في السماء والأرض لفنيا بفنائهما. وأجيب عن الأول بأنه يحسن من الحكيم خلقهما قبل يوم الجزاء، لأن الإنسان إذا علم ثوابا مخلوقا اجتهد في العبادة لتحصيل ذلك الثواب، وإذا علم عقابا مخلوقا اجتهد في اجتناب المعاصي لئلا يصيبه ذلك العقاب، فليتأمل. وأجيب عن الثاني بأن الله استثناهما من قوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: الآية 68] . وفيه أن هذه صعقة الموت، ولا يتصف بالموت غير ذي الروح، ولأن الجنة كما قيل ليست في السماء السابعة بل فوقها، والنار ليست في الأرض السابعة بل تحتها، وحينئذ يكون القول بأن الجنة في السماء السابعة والنار في الأرض السابعة فيه تجوّز والله أعلم. قال: واختلف في رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى تلك الليلة فأكثر العلماء على وقوع ذلك: أي أنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل بعين رأسه. واستدل له بحديث «رأيت ربي في أحسن صورة» . وردّ بأن هذا الحديث مضطرب الإسناد والمتن. وقد قال بعض العارفين: شاهد الحق سبحانه وتعالى القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة، وأنكرتها عائشة رضي الله تعالى عنها. وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه أي بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل، أي أتى بأعظم الافتراء والكذب على الله عز وجل، ووافقها على ذلك من الصحابة ابن مسعود وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهما وجمع من العلماء.

ونقل عن الدارمي الحافظ أنه نقل اجماع الصحابة على ذلك ونظر فيه. وذهب إلى الرؤية: أي المذكورة أكثر الصحابة وكثير من المحدثين والمتكلمين، بل حكى بعض الحفاظ على وقوع الرؤية له بعين رأسه الإجماع، وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله: ورآه وما رآه سواه ... رؤية العين يقظة لا المرائي واحتجت عائشة رضي الله تعالى عنها على منع الرؤية بقوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: الآية 103] قال: وروي أن مسروقا قال لها: ألم يقل الله عز وجل وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) [النّجم: الآية 13] أي مرة أخرى، أي بناء على أن الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى؛ فقالت: أنا أوّل هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت جبريل منهبطا: أي فالضمير البارز إنما هو لجبريل. وفي رواية قال لها: «ذاك جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين: أي مرة في الأرض ومرة في السماء» في هذه الليلة كما تقدم، وعلى ظاهر الآية: أي من جعل الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى، وقطع النظر عن هذه الرواية التي جاءت عن عائشة رضي الله تعالى عنها يلزم أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى الحق سبحانه وتعالى ليلة المعراج مرتين: مرة في قاب قوسين، ومرة عند سدرة المنتهى، ولا مانع من ذلك، ولعل ذلك هو المعنيّ بقول الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته للباري عز وجل مرتين، وفيها: وجمع له بين الكلام والرؤية، وكلمه عند سدرة المنتهى، وكلم موسى بالجبل. قال بعضهم: يجوز أنه صلى الله عليه وسلم خاطب عائشة رضي الله تعالى عنها بما ذكر أي بقوله: إنما رأيت جبريل إلى آخره على قدر عقلها أي في ذلك الوقت انتهى، وأيد قولها بما روي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه «قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نورا» أي حجبني ومنعني عن رؤيته عز وجل، ومن ثم جاء في رواية «نور أني أراه؟» أي كيف أراه مع وجود النور، لأن النور إذا غشي البصر حجبه عن رؤية ما وراءه، أي وليس المراد أنه سبحانه وتعالى هو النور المرئي له خلافا لمن فهم ذلك، وأيده بما روي «نوراني» أي لأن هذه الرواية كما قيل تصحيف، ومن ثم قال القاضي عياض: لم أرها في أصل من الأصول، ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا لأن النور من جملة الأعراض: أي لأنه كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطة تلك الكيفية تدرك سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الاجرام الكثيفة المحاذية لهما، والله تعالى يتعالى عن ذلك، أي فحجابه تعالى النور كما رواه مسلم: أي ومن ثم قيل في قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: الآية 35] أي ذو نور، أو هو على المبالغة: أي وجاء «رأيته في صورة شاب أمرد عليه حلة خضراء دونه ستر من لؤلؤ» وجاء «رأيت ربي في أحسن صورة» قال الكمال بن الهمام: إن

كان المراد به رؤية اليقظة فهو حجاب الصورة. قال: وقيل رآه بفؤاده مرتين لا بعيني رأسه؛ فعن بعض الصحابة «قلنا: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: لم أره بعيني، رأيته بفؤادي مرتين، ثم تلا ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) [النّجم: الآية 8] الآية» وهذا السياق يدل على أن فاعل دَنا فَتَدَلَّى لحق سبحانه وتعالى، والمراد بالفؤاد القلب: أي خلقت الرؤية في القلب، أو خلق الله لفؤاده بصرا رأى به انتهى. أقول: وكون الفؤاد له بصر واضح، لقوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) [النّجم: الآية 17] . وأجيب عما احتجت به عائشة رضي الله عنها من قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: الآية 103] بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك: أي الذي هو الإحاطة، فالنور إنما منع من الإحاطة به لا من أصل الرؤية. وقد قال بعضهم للإمام أحمد: بأي معنى تدفع قول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية؟ فقال: يدفع بقول النبي صلى الله عليه وسلم «رأيت ربي» وقول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها. هذا، وقد قال أبو العباس بن تيمية: الإمام أحمد إنما يعني رؤية المنام، فإنه لما سئل عن ذلك، قال نعم رآه؟ فإن رؤيا الأنبياء حق، ولم يقل إنه رآه بعين رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك. أقول: وفيه أنه يبعد أن يكون الإمام أحمد يفهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تنكر رؤيا المنام حتى يردّ عليها، وقد ضعف حديث أبي ذر المتقدم، وهو «قلت يا رسول الله رأيت ربك؟ فقال: نوراني أراه؟» وهو من جملة الأحاديث التي في مسلم التي نظر فيها والله أعلم. قال أبو العباس بن تيمية: وأهل السنة متفقون على أن الله عز وجل لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي، ولم يقع النزاع إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة، مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه، وإنما روي ذلك بإسناد موضوع باتفاق أهل الحديث. وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأله موسى الرؤية فمنعها» . وقد نقل القرطبي عن جماعة من المحققين القول بالوقف في هذه المسألة، لأنه لا دليل قاطع وغاية ما استدل به الفريقان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، وهو من المعتقدات، فلا بد فيها من الدليل القطعي هذا كلامه. ونازع فيه السبكي بأنه ليس من المعتقدات التي يشترط فيها الدليل القطعي،

وهي التي تكلف باعتقادها كالحشر والنشر، بل من المعتقدات التي يكتفى فيها بخبر الآحاد الصحيح، وهي التي لم نكلف باعتقادها. كما نحن فيه. وفي الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته من آيات ربه الكبرى وحفظه، حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبرؤيته للباري مرتين. وفي كلام بعضهم قال العلماء في قوله تعالى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) [النّجم: الآية 18] رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت، فإذا هو عروس المملكة. وفي كلام ابن دحية: خص صلى الله عليه وسلم بألف خصلة، منها الرؤية والدنوّ والقرب. قال بعضهم: قد صحت الأحاديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إثبات الرؤية، وحينئذ يجب المصير إلى إثباتها، ولا يجترئ أحد أن يظن في ابن عباس أن يتكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد. قال الإمام النووي: والراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، أي وأما رؤيته عز وجل يوم القيامة في الموقف فعامة لكل أحد من الخلق الإنس والجن من الرجال والنساء، المؤمن والكافر، والملائكة جبريل وغيره. وأما رؤيته عز وجل في الجنة، فقيل لا تراه الملائكة، وقيل يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة. قال بعضهم: وقياس عدم رؤية الملائكة عدم رؤية الجن ورد ذلك. واختلف في رؤية النساء من هذه الأمة له تعالى في الجنة، فقيل لا يرينه لأنهن مقصورات أي محبوسات في الخيام. وقيل يرينه في أيام الأعياد دون أيام الجمع بخلاف الرجال فإنهم يرونه في كل يوم جمعة. فقد جاء «أنه تعالى يتجلى في مثل عيد الفطر ويوم النحر لأهل الجنة تجليا عاما» ومن أهل الجنة مؤمنو الجن على الراجح. وجاء «إن كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة، يجتمعون فيه على زيارة ربهم، ويتجلى لهم فيه، ويدعي يوم الجمعة في الجنة بيوم المزيد» قال بعضهم: هذا لعموم أهل الجنة، وأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يرون ربهم فيه بكرة وعشيا. وأما رؤية الله عز وجل في النوم، ففي الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز له رؤية الله وعز وجل في المنام ولا يجوز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم في أحد القولين، وهو اختياري، وعليه أبو منصور الماتريدي. وفي كلام الإمام النووي قال القاضي عياض: اتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام وصحتها: أي وقوعها قال: وإن رآه حينئذ إنسان على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجساد لأن ذلك المرئي

غير ذات الله تعالى والله أعلم. ثم لا يخفى أن أكثر العلماء على أن الإسراء إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السماء كانا في ليلة واحدة، أي وقيل كان الإسراء وحده في ليلة، ثم كان هو والمعراج في ليلة أخرى. قال: وقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه، فإذا هو برهج ودخان وأصوات، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون» أي وذلك مانع لهم من التفكر في ملكوت السموات والأرض أي لعدم نظرهم للعلامات الموصلة لذلك «لولا ذلك لرأوا العجائب» أي أدركوها. «ثم ركب صلى الله عليه وسلم البراق منصرفا» أي بناء على أنه لم يعرج على البراق «فمرّ بعير لقريش» إلى آخر ما تقدم انتهى. أقول: ذكر بعضهم أن مما نزل عليه صلى الله عليه وسلم بين السماء والأرض أي عند نزوله من السماء قوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) [الصّافات: الآية 164] الآيات الثلاث، وقوله تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزّخرف: الآية 45] الآية، والآيتان من آخر سورة البقرة، وتقدم أنهما نزلتا بقاب قوسين، والله أعلم. واستدل على أن كلا من الإسراء والمعراج كان يقظة بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه بقوله تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: الآية 1] لأن العبد حقيقة هو الروح والجسد قال تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) [العلق: الآيتان 9 و 10] وقال وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجنّ: الآية 19] ولو كان الإسراء مناما لقال بروح عبده، ولأن الدواب التي منها البراق لا تحمل الأرواح، وإنما تحمل الأجساد. واستدل على أن الرؤية كانت بعين بصره صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) [النّجم: الآية 17] لأن وصف البصر بعدم الإزاغة يقتضي أن ذلك يقظة، ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه. أقول: فيه أن لقائل أن يقول: يجوز أن يكون المراد بالبصر بصر قلبه، لما تقدم أن الله تعالى خلق لقلبه بصرا، والله أعلم. وقيل كان الإسراء بجسده، والمعراج بروحه الشريفة، أي بذاتها عرج بها حقيقة من غير إماتة للجسد، وكان حالها في ذلك أرقى منه كحالها بعد مفارقتها لجسدها بموته في صعودها في السموات حتى بين يدي الله تعالى، وهذا أمر فوق ما يراه النائم وغيره صلى الله عليه وسلم، لا تنال ذات روحه الصعود إلا بعد الموت لجسدها. قيل ومن ثم لم يشنع كفار قريش إلا أمر الإسراء دون المعراج.

أقول: الظاهر أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالمعراج لم يكن عند إخباره بالإسراء، بل تأخر عن إخباره بالإسراء بناء على أنهما كان في ليلة واحدة، وإلا فقد ذكر بعضهم أن المعراج لم يكن ليلة الإسراء الذي أخبر به كفار قريش قال: إذ لو كان أي في تلك الليلة لأخبر به حين أخبرهم بالإسراء، أي ولم يخبر به حينئذ، إذ لو أخبر به حينئذ لنقل، ولذكره سبحانه تعالى مع الإسراء، لأن المعراج أبلغ في المدح والكرامة وخرق العادة من الإسراء إلى المسجد الأقصى. وأجيب عنه بأنه على تسليم أنه كان في ليلة الإسراء الذي أخبر به قريشا هو صلى الله عليه وسلم استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا، فلما ظهرت لهم امارات صدقه على تلك الآية الخارقة التي هي الإسراء أخبرهم بما هو أعظم منها وهو المعراج بعد ذلك: أي وحيث أخبرهم بذلك لم ينكروه لذلك أي لثبوت صدقه صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من الإسراء. وتقدم عن المواهب أنهم لم يسألوه عن علامات تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم في ذلك، لعدم علمهم ومعرفتهم بشيء في السماء، والحق سبحانه وتعالى أرشده إلى ذلك: أي إلى أن يخبرهم بالإسراء أولا ثم بالمعراج ثانيا، حيث لم ينزل قصة المعراج في سورة الإسراء» بل أنزل ذلك في سورة النجم. ومما يؤيد أنهما كانا في ليلة واحدة قول الإمام البخاري في صحيحه «باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء» لأن من المعلوم أن فرض الصلاة: أي الصلوات الخمس إنما هو في المعراج. وأما افراده كلا من الإسراء والمعراج بترجمة فلا يخالف ذلك، لأنه إنما أفرد كلا منهما بترجمة، لأن كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معا. وقد خالف الحافظ الدمياطي في سيرته، فذكر أن المعراج كان في رمضان، والإسراء كان في ربيع الأول، والله أعلم. وقيل الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم أي بعد البعثة مرتين مناما أولا ويقظة ثانيا أي فكانت مرة المنام توطئة وتبشيرا لوقوعه يقظة، وبذلك يجمع بين الاختلاف الواقع في الأحاديث، أي فبعض الرواة خلط الواقع له صلى الله عليه وسلم مناما بالواقع له صلى الله عليه وسلم يقظة. وعلى هذا لا يشكل قول شريك: فلما استيقظت، لكنه قال إن مرة المنام كانت قبل البعثة، ففي رواية «وذلك قبل أن يوحى إليّ» وقد أنكر الخطابي عليه ذلك، وعدّه من جملة أوهامه الواقعة في حديث الإسراء والمعراج. ورد على الخطابي الحافظ ابن حجر في ذلك بما ينبغي الوقوف عليه. وقيل كان المعراج يقظة، ولم يكن ليلا، ولم يكن من بيت المقدس، بل كان من مكة وكان نهارا، فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه عز وجل أن يريه الجنة والنار،

فلما كان نائما ظهرا أتاه جبريل وميكائيل، فقالا: انطلق إلى ما سألت الله تعالى، فانطلقا بي إلى ما بين المقام وزمزم، فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا فعرجا بي إلى السموات سماء سماء» الحديث. ولا يخفى أن سياق هذا الحديث يدل على أن ذلك كان مناما، فلا يحسن أن يكون دليلا على قوله يقظة. وقد جاء عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغهما في صدري، ثم أخذ بيدي فعرج إلى السماء» الحديث. وقد يدعى أن في رواية أبي ذر اختصارا وليس فيها أن ذلك كان مناما أو يقظة. أي وأما ما ادعاه بعضهم أن المعراج تكرر يقظة فغريب: إذ كيف يتكرر يقظة سؤال أهل كل باب من أبواب السماء هل بعث إليه، وكيف يتكرر سؤاله صلى الله عليه وسلم عن كل نبي، وكيف يتكرر فرض الصلوات الخمس والمراجعة، وأما مناما فلا بعد في تكرر ذلك توطئة لوقوعه يقظة أي وهذا منشأ اختلاف الروايات، أدخل بعض الرواة ما وقع في المنام ما وقع في اليقظة كما تقدم نظيره في الإسراء، وتعدد روايات الإسراء لا يقتضي تعدده في اليقظة خلافا لمن زعمه. ومن ثم قال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراآت متعددة فقد أبعد وأغرب، أي فالحق أنه إسراء واحد بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة، وذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان له إسراآت أربعة وعشرون مرة، وقيل ثلاثون مرة، منها مرة واحدة بروحه وجسده يقظة، والباقي بروحه، رؤيا رآها: أي ومن ذلك ما وقع له صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، وهو محمل قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ما فقدت جسده الشريف. وفي صبيحة ليلة المعراج أي حين زالت الشمس من اليوم الذي يلي الليلة التي فرضت فيها الصلوات الخمس كان نزول جبريل عليه الصلاة والسلام وإمامته بالنبي صلى الله عليه وسلم، ليعلمه أوقات الصلوات أي وكيفيتها أي لأنه لا يلزم من علمه صلى الله عليه وسلم بكيفية صلاة الركعتين وصلاة قيام الليل علم كيفية الصلوات الخمس وإن قلنا بأن الرباعية منها فرضت ركعتين، فأمر صلى الله عليه وسلم فصيح بأصحابه الصلاة جامعة، فاجتمعوا فصلى به صلى الله عليه وسلم جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس فسميت تلك الصلاة الظهر، لأنها أول صلاة ظهرت، أو لأنها فعلت عند قيام الظهيرة: أي شدة الحر أو عند نهاية ارتفاع الشمس، وهذا الحديث ظاهر بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس كانت بعد صلاته مع جبريل محتمل لأن يكون صلى الله عليه وسلم صلى بصلاة جبريل والناس صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم. ففي بعض الروايات «لما نودي بالصلاة جامعة فزعوا لذلك واجتمعوا فصلى

بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أربع ركعات لا يقرأ فيهن علانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الناس، وجبريل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدي الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل، ثم يصلي كذلك في العصر. ولما غابت الشمس صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثلاث ركعات، يقرأ في الركعتين علانية، وركعة لا يقرأ فيها علانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الناس، وجبريل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل» . وفي كلام الإمام النووي قوله إن جبريل نزل فصلى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بكسر الهمزة، ويوضحه قوله في الحديث «نزل جبريل فأمني» واستدل بذلك بعضهم على جواز الاقتداء بمن هو مقتد بغيره، لا كما يقوله أئمتنا من منع ذلك. وأجيب عنه من جانب أئمتنا، بأن معنى كونه صلى الله عليه وسلم مقتديا بجبريل أنه متابع له في الأفعال من غير نية اقتداء ولا إيقاف فعله على فعل جبريل، فلا يشكل على أئمتنا نعم هذا حينئذ يشكل على أئمتنا القائلين بأنه لا بد من علم كيفية الصلاة قبل الدخول فيها، ولا يكفي علمها بالمشاهدة. وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون جبريل عليه الصلاة والسلام علمه صلى الله عليه وسلم كيفيتها بالقول ثم اتبع القول بالفعل، وهو صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كذلك. وبما تقرر يسقط الاستدلال بذلك على جواز الفرض خلف النفل، لأن تلك الصلاة لم تكن واجبة على جبريل، لأن الملائكة ليسوا مكلفين بذلك. وأجيب بأنها كانت واجبة على جبريل، لأنه مأمور بتعليمها له صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، وكان ذلك عند البيت: أي الكعبة مستقبلا بيت المقدس أي صخرته، واستقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس. قيل كان باجتهاد منه، وقيل كان بأمر من الله تعالى له، قيل بقرآن وقيل بغيره أي وعلى أنه بقرآن يكون مما نسخت تلاوته: وقد قال أئمتنا: ونسخ قيام الليل بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس كما تقدم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استقبل بيت المقدس يجعل الكعبة بينه وبينه، فيصلي بين الركن اليماني وركن الحجر الأسود، أي كما صلى به جبريل الركعتين أوّل البعث كما تقدم. وحينئذ لا يخالف هذا قول بعضهم: لم يزل صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة حتى خرج منها: أي من مكة: أي لم يستدبرها، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة استقبل بيت المقدس: أي تمحض استقباله واستدبر الكعبة. وظاهر إطلاقهم أن هذا: أي استقباله بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبينه كان شأنه صلى الله عليه وسلم غالبا، وإن صلى خارج المسجد بمكة ونواحيها. والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أدبا لا وجوبا، وإلا فقد جاء أن صلاة جبريل

به صلى الله عليه وسلم كانت عند باب الكعبة كما رواه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم. وروى الطحاوي عند باب البيت مرتين، أي وذلك في المحل المنخفض الذي تسميه العامة المعجنة كما تقدم، وصلاته صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة في المحل المذكور لبيت المقدس لا يكون مستقبلا للكعبة، بل تكون على يساره، لأن لا يتصور أن يستقبل بيت المقدس ويكون مستقبلا للكعبة أيضا إلا إذا صلى بين اليمانيين كما تقدم. وأيضا ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل الكعبة وراء ظهره وهو بمكة أي في بعض الأوقات حتى لا يخالف ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبلها مع استقباله لبيت المقدس. ولا ينافي ذلك ما في زبدة الأعمال: أقام صلى الله عليه وسلم بعد نزول جبريل ثلاث عشرة سنة، وكان يصلي إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة، يجعلها: أي الكعبة بين يديه ولا يستدبرها لإمكان حمل مدة اقامته على غالبها. ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مع الصحابة كانوا يصلون إلى بيت المقدس وهم بمكة، ما سيأتي عن البراء بن معرور «أنه لما عدل عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك، قال له: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها» . وأم به صلى الله عليه وسلم جبريل مرتين: مرة أوّل الوقت ومرة آخر الوقت لكن الوقت الاختياري بالنسبة للعصر والعشاء والصبح لا الآخر الحقيقي ليعلمه الوقت: أي ولما جاءه صلى الله عليه وسلم جبريل أمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة، كما تقدم، أي لأن الإقامة المعروفة للصلوات الخمس لم تشرع إلا بالمدينة على ما تقدم وسيأتي. قال: فقد جاء «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم وصلى به في أول يوم الظهر حين زالت الشمس» كما تقدم، أي عقب زوالها، وصلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثله، أي زيادة على ظل الاستواء أو على الظل الحاصل عقب الزوال، وصلى به المغرب حين أفطر الصائم: أي دخل وقت فطره وهو غروب الشمس. وصلى به العشاء حين غاب الشفق. وصلى به أي في غد ذلك وهو اليوم الثاني الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم أي حين دخل وقت حرمة ذلك وهو الفجر. أي فإن قيل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يكن الصوم الذي هو رمضان فرض. أجيب بأنه على تسليم أنه لم يفرض عليه صوم قبل رمضان وهو صوم عاشوراء وثلاث أيام من كل شهر على ما سيأتي، جاز أن يكون اخباره صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة كان

بعد فرض رمضان «وصلى به الظهر حين كان ظل الشيء مثله. وصلى به العصر حين كان ظلّ الشيء مثليه. وصلى به المغرب حين أفطر الصائم. وصلى به العشاء ثلث الليل الأول. وصلى به الفجر، أي في اليوم الثالث فأسفر، ثم التفت وقال: يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين» اهـ. وأما رواية صلى بي الظهر إلى أن قال وصلى بي الفجر، فلما كان الغد صلى بي الظهر المقتضي ذلك، لأن يكون الفجر ليس من اليوم الثاني بل من تتمة ما قبله. ففيه دليل على أن اليوم من طلوع الشمس كما يقول الفلكيون، أي ولا يخفى أن قوله «والوقت ما بين هذين الوقتين» محمول عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه على الوقت الاختياري بالنسبة للعصر والعشاء والفجر، وإلا فوقت العصر لا يخرج إلا بغروب الشمس، ووقت العشاء لا يخرج إلا بطلوع الفجر، ووقت الصبح لا يخرج إلا بطلوع الشمس خلافا للإصطخري حيث ذهب إلى خروج وقت العصر بمصير ظل الشيء مثليه، والعشاء بثلث الليل، والصبح بالإسفار متمسكا بظاهر الحديث. والبداءة بالظهر هو ما عليه أكثر الروايات. وروي «أن البداءة كانت بالصبح عند طلوع الفجر» وعلى الأول إنما لم تقع البداءة بالصبح مع أنها أول صلاة تحضر بعد ليلة الإسراء لأن الإتيان بها يتوقف على بيان علم كيفيتها المعلق عليه الوجوب كأنه قيل أوجبت عليه حيثما تبين كيفيته في وقته والصبح لم تتبين كيفيتها في وقتها فلم تجب. فلا يقال: هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة. وأجاب الإمام النووي بأنه حصل التصريح بأن أول وجوب الخمس من الظهر، كأنه قيل أوجبت ما عدا صلاة الصبح يوم هذه الليلة، فعدم وجوبها ليس لعدم علم كيفيتها فهي غير واجبة وإن فرض علم كيفيتها. وفيه أنه يلزم حينئذ أن الخمس صلوات في اليوم والليلة لم توجد إلا فيما عدا ذلك اليوم وليلته. قال أبو بكر بن العربي: ظاهر قوله «هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك» أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لكل واحد من الأنبياء قبله وليس كذلك، وإنما معناه أن وقتك هذا المحدود الطرفين مثل وقت الأنبياء قبلك فإنه كان محدود الطرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات الخمس على هذه المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها أي فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن آدم لما تيب عليه كان ذلك عند الفجر، فصلى ركعتين فصارت الصبح. وفدي إسحاق عند الظهر» أي على القول بأنه الذبيح، فصلى أربع ركعات فصارت الظهر، وبعث عزير فقيل له كم لبثت؟ قال لبثت يوما فلما رأى الشمس قريبة من الغروب، قال أو بعض يوم، فصلى أربع ركعات فصارت العصر. وغفر لداود عند المغرب أي الغروب فقام يصلي أربع ركعات فجهد أي تعب فجلس

في الثالثة أي سلم منها فصارت المغرب ثلاثا، وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فصلاتها من خصائصه. وفي شرح مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه للإمام الرافعي رحمه الله تعالى: كانت الصبح صلاة آدم. والظهر صلاة داود، أي فقد اشترك داود وإسحاق في صلاة الظهر. والعصر صلاة سليمان أي فقد اشترك سليمان وعزير في صلاة العصر. والمغرب صلاة يعقوب، أي فقد اشترك يعقوب وداود في صلاة المغرب. والعشاء صلاة يونس وأورد في ذلك خبرا وعليه فليست صلاة العشاء من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم. والأصل أن ما ثبت في حق نبيّ ثبت في حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية، فليست من خصائص هذه الأمة. وذكر بعضهم أن المغرب كانت صلاة عيسى، أي وكانت أربعا: ركعتين عن نفسه وركعتين عن أمه؛ أي فقد اشترك عيسى ويعقوب وداود في صلاة المغرب. وفي كلام بعضهم: أوّل من صلى الفجر آدم، والظهر إبراهيم، أي وعليه فقد اشترك إبراهيم وإسحاق وداود في صلاة الظهر. وأوّل من صلى العصر يونس، أي وعليه فقد اشترك سليمان وعزير ويونس في صلاة العصر. وأوّل من صلى المغرب عيسى. وأول من صلى العتمة التي هي العشاء موسى، أي وعليه فقد اشترك موسى ويونس ونبينا صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء. وفي الخصائص الكبرى: خص صلى الله عليه وسلم بأنه أوّل من صلى العشاء، ولم يصلها نبي قبله، ومن لازمه أنه لم يصلها أحد من الأمم. وقد جاء التصريح به في بعض الروايات «إنكم فضلتم بها» أي العشاء «على سائر الأمم» وعليه فهي من خصائصنا ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم عند بناء الكعبة أن جبريل صلى بإبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم الصلوات الخمس فليتأمل. قال قيل: «فرضت الصلوات الخمس في المعراج ركعتين ركعتين» أي حتى المغرب «ثم زيدت في صلاة الحضر فأكملت أربعا في الظهر» أي في غير يوم الجمعة «وأربعا في العصر والعشاء وثلاثا في المغرب، وأقرت صلاة السفر على ركعتين» أي حتى في المغرب. فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين» أي في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء «فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة» أي بعد شهر وقيل وعشرة أيام من الهجرة «زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر» أي لم يزد عليها شيء لطول القراءة: أي فإنها يطلب فيها زيادة القراءة على الظهر والعصر المطلوب فيهما قراءة طوال المفصل «وصلاة المغرب» أي تركت

صلاة المغرب «فلم يزد فيها ركعتان بل ركعة فصارت ثلاثة لأنها وتر النهار» أي كما في الحديث، فتعود عليه بركة الوترية «إن الله وتر يحب الوتر» والمراد أنها وتر عقب صلاة النهار «وتركت صلاة السفر فلم يزد فيها شيء» أي في غير المغرب، هذا هو المفهوم من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها، وهو يفيد أن صلاة السفر استمرّت على ركعتين أي في غير المغرب، أي وحينئذ يلزم أن يكون القصر في الظهر والعصر والعشاء عزيمة لا رخصة، ولا يحسن ذلك مع قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء: الآية 101] . وفي كلام الحافظ ابن حجر: المراد بقول عائشة «فأقرت صلاة السفر» باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، أي لأنه لما استقرّ فرض الرباعية خفف منها أي في السفر لأنه استقرّ أمرها بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر أو بأربعين يوما، ثم نزلت آية القصر في ربيع الأوّل من السنة الثانية إلا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة. وقيل فرضت أي الصلوات الخمس في المعراج أربعا، إلا المغرب ففرضت ثلاثا، وإلا الصبح ففرضت ركعتين، أي وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت الأربع في السفر، أي وهو المناسب لقوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء: الآية 101] ومن ثم قال بعضهم: إن هذا هو الذي يقتضيه ظاهر القرآن وكلام جمهور العلماء. ويمكن أن يكون المراد من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها أنها فرضت ركعتين بتشهد ثم ركعتين بتشهد وسلام. وفيه أن هذا لا يأتي في الصبح والمغرب. وقال بعضهم: ويبعد هذا الحمل ما روي عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أي الصلوات الخمس التي فرضت بالمعراج بمكة ركعتين ركعتين، فلما قدم المدينة أي وأقام شهرا أو عشرة أيام فرضت الصلاة أربعا أو ثلاثا وتركت الركعتان تماما أي تامة للمسافر. وعن يعلي بن أمية، قال «قلت لعمر بن الخطاب فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: الآية 101] وقد أمن الناس؟ قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» أي فصار سبب القصر مجرد السفر لا الخوف. وهذا قد يخالف ما في الإتقان «سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله عز وجل وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النّساء: الآية 101] ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه

من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النّساء: الآية 101] إلى قوله عَذاباً مُهِيناً [النساء: الآية 102] فنزلت صلاة الخوف» فتبين بهذا الحديث أن قوله إِنْ خِفْتُمْ [النّساء: الآية 101] شرط فيما بعده وهو صلاة الخوف لا في صلاة القصر. قال ابن جرير: هذا تأويل في الآية حسن لو لم يكن في الآية إذا قال ابن الغرس يصح مع إذا على جعل الواو زائدة. قلت: ويكون من اعتراض الشرط على الشرط. وأحسن منه أن يجعل إذا زائدة بناء على قول من يجيز زيادتها هذا كلامه فليتأمل. وقيل فرضت: أي الرباعية أربعا في الحضر وركعتين في السفر فعن عمر رضي الله تعالى عنه «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الغد ركعتان غير قصر» أي تامة «على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وفيه بالنسبة لصلاة السفر ما تقدم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «فرضت في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» أي وفيه في صلاة السفر ما تقدم، وقوله في الخوف ركعة أي يصليها مع الإمام وينفرد بالأخرى وذلك في صلاة عسفان حيث يحرم بالجميع ويسجد معه صف أوّل، ويحرس الصف الثاني، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه في الركعة الثانية وحرس الآخرون، فقد صلى كل صف مع الإمام ركعة، فلا يقال إن في كلام ابن عباس ما يفيد أن صلاة الفجر تقصر، وفرض التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم متأخر عن فرض الصلاة. فعن ابن مسعود «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان» أي من الملائكة «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام، وقال له بعض الصحابة: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال قولوا: اللهم صل على محمد» إلى آخره ولم أقف على الوقت الذي فرض فيه التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيه، ولا على أن قولهم السلام على الله إلى آخره هل كان واجبا أو مندوبا. قال بعضهم: والحكمة في جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسا أن الحواس لما كانت خمسة والمعاصي تقع بواسطتها كانت كذلك لتكون ماحية لما يقع في اليوم والليلة من المعاصي أي بسبب تلك الحواس، وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله «أرأيتم لو كان بباب أحدكم نهر يغتسل منه في اليوم والليلة خمس مرات أكان ذلك يبقي من درنه شيئا؟ قالوا لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» . قيل وجعلت مثنى وثلاث ورباع، ليوافق أجنحة الملائكة، كأنها جعلت أجنحة

للشخص يطير بها إلى الله تعالى. وسئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هل تجد الصلوات الخمس في كتاب الله تعالى؟ فقال نعم وتلا قوله تعالى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) [الروم: الآية 17- 18] أراد بحين تمسون المغرب والعشاء؛ وبحين تصبحون الفجر، وبعشيا العصر، وبحين تظهرون الظهر. وإطلاق التسبيح بمعنى الصلاة جاء في قوله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) [الصّافات: الآية 143] قال القرطبي: أي من المصلين. وفي الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «كل تسبيح في القرآن فهو صلاة» والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(فهرس محتويات الجزء الأول من السيرة الحلبية) المسمى إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات تقديم 3 باب: نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم 9 باب: تزويج عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم آمنة أمه وحفر زمزم وما يتعلق بذلك 48 باب ذكر حمل أمه به صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين 69 باب وفاة والده صلى الله عليه وسلم 74 باب: ذكر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم 78 باب: تسميته صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمدا 115 باب ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما اتصل به 124 باب: وفاة أمه صلى الله عليه وسلم وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب له 154 باب: ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام 171 باب: ما حفظه الله تعالى به في صغره صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية 178 باب: رعيته صلى الله عليه وسلم الغنم 183 حرب الفجار 185 باب: شهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول 188 باب: سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام ثانيا 193 باب: تزوجه صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ابن أسد بن عبد العزى بن قصي 199 باب: بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى 204 باب: ما جاء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان وعلى غير ألسنتهم، وما سمع من الهواتف ومن بعض الوحوش ومن بعض الأشجار، وطرد الشياطين من استراق السمع عند مبعثه بكثرة تساقط النجوم، وما وجد من ذكره صلى الله عليه وسلم مكتوبا من النبات والأحجار وغيرهما 265

باب: سلام الحجر والشجر عليه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه 320 باب: بيان حين المبعث وعموم بعثته صلى الله عليه وسلم 322 باب: بدء الوحي له صلى الله عليه وسلم 334 باب: ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة 375 باب: ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم 381 باب: استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه، وما لقي هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه 402 باب: عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون، وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات، وبعثهم إلى أحبار يهود بالمدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به، وحديث الزبيدي، وحديث المستهزئين به صلى الله عليه وسلم، ومن حديثهم حديث الأراشي ومن قصد أذيته صلى الله عليه وسلم فردّ خائبا 428 باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر إليها من المسلمين إلى مكة وإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه 456 باب: اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف وكتابة الصحيفة 475 باب الهجرة الثانية إلى الحبشة 477 باب ذكر خبر وفد نجران 487 باب ذكر وفاة عمه أبي طالب، وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها 488 باب ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف 498 باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه رضي الله تعالى عنه 513 باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس 514

الجزء الثاني

الجزء الثاني بسم الله الرّحمن الرّحيم باب عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل من العرب أن يحموه ويناصروه على ما جاء به من الحق أي لأنه صلى الله عليه وسلم أخفى رسالته ثلاث سنين، ثم أعلن بها في الرابعة على ما تقدم، ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافي الموسم كل عام، يتبع الحجاج في منازلهم أي بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم ويأتي إليهم في أسواق المواسم، وهي: عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، فقد تقدم أن العرب كانت إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوّال، ثم تجيء إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما، ثم تجيء سوق ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه. فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: ألا رجل يعرض عليّ قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي» وعن بعضهم «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر إلى المدينة يطوف على الناس في منازلهم أي بمنى يقول: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ووراءه رجل يقول يا أيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم، فسألت من هذا الرجل؟ فقيل أبو لهب يعني عمه» . وفي رواية عن أبي طارق رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وخلفه رجل له غديرتان» أي ذؤابتان «يرجمه بالحجارة حتى أدمي كعبه يقول يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب، فسألت عنه، فقيل إنه غلام عبد المطلب، فقلت ومن الرجل الذي يرجمه؟ فقيل هو عمه عبد العزى يعني أبا لهب» . أي وفي السيرة الهشامية عن بعضهم قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف في منازل القبائل من العرب فيقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه

من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا به وتصدقوني، وتمنعوني حتى أبين عن الله عز وجل ما بعثني به، قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، فقلت لأبي: من هذا الرجل الذي يتبعه يرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب» . وذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على كندة وكلب أي إلى بطن منهم، يقال لهم بنو عبد الله، فقال لهم «إن الله قد أحسن اسم أبيكم أي عبد الله» أي فقد قال صلى الله عليه وسلم «أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن» ثم عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم، وعرض على بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة أي فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك، فقال: الأمر إلى الله يضعه حيث شاء؛ قال: فقال له، أنقاتل العرب دونك؟ وفي رواية، أنهدف نحورنا للعرب دونك» أي نجعل نحورنا هدفا لنبلهم «فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه، فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم؛ فلما قدموا عليه سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه، ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف» أي تدارك. «هل لها من مطلب؛ والذي نفس فلان بيده ما يقولها» أي ما يدعي النبوة «كاذبا أحد من بني إسماعيل قط، وإنها لحق، وإن رأيكم غاب عنكم» . وذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني عبس أي وبني سليم وغسان وبني محارب أي وفزارة وبني نضر ومرة وعذرة والحضارمة، فيردون عليه صلى الله عليه وسلم أقبح الرد، ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه من بني حنيفة، أي وهم أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب؟ وقيل لهم بنو حنيفة، لأن أمهم حنيفة قيل لها ذلك لحنف كان في رجلها وثقيف، أي ومن ثم جاء «شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف» . أي ودفع صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم. وقال: ممن القوم، قالوا: من ربيعة؟ قال: وأي ربيعة؟ من هامتها أو من لهازمها قالوا: بل الهامة العظمى، قال: من أيها؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: منكم حامي الذمار ومانع الجار فلان؟ قالوا لا، قال: منكم قاتل الملوك وسالبها فلان؟ قالوا لا، قال: منكم صاحب العمامة الفردة فلان؟ قالوا لا،

قال: فلستم من ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه شاب حين بقل وجهه أي طلع شعر وجهه، فقال له: إن على سائلنا أن نسأله، يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك، فممن الرجل؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنا من قريش، فقال الفتى، بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة فقال الفتى: أمنكم قصي الذي كان يدعى مجمعا قال لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه قال لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء قال لا، واجتذب أبو بكر رضي الله تعالى عنه زمام ناقته، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له عليّ رضي الله تعالى عنه: لقد وقعت من الأعرابي على باقعة أي داهية أي ذي دهاء. وهو في الأصل اسم لطائر حذر يطير يمنة ويسرة قال: أجل أبا حسن؛ ما من طامة إلا فوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق، أي واستفهام الفتى توبيخي لا حقيقي لأن من المعلوم أن من ذكر ليسوا من تيم، لأن أبا بكر كما تقدم إنما يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة؛ ومرة جد لقصي؛ فكأنه يقول له إن قبيلتكم لم تشتمل على هؤلاء الأشراف؛ أي كما أن قبيلتنا لم تشتمل على أولئك الأشراف. وعن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه صلى الله عليه وسلم لقي جماعة من شيبان بن ثعلبة؛ وكان معه أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما؛ وأن أبا بكر سألهم ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي، هؤلاء غرر، أي سادات في قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانىء» بالهمز «ابن قبيصة» بفتح القاف «ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك. وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا له غديرتان» أي ذؤابتان من شعر «وكان أدنى القوم، أي أقرب مجلسا من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال مفروق: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلة، والذي قاله صلى الله عليه وسلم «لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» قاله لما أراد أن يغزو هوازن، وكان جيشه العدد المذكور كما سيأتي «فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه، كيف المنعة فيكم قال مفروق: علينا الجهد» أي بفتح الجيم وضمها أي الطاقة «ولكل قوم جد» بفتح الجيم أي حظ وسعادة أي علينا أن نجهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر، لأنه من عند الله يؤتيه من يشاء، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مفروق: إنا لأشد ما يكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشد ما يكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد أي من الخيل على الأولاد، والسلاح على اللّقاح أي ذوات اللبن من الإبل، وربما قيل للبقر والغنم أيضا «والنصر من عند الله، يديلنا» بضم أوله وكسر الدال المهملة: أي ينصرنا «مرة، ويديل علينا مرة» أي ينصر علينا

أخرى «لعلك أخو قريش، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أوقد بلغكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هوذا فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت» أي تعاونت «على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، قال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) [الأنعام: الآية 151] قال مفروق: ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم عرفناه، ثم قال: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [النّحل: الآية 90] . وهذه الآية ذكرها العز بن عبد السلام أنها اشتملت على جميع الأحكام الشرعية، وبين ذلك في سائر الأبواب الفقهية، وضمن ذلك كتابا سماه الشجرة «فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم» أي صرفوا عن الحق كذبوك وظاهروا أي عاونوا عليك، وكان مفروق أراد أن يشركه أي يشاركه في الكلام هانىء بن قبيصة، فقال: هذا هانىء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانىء قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة، فقال: هذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب دون ما يلي أنهار كسرى فعلنا، فإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى: أن لا نحدث حدثا، وأن لا نؤوي محدثا. وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه أنت هو مما تكرهه الملوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم في الرد، إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم، ويغرسكم نساءهم تسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أَيُّهَا النَّبِيُ

إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: الآيات 45- 47] ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وهؤلاء لم أقف على إسلام أحد منهم؛ إلا أن في الصحابة شخصا يقال له المثنى بن حارثة الشيباني، وكان فارس قومه وسيدهم والمطاع فيهم، ولعله هو هذا، لقول هانىء بن قبيصة فيه: إنه صاحب حربنا. ورأيت بعضهم ذكر أن النعمان بن شريك له وفادة، فيكون من الصحابة، أي وفي أسد الغابة أن مفروق بن عمرو من الصحابة، ونقل عن أبي نعيم أنه قال لا أعرف لمفروق إسلاما. ولما قدمت بكر بن وائل مكة للحج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ائتهم. فاعرضني عليهم، فأتاهم فعرض عليهم، فقال لهم: كيف العدد فيكم، قالوا: كثير مثل الثرى، قال: فكيف المنعة؟ قالوا: لا منعة، جاورنا فارس فنحن لا نمنع منهم ولا نجير عليهم، قال: فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين وتحمدوه وثلاثا وثلاثين وتكبروه ثلاثا وثلاثين؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا رسول الله، ثم مر بهم أبو لهب فقالوا له هل تعرف هذا الرجل؟ قال نعم، فأخبروه بما دعاهم إليه، وأنه زعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: لا ترفعوا بقوله رأسا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه، فقالوا: لقد رأينا ذلك حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر» . وفي رواية أنه لما سألهم قالوا له: حتى يجيء شيخنا حارثة، فلما جاء قال: إنا بيننا وبينك من الفرس حربا، فإذا فرغنا عما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول، فلما التقوا مع الفرس قال شيخهم: ما اسم الرجل الذي دعاكم إليه؟ قالوا محمد، قال: فهو شعاركم فنصروا على الفرس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بي نصروا، أي نصروا بذكرهم اسمي. ولا زال صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في كل موسم، ويقول «لا أكره أحدا على شيء، من رضي الذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد من تلك القبائل، ويقولون: قوم الرجل أعلم به ترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه. وعن ابن إسحاق لما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نبيه، صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم. وفي سيرة مغلطاي ومستدرك الحاكم أن ذلك كان في شهر رجب يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم «فبينا هو عند العقبة التي تضاف إليها

الجمرة فيقال جمرة العقبة، أي وهي عند يسار الطريق لقاصد منى من مكة، وبها الآن مسجد يقال له مسجد البيعة، إذ لقي بها رهطا من الخزرج: أي لأن الأوس والخزرج كانوا يحجون فيمن يحج من العرب، أي والأوس في الأصل أي اللغة: العطية، ويقال للذئب، ويقال لرجل اللهو واللعب. والخزرج في الأصل: الريح الباردة، قيل هي الجنوب خاصة وكانوا ستة نفر، وقيل ثمانية أراد الله تعالى بهم خيرا، وقد عد الستة في الأصل، وبين الناس اختلاف في ذكرهم، فقال لهم: من أنتم؛ قالوا نفر من الخزرج، فقال: أمن موالي يهود: أي من حلفاء يهود المدينة قريظة والنضير، لأنهم تحالفوا معهم على التناصر والتعاضد على من سواهم، وأن يأمن بعضهم من بعض، وهذا كان في أول أمرهم قبل أن تقوى شوكتهم على يهود قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ «وجدهم يحلقون رؤوسهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام، أي ورأوا امارات الصدق عليه صلى الله عليه وسلم لائحة، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله أنه للنبي الذي يوعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، لأن يهود كانوا إذا وقع بينهم وبينهم شيء من الشر قالوا لهم: سيبعث نبي قد أظل: أي قرب زمانه نتبعه، نقتلكم معه قتلة عاد وإرم: أي كما تقدم في أخبار الأحبار، والمراد نستأصلكم بالقتل، فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا له: إنا تركنا قومنا يعنون الأوس والخزرج بينهم من العداوة والشر ما بينهم، أي فإن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت بينهما الحروب، فمكثوا على المحاربة والمقاتلة أكثر من مائة سنة: أي مائة وعشرين كما في الكشاف، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. أقول: وفي رواية «قالوا يا رسول الله إنما كانت بعاث» أي بضم الموحدة ثم عين مهملة مخففة وفي آخره ثاء مثلثة، وقيل بفتح الموحدة وبدل المهملة معجمة، قيل وذكر المعجمة تصحيف. فعن ابن دريد: صحف الخليل بن أحمد يوم بغاث بالغين المعجمة، وإنما هو بالمهملة. وفي القاموس بالمهملة والمعجمة «عام أول يوم من أيامنا اقتتلنا به ونحن كذلك، لا يكون لنا عليك اجتماع حتى نرجع إلى غابرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك» وبعاث مكان قريب من المدينة على ليلتين منها عند بني قريظة، ويقال إنه حصن للأوس كان به القتال قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بخمس سنين بين الأوس والخزرج. وسيد الأوس ورئيسهم حينئذ حضير والد أسيد، وبه قتل مع من قتل من قومه، وكان النصر فيهم أولا للخزرج ثم صار للأوس.

وسبب القتل أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف، فقتل رجل من الأوس أي وهو سويد بن الصامت رجلا حليفا للخزرج: أي وهو ذياد والد المحذر بن ذياد، وذياد بالذال المعجمة، مكسورة ومفتوحة وتخفيف المثناة تحت، والمحذر بالذال المعجمة مشددة مفتوحة، فأرادوا أن يقتلوا سويدا فيه، فأبى عليه الأوس، وذلك لأن سويدا هذا كان تسميه قومه الكامل لشرفه، ونسبه وشعره وجلده، كان ابن خالة عبد المطلب لأن أمه أخت سلمى أم عبد المطلب، وكان قدم مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله حين سمع به لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، فدعا سويدا إلى الله عز وجل إلى الإسلام، فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها عليّ فعرضها عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله عليّ هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج» . وفي كلام بعضهم أنه آمن بالله ورسوله وسافر حتى دخل المدينة إلى قومه، فشعروا بإيمانه، فقتلته الخزرج بغتة وقيل القاتل له المحذر ولد ذياد الذي قتله سويد، لأن سويدا كان قد شرب الخمر وجلس يبول وهو ممتلىء سكرا، فضربه إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المحذر بن ذياد فقال: هل لك في الغنيمة الباردة؟ قال: ما هي، قال: سويد أعزل لا سلاح معه فخرج المحذر بالسيف مصلتا فلما أبصر سويدا قال له: قد أمكن الله منك، قال: ما تريد مني؟ قال: قتلك فقتله، فكان ذلك سبب الحرب بين الأوس والخزرج ببعاث، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد والمحذر بن ذياد وشهدا بدرا، فجعل الحارث بن سويد يطلب محذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه، حتى كان وقعة أحد قدر عليه فقتله غيلة كما سيأتي. وممن قتل في هذه الحرب التي يقال لها بعاث شخص، يقال له إياس بن معاذ قدم مكة هو وشخص يقال له أبو الحيسر أنس بن رافع، مع جماعة من قومهم يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم وقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له، قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني للعباد، وأدعوهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان صغيرا: أي قوم والله خير مما جئنا إليه، فأخذ أبو الحيسر حفنة من تراب فضرب بها وجه إياس وانتهره، وقال له: دعنا منك لقد جئنا لغير هذا، فسكت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فلما دنا

موت إياس صار يحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره حتى مات» والله أعلم. ثم انصرف أولئك الرهط من الخزرج راجعين إلى بلادهم. قال وفي رواية «أنهم لما آمنوا به صلى الله عليه وسلم وصدقوه قالوا له: إنا نشير عليك أن تمكث على رسلك: أي على حالك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لعل الله يصلح ذات بينهم ونواعدك الموسم من العام المقبل؛ فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم» . انتهى أي فلم يقع لهؤلاء الستة أو الثمانية مبايعة، ويسمى هذا ابتداء الإسلام للأنصار، وربما سماه بعضهم العقبة الأولى، فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا: أي عشرة من الخزرج واثنان من الأوس. وقيل: كانوا أحد عشر رجلا منهم خمسة من الستة أو الثمانية الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم عند العقبة أولا، فاجتمع بهم صلى الله عليه وسلم عند العقبة أيضا، فبايعهم: أي عاهدهم صلى الله عليه وسلم، أي وسميت المعاهدة مبايعة تشبيها بالمعاوضة المالية، وتلا عليهم آية النساء: أي الآية التي نزلت بعد ذلك في شأن النساء يوم الفتح لما فرغ من مبايعة الرجال وأراد مبايعة النساء. فعن عبادة بن الصامت «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي كبيعة النساء أي كمبايعته للنساء التي كانت يوم فتح مكة، وهي على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا» أي لأن قتل الأولاد كان سائغا فيهم، وهو وأد البنات قيل والبنين خوف الإملاق. وفي النهر: كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم، وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهن: وهو دفنهن أحياء؛ فبعضهم يئد خوف العيلة والافتقار، وبعضهم خوف السبي، قال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ [الممتحنة: الآية 12] أي الكذب الذي يبهت صاحبه سامعه يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ [الممتحنة: الآية 12] أي في الحال والاستقبال، قيل وغير ذلك، ولا نعصيه في معروف أي ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا. قال الحافظ ابن حجر: المبايعة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما نص بيعة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره عن أهل المغازي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار: أبايعكم على أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه» ثم ذكر جملة من الأحاديث، وقال: هذه أدلة صريحة في أن هذه البيعة بعد نزول الآية بعد فتح مكة. أقول: ليس في كلام عبادة أن هذه البيعة بيعة العقبة، إذ لم يقل بايعنا رسول لله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة وإن كان السياق يقتضيه، وحينئذ فلا يحسن أن يكون كلام عبادة شاهدا لمن قال، وتلا عليهم آية النساء، فلا يحسن التفريع المتقدم، بل هو

دليل على أن هذه المبايعة متأخرة عن يوم الفتح كما قال الحافظ، والله أعلم. زاد بعضهم «والسمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم، ثم قال: ومن وفى» بالتخفيف والتشديد: أي ثبت على العهد «فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو» أي العقاب «طهرة له، أو قال كفارة له» . واستشكل بأن أبا هريرة روى أنه صلى الله عليه وسلم قال «لا أدري، الحدود كفارة لأهلها أو لا» وإسلام أبي هريرة تأخر عن بيعة العقبة بسبع سنين كما سيأتي، فإنه كان عام خيبر سنة سبع. ويجاب بأن هذه البيعة التي ذكرها عبادة ليست بيعة العقبة، بل بيعة غيرها وقعت بعد فتح مكة كما علمت. وحينئذ يكون ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه كان قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم ذلك ثم علمه: أي أن الحدود كفارة، قال صلى الله عليه وسلم «ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه» أي وكون الحدود كفارة وطهرة مخصوص بغير الشرك، فقتل المرتد لا يكون كفارة وطهرة له، لأن الله لا يغفر أن يشرك به. وفي رواية «فإن رضيتم فلكم الجنة» وإن غشيتم، من ذلك شيئا فأصبتم بحد في الدنيا فهو كفارة لكم في الدنيا، وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله، إن شاء عذب، وإن شاء غفر» أي وفي هذا ردّ على من قال بوجوب التعذيب لمن مات بلا توبة، وعلى من قال يكفر مرتكب الكبيرة. «فلما انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ابن أم مكتوم» واسمها عاتكة، واسمه عمرو، وقيل عبد الله، وهو ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. قال الشعبي: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة، ما فيها غزوة إلا واستخلف ابن أم مكتوم على المدينة، وكان يصلي بهم» وليس له رواية، ومصعب بن عمير رضي الله تعالى عنهما يعلمان من أسلم منهم القرآن ويعلمانهم: أي من أراد أن يسلم الإسلام، ويفقهانهم في الدين، ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام، وهذا ما في أكثر الروايات؛ وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم بعث بهما معا، ويدل له ما روي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه «أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن» أي وفي رواية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم مصعبا حين كتبوا إليه يبعث إليهم» .

وفي رواية «ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ ابن عفراء ورافع بن مالك رضي الله تعالى عنهما أن أبعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا ويدعو الناس بكتاب الله» وفي رواية «كتبوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وكان يقال له المقرىء، وهو أول من تسمى بهذا الاسم، وهذا يدل على أن مصعبا لم يكن معهم. أقول: وقد يقال لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون كتبوا وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك عند خروجهم من مكة، وقبل أن ينصرفوا منها راجعين إلى المدينة، والاقتصار على مصعب لا ينافي ما تقدم من ذكر ابن أم مكتوم معه. ثم رأيت ما يبعد الجمع الأول، وهو عن ابن إسحاق «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعثه يعني مصعب بن عمير بعدهم» وإنما كتبوا إليه «إن الإسلام قد فشا فينا، فابعث إلينا رجلا من أصحابك يقرئنا القرآن ويفقهنا في الإسلام ويعلمنا بسنته وشرائعه ويؤمنا في صلاتنا، فبعث مصعب بن عمير» وما يبعد الجمع الثاني، وهو ما نقل عن الواقدي «أن ابن أم مكتوم قدم المدينة بعد بدر بيسير» . وفي كلام ابن قتيبة: وقدم ابن أم مكتوم المدينة مهاجرا بعد بدر بسنتين. وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون كل من مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رجعا إلى مكة بعد مجيئهما مع القوم، وأن مكاتبتهم بأن الإسلام فشا فينا إلى آخره كانت وهم بالمدينة، فجاء إليهم مصعب وتخلف ابن أم مكتوم، فليتأمل ذلك، والله تعالى أعلم. وهذه المبايعة يقال لها العقبة الأولى لوجود تلك المبايعة عندها. ولما قدم مصعب المدينة نزل على أبي امامة أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه دون بقية رفقته، وكان سالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنه يؤمّ المهاجرين بقباء قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مصعب يؤمّ القوم: أي الأوس والخزرج، لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. وجمع بهم أول جمعة جمعت في الإسلام قبل قدومه صلى الله عليه وسلم، المدينة وقبل نزول سورة الجمعة الآمرة بها فإنها مدنية. وقال الشيخ أبو حامد: فرضت الجمعة بمكة ولم يتمكن من فعلها. قال الحافظ ابن حجر: وهو غريب، أي وعلى صحته فهو ما تقدم حكمه على تلاوته. وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة وكانوا أربعين رجلا: أي فعن كعب بن مالك قال: أول من جمع بنا في المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم في نقيع الخضمان، والنقيع بالنون قيل أو بالباء الموحدة، لكن قال الخطابي: إنه خطأ، والخضمان: جمع خضمة: وهي الماشية التي تخضم أي تأكل بفمها كله مما في ذلك المحل من الكلأ: وهو اسم لقرية من قرى المدينة، قال: وكنا أربعين رجلا: أي ولا مخالفة، لأن مصعب بن عمير كان عند أبي أمامة

أسعد بن زرارة كما علمت فكان هو المعاون على الجمع، وكان الخطيب والمصلي مصعب بن عمير، فنسب الجمع لكل منهما، أي ويكون ما في الرواية الآتية من أن أسعد بن زرارة هو الذي صلى بهم على التجوز: أي جمعهم على الصلاة، ويؤيده ما تقدم من أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. وأيضا المأمور بالتجميع مصعب بن عمير كما سيأتي. قال السهيلي: وتسميتهم: أي الأنصار إياها بهذا الاسم: أي تسميتهم اليوم بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه هداية من الله تعالى لهم، وإلا فكانت تسمى في الجاهلية العروبة: أي يسمى ذلك اليوم بيوم العروبة: أي الرحمة. وقال عليه الصلاة والسلام في حق ذلك اليوم «إنه اليوم الذي فرض عليهم» أي على اليهود والنصارى أي طلب منهم تعظيمه والتفرغ للعبادة فيه كما فرض علينا «أضلته اليهود والنصارى، وهداكم الله تعالى له» أي إن كلا من اليهود والنصارى أمر بذلك اليوم يعظمون فيه الحق سبحانه وتعالى ويتفرغون فيه لعبادته، واختار اليهود من قبل أنفسهم بدله السبت لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذي استراح فيه الحق سبحانه وتعالى من خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات، أي بناء على أن أول الأسبوع الأحد، وأنه مبدأ الخلق. قال بعضهم: وهو الراجح. وفي كلام بعضهم: أول الأسبوع الأحد لغة، وأوله السبت عرفا: أي في عرف الفقهاء في الإيمان ونحوها. ويؤيد الأول أن السبت مأخوذ من السبات وهي الراحة، قال تعالى وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) [النّبإ: الآية 9] أي راحة ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة. واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد، أي بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة. وحينئذ يكون معنى قوله أضلوه: تركوه مع علمهم به، ويؤيد ذلك ما جاء «إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم، وهدى الله تعالى المسلمين ليوم الجمعة» أي وهداية المسلمين له تدل على أنهم لم يعلموا عينه، وإنما اجتهدوا فيه فصادفوه. وفي «سفر السعادة» : كان من عوائده الكريمة صلى الله عليه وسلم أن يعظم يوم الجمعة غاية التعظيم، ويخصه بأنواع التشريف والتكريم. وجاء «إن أهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما تتباشر به أهل الدنيا في الدنيا واسمه عندهم يوم المزيد» كما تقدم «لأن الله تعالى يتجلى عليهم في ذلك اليوم، ويعطيهم كل ما يتمنونه ويقول لهم: لكم ما تمنيتم ولدينا مزيد» فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير.

وقد جاء في المرفوع «يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله تعالى، فهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان» . والذي في البخاري «ثم هذا» أي يوم الجمعة «يومهم الذي فرض عليهم: أي على اليهود والنصارى، فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» وقوله فاختلفوا فيه يدل على أنهم لم يعلموا عينه، ويوافقه ما نقل عن بعض أهل العلم أن اليهود أمروا بيوم من الأسبوع يعظمون الله تعالى فيه ويتفرغون لعبادته، فاختاروا من قبل أنفسهم السبت فأكرموه في شرعهم، وكذلك النصارى أمروا على لسان عيسى بيوم من الأسبوع، فاختاروا من قبل أنفسهم الأحد، فالتزموه شرعا لهم، وهو يخالف ما سبق فليتأمل. قال بعضهم: والراجح أن أول الأسبوع السبت، لأنه أول يوم ابتدىء فيه بإيجاد المخلوقات، فقد جاء في الصحيح «إن الله خلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء» كذا في مسلم. وعليه يشكل تسمية اليوم الذي يليه الأحد. وأجيب بأنه من تسمية اليهود، وتبعهم غيرهم. وقد ذكر السهيلي أن تسمية هذه الأيام طارئة؛ ولو كان الله سبحانه وتعالى سماها في القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هي تسمية صادقة، لكن لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت، وإنهما ليسا مشتقين من العدد هذا كلامه. وردّ بأنه جاء «إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد، ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء، ثم خلق خامسا فسماه الخميس» . وأجاب ابن حجر الهيتمي بأن هذه: أي التسمية المذكورة لم تثبت، وأن العرب تسمى خامس الورد أربعاء، هذا كلامه، فيكون أول الأسبوع السبت. ثم رأيت السهيلي قال: لم يسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا تسميتها، ولعل قومه أن يكونوا أخذوا معاني هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعا لهم، هذا كلامه فليتأمل. وفي السبعيات للهمداني: أكرم الله موسى عليه الصلاة والسلام بالسبت، وعيسى بالأحد، وداود بالاثنين، وسليمان بالثلاثاء، ويعقوب بالأربعاء، وآدم بالخميس، ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالجمعة، وهذا يدل على أن اليهود لم يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم فليتأمل الجمع.

وقد «سئل صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت؟ قال: يوم مكر وخديعة» أي وقع فيه المكر والخديعة، لأي لأنه اليوم الذي اجتمعت فيه قريش في دار الندوة، للاستشارة في أمره صلى الله عليه وسلم «وسئل عن يوم الأحد؟ فقال: يوم غرس وعمارة» لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها. وفي رواية لأن الجنة بنيت فيه وغرست «وسئل عن يوم الاثنين، فقال: يوم سفر وتجارة» لأن فيه سافر شعيب فربح في تجارته. «وسئل عن يوم الثلاثاء؟ فقال: يوم دم» لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه. وذكر الهمداني في السبعيات أيضا أنه قتل فيه سبعة: جرجيس، وزكريا، ويحيى ولده عليهم الصلاة والسلام، وسحرة فرعون، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وبقرة بني إسرائيل، وهابيل بن آدم، وبين قصة كل واحد. أي ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي وقال «فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم، وفيه نزل إبليس إلى الأرض، وفيه خلقت جهنم، وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بني آدم، وفيه ابتلي أيوب» وفي بعض الروايات أن اليوم الذي ابتلى الله فيه أيوب يوم الأربعاء. وسئل «عن يوم الأربعاء؟ قال: يوم نحس» لأن فيه أغرق فرعون وقومه، وأهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح، أي ومن ثم كان يسمى في الجاهلية دبار، والدبار الملهى لكن الذي في الحديث الموقوف على ابن عباس الذي لا يقال من قبل الرأي «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر» وجاء «يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء» . وذكر الزمخشري أن بعضهم قال لأخيه اخرج معي في حاجة فقال: هذا الأربعاء، قال: فيه ولد يونس، قال لا جرم قد بانت له بركته: أي حيث ابتلعه الحوت؛ قال: وفيه ولد يوسف، قال: فما أحسن ما فعل به إخوته! طال حبسه وغربته، قال: وفيه نصر المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، قال: أجل، ولكن بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. وورد في بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص. وعن ابن الحاج صاحب المدخل أنه همّ بقص أظفاره يوم الأربعاء، فتذكر ذلك فترك، ثم رأى أن قص الأظفار سنة حاضرة ولم يصح عنده النهي فقصها فلحقه البرص فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له ألم تسمع نهي عن ذلك؟ فقال: يا رسول الله لم يصح ذلك عندي، فقال: يكفيك أن تسمع، ثم مسح صلى الله عليه وسلم بيده على بدنه فزال البرص جميعا. قال ابن الحاج، فجددت مع الله توبة أني لا أخالف ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا.

وجاء في حديث أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا، وخرجه الحاكم من طريقين آخرين «لا يبدو جذام ولا مرض إلا يوم الأربعاء» وكره بعضهم عيادة المريض يوم الأربعاء. وفي منهاج الحليمي وشعب الإيمان للبيهقي «إن الدعاء مستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر» لأنه صلى الله عليه وسلم أستجيب له الدعاء على الأحزاب في ذلك اليوم في ذلك الوقت. وكان جابر يتحرى ذلك بالدعاء في مهماته، وذكر أنه ما بدىء بشيء يوم الأربعاء إلا وتمّ، فينبغي البداءة بنحو التدريس فيه. «وسئل عن يوم الخميس؟ فقال: يوم قضاء الحوائج» لأن فيه دخل إبراهيم الخليل على ملك مصر فقضى حاجته وأعطاه هاجر، ومن ثم زاد في رواية «والدخول على السلطان» . «وسئل عن يوم الجمعة؟ فقال: يوم نكاح نكح فيه آدم حواء، ويوسف زليخا، وموسى بنت شعيب، وسليمان بلقيس» أي ونكح فيه صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم قبل الهجرة» أي قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم «في إقامة الجمعة» أي فلم يفعلوها باجتهاد، بل بإذنه صلى الله عليه وسلم. وكتب إلى مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه «أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أي اليوم الذي يليه يوم السبت، فأجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين، فجمع مصعب بن عمير عند الزوال: أي صلى الجمعة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي استمر على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم عين لهم ذلك اليوم، وهو خلاف قوله السابق «فهداكم الله له» الظاهر في أن هدايتهم له باجتهاد منهم. ويدل له ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد صحيح «أن الأنصار قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلمّ فلنجعل يوما نجتمع فيه، فنذكر الله ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة» أي لأنه اليوم الذي وقع فيه خلق آدم الذي هو مبدأ هذا الجنس، وجعل فيه فناء الخلق وانقضاءهم إذ فيه تقوم الساعة، ففيه المبدأ والمعاد إذ هو المرويّ عن ابن عباس، يقتضي أن الأنصار اختاروه باجتهاد منهم. إلا أن يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون هذا العزم على ذلك حصل منهم أوّلا ثم أرسلوا له صلى الله عليه وسلم يستأذنونه في ذلك فأذن لهم فيه، فقد جاء الوحي موافقة لما اختاروه. وفيه أنه لو كان كذلك لقال صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير افعلوا ذلك ولم يقل له انظروا إلى اليوم إلى آخره. إلا أن يقال: يجوز أنهم لما استأذنوه صلى الله عليه وسلم في الاجتماع لم يعينوا له اليوم فبينه صلى الله عليه وسلم لهم. وتقدم عن الشيخ أبي حامد أن الجمعة أمر بها صلى الله عليه وسلم

وهو بمكة، وتركها لعدم التمكن من فعلها، وتقدم عن الحافظ ابن حجر أنه غريب، ويؤيده أنه لو كان أمر بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها لأمر بها مصعب بن عمير عند إرساله للمدينة ولم يأمره بها إلا بعد ذلك. إلا أن يقال: إنما لم يأمره بها حينئذ، لأنه يجوز أن يكون إنما أمر بها بعد ذهاب مصعب إلى المدينة، أو أنه إنما لم يأمره بذلك لأن لإقامتها شروطا منها العدد وهو عند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أربعون بشروط ولم يكن ذلك موجودا عند إرساله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم لما علم صلى الله عليه وسلم وجود العدد المذكور أرسل له يأمره بذلك في قوله: أما بعد فانظر اليوم الخ. ثم لا يخفى أن ظاهر سياق الروايات يدل على أن الذي هداهم الله إليه إنما هو إيقاع العبادة في هذا اليوم لا تسميته بيوم الجمعة كما تقدم عن السهيلي، على أن تسميتهم له بذلك لم أقف عليها في رواية. على أن السهيلي ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سماها يوم الجمعة لما أرسل لمصعب بن عمير أن يفعلها كما تقدم في الإسراء، وذكر أيضا أن كعب بن لؤيّ أول من سمى يوم العروبة الجمعة. وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون الأنصار ومن معهم من المهاجرين لم يبلغهم ما ذكر عن كعب بن لؤيّ إن ثبت أنهم سموها بهذا الاسم اجتهادا منهم. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة، فقال: لأن فيها جمعت طينة أبيك آدم» وقدمنا أنه لا مخالفة بين ما هنا وما تقدم في الإسراء والله أعلم. وأسلم سعد بن معاذ وابن عمه أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنهما على يد مصعب بن عمير، وكان إسلام أسيد قبل سعد في يومه. فعن ابن إسحاق أن أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه خرج بمصعب بن عمير إلى حائط: أي بستان من حوائط بني ظفر، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما: أي بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبالك، انطلق بنا إلى هذين الرجلين؛ يعني أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير اللذين أتيا دارينا تثنية دار، وهي المحلة، والمراد قبيلتنا وعشيرتنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما: أي وفي لفظ قال له: ائت أسعد بن زرارة فازجره عنا فليكف عنا ما نكره، فإنه بلغني أنه قد جاء بهذا الرجل الغريب يسفه سفهاءنا وضعفاءنا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث علمت لكفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما، فأخذ

أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه، ثم قال مصعب: إن يجلس هذا كلمته. قال: فوقف عليهما متشمتا، قال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، وفي لفظ قال: يا أسعد ما لنا ولك؟ تأتينا بهذا الرجل الغريب تسفه به سفهاءنا وضعفاءنا. وفي رواية: علام أتيتنا في دورنا بهذا الرجل الوحيد الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه. فقال له مصعب: أو تجلس بفتح الواو استفهاما فتسمع بالنصب في جواب الاستفهام، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره: أي منعنا عنك ما تكره، قال أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليها، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال: ما أحسن هذا وأجمله بالنصب على التعجب، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل وتتطهر وتغسل ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق ثم تصلي، فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد بشهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين: أي وهما صلاة التوبة. فقد روى أصحاب السنن، وقال الترمذي حديث حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال «ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له» ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، وهو سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك: أي ينقضوا عهدك، فقام سعد مغضبا مبادرا فأخذ الحربة من يده وقال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، ولما أقبل سعد قال أسعد لمصعب: لقد جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني هذا، هذا يغشانا في دارنا بما نكره، فقال له مصعب: أو تقعد تسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وعرض عليه القرآن، فقال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ فقال: تغتسل وتتطهر وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تركع ركعتين،

فقام سعد فاغتسل وطهر ثوبه ثم شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه: أي مع ذلك النادي أسيد بن حضير. فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا، وأفضلنا رأيا، وأيمننا وأبركنا نقيبة أي نفسا وأمرا؛ قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فو الله ما أمسي في دار: أي قبيلة بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة فأسلموا في يوم واحد كلهم، وكان ذلك بعد العقبة الأولى وقبل العقبة الثانية، إلا ما كان من الأصيرم وهو عمرو بن ثابت من بني عبد الأشهل فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد، ولم يسجد لله سجدة، وأخبره صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة. أي وفي كلام ابن الجوزي: أول دار أي قبيلة أسلمت من دور الأنصار دار بني عبد الأشهل، ثم رجع مصعب إلى دار أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور من الأنصار إلا فيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من سكان عوالي المدينة: أي قراها من جهة نجد، قال: وفي كلام بعضهم إلا جماعة من الأوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس وهو صيفي بن الأسلت، وكان شاعرا لهم يسمعون منه ويطيعونه، لأنه كان قوّالا بالحق معظما؛ وقد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، واغتسل من الجنابة، ودخل بيتا فاتخذه مسجدا وقال: أعبد إله إبراهيم لا يدخل فيه حائض ولا جنب، فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير اهـ أي سبب تأخر إسلامه ما ذكره بعضهم أنه لما أراد الإسلام عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة لقيه أبي ابن سلول وكلمه بما أغضبه ونفره عن الإسلام وقال أبو قيس: لا أتبعه إلا آخر الناس، فلما احتضر أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قل: لا إله إلا الله أشفع لك بها، فقالها وهمّ ابنه أن ينكح امرأة أبيه، أي على ما هو عادة الجاهلية، أي وكان ذلك في المدينة حتى في أول الإسلام أنّ أكبر أولاد الرجل يخلفه على زوجته بعد موته فنزل التحريم: أي قوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء: الآية 22] وتقدم الكلام على سبب نزول هذه الآية مستوفى. ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة مع من خرج من المسلمين من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، أي وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمن أسلم، فسرّ بذلك. وعن كعب بن مالك قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين ومعنا

البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، والبراء بالمد لغة: آخر ليلة من الشهر، سمي بذلك لأنه ولد فيها. ومعرور: معناه لغة: مقصود، فلما خرجنا من المدينة قال البراء لنا: إني قد رأيت رأيا ما أدري أتوافقوني عليه أم لا، قال: قلنا وما ذاك؟ قال: رأيت أن لا أدع هذه البنية أي بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد المثناة تحت المفتوحة ثم تاء التأنيث على وزن فعيلة يعني الكعبة مني بظهر، وأن أصلي إليها، قال: قلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام: يعنون بيت المقدس: أي صخرته، وما نريد أن نخالفه قال: فقال: إني أصلي إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل، قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام يعني بيت المقدس: أي واستدبرنا الكعبة، وصلى إلى الكعبة أي مستدبرا للشام حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ذلك وأبى إلا الإقامة على ذلك، فلما قدمنا مكة قال لي: يا بن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه، لأنا لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعرفانه؟ قلنا لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا نعم، وكنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد، فإذا هو الرجل الجالس مع العباس، فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فسلمنا حين جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، قال كعب: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر؟ قال نعم، فقال له البراء بن معرور: يا رسول الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله بالإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر: يعني الكعبة، فصليت إليها، وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها، فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بيت المقدس: أي ولم يأمره بإعادة ما صلاه مع أنه كان مسلما؛ وبين له أنه كان الواجب عليه استقبال بيت المقدس، لأنه كان متأوّلا فليتأمل. وفي هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة قبل الهجرة وبعدها يصلون إلى بيت المقدس قبل أن تحوّل القبلة، وقد تقدم الوعد بذلك. قال كعب: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة: أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم، أي الذي يقال له مسجد البيعة كما تقدم، وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا، وذلك في ليلة اليوم الذي هو يوم النفر الأول، قال: فلما فرغنا من الحج وكانت

الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، وكان من جملة المشركين أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام بفتح الحاء والراء المهملتين، سيد من ساداتنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة، فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بعد هدأة، يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا مستخفين، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بالتصغير، وهي أم عمارة من بني النجار، أي وكانت تشهد الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وزوجها وابناها حبيب وعبد الله رضي الله تعالى عنهم. وحبيب هذا اكتنفه مسيلمة الكذاب وصار يعذبه يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم، ثم يقول: وتشهد، أني رسول الله، فيقول لا، فيقطع عضوا من أعضائه وهكذا حتى فنيت أعضاؤه ومات، وسيأتي ما وقع لها رضي الله تعالى عنها في حرب مسيلمة. وأم منيع: أي وهذه الرواية لا تخالف رواية الحاكم خمسة وسبعون نفسا، نعم تخالف قول ابن مسعود وهم سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان: أي منهم أحد عشر رجلا من الأوس، قال: فلا زلنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا. أي وفي رواية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقهم وانتظرهم» . أقول: وقد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون سبقهم وانتظرهم، فلما لم يجيؤوا ذهب، ثم جاءهم بعد مجيئهم- والله أعلم- ومعه عمه العباس بن عبد المطلب: أي ليس معه غيره، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق به. أقول: وهذا لا يخالف ما جاء أنه كان معه أيضا أبو بكر وعليّ لأن العباس أوقف عليا على فم الشعب عينا له، وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا، فلم يكن معه عندهم إلا العباس والله أعلم، فلما جلسوا كان العباس أول من تكلم، فقال: يا معشر الخزرج أي قال ذلك، لأن العرب كانت تطلق الخزرج على ما يشمل الأوس، وكانت تغلب الخزرج على الأوس فيقولون الخزرجين إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، فهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له، بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن تدعونه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده، فقال البراء بن معرور: إنا والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه،

ولكنا نريد الوفاء والصدق، وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي والبراء بن معرور هو أول من أوصى بثلث ماله. وفي رواية أن العباس قال: قد أبى محمد الناس كلهم غيركم، فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فأروا رأيكم وائتمروا بينكم، ولا تفرقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع، فإن أحسن الحديث أصدقه. أقول: قول العباس قد أبى محمد الناس كلهم غيركم، ربما يفيد أن الناس غير الأنصار وافقوه على مناصرته فأباهم، ولا يساعد عليه ما تقدم، ولولا التأكيد بلفظ كلهم لأمكن أن يراد بالناس قبيلة شيبان بن ثعلبة، فإنهم كما تقدم قالوا له: ننصرك بما يلي مياه العرب دون ما يلي مياه كسرى فأبى ذلك. ويحتمل أن المراد بالناس الذين أباهم أهله وعشيرته والله أعلم. وعندما تكلم العباس بما ذكر، قالوا له: قد سمعنا مقالتك، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. وفي رواية: خذ لنفسك ما شئت، واشترط لربك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم، فقال ابن رواحة: فإذا فعلنا فما لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لكم الجنة، قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. وفي رواية: «فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» أي وفي رواية «أنهم قالوا له: يا رسول الله نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فأخذ البراء بن معرور بيده صلى الله عليه وسلم، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا أي نساءنا وأنفسنا» لأن العرب تكنى بالإزار عن المرأة وعن النفس «فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة» أي السلاح «ورثناها كابرا عن كابر، وبينا البراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو الهيثم بن التيهان» بتشديد المثناة تحت وتخفيفها «نقبله على مصيبة المال وقتل الأشراف، فقال العباس: اخفوا جرسكم: أي صوتكم، فإن علينا عيونا، ثم قال أبو الهيثم: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال؛ يعني اليهود حبالا أي عهودا، وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، بفتح الدال وسكونها: إهدار دم القتيل: أي دمي دمكم: أي تطلبون بدمي وأطلب بدمكم،

فدمي ودمكم واحد» وفي لفظ بدل الدم «اللدم» وهو بالتحريك: الحرم من القرابات: أي حرمي حرمكم. تقول العرب: اللدم اللدم، إذا أرادت تأكيد المحالفة هدمي وهدمكم واحد، أي وإذا أهدرتم الدم أهدرته «وذمتي ذمتكم، ورحلتي مع رحلتكم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» أي وعند ذلك قال لهم العباس رضي الله تعالى عنه «عليكم بما ذكرتم ذمة الله مع ذمتكم وعهد الله مع عهدكم في هذا الشهر الحرام والبلد الحرام، يد الله فوق أيديكم لتجدّن في نصرته ولتشدن من أزره، قالوا جميعا نعم، قال العباس: اللهم إنك سامع شاهد، وإن ابن أخي قد استرعاهم ذمته واستحفظهم نفسه، اللهم كن لابن أخي عليهم شهيدا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس» أي وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، فلا يحدث أحد في نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لي جبريل» أي لأنه عليه الصلاة والسلام حضر البيعة «فلما تخيرهم أي وهم سعد بن عبادة، وأسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وسعد بن أبي خيثمة، والمنذر بن عمرو، وعبد الله بن رواحة، والبراء بن معرور، وأبو الهيثم بن التيهان، وأسيد بن حضير، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، ورافع بن مالك، كل واحد على قبيلة» رضي الله تعالى عنهم أجمعين. «وقال صلى الله عليه وسلم لأولئك النقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي يعني المهاجرين» . وقيل إن الذي تولى الكلام من الأنصار وشد العقدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة: أي وهو من أصغرهم «فإنه أخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: رويدا يا أهل يثرب إنا لن نضرب، إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن إخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب، وقتل خياركم، وإن تعطكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة: أي جميعا، فخذوه وأجركم على الله تعالى، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو عذر لكم عند الله عز وجل، فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك، فو الله لا نذر: أي نترك هذه البيعة ولا نستقيلها: أي لا نطلب الإقالة منها. وقيل إن الذي تكلم مع الأنصار وشدّ العقدة العباس بن عبادة بن نضلة، قال: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس: أي على من حاربه منهم، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في البداءة بالمحاربة إلا بعد أن هاجر إلى المدينة بمدة كما سيأتي، وكان قبل ذلك مأمورا بالدعاء إلى الله تعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، ثم ذكر ما

تقدم عن أسعد بن زرارة أي ثم توافقوا على ذلك وقالوا: يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا؟ قال: «رضوان الله والجنة» . قالوا: رضينا، ابسط يدك فبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه، أي وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، وقيل أسعد بن زرارة، وقيل أبو الهيثم بن التيهان، ثم بايعه السبعون كلهم، أي وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة، «لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء إنما كان يأخذ عليهن، فإذا أحرزن قال: اذهبن فقد بايعتكن» كما سيأتي، فكانت هذه البيعة على حرب الأسود والأحمر أي العرب والعجم، فهؤلاء الثلاثة لم يتقدم عليهم أحد غيرهم، وحينئذ تكون الأولية فيهم حقيقية واضافية. أي ويقال: إن أبا الهيثم قال: أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأن عبد الله بن رواحة قال: أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من الحواريين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وقال أسعد بن زرارة: أبايع الله عز وجل يا رسول الله، فأبايعك على أن أتمّ عهدي بوفائي وأصدق قولي بفعلي في نصرك، وقال النعمان بن حارثة: أبايع الله عز وجل يا رسول الله، وأبايعك على الإقدام في أمر الله عز وجل، لا أرأف فيه القريب ولا البعيد أي لا أعامل فيه بالرأفة والرحمة. وقال عبادة بن الصامت: أبايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم، وقال سعد بن الربيع: أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن لا أعصي لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا، فلما انتهت البيعة، وهذه البيعة يقال لها العقبة الثانية، ولما وقعت صرخ الشيطان من رأس العقبة بأشد صوت وأبعده: يا أهل الجباجب: أي بجيمين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل جيم باء موحدة: وهي منازل منى. وفي الهدى: يا أهل الأخاشب هل لكم في مذمم والصباة معه، يعني بمذمم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن قريشا كانت تقول بدل محمد صلى الله عليه وسلم مذمم، ويعني بالصباة أصحابه الذين بايعوه، لأنهم كانوا يقولون لمن أسلم صابىء، لأن الصابىء من خرج من دين إلى دين، وقد جاء «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يسبون مذمما وأنا محمد، فإنهم قد أجمعوا» أي عزموا على حربكم «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إزب العقبة أسمع، أي عدو الله، أما والله لا أفزعن» وإزب بكسر الهمزة وإسكان الزاي ثم بالباء الموحدة الخفيفة، وقيل بفتح الهمزة وفتح الزاي وتشديد الموحدة: أي شيطان سمي بهذا الاسم المركب من المضاف والمضاف إليه عامرها. والإزب في الأصل: القصير، ومن ثم رأى عبد الله بن الزبير رجلا طوله شبران على برذعة رحله، فقال له: ما أنت؟ قال إزب، قال. وما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود سوطة فهرب.

«وعند ذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضّوا» وفي لفظ «انفضوا إلى رحالكم» . أقول: وفي رواية «لما بايع الأنصار بالعقبة صاح الشيطان من رأس الجبل: يا معشر قريش هذه بنو الأوس والخزرج تحالف على قتالكم، ففزعوا: أي الأنصار عند ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يروعكم هذا الصوت، فإنما هو عدوّ الله إبليس وليس يسمعه أحد مما تخافون» . ولا مانع من اجتماع صراخ إزب العقبة وصراخ إبليس الذي هو أبو الجن. ويجوز أن يكون المراد بعدو الله إبليس إزب العقبة، لأنه من الأبالسة وإنه أتى باللفظين معا، وقد حضر البيعة جبريل كما تقدم. فعن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه «لما فرغوا من المبايعة قلت: يا نبي الله، لقد رأيت رجلا عليه ثياب بيض أنكرته قائما على يمينك قال: وقد رأيته؟ قلت: نعم، قال: ذاك جبريل» والله أعلم. ثم إن الحديث نما وسمع المشركون من قريش بذلك: أي وفي كتاب الشريعة أن الشيطان لما نادى بما ذكر شبه صوته بصوت منبه بن الحجاج، فنال عمرو بن العاص ما نال أبو جهل، قال عمرو: ذهبت أنا وهو إلى عتبة بن ربيعة فأخبره بصوت منبه بن الحجاج فلم يرعه ما راعنا، وقال: هل أتاكم فأخبركم بهذا منبه؟ قلنا لا، فقال: لعله إبليس الكذاب الحديث. وفيه طول وأمور مستغربة. ولا ينافي سماع عمرو وأبي جهل صوت إبليس قوله صلى الله عليه وسلم «ليس يسمعه أحد مما تخافون» لأن سماعهما لم يحصل منه خوف لهم «وعند فشوّ الخبر جاء أجلتهم وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار، فقالوا يا معشر الأوس والخزرج، وفي رواية: يا معشر الخزرج أي بالتغليب بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا، والله ما من حي أبغض إلينا أن نشب الحرب بيننا وبينه منكم، فصار مشركو الأوس والخزرج يحلفون لهم ما كان من هذا شيء وما علمناه: أي حتى أن أبيّ ابن سلول جعل يقول هذا باطل، وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا عليّ بمثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومي حتى يؤامروني» وصدقوا لأنهم لم يعلموه كما علم مما تقدم: أي ونفر الناس من منى وبحثت قريش عن خبر الأنصار فوجدوه حقا، فلما تحققوا الخبر اقتفوا آثارهم فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأما سعد فأمسك وعذب في الله، وأما المنذر فأفلت ثم أنقذ الله سعدا من أيدي المشركين، قال: نقل عنه أنه قال: لما ظفروا بي ربطوا يدي في عنقي، فلا زالوا يلطموني على وجهي ويجذبوني بجمتي: أي وكان ذا شعر كثير حتى أدخلوني مكة، فأومأ إليّ رجل أي وهو أبو البختري بن هشام، مات كافرا وقال: ويحك ما بينك وبين أحد من قريش، جوار ولا عهد، قال: بلى، قد كنت

أجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية: أي وهو أخو أبي سفيان، والأول أسلم بعد الحديبية، والثاني لا يعلم له إسلام، فقال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، ففعلت، فخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد، فقال لهما إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح يهتف باسمكما، فقالا: من هو؟ قال: يقول إنه سعد بن عبادة، فجاآ فخلصاني من أيديهم اهـ. وعن سعد: بينا أنا مع القوم أضرب إذ طلع عليّ رجل أبيض وضيء شعشاع: أي طويل زائد الحسن حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما دنا مني رفع يديه ولكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي والله ما عندهم بعد هذا خير، أي وهذا الرجل سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه؛ فإنه أسلم بعد ذلك. فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام، أي إظهارا كليا وتجاهروا، وإلا فقد تقدم أن الإسلام فشا فيهم قبل قدومهم لهذه البيعة، وكان عمرو بن الجموح وهو من سادات بني سلمة بكسر اللام وأشرافهم ولم يكن أسلم، وكان ممن أسلم ولده معاذ بن عمرو وكان لعمرو في داره صنم أي من خشب يقال له المناة لأن الدماء كانت تمنى: أي تصب عنده تقرّبا إليه، وكان يعظمه، فكان فتيان قومه ممن أسلم كمعاذ بن جبل وولده عمرو بن معاذ ومعاذ بن عمرو، يدلجون بالليل على ذلك الصنم فيطرحونه أي ولعله بعد إخراجه من داره في بعض الحفر التي فيها خرء الناس منكسا، فإذا أصبح عمرو قال: ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثم يعود يلتمسه؛ حتى إذا وجده غسله، فإذا أمسى عدوا عليه وفعلوا به مثل ذلك، إلى أن غسله وطيبه وحماه بسيف علقه في عنقه، ثم قال له: ما أعلم من يصنع بك، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك، فلما أمسى عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها خرء الناس، فلما أصبح عمرو غدا إليه فلم يجده، ثم تطلبه إلى أن وجده في تلك البئر، فلما رآه كذلك رجع إلى عقله، وكلمه من أسلم من قومه، فأسلم وحسن إسلامه، وأنشد أبياتا منها: والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن أي حبل. «وأمر صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، أي لأن قريشا لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم آوى: أي استند إلى قوم أهل حرب وتحمل ضيقوا على أصحابه؛ ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه من الشتم والأذى، وجعل البلاء يشتد عليهم، وصاروا ما بين مفتون في دينه، وبين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد شكوا

إليه صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة: أي فمكث أياما لا يأذن لهم، ثم قال لهم: أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي» والسراة بفتح السين: أعظم جبال بلاد العرب «ثم خرج إليهم مسرورا، فقال: قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فأذن لهم، وقال: من أراد أن يخرج فليخرج إليها فخرجوا إليها أرسالا» أي متتابعين «يخفون ذلك» أي وفي رواية «أريت في المنام أني هاجرت من مكة إلى أرض بها نخل؛ فذهب وهلي» أي وهمي «إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» . وفي الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أوحى إليّ: أي هؤلاء الثلاثة نزلت هي دار هجرتك المدينة، أو البحرين، أو قنسرين» قال الترمذي، هذا حديث غريب، وزاد الحاكم «فاختار المدينة» . أقول: فيه أن هذا السياق المتقدم يدل على أن استئذانهم في الهجرة عبارة عن خروجهم من مكة لا لخصوص المدينة، وأن عدم إذنه صلى الله عليه وسلم لهم في الهجرة لعدم تعيين المحل الذي يهاجرون إليه له صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك لا يناسب ما تقدم في حديث المعراج من قول جبريل له «صليت بطيبة وإليها المهاجرة» . وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أنسي قول جبريل المذكور حينئذ ثم تذكره بعد ذلك في قوله «قد أخبرت بدار هجرتكم» إلى آخره. وفيه أن هذا لا يحسن بعد مبايعته صلى الله عليه وسلم للأوس والخزرج على مناصرته ومحاربة عدوّه مع علمه بأن وطنه المدينة، وكونهم يبايعونه على مناصرته مع كونه ساكنا في البحرين أو قنسرين في غاية البعد. على أنه سيأتي في غزوة بدر «أنه صلى الله عليه وسلم خشي أن الأنصار لا ترى مناصرته إلا في المدينة» أي فإن في بعض الروايات «وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم بيثرب» والله أعلم. وقبل الهجرة «آخي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين» أي المهاجرين «على الحق والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبادة بن الحارثة وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، وبين عليّ ونفسه صلى الله عليه وسلم، وقال: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت، قال: فأنت أخي في الدنيا والآخرة» قال: وأنكر العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين سيما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله تعالى عنه، قال: لأن المؤاخاة بين المهاجرين

والأنصار إنما جعلت لإرفاق بعضهم ببعض، ولتألف قلوبهم بعضهم ببعض، فلا معنى لمؤاخاة مهاجريّ لمهاجريّ. قال الحافظ ابن حجر: هذا ردّ للنص بالقياس، وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى، وليستعين الأعلى بالأدنى، ولهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله تعالى عنه كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة. وفي الصحيح في عمرة القضاء «أن زيد بن حارثة قال إن بنت حمزة بنت أخي» أي بسبب المؤاخاة اهـ، وكان أول من هاجر منهم إليها أي لا معهم أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخوه من الرضاع وابن عمته. وهو أول من يدعي للحساب اليسير كما تقدم فإنه لما قدم من الحبشة لمكة آذاه أهلها وأراد الرجوع إلى الحبشة، فلما بلغه إسلام من أسلم من الأنصار، أي الاثني عشر الذين بايعوا البيعة الأولى خرج إليهم، وقدم المدينة بكرة النهار. ولما عزم على الرحيل رحل بعيره وحمل عليه أم سلمة وابنها سلمة في حجرها، وخرج يقود البعير رآه رجال من قوم أم سلمة فقاموا إليه وقالوا: يا أبا سلمة قد غلبتنا على نفسك فصاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد، ثم نزعوا خطام البعير منه، فجاء رجال من قوم أبي سلمة، وقالوا: إن ابننا معها إذا نزعتموها من صاحبنا ننزع ولدنا منها، ثم تجاذبوه حتى خلعوا يده وأخذه قوم أبيه ففرق بينها وبين زوجها وولدها، فكانت تخرج كل غداة بالأبطح فتبكي حتى المساء مدة سنة، فمرّ بها رجل من بني عمها فرأى ما بها فرحمها وقال لقومها: أما ترحمون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين ولدها وزوجها، فقالوا لها: الحقي بزوجك، فلما بلغ ذلك قوم أبي سلمة ردوا عليها ولدها، فارتحلت بعيرا وجعلت ولدها في حجرها وخرجت تريد المدينة وما معها أحد من خلق الله تعالى، حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة: أي الحجبي صاحب مفتاح الكعبة وكان عثمان بن طلحة يومئذ مشركا ثم أسلم رضي الله تعالى عنه في هدنة الحديبية وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما سيأتي، فتبعها إلى المدينة حتى إذا وافى على قباء قال لها: هذا زوجك هنا ثم انصرف، وهي أول ظعينة دخلت من المهاجرين المدينة رضي الله تعالى عنها، وكانت أم سلمة تقول: ما رأيت صاحبا أكرم من عثمان بن طلحة. قال: وقال ابن إسحاق وابن سعد: ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة- بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الثاء المثلثة- وهي أول ظعينة قدمت المدينة اهـ. أقول: فأم سلمة أوّل ظعينة قدمت المدينة لا مع زوجها، وليلى أول ظعينة

قدمت المدينة مع زوجها، فلا منافاة. وفي كلام ابن الجوزي: أول من هاجر إلى المدينة من النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، والله أعلم. قال: بينت: أي أم سلمة ما تقدم عنها في حق عثمان بن طلحة بقولها: فإنه لما رآني قال: إلى أين؟ قلت: إلى زوجي، قال: أو ما معك أحد؟ قلت لا، ما معي إلا الله وابني هذا، فقال: والله لا أتركك، ثم أخذ بخطام البعير وسار معي، فكان إذا وصلنا المنزل أناخ بي ثم استأخر، فإذا نزلت جاء وأخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة، ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه ثم استأخر عني وقال اركبي، فإذا ركبت أخذ بخطامه فقادني اهـ. أي وقد قال فقهاؤنا: من الصغائر مسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم ولا امرأة ثقة في غير الهجرة وفرض الحج والعمرة؛ أما في ذلك فيجوز حيث أمنت الطريق. وقولنا لا معهم لا ينافي أن أول من قدم المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، لأن قدومه كان معهم على ما تقدم أو يقال: أبو سلمة أول من قدم المدينة بوازع طبعه. وأما مصعب فكان بإرسال منه صلى الله عليه وسلم. ثم رأيت في السيرة الهشامية: أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني مخزوم أبو سلمة، وعليه فلا إشكال. ثم جاء عمار وبلال وسعد. وفي رواية: ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسالا بعد العقبة الثانية فنزلوا على الأنصار في دورهم فأووهم وواسوهم، ثم قدم المدينة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا. وكان هشام بن العاص واعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه وقال: تجدني أو أجدك عند محل كذا، فتفطن بهشام قومه فحبسوه عن الهجرة. وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فإنه لما همّ بالهجرة تقلد بسيفه وتنكب قوسه وانتضى في يديه أسهما واختصر عنزته: أي وهي الحربة الصغيرة علقها عند خاصرته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس: أي الأنوف، من أراد أن تثكله أمه: أي تفقده، أو يوتم ولده، أو ترمل زوجته فيلقني وراء هذا الوادي، قال عليّ رضي الله تعالى عنه: فما تبعه أحد ثم مضى لوجهه. ثم إن أبا جهل وأخاه شقيقه الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح- قدما المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم

بمكة لم يهاجر، فكلما عياش بن أبي ربيعة وكان أخاهما لأمهما وابن عمهما كان أصغر ولد أمه، وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها. وفي لفظ: ولا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراه، أي وفي لفظ: أن لا تأكل ولا تشرب ولا تدخل مسكنا حتى يرجع إليها، وقالا له وأنت أحب ولد أمك إليها، وأنت في دين منه برّ الوالدين، فارجع إلى مكة فاعبد ربك كما تعبده بالمدينة، فرقت نفسه وصدّقهما: أي وأخذ عليهما المواثيق أن لا يغشياه بسوء، وقال له عمر: إن يريدا إلا فتنتك عن دينك فاحذرهما، والله لو آذى أمك القمل امتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال عياش: أبرّ أمي ولي مال هناك آخذه، فقال عمر: خذ نصف مالي ولا تذهب معهما، فأبى إلا ذلك، فقال له عمر: فحيث صممت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك منهما ريب فانج عليها، فأبى ذلك وخرج راجعا معهما إلى مكة، فلما خرجا من المدينة كتفاه بتخفيف التاء: أي شدّا يديه إلى خلف بالكتاف في الطريق. أي وفي السيرة الهشامية أنه أخذ الناقة وخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال بلى، قال: فأناخ وأناخ ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه وأوثقاء رباطا ودخلا به مكة نهارا موثقا. وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا. وفي لفظ: بسفيهنا، فحبس بمكة مع هشام بن العاص، فإنه كما تقدم منع وحبس عن الهجرة، وجعل كل في قيد. وفي لفظ: أنهما لما ذكرا له أن أمه حلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه، وأعطياه موثقا أن لا يمنعاه وأن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه، فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة، وكان أعانهما عليه رجل من بني كنانة: أي يقال له الحارث بن يزيد القرشي وفي كلام ابن عبد البر أنه كان من يعذبه بمكة مع أبي جهل. وفي الينبوع: جلده كل واحد منهما مائة جلدة، وأنه لما جيء به إلى مكة ألقي في الشمس، وحلفت أمه أنه لا يحل عنه حتى يرجع عن دينه ففتن. قيل وكان ذلك سبب نزول قوله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [العنكبوت: الآية 8] الآية. وفيه أنه تقدم أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص؛ إلا أن يقال يجوز أن يكون مما تكرر نزوله، فتكون نزلت فيهما، وحلف عياش ليقتلنّ ذلك الرجل إن قدر عليه. قيل ولم يزل عياش محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فخرج عياش فلقي ذلك الرجل الكناني وكان قد أسلم وعياش لا يعلم بإسلامه، فقتله وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النّساء: الآية 92]

فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لعياش «قم فحرر» أي أعتق رقبة. وما ذكر من أن عياشا استمر محبوسا إلى الفتح يخالف قول بعضهم: مكث صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة كما سيأتي أربعين صباحا يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع: أي من الركعة الأخيرة «وكان يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص، والمستضعفين من المؤمنين بمكة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا» فإن هذا يدل على أن هشام بن العاص وعياش بن أبي ربيعة لم يفتتنا ولم يرجعا عن الإسلام. وفي السيرة الهشامية ما يفيد أنهما فتنا، الأول صريحا، والثاني ظاهرا. وفي السيرة الهشامية التصريح بافتتانهما، وفيه نظر لما ذكر، ولأنهما لو كانا فتنا لأطلقا من الحبس والقيد وإدامة ذلك، إلا أن يقال فعل بهما ذلك لعدم الوثوق برجوعهما عن الإسلام. ومما يدل على أن رجوعهما عن الإسلام إن صح إنما كان ظاهرا فقط دعاؤه صلى الله عليه وسلم لهما. أي وسيأتي أن الوليد كان سببا لتخليص عياش بن أبي ربيعة وهشام بن أبي العاص بعد أن تخلص من الحبس وهاجر إلى المدينة، فإن الوليد كان أسر ببدر ثم افتداه أخوه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة وذهبا به إلى مكة فأسلم وأراد الهجرة فحبساه بمكة. وقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفدى؟ قال: كرهت أن يظن فيّ أني جزعت من الأسر، ثم نجا وتوصل إلى المدينة ورجع إلى مكة مستخفيا وخلص عياشا وهشاما وجاء بهما إلى المدينة، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وشكر صنيعه، وبه يعلم ضعف ما تقدم من أن عياشا لم يزل محبوسا إلى يوم الفتح. وممن هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أي لأنه لما أعتقته زوجة أبي حذيفة وكانت أنصارية تبناه أبو حذيفة، وكان يؤمّ المهاجرين بالمدينة فيهم عمر بن الخطاب، لأنه كان أكثرهم أخذ للقرآن، فكان عمر بن الخطاب يثني عليه كثيرا، حتى قال لما أوصى عند قتله: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا ما جعلتها شورى. قال ابن عبد البر: معناه أنه كان يأخذ برأيه فيمن يوّليه الخلافة: أي فإنه قتل في يوم اليمامة، وأرسل عمر بميراثه لمعتقته فأبت أن تقبله، فجعله في بيت المال. ولما أراد صهيب الهجرة إلى المدينة، أي بعد أن هاجر إليها صلى الله عليه وسلم، خلافا لما يوهمه كلام الأصل والشامي قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا فقيرا فكثر مالك عندنا ثم تريد أن تخرج بمالك؟ لا والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب، أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم، قال: فإني جعلته لكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «ربح صهيب» . أقول: «وذكر أن صهيبا تواعد معه صلى الله عليه وسلم أن يكون معه في الهجرة فلما أراد صلى الله عليه وسلم

الخروج للغار أرسل إليه أبا بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي، فكره أن يقطع عليه صلاته» كما سيأتي، وحينئذ يكون قول صهيب المذكور بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كما تقدم، وهو ما في الخصائص الكبرى عن صهيب «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر وقد كنت هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش» أي بعد أن أردت الخروج بعده «وقالوا له جئتنا فقيرا حقيرا صعلوكا فكثر مالك عندنا وتريد أن تخرج بمالك ونفسك لا يكون ذلك أبدا، قال فقلت لهم: أنا أعطيكم أواقي من الذهب. وفي لفظ ثلث مالي. وفي لفظ: مالي وتخلون سبيلي، ففعلوا، فقلت احفروا تحت أسكفة الباب، فإن تحتها الأواقي، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء قبل أن يتحوّل منها، فلما رآني قال يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا، فقلت: يا رسول الله إنه ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه الصلاة والسلام» أي وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن المسيب قال «أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ سيفه وكنانته وقوسه، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته. ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلا وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقيّ في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي، فقالوا نعم، فقال لهم ما تقدم» وفي رواية «أنهم قالوا له: دلنا على مالك ونخلي عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل» . وذكر بعض المفسرين «أن المشركين أخذوه وعذبوه فقال لهم: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني، وتتركوا لي راحلة ونفقة ففعلوا، ونزل قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: الآية 207] قال: فلما قدمت وجدت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جالسين، فلما رآني أبو بكر قام إليّ فبشرني بالآية التي نزلت فيّ أي وفي رواية «فتلقاني أبو بكر وعمر ورجال، فقال لي أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى، فقلت: وبيعك، هلا تخبرني ما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليّ الآية» . وفي تفسير سهل بن عبد الله التستري أن صهيبا كان من المشتاقين لم يكن له قرار؛ كان لا ينام لا بالليل ولا بالنهار. وقد حكي أن امرأة اشترته فرأته كذلك، فقالت: لا أرضى لك حتى تنام بالليل، لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي؛ فبكى وقال: إن صهيبا إذا ذكر النار طار نومه وإذا ذكر الجنة جاء شوقه، وإذا ذكر الله طال شوقه: أي وليتأمل هذا مع ما في تاريخ ابن كثير أن الروم أغارت على بلاد صهيب وكانت على دجلة، وقيل على الفرات، فأسرته وهو صغير، ثم اشتراه منهم بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه

عبد الله بن جدعان فأعتقه وأقام بمكة حينا، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وكان إسلامه وإسلام عمار بن ياسر في يوم واحد. وقد يقال: يجوز أن تكون تلك المرأة التي اشترته كانت من بني كلب. وعن صهيب رضي الله تعالى عنه «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه وأنه قال له عمر رضي الله تعالى عنه: يا صهيب اكتنيت وليس لك ولد؛ فقال: كناني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي يحيى» فهو من جملة من كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ولد له؛ وكان في لسانه عجمة شديدة، وكان فيه دعابة «رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل قثاء ورطبا وهو أرمد إحدى عينيه، فقال له: تأكل رطبا وأنت أرمد؟ فقال: إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة فضحك صلى الله عليه وسلم» . وفي المعجم الكبير للطبراني عن صهيب، قال «قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز، فقال: ادن فكل، فأخذت آكل من التمر، فقال لي: أتأكل التمر وعينك رمدة، فقلت: يا رسول الله أمصه من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي ولا مانع من التعدد «ولما أذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة وهاجروا مكث صلى الله عليه وسلم بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه إلا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأبو بكر أي وصهيب كما علمت، ومن كان محبوسا أو مريضا أو عاجزا عن الخروج، وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون هو» وفي رواية «تجهز أبو بكر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر هل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين عنده الخبط» أي وفي لفظ «ورق السمر» بفتح المهملة وضم الميم، قال الزهري، وهو الخبط. قال ابن فارس: والخبط ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر، وكان مدة علفها أربعة أشهر، وكان اشتراهما بثمانمائة درهم. أقول: ظاهر هذا السياق أن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر. ومعلوم أن ذلك بعد مبايعة الأنصار صلى الله عليه وسلم، والمدة بين مبايعة الأنصار له صلى الله عليه وسلم والهجرة كانت ثلاثة أشهر أو قريبا منها، لأنها كانت في ذي الحجة، ومهاجرته صلى الله عليه وسلم كانت في ربيع الأول. وفي السيرة الشامية ما يصرح بأن علفة للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر. ففيها «أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي بكر وقد استأذنه في الهجرة: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» طمع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك، وسيأتي عن الحافظ ابن حجر أن بين ابتداء

هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين ونصف شهر على التحرير، والله أعلم. «فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار له شيعة» أي أنصار وأصحاب من غيرهم «ورأوا خروج أصحابه إليهم، وأنهم أصابوا منعة لأن الأنصار قوم أهل حلقة» أي سلاح وبأس «حذروا: أي خافوا أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يجمع على حربهم، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت محل مشورتهم لا يقطعون أمرا إلا فيها» أي وهي أول دار بنيت بمكة، كانت منزل قصيّ بن كلاب كما تقدم، ثم صارت لولده عبد الدار، ثم ابتاعها معاوية لما حج وهو خليفة من أولاد عبد الدار. وتقدم أن معاوية إنما اشتراها من حكيم بن حزام، ويدل لذلك ما جاء عن مصعب بن عبد الله قال: جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام، فباعها لمعاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم، فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال له حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إلى آخر ما تقدم، وكانت دار الندوة جهة الحجر عند المقام الحنفي الآن، وكان لها باب للمسجد، وكان لا يدخلها عند المشورة من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة. وفي كلام بعضهم: ساد أبو جهل وما طرّ شاربه، ودخل دار الندوة وما استدارت لحيته، وقد أدخلت في المسجد. قيل لها دار الندوة لاجتماع الندي وهو الجماعة فيها، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة، لأنه اجتمع فيه أشراف بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح، وغيرهم مما لا يعدّ من قريش، ولم يتخلف من أهل الرأي والحجا أحد. ثم إن إبليس جاء إليهم في صورة شيخ نجدي عليه طيلسان من خز وقيل من صوف: أي وإنما فعل ذلك ليقبل منه ما يشير به، لأن أهل الطيالسة في العادة من أهل الوقار والمعرفة؛ ووقف ذلك الشيخ على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا أجل: أي نعم، فادخل فدخل معهم، أي وإنما قال لهم من أهل نجد، لأن قريشا قالوا: لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم كان مع محمد صلى الله عليه وسلم. قيل لما سمعهم يقولون: لا يدخل معكم اليوم إلا من هو معكم، قال لهم لما سألوه وقالوا له من أنت؟ قال شيخ من نجد، وأنا ابن أختكم؛ فقالوا: ابن أخت القوم منهم. وقيل إن إبليس لما دخل عليهم أنكروه وقالوا له من أنت وما أدخلك علينا في خلوتنا هذه بغير إذننا؟ فقال: إني رجل من أهل نجد، رأيتكم حسنة وجوهكم طيبة

ريحكم فأحببت أن أجلس إليكم وأسمع كلامكم، فإن كرهتم ذلك خرجت عنكم؛ فقال بعضهم لبعض: هذا نجدي ولا عين عليكم منه، وفي لفظ: هذا من أهل نجد لا من مكة فلا يضركم حضوره معكم. وعند المشهورة قال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم: قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله لا نأمنه الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا فتشاوروا، فقال قائل: أي وهو أبو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما أصابهم من هذا الموت، فقال الشيخ النجدي، لا والله ما هذا لكم برأي، والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلا تشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيدكم ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا برأي، فانظروا رأيا غيره، فتشاوروا، فقال قائل منهم، أي وهو الأسود بن ربيعة بن عمير: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين يذهب، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي الله به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل» بفتح أوله وضم الحاء المهملة أي ينزل، ويجوز أن يكون بكسرها: أي يسقط على حيّ من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير به إليكم حتى يطأكم بهم، فيأخذوا أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا؛ فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: الرأي أن تأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا: أي قويا حسيبا في قومه نسيبا وسطا، ثم يعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فيرضوا منا بالعقل: أي الدية فعقلنا لهم. فقال النجدي: القول ما قال هذا الرجل، هذا هو الرأي ولا أرى غيره، فتفرق القوم على ذلك، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت عليه: أي وأخبره بمكرهم، وأنزل الله عز وجل عليه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: الآية 30] الآية، فلما كانت عتمة من الليل: أي الثلث الأول من الليل اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه: أي وكانوا مائة. أقول في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير «لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: يريدون أن يحبسوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من حدّثك بهذا؟ قال: ربي، قال: نعم الرب، وربك فاستوص به خيرا، قال: أنا

أستوصي به، بل هو يستوصي بي» هذا كلامه. ولم يتعقبه بأن هذا كان بعد موت أبي طالب قال: وكان ائتمارهم يوم السبت. فقد «سئل صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت؟ فقال: يوم مكر وخديعة، قالوا: ولم يا رسول الله؟ قال: إن قريشا أرادوا أن يمكروا فيه بي» أي أرادوا فيه المكر «فأنزل الله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: الآية 30] . وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فاجتمع أولئك القوم من قريش يتطلعون من صير الباب أي شقه ويرصدونه يريدون بياته: أي يوقعون به الأمر ليلا ويأتمرون أيهم يحمل على المضطجع» وفيه أن ائتمارهم في ذلك لا يناسب ما اجتمع رأيهم عليه من أنهم يجتمعون على قتله ليتفرق دمه في القبائل. ثم رأيت بعضهم قال: وأحدقوا ببابه صلى الله عليه وسلم وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتله من جميع القبائل فلا يتمّ لهم أخذ ثأره وهو المناسب لما ذكر، والله أعلم. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم: أي علم ما يكون منهم «قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: نم على فراشي، واتشح بردائي هذا الحضرمي، وقد كان يشهد فيه العيدين، وقد كان طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر» وهل كان أخضر أو أحمر؟ يدل للثاني قول جابر «كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة» ثم رأيت في بعض الروايات أنه كان أخضر فلينظر الجمع. وفي سيرة الدمياطي «وارتد بردائي هذا الأحمر» والحضرمي: منسوب إلى حضر موت التي هي البلدة أو القبيلة باليمن. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسجى بذلك البرد عند نومه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» . أقول: وأما ما روي «أن الله تعالى أوحى إلى جبريل ومكائيل: أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب: آخيت بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب؟ باهى الله بك الملائكة، وأنزل الله عز وجل وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: الآية 207] قال فيه الإمام ابن تيمية: إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير. وأيضا قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له «لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة، والآية المذكورة في سورة البقرة

وهي مدنية باتفاق. وقد قيل إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما هاجر أي كما تقدم؛ لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعليّ ما ذكر، وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واضحا، ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق عليّ وفي حق صهيب. وحينئذ يكون شري في حق عليّ رضي الله تعالى بمعنى باع: أي باع نفسه بحياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي حق صهيب بمعنى اشترى: أي اشترى نفسه بماله، ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية، لأن الحكم يكون للغالب. وفي السبعيات «أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى أصحابه وقال: أيكم يبيت على فراشي وأنا أضمن له الجنة، فقال عليّ: أنا أبيت واجعل نفسي فداءك» هذا كلامه، ولعله لا يصح. ثم رأيت في الإمتاع ما يدل لعدم الصحة، وهو قال ابن إسحاق: ولم علم فيما بلغني بخروجه صلى الله عليه وسلم حين خرج إلا عليّ وأبو بكر الصدّيق، فليتأمل والله تعالى أعلم. وكان في القوم الحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود وأبو لهب وأبو جهل، فقال: وهم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، أي بضم الهمزة وتشديد النون، وهو محل بأرض الشام بقريب بيت المقدس، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحترقون فيها، وسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: نعم أنا أقول ذلك، وأخذ حفنة من تراب وتلا قوله تعالى يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس: الآيتان 1 و 2] إلى قوله فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: الآية 9] فأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه. وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ذكر في فضل يس (1) [يس: الآية 1] أنها إن قرأها خائف أمن، أو جائع شبع، أو عار كسي، أو عاطش سقي، أو سقيم شفي» «وعند خروجه صلى الله عليه وسلم جعل ينثر التراب على رؤوسهم، فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آت، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا محمدا، فقال: قد خيبكم الله، والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب» . قال في النور وهذا يعارضه حديث مارية خادم النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أمّ الرباب «أنها طأطأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا ليلة فرّ من المشركين» وينبغي أن يوفق بينهما إن صحا وإلا فالعبرة بالصحيح منهما هذا كلامه. أقول: التوفيق حاصل، وهو أنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يحب أن يخرج عليهم من الباب فتسوّر الحائط التي نزل منها عليهم والله أعلم، أي وكان ذهابه صلى الله عليه وسلم

في تلك الليلة إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، فكان فيه إلى الليل: أي إلى الليلة المقبلة، ثم خرج هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه، ثم مضيا إلى جبل ثور كذا في سيرة الدمياطي ثم أي بعد اخبارهم بخروجه صلى الله عليه وسلم ووضعه التراب على رؤوسهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما على الفراش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقولون: والله إن هذا محمد نائما عليه برده، فلم يزالوا كذلك، أي يريدون أن يوقعوا به الفعل، والله مانع لهم من ذلك «حتى أصبحوا واتضح النهار، فقام عليّ رضي الله تعالى عنه عن الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدّثنا، أي ولما قام عليّ رضي الله تعالى عنه سألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لا علم لي به وفي رواية: «فلما أصبحوا ساروا إليه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا عليا رضي الله تعالى عنه ردّ الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال لا أدري، فأنزل الله تعالى قوله أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) [الطّور: الآية 30] وأنزل الله عز وجل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) [الأنفال: الآية 30] كذا في الأصل تبعا لابن إسحاق، ولا يخفى أن الآية الثانية موفية بما ذكروه من المشاورة. قال: والمانع من اقتحام الجدار عليه في الدار مع قصر الجدار وقد جاؤوا لقتله، أنهم هموا بذلك فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمنا انتهى. أقول: لا يخفى أن هذا لا يناسب ما قدمناه عن بعضهم أنهم إنما أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر ليظهر لبني هاشم قاتلوه فلا يثبوا عليه لئلا يتسور الجدار، إلا أن يقال إرادة ذلك منهم كانت عند طلوع الفجر، ووجود الأسباب المانعة لهم من الوثوب عليه لا ينافي أن المانع لهم عن الوثوب عليه الذي جاؤوا بصدده وهم مائة رجل من صناديد قريش، إنما هي حماية الله تعالى الموجبة لخذلانهم وإظهار عجزهم، وفي ذلك تصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لعلي «لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم» على ما تقدم، والمراد بقول بعضهم: كان المشركون يرمون عليا يظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم يرمونه بأبصارهم لا بنحو حجارة أو نبل كما لا يخفى. فإن قيل: هلا نام صلى الله عليه وسلم على فراشه؟ قلنا لو فعل ذلك لفات، إذ لا لهم بوضع التراب على رؤوسهم وإظهار حماية الله تعالى له بخروجه عليهم ولم يبصره أحد منهم. وفي رواية «أنهم تسوروا عليه صلى الله عليه وسلم ودخلوا شاهرين سيوفهم، فثار علي في وجوههم فعرفوه، فقالوا: هو أنت أين صاحبك؟ فقال: لا أدري» وهذا مخالف لما تقدم، فلينظر الجمع بناء على صحة هذا. وفي لفظ: «أمروه بالخروج فضربوه وأدخلوه المسجد وحبس به ساعة ثم خلوا عنه» والله أعلم.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن له في الهجرة إلى المدينة، أي وأنزل الله تعالى عليه وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) [الإسراء: الآية 80] قال زيد بن أسلم: جعل الله عز وجل مدخل صدق المدينة، ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار. ويعارضه ما جاء «أن عند رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قال له جبريل: سل ربك، فإن لكل نبي مسألة، فقال: ما تأمرني أن أسأله؟ قال: قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، فأنزل الله تعالى عليه ذلك في رجعته من تبوك بعد ما ختمت السورة» أي إلا أن يدعى تكرار النزول «وعند الإذن له صلى الله عليه وسلم في الهجرة قال لجبريل: من يهاجر معي؟ قال جبريل: أبو بكر الصديق» . أي ومن الغريب قول بعضهم: ومن ذلك اليوم سماه الله تعالى صدّيقا، فقد تقدم أن تسميته بذلك كان عند تصديقه له صلى الله عليه وسلم عند إخباره بالإسراء، وعن صفة بيت المقدس. ومن الغريب أيضا ما في السبعيات «أن النبي صلى الله عليه وسلم تشاور مع أصحابه، فقال: أيكم يوافق معي ويرافقني، فقد أمرني الله تعالى بالخروج من مكة إلى المدينة؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنا يا رسول الله» . ويرده ما في السير «أنه صلى الله عليه وسلم أتى أبا بكر ذات يوم ظهرا، فناداه فقال أخرج من عندك، فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما، قال شعرت: أي علمت أنه قد أذن لي في الهجرة؟ فقال: يا رسول الله الصحبة» أي أسألك الصحبة «فقال: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحبة» أي لك الصحبة عندي «فانطلقا» أي ليلا كما تقدم عن سيرة الدمياطي، لكن تقدم عنها أنه دخل بيت أبي بكر في ليلة خروجه من على فراشه؛ وأنه مكث ببيت أبي بكر إلى الليلة القابلة التي كان فيها خروجه صلى الله عليه وسلم إلى جبل ثور، فيحتاج إلى الجمع. وقد يقال: إن مجيئه صلى الله عليه وسلم ظهرا كان قبل تلك الليلة، ومع خروجهما خرجا مستخفيين حتى أتيا الغار وهو بجبل ثور، فتواريا فيه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال عند خروجه من مكة أي متوجها إلى المدينة «والله إني لأخرج منك وأني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» . أي وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم وقف أي على راحلته بالحزورة ونظر إلى البيت وقال والله إنك لأحب أرض الله إليّ وإنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك

أخرجوني منك قهرا ما خرجت» وفي لفظ «أنه صلى الله عليه وسلم وقف في وسط المسجد والتفت إلى البيت فقال: إني لأعلم ما وضع الله بيتا أحب إلى الله منك، وما في الأرض بلد أحب إليه منك، وما خرجت منك رغبة، ولكن الذين كفروا أخرجوني» . أي وهذا السياق يدل على أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحزورة أو في وسط المسجد يقتضي أنه جاء بعد خروجه من الغار إلى ما ذكر، ثم ذهب إلى المدينة. وفي رواية «وقف صلى الله عليه وسلم على الحجون وقال: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولو لم أخرج منك ما خرجت» وفي لفظ «ولو تركت فيك لما خرجت منك» ولا مانع من تكرر ذلك. ثم رأيت في كلام بعضهم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحجون كان في عام الفتح. وفي لفظ آخر «قال لمكة: ما أطيبك من بلدة وأحبك إليّ؛ ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك» . أي وفي «جمال القراء» للسخاوي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه مهاجرا إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكي؛ فأنزل الله عز وجل عليه وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً [محمّد: الآية 13] الآية» . وأما ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إليّ فأسكني في أحب البقاع إليك» فقال الذهبي: إنه موضوع. وقال ابن عبد البر: لا يختلف أهل العلم أنه منكر موضوع. أقول: والذي رأيته عن المستدرك للحاكم «اللهم: إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك» والمعنى واحد، وإليه وإلى ما روي عن الزهري «اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك» استند من قال بتفضيل المدينة على مكة، قال: لأن الله تعالى أجاب دعاءه فأسكنه المدينة. قيل وعليه جمهور العلماء، ومنهم الإمام مالك رضي الله تعالى عنه. وإلى الأحاديث الأول استند من قال بتفضيل مكة على المدينة وهم الجمهور، ومنهم إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، واستندوا في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع «أيّ بلد تعلمون أعظم حرمة؟ قالوا لا نعلم إلا بلدنا هذه» يعنون مكة، وهذا إجماع من الصحابة أقرهم عليه صلى الله عليه وسلم أنها: أي مكة أفضل من سائر البلاد، لأن ما كان أعظم حرمة فهو أفضل. وقد قال صلى الله عليه وسلم «المقام بمكة سعادة، والخروج منها شقاوة» وقال صلى الله عليه وسلم «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام» . قال ابن عبد البر: وإني لأعجب ممن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله «والله إني لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» وهذا حديث صحيح، ويميل إلى تأويل لا يجامع ما تأويله عليه: أي ولأن الحسنة فيها بمائة ألف حسنة. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال «من حج ماشيا كتبت له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة فيه بمائة ألف حسنة» . والكلام في غير ما ضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم من أرض المدينة، وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع، بل حتى من العرش والكرسي. على أن صاحب «عوارف المعارف» ذكر أن الطوفان موّج تلك التربة المكرمة عن محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة، فهي من جملة أرض مكة. وحينئذ لا يحسن الاستناد في تفضيل المدينة على مكة بقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه إنهم لما اختلفوا في أي محل يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبضه الله إلا في أحب البقاع إليه ليدفن فيه كما سيأتي، والله أعلم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت «بينا نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر الصديق في نحر الظهيرة» أي وسطها وهو وقت الزوال «قال قائل لأبي بكر أي وهذا القائل هي أسماء بنت أبي بكر. وفي كلام بعض الحفاظ: يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة أي مولى أبي بكر «قالت أسماء: قلت: يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا» أي متطيلسا «في ساعة لم يكن يأتينا فيها» أي فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «لم يمر علينا يوم» أي قبل الهجرة «إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا» وفي لفظ «كان لا يخطىء أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشيا» أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحة الثانية وإلا فالأولى في البخاري. وتفسير التقنع بالتطيلس ذكره الحافظ ابن حجر، حيث قال: قوله: متقنعا: أي متطيلسا، وهو أصل في لبس الطيلسان، هذا كلامه. واعترضه ابن القيم حيث قال: لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه لبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه. وحينئذ لا يكون القناع هنا هو الطيلسان، بل التقنع تغطية الرأس وأكثر الوجه بالرداء من غير أن يجعل منه شيء تحت رقبته الذي يقال له التحنيك. وحمل قول ابن القيم المذكور على الطيلسان المقوّر التي تلبسها اليهود. قال بعضهم: وهذا الطيلسان المقور هو المعروف بالطرحة، وقد اتخذت خلفاء بني العباس الطرحة السوداء على العمامة عند الخطبة، واستمر ذلك شعارا للخلفاء. فالحاصل أن ما يغطى به الرأس مع أكثر الوجه إن كان معه تحنيك: أي ادارة على العنق قيل له طيلسان، وربما قيل له رداء مجازا، وإن لم يكن معه تحنيك، قيل له رداء أو قناع، وربما قيل له مجازا طيلسان: هو ما كان شعارا في القديم لقاضي القضاة الشافعي خاصة. قال بعضهم: بل صار شعارا للعلماء، ومن ثم صار لبسه يتوقف على الإجازة من المشايخ كالإفتاء والتدريس. وكان الشيخ يكتب في إجازته:

وقد أذنت له في لبس الطيلسان، لأنه شهادة بالأهلية، وما يجعل على الأكتاف دون الرأس يقال له رداء فقط، وربما قيل له طيلسان أيضا مجازا. وصح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وله حكم المرفوع «التقنع من أخلاق الأنبياء» . وقد ذكر بعضهم أن الطيلسان الخلوة الصغرى وفي حديث «لا يتقنع إلا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» وكان ذلك من عادة فرسان العرب في المواسم والجموع كالأسواق. وأول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه. وعن الكفاية لابن الرفعة أن ترك الطيلسان للفقيه مخلّ بالمروءة أي وهو بحسب ما كان في زمنه رحمه الله. وفي الترمذي «لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم التقنع إنما كان يفعله لحر أو برد» . وتعقب بأن في حديث أنس «أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر التقنع» وفي طبقات ابن سعد مرسلا أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا ثوب لا يؤدي شكره» أي لأن فيه غض البصر، ومن ثم قيل إنه الخلوة الصغرى كما تقدم. ولما قيل لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ذلك، أي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، قال أبو بكر: فدا له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، أي وتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «أخرج من عندك، قال أبو بكر: إنما هي أهلك» أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان عقد على عائشة رضي الله تعالى عنها كما تقدم، فأمها من جملة أهله وأختها كذلك، وقيل هو على حدّ قول الشخص لآخر أهلي أهلك. وفي رواية «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرج من عندك، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لا عين عليك إنما هما ابنتاي» أي وسكت عن أمهما سترا «قال: فإنه قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، أي فبكى أبو بكر سرورا؟ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر» ولله درّ القائل: ورد الكتاب من الحبيب بأنه ... سيزورني فاستعبرت أجفاني غلب السرور عليّ حتى إنني ... من فرط ما قد سرني أبكاني يا عين صار الدمع عندك عادة ... تبكين من فرح ومن أحزان أي ومنه: أقرّ الله عينه لم يدعى له، وهو قرّة عين لمن يفرح به. وأسخن عينه لمن يدعى عليه: وهو سخنة العين لما يحزن به، لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وقد روي «أن نبيا من الأنبياء اجتاز بحجر يخرج منه الماء، فسأل ربه عن

ذلك؟ فأنطق الله تعالى الحجر، فقال: منذ سمعت أن الله تعالى نارا وقودها الناس والحجارة وأنا أبكي هذا الدمع خوفا من تلك النار، فاشفع لي عند ربك، فشفع له، فشفع فيه وبشره بذلك. ثم مرّ به بعد مدة فإذا الماء يخرج منه، فقال: ألم أبشرك أن الله أنجاك من النار فما هذا؟ فقال: يا نبيّ الله ذاك بكاء الخوف والخشية، وهذا بكاء الفرح والسرور» ومن ثم لما قال صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب «إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا: أي لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [البيّنة: الآية 1] بكى من الفرح، وقال: أو ذكرت هناك؟» أي ذكرني الله عز وجل وفي لفظ «وسماني؟ قال نعم» . وفي سفر السعادة قال العلماء: البكاء على عشرة أنواع: بكاء فرح، وبكاء حزن لما فات، وبكاء رحمة، وبكاء خوف لما يحصل، وبكاء كذب كبكاء النائحة فإنها تبكي بشجو غيرها، وبكاء موافقة بأن يرى جماعة يبكون فيبكي مع عدم علمه بالسبب، وبكاء المحبة والشوق، وبكاء الجزع من حصول ألم لا يحتمله، وبكاء الخور والضعف، وبكاء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاس. والبكى بالقصر: دمع العين من غير صوت. والممدود: ما كان معه صوت. وأما التباكي فهو تكلف البكاء. وهو نوعان: محمود ومذموم؛ فالأول ما يكون لاستجلاب رقة القلب، وهو المراد بقول سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان في شأن أسارى بدر: أخبرني ما يبكيك يا رسول الله؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت، ومن ثم لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك. والثاني ما يكون لأجل الرياء والسمعة. قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين، فإني أعددتهما للخروج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل بالثمن» أي لتكون هجرته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى بنفسه وماله، أي وإلا فقد أنفق أبو بكر رضي الله تعالى عنه أكثر ماله عليه صلى الله عليه وسلم: أي فعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم» . وفي لفظ «دينار» ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «ليس من أحد أمنّ عليّ في أهل ومال من أبي بكر» وفي رواية «ما أحد أمنّ علي في صحبته وذات يده من أبي بكر، وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟» وفي رواية «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا الله يكافئه بها يوم القيامة» . أقول: ولا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم أخذ إحدى ناقتي أبي بكر بالثمن ما رواه أبان بن أبي عياش أحد التابعين عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه «ما أطيب مالك: منه بلال مؤذني، وناقتي التي هاجرت عليها، وزوجتني ابنتك وواسيتني بمالك كأني أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتي» لأن أبان بن أبي عياش معدود من الضعفاء.

وقد قال شعبة: لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحبّ إليّ من أن أقول حديثا عن أبان بن أبي عياش، وقال فيه مرة أخرى: لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان. وقد طلب من شعبة أن يكف عن أبان هذا، فقال: الأمر دين، وهذا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بين ابن حبان عذر أبان بأنه كان يروي عن أنس وأبان مجالس الحسن البصري فكان يسمع كلامه، فإذا حدث ربما جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعا وهو لا يعلم. وعلى تقدير صحة ما قاله لا منافاة أيضا، لأنها كانت من مال أبي بكر قبل أن يأخذها صلى الله عليه وسلم بثمنها. على أن في الترمذي ما وافق ما رواه أبان. ففيه عن عليّ رضي الله تعالى عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم «رحم الله أبا بكر، زوّجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار، وأعتق بلالا من ماله» . قال: وهذا حديث غريب والله أعلم. وكان الثمن عن تلك الناقة التي هي القصواء، وقد عاشت بعده صلى الله عليه وسلم، وماتت في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه أو الجدعاء أربعمائة درهم، أي لما علمت أن الناقتين اشتراهما أبو بكر بثمانمائة درهم. وأما ناقته صلى الله عليه وسلم العضباء فقد جاء «أن بنته فاطمة رضي الله تعالى عنها تحشر عليها» . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «فجهزناهما أحب الجهاز» أي أسرعه. والجهاز: بكسر الجيم أفصح من فتحها. ما يحتاج إليه في السفر «ووضعنا لهما سفرة في جراب» أي زادا في جراب، لأن السفرة في الأصل الزاد الذي يصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد «وكان في السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب أي وأبقت الأخرى نطاقا لها» وهو يوافق ما في صحيح مسلم عن أسماء رضي الله تعالى عنها أنها قالت للحجاج: بلغني أنك تقول أي لولدها عبد الله بن الزبير تعيره بابن ذات النطاقين، أما أنا والله ذات النطاقين أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأما الآخر فنطاق المرأة: أي الذي لا تستغني عنه، أي عند اشتغالها؛ لأن النطاق ما تشدّ به المرأة وسطها لئلا تعثر في ذيلها على ثوب يلقى على أسفله. وقيل النطاق إزار فيه تكة؛ ومن ثم جاءت ذات النطاق: أي وكلاهما صحيح، لكن في لفظ «قطعت نطاقها قطعتين، فأوكت بقطعة منه فم الجراب، وشدّت فم القربة بالباقي» ، أي فلم يبق لها شيء منه ويوافقه ما في البخاري عن أسماء: لم نجد لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي لمحلها الذي هو الجراب ولا لسقائه أي الذي هو القربة ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: لا والله ما أجد شيئا

أربط به إلا نطاقي، قال فشقيه اثنين، واربطي بواحد السقاء الذي هو القربة وبواحد السفرة ففعلت، فلذلك سميت ذات النطاقين: أي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها «أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة» . وفيه أن الرواية الأولى التي عن عائشة، والرواية الثانية التي عن أسماء رواها مسلم لم يذكر السقاء. وفي رواية البخاري ذكر السقاء وإسقاط الجراب، لكن ذكر بعد الجراب السفرة. وقد يقال: المراد بربط السفرة ربط محلها الذي هو الجراب كما أشار إليه. قال بعضهم: وما تقدم عن مسلم ينبغي أن يكون أقرب إلى الضبط، لأن أسماء قالت في آخر عمرها مخبرة عن نفسها: أي ولم تربط إلا الجراب بأحد شقي النطاق وأبقت لها الآخر. وقد يقال: الحصر ليس في محله لمنافاته لرواية البخاري. وحينئذ يجمع بأنه بجوازها لما شقت النطاق نصفين قطعت أحدهما قطعتين، فشدت بإحداهما الجراب والأخرى السقاء، فهي ذات النطاقين الذي أبقته، والذي فعلت به ما ذكر. وفي السيرة الهشامية أن أسماء بنت أبي بكر جاءت إليهما لما نزلا من الغار بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فدهشت لغلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها فجعلته عصاما فعلقتها به وانتطقت الآخر: أي وهذا يدل على أن المراد بقول عائشة: فجهزناهما أحب الجهاز: أي عند خروجهما من الغار، لا عند ذهابهما إلى الغار كما قد يتبادر من السياق. ثم على المتبادر جرى ابن الجوزي حيث قال: أسما بنت أبي بكر أسلمت بمكة قديما، وبايعت وشقت نطاقها ليلة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، فجعلت واحدا لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر عصاما لقربته، فسميت ذات النطاقين هذا كلامه. وقد قال: لا مانع من تعدد ذلك، وكون النطاق ما تشد به المرأة وسطها لئلا تعثر في ذيلها يخالفه قول بعضهم: النطاق هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل، وهذا يوافق القيل المتقدم، ولعل له إطلاقين، ويوافق الثاني ما قيل أول من فعله هاجر أم إسماعيل، اتخذته لتخفي أثر مشيتها على سارة، ولعله عند خروجها لما أمره الله عز وجل بإخراجها مع إبراهيم، فيذهب بها إلى مكة قبل أن تركب مع إبراهيم على البراق. «ثم استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو عبد الله بن أريقط» ويقال ابن أرقط أو أرقد اسم أمه، فأريقط مصغرها «ليدلهما على الطريق للمدينة» وكان على دين قريش، أي ثم أسلم بعد ذلك. وقيل لم يعرف له إسلام.

وفي الروض ما وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك «فدفعا إليها راحلتيهما، وواعداه على جبل ثور بعد ثلاث ليال» وقيل للجبل ذلك لأنه على صورة الثور الذي يحرث عليه، وسياق النسائي يدل على أن استئجار عبد الله المذكور كان قبل التجهيز. «قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور» أي ليلا كما تقدم. وعن ابن سعد: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل، ثم خرج هو وأبو بكر فمضيا إلى غار ثور فدخلاه» أي وكان خروجهما من خوخة في ظهر بيت أبي بكر. فعن عائشة بنت قدامة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقيني أبو جهل لعنه الله فأعمى الله بصره عني» وعن أبي بكر «حتى مضينا» . وفي كلام سبط ابن الجوزي: وعن وهب بن منبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى الغار من بيت أبي بكر، فخرج من خوخة في ظهر الدار. والأصح إنما كان خروجه من بيت نفسه. «وجعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يمشي مرة أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك لا آمن عليك» . أقول: في الدر المنثور «فمشى صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه، فلما رآهما أبو بكر قد حفيتا حمله على كاهله وجعل يشتدّ به حتى أتى على فم الغار فأنزله» وفي لفظ «لم يصب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار حتى قطرت قدماه دما» وفي كلام السهيلي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «نظرت إلى قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وقد تقطرتا دما» . قال بعضهم: ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل، وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة، ويدل عليه قوله: فمشى ليلته رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ فانتهينا «إلى الغار مع الصبح» ولا يحتمل ذلك مشى ليلته إلا بتقدير ذلك، أو أنه صلى الله عليه وسلم كما قيل ذهب إلى جبل حنين فناداه اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه جبل ثور: إليّ يا رسول الله» وساق في الأصل رواية تقتضي أنه ذهب إلى غار ثور راكبا ناقته الجدعاء. ثم رأيته في النور أشار إلى أن ركوبه صلى الله عليه وسلم الجدعاء إنما كان بعد خروجه من الغار، لا أنه

ركبها من منزل أبي بكر إلى الغار كما هو ظاهر الرواية. وفي الخصائص الكبرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لما تشاور المشركون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطلع الله نبيه على ذلك، فخرج تلك الليلة حتى أتى الغار، فلما أصبحوا اقتفوا أثره صلى الله عليه وسلم، فلما بلغوا الجبل» الحديث، أي وهو مخالف لما تقدم من أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان في الليلة الثانية لا في ليلة خروجه على قريش. وقد يقال: لا منافاة، لأن قوله: حتى لحق بالغار غاية لمطلق الخروج من بيته لا في خصوص تلك الليلة، أي خرج من بيته واستمر على خروجه حتى لحق بالغار وذلك في الليلة الثانية، لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت أبي بكر متقنعا في وقت الظهيرة فليتأمل. وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بخروجه إلى الهجرة وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، لأنه لم يكن بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من أمانته، أي ولعل إعلام عليّ بذلك كان عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بعلي رضي الله تعالى عنه بعد ذلك إلا في المدينة لكن سيأتي عن الدرّ ما يقتضي أنه اجتمع به عند خروجه من الغار. وفي الفصول المهمة «أنه صلى الله عليه وسلم وصى عليا رضي الله تعالى عنه بحفظ ذمته وأداء أمانته ظاهرا على أعين الناس، وأمره أن يبتاع رواحل للفواطم» : فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ولمن هاجر معه من بني هاشم ومن ضعفاء المؤمنين، وشراء علي رضي الله عنه الرواحل مخالف لما يأتي في الأصل «أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلي عليّ حلة وأرسل يقول: تشقها خمرا بين الفواطم، وهي فاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت عتبة، وفاطمة أم علي، وفاطمة بنته صلى الله عليه وسلم» وإرساله لتلك الحلة كان بعد وصوله إلى المدينة فليتأمل. قال في الفصول المهمة: وقال له: أي لعليّ «إذا أبرمت ما أمرتك به كن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وبقدوم كتابي عليك، وإذا جاء أبو بكر توجهه خلفي نحو بئر أم ميمون» وكان ذلك في فحمة العشاء، والرصد من قريش قد أحاطوا بالدار ينتظرون أن تنتصف الليلة وتنام الناس، ودخل أبو بكر على عليّ وهو يظنه: أي وأبو بكر يظن عليا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج نحو بئر أم ميمون، وهو يقول لك: أدركني، فحلقه أبو بكر، ومضيا جميعا يتسايران حتى أتيا جبل ثور فدخلا الغار، فليتأمل الجمع بينه وبين ما تقدم.

«ولما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل رضي الله تعالى عنه فجعل يلتمس بيده كلما رأى حجرا قال بثوبه فشقه، ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بجميع ثوبه، فبقي جحر، وكان فيه حية فوضع عقبه عليه، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الحية التي في الجحر لما أحست بعقب سيدنا أبي بكر جعلت تلسعه وصارت دموعه تتحدر» قال ابن كثير: وفي هذا السياق غرابة ونكارة «أي وقد كان صلى الله عليه وسلم وضع رأسه في حجر أبي بكر رضي الله تعالى عنه ونام، فسقطت دموع أبي بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما لك يا أبا بكر؟ قال: لدغت» بالدال المهملة والغين المعجمة «فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على محل اللدغة فذهب ما يجده» قال بعضهم: وقاه بعقبه فبورك في عقبه. قالت بعضهم: والسر في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رؤوسهم تعظيما للحية التي لدغت أبا بكر في الغار، أي لأنهم يزعمون أن ذلك على صورة تلك الحية. «ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي بكر: أين ثوبك؟ فأخبره الخبر» زاد في رواية «وأنه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه، فقال: من لدغة الحية، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا أخبرتني؟ قال: كرهت أن أوقظك فمسحه النبي صلى الله عليه وسلم فذهب ما به من الورم والألم» . أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما «وحين أخبره أبو بكر بذلك رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة، فأوحى الله تعالى إليه: قد استجاب الله لك» . وروي أنه لما صار يسد كل جحر وجده أصاب يده ما أدماها، فصار يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول: هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت وسيأتي أن هذا البيت من كلام ابن رواحة. وقيل من كلامه صلى الله عليه وسلم، وأنه يجوز أن يكون ابن رواحة ضم ذلك البيت لأبياته. ومما قد يؤيد أن ذلك من كلامه صلى الله عليه وسلم ما ذكره سبط ابن الجوزي «أن أبا بكر لما لحقه صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق ظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار فأسرع في المشي، فانقطع قبال نعله، ففلق إبهامه حجر فسال الدم، فرفع أبو بكر صوته ليعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه» . ومما يصرح بذلك ما رأيت عن جندب البجلي قال «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار

كذا فدميت أصبعه فذكر البيت المذكور» وأراد بالغار غارا من الغيران لا هذا الغار كما توهم. وجاء في الصحيحين عن جندب بن عبد الله «بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه حجر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت إلا إصبع دميت» .... البيت. «أي ويقال إنه صلى الله عليه وسلم دعا تلك الشجرة وكانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار وأنها كانت مثل قامة الإنسان وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها» أي نسجا متراكما بعضه على بعض أي كنسج أربع سنين كما قال بعضهم. وقد نسج العنكبوت أيضا على عبد الله بن أنيس رضي الله تعالى عنه لما قتل سفيان بن خالد وقطع رأسه وأخذها ودخل في غار في الجبل وكنّ فيه حتى انقطع عنه الطلب كما سيأتي. ونسج على نبي الله داود لما طلبه طالوت. ونسج أيضا على عورة سيدنا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وهو أخو الإمام محمد الباقر وعم الإمام جعفر الصادق، وهو الذي ينسب إليه الزيدية كان إماما مجتهدا، وكان ممن أخذ عن واصل بن عطاء الآخر عن الحسن البصري. ولما أثبت ابن عطاء المنزلة بين المنزلتين أمره الحسن البصري باعتزال مجلسه، فقيل له معتزلي، وصار يقال لأصحابه معتزلة. ولا يلزم من كون شيخ سيدنا زيد معتزليا أن يسلك زيد مسلكه. وصلب سيدنا زيد عريانا، وأقام مصلوبا أربع سنين، وقيل خمس سنين فلم تر عورته، وقيل إن بطنه الشريف ارتخى على عورته فغطاها. ولا مانع من وجود الأمرين. وكان عند صلبه وجهوه إلى غير القبلة فدارت خشبته التي صلب عليها إلى أن صار وجهه إلى القبلة، أي وقد وقع لخبيب نحو ذلك كما سيأتي، ثم أحرقوا خشبة زيد وجسده وذري رماده في الرياح على شاطىء الفرات، فإنه خرج على هشام بن عبد الملك وقد سمت نفسه للخلافة، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك، فانهزم أصحاب زيد عنه بعد أن خذله وانصرف عنه أكثرهم. فقد بايعه ناس كثير من أهل الكوفة وطلبوا منه أن يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر لينصروه، فقال: كلا، بل أتولاهما، فقالوا اذن نرفضك، فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فسموا بذلك من حينئذ رافضة. وجاءت إليه طائفة وقالوا: نحن نتولاهما ونبرأ ممن يبرأ منهما وقاتلوا معه فسموا الزيدية. أقول: والعجب ممن يتمذهب بمذهب سيدنا زيد، ويتبرأ من الشيخين

ويكرههما ويكره من يذكرهما بخير، بل ربما سبهما. وعند مقاتلته أصابته جراحات وأصابه سهم في جبهته وحال الليل بين الفريقين، فطلبوا حجاما من بعض القرى لينزع له النصل، فاستخرجه فمات من ساعته، فدفنوه من ساعته، وأخفوا قبره، وأجروا عليه الماء، واستكتموا الحجام ذلك، فلما أصبح الحجام مشى إلى يوسف بن عمر منتصحا وأخبره، ودله على موضع قبره، فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام. فكتب إليه هشام أن أصلبه عريانا فصلبه كذلك. ويقال إن هشام بن عبد الملك قال يوما لزيد: بلغني أنك تريد الخلافة ولا تصلح لك لأنك ابن أمة، فقال: قد كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرة، فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم، فقال له هشام: قم، قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره. ومن شعره: لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا قيل ورأس زيد دفنت بمصر القديمة بمسجد يقال له مشهد زيد العابدين بن الحسين. وكذلك وقع في طبقات الشيخ الشعراني، نفعنا الله به وببركاته، وليس كذلك؛ بل هو محل زيد بن زين العابدين كما ذكره المقريزي في الخطط، ويقال له زيد الأزياد. وذكر في حياة الحيوان أن ما ينسجه العنكبوت يخرج من خارج جلدها لا من جوفها وعن عليّ رضي الله تعالى عنه «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيوت يورث الفقر» . وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغاز: أي ويروى «أنهما باضتا» أي وفرختا، قال لأبي بكر: «ضع قدمك موضع قدمي، فإن الرمل لا ينم» وتقدم ما في ذلك: أي لأن المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليهم ذلك وخافوا ذلك وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة: أي الذين يقصون الأثر في كل وجه يقفون أثره، فوجدوا الذي ذهب إلى جبل ثور أثره، وقال ما تقدم. «وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم، أي ولما أقبلوا أشفق صلى الله عليه وسلم على صهيب وخاف عليه، وقال: واصهيباه ولا صهيب لي» أي لأنه تواعد معهما أن يكون ثالثهما «فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل له أبو بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله وجدت صهيبا يصلي فكرهت أن أقطع عليه صلاته، فقال أصبت» وتقدمت الحوالة على هذا. «فلما كان فتيان قريش على أربعين ذراعا من الغار تعجل بعضهم ينظر في الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين أي مع العنكبوت، فقال: ليس فيه أحد، فسمع

النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه أي دفع عنه» . وفي رواية «فلما انتهوا إلى فم الغار، قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم» أي حاجتكم إلى الغار «إنّ عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم» أي ولو دخل الغار لا نفتح ذلك العنكبوت وتكسر البيض. وهذا يدل على أن البيض لم يكن فرخ: أي ويحتمل أن بعض البيض فرخ وبعضه لم يفرخ «ثم جاء قبالة فم الغار فبال، فقال أبو بكر: يا رسول الله إنه يرانا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا» وفي بعض الروايات «لو رآنا ما تكشف عن فرجه» أي ما استقبلنا بفرجه وبوله، وقال أبو جهل: أما والله إني لأحسبه قريبا يرانا، ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا، فانصرفوا. وذكر ابن كثير أن بعض أهل السير ذكر أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لو جاؤونا من هاهنا لذهبنا من هاهنا، فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه. قال ابن كثير: وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا «ونهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العنكبوت، وقال: إنها جند من جند الله» انتهى. وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال «لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبها، ويقول: جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت عليّ وعليك يا أبا بكر» إلا أن البيوت تطهر من نسجها، أي ينبغي ذلك لما تقدم أن وجود نسجها في البيوت يورث الفقر. وفي الجامع الصغير «جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت على الغار» . أقول: فيه أن في الحديث «العنكبوت شيطان فاقتلوه» وفي لفظ «العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه» فإن صح وثبت تأخره فهو ناسخ له، وإن كان متقدما على ما هنا وصح ما هنا فهو منسوخ به والله أعلم، «وبارك صلى الله عليه وسلم على الحمامتين، وفرض جزاء الحمام وانحدرتا في الحرم فأفرختا كل شيء في الحرم من الحمام» أي ولأجل ذلك ذهب الغزالي من أئمتنا إلى صحة الوقف على حمام مكة دون غيره من الطيور وهو الراجح. ونظر في الإمتاع في كون حمام الحرم من نسل ذلك الزوج، فإنه روي في قصة نوح عليه الصلاة والسلام «أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض فوقعت بوادي الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء

فاختضبت رجلاها، ثم جاءته فمسح عنقها وطوّقها طوقا، ووهب لها الحمرة في رجليها، وأسكنها الحرم، ودعا لها بالبركة» . وفي شعر الحارث بن مضاض الذي أوله: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر ويبك لبيت ليس يؤذى حمامه ... يظل به أمنا وفيه العصافر ففي هذا الحمام قد كان في الحرم من عهد جرهم، أي ونوح. وذكر بعضهم «أن حمام مكة أظله صلى الله عليه وسلم يوم فتحها، فدعا له بالبركة» . ويروى «أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما رأى قريشا أقبلت نحو الغار خصوصا ومعهم القافة بكى، أي ويقال لما سمع القائف يقول لقريش: والله ما جاز مطلوبكم من هذا الغار حزن وبكى، وقال: والله ما على نفسي أبكي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا وأنزل الله تعالى سكينته على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي وأنزل عليه أمنته التي تسكن عندها القلوب» قيل قال له لا تحزن ولم يقل له لا تخف، لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النهي تأنيس وتبشير له كما في قوله تعالى له صلى الله عليه وسلم وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يونس: الآية 65] وبه يردّ ما زعمته الرافضة، أن ذلك غضبا من أبي بكر وذما له، لأن حزنه رضي الله تعالى عنه إن كان طاعة فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن الطاعة فلم يبق إلا أنه معصية. وفي رواية عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه» أي لأنهما علوا على رؤوسهما. فعن أبي بكر قال «نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» . قال بعضهم: كان معهما وثالثهما باللفظ والمعنى؛ أما باللفظ فكان يقال: يا رسول الله ويقال لأبي بكر، يا خليفة رسول الله، وأما بالمعنى فكان مصاحبا لهما بالنصر والهداية والإرشاد، والضمير في وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [التوبة: الآية 40] راجع النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك الجنود ملائكة أنزلهم الله تعالى عليه في الغار يبشرونه بالنصر على أعدائه. وروي «أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه عطش في الغار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى صدر الغار فاشرب، فانطلق أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك فشرب منه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهرا من جنة

الفردوس إلى صدر الغار لتشرب، قال أبو بكر: يا رسول الله، ولي عند الله هذه المنزلة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم وأفضل، والذي بعثني بالحق نبيا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبيا» . أي وذكر بعضهم قال: «كنت جالسا عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليقم، فقام رجل فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدني بثلاث حثيات من تمر، فقال أرسلوا إلى عليّ فجاء، فقال: يا أبا الحسن إن هذا يزعم كذا وكذا فاحث له فحثى له، فقال أبو بكر. عدوّها، فعدوها فوجدوها كل حثية ستين تمرة لا تزيد ولا تنقص، فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة من الغار: كفي وكف عليّ في العدد سواء» ذكر الذهبي أنه موضوع، ولعل قول الصديق صدق الله ورسوله علة لاختياره عليا على نفسه في أن يحثو، لا أن ذلك علة لكون كل حثية جاءت ستين حبة. «ولما أيست قريش منهما أرسلوا لأهل السواحل إن من أسر أو قتل أحدهما كان له مائة ناقة» أي ويقال إن أبا جهل أمر مناديا ينادي في أعلى مكة وأسفلها: من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير، وإلى قصة الغار أشار صاحب الهمزية بقوله: أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء وكفته بنسجها عنكبوت ... ما كفته الحمامة الحصداء واختفى منهم على قرب مرآ ... هـ ومن شدة الظهور الخفاء أي كانوا سببا لإخراجه من تلك الأرض التي هي مولده صلى الله عليه وسلم ومرباه ووطنه ووطن آبائه، بسبب مبالغتهم في إيذائه وإيذاء أصحابه خصوصا ضعفاءهم، وآواه غار وحمته منهم حمامة في لونها بياض وسواد، وكفته أعداءه عنكبوت بنسجها الذي كفته إياهم الحمامة الكثيرة الريش، فتلك الحمامة كانت ورقاء حصداء واستتر منهم مع قرب محل رؤيته. وحكمة خفائه واستتاره منهم مع ظهوره لهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه شدة ظهوره عليهم بالغلبة والمعونة الإلهية، ومكثا في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام يعرف ما يقال، يأتيهما حين يختلط الظلام ويدلج من عندهما بفجر فيصبح مع قريش كبائت في بيته فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه ويخبرهما به. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله تعالى عنهما كان مملوكا للطفيل فأسلم وهو مملوك، وكان ممن يعذب في الله عز وجل، فاشتراه أبو بكر من الطفيل وأعتقه كما تقدم، فكان يروح عليهما بمنحه غنم: أي قطعة من غنم أبي بكر، فكان

يراعها حيث تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما ثم يغلس: أي إذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفو أثر قدميه، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث: أي وذلك بإرشاد من أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ففي السيرة الهشامية: وأمر أبو بكر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن يستمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر. وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهارا، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها تأتيهما إذا أمست بما يصلحهما من الطعام. أقول: وفي الدر عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان أحد يعلم مكان ذلك الغار إلا عبد الله بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر، فإنهما كانا يختلفان إليهما وعامر بن فهيرة، فإنه كان إذا سرح غنمه مر بهما فحلب لهما. وفي الفصول المهمة «وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام بلياليها في الغار وقريش لا يدرون أين هو؟ وأسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها تأتيهما ليلا بطعامهما وشرابهما، فلما كان بعد الثلاث أمرها صلى الله عليه وسلم أن تأتي عليا وتخبره بموضعهما وتقول له يستأجر لهما دليلا ويأتي معه بثلاث من الإبل بعد مضي ساعة من الليلة الآتية: أي وهي الليلة الرابعة: فجاءت أسماء إلى علي كرم الله وجهه فأخبرته بذلك، فاستأجر لهما رجلا يقال له الأريقط بن عبد الله الليثي، وأرسل معه بثلاث من الإبل فجاء بهن إلى أسفل الجبل ليلا، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه» أي والذي في البخاري «فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا» . وتقدم أن المستأجر لهما للدليل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. وقد يجمع بأن المراد باستئجار علي رضي الله تعالى عنه إعطاؤه الأجرة، وكونه استأجر لهما ثلاث رواحل وأتى بها معه فيه نظر ظاهر، وركب النبي صلى الله عليه وسلم وركب أبو بكر وركب الدليل. وفي الدر المنثور «فمكث هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعليّ يجهزهما، فاشترى ثلاثة أباعر واستأجر لهم دليلا، فلما كان في بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم عليّ بالإبل والدليل» . فليتأمل ذلك مع ما قبله. وفي حديث مرسل «مكثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير» أي الأراك. وتقدم في باب رعية الغنم أن ثمر الأراك النضيج يقال له الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فثاء مثلثة.

قال ابن عبد البر: وهذا أي القول بأنهما مكثا في الغار بضعة عشر يوما غير صحيح عند أهل العلم بالحديث. قال الحافظ ابن حجر: والمراد كما قال الحاكم أنهما مكثا مختفيين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما، وذكر في الغار: أي الاقتصار عليه من بعض الرواة، والله أعلم. قال: وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما «أن أبا بكر أرسل ابنه عبد الله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف، وكان حين أسلم أربعين ألف درهم» وفي لفظ «أربعين ألف دينار» أي ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس رضي الله تعالى عنه «أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف دينار، فحمل إليه ذلك في الغار» قالت أسماء: فدخل علينا جدّي أبو قحافة رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وكان قد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه- يعني أبا بكر- قد فجعكم بماله مع نفسه فقالت: كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا، قالت فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة: أي طاقة في البيت كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا، ففي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ اهـ. أي ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه صلى الله عليه وسلم وكان مريضا فقال: لا عذر لي في مقامي بمكة فأمر أهله فخرجوا به، فلما وصل إلى التنعيم مات به، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النّساء: الآية 100] وقيل نزلت في خالد بن حرام بن خويلد بن أسد، أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، فمات من نهش حية قبل أن يصل. وجاء «أنه قال لحسان رضي الله تعالى عنه هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال نعم، قال: قل وأنا أسمع، فقال: وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدّو به إذ صاعدوا الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أي وفي لفظ «فتبسم، ثم قال صدقت يا حسان، هو كما قلت» إنه أحب البرية إليه، أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعدل به غيره. أقول: في ينبوع الحياة: والذي أعرف في هذين البيتين، أنهما من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر رضي الله تعالى عنهما هذا كلامه. وقد يقال: لا مانع أن يكون أدخلهما حسان في مرثيته لأبي بكر بعد ذلك،

والله أعلم. وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال لجماعة: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل أنا أقرأ، فلما بلغ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ [التّوبة: الآية 40] بكى وقال: أنا والله صاحبه. وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال «رآني رسول الله أمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو أفضل منك في الدنيا والآخرة؟ فو الذي نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أتاني جبريل فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا بكر» وعن أنس قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «حب أبي بكر واجب على أمتي» .

باب الهجرة إلى المدينة

باب الهجرة إلى المدينة لا يخفى أنه لما كان صبيحة الليلة الثالثة من دخولهما الغار على ما تقدم، جاءهما الدليل الذي هو الرجل الدؤلي براحلتيهما، فركبا وانطلق بهما وانطلق معهما عامر بن فهيرة: أي رديفا لأبي بكر يخدمهما، أي وفي البخاري «أن أبا بكر كان رديفا له صلى الله عليه وسلم» أي ولا مخالفة لما سيأتي. ويروى «أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار وركب أخذ أبو بكر بغرزه» أي بركابه، والغرز بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة وزاي: ركاب الإبل خاصة «فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أبشرك؟ قال بلى فداك أبي وأمي، قال: إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة، ويتجلى لك خاصة» قال الخطيب: هذا الحديث لا أصل له. قال السيوطي: رأيت له متابعات «ودعا صلى الله عليه وسلم بدعاء منه: اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي» . «وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل، وصار أبو بكر إذا سأله سائل عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الذي معك» أي وفي رواية: «من هذا الذي بين يديك؟» وفي رواية: «من هذا الغلام بين يديك» أي بناء على أنه كان رديفا له صلى الله عليه وسلم يقول: هذا الرجل يهديني الطريق يعني طريق الخير، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر «أله الناس» أي أشغل الناس عني: أي تكفل عني بالجواب لمن سأل عني، فإنه لا ينبغي لنبيّ أن يكذب: أي ولو صورة كالتورية، فكان أبو بكر يقول لمن سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر، وإنما لم يسأل أبو بكر عن نفسه، لأن أبا بكر كان معروفا لهم، لأنه كان يكثر المرور عليهم في التجارة للشام: أي معروفا لغالبهم، فلا ينافي ما جاء في بعض الروايات أنه كان إذا سئل من أنت؟ يقول: باغي أي طالب حاجة، فعلم أن الأنبياء لا ينبغي لهم الكذب ولو صورة، ومن ذلك التوراة، لكن سيأتي في غزوة بدر وقوع التوراة منه صلى الله عليه وسلم. وفي رواية «ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء أبي بكر ناقته» وفي التمهيد لابن عبد البر «أنه لما أتي براحلة أبي بكر سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنت اركب وأردفك أنا، فإن الرجل أحق بصدر دابته، فكان إذا قيل له من هذا وراءك؟ قال: هذا يهديني السبيل» . أقول: لا مخالفة بين هذا وما تقدم، لأنه يجوز أن يكون ركب صلى الله عليه وسلم تارة خلف

أبي بكر على ناقة أبي بكر، وتارة ركب صلى الله عليه وسلم على ناقة نفسه أمامه، وأن ركوبه لها كان في أثناء الطريق، ويكون صلى الله عليه وسلم إما أركب راحلته عامر بن فهيرة، أو ترك ركوبها لأجل إراحتها، والهداية كما تكون من المتقدم تكون من المتأخر، وإن كان الأوّل هو الغالب والله أعلم، وإلى توجهه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أشار صاحب الهمزية بقوله: ونحا المصطفى المدينة واشتا ... قت إليه من مكة الأنحاء أي وقصد صلى الله عليه وسلم المدينة واشتاقت إليه الجهات والنواحي من مكة. وقد جاء «أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرا وبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله تعالى عليه إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: الآية 85] أي إلى مكة» . وأهل الرجعة يقولون إلى الدنيا: أي من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى، وقد أظهرها عبد الله بن سبأ، كان يهوديا وأمه يهودية سوداء؛ ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، أظهر الإسلام في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، وقيل في خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: الآية 85] فمحمد أحق بالرجعة من عيسى عليهما الصلاة والسلام، وتقدم ذلك في أثناء الكلام على بدء الوحي، وسيأتي ذلك عند بناء المسجد. وكانت قريش كما تقدم أرسلت لأهل السواحل أن من قتل أو أسر أبا بكر أو محمدا كان له مائة ناقة، أي فمن قتلهما أو أسرهما كان له مائتان. فعن سراقة قال «جاءنا رسل كفار قريش يجعلون فيهما إن قتلا أو أسرا ديتين، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج: أي بقديد وهو محل قريب من رابغ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت أسودة: أي أشخاصا بالسواحل أراه محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا: أي بمعرفتنا يطلبون ضالة لهم، أي وفي لفظ «قال رأيت ركبة بالتحريك جمع راكب ثلاثا مروا عليّ آنفا» أي قريبا «إني لأراهم محمدا وأصحابه. قال سراقة: فأومأت إليه أن أسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت إلى منزلي، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي خفية إلى بطن الوادي وتحبسها عليّ، وأخذت رمحي وخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه في الأرض» والزج الحديدة التي تكون في أسفل الرمح «وخفضت عاليه» أي أمسكت بأعلاه «وجعلت أسفله في الأرض لئلا يراه أحد» وإنما فعل ذلك كله ليفوز بالجعل المتقدم ذكره،

ولا يشركه فيه أحد من قومه بخروجه معه لقتلهما أو أسرهما، زاد في رواية «ثم انطلقت فلبست لأمتي، وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء يعني قومه. قال: حتى أتيت فرسي» أي وكان يقال لها العود، والفرس لغة تقع على الذكر والأنثى. قال في النور: والمراد هنا الأنثى، لقوله «فركبتها» أي بالغت في إجرائها «حتى دنوت منهم» .. وفي لفظ: «فرفعتها تقرب بي» وحينئذ يكون المراد أسرعت بالسير بها، لأن التقريب دون العدو وفوق العادة «فعثرت بي فرسي» أي فوقعت لمنخريها كما في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما. زاد في رواية «ثم قامت تحمحم، فخررت عنها، فقمت فأهويت بيدي على كنانتي فاستخرجت الأزلام» أي وهي عيدان السهام التي لا ريش لها ولم تركب فيها النصال «واستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره وهو عدم إضرارهم» أي لأنه مكتوب عليها افعل لا تفعل، ويقال للأوّل الآمر، ويقال للثاني الناهي «فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت» أي غابت «يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، أي وكانت الأرض جلدة فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان» أي غبار «ساطع في السماء مثل الدخان أي مع كون الأرض جلدة، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان: أي وقلت أنظروني لا أوذيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه» . أي وفي رواية: «ناديت القوم، وقلت أنا سراقة بن مالك، انظروني أكلمكم، أنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي فزعوا لركوبي: أي أن بلغهم ذلك وأنا راجع رادّهم عنكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: قل له: ماذا تبتغي؟ فوقفوا فأخبرتهم بما تريد الناس منهم» . وفي رواية «قال يا محمد ادع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي» وفي رواية قال «يا هذان ادعوا لي الله ربكما، ولكما أن لا أعود ففعل: أي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الفرس» وحينئذ يكون زجره لها ونهوضها بعد الدعاء فلا مخافة، «قال: فركبت فرسي» أي بعد نهوضها «حتى جئتهم، فقلت: إن قومك جعلوا فيك الدية: أي مائة من الإبل لمن قتلك أو أسرك» وهذا هو المراد بقوله في الرواية السابقة فأخبرتهم بما يريد الناس منهم، وكأنه رأى أن ذلك كاف في لحوقه بهم عن ذكر أبي بكر. «قال سراقة وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يقبلا وقالا: اخف عنا» أي وفي رواية «عرضت عليهما الزاد والحملان» أي ولعل الحملان هو المراد بالمتاع، أي لأنه جاء «أنه قال لهما خذا هذا السهم من كنانتي، وغنمي وإبلي

بمحل كذا وكذا فخذا منهما ما شئتما، فقالا: اكفنا نفسك، فقال: كفيتماهما» . أقول: وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم «يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في إبلك ومواشيك» . وفي رواية عن أبي بكر رضي الله عنه، قال «لما أدركنا سراقة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا قال لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: الآية 40] أي وقد تقدم أنه قال ذلك له في الغار فلما، كان بيننا وبينه قيد: أي مقدار رمح أو ثلاثة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت، قال: لم تبكي؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة» أي ولا يخالف ما سبق أنها بلغت الركبتين، لجواز أن يكون ذلك في أوّل أمرها، ثم صارت إلى بطنها، وذلك كله في المرة الأولى، فلا يخالف ما في الإمتاع «لما قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت يدا فرسه في الأرض إلى بطنها، فقال: ادع لي يا محمد أن يخلصني الله تعالى ولك عليّ أن أرد عنك الطلب، فدعا فخلص فعاد فتبعهم، فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك عليّ» الحديث إذ هو يدل على أنها في المرة الأولى وصلت إلى بطنها؛ وفي الثانية وصلت إلى ما هو زائد على ذلك. وقد يدل له ما يأتي عن الهمزية، ولعل المراد أنه دخل جزء من بطنها في الأرض في المرة الثانية. وفي لفظ «فقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمينّ على من ورائي من الطلب، فدعا له فانطلق راجعا» . وفي السبعيات للهمداني «أن سراقة لما دنا منه صلى الله عليه وسلم صاح وقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعني الجبار الواحد القهار، ونزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: جعلت الأرض مطيعة لك فأمرها بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أرض خذيه فأخذت الأرض أرجل جواده إلى الركب، فساق سراقة فرسه فلم يتحرك، فقال: يا محمد الأمان وعزة العزى لو أنجيتني لأكونن لك لا عليك، فقال: يا أرض أطلقيه فأطلقت جواده» . وروي في بعض التفاسير أن سراقة عاهد سبع مرات ثم ينكث العهد، وكلما ينكث العهد تغوص قوائم فرسه في الأرض؛ وهذا أي الاقتصار على غوص قوائم فرسه في الأرض لا ينافي الزيادة، فلا يخالف ما سبق، وفي السابغة تاب توبة صدق. وفي الفصول المهمة «لما اتصل خبر مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذلك في اليوم الثاني من خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار جمع الناس أبو جهل وقال: بلغني أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان آخران، فأيكم يأتيني بخبره فوثب

سراقة، فقال، أنا لمحمد يا أبا الحكم. ثم إنه ركب راحلته واستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له أسود كان ذلك العبد من الشجعان المشهورين فسارا: أي في أثر النبي صلى الله عليه وسلم سيرا عنيفا حتى لحقا به، فقال أبو بكر: يا رسول الله قد دهينا، هذا سراقة قد أقبل في طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور، فلما أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم، فلما قرب منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اكفنا أمر سراقة بما شئت وكيف شئت وأن شئت؛ فغابت قوائم فرسه في الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك، فلما نظر سراقة إلى ذلك هاله ورمى نفسه عن الفرس إلى الأرض ورمى رمحه وقال: يا محمد أنت أنت وأصحابك، أي أنت كما أنت أي آمن وأصحابك، فادع ربك يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده قال: فأطلق الله تعالى قوائم فرسه حتى وثب على الأرض سليما» أي ولعل هذا في المرة الثانية أو المرة الأخيرة من السبع على ما تقدم، وتقدم أن الاقتصار على القوائم لا ينافي الزيادة عليها، فلا يخالف ما سبق في هذه الرواية «ورجع سراقة إلى مكة فاجتمع الناس عليه فأنكر أنه رأى محمدا، فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصة» وفي ذلك يقول سراقة مخاطبا لأبي جهل: أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه؟ وسياق هذه الرواية يدل على أنه خرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، ويدل لذلك ما ذكر أنه كان أحد القاصين لأثره صلى الله عليه وسلم في الجبل؛ لكنه مخالف لما تقدم أنه خرج خلفه صلى الله عليه وسلم من قديد من مجلس قومه وأخفى خروج فرسه وخروجه عن قومه. وقد يقال: لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون لما خرج من مكة سلك طريقا غير الطريق الذي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجده وسبقه على قديد فجلس في مجلس قومه؛ فلما أخبر بمرورهم فعل ما تقدم ثم وجد عبده الأسود في مروره وكان معه راحلته فركبها واستجنب فرسه وصحب عبده. ولا مانع أن يخرج من مكة بعد خروجهم من الغار، ويسبقهم على قديد. ولا ينافي ذلك قوله فأتانا رسل كفار قريش، لأنه يجوز أن يكون ذلك هو الحامل لسراقة على الذهاب إلى مكة لعله يجده بطريقة. ولا ينافي ذلك كونه كان أحد القصاصين لأثره صلى الله عليه وسلم، لأنه يجوز أن يكون عاد إلى قديد قبل أن يجعل الجعل. وفي كلام بعضهم أنه أرسل بهذين البيتين إلى أبي جهل. ولا منافاة لجواز أن يكون أرسل بهما قبل أن يشافهه بهما.

وفي رواية «أنه لما لحق بهم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اصرعه فصرع عن فرسه، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: تقف مكانك لا تتركنّ أحدا يلحق بنا» . ثم لا يخفى أن صرعه عن فرسه يحتمل أن يكون لما ساخت. ويحتمل أنه صرع عنها قبل ذلك وهو ظاهر سياق الرواية الأولى وهي: فعثرت بي فرسي فخررت عنها. وحينئذ يكون عثورها بدعائه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. قال سراقة «فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، لأنه وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وفي السبعيات «قال سراقة: يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر أمرك في العالم؛ وتملك رقاب الناس، فعاهدني أني إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني، فأمر عامر بن فهيرة، أي وقيل أبا بكر فكتب لي في رقعة من أدم، أي وقيل في قطعة من عظم، وقيل في خرقة» . أقول: وحينئذ يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا فطلب سراقة أن يكون أبو بكر هو الذي يكتب، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة ذلك، فأحدهما كتب في الرقعة من الأدم، والآخر كتب في العظم أو الخرقة. أو المراد بالخرقة الرقعة من الأدم، فلا مخالفة. «ولما أراد الانصراف قال له: يكف بك يا سراقة إذا تسورت بسواري كسرى؟ قال كسرى بن هرمز؟ قال نعم» وسيأتي أن سراقة أسلم بالجعرانة، ولما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها قال له مرحبا بك. وعن سراقة «لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة، فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك، ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابي وأنا سراقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم وفاء وبشر، أدنه، فدنوت منه وأسلمت» . ولما جيء لعمر رضي الله تعالى عنه في زمن خلافته بسواري كسرى وتاجه ومنطقته أي وبساطه وكان ستين ذراعا في ستين ذراعا، منظوما باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع، كان يبسط له في إيوانه ويشرب عليه إذا عدمت الزهور- وجيء له بمال كثير من مال كسرى وبنات كسرى وكنّ ثلاثا وعليهنّ الحليّ والحلل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه. وعند ذلك دعا سراقة وقال: ارفع يديك وألبسه السوارين وقال له: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك: أي ورفع عمر بها صوته

وصبّ المال الذي جيء به من أموال كسرى في صحن المسجد، وفرقه على المسلمين، ثم قطع البساط وفرقه بين المسلمين، فأصاب عليا رضي الله تعالى عنه منه قطعة باعها بخمسين ألف دينار. ثم جيء ببنات الملك الثلاث فوقفن بين يديه، وأمر المنادي أن ينادي عليهنّ، وأن يزيل نقابهنّ عن وجوههنّ ليزيد المسلمون في ثمنهن، فامتنعن من كشف نقابهن ووكزن المنادي في صدره فغضب عمر رضي الله تعالى عنه وأراد أن يعلوهن بالدرة وهن يبكين، فقال له علي رضي الله تعالى عنه: مهلا يا أمير المؤمنين، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ارحموا عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر» فسكن غضبه، فقال له علي: إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة، فقال له عمر: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ فقال: يقوّمن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن، فقومن وأخذهن علي رضي الله تعالى عنه، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر فجاء منها بولده سالم، وأخرى لمحمد بن أبي بكر فجاء منها بولده القاسم، والثالثة لولده الحسين فجاء منها بولده عليّ الملقب بزين العابدين وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علما وورعا، وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسريّ، فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه. ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب وأعجب سعيد بي يوما، فقال لي: من أخوالك؟ فقلت: أمي فتاة، فكأني نقصت من عينه، فأنا عنده إذ دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر، فلما خرج من عنده، قلت له: يا عم من هذا؟ قال: سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله بن عمر، قلت فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل القاسم بن محمد فجلس عنده ثم نهض، فلما خرج قلت: يا عم من هذا؟ قال: ما أعجب أمرك! أتجهل مثل هذا؟ قال القاسم بن محمد بن أبي بكر، قلت: فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل عليه علي بن الحسين فجلس ثم نهض، فلما خرج قلت له: من هذا؟ قال: عجبت منك! أتجهل مثل هذا؟ هذا علي زين العابدين بن الحسين، قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة. قلت: يا عمي رأيتني نقصت من عينك لما علمت أن أمي فتاة فما لي في هؤلاء أسوة؟ فقال: أجل وعظمت في عينه جدا. ولما رجع سراقة صار يردّ عنهم الطلب، لا يلقى أحدا إلا ردّه، يقول: سيرت أي اختبرت الطريق فلم أراد أحدا. وفي لفظ قال لقريش: أي الجماعة منهم قصدوه صلى الله عليه وسلم كأنهم أخبروا بمكان مسيره ذلك: قد عرفتم بصرى بالطريق، وقد سرت فلم أر شيئا فرجعوا» أي فإن كفار قريش لما سمعوا من الهاتف أي ومن غيره بأنه صلى الله عليه وسلم نزل في خيمة أم معبد كما سيأتي، أرسلوا سرية في طلبه، يقول قائلهم: اطلبوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب، فيحتمل أن هؤلاء هم الذين ردهم سراقة، فكان

سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة أي سلاحا له. وفي رواية «قال سراقة: خرجت وأنا أحب الناس في تحصيلهما، ورجعت وأنا أحب الناس في أن لا يعلم بهما أحد» ويحتمل أنه بعد أن ردهم سراقة ذهبوا إلى أمّ معبد. ففي تتمة الخبر: أن تلك السرية جاءت إلى أمّ معبد فسألوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشفقت: أي خافت عليه منهم، فتعاجمت عليهم: أي أظهرت عدم علمها بذلك؛ فقالت: إنكم تسألوني عن أمر ما سمعت به قبل عامي هذا، ثم قالت: لئن لم تنصرفوا عني لأصرخنّ في قومي عليكم وكانت في عز من قومها، فانصرفوا ولم يعلموا أين توجه: أي من أي طريق توجه، أي ولعلها قالت لهم ذلك لما رأت منهم التثقيل عليها وهذا السياق يدل على أن قصة سراقة قبل قصة أمّ معبد، وإلى قصة سراقة أشار صاحب الأصل بقوله: غرّت سراقة أطماع فساخ به ... جواده فانثنى للصلح مطلبا وإليها أشار أيضا صاحب الهمزية بقوله: واقتفى أثره سراقة فاسته ... وته في الأرض صافن جرداء ثم ناداه بعد ما سيمت الخس ... ف وقد ينجد الغريق النداء أي وتبع أثره سراقة، فهوت: أي سقطت به صافن، وهي الفرس التي تقوم على ثلاث قوائم وتقيم الرابعة على طرف الحافر، وهو وصف محمود في الخيل. جرداء، قصيرة الشعر، وذلك وصف محمود في الخيل أيضا بعد أن قاربت أن يخسف بها كلها. وقد يخلص الدعاء الغريق، كما وقع ليونس صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه. قال: وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه «أنه قال: سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد، رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسوّيت بيدي مكانا ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ثم بسطت له فروة معي، ثم قلت: يا رسول الله نم وأنا أتجسس وأتعرّف من تخافه فنام صلى الله عليه وسلم وإذا براع يقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردناه: أي وهو الظل، فلقيته، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال لرجل من أهل مكة فسماه فعرفته» أي وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم هذا الراعي ولا على اسم صاحب الغنم «قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال نعم، فأخذ شاة فحلب لي في قعب معه» وفي رواية في إداوة معي على فيها خرقة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكرهت أن أوقظه من نومه، فوقفت

حتى أستيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب، لأنه جرت العادة بإباحة مثل ذلك لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك، فكان كل راع مأذونا له في ذلك أي كما تقدم، فلا ينافي ما جاء «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» أو أن هذا الحديث محمول على فعل ذلك اختلاسا من غير معرفة الراعي. وأما قول بعضهم «إنما استجاز شربه لأنه مال حربي، ففيه نظر، لأن الغنائم: أي أموال الحربيين لم تكن أبيحت له حينئذ؛ ثم قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يأن للرحيل؟ قلت بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس» انتهى. أي وفي رواية «أن أبا بكر، قال: قد آن الرحيل يا رسول الله» أي دخل وقته، قال الحافظ ابن حجر: يجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل فقال له أبو بكر: بلى، ثم أعاد عليه بقوله قد آن الرحيل «واجتازوا في طريقهم بأمّ معبد» أي واسمها عاتكة، وكان منزلها بقديد، أي وهو محل سراقة كما تقدم، ولعلها كانت بطرفه الأخير الذي يلي المدينة، ومنزل سراقة بطرفه الذي يلي مكة وكانت مسافته متسعة فليتأمل. «وكانت أمّ معبد امرأة برزة جلدة تختبي بفناء بيتها وتطعم وتسقي وهي لا تعرفهم، أي وسألوها لحما وتمرا» أي وفي رواية «أو لبنا يشترونه، فقالت: والله لو كانت عندنا شيء ما أعوزناكم» أي للشراء، وفي رواية «ما أعوزناكم القرى» لأنهم كانوا مسنتين: أي مجدبين «فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم معبد هل عندك من لبن؟ قالت: لا والله، فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم» أي لم تطق اللحاق بها لما بها من الهزال «قال هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك قال: أتأذنين في حلابها؟ قالت: والله ما ضربها من فحل قط فشأنك» أي أصلح شأنك «بها إن رأيت منها حلبا فاحلبها، فدعا بها فمسح ظهرها بيده» أي وفي رواية «فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا فقال ادع هذه الشاة، ثم قال: يا غلام هات فرقا، فمسح ظهرها» وفي رواية «فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله تعالى، أي وقال: اللهم بارك لنا في شاتنا فدرت واجترت وتفاحجت» أي فتحت ما بين رجليها للحلب «ثم دعا بإناء يربض الرهط» أي يرويهم بحيث يغلب عليهم الريّ فيربضون وينامون. والرهط من الثلاثة للعشرة، وقيل من التسعة إلى الأربعين «فحلب فيها ثجا» أي بقوة لكثرة اللبن. ومن ثم قال «حتى علاه البهاء» وفي رواية «حتى علته الثمالة» بضم المثلثة: أي الرغوة. وفي رواية «فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا عللا بعد نهل» أي مرة ثانية بعد الأولى «ثم شرب صلى الله عليه وسلم، فكان آخرهم شربا» وقال «ساقي القوم آخرهم شربا» ثم حلب فيه وغادره» أي تركه عندها وارتحل، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي بقوله في تائيته:

مسحت على شاة لدى أم معبد ... بجهد فألفتها أدرّ حلوبة وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة: درت الشاة حين مرت عليها ... فلها ثروة بها ونماء أي أرسلت الشاة لبنها حين مرت راحته الشريفة على تلك الشاة فلتلك الشاة بسبب تلك الراحة كثرة لبن وزيادة. وعن أم معبد: أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى سنة ثماني عشرة، وقيل سبع عشرة من الهجرة، ويقال لتلك السنة عام الرمادة: أي وكانت تلك السنة أجدبت الأرض إجدابا شديدا، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس ويذبح الرجل الشاة فيعافها، أي لخبث لحمها، وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، وعند ذلك آلى عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يذوق لبنا ولا سمنا ولا لحما حتى تحيا الناس: أي يجيء عليهم الحيا وهو المطر، وقال: كيف لا يعنيني شأن الرعية إذ لم يمسني ما مسهم، وهذا السياق يدل على أن الذي حلبه صلى الله عليه وسلم عند أم معبد شاة واحدة. وفي تاريخ العيني شارح البخاري، قال يونس «عن ابن إسحاق أنه دعا ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى، وقال اشربي يا أم معبد، فقالت اشرب اشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك، فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة، وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد، فسألوا عنه صلى الله عليه وسلم، ووصفوه لها، فقالت: ما أدري ما تقولون قد ضافني حالب الحائل، فقالوا: ذلك الذي نريده» . وعند قول عمر رضي الله تعالى عنه ذلك، قال كعب لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء، فقال عمر: هذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، وصنو أبيه، وسيد بني هاشم يعني العباس، فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس، فصعد عمر المنبر ومعه العباس، وقال: اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنوا أبيه صلى الله عليه وسلم فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين؛ ثم قال عمر للعباس: يا أبا الفضل قم وادع، فقام وحمد الله وأثنى عليه ودعا بدعاء منه: اللهم شفعنا في أنفسنا وأهلينا. اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع. اللهم إنا لا نرجو إلا إياك، ولا ندعو غيرك، ولا نرغب إلا إليك، فسقوا قبل أن يصلوا إلى منازلهم، وخاضوا في الماء وأخصبت الأرض، وعاش الناس، فقال عمر: هذا والله هو الوسيلة إلى الله تعالى، فصار الناس يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئا لك، سقينا في الحرمين.

وذكر السهيلي أن جماعة كانت مقبلة إلى المدينة في ذلك اليوم فسمعوا صائحا يصيح في السحاب. أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص. هذا، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي في الصواعق عن تاريخ دمشق أن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا، فقال عمر رضي الله تعالى عنه، لأستسقين غدا بمن يسقيني الله به، فلما أصبح غدا للعباس رضي الله تعالى عنه فدق عليه الباب، فقال من؟ قال: عمر، قال: ما حاجتك؟ قال: اخرج حتى نستسقي الله بك، قال اقعد، فأرسل إلى بني هاشم أن تطهروا، والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه، وأخرج طيبا وطيبهم، ثم خرج وعليّ أمامه بين يديه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره، وقال يا عمر لا تخلط بنا غيرنا، ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا، وعلمت ما نحن عاملون قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا. اللهم فكما تفضلت علينا في أوله فتفضل علينا في آخره. قال جابر: فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا، فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا، فقال العباس: أنا ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي خمس مرات، أشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرات فسقي، هذا كلامه فلينظر الجمع. قال ابن شهاب: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون للعباس فضله ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه: أي وكان لا يمر عمر وعثمان وهما راكبان إلا ترجلا حتى يجوز العباس، وربما مشيا معه إلى بيته إجلالا له، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال «احفظوني في العباس، فإنه عمي وصنو أبي» وفي رواية «فإنه بقية آبائي» . قالت أم معبد في وصف تلك الشاة «وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا» أي بكرة وعشية وما في الأرض قليل ولا كثير: أي مما يتعاطى الدواب أكله «ولما جاء زوجها أبو معبد» قال السهيلي: لا يعرف اسمه، وقيل اسمه أكثم بالثاء المثلثة كما تقدم، وقيل خنيس، وقيل عبد الله «جاء عند المساء يسوق أعنزا عجافا، ورأى اللبن الذي حلبه صلى الله عليه وسلم عجب، وقال: يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوب في البيت؟ أي والشاة عازب» أي لم يطرقها فحل، لكن رأيته في النور فسر العازب بالبعيدة المرعى التي لا تأوي إلى المنزل في الليل. وفي الصحاح: العازب الكلأ البعيد الذي لم يؤكل ولم يوطأ. قالت: «مرّ بنا رجل مبارك، قال: صفيه، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه» أي مشرقه «في أشفاره» أي أجفان عينيه أي شعرها النابت بها «وطف» أي طول «وفي عينيه دعج» أي شدة سواد في بياض، أي وهذا هو الحور، ومن ثم

فسر بعضهم الدعج بشدة السواد. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بياض عينيه شديد البياض، بل كان أشكل العين. والشكلة: حمرة في بياض العين، وهو دليل الشهامة، وهي من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة كما تقدم «وفي صوته صحل» أي بحة بضم الموحدة، أي ليس حاد الصوت «غصن بين الغصنين، لا تشنؤه من طول» أي لا تبغضه لفرط طوله «ولا تقتحمه من قصر» أي تحتقره من قصره «لم تعبه ثجلة» أي عظم البطن وكبرها «ولم تزر به صعلة» أي صغر الرأس، «كأن عنقه إبريق فضة» أي والإبريق السيف الشديد البريق «إذا نطق فعليه البهاء، وإذا صمت فعليه الوقار، له كلام كخرزات النظم، أزين أصحابه منظرا، وأحسنهم وجها، أصحابه يحفون به، إذا أمر ابتدروا أمره، وإذا نهى انتهوا عند نهيه» . قال: وفي لفظ «أنها قالت: رأيت رجلا ظاهرا الوضاءة أبلج الوجه» أي مشرقه «حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزره صعلة، وسيما قسيما» أي حسنا «في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل» أو قالت «صهل، أحور أكحل» أي في أجفان عينيه سواد خلقه «وفي عنقه سطع» أي نور «وفي لحيته كثافة» أي لا طويلة ولا دقيقة «أزج» أي رقيق طرف «الحاجب، أقرن» أي مقرون الحاجبين «شديد سواد الشعر، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما به» أي ارتفع على جلسائه «وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة لا تشنؤه» أي تبغضه «من طول» أي من فرط طوله «ولا تقتحمه عين من نظر» أي لا تتجاوزه إلى غيره اختيارا له «غصنا بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا؛ له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر ابتدروا إلى أمره، محفود مخدوم محشود، له حشد وجماعة، لا عابس ولا مفند» أي يكثر اللوم اهـ «قال: هذه والله صفة صاحب قريش، ولو رأيته لاتبعته، ولأجتهدن أن أفعل» . أي وفي الإمتاع «ويقال إنها» أي أم معبد «ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها، ووضعت لهم في سفرتهم منها ما وسعته تلك السفرة، وبقي عندها أكثر لحمها» . وفي الخصائص الكبرى «أنه صلى الله عليه وسلم بايعها» أي أسلمت قبل أن يرتحلوا عنها. وفي كلام ابن الجوزي أن أم معبد هاجرت وأسلمت وكذا زوجها هاجر وأسلم. أقول: في شرح السنة للبغوي: وهاجرت هي وزوجها؛ وأسلم أخوها حبيش بن الأصفر، واستشهد يوم الفتح، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك، ويقال إن زوجها خرج في أثرهم فأدركهم، وبايعه صلى الله عليه وسلم ورجع. وفي الأجوبة المسكتة لابن عون، قيل لأم معبد: ما بال صفتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم

أشبه به من سائر صفات من وصفه: أي من الرجال، فقالت: أما علمتم أن نظر المرأة من الرجل أشفى من نظر الرجل إلى الرجل؟. وفي ربيع الأبرار للزمخشري عن هند بنت الجون «أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بخيمة خالتها أم معبد قام من رقدته، فدعا بماء فغسل يديه، ثم تمضمض ومجّ ذلك في عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت وهي أعظم دوحة» أي شجرة ذات فروع كثيرة «وجاءت بثمر كأعظم ما يكون، في لون الورس، ورائحة العنبر، وطعم الشهد، ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برىء، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا درّ فكنا نسميها المباركة، فأصحبنا في يوم من الأيام وقد سقط ثمرها واصفر ورقها ففزعنا لذلك، فما راعنا إلا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال: والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة. وعن أم معبد أنها قالت: مرّ علي خيمتي غلام سهيل بن عمرو ومعه قربتان، فقلت ما هذا؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مولاي: يستهديه ماء زمزم فأنا أعجل السير كي لا تنشف القرب، أي فإنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمرو «إن جاءك كتابي ليلا فلا تصبحن، أو نهارا فلا تمسين حتى تبعث إليّ من ماء زمزم» فجاء بقربتين فملأهما من ماء زمزم وبعث بهما على بعير مولاه أزهر» ولا زال كفار قريش بمكة لا يعلمون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا يذكرهما ويذكر أم معبد في أبيات، منها: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد فعلموا توجهه ليثرب: أي وفي طريق اليمن محل يقال له الدهيم وبئر أم معبد، قال بعضهم: وليست بأم معبد التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة. ويجوز أن يكون الخبر الذي وصل إليهم في اليوم الثاني من خروجه من الغار هو قول هذا الهاتف أو عقبه من شخص رآهم، وإلى قول الهاتف أشار صاحب الهمزية بقوله: وتغنت بمدحه الجن حتى ... أطرب الإنس منه ذاك الغناء أي وأظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الحميدة في صورة الغناء الذي تتولع به النفس حتى أطرب ذلك الغناء الإنس حيث سمعوه، وأما قول بعضهم إنهم علموا ذلك من هاتف هتف بقوله: إن يسلم السعدان يصبح محمد ... من الأمر لا يخشى خلاف المخالف فقالوا: السعود سعد بن بكر وسعد بن زيد مناة، وسعد هديم، فلما كانت

القابلة سمعوا ذلك الهاتف يقول: فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف فقالوا: سعد الأوس سعد بن معاذ، وسعد الخزرجين سعد بن عبادة، ففيه نظر، لأن السعدين المذكورين كانا أسلما قبل ذلك؟ فلا يحسن قوله إن يسلم السعدان. أقول: يجوز أن تكون أن هنا بمعنى إذ: أي صيرورته صلى الله عليه وسلم آمنا لا يخشى خلاف المخالف لأجل إسلام السعدين، أو المراد دوامهما على الإسلام، على أنه ذكر في الأصل إن إنشاد هذين البيتين وسماع أهل مكة له كان قبل إسلام سعد بن معاذ. وذكر بعضهم أن السعود من الأنصار سبعة: أربعة من الأوس: سعد بن معاذ، وسعد بن خيثمة، وسعد بن عبيد، وسعد بن زيد، وثلاثة من الخزرج: سعد بن عبادة، وسعد بن الربيع وسعد بن عثمان أبو عبيدة، والله أعلم. قال: وتقديم قصة سراقة على قصة أم معبد هو ما في الأصل، وقد التزم فيه ترتيب الوقائع وقضية الترتيب ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة لأنه الصحيح الذي صرح به جماعة اهـ. أقول: ومما يدل لذلك ما تقدم من أن كفار قريش لم يعلموا أين توجه صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا الهاتف يذكر أم معبد. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل وقفوا على الباب فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: والله لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمة خرم منها قرطي، أي وفي لفظ: طرح منها قرطي. والقرط: ما يعلق في شحمة الأذن، قالت. ثم انصرفوا فمضى ثلاث ليال ولم ندر أي توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يغني بأبيات وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته حتى خرج بأعلى مكة يقول: جزى الله رب الناس الأبيات كذا في الأصل. وفيه أن قولها لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في خروجه للغار، وقولها فمضى ثلاث لا ندري أين توجه يقتضي أن المراد خروجه من الغار، وتقدم أنهم علموا بخروجه إلى المدينة في اليوم الثاني من خروجه من الغار، وتقدم أنهم لم يعلموا بذلك إلا من الهاتف فليتأمل.

وقد تبع الأصل في ذلك شيخه الحافظ الدمياطي حيث قدّم خبر سراقة على قصة أم معبد، إلا أن يقال الدمياطي لم يلتزم الترتيب فلا تحسن تبعيته، وهنا قصة أخرى فيها زيادة ونقص. قيل هي قصة أم معبد وقيل غيرها، «وهي أنه اجتاز صلى الله عليه وسلم بغنم فقال لراعيها لمن هذه؟ فقال لرجل من أسلم، فالتفت صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وقال: سلمت إن شاء الله تعالى، ثم قال للراعي: ما اسمك؟ قال مسعود، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: سعدت إن شاء الله تعالى» . وفي الإمتاع: ولقى بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا: أي والحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد. وفي الشرف «أن بريدة لما بلغه ما جعلته قريش لمن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم طمع في ذلك، فخرج هو في سبعين من أهل بيته. وفي لفظ كانوا نحو ثمانين بيتا، وحينئذ يراد ببيته قومه، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال له: من أنت؟ قال: بريدة بن الحصيب، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم: قال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح، قال: ممن أنت؟ قال: من أسلم من بني سهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر» أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير كما تقدم. ثم قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله، فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وكل من كان معه: أي وصلوا خلفه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم قال بريدة: يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحلّ بريدة عمامته، ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه: أي وقال له كما في الوفاء: تنزل على من يا نبي الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ناقتي هذه مأمورة، فقال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم» يعني قومه «طائعين غير مكرهين» . ولما سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة. أقول: ولعلّ خروجهم كان في ثلاثة أيام، وهي المدة الزائدة على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التي كان بها في الغار، والله أعلم. فانقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم أي وأحرقتهم الشمس، وإذا رجل من اليهود صعد على أطم: أي محل مرتفع من آطامهم أي من محالهم المرتفعة لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين: أي لأنهم لقوا الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا كما في البخاري.

وقيل إن الذي كساهما طلحة بن عبيد الله. فقال في النور: ولعلهما لقياه معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكره، وهذا الجمع أولى من ترجيح الحافظ الدمياطي لهذا القيل ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل هو الذي في السير. ومال الدمياطي إلى ترجيحه على عادته في ترجيح ما في السير على ما في الصحيح، لكنه ذكر أن ذلك كان شأنه في ابتداء أمره، فلما تضلع من الأحاديث الصحيحة كان يرى الرجوع عن كثير مما وافق عليه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة. فلما رآهم ذلك اليهودي يزول بهم السراب، أي يرفعهم ويظهرهم: أي والسراب ما يرى كالماء في وسط النهار في زمن الحرّ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم: أي حظكم الذي تنتظرون، أي وفي رواية: فلما دنوا من المدينة بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبي أمامة وأصحابه من الأنصار، أي ولا مانع من وجود الأمرين، فثار المسلمون إلى السلاح، فبلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، أي وفي لفظ: فوافوه وهو مع أبي بكر في ظل نخلة، ولعل تلك النخلة كانت بظهر الحرة فلا مخالفة، ثم قالوا لهما ادخلا آمنين مطمئنين. وفي لفظ: فاستقبله زهاء خمسمائة أي ما يزيد على خمسمائة من الأنصار، فقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بقباء في دار بني عمرو بن عوف، وذلك في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول على كلثوم بن الهدم: أي لأنه كان شيخ بني عمرو بن عوف: أي وهم بطن من الأوس، قيل وكان يومئذ مشركا ثم أسلم وتوفي قبل بدر بيسير وقيل أسلم قبل وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة، أي وعند نزوله صلى الله عليه وسلم نادى كلثوم بغلام له يا نجيح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنجحت يا أبا بكر، وكان يجلس للناس ويتحدث مع أصحابه في بيت سعد بن خيثمة: أي لأنه كان عزبا لا أهل له هناك، أي وكان منزله يسمى منزل العزاب، والعزب من الرجال من لا زوجة له ولا يقال أعزب، وقيل هي لغة رديئة. أقول: وبذلك يجمع بين قول من قال: نزل على كلثوم وقول من قال: نزل على سعد بن خيثمة، ثم رأيت الحافظ الدمياطي أشار إلى ذلك، والله أعلم. ونزل عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لما قدم المدينة على كلثوم أيضا بقباء بعد أن تأخر بمكة بعده صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال يؤدي الودائع التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، لأمره له صلى الله عليه وسلم بذلك كما تقدم. فلما توجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قام عليّ رضي الله تعالى عنه بالأبطح ينادي: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وديعة فليأت تؤدى إليه أمانته، فلما نفد ذلك ورد عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخوص إليه، فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم، ومعه أم أيمن وولدها أيمن، وجماعة من ضعفاء المؤمنين.

أقول: سيأتي ما يخالف ذلك، وهو «أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل في دار أبي أيوب بعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين يقدمان عليه بفاطمة وأم كلثوم بنته وسودة زوجته وأم أيمن وولدها أسامة» إلا أن يقال يجوز أن يكون الكتاب الذي فيه استدعاء سيدنا علي رضي الله تعالى عنه للهجرة كان مع زيد وأبي رافع رضي الله تعالى عنهما وأنهما صحباه. ولا ينافي ذلك ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تأخر بعد عليّ رضي الله تعالى عنه بمكة ثلاث ليال يؤدي الودائع، لأن تلك الليالي الثلاث كانت مدة تأدية الودائع؛ ومكث بعدها إلى أن جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد نزوله بقباء على أم كلثوم فلا مخالفة، لكن في السيرة الهشامية «فنزل: أي عليّ معه أي مع النبي صلى الله عليه وسلم على أم كلثوم» وهو لا يتأتى إلا على القول بأنه صلى الله عليه وسلم مكث في قباء بضع عشرة ليلة كما سيأتي، وحينئذ يخالف ما سبق من مجيئه مع زيد وأبي رافع، لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم إنما أرسلهما بعد أن تحول من قباء إلى المدينة. وفي الإمتاع: لما قدم عليّ من مكة كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه، فاعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك، ولا مانع من وقوع ذلك من عليّ مع وجود ما يركبه، لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشيا رغبة في عظيم الأجر. وفي السيرة الهشامية: أن إقامة عليّ بقباء كانت ليلة أو ليلتين، وأنه رأى امرأة مسلمة لا زوج لها يأتيها إنسان من جوف الليل يضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه، قال علي: فسألتها فقالت: هذا سهل بن حنيف قد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى غدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا: أي اجعليه للنار، فكان عليّ يعرف ذلك لسهل بن حنيف والله أعلم. قال: ونزل أبو بكر على حبيب بن أبي إساف، وقيل على خارجة بن زيد بالسنح بضم السين المهملة فنون ساكنة فحاء مهملة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولد نبيكم يوم الاثنين، وحملت به أمه يوم الاثنين، وخرج من مكة: أي من الغار يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين. قال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين. زاد بعضهم: وفتح مكة كان يوم الاثنين، ووضع الركن كان يوم الاثنين. ومن الغريب ما حكاه بعضهم عن الربيع المالكي، وكان بمصر كان يوم الاثنين خاصة إذا نام فيه تنام عيناه ولا ينام قلبه. وقيل خرج من مكة أي إلى الغار يوم

الخميس، وعليه يكون مكث صلى الله عليه وسلم في الغار تلك الليلة التي هي ليلة الجمعة، وليلة السبت وليلة الأحد، وعليه يكون خروجه من الغار صبيحة ليلة الأحد. ففي البخاري «أتاهما» أي الدليل «براحلتيهما صبح ثلاث» وتقدم أن خروجهما إلى الغار كان ليلا من بيت أبي بكر، وقول أبي بكر «سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة» يقتضي أنهما خرجا من الغار ليلا، بل أول الليل، لأن مع التأكيد يبعد أن يكون المراد بقية ليلتنا، وتقدم عن البخاري «أتاهما براحلتيهما صبح ثلاث» وحمل ذلك على ما قارب الصبح من الليل بعيد فليتأمل هذا المحل. وقيل دخلها أي المدينة ليلا كما في رواية لمسلم، أي وقال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخلها نهارا. أقول: لعل مراد الحافظ أن الوصول كان ليلا إلى قرب المدينة فأقاموا بذلك المحل إلى أن أسفر النهار وساروا فما وصلوا إلا وقت الظهيرة، فلا يخالف ما تقدم، وقيل دخلها يوم الجمعة. وذكر الحافظ ابن حجر أنه شاذ والله أعلم. وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم في المدينة. فعن البراء رضي الله تعالى عنه، قال: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير: أي الأسطحة عند قدومه صلى الله عليه وسلم يعلنّ بقولهن: طلع البدر علينا. الخ. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع قال: واستشكل بأن ثنيات الوداع ليست من جهة القادم من مكة، بل هي من جهة الشام. فقد قال ابن القيم في الهدى في غزوة تبوك: ثنيات الوداع من جهة الشام لا يطؤها القادم من مكة. ونقل الحافظ ابن حجر عنه عكس ذلك، وليس في محله، وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم جاء من جهتها في دخوله للمدينة عند خروجه من قباء اهـ. أي وفي كلام بعضهم: ما كان أحد يدخل المدينة إلا منها، فإن لم يعبر منها مات قبل أن يخرج لوبائها كما زعمت اليهود، فإذا وقف عليها قيل قد ودع فسميت به؛ وقيل قيل لها ثنية الوداع لأن المودع يمشي مع المسافر من المدينة إليها، وهو اسم قديم جاهلي، وقيل إسلامي؛ سمي ذلك المحل لذلك، وقيل لأن الصحابة

رضي الله تعالى عنهم ودعوا فيها النساء اللاتي استمتعوا بهن في خيبر عند رجوعهن من خيبر، أو وقع توديع من خرج إلى غزوة تبوك فيها، أو لكونه صلى الله عليه وسلم ودّع بعض المسافرين عندها، وهذا يدل على أن هذا الشعر قيل له عند دخوله المدينة لا عند دخوله قباء، وسياق بعضهم يقتضيه؛ وسياق بعض آخر يقتضي أنه كان عند دخوله قباء؛ ومن هذا تعلم أن المدينة تطلق ويراد بها ما يشمل قباء، ومنه قولنا وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ فعن البراء إلى آخره، وهي المرادة بدخوله المدينة يوم الاثنين على ما تقدم؛ وتطلق ويراد بها ما قابل قباء وحينئذ تكون هذه المرادة بقول أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلى آخره، ولعل منه ما في بعض الروايات المتقدمة «دخل المدينة يوم الجمعة» الذي حكم الحافظ ابن حجر بشذوذه كما تقدم. «ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر للناس» أي وأبو بكر شيخ: أي شيبه ظاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب: أي شعر لحيته أسود مع كونه أسن من أبي بكر كما تقدم. وقد قال أنس: لم يكن في الذين هاجروا أشمط غير أبي بكر «فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء أبا بكر فيعرفه بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرفه الناس» أي عرفه من جاء منهم بعد ذلك: أي لأن عدم تأثير الشمس فيه لتظليل الغمامة كان قبل البعثة إرهاصا كما تقدم. ومما يدل على أن خروجه من قباء كان يوم الجمعة قول بعضهم «ولبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف» أي في قباء «بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثة ويوم الأربعاء ويوم الخميس وخرج يوم الجمعة» وقيل لبث بضع عشرة ليلة، وهو المنقول عن البخاري. وعن ابن عقبة «أقام صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين ليلة» وفي الهدى «أقام أربعة عشر يوما» وهو ما في صحيح مسلم فليتأمل «وأسس في قباء المسجد الذي أسس على التقوى: أي الذي نزلت فيه الآية، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال في الهدى: ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم «وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مسجدكم هذا، وأشار لمسجد المدينة» أي وفي رواية «فأخذ حصاة فضرب به الأرض، وقال: مسجدكم هذا» يعني مسجد المدينة، لأن كلا منهما مؤسس على التقوى هذا كلامه. ويوافقه ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى كل مسجد بني المدينة الشاملة لقباء أسس على التقوى: أي لكن الذي نزلت فيه الآية مسجد قباء «وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار» قال: قيل وكان محل مسجد قباء مربد أي محلا يجفف فيه التمر لكلثوم بن الهدم، وهو أول مسجد بني

في الإسلام لعموم المسلمين، فلا ينافي أنه بني قبله غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناه كالمسجد الذي بناه الصديق بفناء داره بمكة كما تقدم انتهى. أي وفي كلام ابن الجوزي: أول من بنى مسجدا في الإسلام عمار بن ياسر. وفي السيرة الهشامية عن الحكم بن عيينة «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قباء قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء» أي فإنه لما جمع الحجارة أسسه صلى الله عليه وسلم واستتم بنيانه عمار، فعمار أول من بنى مسجدا لعموم المسلمين. قال: وعن جابر «لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، نعمر المساجد، ونقيم الصلاة» انتهى. ونعمر يحتمل أن يكون بالتخفيف فيكون عطف نقيم الصلاة من عطف التفسير. ويحتمل أن يكون بالتشديد فيكون بناء المساجد تعدد في المدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم. وفيه أن الحافظ ابن حجر قال: كان بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهران ونصف شهر على التحرير كما تقدم، أي ورواية جابر تدل على أنه كان بين اجتماع الاثني عشر من الأنصار به صلى الله عليه وسلم ومجيئهم إلى المدينة وبين قدومه صلى الله عليه وسلم للمدينة سنتان. وقد يقال: ليس مراد جابر أن ابتداء المدة من قدوم الاثني عشر عليه، بل مراده أن ابتداءها من قدوم الستة عليه الذين منهم جابر، والمدة تزيد على السنتين فليتأمل. وهو: أي مسجد قباء أول مسجد صلى فيه صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعة ظاهرين أي آمنين. وقيل: إن هذا المسجد بناه المهاجرون والأنصار يصلون فيه، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد قباء صلى فيه ولم يحدث فيه شيئا. ويخالفه ما تقدم عن السيرة الهشامية، وما في الطبراني بسند رجاله ثقات، عن الشموس بفتح الشين المعجمة بنت النعمان رضي الله تعالى عنها قالت «نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يصهره الحجر» أي يتبعه «فيأتي الرجل من أصحابه فيقول: يا رسول الله بأبي أنت وأمي تعطيني أكفك. فيقول: لآخذ مثله حتى أسسه. أي وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه قال: يا أهل قباء ائتوني بأحجار من الحرة، فجمعت عنده أحجار كثيرة، فخط القبلة وأخذ حجرا فوضعه، ثم قال: يا أبا بكر خذ بحجر فضعه إلى جنب حجري، ثم قال: يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب

حجر أبي بكر، ثم قال: يا عثمان خذ حجر فضعه إلى جنب حجر عمر» قال بعضهم: كأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ترتيب الخلافة، وسيجيء في بناء مسجد المدينة نحوه، ويحتاج للجمع بين هذه الروايات. وبعد تحوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يأتيه يوم السبت ماشيا وراكبا وقال «من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة» وروي: أي الترمذي والحاكم وصححاه عن أسيد بن حضير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «صلاة في مسجد قباء كعمرة» وفي رواية «من صلى في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة» وكان عمر رضي الله تعالى عنه يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس، وقال: لو كان بطرف من الأطراف. وفي رواية في أفق من الآفاق لضربت إليه أكباد الإبل. أي وصحح الحاكم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الاختلاف إلى قباء ماشيا وراكبا» وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن أبيه قال «خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء» وعن ابن عمر «أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء فيصلي فيه ركعتين» وعنه قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فقام يصلي فجاءته الأنصار تسلم عليه. فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم، قال: يشير إليهم بيده وهو يصلي» أي يجعل باطنها إلى أسفل وظهرها إلى فوق. وقد وقعت له صلى الله عليه وسلم الإشارة في الصلاة برد السلام لما قدمت عليه ابنته رضي الله تعالى عنها من الحبشة وهو يصلي فسلمت فأومأ إليها برأسه. وفي الهدى: وأما حديث «من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته» فحديث باطل. وفي كلام بعضهم: قد ثبت في الأحاديث الصحيحة «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم عليه أحد وهو في الصلاة أشار باصبعه المباركة جواب السلام» وليس لهذه الأحاديث معارض إلا حديث مجهول، وهو «من أشار في صلاته إشارة مفهمة فليعد صلاته» وهذا الحديث لا يصلح للمعارضة. ولما نزل قوله تعالى فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التّوبة: الآية 108] أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عن ذلك فقال: ما هذا الطهور الذي أنثى الله عليكم به. فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه، فقال: هو هذا» وفي لفظ «أتاهم رسول الله في مسجد قباء» أي وفي الكشاف «ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم ثم أعادها، فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: أتؤمنون بالقضاء؟ قالوا نعم، قال: وتصبرون على البلاء؟ قالوا نعم، قال: أتشكرون على الرخاء؟ قالوا نعم، قال عليه الصلاة والسلام: مؤمنون ورب الكعبة، فجلس وقال: يا معشر

الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم، فما الذي تتبعون عند الوضوء وعند الغائط» أي المعبر عنه بالطهور «فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التّوبة: الآية 108] » هذا كلامه. وفي رواية، «فقال إن الله قد أحسن إليكم الثناء في الطهور، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟ قالوا: يا رسول الله ما نعلم شيئا، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلناها كما غسلوا» وفي لفظ «كنا نستنجي بالماء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام لم ندعه، قال: فلا تدعوه» وفي لفظ «قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنانة، فقال: هل مع ذلك غيره؟ قالوا لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحبّ أن يستنجي بالماء» وفي رواية، «نستنجي من البول والغائط» زاد في رواية «ولا ننام الليل كله على الجنابة، قال: هو ذاك فعليكموه» أي ألزموه. أي وفي مسند البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. قال بعضهم في إسناده ضعف، وبهذا وما تقدم من ذكر الحجارة يرد على الإمام النووي حيث قال: هكذا أي ذكر الحجر مع الماء في خبر الأنصار بقباء رواه الفقهاء في كتبهم، وليس له أصل في كتب الحديث، بل المذكور فيها أنهم قالوا كنا نستنجي بالماء وليس فيها مع الحجر. أي ويكون السكون عن ذكر الحجر لكونه كان معلوما فعله. وفي الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم في شرعه وأمته الاستنجاء بالجامد، وبالجمع فيه بين الماء والحجر. ومن أهل قباء عويمر بن ساعدة قال في حقه صلى الله عليه وسلم «نعم العبد من عباد الله والرجل من أهل الجنة عويمر بن ساعدة» أي لأنه كان أول من استنجى بالماء كما قيل، أي ومن ثم جاء تخصيصه بالسؤال. فقد روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويمر بن ساعدة فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به. فقال: يا نبي الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط» الحديث، وهذا السياق ربما يقتضي أن الاستنجاء بالماء لم يكن معروفا في غير أهل قباء نزول هذه الآية. وفي كلام بعضهم: أول من استنجى بالماء إبراهيم الخليل. وكره بعض الصحابة الاستنجاء بالماء وهو حذيفة، ولعله لكونه في الاستنجاء بالماء عدول عن الرخصة. ونقل عن ابن عمر أنه كان لا يستنجي بالماء، ولعله لما ذكرنا، وكذا ما نقل عن ابن الزبير «ما كنا نفعله» وعن الإمام أحمد أنه لم يصح حديث في الاستنجاء بالماء. وبالغ مغلطاي في رده. وعن سيدنا مالك إنكار أن النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء،

ولعل المراد إنكار صحة ذلك عنه صلى الله عليه وسلم فليتأمل. وذكر الأحجار في الخبر يؤيد ظاهره ما ذكره إمامنا في الأم أن سنة الجمع بين الحجر والماء تتوقف على كون الاستنجاء بالحجر كافيا لو اقتصر عليه بقوله والاستنجاء بالحجر كاف، ولو أتى به: أي بالاستنجاء الكافي رجل ثم غسل بالماء كان أحب إليّ، وإنما قلنا ظاهره لإمكان رجوع الضمير للاستنجاء لا بقيد كونه كافيا. والذي عليه متأخرو أصحابنا أن سنة الجمع يكتفي فيها بإزالة العين ولو بحجر واحد. وقد يقال هذا محبوب، وما ذكره الإمام أحب. ولا يخفى أن حديث الأنصار يقتضي اختصاص سن الجمع بين الحجر والماء بالغائط، وبه قال القفال في كتابه «محاسن الشريعة» والمفهوم من نص الأم أن مثل الغائط البول، ثم بعد إقامته صلى الله عليه وسلم المدة المذكورة بقباء ركب راحلته الجدعاء، وقيل القصواء، وقيل العضباء. أي قاصدا المدينة. والجدعاء بالدال المهملة: المقطوعة الأنف أو مقطوعة الأذن كلها. والقصواء: المقطوع طرف أذنها. والعضباء: المشقوقة الأذن. قال بعضهم. وهذه ألقاب، ولم يكن بها: أي بتلك النوق شيء من ذلك، وسيأتي عن الأصل أن هذه ألقاب لناقة واحدة. ولما ركب صلى الله عليه وسلم وخرج من قباء وسار سار الناس معه ما بين ماش وراكب أي ولازال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا: أي حرصا على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له حتى دخل المدينة. قال: وصار الخدم والصبيان يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد صلى الله عليه وسلم، ولعبت الحبشة بحرابها فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قالت بنو عمرو بن عوف له صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله أخرجت ملالا لنا، أم تريد دارا خيرا من دارنا؟ قال إني أمرت بقرية تأكل القرى» أي تغلبها وتقهرها، والمراد أهلها: أي أن أهلها تفتح القرى فيأكلون أموال أهل تلك القرى، ويسبون ذراريهم فخلوا سبيلها، يعني ناقته صلى الله عليه وسلم، أي ومن أسماء تلك القرية المدينة. وروى الشيخان «أمرت بقرية تأكل القرى يثرب وهي المدينة» فالمدينة علم بالغلبة على تلك القرية كالنجم للثريا إذا أطلق فهي المرادة، وإن أريد غيرها قيد، والنسبة إليها مدني، ولغيرها من المدن مديني للفرق بينهما. ويثرب: اسم محل فيها سميت كلها به، ولعل ذلك المحل سمي بذلك لأنه نزل به يثرب من نسل نوح. وفي الحديث «المدينة تنفي الناس» أي شرارهم «كما ينفي الكبير خبث الحديد» . ففي بعض الروايات «لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها» قيل وكان ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم. وقيل يكون ذلك في زمن الدجال، فقد جاء أن الدجال يرجف بأهلها

فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه» وفي رواية «ينزل الدجال السبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله منها كل منافق وكافر» وبهذا استدل من قال: كون المدينة تنفي الخبث ليس عاما في الأزمنة ولا في الأشخاص، لأن المنافقين كانوا بها، وخرج منها جماعة من خيار الصحابة منهم علي وطلحة والزبير وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود. وفي كلام ابن الجوزي أن عبد الله بن مسعود مات بالمدينة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أيّ أرض مات بها رجل من أصحابي كان قائدهم ونورهم يوم القيامة» وفي رواية «فهو شفيع لأهل تلك الأرض» . وأما قوله صلى الله عليه وسلم «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» أي خير لهم من بلاد الرخاء، بدليل صدر الحديث «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله من هو خير منه» أي من خرج منها رغبة عنها إلى غيرها من بلاد الرخاء والسعة فلا دليل في ذلك على أنها أفضل من مكة. ومن أسمائها أكالة البلدان، ومن أسمائها البارة بتشديد الراء، وتسمى الفاضحة لأن من أضمر فيها شيئا أظهر الله ما أضمره وافتضح به: أي فالمراد أضمر شيئا من السوء. وقد قال صلى الله عليه وسلم «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى، هي طابة» كشامة «هي طابة، هي طابة، قال ذلك ثلاثا» وفي رواية «فليستغفر الله، فليستغفر الله، فليستغفر الله، هي طيبة» كهيبة «هي طيبة، هي طيبة، هي طائب» ككاتب. قيل: وإنما سميت طيبة لطيب رائحة من مكث بها وتزايد روائح الطيب بها، ولا يدخلها طاعون ولا دجال، ولا يكون بها مجذوم: أي لأن ترابها يشفي من الجذام، وتسميتها يثرب في القرآن إنما هو حكاية لقول المنافقين أي بعد نهيهم عن ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم «لا أراها إلا يثرب» أي ونحو ذلك من كل ما وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم من تسميتها بذلك كان قبل النهي عن ذلك انتهى. أي وجاء «إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها» ويأزر بكسر الزاي أي ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض، وفي رواية «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، يأزر كما تأزر الحية إلى جحرها» ، وإنما كرهت تسميتها بيثرب، لأن يثرب مأخوذ من التثريب وهو المؤاخذة بالذنب، ومنه قوله تعالى لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: الآية 92] أو من الثرب بالتحريك وهو الفساد. وعن القاسم بن محمد، قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما، وقيل

أحد عشر، من جملتها سكينة، أي ومن جملتها الجابرة: أي التي تجبر، والعذراء والمرحومة. وفي كلام بعضهم: لها نحو مائة اسم منها دار الأخيار، ودار الأبرار، ودار الإيمان، ودار السنة، ودار السلامة، ودار الفتح. قال الإمام النووي: لا يعرف في البلاد أكثر اسما منها ومن مكة. ومما يدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء متوجها إلى المدينة كان يوم الجمعة قول بعضهم: وعند مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي بمن معه من المسلمين وهم مائة، وصلاها بعد ذلك في المدينة وكانوا به صلى الله عليه وسلم أربعين. فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا، أي ولم يحفظ أنه صلاها مع النقص عن هذا العدد ومن حينئذ صلى الجمعة في ذلك المسجد. سمي هذا المسجد بمسجد الجمعة، وهو على يمين السالك نحو قباء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة: أي وخطب لها، وهي أول خطبة خطبها في الإسلام أي ومن خطبته تلك «فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإنها تجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته» وفي رواية «والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ونقل القرطبي هذه الخطبة في تفسيره، وأوردها جميعها في المواهب، وليس فيها هذا اللفظ. أقول: هذا واضح إن كان أقام في قباء الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس كما تقدم وأما على أنه صلى الله عليه وسلم أقام بضع عشر ليلة أو أكثر من ذلك كما تقدم، فيبعد أنه لم يصل الجمعة في قباء في تلك المدة. ثم رأيت في كلام بعضهم أنه كان يصلي الجمعة في مسجد قباء في إقامته هناك. أي ويبعد أن صلاها من غير خطبة. وفي الجامع الصغير «إن الله كتب عليكم الجمعة في مقامي هذا، وفي ساعتي هذه، في مشهدي هذا، في عامي هذا إلى يوم القيامة، من تركها من غير عذر مع إمام عادل أو إمام جائر فلا جمع له شمله ولا بورك له في أمره، إلا ولا صلاة له ولا حج له، إلا ولا بركة له ولا صدقة له» فإن كان قال ذلك في هذه الخطبة التي خطبها في مسجد الجمعة كما هو المتبادر، اقتضى ذلك أنها لم تكن واجبة قبل ذلك وهو مخالف قول فقهائنا أنها وجبت بمكة ولم تقم بها لعدم قدرتهم على إظهارها بمكة، لأن إظهارها أقوى من إظهار جماعة الصلوات الخمس. وفي الإتقان مما تأخر حكمه عن نزوله آية الجمعة فإنها مدنية والجمعة فرضت بمكة. وقول ابن الغرس إن اقامة الجمعة لم تكن بمكة قط يرده ما أخرجه ابن ماجه

عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك؛ قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع النداء يستغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتاه أرأيت صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لم هذا؟ قال: أي بني، كان أول من صلى بنا الجمعة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، هذا كلامه، وليتأمل ما وجه الرد من هذا. وجاء «صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها، وصيام شهر رمضان في المدينة ألف شهر فيما سواها» كذا في الوفاء عن نافع عن ابن عمر. وأوّل قرية صليت فيها الجمعة بعد المدينة قرية عبد القيس بالبحرين، وهل كانت الخطبة قبل الصلاة أو بعدها. في الدر أنه صلى الله عليه وسلم كان وهو بالمدينة يخطب الجمعة بعد أن يصلي مثل العيدين، فبينما هو يخطب يوم الجمعة قائما، إذ قدمت عير دحية الكلبي، وكان إذا قدم يخرج أهله للقائه بالطبل واللهو، ويخرج الناس للشراء من طعام تلك العير والتفرج عليها، وقيل للتفرج على وجه دحية، فقد قيل كان إذا قدم دحية المدينة لم تبق معصر إلا خرجت لتنظر إليه لفرط جماله. ولا مانع أن يكون ذلك لاجتماع الأمرين، فانفض الناس ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا نحو اثني عشر رجلا. والجلال المحلي في قطعة التفسير أسقط لفظ نحو: أي وانفضاض ما عدا هؤلاء، يحتمل أن يكون بعد ذلك في حال الخطبة قبل تمام الأركان. ويحتمل أن يكون بعد ذلك. وعلى الأول: يجوز أن يكون رجع ممن انفض ما يكمل به العدد أربعين قبل طول الفصل. وقد أعاد صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعوه من أركان الخطبة عند انفضاضهم، فلا يخالف ما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجوب سماع أربعين لأركان الخطبة. قال مقاتل: بلغني أنهم فعلوا ذلك أي الانفضاض عند الخطبة ثلاث مرات، فأنزل الله تعالى وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً [الجمعة: الآية 11] الآية. ثم صار صلى الله عليه وسلم يخطب قبل أن يصلي أي ليحافظ الناس على عدم الانفضاض لأجل الصلاة، وعليه انعقد الإجماع، فلا نظر لمخالفة الحسن البصري. وحينئذ يكون قول بعض فقهائنا استدلالا على وجوب تأخر صلاة الجمعة عن الخطبتين يثبت صلاته صلى الله عليه وسلم بعد خطبتين أي استقر ثبوت ذلك. وعن الزهري «بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب» أي في غير الخطبة المتقدمة «كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر من الناس، يريد الناس أمرا ويريد الله أمرا، فما شاء الله كان لا ما شاء الناس، وما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما

بعد الله ولا يكون شيء إلا بإذن الله» والله أعلم. ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته بعد الجمعة متوجها للمدينة: أي وقد أرخى زمامها ولم يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا، فسأله بنو سالم منهم عتبان بكسر العين المهملة ابن مالك، ونوفل بن عبد الله بن مالك، وعبادة بن الصامت، فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعزة والمنعة. وفي لفظ «والثروة» وفي لفظ «أنزل فينا، فإن فينا العدد والعدة والحلقة» أي السلاح «ونحن أصحاب الحدائق والدرك، يا رسول الله كان الرجل من العرب يدخل هذه البحيرة خائفا فيلجأ إلينا، فقال لهم خيرا، وقال: خلوا سبيلها» يعني ناقته «دعوها فإنها مأمورة» ، أي وفي رواية «إنها مأمورة خلوا سبيلها وهو يتبسم ويقول: بارك الله عليكم، فانطلقت حتى وردت دار بني بياضة» أي محلتهم، أي والمراد القبيلة «فسأله بنو بياضة أي ومنهم زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو ومثل ما تقدم، وأجابهم بأنها مأمورة خلوا سبيلها، فانطلقت حتى وردت دار بني ساعدة أي ومنهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة، فسأله بنو ساعدة بمثل ذلك وأجابهم بخلوا سبيلها فإنها مأمورة، فانطلقت حتى مرت بدار عديّ بن النجار وهم أخواله صلى الله عليه وسلم» أي أخوال جده عبد المطلب كما تقدم أي بأوائل دورهم «فسأله بنو عدي بن النجار أي أولئك الطائفة منهم بمثل ما تقدم» أي وفي رواية «أنهم قالوا له: نحن أخوالك، هلم إلى العدة والمنعة والعزة مع القرابة لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله» أي زاد في رواية لا تجاوزنا، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا، وأجابهم بأنها مأمورة، فانطلقت حتى بركت في محل من محلات بني النجار وذلك في محل المسجد، أي محل بابه أو في محل المنبر الآن وذلك عند دار بني مالك بن النجار، وعند باب أبي أيوب الأنصاري» أي واسمه خالد بن زيد النجاري الأنصاري الخزرجي شهد العقبة وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مع علي بن أبي طالب من خاصته شهد معه الجمل وصفين والنهروان. غزا أيام معاوية أرض الشام مع يزيد بن معاوية سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين فتوفي عند مدينة قسطنطينية فدفن هناك. وأمر يزيد بالخيل فجعلت تقبل وتدبر على قبره حتى خفي أثر القبر خوفا أن تنبشه الكفار، فكان المشركون إذا أمحلوا كشفوا عن قبره فيمطروا فلم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم ثم وثبت، وسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها فبركت فيه وتجلجلت أي بالجيم تضعضعت ووضعت جرانها أي باطن عنقها من المذبح إلى المنحر، وأزرمت أي صوتت من غير أن تفتح فاها فنزل عنها صلى الله عليه وسلم، وقال رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [المؤمنون: الآية 29] أي قال ذلك أربع مرات، وأخذه صلى الله عليه وسلم الذي كان يأخذه عند الوحي أي وسري عنه وقال: هذا إن شاء الله يكون المنزل أي وأمر

أن يحط رحله وفي لفظ: أن أبا أيوب قال له ائذن لي أن أنقل رحلك فأذن له، واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته، أي وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده، أي وذكر بعضهم أن أبا أيوب لما نقل رحله أناخ الناقة في منزله. وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن يكون أسعد أخذ بزمامها بعد ذلك فكانت عنده. أي وعن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اقترعت الأنصار أيهم يأويه فقرعتهم» الحديث. وقد يقال: مراده بالأنصار أهل تلك المحلة التي بركت فيها الناقة. وذكر السهيلي أنها لما ألقت جرانها في دار بني النجار: أي في محل من محلاتها جعل رجل من بني سلمة وهو جبار بن صخر، أي وكان من صالحي المسلمين ينخسها رجاء أن تقوم فينزل في دار بني سلمة فلم تفعل. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم «قال خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير» . ولما بلغ ذلك سعد بن عبادة وجد في نفسه وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع، أسرجوا إليّ حماري أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ابن أخته سهل، فقال: أتذهب لتردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم؟ أو ليس حسبك أن تكون رابع أربع، فرجع وقال: الله ورسوله أعلم، وأمر بحماره فحل عنه. وفي رواية قال له: اجلس، ألا ترضى أن سماك رسول الله في الأربع الدور التي سمى، فمن ترك فلم يسم أكثر ممن سمي، فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت جويريات من بني النجار بالدفوف يقلن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فخرج إليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «أتحببنني، وفي رواية أتحبوني؟ قلن نعم يا رسول الله، فقال: الله يعلم أن قلبي يحبكن» وفي رواية «والله أحبكم» وفي رواية «وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم قال ذلك ثلاثا» وهذا دليل لسماع الغناء على الدفّ من المرأة لغير العرس؛ ويدل لذلك أيضا ما جاء عن ابن عباس مرفوعا «أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا سماطين، وجاءت جارية يقال لها سيرين معها مزهر تختلف به بين القوم، وهي تغنيهم وتقول: هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لا حرج إن شاء الله تعالى» . وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان من جواري الأنصار يغنيان» وفي رواية «يضربان بدفين، فاضطجع صلى الله عليه وسلم على

الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانتهرني، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعها» وفي رواية «قال أبو بكر بمزمور» وفي رواية «بمزمار» وفي لفظ «بمزمارة الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذلك مرتين وانتهرني، وكان صلى الله عليه وسلم متغشيا بثوبه، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه الشريف، فقال: دعها يا أبا بكر فإنها أيام عيد» أي لأن تلك كانت أيام منى. وقيل كان يوم عيد الفطر. وقيل الأضحى، ولا مانع من تعدد الواقعة. أقول: في البخاري عن الربيّع بنت معوّذ «أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها غداة بنى عليها وعندها جويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين» . وفي حديث أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها: إن كنت نذرت فاضربي، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحتها وقعدت عليه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليفرق منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب ودخل أبو بكر وهي تضرب، فلما دخلت أنت ألقت الدف» أي وإذا كان الشيطان يخاف منك فما بالك بامرأة ضعيفة العقل. ولا ينافي هذا: أي سماعه الغناء من المرأة مع الضرب على الدف ما تقدم في باب ما حفظ به صلى الله عليه وسلم في صغره من أمر الجاهلية، لأن الدف ثم كان معه مزمار بخلافه هنا، وتسمية أبي بكر رضي الله تعالى عنه الدف مزمارا، لأنه كان يعتقد حرمة ذلك، فشبهه بالمزمار المحرم سماعه. قال بعضهم: واعلم أن السماع في طريق القوم معروف وفي الجواذب إلى المحبة معدود وموصوف. وقال بعض آخر: إنه من أكبر مصايد النفوس أي والرجوع بها إلى الله تعالى. وقد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار، ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع. وعن أبي بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر مرّا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون ويقولون: يا أيها الضيف المعرج طارقا ... لولا مررت بآل عبد الدار لولا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من جهد ومن إقتار أي ولم ينكر عليهم، وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن

التكسر، فقد صحت الأخبار وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه صلى الله عليه وسلم بالأصوات الطيبة مع الدف وبغيره، وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف ولو فيه جلاجل لما هو سبب لإظهار السرور. وعلى جواز إنشاد الشعر واستماعه، حيث خلا عن هجو لغير نحو فاسق متجاهر بفسقه، وخلا عن تشبب بمعين من امرأة أو غلام، والخلاف إنما هو في سماع الملاهي كالأوتار والمزامير، وخوف الفتنة من سماع صوت المرأة أو الأمرد الجميل. ونقل عن الجنيد أنه قال: الناس في السماع: أي سماع الآلات على ثلاثة أضرب العوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم. والزهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهداتهم. والعارفون وهو مستحب لهم الحياة قلوبهم. وذكر نحوه أبو طالب المكي، وصححه السهروردي في عوارف المعارف. وفي كلام بعضهم: جبلت النفوس حتى غير العاقلة على الإصغاء إلى ما يحسن من سماع الصوت الحسن، فقد كانت الطيور تقف على رأس داود عليه الصلاة والسلام لسماع صوته، لكن يشكل على ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن صفوان بن أمية وهو من المؤلفة قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء عمر بن قرة، فقال: يا رسول الله إن الله كتب عليّ الشقوة فلا أنال الرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدوّ الله: أي يا عدوّ الله، والله لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد كهذه المقالة، لضربتك ضربا وجيعا» إلا أن يقال هذا النهي إن صح محمول على من يتخذ ضرب الدف حرفة، وهو مكروه تنزيها. وقوله صلى الله عليه وسلم «اخترت ما حرم الله عليك» إلى آخره للمبالغة في التنفير عن ذلك. «ونزل صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب وقال: المرء مع رحله، أي بعد أن قال أي بيوت أهلنا يعني أهل تلك المحلة من بني النجار أقرب؟ فقال أبو أيوب: داري هذه وقد حططنا رحلك فيها، فذهبت تلك الكلمة أي التي هي: المرء مع رحله مثلا وقال: اذهب فهيىء لنا مقيلا فذهب فهيأ ذلك، ثم جاء فقال: يا نبي الله قد هيأت مقيلا فقم على بركة الله تعالى، ونزل معه صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه» . أقول: وفي رواية «فتنازع القوم أيهم ينزل عليه» أي كل يحرص على أن تكون داره له منزلا أي مقاما «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك، فلما أصبح غدا حيث أمر» وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم: أنزل الليلة: أي غد تلك الليلة، ولا يخالف هذا ما قبله من قول بني النجار هلم إلينا، وقوله لهم: إنها مأمورة، لجواز أن يكون أمر بالنزول عليهم.

واعلم أن خصوص البقعة والمحلة من محلات بني النجار التي ينزل بها من دارهم ما تبرك به الناقة. وفيه أنه يبعد مع ذلك، أي مع قوله المذكور أي أنه ينزل على بني النجار سؤال غير بني النجار في النزول عنده، إلا أن يقال لعل السائلين له صلى الله عليه وسلم في ذلك لم يبلغهم قوله المذكور، أو جوزوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا له في ذلك رأي، وقد أشار إلى نزوله صلى الله عليه وسلم على بني النجار الإمام السبكي في تائيته بقوله: نزلت على قوم بأيمن طائر ... لأنك ميمون السنا والنقيبة فيا لبني النجار من شرف به ... يجرون أذيال المعالي الشريفة وهذا السياق يدل على أن تنازع القوم، وقوله لهم المذكور كان في آخر ليلة، وهو في قباء، وهو يرد قول بعضهم: يشبه أن يكون ذلك في أول قدومه صلى الله عليه وسلم من مكة قبل نزوله قباء، لا في قدومه باطن المدينة. فالمراد بأهل المدينة أهل قباء. ويرد قول سبط ابن الجوزي لعله نزل على بني النجار ليلة انتهى: أي تلك الليلة ثم ارتحل إلى بني عمرو بن عوف أي في قباء. هذا وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ من بني النجار فجاؤوا متقلدين سيوفهم. قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر رديفه وملأ من بني النجار حوله حتى أناخ بفناء أبي أيوب» وهذه الرواية وقع فيها اختصار كبير. ويقال «إنه صلى الله عليه وسلم عرّج على عبد الله بن أبي ابن سلول وكان جالسا محتبيا وأراد النزول عليه، فقال له اذهب إلى الذين دعوك وأنزل عليهم، فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله لا تجد في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه» وقد وقع له في بعض الأيام «أنه صلى الله عليه وسلم، قيل له: يا رسول الله لو أتيت عبد الله بن أبي ابن سلول» أي متألفا له ليكون ذلك سببا لإسلام من تخلف من قومه، وليزول ما عنده من النفاق «فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد، والأيدي والنعال، فنزل وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: الآية 9] كذا في البخاري. وفيه أيضا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على ابن أبي ابن سلول وهو في جماعة فقال

ابن أبيّ: لقد عثا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه برأسه، فقال له صلى الله عليه وسلم لا، ولكن برّ أباك» وكان ابن أبيّ جميل الصورة ممتلىء الجسم، فصيح اللسان، وهو المعنيّ بقوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ [المنافقون: الآية 4] الآية، ولكونه متبوعا جيء فيه بصيغة الجمع. وعن الزهري «أخبرني عروة بن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب حمارا على إكاف وأردف أسامة وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ابن سلول، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فثار غبار من مشي الحمار، فخمر ابن أبيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا؛ فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم نزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال ابن أبيّ: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بل يا رسول الله فاغشنا فإنا نحب ذلك، واستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتبادرون، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يعني ابن أبيّ، قال كذا وكذا، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح، فو الله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما ردّ بالحق الذي أعطاك الله شرق، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم» والله أعلم. ومكث صلى الله عليه وسلم ببيت أبي أيوب إلى أن بني المسجد وبعض مساكنه، وقد مكث في بناء ذلك من شهر ربيع الأول إلى شهر صفر من السنة القابلة، أي وذلك اثنا عشر شهرا: وقيل مكث ببيت أبي أيوب سبعة أشهر. «قال ولما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين عمرو بن عوف إلى المدينة تحول المهاجرون» أي غالبهم أخذا مما يأتي «فتنافس فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار إلا بقرعة بينهم. فكان المهاجرون في دور الأنصار وأموالهم» اهـ. وكان من جملة محل مسجده صلى الله عليه وسلم مسجد لأبي أمامة أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه، وكان أبو أمامة يجمع فيه بمن يليه، بناه في بعض مربد للتمر لسهل وسهيل: أي يجفف فيه التمر، ويرادف المربد الجرين والمسطح والبيدر: وهو ما

يبسط فيه الزرع أو التمر للتجفيف. «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ذلك المسجد، قال: فعن أمّ زيد بن ثابت أنها قالت: رأيت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يصلي بالناس الصلوات الخمس ويجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم وصلى بهم في ذلك المسجد وبناه» أي مع إدخال بقية ذلك المربد فهو مسجده. وحينئذ لا يخالف ذلك قول الحافظ الدمياطي عن الزهري قال «بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين قبل قدومه صلى الله عليه وسلم، وكان مربدا لسهل وسهيل، وكان جدار مجدرا ليس عليه سقف وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، وكان يصلي بأصحابه ويجمع بهم فيه الجمعة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صار يصلي فيه» . وفي الإمتاع «كان أسعد بن زرارة بنى فيه جدارا تجاه بيت المقدس كان يصلي إليه بمن أسلم قبل قدوم مصعب بن عمير، ثم صلى بهم إليه مصعب» هذا كلامه، وتعلم ما فيه لما قدّمناه في قدوم مصعب المدينة، لكن في البخاري «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يا بني المسجد» أي ولعله اتفق له ذلك في بعض الأوقات، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي حيث أدركته الصلاة. «ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سأل أسعد بن زرارة أن يبيعه تلك البقعة التي كان من جملتها ذلك المسجد ليجعلها مسجدا فإنها كانت في يده ليتيمين في حجره، وهما سهل وسهيل، وقيل كانا في حجر معاذ ابن عفراء» قال في الأصل، وهو الأشهر. وفي المواهب: أن الأول هو المرجح، واليتيمان المذكوران من بني مالك بن النجار، وقيل كانا في حجر أبي أيوب الأنصاري. قال بعضهم: والظاهر أن الكل: أي من أسعد ومعاذ وأبي أيوب كانوا يتكلمون لليتيمين لأنهم بنو عمّ فنسبا إلى حجر كل. «وقد عرض أبو أيوب عليه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ تلك الأرض ويغرم لليتيمين قيمتها، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر» أي وفي رواية «فدعا الغلامين فساومهما بالمربد فقالا: نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك» أي وحينئذ يكون وصفهما باليتيم باعتبار ما كان. وفي رواية «أرسل صلى الله عليه وسلم إلى ملأ من بني النجار ولعلهم من تقدم وهم أسعد

ومعاذ وأبو أيوب ومعهم سهل وسهيل فجاؤوه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم ثامنوني بحائطكم هذا أي خذوا مني ثمنه. قالوا لا يا رسول الله، والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فأبى أن يأخذه إلا بالثمن» . قال «وجاء أن أسعد بن زرارة عوض اليتيمين من تلك الأرض نخلا أي له في بني بياضة، وقيل: أرضا هما فيها أبو أيوب، وقيل معاذ ابن عفراء» . وطريق الجمع بين ذلك أنه يحتمل أن كلا من أسعد وأبي أيوب ومعاذ ابن عفراء دفع للغلامين شيئا: أي زيادة على العشرة دنانير فنسب ذلك لكل منهم. وجاء «أنه كان في تلك الأرض قبور جاهلية فأمر بها صلى الله عليه وسلم فنبشت؛ وأمر بالعظام فألقيت» اهـ، أي وفي رواية «وأمر بالعظام أن تغيب» أي وفي رواية «كان في موضع المسجد نخل وخرب» أي حفر ومقابر للمشركين «فأمر صلى الله عليه وسلم بالقبول فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطعت» . أي وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذي في الحديقة» أي وهي تلك الأرض التي كانت مربدا، أي وسمي حديقة لوجود النخل به «وأمر بالغرقد الذي فيه أن يقطع» أي والغرقد: شجر معروف. وبقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة. وشجر الغرقد: يقال له شجر اليهود، فإنه لا يدل على اليهودي إذا توارى به عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله للدجال ولجنده من اليهود، فإذا توارى اليهودي بشجرة نادته يا روح الله هاهنا يهودي، فيأتي حتى يقف عليه، فإما أن يسلم وإما أن يقتل؛ إلا شجر الغرقد فإنه لا يدل على اليهودي إذا توارى به؛ فقيل له شجر اليهود لذلك. قال: وكان في المربد ماء مستبحر فسيروه حتى ذهب. والمستبحر الذي ينشع ويظهر من الأرض. «ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ وبنى المسجد» وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم عند الشروع في البناء وضع لبنة، ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة أي بجانب لبنته صلى الله عليه وسلم، ثم دعا عمر فوضع لبنة بجانب لبنة أبي بكر، ثم جاء عثمان فوضع لبنة بجانب لبنة عمر» . أي وقد أخرج ابن حبان «لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في البناء حجرا وقال لأبي بكر: ضع حجرك إلى جنب حجري، ثم قال لعمر: ضع حجرك إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال لعثمان ضع حجرك إلى جنب حجر عمر، ثم قال: هؤلاء الخلفاء بعدي» قال أبو زرعة إسناده لا بأس به، فقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وفي رواية «هؤلاء ولاة الأمر بعدي» قال ابن كثير وهذا الحديث بهذا الإسناد غريب جدا.

قال بعضهم: وقوله صلى الله عليه وسلم لعثمان ما ذكر. أي ضع حجرك إلى جنب حجر عمر يرد على من زعم أن هذا منه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى قبورهم، أي إذ لو كان إشارة إلى ذلك لدفن عثمان بجانب عمر كما دفن عمر بجانب أبي بكر، بل هو إشارة إلى ترتيب الخلافة، أي لأنه لا يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم «هؤلاء الخلفاء بعدي إلا ذلك» ومن ثم جاء في رواية «فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال أمر الخلافة من بعدي» . وتصحيح الحاكم لما ذكر يظهر التوقف في قول بعضهم إن هذا لم يجىء في الصحيح إلا أن يريد صحيح الشيخين. وأما قوله قال البخاري في تاريخه: إن ابن حبان لم يتابع على الحديث المذكور، لأن عمر وعثمان وعليا قالوا: لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يقال عليه: معناه لم ينص على استخلاف أحد بعينه عند موته، وذلك لا ينافي الإشارة إلى وقوع الخلافة لهؤلاء بعده، ولا ينافي قوله «هؤلاء الخلفاء بعدي» لجواز أن يراد الخلافة في العلم. ثم رأيت ابن حجر الهيتمي أشار إلى ذلك حيث قال: قلت هذا أي وضع تلك الأحجار، وقوله صلى الله عليه وسلم «هؤلاء الخلفاء بعدي» مع احتماله للخلافة في العلم والإرشاد متقدم على وقت الاستخلاف عادة وهو قرب الموت، فلم يكن نصا سالما من المعارض هذا كلامه «ثم قال للناس ضعوا أي الحجارة فوضعوا، ورفع بالحجارة أي قريب من ثلاثة أذرع، وبني باللبن وجعل عضادتيه أي جانبيه بالحجارة وسقفه بالجريد، وجعلت عمده» وفي رواية «سواريه من جذوع النخل، وطول جداره قامة» أي كان ارتفاعه قدر قامة. قال: وعن شهر بن حوشب قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يا بني المسجد قال «ابنوا لي عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك، قيل: وما ظلة موسى؟ قال: كان إذا قام أصاب رأسه السقف» انتهى. أي فالمراد اجعلوا سقفه يكون بحيث إذا قمت أصاب رأسي السقف، أو رفعت يدي أصابت السقف. والجمع بين هاتين الروايتين يدل على أن المراد ما هو قريب من ذلك، بحيث لا يكون كثير الارتفاع، فلا ينافي ما يأتي من أمره بجعل ارتفاعه سبعة أذرع فليتأمل. وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فقيل له: ألا تسقف؟ فقال: عريش كعريش موسى، خشبات وثمام» أي وقيل للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العرش: يعني السقف. وفي رواية «لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المسجد، قال: قيل لي: أي قال له

جبريل: عريش كعريش أخيك موسى، سبعة أذرع طولا في السماء، وكان سبعة أذرع بحيث يصيب رأسه ولا تزخرفه، ثم الأمر أعجل من ذلك» أي وفيه أن هذا يقتضي أن موسى كان طوله سبعة أذرع، وهو يخالف ما اشتهر أن قامة موسى كانت أربعين ذراعا، وعصاه كذلك، ووثبته كذلك. وقد جاء «ما أمرت بتشييد المساجد» أي ولعل قوله ذلك كان «لما جمع الأنصار مالا وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد» . وجاء «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» . وجاء «من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد» أي تزخرفها كما تزخرف اليهود والنصارى كنائسهم وبيعهم ولم يكن على السقف كبير طين، إذ كان المطر يكف: أي ينزل منه ماء المطر المخالط للطين عليهم بحيث يمتلىء: أي المسجد طينا، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت فطين: أي جعل عليه طين كثير بحيث لا ينزل عليه المطر فقال: «لا عريش كعريش موسى» فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند بنائه عمل فيه المسلمون المهاجرون والأنصار، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ليرغب المسلمين في العمل فيه. قال: فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم صار ينقل اللبن» أي في ثيابه. وفي رواية «في ردائه حتى اغبرّ صدره الشريف، وصار يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأطهر» أي هذا المحمول من اللبن أبرّ وأطهر يا ربنا مما يحمل من خيبر من نحو التمر والزبيب، فالحمال بالحاء المهملة بمعنى المحمول؛ ووقع في رواية بالجيم جمع جمل، قال بعضهم: وله وجه، والأول أظهر، ولا يحسن هذا الوجه إلا إذا كانت جمال خيبر أنفس من جمال غيرها وصار يقول: اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجره قال البلاذري: وهذا القول لامرأة من الأنصار، وتمامه: وعافهم من حرّ نار ساعره ... فإنها لكافر وكافره والذي في البخاري «فاغفر للأنصار والمهاجرة» ولعله صلى الله عليه وسلم هو الذي أخرجه عن الوزن كما هو عادته في إنشاد الشعر كما سيأتي: وفي لفظ «فأصلح» وفي لفظ «فأكرم» وفي رواية «اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم المهاجرين والأناصرة» وفي رواية «فانصر الأنصار والمهاجرة» وعن الزهري أنه كان يقول «اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم المهاجرين والأنصار» لأنه كان لا يقيم الشعر: أي لا يأتي به موزونا ولو متمثلا، وفيه أنه مع قوله: اللهم إن الأجر إلى آخره لا يكون شعرا موزونا، إلا

إن حذف أل من اللهم وقال لا هم وكسر همزة فارحم؛ وحينئذ تكون المرأة من الأنصار إنما نطقت بذلك: أي قالت لا هم إلى آخره، وهو صلى الله عليه وسلم هو الذي غيره. ونقل عن الزهري «أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله هذا الحمال» البيت، ولم أقف على قائله، وسيأتي عن الزهري أنه من إنشائه صلى الله عليه وسلم وسيأتي ما فيه. وفي كلام بعضهم: قال ابن شهاب: يعني الزهري: لم يبلغنا في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام: أي موزون إلا هذه الأبيات، قال ابن عائذ: أي التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد: أي وفيه أن هذا مخالف لما تقدم عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل بيتا موزونا إلا قوله هذا الحمال، فلا يحسن أن يفسر كلامه بذلك، على أنه تمثل ببيت شعر تام موزون غير ذلك، فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم جعل يدور بين قتلى بدر ويقول: نفلق هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقّ وألّا ما وفي المواهب: وقد قيل إن الممتنع عليه صلى الله عليه وسلم إنشاء الشعر لا إنشاده، أي ولذلك جاء «ما أبالي ما أوتيت إن أنا قلت الشعر من قبل نفسي» وفي الكشاف: وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر، ولا دليل على منه إنشاده أي الشعر موزونا متمثلا. أقول: نقل الحافظ الدمياطي عن الزهري أنه كان يقول: إنه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله إلا قوله: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأطهر أي فإنه من قوله، وهو يخالف ما تقدم عنه، ولعله سقط من عبارة الزهري المذكورة شيء، والأصل أنه لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله، ولم يقل ما قبله تاما: أي موزونا إلا قوله: هذا الحمال إلى آخره، فلا يخالف ما تقدم عنه، وكونه كان لا يقيم الشعر: أي لا يأتي به موزونا ولو متمثلا هو المنقول عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد قيل لها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بشيء من الشعر؟ فقالت: كان أبغض الحديث إليه الشعر، غير أنه كان يتمثل ويجعل أوله آخره وآخره أوله: أي غالبا كان يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار، ويقول: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا أي وذلك قول سحيم بمهملة مصغرا عبد بني الحساس، شاعر مشهور مخضرم: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ولما غير ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الصديق رضي الله تعالى عنه: إنما قال الشاعر كذا، فأعاده صلى الله عليه وسلم كالأول، فقال الصديق: أشهد أنك رسول الله وَما عَلَّمْناهُ

الشِّعْرَ [يس: الآية 69] . ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول سحيم: الحمد لله حمدا لا انقطاع له ... فليس إحسانه عنا بمقطوع قال أحسن وصدق، وقول الصديق أشهد أنك رسول الله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: الآية 69] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجري الشعر على لسانه موزونا وقد قيل له صلى الله عليه وسلم: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها وإن لم تطيب طيبا الأصل وجدت بها طيبا وإن لم تطيب. وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا رواية، والمراد بكون الشعر أبغض إليه الإتيان به، وإلا فقد كان يسمع الشعر كما تقدم ويستنشده، فقد ذكر بعضهم «أنه صلى الله عليه وسلم كان يستنشد الخنساء أخت صخر لأمه، ويعجبه شعرها، فكانت تنشده وهو يقول: هيه يا خناس، ويومىء بيده» . وقد قال بعضهم: أجمع أهل العلم أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، ومن شعرها في أخيها المذكور: أعينيّ جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندا طويل النجاد عظيم الرماد ... وساد عشيرته أمردا وللجلال السيوطي كتابه سماه «نزهة الجلساء في أشعار الخنساء» وقولنا في قول عائشة إنه كان يتمثل بالشعر، ويجعل أوله آخره: أي غالبا حتى لا ينافي ما جاء عنها: كان يتمثل بشعر ابن رواحة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقولها: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشد شعرا إلا بيتا واحدا: تفاءل لما تهوى بكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تخلفا وفي الخصائص الكبرى قال المزني: ولم يبلغني أنه صلى الله عليه وسلم أنشد بيتا تاما على رويه، بل إما الصدر كقول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل أو العجز كقول طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود أي وفيه ما تقدم عن عائشة، وكقوله- وقد أنشده أعشى بني مازن أبياتا في ذم النساء، آخر تلك الأبيات:

وهن من شر غالب لمن غلب فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: وهن شر غالب لمن غلب فإن أنشد بيتا كاملا غيره أي غالبا، لما تقدم كبيت العباس بن مرداس، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال يوما للعباس بن مرداس «أرأيت قولك» وفي لفظ أنت القائل: أصبح نهبي ونهب العبي ... د بين الأقرع وعيينه فقيل له: إنما هو بين عيينة والأقرع، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما هو الأقرع وعيينة، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله» وفي لفظ «أشهد أنك رسول الله، ما أنت بشاعر ولا رواية، ولا ينبغي لك» إنما قال بين عيينة والأقرع: أي أنه لا ينبغي لك أن تكون شاعرا كما قال الله، ولا ينبغي لك أن تكون راويا للشعر: أي بأن تأتي به على وجهه، أي لا يكون شأنك ذلك مباعدة عن الشعر، وكون شأنه ذلك لا ينافي وجوده منه على وجهه في بعض الأحيان فليتأمل. وعن بعضهم: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط أي موزونا. وقد يقال: لا يخالف هذا ما تقدم عن المواهب، لأنه يجوز أن يكون هذا المنقول عن عائشة. وعن المزني وعن بعضهم: كان أغلب أحواله كما قدمناه في المنقول عن عائشة ثم رأيته في الامتاع أشار إلى ذلك بقوله: وربما أنشد صلى الله عليه وسلم البيت المستقيم في النادر، وقول المواهب: لا دليل على منع إنشاده متمثلا، أي دائما وأبدا، ويدل لذلك قول الزهري: إنه لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله: هذا الحمال إلى آخره، وفيه ما علمت ولا يخفى أن الشعر عرف بأنه كلام عربي موزون عن قصد. قال البدر الدمياطي. وقولنا عن قصد يخرج ما كان وزنه اتفاقيا كآيات شريفة اتفق جريان الوزن فيها: أي من بحور الشعر الستة عشر، وقد ذكرها الجلال السيوطي في نظمه للتخليص، وذلك كما في قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: الآية 92] وكقوله تعالى وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبإ: الآية 13] وقوله تعالى نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصّف: الآية 13] وككلمات شريفة نبوية جاء الوزن فيها اتفاقيا غير مقصود، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت أي بناء على تسليم أنه من قوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قيل إنه من قول عبد الله بن رواحة: أي فإن ذلك مذكور في أبيات قالها في غزوة مؤتة وقد صدمت أصبعه فدميت، وذكر بدل «في سبيل الله» في كتاب الله، ولا مانع أن يكون ابن رواحة أدخل ذلك البيت في تلك الأبيات التي صنعها كما تقدم.

وفي كلام ابن دحية: ولا يمرّ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضروب الرجز إلا ضربان منهوك ومشطور؛ فالمنهوك: أنا النبي لا كذب والمشطور: هل أنت إلا أصبع دميت وقيل البيت الواحد لا يكون شعرا، على أنه قيل: إن الرجز ليس من الشعر عند الأخفش خلافا للخليل: أي فإن الأخفش احتج على أن الرجز ليس بشعر رادا على الخليل ومن تبعه القائلين بأنه من الشعر حيث قال: لأحتجنّ عليهم بحجة إن لم يقروا بها كفروا: لم كان شعرا ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى يقول وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: الآية 69] هذا كلامه. قال في النور: والصحيح أنه شعر أي موافقة للخليل، وقد علمت أن ما جرى منه على لسانه صلى الله عليه وسلم ليس شعرا لعدم قصده فليتأمل. وقد نقل الماوردي من أئمتنا أنه كما يحرم عليه قول الشعر أي إنشاؤه، يحرم عليه روايته أي دون إنشاده متمثلا. وفرق بعضهم بين الإنشاد والرواية، بأن الرواية يقول: قال فلان كذا؛ وأما إنشاده متمثلا، فلا يقول ذلك هذا كلامه. وفيه أنه قال لما قيل له: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول إلى آخره. وقال للعباس بن مرداس: أنت القائل إلى آخره. قال ذلك البعض. وكان الفرق بين الرواية والإنشاد أن في قوله قال فلان فيه رفعة للقائل بسبب قوله، وهذا متضمن لرفع شأن الشعر، والمطلوب منه الإعراض عن الشعر من حيث كونه شعرا. وفيه أن الصديق قال له عند كل من الرواية والإنشاد، لست بروايه كما تقدم، وعن الخليل: كان الشعر أحب إليه صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام. أي وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان أبغض الحديث إليه صلى الله عليه وسلم الشعر، لأن المراد بالشعر الذي يحبه ما كان مشتملا على حكمة أو وصف جميل من مكارم الأخلاق؛ والذي يبغضه ما كان مشتملا على ما فيه هجنة أو هجو ونحو ذلك. ومن ثم قيل: الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح. وفي الجامع الصغير: الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، الشعر الحسن أحد الجمالين، يكسوه الله المرء المسلم. وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا خفي عليكم شيء من غريب

القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب، وفي كلام سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: نعم الأبيات من الشعر يقدمها الرجل في صدر حاجته، يستعطف بها قلب الكريم ويستميل بها لؤم اللئيم. والحاصل أن الحق الحقيق بالاعتماد وبه تجتمع الأقوال أن المحرم عليه صلى الله عليه وسلم إنما هو إنشاد الشعر: أي الإتيان بالكلام الموزون عن قصد وزنه، وهذا هو المعنى بقوله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: الآية 69] . فإن فرض وقوع كلام موزون منه صلى الله عليه وسلم لا يكون ذلك شعرا اصطلاحا لعدم قصد وزنه، فليس من الممنوع منه. والغالب عليه صلى الله عليه وسلم أنه إذا أنشد بيتا من الشعر متمثلا أو مسندا لقائله لا يأتي به موزونا، وربما أتى به موزونا. وادّعى بعض الأدباء أنه صلى الله عليه وسلم كان يحسن الشعر: أي يأتي به موزونا قصدا، ولكنه كان لا يتعاطاه: أي لا يقصد الإتيان به موزونا. قال: وهذا أتم وأكمل مما لو قلنا بأنه كان لا يحسنه، وفيه أن في ذلك تكذيبا للقرآن. وفي التهذيب للبغوي. من أئمتنا، قيل: كان صلى الله عليه وسلم يحسن الشعر ولا يقوله. والأصح أنه كان لا يحسنه، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه، ولعل المراد بين الموزون منه وغير الموزون. ثم رأيته في ينبوع الحياة. قال: كان بعض الزنادقة المتظاهرين بالإسلام حفظا لنفسه وماله يعرّض في كلامه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن الشعر، يقصد بذلك تكذيب كتاب الله تعالى في قوله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: الآية 69] . قال بعضهم: والحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون مع أن الموزون من الكلام رتبته فوق رتبة غيره أن القرآن منبع الحق، ومجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخيل بتصور الباطل في صورة الحق، والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذم والإيذاء، دون إظهار الحق وإثبات الصدق، ولهذا نزه الله تعالى نبيه عنه، ولأجل شهر الشعر بالكذب سمّى أصحاب البرهان القياسات المؤدّية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية. وقد جاء التنفير عن إنشاد الشعر في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم «من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا: فض الله فاك ثلاث مرات» والأخذ بعمومه فيه من العسر ما لا يخفى. وفي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: من قال آدم قد قال الشعر فقد كذب على الله ورسوله ورمى آدم بالإثم، وإن محمدا والأنبياء صلوات الله

وسلامه عليهم كلهم في النهي عن الشعر سواء. وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي في قوله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: الآية 69] اعلم أن الشعر محل الإجمال واللغز والتوراة: أي ما رمزنا لمحمد صلى الله عليه وسلم شيئا ولا ألغزنا ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئا آخر، ولا أجملنا له الخطاب بحيث لم يفهمه، وأطال في ذلك. وهل يشكل على ذلك الحروف المقطعة أوائل السور، ولعله رضي الله تعالى عنه لا يرى أن ذلك من المتشابه، أو أن المتشابه ليس مما استأثر الله بعلمه والله أعلم. ولما رأته صلى الله عليه وسلم الصحابة ينقل اللبن بنفسه دأبوا في ذلك، أي في نقل اللبن أي وهو المراد بالصخر في قول بعضهم وجعل أصحابه ينقلون الصخر، أو المراد الصخر الذي يا بنى به الجدار وجانبا الباب كما تقدم، حتى قال قائلهم: لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل وجعل يحمل كل رجل لبنة لبنة، وعمار بن ياسر يحمل لبنتين لبنتين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عن رأس عمار ويقول: «يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد الأجر من الله تعالى» وفي رواية «كان يحمل لبنة عن نفسه ولبنة عنه صلى الله عليه وسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره وقال: يا بن سمية: للناس أجر، ولك أجران، وآخر زادك أي من الدنيا شربة من لبن» وجاء في حق عمار ابن سمية «ما عرض عليه أمران قط إلا اختار رضي الله عنه الأرشد منهما، إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق، وتقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة، وتدعوك إلى النار، وعمار يقول: أعوذ بالله» . وفي رواية: بالرحمن من الفتن، أي وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يستمر ينقل اللبن، بل نقل ذلك في بعض الأوقات. وفي مسلم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال أخبرني من هو خير مني «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر لعمار حين شغل بحفر الخندق، فجعل يمسح رأس عمار ويقول: ابن سمية تقتلك فئة باغية» . وفي رواية: تعيين من أبهمه أبو سعيد وهو أبو قتادة. وزاد في رواية «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق وكان الناس يحملون لبنة لبنة» أي من الحجارة التي تقطع «وعمار ناقة من وجع كان به، فجعل يحمل لبنتين، قال لعمار: بؤسا لك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية» . ثم رأيت بعضهم قال: يشبه أن يكون ذكر الخندق وهما، أو قالها عند بناء المسجد وقالها يوم الخندق، هذا كلامه: أي ويكون عمار بن ياسر في الخندق قد صار يحمل الحجرين وكان في بناء المسجد يحمل اللبنتين، وكان عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه رجلا متنظفا أي مترفها، فكان إذا حمل اللبنة يجافي بها عن ثوبه لئلا يصيبه التراب، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب

رضي الله تعالى عنه وأنشد يقول: أي مباسطة مع عثمان بن مظعون لأطعنا فيه: لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن التراب حائدا أي وكان عثمان هذا من جملة من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال: لا أشرب شرابا يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني. وذكر ابن إسحاق قال: سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز، هل تمثل به عليّ أو أنشأه؟ فكل يقول: لا أدري، فسمع ذلك الرجز عمار بن ياسر، فصار يرتجز بذلك وهو لا يدري من يعني بذلك، فمرّ يرتجز بذلك على عثمان، فظن عثمان أن عمارا يقصد التعريض به، فقال له عثمان: يا بن سمية ما أعرفني بمن تعرض به، لتكفنّ أو لأعترضنّ بهذه الحديدة- لحديدة كانت معه- وجهك، وفي لفظ: والله إني أراني سأعرض هذه العصا بأنفك، لعصا كانت في يده، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال «إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني. ووضع يده الشريفة بين عينيه الشريفتين فقال الناس لعمار: قد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ونخاف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه، فقال: يا رسول الله ما لي ولأصحابك؟ قال: ما لك ولهم؟ قال: يريدون قتلي فيحملون لبنة لبنة ويحملون عليّ لبنتين لبنتين» أي وفي لفظ «يحملون عليّ اللبنتين والثلاث» أي ولعله حمل ثلاث لبنات في بعض الأوقات «فأخذ بيده وطاف به المسجد، وجعل يمسح ذفرته من التراب» والذفرة بالذال المعجمة: الشعر الذي جهة القفا، ويقول يا بن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية، ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة» أي إلى سببها، وهو اتباع الإمام الحق، لأنه كان يدعو إلى اتباع عليّ وطاعته وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك «ويدعونه إلى النار» أي إلى سببها، وهو عدم اتباع عليّ وطاعته واتباع معاوية وطاعته. وفيه أن تلك الفئة التي كان فيها قاتلة كان فيها جمع من الصحابة وهم معذورون بالتأويل الذي ظهر لهم، إلا أن يقال: يدعونه إلى النار باعتبار اعتقاده، وإطلاق البغي عليهم حينئذ باعتبار ذلك، قال بعضهم: وفئة معاوية وإن كانت باغية لكنه بغي لا فسق فيه، لأنه إنما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه انتهى، أي وما زاده بعضهم في الحديث: «لا أنا لهم الله شفاعتي يوم القيامة» قال ابن كثير: من روى هذا فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقلها، إذ لم تنقل عمن يقبل. وقال الإمام أبو العباس بن تيمية: وهذا كذب مزيد في الحديث، لم يروه أحد من أهل العلم، بإسناد معروف وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «عمار جلدة ما بين عينيّ» لا يعرف له إسناد. والذي في الصحيح «تقتل عمارا الفئة الباغية» وعن أبي العالية، سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قاتل عمار في النار» ومن العجب أن أبا العالية هذا هو القاتل لعمار يوم صفين، فكان أبو العالية مع معاوية، وكان عمار مع عليّ، أي ويقول: إن عمارا لما برز للقتال قال: اللهم لو أعلم رضاك عني أن أوقد نارا فأرمي نفسي فيها لفعلت، أو أغرق نفسي لفعلت، وإني لا أريد قتال هؤلاء إلا لوجهك الكريم، وأنا أرجو أن لا تخيا بني وجعلت يده ترتعش على الحربة، أي لأن عمره يومئذ كان ثلاثا وسبعين سنة، أي وقد كان جيء به بلبن فضحك، فقيل له: ما يضحكك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «آخر شراب تشربه حين تموت لبن» وفي رواية «آخر زادك من الدنيا مشيج من اللبن» ثم نادى: اليوم زخرفت الجنان، وزينت الحور الحسان، اليوم نلقى الأحبة، محمدا وحزبه. ولما قتل عمار دخل عمرو بن العاص على معاوية فزعا وقال: قتل عمار، فقال معاوية قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تقتل عمارا الفئة الباغية» فقال له معاوية: دحضت، أي زلقت في بولك، أنحن قتلناه، إنما قتله من أخرجه، وفي رواية قال له: اسكت، فوالله ما تزال تدحض، أي تزلق في بولك، إنما قتله عليّ وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بيننا. وذكر أن عليا رضي الله تعالى عنه لما احتج على معاوية رضي الله تعالى عنه بهذا الحديث ولم يسع معاوية إنكاره، قال إنما قتله من أخرجه من داره يعني بذلك عليا، فقال علي رضي الله تعالى عنه فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه. ولما قتل عمار، جرد خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه سيفه وقاتل مع علي وكان قبل ذلك اعتزل عن الفريقين، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقتل عمارا الفئة الباغية» فقاتل معاوية حتى قتل. وكان ذو الكلاع رضي الله تعالى عنه مع معاوية، وقال له يوما ولعمرو بن العاص: كيف نقاتل عليا وعمار بن ياسر، فقالا له: إن عمارا يعود إلينا ويقتل معنا فقتل ذو الكلاع قبل قتل عمار. ولما قتل عمار قال معاوية: لو كان ذو الكلاع حيا لمال بنصف الناس إلى علي أي لأن ذا الكلاع كان ذووه أربعة آلاف أهل بيت، وقيل عشرة آلاف. وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء رضي الله تعالى عنه مع علي رضي الله تعالى عنه، فلما قتل عمار أخذ سيفين ولبس درعين، ولم يزل يضرب بسيفيه حتى انتهى إلى معاوية، فأزاله عن موقفه، وأزال أصحابه الذين كانوا معه عن موقفهم. ثم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس له ونازع الأمر أهله. ومن ليس قبله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق؛ وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وأنتم والله على الحق، على نور من ربكم وبرهان مبين، فقاتلوا

الطغاة الجناة؛ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، قاتلوا الفئة الباغية الذين نازعوا الأمر أهله، قوموا رحمكم الله. ولما قتل عمار ندم ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على عدم نصرة عليّ والمقاتلة معه، وقال عند موته: ما أسفي على شيء ما أسفي على ترك قتال الباغية، قال بعضهم: شهدنا صفين مع علي بن أبي طالب في ثمانمائة من أهل بيعة الرضوان، وقتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر، وكان خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين كان مع علي يوم صفين كافا سلاحه حتى قتل عمار جرد سيفه وقاتل حتى قتل، لأنه كان يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «عمار تقتله الفئة الباغية» . وفي الحديث «من عادى عمارا عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، مما يزول مع الحق حيث يزول، عمار خلط الإيمان بلحمه ودمه، عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما» . وجاء «أن عمارا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبا بالطيب المطيب إن عمار بن ياسر حشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنه إيمانا» وفي رواية «إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» . وتخاصم عمار مع خالد بن الوليد في سرية كان فيها خالدا أميرا، فلما جاآ إليه صلى الله عليه وسلم استبا عنده، فقال خالد: يا رسول الله أيسرك أن هذا العبد الأجدع يشتمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خالد لا تسب عمارا؛ فإن من سب عمارا فقد سب الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله، ثم إن عمارا قام مغضبا، فقام خالد فتبعه حتى أخذ بثوبه واعتذر إليه، فرضي عنه. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحق مع عمار ما لم يغلب عليه دلهة الكبر» وهذا الحديث من أعلام النبوّة، فإن عمارا وقع بينه وبين عثمان بن عفان بعض الشحناء، وأشيع عنه أنه يريد أن يخلع عثمان، فاستدعاه سعد بن أبي وقاص وكان مريضا، فقال له: ويحك يا أبا اليقظان، كنت فينا من أهل الخير، فما الذي بلغني عنك، من السعي في الفساد بين المسلمين، والتألب على أمير المؤمنين، أمعك عقلك أم لا؟ فغضب عمار ونزع عمامته وقال: خلعت عثمان كما خلعت عمامتي هذه، فقال سعد: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك حين كبر سنك ورق عظمك ونفد عمرك، خلعت ربقة الإسلام من عنقك، وخرجت من الدين عريانا كما ولدتك أمك، فقام عمار مغضبا موليا وهو يقول: أعوذ بربي من فتنة سعد، وعند ذلك روى سعد الحديث وقال: قد دله وخرف عمار، وأظهر عمار القوم على ذلك.

قال: وجعلت قبلة المسجد إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، باب في مؤخره والباب الذي كان يقال له باب عاتكة، وكان يقال له باب الرحمة، والباب الذي يقال له الآن باب جبريل. انتهى، أي وهو الباب الذي كان يدخل منه صلى الله عليه وسلم ويقال له باب عثمان، لأنه كان يلي دار عثمان، وهو الذي يخرج منه الآن إلى البقيع. أقول: وجعل قبلته إلى بيت المقدس كان قبل أن تحول القبلة، ولما حولت قبلته إلى الكعبة وهذا محمل قوله صلى الله عليه وسلم «ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى رفعت لي الكعبة فوضعتها أتيممها أو أؤمها» أي أقصدها. وفي رواية «ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى فرج لي ما بيني وبين الكعبة» والله أعلم. أي وفي كلام بعضهم: ومن الفوائد الحسنة ما ذكره مغلطاي، أن موضع المسجد كان ابتاعه تبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه بألف سنة، وإنه لم يزل على ملكه: أي متعلقا به من ذلك العهد على ما دل عليه كتاب تبع. أقول: سيأتي أن تبعا بنى للنبي صلى الله عليه وسلم دارا بالمدينة إذا قدمها ينزل في تلك الدار، وأنه يقال: إنها دار أبي أيوب. وقد يجمع بأنه يجوز أن يكون ذلك المربد ودار أبي أيوب مجموعها تلك الدار، وأن تلك الدار قسمت فكان دار أبي أيوب بعضها وذلك المربد بعضها الآخر؛ وأن الأيدي تداولت سكنى تلك الدار إلى أن صارت سكنا لأبي أيوب، وهذا هو المراد بقول المواهب: تداولت الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب. لكن قد يقال: لو كانت الدار مذكورة في الكتاب لذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الكتاب كما سيأتي وصل إليه في مكة في أول البعثة ونزوله دار أبي أيوب، وأخذه المربد على الكيفية المذكورة يبعد ذلك، أي أنه ذكر له أمر تلك الدار، والله أعلم. قال «ومكث صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد بعد تمامه إلى بيت المقدس خمسة أشهر، ولما حولت القبلة سد صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان في مؤخر المسجد» . وفي كلام بعضهم: لما حولت القبلة لم يبق من الأبواب التي كان يدخل منها صلى الله عليه وسلم إلا الباب الذي يقال له باب جبريل عليه السلام، أي فإنه بقي في محله وأما باب الرحمة الذي كان يقال له أيضا باب عاتكة فأخر عن محله. وسبب وضع الحصا في المسجد أن المطر جاء ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصا في ثوبه فيبسطه تحته ليصلي عليه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «ما أحسن هذا» وفي رواية «ما أحسن هذا البساط» .

وقد يعارض هذا ما قيل «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يحصب المسجد» فمات قبل ذلك فحصبه عمر رضي الله تعالى عنه. أقول: قد يقال لا معارضة، لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لما أعجبه ذلك من فعل بعض الصحابة أمره أن يحصب جميع المسجد، لأن الواقع تحصيب بعضه، لكن يشكل على ذلك قول بعضهم من البدع فرش المساجد، إلا أن يراد بالحصر ونحوها لأنه لم يكن زمنه صلى الله عليه وسلم ولا أمر به، ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال: أول من فرش الحصر في المساجد عمر بن الخطاب، وكانت قبل ذلك مفروشة بالحصباء أي في زمنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وفي الإحياء: أكثر معروفات هذه الأعصار منكرات في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إذ من عزيز المعروف في زماننا فرش المساجد بالبسط الرقيقة فيها، وقد كان يعدّ فرش البواري في المسجد بدعة؛ كانوا لا يرون أن يكون بينهم وبين الأرض حائل، هذا كلام الإحياء: أي والحصباء لا تعد حائلا، وسيأتي أن المسجد بني بعد فتح خيبر، وهي التي عناها خارجة رضي الله تعالى عنه بقوله «ما كثر الناس قالوا: يا رسول الله لو زيد فيه، ففعل» ولعلها هي التي أدخل فيها الأرض التي اشتراها عثمان رضي الله تعالى عنه من بعض الأنصار بعشرة آلاف درهم، ثم جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أتشتري مني البقعة التي اشتريتها من الأنصار أي التي كانت مجاورة للمسجد «فاشتراها منه ببيت في الجنة» . أي وفي رواية: أن عثمان رضي الله تعالى عنه لما حصر، أي الحصرة الثانية وأشرف على الناس من فوق سطح داره، وقد اشتد به العطش، قال: أهاهنا عليّ؟ قالوا لا، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا لا، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من يبتاع مربد بني فلان» أي لمربد كان مجاورا للمسجد «غفر الله له» فابتعته بعشرين ألفا أو بخمسة وعشرين ألفا شك عثمان، وتقدم أنه اشتراها بعشرة آلاف درهم فليتأمل «فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قد ابتعته، فقال اجعله مسجدنا وأجره لك، قالوا: اللهم نعم، قد كان ذلك» وفي لفظ، أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتري بقعة ابن فلان لبقعة كانت إلى جنب المسجد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من يشتريها ويوسعها في المسجد له مثلها» وفي لفظ «خير له منها في الجنة» فاشتريتها ووسعتها في المسجد فأنتم الآن تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين، أي وزاد فيه عثمان رضي الله تعالى عنه بعد ذلك زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج كما في البخاري، وعدد عثمان رضي الله تعالى عنه أشياء منها أنه قال «أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها

ماء يستعذب غير بئر رومة، ولم يكن يشرب منها أحد إلا بالثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة، ولم يكن يشرب منها أحد إلا بالثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة يجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين» في لفظ: «ليكون دلوه فيها كدلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» وفي لفظ له «بها مشرب في الجنة» فاشتريتها من صلب مالي فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها، بل وتمنعوني الماء: ألا أحد يسقينا فإني أفطر على الماء الملح وفي رواية: هل فيكم من يبلغ عليا عطشنا فأبلغوه، فلما بلغ ذلك عليا أرسل إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية أي وكانت هذه البئر ركية ليهودي يقال له رومة، يقال إنه أسلم، وكان يبيع المسلمين ماءها، كانت بالعقيق، وتفل فيها صلى الله عليه وسلم فعذب ماؤها: ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب بدلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة» فساومه فيها عثمان فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثني عشر ألف درهم، وجعل ذلك للمسلمين، وجعل له يوما ولليهودي يوما، فإذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان: أفسدت عليّ زكيتي، فاشترى النصف الآخر بثمانية آلاف، وقيل جملة ما اشتراها به خمسة وثلاثون ألف درهم. وقول عثمان جعلتها للغني والفقير وابن السبيل، دليل على أن قوله دلوي فيها كدلاء المسلمين على أنه لم يشترط ذلك بل قصد به التعميم في الموقوف عليه. ولا دليل فيه على جواز أن للواقف أن يشترط له الانتفاع بما وقفه كما زعمه بعضهم. وكان حصار عثمان رضي الله تعالى عنه شهرين وعشرين يوما. وفي كلام سبط ابن الجوزي: كان الحصار الأول عشرين يوما، والثاني أربعين يوما، وفي يوم من تلك الأيام قال: وددت لو أن رجلا صادقا أخبرني عن أمري هذا: أي من أين أوتيت؟ فقام رجل من الأنصار، فقال أنا أخبرك يا أمير المؤمنين، إنك تطأطأت لهم فركبوك وما جرأهم على ظلمك إلا إفراط حلمك، فقال له: صدقت، اجلس. وأول من دخل عليه الدار محمد بن أبي بكر، تسور عليه هو وجماعة من الحائط من دار عمرو بن حزم فأخذ بلحيته، فقال له: دعها يا بن أخي، فوالله لقد كان أبوك يكرمها فاستحى وخرج. وفي رواية: لما أخذ بلحيته هزها وقال له ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن أبي سرح، فقال له: يا بن أخي أرسل لحيتي، فوالله إنك لتجر لحية كانت تعز على أبيك، وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا مني، فتركه وخرج، ويقال إنه قال له: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك، فقال عثمان: أستنصر بالله عليك وأستعين به، ثم طعن جبينه بمشقص كان في يده، ثم

ضربه بعض هؤلاء بالسيف فأتته نائلة زوج عثمان فقطع أصابع يدها الخمس. وعن ابن الماجشون، عن مالك أن عثمان بعد قتله ألقي على المزبلة ثلاثة أيام، وقيل أغلق عليه بابه بعد قتله ثلاثة أيام لا يستطيع أحد أن يدفنه، فلما كان الليل أتاه اثنا عشر رجلا منهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير، وقيل صلى الله عليه وسلم أربعة، وإن ابن الزبير لم يشهد قتل عثمان فاحتملوه، فلما اجتازوا به للمقبرة منعوهم وقالوا: والله لا يدفن في مقابر المسلمين فدفنوه بمحل كان الناس يتوقون أن يدفنوا موتاهم به، فكان يمر به ويقول: سيدفن هنا رجل صالح فيتأسى به الناس في دفن موتاهم به وكان ذلك المحل بستانا فاشتراه عثمان وزاده في البقيع، فكان هو أول من قبر فيه، وحملوه على باب وإن رأسه ليقرع الباب لإسراعهم به من شدة الخوف، ولما دفنوه عفّوا قبره خوفا عليه أن ينبش. وأما غلاماه اللذان قتلا معه فجروهما برجليهما وألقوهما على التلال فأكلتهما الكلاب. وسبب هذه الفتنة أنهم نقموا عليه أمورا: منها عزلة لأكابر الصحابة ممن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أوصى عمر رضي الله تعالى عنه بأن يبقى على ولايته، وهو أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه من البصرة، فإن عمر رضي الله تعالى عنه أوصى بأن يبقى على ولايته، فعزله عثمان وولى ابن خاله عبد الله بن عامر محله، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها ابن أبي سرح وعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وعزل ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عنها أيضا وأشخصه إلى المدينة، وعزل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه عن الكوفة وولى أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي سماه الله تعالى فاسقا بقوله تعالى أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً [السّجدة: الآية 18] وصار الناس يقولون بئس ما فعل عثمان، عزل اللين الهين الورع المستجاب الدعوة، وولى أخاه الخائن الفاسق المدمن للخمر، ولعل مستندهم في ذلك ما رواه الحاكم في صحيحه «من ولى رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» . ومنها أنه أدخل عمه الحكم بن أبي العاص والد مروان المدينة وكان يقال له طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، وقد كان صلى الله عليه وسلم طرده إلى الطائف، ومكث بها مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر بعد أن سأله عثمان في إدخاله المدينة فأبى، فقال له عثمان: عمي، فقال: عمك إلى النار، هيهات هيهات أن أغير شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا رددته أبدا، فلما توفي أبو بكر وولي عمر كلمه عثمان في ذلك، فقال له: ويحك يا عثمان، تتكلم في لعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريده وعدو الله وعدو رسوله؟ فلما ولي عثمان ردّه إلى المدينة، فاشتد ذلك على المهاجرين

والأنصار، فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة، فكان ذلك من أكبر الأسباب على القيام عليه، واعتذر عثمان عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان وعده برده وهو في مرض موته، قال: فشهدت عند أبي بكر، فقال إنك شاهد واحد ولا تقبل شهادة الواحد، ثم قال لي عمر كذلك، فلما صار الأمر إليّ قضيت بعلمي. أي: وأما عزله لأبي موسى، فإن جند عمله شكوا شحه فعزله خوف الفتنة. ومنها أنه جاء إلى عثمان أهل مصر يشكون ممن ولاه عليهم وهو ابن أبي سرح وقالوا: كيف توليه على المسلمين وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه؟ وتعزل عمرو بن العاص عنا. وردّ هذا بأن عزله لعمرو إنما كان لكثرة شكايتهم منه، وابن أبي سرح أسلم بعد الفتح وحسن حاله ووجدوه لسياسة الأمر أقوى من عمرو بن العاص، وعزله للمغيرة بأنه أنهي إليه فيه أنه ارتشى فرأى المصلحة في عزله، فلما عادوا إلى مصر قتل ابن أبي سرح رجلا منهم فعادوا إلى عثمان وكلموا أكابر الصحابة كعلي وطلحة بن عبيد الله، فقالوا اعزله عنهم فإنهم يسألونك رجلا مكانه، فقال لهم عثمان: يختارون رجلا أوليه عليهم، فاختاروا محمد بن أبي بكر، فكتب إليه عهده وولاه، فخرج وخرج معه جماعة من المهاجرين والأنصار وجماعة من التابعين لينظروا بين أهل مصر وبين ابن أبي سرح، فلما كان محمد بن أبي بكر ومن معه على مسيرة ثلاثة مراحل من المدينة، فإذا هم بغلام أسود على بعير، فقالوا له: ما قضيتك؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين، أرسلني إلى عامل مصر، فقال له واحد منهم: هذا عامل مصر يعني محمد بن أبي بكر، فقال: ما هذا أريد، فلما أخبر ذلك الرجل محمد بن أبي بكر استدعاه، فقال له بحضور من معه من المهاجرين والأنصار: أنت غلام من؟ فصار تارة يقول غلام أمير المؤمنين وتارة يقول غلام مروان، فعرفه رجل من القوم وقال: هذا غلام عثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر برسالة، قال: معك كتاب؟ قال لا، ففتشوه فإذا معه كتاب: من عثمان إلى ابن أبي سرح في قصبة من رصاص في جوف الإداوة في الماء، ففتح الكتاب، فحضره جميع من معه، فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاحتل في قتلهم، وفي رواية: انظر فلانا وفلانا إذا قدموا عليك فاضرب أعناقهم، وعاقب فلانا بكذا وفلانا بكذا، منهم نفر من الصحابة ونفر من التابعين. وفي رواية: اذبح محمد بن أبي بكر واحش جلده تبنا، وكن على عملك حتى يأتيك كتابي، فلما قرؤوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة، وقرىء الكتاب على جميع من بالمدينة من الصحابة والتابعين، فما منهم أحد إلا واغتم لذلك، فدخل عليه عليّ مع جماعة من أهل بدر ومعه الكتاب والغلام، فقالوا له: هذا الغلام

غلامك؟ قال نعم، قالوا والبعير بعيرك؟ قال نعم، قالوا: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ فقال: لا، وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به، فقال له عليّ: والخاتم خاتمك، قال نعم، قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتابك عليه ختمك وأنت لا تعلم به؟ فحلف بالله ما أمرت بهذا الكتاب ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر، فعرفوا أنه خط مروان لا عثمان، لأن عثمان لا يحلف باطلا: وفي رواية: الخط خط كاتبي، والخاتم خاتمي. وفي رواية: انطلق الغلام بغير أمري وأخذ الجمل بغير علمي، قالوا: فما نقش خاتمك؟ قال: نقش عليه مروان، فسألوه أن يدفع لهم مروان وكان مروان عنده في الدار فأبى، فخرجوا من عنده غضابا، وقالوا لا يبرأ عثمان إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحث ونعرف حال الكتاب، فإن كان عثمان أمر به عزلناه، وإن كان مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون في أمر مروان، فأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان خوفا عليه من القتل، فحوصر عثمان بسبب ذلك، ومنعوه الماء ووقع ما تقدم. وذكر ابن الجوزي أنه لما دخل المصريون على عثمان رضي الله عنه والمصحف في حجره يقرأ فيه، فمدوا إليه أيديهم، فمد يده فضربت فسال الدم. وقيل: وقعت قطرة على فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: الآية 137] فقال: أما إنها أول يد خطت المفصل هذا كلامه: أي وهذا من أعلام النبوة. فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، فتقع قطرة من دمك على فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: الآية 137] قال الذهبي: إنه حديث موضوع: أي قوله فيه وأنت تقرأ إلى آخره. وروي أنه لما حوصر قال: والله ما زينت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسا فيم تقتلونني؟ وقال وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) [هود: الآية 89] يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه، وقال معددا لنعم الله تعالى عليه: ما وضعت يدي على فرجي منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما مرت بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة إلا أن لا يكون عندي شيء فأعتقها بعد ذلك، قال بعضهم: وجملة من أعتقه عثمان ألفان وأربعمائة رقبة تقريبا. وذكر أنه رأى في الليلة التي قتل في يومها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في المنام وقالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا الليلة القابلة، فلما أصبح دعا بالمصحف فنشره بين يديه ولبس السراويل، ولم يكن لبسها قبل ذلك في الجاهلية ولا في الإسلام خوفا أن يطلع على عورته عند قتله.

وكان من جملة ما انتقم به على عثمان رضي الله تعالى عنه، أنه أعطى ابن عمه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية. وأعطى الحارث عشر ما يباع في السوق: أي سوق المدينة. وأنه جاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فقسمها بين نسائه وبناته، وأنه أنفق أكثر ببيت المال في عمارة ضياعه ودوره، وأنه حمى لنفسه دون إبل الصدقة، وأنه حبس عبد الله بن مسعود وهجره، وحبس عطاء وأبي بن كعب، ونفى أبا ذر إلى الربذة، وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لما شكاه معاوية، وضرب عمار بن ياسر وكعب بن عبدة، ضربه عشرين سوطا ونفاه إلى بعض الجبال، وقال لعبد الرحمن بن عوف: إنك منافق، وإنه أقطع أكثر أراضي بيت المال، وأن لا يشتري أحد قبل وكيله وأن لا تسير سفينة في البحر إلا في تجارته، وأنه أحرق الصحف التي فيها القرآن، وأنه أتمّ الصلاة بمنى ولم يقصرها لما حج بالناس، وأنه ترك قتل عبيد الله وقد قتل الهرمزان. وقد أجاب عن ذلك كله في الصواعق فراجعه. وما رواه الزبير بن بكار عن أنس من أنه صلى الله عليه وسلم لم يعمل اللبن ولم يبن به المسجد إلا بعد أربع سنين من الهجرة رأيت ما يرده في تاريخ للمدينة. ونصه: ما روي عن أنس واه أو مؤوّل، والمعروف خلافه والله أعلم. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو بني مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي» قال بعضهم: إن صح هذا كان من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، أي لأنه وسع بعد ذلك: أي وسعه المهدي وذلك في سنة ستين ومائة ثم زاد فيه المأمون في سنة اثنتين ومائتين. وبه يرد القول بأن المضاعفة خاصة بالموجود حين الإشارة: أي لكن المحافظة على الصلاة فيما كان في عهده صلى الله عليه وسلم أولى. قال: وبنى حجرتين لعائشة وسودة: أي بناهما مجاورتين للمسجد وملاصقتين له على طرز بناء المسجد من لبن، وجعل سقفهما من جذوع النخل والجريد: أي وقدم رجل من أهل اليمامة عند الشروع في بناء المسجد يقال له طلق من بني حنيفة. فعنه رضي الله تعالى عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يا بني مسجده والمسلمون يعملون معه فيه، وكنت صاحب علاج الطين، فأخذت المسحاة وخلطت بها الطين، فقال لي: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ أحسن صنعته» وقال لي «الزم أنت هذا الشغل فإني أراك تحسنه» وفي لفظ «إن هذا الحنفي لصاحب طين» وفي لفظ «قربوا اليماني من الطين، فإنه أحسنكم له مسكا، وأشدكم منكبا» وفي لفظ «دعوا الحنفي والطين فإنه من أصنعكم للطين» وأرسل وهو في بيت أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين ليأتيا بأهله: أي والخمسمائة أخذها من أبي بكر ليشتريا بها ما يحتاجان إليه، فاشترى بها زيد ثلاثة أبعرة، وأرسل معهما أبو

بكر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن الأريقط دليلا أي ببعيرين أو ثلاثة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم بنتيه صلى الله عليه وسلم وسودة زوجته وأم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم زوج زيد بن حارثة وابنها أسامة بن زيد، فأسامة أخو أيمن لأمه، وكان أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه وابن حاضنته. عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن أسامة عثر يوما في أسكفة الباب فشج وجهه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أميطي عنه، قالت عائشة: فكأني تقذرته» أي لأنه كان أسود أفطس «فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمصه» يعني الدم «ثم يمجه» . وأما بنته صلى الله عليه وسلم زينب التي هي أكبر بناته، فكانت مع زوجها ابن خالتها أبي العاص بن الربيع فمنعها من الهجرة، وسيأتي أنها هاجرت بعد ذلك قبله وتركته على شركه، وبعد أن أسر في بدر وأطلق، وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يخلي سبيلها، ففعل ثم لما أسلم ردها إليه. وأما بنته رقية، فتقدم أنها هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان، وخرج مع فاطمة ومن ذكر معها عبد الله بن أبي بكر، ومعه عيال أبي بكر فيهم زوجته أم رومان وعائشة وأختها أسماء زوج الزبير: أي وهي حامل بابنها عبد الله بن الزبير، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها كانت هي وأمها على بعير في محفة فنفر البعير، قالت: فصارت أمي تقول: وابنتاه واعروساه، فمسك البعير وسلم الله» وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «لما صارت أمي تقول: واعروساه وابنتاه سمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلت خطامه، فوقف بإذن الله، وسلمنا الله» وأم رومان ولدت لأبي بكر عائشة وعبد الرحمن رضي الله تعالى عنهم؛ وكانت قبل أبي بكر تحت عبد الله بن الحارث فولدت له الطفيل، قال صلى الله عليه وسلم في حقها «من يسره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان» وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ماتت سنة ست من الهجرة «ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها، وقال: اللهم إنه لم يخف عليك ما لاقت أم رومان فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم» . وعورض القول بموتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في البخاري عن مسروق قال: سألت أم رومان وهي أم عائشة رضي الله تعالى عنهما، ومسروق ولد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، وما في البخاري حديث صحيح مقدم على ما ذكره أهل السير من موتها في حياته صلى الله عليه وسلم. وفي البخاري عن أسماء «فنزلت بقباء فولدته بها» يعني ولدها عبد الله بن الزبير، «ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بتمرة» أي بتلك التمرة. ففي المواهب «وحنكه بها، ثم دعا له وبرك عليه» وهو أوّل مولود ولد في

الإسلام أي للمهاجرين. وفيه أن أسماء إنما قدمت المدينة: أي إلى قباء بعد تحوله صلى الله عليه وسلم من قباء، ويدل له قول بعضهم: قدم آل أبي بكر من مكة وهو صلى الله عليه وسلم يا بني مسجده، وأنزلهم أبو بكر في السنح، إلا أن يقال: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاء إلى قباء بعد ذلك فقد قال بعضهم: وهذا السياق يدل على أن عبد الله بن الزبير ولد في السنة الأولى لا في الثانية كما قاله الواحدي وتبعه غيره، فقال: ولد بعد عشرين شهرا من الهجرة ففرح به المسلمون فرحا شديدا، لأن اليهود كانوا يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم مولود، وهذا ربما يؤيد القول الثاني، إلا أن يقال: يجوز أن يكون عبد الله مكث في بطنها المدة المذكورة. فقد ذكر أن مالكا رضي الله تعالى عنه مكث في بطن أمه سنتين، وكذا الضحاك بن مزاحم التابعي مكث في بطن أمه سنتين. وفي المحاضرات للجلال السيوطي أن مالكا مكث في بطن أمه ثلاث سنين، وأخبر سيدنا مالك أن جارة له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتي عشرة سنة بحمل أربع سنين، وحينئذ يجوز أن تكون سيدتنا أسماء جاءت إلى قباء فولدت سيدنا عبد الله، وصادف مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى قباء في ذلك اليوم، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكناه أبا بكر بكنية جده الصديق رضي الله تعالى عنه. وروي «أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمره والده الزبير بذلك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه» وكون آل أبي بكر نزلوا عند مجيئهم المدينة في السنخ لا ينافي كون أسماء نزلت بقباء وولدت بها لأنه يجوز أن يكون نزول أسماء في السنح بعد نزولها في قباء، قصدا لراحتها لكونها كانت حاملا حتى وضعت، والسياق المتقدم يدل على ذلك، وكون عبد الله بن الزبير أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة كذلك عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أول مولود ولد للمهاجرين بالحبشة، ويقال له عبد الله الجواد. واتفق أن النجاشي ولد له مولود يوم عبد الله هذا، فأرسل إلى جعفر يقول له: كيف سميت ابنك، فقال: سميته عبد الله، فسمى النجاشي ابنه عبد الله وأرضعته أسماء بنت عميس مع ابنها عبد الله المذكور، فكانا يتراسلان بتلك الأخوة من الرضاع. وأوّل مولود ولد للأنصار بعد الهجرة مسلمة بن مخلد، وقيل النعمان بن بشير. وذكر أن أم أسماء قدمت المدينة وهي مشركة على أسماء بهدية، فحجبتها أسماء وردت عليها هديتها، فسألت عائشة رضي الله تعالى عنها صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمر أسماء أن تؤوي أمها وتقبل هديتها.

قيل وفي ذلك وفي إرسال عبد الرحمن بن أبي بكر وهو بمكة على دينه قبل أن يسلم إلى أبيه يسأله النفقة فأبى أبوه أن ينفق عليه أنزل الله الإذن في الإنفاق على الكفار. وقال أبو أيوب الأنصاري «لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في أسفل البيت وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إني أكره وأعظم أن أكون في العلو وتكون تحتي، فأظهر أنت وكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا أيوب أرفق بنا» : أي السفل أرفق بنا «وبمن يغشانا» أي وفي لفظ «إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت، قال أبو أيوب: فانكسر حب لنا فيه ماء» والحب بضم الحاء المهملة: الجرة الكبيرة «فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فيؤذيه، ولم أزل أتضرع للنبي صلى الله عليه وسلم حتى تحول في العلو» أي وفي رواية عن أبي أيوب قال «نزل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت في العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب، فقلت لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، ينتثر التراب عليه من وطء أقدامنا، وتنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي» وفي رواية «ينزل عليه القرآن، ويأتيه جبريل، فما بت تلك الليلة أنا ولا أم أيوب، فلما أصبحت قلت: يا رسول الله ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب قال: لم؟ يا أبا أيوب؛ قلت: كنت أحق بالعلو منا، ينزل عليك الملائكة، وينزل عليك الوحي والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا» أي وعن أفلح مولى أبي أيوب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل أسفل وأبو أيوب في العلو انتبه أبو أيوب ذات ليلة؛ فقال: نمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم فباتا في جانب، فلما أصبح» الحديث. وعند نزوله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب صارت تأتي إليه جفنة سعد بن عبادة، وجفنة أسعد به زرارة كل ليلة، أي وكانت جفنة سعد بن عبادة؛ بعد ذلك تدور معه صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه، فقد جاء «كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سعد بن عبادة جفنة من ثريد» أي عليه لحم أو خبز في لبن أو في سمن أو في عسل أو بخل وزيت، في كل يوم تدور معه أينما دار مع نسائه، وصار وهو في بيت أبي أيوب يأتي إليه الطعام من غيرهما» أي فقد جاء «وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام يتناوبون، حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبي أيوب» أي وفي لفظ «وجعل بنو النجار يتناوبون في حمل الطعام إليه صلى الله عليه وسلم مقامه في منزل أبي أيوب رضي الله تعالى عنه وهو تسعة أشهر. وأول طعام جيء به إليه صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب قصعة أم زيد بن ثابت» . فعن زيد بن ثابت «أول هدية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

قصعة أرسلتني بها أمي إليه فيها ثريد خبز برّ بسمن ولبن فوضعتها بين يديه، وقلت: يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي، فقاله: بارك الله فيها» أي وفي رواية «بارك الله فيك ودعا أصحابه فأكلوا» قال زيد: فلم أرم الباب: أي أرده حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم» أي بفتح العين عظم عليه لحم، فإن أخذ عنه اللحم قيل له عراق بضم العين. وقد جاء «كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد» ويقال له الثفل بالمثلثة والفاء. ولما بني المسجد جعل في المسجد محلا مظللا يأوي إليه المساكين يسمى الصفّة، وكان أهله يسمون أهل الصفة، وكان صلى الله عليه وسلم في وقت العشاء يفرقهم على أصحابه ويتعشى معه منهم طائفة. وظاهر السياق أن ذلك: أي المحل فعل في زمن بناء المسجد وآوى إليه المساكين من حينئذ، لكن روى البيهقي عن عثمان بن اليمان قال: «لما كثر المهاجرون بالمدينة ولم يكن لهم زاد ولا مأوى، أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وسماهم أصحاب الصفة؛ وكان يجالسهم ويأنس بهم، أي وكان إذا صلى أتاهم فوقف عليهم فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فقرا وحاجة» . أقول: ذكر «أن المسجد كان إذا جاءت العتمة يوقد فيه بسعف النخل، فلما قدم تميم الداري المدينة صحب معه قناديل وحبالا وزيتا وعلق تلك القناديل بسواري المسجد وأوقدت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نوّرت مسجدنا نوّر الله عليك، أما والله لو كان لي ابنة لأنكحتكها» . هذا، وفي كلام بعضهم: أول من جعل في المسجد المصابيح عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. ويوافقه قول بعضهم: والمستحب من بدع الأفعال تعليق القناديل فيها: أي المساجد. وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فإنه لما جمع الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح علق القناديل، فلما رآها عليّ تزهر قال: نورت مساجدنا نور الله قبرك يابن الخطاب، ولعل المراد تعليق ذلك بكثرة، فلا يخالف ما تقدم عن تميم الداري. ثم رأيت في أسد الغابة عن سراج غلام تميم الداري قال «قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن خمسة غلمان لتميم الداري، فأمرني يعني سيده فأسرجت المسجد بقنديل فيه زيت وكانوا لا يسرجون فيه إلا بسعف النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسرج مسجدنا؟ فقال تميم: غلامي هذا، فقال: ما اسمه؟ فقال فتح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل اسمه سراج، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سراجا» . وعن بعضهم قال: أمرني المأمون أن أكتب بالاستكثار من المصابيح في

المساجد، فلم أدر ما أكتب، لأنه شيء لم أسبق إليه، فأريت في المنام أكتب، فإن فيها أنسا للمتجهدين، ونفيا لبيوت الله عن وحشة الظلم، فانتبهت وكتبت بذلك. قال بعضهم: لكن زيادة الوقود كالواقع ليلة النصف من شعبان، ويقال لها ليلة الوقود ينبغي أن يكون ذلك كتزويق المساجد ونقشها. وقد كرهه بعضهم والله أعلم. قال: وذكر ابن إسحاق في كتاب المبدأ وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن تبع بن حسان الحميري، هو تبع الأول: أي الذي ملك الأرض كلها شرقها وغربها، وتبع بلغة اليمن: الملك المتبوع، ويقال له الرئيس لأنه رأس الناس بما أوسعهم من العطاء وقسم فيهم من الغنائم، وكان أول من غنم. ولما عمد إلى البيت يريد تخريبه رمي بداء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا، وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه قيد رمح كما تقدم، وتقدم أنه بعد ذلك كسا الكعبة، وبعد ذلك اجتاز بيثرب، وكان في ركابه مائة ألف وثلاثون ألفا من الفرسان، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، فأخبر أن أربعمائة رجل من أتباعه من الحكماء والعلماء تبايعوا أن لا يخرجوا منها، فسألهم عن الحكمة في ذلك؟ فقالوا: إن شرف البيت إنما هو برجل يخرج يقال له محمد هذه دار إقامته ولا يخرج منها، فبنى فيها لكل واحد منهم دارا، واشترى له جارية وأعتقها وزوجها منه، وأعطاهم عطاء جزيلا، وكتب كتابا وختمه ودفعه إلى عالم عظيم منهم، وأمره أن يدفع ذلك الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وفي ذلك الكتاب، أنه آمن به وعلى دينه، وبني دار له صلى الله عليه وسلم ينزلها إذا قدم تلك البلد ويقال إنها دار أبي أيوب. أي كما تقدم، وأنه من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب، أي فهو صلى الله عليه وسلم لم ينزل إلا داره أي على ما تقدم. ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي دعا إلى الإسلام أرسلوا إليه ذلك الكتاب مع شخص يسمى أبا ليلى، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أنت أبو ليلى الذي معك كتاب تبع الأول؟ فقال له أبو ليلى: من أنت؟ قال: أنا محمد، هات الكتاب، فلما قرأه: أي قرىء عليه. وذكر بعضهم: أن مضمون الكتاب. أما بعد يا محمد، فإني آمنت بك وبربك ورب كل شيء، وبكل ما جاءك من ربك من شرائع الإسلام والإيمان. وإني قلت ذلك، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني فإني من أصل الأولين، وبايعتك قبل مجيئك وقبل أن يرسلك الله، وأنا على ملتك وملة إبراهيم. وختم الكتاب وتلا: أي قرأ عليه لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم: الآية 4] فقد قرأ هذا قبل نزوله: وكتب عنوان الكتاب: إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين ورسول رب العالمين، من تبع الأول حمير، أمانة الله في يد من وقع هذا الكتاب في يده،

إلى أن يدفعه إلى صاحبه ودفعه إلى رأس العلماء المذكورين. ثم وصل الكتاب المذكور إلى النبي صلى الله عليه وسلم على يد بعض ولد العالم المذكور حين هاجر وهو بين مكة والمدينة، وسياق الرواية الأولى يدل على أن ذلك كان في أول البعثة، وبعد قراءة الكتاب عليه صلى الله عليه وسلم قال: مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات» وكان بين تبع هذا، أي بين قوله إنه آمن به وعلى دينه، وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة سواء، أي وتقدم أنه ابتاع المحل الذي بناه دارا له قبل مبعثه بألف سنة فليتأمل. ويقال إن الأوس والخزرج من أولاد أولئك العلماء والحكماء اهـ. أقول: قد علمت أن نزوله صلى الله عليه وسلم دار أبي أيوب على الوجه المتقدم، وأخذه المربد على الكيفية المتقدمة مع وصول الكتاب إليه أول البعثة أو بين مكة والمدينة وهو مهاجر إلى المدينة يبعد هذا. وفيه أيضا: أن الذي في «التنوير» لابن دحية أن هذا تبع الأوسط، وأنه الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه محمد. أي فقد ذكر بعضهم أن تبعا أراد تخريب المدينة واستئصال اليهود، فقال له رجل منهم بلغ من العمر مائتين وخمسين سنة: الملك أجل من أن يستخفه غضب، وأمره أعظم أن يضيق عنا حمله أو نحرم صفحة، مع أن هذه البلدة مهاجر نبي يبعث بدين إبراهيم. فكتب كتابا وذكر فيه شعرا، فكانوا يتوارثون ذلك الكتاب إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فأدوه إليه. ويقال إن الكتاب كان عند أبي أيوب الأنصاري وكان ذلك قبل مبعثه بسبعمائة عام. وفي «التنوير» أيضا أن ابن أبي الدنيا ذكر أنه حفر قبر بصنعاء قبل الإسلام، فوجد فيه امرأتان لم يبليا، وعهد رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر فلانة وفلانة ابنتي تبع، ما تتاوهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. وجاء «لا تسبوا تبعا، فإنه كان مؤمنا» .. وفي رواية «لا تسبوا تبعا الحميري، فإنه أول من كسا الكعبة» قال السهيلي: وكذا تبع الأول كان مؤمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال شعر ينبىء فيه بمبعثه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وكانت المدينة في الجاهلية معروفة بالوباء: أي الحمى، وكان إذا أشرف على واديها أحد ونهق نهيق الحمار لا يضره الوباء. وفي لفظ: كان إذا دخلها غريب في الجاهلية يقال له إن أردت السلامة من الوباء فانهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك سلم. وفي حياة الحيوان: كانوا في الجاهلية إذا خافوا وباء بلد عشروا كتعشير

الحمار: أي نهقوا عشرة أصوات في طلق واحد قبل أن يدخلوها، وكانوا يزعمون أن ذلك يمنعهم من الوباء. ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد أهلها من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) [المطفّفين: الآية 1] الآية فأحسنوا الكيل بعد ذلك. ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وأصحابه أصابت أصحابه بالحمى. وفي لفظ: استوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق أمزجتهم، فمرض كثير منهم وضعفوا، حتى كانوا يصلون من قعود، فرآهم صلى الله عليه وسلم، فقال: «اعلموا: أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فتجشموا المشقة وصلوا قياما» . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، ولما حصلت لها الحمى قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي أراك هكذا؟ قالت: بأبي أنت وأمي هذه الحمى وسبتها، فقال: لا تسبيها فإنها مأمورة، ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها الله تعالى عنك، قالت: فعلمني، قال، قولي: اللهم ارحم جلدي الرقيق وعظمي الدقيق، من شدة الحريق؛ يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله العظيم فلا تصدعي الرأس، ولا تنتني الفم، ولا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلها آخر، فقالتها، فذهبت عنها» . وعن علي رضي الله تعالى عنه «لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فأصابنا بها وعك» : أي حمى، ومن جملة من أصابته الحمى سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومولياه عامر بن فهيرة وبلال: أي وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى أنشد: كل امرىء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله أي وهذا من شعر حنظلة بن يسار، بناء على الصحيح أن الرجز يقال له شعر كما تقدم؛ وليس من شعر أبي بكر. فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام، أي ولا في الجاهلية كما في رواية عنها: والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام: أي لم ينشئه حتى مات، أي وهذا ربما ينافي ما في الينبوع: ليس عمل الشعر رذيلة، قد كان الصديق وعمر وعلي رضوان الله تعالى عليهم يقولون الشعر، وعليّ كرم الله وجهه أشعر من أبي بكر وعمر. وما تقدم عن عائشة معارض بظاهر ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أمين مصطفى بالخير يدعو ... كضوء البدر زايله الظلام إلا أن يحمل قولها على أنها لم تسمع ذلك منه بناء على أن ذلك من إنشاء

الصديق. وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته: أي صوته يقول متشوقا إلى مكة ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، وأراد بلال بالوادي وادي مكة. والإذخر: نبت معروف. وجليل: بالجيم نبت ضعيف، وشامة وطفيل: جبلان بقرب مكة، أي وفي رواية: وهل يبدون لي عامر وطفيل وعامر أيضا: جبل من جبال مكة. وفي شرح البخاري للخطابي: كنت أحسب شامة وطفيلا جبلين حتى مررت بهما، فإذا هما عينان من ماء هذا كلامه. وقد يقال: يجوز أن تكون العينان بقرب الجبلين المذكورين، فأطلق اسم كل منهما على الآخرين، ولعل هذا اللعن من بلال كان قبل النهي عن لعن المعين، لأنه لا يجوز لعن الشخص المعين على الراجح، إلا إن علم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب دون الكافر الحيّ، لأنه يحتمل أن يختم له بالحسنى فيموت على الإسلام، لأن اللعن هو الطرد عن رحمة الله تعالى المستلزم لليأس منها. وأما اللعن على الوصف كآكل الربا فجائز أو أن ذلك محمول في ذلك على الإهانة والطرد عن مواطن الكرامة لا على الطرد عن رحمة الله تعالى الذي هو حقيقة اللعن، وكان كل من أبي بكر وعامر وبلال في بيت واحد. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، فدخلت عليهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فإذا بهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى من شدة الوعك فسلمت عليهم، أي وقالت لأبيها: يا أبت كيف أصبحت؟ فأنشدها الشعر المتقدم، قالت: فقلت: إنا لله، إن أبي ليهذي، قالت: فقلت لعامر بن فهيرة: كيف تجدك؟ فقال: إني وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان خنقه من فرقه قالت: فقلت: هذا والله لا يدري ما يقول، قالت: ثم قلت لبلال: كيف أصبحت فإذا هو لا يعقل. وفي رواية فأنشدها البيتين، قالت: وذكرت حالهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: إنهم يهذون ولا يعقلون من شدة الحمى. أي وهذا السياق يخالف ما في السيرة الهشامية أن الصديق رضي الله تعالى عنه لما قدم المدينة أخذته الحمى هو وعامر بن فهيرة وبلال، إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أنها أخذتهم أولا وأقلعت عنهم ثم عادت عليهم بعد دخوله صلى الله عليه وسلم بعائشة، أو أن

عائشة استأذنته في ذلك وذكرت له حالهم قبل دخوله بها لأنها كانت معقودا عليها، ولعل الصديق كان في غير بيت أم عائشة. والذي في تاريخ الأزرقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لما قدم المهاجرون المدينة شكوا بها، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: كيف تجدك؟ فأنشده ما تقدم، ثم دخل على بلال فقال: كيف تجدك يا بلال؟ فأنشده ما تقدم، ثم دخل على عامر بن فهيرة فقال: كيف تجدك يا عامر؟ فأنشده ما تقدم» ولا مانع من التعدد فليتأمل. وحين ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها له ذلك نظر إلى السماء، أي لأنها قبلة الدعاء وقال «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد» وفي رواية «وأشدّ وبارك لنا في مدّها وصاعها، وصححها لنا ثم انقل وباءها إلى مهيعة» أي الجحفة كما في رواية. وهي قرية قريبة من رابع محل إحرام من يجيء من جهة مصر حاجا، وكان سكانها إذ ذاك يهود. ودعاؤه صلى الله عليه وسلم أن يحبب إليهم المدينة إنما هو لما جبلت عليه النفوس من حبّ الوطن والحنين إليه، ومن ثم جاء في حديث «أن عائشة رضي الله تعالى عنها سألت رجلا بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة من مكة، فقالت له: كيف تركت مكة؟ فذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لا تشوقنا يا فلان» وفي رواية «دع القلوب تقر» . أقول: ودعاؤه صلى الله عليه وسلم بنقل الحمى كان في آخر الأمر، وأما عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة فخير بين الطاعون والحمى: أي بقائها، فأمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام كما جاء في بعض الأحاديث «أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام» وقولنا أي بقائها ردّ لما قد يتوهم من الحديث أن الحمى لم تكن بالمدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم إليها، وإنما اختار الحمى على الطاعون لأنه كان حينئذ في قلة من أصحابه، فاختار بقاء الحمى لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون. ثم لما أحتاج للجهاد وأذن له في القتال ووجد الحمى تضعف أجساد الذين يقاتلون دعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد الله تعالى بعد أن كانت بخلاف ذلك، كذا قيل فليتأمل. فإنه يقتضي أن الحمى لما نقلت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة، وهو الموافق لما يأتي عن الخصائص، وحين نقلت الحمى إلى الجحفة صارت الجحفة لا يدخلها أحد إلا حم، بل قيل إذا مر بها الطائر حم. واستشكل حينئذ جعلها ميقاتا للإحرام، وقد علم من قواعد الشرع أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما فيه ضرر.

وأجيب بأن الحمى انتقلت إليها مدة مقام اليهود بها ثم زالت بزوالهم من الحجاز أو قبله حين التوقيت بها، كذا قيل فليتأمل. وعنه صلى الله عليه وسلم قال «رأيت» أي في النوم «امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة» . وفي الخصائص الصغرى للسيوطي: «وصرف الحمى عنها: يعني المدينة أول ما قدمها ونقلها إلى الجحفة، ثم لما أتاه جبريل بالحمى والطاعون أمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام، ولما عادت الحمى إلى المدينة باختياره صلى الله عليه وسلم إياها لم تستطع أن تأتي أحدا من أهلها حتى جاءت ووقفت ببابه واستأذنته فيمن يبعثها إليه، فأرسلها إلى الأنصار» . فقد جاء «إن الحمى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أنا أم ملدم» وفي رواية «أنا الحمى، أبري اللحم، وأشرب الدم، قال: لا مرحبا بك ولا أهلا» . وفيه أنه تقدم «أنه صلى الله عليه وسلم نهى عائشة عن سبها، فقالت له: أمضي إلى أحب قومك أو أحب أصحابك إليك، فقال: اذهبي للأنصار، فذهبت إليهم فصرعتهم فقالوا له: ادع لنا بالشفاء، فقال: إن شئتم دعوت الله عز وجل يكشفها عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم» وفي رواية «كانت لكم طهورا، فقالوا بلى دعها يا رسول الله» ولعله هذا كان لطائفة من الأنصار، فلا ينافي ما جاء «أن الأنصار لما شكوا له الحمى وقد مكثت عليهم ستة أيام بليالها دعا لهم بالشفاء، وصار صلى الله عليه وسلم يدخل دارا دارا وبيتا بيتا يدعو لهم بالعافية» وهذا الذي في الخصائص يدل على أن الحمى لما ذهبت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة، وأنها بعد ذلك عادت إلى المدينة باختيار منه صلى الله عليه وسلم. والذي نقله هو عن الحافظ ابن حجر أن الحمى كانت تصيب من أقام بالمدينة من أهلها وغيرهم، فارتفعت بالدعاء عن أهلها إلا النادر ومن لا يألف هواها. وقد جاء «وإن حمى ليلة كفارة سنة، ومن حم يوما كانت له براءة من النار، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» . والذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن جابر «استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذه؟ قالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء فلقوا ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فشكوا إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: إن شئتم دعوت الله تعالى ليكشفها وإن شئتم تكون لكم طهورا، قالوا أو يفعل؟ قال نعم، قالوا فدعها» والله أعلم. ثم دعا صلى الله عليه وسلم بقوله «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة وفي رواية «واجعل مع البركة بركتين» وجاء «أنهم شكوا له صلى الله عليه وسلم سرعة فناء طعامهم، فقال

لهم: قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه» قيل معناه تصغير الأرغفة، ودعا لغنم كانت ترعى بالمدينة فقال «اللهم اجعل نصف أكراشها مثل ملئها في غيرها من البلاد» أي ولعل الدعاء بذلك ليس خاصا بتلك الأغنام الموجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم. ويدل لذلك ما ذكره السيوطي في الخصائص الصغرى: مما اختصت به المدينة أن غبارها يطفىء الجذام، ونصف أكراش الغنم فيها مثل ملئها في غيرها من البلاد، والكرش كالمعدة للإنسان. وكما صينت المدينة عن الطاعون بإرساله إلى الشام صينت عن الدجال. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «على أنقاب المدينة» أي على أبوابها «ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» وفي رواية «لها» : أي المدينة «سبعة أبواب على كل باب ملك» . فإن قيل: كيف مدحت المدينة بعدم دخول الطاعون، وكيف أرسله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع أنه شهادة؟. وأجيب بأنه إنما أرسله إلى الشام لما تقدم، وصينت عنه بعد انتفاء ما تقدم، لأن سببه طعن كفار الجن وشياطينهم، فمنع من المدينة احتراما لها، ولم يتفق دخول الطاعون بها في زمن من الأزمنة، بخلاف مكة فإنه وجد بها في بعض السنين وهي سنة تسع وأربعين وسبعمائة. ويقال إنه وقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف لما هدم السيل الكعبة: أي الجانب الذي جهة الحجر. قال بعضهم: فمن حين انهدم وجد الطاعون بمكة، واستمر إلى أن أقاموا الأخشاب موضع المنهدم وجعلوا عليها الستر، فعند ذلك ارتفع الطاعون، كذا أخبر بعض الثقات من أهل مكة. وكونه لم يتفق دخول الطاعون في المدينة في زمن من الأزمنة يخالفه قول بعضهم: وفي السنة السادسة من الهجرة وقع طاعون في المدينة أفنى الخلق، وهو أول طاعون وقع في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها، وإن سمعتم به في أرض فلا تقربوها» . ويروى «أنه لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة رفع يديه وهو على المنبر وقال: اللهم انقل عنها الوباء ثلاثا» أي وفيه أن هذا قد يخالف ما سبق من أن هذا كان في آخرة الأمر لا عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، إلا أن يحمل على أن قدومه صلى الله عليه وسلم كان من سفر لا للهجرة. وفي الحديث «سيأتي على الناس زمان يلتمسون فيه الرخاء فيحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون؛ لا يلبث فيها أخذ فيصبر للأوائها

وشدتها حتى يموت إلا كنت له يوم القيامة شهيدا وشفيعا» . وفي مسلم «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا وكنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا» أي شفيعا للعاصي وشهيد للطائع. واللأواء بالمد الجوع. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت، فإني أشفع لمن يموت بها، لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله تعالى ذوب الملح في الماء» وفي رواية «أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» أي وفي رواية في مسلم «تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة» وتقدم أن هذا ليس عاما في الأزمنة ولا في الأشخاص، وفي رواية «مكة والمدينة ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله عز وجل وعليه لعنة الله والملائكة والناس، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» أي وبهذا الحديث تمسك من جوّز اللعن على يزيد، لما تقدم عنه في إباحة المدينة في وقعة الحرة. وردّ بأنه لا دلالة فيه على جواز لعن يزيد باسمه، والكلام إنما هو فيه، وإنما يدل على جواز لعنه بالوصف وهو «من أخاف أهل المدينة» وليس الكلام فيه، والفرق بين المقامين واضح كما علمت. وجاء «أهل المدينة جيراني وحقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر من حفظهم كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال، أي وهي عصارة أهل النار» وفي لفظ «من أخاف هذا الحيّ من الأنصار، فقد أخاف ما بين هذين ووضع يده على جنبيه» وقيل لها طيبة لطيب العيش بها، ولأن للعطر أي الطيب بها رائحة لا توجد فيه في غيرها. ومن خصائصها أن ترابها شفاء من الجذام كما تقدم. زاد بعضهم: ومن البرص، بل من كل داء، وعجوتها شفاء من السم. أي وفي الحديث «تخرب المدينة قبل يوم القيامة بأربعين سنة، وإن خرابها يكون من الجوع، وإن خراب اليمن يكون من الجراد» أي وقد دعا صلى الله عليه وسلم على الجراد، فقال «اللهم أهلك الجراد، واقتل كباره، وأهلك صغاره واقطع دابره، وخذ بأفواهها عن مواشينا وارزقنا إنك سميع الدعاء» وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «كان صلى الله عليه وسلم يؤتى بأول التمر فيقول: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارها، وفي مدّنا، وفي صاعنا بركة مع بركة، ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. اللهم إن

إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لمكة، وإني عبدك ونبيك أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» . ثم بنى صلى الله عليه وسلم بقية الحجر التسع عند الحاجة إليها، أي وهذا هو الموافق لما سبق أن بعضها بني مع المسجد وهي حجرة سودة وحجرة عائشة رضي الله تعالى عنهما كما تقدم. وفي كلام أئمتنا أن بيوته صلى الله عليه وسلم كانت مختلفة وأكثرها كان بعيدا عن المسجد، وكلام الأصل يقتضي أنها بنيت كلها في السنة الأولى من الهجرة حيث قال: وفيها: أي السنة الأولى بنى مسجده صلى الله عليه وسلم ومساكنه: أي وخط صلى الله عليه وسلم للمهاجرين في كل أرض ليست لأحد وفيما وهبته له الأنصار من خططها. وأقام قوم منهم ممن لم يمكنه البناء بقباء عند من نزلوا عليه بها. قال عبد الله بن زيد الهذلي: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد بن عبد الملك: أي بعد موت أزواجه صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: حضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ بإدخالها في المسجد،، فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم: أي وكانت تسعة: أربعة مبنية باللبن، أي وسقفها من جريد النخل مطين بالطين، ولها حجر من جريد، أي غير بيت أم سلمة فإنها جعلت حجرتها بناء. وكان صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، فلما قدم دخل عليه أول نسائه فقال لها: ما هذا البنيان؟ قالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال صلى الله عليه وسلم «وإن شر ما ذهب فيه مال المرء المسلم البنيان» وعن علي رضي الله تعالى عنه «إن لله بقاعا تسمى المنتقمات، فإذا اكتسب الرجل المال من حرام سلط الله عليه الماء والطين، ثم لا يمتعه به» أي وكانت تلك الحجر التي من الجريد مغشاة من خارج بمسوح الشعر، وخمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر بها، على أبوابها ستور من مسوح الشعر، أي وهي التي يقال لها البلانس ذرع الستر فوجد ثلاثة أذرع في ذراع. هذا، وفي كلام السهيلي: كانت مساكنه صلى الله عليه وسلم مبنية من جريد عليه. طين، وبعضها من حجارة موضوعة وسقوفها كلها من جريد، وكانت حجرته عليه الصلاة والسلام أكسية من شعر مربوطة بخشب من عرعر، هذا كلامه. قال بعضهم: وليتها تركت ولم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء، يريدون ما رضي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح خزائن الأرض بيده، أي فإن ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر في البنيان. وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بعض طرق المدينة فرأى فيه مشرعة، فقال: ما هذه؟

قالوا: هذه لرجل من الأنصار، فجاء ذلك الرجل فسم على النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه فعل ذلك مرارا، فاعلم بالقصة فهدمها الرجل» . وعن الحسن البصري قال: كنت وأنا مراهق أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي، أي لأن الحسن البصري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب يقينا، وكان ابنا لمولاة لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم اسمها خيرة، وكانت أم سلمة تخرجه للصحابة يباركون عليه، وأخرجته إلى عمر رضي الله تعالى عنه فدعا له بقوله: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس، وكان والده من جملة السبي الذي سباه خالد في خلافة الصديق من الفرس. وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، لأن عمره كان قبل أن يخرج عليّ من المدينة إلى الكوفة، وذلك بعد قتل عثمان أربع عشرة سنة. قيل له: يا أبا سعيد: إنك تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك لم تدركه؟ فقال لذلك السائل: كل شيء سمعتني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا، أي خوفا من الحجاج. وقد أخرج له عن عليّ جماعة من الحفاظ كالترمذي والنسائي والحاكم والدارقطني وأبو نعيم ما بين حسن وصحيح، وبه يردّ قول من أنكر أنه لم يسمع من علي، لأن المثبت مقدم على النافي، أو هو محمول على أنه لم يسمع من علي بعد خروج علي من المدينة. قال بعضهم: وتلك الفصاحة التي كانت عند الحسن والحكمة من قطرات لبن شربها من ثدي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فإن أمه ربما غابت فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فربما در عليه ثديها فشربها. قال بعضهم: كان الحسن البصري أجمل أهل البصرة. وفي كلام ابن كثير: كان الحسن البصري شكلا ضخما طوالا، هذا كلامه. وكان إذا أقبل كأنه أقبل من دفن حميمة، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له. وعن الواقدي: كان لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، فكلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلا تحول له حارثة عن منزل حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وهذا يخالف ما تقدم عن الأصل، من أن مساكنه بنيت في السنة الأولى. ومات عثمان بن مظعون، وهو أخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة «وأمر صلى الله عليه وسلم أن يرش قبره بالماء، ووضع حجرا عند رأس القبر، أي بعد أن أمر رجلا أن يأتيه بحجر، فأخذ الرجل حجرا ضعف عن حمله، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر عن ذراعيه ثم حمله

ووضعه في المحل المذكور، وقال: أتعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي» أي ومن ثم دفن ولده إبراهيم عند رجليه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، قالت: ورأيت دموع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خدي عثمان بن مظعون. أي وفي الاستيعاب «أنه مات بعد شهوده بدرا، فلما غسل وكفن قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه» ولا معاوضة بينه وبين خبر عائشة رضي الله تعالى عنها السابق كما لا يخفى «وجعل النساء يبكين، فجعل عمر يسكتهنّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عمر، ثم قال: إياكن ونعيق الشيطان، ومهما كان من العين فمن الله من الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وقالت امرأته، وهي خولة بنت حكيم، وقيل أمّ العلاء الأنصارية وكان نزل عليها، وقيل أم خارجة بن زيد: طبت، هنيئا لك الجنة أبا السائب، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة غضب وقال: وما يدريك؟ فقالت: يا رسول الله مارسك وصاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أدري ما يفعل بي، فأشفق الناس على عثمان» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن خولة بنت حكيم دخلت عليها وهي متشوشة الخاطر، فقالت لها عائشة: ما بالك؟ قالت: زوجي «تعني عثمان بن مظعون» يقوم الليل ويصوم النهار، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فذكرت له ذلك، فلقي عثمان فقال له: يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أما لك بي أسوة، والله إن أخشاكم لله وحدوده لأنا» أي وسماه السلف الصالح فقال عند دفن ولده إبراهيم «الحق بسلفنا الصالح» وقال عند دفن بنته زينب «الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون» . ومات أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه «ووجد» أي حزن «رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدا شديدا عليه، وكان نقيبا لنبي النجار، فلم يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا بعده، أي بعد أن قالوا له اجعل لنا رجلا مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم، وقال لهم: أنتم أخوالي وأنا نقيبكم، وكره أن يخص بذلك بعضهم دون بعض، فكانت من مفاخرهم» . أي ووهم ابن منده وأبو نعيم في قولهما إن أبا أمامة كان نقيبا لبني ساعدة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل نقيب كل قبيلة منهم، ومن ثم كان نقيب بني ساعدة سعد بن عبادة. أي وقد قيل إن قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مات البراء بن معرور، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب هو وأصحابه فصلى على قبره، وقال: «اللهم اغفر له وارحمه وارض عنه وقد فعلت» وهي أول صلاة صليت على الميت في الإسلام بناء

على أن المراد بالصلاة حقيقتها، وإلا جاز أن يراد بالصلاة الدعاء، ويوافق ذلك قول الإمتاع: لم أجد في شيء من كتب السير متى فرضت صلاة الجنازة. ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون. وقد مات في السنة الثانية، وكذلك أسعد بن زرارة مات في السنة الأولى. ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه الصلاة الحقيقة، وقد تقدم ذلك وتقدم ما فيه. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود، أي بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير: أي صالحهم على ترك الحرب والأذى: أي أن لا يحاربهم ولا يؤذيهم، وأن لا يعينوا عليه أحدا، وأنه إن دهمه بها عدوّ ينصروه، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم. وقد ذكر في الأصل صورة الكتاب، وآخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وهي دار أبي طلحة زوج أمّ أنس، أي واسمه زيد بن سهل، وقد ركب البحر غازيا فمات فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه بها ولم يتغير. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أن أبا طلحة لم يكن يكثر من الصوم في عهد رسول الله بسبب الغزو، فلما مات صلى الله عليه وسلم سرد الصوم. وكانت المؤاخاة- بعد بناء المسجد، وقيل والمسجد يا بنى- على المواساة والحق، وأن يتوارثوا بعد الموت دون ذوي الأرحام، وفي لفظ دون القرابة، فقال «تآخوا في الله أخوين أخوين» . أقول: ذكر ابن الجوزي عن زيد بن أبي أوفى قال «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة، فجعل يقول: أين فلان أين فلان؟ فلم يزل يتفقدهم ويبعث إليهم حتى اجتمعوا عنده، فقال: إني محدثكم بحديث فاحفظوه وعوه وحدثوا به من بعدكم: إن الله تعالى اصطفى من خلقه خلقا، ثم تلا هذه الآية اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحجّ: الآية 75] وإني أصطفي منكم من أحبّ أن أصطفيه، وأواخي بينكم كما آخى الله تعالى بين ملائكته، قم يا أبا بكر، فقام فجثا بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لك عندي يدا الله يجزيك بها، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، فأنت مني بمنزلة قميصي من جسدي وحرك قميصه بيده، ثم قال: ادن يا عمر، فدنا فقال: قد كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص، فدعوت الله أن يعزّ بك الدين أو بأبي جهل ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبهما إلى الله فأنت معي في الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة، وآخى بينه وبين أبي بكر» هذا كلام ابن الجوزي، وهو يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة آخى بين المهاجرين والأنصار أيضا كما آخى بينهم قبل الهجرة، وهذا لا يتم إلا لو آخى بين غير أبي بكر وعمر من المهاجرين، ويكون ابن أبي أوفى اقتصر. والمعروف المشهور أن المؤاخاة إنما وقعت مرتين مرة بين المهاجرين قبل

الهجرة، ومرة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة والله أعلم. ويدلّ لذلك قول بعضهم: كانوا إذ ذاك خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار، أي وقيل كانوا تسعين «فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب وقال: هذا أخي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ أخوين، وآخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد» وكان صهرا لأبي بكر، كانت ابنته تحت أبي بكر «وبين عمر وعتبان بن مالك، وبين أبي رويم الخثعمي وبين بلال، وبين أسيد بن حضير وبين زيد بن حارثة، وكان أسيد ممن كناه النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبس، وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان أحد العقلاء أهل الرأي، وكان الصديق رضي الله تعالى عنه يكرمه ولا يقدم عليه أحدا، وآخى بين أبي عبيدة وبين سعد بن معاذ، وآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع، وعند ذلك قال سعد لعبد الرحمن: يا عبد الرحمن إني من أكثر الأنصار مالا، فأنا مقاسمك، وعندي امرأتان فأنا مطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال له بارك الله لك في أهلك ومالك» . وفي الأصل عن ابن إسحاق «آخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: تآخوا في الله أخوين أخوين» . وفي كلام بعضهم «أنه صلى الله عليه وسلم آخى بين حمزة وبين زيد بن حارثة» وإليه أوصى حمزة يوم أحد، فليتأمل فإنهما مهاجران «ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب وقال هذا أخي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ أخوين» وفيه أن هذا ليس من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد تقدم في المؤاخاة بين المهاجرين قبل الهجرة مؤاخاته له صلى الله عليه وسلم. وفي رواية «لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه جاء عليّ تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أخي في الدنيا والآخرة» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب «وآخى بين جعفر بن أبي طالب، وهو غائب بالحبشة وبين معاذ بن جبل» أي أرصد، معاذا لأخوة جعفر إذا قدم من الحبشة. وبه يردّ ما قيل جعفر بن أبي طالب إنما قدم في فتح خيبر سنة سبع، فكيف يؤاخي بينه وبين معاذ بن جبل أول مقدمه عليه الصلاة والسلام «وآخى بين أبي ذرّ الغفاري والمنذر بن عمرو، وبين حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب» . وفي الاستيعاب «أنه آخى بين سلمان وأبي الدرداء» وجاء سلمان لأبي الدرداء زائرا فرأى أمّ الدرداء مبتذلة فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه، فسأل أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم عما قال

سلمان، فقال له مثل ما قال سلمان» ولعل هذه المؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء كانت قبل عتق سلمان، لأنه تأخر عتقه عن أحد، لأن أول مشاهده الخندق كما تقدم. وروى الإمام أحمد عن أنس «أنه آخى بين أبي عبيدة وبين أبي طلحة» وقد تقدم أنه آخى بينه وبين سعد بن معاذ، وقال المهاجرون «يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، كفونا المؤنة وأشركونا في المهنة. أي الخدمة «حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله» قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم» أي فإن ثناءكم عليهم ودعاءكم لهم حصل منكم به نوع مكافأة. قال بعضهم: والمؤاخاة من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك لنبيّ قبله «ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص» أي المحبوسين عند قريش المانعين لهما من الهجرة، فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة» أي بعد أن خرج إلى المدينة من حبس أهله له بمكة كما تقدم «أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين تعنيهما، فتبعها حتى عرف موضعهما وكان بيتا لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة: أي حجرا فوضعها تحت قيدهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه ذو المروة، ثم جعلهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه، فأنشد أي متمثلا: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم» وتقدم أن ذلك يردّ القول بأن عياشا استمرّ محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد دعا صلى الله عليه وسلم في قنوت الصلاة بقوله «اللهم أنج الوليد بن الوليد» أي وذلك أن يتخلص من حبسه بمكة، أي فإن الوليد أسر يوم بدر، أسره عبد الله بن جحش فقدم في فدائه أخواه خالد وكان أخاه لأبيه وهشام وكان أخاه لأمه وأبيه، أي ومن ثم لما أبى عبد الله أن يأخذ في فداء الوليد إلا أربعة آلاف درهم وصار خالد يأبى ذلك، قال له هشام: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت. ويقال «إنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن جحش: «ولا تقبل في فدائه إلا شملة أبيه» وهي درع فضفافة مقومة بمائة دينار «فجاآ بها وسلماها إلى عبد الله» فلما افتدي وقدم إلى مكة أسلم، فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي؟ فقال: كرهت أن يظنوا بي أني جزعت من الإسار، فلما أسلم حبسه أهل مكة، ثم أفلت ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد عمرة القضاء، وكتب إلى أخيه خالد، فوقع الإسلام في قلب

خالد، وكان خالد من جملة من خرج من مكة فارّا لئلا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كراهة الإسلام وأهله، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد عنه، وقال «لو أتانا خالد لأكرمناه، وما مثله يجهل الإسلام» فكتب له أخو الوليد بذلك، وفي مدة حبس الوليد كان صلى الله عليه وسلم في كل ليلة إذا صلى العشاء الآخرة قنت في الركعة الأخيرة يقول «اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم انج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج هشام بن العاص، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف، فأكلوا العلهز؛ ثم لم يزل يدعو للمستضعفين حتى نجاهم الله» أي بعد أن نجى عياشا وهشاما والوليد. أقول: هذه الرواية تدل على أنه كان يدعو بما ذكر في الركعة الأخيرة من العشاء الآخرة. وفي البخاري أن ذلك كان في الركعة الأخيرة من الصبح. وقد يقال: لا مخالفة، لأنه كان صلى الله عليه وسلم تارة يدعو في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء الآخرة، وتارة في الركعة الأخيرة من الصبح، أو كان يدعو بذلك فيهما وكل روى بحسب ما رأى، والله أعلم. ثم لا زال المهاجرون والأنصار يتوارثون بذلك الإخاء دون القرابات إلى أن نزل قوله تعالى في وقعة بدر وَأُولُوا الْأَرْحامِ [الأنفال: الآية 75] أي القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: الآية 75] أي في الإرث فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: الآية 75] أي اللوح المحفوظ فنسخت ذلك، أي لأنه كان الغرض من المؤاخاة ذهاب وحشة الغربة ومفارقة الأهل والعشيرة، وشدّ أزر بعضهم ببعض؛ فلما عزّ الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، بطل التوارث، ورجع كل إنسان إلى نسبة وذوي رحمه: أي ومن ثم قيل لزيد بن حارثة زيد بن حارثة: أي بعد أن كان يقال له زيد بن محمد، وكانت المؤاخاة بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل غير ذلك. أقول: تقدم أن سبب امتناع أن يقال زيد بن محمد نزول قوله تعالى ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: الآية 5] أي ومن ثم قيل للمقداد بن عمرو، وكان يقال له المقداد بن الأسود، لأن الأسود كان تبناه في الجاهلية، ومن لم يعرف أبوه ردّ إلى مواليه؛ ومن ثم قيل لسالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بعد أن كان يقال له سالم بن أبي حذيفة، فكان أبو حذيفة يرى أنه ابنه، ومن ثم أنكحه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة. وجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو امرأة أبي حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يدخل عليّ وقد بلغ ما يبلغ الرجال، وإنه يدخل عليّ، وأظن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فماذا ترى فيه؟ فقال: أرضعيه تحرمي» .

وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لعائشة «ما ترى هذه إلا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم» وكان سالم رضي الله تعالى عنه يؤم المهاجرين الأولين في مسجد، قباء فيهم أبو بكر وعمر. وفي ينبوع الحياة: كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار توجب التوارث بينهم ثم نسخ ذلك قبل العمل به، وأما قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا يتوارثون بذلك حتى نزلت وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: الآية 75] فمعناه أنهم التزموا هذا الحكم ودانوا به. ومن المشكل حينئذ ما نقل «أن الحتات» بضم الحاء وفتح المثناة فوق مخففة «كان صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين معاوية، ولما مات الحتات عند معاوية في خلافته ورثه بالأخوة مع وجود أولاده» ثم رأيت الحافظ ابن حجر في الإصابة ذكر ذلك ونظر فيه، والله أعلم.

باب بدء الأذان ومشروعيته

باب بدء الأذان ومشروعيته أي والإقامة ومشروعيتها، وكل منهما من خصائص هذه الأمة، كما أن خصائصها الركوع والجماعة وافتتاح الصلاة بالتكبير، فإن صلاة الأمم السابقة كانت لا ركوع فيها ولا جماعة، وكانت الأنبياء كأممهم يستفتحون الصلاة بالتوحيد والتسبيح والتهليل، أي وكان دأبه صلى الله عليه وسلم في إحرامه لفظة الله أكبر، ولم ينقل عنه سواها أي كالنية. ولا يشكل على الركوع قوله تعالى لمريم وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: الآية 43] لأن المراد به في ذلك الخضوع أو الصلاة، لا الركوع المعهود كما قيل، لكن في البغوي قيل إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم وقيل بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها وليست الواو للترتيب بل للجمع هذا كلامه فليتأمل، وكان وجود ذلك: أي الأذان والإقامة في السنة الأولى، وقيل في الثانية. ذكر أن الناس إنما كانوا يجتمعون للصلاة لتحين مواقيتها، أي لدخول أوقاتها من غير دعوة، أي وقد قال ابن المنذر: هو صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرض الصلاة بمكة، إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور. قال: ووردت أحاديث تدلّ على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة من تلك الأحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى الله تعالى إليه بالأذان، فنزل به وعلمه بلالا» قال الحافظ ابن رجب: هو حديث موضوع. ومنها ما رواه ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه» أي جبريل «يصلي بهم، فقدمني فصليت» قال فيه الذهبي: حديث منكر، بل موضوع هذا كلامه. على أنه يدل على أن المراد بالأذان الإقامة كما تقدم أنها المرادة بالأذان انتهى. أقول: ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل «إن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أهبط من الجنة» وقد سئل الحافظ السيوطي: هل ورد أن بلالا أو غيره أذن بمكة قبل الهجرة؟ فأجاب بقوله: ورد ذلك بأسانيد ضعيفة لا يعتمد عليها. والمشهور الذي صححه أكثر العلماء ودلت عليه الأحاديث الصحيحة أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة، وأنه لم يؤذن قبلها لا بلال ولا

غيره. وذكر في الدرّ في قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً [فصّلت: الآية 33] أنها نزلت بمكة في شأن المؤذنين، والأذان إنما شرع في المدينة، فهي مما تأخر حكمه عن نزوله هذا كلامه. وفي كلام الحافظ ابن حجر ما يوافقه، حيث ذكر أن الحق أنه لا يصح شيء من الأحاديث الدالة على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، وذكر ما تقدم عن ابن المنذر، من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من غير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة، إلى أن هاجر، صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك: أي فقد ائتمر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كيف يجمع الناس للصلاة؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رآها الناس أذن» أي أعلم «بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك، فذكر له بوق «يهود» أي يقال له الشبور بفتح الشين المعجمة ثم موحدة مشددة مضمومة ثم واو ساكنة ثم راء، ويقال له القبع بضم القاف وإسكان الموحدة وقيل بفتحها، وقيل باسكان النون وبالعين المهملة. قال السهيلي: وهو أولى بالصواب، وقيل بالمثناة فوق، وقيل بالمثلثة، وهو القرن الذي يدعون به لصلاتهم: أي يجتمعون لها عند سماع صوته «فكرهه صلى الله عليه وسلم وقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس الذي يدعون به النصارى لصلاتهم، فقال: هو من أمر النصارى، أي فقالوا لو رفعنا نارا أي فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة، فقال ذلك للمجوس، وقيل كما في حديث الشيخين عن ابن عمر «أن عمر رضي الله عنهما قال: أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة» أي بحضورها «أي ففعلوا ذلك وكان المنادي هو بلال رضي الله تعالى عنه» . قال الحافظ ابن حجر: وكان اللفظ الذي ينادي به بلال: أي قبل رؤيا عبد الله «الصلاة جامعة» كما رواه ابن سعد وسعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب مرسلا. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «لقد هممت أن أبث رجالا ينادون الناس بحين الصلاة» أي في حينها: أي وقتها «وقد هممت أن آمر رجالا تقوم على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة» أي ولعل هذا كان منه صلى الله عليه وسلم قبل وقوع ما تقدم بلال، ثم أمر بلال بما تقدم. وقيل ائتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالناقوس: أي اتفقوا عليه فنحت ليضرب به المسلمون أي وهو خشبة طويلة يضرب عليها بخشبة صغيرة، فنام عبد الله بن زيد، فأري الأذان أي والإقامة في منامه. فعنه رضي الله تعالى عنه، قال «لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس فطاف بي وأنا نائم رجل» وفي لفظ «إني لبين نائم ويقظان طاف بي رجل» والمراد أنه نام نوما

خفيفا قريبا من اليقظة فروحه كالمتوسطة بين النوم واليقظة. قال الحافظ السيوطي: أظهر من هذا أن يحمل على الحالة التي تعتري أرباب الأحوال ويشاهدون فيها ما يشاهدون، ويسمعون ما يسمعون، والصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين هم رؤوس أرباب الأحوال، أي وهذه الحالة هي التي عناها الشيخ عبد الله الدلاصي بقوله: كنت بالمسجد الحرام في صلاة الصبح، فلما أحرم الإمام وأحرمت أخذتني أخذة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إماما وخلفه العشرة فصليت معهم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى سورة المدثر، وفي الثانية عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) [النّبإ: الآية 1] ثم سلم الإمام فعقلت تسليمه فسلمت. أي ويدل لذلك قول عبد الله بن زيد كما جاء في رواية: ولولا أن يقول الناس: أي يستبعد الناس ذلك لقلت إني كنت يقظان غير نائم وذلك الرجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده؛ فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت بلى: أي وفي رواية فقلت أتبيع الناقوس؛ فقال: ماذا تريد به؟ فقلت: أريد أن أبتاعه لكي أضرب به للصلاة لجماعة الناس، قال: فأنا أحدثك بخير لك من ذلك، فقلت بلى، قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، قال عبد الله: ثم استأخر عني: أي ذلك الرجل غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله: أي ففي هذه الرواية افراد ألفاظ الإقامة إلا لفظها ولفظ التكبير أولا وآخرا. وفي رواية «رأى رجلا عليه ثياب خضر وهو قائم على سقف المسجد. وفي رواية: على جذم حائط، بكسر الجيم وسكون المعجمة: أي أصل الحائط، ولا مخالفة لما سيعلم فأذن ثم قعد قعدة، ثم قام فقال مثلها، أي مثل الكلمات، أي كلمات الأذان، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، أي زيادة على تلك الكلمات التي هي الأذان. ففي هذه الرواية تثنية ألفاظ الإقامة والإتيان بالتكبير في أولها أربعا كالأذان، أي وهذا: أي كونه على سقف المسجد، وكونه على جذم حائط لا مخالفة بينهما، لأنه يجوز أن يكون لما قال له تقول الله أكبر، إلى آخر الأذان والإقامة كانا قائما على سقف المسجد قريبا من جذم الحائط، فنسب قيامه إلى كل منهما، ويكون قوله ثم استأخر عني غير بعيد: أي سكت غير طويل. قال عبد الله: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

فأخبرته بما رأيت. أي وفي رواية: أنه أتاه ليلا وأخبره، وهي المذكورة في سيرة الحافظ الدمياطي. ولا منافاة لأنه يجوز أن يكون قول عبد الله: فلما أصبحت: أي قاربت الصباح، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به فإنه أندى» وفي رواية «أمدّ صوتا منك» أي أعلى وأرفع. وقيل أحسن وأعذب. ولا مانع من إرادة ذلك كله هنا «فقمت مع بلال» وفي رواية «فقال لبلال: قم فانظر ما أمرك به عبد الله بن زيد فافعله، فجعلت ألقيه عيه ويؤذن به» أي فبلال أول مؤذنيه صلى الله عليه وسلم، أي وقيل أول مؤذنيه عبد الله بن زيد ذكره الإمام الغزالي، وأنكره ابن الصلاح، أي حيث قال لم أجد هذا بعد البحث عنه، هذا كلامه. وقد يقال: لا منافاة لأن عبد الله أول من نطق بالأذان، وبلال أول من أعلن به، وحينئذ يكون أوّل مشروعيته كان في أذان الصبح، فلما سمع بذلك: أي بأذان بلال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو في بيته خرج يجر رداءه. وفي رواية: إزاره أي عجلا، أي وقد أعلم بالقصة لقوله «والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه» . وفي رواية «مثل ما يقول» أي بلال رضي الله تعالى عنه «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلله الحمد» قال الترمذي: عبد الله بن زيد بن عبد ربه لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان. وقيل رأى مثل ما رأى عبد الله أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وقيل سبعة من الأنصار وقيل أربعة عشر. قال ابن الصلاح: لم أجد هذا بعد إمعان النظر، وتبعه النووي، فقال: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجرّ رداءه، وقيل رآه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء «أسمع ملكا يؤذن» أي فقد جاء في حديث بعض رواته متروك. بل قيل إنه من وضعه «أنه لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الأذان جاء جبريل عليه الصلاة والسلام بدابة يقال لها البراق، فركبها حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن، فبينما هو كذلك خرج من الحجاب ملك فقال: الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر» وذكر بقية الأذان. فرؤيا عبد الله دلت على أن هذا الذي رآه في السماء يكون سنة في الأرض عند الصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة، أي فلذلك قال «إنها لرؤيا حق إن شاء الله» .

وفيه أن الذي تقدم عن الخصائص أن المراد بهذا الأذان الذي أتى به الملك الإقامة لا حقيقة الأذان، أي ويدل لذلك أن الملك قال فيه «قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فقال الله: صدق عبدي، أنا أقمت فريضتها، ثم قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم، فأمّ أهل السماء فيهم آدم ونوح» . قال بعضهم: والأذان ثبت بحديث عبد الله بن زيد بإجماع الأمة لا يعرف بينهم خلاف في ذلك، إلا ما روي عن محمد ابن الحنفية. وعن أبي العلاء قال: قلت لمحمد ابن الحنفية: إنا لنتحدث أن بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، قال: ففزع لذلك محمد ابن الحنفية فزعا شديدا، وقال: عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنه إنما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب، وقد تكون أضغاث أحلام؛ قال: فقلت له: هذا الحديث قد استفاض في الناس، قال: هذا والله هو الباطل، ثم قال: «وإنما أخبرني أبي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أذن في بيت المقدس ليلة الإسراء، وأقام، ثم أعاد جبريل الأذان لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء فسمعه عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب. وفي رواية عنه أنه لما انتهى إلى مكان من السماء وقف به وبعث الله ملكا، فقيل له علمه الأذان، فقال الملك: الله أكبر، فقال الله: صدق عبدي، أنا الله أكبر، إلى أن قال: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. وفيه ما علمت أن هذه الإقامة لا الأذان، وقد ردّ عليه بأنه لو ثبت بقول جبريل لما احتاج صلى الله عليه وسلم إلى المشورة، والمعراج كان بمكة قبل الهجرة. والأولى أن يتمسك ابن الحنفية بما يأتي عن بعض الروايات، من قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله «قد سبقك بذلك الوحي» وكونه أتى بالبراق إلى الحجاب هو بناء على أن العروج كان على البراق وتقدم ما فيه. ويحتمل أن يكون هذا عروجا آخر غير ذلك، وحينئذ لا يخالف هذا ما تقدم أنه لما أسري به أذن جبريل وتقدم ما فيه، ولا ما جاء عن عليّ رضي الله تعالى عنه «مؤذن أهل السماء جبريل» لجواز حمل ذلك على الغالب، وحينئذ لا يخالف أيضا ما جاء «إسرافيل مؤذن أهل السماء، وامامهم ميكائيل عند البيت المعمور» وفي لفظ «يؤم بالملائكة في البيت المعمور» ولعلّ كون ميكائيل إمام أهل السماء لا يخالف ما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها «إمام أهل السماء جبريل» لما علم، وجاء «إن مؤذن أهل السماء يؤذن لاثنتي عشرة ساعة من النهار، ولاثنتي عشرة ساعة من الليل» . أقول: وفي النور لو رآه أي الأذان ليلة الإسراء لم يحتج إلا إلى ما يجمع به المسلمين إلى الصلاة. ويردّ بأنه لم يكن يعلم قبل هذه الرؤيا أن ما رآه في السماء

يكون سنة للصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة، فبتلك الرؤيا علم أن ذلك سنة في الأرض كما تقدم. وعبارة بعضهم: ولا يشكل على أذان جبريل ببيت المقدس أن الأذان إنما كان بعد الهجرة، لأنه لا مانع من وقوعه ليلة الإسراء قبل مشروعيته للصلوات الخمس، وهذا كله على تسليم أن المرئي له الأذان حقيقة لا الإقامة، وقد علمت ما فيه. ثم رأيت بعضهم قال: وأما قول القرطبي. لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه، ففيه نظر لقوله في أوله: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان، أي لأن المتبادر تعليمه الأذان الذي يأتي به في الأرض للصلوات. وقد يقال: على تسليم ذلك قد علمت أن المراد بالأذان الذي سمعه ليلة الإسراء الإقامة وقد قال الحافظ ابن حجر: الحق أنه لم يصح شيء من هذه الأحاديث الواردة بأنه سمعه ليلة الإسراء، ومن ثم قال ابن كثير في بعض الأحاديث الواردة بأنه سمع هذا الأذان في السماء ليلة المعراج: هذا الحديث ليس كما زعم البيهقي أنه صحيح، بل هو منكر، تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية، وهو من المتهمين، وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى: خص صلى الله عليه وسلم بذكر اسمه في الأذان في عهد آدم وفي الملكوت الأعلى، والله أعلم. أي وروي بسند واه: إن أول من أذن بالصلاة جبريل عليه الصلاة والسلام في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال رضي الله تعالى عنهما، فسبق عمر بلالا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم جاء بلال، فقال له: سبقك بها عمر، وهذا لا دلالة فيه، لأنه يجوز أن يكون ذلك بعد رؤيا عبد الله. وذكر أن عمر رضي الله تعالى عنه رآه من عشرين يوما وكتمه، ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك، قال له: ما منعك أن تخبرني؟ قال سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت منه. أقول: في هذا الكلام ما لا يخفى فليتأمل، إنما قال له «إنها رؤيا حق» لأنه يجوز أن يكون جاءه صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك قبل أن يجيء إليه عبد الله بن زيد به، ومن ثم قال له حين أخبره بذلك على ما في بعض الروايات «قد سبقك بذلك الوحي» فالأذان إنما ثبت بالوحي لا بمجرد رؤيا عبد الله. قال بعضهم في قوله وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً [المائدة: الآية 58] الآية، كان اليهود إذا نودي إلى الصلاة وقام المسلمون إليها يقولون: قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا، على طريق الاستهزاء والسخرية. وفيها دليل على مشروعية الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده هذا كلامه. ورده أبو حيان بأن هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها أي

وذلك على تسليم أن يكون المدعوّ به للصلاة خصوص اللفظ الذي وجد في المنام، وصار بلال يؤذن بذلك للصلوات الخمس، وينادي في الناس لغير الصلوات الخمس، لأمر يحدث يطلب له حضور الناس كالكسوف والخسوف والاستسقاء «الصلاة جامعة» . قيل «وكان بلال إذا أذن، قال: أشهد أن لا إله إلا الله حيّ على الصلاة، فقال له عمر على أثرها: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: قل كما قال عمر» وهذا روي عن ابن عمر في حديث فيه راو ضعيف، ولولا التعبير بكان لأمكن حمل ذلك على أن بلالا أتى بذلك ناسيا في ذلك الوقت لما لقنه عبد الله بن زيد. ثم رأيت ابن حجر الهيتمي، قال: والحديث الصحيح الثابت في أول مشروعية الأذان يرد هذا كله، هذا كلامه. قيل وزاد بلال في أذان الصبح بعد الحيعلات «الصلاة خير من النوم مرتين» فأقرها صلى الله عليه وسلم» أي لأن بلالا كان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فيقول له الصلاة «فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، فصرخ بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم مرتين» أي اليقظة الحاصلة للصلاة خير من الراحة الحاصلة بالنوم. أقول: وهذا يقال له التثويب، وذكر فقهاؤنا أنه صح أنه صلى الله عليه وسلم لقن ذلك لأبي محذورة أي قال له «فإن كانت صلاة الصبح، قلت الصلاة خير من النوم» ولا منافاة لأن تعليم أبي محذورة للأذان كان عند منصرفه. صلى الله عليه وسلم من حنين على ما سيأتي، وكذا ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم قال إن ذلك من السنة، لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر منه بعد أن أقرّ بلالا عليه، نعم ذكر أنه لم ينقل أن ابن أم مكتوم كان يقوله، أي لقول بلال له في الأذان الأول، وهو يدل لمن قال إنه إذا قيل في الأذان الأول لا يقال في الثاني، لأن أذانه للصبح كان متأخرا عن أذان بلال في أكثر الأحوال، وهو محمل ما جاء في كثير من الأحاديث «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ومن غير الأكثر محمل ما جاء «إن ابن أم مكتوم ينادي بليل وكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، إن ابن أم مكتوم أعمى، فإذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا، وإذا أذن بلال فأمسكوا ولا تأكلوا» والراجح أنه يقوله فيهما: لكن ربما يخالف ذلك ما في الموطأ أن المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر رضي الله عنه أن يجعلها في نداء الصبح» وفي الترمذي «أن بلالا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تثويب في شيء من الصلاة» أي من أذان الصلاة «إلا في صلاة الفجر» أي يقول الصلاة خير من النوم. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع الأذان في مسجد، فأراد أن يصلي فيه، فسمع المؤذن يثوب في غير الصبح، فقال لرفيق له: اخرج بنا من عند

هذا المبتدع، فإن هذه بدعة: أي سمع المؤذن يقول بين الأذان والإقامة على باب المسجد الصلاة، الصلاة وهذا هو المراد بالتثويب الذي سمعه ابن عمر كما قاله بعضهم. وفي كلام بعضهم: من المحدثات أن المؤذن يجيء بين الأذان والإقامة إلى باب المسجد فيقول: حي على الصلاة. قيل وأول من أحدثه مؤذن معاوية رضي الله تعالى عنه فكان يأتيه بعد الأذان وقبل الإقامة يقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، وحي على الفلاح، حي على الفلاح يرحمك الله. أما قول المؤذن بين الأذان والإقامة: الصلاة الصلاة فليس بدعة، لأن بلالا كان يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله «حي على الصلاة» فهذا لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم. ثم رأيت في «درر المباحث في أحكام البدع والحوادث» : اختلف الفقهاء في جواز دعاء الأمير إلى الصلاة بعد الأذان وقبل الإقامة؛ بأن يأتي المؤذن باب الأمير، فيقول: حي على الصلاة حي على الفلاح أيها الأمير، وفسر به التثويب. فاحتج من قال بجوازه: أي بسنتيه «أن بلالا كان إذا أذن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله» أي كما كان يفعل مؤذن معاوية رضي الله تعالى عنه، فليس من المحدثات. وفي الحديث المشهور «أنه في مرضه صلى الله عليه وسلم أتاه بلال، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فقال صلى الله عليه وسلم له: مر أبا بكر فليصلّ بالناس» . واحتج من قال بالمنع، بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما قدم مكة أتاه أبو محذورة فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، فقال: ويحك أمجنون أنت؟ أما كان في دعائك الذي دعوته ما يكفيك حتى تأتينا؟ ولو كان هذا سنة لم ينكر عليه، أي وكون عمر رضي الله تعالى عنه لم يبلغه فعل بلال من البعيد. وعن أبي يوسف: لا أرى بأسا أن يقول المؤذن: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله، لاشتغال الأمراء بمصالح المسلمين، أي ولهذا كان مؤذن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يفعله. وذكر بعضهم أن في دولة بني بويه كانت الرافضة تقول بعد الحيعلتين: حيّ على خير العمل، فلما كانت دولة السلجوقية منعوا المؤذّنين من ذلك، وأمروا أن يقولوا في أذان الصبح بدل ذلك: الصلاة خير من النوم مرتين، وذلك في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.

ونقل عن ابن عمرو عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يقولان في أذانيهما بعد حي على الفلاح: حي على خير العمل. ورد الترجيع في خبر أذان أبي محذورة أيضا، وهو أن يخفض صوته بالشهادتين قبل رفعه بهما. ففي مسلم عن أبي محذورة أنه قال «قلت: يا رسول الله علمني سنة الأذان قال: فمسح مقدّم رأسي وقال: تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله» وكان أبو محذورة يشفع الإقامة كالأذان: أي يكرر ألفاظها فيقول «الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله» لقنه صلى الله عليه وسلم ذلك وهي الرواية الثانية التي تقدمت عن عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه. وذكر الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن النقل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان فيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان، وأن بلالا كان يشفع الأذان ويوتر الإقامة، أي ولا يرجع الأذان. ففي الصحيحين «أمر بلال أن يشفع الأذان» أي ومن شفع الأذان التكبير أوله أربعا، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم الاقتصار فيه على مرتين وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي، نعم يرد على شفع الأذان التهليل آخره فإنه مفرد، فالأولى أن يقال يشفع معظم الأذان، ويوتر الإقامة إلا الإقامة: أي لفظها، أي وهي «قد قامت الصلاة» فإنه يكررها مرتين يقول «قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة» ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم إفرادها البتة أي وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي، وصح عنه تكرير لفظ التكبير مرتين أولا وآخرا؛ وحينئذ يكون المراد بإفراد الإقامة إفراد معظمها، فكان يقول في الإقامة «الله أكبر، الله أكبر؛ أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله» ولم يكن في أذانه ترجيع: أي وهو الإتيان بالشهادتين مرتين سرا، ثم يأتي بهما جهرا: أي كما تقدم، قال: فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب، وتثنيتها صحيح بلا ريب. أي وكل روى عن عبد الله بن زيد كما علمت، قال: أي ابن تيمية وأحمد وغيره: أخذوا بأذان بلال وإقامته، أي فلم يستحبوا الترجيع في الأذان، واستحبوا إفراد الإقامة إلا لفظها.

والشافعي رضي الله تعالى عنه أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال، فاستحب الترجيع في الأذان والإفراد في الإقامة إلا لفظها. وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، أي فلم يستحب الترجيع، واستحب تثنية ألفاظ الإقامة. قال في الهدى: وأخذ مالك بما عليه عمل أهل المدينة من الاقتصار في التكبير على مرتين في الأذان وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة؛ أي ولعل هذا بحسب ما كان في المدينة، وإلا ففي أبي داود «ولم يزل ولد أبي محذورة وهم الذين يلون الأذان بمكة يفردون الإقامة» أي معظم ألفاظها «ويحكونه عن جدهم» غير أن التثنية عنه أكثر؛ فيحتمل أن إتيان أبي محذورة بالإقامة فرادى، واستمراره وولده بعده على ذلك كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم له بذلك بعد أمره أولا له بتثنيتها، أي فيكون آخر أمره الإفراد. وقد قيل لأحمد رضي الله تعالى عنه- وقد كان يأخذ بأذان بلال أي كما تقدم: أليس أذان أبي محذورة بعد أذان بلال، أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه له عند منصرفه من حنين على ما سيأتي، وهو الذي رواه إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن أبي محذورة أنه قال «خرجت في نفر وكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون» أي عن الطريق «فصرنا نحكيه ونستهزىء به، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ فحبسني» أي أبقاني عنده «وأرسلهم وقال: قم فأذن، فقمت ولا شيء أكره إليّ من النبي صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليّ التأذين هو بنفسه صلى الله عليه وسلم» الحديث «ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصيتي ومر بها على وجهي، ثم بين يدي، ثم على كبدي حتى بلغت يده سرتي، ثم قال: بارك الله فيك، وبارك عليك، فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أمرتك به» وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهته وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فأذنت بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل علمه صلى الله عليه وسلم ذلك يوم فتح مكة لما أذن بلال رضي الله تعالى عنه للظهر على ظهر الكعبة، وصار فتية من قريش يستهزئون ببلال ويحكون صوته، وكان من جملتهم أبو محذورة، فأعجبه صلى الله عليه وسلم صوته فدعاه وعلمه الأذان، وأمره أن يؤذن لأهل مكة فليتأمل الجمع، وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بالمتأخر عنه، لأن المتأخر ينسخ المتقدم، فقال: أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه؟.

قال أبو داود: وتثنية الأذان وإفراد الإقامة مذهب أكثر علماء الأمصار، وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام واليمن وديار مصر ونواحي المغرب، أي إلا مصر في المساجد التي تغلب صلاة الأروام بها فإن الإقامة تثنى كالأذان فيها. وقد ذكر أن أبا يوسف رحمه الله ناظر إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في المدينة بين يدي مالك رضي الله تعالى عنه والرشيد، فأمر الشافعي بإحضار أولاد بلال وأولاد سائر مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: كيف تلقيتم الأذان والإقامة عن آبائكم؟ فقالوا: الأذان مثنى مثنى والإقامة فرادى، هكذا تلقيناه من آبائنا، وآباؤنا عن أسلافنا إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم أقامها الله وأدامها» وفي البخاري «من قال حين يسمع النداء: أي الأذان، اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وجبت له شفاعتي يوم القيامة» . قال بعضهم: كان المؤذنون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنين بلالا وابن أم مكتوم، فلما كان زمن عثمان رضي الله تعالى عنه جعلهم أربعا وزاد الناس بعده. ولما مات صلى الله عليه وسلم ترك بلالا الأذان ولحق بالشام، فمكث زمانا، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا بلال جفوتنا وخرجت من جوارنا فاقصد إلى زيارتنا. وفي لفظ أنه قال له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا فانتبه بلال رضي الله تعالى عنه فقصد المدينة، فلما انتهى إلى المدينة تلقاه الناس، أي وأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، وأقبل على الحسن والحسين يقبلهما ويضمهما، وألحوا عليه أن يؤذن، فلما صعد ليؤذن اجتمع أهل المدينة رجالهم ونساؤهم، وخرجت العذارى من خدورهن ليستمعوا أذانه رضي الله تعالى عنه، فلما قال: الله أكبر ارتجت المدينة وصاحوا وبكوا؛ فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله ضجوا جميعا، فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله لم يبق ذو روح إلا بكى وصاح، وكان ذلك اليوم كيوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف إلى الشام وكان يرجع إلى المدينة في كل سنة مرة فينادي بالأذان إلى أن مات رضي الله تعالى عنه. أقول: في كلام بعضهم كان سعد القرظ رضي الله تعالى عنه مؤذنه صلى الله عليه وسلم بقباء، فلما لحق بلال بالشام أيام عمر رضي الله تعالى عنه أمر سعد القرظ أن يؤذن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي فإن بلالا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أفضل أعمال المؤمن الجهاد في سبيل الله» وقد أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنشدك الله يا بلال وحرمتي وحقي عليك أن لا تفارقني، فأقام بلال حتى توفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهو يؤذن. ثم جاء إلى

عمر فقال له كما قال لأبي بكر وردّ عليه رضي الله عنه كما رد عليه أبو بكر، فأبى وخرج إلى الشام مجاهدا. وفي «أنس الجليل» : لما فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه بيت المقدس حضرت الصلاة، فقال: يا بلال أذن لنا يرحمك الله، قال بلال: يا أمير المؤمنين والله ما أردت أن أؤذن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ولكن سأطيعك إذ أمرتني في هذه الصلاة وحدها، فلما أذن بلال وسمعت الصحابة رضي الله تعالى عنهم صوته ذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فبكوا بكاء شديدا، ولم يكن من الصحابة يومئذ أطول بكاء من أبي عبيدة ومعاذ بن جبل، حتى قال لهما عمر رضي الله تعالى عنه: حسبكما رحمكما الله تعالى، فلم يؤذن بلال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة لما أمره عمر بالأذان؛ هذا ما في أنس الجليل، أي فالمراد بالمرة هذه المرة التي كانت ببيت المقدس. وفيه أن هذا يخالف ما تقدم مما ظاهره أنه استمر يؤذن مدة خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وما تقدم من إلحاح الحسن والحسين عليه في أن يؤذن عند مجيئه للمدينة. إلا أن يقال: المراد لم يؤذن خارج المدينة فلا يخالف ما سبق من أذانه بعد إلحاح الحسن والحسين، ولعل ما سبق كان بعد فتح بيت المقدس، بل وبعد موت الخلفاء الأربعة. ثم رأيت الزين العراقي قال: لم يؤذن بلال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلفاء، إلا أن عمر لما قدم الشام حين فتحها أذن بلال، هذا كلامه فليتأمل مع ما سبق. وفي الكتاب المذكور: روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قال: يا رسول الله أي الخلق أول دخولا الجنة، قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال الشهداء، قال: ثم من؟ قال مؤذنو بيت المقدس، قال: ثم من؟ قال مؤذنو بيت الحرام قال: ثم من؟ قال مؤذنو مسجدي، قال: ثم من؟ قال سائر المؤذنين» . ثم رأيت في نسخة من شرح المنهاج للدميري عن جابر تقديم مؤذني المسجد الحرام على مؤذني بيت المقدس. ورأيت في بعض الروايات ما يوافقه، وهي «أول من يدخل الجنة بعدي أبو بكر ثم الفقراء، ثم مؤذنو المسجد الحرام، ثم مؤذنو بيت المقدس، ثم مؤذنو مسجدي، ثم سائرهم على قدر أعمالهم» . وفي «البدور السافرة» عن جابر رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قال: يا رسول الله أي الخلق أول دخولا الجنة يوم القيامة؟ قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال الشهداء،

قال ثم من؟ قال: مؤذنو الكعبة، قال: ثم من؟ قال: مؤذنو بيت المقدس، قال: ثم من؟ قال: مؤذنو مسجدي هذا، قال: ثم من؟ قال: سائر المؤذنين على قدر أعمالهم» . وفيها عن جابر أيضا «أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم، ثم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم النبيون والرسل، ثم يكسى المؤذنون» . وجاء «إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك، فقال: إما إنه يكون قوم بعدكم سفلتهم مؤذنوهم» قيل وهذه الزيادة منكرة وقال الدارقطني: ليست محفوظة. وجاء «إذا أخذ المؤذن في أذانه وضع الرب جل وعز يده فوق رأسه، ولا يزال كذلك حتى يفرغ من أذانه، وإنه ليغفر له مدّ صوته، فإذا فرغ قال الرب: صدقت عبدي؛ وشهدت شهادة الحق، فأبشر» والله أعلم. قال: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رجل من اليهود أي من التجار وعن السدي: من النصارى بالمدينة سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: خزى الله الكاذب. وفي رواية: أحرق الله الكاذب، فدخلت خادمه بنار وهو نائم وأوله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت واحترق هو وأهله انتهى. أي وفي بعض الأسفار «حضر وقت الصلاة: أي صلاة الصبح فطلبوا بلالا يؤذن فلم يوجد أي لتأخره في السير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن زياد بن الحارث الصدائي أي بأمره صلى الله عليه وسلم، فقال له أذن يا أخا صداء» وصداء حي من اليمن. وعنه رضي الله تعالى عنه «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمرني على قومي، فقال: لا خير في الإمرة لرجل مؤمن، فقلت: حسبي، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم مسيرا فسرت معه، فانقطع عنه أصحابه وأضاء الفجر، فقال لي: أذن يا أخا صداء، فأذنت، ثم لما حضرت الصلاة أراد بلالا أن يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا، إنما يقيم من أذن» واختلف هل أذن صلى الله عليه وسلم بنفسه؟ فقيل نعم أذن مرة، واستدل على ذلك بأنه جاء في بعض الأحاديث، أي وقد صح «أنه صلى الله عليه وسلم أذن في السفر وصلى وهم على رواحلهم، فتقدم على راحلته صلى الله عليه وسلم فصلى بهم يومىء إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع» وقيل ما أذن، وإنما أمر بلالا بالأذان كما في بعض طرق ذلك الحديث. ففي الهدى «وصلى بهم الفرض على الرواحل لأجل المطر والطين» وقد روى أحمد والترمذي «أنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه، والسماء من فوقهم، والمسيل من أسفل منهم فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم» الحديث والمفصل يقضي على المجمل.

وفي رواية «أذن اختصارا» : أي أمر بالأذان، أي وهذا المجمل الذي تشير إليه هو «فأذن صلى الله عليه وسلم على راحلته وأقام» : أي ويروى «أن بلالا كان يبدل الشين في أشهد سينا، فقال صلى الله عليه وسلم: سين بلال عند الله شين» قال ابن كثير: لا أصل لرواية سين بلال شين في الجنة، ولا يلزم من كون هذه الرواية لا أصل لها أن تكون تلك الرواية كذلك. وكان بلال وابن أم مكتوم يتناوبان في أذاني الصبح، فكان أحدهما يؤذن بعد مضي نصف الليل الأول والليل باق، والثاني يؤذن بعد طلوع الفجر» وروى الشيخان «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» أي وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال أو قال نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن، أو قال ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم، إنما يؤذن بليل بعد نصفه الأول، فيرجع القائم المتهجد إلى راحلته لينام غفوة ليصبح نشيطا ويستيقظ النائم ليتأهب للصبح» . قال في الهدى: وانقلب على بعض الرواة، فقال إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال. أي وقد علمت أنه لا قلب وأنهما كانا يناديان، فكان بلال تارة يؤذن بليل وابن أم مكتوم عند الفجر الثاني، وتارة يكون ابن أم مكتوم بالعكس، فوقع كل من الأحاديث باعتبار ما هو موجود عند النطق، ولم يكن بين أذانيهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا: أي أن ينزل المؤذن الأول من أذانه ويرقى المؤذن الثاني كما ذكر، فمن كان يؤذن أولا يتربص بعد أذانه لنحو الدعاء ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر صاحبه فيرقى ويؤذن مع الفجر أو عقبه من غير فاصل، وهذا هو المراد مما قيل «إن ابن أم مكتوم كان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت» . وعن ابن عمر كان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه. وفي أبي داود عن ابن عمر «أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام» أي غفل عن الوقت، أو رجع لينام لبقاء الليل، ولعل هذا كان قبل أن يتخذ ابن أم مكتوم مؤذنا ثانيا أو كان أذان بلال في هذه المرة بعد أذان ابن أم مكتوم على ما تقدم، فلا مخالفة. والثابت في الجمعة أذان واحد كان يفعل بين يديه صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر وجلس عليه، كذا قال فقهاؤنا، مستدلين على ذلك بحديث البخاري عن السائب بن يزيد قال «كان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما» وليس فيه أن ذلك الأذان كان بين يديه ولما كثر المسلمون أمر عثمان رضي الله تعالى عنه، أي وقيل عمر، وقيل معاوية بأن يؤذن قبله على المنارة.

وعبارة بعضهم: وفي السنة الرابعة والعشرين زاد عثمان النداء على الزوراء يوم الجمعة ليسمع الناس فيأتوا إلى المسجد؛ وأول من أحدثه بمكة الحجاج، والتذكير قبل الأذان الأول الذي هو التسبيح أحدث بعد السبعمائة في زمن الناصر محمد بن قلاوون. وأول ما أحدثت الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم: أي على الكيفية المعهودة الآن بعد تمام الأذان على المنارة، أي في غير المغرب في زمن السلطان المنصور حاجي بن الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون بأمر المحتسب نجم الدين الطنبدي في أواخر القرن الثامن، واستمر ذلك إلى الآن، لكن في غير أذان الصبح الثاني وغير أذان الجمعة أول الوقت، أما أذان الصبح الثاني وأذان الجمعة المذكور، فتقدم الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم على الأذان فيهما، وكان أحدث ذلك في زمان صلاح الدين بن أيوب، ولعل الحكمة في ذلك، أما في الأول فلاستيقاظ النائم، وأما في الثاني فلأجل حصول التكبير المطلوب في الجمعة. ولا يخفى أن من السنة مطلق الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم بعد فراغ الأذان ففي مسلم «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ» وقيس بذلك الإقامة، فالأذان والإقامة من المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) [الشّرح: الآية 4] فقد قيل في معناه: لا أذكر إلا وتذكر معي، لكن بعد فراغهما لا عند الابتداء بهما كما يقع لبعض الأروام أن يقول المقيم للصلاة عند ابتداء الإقامة اللهم صل على سيدنا محمد الله أكبر الله أكبر فإن ذلك بدعة. ومن البدع التطريب في الأذان والتلحين فيه. وفي كلام إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: ويكون الأذان مرسلا بغير تمطيط ولا تغن. قيل التمطيط التفريط في المد والتغني أن يرفع صوته حتى يجاوز المقدار. ومن البدع رفع المؤذنين أصواتها بتبليغ التكبير لمن بعد عن الإمام من المقتدين. قال بعضهم: ولا بأس به لما فيه من النفع، أي حيث لم يبلغهم صوت الإمام بخلاف ما إذا بلغهم. ففي كلام بعضهم: التبليغ بدعة منكرة باتفاق الأئمة الأربعة حيث بلغ المأمومين صوت الإمام، ومعنى منكرة أنها مكروهة. وأول ما أحدث التسبيح بالأسحار في زمن موسى عليه الصلاة والسلام حين كان بالتيه، واستمر إلى أن بنى داود عليه الصلاة والسلام بيت المقدس، فرتب فيه جماعة يقومون به على الآلات إلى ثلث الليل الأخير، ثم بعد ثلث الليل الأخير يقومون به على الآلات عند الفجر.

وأول حدوثه في ملتنا كان بمصر، أمر به أميرها من قبل معاوية مسلمة بن مخلد الصحابي رضي الله تعالى عنهما، فإنه لما اعتكف بجامع عمرو سمع أصوات النواقيس عالية، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين بجامع عمرو، ففعل ذلك من نصف الليل إلى قريب الفجر. ومسلمة هذا تولى مصر من معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية رضي الله تعالى عنهما، وعتبة تولاها حين مات أميرها عمرو بن العاص، وهذا مما يدل على أن عمرو بن العاص مدفون بمصر، وكان عتبة خطيبا فصيحا. قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية: عتبة بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان. خطب عتبة يوما أهل مصر فقال: يا أهل مصر خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه كالحمار يحمل أسفارا، يثقله حملها ولا ينفعه علمها، وإني لا أداوي داءكم إلا بالسيف، ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط، ولا أبلغ السوط ما صلحتم على الدرة، فألزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وهذا يوم ليس فيه عتاب ولا بعده عتاب. ومما يؤثر عنه: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم. وقال لبنيه يوما: تلقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد منها بالشكر عليها. ومسلمة أول من جعل بنيان المنابر التي هي محل التأذين في المساجد، فلما ولي أحمد بن طولون رتب جماعة يكبرون ويسبحون ويحمدون، فلما ولي صلاح الدين يوسف بن أيوب وحمل الناس على اعتقاد مذهب الأشعري والخروج عما كان يعتقد الفواطم أمر المؤذنين أن يعلنوا وقت التسبيح بذكر العقيدة المرشدة، وقد وقفت عليها فإذا هي ثلاث ورقات، ولم أقف على اسم مؤلفها، فواظبوا على ذكرها في كل ليلة. قيل في سبب نزول قوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النّساء: الآية 78] أن اليهود قالوا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها، وغلت أسعارها، فرد الله تعالى عليهم بقوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النّساء: الآية 78] أي يبسط الأرزاق ويقبضها، وعند ظهور الإسلام وقوته في المدينة قامت نفوس أحبار اليهود ونصبوا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: الآية 118] وقال في موضع آخر إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [آل عمران: الآية 120] . وعن صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بنت حيي قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، وكانا من أكبر اليهود وأعظمهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا إليه ثم جاآ من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي؛ أهو هو؟ قال: نعم

والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عدواته والله ما بقيت؛ قال: وفي رواية أنها قالت: إن عمي أبا ياسر حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه وسمع منه صلى الله عليه وسلم وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعوني، فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرونه فاتبعوه ولا تخالفوه، ثم انطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى قومه فقال لهم: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا. فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعد لا تهلك، فقال: والله لا نطيعك اهـ، أي ثم وافق أخاه حييا فكانا أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاهدين في رد الناس من الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله تعالى فيهما وفيمن كان موافقا لهما في ذلك وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: الآية 109] . وحيي بن أخطب هذا، قيل هو الذي قال لما نزل قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: الآية 245] : يستقرضنا ربنا؛ وإنما يستقرض الفقير الغني، فأنزل الله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: الآية 181] . أي وقيل في سبب نزولها إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل بيت المدارس، فقال لفنحاص: اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله، فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: والله لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك، فشكاه فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له أبو بكر ما كان منه، فأنكر قوله ذلك؛ فنزلت الآية. وقيل في سبب نزولها أيضا «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فنحاص بن عازوراء بكتاب، وكان انفرد بالعلم والسيادة على يهود بني قينقاع بعد إسلام عبد الله بن سلام، يأمرهم في ذلك الكتاب بالإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، فلما قرأ فنحاص الكتاب قال: أقد احتاج ربكم؟ سنمده» . وفي رواية «قال: يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان حقا ما تقول، فإن الله جل وعلا إذا لفقير ونحن أغنياء، فضرب أبو بكر وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: لقد هممت أن أضربه بالسيف وما منعني أن أضربه بالسيف إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دفع إليّ الكتاب قال لي: لا تفتت عليّ بشيء حتى ترجع إليّ، فجاء فنحاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله إنه قال قولا عظيما، زعم أن الله عز وجل فقير وأنهم أغنياء،

فغضبت لله تعالى، وقال فنحاص: والله ما قلت هذا، فنزلت الآية تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه» . وقد قال بعض اليهود لبعض العلماء إنما قلنا إن الله فقير ونحن أغنياء لأنه استقرض أموالنا، فقال له: إن كان استقرضها لنفسه فهو فقير، وإن كان استقرضها لفقرائكم ثم يكافىء عليها فهو الغني الحميد. ومن شدة عداوتهم: أي اليهود أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط أي له صلى الله عليه وسلم وقيل في أسنان من مشطه صلى الله عليه وسلم ومشاطة: وهي ما يخرج من الشعر إذا مشط: أي من شعر رأسه صلى الله عليه وسلم، أعطاها لهم غلام يهودي كان يخدمه صلى الله عليه وسلم، وجعل مثالا من شمع. وقيل من عجين كمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرز فيه إبرا وجعل معه وترا عقد فيه إحدى عشرة عقدة. وفي لفظ أن الإبر كانت في العقد، ودفن ذلك تحت راعونة في بئر ذي أروان. وقد مسخ الله ماءها حتى صار كنقاعة الحناء،. فكان يخيل إليه صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الفعل ولا يفعله: أي ومكث في ذلك سنة، وقيل سنة أشهر، وقيل أربعين يوما. قال بعضهم: ويمكن أن تكون السنة أو الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه الشريف، وأن مدة اشتداده كانت في الأربعين، وقيل اشتد عليه ثلاثة أيام. وقد يقال هي أشدّ الأربعين، فلا منافاة. وعند ذلك نزل جبريل عليه الصلاة والسلام وقال له «إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا ودفنها بمحل كذا فأرسل صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد صلى الله عليه وسلم بذلك خفة حتى قام كأنما نشط من عقال» وفي رواية: أن اليهودي دفن ذلك بقبر، فأنزل الله تعالى سورة الفلق وسورة الناس وهما إحدى عشرة آية، سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها. وفي لفظ: فإذا وتر في إحدى عشرة عقدة مغروزة بلإبر، فلم يقدروا على حل تلك العقد، فنزلت المعوذتان، فكلما قرأ جبريل آية انحلت عقدة، ووجد صلى الله عليه وسلم بعض الخفة حتى قام عند انحلال العقدة الأخيرة كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل يقول: «بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل داء يؤذيك» أي ولعله كان يقول ذلك عند حل كل عقدة بعد قراءة الآية أي وكان ذلك بين الحديبية وخيبر. وذكر بعضهم أنه بعد خيبر جاءت رؤساء يهود الذين بقوا في المدينة ممن يظهر الإسلام إلى لبيد بن الأعصم وكان أعلمهم بالسحر، فقالوا له: يا أبا الأعصم قد سحرنا محمدا، سحره منا الرجال فلم يصنع شيئا أي ولم يؤثر سحرهم، وأنت ترى أمره فينا وخلافه في ديننا ومن قتل وأجلى، ونجعل لك على سحره ثلاثة دنانير ففعل ذلك. ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال «جاءني رجلان» أي وهما جبريل وميكائيل كما في بعض طرق

الحديث «فقعد أحدهما عند رأسي والآخر تحت رجلي» فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟ فقال الآخر: مطبوب، أي مسحور، فقال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيم؟ قال في مشط ومشاطة» وفي لفظ «ومشاقة» أي وهي المشاطة. وقيل هي مشاقة الكتان وجف بالجيم والفاء، وقيل بالباء الموحدة طلعة ذكر: أي غشاء طلع الذكر الذي يقال له كوز الطلع، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي ذروان» على وزن مروان. وفي لفظ «بئر ذي أروان» وفي لفظ «بئر ذروان» وعليه اقتصر في الإمتاع «تحت صخرة في الماء قال: فما دواء ذلك؟ قال: تنزح البئر ثم تقلب الصخرة فتوجد الكدية فيها تمثال فيه إحدى عشرة عقدة فتحرق: فإنه يبرأ بإذن الله تعالى، ثم أحضر صلى الله عليه وسلم لبيدا فاعترف فعفا عنه لما اعتذر له بأن الحامل له على ذلك حب الدنانير. وقيل له: يا رسول الله لو قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد عافاني الله، ما وراءه من عذاب الله تعالى أشد» . ويحتاج إلى الجمع بين كون جبريل قال له سحرك إلى آخره، وكون جاءه رجلان قعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر ما وجع الرجل إلى آخره قيل وهذا: أي عدم قتل الساحر ربما يعارض القول بأن الساحر يتحتم قتله. وفيه أنه عندنا لا يتحتم قتله، ولا يقتل إلا إذا قتل بسحره واعترف بأن سحره يقتل غالبا. ولبيد هذا قيل إنه أول من قال بنفي صفات الباري، وقال بها الجهم بن صفوان وأظهرها، فقيل لأتباعه في ذلك الجهمية. «فعند ذلك بعث صلى الله عليه وسلم عليا وعمار بن ياسر إلى تلك البئر فاستخرجا ذلك» . وقيل الذي استخرج السحر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن محصن. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى البئر مع جماعة من أصحابه، فإذا ماؤها كأنه خضب بالحناء، فاستخرجا» أي النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته «منها ذلك» . ويحتاج إلى الجمع بين كون صلى الله عليه وسلم أرسل لاستخراج السحر عليا كرم الله وجهه، وكونه بعث لاستخراجه عليا وعمار بن ياسر، وكونه أمر قيس بن محصن باستخراجه، وكونه صلى الله عليه وسلم ذهب هو وجماعته لاستخراجه، فإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة: أي وإذا فيها إبر مغروزة، ونزلت المعوذتان، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد، فذهب عنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجد. أي ولا ينافي ما تقدم أن القارىء لذلك جبريل عليه الصلاة والسلام، لجواز أن يكون كلاهما صار يقرأ الآية، أو أنه صلى الله عليه وسلم صار يقرأ بعد قراء جبريل.

وفي الإمتاع عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت له «أفلا استخرجته؟ قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله؛ وكرهت أن أثير على الناس شرا» ومراد عائشة بقولها أفلا استخرجته السحر: أي هلا استخرجت السحر من الجف والمشاطة حتى تنظر إليه، فقال أكره أن أثير على الناس شرا. قال ابن بطال: أي كره أن يخرجه فيتعلم منه بعض الناس، فذلك هو الشر الذي كرهه صلى الله عليه وسلم: وذكر السهيلي أنه يجوز أنه يكون الشر غير هذا، وهو أنه لو أظهر للناس لربما قتله طائفة من المسلمين، ويغضب آخرون من عشيرته فيثور شر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها قالت له صلى الله عليه وسلم: هلا تنشرت» ؟ أي استعملت النشرة قال بعضهم: وفيه دليل على عدم كراهة استعمال النشرة حيث لم ينكر عليها قولها. وكرهها جمع واستندوا لحديث في أبي داود مرفوعا «النشرة من عمل الشيطان» وحمل ذلك على النشرة التي تصحبها العزائم المشتملة على الأسماء التي لا تفهم «فأمر بها فطمت» أي تلك البئر، وحفروا بئرا أخرى، فأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرها حيث طموا الأخرى التي سحر فيها، هذا كلامه، فليتأمل مع ما قبله. وقيل إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، ودخلت إحداهنّ على عائشة فسمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصره ثم خرجت إلى أخواتها فأخبرتهن بذلك، فقالت إحداهن: إن يكن نبيا فسيخبر، وإن يكن غير ذلك فسوف يذهله هذا السحر حتى يذهب عقله، فدله الله تعالى عليه. وقد يجمع بين كون الساحر له صلى الله عليه وسلم لبيدا وكون الساحر له أخوات لبيد بأن الساحر له أخوات لبيد، ونسب السحر إلى لبيد لأنه جاء أنه الذي ذهب به فأدخله تحت راعونة البئر: أي أو في القبر كما تقدم. ولا منافاة، لجواز أن يكون وضعه في القبر مدة ثم أخرجه منه ووضعه تحت تلك الراعونة أي وهي حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه المستقي، وقد يكون في أسفل البئر يجلس عليه الذي ينظف البئر، أي والثاني هو المراد بدليل ما سبق. وفي النهر لأبي حيان: ونص القرآن والحديث أن السحر تخييل: أي لا يقلب الأعيان ولا شك في وجوده في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما في زماننا الآن فكل ما وقفنا عليه من كتبه فهو كذب وافتراء لا يترتب عليه شيء، فلا يصبح منه شيء ألبتة. وطعنت المعتزلة وطوائف من أهل البدع في كونه صلى الله عليه وسلم سحر وقالوا: لا يجوز على الأنبياء أن يسحروا، ولو جاز أن يسحروا لجاز أن يجنوا وقد عصموا من الناس.

وردّ بأن الحديث الدال على ذلك صحيح، والعصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم وأما أبدانهم فيبتلون فيها، والسحر إنما أثر في بعض جوارحه صلى الله عليه وسلم فقد تقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها من ذكرها ما أنكر صلى الله عليه وسلم من بصره لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم صار يخيل له أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وهذا متعلق بالعقل. ثم رأيت أبا بكر العربي قال: لم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه صلى الله عليه وسلم أمر، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث لا أصل له. قال: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا واستجرارا إلى القول وإبطال معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والقدح فيها؛ وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين فعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد هذا كلامه. وممن كان حريصا على رد الناس عن الإسلام أيضا شاس بن قيس، كان شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم. مر يوما على الأنصار الأوس والخزرج وهم مجتمعون يتحدّثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم بعد ما كان بينهم من العداوة، فقال: قد اجتمع بنو قيلة، والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم؛ ثم اذكر يوم بعاث: أي أيوب الحرب الذي كان بينهم، وما كان فيه، وأنشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار ففعل، فتكلم القوم عند ذلك: أي قال أحد الحيين: قد قال شاعرنا كذا، وقال الآخر قد قال شاعرنا كذا، وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة: أي قالوا: تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت، فنادى هؤلاء يا للأوس، ونادى هؤلاء يا للخزرج، ثم خرجوا إليهم وقد أخذوا السلاح، واصطفوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم، فقال: «يا معشر المسلمين الله الله» أي اتقوا الله «أبدعوى الجاهلية» أي وهي يا للخزرج يا للأوس «وأنا بين أظهركم؟ بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وألفكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر؛ وألف به بينكم؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً [آل عمران: الآية 99] الآية» . وقد جاء في ذم هذه الكلمة التي هي دعوى الجاهلية، وهي: يا لفلان قوله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا» أي قولوا له اعضض على ذكر أبيك ولا تكنوا عنه بالهن؛ فلا تقولوا على هن أبيك، بل قولوا على ذكر أبيك، تنكيلا له وزجرا عما أتى به: أي وقد كان أنزل الله تعالى فيهم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آل عمران: الآية 100] الآية، وقد قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وهو بين الصفين رافعا بها صوته، فألقوا السلاح وفعلوا ما تقدم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن يهود كانوا يستفتحون» أي يستنصرون «على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه» أي يقولون سيبعث نبي صفته كذا وكذا نقتلكم معه قتل عاد وإرم كما تقدم عند مبايعة العقبة، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وكفر، وتخبرونا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام» أي بالتشديد «ابن مشكم من عظماء يهود بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو الذي كنا نذكره لكم، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) [البقرة: الآية 89] » . وقيل في سبب نزول قوله تعالى ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: الآية 91] أنه صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الصيف وكان رئيسا على اليهود: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين، فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي تطعمك اليهود، فضحك القوم، فغضب والتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقالت له اليهود: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف» أي لأن في قوله المذكور طعنا في التوراة. وقيل «إن يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير وغيرهم كانوا إذا قاتلوا من بينهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي الذي وعدت أنك باعثه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم» وفي لفظ «قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة فينصرون» وفي لفظ «يقولون: اللهم ابعث النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم» وفي لفظ «أن يهود خيبر كانت تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود، فدعت يوما: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فيهزموا غطفان وصار اليهود يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أشياء ليلبسوا الحق بالباطل» أي ومن جملة ما سألوه صلى الله عليه وسلم عن الروح؛ فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة يتوكأ على عسيب» أي جريدة من جريد النخل «إذ مر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما

تكرهون» وفي رواية: «لئلا يستقبلكم بشيء تكرهونه» أي يجيبكم بما هو دليل عندكم على أنه النبي الأمي وأنتم تنكرون نبوّته «فقاموا إليه فقالوا: يا محمد» وفي رواية «يا أبا القاسم ما الروح؟» وفي رواية «أخبرنا عن الروح فسكت» قال ابن مسعود: فظننت أنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، فقال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: الآية 85] أي التي يكون بها الحيوان حيا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: الآية 85] فقالوا: هكذا نجد في كتابنا أي التوراة» وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على فترة الوحي. قال صاحب الإفصاح: إنه إنما سأل اليهود عن الروح تعجيزا وتغليطا؛ لأن الروح تطلق بالاشتراك على الروح للإنسان، وعلى القرآن، وعلى عيسى، وعلى جبريل، وعلى ملك آخر، وعلى صنف من الملائكة، فقصد اليهود أنه بأي شيء أجابهم به، قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا، فكان هذا الجواب لرد كيدهم، لأن كل واحد مما ذكر أمر من مأمورات الحق تعالى. ولما أنزل الله تعالى في حق اليهود وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: الآية 85] قالوا أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فأنزل الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) [الكهف: الآية 109] وفي الكشاف «أنهم قالوا: نحن مخصوصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا، فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: الآية 269] وساعة تقول هذا، فنزلت وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: الآية 27] هذا كلامه «وسألوه صلى الله عليه وسلم متى الساعة إن كنت نبيا» فأنزل الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: الآية 187] الآية» . أي «وجاء يهوديان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء: الآية 101] ، فقال صلى الله عليه وسلم لهما لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت، فقبلا يديه ورجليه صلى الله عليه وسلم وقالا: نشهد أنك نبيّ، قال: ما يمنعكما أن تسلما؟ فقالا: نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا يهود» . أي «وسألوه صلى الله عليه وسلم عن خلق السموات، أي في أيّ زمن، والأرض وما بينهما، أي مدة ما بينهما؟ فقال لهم: خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيها يوم الثلاثاء» أي، ولذلك يقول الناس إنه يوم ثقيل «وخلق البحر والماء والمدائن والعمران والخراب يوم الأربعاء، وخلق السموات يوم الخميس، وخلق الشمس والقمر والنجوم والملائكة يوم الجمعة، قالوا: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم

استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو تممت ثم استراح» أي لو قلت هذا اللفظ، لأنهم يقولون إنه استراح جل وعز يوم السبت، ومن ثم يسمونه يوم الراحة، فأنزل الله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) [ق: الآية 38] أي تعب فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: الآية 130] . وفي رواية «خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الأنهار والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحش والسباع والهوام والآفة يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، وفرغ من الخلق يوم السبت» . وهذا يشكل على ما تقدم أن مبدأ الخلق يوم السبت حتى يكون آخر الأسبوع يوم الجمعة، وهو الراجح على ما تقدم. وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: الآية 18] إلى قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: الآية 19] أن حبرين من أراضي الشام لم يعلما ببعثته صلى الله عليه وسلم، فقدما المدينة، فقال أحدهما للآخر: ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان، فأخبرا بمهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوده في تلك المدينة، فلما رأياه قالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: نسألك مسألة إن أخبرتنا بها آمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: اسألاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى، فنزلت هذه الآية، فتلاها صلى الله عليه وسلم عليهما فآمنا» . قال: وعن قتادة رضي الله تعالى عنه «أن رهطا من اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد هذا الذي خلق الجن والإنس من خلقه» وفي لفظ «خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النار، والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك من أي شيء خلق؟ فغضب صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه، فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال له: خفض عليك، فأنزل الله تعالى عليه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] السورة» أي متوحد في صفات الجلال والكمال، منزه عن الجسمية، واجب الوجود لذاته: أي اقتضت ذاته وجوده، مستغن عن غيره، وكل ما عداه محتاج إليه اهـ. أقول: ونزول جبريل بذلك ربما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم توقف ولم يدر ما يقول كما وقع له لما سأله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلّام رضي الله تعالى عنه، وقال له صف ربك كما سيأتي. ثم رأيت عن الشيخين وغيرهما أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ذكر في سبب نزول هذه السورة غير ما ذكر، ولعله ما سيأتي في قصة إسلام عبد الله بن سلام، ولا مانع من تكرر النزول لأسباب مختلفة. ثم رأيته في الإتقان ذكر أن سورة الإخلاص تكرر نزولها، فنزلت جوابا

للمشركين بمكة وجوابا لأهل الكتاب بالمدينة، وقال قبل ذلك إنها إنما نزلت بالمدينة. وفي دعوى تكرر نزولها يقال: حيث سئل أولا ونزلت جوابا كيف يتوقف ثانيا عند السؤال الثاني حتى يحتاج إلى نزولها مع بعد نسيان ذلك له صلى الله عليه وسلم. ثم رأيت عن البرهان: قد ينزل الشيء مرتين، تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه، وهو كما ترى لا يدفع التوقف. وكان من أعلم أحبار يهود عبد الله بن سلام بالتخفيف: وكان قبل أن يسلم اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله وكان من ولد يوسف الصديق: أي وقد أثنى الله تعالى عليه في قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف: الآية 10] وكان من يهود بني قينقاع كما تقدم. جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه، أي في أول يوم دخل فيه رسول الله دار أبي أيوب أي ولعل الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، هو قوله «يا أيها الناس أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» . فعنه رضي الله تعالى عنه، قال «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل إليه الناس» أي بالجيم: أسرعوا «فكنت ممن أتى إليه» أي وهذا يدل على أنه جاءه في قباء وسيأتي «قال: فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أنه وجه غير كذاب» أي لأن صورته وهيئته وسمته صلى الله عليه وسلم تدل العقلاء على صدقه، وأنه لا يقول الكذب، قال عبد الله «فسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس إلى آخره» . أي ولا مانع أن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك قال: أشهد أنك رسول الله حقا، وأنك جئت بحق ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي من اليهود، ثم جئته صلى الله عليه وسلم، أي في بيت أبي أيوب وقلت له لقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فأخبئني يا رسول الله قبل أن يدخلوا عليك، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت، فإنهم قوم بهت» أي بضم الباء والهاء «يواجهون الإنسان بالباطل، وأعظم قوم عضيهة» أي كذبا، «وإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ، وخذ عليهم ميثاقا أني إن أتبعتك وآمنت بكتابك أن يؤمنوا بك وبكتابك الذي أنزل عليك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، أسلموا، قالوا ما نعلم، فأعاد ذلك عليهم ثلاثا وهم يجيبونه كذلك، قال فأي رجل فيكم ابن سلّام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا» وفي رواية «خيرنا وابن خيرنا» بالخاء المعجمة والياء المثناة تحت أفعل تفضيل، وقيل بالمهملة والياء

الموحدة، أي أعلمنا بكتاب الله «سيدنا وعالمنا وأفضلنا، قال: أفرأيتم إن شهد أني رسول الله وآمن بالكتاب الذي أنزل عليّ تؤمنوا بي؟ قالوا نعم، فدعاه، فقال: يا ابن سلام اخرج عليهم، فخرج عليهم فقال: يا عبد الله بن سلام، أما تعلم أني رسول الله تجدني عندكم مكتوبا في التوراة والإنجيل، أخذ الله ميثاقكم أن تؤمنوا بي وأن تتبعوني من أدركني منكم؟ قال ابن سلام: بلى يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقا، وأنه جاء بالحق» ، قال زاد في رواية «تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته، قالوا: كذبت، أنت أشرنا، وابن أشرنا» وهذه لغة رديئة، والفصحى شرنا وابن شرنا بغير همزة وهي رواية البخاري «قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور؟» انتهى «فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهرت إسلامي، وأنزل الله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [فصّلت: الآية 52] يعني الكتاب أو الرسول وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الأحقاف: الآية 10] يعني عبد الله بن سلام عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف: الآية 10] يعني اليهود فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) [الأحقاف: 10] » . أقول: هذا السياق لا يناسب ما حكاه في الخصائص الكبرى عن تاريخ الشام لابن عساكر: أن ابن سلام اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، أنت ابن سلام عالم أهل يثرب؟ قال نعم، قال: ناشدتك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد صفتي في كتاب الله يعني التوراة؟ قال: أنسب ربك يا محمد، فأرتج النبي صلى الله عليه وسلم» أي توقف «ولم يدر ما يقول، فقال له جبريل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) [الإخلاص: 1- 4] ، فقال ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) [الأحزاب: الآية 45] أنت عبدي ورسولي» إلى آخر ما تقدم عن التوراة، فإنه يدل على أن ابن سلام أسلم بمكة وكتم إسلامه، ولو كان كذلك لما قال «فلما رأيت وجهه الشريف عرفت أنه غير وجه كذاب» ولما قال «وكنت عرفت صفته واسمه» ولما سأله عن الأمور الآتية، ولما احتاج إلى الإسلام ثانيا، إلا أن يقال على تسليم صحة ما قاله ابن عساكر جاز أن يكون قال ذلك، وفعل ما ذكر إقامة للحجة على اليهود. وقد وقع لابن سلام هذا أنه لقي عليا بالربذة وقد خرج بعد قتل عثمان وبعد أن بويع بالخلافة متوجها إلى البصرة لما بلغه أن عائشة وطلحة والزبير ومن معهم خرجوا إلى البصرة في طلب دم عثمان، وكان ذلك سببا لوقعة الجمل، فأخذ بعنان فرس عليّ، وقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها يعني المدينة، فوالله لئن خرجت

منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا، فسبه بعض الناس، وقال له: ما لك ولهذا؟ يابن اليهودية، فقال عليّ: دعوه، فنعم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لقد لقيت عبد الله بن سلام، فقلت له: أخبرني عن ساعة الإجابة يوم الجمعة، فقال في آخر ساعة في يوم الجمعة؟ قلت: وكيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي» وتلك الساعة لا صلاة فيها؟ فقال ابن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي» . وفيه أن في الصحيحين «إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي فسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه» ثم رأيت عن سنن ابن ماجه أن جواب ابن سلام تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونص السنن المذكورة، عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، قال «قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، إنا لنجد في كتابنا يعني التوراة، في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا قضى حاجته، قال عبد الله بن سلام: فأشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة؟ فقلت: صدقت يا رسول الله، أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: آخر ساعة من ساعات النهار، قلت: إنها ليست ساعة صلاة، قال: بلى؛ إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في الصلاة» أي ولعل لفظ قائم في رواية الصحيحين يراد به مريد القيام إلى الصلاة، أي صلاة العصر. وقد قيل: إن تلك الساعة رفعت بعد موته صلى الله عليه وسلم. وقيل هي باقية، وهو الصحيح. وعليه، فقيل لا زمن لها معين، وقيل هي في زمن معين وعليه ففي تعيينها أحد عشر قولا، وقيل أربعون قولا. وقد وقع لميمون بن يامين وكان رأس اليهود مثل ما وقع لابن سلام مع اليهود «فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابعث إليهم واجعلني حكما فإنهم يرجعون إليّ، فأدخله داخلا وأرسل إليهم، فجاؤوه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم اختاروا رجلا حكما يكون بيني وبينكم، قالوا: قد رضينا ميمون بن يامين، فقال: أخرج إليهم، فقال: أشهد إنه لرسول الله، فأبوا أن يصدقوه» والله أعلم. وقد أشار إلى إنكارهم نبوته صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم لها صاحب الهمزية يقوله: عرفوه وأنكروه فظلما ... كتمته الشهادة الشهداء أو نور الإله تطفئه الأف ... واه وهو الذي به يستضاء كيف يهدي الإله منهم قلوبا ... حشوها من حبيبه البغضاء أي عرفوه أنه النبي المنتظر، وأنكروه بظواهرهم، ولأجل ظلمهم كتمت

الشهادة به العارفون به. أو نور الإله الذي هو النبوة تذهبه الألسن؟ لا يكون ذلك، وكيف يكون ذلك وهو الذي يستضاء به في الظاهر والباطن، كيف يوصل الإله قلوبا للحق وملؤها البغضاء لحبيبه صلى الله عليه وسلم؟. أقول: وقيل في سبب نزول سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] أن وفد نجران لما نطقوا بالتثليث، قال لهم المسلمون: من خلقكم؟ قالوا الله، قالوا لهم: فلم عبدتم غيره وجعلتم معه إلهين؟ فقالوا: بل هو إله واحد؛ لكنه حل في جسد المسيح، إذا كان في بطن أمه، فقالوا لهم: هل كان المسيح يأكل الطعام؟ قالوا: كان يأكل الطعام، فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) تكذيبا لهم في أنه ثالث ثلاثة، والصمد: هو الذي لا جوف له، فهو غير محتاج إلى الطعام. وقيل سبب نزولها أن قريشا هم الذين قالوا له انسب لنا ربك يا محمد؛ وتقدم ما فيه والله أعلم. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: الآية 40] قال الله تعالى للأحبار من اليهود وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: الآية 40] الذي أخذته في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءكم بتصديقه واتباعه أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: الآية 40] أنجز لكم ما وعدتم عليه؛ بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: الآية 41] وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: الآية 42] أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاء به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. قال بعضهم: ولم يسلم من رؤساء علماء اليهود إلا عبد الله بن سلام وضم إليه السهيلي عبد الله بن صوريا، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف لعبد الله بن صوريا على إسلام من طريق صحيح، وإنما نسب لتفسير النقاش؛ أي ويضم لعبد الله بن سلام ميمون المتقدم ذكره. وروي في سبب إسلام عبد الله بن سلام: أي إظهار إسلامه على ما تقدم أنه لما بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في قباء، فعنه رضي الله تعالى عنه «جاء رجل حتى أخبر بقدومه صلى الله عليه وسلم وأنا في رأس نخلة أعمل فيها وعمتي تحتي جالسة، فلما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، فقلت لها: أي عمة، فو الله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. قالت يا بن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع بعث الساعة وفي لفظ «مع نفس الساعة، فقلت لها نعم» . أي وقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «بعثت بين يدي الساعة

بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين وقال بأصبعيه هكذا يعني السبابة والوسطى» أي جمع بينهما. وفي رواية «بعثت في نفس الساعة سبقتها كما سبقت هذه هذه» وفي رواية «سبقتها بما سبقت هذه هذه وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة» قال الطبري الوسطى تزيد على السبابة نصف سبع أصبع، كما أن نصف يوم من سبعة أيام نصف سبع، أي وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الدنيا سبعة أيام، كل يوم ألف سنة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها، وتقدم في حديث أخرجه أبو داود «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم» يعني خمسمائة سنة قال بعضهم: فإن قيل ما وجه الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» لدلالة الرواية الأولى على علمه بها. أجيب بأن القرآن نطق بأن علمها عند الله لا يعلمها إلا هو. ومعنى قوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» أنه ليس بيني وبينها نبي آخر يأتي بشريعة ولا يتراخى إلى أن تندرس شريعتي، فهو صلى الله عليه وسلم أول أشراطها لأنه نبي آخر الزمان، وهذا لا يقتضي أن يكون عالما بخصوص وقتها. قال ابن سلام: وكنت عرفت صفته واسمه: أي في التوراة. زاد في رواية «فكنت مسرّا لذلك ساكتا عليه حتى قدم المدينة فجئته صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا محمد إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بهن جبريل آنفا، فقال ابن سلام: ذلك يعني جبريل عدو اليهود من الملائكة» . وقيل قائل ذلك عبد الله بن صوريا، ولا مانع من أن يكون قال ذلك كل منهما: أي وعن ابن صوريا أنه قال له صلى الله عليه وسلم: «من ينزل عليك بالوحي؟ قال جبريل، قال: ذلك عدّونا لو كان غيره» وفي لفظ «لو كان ميكائيل لآمنا بك لأن جبريل ينزل بالخسف والحرب والهلاك، وميكائيل، ينزل بالخصب والسلم» . وسبب العداوة أنهم زعموا أنه أمر أن يجعل النبوة فيهم: أي يجعل النبي المنتظر في بني إسرائيل الذين هم أولاد إسحاق فجعلها في غيرهم: أي في ولد إسماعيل. وقيل سبب عداوتهم لجبريل أنه أنزل على نبيهم أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثوا من يقتله من أعظم بني إسرائيل قوة، فأراد قتله فمنعه عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بإهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، فصدقه ورجع عنه. أي فإن بني إسرائيل لما اعتدوا وقتلوا شعياء جاء بختنصر ملك فارس وحاصر

بيت المقدس وفتحها عنوة وأحرق التوراة وخرب بيت المقدس. وقيل في سبب العداوة كونه يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على سرهم، ولا مانع من أن يكون كل ذلك سببا للعداوة. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أما أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت» أي وهي القطعة المنفردة المعلقة بالكبد. قال بعضهم: وهي في الطعم في غاية اللذة. ويقال إنها أهنأ طعام وأمرؤه. وروي «أن الثور ينطح الحوت بقرنه فيموت فتأكل منه أهل الجنة، ثم يحيا فينحر الثور بذنبه فتأكله أهل الجنة، ثم يحيا، قال: وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها» أي لكن في فتح الباري عن عائشة رضي الله تعالى عنها «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله» والمراد بالعلو السبق. وعن ثوبان «إذ علا منيّ الرجل منيّ المرأة جاء الولد ذكرا، وإن علا منيّ المرأة منيّ الرجل جاء أنثى» والعلو فيه على بابه هذا كلامه، أي وإذا استوى الماآن جاء خنثى وفي رواية «قالوا له صلى الله عليه وسلم: أين تكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ ومن أول الناس إجازة وما تحفتهم» أي الناس حين يدخلون الجنة «وما غذاؤهم على أثره، وما شرابهم عليه؟ فأجابهم عليه الصلاة والسلام بأنهم يكونون في ظلمة دون الجسر» ولعل المراد بالجسر الصراط، لكن في رواية مسلم «أين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط» ثم رأيت عن البيهقي أن قوله: على الصراط مجاز لكونهم بمجاورته. ونقل القرطبي على صاحب الإفصاح أن الأرض والسماء يتبدلان مرتين. المرأة الأولى: تتبدل صفتها فقط، وذلك قبل نفخة الصعق فتناثر كواكبها، وتخسف الشمس والقمر وتتناثر السماء كالمهل، وتنكشط الأرض، وتسير الجبال. والمرة الثانية: تتبدل ذاتهما، وذلك إذا وقفوا في المحشر، فتتبدل الأرض بأرض من فضة لم يقع عليها معصية وهي الساهرة: أي والسماء تكون من ذهب كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الخباز كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة، فيأكل المؤمن من تحت رجليه، ويشرب من الحوض» . قال الحافظ ابن حجر: ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعذبون بالجوع في طول زمان الموقف، بل يقلب الله بقدرته طبع الأرض خبزا حتى يأكلون منها من تحت

أقدامهم ما شاء الله من غير علاج ولا كلفة. قال: ويؤيد أن هذا مراد الحديث ما جاء «تبدل الأرض بيضاء مثل الخبزة يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب» هذا كلامه، فليتأمل ما مع قبله من أن الأرض تبدل بأرض من فضة، وأن هذا يدل على أن تلك الأرض التي تكون خبزة تكون في موقف الحساب. وما جاء عن عليّ رضي الله تعالى عنه يدل على أنها تكون بعد مجاوزتهم الصراط «وأول الناس إجازة فقراء المهاجرين، وتحفة أهل الجنة حين يدخلونها زيادة كبد النون» أي الحوت «وغذاؤهم ينحر لهم ثور الجنة التي يأكل من أطرافها، وشرابهم من عين تسمى سلسبيلا. وسألوه صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تنام عيناه ولا ينام قلبه. وسألوه أي طعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة؟ قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا وطال سقمه، فنذر لله لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمنّ أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ قالوا: اللهم نعم» أي حرمهما ردعا لنفسه ومنعا لها عن شهواتها. وقيل لأنه كان به عرق النسا وكان إذا طعم ذلك هاج به. وذكر أن سبب نزول قوله تعالى كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: الآية 93] قول اليهود له صلى الله عليه وسلم «كيف تقول إنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها وكان ذلك محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا أي علمه في التوراة، فنحن أولى الناس بإبراهيم منك ومن غيرك، فأنزل الله تعالى الآية تكذيبا لهم أي بأن هذا إنما حرمه يعقوب على نفسه، ومن ثم جاء فيها فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: الآية 93] . وكانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها أي وفي كلام الواحدي قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت كفعل المجوس هذا كلامه «فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك» أي قال له بعض الأعراب «يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلك الحيض فأنزل الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة: الآية 222] الآية فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح» أي الوطء وما في معناه، وهو مباشرة ما بين السرة والركبة، أي فإن الآية لم تنص إلا على عدم قربانهن بالوطء في الحيض. ومن ثم جاء في رواية «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم

باخراجهن من البيوت، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالا إن اليهود قالت كذا فهلا نجامعهن؟ أي نوافقهن، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وعند ذلك قال بعض الصحابة «فظننا أنه قد وجد أي غضب عليهما فلما خرجا استقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما» . وذكر المفسرون أن في منع الوطء للحائض اقتصادا من إفراط اليهود وتفريط النصارى، فإنهم لا يمتنعون من وطء الحيض، أي وذكر أن ابن سلام وغيره ممن أسلم من يهود استمروا على تعظيم السبت وكراهة أكل لحم الإبل وشرب ألبانها، فأنكر ذلك عليهم المسلمون فقالوا: إن التوراة كتاب الله فنعمل به أيضا، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: الآية 208] : أي وفي رواية «قالوا له ما هذا السواد الذي في القمر؟ فأجابهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك بأنهما كانا شمسين أي شمس في الليل وشمس في النهار، قال الله تعالى فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: الآية 12] فالسواد الذي يرى هو المحو» أي أثره. قال بعضهم في قوله تعالى وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: الآية 37] أن الليل ذكر والنهار أنثى، فالليل كآدم والنهار كحواء. وقد ذكر أن الليل من الجنة والنهار من النار، ومن ثم كان الأنس بالليل أكثر وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من علماء اليهود: أتشهد أني رسول الله؟ قال لا، قال أتقرأ التوراة؟ قال نعم، قال: والإنجيل؟ قال نعم، فناشده هل تجدني في التوراة والإنجيل؟ قال: نجد مثلك ومثل مخرجك ومثل هيئتك، فلما خرجت خفنا أن تكون أنت، فنظرنا فإذا أنت لست هو، قال: ولم ذاك؟ قال: معه من أمته سبعون ألفا ليس عليهم حساب ولا عذاب، وإنما معك نفر يسير، قال: والذي نفسي بيده لأنا هو وإنهم لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا» وقد سأله صلى الله عليه وسلم اليهود عن الرعد أي والبرق فقال «صوت ملك موكل بالسحاب يسوقه أي بمخراق من نار في يده يزجر به السحاب إلى حيث أمره الله تعالى» . وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال «البرق مخاريق من نار بأيدي ملائكة يزجرون به السحاب» والمخراق المنديل يلف ليضرب به، أي وحينئذ فالمراد بالملك الجنس. وفي رواية «إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك، ومنطقها الرعد، وضحكها البرق» . وفي بعض الآثار «لله ملائكة يقال لهم الحيات، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق» أي وتحريكهم لأجنحتهم يكون غالبا عند الرعد، لأن الغالب وجود البرق عند الرعد.

وعن بعضهم قال: بلغني أن البرق ملك له أربعة وجوه، وجه إنسان، ووجه ثور ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع بذنبه، أي حركه فذلك البرق، أي وتحريكه غالبا يكون عند وجود الرعد. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «البرق ملك يتراءى» أي يظهر ويغيب وفي رواية «الرعد ملك يزجر السحاب، والبرق طرف ملك» أي ينظر به عند وجود الرعد غالبا. وفي رواية «إن ملكا موكل بالسحاب في يده مخراق، فإذا رفع برقت، وإذا زجر رعدت، وإذا ضربه صعقت» . وعن مجاهد: «الرعد ملك، والبرق أجنحته يسوق بها السحاب» فيكون المسموع صوته أو صوت سوقه، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات. وذهب الفلاسفة إلى أن الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق ما ينقدح من اصطكاكها، فقد زعموا أن عند اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. وقيل في سبب نزول قوله تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: الآية 106] أن اليهود أنكروا النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافة، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت. «وسألوه صلى الله عليه وسلم مم يخلق الولد؟ فقال: يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، أما نطفة الرجل فنطفة غليظة أي بيضاء منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة أي صفراء منها اللحم والدم؛ فقالوا: هكذا كان يقول من قبلك أي من الأنبياء» وتقدم في ترجمة سطيح إيراد عيسى عليه الصلاة والسلام على ذلك، أي وقالوا إغاظة صلى الله عليه وسلم له ما نرى لهذا الرجل همة، إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء؛ فأنزل الله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرّعد: الآية 38] . فقد جاء «إنه كان لسليمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وتسعمائة سرية» . «وسألوه صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة بعد إحصانه: أي كان شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي قالوا لهم إن هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب، فسألوه فأجابهم بالرجم؛ فلم يفعلوا ذلك فقال لجمع من علمائهم: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أما تجدون في التوراة على من زنى بعد إحصان الرجم؟ الرجم فأنكروا ذلك، فقال عبد الله بن سلام كذبتم، فإن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة، فوضع واحد منهم يده على تلك الآية، فقال له ابن سلام ارفع

يدك عنها فرفعها فإذا آية الرجم. أقول: هذا كان في السنة الرابعة، وهو يخالف ما في بعض الروايات «أن بعض أحبار يهود أي وهم كعب بن الأشرف وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد زنى رجل من يهود بعد إحصانه بامرأة محصنة من اليهود وقالوا: إن أفتانا بالجلد أخذنا به واحتججنا بفتواه عند الله، وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، وإن أفتانا بالرجم خالفناه، لأنا خالفنا التوراة فلا علينا من مخالفته» . وفي رواية الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا: أي بعد إحصان، فقال لهم رسول الله: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ قالوا: نفضحهما: أي بأن نسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل إدبار الحمار» وفي لفظ «يحملان على الحمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما ويجلدان، أي بحبل من ليف مطلي بقار، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك؛ فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد، فيها آية الرجم» . وقد جاء «إن موسى عليه الصلاة والسلام خطب بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة، ومن زنى وله امرأة رجمناه حتى يموت» والله أعلم. قال «ولما جاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم قالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا: أي بعد إحصان فقال لهم: ما تجدون في التوراة؟ فقالوا: دعنا من التوراة، فقل لنا ما عندك فأفتاهم بالرجم فأنكروه، فلم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدارسهم، فقام على الباب فقال: يا معشر يهود أخرجوا إليّ أعلمكم، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهود، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى بعد إحصان قالوا: يحم أي يعير ويجتنب، فقال عبد الله بن سلام كذبتم فإن فيها آية الرجم» ، أي وفي رواية «لما سألهم وأجابوه إلا شابا منهم فإنه سكت، فألح عليه صلى الله عليه وسلم في النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، ولكن رأينا أنه إن زنى الشريف جلدناه والوضيع رجمناه كان من الحيف، فاتفقنا على ما نقيمه على الشريف والوضيع وهو ما علمت فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحكم بما في التوراة» ولعل هذا الشاب ابن صوريا، ففي الكشاف «أنه لما أمرهم عليه الصلاة والسلام بالرجم فأبوا

أن يأخذوا به، فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا حكما» أي ووصفه له جبريل «فقال صلى الله عليه وسلم: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا نعم؛ وهو أعلم يهودي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى في التوراة ورضوا به حكما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وفلق البحر، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم، وأغرق فرعون، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المنّ والسلوى والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال: نعم، فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب» ، وفي رواية «قال نعم، والذي ذكرتني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبتك ما اعترفت لك، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، فقال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها «ثم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء يعرفها من أعلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي» وهذا مما يدل على إسلامه، وتقدم إنكار صحته عن الحافظ ابن حجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوا بالشهود، فجاؤوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده صلى الله عليه وسلم» قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة، فكان ذلك سببا لنزول قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: الآية 44] ولنزول قوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: الآية 45] وفي آية أخرى فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: الآية 82] وفي أخرى فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: الآية 44] . وعن عمرو بن ميمون قال: رأيت الرجم في الجاهلية في غير نبي آدم، كنت في اليمن في غنم لأهلي، فجاء قرد ومعه قردة فتوسد يدها ونام، فجاء قرد أصغر منه فغمزها فسلت يدها من تحت رأس القرد برفق وذهبت معه، ثم جاءت فاستيقظ القرد فزعا فشمها فصاح فاجتمعت القردة، فجعل يصيح ويومي إليها بيده، فذهبت القردة يمنة ويسرة، فجاؤوا بذلك القرد، فحفروا لهما حفرة فرجموهما. وفي لفظ: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها يعني القردة ورجمتها معهم. قال في الاستيعاب: وهذا عند جماعة من أهل العلم منكر لإضافة الزنا إلى غير المكلف وإقامة الحدود في البهائم، ولو صح هذا لكانوا من الجن، لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما، هذا كلامه فليتأمل والله أعلم. وقد ذكر غير واحد أن أحبار يهود غيروا صفته صلى الله عليه وسلم التي في التوراة خوفا على

انقطاع نفقتهم، فإنهم كانت على عوامهم لقيامهم بالتوراة، فخافوا أن تؤمن عوامهم فتنقطع عنهم النفقة، أي وكانوا يقولون لمن أسلم: لا تنفقوا مالكم على هؤلاء، يعني المهاجرين فإنا نخشى عليكم الفقر، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النّساء: الآية 37] أي من صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي يجدونها في كتابهم، فقد كان فيه «أكحل عين؛ ربعة جعد الشعر، حسن الوجه، فمحوه وقالوا نجده طويلا، أزرق العين، سبط الشعر، وأخرجوا ذلك إلى اتباعهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج آخر الزمان، وعند ذلك أنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [البقرة: الآية 174] الآية. وكان اليهود إذا كلموا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا راعنا سمعك وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [النساء: الآية 46] ، ويضحكون فيما بينهم، أي لأن ذلك كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلسان اليهود السب القبيح، فلما سمع المسلمون منهم ذلك ظنوا أن ذلك شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فصاروا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، ففطن سعد بن معاذ لليهود يوما وهم يضحكون. فقال لهم: يا أعداء الله لئن سمعنا من رجل منكم هذا بعد هذا المجلس لأضربن عنقه: فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا [البقرة: الآية 104] . وفي رواية أن اليهود لما سمعوا الصحابة رضي الله تعالى عنهم تقول له صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا: يا رسول الله راعنا: أي انتظرنا وتأن علينا حتى نفهم، وكانت هذه الكلمة عبرانية تتسابب بها اليهود، فلما سمعوا المسلمين يقولون له صلى الله عليه وسلم راعنا خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم براعنا يعنون بها تلك السبة، ومن ثم لما سمع سعد بن معاذ ذلك من اليهود قال لهم: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها فنزلت «وجاءه صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود بأطفالهم، فقالوا له: يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال لا، فقالوا: والذي يحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار وما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل، فأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [النّساء: الآية 49] الآية. وجاء «أن أحبار يهود منهم ابن صوريا: أي قبل أن يسلم على ما تقدم وشاس بن قيس وكعب بن أسيد اجتمعوا وقالوا نبعث إلى محمد لعلنا نفتنه في دينه، فجاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم، وإن اتبعناك اتبعك كل اليهود وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم فنؤمن بك، فأبى ذلك عليهم فنزل قوله تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [المائدة: الآية 49] الآية» .

ومن اليهود من دخل في الإسلام تقية من القتل، لما قهرهم الإسلام بظهوره واجتماع قومهم عليه، فكان هواهم مع يهود في السر، أي هم المنافقون. وقد ذكر بعضهم «أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة منهم الجلاس بجيم مضمومة فلام مخففة فألف فسين مهملة ابن سويد بن الصامت قال يوما إن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد رضي الله تعالى عنه، وهو ابن زوجة جلاس، أي فإن الجلاس كان زوجا لأم عمير، وكان عمير يتيما في حجره ولا مال له، وكان يكفله ويحسن إليه، فجاء الجلاس ليلة فاستلقى على فراشه فقال: لئن كان ما يقوله محمد حقا فلنحن شر من الحمير. فقال له عمير: يا جلاس إنك لأحب الناس وأحسنهم عندي يدا، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك، ولئن صمتّ عليها: أي سكت عنها ليهلكن عليّ ديني ولأحداهما أيسر علي من الأخرى فمشى إلى رسول صلى الله عليه وسلم فذكر له مقالة جلاس، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جلاس، فحلف بالله لقد كذب عليّ عمير وما قلت ما قال عمير، فقال عمير: بلى والله لقد قلته فتب إلى الله، ولولا أن ينزل القرآن فيجعلني معك ما قلته» . وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم استحلف الجلاس عند المنبر، فحلف أنه ما قال، واستحلف الراوي عنه فحلف لقد قال وقال: اللهم أنزل على نبيك تكذيب الكاذب وتصديق الصادق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين، فنزل قوله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التّوبة: الآية 74] إلى قوله فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ [التّوبة: الآية 74] فاعترف الجلاس وتاب، وقيل منه صلى الله عليه وسلم توبته، وحسنت توبته، ولم ينزع عن خير كان يصنعه مع عمير؛ فكان ذلك مما عرف به حسن توبته، فقال صلى الله عليه وسلم لعمير: وقيت أذنك» . ومنهم نبتل بنون مفتوحة فموحدة ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فلام ابن الحارث قال النبي صلى الله عليه وسلم «من أحبّ أن فلينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث، كان يجلس إليه صلى الله عليه وسلم ثم ينقل حديثه للمنافقين، وهو الذي قال لهم: إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدقه فأنزل الله فيه وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التّوبة: الآية 61] الآية» . وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له «يجلس إليك رجل معك صفته كذا، تقال: أي للحديث الذي تحدث به، كبده أغلظ من كبد الحمار، ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره» . ومنهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول وهو رأس المنافقين، ولاشتهاره بالنفاق لم يعدّ في الصحابة، وكان من أعظم أشراف أهل المدينة، وكانوا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم للمدينة

قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، أي كما تقدم، لأن الأنصار من آل قحطان. ولم يتوج من العرب إلا قحطان، ولم يبق من الخرز إلا خرزة واحدة كانت عند شمعون اليهودي، فلما جاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم انصرف عنه قومه إلى الإسلام فضغن: أي أضمر العداوة، لأنه رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سلبه ملكا عظيما، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على النفاق، أي وكان له إماء يكرههن على الزنا ليأخذ أجورهن، فأنزل الله تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ [النّور: الآية 33] الآية. وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [البقرة: الآية 14] أي عبد الله بن أبيّ وأصحابه خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم. فقال عبد الله بن أبيّ: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عليّ فقال: مرحبا يا بن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم افترقوا فقال له عليّ: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق، فإن المنافقين شرّ خليفة الله تعالى، فقال له عبد الله: مهلا يا أبا الحسن، إليّ تقول هذا؟ والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم. فقال لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا فنزلت. وقد قال صلى الله عليه وسلم «مثل المنافق مثل الشاة العابرة بين الغنمين» أي المترددة بينهما تعبر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة. وفي السنة الأولى من الهجرة أعرس صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله تعالى عنها كذا في الأصل. وفي المواهب أن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرا، وقيل بعد سبعة أشهر، وقيل بعد ثمانية أشهر من مقدمه صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «تزوجني رسول الله وبنى بي في شوال فأيّ نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أحظى عنده مني» أي فما توهمه بعض الناس من التشاؤم بذلك، لكونه بين العيدين، فتحصل المفارقة بين الزوجين لا عبرة به ولا التفات إليه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال ونساء من الأنصار، فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين» أي نخلتين «فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة» أي شعر «لأني وعكت» أي مرضت «لما قدمنا المدينة» أي أصابتها الحمى.

فعن البراء رضي الله تعالى عنه قال «دخلت مع أبي بكر الصديق على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها الحمى، فرأيت أباها يقبل خدها ويقول: كيف أنت يا بنية؟ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فتمزق شعري، ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن نفسي، ثم دخلت بي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك، بارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا» أي فقد بني بها نهارا. وفي الصحاح: العامة تقول: بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بنى على أهله، قال الحافظ ابن حجر: ولا يغني عن الخطأ كثرة استعمال الفصحاء له: أي كاستعمال عائشة له هنا. وفي الاستيعاب وأقره، عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال: الصداق، فأعطاه أبو بكر اثنتي عشرة أوقية ونشا، فبعث بها إلينا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا الذي أنا فيه، وهو الذي توفي به، ودفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفيه أن سياق ما تقدم وما يأتي يدلّ على أنه إنما دخل بها في بيت أبيها بالسنح. ثم رأيت بعضهم صرح بذلك، فقال «كان دخوله بها عليه الصلاة والسلام بالسنح نهارا» وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم هذا كلامه. وفي رواية عنها «أتتني أمي وإني لفي أرجوحة مع صواحب لي فصرخت بي، فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى وقفت بي على باب الدار وأنا أنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهنّ وأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين» قال بعضهم: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة ولعبتها معها. أي وعنها رضي الله تعالى عنها أنها كانت تلعب بالبنات أي اللعب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تأتيها جويريات يلعبن معها بذلك، وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيرهن إليها: أي يطلبهن لها ليلعبن معها. قالت «وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو حنين، فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع، قال: وما هذا الذي أرى وسطهن؟ قلت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قلت جناحان، قال: جناحان! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» وفيه هلا أمرها بتغيير ذلك.

وأجيب بأن هذا مستثنى من عدم جواز تصوير ذي الروح، وقولها «أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة» وإقراره صلى الله عليه وسلم لها على ذلك يدل على صحته. ثم رأيت بعضهم أورد أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة، وقد ذكرت ذلك عند الكلام على إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه في أوائل هذه السيرة. وعنها رضي الله تعالى عنها أيضا أنها قالت: «وما نحرت عليّ جزور ولا ذبحت عليّ شاة، أي عند بنائه بها صلى الله عليه وسلم حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنته التي كان يرسلها» وأرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وفي كلام بعضهم: وروي «أنه صلى الله عليه وسلم ما أولم على عائشة رضي الله تعالى عنها بشيء غير أن قدحا من لبن أهدي من بيت سعد بن عبادة، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم بعضه وشربته عائشة رضي الله تعالى عنها باقيه» . أقول: يجوز أن يكون سعد رضي الله تعالى عنه أرسل بالقدح من اللبن وبالجفنة، وأن بعض الرواة اقتصر على أحدهما. ثم لا يخفى أنه يجوز أن تكون الرواية الأولى واقعة بعد هذه الرواية الثانية، وأنها ذهبت إلى الأرجوحة ثانيا بعد أن أصلح النساء من شأنها، وفعلت بها أمها ما ذكر، وأنه وقع الاقتصار في الرواية الأولى، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب ذكر مغازيه صلى الله عليه وسلم

باب ذكر مغازيه صلى الله عليه وسلم ذكر أن مغازيه: أي وهي التي غزا فيها بنفسه كانت سبعا وعشرين، أي وهي: غزوة بواط، ثم غزوة العشيرة، ثم غزوة سفوان، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة بني قينقاع، ثم غزوة السويق، ثم غزوة قريرة الكدر ثم غزوة غطفان وهي غزوة ذي أمر ثم غزوة نجران بالحجاز ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوت ذات الرقاع وهي غزوة محارب وبني تغلبة، ثم غزوة بدر الآخرة وهي غزوة بدر الموعد، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بني المصطلق ويقال لها المريسيع، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة ذي قرد ويقال لها قرد بضمتين. وهي في اللغة: الصوف الرديء، ثم غزوة حنين، ثم غزوة وادي القرى، ثم غزوة عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين والطائف، ثم غزوة تبوك. والتي وقع فيها القتال من تلك الغزوات: أي وقع القتال فيها من أصحابه وهو المراد بقول بعضهم كالأصل التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع، وهي: غزوة بدر الكبرى وأحد والمريسيع؛ أعني بني المصطلق والخندق وقريظة وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف، أي وبعضهم أسقط فتح مكة. قال النووي رحمه الله: ولعل مذهبه أنها فتحت صلحا كما قال إمامنا الشافعي وموافقوه، أي فيصح بيع دورها وإجارتها، واستدل لذلك بأنها لو كانت فتحت عنوة لقسمها بين الغانمين، وسيأتي الجمع بأن أسفلها فتح عنوة، أي لوقوع القتال فيه من خالد بن الوليد مع المشركين؛ وأعلاها فتح صلحا لعدم وجود القتال فيه. وفي الهدى: من تأمل الأحاديث الصحيحة وجدها كلها دالة على قول الجمهور إنها فتحت عنوة: أي لوقوع القتال بها. ومما يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يصالح أهلها عليها، وإلا لم يحتج إلى قوله «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن إلى الخ» وإنما لم يقسمها لأنها دار المناسك، فكل مسلم له فيها حق. أقول: هذا واضح في غير دورها، وسيأتي الجواب عن ذلك، وبما قررناه يعلم أن قول المواهب قاتل صلى الله عليه وسلم في تسع بنفسه، فيه نظر ظاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتل بنفسه في شيء من تلك الغزوات إلا في أحد كما سيأتي، وكأنه اغتر في ذلك بقول

بعضهم المتقدم قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمت المراد منه والله أعلم. ولا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم مكث بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة بغير قتال، صابرا على شدة أذية العرب بمكة، واليهود بالمدينة له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه لأمر الله تعالى له بذلك: أي بالإنذار والصبر على الأذى والكف بقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء: الآية 63] وبقوله وَاصْبِرْ [المزمل: الآية 10] ووعده بالفتح، أي فكان يأتيه أصحابه بمكة ما بين مضروب ومشجوج فيقول صلى الله عليه وسلم لهم «اصبروا، فإني لم أومر بالقتال» لأنهم كانوا بمكة شر ذمة قليلة. ثم لما استقر أمره صلى الله عليه وسلم: أي بعد الهجرة وكثرت أتباعه، وشأنهم أن يقدموا محبته على محبة آبائهم وأبنائهم وأزواجهم، وأصرّ المشركون على الكفر والتكذيب أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أي ولأصحابه في القتال، أي وذلك في صفر من السنة الثانية من الهجرة، لكن لمن قاتلهم وابتدأهم به بقوله فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: الآية 191] قال بعضهم: ولم يوجبه بقوله تعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الحجّ: الآية 39] أي للمؤمنين أن يقاتلوا بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحجّ: الآية 39] أي بسبب أنهم ظلموا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحجّ: الآية 39] ، أي فكان ذلك القتال عوضا من العذاب الذي عوملت به الأمم السالفة لما كذبت رسلهم. وذكر في سبب نزول قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النّساء: الآية 77] الآية «أن جماعة منهم عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص، وكانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا بمكة، فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فأذن لنا في قتال هؤلاء، فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم، فإني لم أومر بقتالهم. فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بالقتال للمشركين كرهه بعضهم وشق عليه ذلك، فأنزل الله تعالى الآية» . لا يقال: يدل لما تقدم من أنه قاتل صلى الله عليه وسلم بنفسه في تلك الغزوات ما جاء عن بعض الصحابة «كنا إذا لقينا كتيبة أو جئنا أول من يضرب النبي صلى الله عليه وسلم» لأني أقول لا يبعد أن يكون المراد بالضرب السير في الأرض: أي أول من يسير إلى تلقاء العدو. ويؤيده ما جاء عن عليّ رضي الله تعالى عنه «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأسا، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه صلى الله عليه وسلم» . وفي رواية «كنا إذا حمي البأس والتقى القوم بالقوم اتقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي كان وقاية لنا من العدوّ» . وقد نقل إجماع المسلمين على أنه لم يرو أحد قط أنه صلى الله عليه وسلم انهزم بنفسه في موطن من المواطن، بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه صلى الله عليه وسلم وثباته في جميع المواطن. لا يقال: سيأتي في غزوة بدر عن السيرة الهشامية غير معزوّ لأحد أنه قاتل

بنفسه قتالا شديدا، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه وكانا في العريش يجاهدان بالدعاء، فقاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين وأيضا سيأتي في خيبر ما قد يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قاتل بنفسه. لأنا نقول: سيأتي ما في ذلك مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يباشر القتال إلا في أحد كما سيأتي، ولم تقاتل معه الملائكة إلا في بدر وإلا في حنين. قيل وأحد، وسيأتي ما في ذلك، ولم يرم صلى الله عليه وسلم بالحصباء في وجوه العدوّ في شيء من الغزوات إلا في هذه الثلاثة على خلاف في الثالثة، أي ولم يجرح أي لم يصبه جراحة في غزوة من الغزوات إلا في أحد، ولم ينصب المنجنيق في غزوة من الغزوات إلا في غزوة الطائف، وفيه أنه نصبه على بعض حصون خيبر، وسيأتي الجمع بينهما، ولم يتحصن بالخندق في غزوة إلا في غزوة الأحزاب. ثم لا يخفى أن الآية المذكورة: أي التي هي أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) [الحجّ: الآية 39] قال بعضهم: هي أول آية نزلت في شأن القتال، ولما نزلت أخبر صلى الله عليه وسلم بقوله «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» أي وفي لفظ «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى، قيل: وما حقها؟ قال زنا بعد إحصان وكفر بعد إسلام، أو قتل نفس» . أقول: وظاهر هذا السياق يقتضي أن الآية فيها الأمر له صلى الله عليه وسلم بالقتال المذكور. وقد يتوقف في ذلك، ولعله أمر بذلك بغير الآية المذكورة، لأن الآية إنما هي ظاهرة في الإباحة والمباح ليس مأمورا به، وحينئذ يكون قوله في الآية الأخرى وهي فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: الآية 191] للإباحة، لأن صيغة أفعل تأتي لها وإن كان الأصل فيها الوجوب. وعلى أن قوله صلى الله عليه وسلم «أمرت» وأن أمره كان بغير هذه الآية يحمل على أن المراد الندب، لأن الأمر مشترك بين الوجوب والندب، فلا ينافي ما تقدم من أنه لم يكن وجب عليه القتال حينئذ والله أعلم. ثم لما رمتهم العرب قاطبة عن قوس، وتعرضوا لقتالهم من كل جانب كانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا فيه ويقولون ترى نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل؛ أنزل الله عز وجل وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النّور: الآية 55] ثم أذن في القتال، أي أبيح الابتداء به حتى لمن لم يقاتل أي لكن في غير الأشهر الحرم أي التي هي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، أي بقوله فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التّوبة: الآية

5] الآية ثم أمر به وجوبا أي بعد فتح مكة في السنة الثانية مطلقا، أي من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التّوبة: الآية 36] أي جميعا في أي زمن. فعلم أن القتال كان قبل الهجرة وبعدها إلى صفر من السنة الثانية محرّما، أي لأنه كان في ذلك مأمورا بالتبليغ، وكان إنذارا بلا قتال، لأنه نهى عنه في نيف وسبعين آية ثم صار مأذونا له فيه أي أبيح قتال من قاتل ثم أبيح قتال من لم يبدأ به في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به مطلقا: أي لمن قاتل ومن لم يقاتل في كل زمن؛ أي في الأشهر الحرم وغيرها. وظاهر كلام الإمام الإسنوي أن القتال في الحالة الثانية كان مأمورا به لا مباحا كالحالة الأولى. وعبارته: لما بعث صلى الله عليه وسلم أمر بالتبليغ والإنذار بلا قتال، فقال فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء: الآية 63] وقال وَاصْبِرْ [المزمّل: الآية 10] ثم أذن له بعد الهجرة في القتال إن ابتدؤوا فقال فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: الآية 191] ثم أمر بذلك ابتداء ولكن في غير الأشهر الحرم فقال فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التّوبة: الآية 5] ثم أمر به مطلقا فقال وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التّوبة: الآية 36] هذا كلامه. ولا يخفى أن الإسنوي ممن يرى أن «أمر» للوجوب، وهو يقتضي أن يكون الأمر به في الحالة الثانية للوجوب. والراجح ما علمت أن «أمر» مشترك بين الوجوب والندب، وأنه في الحالة الثانية مباح لا مأمور به. ثم استقر أمر الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: القسم الأول محاربون له صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء المحاربون إذا كانوا ببلادهم يجب قتالهم على الكفاية في كل عام مرة أي يكفي ذلك في إسقاط الحرج كإحياء الكعبة، واستدل لذلك بقوله تعالى فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التّوبة: الآية 122] أي فهلا نفر. وقيل كان فرض عين، لقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك. ويحتاج إلى الجواب عن ذلك. وقيل كان فرض كفاية في حق الأنصار، وفرض عين في حق المهاجرين. والقسم الثاني أهل عهد وهم المؤمنون من غير عقد الجزية: أي صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوّهم، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم. والقسم الثالث أهل ذمة: أي وهم من عقدت لهم الجزية. وهناك قسم آخر، وهو من دخل في الإسلام تقية من القتل وهم المنافقون كما تقدم. وأمر صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، فكان معرضا عنهم إلا فيما يتعلق بشعائر الإسلام الظاهرة كالصلاة فلا يخالف ما رواه الشيخان «لقد

هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» فقد ذكر أئمتنا أن ذلك ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون: أي أصلا بدليل السياق، أي لأن صدر الحديث «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر» أي جماعتهما «ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت الخ» . وفي الخصائص الصغرى: وكان الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم فرض عين في أحد الوجهين عندنا، وكان إذا غزا بنفسه صلى الله عليه وسلم يجب على كل أحد الخروج معه، لقوله تعالى ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التّوبة: الآية 120] ومن ثم وقع لمن تخلف عنه في غزوة تبوك ما وقع. وأما بعده صلى الله عليه وسلم فللكفار حالان مذكوران في كتب الفقه. وعند الإذن له صلى الله عليه وسلم في القتال خرج لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة: أي مكث بالمدينة باقي الشهر الذي قدم فيه وهو شهر ربيع الأوّل وباقي ذلك العام كله إلى صفر من السنة الثانية من الهجرة. «فخرج صلى الله عليه وسلم غازيا حتى بلغ ودّان» بفتح الواو وتشديد الدال المهملة آخره نون: وهي قرية كبيرة، بينها وبين الأبواء ستة أميال أو ثمانية. والأبواء بالمد: قرية كبيرة بين مكة والمدينة كما تقدم؛ سميت بذلك لتبوؤ السيول بها. وقيل لما كان فيها من الوباء فيكون على القلب، وإلا لقيل الأوباء. وحينئذ لا تخالف بين تسمية ابن الخفاف لها بغزوة ودّان وبين تسمية البخاري لها بغزوة الأبواء لتقارب المكانين، أي وفي الإمتاع: ودان جبل بين مكة والمدينة. وأقول: قد يقال لا منافاة، لأنه يجوز أن تكون تلك القرية كانت عند الجبل المذكور فسميت باسمه، والله أعلم. وكان خروجه صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين ليس فيهم أنصاري يعترض عيرا لقريش ولبني ضمرة أي وخرج صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة، فكان خروجه للشيئين كما يفهم من الأصل. ويوافقه قول بعضهم: وخرج صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا من أصحابه يريد قريشا وبني ضمرة. والمفهوم من سيرة الشامي أن خروجه صلى الله عليه وسلم إنما كان لاعتراضه العير، وإنه اتفق له موادعة بني ضمرة، ويوافقه قول الحافظ الدمياطي: خرج يعترض عيرا لقريش، فلم يلق كيدا. وفي هذه الغزوة وادع بني ضمرة هذا كلامه، أي صالح سيدهم حينئذ، وهو مجدي بن عمر. وعبارة بعضهم: فلما بلغ الأبواء لقي سيد بني ضمرة مجدي بن عمر الضمري، فصالحه ثم رجع إلى المدينة والمصالحة على أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا

غزوة بواط

يكثروا عليه صلى الله عليه وسلم جمعا ولا يعينوا عليه عدوّا، قال: وكتب بينه وبينهم كتابا نسخته «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا الكتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصرة على من رامهم» أي قصدهم «ألا أن يحاربوا في دين الله، ما بلّ بحرصوفة» أي ما بقي فيه ما يبل الصوفة «وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصره أجابوه عليهم، بذلك ذمة الله وذمة رسوله» أي أمانهما انتهى. وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم أبيض. وكان مع عمه حمزة؛ واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، وانصرف إلى المدينة راجعا، فهي أوّل غزواته صلى الله عليه وسلم، أي وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، والله أعلم. غزوة بواط ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، أي وقيل الآخر: أي من السنة المذكورة، يريد عيرا لقريش فيها أمية بن خلف، ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير خرج في مائتين من أصحابه: أي من المهاجرين خاصة، وحمل اللواء وكان أبيض سعد بن أبي وقاص، واللواء: هو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به موضع أمير الجيش. وقد يحمله أمير الجيش، وقد يجعل في مقدم الجيش. وأول من عقد الألوية إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: بلغه أن قوما أغاروا على لوط عليه السلام، فعقد لواء وسار إليهم بعبيده ومواليه. قال بعضهم: صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، أي فيطلق على كل اسم الآخر. وعن ابن إسحاق وابن سعد أن اسم الراية إنما حدث بعد خيبر، واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة سعد بن معاذ وقيل السائب بن مظعون: أي أخا عثمان بن مظعون وقيل السائب بن عثمان حتى بلغ بواط- بضم الموحدة وفتحها وتخفيف الواو والطاء المهملة- أي وهي جبل الينبع، أي ومن ثم قيل لها غزوة بواط. قال بعضهم: ومن هذا الجبل تقلع أحجار المسانّ، وهذا الجبل لجهينة من ناحية رضوى، وهو أحد الأجبل التي بني منها أساس الكعبة. وفيه أنه لم يذكر رضوى في تلك الأجبل الخمس التي كان منها أساس الكعبة المتقدم ذكرها على المشهور. وقد جاء في الحديث «رضوى رضي الله تعالى عنه» وتزعم الكيسانية وهم أصحاب كيسان مولى علي رضي الله تعالى عنه أن محمد ابن الحنفية مقيم برضوى حي يرزق وهو الإمام المنتظر عندهم. أي وفي كلام بعضهم أن المنتظر هو محمد القاسم بن الحسن العسكري الذي

غزوة العشيرة

تزعم الشيعة أنه المنتظر وهو صاحب السرداب، يزعمون أنه دخل السرداب في دار أبيه وأمه تنظر إليه فلم يخرج إليها، وكان عمره تسع سنين، وأنه يعمر إلى آخر الزمان كعيسى، وسيظهر فيملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا، واختفاؤه الآن خوفا من أعدائه. قال: وهو زعم باطل لا أصل له، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا أي حربا وأصل الكيد الاحتيال والاجتهاد ومن ثم يسمى الحرب كيدا، والله أعلم. غزوة العشيرة أي وبها بدأ البخاري المغازي، ويدل له ما جاء عن زيد بن أسلم وقد قيل له: ما أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ذات العشيرة. وأجيب عنه بأن المراد ما أول غزوة غزاها وأنت معه. ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر جمادى الأولى. وفي سيرة الدمياطي الآخرة من تلك السنة. أي وفي الإمتاع في جمادى الآخرة: ويقال جمادى الأولى، يريد عيرا لقريش متوجهة للشام. يقال إن قريشا جمعت جميع أموالها في تلك العير لم يبق بمكة لا قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في تلك العير إلا حويطب بن عبد العزى، يقال إن في تلك العير خمسين ألف دينار أي وألف بعير. وكان فيها أبو سفيان، أي قائدها. وكان معه سبعة وعشرون وقيل تسعة وثلاثون رجلا منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص، وهي العير التي خرج إليها حين رجعت من الشام. وكان سببا لوقعة بدر الكبرى كما سيأتي. خرج في خمسين ومائة؛ ويقال في مائتين من المهاجرين خاصة حتى بلغ العشيرة بالمعجمة والتصغير آخره هاء، أي ولم يختلف فيه أهل المغازي كما قال الحافظ ابن حجر. وفي البخاري آخرها همزة، وفيه أيضا العسيرة بالسين المهملة آخره هاء أي بالتصغير. وأما التي بغير تصغير فهي غزوة تبوك كما سيأتي، والتي بالتصغير فقال أيضا لموضع ببطن الينبع: أي وهو منزل الحاج المصري، وهي لبني مدلج. واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وحمل اللواء- وكان أبيض- عمه حمزة بن عبد المطلب، خرجوا على ثلاثين بعيرا يتعقبونها، فوجدوا العير قد مضت قبل ذلك بأيام، ورجع ولم يلق حربا. ووداع صلى الله عليه وسلم فيها بني مدلج، قال في الأصل وحلفاءهم من بني ضمرة. وذكر في المواهب هنا صورة الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة في غزوة ودّان الذي قدمناه ثم، فليتأمل ذلك؛ وكنى صلى الله عليه وسلم فيها عليا بأبي تراب حين وجده نائما وهو وعمار بن ياسر وقد علق به التراب، فأيقظه عليه الصلاة والسلام برجله وقال له «قم أبا تراب» لما يرى عليه من التراب: أي الذي سفته عليه الريح؛ ولما قام قال له صلى الله عليه وسلم

«ألا أخبرك بأشقى الناس أجمعين: عاقر الناقة والذي يضربك على هذا ووضع يده على قرن رأسه، فيخضب هذه ووضع يده على لحيته» وفي رواية «أشقى الأولين عاقر ناقة صالح، وأشقى الآخرين قاتلك» . وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال يوما لعليّ كرم الله وجهه من أشقى من الأولين؟ فقال عليّ: الذي عقر الناقة يا رسول الله قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال عليّ: لا علم لي يا رسول الله قال: الذي يضربك على هذه وأشار إلى يافوخه» وكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فهو من أعلام نبوته. فإنه لما كان شهر رمضان سنة أربعين صار يفطر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين وليلة عند عبد الله بن جعفر، لا يزيد في أكله على ثلاث لقم ويقول: أحب أن ألقى الله وأنا خميص، فما كانت الليلة التي ضرب صبيحتها أكثر الخروج والنظر إلى السماء، وجعل يقول: والله إنها الليلة التي وعدت، فلما كان وقت السحر وأذن المؤذن بالصلاة خرج إلى المسجد فأقبل الأوز الذي في داره يصحن في وجهه فمنعهن بعض نساء أهل بيته، فقال: دعوهن فإنهن نوائح، فلما دخل المسجد أقبل ينادي «الصلاة الصلاة» فشد عليه عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله من طائفة الخوارج، فضربه الضربة التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك شد عليه الناس من كل جانب فطرح عليه رجل قطيفة ثم طنبوه وأخذ السيف منه، وقالوا له: يا أمير المؤمنين خلّ بيننا وبين مراد، يعنون قبيلة الرجل الذي ضربه، فقال: لا، ولكن احبسوا الرجل، فإن أنا مت فاقتلوه، وإن أعش فالجروح قصاص. فحبس. فلما مات رضي الله تعالى عنه غسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، ومحمد ابن الحنفية يصب الماء، وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى عليه الحسن وكبر عليه سبعا، ودفن ليلا؛ قيل بدار الإمارة بالكوفة، وقيل بغير ذلك، وأخفي قبره لئلا تنبشه الخوارج. وقيل حملوه على بعير ليدفنوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هم في مسيرهم ليلا إذ ندّ البعير الذي عليه فلم يدر أين ذهب. ومن الناس من يزعم أنه انتقل إلى السماء، وأنه الآن في السحاب. ولما أصيب كرم الله وجهه دعا الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما فقال لهما: أوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا، ولا تبكيا على شيء زوى منها عنكما، وقولا الحق فلا تأخذكما في الله لومة لائم. ثم نظر إلى ولده محمد ابن الحنفية فقال: هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟ فقال نعم، فقال: أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك لعظم حقهما عليك، ولا ترينّ أمرا دونهما، ثم قال: أوصيكما به فإنه أخوكما وابن أبيكما وقد علمتما أن أباكما كان يحبه، ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله إلى أن قبض، فلما قبض أخرج الحسن رضي الله تعالى عنه ابن ملجم من الحبس وقتله.

غزوة سفوان ويقال لها غزوة بدر الأولى

أقول: ذكر بعضهم عن المبرد قال ابن ملجم لعليّ كرم الله تعالى وجهه: إني اشتريت سيفي هذا بألف، وسممته بألف، وسألت الله تعالى أن يقتل به شر خلقه، فقال عليّ: قد أجاب الله دعوتك، يا حسن إذا أنا مت فاقتله بسيفه ففعل به الحسن ذلك ثم أحرقت جثته. وقد ذكر أنه قطعت أطرافه وجعل في قوصرة وأحرقوه بالنار. وقد ذكر أن عليا قال يوما وهو مشير لابن ملجم: هذا والله قاتلي، فقيل له ألا نقتله؟ فقال: من يقتلني؟ وتبع الأصل في كون تكنية عليّ بأبي تراب في هذه الغزوة شيخه الدمياطي. واعترضه في الهدى بأنه صلى الله عليه وسلم إنما كناه بذلك بعد نكاحه فاطمة رضي الله تعالى عنها «فإنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما وقال أين ابن عمك؟ قالت: خرج مغاضبا، فجاء إلى المسجد فوجده مضطجعا فيه وقد لصق به التراب، فجعل ينفضه عنه ويقول: اجلس أبا تراب» وقيل إنما كناه أبا تراب لأنه كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها ولم يقل لها شيئا تكرهه، إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى التراب على رأسه عرف أنه عاتب على فاطمة. قال في النور: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم خاطبه بهذه الكنية مرتين، أي ويكون سبب الكنية علوق التراب به، وكونه يضعه على رأسه، والله أعلم. غزوة سفوان ويقال لها غزوة بدر الأولى وحين قدم صلى الله عليه وسلم من غزوة العشيرة لم يقم بالمدينة إلا ليالي لم تبلغ العشرة حتى غزا وخرج خلف كرز بن جابر الفهري وقد أغار قبل أن يسلم على سرح المدينة: أي النعم والمواشي التي تسرح للمرعى بالغداة. خرج في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان بالمهملة والفاء ساكنة، وقيل مفتوحة من ناحية بدر، أي ولذا قيل لها غزوة بدر الأولى، وفاته صلى الله عليه وسلم كرز ولم يدركه. وكان قد استعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء- وكان أبيض- علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقد تبعت الأصل في تقديم غزوة العشيرة على غزوة سفوان لما تقدم، وهو عكس ما في سيرة الشامي الموافق لسيرة الدمياطي ولما في الإمتاع، والله أعلم. باب تحويل القبلة وحولت القبلة في شهر رجب من السنة المذكورة التي هي الثانية في نصفه، وقيل في نصف شعبان. قال بعضهم: وعليه الجمهور الأعظم، وقيل كان في جمادى الآخرة، أي فقد قيل «إنه صلى الله عليه وسلم في المدينة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وقيل

سبعة عشر شهرا وقيل أربعة عشر شهرا، وقيل غير ذلك، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم صلى في مسجده بعد تمامه إلى بيت المقدس خمسة أشهر» . والأكثرون على أن تحويلها كان في صلاة الظهر، وقيل العصر، أي ففي الصحيحين عن البراء «إن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أي للكعبة صلاة العصر» . وقد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون المراد أول صلاة صلاها كلها للكعبة صلاة العصر، لأن الظهر صلى نصفها الأول لبيت المقدس ونصفها الثاني للكعبة: ثم رأيت الحافظ ابن حجر فعل كذلك، حيث قال: التحقيق أن أول صلاة صلاها بالمسجد النبوي صلاة العصر، أو أن التحويل في العصر كان في محل آخر للأنصار أي وهم بنو حارثة. وقيل حولت في صلاة الصبح وهو محمول على أن ذلك كان في قباء، لأن الخبر لم يبلغهم إلا حينئذ كما سيأتي، وإنما حولت لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن تكون قبلته الكعبة سيما لما بلغه أن اليهود قالوا يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. أي وفي لفظ: قالوا للمسلمين: لو لم نكن على هدى ما صليتم لقبلتنا فاقتديتم بنا فيها. وفي لفظ «كان يحب أن يستقبل الكعبة محبة لموافقة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وكراهة لموافقة اليهود، ولقول كفار قريش للمسلمين لم تقولون نحن على ملة إبراهيم وأنتم تتركون قبلته وتصلون إلى قبلة اليهود؟ أي ولأنه لما هاجر صار إذا استقبل صخرة بيت المقدس يستدبر الكعبة، فشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، فقال لجبريل: وددت أن الله سبحانه وتعالى صرفني عن قبلة اليهود، فقال جبريل: إنما أنا عبد لا أملك لك شيئا إلا ما أمرت به، فادع الله تعالى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى، يكثر إذا صلى إلى بيت المقدس من النظر إلى السماء ينتظر أمر الله تعالى» أي لأن السماء قبلة الدعاء، وفي رواية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: وددت أنك سألت الله تعالى أن يصرفني إلى الكعبة، فقال جبريل: لست أستطيع أن أبتدىء الله جل وعز بالمسألة، ولكن إن سألني أخبرته، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرا أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعاما، وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مسجد هناك، فلما صلى ركعتين نزل جبريل فأشار إليه أن صلّ إلى الكعبة واستقبل الميزاب، فاستدار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، أي فاستدار النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء» أي فقد تحول من مقدم المسجد إلى مؤخره، لأن من استقبل الكعبة في المدينة يلزم أن يستدبر بيت المقدس أي كما أن من يستقبل بيت المقدس يستدبر الكعبة، وهو صلى الله عليه وسلم لو دار كما هو مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف. قيل وكان ذلك وهم راكعون، وفيه أن هذا يستدعي عملا كثيرا في الصلاة وهو مفسد لها عندنا إذا توالى. وقد يقال: لا مانع لجواز أن يكون ذلك قبل تحريم العمل الكثير في الصلاة،

أو أن هذا العمل لم يكن على التوالي. أقول: وبدخوله أي على أم بشر صلى الله عليه وسلم وعلى الربيع بنت معوذ ابن عفراء، وعلى أم حرام بنت ملحان، وعلى أختها أم سليم، والخلوة بكل منهن، فقد كانت أم حرام بنت ملحان تفلي رأسه الشريفة وينام عندها، استدل أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز النظر إلى الأجنبية والخلوة بها لأمنه الفتنة كما سيأتي، والله أعلم. وسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، وقيل كانت تلك الصلاة التي هي صلاة الظهر التي وقع التحول فيها في مسجده صلى الله عليه وسلم، فخرج عباد بن بشر وكان صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرّ على قوم من الأنصار يصلون العصر وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البيت يعني الكعبة ثم بلغ أهل قباء ذلك وهم في صلاة الصبح في اليوم الثاني أي وهم ركوع، وقد ركعوا ركعة فنادى مناد: ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة، فتحولوا إليها. أي وفي البخاري «بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فاستداروا إلى الكعبة، وفي مسلم بدل صلاة الصبح صلاة الغداة. قال الحافظ ابن حجر: وهو أحد أسمائها. وقد نقل بعضهم كراهة تسميتها بذلك، ولم ينقل أنهم أمروا بقضاء العصر والمغرب والعشاء، ولا إعادة الركعة التي صلوها من الصبح، وهو دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله. وعلى أنه يجوز ترك الأمر المقطوع به، وهو استقبال بيت المقدس إلى أمر مظنون وهو خبر الواحد. وأجيب عن هذا الثاني بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن أفادت القطع عندهم بصدق المخبر، فلم يتركوا الأمر المعلوم إلا لأمر معلوم أيضا. على أنه يجوز نسخ المتواتر بالآحاد، لأن محل النسخ الحكم، ودلالة المتواتر عليه ظنية كما تقرر في محله. ويقال إن المبلغ لهم عباد بن بشر أيضا فيكون عباد أتى بني حارثة أولا في صلاة العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في وقت الصبح، والقرآن الذي نزل قوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: الآية 144] الآيات أي وإلى هذا يشير بعضهم بقوله: كم للنبي المصطفى من آية ... غراء حار الفكر في معناها لما رأى الباري تقلب وجهه ... ولاه أيمن قبلة يرضاها وعن عمارة بن أوس الأنصاري، قال: صلينا إحدى صلاتي العشي أي وهما الظهر والعصر، فقام الرجل على باب المسجد ونحن في الصلاة، فنادى: إن الصلاة

قد وجهت نحو الكعبة فتحول إمامنا نحو الكعبة وقوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: الآية 144] أي متطلعا نحو الوحي ومتشوقا للأمر باستقبال الكعبة فَلَنُوَلِّيَنَّكَ [البقرة: الآية 144] أي نحو لنك قِبْلَةً تَرْضاها [البقرة: الآية 144] أي تحبها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: الآية 144] أي نحوه، والمراد بالمسجد الحرام الكعبة وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ [البقرة: الآية 144] أي الرجوع إلى الكعبة مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: الآية 5] أي لما في كتبهم من نعته صلى الله عليه وسلم بأنه يتحول إلى الكعبة. أقول: ولعل هذه القصة التي رواها عمارة هي التي رويت عن رافع بن خديج، قال «أتانا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يتوجه إلى الكعبة فدار أمامنا إلى الكعبة ودرنا معه» والله أعلم. «واجتمع قوم من كبار اليهود جاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه أي وما كنت عليه قبلة إبراهيم» وهذا بناء على دعواهم أن بيت المقدس كان قبلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سيأتي عنهم، وسيأتي ما فيه ثم قالوا ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك «وإنما يريدون بذلك فتنة ليعلم الناس أنه صلى الله عليه وسلم في حيرة من أمره» أي واختبار لما يجدونه في نعته صلى الله عليه وسلم من أنه يرجع عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة وأنه لا يرجع عن تلك القبلة، وفي رواية أنهم قالوا للمسلمين: ما صرفكم عن قبلة موسى ويعقوب وقبلة الأنبياء» أي ويوافقه قول الزهري «لم يبعث الله منذ هبط آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض نبيا إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس» ويوافق هذا ظاهر قول الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته: وصليت نحو القبلتين تفردا ... وكل نبيّ ما له غير قبلة قال شارحها: يشير إلى أن كل نبي كانت قبلته بيت المقدس، وهو صلى الله عليه وسلم قد شاركهم فيها، أي واختص بالكعبة. ومن ثم جاء في التوراة في وصفه صلى الله عليه وسلم «صاحب القبلتين» وفيه أن قبلة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما هي الكعبة. فعن أبي العالية كانت الكعبة قبلة الأنبياء، وكان موسى يصلي إلى صخرة بيت المقدس، وهي بينه وبين الكعبة، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف، أي ويقال بمثل هذا فيما تقدم عن اليهود وعن الزهري، على تسليم صحته من أن صخرة بيت المقدس كانت قبلة لجميع الأنبياء أنهم كانوا يصلون إليها ويجعلونها بينهم وبين الكعبة، فلا مخالفة. لا يقال: هذا ليس أولى من العكس، أي أن استقبال الأنبياء للكعبة إنما كانوا يجعلونها بينهم وبين صخرة بيت المقدس. لأنا نقول: قد ذكر في الأصل في تفسير

قوله تعالى لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [البقرة: الآية 146- 147] أي يكتمون ما علموا من أن الكعبة هي قبلة الأنبياء، أي المقصودة بالاستقبال، لا أنهم يستقبلونها لأجل صخرة بيت المقدس. وذكر عن بعضهم أن اليهود لم تجد كون الصخرة قبلة في التوراة، وإنما كان تابوت السكينة على الصخرة، فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه فصلوا إلى الصخرة بمشاورة منهم، أي وادعوا أنها قبلة الأنبياء- وما تقدم عن الزهري تقدم الجواب عنه- ثم قالوا والله إن أنتم إلا قوم تفتنون، فأنزل الله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: الآية 142] أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: الآية 142] أي فكان أوّل ما نسخ أمر القبلة. فعن ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما يذكر لنا والله أعلم شأن القبلة فاستقبل صلى الله عليه وسلم بيت المقدس- أي بمكة والمدينة- ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة. أي وأما قوله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: الآية 115] فمحمول على النفل في السفر إذا صلى حيث توجه. وما قيل إن سبب نزولها ما ذكره بعض الصحابة، قال «كنا في سفر ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت» ففيه نظر لضعف الحديث؛ أو هو محمول على ما إذا صلوا باجتهاد. أي ولما توجه صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال المشركون من أهل مكة توجه محمد بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أي يقرب أن يدخل في دينكم ومن ثم ارتد جماعة وقالوا مرة هاهنا ومرة هاهنا. «ولما حوّلت القبلة إلى الكعبة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء فقدم جدار المسجد موضعه الآن، وقالت الصحابة له: يا رسول الله لقد ذهب منا قوم قبل التحول، فهل يقبل منا ومنهم؟ فأنزل الله تعالى قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: الآية 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس» . وذكر في الأصل «أن الصحابة قالوا: مات قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا، أي وهم عشرون، ثمانية عشر من أهل مكة، واثنان من الأنصار وهما البراء بن معرور، وأسعد بن زرارة فلم ندر ما نقول فيهم؛ فأنزل الله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: الآية 143] الآية» ولفظة القتل وقعت في البخاري. وأنكرها الحافظ ابن حجر فقال: ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت

هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر، قتل في تلك المدة في غير الجهاد. ثم قال: وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، فقلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما كان بعد الإسراء، هذا كلام الحافظ وفيه أن الركعتين اللتين كان يصليهما وهو والمسلمون بالغداة وبالعشي قبل فرض الصلوات الخمس كانتا لبيت المقدس، فقد تقدم أنه كان يصلي هو وأصحابه إلى الكعبة ووجوههم إلى بيت المقدس، فكانوا يصلون بين الركنين اليماني والذي عليه الحجر الأسود لأجل استقبال بيت المقدس، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يلتزم ذلك بل كان في بعض الأوقات يصلي إلى الكعبة في أي جهة أراد. ثم لما قدم المدينة صار يستقبل بيت المقدس ويستدبر الكعبة إلى وقت التحويل، ومن ثم قال في الأصل «ولما كان صلى الله عليه وسلم يتحرى القبلتين جميعا أي يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس لم يتبين توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة» أي فإنه استدبر الكعبة واستقبل بيت المقدس. فقول ابن عباس؛ لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واليهود يستقبلون بيت المقدس، أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، معناه أمره الله تعالى أن يستمر على استقبال بيت المقدس، وهذا هو المراد بقوله الذي نقله بعضهم عنه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجروا أمره الله تعالى أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس، أي يستمر على ذلك ويستدبر الكعبة، ثم أمره الله باستقبال الكعبة واستدبار بيت المقدس؛ فلم يقع النسخ مرتين كما قد يفهم من ظاهر السياق ومن قول ابن جرير صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى صلاة ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة» هذا كلامه، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: هذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين. قيل وكان أمره بمداومة استقبال بيت المقدس ليتألف أهل الكتاب لأنه كان ابتداء الأمر يحب أن يتألف أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، فلا يخالف ما سبق من أنه كان يحب أن يستقبل الكعبة كراهة لموافقة اليهود في استقبال بيت المقدس ولا يخالف هذا قول بعضهم، كان صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، وبعد الفتح يحب مخالفتهم، لجواز أن يكون ذلك أغلب أحواله. وقد يؤخذ من استدامة استقباله لبيت المقدس كان لتألف أهل الكتاب، جواب عما يقال إذا كانت الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، فلم وفق إلى استقبال بيت المقدس وهو بمكة؟ بناء على أن صلاته لبيت المقدس وهو بمكة كانت باجتهاد. وحاصل الجواب أنه أمر بذلك أو وفق إليه، لأنه سيصير إلى قوم قبلتهم بيت

المقدس، ففيه تأليف لهم، وقد يوافقه ما في الأصل عن محمد بن كعب القرظي قال: ما خالف نبي نبيا قط في قبلة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس، أي فهو مخالف لغيره من الأنبياء في ذلك، وهذا موافق لما تقدم عن أبي العالية: كانت الكعبة قبلة الأنبياء: أي ثم في السنة المذكورة التي هي الثانية فرض صوم رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وطلبت الأضحية، أي استحبابا. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه» فرض شهر رمضان بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان، أي على ما تقدم «وكان صلى الله عليه وسلم يصوم هو وأصحابه قبل فرض رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، أي وهي الأيام البيض وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر» قيل وجوبا. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر الأيام البيض في حضر ولا سفر، وكان يحث على صيامها» . وقيل: كان الواجب عليه صلى الله عليه وسلم قبل فرض رمضان صوم عاشوراء، ثم نسخ ذلك بوجوب رمضان. وعاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم: ففي البخاري، ثم عن ابن عمر رضي الله عنهما «صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء، فلما فرض رمضان ترك صوم عاشوراء، هذا والمشهور من مذهبنا معاشر الشافعية أنه لم يجب على هذه الأمة صوم قبل رمضان. وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا دلالة فيه على الوجوب، لجواز أن يكون شأنه صلى الله عليه وسلم صيام تلك الأيام على الوجه المذكور حتى بعد فرض رمضان. وحديث البخاري أيضا لا دلالة فيه، لجواز أن يكون تركه لصوم يوم عاشوراء في بعض الأحايين، بعد فرض رمضان خشية اعتقاد وجوب صومه كرمضان. ويجاب بمثل ذلك عما في الترمذي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه موافقه لهم» أي ولم يأمر أحد من أصحابه بصيامه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه أي ترك صلى الله عليه وسلم صومه خوفا من توهم أنه فرض كرمضان، وقولها رضي الله تعالى عنها فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه أي لأنه صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: أي في أيام قدومه للمدينة، وذلك في شهر ربيع الأول وجد اليهود تصومه وتعظمه، فسألهم عن ذلك، فقالوا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نحن أحق

بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه» كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي كلام الحافظ ناصر الدين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة يوم عاشوراء، فإذا اليهود صيام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ قالوا: هذا يوم أغرق الله تعالى فيه فرعون وأنجى فيه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى بموسى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصومه» هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم. والمدينة يحتمل أن المراد بها قباء، ويحتمل أن المراد بها باطنها، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلما فرض رمضان قال صلى الله عليه وسلم أي لأصحابه، من شاء صامه ومن شاء تركه، أي قال ذلك لهم خشية اعتقادهم وجوب صومه كوجوب صوم رمضان. وفي كونه صلى الله عليه وسلم وجدهم صائمين لذلك اليوم إشكال، لأن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم كما تقدم، أو هو اليوم التاسع منه كما يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف يكون في ربيع الأول. وأجيب بأن السنة عند اليهود شمسية لا قمرية، فيوم عاشوراء الذي كان عاشر المحرم واتفق فيه غرق فرعون لا يتقيد بكونه عاشر المحرم، بل اتفق في ذلك الزمن: أي زمن قدومه صلى الله عليه وسلم وجود ذلك اليوم بدليل سؤاله صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان ذلك اليوم يوم عاشوراء ما سأل. ومما يدل على ذلك ما في المعجم الكبير للطبراني عن خارجة بن زيد، قال ليس يوم عاشوراء اليوم الذي تقوله الناس؟ إنما كان يوم تستر في الكعبة، وتلعب فيه الحبشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي فيسألونه، فلما مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه، فصام صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم وأمر بصيامه، حتى إنه أرسل في ذلك اليوم أسلم بن حارثة إلى قومه وهم أسلم وقال: مر قومك بصيام عاشوراء، فقال: أرأيت إن وجدتهم قد طعموا؟ قال: فليتموا أي يمسكوا تعظيما لذلك اليوم. وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعض الصحابيات قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم يوم عاشوراء ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو يوم عاشوراء بالرضعاء فيتفل في أفواههم ويقول للأمهات لا ترضعنهن إلى الليل» . والظاهر أن المراد بيوم عاشوراء هذا اليوم الذي هو عاشر المحرم الهلالي لا الشمسي، وكذا يقال في قوله وقيل سمي الخ فليتأمل. وقيل: سمي يوم عاشوراء لأن عشرة من الأنبياء أكرمهم الله تعالى فيه بعشر

كرامات تاب الله فيه على آدم واستوت فيه سفينة نوح على الجودي أي فصامه نوح ومن معه حتى الوحش شكر الله ورفع الله فيه إدريس، ونصر الله فيه موسى، ونجى فيه إبراهيم من النار وفيه أخرج يوسف من السجن، أي وفيه ولد، ورد فيه على والده يعقوب، وأخرج فيه يونس من بطن الحوت، أي وتاب الله على أهل مدينته، وتاب الله فيه على داود، وعوفي فيه أيوب. وفي كلام الحافظ ابن ناصر الدين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله عز وجل افترض على بني إسرائيل صوم يوم في السنة» وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، فصوموه ووسعوا على أهاليكم فيه فإنه من وسع على أهله من ماله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته، فصوموه، وهو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وذكر ما تقدم وزاد عليه، «وأنه اليوم الذي أنزل الله فيه التوراة على موسى، وفيه فدى الله إسماعيل من الذبح، وهو اليوم الذي رد الله فيه على يعقوب بصره، وهو اليوم الذي رد الله فيه على سليمان ملكه، وهو اليوم الذي غفر الله فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم ذنبه ما تقدم وما تأخر، وأول يوم خلق من الدنيا يوم عاشوراء، وأول مطر نزل من السماء يوم عاشوراء، وأول رحمة نزلت من السماء يوم عاشوراء، فمن صام يوم عاشوراء فكأنما صام الدهر كله، وهو صوم الأنبياء، الحديث بطوله، ثم قال: هذا حديث حسن، ورجاله ثقات. وذكر الحافظ المذكور عن بعضهم قال: كنت أفت للنمل خبزا في كل يوم، فلما كان يوم عاشوراء لم تأكل، وتقدم أن الصّرد أول طير صام عاشوراء. وفي كلام بعضهم: ما قيل في يوم عاشوراء كانت توبة آدم إلى آخر ما تقدم من الأحاديث الموضوعة، وفي كلام بعض آخر: ما يفعل فيه من إظهار الزينة بالخضاب والاكتحال، ولبس الجديد، وطبخ الحبوب والأطعمة والاغتسال والتطيب من وضع الكذابين. والحاصل أن الرافضة اتخذوا ذلك مأتما يندبون وينوحون ويحزنون فيه، والجهال اتخذوا ذلك موسما وكلاهما مخطىء مخالف للسنة، وأما التوسعة فيه على العيال، فحديثها وإن لم يكن صحيحا فهو حسن، خلافا لقول ابن تيمية إن التوسعة على العيال لم يرد فيها شيء عنه صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يصوم عاشوراء كما تصومه اليهود، أي ويوم عاشوراء مختلف، لأنه عند اليهود من السنة الشمسية، وعند أهل الإسلام من السنة الهلالية. وفي مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قال له بعض الصحابة يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع قبله» أي مخالفة

لليهود، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث إشكال، فإن سياقه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما صام يوم عاشوراء ولا أمر بصيامه، إلا في السنة التي توفي فيها وهو مخالف لما سبق. ويجاب عن هذا الإشكال بأن المراد بقوله حين صام: أي حين واظب على صومه. واتفق أن قول بعض الصحابة ذلك كان في السنة التي توفي فيها، وهو صلى الله عليه وسلم كان شأنه موافقة أهل الكتاب قبل فتح مكة ومخالفتهم بعده كما تقدم، وبعض متأخري فقهائنا ظن أن قوله صلى الله عليه وسلم «إذا كان العام المقبل إن شاء الله تعالى صمن اليوم التاسع» من تتمة حديث «ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصومه فصامه وأمر بصيامه» فاستشكل. وأجاب، بأن المراد لما قدم من سفرة سافرها من المدينة بعد الهجرة. أي وكان قدومه من تلك السفرة في السنة التي توفي فيها، وقد علمت أنهما حديثان؛ وقد علمت معنى الحديث الذي تتمته إذا كان العام المقبل. وفي كون إغراق فرعون ونجاة موسى كان يوم قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة يلزم عليه أن ذلك اليوم انتقل من ذلك الشهر إلى اليوم العاشر من المحرم الذي هو الشهر الهلالي من السنة الثانية، واستمر كذلك كما هو ظاهر سياق الأحاديث أن الذي واظب على صيامه إنما هو ذلك اليوم، وكونه وافق اليهود على صوم ذلك اليوم، ثم خالفهم في السنة الثانية وما بعدها من أبعد البعيد. ثم رأيت أبا الريحان البيروتي نازع في ذلك في كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية» حيث قال: رواية أن الله أغرق فرعون ونجى موسى وقومه يوم قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة لامتحان يشهد عليها بالبطلان، وبين ذلك بما يطول. وحينئذ يكون من جملة ما يحكم عليها بالبطلان إقرارهم على ذلك؛ وكونه صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه وفرض الله عز وجل عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته صيام شهر رمضان أو الإطعام عن كل يوم مسكينا بقوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة: الآية 184] من الأصحاء المقيمين فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً [البقرة: الآية 184] : أي زاد على إطعام المسكين فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: الآية 184] أي من الفطر والإطعام، فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم عن كل يوم مدا. ثم إن الله تعالى نسخ هذا التخيير بإيجاب صوم رمضان عينا بقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة: الآية 185] أي علمه فَلْيَصُمْهُ [البقرة: الآية 185] إلا في حق من لا يستطيع صومه لكبر أو لمرض لا يرجى زواله فيجزيه الإطعام ورخص فيه للمريض، أي إذا كان بحيث تحصل له مشقة تبيح التيمم، وللمسافر أي الذي يباح له قصر الصلاة وإن لم يحصل له مشقة بالكلية مع وجوب القضاء إذا زال المرض والسفر بقوله تعالى وَمَنْ

كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: الآية 185] أي فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر من أيام أخر، وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا بعد الغروب أو يدخل وقت العشاء الآخرة، فإذا ناموا أو دخل وقت العشاء الآخرة امتنع عليهم ذلك إلى الليلة القابلة، ثم نسخ الله ذلك، وأحل الأكل والشرب وإتيان النساء إلى طلوع الفجر ولو بعد النوم ودخول وقت العشاء بقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: الآية 187] ثم قال تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة: الآية 187] ولما فهم بعض الصحابة أن المراد الخيط حقيقة حتى صار يجعل عند وسادته حبلا أبيض وحبلا أسود أنزل الله تعالى من الفجر إشارة إلى أن المراد بياض النهار وسواد الليل. وذكر في التفسير في سبب نزول هذه الآية: «أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي، فجامعت أهلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت جديرا بذلك يا عمر. فقام رجال فاعترفوا بمثله، فنزلت» وذكر له صلى الله عليه وسلم أن بعض أصحابه سقط مغشيا عليه بسبب الصوم، فسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأخبر أنه أهل حرث، وأنه جاء لينظر ما تعمله له زوجته ليتعشى به فغلبته عينه فنام فلم يستيقظ إلا بعد الغروب، فلم يتناول شيئا فأنزل الله تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة: الآية 187] الآية: وقوله تعالى كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: الآية 183] جاء في بعض الروايات، أن المراد بهم أهل الكتاب: أي اليهود والنصارى، جاء في بعضها أن المراد بهم النصارى خاصة، وجاء في بعض الروايات أن المراد بهم جميع الأمم السابقة: فقد جاء «ما من أمة إلا وجب عليها صوم رمضان إلا أنهم أخطؤوه ولم يهتدوا له» وهذه الرواية تدل على أنه لم يصمه أحد من الأمم السابقة. فصومه من خصوصيات هذه الأمة. وفي الأنساب لابن قتيبة «أول من صام رمضان نوح عليه الصلاة والسلام» هذا كلامه: وفي بعض الروايات ما يفيد أن النصارى صامته، واتفق أنه وقع في بعض السنين في شدة الحر فاقتضى رأيهم تأخيره بين الصيف والشتاء، وأن يزيدوا في مقابلة تأخيره عشرين يوما، وعلى هذا فصومه ليس من خصائص هذه الأمة، وقيل التشبيه إنما هو في مطلق الصوم لا في خصوص صوم رمضان، لأنه كان الواجب على جميع ما تقدم من الأمم صوم ثلاثة أيام من كل شهر، صام ذلك نوح فمن دونه حتى صامه النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم؛ وتقدم أن تلك الأيام التي صامها صلى الله عليه وسلم كانت البيض التي هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وتقدم أنه قيل: إن صوم ذلك كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته.

وقيل: كان الواجب عليه وعلى أصحابه قبل صوم رمضان عاشوراء، وتقدم رده، وكان فرض زكاة الفطر قبل العيد بيومين «وكان صلى الله عليه وسلم يخطب قبل العيد بيومين يعلم الناس زكاة الفطر فيأمر باخراج تلك الزكاة قبل الخروج إلى صلاة العيد» أي بعد أن شرعت، لأن مشروعيتها تأخرت عن مشروعية صلاة عيد الأضحى، وكان فرض زكاة الفطر قبل فرض زكاة الأموال، وكان فرض زكاة الأموال في تلك السنة التي هي الثانية، ولم أقف على خصوص الشهر الذي وجبت فيه. قال بعضهم: ولعل هذا محمل قول بعض المتأخرين المطلعين على الفقه والحديث، لم يتحرر لي وقت فرض الزكاة: أي زكاة المال، ولعله عنى ببعض المتأخرين الإمام سراج الدين البلقيني رحمه الله، لأن الإمام سراج الدين البلقيني سئل هل علمت السنة التي فرضت فيها زكاة المال؟ فأجاب بقوله: لم يتعرض الحفاظ ولا أصحاب السير للسنة التي فرض فيها زكاة المال، ووقع لي حديثان ظهر منهما تقريب ذلك ولم أسبق إليه. ثم قال: فقد ظهر أن زكاة المال بعد زكاة الفطر؛ وقيل قدوم ضمام بن ثعلبة، وقدومه كان في السنة الخامسة هذا كلامه. وقيل: فرضت زكاة الفطر قبل الهجرة، وعليه يحمل ظاهر ما في «سفر السعادة» كان صلى الله عليه وسلم يرسل مناديا ينادي في الأسواق والمحلات والأزقة من مكة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ومسلمة الحديث. ورد بأنه لم يفرض قبل الهجرة بعد الإيمان إلا الصلوات الخمس، وكل الفروض فرضت بعد الهجرة. وفيه أنه فرض قيام الليل كما تقدم، وصلاة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي على ما تقدم. إلا أن يقال المراد الفروض الموجودة الآن المستمر فرضها وما تقدم عن «سفر السعادة» يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم يرسل المنادي الذي ينادي في مكة بوجود زكاة الفطر وهو بالمدينة بعد وجوبها بالمدينة «وأمر صلى الله عليه وسلم أن تخرج زكاة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من زبيب أو صاع من بر، فكان يصلي العيدين قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة» أي بل يقال: الصلاة جامعة، لكن في «سفر السعادة» «وكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغ المصلى شرع في الصلاة من وقته بلا أذان ولا إقامة ولا الصلاة جامعة» والسنة أن لا يكون شيء من هذا كله هذا كلامه «وكانت تحمل العنزة بين يديه، فإذا وصل المصلى نصبت تجاهه» وهي عصا قدر نصف الرمح في أسفلها زج من حديد «وكان تلك العنزة للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة، فأخذها منه صلى الله عليه وسلم وكان يصلي إليها» أي أخذها منه بعد وقعة بدر. وقد قتل بها الزبير عبيدة بفتح العين المهملة وبضمها ابن سعيد بن العاص الذي كان يقال له أبو ذات الكرش. قال الزبير: لقيته لا يرى منه إلا عيناه، فقال لي أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه

بالعنزة فطعنته في عينه فمات، وأردت إخراجها فوضعت رجلي عليه، ثم تمطيت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفها. ولما قبض صلى الله عليه وسلم أخذها الزبير، ثم طلبها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه أخذها الزبير ثم سألها عمر رضي الله تعالى عنه فأعطاه إياه، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان فأعطاه إياها، فلما قتل دفعت إلى علي، ثم أخذها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل. «وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع من صلاة عيد الفطر وخطبته يقسم زكاة الفطر بين المساكين» ولعل المراد الزكاة المتعلقة به لأنه تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر الناس بإخراجها قبل الصلاة. إلا أن يقال المراد بإخراجها جمعها له صلى الله عليه وسلم ليفرقها. «وإذا فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة الأضحى وخطبته يؤتى له بكبشين وهو قائم في مصلاه فيذبح أحدهما بيده ويقول: هذا عن أمتي جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ» . وعند الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح كبشا أقرن بالمصلى، أي بعد أن قال: بسم الله والله أكبر. وقال: اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي» . واستدل بذلك على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يضحي عن غيره بغير إذنه «ويذبح الآخر ويقول: هذا عن محمد وآل محمد، فيأكل هو وأهله منهما، ويطعم المساكين، ولم يترك الأضحية قط» وهل كانت الأنبياء من بعد إبراهيم تضحي هم وأممهم أو هم خاصة؟ وكان في مسجده صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة قبل أن يوضع له المنبر يخطب ويسند ظهره إلى أسطوانة من جذوع النخل أو من الدوم وهو شجر المقل. وعبارة بعضهم «كان يخطب الناس وهو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي، فلما كثر الناس أي وقالوا له صلى الله عليه وسلم: لو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس وتسمعهم خطبتك، فقال: ابنوا لي منبرا فلما بني له المنبر عتبتين، أي ومحل الجلوس، فكان ثلاث درجات، وقام عليه في يوم جمعة أي وخطب» وفي لفظ «لما عدل إلى المنبر ليخطب عليه وجاوز ذلك الجذع سمع لتلك الأسطوانة حنين كحنين الواله بصوت هائل سمعه أهل المسجد حتى ارتج» أي اضطرب «المسجد، وكثر بكاء الناس لذلك، ولا زالت تحنّ حتى تصدعت وانشقت» أي وفي رواية «سمع له صوت كصوت العشار» أي النوق التي أتى لحملها عشرة أشهر. وقيل التي أخذ ولدها. وفي بعض الروايات «كحنين الناقة الحلوج» وهي التي انتزع ولدها منها. وفي رواية «جأر» بفتح الجيم وبعدها همزة مفتوحة: أي صوت، أو بالخاء المعجمة بلا همزة وهو بمعناه «كخوار الثور، فنزل صلى الله عليه وسلم فالتزمها وحضنها» أي فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت فيسكت.

أي وفي كلام بعضهم: وذكر الإسفراييني «أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى نفسه فجاءه يخرق الأرض، فالتزمه فعاد إلى مكانه» وفي رواية «ووضع يده عليها، وقال لها اسكني واسكتي فسكتت» وفي رواية «أن هذا» أي الجذع «يبكي لما فقد من الذكر، والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا» أي يحن إلى يوم القيامة. زاد في رواية «حزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقوله لما فقد من الذكر هو واضح على الرواية الأولى. وأما على الثانية فالمراد لما يفقده من الذكر، وإلى حنين الجذع أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله: وحن إليك الجذع حين تركته ... حنين الثكالى عند فقد الأحبة وعن بعضهم قال: قال لي الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم، فقلت أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم حنين الجذع، فهذا أكبر من ذاك. وفي رواية «لا تلوموه» أي الجذع «على حنينه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارق شيئا إلا وجد عليه» أي حزن. وفي رواية «أنه قال له: إن شئت أردك إلى الحائط» أي البستان الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك. ثم أصغى له صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول فقال بصوت سمعه من يليه: بل تغرسني في الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعلت قد فعلت» وفي رواية «لما أصغى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اختار أن أغرسه في الجنة» أي وفي رواية «اختار دار البقاء على دار الفناء» ولا يخالف ما قبله، لأنه يجوز أن يكون السائل من غير من سمع جوابه وأمر به فدفن تحت المنبر، وقيل جعل في السقف وأخذه عنده أبيّ رضي الله عنه بعد أن هدم المسجد وأزيل سقفه، فكان عنده إلى أن أكلته الأرضة وعاد رفاتا أي متكسرا من شدة اليبس. أقول: في سيرة الحافظ الدمياطي قالوا «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: إن القيام شق عليّ، فقال له تميم الداري ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام، أي تصنعه النصارى في كنائسهم لأساقفتهم تسمى المرقاة يصعدون إليها عند تذكيرهم فتشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذوه، فقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما إن لي غلاما يقال له كلاب أعلم الناس أي بالنجارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره أن يعمله، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عمل منها درجتين ومقعدا، ثم جاء به فوضعه في موضعه اليوم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام عليه» أي وقال «إن أتخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم» أي ولعله صلى الله عليه وسلم عنى به المقام الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وهو الحجر، إلا إن ثبت أن إبراهيم كان له منبر يحدث عليه الناس.

وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المنبر يقول «يأخذ الجبار بسمواته وأرضه بيده، ثم يقول: أنا الجبار أنا الجبار، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ويميل يعني النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي رواية عنه «فقال المنبر هكذا وهكذا، فجاء وذهب ثلاث مرات» . وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها «فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم منبره حتى قلن ليحزن، وقال: منبري هذا على ترعة» بضم المثناة فوق وإسكان الراء وبالعين المهملة «من ترع الجنة، أي أفواه جداول الجنة، وقوائم منبري رواتب أي ثوابت في الجنة» وقال صلى الله عليه وسلم «منبري على حوضي» وقال «إن حوضي كما بين عدن إلى عمان، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، أباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأكثر الناس ورودا عليه يوم القيامة فقراء المهاجرين. قلنا: من هم يا رسول الله؟ قال: الشعثة، رؤوسهم، الدنسة ثيابهم، الذين لا ينكحون المنعمات، ولا تفتح لهم السدد، أي الأبواب الذين يعطون الذي عليهم ولا يأخذون الذي لهم» وقال صلى الله عليه وسلم «ما بين قبري ومنبري» . وفي رواية بدل قبري «بيتي» وفي لفظ «حجرتي» والمراد قبره الشريف، فإنه في حجرته، وحجرته هي بيته صلى الله عليه وسلم «روضة من رياض الجنة» أي يكون بعينه في الجنة بقعة من بقاعها أي ينقلها الله تعالى فتكون في الجنة بعينها. وقيل إن الصلاة والدعاء فيها يستحق بذلك من الثواب ما يكون موجبا لدخول الجنة، كما قيل بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم «الجنة تحت ظلال السيوف» مع أن تلك السيوف كانت بأرض الكفر. وقيل إنها لبركتها أضيفت إلى الجنة كما قيل في الضأن إنها من دواب الجنة. وقال ابن حزم: ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة مقتطعة من الجنة. وقال صلى الله عليه وسلم «من حلف على منبري كاذبا ولو على سواك أراك فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية «إلا وجبت له النار» . أقول: وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان على المنبر يعتمد على عصا من شوحط» وفي الهدى: لم يعتمد صلى الله عليه وسلم في خطبته على سيف أبدا، وقبل أن يتخذ له المنبر كان يعتمد على قوس أو عصا، أي وقيل كان يعتمد على قوس إن خطب في الحرب وعلى عصا إن خطب في غيره. واختلف فيها؛ يعني تلك العصا، هل هي العنزة التي كان يصلي إليها أو غيرها، وما يظنه بعض الناس من أنه كان يعتمد على سيف، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف فمن فرط جهله هذا كلامه. وفيه أن بعض فقهائنا ذكر أن اعتماده

في خطبته كان على سيف روي ولم يثبت. وذكر فقهاؤنا تلك الحكمة حيث قالوا: وحكمة اعتماده على العصا أو القوس أو السيف الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، وقول صاحب الهدى: وكان قبل أن يتخذ المنبر يعتمد على قوس أو عصا، يقتضي أن بعد اتخاذ المنبر لم يعتمد على شيء من ذلك، أي وصرح به صاحب القاموس في «سفر السعادة» حيث قال: لم يكن يأخذ السيف والحربة بيده، بل كان يعتمد على القوس أو العصا، وذا قبل اتخاذ المنبر؛ وأما بعد اتخاذ المنبر فلم يحفظ أنه اعتمد على العصا، ولا على القوس، ولا على غير ذلك هذا كلامه؛ فيكون الاعتماد على ذلك فوق المنبر بدعة، وهو خلاف ما عليه أئمتنا من أنه يسن أن يشغل يمناه بحرف المنبر ويسراه بما يعتمد عليه من نحو العصا، لكن قالوا: كعادة من يريد الضرب بالسيف والرمي بالقوس، وهو لا يأتي في العصا ولا يأتي في السيف إذا كان في غمده. ووجود المرقى الذي يقرأ الآية والخبر المشهور بدعة، لأنه حدث بعد الصدر الأول ولم أقف على أول زمان فعل فيه ذلك، لكن ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر من يستنصت له الناس عند إرادة خطبته، وعليه إن كان استنصتهم بالحديث فذكر المرقى للخبر ليس من البدعة. إلا أن يقال هو بالنسبة لخطبة الجمعة بدعة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الحديث على المنبر، فالسنة أن يذكره الخطيب كذلك. ففي «سفر السعادة» : وكان صلى الله عليه وسلم في أثناء الخطبة يأمر الناس بالإنصات ويقول «إن الرجل إذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له» وكان صلى الله عليه وسلم يقول «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول أنصت ليس له جمعة» . وقول الحافظ الدمياطي: كان صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع قائما، وأنه قال: إن القيام شق عليّ، يقتضي أن حنين الجذع كان عند قيامه على ذلك المنبر من الخشب، وأنه لم يتخذ قبل ذلك المنبر من الطين الذي قدمناه، وفيه نظر. وكذا في قوله: وقال له تميم الداري إلى آخره، لأن تميما الداري إنما أسلم في السنة التاسعة، وهذا المنبر الذي من الخشب إنما فعل في السابعة أو الثامنة، وعلى هذا اقتصر الأصل حيث قال في الحوادث. وفيها: أي السنة الثامنة اتخاذ المنبر والخطبة عليه، وحنين الجذع، وهو أول منبر عمل في الإسلام، وهو في ذلك موافق لما قدمه هو: أي الأصل من اتخاذ المنبر له من الطين قبل ذلك، وأنه كان عنده حنين الجذع. وعلى كون المنبر عمل في الثامنة، لا يشكل كون العباس رضي الله تعالى عنه

أمر غلامه بعمله، لأن العباس رضي الله عنه قدم المدينة في السنة الثامنة، لكن في بعض الروايات «أنه صلى الله عليه وسلم دعا رجلا فقال: أتصنع لي المنبر؟ قال نعم، قال: ما اسمك؟ قال فلان، قال لست بصاحبه، ثم دعا آخر فقال له مثل ذلك، ثم دعا الثالث فقال له: ما اسمك؟ قال إبراهيم، قال خذ في صنعته فصنعه» وفي رواية «عمله رجل رومي اسمه باقوم، غلام سعيد بن العاص» أي ولعله هو الذي تقدم ذكره عند بناء قريش للكعبة. وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امرأة فقال لها: مري غلامك يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها، فعمل له صلى الله عليه وسلم درجات من طرفاء الغابة» ويجوز أن يكون غلام العباس رضي الله تعالى عنه انتقل إلى ملك تلك المرأة، وأنه كان غلاما لسعيد بن العاص، وأنه اشترك في عمله مع إبراهيم المتقدم ذكره فنسب لكل منهما. فعلم من كلام الأصل في غير الحوادث، أنه كان صلى الله عليه وسلم يخطب أولا على الجذع، ثم على المنبر من الطين، وأن حنين الجذع كان عند قيامه صلى الله عليه وسلم على ذلك المنبر من الطين، وهو مخالف لكلامه في الحوادث، أن حنين الجذع كان عند اتخاذه صلى الله عليه وسلم المنبر من الخشب، وأنه أول منبر عمل في الإسلام. إلا أن يقال أول منبر عمل في الإسلام من خشب، ويكون ذكر حنين الجذع عند القيام عليه من تصرف بعض الرواة، لأن حنين الجذع لم يتكرر حتى يقال جاز أن يكون كان عند قيامه صلى الله عليه وسلم على المنبر من الطين، ثم عند قيامه على المنبر من الخشب. ثم رأيته في النور رجع كلام الأصل في غير الحوادث إلى كلام الأصل في الحوادث من أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له منبر من طين حيث قال: قوله أي الأصل فبنوا له منبرا، وهذا الكلام فيه تجوّز، يعني اتخذوا له منبرا، وذلك لأن المنبر كان من طرفاء الغابة وهو شجر معروف هذا كلامه، وليته عكس، لأن هذا منه يقتضي حينئذ أن يكون صلى الله عليه وسلم استمر من حين خطب في المسجد إلى السنة الثامنة يخطب إلى الجذع، لأن المنبر من الخشب اتخذ في السنة الثامنة كما تقدم عن الأصل. ويشكل عليه قول عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك: فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر» لأن قصة الإفك كانت في سنة خمس. ثم رأيت في كتاب الشريعة للآجري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «كان صلى الله عليه وسلم يخطب مسندا ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبرا فبنوا له عتبتين» أي غير المستراح «فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة» الحديث.

وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه «لما كثر الناس وصار يجيء القوم ولا يكادون يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطبة، قال الناس: يا رسول الله، قد كثر الناس وكثير منهم لا يكاد يسمع كلامك، فلو أنك اتخذت شيئا تخطب عليه مرتفعا من الأرض ويسمع الناس كلامك،؛ فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى غلام نجار لامرأة من الأنصار فاتخذ له مرقاتين من طرفاء الغابة، فلما قام حنت الخشبة التي كان يخطب إليها» هذا كلامه، وهو موافق لما تقدم عن الأصل في الحوادث. والذي ينبغي الجمع بين الروايتين لأن ما علم من أن اتخاذ المنبر من طرفاء الغابة كان بعد اتخاذه من الطين، لأنه أقوى من الارتفاع من منبر الطين، وكون حنين الجذع عند اتخاذ المنبر من الطرفاء من تصرف بعض الرواة، لأن حنينه إنما كان عند اتخاذ المنبر من الطين، ولم يتكرر حنينه كما تقدم. ولما ولي معاوية الخلافة كسا ذلك المنبر قبطية، ثم كتب إلى عامله بالمدينة وهو مروان بن الحكم أن يرفع ذلك المنبر عن الأرض، فدعا بالنجارين وفعل ست درج، ورفع ذلك المنبر عليها فصارت تسع درجات. وهذا يدل على أن قوله فاتخذ له مرقاتين أي غير المستراح، ومن ثم تقدم «فعمل له درجات» . وقيل أمره بحمله إلى الشام، فلما أرادوا قلعه أظلمت المدينة وكسفت الشمس حتى بدت النجوم، وثارت ريح شديدة، فخرج مروان إلى الناس فخطبهم، وقال: يا أهل المدينة إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث إليّ أن أبعث إليه بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين أعلم بالله من أن يغير منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أمرني أن أكرمه وأرفعه ففعل ما تقدم. وقيل: إن معاوية لما حج أراد أن ينقل المنبر إلى الشام، فحصل ما تقدم من كسوف الشمس الخ، فاعتذر معاوية للناس وقال: أردت أن أنظر إلى ما تحته وخشيت عليه من الأرضة، وكساه يومئذ قبطية. ولا مانع من تعدد الواقعة، وأن واقعة معاوية سابقة على واقعة مروان، لقوله: لأنظر ما تحته، وإلا فمروان رفعه عن الأرض. ثم إن هذا المنبر أحرق بسبب الحريق الواقع في المسجد أول مرة، فأرسل صاحب اليمن منبرا فوضع موضعه مكث عشر سنين. وفي الإمتاع: ثم تهافت المنبر النبوي على طول الزمان، فعمل بعض خلفاء بني العباس منبرا واتخذ من أعواد المنبر النبوي أمشاطا يتبرك بها، فاحترق هذا المنبر المجدد في حريق المسجد، فبعث المظفر ملك اليمن منبرا هذا كلامه. ثم أرسل الملك الظاهر بيبرس من مصر منبرا، فرفع منبر صاحب اليمن ووضع منبر الملك

الظاهر، فمكث مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة، فبدأ فيه أكل الأرضة، فأرسل الظاهر برقوق منبرا، فرفع منبر الملك الظاهر بيبرس ووضع منبر الملك الظاهر برقوق، ومكث ثلاثا أو أربعا وعشرين سنة. ثم إن السلطان المؤيد شيخ لما بنى مدرسته بالقاهرة التي يقال لها المؤيدية عمل أهل الشام له منبرا وأرسلوا به إليه ليجعله في مدرسته، فوجد أهل مصر قد صنعوا لها منبرا فسير المؤيد منبر أهل الشام إلى المدينة فمكث سبعا وستين سنة. ثم أحرق في الحريق الواقع في المسجد ثاني مرة، ثم جعل موضعه منبر مبني بالآجر مطلي بالنورة، فمكث إحدى وعشرين سنة ثم جعل موضعه المنبر الرخام الموجود الآن. قيل: وأعجب منبر في الدنيا منبر جامع قرطبة قاعدة بلاد الأندلس بالمغرب. ذكر أن خشبه من ساج وأبنوس وعود قاقلى، أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه سبع صناع، لكل صانع في كل يوم نصف مثقال ذهب، فكان جملة ما صرف على أجرته عشرة آلاف مثقال وخمسين مثقالا، وبالجامع المذكور مصحف فيه أربع ورقات من مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بخط يده، وفيه نقط من دمه. وفي هذا المسجد ثلاثة أعمدة حمر، مكتوب على أحدها اسم محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى الثاني صفة عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، وأهل الكهف. وعلى الثالث صورة غراب نوح، الجميع خلقة ربانية ولا بدع. فقد ذكر بعضهم رأيت بحمام القاهرة رخامة عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم مفسرا يقرؤه كل أحد خلقة. وعن سهل قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس على المنبر أي من الخشب كبّر، فكبر الناس خلفه، ثم ركع وهو على المنبر، ثم رجع فنزل القهقرى، ثم سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى إذا فرغ من الصلاة يصنع فيها كما يصنع في الركعة الأولى. فلما فرغ أقبل على الناس وقال: أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» وقوله لتأتموا بي: أي تقتدوا بي في مثل هذا الفعل من الإحرام والركوع على المحل المرتفع ثم النزول عنه والسجود تحته ثم الصعود إليه، وهكذا إلى أن تتم الصلاة، وهذا عند أئمتنا مخصوص جوازه بما إذا لم يلزم عليه استدبار القبلة أو توالي حركات ثلاث، وقوله: «ولتعلموا صلاتي» هو واضح، لو كان ذلك أول صلاة. إلا أن يقال المراد ولتعلموا جواز صلاتي هذه. وفي كلام فقهائنا أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل من المنبر، ويسجد للتلاوة أسفل المنبر، وآخر الأمرين ترك ذلك. فعلم أن منبره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درجات بالمستراح. وحينئذ يشكل إن صح، ما روي أن أبا بكر نزل درجة عن موقفه صلى الله عليه وسلم، وعمر نزل درجة

أخرى، وعثمان درجة أخرى. ومن ثم قال في النور: وهذا يدل على أنه كان أكثر من ثلاث درجات. أي أربعة غير المستراح، وإلا يلزم أن يكون عمر وعثمان كانا يخطبان على الأرض. قال: ويمكن تأويله، هذا كلامه، ولينظر ما تأويله، فإنه يلزم على كونه درجتين غير المستراح، أن يكون الصدّيق كان يخطب على الدرجة الثانية، وعمر يخطب على الأرض، وأن عثمان فعل كفعل عمر. وحينئذ لا يحسن قولهم وعثمان نزل درجة أخرى، إذ لا درجة بعد الدرجة الثانية ينزل عنها. وحينئذ يشكل ما في الإمتاع وهو: كان منبره صلى الله عليه وسلم درجتين ومجلسا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على المجلس ويضع رجليه إذا قعد على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر رضي الله تعالى عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولي عمر رضي الله تعالى عنه، قام على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان رضي الله تعالى عنه فعل كذلك: أي كفعل عمر ست سنين من خلافته ثم علا إلى موضع وقوفه صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه، وكان ينبغي أن يقول: بدل قوله، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية جلس على الدرجة الثانية، وكذا قوله: فلما ولي عمر قام على الدرجة السفلى جلس على الدرجة السفلى، أي فقد خطب على الأرض وكذا عثمان. وذكر فقهاؤنا أن منبره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح وتسمى بالمقعد والمجلس، فكان صلى الله عليه وسلم يقف على الثالثة: أي بالنسبة للسفلى، وإذا جلس يجلس على المستراح ويجعل رجليه محل وقوفه إذا قام للخطبة، وكذا الخلفاء الثلاثة كل يجعل رجليه محل وقوفه. ويذكر أن المتوكل قال يوما لجلسائه وفيهم عبادة: أتدرون ما الذي نقم على عثمان؟ نقم عليه أشياء، منها أنه قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه دون مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرقاة، ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه دونه بمرقاة، فصعد عثمان رضي الله تعالى عنه ذروة المنبر، فقال له عبادة: ما أحد أعظم منه عليك يا أمير المؤمنين من عثمان، قال: وكيف ذاك. قال: لأنه صعد ذروة المنبر وإنه لو كان كلما قام خليفة نزل عمن تقدمه كنت أنت تخطبنا في بئر عميق، فضحك المتوكل ومن حوله، وكون عثمان صعد ذروة المنبر إنما هو آخر الأمر كما علمت. وفي كلام بعضهم: أول من اتخذ المنبر خمس عشرة درجة معاوية رضي الله تعالى عنه، وأنه أول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وعثمان أول من كسا المنبر قبطية. وعن الواقدي أن امرأة سرقت كسوة عثمان للمنبر فأتى بها إليه، فقال لها

باب غزوة بدر الكبرى

عثمان: هل سرقت؟ قولي لا، فاعترفت، فقطعها، ثم كساه معاوية كما تقدم، ثم كساه عبد الله بن الزبير، فسرقتها امرأة فقطعها كما قطع عثمان، ثم كساه الخلفاء من بعده. باب غزوة بدر الكبرى ويقال لها بدر العظمى، ويقال لها بدر القتال، ويقال بدر الفرقان: أي لأن الله تعالى فرق فيها بين الحق والباطل. «ثم إن العير التي خرج صلى الله عليه وسلم في طلبها حتى بلغ العشيرة ووجدها سبقته بأيام لم يزل مترقبا قفولها: أي رجوعها من الشأم، فلما سمع بقفولها من الشام ندب المسلمين» أي دعاهم وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب ناس» ، أي أجابوا «وثقل آخرون أي لم يجيبوا لظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلق حربا، ولم يحتفل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي لم يهتم بها، بل قال «من كان ظهره» : أي ما يركبه «حاضرا فليركب معنا» ولم ينتظر من كان ظهره غائبا عنه» . ولما خرج صلى الله عليه وسلم إلى بدر قالت له أمّ ورقة بنت نوفل: يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك أمرّض مرضاكم، لعل الله يرزقني الشهادة، فقال لها: قري في بيتك، فإن الله يرزقك الشهادة، وكانت قد قرأت القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة» فكان الناس يقولون لها الشهيدة. فلما كان زمن خلافة سيدنا عمر عدا عليها غلام وجارية كانت دبرتهما فغمياها بقطيفة إلى أن ماتت، فجيء بهما إلى سيدنا عمر، فأمر بصلبهما، فكانا أوّل مصلوب بالمدينة، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «انطلقوا بنا نزور الشهيدة» . فكان أبو سفيان حين دنا بالعير من أرض الحجاز يتجسس الأخبار: أي يبحث عنها ويسأل من لقي من الركبان تخوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه للعير، أي ويقال: إنه لقي رجلا فأخبره أنه صلى الله عليه وسلم قد كان عرض لغيره في بدايته وأنه تركه مقيما ينتظر رجوع العير فخاف خوفا شديدا، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري: أي استأجره بعشيرين مثقالا، ولا يعرف له إسلام، والذي من الصحابة ضمضم بن عمر الخزاعي ليأتي مكة، أي وأن يجدع بعيره وأن يحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، ويستنفر قريشا، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، وقبل أن يقدم بثلاث ليال رأت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف في إسلامها رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب، فقالت له: يا

أخي. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني: أي اشتدت علي وتخوّفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدّثك. قال: وفي رواية أنها قالت له: لن أحدثك حتى تعاهدني أن لا تذكرها، فإنهم إن سمعوها- تعني كفار قريش- آذونا وأسمعونا ما لا نحب، فعاهدها العباس اهـ. فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح: أي وهو ما بين المحصب ومكة، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا فانفروا يا آل غدر: أي يا أصحاب الغدر وعدم الوفاء إلى مصارعكم في ثلاث: أي بعد ثلاثة أيام. وفي كلام السهيلي: يا آل غدر بضم الغين والدال جمع غدور، أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم، قالت: فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره: أي انتصب به على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت: أي تكسرت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلها منه فلقة، فقال لها العباس: والله إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة، أي وكان صديقا له ذكرها له أي واستكتمه، فذكرها الوليد لابنه عتبة، فتحدث بها ففشا الحديث. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش فعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال أبو جهل لعنه الله: يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: ذاك الرؤيا التي رأت عاتكة! فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تستنبىء رجالكم حتى تستنبىء نساؤكم. وفي رواية: ما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء اهـ. قال أبو جهل: قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه، الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فو الله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا. وفي رواية أن العباس قال لأبي جهل هل أنت منته يا مصفر استه: أي يا مأبون، أو يا جبان، أو الذي يغير لون البرص الذي بمقعدته بالزعفران، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. فقال من حضرهما: ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا، ولقي العباس رضي الله تعالى عنه من أخته عاتكة أذى شديدا حين أفشى من حديثها، قال العباس: فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني أقررتم؟ أي قائلة، أقررتم لهذا

الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت؟. ثم قلت لهنّ: وأيم الله لأتعرضن له، وإن عاد قاتلته، وغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود إلى بعض ما قاله فأوقع به، إذ هو قد خرج نحو باب المسجد يشتد: أي يعدو، فقلت في نفسي ما له لعنه الله؟ أكل هذا فرق؟ أي خوف مني، فإذا هو يسمع ما لم أسمع، سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره، أي قطع أنفه وأذناه، وحول رحله وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة: أي أدركو اللطيمة، وهي العير التي تحمل الطيب والبز، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها. وفي لفظ: إن أصابها محمد لم تفلحوا أبدا، الغوث الغوث. قال العباس: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعا، أي وفزعوا أشد الفزع؛ وأشفقوا: أي خافوا من رؤيا عاتكة. ويروى أنهم قالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلا، أي وأعان قويهم ضعيفهم؛ وقام أشراف قريش يحضون الناس على الخروج، وقال سهيل بن عمرو: يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة من أهل يثرب يأخذون أموالكم؟ من أراد مالا فهذا مالي، ومن أراد قوتا فهذا قوتي ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب، أي خوفا من رؤيا عاتكة، فإنه كان يقول رؤيا عاتكة كأخذ بيد، أي صادقة لا تتخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة: أي استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه دينا أفلس بها أي قال له اخرج وديني لك، أي ويقال إن ذلك الدين كان ربا. ومن ثم جاء في لفظ: وكان لاطه بأربعة آلاف درهم، قال أبو عبيد: وسمي الربا لياطا لأنه ملصق بالبيع وليس ببيع. وفي كلام البلاذري، أنه قامر أبا لهب على أن يطيعه فيما أراد، فقمره أبو لهب فأسلمه إلى ضيق، أي ضيق عليه بالطلب، ثم قامره فقمره أبو لهب أيضا، فأرسله مكانه إلى بدر وهشام هذا قتله عمر بن الخطاب في هذه الغزوة، حتى أن أمية بن خلف أراد القعود وكان شيخا جسيما ثقيلا، فجاء إليه وهو جالس مع قومه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها مجمر: أي بخور يحملها حتى وضعها بين يديه. ثم قال: يا أبا عليّ استجمر فإنما أنت من النساء، فقال له: قبحك الله وقبح ما جئت به، أي وكان عقبة كما في فتح الباري سفيها. وكان أبو جهل سلط عقبة على ذلك. وفي

لفظ أتاه أبو جهل، فقال له: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي، وفي لفظ: وأنت من أشراف الوادي تخلفوا معك، فسر يوما أو يومين، أي ولا مانع من وجود ذلك كله، فتجهز مع الناس. أي وسبب تخلفه أن سعد بن معاذ قدم مكة معتمرا فنزل عليه لأن أمية كان ينزل على سعد بالمدينة إذا ذهب إلى الشام في تجارته. فقال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فقال أمية لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفلت الناس انطلقت فطفت. وفي لفظ: فخرج أمية به قريبا من نصف النهار، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف؟ فقال له سعد: أنا سعد بن معاذ. فقال له أبو جهل: أتطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه؟ وفي لفظ: آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فتلاحيا: أي تخاصم، وسعد يرفع صوته بقوله: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة؟ فصار أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي وجعل يسكت سعدا. فقال سعد لأمية: إليك عني، فإني سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال نعم، قال: بمكة؟ قال: لا أدري، قال: والله ما كذب محمد، فكاد يحدث أي يبول في ثيابه فزعا، فرجع إلى امرأته، فقال: ما تعلمين ما قال أخي اليثربي- يعني سعد بن معاذ؟ قالت: وما ذاك؟ قال زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد. قال: فلما جاء الصريخ وأراد الخروج، قالت له امرأته: أما علمت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فإني إذن لا أخرج، فلما صمم على عدم الخروج بل أقسم بالله لا يخرج من مكة قيل له ما تقدم، فخرج ناويا أن يرجع عنهم. أي ومعنى كونه صلى الله عليه وسلم قاتله، أنه كان سببا في قتله، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم لم يباشر إلا قتل أخيه. وهو أبيّ بن خلف في أحد كما سيأتي. ومن ثم جاء في رواية قال لأمية: إن أصحابه يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقتلونك. ويحتمل أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سمعه صلى الله عليه وسلم يقول «أنا أقتل أبيّ بن خلف» ففهم سعد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم يريد أمية لا أبيا. أي وفي الإمتاع: أن أمية بن خلف وعتبة وشيبة ابني ربيعة وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام استقسموا بالأزلام، فخرج لهم القدح الناهي: أي المكتوب عليه لا تفعل، فأجمعوا على المقام، فجاءهم أبو جهل لعنه الله وأزعجهم، وأعانه على ذلك عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث. ويقال إن عداسا قال لسيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة بأي وأمي أنتما، والله ما

تساقان إلا لمصارعكما، فأراد عدم الخروج، فلم يزل بهما أبو جهل حتى خرجا عازمين على العود عن الجيش. ولما فرغوا من جهازهم، أي وكان ذلك في ثلاثة أيام، وقيل في يومين وأجمعوا السير: أي عزموا عليه وكانوا خمسين وتسعمائة. وقيل كانوا ألفا وقادوا مائة فرس أي عليها مائة درع سوى دروع المشاة. قال ابن إسحاق: وخرجوا على الصعب والذلول: أي لشدة إسراعهم، والصعب: الذي لا ينقاد، والذلول: الذي ينقاد، معهم القيان: أي بفتح القاف وتخفيف المثناة تحت وفي آخره نون جمع قينة: وهي الأمة مطلقا. وقيل المغنية؛ والمراد هنا الثاني، لقوله في الإمتاع: ومعهم القينات يضربن بالدفوف يغنين: أي بهجاء المسلمين. وسيأتي في أحد خروج جماعة من نساء قريش معهن الدفوف، وعند خروجهم ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب أي والدماء، وقالوا: نخشى أن يأتونا من خلفنا: أي لأن قريشا كانت قتلت شخصا من كنانة، وأن شخصا من قريش كان شابا وضيئا له ذؤابة وعليه حلة خرج في طلب ضالة له، فمر ببني كنانة وفيهم سيدهم وهو عامر بن الخلوج فرآه فأعجبه، فقال له: من أنت يا غلام؟ فذكر أنه من قريش، فلما ولّى الغلام. قال عامر لقومه: أما لكم في قريش من دم؟ قالوا بلى، فأغراهم به فقتلوه، ثم قال بنو كنانة لقريش رجل برجل: فقالت قريش، نعم رجل برجل. ثم إن أخا المقتول ظفر بعامر بمر الظهران فعلاه بالسيف حتى قتله ثم خاط بطنه بسيفه، ثم جاء وعلقه بأستار الكعبة من الليل فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر عرفوه وعرفوا قاتله، أي وكاد ذلك يثنيهم، أي يصرفهم عن الخروج فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي- وكان من أشراف بني كنانة- وقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا وخرج معهم إبليس يعدهم أن بني كنانة وراءهم قد أقبلوا لنصرهم وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الأنفال: الآية 48] . «ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره ببئر أبي عتبة، أي وأمر أصحابه أن يستقوا منها وشرب من مائها» . وفي الإمتاع عسكر ببيوت للسقيا، وهي عين بينها وبين المدينة يومان كان يستقى له صلى الله عليه وسلم الماء منها. وقد جاء أن عبده صلى الله عليه وسلم رباحا كان يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. وقال صلى الله عليه وسلم «بئر غرس من عيون الجنة» ومن ثم غسل منها صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. وغرس: اسم عبد كان يقوم عليها، وقيل غير ذلك.

وأمر صلى الله عليه وسلم حين فصل من بيوت السقيا أن تعدّ المسلمون، فوقف لهم عند بئر أبي عتبة فعدوا، وهي على ميل من المدينة فعرض أصحابه وردّ من استصغر، أي وكان ممن رده أسامة بن زيد، ورافع بن خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وردّ عمير بن أبي وقاص فبكى فأجازه، وقتل وعمره ستة عشر عاما. وحينئذ يتوقف في رده، لأن الخمسة عشر بلوغ بالسن على ما عليه أئمتنا. وخرج صلى الله عليه وسلم في خمسة وثلاثمائة رجل، من المهاجرين أربعة وستون، وباقيهم من الأنصار. وقيل كان المهاجرون نيفا وثمانين، وكانت الأنصار نيفا وأربعين ومائتين. وذكر الإمام الدواني أنه سمع من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم يعني أصحاب بدر مستجاب، وقد جرب ذلك. وخلف عثمان على ابنته صلى الله عليه وسلم رقية وكانت مريضة، أي وقيل لأنه كان مريضا بالجدري: أي ولا مانع من وجود الأمرين، وقد قال صلى الله عليه وسلم «إن لك لأجر رجل وسهمه» أي وكان أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري أجمع الخروج إلى بدر وكانت أمه مريضة، فأمره صلى الله عليه وسلم بالمقام على أمه، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر وقت توفيت، فصلى على قبرها. واستعمل صلى الله عليه وسلم أبا لبابة رضي الله عنه واليا على المدينة ورده من المحل المذكور، أي من بئر أبي عتبة كذا في الأصل. وقيل رده من الروحاء، وهو المشهور: وهي قرية على ليلتين من المدينة كما تقدم. واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس في المدينة، وخلف عاصم بن عدي على أهل قباء وأهل العالية، أي لشيء بلغه عن أهل مسجد الضرار لينظر في ذلك، وكسر بالروحاء خوات بن جبير. أي وفي كلام ابن عبد البر وقال موسى بن عقبة: خرج خوات بن جبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ الصفراء أصاب ساقه حجر ودميت رجله واعتلت فرجع، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه. وأهل الأخبار يقولون إنه شهد بدرا. وله في الجاهلية قصة مشهورة مع ذات النحيين: التي تضرب العرب بها المثل فتقول «أشغل من ذات النحيين» وهي خولة «يروى أنه صلى الله عليه وسلم سأله عنها وتبسم، فقال: يا رسول الله قد رزقني الله خيرا منها، وأعوذ بالله من الحور بعد الكور» وروي «أن صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل بعيرك الشارد» يعرّض بهذه القصة، فقال: قيده الإسلام يا رسول الله، وقيل لم يعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول لتلك القضية، وإنما هو لقضية أخرى هي «أن خوّاتا مر بنسوة في الجاهلية أعجبه حسنهن، فسألهن أن يفتلن له قيدا

لبعيره وزعم أنه شارد؛ وجلس إليهن بهذه العلة، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث إليهن، فأعرض عنه وعنهن، فلما أسلم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك البعير وهو يتبسم. وكسر أيضا الحارث بن الصمة. وبعث له صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهم يتحسسان خبر العير. والتحسس للأخبار بالحاء المهملة: أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه، وبالجيم: أي يفحص عنها بغيره. وجاء «تحسسوا ولا تجسسوا» ولم يحضرا لهذا القتال، بل رجعا بخبر العير إلى المدينة على ظن أنه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فلما علما أنه ببدر خرجا إليه فلقياه منصرفا من بدر، وأسهم لكل وصار كل من أسهم له يقول «وأجري يا رسول الله؟ فيقول: وأجرك. ودفع صلى الله عليه وسلم اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير، وكان أمامه صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوتان: إحداهما مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي ويقال لها العقاب، وكانت من مرط لعائشة» . وفي كلام بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب من أشراف قريش وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله، وسيأتي أنه حملها في هذه الغزوة الأب الخامس لإمامنا الشافعي وهو السائب بن يزيد «والأخرى مع بعض الأنصار» وابن قتيبة اقتصر على الأولى. وذكر بعضهم أن بعض الأنصار هذا قيل هو سعد بن معاذ، وقيل الحباب بن المنذر، وهذا يردّ ما تقدم في غزوة بواط عن ابن إسحاق، وما سيأتي في غزوة بني قينقاع. عن ابن سعد أن الرايات لم تكن وجدت وإنما حدثت يوم خيبر. ومما يؤيد الرد ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عليا كرم الله وجهه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة» وفي الهدى أن لواء المهاجرين كان من مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، ولم يذكر الرايتين. وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم عقد الألوية وهي ثلاثة، لواء يحمله مصعب بن عمير، ورايتان سوداوتان: أحداهما مع علي، والأخرى مع رجل من الأنصار وفيه إطلاق اللواء على الراية، وقد تقدم أن جماعة من أهل اللغة صرحوا بترادف اللواء والراية. وكان صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة على غير لواء معقود. وقال في الأصل: والمعروف أن سعد بن معاذ كان على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش أي كما سيأتي، قال أي جوابا عما تقدم عن الأصل العريش كان ببدر؛ أي وهذا كان عند خروجهم وفي الطريق، فلا منافاة أي لأنه يجوز أن يكون في بدر دفع الراية لغيره بإذنه صلى الله عليه وسلم ليكون معه في العريش ولبس صلى الله عليه وسلم درعه ذات الفضول، وتقلد صلى الله عليه وسلم سيفه العضب.

وحين فصل صلى الله عليه وسلم من بيوت السقيا قال: اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك، فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسارى، فاغتنى به كل عائل. وكان حبيب بن يساف ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج نجدة لقومه من الخزرج طالبا للغنيمة، ففرح المسلمون بخروجه معهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يصحبنا إلا من كان على ديننا» أي وفي رواية «ارجع فإنا لا نستعين بمشرك» أي وسيأتي في أحداثه صلى الله عليه وسلم قال «لا ننتصر بأهل الشرك على أهل الشرك» لما رد حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود «وتكررت من حبيب المراجعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة قال له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال نعم، فأسلم وقاتل قتالا شديدا» . وفي الإمتاع وقدم حبيب بن يساف بالروحاء مسلما. ولا مخالفة، لجواز أن يكون أسلم قبل الروحاء. «ولما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما أو يومين، ثم نادى مناديه، يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا» . وذلك «أنه صلى الله عليه وسلم كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفطروا، انتهى وسيأتي في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفطر فلم يفعل جماعة منهم ذلك، فقال أولئك العصاة، وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي التي معهم يومئذ سبعين بعيرا، فاعتقبوها كل ثلاثة يعتقبون بعيرا، أي إلا ما كان من حمزة وزيد بن حارثة وأبي كبشة وأنيسة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء الأربعة كانوا يعتقبون بعيرا» . أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر» . وفي الإمتاع: فكانوا يتعاقبون الإبل الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا كلامه «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ومرثد يعتقبون بعيرا» وفي لفظ «كان أبو لبابة وعلي والنبي صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا» أي وذلك قبل أن يردّ أبا لبابة للمدينة من الروحاء، وبعد أن رده قام مقامه مرثد، وقيل زيد بن حارثة، وقيل زيد كان مع حمزة أي كما تقدم. ويجوز أن كان مع حمزة تارة، ومع النبي صلى الله عليه وسلم أخرى، فكان إذا كانت عقبة النبي صلى الله عليه وسلم قالا له: أي رفيقاه: اركب حتى نمشي معك، فيقول «ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما» . «وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم يعتقبون بعيرا،

أي ورفاعة وخلاد ابنا رافع وعبيد بن يزيد الأنصاري يعتقبون بعيرا، حتى إذا كانوا بالروحاء برك بعيرهم عيا، فمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله برك علينا بكرنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتمضمض وألقاه في إناء» أي وفي الإمتاع «فتمضمض وتوضأ في إناء، ثم قال: افتح فاه، فصب منه في فيه ثم صب باقي ذلك عليه، ثم قال: اركبا ومضى فلحقاه؛ وإنه لينفر بهم» أي وأمر صلى الله عليه وسلم بإحصاء من معه، وهو محتمل لأن يكون أمر بذلك ثانيا بعد الروحاء بعد أن رد أبا لبابة «وبعد عدهم في بئر أبي عتبة، فإذا هم ثلاثمائة وثلاثة عشر، ففرح بذلك، وقال عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر» وهذا قول عامة السلف كما قاله ابن جرير رحمه الله، ومن زاد على ذلك عدّ منهم من رده صلى الله عليه وسلم من الروحاء ومن أسهم له ولم يحضر ومن نقص عن ذلك، وعدهم ثلاثمائة وخمس رجال أو ست رجال أو سبعة رجال، فالجواب عنه لا يخفى. وكان في الجيش خمسة أفراس: فرسان له صلى الله عليه وسلم وفرس لمرثد، ويقال له السيل، وفرس للمقداد بن الأسود نسب إليه لأنه تبناه في الجاهلية كما تقدم، ويقال لها سبحة، وفرس للزبير ويقال له اليعسوب، وقيل لم يكن في الجيش إلا فرسان، فرس المقداد وفرس الزبير. وعن علي رضي الله تعالى عنه: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد. أقول: يجوز أن يكون المراد لم يقاتل يوم بدر فارسا إلا المقداد وغيره ممن له فرس قاتل راجلا؛ ويؤيد ما يأتي «أنه صلى الله عليه وسلم لما قسم الغنيمة لم يميز أحدا عن أحد الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس» لكن قد يخالفه قول الزمخشري في خصائص العشرة «كان الزبير رضي الله عنه صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وليس على الميمنة يومئذ فارس غيره» هذا كلامه. إلا أن يقال كون الزبير فارسا على الميمنة لا يخالف كون المقداد فارسا في محل آخر مع الجماعة الذين فيهم سيدنا علي كرّم الله وجهه فقول سيدنا علي لم يكن فينا: أي في الجماعة الملازمين لنا تأمل، والله أعلم. وفي أثناء الطريق بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني بما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له سلامة بن سلامة بن وقش: لا تسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل عليّ أنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها ففي بطنها منك سحلة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلامة فلما نزلوا بواد يقال له ذفران» بكسر الفاء: أي وهو واد قريب من الصفراء أتاه الخبر عن قريش، بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار

النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأخبرهم الخبر: أي قال لهم إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول أي مسرعين، فما تقولون؟ العير أحب إليكم من النفير؟ فقالوا: بلى، أي قالت ذلك طائفة منهم العير أحب إلينا من لقاء العدو. وفي رواية هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، إنا خرجنا للعير وفي رواية «يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فعند ذلك تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد روي ذلك عن أبي أيوب رضي الله عنه في سبب نزول قوله تعالى كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) [الأنفال: الآية 5] وعند ذلك قام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل: أي لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) [المائدة: الآية 24] اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ما دامت منا عين تطرف، فو الله الذي بعثك بالحق نبيا لو سرت بنا إلى برك الغماد- وهي مدينة بالحبشة- لجالدنا: أي ضربنا بالسيوف معك من دونه حتى نبلغه. وفي لفظ «نقاتل عن يمينك وعن يسارك. ومن بين يديك ومن خلفك، قال ابن مسعود: فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وسر بذلك» . وفي الكشاف «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ثم دعا له بخير» . هذا، وفي العرائس روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد عن البيت إني ذاهب بالهدى، فتأخر عند البيت واستشار أصحابه في ذلك، فقال المقداد بن الأسود أما والله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: الآية 24] ولكنا نقول إنا معكم مقاتلون، والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك ومن بين يديك، ولو خضت بحرا لخضناه معك، ولو علوت جبلا لعلوناه معك، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتابعناك، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تابعوه، فأشرق عند ذلك وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعدد ممكن لكنه بعيد ثم قال أشيروا عليّ، فقال عمر: يا رسول الله إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته واعدد لذلك عدته، أي ثم استشارهم ثالثا، فقال أشيروا عليّ أيها الناس ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، وذلك لأنهم عدد الناس: أي أكثرهم عددا ومن ثم قيل: وإنما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة: أي في ذلك المجلس ليعرف حال الأنصار، فإنه تخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه أي جاءه على حين غفلة بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم عملا بظاهر قولهم له صلى الله عليه وسلم حين بايعوه عند العقبة «يا رسول الله إناء براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا، نمنعك بما نمنع به أبناءنا ونساءنا، ومن ثم قال له سعد بن معاذ سيد الأوس. وقيل سعد بن عبادة سيد

الخزرج وإنما حكي بصيغة التمريض لأنه قد اختلف في عده في البدريين. والصحيح أنه لم يشهد بدرا فإنه كان تهيأ للخروج فنهش بالمهملة أي لدغته الحية قبل أن يخرج فأقام أي وضرب له بسهم، فقال: لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله، فقال أجل قال قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، زاد في رواية ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت. وفي لفظ وصل جبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر في الحرب، صدق اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك. وفي لفظ: بعض ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله تعالى، فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، أي وأشرق وجهه بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، أي وهما عير قريش ومن خرج من مكة من قريش يريد حماية ذلك العير «فوالله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» أي فقد أعلمه الله تعالى بعد وعده بذلك الظفر بالطائفة الثانية، وأراه مصارعهم فعلم القوم أنهم ملاقون القتال وأن العير لا تحصل لهم. ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران حتى نزل قريبا من بدر، فركب صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضي الله عنه، أي وقيل بدل أبي بكر قتادة بن النعمان، وقيل معاذ بن جبل حتى وقفا على شيخ من العرب أي يقال له سفيان قال في النور: لا أعلم له إسلاما، فسأله صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم. فقال الشيخ، لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك فقال الشيخ ذاك بذاك قال نعم، قال فإنه قد بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني به فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني به صدق فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزلت به قريش فلما فرغ من خبره قال من أنتما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء أي من ماء دافق وهو المني، ثم انصرفا عنه. فقال الشيخ من ماء من ماء العراق؟ فهم أن المراد بالماء حقيقته. أي لكن في الإمتاع «فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحن من ماء، وأشار بيده إلى العراق.

فقال: من ماء العراق» أي وأضيف الماء إلى العراق لكثرته به، وفيه أن هذا من التوراة، وقد تقدم في أوائل الهجرة أنه لا ينبغي لنبي أن يكذب ولو صورة، ومنه التوراة. لكن في كلام القاضي البيضاوي وما روي «أنه عليه الصلاة والسلام قال لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ثلاث كذبات» تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ودعا لهم فقال: اللهم إنهم حفاة فاحملهم اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم، ففتح الله لهم يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا» أخرجه أبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: أي شبعوا واكتسوا بما أصابوه من كسوة وأزواد قريش. وفي الإمتاع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم المذكور كان عند مفارقته محل معسكره بالمدينة وهو بيوت السقيا كما تقدم، وتقدم فيه زيادة وعالة فأغنهم، فأصابوا الأسرى فاغتنى بهم كل عائل ولا مانع أن يكون دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك تكرر. «فلما أمسى صلى الله عليه وسلم بعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا رواية لقريش معها غلام لبني الحجج وغلام لبني العاص، فأتوا بهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالوا: لمن أنتما؟ وظنوا أنهما لأبي سفيان، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهما، فلما أوجعوهما ضربا قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: إذا صدقا كم ضربتوهما وإذا كذبا كم تركتموها، صدقا والله، إنهما لقريش، أخبراني عن قريش، قالا: هم وراء هذا الكثيب» أي التل من الرمل الذي يرى بالعدوة القصوى: أي جانب الوادي المرتفع «فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم؟ قالا كثير» أي وفي لفظ هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، قال: ما عدتهم؟ قالا لا ندري، أي وجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبراه كم هم فأبيا. قال صلى الله عليه وسلم كم تنحرون؟ أي من الجزر كل يوم؟ قالا يوما تسعا ويوما عشرا، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف» أي لكل جزور مائة، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو العامري أي رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح، وهو من أشراف قريش

وخطبائهم، وسيأتي أنه ممن أسر في هذه الغزاة وعمرو بن عبد ود فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ- أي قطع- كبدها أي أشرافها وعظماءها» وذكر أن مسيرهم وإقامتهم كانت عشر ليال حتى بلغوا الجحفة: أي وهي قرية بقرب رابغ كما تقدم، نزلوا بها عشاء: أي وفي الإمتاع أنهم ردوا القيان من الجحفة. أقول: هذا والذي في مسلم وأبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه «فإذا هم بروايا قريش فيها رجل أسود لبني الحجاج، فجاؤوا به، فكانوا يسألونه عن أبي سفيان فيقول: ما لي بأبي سفيان علم، فإذا قال ذلك ضربوه، وإذا قال هذا أبو سفيان تركوه» الحديث. أي وفي الإمتاع «وأخذ تلك الليلة يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي» الحديث. وقد يقال: لا منافاة، لأن بعض الرواة ذكر الثلاثة، وبعضهم اقتصر على اثنين، وبعضهم اقتصر على واحد، والله أعلم. وكان مع قريش رجل من بني المطلب بن عبد مناف يقال له جهم بن الصلت رضي الله تعالى عنه» . فإنه أسلم في عام خيبر «وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ثلاثين وسقا، وقيل أسلم بعد الفتح فوضع رأسه فأغفى، ثم قام فزعا، فقال لأصحابه هل رأيتم الفارس الذي وقف عليّ فقالوا لا، قال: قد وقف عليّ فارس فقال: قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف وفلان وفلان، وعد رجالا من أشراف قريش ممن قتل يوم بدر، أي وقال: أسر سهيل بن عمرو وفلان وفلان، وعدّ رجالا ممن أسر، قال: ثم رأيت ذلك الفارس ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما من خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه، فقال له أصحابه: إنه لعب بك الشيطان، ولما شاعت هذه الرؤيا في العسكر وبلغت أبا جهل قال: قد جئتم بكذب بني عبد المطلب مع كذب بني هاشم سيرون غدا من يقتل» وفي لفظ «قال أبو جهل: هذا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول، نحن أو محمد وأصحابه، وأول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل بن هشام عشر جزائر أي بمر الظهران، وكانت جزور منها بعد أن نحرت بها حياة فجالت في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها» كذا في الإمتاع. ومن هذا المحل رجع بنو عدي أي تفاؤلا بذلك، ثم نحر لهم سفيان بن أمية بعسفان تسع جزائر، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشر جزائر، وساروا من قديد فضلوا بهائم أصبحوا بالجحفة، فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشر جزائر، فلما أصبحوا

بالأبواء نحر لهم مقيس بن عمرو الجمحي تسع جزائر أي ويقال إن الذي نحر لهم بالأبواء نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشر جزائر، ونحر لهم الحارث بن عامر بن نوفل تسعا، ونحر لهم أبو البختري على ماء بدر عشر جزائر، ونحر لهم مقيس الجمحي على ماء بدر تسعا، أي ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، ثم مضى رجلان من الصحابة أي قبل وصوله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وكذا قبل وصول قريش إلى بدر كما يدل عليه الكلام الآتي خلاف ما يدل عليه هذا السياق إلى ماء بدر «فنزلا قريبا منه عند تلّ هناك، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه وشخص على الماء وإذا جاريتان يتلازمان: أي يتخاصمان، وتمسك إحداهما الأخرى على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها إنما يأتي العير غدا أو بعد غد. فأعمل لهم وأقضيك الذي لك، فقال ذلك الرجل الذي على الماء صدقت، ثم خلص بينهما، وسمع ذلك الرجلان فجلسا على بعيرهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا ثم إن أبا سفيان تقدم العير حذرا حتى ورد الماء، فلقي ذلك الرجل، فقال له: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما ثم انطلقا» . فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما ففتته، فإذا فيه النوى، فقال: والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعا فصوّب عيره عن الطريق وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع، فلما علم أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش، أي وقد كان بلغه مجيئهم ليحرزوا العير وكانوا حينئذ بالجحفة إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله تعالى فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نحضر بدرا فنقيم عليه ثلاثة أيام، فلا بد أن ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان أي تضرب بالمعازف: أي الملاهي، وقيل الدفوف، وقيل الطنابير وقيل نوع منها يتخذه أهل اليمن، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها وسيأتي في غزاة بدر الموعد أن موسم بدر يكون عند هلال ذي القعدة في كل عام يمكث ثمانية أيام، ويبعد إرادة ذلك لأبي جهل أي إقامتهم ببدر بقية رمضان وتمام شوّال. قال «ولما أرسل أبو سفيان يقول لقريش ما تقدم، أي ورد عليه أبو جهل بما ذكر قال: هذا بغي، والبغي منقصة وشؤم وعند ذلك رجع منهم بنو زهرة وكانوا نحو المائة انتهى» أي وقيل ثلاثمائة، وقائدهم كان الأخنس بن شريق. وفي كلام ابن الأثير «فلم يقتل منهم» أي من بني زهرة أحد «ببدر» وفي كلام غيره «ولم يشهد بدر أحد من بني زهرة إلا رجلان قتلا كافرين، فإن الأخنس قال لبني زهرة يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن

نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، واجعلوا بي حميتها، وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير منفعة لا ما يقول هذا» يعني أبا جهل «وقال لأبي جهل أي وقد خلا به، أترى محمدا يكذب؟ فقال: ما كذب قط، كنا نسميه الأمين، لكن إذا كانت في بني عبد المطلب السقاية والرفادة والمشورة، ثم تكون فيهم النبوّة فأي شيء يكون لنا؟ فانخنس الأخنس ورجع ببني زهرة» أي واسمه أبيّ وإنما لقب بالأخنس من حين رجع ببني زهرة، فقيل خنس بهم فسمي الأخنس، كان حليفا لبني زهرة ومقدما فيهم رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم يوم الفتح، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤلفة قلوبهم» . ورأيت عن السهيلي «أنه قتل يوم بدر كافرا» وتبعه على ذلك التلمساني في حاشية الشفاء واستدل له بقول القاضي البيضاوي: أن قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [البقرة: الآية 204] الآية نزلت في الأخنس بن شريق. وفي الإصابة أنه كان من المؤلفة، ومات في خلافة عمر. وعن السدي «أن الأخنس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر إسلامه وقال: الله يعلم إني لصادق ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم مسلمين فحرق زرعهم، فنزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [البقرة: الآية 204] إلى قوله: وَبِئْسَ الْمِهادُ [الرّعد: الآية 18] . قال ابن عطية، ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، قلت قد أثبته في الصحابة جماعة، ولا مانع أن يكون أسلم ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام، هذا كلام الإصابة. وفي كلام ابن قتيبة، ولم يسلم الأخنس، وفي كلام بعضهم: ثلاثة ابن وأبوه وجده شهدوا بدرا الأخنس وابنه يزيد وابنه معن فليتأمل ذلك. «قال وأرادوا بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع» انتهى. ثم لم يزالوا سائرين حتى نزلوا بالعدوة القصوى قريبا من الماء، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعيدا من الماء، بينهم وبين الماء رحلة، فظمىء المسلمون وأصابهم ضيق شديد، وأجنب غالبهم، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس إليهم، تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وأنكم على الحق وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش، وتصلون مجنبين، أي وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويذهب قواكم، فيحكموا فيكم كيف شاؤوا» . وفي الكشاف «فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم، فقتلوا من أحبوا، وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا، وكان الوادي دهسا بالسين

المهملة، أي لينا كثير التراب تسيخ فيه الأقدام، فبعث الله السماء» أي المطر «فأطفأت الغبار» ، ولبدت الأرض» أي شدتها للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، أي وطهرهم به وأذهب عنهم رجز الشيطان» أي وسوسته «وشربوا منه وملؤوا الأسقية وسقوا الركائب، واغتسلوا من الجنابة، أي وطابت نفوسهم، فذلك قوله تعالى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: الآية 11] أي من الأحداث وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ [الأنفال: الآية 11] أي وسوسته وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ [الأنفال: الآية 11] أي يشدّها ويقويها وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ [الأنفال: الآية 11] أي بتلبيد الأرض حتى لا تسوخ في الرمل «وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا منه أي ويصلوا إلى الماء» أي فكان المطر نعمة وقوة للمؤمنين وبلاء ونقمة للمشركين. وعن علي رضي الله تعالى عنه «أصابنا من الليل طس من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والجحف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه» . وعن عليّ رضي الله تعالى عنه «ما كان فينا أي تلك الليلة قائم إلا رسول الله يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده أن يقول، يا حي يا قيوم يكرر ذلك حتى أصبح أي لأن المسلمين أصابهم تلك الليلة نعاس شديد يلقي الشخص على جنبه» . أي وعن قتادة «كان النعاس أمنة من الله، وكان النعاس نعاسين، نعاس يوم بدر، ونعاس يوم أحد» لأن النعاس هنا كان ليلا قبل القتال؛ وفي أحد كان وقت القتال، وكون النعاس أمنة وقت القتال أو وقت التأهب له وهو وقت المصافة واضح لا قبله. هذا وذكر الشمس الشامي أنه لما نزلت الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم، وبشرهم صلى الله عليه وسلم بنزول الملائكة حصل لهم الطمأنينة والسكينة، وقد حصل لهم النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة، وربما يقتضي أنه حصل لهم النعاس عند المصافة، وإلا فقد يقال إن قوله وقد حصل لهم النعاس جملة حالية، أي والحال أنه حصل لهم قبل ذلك في تلك الليلة؛ لا في وقت المصافة. ولا يبعد ذلك قوله بعد ذلك: ولهذا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: النعاس في المصاف من الإيمان والنعاس في الصلاة من النفاق، أي لأنه في الأول يدل على ثبات الجنان، وفي الثاني يدل على عدم الاهتمام بأمر الصلاة. «فلما أن طلع الفجر نادى صلى الله عليه وسلم الصلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال» أي في خطبة خطبها «فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، إلى أن قال: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله تعالى به الهمّ وينجي به من الغم» الحديث.

«ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم» أي يسابق قريشا إلى الماء «فسبقهم عليه، حتى جاء أدنى ماء من بدر» أي أقرب ماء إلى بدر من بقية مياهها «فنزل به صلى الله عليه وسلم، فقال له الحباب بن المنذر، يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم» أي إذا نزل القوم: يعني قريشا كان ذلك الماء أقرب المياه، أي محله أقرب المياه إليهم. قال الحباب: فإني أعرف غزارة مائة وكثرته بحيث لا ينزح، فننزله ثم نغور ما عداه من القلب: أي وهي الآبار غير المبنية، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربون؛ لأن القلب كلها حينئذ تصير خلف ذلك القليب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي، ونزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرأي ما أشار إليه الحباب، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم» أي من المحل الذي ينزل به القوم «فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت» بسكون الواو. وقال السهيلي: لما كانت القلب عينا جعلها كعين الإنسان، ويقال في عين الإنسان غرتها فغارت، ولا يقال غورتها أي بالتشديد «وبنى صلى الله عليه وسلم حوضا على القليب الذي نزل به فملأه ماء، ثم قذفوا فيه الآنية، ومن يومئذ قيل للحباب ذو الرأي» وظاهر كلام بعضهم أنه كان معروفا بذلك قبل هذه الغزاة. وفيه أن ذلك القليب إذا كان خلف ظهورهم وسائر القلب خلفه ما المعنى في تغويرها لأنها إذا لم تغورهم يشربون ولا يشرب القوم. إلا أن يقال: المعنى لئلا يأتوا إليها من خلفهم، فالغرض قطع أطماعهم من الماء، فليتأمل، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم «بل هو الرأي» على جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الحرب نظرا لصورة السبب أو مطلقا لأن صورة السبب لا تخصص، وجواز الاجتهاد له مطلقا هو الراجح. ومما استدل به على وقوع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الأحكام قوله «إلا الإذخر» عقب ما قيل له إلا الإذخر. قال السبكي: وليس قاطعا، لاحتمال أن يكون أوحي إليه في تلك اللحظة. هذا، وفي كلام بعضهم أنهم نزلوا على ذلك القليب نصف الليل فصنعوا الحوض وملؤوه وقذفوا فيه الآنية بعد أن استقوا منه، وسيأتي ما يؤيده. «وقال سعد بن معاذ: يا نبي الله ألا نبني عريشا» أي وهو شيء كالخيمة من جريد يستظل به «تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم

ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، إنما ظنوا أنها العير يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، أي وقال: أو يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد أي وهو نصرهم وظهورهم على عدوهم ثم بني» أي ذلك العريش «لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي فوق تل مشرف على المعركة كان فيه» . أي وعن علي رضي الله تعالى عنه «أنه قال لجمع من الصحابة، أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا أنت؛ قال: أشجع الناس أبو بكر، لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا فقلنا: من مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي من يكون معه «لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله، ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه» أي ولذلك حكم عليّ أنه أشجع الناس. وبه يرد قول الشيعة والرافضة إن الخلافة لا يستحقها إلا عليّ، لأنه أشجع الناس، أي وهذا كان قبل أن يلتحم القتال، وإلا فبعد التحامه كان عليّ على باب العريش الذي به صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وسعد بن معاذ قائمان على باب العريش في نفر من الأنصار كما سيأتي. ومما استدل على أن أبا بكر أشجع من علي أن عليا أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتله إلا ابن ملجم، فكان إذا دخل الحرب ولاقى الخصم علم أنه لا قدرة له على قتله، فهو معه كالنائم على فراشه. وأما أبو بكر فلم يخبر بقاتله، فكان إذا دخل الحرب لا يدري هل يقتل أو لا، ومن هذه حاله يقاسي من التعب ما لا يقاسيه غيره. ومما يدل على ذلك ما وقع له في قتال أهل الردة، وتصميمه العزم على مقاتلة مانعي الزكاة مع تثبيط سيدنا عمر له عن ذلك. «فلما كان الصباح أقبلت قريش من الكثيب» هذا يؤيد القول بأنه صلى الله عليه وسلم سار بأصحابه ليلا يبادرهم إلى الماء، لأن ذلك بعد طلوع الفجر وصلاة الصبح كما تقدم، لأن الظاهر من قول الراوي أقبلت: أي عليهم هم ماكثون. ويؤيده أيضا ما في مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة بدر» أي بعد أن وصل إلى محل الوقعة «هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان ها هنا، وهذا مصرع فلان هاهنا. قال أنس: ما ماط أحدهم عن موضع يده صلى الله عليه وسلم» أي ما تنحى فليتأمل الجمع. ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وقد أقبلت بالدروع الساترة والجموع الوافرة والأسلحة الشاكية أي التامة قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها» أي كبرها

وعجبها وفخرها «تجادلك: أي تعاديك وتخالف أمرك وتكذب رسولك، فنصرك» أي أنجز نصرك «الذي وعدتني» أي وفي لفظ «اللهم إنك أنزلت على الكتاب وأمرتني بالثبات، ووعدتني إحدى الطائفتين، أي وقد فاتت إحداهما وهي العير وإنك لا تخلف الميعاد. اللهم أحبهم» أي أهلكهم «الغداة» وفي رواية «اللهم لا تفلتن أبا جهل فرعون هذه الأمة، اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود، اللهم وإسحاق عين أبي زمعة، وأعم بصر أبي زمعة، اللهم لا تفلتن سهيلا» الحديث. «ولما اطمأنت قريش أرسلوا عمير بن وهب الجمحي- أي رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وشهد أحدا معه صلى الله عليه وسلم فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد» أي انظر لنا عدتهم «فاستجال بفرسه حول عسكر النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، ولكن أمهلوني حتى أنظر للقوم كمينا أو مددا، فذهب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا ثم رجع إليهم وقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا» أي وهي في الأصل النوق تبرك على قبر صاحبها، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت «تحمل المنايا» أي الموت «أي نواضح يثرب تحمل الموت النافع» أي البالغ. زاد بعضهم: ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهلهم، زرق العيون كأنهم الحصا تحت الجحف، يعني الأنصار قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما نرى أن نقتل منهم رجلا حتى يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم؛ فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس؛ فقام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك أكفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، أي يا قوم أعصبوها اليوم برأسي، أي اجعلوا عارها متعلقا بي، وقولو جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم. أي وفي لفظ آخر «أن حكيم بن حزام قال لعتبة بن ربيعة: تجير بين الناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي» أي الذي قتله واقد بن عبد الله في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، وهو أوّل قتيل قتله المسلمون «وتحمل ما أصاب محمد من تلك العير أي الذي غنمه عبد الله بن جحش» كما سيأتي في السرايا «فإنهم لا

يطلبون من محمد إلا ذلك؟ فقال عتبة نعم قد فعلت، أي هو حليفي فعليّ عقله وما أصيب من المال، ونعم ما قلت، ونعم ما دعوت إليه، وركب عتبة جملا له وصار يجيله في صفوف قريش يقول: يا قوم أطيعوني فإنكم لا تطلبون غير دم ابن الحضرمي وما أخذ من العير، وقد تحملت ذلك. زاد بعضهم «أنه قال: يا معشر قريش أنشدكم الله في هذه الوجوه التي تضيء ضياء المصابيح» يعني قريشا «أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات» يعني الأنصار، وهذا كما ترى وما يأتي أيضا يضعف قول من قال إنه صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي أي أعطى ديته. «وقد كان صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشا أقبلت من الكثيب وعتبة على جمل أحمر قال: إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر» . أي وفي رواية «إن يكن أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر أن يطيعوه يرشدوا. ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم راكب الجمل الأحمر يجيله في صفوف قريش، قال: يا علي ناد حمزة وكان أقربهم إلى المشركين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صاحب الجمل الأحمر، وماذا يقول لهم؟ فقال: هو عتبة بن ربيعة ينهى عن القتال» وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم إن يكن في أحد من القوم خير الخ من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. «ثم قال عتبة لحكيم بن حزام انطلق لابن الحنظلية» يعني أبا جهل «قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد سل درعا له من جرابها» أي أخرجها منه، فقلت له: «يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره» أي رئته كلمة تقال للجبان. وفي لفظ أنه قال لعتبة، وقد جاء إليه، أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته أي قلت له اعضض على بظر أمك أن قد ملأت رئتك وجوفك رعبا كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وقال لحكيم: ما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور أي في قلة بحيث يكفيهم الجزور وفيهم ابنه أي وهو أبو حذيفة رضي الله تعالى عنه، فإنه كان ممن أسلم قديما «فقد تخوفكم عليه» . أي وفي رواية أنه قال: يا معشر قريش إنما يشير عليكم عتبة بهذا، لأن ابنه مع محمد ومحمد ابن عمه، فهو كره أن تقتلوا ابنه وابن عمه، فغضب عتبة وسب أبا جهل وقال، سيعلم أينا أفسد لقومه. أي ومن غريب الاتفاق أن أم أبان بنت عتبة بن ربيعة المذكور كان لها أربعة

إخوة وعمان، كل منهم حضر بدرا اثنان من إخوتها مسلمان، واثنان مشركان، وواحد من عميها مسلم، والآخر كافر، فالأخوان المسلمان: أبو حذيفة ومصعب بن عمير ولعله كان أخاها لأمها، والكافران: الوليد بن عتبة وأبو عزيز، والعم المسلم معمر بن الحارث ولعله كان أخا لعتبة لأمه، والعم الكافر شيبة بن ربيعة، وكان من حكمة الله تعالى أن الله جعل المسلمين قبل أن يلتحم القتال في أعين المشركين قليلا استدراجا لهم ليقدموا، ولما التحم القتال جعلهم الله في أعين المشركين كثيرا ليحصل لهم الرعب والوهن، وجعل الله المشركين عند التحام القتال في أعين المسلمين قليلا ليقوى جأشهم على مقاتلتهم. ومن ثم جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد قلّوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل أتراهم سبعين، قال: أراهم مائة، وأنزل الله تعالى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: الآية 44] ، ومن ثم قال الله تعالى قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ [آل عمران: الآية 13] أي يرى أولئك الكفار المؤمنين مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران: الآية 13] . أي وقد ذكر أن قباث بن أشيم رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك- قال في نفسه يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها لردّت محمدا وأصحابه. وعنه أنه قال: لما كان بعد الخندق قدمت المدينة سألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هو ذاك في محل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت عليه فقال صلى الله عليه وسلم «يا قباث أنت القائل يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها ردت محمدا وأصحابه، فقال قباث: والذي بعثك بالحق ما تحدث به لساني ولا ترفرفت به شفتاي ولا سمعه مني أحد، وما هو إلا شيء هجس في قلبي» وحينئذ يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم «أنت القائل: أي في نفسك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن ما جئت به الحق» . «ولما بلغ عتبة ما قاله أبو جهل قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو» وقد تقدم معنى مصفر استه. وذكر السهيلي هنا أن هذه الكلمة لم يخترعها عتبة ولا هو أبو عذرتها، فقد قيلت لبعض الملوك وكان مترفها لا يغزو في الحروب يريدون صفرة الخلوق والطيب، وسادة العرب لا تستعمل الخلوق والطيب إلا في الدعة وتعيبه في الحرب أشد العيب. وأظن أن أبا جهل لما علم بسلامة العير استعمل الطيب والخلوق، فلذلك قال له عتبة هذه الكلمة وإنما أراد مصفر بدنه، ولكنه قصد المبالغة في الذم، فخص منه بالذكر ما يسوؤه أن يذكر هذا كلامه.

وذكر «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إليهم يقول: ارجعوا فإنه إن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه مني، فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصفا فأقبلوه، فوالله لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف، فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن مكننا الله منهم. ثم إن أبا جهل بعث إلى عامر بن الحضرمي أي أخو المقتول الذي هو عمرو، وقال هذا حليفك: يعني عتبة يريد أن يرجع الناس، وفي لفظ «يخذل الناس عن القتال، وقد تحمل دية أخيك من ماله يزعم أنك قابلها، ألا تستحي أن تقبل الدية من مال عتبة، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فاذكر مقتل أخيك، وكان عامر كأخيه المقتول من حلفاء عتبة» وسيأتي ذلك «فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف أي كشف استه أي وحثا عليه التراب، ثم صرخ واعمراه واعمراه، فثارت النفوس» أي وعامر هذا لا يعرف له إسلام. أي وفي الاستيعاب: عامر بن الحضرمي قتل يوم بدر كافرا، وأما أخوهما العلاء فمن فضلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أي وقد كان يقال إنه مجاب الدعوة وأنه خاض البحر هو وسريته التي كان أميرا عليها، وذلك في زمن خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، ويقال يبس حتى رئي الغبار من حوافر الخيل بكلمات قالها ودعا بها، وهي «يا عليّ يا حكيم، يا عليّ يا عظيم، أنا عبيدك، وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا» . وقد وقع نظير ذلك: أي دخول البحر لأبي مسلم الخولاني التابعي، فإنه لما غزا الروم مع جيشه مروا بنهر عظيم بينهم وبين العدوّ، فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر وإنا عبادك في سبيلك، فأجزنا هذا النهر اليوم. ثم قال: اعبروا بسم الله فعبروا، فلم يبلغ الماء بطون الخيل. وكذا وقع نظير ذلك لأبي عبيد الثقفي التابعي أمير الجيوش في أيام سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فإن دجلة حالت بينه وبين العدو، فتلا قوله تعالى وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران: الآية 145] ثم سمى الله تعالى، واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراءه ولما نظر إليهم الأعاجم صاروا يقولون ديوانا ديوانا: أي مجانين ثم ولوا مدبرين، فقتلهم المسلمون وغنموا أموالهم» وله أخ يقال له ميمون وهو الذي حفر البئر التي بأعلى مكة التي يقال لها بئر ميمون ولم أقف على إسلامه. وأما أختهم التي هي الصعبة وهي أم طلحة بن عبيد الله فصحابية رضي الله تعالى عنها كانت أولا تحت أبي سفيان بن حرب فطلقها، فخلف عليها عبيد الله، فولدت له طلحة الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله» .

ثم إن الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخو أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وكان رجلا شرسا، سيىء الخلق، شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم «وجاء أنه أول من يعطى كتابه بشماله، كما أن أخاه أبا سلمة أول من يعطى كتابه بيمينه كما تقدم قال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه» أي أسرع قطعها «فطارت وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه أي وشرب منه وهدمه برجله الصحيحة يريد أن تبر يمينه» فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض، وأقبل نفر من قريش حتى وردوا ذلك الحوض منهم حكيم بن حزام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل كافرا إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر» . وعلى أن هذا الحوض كان وراء ظهره صلى الله عليه وسلم يكون مجيء هؤلاء للحوض من خلفه صلى الله عليه وسلم فليتأمل. «ثم إن عتبة بن ربيعة التمس بيضة» أي خوذة «ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسع رأسه لعظمها فاعتجر على رأسه ببرد له» أي تعمم به ولم يجعل تحت لحيته من العمامة شيئا، وخرج بين أخيه شيبة وابنه الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار، ثلاثة إخوة أشقاء: هم معوذ ومعاذ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة» وفي رواية «أكفاء كرام، إنما نريد قومنا» أي وفي لفظ «ولكن أخرجوا إلينا من بني عمنا» أي وفي لفظ «أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالرجوع فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيرا» لأنه كره أن تكون الشوكة لغير بني عمه وقومه في أول قتال «وعند ذلك نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» وفي لفظ «قوموا يا بني هاشم فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاؤوا ببطلانهم ليطفئوا نور الله، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي، فلما قاموا ودنوا قالوا لهم، من أنتم، أي لأنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح» قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليّ: عليّ: قالوا نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة بن الحارث وكان أسنّ القوم، كان أسنّ من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة، وأما علي فلم يمهل أن قتل الوليد، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذففاه» بالمهملة والمعجمة «واحتملا صاحبهما

فجراه إلى أصحابه، أي وأضجعوه إلى جانب موقفه صلى الله عليه وسلم، فأفرشه رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه الشريفة فوضع خده عليها، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك شهيد، أي بعد أن قال له عبيدة: ألست شهيدا يا رسول الله؟ فتوفي في الصفراء، ودفن بها عند مرجع المسلمين إلى المدينة» . وقيل برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وعليّ للوليد، واختلف عبيدة وشيبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه وقعت الضربة في ركبة عبيدة فأطاحت رجله وصار مخ ساقه يسيل، ثم مال حمزة وعليّ على شيبة فذففا عليه. أي ويقال إن شيبة لما صرع من ضربة عبيدة قام، فقام إليه حمزة فاختلفا ضربتين لم يصنع سيفهما شيئا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه فأهوى عبيدة وهو صريع فضرب شيبة فقطع ساقة فذفف عليه حمزة. وقيل بارز عليّ شيبة وبارز عبيدة الوليد. فقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي أنه قال «أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك» . وقال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات ولكن المشهور أن عليا كرم الله وجهه إنما بارز الوليد، وهذا هو اللائق بالمقام، لأن عتبة وشيبة كانا شيخين كعبيدة وحمزة، بخلاف عليّ والوليد فكانا شابين. وقتل حمزة طعيمة بن عدي أخا المطعم بن عدي وتقدم أن المطعم مات قبل هذه الغزاة بستة أشهر كافرا. قيل وهذه المبارزة أول مبارزة وقعت في الإسلام. وفي الصحيحين عن أبي ذر «أنه كان يقسم قسما إن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحجّ: الآية 19] نزلت في حمزة وصاحبه وعتبة وصاحبه يوم بدر» . وفي البخاري عن علي رضي الله تعالى عنه أنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. وقيل أول من يقف بين يدي الله للخصومة علي ومعاوية «ثم تزاحم الناس ودنا بعضهم من بعض. وقد كان عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه بقدح في يده» أي بسهم لا نصل له ولا ريش «فمر بسواد» بتخفيف الواو لا بتشديدها كما زعمه ابن هشام بن غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء «أي حليف بني النجار وهو خارج من الصف، فطعنه صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني» أي مكني من القود أي القصاص «من نفسك، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال استقد» أي خذ القود أي القصاص «فاعتنقه فقبل بطنه الشريف، فقال: ما حملك على هذا يا سواد، فقال: يا

رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بخير» . وفيه أن هذا لا قود فيه ولا قصاص عندنا فليتأمل. وسواد هذا جعله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر عاملا على خيبر كما سيأتي. أي وفي حديث حسن عن عبد الرحمن بن عوف قال «صفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فبدرت منا بادرة أمام الصف، فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال معي معي» . أقول: وقع له صلى الله عليه وسلم مع بعض الأنصار: أي وهو سواد بن عمرو مثل هذا الذي وقع له مع سواد بن غزية. ففي أبي داود «أن رجلا من الأنصار كان فيه مزاح، فبينما هو يحدّث القوم يضحكهم إذ طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود كان في يده» وفي لفظ «بعرجون» وفي آخر «بعصا، فقال أصبرني يا رسول الله» أي أقدني «ومكني من نفسك لأقتص منك، فقال اصبر» أي اقتص «قال: إن عليك قميصا وليس عليّ قميص فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه» . أي ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه ما التصق ببدنه مسلم وتمسه النار كذا في الخصائص الصغرى. وفيها في محل آخر: ولا تأكل النار شيئا مس جسده، وكذلك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. «ثم لما عدّل الصفوف قال لهم: إن دنا القوم منكم فانضحوهم» أي ادفعوهم «عنكم بالنبل، واستبقوا نبلكم» أي لا ترموهم على بعد، فإن الرمي مع البعد غالبا يخطىء فيضيع النبل بلا فائدة، أي وقال لهم «لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد وعلى المصابرة فيه. منها: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله عز وجل به الهم وينجي به من الغم» وهذا السياق يدل على تكرر هذه الخطبة: أي وقوعها قبل مجيئهم إلى محل القتال وبعد مجيئهم إليه. ولا مانع منه. «ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشح بسيفه مع نفر من الأنصار، يخافون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدوّ أي والجنائب مهيأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن احتاج إليها ركبها. ولما اصطف الناس للقتال رمى قطبة بن عامر حجرا بين الصفين وقال: لا أفر إلا إن فرّ هذا الحجر، وكان أول من خرج من المسلمين مهجع» بكسر الميم وإسكان الهاء فجيم مفتوحة فعين مهملة «مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر بن الحضرمي بسهم أرسله إليه» ونقل بعض المشايخ أنه أول من يدعى من شهداء هذه الأمة، وأنه صلى الله عليه وسلم

قال يومئذ «مهجع سيد الشهداء» أي من هذه الأمة، فلا ينافي ما جاء «أن سيد الشهداء يوم القيامة يحيى بن زكريا، وقائدهم إلى الجنة وذابح الموت يوم القيامة، يضجعه ويذبحه بشفرة في يده والناس ينظرون إليه» لكن جاء «سيد الشهداء هابيل» إلا أن تجعل الأولية إضافية، فيراد أول أولاد آدم لصلبه. قيل وكون مهجع أول قتيل من المسلمين لا ينافي كون أول قتيل من المسلمين عمير بن الحمام، لأن ذاك أول قتيل من المهاجرين، وعمير أول قتيل من الأنصار، ولا ينافي ذلك أن أول قتيل من الأنصار حارثة بن قيس: أي قتل بسهم لم يدر راميه. ففي البخاري عن حميد، قال: سمعت أنسا يقول «أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، قتل بإرسال سهم إليه» ، أي فإنه أصابه سهم غرب: أي لا يعرف راميه، وهو يشرب من الحوض. وفي كلام ابن إسحاق: أول من قتل من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب، ومن بعده حارثة بن سراقة. وقد جاءت أم حارثة وهي عمة أنس بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت «يا رسول الله حدّثني عن حارثة، فإن يكن في الجنة لم أبك عليه ولكن أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في دار الدنيا» . وفي رواية «إن يكن في الجنة صبرت، وإن يكن غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال: يا أم حارثة إنها ليست بجنة ولكنها جنات، وحارثة في الفردوس الأعلى، فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ لك يا حارثة» وهذا قد يخالف قول ابن القيم كالزمخشري أن الجنة التي هي دار الثواب واحدة بالذات كثيرة بالأسماء والصفات، وهذا الاسم الذي هو الجنة يجمعها من أسمائها: جنة عدن، والفردوس، والمأوى، ودار السلام، ودار الخلد، ودار المقامة ودار النعيم، ومقعد صدق، وغير ذلك مما يزيد على عشرين اسما. أي وعن الواقدي أنه بلغ أمه وأخته وهما بالمدينة مقتله، فقالت أمه: والله لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه وفي رواية: «أصبر وأحتسب، وإن كان ابني في النار بكيته» . وفي رواية: «ترى ما أصنع، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر جاءت أمه فقالت: يا رسول الله قد عرفت موقع حارثة من قلبي فأردت أن أبكي عليه، ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هبلت» وفي رواية «ويحك أو هبلت، أجنة واحدة إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء من ماء فغمس يده فيه ومضمض فاه ثم ناوله أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت

ثم أمرهما ينضحان في جيوبهما ففعلنا فرجعتا من عند النبي صلى الله عليه وسلم وما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما ولا أسر» . وقد كان حارثة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بالشهادة، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لحارثة يوما وقد استقبله «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، قال: انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله عزلت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي واظمأت نهاري، فكأني بعرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزم عبد: أي أنت عبد بذر الله الإيمان في قلبه قال: فقلت ادع الله لي بالشهادة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال أبو جهل وأصحابه حين قتل عتبة وشيبة والوليد تصبرا، لنا العزى ولا عزى لكم، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله مولانا ولا مولى لكم، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» . أقول: سيأتي وقوع مثل ما قال أبو جهل وأصحابه من أبي سفيان وأنه أجيب بمثل هذا الجواب في يوم أحد، والله أعلم. «وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر» أي وهذا العريش هو المراد بالقبة في قول البخاري. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر: اللهم أنشدك عهدك» الحديث ويقول «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلا تعبد» أي وفي مسلم «أنه صلى الله عليه وسلم قال: اللهم: إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض» قال ذلك في هذا اليوم وفي يوم أحد. قال العلماء: فيه التسليم لقدر الله تعالى، والردّ على غلاة القدرية الذين يزعمون أن الشر غير مراد لله ولا مقدور له. وذكر الإمام النووي أن كونه قال ما ذكر يوم بدر هو المشهور. وفي كتب التفسير والمغازي أنه يوم أحد، ولا معارضة بينهما، فقاله في اليومين هذا كلامه. أي يجوز أن يكون قال ذلك في يوم بدر وفي يوم أحد. وفي رواية: «اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين أي لأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه آخر النبيين، فإذا هلك هو ومن معه لا يبقى من يتعبد بهذه الشريعة» . وفي لفظ آخر «اللهم لا تودّع مني ولا تخذلني، أنشدك ما وعدتني» لأنه كان وعده النصر وفي رواية «ما زال يدعو ربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك تناشد ربك فإنه سينجز لك ما وعدك» أي وفي رواية «والله لينصرنك الله، وليبيضن وجهك» أي وفي لفظ «قد ألححت على ربك» وكون وعد الله لا يتخلف لا ينافي الإلحاح في الدعاء

لأن الله يحب الملحين في الدعاء، وإنما قال أبو بكر ما ذكر لأنه شق عليه تعب النبي صلى الله عليه وسلم في إلحاحه بالدعاء، لأنه رضي الله تعالى عنه رقيق القلب شديد الإشفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل لأن الصديق كان في تلك الساعة في مقام الرجاء والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مقام الخوف، لأن الله يفعل ما يشاء، وكلا المقامين سواء في الفضل ذكره السهيلي. وحين رأى المسلمون القتال قد نشب عجوا بالدعاء إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى عند ذلك إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) [الأنفال: الآية 9] أي متتابعين. وقيل ردفا لكم ومددا لكم. وقيل وراء كل ملك ملك آخر. ويوافق ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أمدّ الله نبيه يوم بدر بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة، فأمده الله تعالى بالملائكة ألف مع جبريل وألف مع ميكائيل؟» وجاء «أمدّه الله بثلاثة آلاف: ألف مع جبريل، وألف مع ميكائيل وألف مع إسرافيل» وهذا رواه البيهقي في الدلائل عن علي بإسناد فيه ضعف. وقيل وعدهم الله تعالى أن يمدهم بألف ثم زيدوا في الوعد بألفين، ثم زيدوا في الوعد بألفين أيضا. وقيل أمدهم الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ثم أكملهم بخمسة آلاف، قال الله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) [آل عمران: الآية 124] أي ألف من جبريل، وألف مع ميكائيل، وألف مع إسرافيل بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) [آل عمران: الآية 125] فإن ذلك كان يوم يدر على ما عليه الأكثر، وقيل يوم أحد كان الإمداد فيه بذلك: أي بثلاثة آلاف، ثم وقع الوعد بإكمالهم خمسة آلاف معلقا على شرط، وهو التقوى، والصبر عن حوز الغنائم فلم يصبروا ففات الإمداد بما زاد على الثلاثة آلاف. وهذا الثاني هو الذي في النهر لأبي حيان، كان المدد يوم بدر بألف من الملائكة، ويوم أحد بثلاثة آلاف، ثم بخمسة لو صبروا عن أخذ الغنائم فلم يصبروا، فلم تنزل، هذا كلامه، وهو واضح لأن عدم صبرهم عن أخذ الغنائم وعدم امتثال أمره إنما كان في أحد لا في بدر. وروى البيهقي عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن يوم بدر وقع نمل من السماء قد سدّ الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، أي نازلا من السماء فوقع في نفسي أن هذا شيء أيد به صلى الله عليه وسلم وهي الملائكة.

أي وروي بسند حسن عن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود مبثوث حتى امتلأ الوادي، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم. والبجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب، وسيأتي وقوع مثل ذلك في حنين. قال: وإنما كانت الملائكة شركاء لهم في بعض الفعل ليكون الفعل منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، وإلا فجبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه كما فعل بمدائن قوم لوط، وأهلك قوم صالح وثمود بصيحة واحدة، وليهابهم العدّ وبعد ذلك، حيث يعلمون أن الملائكة تقاتل معهم. وبهذا يرد ما قيل لم تقاتل الملائكة يوم بدر، وإنما كانوا يكثرون السواد، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم. وجاء «لولا أن الله حال بيننا وبين الملائكة التي نزلت يوم بدر لمات أهل الأرض خوفا من شدة صعقاتهم وارتفاع أصواتهم» . وجاء في حديث مرسل «ما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر ولا أصغر من يوم عرفة إلا ما رئي يوم بدر» أي وكذا سائر مواسم المغفرة والعتق من النار كأيام رمضان سيما ليلة القدر. وجاء «إن إبليس جاء في صورة سراقة بن مالك المدلجي الكناني في جند من الشياطين» أي مشركي الجنّ في صور رجال من بني مدلج من بني كنانة معه رايته، وقال للمشركين لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الأنفال: 48] اهـ أي كما قال لهم ذلك عند ابتداء خروجهم وقد خافوا من بني كنانة قوم سراقة، وقد تقدم أنه كان وحده. ولا منافاة لجواز أن يكون جنده لحقوا به بعد «قال: فلما رأى جبريل والملائكة» وفي رواية: وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين أي وهو الحارث بن هشام أخو أبي جهل انتزع يده من يد الرجل، ثم نكص على عقبيه وتبعه جنده، فقال له الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [الأنفال: الآية 48] وتشبث به الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وقال له: والله لا أرى إلا خفافيش يثرب، فضربه إبليس في صدره فسقط، وعند ذلك قال أبو جهل: يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة أي والوليد فإنهم قد عجلوا، واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالجبال، وصار يقول: لا تقتلوهم خذوهم باليد. وذكر السهيلي أنه يروى أن من بقي من قريش وهرب إلى مكة وجد سراقة بمكة، فقالوا له: يا سراقة خرقت الصف، وأوقعت فينا الهزيمة، فقال: والله ما

علمت بشيء من أمركم، وما شهدت، وما علمت، فما صدّقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله، فعلموا أنه إبليس هذا كلامه. قال قتادة: صدق إبليس في قوله إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الأنفال: الآية 48] وكذب في قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ [المائدة: الآية 28] والله ما به مخافة من الله. قال في ينبوع الحياة: ولا يعجبني هذا، فإن إبليس عارف بالله، ومن عرف الله خافه، أي وإن لم يكن إبليس خافه حتى الخوف. قيل وإنما خاف أن يكون هذا اليوم هو اليوم الموعود الذي قال فيه سبحانه وتعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان: الآية 22] . ورأيت عن سيدي علي الخواص أنه لا يلزم من قول إبليس ذلك أن يكون معتقدا له بالباطن كما هو شأن المنافقين. ورأيت عن وهب أن اليوم المعلوم الذي أنظر فيه إبليس هو يوم بدر قتلته الملائكة في ذلك اليوم. والمشهور أنه منظر إلى يوم القيامة، ويدل لذلك ما روي أن إبليس لما ضرب الحارث في صدره لم يزل ذاهبا حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال: يا رب موعدك الذي وعدتني، اللهم إني أسألك نظرتك إياي، وخاف أن يخلص إليه القتل. هذا، وفي زوائد الجامع الصغير عن مسلم أن سيدنا عيسى عليه السلام يقتل إبليس بيده بعد نزوله وفراغه من صلاته، ويرى المسلمين دمه في حربته. وفي كلام بعضهم: ولعل المراد بيوم القيامة الذي أنظر إليه إبليس ليس نفخة البعث بل نفخة الصعق التي بها يكون موت من لم يمت من أهل السموات وأهل الأرض، قيل إلا حملة العرش وجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وهؤلاء ممن استثنى الله تعالى في قوله وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: الآية 68] ثم يموت جبريل وميكائيل ثم حملة العرش ثم إسرافيل ثم ملك الموت فهو آخر من يموت. وفي كلام بعضهم: الصعق أعم من الموت، أي فالمراد ما يشمل الغشي وذهاب الشعور، أي فمن مات قبل ذلك وصار حيا في البرزخ كالأنبياء والشهداء لا يموت، وإنما يحصل له غشي وذهاب شعور، ويكون المستثنى من القسم الأول من تقدم ذكره من الملائكة، ومن القسم الثاني موسى صلوات الله وسلامه عليه، فإنه جوزي بذلك: أي بعدم الغشي وذهاب الشعور بما حصل له من ذلك بسبب صعقة الطور. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم بذلك بل تردد في ذلك حيث قال «فأكون أوّل من رفع

رأسه» أي أفاق من الغشي «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوام العرش فلا أدري أرفع رأسه» أي أفاق «من الغشي قبلي، أو كان ممن استثنى الله فلم يصعق» . وفي رواية «فإذا موسى متعلق بقائمة العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟» ولعل بعض الرواة ضم هذا الخبر لخبر الشيخين «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة،، فإذا موسى الخ» وفيه نظر لأن المراد بيوم القيامة عند نفخة البعث ونفخة الصعق سابقة عليها كما علمت. ويلزم على هذا التردد مع كون الخبرين خبرا واحدا إشكال جزمه صلى الله عليه وسلم بأنه أوّل من تنشق عنه الأرض. وأجاب شيخ الإسلام بما يفيد أنهما خبران لا خبر واحد حيث قال: لتردد كان قبل أن يعلم أنه أوّل من تنشق عنه الأرض، أي فهما حديثان لا حديث واحد. فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم «لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى» الحديث يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم ليس أفضل من موسى. قلنا هو كقوله صلى الله عليه وسلم «من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وذلك منه صلى الله عليه وسلم تواضع؛ أو كان قبل أن يعلم أنه أفضل الخلق أجمعين. وقيل الوقت المعلوم خروج الدابة، وإذا خرجت قتلته بوطئها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبليس إذا مرّت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة، وهذه النفخة التي هي نفخة الصعق مسبوقة بنفخة الفزع التي تفزع بها أهل السموات والأرض فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج، وتسير الجبال كسير السحاب، وتنشق السماء، وتكسف الشمس، ويخسف القمر وهي المعنية بقوله تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) [النازعات: 6، 7] وبقوله تعالى إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها [الحج: 1، 2] الآية، وقال تعالى فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل: 87] قيل وهم الشهداء. فقد جاء «إن الأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك، قلنا: يا رسول الله فمن استثنى الله تعالى في قوله إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النّمل: الآية 87] فقال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران: الآية 169] وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه» . واقتصاره صلى الله عليه وسلم على ذكر الشهداء وسكوته عن الأنبياء لما هو معلوم من الأصل أن مقام الأنبياء أرقى من مقام الشهداء، وإن كان قد يوجد في المفضول ما لا يوجد

في الفاضل. ومن ثم قيل: الرزق خاص بالشهداء، ومن ثم اختصوا بحرمة الصلاة عليهم. ويقال إنه كان مع المسلمين يوم بدر من مؤمني الجنّ سبعون، أي لكن لم يثبت أنهم قاتلوا فكانوا مجرد مدد. «ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خفق خفقة أي مالت رأسه من النعاس ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه» وفي لفظ «آخذ برأس فرسه يقوده على ثناياه النقع» أي الغبار «وهو يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته» . أي وفي رواية «أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد خضب الغبار ثنيته عليه درعه وقال: يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى أرضيت» . أي ولا مانع من تعدد رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام، وأن هذه بعد تلك، وأن المرة الأولى مساقها يقتضي أنها كانت مناما، وأن الغبار في المرة الثانية كان أكثر منه في المرة الأولى بحيث علا على ثناياه. «ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش إلى الناس فحرضهم وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام» بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم «وبيده تمرات يأكلهن بخ بخ» كلمة تقال لتعظيم الأمر والتعجب منه «ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل» أي وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فقال عمير بن الحمام بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تبخبخ» أي مم تتعجب «فقال: رجاء أن أكون من أهلها» أي وفي رواية «ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فأخذ تمرات فجعل يلوكهن ثم قال. والله إن بقيت حتى ألوكهن» وفي لفظ إن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فنبذهن وقاتل أي وهو يقول: ركضنا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبرد والرشاد ولا زال يقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه وسيأتي في غزاة أحد مثل هذا لبعض الصحابة أبهمه جابر رضي الله تعالى عنه في ألقاء التمرات من يده ومقاتلته حتى قتل.

فعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة، قال: فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل» أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وسيأتي ما في ذلك. وقال عوف بن الحارث ابن عفراء «يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده» أي ما يرضيه غاية الرضا «قال: غمسه يده في العدو حاسرا» أي لا درع له ولا مغفر «فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رضي الله تعالى عنه» فالضحك في حق الله كناية عن غاية رضاه. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن الغمر «اللهم الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه» أي ألقه لقاء كلقاء المتحابين المظهرين لما في أنفسهما من غاية الرضا والمحبة فهي كلمة وجيزة تتضمن الرضا مع المحبة وإظهار البشر، فهي من جوامع كلمه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم. وقاتل في ذلك اليوم معبد بن وهب زوج هريرة بنت زمعة أخت سودة بنت زمعة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بسيفين «ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء» بالمد «أمره بذلك جبريل عليه الصلاة والسلام» كما جاء في بعض الروايات: أي قال خذ قبضة من تراب وارمهم بها «فتناولها صلى الله عليه وسلم» . وفي رواية «أنه قال لعلي كرم الله وجهه ناولني فاستقبل بها قريشا، ثم قال: شاهت الوجوه» أي قبحت الوجوه أي وزاد بعضهم «اللهم أرعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم، ثم نفخهم» أي ضربهم بها «فلم يبق من المشركين رجل إلا ملأت عينه» وفي رواية «وأنفه وفمه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب لينزعه من عينيه» أي فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلون ويأسرون. هذا، والمحفوظ المشهور أن ذلك إنما كان في حنين، لكن يوافق الأول ما نقله بعضهم أن قوله تعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: الآية 17] نزل يوم بدر، هكذا قال عروة وعكرمة ومجاهد وقتادة، قال هذا البعض، وقد فعل عليه الصلاة والسلام مثل ذلك في غزوة أحد هذا كلامه. وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم؛ وحصاة بين أيديهم، فقال: شاهت الوجوه؛ فانهزم القوم» وهذه الحصيات الثلاث قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست، فأخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن في وجوه المشركين، أي يمنة ويسرة وبين أيديهم وحين رمى صلى الله عليه وسلم بذلك قال لأصحابه: شدوا فكانت الهزيمة، وأنزل الله تعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: الآية 17] .

وقد يقال: لا مانع من اجتماع الأمرين، وكل منهما مراد من الآية. قال، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بنفسه قتالا شديدا. وكذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء قاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين انتهى. أقول: كذا نقل بعضهم عن الأموي، ويتأمل ذلك، فإني لم أقف عليه في كلام أحد غيره، وكأنّ قائل ذلك فهم مباشرته صلى الله عليه وسلم للقتال مما تقدم عن علي رضي الله تعالى عنه «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأسا» ولا دلالة في ذلك، والله أعلم. نعم ذكر ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم مصلتا السيف يتلو هذه الآية سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: الآية 45] وهذه الآية ذكر في الإتقان أنها مما تأخر حكمه عن نزوله، فإنها نزلت بمكة، وكان ذلك يوم بدر. فعن عمر رضي الله تعالى عنه: قلت أيّ جمع، فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا السيف يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: الآية 45] فكانت ليوم بدر، أخرجه الطبراني في الأوسط، ولو قاتل صلى الله عليه وسلم لجرح أو قتل من قاتله، ولو وقع ذلك لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله. وسيأتي في أحد عن النور «أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل بيده الشريفة قط أحد إلا أبي بن خلف لا قبله ولا بعده» وإلى رميه بالحصا أشار صاحب الهمزية بقوله: ورمى بالحصا فأقصد جيشا ... ما العصا عنده وما الإلقاء أي ورمى صلى الله عليه وسلم بالحصا جيشا فأصابهم كلهم بها، أي شيء إلقاء عصا موسى عليه الصلاة والسلام على حبال سحرة فرعون وعصيهم عند ذلك الحصى المرميّ به لا يقاربه ذلك الإلقاء ولا يدانيه، لأن ذاك وجد له نظير وهو إلقاء السحرة الحبال والعصي، والرمي بالحصا لم يوجد له نظير. أي وقال صلى الله عليه وسلم حينئذ «من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له» كما في الإمتاع «فلما وضع القوم أيديهم يأسرون نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال: أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل» أي الإكثار منه والمبالغة فيه أحب إليّ من استبقاء الرجال. وذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه «إنكم قد عرفتم أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا إكراها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله» أي بل يأسره وذكر أبا البختري بن هشام، أي فقال «من لقي أبا البختري فلا يقتله» أي لأنه كان ممن قام في نقض الصحيفة ونص على العباس بن

عبد المطلب، فقال أبو حذيفة رضي الله تعالى عنه: أيقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وعشيرتنا ويترك العباس؟ أي لأنه تقدم أن أباه عتبة وعمه شيبة وأخاه الوليد أول من قتل من الكفار مبارزة وعشيرته وهي بنو عبد شمس قد قتل منها جماعة، لئن لقيته يعني العباس لألجمنه السيف هو بالمهملة والمعجمة، فبلغت أي تلك المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟ فقال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص: يا رسول الله دعني أضرب عنقه يعني أبا حذيفة بالسيف، فو الله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا في جملة من قتل فيها من الصحابة وهم أربعمائة وخمسون، وقيل ستمائة رضي الله تعالى عنهم. ولقي المجذر رضي الله تعالى عنه أبا البختري فقال له «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟ أي ورفيقي وكان معه زميل له خرج معه من مكة أي قال له جنادة بن مليحة، فقال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك، قال: لا والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي، أي يقتل حرصا على الحياة، فقتله المجذر أي بعد أن قاتله، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقتلته» . أقول: لعل المجذر فهم أن ما عدا من نهى عن قتله يقتل وإن استأسر حتى قال ما نحن بتاركي زميلك، أي ولا بد من قتله وإن استأسر، فكان ذلك حاملا لأبي البختري على أن لا يستأسر ويترك زميله فيقتل خوف السبة والله أعلم. أي وكان من جملة من خرج مع المشركين يوم بدر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وكان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، وقيل عبد العزى، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن وكان من أشجع قريش وأشدهم رماية، وكان أسن ولد أبيه وكان صالحا وفيه دعابة، فلما أسلم قال لأبيه لقد أهدفت لي أي ارتفعت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك أي أعرضت عنك، فقال أبو بكر: لو هدفت لي لم أصدف أي أعرض عنك، فالمراد بكونه أهدف له ارتفع وهو لا يشعر بذلك، فلا ينافي ما قيل إن عبد الرحمن بن أبي بكر يوم بدر دعا إلى البراز، فقام إليه أبوه أبو بكر ليبارزه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما علمت أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» . أي وفي بعض السير أن الصديق قال لولده عبد الرحمن يوم بدر وهو مع المشركين لم يسلم: أين مالي يا خبيث؟ فقال له عبد الرحمن كلاما معناه: لم يبق

إلا عدة الحرب التي هي السلاح وفرس سريعة الجري وجنان يقاتل عليه شيوخ الضلال، أي وهذا يدل على أن الصديق رضي الله تعالى عنه ترك مالا عند أهله لما هاجر، وهو قد يخالف ما تقدم عن ابنته أسماء من قولها: إن أبا بكر أرسل ابنه عبد الله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم إلى الغار، فدخل علينا جدي أبو قحافة الحديث، ولعل ماله الذي عناه الصديق ما كان من نحو أمتعة وبعض مواشي لا النقد فلا مخالفة. ويروى عن ابن مسعود أن الصديق رضي الله تعالى عنه دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «متعنا بنفسك، أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري» فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: الآية 24] ولا مانع من التعدد حتى في نزول الآية، لكن يبعد نزولها في أحد أيضا كون أبي بكر يدعو للمبارزة بعد نزولها أولا في بدر. ثم رأيت ابن ظفر قال في الينبوع: إنه لم يثبت أن أبا بكر دعا ابنه للمبارزة، وإنما هو شيء ذكر في كتب التفسير، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: الآية 24] فالآية مدنية لا مكية وبه يرد ما ذكر أن سببها أن أبا بكر سمع والده أبا قحافة يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بشر فلطمه لطمة سقط منها، فأخبر أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له لا تعد لمثلها، فقال: والله لو حضرني السيف لقتلته به. وفي كلام الزمخشري أن عبد الرحمن أسلم في هدنة الحديبية وهاجر إلى المدينة ومات سنة ثلاث وخمسين بمحل بينه وبين مكة ستة أميال، وحمل على أعناق الرجال إلى مكة، وقدمت أخته عائشة رضي الله تعالى عنها من المدينة فأتت قبره فصلت عليه. أي وفي هذا اليوم الذي هو يوم بدر قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركا، فإن أباه قصده ليقتله فولى عنه أبو عبيدة لينكفّ عنه فلم ينكف عنه، فرجع عليه وقتله وأنزل الله تعالى لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: الآية 22] الآية. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: لقد لقيت أمية بن خلف وكان صديقا لي في الجاهلية ومعه: أي مع أمية ابنه عليّ أي آخذ بيده وكان عليّ ممن أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر، ففتنهم أقاربهم عن الإسلام ورجعوا عنه وماتوا على كفرهم، وأنزل الله تعالى فيهم إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ [النّساء: الآية 97] الآية، أي وهم الحارث بن ربيعة، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد، والعاص بن منبه، وعلي بن أمية المذكور.

وفي السيرة الهشامية: وذلك أنهم كانوا أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حبستهم آباؤهم وعشريتهم بمكة، وفتنوهم فافتتنوا: أي رجعوا عن الإسلام، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا جميعا، وسياقه كما ترى يقتضى أنهم لم يرجعوا إلى الكفر إلا بعد الهجرة، وسياق ما قبله ربما يقتضي أنهم رجعوا إلى الكفر قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم. قال عبد الرحمن بن عوف: وكان معي أدراع استلبتها أي فأنا أحملها، فلما رآني أمية ناداني باسمي الأوّل يا عبد عمرو فلم أجبه، لأنه كان قال لي لما سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، أترغب عن اسم سماك به أبوك؟ فقلت: نعم. قال: الرحمن لا أعرفه، ولكني أسميك بعبد الإله كما تقدم فلما ناداني بعبد الإله، قلت نعم. أي وظاهر السياق يقتضي أنه عرف أنه المراد بذلك، وأنه ترك إجابته قصدا، حيث جعله عبدا للصنم. ويحتمل وهو الأقرب أنه لم يجبه لعدم معرفته أنه المراد بذلك الاسم، لكونه هجر بالمرة، فلما ناداه أمية بما ذكر عرفه وعرف أنه المراد بذلك لما ذكر «وعند ذلك قال له أمية: هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قلت نعم، فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه عليّ وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، ثم قال لي: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ أي كانت في درعه بحيال صدره. قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل وقيل قائل ذلك ابنه ثم خرجت أمشي بهما، فو الله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على أن يترك الإسلام أي كما تقدم، فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فقلت: أي بلال، أفبأسيري؟ أي تفعل ذلك بهما، قال: لا نجوت إن نجا وكررت وكرر ذلك، ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا وكرر ذلك، فأحاطوا بنا فأصلت رجل السيف» أي سله من غمده «وذلك الرجل هو بلال فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فضربوهما بأسيافهم فهبروهما» . أقول: الذي في البخاري عن عبد الرحمن بن عوف «أن بلالا لما استصرخ الأنصار، قال: خشيت أن يلحقونا فخلفت لهم ابنه لأشغلهم به فقتلوه ثم أتونا حتى لحقوا بنا، وكان أمية رجلا ثقيلا» أي كما تقدم «فقلت ابرك، فألقيت نفسي عليه لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، فأصاب أحدهم رجلي بسيفه» أي ظهر قدمه. وفي كلام ابن عبد البر. قال ابن هشام: قتل أمية بن خلف معاذ ابن عفراء

وخارجة بن زيد وحبيب بن أساف اشتركوا فيه. قال ابن إسحاق: وابنه علي قتله عمار بن ياسر وحبيب بن أساف، هذا شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوّج بنت خارجة بعد أن توفي عنها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ وهو جد حبيب شيخ مالك رضي الله تعالى عنه والله أعلم. وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري أي وفي رواية: لما كان يوم بدر حصل لي درعان ولقيني أمية، فقال: خذني وابني فأنا خير لك من الدرعين، فألقيت الدرعين فأخذتهما، فلما قتلا صار يقول: يرحم الله بلالا فلا درعيّ ولا أسيريّ، أي لأنه صلى الله عليه وسلم جعل في هذه الغزاة أن كل من أسر أسيرا فهو له كما تقدم وسيأتي: أي فله فداؤه، وهو يخالف ما عليه أئمتنا أن مال فداء الأسرى ورقابهم إذا استرقوا كسائر أموال الغنيمة، إلا أن يقال ذاك كان في صدر الإسلام ترغيبا في الجهاد، ثم استقر الأمر على ما قاله فقهاؤنا، أي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من له علم بنوفل بن خويلد؟ فقال علي كرّم الله وجهه: أنا قتلته، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه» أي فإنه لما التقى الصفان نادى نوفل بصوت رفيع: يا معاشر قريش اليوم يوم الرفعة والعلاء، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اكفني نوفل بن خويلد» وفي كلام بعضهم ما يفيد أن قتل علي كرّم الله وجهه له كان بعد أن أسره جبار بن صخر، فقد جاء «أن جبارا بينما هو يسوقه إذ رأى عليا، فقال: يا أخا الأنصار من هذا واللات والعزى؟ إنه ليريدني، فقال: هذا علي بن أبي طالب، فعمد له علي كرم الله وجهه فقتله، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي جهل أن يلتمس في القتلى وقال: إن خفي عليكم» أي بأن قطع رأسه وأزيل عن جثته «انظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مائدة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أسن منه: أي أكبر من بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش» أي خدش «على أحديهما جحشا لم يزل أثره به» . أي ولعل هذا هو محمل قول بعضهم إنه صلى الله عليه وسلم صارع أبا جهل، فإنه لم يصح أنه صارعه، ولعل هذا الأثر هو الذي عناه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بقوله: لما قتلت أبا جهل لعنه الله، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قتلت أبا جهل، فقال لي عقيل وهو أسير عند النبي صلى الله عليه وسلم: كذبت ما قتلته؛ فقلت له: بل أنت الكذاب الآثم يا عدوّ الله، قد والله قتلته، قال: فما علامته؟ قلت: إن بفخذة حلقة كحلقة الجمل المحلق، قال صدقت، وكان أبو جهل، قد استفتح أي طلب الحكم على نفسه، لأنه لما دنا القوم بعضهم من بعض قال: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأخنه: أي أهلكه الغداة، أي زاد بعضهم: اللهم من كان أحب إليك وأرضى عندك، وفي لفظ: اللهم

أولانا بالحق فانصره اليوم، فأنزل الله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: الآية 19] . أقول: كون أبي جهل طلب الحكم على نفسه واضح لو سكت عن قوله وأتانا بما لا نعرف، إذ هو نص فيه صلى الله عليه وسلم. وفي تفسير سهل أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم انصر أفضل الدينين عندك وارضاهما لك، أي وفي رواية اللهم انصر خير الدينين، اللهم ديننا القديم ودين محمد الحادث، فنزل إِنْ تَسْتَفْتِحُوا [الأنفال: الآية 19] يعني تستنصروا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: الآية 19] . وفي أسباب النزول للواحدي أن المشركين حين أرادوا الخروج من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدي الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين، فأنزل الله تعالى الآية. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين» والله أعلم. قال معاذ بن عمرو بن الجموح: رأيت أبا جهل وقد أحاطوا به وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها عمدت نحوه وحملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه: أي أسرعت قطعه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى، والمرضخة: بالخاء المعجمة وبالمهملة. وقيل الرضخ بالمعجمة: كسر الرطب، وبالمهملة كسر اليابس، وضربني ابنه أي عكرمة رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جسمي، وأجهضني القتال: أي شغلني عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأستحسها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت عليها حتى طرحتها. وفي رواية «أنه جاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليها، أي ولصقها فلصقت» وإلى ذلك يشير الإمام السبكي في تائيته، لكن قال ابن عفراء: ولا منافاة لجواز أن يكون معاذ بن عمرو بن الجموح ابن عفراء، وسيأتي ما يدل على ذلك بقوله: وبانت بها كف ابن عفراء فاشتكى ... إليك فعادت بعد أحسن عودة إلا أن قوله بها يرجع لغزاة أحد، وقد علمت أن ذلك إنما هو ببدر، واحتمال تكرر ذلك في أحد وفي بدر لشخص واحد بعيد، إلا أن يثبت النقل بذلك، ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بضم الميم وتشديد الواو مفتوحة ومكسورة ابن عفراء، فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق، أي وما جاء في بعض الروايات ضربه حتى برد بفتح الموحدة والراء والدال المهملة: أي مات لا ينافيه؛ لأنه يجوز أن يكون المراد صار في حالة من مات بأن صار إلى حركة المذبوح، ومن ثم جاء في بعض الروايات

حتى برك بالكاف بدل الدال أي سقط إلى الأرض: أي إلى جنبه، وإلا فقطع قدمه مع نصف ساقه لا يفضي غالبا أن يسقط إلى جنبه، ومعوذ هذا لا زال يقاتل حتى قتل. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ورأيت أبا جهل بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه، ثم قلت له هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبم أخزاني؟ أعار عليّ رجل قتلتموه: أي ليس بعار على رجل قتلتموه. وفي رواية: أعمد من رجل قتلتموه، أي أنا سيد رجل قتلتموه، لأن عميد القوم سيدهم: أي فلا عار عليّ في قتلكم إياي. وجاء أنه قال: لو غير أكار قتلني، والأكار: الزراع يعني الأنصار لأنهم كانوا أصحاب زرع: أي لو كان الذي قتلني غير فلاح لكان أحب إليّ وأعظم لشأني، ولم يكن عليّ في ذلك نقص، لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، أخبرني لمن الديرة؟ أي النصرة والظفر اليوم. زاد في رواية، لنا أو علينا؟ قلت لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحاح في دبر بالباء الموحدة، والدبرة: الهزيمة في القتال. ومما يدل للأول ما تقدم من قول أبي جهل: أخبرني على من كانت الدبرة لنا أو علينا؟ وفي مغازي ابن عقبة التي قال فيها مالك رضي الله تعالى عنه مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى والتمس أبا جهل فلم يجده حتى عرف ذلك في وجهه ثم قال: اللهم لا تعجزني فرعون هذه الأمة، فسعى له الرجال حتى وجده ابن مسعود الحديث. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فوجده قد ضربه ابن عفراء حتى برد» ولمسلم «برك» أي وهو المراد من الأول كما تقدم، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل» الحديث، وأخذه بلحيته لا ينافي وضع رجله على رقبته، لجواز أن يكون جمع بينهما. قال ابن مسعود: ثم احتززت رأسه. وفي رواية رويت عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «لما ضربته بسيفي لم يغن شيئا فبصق في وجهي وقال خذ سيفي فاحتزّ به رأسي من عرشي، ليكون أنهى للرقبة، والعرش: عرق في أصل الرقبة، ففعلت كذلك، ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدوّ الله أبي جهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله الذي لا إله غيره، أي ورددها ثلاثا» وروى الطبراني «الله قتلت أبا جهل» بنصب الجلالة، وهو بهذا اللفظ عندنا كناية يمين، ومثل النصب الرفع والجر «قال: قلت نعم والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى» أي ويقال إنه صلى الله عليه وسلم سجد خمس سجدات شكرا، ويقال إنه قال «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» وكون أبي

جهل بصق في وجه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وقال له خذ سيفي الخ، ينافي كونه وصل إلى حركة المذبوح، إلا أن يقال يجوز أن يكون في أول الأمر كان كذلك ثم تراجعت إليه روحه حتى قدر على ما ذكر فليتأمل، مع ما يأتي. قيل وبهذا أي بحمل رأس أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يردّ على الزهري قوله: لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط ولا يوم بدر وحمل رأس لأبي بكر رضي الله عنه فأنكره. ويجاب بأن البيهقي رحمه الله قال: ما روي من حمل رأس أبي جهل قد تكلم في ثبوته وبتقدير صحته فهو من محل إلى محل لا من بلد إلى بلد، أي من بلد الكفر إلى دار الإسلام: أي الذي أنكره أبو بكر رضي الله عنه، فإنه أنكر نقل الرأس من بلد الكفر إلى بلد الإسلام. وقد جوّزه من أئمتنا الماوردي والغزالي إذا كان في ذلك مكايدة للكفار. وفي النور: تحصلنا على جماعة حملت رؤوسهم إليه صلى الله عليه وسلم: أبو جهل، وسفيان بن خالد، وكعب بن الأشرف، ومرحب اليهودي، والأسود العنسي على ما روي، وعصماء بنت مروان، ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة: أي ورأس عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعيته صلى الله عليه وسلم وشق شفته السفلى يوم أحد كما سيأتي. وفي وضع ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رجله على عنق أبي جهل وقطع رأسه تصديق لتعبيره للرؤيا التي رآها لأبي جهل وقال له: إن صدقت رؤياي لأطأنّ رقبتك ولأذبحنك ذبح الشاة. وفي رواية أن ابن مسعود رضي الله عنه وجده مقنعا في الحديد وهو منكب لا يتحرك فرفع سابغة البيضة: أي الخودة عن قفاه لأن سابغة البيضة ما يغطى بها العنق، ومن ثم يقال بيضة لها سابغ، فضربه فوقع رأسه بين يديه. وعن ابن مسعود كما في المعجم الكبير للطبراني: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع وعليه بيضة ومعه سيف جيد ومعي سيف رديء فجعلت أنقف رأسه وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، فأخذت سيفه فرفع رأسه فقال: على من كانت الدبرة؟ ألست برويعينا بمكة؟ فقتله ثم سلبه، فلما نظر إليه إذ هو ليس به جراح، وإنما هي أحدار: أي أورام في عنقه ويديه وكتفيه كهيئة آثار السياط: أي آثار سود كسمة النار: أي ليس به جراح من جراح الآدميين داخل بدنه، فلا ينافي ما تقدم من قطع ابن الجموح لرجله. ويجوز أن يكون ضرب ابن عفراء له حتى أثبته لم ينشأ عنه جراحة داخل بدنه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ذاك ضرب الملائكة، أي فإن الملائكة عليهم السلام كانت لا تعلم كيف قتل الآدميين فعلمهم الله تعالى ذلك بقوله تعالى فَاضْرِبُوا فَوْقَ

الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: الآية 12] أي مفصل، فكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم بآثار سود كسمه النار. ولا ينافي ذلك وصفه بالخضرة في بعض الروايات، لأن الأخضر لشدة خضرته ربما قيل فيه أسود، وتلك الآثار في الأعناق، والبنان الظاهر أن ذلك يكون موجودا حتى بعد مفارقة الرأس أو اليد ليستدل به على أن مفارقة الرأس أو اليد من فعل الملائكة، وينبغي أن يكون هذا: أي ضربهم فوق الأعناق والبنان أكثر أحوالهم، فلا ينافي وجود أثر ضربهم في الكتفين كما تقدم وفي الوجه والأنف. فعن بعض الصحابة رضي الله عنهم: كنا ننظر إلى المشرك أمامنا مستلقيا فننظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق في وجهه كضربة السوط فاحضر ذلك الموضع، وفسر بعضهم الأعناق بالرؤوس، وهو غير مناسب لما ذكر هنا. وروي عن سهل بن حنيف عن أبيه رضي الله عنه قال «لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك» أي يرفعه عليه «فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف» ويمكن الجمع بين هذا وما قبله بأن ضرب الملائكة في الأعناق تارة يفصلها وتارة لا، وفي الحالتين يرى أثر ذلك أسود في العنق ليستدل به على أنه من فعل الملائكة كما تقدم. وفي رواية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد قطعت رجله وهو صريع وهو يذب الناس عنه بسيف له، فقلت: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، قال: هل هو إلا رجل قتله قومه، قال: فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل فأصبت يده، فبدر» أي سقط سيفه «فأخذته فضربته حتى قتلته، ثم خرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أقلّ من الأرض» أي أحمل من شدة الفرح «فأخبرته، فقال: الله الذي لا إله إلا هو» وفي لفظ تقدم «لا إله غيره رددها ثلاثا» وفي رواية عن ابن مسعود «فاستحلفني صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ثم قال: الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله ثلاث مرات وخر ساجدا: أي خمس سجدات شكرا» كما تقدم. وفي رواية: صلى ركعتين. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ثم إنه صلى الله عليه وسلم خرج يمشي معي حتى قام عليه فقال: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة» زاد في لفظ «ورأس قاعدة الكفر، ونفلني سيفه أي وكان قصيرا عريضا فيه قبائع فضة وحلق فضة» ومع قصره كان أقصر من سيف ابن مسعود فلا منافاة. أقول: يجوز أن يكون المضيّ إليه بعد إلقاء الرأس بين يديه صلى الله عليه وسلم استعظاما لقتله، أي وأن ابن مسعود في هذه الرواية سكت عن قطع رأسه والمجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا مخالفة؛ وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم يوما وقد أخذ بمجامع ثوبه «أولى

لك فأولى ثم أولى لك فأولى» أي وعيدا على وعيد «فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك بي شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها، فأنزل الله تعالى فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) [القيامة: الآيات 31- 31] وقيل نزلت كالتي قبلها في عدي بن ربيعة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر القيامة فأخبره به، فقال: لو عاينت هذا اليوم لم أصدقك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فأنزل الله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) [القيامة: الآية 3] الآيات، والله أعلم. وعن قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل، قتله الله شر قتله» بكسر القاف الهيئة. قتلته الملائكة، وفي لفظ قتله ابن عفراء وقتلته الملائكة، وقد ذففه: أي أجهز عليه ابن مسعود وابن عفراء هذا يجوز أن يكون هو معاذ بن عمرو بن الجموح. ويجوز أن يكون أخاه معاذ بن الحارث، وكونه قتله لأنه أزال منعته كما تقدم. وفي مسلم عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، نظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل بن هشام؟ قلت نعم، وما حاجتك به؟ قال: بلغني أنه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لو رأيته لم يفارق سوادي سواده: أي شخص شخصه حتى يموت الأعجل منا: أي الأقرب أجلا، فغمزني الآخر فقال مثلها، فعجبت لذلك، أي لحرص كل منهما على ذلك وإخفائه عن صاحبه ليكون المختص به فلم أنشب: أي ألبث أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس: أي بالزاي يتحول من محل إلى محل آخر، فقلت لهما ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه أي أشرفا به على القتل فصيراه إلى حركة مذبوح، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفيكما؟ قال لا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في السيفين، فقال كلاكما قتله، وقضى بسلبه: أي ما عدا سيفه لهما، فلا ينافي ما سبق من اعطائه لابن مسعود رضي الله عنه، وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء بن الحارث، فهما: أي معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن الحارث ابنا عفراء، غاية الأمر أن الأول اشتهر بأبيه عمرو بن الجموح، والثاني اشتهر بأمه التي هي عفراء. وقول الحافظ ابن حجر: إن معاذ بن عمرو بن الجموح ليس اسم أمه عفراء يجوز أن يكون مستنده في ذلك مقابلة ابن الجموح بابن عفراء في كلامهم المقتضي ذلك، لأن يكون ابن الجموح ليس ابن عفراء. ولا يشكل على ذلك ما في النور نقلا عن الإمام النووي، أن عمرو بن

الجموح وابني عفراء: أي معاذ ومعوذ اشتركوا في قتل أبي جهل، لأن معاذا الثاني ابن الحارث، فكل من عمرو بن الجموح والحارث تزوج عفراء، وكل سمى ولده منها بمعاذ. ويدل لذلك ما يأتي عن الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال «رحم الله ابني عفراء اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة، ولما قيل له: يا رسول الله من قتله معهما، قال الملائكة، ولم يقل عمرو بن الجموح» لكن رأيت بعضهم ذكر أن عفراء شهد لها بدرا سبع بنين ثلاثة من الحارث بن رفاعة، وهم معوذ ومعاذ، وعامر، وأربعة من بكر بن عبد ياليل، وهم خالد وأساس وعاقل وعامر، واستشهد منهم ببدر معاذ ومعوذ وعاقل هذا كلامه، وذكر عامر في الأول تقدم بدله ذكر عوف وهو واضح، فقد تقدم أن عوف بن الحارث ابن عفراء قال «يا رسول الله ما يضحك الرب الخ» ولم يذكر هذا البعض أن من أولادها معاذ بن عمرو بن الجموح، وهو يؤيد ما تقدم عن الحافظ، وعن الإمام النووي، فعليك بالتأمل. وقيل قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. أقول: أي لكونه هو الذي أزال منعته فاستحق سلبه، ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لهما «كلاكما قتله» لجواز أن يكون أتى بذلك ملاطفة للثاني وترغيبا له في الجهاد، لأن له مشاركة ما في قتله، لأنه زاد في إثخانه إلى أن صيره إلى آخر رمق. ويرده كونه صلى الله عليه وسلم أشركهما في سلبه، ومن ثم قال فقهاؤنا: يعطي السلب لمن أثخن دون من قتل: أي بعد ذلك، فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلب أبي جهل لمثخنيه ابني عفراء دون قاتله ابن مسعود، لكن هذا القيل قال به بعض آخر من فقهائنا، وهو الموافق لما في البخاري في كتاب فرض الخمس: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء قتلا أبا جهل ثم تنازعا فيه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى السيفين فرأى فيهما أثر الدم فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن الجموح، قال الأصحاب لأنه أثخنه والآخر جرحه بعده، وقوله: كلاكما قتله تطييب لقلب الآخر هذا كلامه فليتأمل، فإن الذي أظنه أن كونه رأى أثر الدم في سيفيهما خلط من الراوي لأن ذلك كان في قتل ابن الأشرف، ويؤيد الخلط ما تقدم عن ابن مسعود أنه لم ير فيه أثر جراح داخل بدنه. وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال «يرحم الله ابني عفراء فإنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر، فقيل: يا رسول الله من قتله معهما؟ قال: الملائكة، وذففه ابن مسعود» وهذا السؤال يقتضي أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم «إنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة» أن غيرهما شاركهما في ذلك، فليتأمل. وفي شرح الروض وهو من أجل كتبنا أن عبد الله بن رواحة وابني عفراء تقاتلا مع أبي جهل مبارزة وأنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك وأقره؛ وجعلوا ذلك دليلا على إباحة مبارزة القوي لكافر لم يطلب المبارزة.

أي وأما ما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم لحمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث بمبارزة عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة فذاك لكافر طلب المبارزة فقد تقدم أن عتبة خرج بين أخيه شيبة وولده الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، وأنه خرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة إخوة أشقاء وهم: معاذ ومعوذّ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبد الله بن رواحة، فلم يرضوا بمبارزتهم، فعند ذلك أمر صلى الله عليه وسلم من ذكر بمبارزتهم، وعندي أن ما ذكره في شرح الروض من مبارزة عبد الله بن رواحة وابني عفراء لأبي جهل، ذكر أبي جهل اشتباه، وإنما هو لهؤلاء الثلاثة ولم تقع منهم مقاتلة، وكيف يبارز ثلاثة واحدا؟ فليتأمل. وجاء في الحديث «إن الله قتل فرعون هذه الأمة أبا جهل، فالحمد لله الذي صدق وعده، ونصر دينه» والله أعلم. وكان على الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، أي إلا جبريل فإنه كان عليه عمامة صفراء، أي وقيل حمراء. قال بعضهم: وكان بعضهم بعمائم خضر وبعضهم بعمائم صفر، وبعضهم بعمائم حمر أي وبعضهم بعمائم بيض، وبعضهم بعمائم سود، فلا منافاة. وذكر أن عمامة جبريل عليه السلام يوم أغرق فرعون كانت سوداء، قال وفي رواية «سيماهم عمائم سود» وعند ابن مسعود رضي الله عنه «كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر» اهـ أي وبيض وسود. وفي كلام بعضهم: نزلت الملائكة يوم بدر بعمائم صفر، ورواية بيض وسود ضعيفة. وفي كلام ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل، فإنه كان عليه عمامة صفراء من نور» أي وكانوا يوم أحد بعمائم حمر ويوم حنين كذلك» . في الجامع الصغير «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم أحد عمائم حمر» وما ذكر لا ينافي ما قيل سيماهم ببدر عمائم صفر قد أرخوها بين أكتافهم. وما جاء «كان على الزبير رضي الله عنه ببدر عمامة صفراء معتجرا بها، فقال صلى الله عليه وسلم: نزلت الملائكة عليّ بسيماء أبي عبد الله» يعني الزبير رضي الله عنه، لجواز أن يكون أكثرهم كان بعمائم صفر. وقد ذكر أن الزبير رضي الله عنه قاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى كان الرجل يدخل يده في الجراح في ظهره وعاتقه. وقد سئل الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ

آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: الآية 125] ما السمة التي كانت عليهم؟ فأجاب بأن ابن أبي حاتم ذكر في تفسيره بأسانيد عن علي كرم الله وجهه أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها. وعن مكحول وغيره أنها العمائم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، وفي سنده رجل ضعيف. وعنه أيضا عمائم سود، وفي سنده متروك، ثم قال: ورواية البيض والسود ضعيفة هذا كلامه، أي وعلى تقدير صحتها يجاب بما قدمنا. وكان شعار الأنصار: أي علامتهم التي يتعارفون بها في ذلك إذا جاء الليل أو وقع اختلاط «أحد أحد» أي وشعار المهاجرين يومئذ «يا بني عبد الرحمن» . أي وعن زيد بن علي قال: كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم أي المهاجرين أو هو حتى لا يشتبه بغيره «يا منصور أمت» ويقال «أحد أحد» وشعار الخزرج «يا بني عبد الله» وشعار الأوس «يا بني عبيد الله» . وعن ابن سعد يقال كان شعار الجميع يومئذ «يا منصور أمت» . أي وقد يقال: لا منافاة بين هذه الرواية وما قبلها من الروايات، لأن المراد بالجميع المجموع، لكن يحتاج إلى الجمع بين تلك الروايات السابقة على تقدير صحتها وكانت خيل الملائكة بلقا. وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان سيما الملائكة: أي سيما خيلهم يوم بدر الصوف الأبيض، أي وفي لفظ: بالعهن الأحمر في نواصي الخيل وأذنابها. أي ولا منافاة، لجواز أن يكون بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم «سوّموا خيلكم فإن الملائكة قد سومت» فهو أول يوم وضع فيه الصوف أي في نواصي الخيل وأذنابها، ولم أقف على لون الصوف الذي وضع في ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال «حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة» أي الغلبة «فننهب مع من ينهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: اقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه» أي غشاؤه «فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت» وأقدم بضم الدال من التقدم: كلمة يزجر بها الخيل، وحيزوم بالميم وربما قيل بالنون اسم فرس جبريل، ولعلها هي الحياة وأحدهما اسم لها والآخر لقب، وقيل لها الحياة لأنها ما مسها شيء إلا صار حيا وهي التي قبض من أثرها أي من تراب حافرها السامري، نسبة إلى سامر، قرية أو طائفة: ما ألقاه في العجل الذي

صاغه من حلي القبط فكان له خوار: أي صوت، فكان إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا، قال في النهر: الظاهر أنه قامت به الحياة. وقيل لما صنعه السامري أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في تجويفه أنا بيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر له صوت يشبه الخوار. وفي كلام بعضهم: فرس جبريل التي هي حيزوم كان صهيله التسبيح والتقديس، وإذا نزل عليها جبريل عليه السلام علمت الملائكة أن نزوله للرحمة، وإذا نزل منشور الأجنحة علمت أن نزوله للعذاب، أي وحينئذ فنزول جبريل عليه السلام عليها يوم بدر كان لرحمة المسلمين، وإن كان عذابا على الكافرين، ويكون نزوله لا عليها بل منشور الأجنحة إذا كان لمحض العذاب. ويحتمل أن يكون حيزوم غير فرس الحياة، وإليه ذهب السهيلي رحمه الله، فقال: والحياة أيضا فرس لجبريل عليه السلام. قال الحافظ ابن حجر: ومن الأخبار الواهية أن الموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أثنى، أي خطوتها- كما في العرائس- مدّ البصر، وهي التي كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها أي كلهم كما في العرائس، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي. هذا، وفي أثر مرسل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم؟ فقال جبريل عليه السلام: يا محمد ما كل أهل السماء أعرف. قال ابن كثير: وهذا الأثر يردّ قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل عليه السلام، أي وفيه أنه لا يبعد أن يقول أحد من الملائكة لفرس جبريل اقدم حيزوم، ولا يعرف ذلك القائل، وكأنّ الحافظ ابن كثير رحمه الله فهم من قوله صلى الله عليه وسلم من القائل الخ، أن ذلك الفرس لذلك القائل، نعم إن كان هذا الأثر وقع بعد الرواية التي تلي هذه وهي جاءت سحابة الخ، أو أن ذلك الأثر سقط من لفظة لفرسه، والأصل من القائل يوم بدر من الملائكة لفرسه، اتجه ما فهمه ابن كثير رحمه الله فليتأمل، قال: وفي رواية «جاءت سحابة فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: اقدم حيزوم، فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت سحابة أخرى نزل منها رجال كانوا على ميسرته، فإذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت» ومن ثم ذكر في الصحابة. وفي النور: هذا الرجل مذكور في الصحابة، وليس في الحديث أي الرواية الأولى ما يدل على إسلامه إلا أن تحديثه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم يشعر بإسلامه هذا كلامه.

وفيه أن قوله ونحن مشركان يدل على أنه كان مسلما عند تحديثه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن الغمام الذي ظلل بني إسرائيل في التيه هو الذي يأتي الله تعالى فيه يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. أي وعن علي رضي الله تعالى عنه «هبت ريح شديدة ما رأيت مثلها قط ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، فكانت الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة» أي لعلها أمامه أخذا من قوله «وكانت الثانية ميكائيل، نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي ذلك سكوت عن الرابعة، أي زاد في الإمتاع «وكان إسرافيل وسط الصف لا يقاتل كما يقاتل غيره من الملائكة» . وظاهر هذا أن كلا من جبريل وميكائيل قاتل، وتقدم أنهم في هذه الغزاة التي هي غزاة بدر قيل لم يمدوا إلا بألف من الملائكة، ورواية ألفين ضعيفة جاءت عن علي رضي الله تعالى عنه، فتكون هذه الرواية التي جاءت عن علي أيضا كذلك، ولا نظر لما تقدم عن بعضهم أن إمدادهم يوم بدر بثلاثة آلاف أولا، وأنهم وعدوا أن يمدوا بخمسة آلاف إن ثبتوا وصبروا وهو ما عليه الأكثر، لما علمت أن ذلك إنما كان في أحد، وسيأتي ذلك مع زيادة. قال بعضهم: ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر، أي وفي غيره يكونون مددا من غير مقاتلة، وسيأتي أنهم قاتلوا يوم أحد ويوم حنين. ففي مسلم عن سعد بن أبي وقاص «أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام، يقاتلان كأشد القتال» . قال الإمام النووي رحمه الله: فيه أن قتال الملائكة لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب، خلافا لمن زعم اختصاصه، فإن هذا صريح في الرد عليه. أقول: يمكن الجمع بأن المختص ببدر قتال الملائكة عنه وعن أصحابه، وفي غيره كان عنه صلى الله عليه وسلم خاصته، فلا منافاة؛ ثم رأيتني ذكرت هذا الجمع في غزوة أحد عن البيهقي، وتعقبته بما جاء أن الملائكة قاتلت في ذلك اليوم عن عبد الرحمن بن عوف. وعلى تسليم ورود ذلك فيه أنهم لو قاتلوا يوم أحد لظهر أثر قتلهم كما ظهر في يوم بدر.

وقد يقال: مرادهم بالمقاتلة يوم أحد المدافعة من غير أن يوقعوا فعلا، وفي يوم بدر المراد بالمقاتلة إيقاع الفعل، والله أعلم. وانكسر سيف عكاشة بتشديد الكاف أكثر من تخفيفها- ابن محصن وهو يقاتل به فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب: أي أصلا من أصول الحطب وقال له قاتل بهذا يا عكاشة، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه فعاد في يده سيفا، طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به رضي الله عنه حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون. ثم لم يزل عند عكاشة وشهد به المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم يزل متوارثا عند آل عكاشة. وعكاشة، مأخوذ من عكش على القوم: إذا حمل عليهم، والعكاشة: العنكبوت، وسيأتي مثل ذلك في أحد لعبد الله بن جحش. وانكسر سيف سلمة بن أسلم رضي الله عنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده: أي عرجونا من عراجين النخل وقال: اضرب به، فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده. قال: وعن خبيب بن عبد الرحمن قال «ضرب خبيب جدي يوم بدر فمال شقه، فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمه ورده فانطبق» . وعن رفاعة بن مالك رضي الله عنه قال «لما كان يوم بدر رميت بسهم ففقئت عيني، فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي، فما آذاني منها شيء» اهـ. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وجودها؟ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر يقول: هذا مصرع عتبة بن ربيعة، وهذا مصرع شيبة بن ربيعة، وهذا مصرع أمية بن خلف، وهذا مصرع أبي جهل بن هشام، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى، أي ويضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على الأرض، فما تنحى أحدهم عن موضع يده» كما تقدم عن أنس، وتقدم عنه أن ذلك كان ليلة بدر بعد أن وصل إلى محل الوقعة، إذ لا يتصور وضع يده على الأرض إلا إذا كان بمحل الوقعة. وبه يعلم ما ذكره بعضهم أن إخباره صلى الله عليه وسلم بمصارع القوم تكرر منه مرتين قبل الوقعة بيوم أو أكثر ويوم الوقعة، هذا كلامه، إلا أن يقال قوله يوم الوقعة هو بناء على أنه صلى الله عليه وسلم وصل بدرا في النهار. والقول بأن ذلك كان ليلا بناء على أنه وصل بدرا ليلا. ومعلوم أنه إنما وضع يده في محل الوقعة. ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا فطرحوا في القليب، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه

انتفخ في درعه فملأه فذهبوا ليحركوه فتزايل: أي تقطعت أوصاله فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة. وهذا دليل على أن الحربي لا يجب دفنه، وبه قال أئمتنا، بل قالوا: يجوز إغراء الكلاب على جيفته. وفي سنن الدارقطني «كان من سنته صلى الله عليه وسلم في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا» أي ولكثرة جيف الكفار كره صلى الله عليه وسلم أن يشق على أصحابه أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر، وكان الحافر لهذا القليب رجل من بني النجار، فكان فألا مقدما لهم ذكره السهيلي. «ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة رضي الله عنه في القليب تغير وجه أبي حذيفة ففطن» بفتح الطاء «له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: لعلك دخلك من شأن أبيك شيء، فقال: لا والله، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام، فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيرا» . أقول: وذكر فقهاؤنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه في هذه الغزاة وقد أراد ذلك، والله أعلم. «ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على شفير القليب» أي قيل بعد ثلاثة أيام من إلقائهم في القليب وذلك ليلا، أي وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه «كان صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان اليوم الثالث أمر صلى الله عليه وسلم براحلته فشدّ عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركي» أي وهو القليب «وجعل يقول: يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا» . وجاء في بعض الطرق نداؤهم بأسمائهم، فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام» وهذا يقتضي أنه في تلك الرواية نطق بلفظ يا فلان ابن فلان ولا يخفى بعده فليتأمل. واعترض بأن أمية بن خلف لم يكن من أهل القليب لما علمته. وأجيب بأنه كان قريبا من القليب «بئس عشيرة النبي، كنتم كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها. وفي رواية أجسادا قد أجيفوا. وفي لفظ: قد جيفوا، فقال: صلى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع، وفي رواية: لأسمع لما أقول منهم، وفي رواية: لقد سمعوا ما قلت غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا» .

وعن قتادة رضي الله عنه أحياهم الله تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم توبيخا لهم وتصغيرا ونقمة وحسرة. أقول: والمراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا للغرض المذكور؛ لأن الروح بعد مفارقة جسدها يصير لها تعلق به، أو بما يبقى منه ولو عجب الذنب فإنه لا يفنى وإن اضمحل الجسم بأكل التراب، أو بأكل السباع أو الطير أو النار، وبواسطة ذلك التعلق يعرف الميت من يزوره ويأنس به ويردّ سلامه إذا سلم عليه كما ثبت في الأحاديث. والغالب أن هذا التعلق لا يصير الميت به حيا كحياته في الدنيا، بل يصير كالمتوسط بين الحي والميت الذي لا تعلق لروحه بجسده، وقد يقوى حتى يصير كالحي في الدنيا، ولعله مع ذلك لا يكون فيه القدرة على الأفعال الاختيارية، فلا يخالف ما حكي عن السعد اتفقوا على أنه تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية هذا كلامه، والكلام في غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء رضي الله عنهم: أي شهداء المعركة، أما هما فتعلق أرواحهم بأجسادهم تصير به أجسادهم حية كحياتها في الدنيا ويكون لهم القدرة والأفعال الاختيارية. فقد روى البيهقي رحمه الله في الجزء الذي ألفه في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون «وجاء» إن علمي بعد موتي كعلمي في الحياة» . وروى أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «لينزلن عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم إن قام على قبري وقال: يا محمد لأجبته» ومن ثم قال الإمام السبكي: حياة الأنبياء والشهداء كحياتهم في الدنيا، ويشهد له صلاة موسى عليه السلام في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدا حيا، وكذا الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء كلها صفات الأجسام. ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب، وأما الادراكات كالعلم والسمع فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى، هذا كلامه وسائر الموتى شامل للكفار، أي وأكل الشهداء وشربهم في البرزخ لا عن احتياج بل لمجرد الإكرام، وكون الشهداء اختصوا بذلك دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا مانع منه، لأن المفضول قد يخص بما لا يوجد في الفاضل، ألا ترى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شرعت الصلاة عليهم وجوبا وحرمت على الشهداء، وبهذا يردّ قول بعضهم في الاستدلال على حياة الأنبياء بقوله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران: الآية 169] والأنبياء أولى بذلك لأنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين

النبوة ووصف الشهادة، فيدخلون في عموم لفظ الآية، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته «لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر فهذا أو ان انقطاع أبهري من ذلك السم» فثبت كونه صلى الله عليه وسلم حيا في قبره بنص القرآن، إما من عزم اللفظ أو من مفهوم الموافقة. ووجه رده أن الأولوية قد تمنع بل أصل القياس، لما علمت أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وإن جمعوا بين النبوة والشهادة، إلا أن المراد في الآية شهداء المعركة لا مطلق الشهادة، إذ شهادة المعركة لم تحصل لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ثم لا يخفى أن الذي ثبت حياة الأنبياء وصلاتهم في قبورهم وحجهم، وأما صومهم وأكلهم وشربهم في ذلك فلم أقف على ما يدل على ذلك في شيء من الأحاديث والآثار، وقياسهم في ذلك على الشهداء علمت أنه قد يمنع لما أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. والذي يدل على أنهم يحجون ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد، فقال: أيّ واد هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق، فقال صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام واضعا أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية مارا بهذا الوادي، ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى يونس عليه الصلاة والسلام على ناقة حمراء عليه جبة صوف مارا بهذا الوادي ملبيا» وقد جاء في موسى عليه السلام «أنه كان على بعير» وفي رواية «على ثور» ولا منافاة لجواز أن يكون تكرر حجه أو ركب البعير مرة والثور أخرى. ولا يخفى أن رزق الشهداء يصدق على الجماع، لأنه مما يتلذذ به كالأكل والشرب. ثم رأيت سيدي أبا المواهب الشاذلي رحمه الله ونفعنا ببركاته، قال في كتابه المسمى «بعنوان أهل السر المصون في كشف عورات أهل المجون» وأخبر سبحانه عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وحمله أهل العلم على الحقيقة وأنهم يأكلون ويشربون وينكحون حقيقة، وقائل غير هذا أي أن الأكل والشرب عبارة عن لذة تحصل لهم كاللذة الناشئة عن الأكل والشرب والنكاح صرف هذه الآية عن ظاهرها من غير ضرورة تلجىء إلى ذلك، ثم قاس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الشهداء في ذلك، لما تقدم من أنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة والشهادة. وقد علمت جواب من منع القياس. ثم رأيت عن إفتاء شيخنا الشمس الرملي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والشهداء رضي الله عنهم يأكلون في قبورهم ويشربون ويصلون ويصومون ويحجون. ورفع الخلاف هل ينكحون؟ فقيل نعم. وقيل لا، وأنهم يثابون على صلاتهم

وصومهم وحجهم، ولا تكليف عليهم في ذلك لانقطاع التكليف بالموت، بل من قبيل التكرمة ووقع الدرجات هذا كلامه، ولعل مستنده في إثبات ما عدا الصلاة والحج للأنبياء قياسهم على الشهداء، وقد علمت ما فيه وإثبات الخلاف الذي ذكره شيخنا في نكاح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا أدري هل هو خلاف أهل عصره أو من تقدمهم. على أن إثبات النكاح للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ربما يبعده ما ذكروه في حكمة قوله صلى الله عليه وسلم «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب» حيث لم يقل من دنياي ولا من الدنيا، فإنه أشار بهذه الإضافة إلى أن النساء والطيب من دنيا الناس لأنهم يقصدونهما للاستلذاذ وحظوظ النفس، وهو عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك. وإنما حبب إليه النساء لينقلن عنه محاسنه ومعجزاته الباطنة والأحكام السرية التي لا يطلع عليها غالبا غيرهن وغير ذلك من الفوائد الدينية. وحبب إليه الطيب لملاقاته للملائكة، لأنهم يحبونه ويكرهون الريح الخبيث، لأن حقيقة الإكرام أن يحصل له في البرزخ ما كان يلتذ به في الدنيا، ليكون حاله فيه كحاله في الدنيا. وفيه أن الحكمة المذكورة لا تناسب قوله صلى الله عليه وسلم «فضلت على الناس بأربع وعدّ منها كثرة الجماع» وهم كغيرهم في هذا التعلق متفاوتون بحسب مقاماتهم، وإنه يعبر عن قوة هذا التعلق بعود الحياة، ومنه ما ذكر عن قتادة وتعود الروح، ومنه قول بعضهم: أرواح الأنبياء والشهداء بعد خروجها من أجسادها تعود إلى تلك الأجسام في القبر، وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي. ومن ثم قال ابن العربي رحمه الله تعالى: رؤية المصطفى عليه الصلاة والسلام بصفته العلوية إدراك له على الحقيقة، وعلى غير صفته العلوية إدراك للمثال ويعبر عنه بردها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله تعالى عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» أي إلا قوي تعلق روحي، وذلك إكراما لهذا المسلم حيث لا يردّ عليه سلامه إلا وقد قوي تعلق روحه الشريفة بجسده الشريف، والروح بناء على أنها غير عرض مع كونها في مقاماتها لها تعلق بجسدها وبما يبقى منه كما تقدم، كالشمس في السماء الرابعة ولها تعلق بالأرض، وربما عبر عن ضعف هذا التعلق بصعودها وطلوعها، وبناء على أنها عرض تزول ويعود مثلها، وقد أوضحت ذلك في «النفحة العلوية في الأجوبة الحلبية عن الأسئلة القروية» وهي أسئلة سئلت عنها من بعض أهل

القرى المصرية، وذكرت أن هذا أولى مما أطال به الجلال السيوطي من الأجوبة مع ما فيها مما لا يخفى. ورأيت في حديث عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن لله ملكا أعطاه سمع العباد كلهم، وإنه ما من أحد يصلي عليّ صلاة إلا بلغنيها، وإني سألت ربي عز وجل أن لا يصلي عليّ أحد صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرة أمثالها» وذكر الحافظ الذهبي أن راوي هذا الحديث تفرد به متنا وإسنادا والله أعلم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أنكرت قوله صلى الله عليه وسلم لقد سمعوا ما قلت وقالت، إنما قال لقد علموا أن الذي كنت أقول حق، وقالت: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أي بقوله في حق أهل القليب «ما أنتم بأسمع منهم» أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم هو الحق، أي لا أنهم يسمعون ما أقول بحاسة سمعهم التي كانت موجودة في الدنيا، ثم قرأت أي محتجة على ذلك قوله تعالى إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النّمل: الآية 80] الآية، وبقوله وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: الآية 22] . ويجاب بأنه لا مانع من إبقاء السمع هنا على حقيقته، لأنه إذا قوي تعلق أرواح هؤلاء الكفار بأجسادهم بحيث صاروا أحياء كحياتهم في الدنيا للغرض المذكور لا مانع من سماعهم بحاسة سمعهم لبقاء محل تلك الحاسة منهم، كما أن الجسد بذلك التعلق يقوى على الجلوس للسؤال في القبر والسماع المنفي في الآيتين بمعنى السماع النافع، وقد أشار إلى ذلك الجلال السيوطي رحمه الله بقوله نظما: سماع موتى كلام الخلق قاطبة ... جاءت به عندنا الآثار في الكتب وآية النفي معناها سماع هدى ... لا يقبلون ولا يصغون للأدب لأنه تعالى شبه الكفار الأحياء بالأموات في القبور في أنهم لا ينتفعون بالدعاء إلى الإسلام النافع. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بشيرا لأهل العالية: أي وهي محل قريب من المدينة على عدة أميال، وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بها راكبا ناقته القصوى، وقيل العضباء بما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فجعل عبد الله بن رواحة ينادي في أهل العالية: يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم، ونادى زيد بن حارثة في أهل السافلة بمثل ذلك، أي ويقولان: قتل فلان وفلان، أي وأسر فلان وفلان من أشراف قريش، وصار عدو الله كعب بن الأشرف يكذبهما ويقول: إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها، قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما فأتانا الخبر حين سوّينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ولما عزي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحمد لله دفن

البنات من المكرمات» وفي رواية «من المكرمات دفن البنات» ويعجبني قول الباخرزي رحمه الله تعالى: القبر أخفى سترة للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات أما رأيت الله عز اسمه ... قد وضع النعش بجنب البنات وجاء عثمان رضي الله عنه من رقية هذه بولد يقال له عبد الله فاكتنى به؛ وكان قبل ذلك يكنى أبا عمرو، وتزوج بعدها أختها أم كلثوم بوحي. فقد روي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى عثمان بن عفان مهموما بعد موت رقية رضي الله عنها، فقال له: ما لي أراك لهفانا مهموما، فقال له: يا رسول الله وهل دخل علي أحد ما دخل عليّ انقطع الصهر بيني وبينك، فبينما هو يحاوره إذ قال صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل عليه السلام يأمرني عن الله عز وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عشرتها، فزوجه إياها، ولما تزوجها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بنية أين أبو عمرو؟ قالت: خرج لبعض حاجاته قال: كيف رأيت بعلك؟ قالت: يا أبت خير بعل وأفضله، فقال: يا بنية كيف لا يكون كذلك وهو أشبه الناس بجدك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وأبيك محمد» وجاء «عثمان من أشبه أصحابي بي خلقا» وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال لي جبريل عليه السلام: إن أردت أن تنظر من أهل الأرض شبيه يوسف الصديق فانظر إلى عثمان بن عفان» ولتزوجه ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذو النورين، ولم يجمع أحد منذ آدم إلى اليوم بين بنتي نبي غيره رضي الله عنه، ومن ثم لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عنه قال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين. ولما ماتت أم كلثوم تحته وذلك سنة تسع قال صلى الله عليه وسلم «زوجوا عثمان، لو كان لي ثالثة لزوجته إياها، وما زوجته إلا بوحي من الله» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال له «لو أن لي أربعين بنتا زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة» وأم عثمان بنت عمته صلى الله عليه وسلم أروى بنت عبد المطلب، توأمة عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وقال رجل من المنافقين لأبي لبابة رضي الله عنه: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده أبدا، قد قتل محمد وغالب أصحابه، وهذه ناقتة عليها زيد بن حارثة لا يدري ما يقول من الرعب، قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبي لبابة وسألته عما أسره له الرجل، فأخبرني بما أخبره، به، فقلت: أحق ما تقول، قال: أي والله حق ما أقول يا بني، فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق، فقلت: أنت المرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم لنقدمنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم فيضرب عنقك، فقال: إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه، انتهى. أي وهذا كان قبل أن يجتمع أسامة بأبيه زيد بن حارثة.

ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل، أي الغنيمة، وكانت مائة وخمسين من الإبل، وعشرة أفراس ومتاعا وسلاحا وأنطاعا وثيابا وأدما كثيرا حمله المشركون للتجارة، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له» أي كما تقدم، ولعله تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة للتحريض على القتال، ومرة عند القسمة، فالمقسوم ما بقي بعد إخراج السلب وإخراج الأسرى قسم على المسلمين بالسوية بعد الاختلاف فيه، فادّعى من قاتل العد وصده أنهم أحق به، وادعى من جمعه أنهم أحق به، وادعى من كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش أن غيرهم ليس بأحق به منهم، أي لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه قام على باب العريش الذي به صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في نفر من الأنصار، وفي رواية عن عبادة بن الصامت «أن جماعة خرجت في أثر العدّ وعند انهزامه، وجماعة أكبوا على جمع الغنيمة فجمعوها، وجماعة عند انهزام العدو أحدقوا به صلى الله عليه وسلم في العريش خوفا أن يصيب العدّو منه غرة ولعل هؤلاء كانوا زيادة عمن كان مع سعد بن معاذ على باب العريش؛ فادعى من أكب على جمعها أنهم أحق بها، وادعى من عداهم أن أولئك ليسوا بأحق بها منهم» . أي وكون جماعة أحدقوا به صلى الله عليه وسلم بعد انهزام العدوّ، قد يقال: لا ينافي ذلك ما تقدم عن ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم بالسيف مصلتا يتلو هذه الآية سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: الآية 45] لجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم خرج في أثرهم برهة من الزمان، ثم عاد إلى العريش فأحدق به هؤلاء مع من تقدم، فأنزل الله تعالى سورة الأنفال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: الآية 1] . فالنفل قد يطلق على الغنيمة كما هنا كما أشرنا إليه، وسماها الله تعالى أنفالا لأنها زيادة في أموال المسلمين، وكذا الفيء المذكور في سورة الحشر التي نزلت في غزوة بني النضير يطلق على الغنيمة وسمي فيئا لأن الله تعالى أفاءه على المؤمنين: أي رده عليهم من الكفار، فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، فقد رد إليهم ما يستحقونه كما يعاد، ويرد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يقبضه قبل ذلك. ومنه قول بعضهم: كان أهل الفيء بمعزل عن أهل الصدقة، وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء، كان يعطي من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفيء أي إلى الغنيمة، وأخرج من الصدقة فنزعه الله من أيديهم، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي يضعه حيث شاء فدلت الآية على أن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد من المقاتلة شيء منها، ثم نسخت هذه الآية بقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَ

لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال: الآية 41] والأربعة أخماس الباقية للمقاتلة، أي فكان ذلك الخمس يخمس خمسة أخماس: واحد له صلى الله عليه وسلم يفعل فيه ما أحب، والأربعة من ذلك الخمس لمن ذكر في الآية، والأربعة الأخماس الباقية تكون للمقاتلة. وسيأتي في سرية عبد الله بن جحش لنخلة «أنه صلى الله عليه وسلم خمس العير الذي جاء به عبد الله كذلك، فجعل خمس ذلك لله، وأربعة أخماسه للجيش» وقيل عبد الله هو الذي خمسها كذلك، وأقرّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهي أول غنيمة في الإسلام وأوّل غنيمة خمست، فكان تخميسها قبل نزول الآية، لما علمت أن نزول تلك الآية كان بعد بدر فهي من الآيات التي تأخرت تلاوتها عن حكمها، قال بعضهم: وكان ابتداء تحليل الغنائم لهذه الأمة في وقعة بدر كما ثبت في الصحيحين، وذلك في قوله تعالى فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال: الآية 69] فأحل الغنيمة لهم. أقول: وفيه أن هذا قد يعين القول بأنه صلى الله عليه وسلم وقف غنائم نخلة حتى رجع من بدر، ويضعف ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم خمسها، أو أن عبد الله هو الذي خمسها قبل بدر، وأقرّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد علمت أن ما أصابه من بدر قسمة بين المسلمين سواء أي لم يتميز فيه أحد عن أحد، الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس سواء، وفيه تفضيل الفارس على الراجل في ذلك اليوم، وسيأتي التصريح بذلك، وهذا يؤيد القول بأن الجيش كان فيه خمسة أفراس أو فرسان، دون القول بأنه لم يكن فيه إلا فرس واحد على ما تقدم، حتى هو صلى الله عليه وسلم كان سهمه كسهم واحد منهم، أي كفارس منهم بناء على ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان له فرسان إلا ما اصطفاه وهو سيفه ذو الفقار كما سيأتي، وحينئذ يكون قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يغيظهم مثل ما تعطي الضعيف» أراد بالفارس فيه القوي. ففي مسند الإمام أحمد، قال سعد بن أبي وقاص «قلت: يا رسول الله الرجل يكون حاجته للقوم يكون سهمه وسهم غيره سواء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثكلتك أمك، وهل تنصرون إلا بضعفائكم» وما في مسند الإمام أحمد يدل على أن مراد سعد بالفارس القوي لمقابلته في هذه الرواية بالضعيف، فلا ينافي أنه أعطى الفارس لفرسه سهمين وله سهم كالراجل. وقد أسهم لمن لم يحضر، كمن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخلف لعذر منعه من الحضور كعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فإنه صلى الله عليه وسلم خلفه لأجل مرض زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، أو لما كان به رضي الله تعالى عنه من الجدري على ما تقدم، ولهذا عدّ من البدريين، وأبي لبابة لأنه صلى الله عليه وسلم خلفه على أهل المدينة، وعاصم بن عدي فإنه خلفه على أهل قباء والعالية، ولمن أرسله لكشف أمر العدوّ يتجسس خبره فلم

يجىء إلا وقد انقضى القتال، وهما طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد كما تقدم، والحارث بن حاطب، أمره بما مر في بني عمرو بن عوف وخوات بن جبير والحارث بن الصمة لأن كلا منهما كسر بالروحاء كما تقدم. وبهذا يظهر التوقف في قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وضرب لعثمان رضي الله تعالى عنه يوم بدر بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره، رواه أبو داود عن ابن عمر قال الخطابي: هذا خاص بعثمان، لأنه كان يمرّض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا كلامه. وأسهم صلى الله عليه وسلم لأربعة عشر رجلا قتلوا ببدر، ولعلهم ماتوا بعد انقضاء الحرب، فلا يشكل على ما قاله فقهاؤنا أن من مات قبل انقضاء الحرب لا حق له. وتنفل صلى الله عليه وسلم زيادة على سهمه سيفه ذا الفقار؛ أي وكان لمنبه بن الحجاج أي وقيل لابنه العاص قتل أيضا يوم بدر، وقيل كان لعمه نبيه، وفي كلام أبي العباس بن تيمية أنه كان لأبي جهل، أي ويمكن أن يكون ذلك السيف كان في الأصل لأبي جهل، ثم أعطاه لمنبه بن الحجاج أو لغيره ممن ذكر لا يقال أو بالعكس، لأن سيف أبي جهل أخذه ابن مسعود كما تقدم فلا مخالفة. وتنفل أيضا صلى الله عليه وسلم جمل أبي جهل وكان مهريا، ولم يزل يغزو عليه حتى ساقه في هدي الحديبية كما سيأتي، وهذا الذي كان يأخذه زيادة على سهمه أي قبل قسمة الغنيمة إذا كان صلى الله عليه وسلم مع الجيش يقال له الصفي والصفية عبدا أو أمة أو دابة أو سيفا أو درعا، لكن في الإمتاع عن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفي من المغنم حضر أو غاب» قال بعضهم: وهو محسوب من سهمه صلى الله عليه وسلم، وقيل يكون زائدا عليه، إلا أن يقال ذاك الذي وقع فيه الخلاف كان بعد نزوله آية التخميس، وهذا كان قبل ذلك، فلا يخالف ما سبق أن ما أخذه قبل القسمة كان زائدا على سهمه المساوي لسهام القوم، أي وكان في الجاهلية يقال للذي يأخذه الرئيس إذا غزا بالجيش المرباع وهو ربع الغنيمة، ولم يسمع مرباع إلا في الربع دون غيره من الخمس ومما بعده. والصفايا أشياء كان يصطفيها الرئيس لنفسه من خيار ما يغنم، والنشيطة: ما أصابه الجيش في طريقه قبل أن يصل إلى مقصده وكان للرئيس النقيعة أيضا، وهو بعير ينحره قبل القسمة فيطعمه الناس، كذا في شرح الحماسة للتبريزي. قال: وقد سقط في الإسلام النقيعة والنشيطة، وأمر صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه فقتل النضر بن الحارث بالصفراء. أي وفي الإمتاع «أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى النضر وهو أسير، فقال النضر لليسير الذي

بجانبه: محمد والله قاتلي، فإنه نظر إليّ بعينين فيهما الموت، فقال له: والله ما هذا منك إلا رعب، وقال النضر لمصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه: يا مصعب أنت أقرب من هذا إليّ رحما فكلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي يعني المأسورين، هو والله قاتلي، فقال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيه صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وكنت تعذب أصحابه. وفي أسباب النزول للسيوطي وأقره، وكان المقداد رضي الله تعالى عنه أسر النضر، فلما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله، قال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول، وقد رثته أخته، وقيل بنته رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت بعد ذلك يوم الفتح فقالت من أبيات: أمحمد يا خير ضنء كريمة والذي رأيته في الحماسة: أمحمد ولأنت ضنء نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق أي له عرق في الكرم، والضنء: الولد ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق وحين سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى أخضل أي بلّ لحيته، وقال لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه، أي لقبول شفاعتها عندي بهذا الشعر، وليس معناه الندم، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا حقا. أي وكان للنضر هذا أخ يقال له النضير بالتصغير وكان أسنّ المهاجرين، وقيل كان من مسلمة الفتح، وربما يدل له أنه صلى الله عليه وسلم أمر له بمائة بعير من غنائم حنين، فجاءه شخص يبشره بذلك، فقال: لا آخذها، فإني أحسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطني ذلك إلا تألفا على الإسلام وما أريد أن أرتشي على الإسلام، فقيل له إنها عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، وأعطى المبشر منها عشرة أبعرة. ثم قتل صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط بعرق الظبية بضم الظاء المعجمة وهي شجرة يستظل بها، قال وحين قدم للقتل: من للصبية يا محمد؟، قال النار. وجاء عن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عقبة لما قدم للقتل نادى: يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم صبرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بكفرك وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وفي لفظ «ببزاقك في وجهي» أي فإن عقبة كان يكثر مجالسته صلى الله عليه وسلم واتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبيّ بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت يا عقبة، قال لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه، فشهدت له الشهادة

وليست في نفسي، فقال وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده صلى الله عليه وسلم ساجدا في دار الندوة ففعل به ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف» كذا في الكشاف، وفي لفظ آخر «بكفرك، وفجورك، وعتوّك على الله ورسوله، وأنزل الله فيه وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ [الفرقان: الآية 27] الآية» . وذكر ابن قتيبة «أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل عقبة، أي وقد قال: يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم! أي وأنا واحد منكم، قال له: يا محمد ناشدتك الله والرحم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنت إلا يهودي من أهل صفورية» وفي رواية «قال له: إنما أنت يهودي من أهل صفورية» أي فليس هو من قريش: أي لا رحم بيني وبينك: أي لأن أمية جد أبيه خرج إلى الشام لما نافر عمه هاشم كما تقدم فأقام بصفورية ووقع على أمة يهودية ولها زوج يهودي من أهل صفورية فولدت له أبا عمرو الذي هو والد أبي معيط على فراش اليهودي فاستلحقه بحكم الجاهلية، ثم قدم به مكة وكناه بأبي عمرو وسماه ذكوان مع أن الولد للفراش، وقيل كان عبدا لأمية فتبناه. فلما مات أمية خلفه على زوجته. ويدل لهذا الثاني ما ذكره بعض المؤرخين أن معاوية رضي الله تعالى عنه سأل رجلا من علماء النسب وفد عليه: كم عمرك؟ قال أربعون ومائتا سنة قال: كيف رأيت الزمان؟ فقال سنيات بلاء، وسنيات رخاء، يهلك والد، ويخلف مولود، فلولا الهالك لامتلأت الدنيا، ولولا المولود لم يبق أحد، فقال له: هل رأيت عبد المطلب؟ قال نعم، أدركته شيخا وسيما متسما جسيما، يحف به عشرة من بنيه كأنهم النجوم، فقال له: هل رأيت أمية بن عبد شمس؟ يعني جده، قال نعم: رأيته أخفش أزرق ذميما، يقوده عبده ذكوان، فقال: ويحك كف، فقد جاء غير ما ذكرت ذاك ابنه. فقال: أنتم تقولون ذلك. والقاتل لعقبة عاصم بن ثابت، وقيل علي رضي الله تعالى عنهما، أي وقيل صلب على الشجرة. أقول: قال محمد بن حبيب الهاشمي: هو أول مصلوب في الإسلام، ورده ابن ابن الجوزي بأن أول من صلب في الإسلام خبيب بن عدي. وقد يقال: لا مخالفة، لأن المراد بالثاني، أول مصلوب من المسلمين، وبالأول أول مصلوب من الكفار. وذكر أن أول من استعمل الصلب فرعون، ولعل المراد به فرعون موسى بن عمران لا فرعون إبراهيم الخليل وهو أول الفراعنة، ولا فرعون يوسف بن يعقوب

وهو ثاني الفراعنة، وفي قول إن فرعون يوسف هذا هو فرعون موسى بمعنى أنه بقي إلى زمن موسى عليه السلام، وكان هلاكه على يده. وفي كلام ابن قتيبة عن سعيد بن جبير ضم طعيمة بن عدي إلى عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، أي لأنه ممن قتل معهما صبرا، وفيه نظر، فقد تقدم أن القاتل له حمزة رضي الله عنه في الحرب وسيأتي في أحد أن قتل حمزة كان سبب قتله لطعيمة المذكور. ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم. أي وروي عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما قدمت إلى المدينة وكنت جائعا استقبلتني امرأة يهودية على رأسها جفنة فيها جدي مشوي، فقالت: الحمد لله يا محمد الذي سلمك كنت نذرت لله إن قدمت المدينة سالما لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكل منه، فأنطق الله الجدي فقال: يا محمد لا تأكلني فإني مسموم» أي بخلاف ما وقع له صلى الله عليه وسلم في خبير، فإنه لم يخبره الذراع بذلك إلا بعد أكله منه كما سيأتي، وسيأتي أنه سأل المرأة عن سبب ذلك وهنا لم يسألها. ولما قدم صلى الله عليه وسلم أي قاربها خرج المسلمون للقائه وتهنتئه بما فتح الله عليه فتلاقوا معه بالروحاء، أي وقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنونا به، فو الله إن لقينا أي ما لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقولة فنحرناها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أولئك الملأ من قريش» أي الأشراف والرؤساء وتلقته الولائد عند دخوله المدينة بالدفوف والولائد جمع وليدة: وهي الصبية والأمة وتلك الولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع وتلقاه أسيد بن الحضير، فقال: الحمد لله الذي أظفرك وأقرّ عينك. «ولما أقبلوا من بدر فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفوا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عليّ، فقالوا: يا رسول الله فقدناك، فقال إن أبا الحسن وجد مغصا في بطنه فتخلفت عليه، ثم لما قدمت الأسارى فرّقهم بين الصحابة وقال: استوصوا بهم خيرا» . وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش ابن عبد عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: قتل عتبة وشيبة وأبو الحكم وأمية وفلان وفلان من أشراف قريش، أي وأسر فلان وفلان فقال صفوان بن أمية وكان يقال له سيد البطحاء، وكان من أفصح قريش لسانا، وكان جالسا في الحجر: والله إن يعقل أي ما يعقل هذا سلوه عني، فسألوه، أي قالوا: ما فعل صفوان، فقال: هو ذاك الجالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.

وعن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب» أي ثم وهبه العباس له صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام عليه في السرايا، وكان العباس رضي الله تعالى عنه أسلم وأسلمت زوجته: أي أم الفضل، قيل إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة كما تقدم، وهي أم أولاده، وهم: عبد الله؛ وعبيد الله، وعبد الرحمن، والفضل، وقثم، ومعبد، وأمّ حبيب. قيل رآها صلى الله عليه وسلم وهي تدب بين يديه فقال: إن بلغت وأنا حي تزوجتها فقبض صلى الله عليه وسلم قبل أن تبلغ قال ابن الجوزي: فليس في الصحابيات من كنيتها أم الفضل إلا زوج العباس، قال أبو رافع: وأسلمت أنا وكنا نكتم الإسلام أي لأن العباس كان يكره خلاف قومه، لأنه كان ذا مال كثير وأكثره متفرق فيهم، أي وسيأتي الجواب عن كونه أسر وأخذ منه الفداء مع كونه مسلما، وسيأتي أنه لم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح. فلما جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر سرّنا ذلك، فو الله إني لجالس إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشر حتى جلس عندنا، فبينا هو جالس إذ قدم أبو سفيان بن الحارث وكان مع قريش في بدر، فقال له أبو لهب: هلمّ إلي عندك الخبر، فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم والله ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فقلت والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة وثاورته: أي وأثبته: أي قام كل للآخر فاحتملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، فقامت أم الفضل إلى عمود وضربته به ضربة في رأسه أثرت شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب سيده، تعني العباس، فقام موليا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رمي بالعدسة: أي ما عاش صحيحا قبل أن يرمى بالعدسة إلا سبع ليال: أي وهي بثرة تشبه العدسة من جنس الطاعون، قتلته، فلم يحفروا له حفيرة ولكن أسندوه إلى الحائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه، أي لأن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقي بعد موته ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه حتى أنتن، فلما خافوا السبة: أي سب الناس لهم في تركه فعلوا به ما ذكر. وفي رواية: حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفيرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها كانت إذ مرت بموضعه، ذلك غطت وجهها» .

أقول: قال في النور: وهذا القبر الذي يرجم خارج باب شبيكة، أي الآن ليس بقبر أبي لهب، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة، وذلك في دولة بني العباس، فإن الناس أصبحوا وجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة فرصدوا للفاعل فمسكوهما بعد أيام، فصلبا في ذلك الموضع، فصار يرجمان إلى الآن، والله أعلم. فلما ظهر الخبر ناحت قريش على قتلاهم أي شهرا، وجزّت النساء شعورهن، وكنّ يأتين بفرس الرجل أو راحلته وتستر بالستور وينحن حولها ويخرجن إلى الأزقة، ثم أشير عليهم أن لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا نبكي قتلانا حتى نأخذ بثأرهم، وتواصوا على ذلك، وكان الأسود بن زمعة بن عبد المطلب أصيب له في بدر ثلاثة، ولداه وولد ولده، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان قد ذهب بصره أي بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليه بذلك، لأنه كما تقدم كان من المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذا رآهم يقول: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على ملك كسرى وقيصر، ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشق عليه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمى، وتقدم ذلك؛ وتقدم سبب عماه. وفي كلام بعضهم كان صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود هذا بأن يعمي الله تعالى بصره ويثكل ولده فاستجاب الله تعالى له سبق العمى إلى بصره أولا، ثم أصيب يوم بدر بمن نعاه من ولده أي وهو زمعة وهو أحد الثلاثة الذين كان يقال لكل واحد منهم زاد الراكب كما تقدم، وأخوه عقيل والحارث فإنهما قتلا كافرين ببدر، فتمت إجابة الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به قد سمع صوت باكية بالليل، فقال لغلامه انظر هل أحل النحب: أي البكاء، هل بكت قريش على قتلاهم لعلي أبكي، فإن جوفي قد احترق، فلما رجع الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فأنشد من أبيات: أتبكي أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود فلا تبكي على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود والسهود بضم السين المهملة: عدم النوم. والبكر: الفتى من الإبل. والجدود: بضم الجيم جمع جد بفتحها، وهو الحظ والسعد، وبعد هذين البيتين بيت آخر وهو: ألا قد ساد بعدهمو رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا يعرض بأبي سفيان فإنه رأس قريش. قال: وقد جاء في بعض الروايات اختلاف الصحابة فيما يفعل بالأسرى لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون في هؤلاء الأسرى إن الله قد مكنكم منهم؟ أي وقد يخالف هذا ما سبق من قوله إن من أسر أسيرا فهو له.

وقد يقال: لا مخالفة لأن معنى كونه له أنه مخير فيه بين قتله وأخذ فدائه، ولعله لا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم. لما أراد قتل النضر قال المقداد رضي الله تعالى عنه وكان أسره: يا رسول الله أسيري، فقال له إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول وفي رواية «استشار صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا» أي وفي رواية «أبا بكر وعمر وعبد الله بن جحش فيما هو الأصلح من الأمرين القتل وأخذ الفداء؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أهلك وقومك» وفي رواية «هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك فيكونون لنا عضدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول يا بن الخطاب؟ قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما أرى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب» وفي لفظ «نسيب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه أي العباس رضي الله تعالى عنه فيضرب عنقه، حتى يعلم أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم» أي وقال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه «نظروا واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس رضي الله تعالى عنه وهو يسمع: ثكلتك رحمك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولم يرد عليهم، فقال بعض الناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال بعض الناس يأخذ بقول ابن رواحة، ولم يقل قائل يأخذ بقول عمر، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدنّ قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة لعله لا ينزل إلا بالرحمة، فلا ينافي أن جبريل ينزل بالرحمة في بعض الأحايين كما تقدم قريبا، ومن ثم جاء في الحديث «أرأف أمتي بأمتي أبو بكر» «ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم حيث يقول فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: الآية 36] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى ابن مريم إذ قال إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) [المائدة: الآية 118] » . قيل إن قوله فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: الآية 118] من مشكلات الفواصل، إذ كان مقتضى الظاهر فإنك أنت الغفور الرحيم. ورد بأن العزيز الذي لا يغلبه أحد ولا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه. والحكيم: هو الذي يضع الشيء في محله. «ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل، نزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى» أي أغلب أحوالك ذلك، فلا ينافي أنه ينزل بالرحمة في بعض

الأوقات كما تقدم «ومثلك في الأنبياء مثل نوح عليه الصلاة والسلام إذ قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: الآية 26] ومثلك في الأنبياء مثل موسى عليه الصلاة والسلام إذ قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) [يونس: الآية 88] » . قال الجلال السيوطي رحمه الله في الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن من أصحابه من يشبه بجبريل وبإبراهيم وبنوح وبموسى وبعيسى وبيوسف وبلقمان الحكيم وبصاحب يس هذا كلامه. وقد علمت أن أبا بكر رضي الله عنه شبه بميكائيل ولم يذكر ميكائيل، ولينظر من شبه من أصحابه بيوسف، ثم رأيتني ذكرت فيما تقدم قريبا أنه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ولينظر من شبه من أصحابه بلقمان الحكيم وبصاحب يس. ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «لو توافقتما ما خالفتكما، فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق» . وقد وقع له صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل ذلك لهما. وقد اختلفا في تولية شخصين أراد صلى الله عليه وسلم تولية أحدهما على بني تميم، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمل فلانا، وقال عمر: يا رسول استعمل فلانا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنكما لو اجتمعتما لأخذت برأيكما ولكنكما اختلفتما عليّ أحيانا، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: الآية 1] الآية؛ واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم مثلك يا أبا بكر الخ على جواز ضرب المثل من القرآن، وهو جائز في غير المزح ولغو الحديث وإلا كره، ونسبة الاختلاف في أسارى بدر لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما لا تخالف ما سبق من نسبته إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لأنه يجوز أن يكونا هما المرادين بالصحابة؛ وعدم ذكر عليّ رضي الله تعالى عنه مع إدخاله في الاستشارة وكذا عبد الله بن جحش على ما تقدم، لأنه يجوز أن يكون وافق أحدهما، أي فقد ذكر ابن رواحة مع عدم إدخاله في الاستشارة. وفي كلام الإمام أحمد رحمه الله «استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: إن الله قد مكّنكم منهم، قال: فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فقال: يا أيها الناس إن الله قد مكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل الفداء، فلما كان الغد غدا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر

يبكيان، فقال يا رسول الله: ما يبكيكما؟» وفي لفظ «ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كاد لمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب» . وفي مسلم والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء» أي للعذاب الذي كاد أن يقع على أصحابك لأجل أخذهم الفداء: أي إرادة أخذه «لقد عرض عليّ عقابهم أدنى» أي أقرب «من هذه الشجرة» لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم «وأنزل الله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) [الأنفال: الآية 67، 68] الآيات» . أقول: قال بعضهم: في هذه الآيات دليل على أنه يجوز الاجتهاد للأنبياء، لأن العتاب الذي في الآيات لا يكون فيما صدر عن وحي ولا يكون فيما كان صوابا، وإذا أخطؤوا لا يتركون عليه بل ينبهون على الصواب. وأجاب ابن السبكي رحمه الله بأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، أي ما كان هذا لنبي غيرك ولا يخفى عليك ما فيه. وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير نبينا صلى الله عليه وسلم يجوز أن يقروا على الخطأ لأن من بعد من يخطىء منهم يبين خطأه بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم لا نبي بعده يبين خطأه فلا يقر على الخطأ. وفيه أن بعد نبينا عليه الصلاة والسلام عيسى عليه الصلاة والسلام أنه يوحى إليه. ونظر بعضهم في وقوع الخطأ من الأنبياء واستمرارهم عليه بأنه غير لائق بمنصب النبوة، لأن وجود من يستدرك الخطأ لا يدفع مقتضيه. وفيه جواز وقوع الخطأ والعمل به قبل مجيء الاستدراك، وتقدم جواز الاجتهاد له مطلقا لا في خصوص الحرب، واستثناء عمر ربما يفيد أن جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وافقوا أبا بكر على أخذ الفداء، وخالفوا عمر مع أنه تقدم قريبا أن سعد بن معاذ كره ذلك قبل عمر، فقد تقدم أن المسلمين لما وضعوا أيديهم يأسرون رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، ومن ثم قال «لو نزل عذاب لم يفلت منه إلا ابن الخطاب وسعد بن معاذ» كما سيأتي. وفيه أن ابن رواحة كرهه بل أشار بإحراقهم بالنار.

وفي الأصل «أن جبريل عليه الصلاة والسلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فقال: إن شئتم أخذتم منهم الفداء ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فجاؤوا أو من جاء منهم أي وهم المعظم فقال: إن هذا جبريل يخبركم بين أن تقدموهم فتقتلوهم، وبين أن تفادوهم ويستشهد قابلا منكم بعدتهم، فقالوا بل نفاديهم فنتقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون وفي لفظ ويستشهد منا عدتهم. فليس في ذلك ما نكره وهو كما ترى، يدل على أن الصحابة وافقوا أبا بكر رضي الله عنهم على أخذ الفداء، ولعل هذا الإخبار بالتخيير كان بعد الاستشارة التي تكلم فيها أبو بكر وعمر، وأن بكاءه صلى الله عليه وسلم كان بعد هذه الاستشارة الثانية، وقول صاحب الهدى بكاؤه صلى الله عليه وسلم وبكاء الصديق رحمة وخشية أن العذاب يعم ولا يصيب من أراد ذلك خاصة يفيد أن الذي أشار بأخذ الفداء طائفة من الصحابة لا كلهم. أقول: وفيه أن هذا يشكل عليه قوله «لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب، وسعد بن معاذ» فإن فيه تصريحا بأن العذاب لو وقع لا يعم وأنه لا يصيب إلا من أشار بالفداء. وفيه أن من أشار بالفداء غاية الأمر أنهم اختاروا غير الأصلح من الأمرين، واختيار غير الأصلح لا يقتضي العذاب، على أن حل أخذ الفداء علم من واقعة عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي، فإنه أسر فيها عثمان بن المغيرة والحكم بن كيسان ولم ينكره الله تعالى، وذلك قبل بدر بأزيد من عام؛ إلا أن يقال أراد الله تعالى تعظيم أمر بدر لكثرة الأسارى فيها مع شدة تصلبهم في مقاتلته صلى الله عليه وسلم. وفي المواهب كلام في الآية المذكورة يتأمل فيه. ورأيت فيها عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أقدم إليه الحجة لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم» . وعن الأعمش سبق منه أنه لا يعذب أحدا شهد بدرا، ومن ثم جاء كما يأتي «أن رجلا قال: يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال له: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] » والله أعلم، ولا ينافي قتل سبعين منهم في قابل: أي في أحد كون بعض الأسارى في بدر مات في الأسر ولم يؤخذ فداؤه، وهو مالك بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله، وكون بعضهم أطلق من غير أخذ فداء، لأن المنكر عدم قتل أولئك السبعين الذي أسروا. قال بعضهم: اتفق أهل العلم بالسير على أن المخاطبين بقوله تعالى أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها [آل عمران: الآية 165] هم أهل أحد: أي قد أصبتم يوم بدر مثلي من استشهد منكم يوم أحد سبعين قتيلا وسبعين أسيرا، والله أعلم.

وتواصت قريش على أن لا يعجلوا في طلب فداء الأسرى لئلاء يتغالى محمد وأصحابه في الفداء، فلم يلتفت لذلك المطلب بن أبي وداعة السهمي، بل خرج من الليل خفية وقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله تعالى عنهم لما رأى أبا وداعة أسيرا: إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه، أي فكان أول أسير فدي، واسم أبي وداعة الحارث وذكر في الصحابة. قال الزبير بن كبار: زعموا أنه كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة. أي والمشهور أن شريكه صلى الله عليه وسلم إنما هو السائب بن أبي السائب الذي قال في حقه، وقد أسلم يوم الفتح وقد جعل الناس يثنون عليه «أنا أعلمكم به هذا شريكي نعم الشريك كان لا يداري، ولا يماري» وفي رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم «أنا أعلمكم به قال: صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكك فنعم الشريك، لا تداري ولا تماري» وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى، وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف، ومن لم يكن معه فداء أي وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة، فإذا تعلموا كان ذلك فداءه. وجاء جبير بن مطعم وهو كافر: أي إلى المدينة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: في أسارى بدر فقال له صلى الله عليه وسلم «لو كان شيخك أو الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه» وفي رواية «لو كان مطعم حيا وكلمني في هؤلاء النفر» وفي رواية «في هؤلاء النفر» وفي رواية «في هؤلاء النتنى لتركتهم له» لأن المطعم كان أجار النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من الطائف، وكان ممن سعى في نقض الصحيفة كما تقدم ذلك. وكان من جملة الأسارى عمرو بن أبي سفيان بن حرب أخو معاوية: أي أسره عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقيل لأبي سفيان افد عمرا ابنك، قال: أيجمع عليّ دمي ومالي، قتلوا حنظلة يعني ابنه، وهو شقيق أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وأفدي عمرا دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم، فبينما أبو سفيان إذ وجد سعد بن النعمان أخا بني عمرو بن عوف أي قد وفد من المدينة معتمرا فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو، فمضى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبر سعد بن النعمان، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكون به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد أي ولم يذكر عمرو هذا فيمن أسلم من الأسارى، والظاهر أنه مات على شركه. وكان في الأسارى زوج بنت النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وهو أبو العاص بن الربيّع بكسر الموحدة وتشديد الياء مفتوحة. قال في الأصل: ختن

رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بناء على ما تقوله العامة أن ختن الرجل زوج ابنته والمعروف لغة أن ختن الرجل أقارب زوجته مثل أبيها وأخيها، ومع ذلك لا ينبغي أن يقال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ختن أبي العاص ولا ختن عليّ لإيهامه النقص. وفي حفظي أن عند المالكية من قال عنه صلى الله عليه وسلم يتيم أبي طالب وختن حيدرة كان مرتدا. وفي عبارة أو بدل الواو، ورواية أو مبينة للمراد من رواية الواو وأن ما أفهمته من اعتبار الجمعية ليس مرادا، وحيدرة: اسم عليّ رضي الله تعالى عنه، وأبو العاص أسلم بعد ذلك كما سيأتي، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأبو ولدها عليّ الذي أردفه صلى الله عليه وسلم خلفه يوم فتح مكة، ومات مراهقا وأبو بنتها أمامة التي كان يحملها صلى الله عليه وسلم في الصلاة، أي وكان يحبها حبا شديدا. فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له هدية فيها قلادة من جذع، فقال: لأدفعنها إلى أحب أهلي إليّ، فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب فعلقها في عنقها» وتزوجها عليّ بعد موت خالتها فاطمة رضي الله تعالى عنها بوصية من فاطمة، زوجها له الزبير بن العوام، وكان أبوها أوصى بها إلى الزبير، ومات عنها فتزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فماتت عنده، وكان تزويجها للمغيرة بوصية من عليّ رضي الله تعالى عنه، فإنه لما حضرته الوفاة قال لها: إني لا آمن أن يخطبك معاوية، وفي لفظ هذا الطاغية بعد موتي، فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيرا، فلما انقضت عدّتها أرسل معاوية إلى مروان أن يخطبها عليه ويبذل لها مائة ألف دينار، فلما خطبها أرسلت إلى المغيرة بن نوفل: إن هذا الرجل أرسل يخطبني، فإن كان لك حاجة فيّ فأقبل، فجاء وخطبها من الحسن بن علي، أي فزوجها منه. أي ولا يخالف ما تقدم أن المزوج لها الزبير بن العوام، لأنه يجوز أن يكون الحسن كان هو السبب في تزويج الزبير لها فبعثت زينب رضي الله تعالى عنها في فداء زوجها أبي العاص قلادة لها كانت أمها خديجة رضي الله تعالى عنها أدخلتها بها عليه حين بنى بها أي والجائي بها أخوه عمرو بن الربيع، ولا يعلم لعمرو هذا إسلام «فلما رأى تلك القلادة رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال للصحابة: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها فافعلوا، قالوا نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها القلادة، وشرط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيل زينب» أي أن تهاجر إلى المدينة. أي وقد كان كفار قريش مشوا إليه أن يطلق زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما طلق ولدا أبي لهب بنتي النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدخول بهما رقية وأمّ كلثوم كما تقدم، وقالوا له:

نزوجك أيّ امرأة من قريش شئت، فأبى ذلك، وقال: والله لا أفارق صاحبتي، وما أحبّ أن لي بها امرأة من قريش، فشكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأثنى عليه بذلك خيرا، فلما وصل أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت. وقد كان صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار قال لهما: تكونان بمحل كذا لمحل قريب من مكة حتى تمرّ بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها. أي وذكر أن حماها كنانة بن الربيع أخا زوجها قدم لها بعيرا فركبته واتخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقودها في هودج لها وكانت حاملا، فتحدث بذلك رجال من قريش فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، ونخس البعير بالرمح فوقعت وألقت حملها. وفي رواية أنه سبق إليها هبار ورجل آخر يقال له نافع، وقيل خالد بن عبد قيس. ثم إن كنانة برك ونثر كنانته وأخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما، فجاء إليه أبو سفيان في رجال من قريش، وقال له: كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف، ثم قال له: إنك لم تصب في فعلك، فإنك خرجت بالمرأة جهارا على رؤوس الأشهاد وقد عرفت مصيبتنا التي كانت وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت زينب علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك من ذلّ أصابنا، وأن ذلك منا من ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ولكن ارجع بها حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسر بها سرا فألحقها بأبيها ففعل، وأقامت ليالي ثم خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه. وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن حارثة: ألا تنطلق فتجيء بزينب؟ قال بلى يا رسول الله، قال فخذ خاتمي فأعطها فانطلق زيد، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا، فقال: لمن ترعى؟ قال لأبي العاص، قال: فلمن هذه الغنم؟ قال لزينب بنت محمد، فتكلم معه، ثم قال له: هل إن أعطيتك شيئا تعطها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال نعم، فأعطاه الخاتم، فانطلق الراعي إلى زينب وأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل، قالت: فأين تركته؟ قال بمكان كذا وكذا، فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما جاءته قال لها زيد: اركبي بين يديّ على بعيري: قالت لا، ولكن اركب أنت بين يدي، فركب وركبت خلفه حتى أتت المدينة وذلك بعد شهرين من بدر. وكان صلى الله عليه وسلم يقول زينب أفضل بناتي أصيبت بي» أي بسببي. ومن العجب أن هذه العبارة ساقها الإمام سراج الدين البلقيني في فتاويه في

حق فاطمة رضي الله تعالى عنها حيث قال: وقد روى البزار في مسنده من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: هي خير بناتي، لأنها أصيبت فيّ» هذا كلامه، ولينظر ما الذي أصيبت فاطمة بسببه صلى الله عليه وسلم. وقد يقال إصابتها بسبب موته صلى الله عليه وسلم في حياتها. ثم رأيت الحافظ ابن حجر أجاب بذلك حيث قال لأنها رزئت بأبيها فكان في صحيفتها أي فهو من أعلام نبوته، أو أن قوله في زينب ما ذكر كان قبل ما وهب الله لفاطمة من الكمالات. وقد سئل الإمام البلقيني رحمه الله تعالى هل بقية بناته صلى الله عليه وسلم، أي بعد فاطمة سواء في الفضل أو يفضل بعضهنّ على بعض ولم يجب عن ذلك، ولا مخالفة بين خروج زينب إلى زيد وخروج حميها بها إلى زيد. وبهذا: أي بتأخر هجرة زينب يظهر التوقف في قول ابن إسحاق أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهنّ أدركن الإسلام وأسلمن وهاجرن معه، إلا أن يقال المراد اشتركن معه في الهجرة، وتقدم ما في قوله وأسلمن، وكون الجائي في فداء أبي العاص أخوه عمرو يخالف ما جاء «أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها أرسلت في فداء أبي العاص وأخيه عمرو بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة» الحديث ولعلها تصحيف، وأن الأصل بعثت في فداء أبي العاص أخاه عمرو بن الربيع، ويدل لذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذه الرواية «إن رأيتم أن تردوا لها أسيرها فأطلقوه» ولم يقل أسيريها، وكان في الأسارى سهيل بن عمرو العامري. وتقدم أنه كان من أشراف قريش وخطبائها، فقد سئل سعيد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية، فقال الأسود بن عبد المطلب وسهيل بن عمرو، وسئل عن خطبائهم في الإسلام، فقال معاوية بن أبي سفيان وابنه يعني يزيد وسعيد بن العاص وابنه يعني عمرو بن سعيد وعبد الله بن الزبير. ولعل هذا لا يخالف ما تقدم من قول الأصمعي: الخطباء من بني مروان، عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، وعبد الملك بن مروان: ومما يؤثر عن عتبة: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم كما تقدم. وقال عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع أي بالدال والعين المهملتين يخرج لسانه، أي لأنه كان أعلم، والأعلم إذا نزعت ثنيتاه لم يستطع الكلام فلا يقم عليك خطيبا في موطن أبدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل الله تعالى بي. وإن كنت نبيا، وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه فكان كذلك: فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أكثر أهل مكة الرجوع عن الإسلام حتى خافهم أمير مكة عتاب بن أسيد رضي الله عنه

وتوارى، فقام سهيل بن عمرو رضي الله عنه خطيبا، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ألم تعلموا أن الله قال إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر: الآية 30] وقال وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: الآية 144] الآيات، وتلا آيات أخر، ثم قال: والله إني أعلم أن هذا سيمتد امتداد الشمس في طلوعها وغروبها فلا يغرنكم هذا من أنفسكم: يعني أبا سفيان، فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره ومقوّ دينه، وقد جمعكم الله على خيركم يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به. وعند ذلك ظهر عتاب بن أسيد رضي الله عنه، وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل، فلما ذكر قدرا أرضاهم به قالوا له هات، فقال اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا، وكان في الأسارى الوليد بن الوليد أخو خالد بن الوليد، أفتكه أخواه هشام وخالد، فلما افتدي أسلم، فعاتبوه في ذلك، فقال كرهت أن يظن بي أني جزعت من الأسر، ولما أسلم وأراد الهجرة حبسه أخواه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت كما تقدم، ثم أفلت ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء كما سيأتي أي وكان في الأسارى السائب وهو الأب الخامس لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، وكان صاحب راية بني هاشم في ذلك اليوم: أي التي يقال لها في الحرب العقاب، ويقال لها راية الرؤساء، ولا يحملها في الحرب إلا رئيس القوم، وكانت لأبي سفيان أو لرئيس مثله، ولغيبة أبي سفيان في العير حملها السائب لشرفه، وفدى نفسه. وأما أبوه الرابع الذي هو شافع الذي ينسب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه الذي هو ولد السائب لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع فأسلم، وكان في الأسارى وهب بن عمير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وأسره رفاعة بن رافع وكان أبوه عمير شيطانا من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك فجلس يوما مع صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وكان جلوسه معه في الحجر فتذاكرا أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان ما في العيش والله خير بعدهم، فقال عمير والله صدقت، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي كنت آتي محمدا حتى أقتله، فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان، وقال له عليّ دينك أنا أقضيه عنك؛ وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، قال عمير فاكتم

عني شأني وشأنك، قال افعل ثم إن عميرا أخذ سيفه وشحذه، بالمعجمة: أي سنه وسمه: أي جعل فيه السم، ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر إذ نظر إلى عمير حين أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدوّ الله عمير ما جاء إلا بشر، فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدوّ الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحا سيفه، قال صلى الله عليه وسلم: فأدخله عليّ، فأقبل عمر رضي الله عنه حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، والحمالة بكسر الحاء المهملة: العلاقة فمسكه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده، فإن هذا الخبيث غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله عنه آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال عمير: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك يا عمير، فقال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم يعني ولده وهبا فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف، قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا، قال صلى الله عليه وسلم: أصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش. ثم قلت لولا دين عليّ وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لا أعلم ما أتاك به إلا الله تعالى، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا ذلك، ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على اطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، فأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة وأسلم ولده وهب رضي الله عنه. وكان صفوان حين خرج عمير يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا وأن لا ينفعه بنفع أبدا. أي ولما قدم عمير لم يبدأ بصفوان، بل بدأ ببيته وأظهر الإسلام ودعا إليه، فبلغ ذلك صفوان، فقال: قد عرفت حيث لم يبدأ بي قبل منزله أنه قد نكس وصبأ،

ولا أكلمه أبدا. ولا أنفعه ولا عياله بنافعة. ثم إن عميرا وقف على صفوان وناداه: أنت سيد من سادتنا، رأيت الذي كنا عليه من عبادة الحجر والذبح له أهذا دين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فلم يجبه صفوان بكلمة، وعند فتح مكة هو الذي استأمنه صلى الله عليه وسلم لصفوان كما سيأتي. وكان في الأسارى أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه قال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب فقال للذي أسرني: شدّ يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقلت له يا أخي هذه وصايتك بي، فبعثت أمه في فدائه أربعة آلاف درهم ففدته بها. وكان في الأسارى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، أي وقد شدوا وثاقه فأنّ فلم يأخذه صلى الله عليه وسلم نوم فقيل ما سهرك يا رسول الله؟ قال: لأنين العباس، فقام رجل وأرخى وثاقه، وفعل ذلك بالأسارى كلهم، والذي أسره أبو اليسر كعب بن عمرو، وكان ذميما أي بالمهملة: صغير الجثة والعباس جسيما طويلا فقيل للعباس رضي الله تعالى عنه: لو أخذته بكفك لوسعته كفك، فقال ما هو إن لقيته فظهر في عيني كالخندمة أي وهو جبل من جبال مكة، أي وأبو اليسر هذا هو الذي انتزع راية المشركين، وكنت بيد أبي عزيز بن عمير. قال: وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل كعبا وقال له: كيف أسرت العباس؟ قال: يا رسول الله، لقد أعانني عليه ملك كريم، أي وفي رواية «أن العباس رضي الله تعالى عنه لما قيل له ما تقدم قال: والله إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أبلج من أحسن الناس وجها على فرس أبلق فما أراه في القوم، فقال الذي جاء به: والله أنا الذي أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت فقد أيدك الله بملك كريم. وفي الكشاف أن العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طوالا، فكساه عبد الله بن أبيّ ابن سلول قميصه، وجعل صلى الله عليه وسلم فداء العباس أربعمائة أوقية. وفي رواية مائة أوقية. وفي رواية أربعين أوقية من ذهب. وفي رواية جعل على العباس أيضا فداء عقيل ابن أخيه ثمانين أوقية، أي وجعل عليه فداء ابن أخيه نوفل بن الحارث. وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال له: افد نفسك يا عباس وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ابني عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو، ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية» وسيأتي ما يدل على أنه إنما فدى نفسه وابن أخيه عقيل فقط، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم «تركتني فقير قريش ما بقيت» وفي لفظ «تركتني أسأل الناس في كفي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين المال الذي دفعته لأم الفضل؟

يعني زوجته وقلت لها إن أصبت فهذا لبني الفضل وعبد الله وقثم» وفي كلام ابن قتيبة «فللفضل كذا، ولعبد الله كذا، وقثم كذا، فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل» زاد في رواية «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله» . وفي رواية «أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت فقال له: كيف تكون فقير قريش، وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل، وقلت لها إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت» . وفي رواية «أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقال: أشهد أن الذي تقوله قد كان، وما اطلع عليه إلا الله» وتقدم عن أبي رافع مولى العباس أن العباس رضي الله تعالى عنه وزوجته أم الفضل كانا مسلمين، بل تقدم أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة رضي الله تعالى عنها، وكانا يكتمان إسلامهما، وأن أبا رافع كان كذلك. ومما يؤيد إسلام العباس رضي الله تعالى عنه أنه جاء في بعض الروايات «أن العباس رضي الله تعالى عنه قال: علام يأخذ منا الفداء وكنا مسلمين؟ أي وفي رواية: كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بما تقول إن يك حقا فإن الله يجزيك؛ ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا. وقد أنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً [الأنفال: الآية 70] أي إيمانا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال: الآية 70] أي من الفداء الآيات، فعند ذلك: أي عند نزول الآيات قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافا فقد آتاني الله خيرا منها مائة عبد» وفي لفظ «أربعين عبدا كل عبد في يده مال يضرب به، أي يتجر فيه، وإني لأرجو من الله المغفرة» أي وهذا القول من العباس رضي الله تعالى عنه يدل على تأخر نزول هذه الآيات. وجاء «أن العباس رضي الله تعالى عنه خرج لبدر ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطعم به المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك» وجاء في بعض الروايات «أن العباس رضي الله تعالى عنه لما أسر تواعدت طائفة من الأنصار على قتله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر: لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، زعمت الأنصار أنهم قاتلوه، فأتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس، فقالوا والله لا نرسله، فقال لهم عمر: فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي، فقالوا: إن كان رضي فخذه فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له يا عباس أسلم، فوالله لأن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب» . أي وفي أسباب النزول للواحدي: لما أسر العباس يوم بدر أقبل المسلمون

عليه يعيرونه بكفره بالله وقطيعة الرحم، وأغلظ عليّ له من القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال له عليّ: ألكم محاسن؟ قال نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحيي الكعبة، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله تعالى ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التّوبة: الآية 17] الآية. وجاء أنه قال للمسلمين: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التّوبة: الآية 19] الآية. وذكر بعضهم أن العباس رضي الله تعالى عنه كان رئيسا في قريش، وإليه عمارة المسجد الحرام، فكان لا يدع أحدا يتشبب فيه، ولا يقول فيه هجرا. والتشبيب: ترقيق الشعر بذكر النساء والهجر: الكلام الفاحش، فكانت قريش اجتمعت وتعاقدت على تسليم ذلك للعباس، وكانوا عونا له على ذلك. ومن ثم قيل في العباس: هذا والله هو الشرف: يطعم الجائع، ويؤدب السفيه، فإن طعامه كان لفقراء بني هاشم. وقيل وسوطه معد لسفهائهم، وإذا كان ذلك لسفهاء بني هاشم فلسفهاء غيرهم بطريق الأولى. والظاهر أن ذلك لا يختص بسكونهم في المسجد كما قد يدل عليه الرواية الأولى، ولا ينافي هذا أي قول عمر له أسلم إلى آخره، ما تقدم عن مولاه أبي رافع، من أن العباس كان مسلما، ومن قوله للنبي صلى الله عليه وسلم إنه كان مسلما، ومن إتيانه بالشهادتين عنده صلى الله عليه وسلم، لأن ذاك لم يظهره علانية بل أظهره له صلى الله عليه وسلم فقط ولم يعلم به عمر ولا غيره، ولم يظهر النبي صلى الله عليه وسلم إسلام العباس رفقا به، لما تقدم أن العباس كان له ديون متفرقة في قريش، وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضاعت عندهم. ومن ثم لما قهرهم الإسلام يوم فتح مكة أظهر إسلامه: أي فلم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح، وكان كثيرا ما يطلب الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكتب له مقامك بمكة خير لك. أي وفي رواية «استأذن العباس رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فكتب إليه: يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة» فكان كذلك. وفي رواية أنه قال لابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب «افد نفسك يا نوفل، قال: ما لي شيء أفدي به نفسي، قال: افد نفسك من مالك الذي بجدة» وفي لفظ «بأرماحك التي بجدة فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما أحد يعلم أن لي بجدة أرماحا غير الله» أي وفدى نفسه ولم يفده العباس.

ويدل لذلك ما رواه البخاري عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمال من البحرين» أي من خراجهما «فقال انثروه في المسجد، فكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي كان مائة ألف «وكان أول خراج حمل إليه صلى الله عليه وسلم وكان يأتي في كل سنة» . وحينئذ لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لجابر «لو قد جاء مال البحرين أعطيتك فلم يقدم مال البحرين حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم» لأن المراد أنه لم يقدم في تلك السنة. ولما نظر ذلك المال في المسجد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فكان لا يرى أحدا إلا أعطاه، فجاءه العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، أي ولم يقل نوفلا ولا حليفه عتبة بن عمرو، فقال: خذ فحثى في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال مر بعضهم يرفعه إليّ، قال لا قال: فارفعه أنت علي، قال لا، فنثر منه، ولا زال يفعل كذلك حتى بقي ما يقدر على رفعه على كاهله أي بين كتفيه، ثم انطلق وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره عجبا من حرصه حتى خفي. ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الأسارى بغير فداء، منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بشعره، فقال: يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وفي رواية قال له: إن لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن ففعل وأعتقه، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا. أي ولما وصل إلى مكة قال سحرت محمدا. ولما كان يوم أحد خرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعره، فأسر وقتل صبرا وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي. أي فعلم أن أسرى بدر؛ منهم من فدي ومنهم من خلي سبيله من غير فداء، وهو أبو العاص، وأبو عزة، ووهب بن عمير؛ ومنهم من مات؛ ومنهم من قتل وهو النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط كما تقدم. ولما بلغ النجاشي نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر فرح فرحا شديدا. فعن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النجاشي أرسل إليه وإلى أصحابه الذين معه بالحبشة ذات يوم، فدخلوا عليه فوجدوه جالسا على التراب لابسا أثوابا خلقة، فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟ فقال لهم: إني أبشركم بما يسركم، إنه قد جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه، وأهلك عدوه فلانا وفلانا وعدد جمعا التقوا بمحل يقال له بدر كثير الأراك كنت أرعى فيه غنما لسيدي من بني ضمرة، فقال له جعفر ما لك جالس على التراب عليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى أن حقا على عباد الله أن يحدثوا الله عز وجل تواضعا عندما أحدث لهم نعمة.

وفي رواية: كان عيسى صلوات الله وسلامه عليه إذا حدث له من الله نعمة ازداد تواضعا، فلما أحدث الله تعالى نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت هذا التواضع. وفي رواية إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث الله تواضعا، وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة الحديث. قال: ولما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر واستأصل وجوههم، قالوا إن ثأرنا بأرض الحبشة، فلنرسل إلى ملكها ليدفع إلينا من عنده من أتباع محمد فنقتلهم بمن قتل منا فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة رضي الله تعالى عنهما- فإنهما أسلما بعد ذلك- إلى النجاشي ليدفع إليهما من عنده من المسلمين، فأرسلوا معهما هدايا وتحفا للنجاشي. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري بكتاب يوصيه فيه على المسلمين انتهى. وفي الأصل هنا ما يوافقه. وفيه أن عمرو بن أمية الضمري لم يكن أسلم بعد، أي لأنه كما في الأصل شهد بدرا وأحدا مع المشركين. وأول مشهد شهده مع المسلمين بئر معونة، وأسر في ذلك وجزت ناصيته وأعتق، وكان ذلك في سنة أربع كما سيأتي. قال: فلما وصل عمرو وعبد الله إلى النجاشي ردهما خائبين. أي فعن عمرو بن العاص قال: دخلت على النجاشي فسجدت له، فقال: مرحبا بصديقي أهديت لي من بلادك شيئا؟ فقلت نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا ثم قربته إليه، فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضع، وأمر أن يكتب ويتحفظ به، قال عمرو: فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إني رأيت رجلا خرج من عندك يعني عمرو بن أمية الضمري. وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطينه فأقتله، فغضب ثم رفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه قد كسره، فجعلت أتقي الدم بثيابي. وفي رواية: ثم رفع يده فضرب بها أنف نفسه، ظننت أنه قد كسره. وقد يجمع بوقوع الأمرين منه، وعند ذلك قال عمرو: فأصابني من الذل ما لو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه، فقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول الله رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى ابن مريم لتقتله؟ قلت وتشهد أنت أيها الملك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد بذلك عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق. قلت له: أفتبايعني له على الإسلام، قال: نعم، فمدّ يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد كساني، فلما رأوا

كسوة الملك سروا بذلك وقالوا: هل من صاحبك قضاء لحاجتك؟ يعنون قتل عمرو بن أمية الضمري، فقلت لهم: كرهت أن أكلمه أول مرة وقلت أعود إليه، قالوا: الرأي ما رأيت وفارقتهم. وهذا يدل على أنه كان معه ومع عبد الله جماعة آخرون من قريش. ويحتمل أنه عنى بأصحابه عبد الله بن ربيعة، ويؤيد الأول ما يأتي فليتأمل. وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت، فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشعبية، وهو محلّ معروف كان موردة لجدة: أي كان ترسي به السفن قبل وجود جدة كما تقدم، فخرجت من السفينة فابتعت بعيرا وتوجهت إلى المدينة حتى إذا كنت بالهداة: اسم محل، إذا رجلان وهما خالد بن الوليد وعثمان بن أبي طلحة، فرحبا بي وإذا هما يريدان الذي أريد، فتوجهنا إلى المدينة. فقد علمت ما في إرسال عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي عقب وقعة بدر من أنه كان في ذلك الوقت كافرا، لأنه شهد مع الكفار أحدا. ومن ثم قال في الأصل هنا: فلما كان شهر ربيع الأول، وقيل المحرم سنة سبع، أي وقيل سنة ست حكاه ابن عبد البر عن الواقدي من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به عمرو بن أمية الضمري، فلما قرىء عليه الكتاب أسلم، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة ففعل. وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ففعل، وقد تقدم القول عند ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة أن توجه عمرو بكتابي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم سنة سبع يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، والثاني في تزويجه عليه الصلاة والسلام أم حبيبة وقيل إرسال عمرو كان في شهر ربيع الأول منها. وسيأتي ذكر كتابي النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي مع عمرو عند ذكر كتبه إلى الملوك، هذا كله كلام الأصل فليتأمل ما فيه. ثم رأيت صاحب النور قال: قد رأيت غير واحد صرح بأن النجاشي أسلم في السنة السابعة؛ يعنون من الهجرة، وهذا يعكر على تصديقه وإسلامه عند إرسال عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة: أي عقب بدر، حيث قال أنا أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما تقدم هذا كلامه. أي فكيف يكون إرسال عمرو بن أمية إلى النجاشي ليسلم. وقد يجاب بأن المراد إظهار إسلامه، أي بعث له عمرو بن أمية لأجل أن يظهر إسلامه ويعلن به بين

قومه، أي لأنه كان يخفي إسلامه عن قومه. ولما بلغ قومه أنه اعترف بأن عيسى صلوات الله وسلامه عليه عبد الله ووافق جعفر بن أبي طالب على ذلك سخطوا وقالوا له: أنت فارقت ديننا، وأظهروا له المخاصمة، فأرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هربت فاذهبوا حيث شئتم، وإن ظفرت فأقيموا. ثم عمد إلى كتاب فكتب: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في ثيابه عند منكبه الأيمن وخرج إلى الحبشة وقد صفوا له، فقال: يا معشر الحبشة ألست أرفق الناس بكم؟ قالوا بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد، قال: فماذا تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال لهم النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه وقال: هو يشهد أن عيسى ابن مريم ولم يزد على هذا، وإنما يعني ما كتب فرضوا منه ذلك. ويذكر أن عليا رضي الله عنه وجد ابن النجاشي عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه مكافأة لما صنع أبوه مع المسلمين، وكان يقال له نيزر مولى علي كرم الله وجهه. ويقال إن الحبشة لما بلغهم خبره أرسلوا وفدا منهم إليه ليملكوه ويتوجوه ولم يختلفوا عليه فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن منّ الله عليّ بالإسلام. على أن ابن الجوزي رحمه الله ذكر أن ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان عند منصرفه مع قريش في غزوة الأحزاب أي لا عقب بدر. فعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو لأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن ممن قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا هو الرأي، فقلت: اجمعوا ما يهدى له وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا إليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن جعفر وأصحابه الحديث. وهذا لا يمنع أن يكون عمرو بن العاص وفد على النجاشي هو وعبد الله بن ربيعة عقب بدر، فيكون وفود عمرو بن العاص على النجاشي كان ثلاث مرات: مرة مع عمارة عقب مهاجرة من هاجر إلى الحبشة، ومرة مع عبد الله بن ربيعة عقب بدر،

وهذه المرة الثالثة التي كانت عقب الأحزاب، وإن إرسال عمرو بن أمية وإسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي كان في هذه المرة الثالثة. وحينئذ لا يشكل إرسال عمرو بن أمية للنجاشي، لأنه كان مسلما حينئذ، فيكون ذكر مجيء عمرو بن أمية إلى النجاشي في المرة الثانية التي كانت عقب بدر اشتباه من بعض الرواة وكذا ذكر إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي في المرة الثانية من تخليط بعض الرواة. ثم رأيته في «الإمتاع» قال: وقد رويت قصة الهجرة إلى الحبشة وإسلام النجاشي من طرق عديدة مطولة ومختصرة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل عمرو بن أمية الضمري في أموره لأنه كان من رجال النجدة، أي ومعلوم أنه كان لا يرسله إلا بعد إسلامه، وإسلامه قد علمت أنه كان سنة أربع. وفي الأصل أنه صلى الله عليه وسلم أرسله إلى مكة بهدية لأبي سفيان بن حرب. أي ولعل المراد بذلك ما حكاه بعض الصحابة قال «دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح وقال لي: التمس صاحبا، قال: فجاءني عمرو بن أمية، فقال: بلغني أنك تريد الخروج إلى مكة وتلتمس صاحبا، قلت: أجل، قال: فأنا لك صاحب، قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وجدت صاحبا، فقال: من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمري، فقال: إذ هبط بلاد قومه فاحذروه، فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنه، وقد أسلم عبد الله ولده قبل أبيه عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، روي «أنه صلى الله عليه وسلم قال فيهما وفي أم عبد الله: نعم البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله» وكان صلى الله عليه وسلم يفضل عبد الله على أبيه، لأنه كان من عباد الصحابة وزهادهم وفضلاهم وعلمائهم، ومن أكثرهم رواية. وذكر ابن مرزوق رحمه الله «أن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما مر ببدر فإذا رجل يعذب ويئنّ، فناداه يا عبد الله، قال: فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه الطبراني في الأوسط. زاد السيوطي في الخصائص «فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم» فأخبرته قال: أو قد رأيته؟ قلت نعم، قال: ذاك عدوّ الله أبو جهل، وذاك عذابه إلى يوم القيامة» . وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الشعبي «أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حديد» وفي لفظ «بعمود حديد حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أبو جهل يعذب إلى يوم القيامة» .

وما جاء في فضل من شهد بدرا «أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال جبريل عليه السلام: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة» وفي رواية «إن للملائكة الذين شهدوا بدرا في السماء لفضلا على من تخلف منهم» وجاء بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي وقد كان من أهل بدر، أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدرا، وعسى أن يكفر عنه» وفي رواية «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» . قال وفي الطبراني بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اطلع الله على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، أو قال: فقد وجبت لكم الجنة» أي غفرت لكم ما مضى وما سيقع من الذنوب، أي وهو يفيد أن ما يقع منهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه، لأنه إذا وقع يقع مغفورا، وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه، وهذا كما لا يخفى بالنسبة للآخرة لا بالنسبة لأحكام الدنيا، ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر جلده وكان بدريا أي وقد يقال هذا يقتضي وجوب التوبة في الدنيا فإذا لم تقع لا يؤاخذ بذلك في الآخرة لأن وجوب التوبة في أحكام الدنيا. لا يقال: إذا سلم أن الذنب إذا وقع منهم يقع مغفورا لا معنى لوجوب التوبة، وإنما حد عمر رضي الله تعالى عنه قدامة زجرا عن شرب الخمر. لأنا نقول: بل لوجوب التوبة في الدنيا معنى وإن كان الذنب إذا وقع مغفورا، لأن المراد بذلك عدم المؤاخذة في الآخرة، وذلك لا ينافي وجوب التوبة عنه في الدنيا، لأنه لا تلازم بين وجوب التوبة في الدنيا وبين غفران الذنب في الآخرة. هذا، وفي الخصائص الصغرى نقلا عن شرح «جمع الجوامع» أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب ما يفسق به غيرهم. وقدامة هذا كان متزوجا أخت عمر رضي الله تعالى عنه، وكان عمر متزوجا بأخت قدامة وهي أم حفصة رضي الله عنها، فكان خالا لحفصة ولأخيها عبد الله، وكان عاملا لعمر في بعض النواحي أي البحرين، فقدم الجارود سعد بن عبد القيس على عمر من البحرين وكان قدامة واليا عليها، فأخبر عمر أن قدامة سكر، قال: وإني رأيت حدّا من حدود الله حقا عليّ أن أرفعه إليك، فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال أبو هريرة: فشهد أبو هريرة رضي الله عنه أنه رآه سكران، أي قال: لم أره يشرب، ولكني رأيته سكران يقيء، فأحضر قدامة، فقال له الجارود: أقم عليه الحد، فقال له عمر رضي الله عنه: أخصم أنت أم شاهد؟ فصمت ثم عاوده، فقال له عمر رضي الله عنه: لتمسكن أو لأسوءنك،

فقال: ليس في الحق. وفي لفظ: أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني، فأرسل عمر رضي الله عنه إلى زوجته قدامة أي بعد أن قال له أبو هريرة رضي الله عنه: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد يعني زوجته، فجاءت فشهدت على زوجها بأنه سكر، فقال عمر لقدامة: أريد أن أحدك، فقال: ليس لك ذلك، لقول الله عز وجل لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [المائدة: الآية 93] ، فقال له عمر: أخطأت التأويل، فإن بقية الآية إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [المائدة: الآية 93] فإنك إن اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك، ثم أمر به فحد، فغاضبه قدامة ثم حجا جميعا، ففي قوم استيقظ عمر رضي الله تعالى عنه من نومه فزعا، فقال: عجلوا بقدامة، أتاني آت، فقال: صالح قدامة فإنه أخوك، فاصطلحا. أي وقد احتج بهذه الآية أيضا جمع من الصحابة شربوا الخمر، وهم أبو جندل، وضرار بن الخطاب، وأبو الأزور، فأراد أبو عبيدة رضي الله عنه وهو وال بالشام أن يحدهم، فقال أبو جندل لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [المائدة: الآية 93] فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك، وقال: خصمني أبو جندل بهذه الآية. فكتب عمر لأبي عبيدة: إن الذي زين لأبي جندل الخطيئة زين له الخصومة فاحددهم، فلما أراد أبو عبيدة أن يحدهم، قال أبو الأزور لأبي عبيدة: دعنا نلقى العدوّ غدا، فإن قتلنا فذاك، وإن رجعنا إليكم فحدونا، فلقوا العدوّ فاستشهد أبو الأزور وحدّ الآخران. وفي حواشي البخاري للحافظ الدمياطي «أن نعيمان كان ممن شهد بدرا وسائر المشاهد وأتى في شربه الخمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحده أربعا أو خمسا أي من المرات، فقال رجل من القوم اللهم العنه، ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يحد! فقال عليه الصلاة والسلام: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» ولعل هذا التعليل لا ينظر لمفهومه. وعند الإمام أحمد رحمه الله عن حفصة رضي الله تعالى عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله تعالى أحد شهد بدرا والحديبية» ولعل الواو بمعنى أو. ويدل لذلك ما في بعض الروايات عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» . ولا ينافي ما في مسلم والترمذي عن جابر «أن عبد الحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا إليه، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال: كذبت، لا يدخلها فإنه شهد بدرا والحديبية» لأنه يجوز أن يكون ذلك لكونه: أي

غزوة بني سليم

الجمع بين بدر والحديبية هو الواقع لحاطب. وفي الطبراني عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر «والذي نفسي بيده لو أن مولودا ولد في فقه أربعين سنة من أهل الدين يعمل بطاعة الله تعالى كلها ويجتنب معاصي الله كلها إلى أن يرد إلى أرذل العمر أو يردّ إلى أن لا يعلم بعد علم شيئا لم يبلغ أحدكم هذه الليلة» . وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم. ومن ثم جاء جماعة من أهل بدر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في صفة ضيقة ومعه جماعة من أصحابه فوقفوا بعد أن سلموا ليفسح لهم القوم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين: قم يا فلان، قم يا فلان بعدد الواقفين، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجه من أقامه، فقال: «رحم الله رجلا يفسح لأخيه، فنزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [المجادلة: الآية 11] الآية فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك» أي ولعل المراد يجلسونهم مكانهم. وفي الخصائص الصغرى: وخصّ أهل بدر من أصحابه صلى الله عليه وسلم بأن يزادوا في الجنازة على أربع تكبيرات تمييزا لهم لفضلهم. وقد ذكر أن عمر بن عبد العزيز بن مروان كان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله ليسمع منه، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص عليا رضي الله تعالى عنه، فأتاه عمر فأعرض عبيد الله عنه وقام ليصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل عليه، وقال له: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم، ففهمها عمر وقال: معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود، فما سمع بعد ذلك يذكر عليا كرّم الله وجهه إلا بخير. غزوة بني سليم ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من بدر لم يقم إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه، يريد بني سليم. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم. أي وفي رواية أبي داود لأن استخلاف ابن أم مكتوم إنما كان على الصلاة بالمدينة دون القضايا والأحكام، فإن الضرير لا يجوز له أن يحكم بين الناس، لأنه لا يدرك الأشخاص ولا يثبت الأعيان، ولا يدري لمن يحكم ولا على من يحكم، أي فأمر القضايا والأحكام يجوز أن يكون فرضه صلى الله عليه وسلم لسباع فلا مخالفة. فلما بلغ ماء من مياههم يقال له الكدر، أي وقيل لهذا الماء الكدر، لأن به طيرا في ألوانها كدرة،

فأقام صلى الله عليه وسلم على ذلك ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، أي وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم أبيض حمله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وكان في تلك السنة تزويج عليّ بفاطمة رضي الله تعالى عنهما: أي عقد عليها في رمضان وقيل في رجب، ودخل بها في ذي الحجة. وقيل بعد أن تزوّجها بنى بها بعد سبعة أشهر ونصف، أي فيكون عقد عليها في أول جمادى الأولى. وكان عمرها خمس عشرة سنة، وكان سن عليّ يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، أي وأولم عليها بكبش من عند سعد وآصع من ذرة من عند جماعة من الأنصار. ولما خطبها عليّ قال صلى الله عليه وسلم «إن عليا يخطبك فسكتت» أي وفي رواية قال لها «أي بنية إن ابن عمك عليا قد خطبك فماذا تقولين؟ فبكت، ثم قالت: كأنك يا أبت إنما أدخرتني لفقير قريش، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق ما تكلمت في هذا حتى أذن لي الله فيه من السماء، فقالت فاطمة رضي الله عنها: رضيت بما رضي الله ورسوله» . وقد كان خطبها أبو بكر ثم عمر فسكت صلى الله عليه وسلم. وفي رواية قال لكل انتظر بها القضاء، فجاآ أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى علي كرم الله وجهه يأمرانه أن يخطبها، قال علي «فنبهاني لأمر كنت عنه غافلا فجئته صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوّجني فاطمة، قال: وعندك شيء؟ قلت فرسي وبدني: أي درعي، قال: أما فرسك فلا بدّ لك منها، وأما بدنك فبعها فبعتها بأربعمائة وثمانين درهما فجئته صلى الله عليه وسلم بها فوضعها في حجره فقبض منها قبضة فقال: أي بلال ابتع لنا بها طيبا. وفي رواية «لما خطبها قال له صلى الله عليه وسلم ما تصدقها» وفي لفظ «هل عندك شيء تستحلها به؟ قال: ليس عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ قال عندي، فباعها من عثمان بن عفان بأربعمائة وثمانين درهما. ثم إن عثمان رضي الله عنه رد الدرع إلى علي كرم الله وجهه فجاء عليّ بالدرع والدراهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لعثمان بدعوات» . وفي فتاوى الجلال السيوطي أنه سئل هل لصحة ما قيل إن عثمان بن عفان رأى درع علي رضي الله تعالى عنهما يباع بأربعمائة درهم ليلة عرسه على فاطمة رضي الله عنها فقال عثمان: هذا درع علي فارس الإسلام لا يباع أبدا، فدفع لغلام علي أربعمائة درهم وأقسم أن لا يخبره بذلك ورد الدرع معه، فلما أصبح عثمان وجد في داره أربعمائة كيس، في كل كيس أربعمائة درهم، مكتوب على كل درهم: هذا ضرب الرحمن لعثمان بن عفان، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: هنيئا لك يا عثمان. وفيها أيضا أن عليا خرج ليبيع إزار فاطمة ليأكل بثمنه، فباعه بستة دراهم، فسأله سائل فأعطاه إياه، فجاء جبريل في صورة أعرابي ومعه ناقة، فقال: يا أبا

الحسن اشتر هذه الناقة، قال: ما معي ثمنها، قال: إلى أجل، فاشتراها بمائة ثم عرض له ميكائيل في صورة رجل في طريقه، فقال: أتبيع هذه الناقة؟ قال نعم، قال: بكم اشتريتها؟ قال: بمائة، قال: آخذها بمائة ولك من الربح ستون، فباعها له، فعرض له جبريل فقال: بعت الناقة؟ قال نعم، قال: ادفع إليّ ديني، فدفع له مائة ورجع بستين، فقالت له فاطمة: من أين لك هذا؟ قال: ضاربت مع الله بستة فأعطاني ستين، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال: البائع جبريل والمشتري ميكائيل، والناقة لفاطمة تركبها يوم القيامة له أصل أم لا؟. فأجاب عن ذلك كله بأنه لم يصح، أي وهي تصدق بأن ذلك لم يرد فهو من الكذب الموضوع. ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يعقد خطب خطبة منها «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بحكمته، ثم إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسبا وصهرا وكان ربك قديرا. ثم إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت يا علي؟ قال رضيت» بعد أن خطب علي كرّم الله وجهه أيضا خطبة منها: الحمد لله شكرا لأنعمه وأياديه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه: أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال «يا عليّ اخطب لنفسك، فقال عليّ الحمد لله الذي لا يموت، وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجني ابنته فاطمة على صداق مبلغه أربعمائة درهم فاسمعوا ما يقول واشهدوا. قالوا: ما تقول يا رسول الله؟ قال: أشهدكم أني قد زوّجته» كذا رواه ابن عساكر. قال الحافظ ابن كثير: وهذا خبر منكر. وقد ورد في هذا الفصل أحاديث كثيرة منكرة وموضوعة أضربنا عنها. ولما تمّ العقد دعا صلى الله عليه وسلم بطبق بسر فوضع بين يديه ثم قال للحاضرين انتهبوا. وقول علي كرم الله وجهه: نبهاني لأمر كنت عنه غافلا لا ينافي ما روي عن أسماء بنت عميس أنها قالت: قيل لعلي: ألا تتزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ما لي صفراء ولا بيضاء ولست بمأبور بالباء الموحدة: يعني غير الصحيح الدين، ولا المتهم في الإسلام: أي لا أخشى الفاحشة إذا لم أتزوج. وليلة بنى بها قال صلى الله عليه وسلم لعلي: لا تحدث شيئا حتى تلقاني، فجاءت بها أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وعليّ في جانب آخر، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لفاطمة ائتيني بماء، فقامت تعثر في ثوبها. وفي لفظ في مرطها من الحياء، فأتته بقعب فيه ماء، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومج فيه، ثم قال لها: تقدمي، فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. ثم قال: ائتوني بماء، فقال علي كرم الله وجهه: فعلمت الذي يريد، فقمت وملأت القعب فأتيته به، فأخذه فمج فيه وصنع بي كما صنع بفاطمة ودعا لي بما دعا لها به، ثم قال: اللهم بارك فيهما،

وبارك عليهما، وبارك لهما في شملهما: أي الجماع، وتلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) والمعوذتين، ثم قال أدخل بأهلك باسم الله والبركة، وكان فراشها إهاب كبش: أي جلده، وكان لهما قطيفة إذا جعلاها بالطول انكشفت ظهورهما وإذا جعلاها بالعرض انكشفت رؤوسهما. ثم مكث صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام لا يدخل على فاطمة. وفي اليوم الرابع دخل عليهما في غداة باردة وهما في تلك القطيفة، فقال لهما: كما أنتما وجلس عند رأسهما ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما، فأخذ علي كرم الله وجهه إحداهما فوضعها على صدره وبطنه ليدفئها وأخذت فاطمة رضي الله عنها الأخرى فوضعتها كذلك. وقالت له في بعض الأيام: يا رسول الله ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، فقال لها صلى الله عليه وسلم يا بنية اصبري، فإن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام أقام مع امرأته عشر سنين ليس لهم فراش إلا عباءة قطوانية: أي وهي نسبة إلى قطوان: موضع بالكوفة، أي ولعل العباءة التي كانت تجلب من ذلك الموضع كانت صفيقة. وعن علي رضي الله تعالى عنه: لم يكن لي خادم غيرها. وعنه رضي الله تعالى عنه «لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألف دينار» ولعل المراد في السنة. قال الإمام أحمد بن حنبل: ما ورد لأحد من الصحابة ما ورد لعلي رضي الله تعالى عنه أي من ثنائه صلى الله عليه وسلم عليه. وسبب ذلك أنه كثرت أعداؤه والطاعنون عليه من الخوارج وغيرهم، فاضطر لذلك الصحابة أن يظهر كل منهم من فضله ما حفظه ردا على الخوارج وغيرهم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما نزل في أحد من الصحابة من كتاب الله ما نزل في عليّ. نزل في عليّ ثلاثمائة آية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما تكلمت به في التفسير فإنما أخذته عن علي كرم الله وجهه. ومن كلماته البديعة الوجيزة: لا يخافنّ أحد إلا ذنبه، ولا يرجونّ إلا ربه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم. ما أبردها على الكبد إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم. ومن ذلك: العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم

غزوة بني قينقاع

عملهم، يجلسون حلقا فيباهي بعضهم بعضا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم من مجالسهم تلك إلى الله. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي «يهلك فيك رجلان: محب مطر، وكذاب مفتر مكره لك يأتي بالكذب المفترى» وقال له «يا علي ستفترق أمتي فيك كما افترقت في عيسى ابن مريم» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني، يريا بني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها» . غزوة بني قينقاع بضم النون وقيل بكسرها أي وقيل بفتحها، فهي مثلثة النون، والضم أشهر: قوم من اليهود وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت رضي الله عنه وعبد الله بن أبيّ ابن سلول. فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان عاهدهم وعاهد بني قريظة وبني النضير أن لا يحاربوه، وأن لا يظاهروا عليه عدوه. وقيل على أن لا يكونوا معه ولا عليه. وقيل على أن ينصروه صلى الله عليه وسلم على من دهمه من عدوه أي كما تقدم، فهم أول من غدر من يهود؟ فإنه مع ما هم عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت امرأة من العرب بجلب لها: أي وهو ما يجلب ليباع من إبل وغنم وغيرهما فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ منهم. أي وفي الإمتاع أن المرأة كانت زوجة لبعض الأنصار، أي ومعلوم أن الأنصار كانوا بالمدينة، أي وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن تكون زوجة بعض الأنصار من الأعراب وأنها جاءت بجلب لها، فجعلوا أي جماعة منهم يراودونها عن كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها. قال وفي رواية: خله بشوكة وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون أي وتقدم وقوع مثل ذلك، وأنه كان سببا لوقوع حرب الفجار الأول. ولما غضب المسلمون على بني قينقاع أي وقال لهم صلى الله عليه وسلم «ما على هذا أقررناهم» تبرأ عبادة بن الصامت رضي الله عنه من حلفهم، أي قال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وتشبث به عبد الله بن أبي ابن سلول أي لم يتبرأ من حلفهم كما تبرأ منه عبادة بن الصامت، أي وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [المائدة: الآية 51] إلى

قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة: الآية 56] فجمعهم صلى الله عليه وسلم وقال لهم «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة» أي ببدر «وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله تعالى إليكم، قالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك أي تظننا أنا مثل قومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت لهم فرصة، إنا والله لو حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس» وفي لفظ «لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا» أي لأنهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا وأشدهم بغيا، فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران: الآية 12] الآية، أي وأنزل الله وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: الآية 58] الآية فتحصنوا في حصونهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولواؤه وكان أبيض بيد عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه. قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذ. وقد قدّمنا أن هذا يرده ما تقدم في ضمن غزاة بدر من أنه كان أمامه رايتان سوداوتان إحداهما مع علي ويقال لها العقاب، ولعلها سميت بذلك في مقابلة الراية التي كانت في الجاهلية تسمى بهذا الاسم، ويقال لها راية الرؤساء، لأنه كان لا يحملها في الحرب إلا رئيس، وكانت في زمنه صلى الله عليه وسلم مختصة بأبي سفيان رضي الله عنه، لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله إذا غاب كما في يوم بدر. والأخرى مع بعض الأنصار، وسيأتي في خيبر أن العقاب كان قطعة من برد لعائشة رضي الله عنها. واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، لأن خروجه صلى الله عليه وسلم كان في نصف شوّال، واستمر إلى هلال ذي القعدة الحرام، فقذف الله في قلوبهم الرعب وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيلهم، وأن يجلوا من المدينة: أي يخرجوا منها، وأن لهم نساءهم والذرية وله صلى الله عليه وسلم الأموال، أي ومنها الحلقة التي هي السلاح. والظاهر من كلامهم أنه لم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع، وخمست أموالهم أي مع كونها فيئا له صلى الله عليه وسلم لأنها لم تحصل بقتال ولا جلوا عنها قبل التقاء الصفين، فكان له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الأربعة الأخماس. أقول: ولا يخفى أن من جملة أموالهم دورهم، ولم أقف على نقل صريح دال على ما فعل بها، وعلم أنه صلى الله عليه وسلم جعل هذا الفيء كالغنيمة. ومذهبنا معاشر الشافعية أن الفيء المقابل للغنيمة كالواقع في هذه الغزوة وغزوة بني النضير الآتية كان في زمنه صلى الله عليه وسلم يقسم خمسة أقسام، له صلى الله عليه وسلم أربعة منها، والقسم الخامس يقسم خمسة أقسام له صلى الله عليه وسلم منها قسم، فيكون له أربعة أخماس وخمس الخمس والأربعة الأخماس الباقية من الخمس، منها واحد لذوي القربى، وآخر لليتامى، وآخر للمساكين، وآخر لابن

السبيل، فجميع مال الفيء مقسوم على خمسة وعشرين سهما منها أحد وعشرون سهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأربعة أسهم لأربعة أصناف، هم: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولعل إمامنا الشافعي رضي الله عنه رأى أن ذلك كان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم وإلا فهو هنا وفي بني النضير كما سيأتي لم يفعل ذلك بل خمسه هنا، ثم استقل به: أي لم يعط الجيش منه، وقد جعل صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم أي وبنات هاشم وبني أي وبنات المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل من أن الأربعة أولاد عبد مناف كما تقدم. ولما فعل ذلك جاء إليه صلى الله عليه وسلم جبير بن مطعم من بني نوفل وعثمان بن عفان من بني عبد شمس فقالا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا» وفي لفظ «ومنعتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة» وفي رواية «أن بني هاشم شرفوا بمكانك منهم وبنو المطلب، ونحن ندلي إليك بنسب واحد ودرجة واحدة فبم فضلتهم علينا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيئا واحد هكذا، وشبك بين أصابعه» زاد في رواية «أنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام» أي لأن الصحيفة إنما كتبت على بني هاشم والمطلب، لأنهم هم الذين قاموا دونه صلى الله عليه وسلم ودخلوا الشعب. وبعده صلى الله عليه وسلم صار الفيء أربعة أخماس للمرتزقة المرصدة للجهاد؟ وخمس الخامس لمصالح المسلمين، والخمس الثاني منه لذوي القربى، والخمس الثالث منه لليتامى، والخمس الرابع منه للمساكين، والخمس الباقي منه لابن السبيل. ثم لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان مع الجيش وغنم شيئا بقتال أو إيجاف خيل أو جلا عنه أهله بعد التقاء الصفين كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يختار من ذلك قبل قسمته، ويقال لهذا الذي يختاره الصفيّ والصفية كما تقدم. أقول: وتقدم عن الإمتاع عن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما خلافه، وتقدم هل صفيه صلى الله عليه وسلم كان محسوبا عليه من سهمه أو لا؟ قيل نعم، وقيل كان خارجا عنه وتقدم الجواب عن ذلك في غزاة بدر أن هذا الخلاف لا ينافي الجزم ثم بأنه كان زائدا على سهمه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك قبل نزول آية تخميس الغنيمة، فكان سهمه صلى الله عليه وسلم كسهم واحد من الجيش، فصفيه يكون زائدا على ذلك. وأما سهمه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية التخميس للغنيمة فهو خمس الغنيمة، فيجري فيما يأخذه قبل القسمة الخلاف، هل يكون زائدا على ذلك الخمس أو يكون محسوبا منه؟ فلا مخالفة بين إجراء الخلاف والجزم، والله أعلم.

غزوة السويق

وقيل لما نزلت بنو قينقاع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتفوا فكتفوا فأراد قتلهم، فكلمه فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول وألح عليه؛ أي فقال: يا محمد أحسن في مواليّ فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه، أي وتلك الدرع هي ذات الفضول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك أرسلني وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه سمرة لشدة غضبه، ثم قال: ويحك أرسلني، فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، فإنهم عترتي وأنا امرؤ أخشى الدوائر، فقال صلى الله عليه وسلم: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم، وتركهم من القتل، أي وقال له: خذهم لا بارك الله لك فيهم، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يجلوا من المدينة؛ أي ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وأمهلهم ثلاثة أيام فجلوا منها بعد ثلاث، أي بعد أن سألوا عبادة بن الصامت أن يمهلهم فوق الثلاث، فقال: لا ولا ساعة واحدة، وتولى إخراجهم، وذهبوا إلى أذرعات بلدة بالشام، أي ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا أجمعون بدعوته صلى الله عليه وسلم في قوله لابن أبيّ «لا بارك الله لك فيهم» . ويذكر أن ابن أبيّ قبل خروجهم جاء إلى منزله صلى الله عليه وسلم يسأله في إقرارهم فحجب عنه، فأراد الدخول، فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه، فانصرف مغضبا، فقال بنو قينقاع: لا نمكث في بلد يفعل فيه بأبي الحباب هذا ولا تنتصر له وتأهبوا للجلاء. قال: وقيل الذي تولى إخراجهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه، أي ولا مانع أن يكونا: أي عبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة اشتركا في إخراجهم. ووجد صلى الله عليه وسلم في منازلهم سلاحا كثيرا، أي لأنهم كما تقدم أكثر يهود أموالا وأشدهم بأسا، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاث قسيّ، قوسا يدعى الكتوم: أي لا يسمع له صوت إذا رمى به، وهو الذي رمى به صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى تشظى بالظاء المشالة كما سيأتي وسيأتي ما فيه، وقوسا يدعى الروحاء، وقوسا يدعى البيضاء، وأخذ درعين: درعا يقال له السغدية أي بسين مهملة وغين معجمة، ويقال إنها درع داود التي لبسها صلى الله عليه وسلم حين قتل جالوت، والأخرى يقال لها فضة، وثلاث أرماح، وثلاثة أسياف: سيف يقال له قلعي، وسيف يقال له بتار، والآخر لم يسم انتهى أي وسماه بعضهم بالحيف، ووهب صلى الله عليه وسلم درعا لمحمد بن مسلمة، ودرعا لسعد بن معاذ رضي الله عنهما والله تعالى أعلم. غزوة السويق لما أصاب قريشا في بدر ما أصابهم نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء من جنابة: أي لا يأتي النساء، ولعل هذه العبارة وهي لا يمس رأسه ماء من جنابة وقعت

من بعض الصحابة. مراده بها ما ذكر من أنه لا يأتي النساء. ويؤيده ما جاء في بعض الروايات: لا يمس النساء والطيب حتى يغزو محمدا؛ أو أن ذلك قاله أبو سفيان، بناء على أنهم كانوا يغتسلون من الجنابة. ومن ثم ذكر الدميري أن الحكمة في عدم بيان الغسل في آية الوضوء كون الغسل من الجنابة كان معلوما قبل الإسلام بقية من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فهو من الشرائع القديمة. وفي كلام بعضهم: كانوا في الجاهلية يغتسلون من الجنابة، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، ويصلون عليهم؛ وهو أن يقوم وليه بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه ويثني عليه، ثم يقول: عليك رحمة الله ثم يدفن. وما ذكره الدميري تبع فيه السهيلي حيث قال: إن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية بقية من دين إبراهيم وإسماعيل، كما بقي فيهم الحج والنكاح، فكان الحدث الأكبر معروفا عندهم، ولذلك قال تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: الآية 6] فلم يحتاجوا إلى تفسيره. وأما الحدث الأصغر فلما لم يكن معروفا عندهم قبل الإسلام لم يقل وإن كنتم محدثين فتوضؤوا، بل قال فَاغْسِلُوا [المائدة: الآية 6] الآية. فخرج أبو سفيان في مائتي راكب من قريش ليبر بيمينه حتى نزل بمحل بينه وبين المدينة نحو بريد. ثم أتى لبني النضير: أي وهم حي من يهود خيبر ينسبون إلى هارون أخي موسى بن عمران عليهما الصلاة والسلام تحت الليل، فأتى حيي بن أخطب، أي وهو من رؤساء بني النضير وهو أبو صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له، لأنه خافه، فانصرف عنه وجاء إلى سلام بن مشكم سيد بني النضير أي وصاحب كنزهم: أي المال الذي كانوا يجمعونه ويدخرونه لنوائبهم وما يعرض لهم أي وكان حليا يعيرونه لأهل مكة، فاستأذن عليه، فأذن له واجتمع به، ثم خرج إلى أصحابه، فبعث رجالا من قريش فأتوا ناحية من المدينة فحرقوا نخلا منها ووجدوا رجلا من الأنصار. قال في الإمتاع: وهذا الأنصاري هو معبد بن عمرو وحليفا لهم فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين، فعلم بهم الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم في مائتين من المهاجرين والأنصار: أي واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة بشير بن عبد المنذر. وكان خروجه لخمس خلون من ذي الحجة. وجعل أبو سفيان وأصحابه يخففون للهرب أي لأجله، فجعلوا يلقون جرب السويق أي وهو قمح أو شعير يقلى ثم يطحن ليسفّ، تارة بماء، وتارة بسمن، وتارة بعسل وسمن وهو عامة أزوادهم، فيأخذه المسلمون ولم يلحقوا بهم، وانصرف

غزوة قرقرة الكدر

رسول الله راجعا إلى المدينة، وكانت غيبته خمسة أيام. غزوة قرقرة الكدر ويقال قرقرة الكدرة ويقال قراقر. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من بني سليم وغطفان بقرقرة الكدر: أي لعله بلغه أنهم يريدون الإغارة على المدينة بعد أن غزاهم صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وقرقرة الكدر: أرض ملساء فيها طيور في ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع، كما تقدم أن الماء الذي بأرضهم الذي بلغه صلى الله عليه وسلم ولم يجد به أحدا منهم يسمى الكدر، لوجود ذلك الطير به، فسار إليهم في مائتين من أصحابه، وحمل لواءه عليّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وتقدم في تلك أنه استخلف على المدينة سباع بن عرفطة أو ابن أمّ مكتوم وتقدم ما فيه، فلما سار إليه أي إلى ذلك الموضع لم يجد به أحدا، وأرسل نفرا من أصحابه إلى أعلى الوادي واستقبلهم في بطن الوادي فوجد خمسمائة بعير مع رعاة، منهم غلام يقال له يسار فحازوها وانحدروا بها إلى المدينة، فلما كانوا بمحل على ثلاثة أميال من المدينة خمسها صلى الله عليه وسلم، فأخرج خمسة وقسم الأربعة الأخماس على أصحابه، فخص كل رجل منهم بعيران، ووقع يسار في سهمه صلى الله عليه وسلم، فأعتقه صلى الله عليه وسلم لأنه رآه يصلي أي وقد أسلم، وتعلم الصلاة من المسلمين بعد أسره، أي وفي كون هذا غنيمة حيث قسمه كذلك وقفة. وكانت مدة غيبته صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، فعلم أنه صلى الله عليه وسلم غزا بني سليم؛ وأنه وصل إلى ماء من مياههم يقال له الكدر لوجود ذلك الطير به، وأنه استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أمّ مكتوم. وهنا وقع الجزم بالثاني، وأن الأولى لم يذكر أنه وجد فيها شيئا من النعم. وظاهر هذا يدل على التعدد، وجرى عليه الأصل، أي وحينئذ تكون تلك الطيور توجد في ذلك الماء وفي تلك الأرض. فعلى هذا يكون صلى الله عليه وسلم غزا بني سليم مرتين: مرة وصل فيه لذلك الماء ولم يجد شيئا من النعم، ومرة وصل فيها لتلك الأرض ووجد بها تلك النعم، ولم أقف على أن محل ذلك الماء سابق على تلك الأرض، أو أن تلك الأرض سابقة على محل ذلك الماء. وفي السيرة الشامية أن غزوة بني سليم هي غزوة قرقرة الكدر، فعليه يكون إنما غزا بني سليم مرة واحدة، أي وحينئذ يكون الماء الذي كان به ذلك الطير كان في تلك الأرض الملساء أو قريبا منها، فليتأمل. والحافظ الدمياطي جعل غزوة بني سليم هي غزوة بحران الآتية؛ وسنذكرها.

غزوة ذي أمر

غزوة ذي أمرّ بتشديد الراء: اسم ماء، أي وسماها الحاكم غزوة أنمار، ويقال إنها غزوة غطفان. بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا يقال له دعثور بضم الدال وإسكان العين المهملتين ثم مثلثة مضمومة ابن الحارث: أي الغطفاني من بني محارب جمع جمعا من ثعلبة ومحارب بذي أمر: أي وهو موضع من ديار غطفان، أي ولعل به ذلك الماء المسمى بما ذكر كما تقدم، يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعمائة وخمسين رجلا لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وأصاب أصحابه رجلا منهم: أي يقال له جبار، وقيل حباب بكسر الحاء المهملة وبالباء الموحدة من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره من خبرهم، أي وقال له: لن يلاقوك ولو سمعوا بمسيرك إليهم هربوا في رؤوس الجبال، وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام فأسلم وضمه صلى الله عليه وسلم إلى بلال، أي وأخذ به ذلك الرجل طريقا وهبط به عليهم، فسمعوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم فهربوا في رؤوس الجبال: أي فبلغوا ماء يقال له ذو أمر، فعكسر به صلى الله عليه وسلم، وأصابهم مطر أي كثير بلّ ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثياب أصحابه فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع أي بمرأى من المشركين واشتغل المسلمون في شؤونهم فبعث المشركون دعثورا الذي هو سيد القوم وأشجعهم المجمع لهم: أي فقالوا له: قد انفرد محمد فعليك به أي وفي لفظ أنه لما رآه قال: قتلني الله إن لم أقتل محمدا، فجاء دعثور ومعه سيفه حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من يمنعك مني اليوم؟ وفي رواية الآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، أي بعد وقوعه على ظهره، فأخذ السيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: من يمنعك مني؟ قال لا أحد، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. وفي رواية وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم أتى قومه أي بعد أن أعطاه صلى الله عليه وسلم سيفه فجعل يدعوهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنه رأى رجلا طويلا دفع في صدره فوقع على ظهره، فقال: علمت أنه ملك فأسلمت، ونزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة: الآية 11] الآية، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق حربا، وكانت مدة غيبته إحدى عشرة ليلة.

غزوة بحران

غزوة بحران بفتح الموحدة وتضم وسكون الحاء المهملة، وعبر عنها الحافظ الدمياطي بغزوة بني سليم كما تقدم. لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن ببحران: وهو موضع بالحجاز معروف، بينه وبين المدينة ثمانية برد جمعا كثيرا من بني سليم، خرج في ثلاثمائة من أصحابه لست خلون من جمادى الأولى، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، أي ولم يظهر وجها للسير وأحث السير حتى بلغ بحران، فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، أي وكان صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إلى ذلك بليلة لقي رجلا من بني سليم، فأخبره أن القوم تفرقوا، فحبسه مع رجل وسار إلى أن وجدهم كذلك، فأطلق الرجل، وأقام بذلك المحل أياما، ثم رجع ولم يلق حربا، وكانت غيبته عشر ليال. وعلى مقتضى هذا السياق تبعا للأصل يكون غزا بني سليم ثلاث مرات: مرة عقب بدر، وهذه الغزوة، وغزوة ذي أمر كانتا في السنة الثالثة من الهجرة. وفي تلك السنة التي هي الثالثة عقد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أختها رقية، وتقدم وقت موتها. وعقد صلى الله عليه وسلم على حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وذلك في شعبان لما انقضت عدة وفاة زوجها خنيس بن حذيفة من شهداء بدر، بعد أن عرضها عمر على أبي بكر فلم يجبه لشيء، وعرضها على عثمان فلم يجبه لشيء، فقال عمر: يا رسول الله قد عرضت حفصة على عثمان فأعرض عني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قد زوّج عثمان خيرا من ابنتك، وزوج ابنتك خيرا من عثمان» فتزوج عثمان أم كلثوم، وتزوّج صلى الله عليه وسلم حفصة. وتزوّج أيضا صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة في رمضان. وتزوّج زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب في تلك السنة. وقيل تزوّجها في السنة الرابعة، وصححها في الأصل. وقيل في الخامسة، وكان اسمها برة بفتح الموحدة، واسم أمها برة بضمها، فغير صلى الله عليه وسلم اسمها وسماها زينب، وقال لها صلى الله عليه وسلم «لو كان أبوك مسلما لسميناه باسم رجل منا، ولكن قد سميته جحشا» أي والجحش في اللغة السيد. وقد كان صلى الله عليه وسلم جاء إليها ليخطبها لمولاه زيد بن حارثة، فقالت: لست بناكحته، قال: بل فانكحيه، قالت: يا رسول الله أؤامر: أي أشاور نفسي فإني خير منه حسبا، فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ

أَمْرِهِمْ [الأحزاب: الآية 36] الآية، فقالت عند ذلك رضيت. وفي رواية أنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوّجها من زيد، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها عبده فنزلت الآية. أي وعن مقاتل «أن زيد بن حارثة لما أراد أن يتزوّج زينب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله اخطب علي؟ قال له: من؟ قال: زينب بنت جحش، فقال له: لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نسبا، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، قال: إنها امرأة لسناء» أي فصيحة، والمراد لسانها طويل، فذهب زيد إلى علي رضي الله تعالى عنه، فحمله على أن يكلم له النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق معه عليّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال: إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها لتكلمهم ففعل، ثم عاد فأخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فانكحوه، وساق إليهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك جاء صلى الله عليه وسلم بيت زيد يطلبه فلم يجده، فتقدمت إليه زينب، فأعرض عنها، فقالت له: ليس هو هنا يا رسول الله فادخل، فأبى أن يدخل وأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لأن الريح رفعت الستر فنظر إليها من غير قصد فوقعت في نفسه صلى الله عليه وسلم، فرجع وهو يقول «سبحان مصرّف القلوب» وفي رواية «مقلب القلوب» وسمعته زينب يقول ذلك، فلما جاء زيد أخبرته الخبر، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها لك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجك، فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم، أي فلم يستطع أن يغشاها من حين رآها صلى الله عليه وسلم إلى أن طلقها. فعنها رضي الله تعالى عنها: لما وقعت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد وما امتنعت منه، وصرف الله تعالى قلبه عني، وجاءه يوما وقال له: يا رسول الله إن زينب اشتدّ عليّ لسانها وأنا أريد أن أطلقها، فقال له اتق الله وأمسك عليك زوجك، فقال: استطالت عليّ، فقال له إذن طلقها فطلقها. فلما انقضت عدّتها أرسل زيدا لها فقال له اذهب فاذكرها عليّ فانطلق، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي: أي أستخيره. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتحدث مع عائشة إذ نزل عليه الوحي بأن الله زوّجه زينب، فسريّ عنه وهو يبتسم، وهو يقول: من يذهب إلى زينب فيبشرها أن الله زوجنيها من السماء؟ وجاء إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن، قالت: دخل عليّ وأنا مكشوفة الشعر، فقلت: يا رسول الله بلا خطبة ولا إشهاد؛ قال: الله المزوج، وجبريل الشاهد، أي وأنزل الله تعالى وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ

وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: الآية 37] الآية، فهذه الآية نزلت في زيد رضي الله عنه وقد قالها صلى الله عليه وسلم في حق ولده أسامة، فقد جاء «أحب أهلي إليّ من أنعم الله وأنعمت عليه أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب» فنعمة الله على زيد وعلى ولده أسامة الإسلام. ونعمة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما العتق، لأن عتق أبيه عتق له تأمل. وإنما توجه هذا العتب أي لأن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه صلى الله عليه وسلم، فلما شكا إليه زيد قال له أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: الآية 37] وأخفى منه في نفسه ما الله مبديه ومظهره، وهو ما أعلمه الله به من أنك ستتزوّجها، فالذي أخفاه ما كان الله أعلمه به وَتَخْشَى النَّاسَ [الأحزاب: الآية 37] أي اليهود والمنافقين أن يقولوا تزوج امرأة ابنه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: الآية 37] في إمضاء ما أحبه ورضيه لك وأعطاك إياه. وقد جعل الله تعالى طلاق زيد لها وتزوّج النبي صلى الله عليه وسلم إياها لإزالة حرمة التبني. قال تعالى لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: الآية 37] . وأو لم صلى الله عليه وسلم عليها بما لم يولم به على نسائه وذبح شاة وأطعم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدّثون في البيت بعد الطعام، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي البخاري «فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون» وفي البخاري أيضا «فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته كيف وجدت أهلك، بارك الله لك، ثم دخل حجر نسائه كلهنّ يقول كما قال لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجد القوم في البيت يتحدثون قال أنس رضي الله تعالى عنه: وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج فطلبها إلى حجرة عائشة، فأخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى وضع رجله في أسكفة البيت داخله وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه فنزلت آية الحجاب» . قال في الكشاف وهي أدب الله تعالى به الثقلاء. وفي مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «خرجت سودة بعد ما ضرب علينا الحجاب تقضي حاجتها أي بالمناصع: محل كان أزواجه صلى الله عليه وسلم يخرجن إليه بالليل للتبرز، وكانت امرأة جسيمة، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين، فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت، فقالت: يا رسول الله إني خرجت، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله تعالى إليه، ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن» وكان قول عمر لسودة ما ذكر حرصا على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها، فأنزل الله الحجاب، وفيه أنه تقدم

غزوة أحد

عنها أن قول عمر لسودة كان بعد أن ضرب الحجاب. وقد يقال المراد بالحجاب هنا عدم خروجنّ للبراز فلا ترى أشخاصهنّ، والحجاب المتقدم عدم رؤية شيء من أبدانهن فلا مخالفة فليتأمل. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «دخلت على زينب بنت جحش وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلت عليه، فقالت له: ما كل واحدة منا عندك إلا على خلاء: أي على ما أردت، ثم أقبلت عليّ تسبني فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنته. فقال لي سبيها فسببتها وكنت أطول لسانا منها حتى جف ريقها في فمها، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سرورا» أي وفي يوم غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب لقولها في صفية بنت حيي: تلك اليهودية، فهجرها لذلك ذا الحجة والمحرم وبعض صفر، ثم أتاها بعد وعاد إلى ما كان معها. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت «أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تستأذن والنبي صلى الله عليه وسلم معي، فأذن لها فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة» أي أن تعدل بينهنّ وبينها «فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت بلى، قال فأحبي هذه يعنيني، فقامت فاطمة فخرجت فجاءت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فحدثتهنّ بما قالت وبما قال لها فقلن لها: ما أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله لا أكلمه فيها أبدا. فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش فاستأذنت عليه وهو في بيت عائشة فأذن لها، فدخلت فقالت: يا رسول الله أرسلني أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم وقعت: أي زينب بي تسمعني ما أكره، فطفقت أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأذن لي فيها، فلم أزل حتى عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، فوقعت بها أسمعها ما تكره، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: إنها ابنة أبي بكر» أي محل الفصاحة والشهامة. وسبب ذلك أي طلبهنّ أن يعدل بينهن وبين عائشة أن الناس كانوا يتحرّون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. غزوة أحد وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور. وشذ من قال سنة أربع. وأحد جبل من جبال المدينة، قيل سمي بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التي هناك، وهذا الجبل يقصد لزيارة سيدنا حمزة ومن فيه من الشهداء. وهو على نحو

ميلين، وقيل على ثلاثة أميال من المدينة؛ يقال إن فيه قبر هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، وفيه قبض، فواراه موسى به. وكانا قدما حاجين أو معتمرين. وعن ابن دحية أن هذا باطل بيقين، وأن نص التوراة أنه دفن بجبل من جبال بعض مدن الشام. وقد يقال لا مخالفة، لأنه يقال المدينة شامية، وقيل دفن بالتيه هو وأخوه موسى عليهما الصلاة والسلام كما تقدم. قال صلى الله عليه وسلم «إن أحدا هذا جبل يحبنا ونحبه، إذا مررتم به فكلوا من شجره ولو من عضاهه» أي وهي كل شجرة عظيمة لها شوك. والقصد الحث على عدم إهمال الأكل من شجرة تبركا به. وقال صلى الله عليه وسلم «أحد ركن أركان من أركان الجنة» أي جانب عظيم من جوانبها وفي رواية «على باب من أبواب الجنة» ولا يخالف ما قبله، فإنه جاز أن يكون ركنا بجانب الباب. وفي رواية «جبل من جبال الجنة» ولا مانع أن تكون المحبة من الجبل على حقيقتها، وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال المسبحة مع داود عليه السلام، وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله فيها وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: الآية 74] . وقيل هو على حذف مضاف: أي يحبنا أهله وهم الأنصار. أو لأن اسمه مشتق من الأحدية، وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال. وقيل أفضلها عرفة. وقيل أبو قبيس وقيل الذي كلم الله عليه موسى. وقيل قاف. ولما أصاب قريشا يوم بدر ما أصابها مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية رضي الله تعالى عنهم، فإنهم أسلموا بعد ذلك، ورجال أخر من أشراف قريش إلى أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك أيضا، وإلى من كان له تجارة في تلك العير: أي التي كان سببها وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة في دار الندوة لم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم: أي قتل رجالكم ولم تدركوا دماءهم، وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا: أي وقالوا نحن طيبو النفوس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فجعلوا لذلك ربح المال، فسلم لأهل العير رؤوس أموالهم وكانت خمسين ألف دينار، وأخرجوا أرباحها وكان الربح لكل دينار دينار أي فكان الذي أخرج خمسين ألف دينار. وقيل أخرجوا خمسة وعشرين ألف دينار، وأنزل الله تعالى في تلك إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ

عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: الآية 36] . وتجهزت قريش من والاهم من قبائل كنانة وتهامة. وقال صفوان بن أمية لأبي عزة يا أبا عزة إنك رجل شاعر فأعنا بلسانك، ولك عليّ إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ أي وأخذ علي أن لا أظاهر عليه أحدا حين أطلقني وأنا أسير في أسارى بدر فلا أريد أن أظاهر عليه، قال بلى فأعنا بلسانك. فخرج أبو عزة ومسافع يستنفران الناس بأشعارهما. فأما مسافع فلا يعلم له إسلام، لكن في كلام ابن عبد البر: مسافع بن عياض بن صخر القرشي التيمي له صحبة، وكان شاعرا لم يرو شيئا ولا أدري هل هو هذا أو غيره. وأما أبو عزة فظفر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الوقعة بحمراء الأسد: أي المكان المعروف الآتي بيانه قريبا، وتقدم استطرادا، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت فضرب عنقه وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي، وتقدم استطرادا. ودعا جبير بن مطعم بن عدي رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك غلاما له حبشيا يقال له وحشي رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، وكان يقذف بحرية له قذف الحبشة قلما يخطىء بها، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق، أي لأن حمزة هو القاتل له. وقيل وحشي كان غلاما لطعيمة، وإن ابنة سيده طعيمة قالت له: إن قتلت محمدا أو حمزة أو عليا في أبي فإني لا أدري في القوم كفؤا له غيرهم فأنت عتيق، وخرج معهم النساء بالدفوف. وفي كلام سبط ابن الجوزي: وساروا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور والبغايا، هذا كلامه. وخرج من نساء قريش خمس عشرة امرأة: أي مع أزواجهن. ومنهنّ هند زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنها، فإنها أسلمت بعد ذلك. أي وأم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة رضي الله تعالى عنهما، فإنهما أسلما بعد ذلك، وسلافة مع زوجها طلحة بن أبي طلحة، وأم مصعب بن عمير يبكين قتلى بدر وينحن عليهم، يحرضنهم على القتال، وعدم الهزيمة والفرار. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أرسل به إليه عمه العباس، أي بعد أن راودوه على الخروج معهم، فاعتذر بما لحقه من القوم يوم بدر ولم يساعدهم بشيء، وذلك في كتاب جاء إليه صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، أرسله العباس مع رجل استأجره من بني غفار وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل كذلك، فلما جاءه الكتاب فك ختمه ودفعه لأبي فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبيا، ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس، أي فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا فاستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده

قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لها: لا أم لك وما أنت وذاك؟ فقالت: قد سمعت ما قال وأخبرته بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسترجع وأخذ بيدها ولحقه صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها وقال: يا رسول الله إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خلّ عنها. وسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل. وقال بعض الحفاظ جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وخرج معه أبو عامر الراهب في سبعين فارسا من الأوس. قال في الأصل: والأحابيش الذين حالفوا قريشا، وهم: بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة، اجتمعوا عند حبشي، وهو جبل بأسفل مكة، وتحالفوا على أنهم مع قريش يدا واحدة على غيرهم ما سجى ليل ووضح نهار، ومارسا حبشي مكانه، فسموا أحابيش باسم الجبل. وقيل سموا بذلك لتحبشهم: أي تجمعهم، وفيهم مائتا فارس أي وثلاثة آلاف بعير وسبعمائة دارع حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحليفة: أي وهو ميقات أهل المدينة الذي يحرمون منه، أي وأرجفت اليهود والمنافقون، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عينين له: أي جاسوسين فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم. ويقال إن عمرو بن سالم الخزاعي مع نفر من خزاعة فارقوا قريشا من ذي طوى وجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه خبرهم وانصرفوا. ولما وصلوا: أي كفار قريش ومن معهم للأبواء أرادوا نبش قبر أمه صلى الله عليه وسلم، والمشير عليهم بذلك هند بنت عتبة زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، فقالت: لو بحثتم قبر أم محمد فإن أسر منكم أحدا فديتم كل إنسان بأرب من آرابها: أي جزء من أجزائها، فقال بعض قريش: لا يفتح هذا الباب وإلا نبش بنو بكر موتانا عند مجيئهم، وحرست المدينة، وبات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة وعليهم السلاح في المسجد بباب رسول الله حتى أصبحوا. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قال: «رأيت البارحة في منامي خيرا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذبابة سيفي: أي وهو ذو الفقار «ثلما» بإسكان اللام. وفي لفظ «وكأن ظبة سيفي انكسرت» وفي لفظ «ورأيت سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبته فكرهته، وهما مصيبتان. ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة» وفي رواية «ورأيت أني في درع حصينة أي وأني مردف كبشا. قال صلى الله عليه وسلم بعد أن قيل له ما أولتها؟ قال: قال: فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون» وفي لفظ «أولت البقر بقرا يكون فينا. وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي» أي وفي رواية «من عترتي يقتل» وفي رواية «رأيت أن سيفي ذا الفقار فلّ، فأولته فلا فيكم» أي وفلول السيف كسور في حده، وقد حصل في حد سيفه كسور، وحصل انفصام ظبته وذهابها فكان

ذلك علامة على وجود الأمرين. وأما الدرع الحصينة فالمدينة: أي وأما الكبش فإني أقتل كبش القوم: أي حاميهم وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلنا فيها، أي فأنا أعلم بها منهم وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فهي كالحصن، وكان ذلك رأي أكابر المهاجرين والأنصار. قال: ووافق على ذلك عبد الله ابن أبي سلول، أي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل يستشيره ولم يستشره قبل ذلك، قال: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم الصبيان بالحجارة من ورائهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا. اهـ. وهذا هو الظاهر خلافا لما ذكره بعضهم من أنه صلى الله عليه وسلم دعا عبد الله بن أبي ابن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره، فقال: يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكالب، إذ لا يناسب ذلك ما يأتي عنه من رجوعه وقوله خالفني الخ، وإنما قال ذلك رجل من المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة يوم أحد. وقال رجال: أي غالبهم أحداث أحبوا لقاء العدوّ وغالبهم ممن أسف على ما فاته من مشهد بدر، أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرونا أنا جبنا عنهم وضعفنا، أي فيكون ذلك جراءة منهم علينا، والله لا نطيع العرب في أن تدخل علينا منازلنا. وفي لفظ أن الأنصار قالوا: يا رسول الله ما غلبنا عدو لنا أتانا في دارنا أي في ناحية من نواحيها فكيف وأنت فينا ووافقهم على ذلك حمزة بن عبد المطلب. وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجادلهم بسيفي خارج المدينة، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم كاره للخروج، فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وافق على ذلك، فصلى الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم أن لهم النصرة ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بذلك، ثم صلّى بالناس العصر وقد حشدوا: أي اجتمعوا؛ وقد حضر أهل العوالي ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فعمماه وألبساه، وصف الناس ينتظرون خروجه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردّوا الأمر إليك، أي فما أمركم به وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته وظاهر بين درعين أي لبس درعا فوق درع، وهما: ذات الفضول، وفضة التي أصابها من بني قينقاع كما تقدم، وذات الفضول هذه هي التي أرسلها إليه صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه حين سار إلى بدر، وهي التي مات صلى الله عليه وسلم عنها وهي مرهونة عند اليهودي، وأفتكها أبو بكر رضي

الله عنه، وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه صلى الله عليه وسلم: وأنكر الإمام أبو العباس بن تيمية أنه صلى الله عليه وسلم تمنطق حيث قال: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شد وسطه بمنطقة. وقد يقال: مراد ابن تيمية المنطقة المعروفة وليس هذا منها. وفيه رد على بعضهم في قوله: كان له صلى الله عليه وسلم منطقة من أدم فيها ثلاث حلق من فضة، والطرف من فضة. وقد يقال: لا يلزم من كونه له منطقة أن يكون تمنطق بها فليتأمل. وتقلد صلى الله عليه وسلم السيف، وألقى الترس في ظهره، أي وفي رواية: فركب صلى الله عليه وسلم فرسه السكب، وتقلد القوس، وأخذ قناته بيده، أي ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك، فقالوا له: ما كان لنا أن نخالفك. ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت. وفي رواية: فإن شئت فاقعد، أي وقال: قد دعوتكم إلى القعود فأبيتم وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، أي وفي رواية: حتى يقاتل. وأخذ منه أن يحرم على النبي نزع لأمته إذا لبسها حتى يلحق العدوّ ويقاتل، وبه قال أئمتنا: أي وقيل إنه مكروه واستبعد. وقوله صلى الله عليه وسلم «وما ينبغي لنبي» يقتضي أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثله في ذلك، أي لأن نزع ذلك يشعر بالجبن، وذلك ممتنع على الأنبياء صلى الله عليه وسلم قاله في النور. وما اختص به من المحرمات فهو مكروه له، لأن المحرم في المنهيات كالواجب في المأمورات. وعقد صلى الله عليه وسلم ثلاثة ألوية: لواء للأوس وكان بيد أسيد بن حضير، ولواء للمهاجرين وكان بيد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقيل بيد مصعب بن عمير، أي لأنه كما قيل لما سئل عمن يحمل لواء المشركين؟ فقيل طلحة بن أبي طلحة: أي من بني عبد الدار، فأخذه صلى الله عليه وسلم من علي ودفعه لمصعب بن عمير، أي لأن مصعب بن عمير من بني عبد الدار وهم أصحاب اللواء في الجاهلية كما تقدم؛ وسيأتي. ولواء للخزرج كان بيد الحباب بن المنذر، وقيل بيد سعد بن عبادة. وخرج في ألف، وقيل تسعمائة، ولعله تصحيف عن سبعمائة لما سيأتي أن عبد الله بن أبي ابن سلول رجع معه ثلاثمائة، فبقي سبعمائة من أصحابه صلى الله عليه وسلم منهم مائة دارع. وخرج السعدان أمامه صلى الله عليه وسلم يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دارعين. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، أي وسار إلى أن وصل رأس الثنية، أي وعندها وجد كتيبة كبيرة، فقال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود، فقال: أسلموا؟ فقيل لا، فقال: إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك

فردهم: أي وهؤلاء اليهود غير حلفائه من بني قينقاع، فلا يقال هذا إنما يأتي على أن إجلاء بني قينقاع كان بعد أحد، لأنهم هم حلفاؤه من يهود كما تقدّم، لأنا نمنع انحصار حلفائه من يهود في بني قينقاع. وسار صلى الله عليه وسلم وعسكر بالشيخين، وهما أطمان: أي جبلان وعند ذلك عرض قومه فردّ جمعا: أي شبابا لم يرهم بلغوا خمس عشرة سنة، بل أربع عشرة سنة، كذا نقل عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه، ونقل عنه بعضهم أنه قال: لم يرهم بلغوا أربع عشرة سنة: منهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، خلافا لمن أنكر صحبته، وعرابة هذا هو القائل فيه الشماخ: رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين وأوس والده هو القائل في يوم الأحزاب: إن بيوتنا عورة كما سيأتي، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن خيثمة رضي الله تعالى عنهم، أي وزيد بن حارثة الأنصاري كان أبوه حارثة من المنافقين من أصحاب مسجد الضرار، ورافع بن خديج، وسمرة بن جندب. ثم أجاز صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج لما قيل له إنه رام، وأصيب في ذلك اليوم بسهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أشهد له يوم القيامة، ومات في زمن عبد الملك بن مروان لما نقض عليه ذلك الجرح، وعندما أجازه قال سمرة بن جندب لزوج أمه: أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه، فأعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تصارعا، فصرع سمرة بن جندب رافعا فأجازه. وممن رده صلى الله عليه وسلم يوم أحد لصغر سنه سعد ابن حبتة، عرف بأمه حبتة؛ فلما كان يوم الخندق رآه صلى الله عليه وسلم يقاتل قتالا شديدا فدعاه ومسح على رأسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله؛ فكان عما لأربعين، وخالا لأربعين، وأبا لعشرين، ومن ولده أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهم، وتقدم في بدر أنه صلى الله عليه وسلم رد زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم. وأسيد بن ظهير، فما فرغ العرض إلا وقد غابت الشمس، فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم أذن بالعشاء فصلى بهم وبات، واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وذكوان بن عبد قيس يحرسه لم يفارقه لما قال صلى الله عليه وسلم: من يحفظنا الليلة حتى كان السحر. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «لقد رأيت» أي في النوم «الملائكة تغسل حمزة رضي الله

عنه، وأدلج رسول الله في السحر فحانت صلاة الصبح بالشوط» حائط بين المدينة وأحد، ومن ذلك المكان رجع عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثمائة رجل، وهو يقول: عصاني وأطاع الولدان ومن لا أرى له علما ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس فرجعوا، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر رضي الله عنهما، وكان في الخزرج كعبد الله بن أبي يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا بضم الذال المعجمة: قومكم ونبيكم: أي تتركوا نصرتهم وإعانتهم عندما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتالا وأبوا إلا الانصراف، فقال لهم: أبعدكم الله أي أهلككم الله أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه. وفيه أن قوله المذكور يخالف قوله علام نقتل أنفسنا، إلا أن يقال على فرض أنه يقع قتالا، علام نقتل أنفسنا. فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه، قالت طائفة: نقتلهم، وقالت طائفة أخرى: لا نقتلهم وهما أن يقتتلا، والطائفتان هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، فأنزل الله تعالى فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ [النّساء: الآية 88] أي ردهم إلى كفرهم بما كسبوا. وفي كلام سبط ابن الجوزي: ولما رأى بنو سلمة وبنو حارثة عبد الله بن أبي قد خذل، هموا بالانصراف وكانوا جناحين من العسكر ثم عصمهما الله، وأنزل قوله تعالى إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران: الآية 122] الآية فبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة رجل. ومن هذا يعلم ما في المواهب من قوله: ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكان يقال له الشوط، لأن الذين ردهم صلى الله عليه وسلم لكفرهم حلفاء عبد الله بن أبيّ ابن سلول من يهود، وكان رجوعهم قبل الشوط. والذين رجع بهم عبد الله كانوا منافقين، ورجوعه بهم كان من الشوط، ولم يكن مع المسلمين يومئذ إلا فرسان: فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة. وقيل لم يكن معهم فرس، أي وهذا القيل نقله في «فتح الباري» عن موسى بن عقبة وأقرّه. وقالت الأنصار أي لما رجع ابن أبي: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود: أي يهود المدينة، ولعلهم عنوا بهم بني قريظة، لأن بني قريظة من حلفاء سعد بن معاذ وهو سيد الأوس. قال بعضهم: كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا فيهم. أقول: وحينئذ يكون المراد قالت طائفة من الأنصار وهم الأوس ولم يكونوا سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم «إنا لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» والله أعلم. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يخرج بنا على القوم من كثيب: أي من طريق قريب

لا يمرّ بنا عليهم، فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فنفذ به من حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى دخل في حائط للمربع بن قيظي الحارثي وكان رجلا منافقا ضريرا فقام يحثي التراب، أي في وجوههم، ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وفي يده حفنة من تراب وقال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدر إليه سعد بن زيد فضربه بالقوس في رأسه فشجه، وأراد القوم قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» أي وغضب له ناس من بني حارثة كانوا على مثل رأيه: أي منافقين لم يرجعوا مع من رجع مع عبد الله بن أبيّ، فهمّ بهم أسيد بن حضير حتى أومأ أي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك ذلك ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. قال: واستقبل المدينة، وصف المسلمين في جبل أحد: أي بعد أن بات به تلك الليلة، وحانت الصلاة صلاة الصبح والمسلمون يرون المشركين فأذن بلال وأقام، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صفوفا، وخطب خطبة حثهم فيها على الجهاد. ومن جملة ما ذكر فيها «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا» . وفي رواية «إلا امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض» بالرفع، وعليها فالمستثنى محذوف: أي إلا أربعة. وما ذكر بدل منها، قال «ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد، ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث: أي أوحى وألقى «في روعي» بضم الراء أي قلبي «الروح الأمين» أي الذي هو جبريل «إنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم وأجملوا» أي أحسنوا «في طلب الرزق، لا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية الله، والمؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده والسلام عليكم» انتهى. أي ولما أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإنه أسلم بعد ذلك ومعه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك كما تقدم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام وقال له: استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر، ولعل المراد وأمر جماعة بأن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين، لأنه تقدم أنه لم يكن معهم إلا فرس أو إلا فرسان. أي وما وقع في الهدى أن الفرسان من المسلمين يوم أحد كانوا خمسين رجلا سبق قلم وقال: لا تبرحوا حتى أوذنكم وقال، لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال، وكان الرماة خمسين رجلا، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: انضح الخيل عنا

بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وأثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا. أي وفي رواية «إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» زاد في رواية «وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا» . قال وفي رواية أنه قال: أي للرماة «الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنبل. فإن الخيل لا تقدّم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم» انتهى. وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا أي وكان مكتوبا في إحدى صفحتيه. في الجبن عار وفي الإقبال مكرمة ... والمرء بالجبن لا ينجو من القدر وقال «من يأخذ هذا السيف بحقه، فقام إليه رجال فأمسكه عنهم من جملتهم علي رضي الله تعالى عنه قام ليأخذه، فقال: اجلس، وعمر رضي الله تعالى عنه فأعرض عنه والزبير رضي الله تعالى عنه، أي وطلبه ثلاث مرات، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه حتى قام إليه أبو دجانة وقال: ما حقه يا رسول الله؟ قال تضرب به في وجه العدوّ حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب» أي يمشي مشية المتكبر «وحين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبختر بين الصفين قال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» أي لأن فيها دليلا على عدم الاكتراث بالعدوّ. وعند اصطفاف القوم نادى أبو سفيان بن حرب: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم، فشتموه أقبح شتم، ولعنوه أشد اللعن. قال: وخرج رجل من المشركين على بعير له فدعا للبراز، فأحجم عنه الناس حتى دعا ثلاثا، فقام إليه الزبير، فوثب حتى استوى معه على البعير ثم عانقه، فاقتتلا فوق البعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي يلي حضيض الأرض مقتول، فوقع المشرك، فوقع عليه الزبير فذبحه، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير» وقال صلى الله عليه وسلم «لو لم يبرز إليه الزبير لبرزت إليه» لما رأى من إحجام الناس عنه انتهى. وخرج رجل من المشركين بين الصفين، أي وهو طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة والده اسمه عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، وكان بيده لواء المشركين لأن بني عبد الدار كانوا أصحاب لواء المشركين، لأن اللواء كان لوالدهم عبد الدار كما تقدم. وطلب طلحة المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد. فقال: يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم إلى الجنة وأن قتلانا إلى النار وفي رواية قال يا أصحاب محمد

إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يعجلني بسيفه إلى النار؟ أو أعجله بسيفي إلى الجنة كذبتم، واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إليّ بعضكم، فخرج إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين، فقتله علي رضي الله تعالى عنه. أي وفي رواية: فالتقيا بين الصفين فبدره عليّ فصرعه أي قطع رجله ووقع على الأرض وبدت عورته. فقال: يابن عمي أنشدك الله والرحم، فرجع عنه ولم يجهز عليه. فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله. وفي رواية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منعك أن تجهز عليه؟ فقال: ناشدني الله والرحم، فقال: اقتله، فقتله» . أي ووقع لسيدنا علي كرم الله وجهه مثل ذلك في يوم صفين مرتين: الأولى حمل على بسر بن أرطأة، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته، فانصرف عنه. والثانية حمل على عمرو بن العاص، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته فانصرف عنه علي كرّم الله وجهه. فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة، وعثمان هذا هو أبو شيبة الذي ينسب إليه الشيبيون فيقال بني شيبة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره، فرجع حمزة وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج يعني عبد المطلب، فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد بن أبي طلحة؛ فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله، فحمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة الذي قتله علي رضي الله تعالى عنه، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فقتله، ثم حمله أخو مسافع وهو الحارث بن طلحة، فرماه عاصم فقتله، أي فكانت أمهما وهي سلافة معهما، وكل واحد منهما بعد أن رماه عاصم يأتي أمه ويضع رأسه في حجرها فتقول له: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأفلح، فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وجعلت لمن جاء برأسه مائة من الإبل. وسيأتي مقتل عاصم في سرية الرجيع، فحمله أخو مسافع وأخو الحارث وهو كلاب بن طلحة، فقتله الزبير، أي وقيل قزمان، فحمله أخوهم وهو الجلاس بن طلحة، فقتله طلحة بن عبيد الله، فكل من مسافع والحارث وكلاب والجلاس الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة كل قتل كأبيهم طلحة؛ وعميهم وهما عثمان وأبو سعيد. وعند ذلك حمله أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل حمزة،

فحمله شريح بن قارظ، فقتل أي ولم يعرف قاتله، ثم حمله أبو زيد بن عمرو بن عبد مناف بن هاشم بن عبد الدار، فقتله قزمان، فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم، فقتله قزمان أيضا، ثم حمله صواب غلامهم: أي وكان حبشيا، فقاتل حتى قطعت يده ثم برك عليه فأخذه لصدره وعنقه حتى قتل عليه: أي قتله قزمان. وقيل القاتل له سعد بن أبي وقاص وقيل علي. وقد كان أبو سفيان قال لأصحاب اللواء: أي لواء المشركين من بني عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بني عبد الدار، إنكم تركتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما تؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان. قال ابن قتيبة: ويقال إن هذه الآية نزلت في بني عبد الدار إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) [الأنفال: الآية 22] . ولما صرع صاحب لواء المشركين: أي الذي هو طلحة بن أبي طلحة استبشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أي لأنه كبش الكتيبة أي الجيش: أي حاميهم الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه المتقدمة أنه مردفا كبشا وقال: أوّلت ذلك أني أقتل كبش الكتيبة، فهذا كبش الكتيبة. وعند وجود ما ذكر من قتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة، فجاس المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم: أي أزالوهم عن أثقالهم، أي وكان شعار المسلمين يومئذ: أمت أمت، وشعار الكفار: يا للعزى، وهي شجرة كانوا يعبدونها: يا لهبل، وهو صنم كان داخل الكعبة منصوبا على بئر هناك، وسيأتي في فتح مكة أنه كان خارجها بجانب الباب. وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون في أوّل الأمر كان داخل الكعبة ثم أخرج منها وجعل بجانبها. أي وخرج عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أبو بكر شاهرا سيفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك، وتقدم طلب عبد الرحمن للمبارزة أيضا في يوم بدر، وتقدم عن ابن مسعود أن الصديق دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، وهو يخالف ما هنا إلا أن يقال إنه هنا يجوز وقوع كل من الأمرين: أي طلب المبارزة من الصدّيق لولده عبد الرحمن، وطلب المبارزة من عبد الرحمن لوالده الصديق.

وقد وقع الصديق رضي الله تعالى عنه أن العرب لما ارتدت بعد موته صلى الله عليه وسلم خرج مع الجيش شاهرا سيفه، فأخذ علي رضي الله تعالى عنه بزمام راحلته وقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك كما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: شم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا، فرجع وأمضى الجيش. وفي أوّل الأمر حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة أي بالفاء متفرقة، وحمل المسلمون على المشركين فنهكوهم: أي أضعفوهم قتلا، فلما التقى الناس وحميت الحرب قامت هند في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويقلن: ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار صربا بكل بتار وويها: كلمة إغراء وتحريض، كما تقول: دونك يا فلان. والأدبار: الأعقاب، أي الذين يحمون أعقاب الناس، والبتار: السيف القاطع، ويقلن: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق مشى القطا النوازق ... والمسك في المفارق والدر في المخانق ... إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق ... أو تدبروا نفارق فراق غير وامق والطارق: النجم، قال تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) [الطارق: الآيات 1- 3] قيل هو زحل: أي نحن بنات من بلغ العلو وارتفاع القدر كالنجم. واعترض بأنها لو أرادت النجم قالت: نحن بنات الطارق. ثم رأيت أن هذا الرجز لهند بنت طارق، وحينئذ فليس المراد بطارق النجم، وإنما هو الرجل المعروف، كأنها قالت نحن بنات طارق المعروف بالعلو والشرف. وعن بعضهم قال: جلست بمكة وراء الضحاك، فسئل عن قول هند يوم أحد: نحن بنات طارق، ما طارق؟ فقلت: هو النجم، فقال لي: كيف ذلك؟ فقلت له: قال الله تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) [الطارق: الآيات 1- 2] والنمارق: الوسائد الصغار. والمراد نفرش ما تجعل عليه الوسائد مع جعلها عليه، والوامق المحب، أي فراق غير محب، لأن غير المحب لا يرجع إذا غضب، بخلاف المحب. ومن ثم

قيل: غضب المحب في الظاهر مهابة سيف، وفي الباطن كسحابة صيف. قال: وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع ذلك: أي تحريض هند بما ذكر يقول «اللهم بك أحول» بالحاء المهملة، أي أمنع «وبك أصول، وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل» انتهى. أي وفي رواية «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو قال: اللهم بك أصاول؛ وبك أحاول» أي أطالب. وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس. فعن الزبير قال: وجدت، أي غضبت، في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف: أي الذي قال فيه: من يأخذه بحقه ثلاث مرات وأنا ابن عمته، فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة حمراء: أي أخرجها من ساق خفه وكان مكتوبا على أحد طرفيها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصّف: الآية 13] وفي طرفها الآخر: الجبانة في الحرب عار، ومن فرّ لم ينج من النار، فعصب بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، أي لأنهم كانوا يقولون ذلك إذا تعصب بها، فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله أي وكان إذا كلّ ذلك السيف يشحذه: أي يحده بالحجارة، ولم يزل يضرب به العدو حتى انحنى وصار كأنه منجل، وكان رجل من المشركين لا يدع لنا جريحا إلا ذفف عليه: أي أسرع قتله فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاها بدرقته فعضت الدرقة على سيفه وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند: أي بنت عتبة زوج أبي سفيان وقيل غيرها ثم رد السيف عنها. قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس: أي بالسين المهملة حمسا شديدا: أي يشجعهم، وبالشين المعجمة: يوقد الحرب ويثيرها، فعمدت إليه، فلما حملت عليه بالسيف ولول: أي دعا بالويل: أي قال: يا ويلاه، فعلمت أنه امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتالا شديدا، ومرّ به سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم أي أقبل، يا ابن مقطعة البظور، لأن أمه أم أنمار مولاة شريق والد الأخنس كانت ختانة بمكة. أي وفي البخاري «يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحادّ الله ورسوله؟» أي تحاربهما وتعاندهما. وفيه لما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة، فشدّ عليه، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. وفي رواية: فكان كأمس الذاهب. أي وكان تمام واحد وثلاثين قتلهم حمزة.

وفيه أنه سيأتي عن الأصل: وقتل من كفار قريش يوم أحد ثلاثة وعشرين رجلا، وأكب حمزة عليه ليأخذ درعه. قال وحشي غلام جبير بن مطعم: إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه يهد بالدال المهملة: يهدم وبالدال المعجمة: يقطع. أي وقد عثر حمزة، فانكشف الدرع عن بطنه فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنيته بالمثلثة: وهو موضع تحت السرة وفوق العانة. وفي لفظ: فندرته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي فغلب فوقع، فأمهلته حتى إذا مات جئته فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي في شيء حاجة غيره. أي وفي لفظ آخر: كان حمزة يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين وهو يقول: أنا أسد الله، فبينا هو كذلك إذ عثر عثرة وقع منها على ظهره، فانكشفت الدرع عن بطنه، فطعنه وحشي الحبشي بحربته. ثم لما قتل أصحاب لواء المشركين واحدا بعد واحد، ولم يقدر أحد يدنو منه، انهزم المشركون وولوا لا يلوون على شيء، ونساؤهم يدعون بالويل بعد فرحهم وضربهم بالدفوف وألقين الدفوف، وقصدن الجبل كاشفات سيقانهن يرفعن ثيابهنّ، وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم، ففارقت الرماة محلهم الذي أمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يفارقوه، ونهاهم أميرهم عبد الله بن جبير، فقالوا له: انهزم المشركون فما مقامنا هاهنا؟ وانطلقوا ينتهبون. وثبت عبد الله بن جبير مكانه وثبت معه دون العشرة وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل من الرماة وقلة من به منهم، فكرّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنهما فإنهما أسلما بعد ذلك، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم مع أميرهم عبد الله بن جبير أي ومثلوا به. ومن كثرة طعنه بالرماح خرجت حشوته وأحاطوا بالمسلمين. فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والأسر، إذ دخلت خيول المشركين تنادي فرسانها بشعارها: يا للعزى يا لهبل، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون. وتفرقت المسلمون في كل وجه وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا، وانتقضت صفوف المسلمين، واختلط المسلمون وصار يضرب بعضهم بعضا من غير شعار: أي من غير أن يأتوا بما كانوا ينادون به في الحرب يتعارفون به في ظلمة الليل، وعند الاختلاط وهو: أمت أمت مما أصابهم من الدهش والحيرة، ولم يزل لواء المشركين ملقى حتى أخذته عمرة بنت علقمة ورفعته لهم، فلاثوا، أي بالمثلثة: استداروا به واجتمعوا عنده، ونادى ابن قمئة بفتح القاف وكسر الميم وبعدها همزة أن محمدا قد قتل. وقيل المنادي بذلك إبليس: أي متمثلا بصورة جعال أو جعيل بن سراقة، وكان رجلا صالحا ممن أسلم قديما، وكان من أهل الصفة. قيل وهو الذي غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه يوم الخندق وسماه عمرا كما سيأتي،

وسيأتي ما فيه. ثم إن الناس وثبوا على جعال ليقتلوه فتبرأ من ذلك القول، وشهدت له خوات بن جبير وأبو بردة بأن جعالا كان عندهما وبجنبهما حين صرخ ذلك الصارخ. وقيل المنادي بذلك إزب العقبة، قال ذلك ثلاث مرات، أي لأنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صرخ الشيطان به قال: هذا إزب العقبة بكسر الهمزة وسكون الزاي، والإزب: القصير كما تقدم. وقد ذكر أن عبد الله بن الزبير رأى رجلا طوله شبران على رحله فقال: ما أنت؟ قال إزب، قال: ما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود السوط حتى هرب، أي ويجوز أن يكون ذلك صدر من الثلاثة، وهم ابن قمئة، وإبليس وإزب العقبة، فرجعت الهزيمة على المسلمين، أي وقال قائل: يا عباد الله أخراكم: أي احترزوا من جهة أخراكم، فعطف المسلمون على أخراهم يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة ولم يدخلوها. وقال رجال من المسلمين حيث قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجعوا إلى قومكم يؤمنوكم. وقال آخرون: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل أفلا تقاتلون على دين نبيكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله شهداء. أي وفي «الإمتاع» أن ثابت بن الدحداح: قال يا معشر الأنصار إن كان محمد قد قتل فإن الله حيّ لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم، فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار رضي الله تعالى عنهم. وكان من جملة من انهزم عثمان بن عفان والوليد بن عقبة وخارجة بن زيد ورفاعة بن معلى، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهبتم فيها عريضة، وأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران: الآية 155] قال: وقال جماعة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم. وانهزمت طائفة منهم حتى دخلت المدينة، فلقيتهم أم أيمن رضي الله عنها فجعلت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك اهـ: أي أعطني سيفك، أي فالمنهزمون في ذلك اليوم طائفتان: طائفة لم تدخل المدينة، وأخرى دخلتها. وفيه أن أم أيمن كانت في الجيش تسقي الجرحى. أي فقد جاء «أن حباب بن العرقة رمى بسهم فأصاب أم أيمن وكانت تسقي

الجرحى فوقعت وتكشفت فأغرق عدوّ الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع إلى سعد سهما لا نصل له وقال ارم به، فوقع السهم في نحر حباب فوقع مستلقيا حتى بدت عورته فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقاد لها سعد» أجاب الله دعوته، أي وفي رواية: «اللهم استجب لسعد إذا دعاك، فكان مجاب الدعوة. وقد يقال: لا منافاة بين كون أم أيمن كانت في الجيش وبين كونها كانت في المدينة لجواز أن تكون رجعت ذلك الوقت من الجيش إلى المدينة. وقال رجال: أي من المنافقين لما قيل قد قتل محمد الذين بقوا ولم يذهبوا مع عبد الله بن أبي ابن سلول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. أي وقال بعضهم لو كان نبيا ما قتل فارجعوا إلى دينكم الأول. وفي النهر أن فرقة قالوا نلقي إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا. وهذا يدل على أن هذه الفرقة ليست من الأنصار بل من المهاجرين. قال: وعن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه. قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين اشتدّ علينا الخوف وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا وذقنه في صدره، فو الله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير. أي ويقال ابن بشير، وكان ممن شهد العقبة: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً [آل عمران: الآية 154] الآية. وعن كعب بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه. قال: لقد رأيتني يومئذ في أربعة عشر من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابنا النعاس أمنة منه، أي لأنه لا ينعس إلا من يأمن، ما منهم أحد إلا غط غطيطا، حتى إن الجحف: أي الدرق تتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر، وإن المشركين لتحثنا اهـ وتقدم في بدر أنه حصل لهم النعاس ليلة القتال لا فيه على ما تقدم. وتقدم أن النعاس في الصف من الإيمان وفي الصلاة من الشيطان. وثبت صلى الله عليه وسلم لما تفرقت عنه أصحابه، وصار يقول: إليّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول الله، فما يعرّج إليه أحد والنبل يأتي إليه من كل ناحية والله يصرفه عنه. أي وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، أنا ابن العواتك» فليتأمل. فإن المحفوظ أنه إنما قال ذلك في حنين وإن كان لا مانع من التعدد. وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة أي من أصحابه منهم أبو طلحة فإنه استمرّ بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يحوز عنه بحجفته. وكان رجلا راميا شديد الرمي، فنثر كنانته بين

يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، فلم يزل يرمي بها. وكان الرجل يمرّ بالجعبة بضم الجيم من النبل فيقول صلى الله عليه وسلم انثرها لأبي طلحة، أي وكسر ذلك اليوم قوسين أو ثلاثة، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف: أي ينظر إلى القوم. وفي لفظ: ليرى مواضع النبل، فيقول له أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك انتهى، أي ويتطاول أبو طلحة بصدره يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستدل بذلك على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجب على كل مؤمن أن يؤثر حياته صلى الله عليه وسلم على حياته. قال: فلا خلاف أن هذا لا يجب لغيره، وهذا المذكور عن أبي طلحة من قوله: نحري دون نحرك نقله ابن المنير عن سعد بن أبي وقاص فقال ولهذا قال سعد يوم أحد: نحري دون نحرك، ولا زال صلى الله عليه وسلم يرمي عن قوسه أي المسماة بالكتوم لعدم تصويتها إذا رمى عنها حتى صارت شظايا: أي ذهب منها قطع. وفي رواية: رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، والسية: ما انعطف من طرفي القوس اللذين هما محل الوتر. قال: وما زال صلى الله عليه وسلم يرمي عن قوسه حتى تقطع وتره وبقيت في يده منه قطعة تكون شبرا في سية القوس، فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له. فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: مده يبلغ. قال عكاشة: فو الذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ وطويت منه لفتين أو ثلاثا على سية القوس، ورمي صلى الله عليه وسلم بالحجارة وكان أقرب الناس إلى القوم اهـ. أي وأنكر الإمام أبو العباس بن تيمية كونه صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى صارت شظايا، أي لأنه يبعد وجود رميه صلى الله عليه وسلم من غير إصابة، ولو أصاب أحدا لذكر، لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله. وقاتل جماعة من أصحابه منهم سعد بن أبي وقاص، فإنه كان من الرماة المذكورين رمى بقوسه. قال سعد: لقد رأيته: يعني النبي صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول ارم به. وقد تقدم أنه رمى بسهم من تلك السهام التي لا نصل لها لمن رمى أم أيمن. قال: وفي رواية عن سعد قال «أجلسني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه، فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوّك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته، وأجب دعوته، حتى إذا فرغت من كنانتي نثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في كنانته» اهـ أي فكان سعد مجاب الدعوة كما تقدم. ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، أرسل جماعة للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة، فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا

وأثنى عليه معروفا، حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة ذمه وقال: لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. فلما بلغ سعدا ذلك قال: اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره، وأدم فقره، وأعم بصره، وعرضه للفتن، فعمي، وافتقر، وكبر سنه، وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة؛ فإذا قيل له: كيف أنت يا أبا سعدة؟ يقول: شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد. قيل لسعد: لم تستجاب دعوتك من دون الصحابة؟ فقال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا أعلم من أين جاءت، ومن أين خرجت؟ أي لأنه جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما «تليت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [البقرة: الآية 168] فقام سعد بن أبي وقاص وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: والذي نفس محمد بيده إن العبد ليعقد اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما» . وقد جاء في الحديث «من كان مأكله حراما، ومشربه حراما، وملبسه حراما فأنى يستجاب له» فليتأمل هذا الجواب. وقد يقال: مراد سعد بقوله: ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، أي ممن يأكل الحلال الطيب ويميز عند الأكل بين الحرام وبين غيره حتى أكون مستجاب الدعوة. ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب. ولعل السكوت عن اللبس لأنه نادر بالنسبة للأكل، وجوابه صلى الله عليه وسلم بقوله «والذي نفس محمد بيده» تقرير لما فهمه سعد رضي الله عنه أن من يأكل غير الحلال لا يكون مستجاب الدعوة تأمل. والحق أن سبب استجابة دعوة سعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، ولعله إنما لم يجب بذلك لمن سأله بقوله لم تستجاب دعوتك من بين الصحابة، لأنه يجوز أن يكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك تأخر عن هذا فليتأمل. وفي الشرف «أن سعدا رضي الله عنه رمى يوم أحد ألف سهم ما منها سهم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ارم فداك أبي وأمي، ففداه في ذلك اليوم ألف مرة» . وعن علي كرم الله وجهه «ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فداك أبي وأمي إلا لسعد رضي الله عنه» وفي رواية «فما جمع صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد إلا لسعد رضي الله تعالى عنه» . قال في النور: الرواية الأولى أصح، لأنه أخبر فيها أنه لم يسمع، أي لأنه حينئذ لا يخالف ما جاء عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع لأبيه الزبير رضي الله عنه بين أبويه، أي قال له فداك أبي وأمي كسعد» أي وذلك في

يوم الخندق حيث أتاه بخبر بني قريظة، وكذا الرواية الثانية لا تخالف، لأنها محمولة على سماعه. وعلى الأخذ بظاهرها، وعدم حملها على ذلك يجاب بما قال في النور: ظهر لي أن عليا كرم الله وجهه إنما أراد تفدية خاصة وهي ألف مرة أو في خصوص أحد. وكان صلى الله عليه وسلم يفتخر بسعد فيقول: «هذا سعد خالي، فليراني امرؤ خاله» لأن سعدا رضي الله عنه كان من بني زهرة، وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم منهم كما تقدم: أي «وكان رضي الله عنه إذا غاب يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي لا أرى الصبيح المليح الفصيح؟» . ولما كف بصره رضي الله عنه قيل له: لو دعوت الله سبحانه أن يرد عليك بصرك، فقال: قضاء الله أحب إليّ من بصري. ولما حضرت الوفاة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دعا بخلق جبة من صوف فقال: كفنوني فيها فإني كنت لقيت فيها المشركين يوم بدر، وإنما كنت أخبئها لهذا. وممن كان مشهورا بالرماية سهيل بن حنيف رضي الله عنه، وكان ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم الذي هو يوم أحد. قال بعضهم: وكان بايعه صلى الله عليه وسلم يومئذ على الموت، فثبت معه صلى الله عليه وسلم حتى انكشف الناس عنه، وجعل ينضح بالنبل يومئذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: نبلوا سهيلا: أي أعطوه النبل. وجاء «أن خاله صلى الله عليه وسلم وهو الأسود بن وهب بن عبد مناف بن زهرة استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا خالي ادخل، فدخل فبسط له صلى الله عليه وسلم رداءه وقال: اجلس عليه إن الخال والد، يا خال من أسدى إليه معروف فلم يشكر فليذكر، فإنه إذا ذكر فقد شكر» وقال له «ألا أنبئك بشيء عسى الله أن ينفعك به؟ قال بلى، قال: إن أربي الربا استطالة المرء في عرض أخيه بغير حق» . وعن أم عمارة المازنية رضي الله عنها: أي وهي نسيبة بالتصغير على المشهور، زوج زيد بن عاصم رضي الله عنه قالت «خرجت يوم أحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ما أسقي به الجرحى، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والربح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى حصلت الجراحة إليّ رئي على عاتقها جرح أجوف له غور، فقيل لها من أصابك بهذا؟ قالت ابن قمئة، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، فضربني هذه الضربة وضربته ضربات، ولكن عدو الله كان علي درعان» .

قال: وفي كلام بعضهم خرجت نسيبة يوم أحد وزوجها زيد بن عاصم وابناهما خبيب وعبد الله رضي الله عنهم وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحمكم الله أهل البيت» . وفي رواية «بارك الله فيكم أهل بيت» قالت له أم عمارة رضي الله عنها: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة: أي وعند ذلك قالت رضي الله عنها: ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا» . وقال صلى الله عليه وسلم في حقها «ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني» اهـ أي وقد جرحت رضي الله عنها اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، وعبد الله ابنها رضي الله عنهما هو القاتل لمسيلمة الكذاب لعنه الله. فعنها رضي الله عنها قالت: يوم اليمامة تقطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة، وما كان لي ناهية: أي مانعة حتى رأيت الخبيث مقتولا، وإذا ابني عبد الله بن زيد يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته؟ فقال نعم، فسجدت لله شكرا. ولا ينافيه ما اشتهر أن قاتله وحشي. فعن وحشي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بعد أن قدم عليه في وفد ثقيف وأسلم كما سيأتي «يا وحشي اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تقاتل لتصد عن سبيل الله، فلما كان خروج المسلمين لقتال مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة لما ولي الصديق رضي الله عنه الخلافة وارتدت العرب، خرجت معهم فأخذت حربتي، فلما رأيته تهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى، كلانا يريده، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت فيه، وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف فربك أعلم أينا قتله قال بعضهم: والأنصاري هو عبد الله بن زيد أي كما تقدم، وقيل غيره. أي وفي كلام بعضهم: اشترك في قتل مسيلمة الكذاب لعنه الله أبو دجانة، وعبد الله بن زيد، ووحشي رضي الله عنهم. وفي تاريخ ابن كثير رحمه الله الاقتصار على وحشي وأبي دجانة. وقد يقال: لا مخالفة، لأن كلا من الرواة روى بحسب ما رأى. وذكر ابن كثير أن ما يروى عن أبي دجانة رضي الله عنه من ذكر الحرز المنسوب إليه إسناده ضعيف لا يلتفت إليه. وقد نقل عن وحشي رضي الله عنه أنه قال: قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس وكان عمر مسيلمة حين قتل مائة وخمسين سنة. وذكر أن أبا دجانة رضي الله عنه تترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يقع النبل على ظهره وهو منحن حتى كثر فيه النبل. وقاتل دونه صلى الله عليه وسلم زيادة بن عمارة حتى أثبتته الجراحة: أي أصابت مقاتله، فقال صلى الله عليه وسلم:

ادنوه مني فوسده قدمه الشريف، فمات رضي الله عنه وخده على قدمه الشريف صلى الله عليه وسلم. وقاتل مصعب بن عمير رضي الله عنه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا. وقيل القاتل لمصعب رضي الله عنه أبي بن خلف لعنه الله، فإنه أقبل نحو النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجا، فاستقبل مصعب بن عمير رضي الله عنه فقتل مصعبا، فاعترضه رجال من المسلمين؟ فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلوا طريقه، أي فأقبل وهو يقول يا كذاب أين تفر، وتناول النبي صلى الله عليه وسلم الحربة من بعض أصحابه أي وهو الحارث بن الصمة أو الزبير بن العوام على ما سيأتي، فخدشه بها في عنقه خشدا غير كبير احتقن الدم: أي لم يخرج بسبب ذلك الخدش، فقال قتلني والله محمد، فقالوا: ذهب والله فؤادك، أي وفي لفظ: ذهب والله عقلك، إنك لتأخذ السهام من أضلاعك فترمي بها، فما هذا والله ما بك من بأس، ما أخدعك، إنما هو خدش، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات والعزى لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز؟ أي السوق المعروف من جملة أسواق الجاهلية كان عند عرفة كما تقدم. وفي لفظ: لو كان بربيعة ومضر أي وفي لفظ: بأهل الأرض لماتوا أجمعون. إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليّ لقتلني أي فضلا عن هذه الضربة لأنه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة: يا محمد إن عندي العود يعني فرسا له أعلفه في كل يوم فرقا بفتح الراء: هو مكيال معروف يسع اثني عشر مدا من ذرة أقتلك عليها فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتلك إن شاء الله، فحقق الله تعالى قول نبيه صلى الله عليه وسلم. هذا، وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن أبي بن خلف قال حين أفتدي: أي من الأسر ببدر: والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتل عليها محمدا، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله. أقول: يمكن الجمع بأنه تكرر ذلك من أبي لعنه الله ومن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وفي رواية «أبصر صلى الله عليه وسلم ترقوته» بالفتح لا بالضم «من فرجة من سابغة الدرع» وهي ما يغطى به العنق من الدرع كما تقدم «فطعنه طعنة أي كسر فيها ضلعا» بكسر الضاد وفتح اللام وتسكينها «من أضلاعه» أي وهو المناسب لما في بعض الروايات «أن النبي صلى الله عليه وسلم طعنه طعنة وقع فيها مرارا من على فرسه وجعل يخور كما يخور الثور إذا ذبح، وإنه صلى الله عليه وسلم لما أخذ الحربة من الحارث بن الصمة، وقيل من الزبير بن العوام رضي الله عنه انتفض بها انتفاضة شديدة ثم استقبله فطعنه في عنقه» . أقول: ولا مخالفة بين كون الطعنة في عنقه وكونها في ترقوته، لأن الترقوة في أصل العنق.

ولا مخالفة أيضا بين كون الحاصل من الطعنة خدشا مع اعتنائه صلى الله عليه وسلم بالطعنة وناهيك بعزمه صلى الله عليه وسلم، لأن كون الخدش في الظاهر، أي بحسب ما يظهر للرائي والشدة في الباطن أقوى في النكاية. ودليل وجود الشدة في الباطن وقوعه مرارا، وكونه خار كالثور الذي يذبح، وكون الطعن في العنق يفضي إلى كسر الضلع من خوارق العادات، لكن رأيت في رواية أنه ضرب تحت إبطه فكسر ضلعا من أضلاعه. وقد يقال يجوز أن تكون الحربة نفذت من المكان المذكور. قال في النور: ولم يقتل بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم قط أحدا إلا أبي بن خلف لا قبل ولا بعد، ثم مات عدوّ الله وهم قافلون به إلى مكة: أي بسرف بفتح السين المهملة وكسر الراء، وهو المناسب لوصفه لأنه مسرف وقيل ببطن رابغ. فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال «إني لأسير ببطن رابغ بعد هدّو من الليل إذا نار تأجج لي لهبها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذب بها يصيح العطش، وناداني: يا عبد الله، فلا أدري أعرف اسمي، أو كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد الله؟ فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل، وإذا رجل وهو الموكل بعذابه يقول: لا تسقه هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبيّ بن خلف لعنه الله» رواه البيهقي. ويدل لهذا ما جاء في الحديث «كل من قتله نبي أو قتل بأمر نبي في زمنه يعذب من حين قتل إلى نفخ الصعقة» وجاء «أشدّ الناس عذابا من قتله نبي» أي وفي رواية «اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسحقا لأصحاب السعير» . وفي رواية «اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله» أي لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مأمورون باللطف والشفقة على عباد الله، فما يحمل الواحد منهم على قتل شخص إلا أمر عظيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكملهم لطفا ورفقا وسعة بعباد الله. وفي شرح التقريب احترز بقوله في سبيل الله عمن يقتله حدا أو قصاصا لأن من يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله كان قاصدا قتله صلى الله عليه وسلم، وقد اتفق ذلك لأبيّ بن خلف لعنه الله، وقد تقدم أن ابن مرزوق رحمه الله ذكر أن ابن عمر مرّ ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فناداه يا عبد الله، فالتفت إليه فقال اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه. لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أصحابه، رواه الطبراني في الأوسط، ولا بعد في تعدد الواقعة. ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يقتضي التعدد فإنه ذكر فيها أن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر ذلك: أي مروره ببدر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم قال له ذلك أبو جهل، وذلك عذابه إلى يوم القيامة. وقد ذكرت ذلك في الكلام على غزوة بدر.

ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي حفرت للمسلمين: أي التي حفرها أبو عامر الفاسق والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنه، واسم أبي عامر عبد عمرو، مات كافرا بأرض الروم، فر إليها لما فتحت مكة ليقعوا فيها وهم لا يعلمون، فأغمي عليه صلى الله عليه وسلم، وجحشت: أي خدشت ركبتاه، فأخذ علي كرم الله وجهه بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما. وكان سبب وقوعه صلى الله عليه وسلم أن ابن قمئة لعنه الله علاه صلى الله عليه وسلم بالسيف فلم يؤثر فيه السيف إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه الشريف، فشكا صلى الله عليه وسلم منه شهرا أو أكثر، وقذف صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى وقع لشقه، ورماه صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بحجر، فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وشق شفته السفلى: أي ودعا عليه صلى الله عليه وسلم بقوله «اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا» . وقد استجاب الله تعالى ذلك، وقتله في ذلك اليوم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. قال حاطب: لما رأيت ما فعل عتبة برسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أين توجه عتبة؟ فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حيث توجه فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف فطرحت رأسه، فنزلت وأخذت فرسه وسيفه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: رضي الله عنك رضي الله عنك مرتين: أي ولا يخالف هذا قول بعضهم فمات بعد بقليل، لكن يخالف القول بأنه مات بعد أن أسلم بعد الفتح وأنه أثبت ولم يولد لعتبة ولد أو ولد ولد إلا وهو أهتم: أي ساقط مقدّم أسنانه أي التي هي الرباعيات أبخر يعرف ذلك في عقبه، وكسرت البيضة أي الخوذة على رأسه صلى الله عليه وسلم وشج وجهه الشريف، شجه عبد الله بن شهاب الزهري رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وهو جد الإمام الزهري رحمه الله. ويجوز أن يكون من قبل أمه، أي ويقال له عبد الله الأصغر، أي ولعل هذا حصل منه قبل أو بعد قوله دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع. وجدّ الإمام الزهري من قبل أبيه يقال له عبد الله بن شهاب، ويقال له عبد الله الأكبر رضي الله عنه كان من مهاجري الحبشة، توفي بمكة قبل الهجرة. وأشار صاحب الهمزية رحمه الله إلى أن هذه الشجة لم تشنه صلى الله عليه وسلم بل زادته جمالا بقوله: مظهر شجة الجبين على البر ... ء كما أظهر الهلال البراء ستر الحسن منه بالحسن فاعجب ... لجمال له الجمال وقاء فهو كالزهر لاح من سجف الأك ... مام والعود شق عنه اللحاء أي مظهر وجهه الشريف أثر جرح جبينه: أي جبهته مع برئها ظهورا كظهور

الهلال ليلة استهلاله، ستر ذلك الوجه الحسن الأصلي بالحسن العارض بسبب ذلك الجرح، فأعجب لجمال أصلي له الجمال العارض وقاية وساتر، فهو: أي ما ظهر بذلك الجرح كالزهر إذا ظهر من ستره وكالعود الذي يتطيب به إذا أزيل عنه قشره، وقال حسان رضي الله عنه في وصف جبينه الشريف صلى الله عليه وسلم: متى يبدو في الداجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد وجرحت وجناته صلى الله عليه وسلم بسبب دخول حلقتين من المغفر في وجنتيه بضربة من ابن قمئة لعنه الله، وقال له لما ضربه: خذها وأنا ابن قمئة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقمأك الله عز وجل: أي صغرك وأذلك. وقد استجاب الله فيه دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه بعد الوقعة خرج إلى غنمه فوافاها على ذروة الجبل: أي أعلى الجبل، فأخذ يعترضها فشد عليه كبشها فنطحه أرداه من شاهق الجبل فتقطع. وفي رواية: فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة. أقول: ويمكن الجمع بأنه لما نطحه ذلك الكبش ووقع من شاهق الجبل إلى أسفل سلط الله عليه عند ذلك تيس الجبل فنطحه حتى قطعه قطعا زيادة في نكاله وخزيه ووباله، لعنة الله عليه، والله أعلم. «ولما جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم صار الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل صلى الله عليه وسلم يمسح الدم. وفي لفظ: ينشف دمه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» أي وفي رواية «اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) [آل عمران: الآية 128] أي وفي رواية «صار صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم العن فلانا وفلانا: أي اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فأنزل الله تعالى الآية» . فإن قيل كيف هذا مع قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: الآية 67] . أجيب بأن هذه الآية نزلت بعد أحد. وعلى تسليم أنها نزلت قبله، فالمراد عصمته من القتل. قال الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله: لا يخفى أن أجر كل نبي في التبليغ يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين له، وعلى قدر ما يقاسيه منهم. وله أجر الهداية لمن أطاعه ولا أحد أكثر أجرا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتفق لنبي من الأنبياء ما اتفق له صلى الله عليه وسلم في كثير من طائعي أمة أجابته، ولا في كثير عصاة أمة دعوته الخارجين عن الإجابة. وامتص مالك بن سنان الخدري وهو والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما

دم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مس دمي دمه لم تصبه النار» . وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» وأشار إليه فاستشهد في هذه الغزاة. وفي لفظ «من سره أن ينظر إلى من لا تمسه النار فلينظر إلى مالك بن سنان رضي الله عنه» ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أمر هذا الذي امتص دمه بغسل فمه ولا أنه غسل فمه من ذلك، كما لم ينقل أنه أمر حاضنته أم أيمن بركة الحبشية رضي الله عنها بغسل فمها ولا هي غسلته من ذلك لما شربت بوله صلى الله عليه وسلم. فعنها رضي الله عنها أنها قالت «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة أي تحت سريره فبال فيها فقمت وأنا عطشى فشربت ما في الفخارة وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أم أيمن قومي إلى تلك الفخارة فأهريقي ما فيها، فقالت: والله لقد شربت ما فيها، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: لا يجفر» بالجيم والفاء «بطنك بعده أبدا» وفي لفظ «لا تلج النار بطنك» وفي أخرى «لا تشتكي بطنك» أي ويجوز أنه صلى الله عليه وسلم قال: هذه الألفاظ الثلاثة وكل روى بحسب ما سمع منها، فتكون هذه الأمور الثلاثة تحصل لأم أيمن رضي الله عنها وفي رواية بدل فخارة «إناء من عيدان» بالفتح: الطوال من النخل، فإن صحا حملا على التعدد لأم أيمن رضي الله عنها، ولا مانع منه. وقد شرب بوله صلى الله عليه وسلم أيضا امرأة يقال لها بركة بنت ثعلبة بن عمرو، كانت تخدم أم حبيبة رضي الله عنها؛ جاءت معها من الحبشة: أي ومن ثم قيل لها بركة الحبشية. وفي كلام ابن الجوزي: بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان الحبشية خادمة أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه. ولا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون يسار لقبه ثعلبة، وكانت معها في الحبشة ثم قدمت معها مكة، كانت تكنى بأم يوسف، فقال لها صلى الله عليه وسلم حين علم أنها شربت ذلك «صحة يا أم يوسف» فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها «لقد احتظرت من النار بحظار» وشرب دمه صلى الله عليه وسلم أيضا أبو طيبة الحجام، وعليّ كرم الله وجهه، وكذا عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما. فعن عبد الله بن الزبير قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حتى لا يراك أحد، قال فشربته، فلما رجعت قال: يا عبد الله ما صنعت؟ قلت: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على الناس، قال:

لعلك شربته، قلت نعم، قال: ويل للناس منك وويل لك من الناس» وكان بسبب ذلك على غاية من الشجاعة. ولما وفد أخوه شقيقه عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة من المدينة على عبد الملك بن مروان قال له يوما: أريد أن تعطيني سيف أخي عبد الله، فقال له عبد الملك: هو بين السيوف ولا أميزه، فقال له عروة: إذا حضرت السيوف ميزته أنا، فأمر عبد الملك بإحضارها، فلما أحضرت أخذ منها سيفا مفلل الحد، وقال هذا سيف أخي، فقال له عبد الملك: كنت تعرفه قبل الآن؟ قال لا، فقال كيف عرفته؟ قال بقول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وأخذ من ذلك بعض أئمتنا طهارة فضلاته صلى الله عليه وسلم، حيث لم يأمره بغسل فمه، ولم يغسل هو فمه، وأن شربه جائز حيث أقر على شربه. وما أورده في الاستيعاب أن رجلا من الصحابة اسمه سالم حجمه صلى الله عليه وسلم ثم ازدرد دمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أما علمت أن الدم كله حرام» أي شربه غير صحيح، فقد قال بعضهم هو حديث لا يعرف له إسناد فلا يعارض ما قبله. على أنه يمكن أن يكون ذلك سابقا على إقراره على ذلك والله أعلم. ونزع أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجراح رضي الله تعالى عنه إحدى الحلقتين من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى. وقيل الذي نزعهما عقبة بن وهب بن كلدة. وقيل طلحة بن عبيد الله، ولعل الثلاثة عالجوا إخراجها، وكان أشدّهم لذلك أبو عبيدة رضي الله عنه. قال بعضهم: ولما سقط مقدم أسنان أبي عبيدة صار أهتم ولم ير قط أهتم أحسن من أبي عبيدة، لأن ذلك الهتم حسن فاه. وكان أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة، وقول القائل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك. قال: عرفت عينيه تزهران، أي تضيئان وتتوقدان من تحت المغفر، وهو ما يجعل على الرأس من الزرد، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليّ أن أنصت. وعن بعض الصحابة قال: لما صرخ الشيطان قتل محمد لم نشك في أنه حق، وما زلنا كذلك حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين فعرفناه بكتفيه إذا مشى، ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا، فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب فيهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة رضي الله عنهم.

وفي خصائص العشرة للزمخشري؛ وثبت يعني الزبير رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبايعه على الموت، هذا كلامه فليتأمل. وقول بعض الرافضة انهزم الناس كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ممنوع، وقوله: وتعجبت الملائكة من شأن عليّ، وقول جبريل عليه السلام وهو يعرج إلى السماء «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ» قوله وقتل عليّ كرم الله وجهه أكثر المشركين في هذه الغزوة، فكان الفتح فيها على يديه وقال: أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهنّ، فجاءني رجل حسن الوجه حسن اللحية طيب الريح وأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسول الله فإنهما عنك راضيان. ولما أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا علي أما تعرف الرجل؟ فقلت: لا، ولكن شبهته بدحية الكلبي، فقال صلى الله عليه وسلم: يا علي أقرّ الله عينك فإنه جبريل عليه السلام، جميعه رده الإمام أبو العباس بن تيمية بأنه كذب باتفاق الناس وبين ذلك بما يطول. قال: وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة على فرس أبلق وعليه لامة كاملة قاصدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه للشعب، وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر ومشى إليه الحارث بن الصمة رضي الله عنه، فاصطدما ساعة بسيفهما ثم ضربه الحارث على رجله فبرك وذفف عليه وأخذ درعه ومغفره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله الذي أحانه» أي أهلكه. وأقبل عبيد الله بن جابر العامري يعدو فضربه الحارث على عاتقه فجرحه فاحتمله أصحابه. ووثب أبو دجانة رضي الله عنه إلى عبيد الله فذبحه بالسيف ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه حتى ملأ درقته ماء وغسل به صلى الله عليه وسلم عن وجهه الشريف الدم وهو يقول: «اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيه» أي والسياق يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضا بعد قوله «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم» ونزول تلك الآية، فإن ذلك كان قبل غسل وجهه الشريف. قال: ثم أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو الصخرة التي في الشعب، فلما ذهب لينهض لم يستطع: أي لأنه صلى الله عليه وسلم ضعف لكثرة ما خرج من دم رأسه الشريف ووجهه مع كونه صلى الله عليه وسلم عليه درعان، فجلس تحت طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوجب طلحة» أي فعل شيئا استوجب به الجنة حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع انتهى.

أي وقيل إن طلحة رضي الله عنه كان في مشيه اختلاف لعرج كان به، فلما حمل النبي صلى الله عليه وسلم تكلف استقامة المشي لئلا يشق عليه صلى الله عليه وسلم فذهب عرجه ولم يعد إليه. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم انطلق حتى أتى أصحاب الصخرة: أي الجماعة الذين من الصحابة الذين علوا الصخرة: أي التي في الشعب، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه وأراد أن يرميه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله، ففرحوا بذلك وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وجد في أصحابه من يمنع: أي ولعل هذا الذي أراد رميه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه ولا من معه من الصحابة لارتفاع الصخرة. قال: وعطش صلى الله عليه وسلم عطشا شديدا: أي ولم يشرب من الماء الذي جاء به علي كرم الله وجهه في درقته، لأنه صلى الله عليه وسلم وجد له ريحا فعافه: أي كرهه فخرج محمد بن مسلمة رضي الله عنه يطلب له ماء فلم يجد. فذهب إلى مياه فأتى منها بماء عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. وفي بعض الروايات أن نساء المدينة خرجن وفيهنّ فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته، وعليّ كرم الله وجهه يسكب الماء فتزايد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير: أي معمول من البردي فأحرقته بالنار حتى صار رمادا، فأخذت ذلك الرماد وكمدته حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم انتهى، أي لأن البردي له فعل قويّ في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا. وفي حديث غريب أنه صلى الله عليه وسلم داوى جرحه بعظم بال أي محرق. وقد يقال: يجوز أن يكون الراوي ظنّ ذلك البردي المحرق عظما محرقا بناء على صحة تلك الرواية. وعن وضع هذا الرماد الحار عبر بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم اكتوى في وجهه وجعله معارضا للحديث الصحيح في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة من غير حساب بأنهم لا يكتوون. وعارضه أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ مرتين ليرقأ: أي ينقطع الدم من جرحه، وكوى أسعد بن زرارة رضي الله عنه لمرض الذبحة. ففي كلام بعضهم: كان موت أسعد بن زرارة رضي الله عنه بمرض يقال له الذبحة فكواه النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال: بئس الميتة لليهود؛ يقولون أفلا دفع عن صاحبه وما أملك له ولا لنفسي شيئا. وأجيب بأن هذا الحديث محمول على من اكتوى خوفا من حدوث الداء، أو لأنهم كانوا يعظمون أمره ويرون أنه يقطع الداء، وإذا لم يكو العضو عطب وبطل، وهو محمل قوله صلى الله عليه وسلم «لم يتوكل من اكتوى» أو على من يفعله مع قيام غيره من الأدوية مقامه.

ومحمل ما في الخصائص الكبرى أن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه وتسلم عليه من جانب بيته ثلاثين سنة حتى اكتوى أي لبواسير كانت به فكان يصبر على ألمها، فلما ترك الكيّ عادت الملائكة إلى سلامها عليه، لأن ذلك قادح في التوكل. وما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهي أمتي عن الكيّ» وفي رواية «وما أحبّ أن أكتوي» أي فالنهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لم يفعله عمران مع علمه بالنهي. قال في الهدى: وأراد صلى الله عليه وسلم بقوله: وأنا أنهي إلى آخره: أي أنه لا يؤتى بالكيّ إلا إذا لم ينجع الدواء فلا يأتي به أولا ومن ثم أخره. قيل والفصد داخل في شرطة المحجم. والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد، هذا كلامه. وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب مع أولئك النفر من أصحابه إذ علت طائفة من قريش الجبل معهم خالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوّة لنا إلا بك» فقاتلهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوا من الجبل، أي ونزل قوله تعالى وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران: الآية 139] أي لا تضعفوا عن الحرب، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الظفر بالكفار. ولعل هذا كان قبل أن يعلو صلى الله عليه وسلم الصخرة كما تقدم. أو لعل الجبل كان أعلى من تلك الصخرة. قال: وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال لسعد «ارددهم، قال: كيف ارددهم وحدي؟ فقال له ارددهم» قال سعد رضي الله عنه: فأخذت سهما من كنانتي فرميت به رجلا منهم فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته ثم أخذت سهما آخر فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فكان عندي في كنانتي لا يفارق كنانتي، وكان بعده عند بنيه انتهى. أي وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هذا: أي كون سعد ردهم وحده بهذا السهم. وما قبله الدال على أن الرادّ لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من المهاجرين. وروي عنه أنه قال «لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيرده عليّ رجل أبيض

حسن الوجه لا أعرفه حتى كان بعد» أي حتى بعد انقضاء الحرب لم أعرفه، فظننت أنه ملك، أي وفي رواية عنه أنه قال «رميت بسهم فرده عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهمي أعرفه حتى واليت بين ثمانية أو تسعة، كل ذلك يرده عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا سهم دم» أي يصيب «فجعلته في كنانتي لا يفارقني» . أقول: ولا منافاة بين هذا وبين قوله ثم أخذت سهما، لأن قوله المذكور لا ينافي أن يكون أخذه بمناولته صلى الله عليه وسلم لا من كنانته كما قد يتبادر، ولا بين قوله فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، لأنه يجوز أن يكون ذلك الرجل كان يرد السهام التي كان يرمي بها حتى لا تفنى سهامه إلا هذا السهم فإنه لم يرده له، بل يناوله له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرده عليه. ولا منافاة بين قوله: حتى واليت بين ثمانية أو تسعة وبين إخباره بقوله: ثم أخذت سهما إلى أن عدد خمس مرات، لأنه يجوز أن تكون تلك الخمسة قتل فيها وفيما زاد لم يقتل بل جرح فليتأمل والله أعلم. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر ذلك اليوم وهو جالس من الجراحة التي أصابته. وصلى المسلمون خلفه قعودا: أي ولعلّ ذلك كان بعد انصراف عدوهم. وإنما صلى المسلمون خلفه صلى الله عليه وسلم قعودا موافقة له صلى الله عليه وسلم وقد نسخ ذلك. أو أن من صلى قاعدا إنما هو لما أصابهم من الجراح وكانوا هم الأغلب، فقيل صلى المسلمون خلفه قعودا؛ فقد جاء أنه وجد بطلحة رضي الله عنه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية وقطعت أصبعه. وفي رواية أنامله. وعند ذلك قال حسن، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة عليهم السلام والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جوّ السماء» زاد في لفظ «ولرأيت بناءك الذي بني الله لك في الجنة وأنت في الدنيا» . وفي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال «رأيت يد طلحة بن عبيد الله شلاء وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد» أي من سهم، وقيل من حربة ونزف به الدم حتى غشي عليه؛ ونضح أبو بكر رضي الله عنه الماء في وجهه حتى أفاق، فقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال له أبو بكر: هو بخير، وهو أرسلني إليك، فقال: الحمد الله كل مصيبة بعده جلل أي قليلة. وكان يقال لطلحة رضي الله عنه الفياض، سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة كما تقدم. وسماه طلحة الجود في أحد، لأنه أنفق في أحد سبعمائة ألف درهم. وسماه في أحد أيضا طلحة الخير. وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أصيب فوه فهتم وجرح عشرين جراحة. قال وفي رواية عشرين جراحة فأكثر، وجرح في رجله فكان يعرج منها.

وأصاب كعب بن مالك رضي الله عنه سبعة عشر جراحة. وفي رواية عشرون جراحة قال عاصم بن عمر بن قتادة: كان عندنا رجل غريب لا ندري ممن هو، أي يظهر الإسلام يقال له قزمان، وكان ذا بأس وقوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر يقول إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أحد قاتل قزمان قتالا شديدا أي فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، وكان يرمي النبال كأنها الرمال ثم فعل بالسيف الأفاعيل فكان يكت كتيت الجمل. وقتل ثمانية أو تسعة من المشركين. ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك قال إنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، وأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، لأنه كان حليفا لهم فجعل رجال من المسلمين يقولون: والله لقد ابتليت اليوم يا قزمان فأبشر، فيقول بماذا أبشر؟ فو الله: ما قاتلت إلا على أحساب قومي: أي على شرفهم ومفاخرهم: أي مناصرة لهم، ولولا ذلك ما قاتلت: أي فلم يقاتل لإعلاء كلمة الله ورسوله وقهر أعدائهما. أي وفي رواية أن قتادة رضي الله عنه قال له: هنيئا لك الشهادة يا أبا الغيداق؟ فقال إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير إلينا قريش حتى تطأ أرضنا، فلما اشتدت عليه الجراحة أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه: أي قطع به عروقا في باطن الذراع يقال لها الزواهق: أي وفي رواية: فجعل ذباب سيفه في صدره أي بين ثدييه كما في رواية ثم تحامل عليه حتى قتل نفسه. قال في النور: وهو الصحيح، ولا مانع أن يكون فعل كلا من الأمرين، أي وعند ذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أصحاب النار فعل كذا وكذا. وقد جاء: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» فنص عليه، وحينئذ قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» . ففيه إشارة إلى باطن الأمر قد يكون بخلاف ظاهره. وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» أي وقد أشار إلى هذا الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله: وقلت لشخص يدعي الدين إنه ... بنار فألقى نفسه للمنية هذا وفي كلام ابن الجوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال لرجل ممن يدّعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله، الرجل

الذي قلت إنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم كما قال: إلى النار. ثم قيل إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة. فلما كان من الليل لم يصبر على الجراحة فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله، فأمر بلالا فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلم وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» وهذا الرجل اسمه قزمان من المنافقين، هذا كلامه فليتأمّل، فإن تعدّد الشخص المسمى بهذا الاسم فيه بعد. ولعلّ ذكر خيبر بدل أحد اشتباه من الراوي. وقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» عام فيدخل في كل من الملك والعالم الذي جعل تسليكه وتعليمه مصيدة للدنيا وأكل الحرام فإن الله يحيي بهما قلوبا؛ ويهدي بهما إلى سواء السبيل مع أنهما فاجران. وقتل الأصيرم أصيرم بني عبد الأشهل. قال بعضهم: كان الأصيرم يأبى الإسلام على قومه بني عبد الأشهل، فلما كان يوم خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد جاء إلى المدينة، فسأل عن قومه، فقيل له بأحد، فبدا له في الإسلام: أي رغب فيه فأسلم ثم أخذ سيفه ورمحه ولأمته، وركب فرسه، فغدا- بالغين المعجمة- حتى دخل في عرض الناس أي بضم العين المهملة وبالضاء المعجمة: جانبهم وناحيتهم، فقاتل حتى أثبتته الجراحة أصابت مقاتله، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا والله إن هذا الأصيرم، فسألوه ما جاء بك مناصرة لقومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم جئت وقاتلت حتى أصابني ما أصابني، ثم لم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لمن أهل الجنة» وكان أبو هريرة يقول: حدّثني عن رجل دخل الجنة ولم يصل: يعني الأصيرم. ويصدق عى هذا قوله عليه الصلاة والسلام «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار» الحديث. أي وممن يدخل الجنة ولم يصلّ الأسود الراعي لبعض يهود خيبر، الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أعرض عليّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. ثم تقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله وما صلى صلاة قط كما سيأتي في غزاة خيبر. وقتل حنظلة بن أبي عامر الفاسق رضي الله عنه، وأبو عامر هذا هو الذي كان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق كما تقدم، وكان هو وعبد الله بن أبي ابن سلول من رؤوس أهل المدينة وعظمائها المتوّجين للرياسة على أهلها. وكان أبو عامر من الأوس، ويقال له ابن صيفي، وكان عبد الله من الخزرج. فعبد الله بن أبي أظهر الإسلام. وأما أبو عامر فأصرّ على الكفر إلى أن مات طريدا وحيدا إجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا عليه بذلك. وإلى ذلك أشار إلى الإمام

السبكي رحمه الله في تائيته بقوله: ومات ابن صيفي على الصفة التي ... ذكرت وحيدا بعد طرد وغربة وقد كان أبو عامر هذا خرج من المدينة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خمسون غلاما، وقيل خمسة عشر من قومه من الأوس، فلحق بمكة وكان يعد قريشا أنه لو لقي قومه: أي الأوس لم يختلف عليه منهم رجلان. فلما جاء مع قريش نادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر، وقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، أي وفي لفظ قالوا له: لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق. ولا مانع من صدور الأمرين منهم، فلما سمع ردّهم عليه قال لعنه الله: لقد أصاب قومي بعدي شرّ، ثم قاتل قتالا شديدا. وهو الذي حفر الحفائر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، التي وقع في إحداها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، أي وكان هو أوّل من أثار الحرب وضرب بأسهم في وجوه المسلمين، واستأذن ولده حنظلة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فنهاه عن قتله. وسبب قتل حنظلة رضي الله تعالى عنه أن حنظلة ضرب فرس أبي سفيان فوقع على الأرض فصاح وعلاه حنظلة رضي الله عنه يريد ذبحه فرآه شدّاد بن الأوس كذا في الأصل قيل وصوابه شدّاد بن الأسود، فحمل عليه فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن صاحبكم، يعني حنظلة، لتغسله الملائكة» أي وفي رواية «رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة فسئلت صاحبته أي زوجته وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين أخت ولده عبد الله رضي الله عنهما، فقالت: خرج جنبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة» فإنه دخل عليها عروسا تلك الليلة التي صبيحتها أحد، وقد كان استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: أي في الدخول بها، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلزمته، فكان معها فأجنب منها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى العدّو فعجل عن الغسل إجابة للداعي. وفي رواية أنها قالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة: أي الصياح بالخروج للعدّو. وفي لفظ: الهائعة. وفي لفظ: الهيعة، من الهياع: وهو الصياح الذي فيه فزع. وقد جاء في الحديث «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه» فلما سمع هيعة طار إليها. وفي رواية: وقد كان غسل أحد شقيه، فخرج ولم يغسل الشق الآخر. وقد رأت هي تلك الليلة أن السماء قد فرجت فدخل فيها ثم أطبقت. وجاء أنها أشهدت أربعة من قومها عليه بالدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع، قالت: لأني رأيت السماء فرجت فدخل فيها ثم أطبقت، فقلت هذه الشهادة وعلقت منه بعبد الله بن حنظلة رضي الله عنه في تلك الليلة. وعبد الله هذا هو الذي ولاه أهل المدينة عليهم

لما خلعوا يزيد بن معاوية. وكان ذلك سببا لوقعة الحرة ولم تمثل قريش بحنظلة رضي الله عنه لكون والده معهم الذي هو أبو عامر الراهب لعنه الله. وفي الإمتاع: وجعل أبو قتادة الأنصاري يريد التمثيل من قريش لما رأى من المثلة بالمسلمين، فقال له صلى الله عليه وسلم «يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى إلى فيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم. لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله. فقال أبو قتادة: والله يا رسول الله ما غضبت إلا لله ولرسوله، فقال: صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم» قال: وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم همّ أن يدعو عليهم، فنزلت الآية المذكورة أي لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: الآية 128] فكف عن الدعاء عليهم» أي وفيه أنها نزلت بعد قوله «اللهم العن فلانا وفلانا» إلى آخر ما تقدم عن بعض الروايات، إلا أن يقال أراد صلى الله عليه وسلم المداومة على الدعاء عليهم. وعن أبي سعيد الساعدي قال: ذهبنا إلى حنظلة رضي الله عنه فإذا رأسه يقطر ماء انتهى. أي فعلم أنه لا منافاة بين كونه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم وبين كونه همّ بالدعاء عليهم، لأنه يجوز أن يكون المراد همّ بتكرير الدعاء عليهم. وفي البخاري ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: «قال رجل يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتلت فأين أنا؟ قال في الجنة فألقى تمرات كن في يده فقاتل حتى قتل» قال في طرح التثريب، قال الخطيب: كانت هذه القصة يوم بدر لا يوم أحد، فأشار إلى تضعيف رواية الصحيحين التي فيها يوم أحد، ولا توجيه لذلك، بل التضعيف تفسير هذه بهذه: أي جعلهما قصة واحدة وكل منهما صحيحة وهما قصتان لشخصين. هذا كلامه، وقد تقدّم في غزاة بدر الحوالة على هذه فليتأمل، أي وأقبل رجل من المشركين مقنعا بالحديد يقول أنا ابن عويف فتلقاه رشيد الأنصاري الفارسي فضربه على عاتقه فقطع الدرع وقال خذها وأنا الغلام الفارسي؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هلا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري» فعرض لرشيد أخو ذلك المقتول بعد وكأنه كلب وهو يقول: أنا ابن عويف فضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر ففلق رأسه وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أحسنت يا أبا عبد الله» وكان يومئذ لا ولد له. وقتل عمرو بن الجموح رضي الله عنه، وكان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد. فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: قد عذرك الله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك، فو الله إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد أعذرك الله فلا جهاد عليك، وقال لبنيه: ما عليكم أن

لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة» فأخذ سلاحه وخرج وأقبل على القبلة وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني خائبا إلى أهلي فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبرّه. منهم عمرو بن الجموح ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته» أي كشف له عن حاله يوم القيامة، أي وفي رواية أنه قال «يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ فمرّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة» . أقول: لكن يمكن الجمع بأنه في أول دخوله الجنة يطؤها برجله غير صحيحة ثم تصير صحيحة. وعمرو بن الجموح رضي الله عنه كان في الجاهلية على أصنامهم: أي سادنا لها، وكان في الإسلام يولم عنه صلى الله عليه وسلم إذا تزوج. وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لأنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم «فإنه لما كسرت أخته الربيع ثنية جارية من الأنصار فطلب أهلها القصاص، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر ثنية الربيع قال أخوها أنس المذكور والله لا تكسر ثنية الربيع، وصار كلما يقول صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص، يقول والله لا تكسر ثنية الربيع، فرضي القوم بالأرش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» وقال صلى الله عليه وسلم ذلك في حق البراء بن مالك أخي أنس بن مالك رضي الله عنهما. فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ربّ أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبرّه منهم البراء بن مالك» ومصداق ذلك ما وقع له رضي الله عنه في مقاتلة الفرس، فإن الفرس غلبوا المسلمين فقالوا له: يا براء أقسم على ربك، فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فحمل رضي الله عنه وحمل المسلمون معه فقتل عظيم الفرس وانهزم الفرس، ثم قتل البراء رضي الله عنه. ومما وقع أنه كان مع أخيه أنس رضي الله عنه عند بعض حصون العدوّ بالعراق وكانوا يلقون كلاليب معلقة في سلاسل محماة يخطفون بها الإنسان، فكان من جملة من خطف أنس رضي الله عنه، فأقبل البراء رضي الله عنه وصعد محلا عاليا وأمسك السلسلة بيده ولا زال حتى قطع السلسلة، ثم نظر إلى يده فإذا عظمها يلوح ليس عليه لحم، ونجى الله أنسا رضي الله عنه بذلك وقال صلى الله عليه وسلم ما تقدم في حق أويس القرني رضي الله عنه. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر القرنيّ، فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم» وفي رواية خطابا لعمر رضي الله عنه «يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن كان به برص فبرىء منه إلا موضع درهم، له أمّ هو بها بار لو أقسم على الله لأبرّه فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» والله أعلم.

وقتل أيضا أحد بني عمرو بن الجموح وهو خلاد رضي الله عنه. وقتل أخو زوجته هند بنت حزام وهو عبد الله والد جابر رضي الله عنه، فحملتهم هند على بعير لها تريد أن تدفنهم في المدينة، فلقيتها عائشة رضي الله عنها وقد خرجت في نسوة يستروحن الخبر فقالت لها عائشة رضي الله عنها: جاء خبر الجيش، فقالت: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالح وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ الله من المؤمنين شهداء. ثم قالت لها: من هؤلاء؟ قالت: أخي عبد الله وابني خلاد وزوجي عمرو بن الجموح رضي الله عنهم، فبرك بهم البعير وصار كلما توجه إلى المدينة يبرك، وإن وجه إلى أرض أحد نزع، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته، فقال: إن الجمل مأمور فقبرهم بأحد، وقال صلى الله عليه وسلم لهند «يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن» ولعلّ هذا كان قبل أن ينادي بردّ القتلى إلى مضاجعهم. قال جابر رضي الله عنه: كان أبي أول قتيل للمسلمين، قتله أبو الأعور السلمي. وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها وأم سليم كانا يسقيان الناس يفرغان من القرب في أفواه القوم. أي ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون ذلك شأن عائشة بعد وصولها لأحد، أي وقد كان صلى الله عليه وسلم خلف اليمان والد حذيفة وثابت بن وقس في الآطام مع النساء والصبيان لأنهما كانا شيخين كبيرين، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبالك، ما ننتظر؟ فوالله إن بقي لواحد منا في عمره إلا ظمأ حمار، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة، فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس من جهة المشركين ولم يعلم المسلمون بهما. فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولم يعرفوه. وذكر السهيلي أن في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أن الذي قتله خطأ هو عتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعتبة هو أول من سمى المصحف مصحفا. وعند ذلك قال حذيفة أبي فقالوا ما عرفناه. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة رضي الله عنه بديته على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا. واسم اليمان حسيل، وقيل له اليمان لأنه نسب إلى جدّه اليمان بن الحارث وقيل إنما قيل له اليمان لأنه أصاب دما في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني الأشهل فسماه قومه اليمان لمحالفته اليمانية: أي وهم أهل المدينة. ومما يؤثر عن حذيفة رضي الله عنه، أنه قيل له: من ميت الأحياء؟ قال: الذي لا ينكر المنكر بيديه ولا بلسانه ولا بقلبه. وفي الكشاف: وعن حذيفة رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل

أبيه وهو في صف المشركين أي قبل أن يسلم، فقال صلى الله عليه وسلم له: دعه يليه غيرك. هذا كلامه، ولم أقف على أي غزاة كان ذلك فيها وسياق ما قبله يدل على أنه كان من الأنصار، كان حليفا لبني عبد الأشهل ولم يحفظ أن أحدا من الأنصار قاتله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام فليتأمل. ثم إن هندا زوجة أبي سفيان والنسوة اللاتي خرجن معها صرن يمثلن بقتلى المسلمين يجدعن: أي يقطعن من آذانهم وأنوفهم، واتخذن من ذلك قلائد، وبقرت: أي شقت هند بطن سيدنا حمزة رضي الله عنه، وأخرجت كبده فلاكتها: أي مضغتها فلم تستطع أن تسيغها: أي تبتلعها، فلفظتها أي ألقتها من فيها أي لأنها كانت نذرت إن قدرت على حمزة رضي الله عنه لتأكلن من كبده. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أخرجت كبد حمزة قال: هل أكلت منه شيئا؟ قالوا لا قال: إن الله قد حرّم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبدا أي ولو أكلت منه أي استقرّ في جوفها لم تمسها النار. وفي رواية «لو أدخل بطنها لم تمسها النار» لأن حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيء من جسده النار. أي ورأيت في بعض السير أنها شوت منه ثم أكلت. وقد يقال: لا منافاة، لجواز حمل الأكل على مجرد المضغ من غير إساغة. قال وفي رواية أن وحشيا هو الذي بقر بطن حمزة رضي الله عنه وأخرج كبده وجاء بها إلى هند، أي وقال لها ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك، قالت سلني، فقال: هذه كبد حمزة فأعطته ثيابها وحليها، ووعدته إذا وصلت إلى مكة تدفع له عشرة دنانير. وجاء بها إلى مصرع حمزة رضي الله عنه فجدعت أنفه وأذنيه، أي وفي لفظ: فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه وقطعت أذنيه، ثم جعلت ذلك كالسوار في يديها وقلائد في عنقها، واستمرّت كذلك حتى قدمت مكة. وفي النهر لأبي حيان أن وحشيا جعل له على قتل حمزة أن يعتق فلم يوف له بذلك فندم على ما صنع. ثم إن هندا علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها وأنشدت أبياتا. ثم إن زوجها أبا سفيان أشرف على الجبل كذا في البخاري أنه أشرف. وفي رواية كان بأسفل الجبل. وقد يقال: لا مخالفة لجواز وقوع الأمرين معا، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال: أي ومعنى سجال: مرّة لنا ومرّة علينا، يوم أحد بيوم بدر، وأنعمت بكسر التاء خطابا لنفسه، أو للأزلام، لأنه استقسم بها عند

خروجه إلى أحد، فخرج الذي يحب وهو أفعل والفاء من فعال مفتوحة وليست من أبنية لكلمة وهي أمر: أي ارتفع عن لومها: أي النفس أو الأزلام يقال: عال عني: أي ارتفع عني ودعني أي وزاد في لفظ: يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسرّ، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان. أي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: الحرب سجال، وقد قال تعالى إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: الآية 140] وقد نزل ذلك في قصة أحد باتفاق. ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في القوم. وفي رواية في قتلاكم مثلة لم آمر بها ولم تسرني. وفي رواية: والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت: وفي لفظ: ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني أي وفي لفظ: أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلا ولم تكن عن رأي سراتنا ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان كذلك لم نكرهه. ومر الحليس سيد الأحابيش بأبي سفيان وهو يضرب بزج الرمح في شدق حمزة رضي الله عنه ويقول ذقه عقق: أي ذق طعم مخالفتك لنا وتركك الذي كنت عليه يا عاق قومه، جعل إسلامه عقوقا، فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يفعل بابن عمه ما ترون، فقال أبو سفيان: اكتمها عني فإنها زلة. وقال أبو سفيان: اعل هبل أي أظهر دينك، أو ازدد علوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان إنكم تزعمون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا، وهبل هذا تقدّم أنه صنم، وتقدم الكلام عليه. ورأيت في كلام الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله تعالى أنه الحجر الذي يطؤه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة، وبلط الملوك فوقه البلاط. ثم قال أبو سفيان: إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله مولانا ولا مولى لكم» ثم قال أبو سفيان لعمر، أي بعد أن قال له: هلم يا عمر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائته فانظر ما شأنه فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر رضي الله عنه: لا وإنه ليسمع كلامك الآن. قال أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرّ: أي لأنه لما قتل مصعب بن عمير ظنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قتلت محمدا كما تقدّم. وفي رواية أن أبا سفيان نادى: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، قال ذلك ثلاثا فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة قالها ثلاثا. ثم قال أفي القوم عمر قالها ثلاثا. وفي رواية: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب: ثم أقبل على أصحابه. فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم،

إذ لو كانوا أحياء لأجابوا فما ملك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال: كذبت والله يا عدّو الله إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، ثم نادى أبو سفيان: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل نعم بيننا وبينكم موعد. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقيل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل: أي جعلوها منقادة بجانبهم وامتطوا الإبل: أي ركبوا مطاها: أي ظهورها لأن المطا الظهر فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزهم. قال علي كرم الله وجهه أو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، أي بعد أن تشاوروا في نهب المدينة. فأشار عليهم صفوان بن أمية أن لا تفعلوا، أي وقال لهم. فإنكم لا تدرون ما يغشاكم وفزع الناس لقتلاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع: أفي الأحياء هو أم في الأموات، أي زاد في رواية فإني رأيت الأسنة قد أشرعت إليه. فقال رجل من الأنصار: أي وهو أبي بن كعب، وقيل محمد بن مسلمة، وقيل زيد بن حارثة، وقيل غير ذلك. ويجوز أن يكون أرسلهم كلهم. قال: أنا أنظر لك يا رسول الله. أي وفي رواية: قال للمرسل: إن رأيت سعد بن الربيع فأقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك. فنظر فوجد جريحا وبه رمق أي بقية روح. فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وإني قد أنفذت مقاتلي، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام، وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خيرا ما جزي نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. وفي رواية: شفر يطرف أي يتحرك. قال: ثم لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره، أي وفي رواية أنه رأى الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور بين القتلى فقال له: ما شأنك؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك. قال: فاذهب إليه الحديث. وفي رواية إن محمد بن مسلمة رضي الله عنه نادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى، فلم يجبه حتى قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني أنظر ما صنعت، فأجابه بصوت ضعيف الحديث. أي وفي رواية: اقرأ على قومي مني السلام، وقل لهم يقول لكم سعد بن الربيع الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة

فو الله ما لكم عند الله عذر الحديث. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحمه الله نصح لله ولرسوله حيا وميتا» وخلف بنتين فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من ميراثه الثلثين فكان ذلك بيان المراد من الآية، وهي قوله تعالى فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ [النّساء: الآية 11] وفي ذلك نزلت: أي اثنتان فما فوقهما. أي وحينئذ لا يحتاج إلى قياس البنتين على الأختين، بجامع أن للواحدة منهما النصف. ودخلت بنت له على أبي بكر رضي الله عنه فألقى لها رداءه لتجلس عليه، فدخل عمر رضي الله عنه فسأله عنها. فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك. قال: ومن هو يا خليفة رسول الله؟ قال: رجل تبوأ مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت، هذه ابنة سعد بن الربيع رضي الله عنه. وخرج رسول الله يلتمس عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. فقال له رجل: رأيته بتلك الصخرات وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء النفر أبو سفيان وأصحابه، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم وهذا الدعاء نقل عن أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه غاب عن بدر فشق عليه ذلك، فلما كان يوم أحد ورأى انهزام المسلمين، أي وكان قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني غبت عن أوّل قتال وقع قاتلت فيه المشركين والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء: يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء: يعني المشركين. ولما سمع قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده، موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل القوم. أي وقال لسعد بن معاذ: هذه الجنة ورب الكعبة أجد ريحها دون أحد، وقاتل رضي الله عنه حتى قتل. أي ووجدوا فيه بضعا وثمانين جراحة، ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم. ولما قتل مثل به المشركون، فما عرفته أخته الربيع إلا ببنانه. قال ابن أخيه أنس بن مالك رضي الله عنه: لما نزل قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: الآية 23] الآية، قلنا إن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين رضي الله عنه. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه ومثل به فجدع أنفه وأذناه، أي وقطعت مذاكيره، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه. أي وقال «لن أصاب بمثلك، ما وقفت موقفا أغيظ لي من هذا، وقال: رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمتك، فعولا للخيرات، وصولا للرحم، أما والله لأمثلنّ بسبعين» وفي رواية «بثلاثين رجلا منهم مكانك» وفي رواية «لئن ظفرني الله تعالى بقريش في موطن من المواطن لأمثلن بسبعين منهم مكانك» ولما

رأى المسلمون جذع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه قالوا: لئن أظفرنا الله تعالى بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى أنزل في ذلك وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: الآية 126، 127] الآية، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر، ونهى عن المثلة، وكفر عن يمينه، وكان نزول هذه الآيات بعد أن مثل صلى الله عليه وسلم بالعرنيين. وستأتي قصتهم في السرايا. واعترضه ابن كثير رحمه الله بأن هذه الآيات مكية وقصة أحد في المدينة بعد الهجرة بثلاث سنوات، فكيف يلتئم هذا مع هذا، هذا كلامه. وقد يقال: يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فليتأمل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه «ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا أشد من بكائه على حمزة رضي الله عنه، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشق» أي شهق «حتى بلغ به الغشي يقول: يا عم رسول الله، وأسد الله، وأسد رسول الله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابّ» أي بالذال المعجمة «يا مانع عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي قال ذلك لا مع البكاء. فلا يقال هذا من الندب المحرم وهو تعديد محاسن الميت، لأن ذلك مخصوص بما إذا قارنه البكاء وليس من نعي الجاهلية المكروه: وهو النداء بذكر محاسن الميت؛ على أن النداء بذلك محل كراهته إذا كان على وجه التفاخر والتعاظم، ولم يكن وصفا لنحو صالح للحث على سلوك طريقته. وقال صلى الله عليه وسلم «جاءني جبريل عليه السلام، وأخبرني بأن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله. وأمر صلى الله عليه وسلم الزبير رضي الله عنه أن يرجع أمه صفية أخت حمزة رضي الله عنها عن رؤيته، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، فدفعت في صدره وقالت: لم؟ وقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله فما أرضاني بما كان في الله من ذلك» أي أنا أشد رضا بذلك من غيري «لأحتسبن، ولأصبرنّ إن شاء الله تعالى، فجاء الزبير رضي الله عنه، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: خل سبيلها، فجاءت واسترجعت واستغفرت له» . وفي رواية «إن صفية لقيت عليا والزبير رضي الله عنهما، فقالت لهما: ما فعل حمزة: فأرياها أنهما لا يدريان» أي رحمة بها «فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخاف على عقلها فوضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت» أي لما رأته، أي وفي رواية «لما منعها عليّ والزبير رضي الله عنهما قالت: لا أرجع حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأته قالت: يا رسول الله أين ابن أمي حمزة؟

قال صلى الله عليه وسلم: هو في الناس. قالت: لا أرجع حتى أنظر إليه، فجعل الزبير رضي الله عنه يحبسها، فقال صلى الله عليه وسلم: دعها فلما رأته بكت وصارت كلما بكت بكى صلى الله عليه وسلم، ثم أمر به فسجي ببرده» وفي رواية «قال ألا كفن؟ فقام رجل من الأنصار فرمى بثوبه عليه، ثم قام آخر فرمى بثوبه عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: يا جابر هذا الثوب لأبيك وهذا لعمي» وهذا يدل على أن والد جابر رضي الله عنهما استمر لم يقبر إلى ذلك الوقت، وهو خلاف ظاهر سياق ما تقدم. وفي رواية «وجاءت صفية معها بثوبين لحمزة، فكان أحدهما لحمزة، والآخر لرجل من الأنصار» ولعله والد جابر رضي الله عنهما، ولعله لما جاءت صفية بالثوبين جعل صلى الله عليه وسلم أحدهما لحمزة، والآخر لوالد جابر، وترك ثوبي الرجلين. وفي رواية «كفن حمزة رضي الله عنه بنمرة، كانوا إذا مدوها على رأسه انكشفت رجلاه، وإن مدوها على رجليه انكشفت رأسه، فمدوها على رأسه، وجعلوا على رجليه الإذخر» وفي لفظ «الحرمل» أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما والمشهور حديث النمرة. وقد يقال: إنما اختار صلى الله عليه وسلم النمرة على الثوب، لأنه كان بها دم الشهادة أو أراد صلى الله عليه وسلم أن لا يكون لأحد على حمزة رضي الله عنه منة. ويؤيد الأول ما يأتي «ولم يكفنوا إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها» فليتأمل، فإن السياق يقتضي أن ذلك إنما هو عن احتياج، وسيأتي ما يصرح به وسيأتي ما يعارضه فليتأمل. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه يوم أحد، وكفن في وبرة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه. وفي رواية «قتل مصعب بن عمير، فلم يترك إلا نمرة إذا غطينا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر» . وكان مصعب بن عمير هذا قبل الإسلام فتى مكة شبابا وجمالا ولباسا وعطرا ولما أسلم رضي الله عنه تشعث. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه كان صائما وقد جيء له بطعامه، فقال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقد بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا من الدنيا ما أعطينا، وخشيت أن أكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. وعن أنس رضي الله عنه قال: قلت الثياب، وكثرت القتلى، فكان الرجل

والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد. وقال صلى الله عليه وسلم في حق حمزة رضي الله عنه «لولا أن تجزع صفية ونساؤنا» أي يتطاول جزعهن ويدوم. وفي رواية «لولا تجد صفية في نفسها» أي يطول ذلك «وتكون سنة من بعدي لتركنا حمزة ولم ندفنه حتى يحشر من بطون الطير والسباع» وفي رواية «حتى تأكله العافية ويحشر من بطونها، ليشتد غضب الله على من فعل به ذلك ثم صلى عليه فكبر أربع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى جنب حمزة أي واحد بعد واحد فيصلي على كل واحد منهم مع حمزة، ثم يرفع ويؤتى بآخر فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة» . وفي رواية «اثنتين وتسعين صلاة» وهذا غريب وسبعين ضعيف. والرواية الأولى تقتضي أن جملة من قتل بأحد اثنان وسبعون. والرواية الثانية تقتضي أنهم كانوا اثنين وتسعين. وقوله واحدا بعد واحد قد يخالف ما تقدم عن أنس رضي الله عنه، من جعل الرجلين أو الثلاثة في كفن واحد فليتأمل. وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على عشرة عشرة» أي يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم. ثم ترفع التسعة وحمزة مكانه، ويؤتى بتسعة أخرى فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليهم، حتى فعل ذلك سبع مرات، وحينئذ يكون جملة من قتل ثلاثة وستين. وسيأتي الكلام على عدتهم، وقيل كبر عليهم، كبر تسعا وسبعا وخمسا أي بعد أن كبر على حمزة وحده أربعا فلا ينافي ما تقدم. ولم أقف على عدد المرات التي كبر فيها ما ذكر. وجاء أن قتلى أحد لم يغسلهم، ولم يصل عليهم ولم يكفنهم إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها أي غير الجلود، أخذا مما يأتي: أي ولا يضر تتميم ستر بعضهم بالإذخر. وحينئذ لا يكون تكفين حمزة بنمرته، ومصعب ببردته وتتميم تكفينهما بالإذخر عن احتياج كما تقدم عن عبد الرحمن بن عوف. وعن أنس رضي الله عنهما أي وقال مغلطاي: وصلي على حمزة والشهداء من غير غسل، وهذا أي دفنهم من غير غسل إجماع إلا ما شذ به بعض التابعين وفيه نظر ظاهر. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «لقد رأيت الملائكة تغسل حمزة» وتقدم أن هذا السياق يقتضي أن هذه رؤيا نوم. وحينئذ يظهر التوقف فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قتل حمزة جنبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر. ولعل الراوي عن ابن عباس ذكر حمزة بدل حنظلة غلطا. أما الصلاة عليهم؛ فقال إمامنا الشافعي رضي الله عنه: جاءت الأخبار كأنها

عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد. وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لم يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك: أي بما روى هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه؛ أي فإن من رواة ذلك الحديث الدالة على أنه صلى عليهم سعيد بن ميسرة عن أنس رضي الله عنه. وقد قال فيه البخاري إنه يروي المناكير. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، ومن جملة رواته: أي رواة ذلك الحديث مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد قال فيه البخاري: منكر الحديث، ومن ثم ذكر ابن كثير أن الذي في البخاري «أمر صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء أحد بدمائهم ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا» . وهو أثبت من صلاته عليهم. وأما حديث عتبة بن عامر: أي الذي رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت: أي دعا لهم كدعائه للميت كالمودع للأحياء والأموات أي حين علم قرب أجله، أي فذلك كان توديعا لهم بذلك. قال: قال السهيلي رحمه الله: لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على شهيد في شيء من مغازيه إلا في هذه الرواية في أحد، وكذلك لم يصل أحد من الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم اهـ. وفي النور «أنه صلى الله عليه وسلم صلى على أعرابي في غزوة أخرى» . وفي البخاري عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصلّ عليهم» بكسر اللام. وفي رواية «ولم يصلّ عليهم» بفتح اللام. لا يقال: خبر جابر لا يحتج به لأنه نفي، وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من خبر الإثبات. لأنا نقول: شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها على الشاهد ولم تكن بحضوره وإلا فتقبل بالاتفاق. وهذه قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علما. واستدل أئمتنا على أن الشهيد لا يغسل ولو كان جنبا بقصة حنظلة رضي الله عنه، لأن تغسيل الملائكة لا يكتفي به في إسقاط الحرج عن المكلفين من الإنس لعدم تكليفهم، بخلاف تغسيل الجن فإنهم مكلفون ودفنوا بثيابهم، ونزع عنهم الحديد والجلود. أي وأسلم وحشي رضي الله عنه بعد ذلك، فإنه في يوم فتح مكة فرّ إلى الطائف. ثم وفد مع أهل الطائف لما وفدوا ليسلموا. وقد قيل له بعد أن ضاقت عليه: ويحك والله إنه لا يقتل أحدا من الناس دخل دينه. قال وحشي: فلم يرعه صلى الله عليه وسلم إلا أني قائم على رأسه أشهد شهادة الحق. فقال لي: أنت وحشي؛ وسألني كيف قتلت حمزة فأخبرته. ثم قال: ويحك، غّيب عني وجهك فلا أراك. وفي رواية: لا

ترني وجهك. وفي رواية: تفل في وجهي ثلاث تفلات. وقيل تفل في الأرض وهو وجد مغضب: أي وحينئذ لحق بالشام. وكان وحشي لا يزال يحد في الخمر في زمن عمر رضي الله عنه حتى خلع من الديوان قال عمر رضي الله عنه: قد علمت أنه لم يكن الله ليدع قاتل حمزة رضي الله عنه: أي لم يكن ليتركه من الابتلاء. وهذا أي تكرر حدّه في شرب الخمر. وإخراجه من ديون المجاهدين من أقبح أنواع الابتلاء، عافانا الله من ذلك. وروى الدارقطني في صحيحه عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه كان يقول: عجبت لقاتل حمزة كيف ينجو؛ أي من الابتلاء، حتى بلغني أنه مات غريقا في الخمر. أي وذلك مع ما تقدم ابتلاء فظيع له رضي الله عنه. وممن مثل به عبد الله بن جحش بدعوة دعاها على نفسه. فقال: أي قبل أحد بيوم: اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا بأسه فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني. فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذنك؟ فأقول فيك وفي رسولك. فيقول الله: صدقت، قال: وليس هذا من تمنى الموت المنهيّ عنه انتهى، أي لأن المنهي عنه أن يكون ذلك لضرّ نزل به فليتأمل. وجاء أن عبد الله بن جحش انقطع سيفه يوم أحد، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجون نخلة، فصار في يده سيفا، وكان يسمى العرجون. ودفن هو وخاله حمزة رضي الله عنهما في قبر واحد، أي وإنما كان حمزة خاله، لأن أم عبد الله أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان القاتل له أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، وأبو الحكم هذا قتل كافرا يوم أحد. وقال صلى الله عليه وسلم ادفنوا عبد الله بن عمرو أي وهو والد جابر رضي الله عنهما وعمرو بن الجموح وهو زوج عمة جابر رضي الله عنهم في قبر واحد لما بينهما من الصفاء. وعبد الله بن عمرو هذا قد أصابه جرح في وجهه ومات ويده على جرحه، فأميطت يده عن وجهه فانبعث الدم، فردت يده إلى مكانها فسكن. ويقال إن السيل حفر قبر عبد الله بن عمرو والد جابر رضي الله عنهما وعمرو بن الجموح فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس. وأنه أزيلت يد عمرو عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت. وكان ذلك بعد الواقعة لست وأربعين سنة. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: استصرخنا إلى قتلانا بأحد، وذلك حين أجرى معاوية رضي الله عنه العين في سوط مقبرة شهداء أحد، وأمر الناس بنقل موتاهم فأخرجناهم رطابا تنثني أطرافهم، وذلك على رأس أربعين سنة، ولعله وما قبله لا يخالف قول السهيلي وذلك بعد ثلاثين سنة، وأصابت المسحاة قدم حمزة رضي الله عنه فانبعث دما.

وذكر أنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك. وفي لفظ نحو خمسين سنة مع أن أرض المدينة سبخة يتغير الميت في قبره من ليلته: أي لأن الأرض لا تأكل لحوم شهداء المعركة كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. زاد بعضهم: قارىء القرآن، والعالم، ومحتسب الأذان. ويدل للأخير ما في الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه لا يدود في قبره أي كشهيد المعركة لا يأكله الدود في القبر. وقد نظم هؤلاء الشيخ التتائي المالكي رحمه الله تعالى فقال: لا تأكل الأرض جسما للنبي ولا ... لعالم وشهيد قتل معترك ولا لقارىء قرآن ومحتسب ... أذانه لإله مجرى الفلك ودفن خارجة بن زيد وسعد بن الربيع رضي الله عنهما في قبر واحد، لأنه كان ابن عمه وولده خارجة وهو زيد بن خارجة الذي تكلم بعد الموت. ذكر أن خارجة أخذته الرماح فجرح بضعة عشر جرحا فمرّ به صفوان بن أمية بن خلف فعرفه فأجهز عليه، وقال: الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد. قتلت خارجة بن زيد، وقتلت أوس بن أرقم، وقتلت أبا نوفل، ودفن النعمان بن مالك وعبد بني الحسحاس في قبر واحد، وربما دفنوا ثلاثة في قبر، وصار صلى الله عليه وسلم يقول «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» وكان صلى الله عليه وسلم يقول «انظروا أكثر هؤلاء جمعا» أي حفظا للقرآن «فقدموه في القبر» أي في اللحد. واحتمل ناس من المدينة قتلاهم إلى المدينة، فردهم صلى الله عليه وسلم ليدفنوا حيث قتلوا وبه استدل أئمتنا رحمهم الله على حرمة نقل الميت قبل دفنه من محل موته إلى محل أبعد من مقبرة محل موته. وفيه أنهم قالوا: إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، نص على ذلك إمامنا الشافعي رحمه الله. وقد يجاب بأن هذا مخصوص بغير الشهيد. أما هو فالأفضل دفنه بمحل موته ولو بقرب ما ذكر كما بحث ذلك بعض المتأخرين من أئمتنا. ويشهد له ما هنا. ولا يشكل دفن اثنين أو ثلاثة في لحد على قول فقهائنا بحرمة جمع اثنين في لحد ولو الوالد وولده، لأن محل ذلك حيث لا ضرورة ككثرة الموتى ومشقة الحفر لكل واحد كما هنا. ثم رأيت في بعض السير: وقد ثبت في صحيح البخاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد» . وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد.

وفي رواية «فحملوهم إلى المدينة فدفنوهم في نواحيها، فجاء منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا القتلى إلى مضاجعهم، فأدرك المنادي واحدا لم يكن دفن فردّ ومن دفن أبقوه. ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد قال «أنا شهيد على هؤلاء، وما من جرح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه، اللون لون الدم والريح ريح المسك» . وفي رواية «إنه ليس مكلوم يكلم في الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة لونه» أي لون الكلم أي الجرح «لون الدم، وريحه ريح مسك» أي وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا» أي يمتنعوا عن الحرب «فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ [آل عمران: الآية 169] الآية. وقد بينت في «النفخة العلوية» أن الأرواح في البرزخ متفاوتة في مستقرها أعظم تفاوت، فلا تعارض بين الأدلة الدالة على تلك الأقوال المختلفة، وحينئذ تكون أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع كونها في الملأ الأعلى متفاوتة فيه، وأرواح المؤمنين غير الشهداء أو غير الأطفال. منها ما هو سماوي ومنها ما هو أرضي. وأرواح الأطفال في حواصل عصافير الجنة عند جبال المسك. وأرواح الشهداء منهم من تكون روحه على باب الجنة. ومنهم من تكون داخلها، وحينئذ إما أن تكون في جوف طير أخضر أو طير أبيض. ومنهم من تكون روحه على صورة الطير. وفي كلام القرطبي رحمه الله قال علماؤنا: أرواح الشهداء طبقات مختلفة، ومنازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون، أي وتقدّم الكلام على رزقهم. أي ومن جملة من قتل من الصحابة يوم أحد أبو جابر أي كما تقدّم فقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه «يا جابر ألا أخبرك ما كلم الله تعالى أحدا قط» لعل المراد من هؤلاء الشهداء كما يرشد إليه السياق «إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا، فقال: سلني أعطك، فقال: أسألك أن أردّ إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه سبق مني أنهم لا يرجعون إلى الدنيا. قال: أي رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آل عمران: الآية 169] الآية. أي ولا مانع من تعدد النزول للآية فلا يخالف ما تقدم قريبا.

أي وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينهني، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة عليهم السلام مظلة له بأجنحتها حتى رفع» أي وسيأتي أن جابرا رضي الله عنه لم يحضر القتال. وعن بشير ابن عفراء رضي الله عنهما قال «أصيب أبي يوم أحد، فمرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: أما ترضى أن تكون عائشة أمك، وأكون أنا أباك» . ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار قد أصيب زوجها وأخوها وأبوها وفي رواية: «وابنها يوم أحد، فلما نعوا لها، قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ما فعل به، قالوا: خيرا يا أم فلان، وهو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته صلى الله عليه وسلم قالت: كل مصيبة بعدك جلل تريد صغيرة. والجلل كما يقال للشيء الصغير يقال للشيء الكبير، فهو من الأضداد. وفي لفظ «أنها مرت بأخيها وأبيها وزوجها وابنها صرعى. وصارت كلما سألت عن واحد وقالت من هذا قيل لها هذا أخوك وابنك وزوجك وأبوك، فلم تكترث بذلك، بل صارت تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك حتى جاءته أخذت بناحية ثوبه، ثم جعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب» . وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. أي فأرادوا قطعها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا فدعاه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده» أي أخذها بيده الشريفة «وردها إلى موضعها» أي براحته الشريفة «وقال: اللهم اكسه جمالا فكانت أحسن عينيه وأحدّهما نظرا؛ وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى» . أي وجاء في قتادة رضي الله عنه أنه قال «كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتي، فأخذتها» أي رفعتها «بيدي أي وقلت: يا رسول الله إن لي امرأة أحبها وأخشى أن تراني تقذرني أي وقال له صلى الله عليه وسلم إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها ودعوت الله تعالى لك، فقال: يا رسول الله إن الجنة لجزاء جزيل، وعطاء جليل، وإني مغرم بحب النساء. وأخاف أن يقلن أعور فلا يردنني، ولكن تردها وتسأل الله تعالى لي الجنة فردها ودعا لي بالجنة» . وجاء عن قتادة رضي الله عنه «أنه صلى الله عليه وسلم لما رآها في كفي» أي مرفوعة دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم ق قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظرا، أي بعد أن ردها إلى موضعها براحته الشريفة» كما تقدم، وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة:

وأعادت على قتادة عينا ... فهي حتى مماته النجلاء أي وأعادت تلك الراحة الشريفة على قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه عينا له ذهبت، فهي إلى مماته الواسعة: أي الكثيرة النظر. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي: ويجمع بين رواية العين الواحدة ورواية الثنتين. أي فقد جاء في حديث غريب «أصيبت عيناي فسقطتا على وجنتي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادهما وبصق فيهما، فعادتا تبرقان» بأن أحد الرواة ظن أن الساقطة واحدة وبعضهم أن الساقط ثنتان، فأخبر كلّ بحسب علمه. ومن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة، وبها تترجح رواية إحدى الثنتين، هذا كلامه فليتأمل. وكون ذلك كان يوم أحد هو المشهور. وقيل يوم الخندق. وقد حكى أبو عمر بن عبد البر أن رجلا من ولد قتادة قدم على عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه؛ فقال له: من الرجل؟ فقال: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما رد فقال عمر بن عبد العزيز: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا فوصله عمر وأحسن جائزته. ورمى كلثوم بن الحصين بسهم في نحره، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليه فبرأ. وحضرت الملائكة عليهم السلام يوم أحد ولم تقاتل. قال: ويؤيده قول مجاهد رحمه الله: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، لكن جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال «رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال؛ وما رأيناهما قبل ولا بعد، أي وهما جبريل وميكائيل عليهما السلام» ولا منافاة، فقد قال البيهقي رحمه الله: لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم أي فلا ينافي أنهم قاتلوا عنه صلى الله عليه وسلم خاصة اهـ. أقول: ويجوز أن يكون المراد بمقاتلتهما دفعهما عنه صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه جاء عن الحارث بن الصمة رضي الله تعالى عنه قال «سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الشعب عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فقلت: رأيته في جنب الجبل، فقال: الملائكة تقاتل معه. قال الحارث: فرجعت إلى عبد الرحمن، فإذا بين يديه سبعة صرعى فقلت: ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت؟ قال: أما هذا وهذا فأنا

قتلتهما. وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره، فقال صدق الله ورسوله» أي ومقاتلة الملائكة عن خصوص عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه لا ينافي مقاتلتهم يوم بدر عن عموم القوم. وفي الإمتاع، كان قد نزل قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد قوله تعالى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) [آل عمران: الآية 124، 125] فلم يصبروا وانكشفوا فلم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بملك واحد يوم أحد، فليتأمل والله أعلم. ولما قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وسقط اللواء أخذه ملك في صورة مصعب: أي فإنه لما قطعت يده اليمنى أخذ اللواء بيده اليسرى، أي وهو يقول وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: الآية 144] الآية، فلما قطعت جثى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: الآية 144] الآية، ولم تكن هذه الآية نزلت، بل قالها لما سمع قول القائل قتل محمد، وإنما نزلت: أي بعد قوله في ذلك اليوم كما في الدرّ فهو من القرآن الذي نزل على لسان بعض الصحابة ثم قتل، أي وهذا لا ينافي ما تقدم، من أنه قاتل دونه صلى الله عليه وسلم، فقتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتله أبيّ بن خلف لعنه الله، لأنه يجوز أن يكون قتله هو على هذه الكيفية المذكورة. ثم رأيت في بعض الروايات أن ابن قمئة فعل به هذه الكيفية، أي ثم قتله، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للملك الذي على صورة مصعب، تقدم يا مصعب، فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب، فعرف صلى الله عليه وسلم أنه ملك أيد به. وفي رواية أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أقدم مصعب، قال: يا رسول الله، ألم يقتل مصعب؟ قال: بلى ولكن ملك قام مقامه وتسمى باسمه، أي فلا ينافي ذلك قول الملك له صلى الله عليه وسلم لما قال له تقدم يا مصعب: لست بمصعب، لأن مراده لست بمصعب الذي هو صاحبكم. ورأيت في رواية أنه لما سقط اللواء أخذه أبو الروم أخو مصعب، ولم يزل في يده حتى دخل المدينة، فليتأمل، ووجود هذا الملك يخالف ما تقدم عن الإمتاع، من أنه صلى الله عليه وسلم لم يمدّ بملك واحد. ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يتوجه إلى المدينة ركب فرسه، وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحى، أي ومعه أربع عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل أحد قال صلى الله عليه وسلم: اصطفوا حتى أثنى عليّ ربي عز وجل، فاصطف الرجال خلفه صفوفا، وخلفهم النساء. فقال «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا

هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما أبعدت ولا مبعد لما قربت» الحديث. ثم توجه صلى الله عليه وسلم للمدينة، فلقيته حمنة بنت جحش بنت عمته صلى الله عليه وسلم أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها، فقال لها صلى الله عليه وسلم احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟ قال: خالك حمزة، قالت إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: الآية 156] غفر الله له، هنيئا له الشهادة. ثم قال لها: احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟ قال: زوجك مصعب بن عمير، فقالت: واحزناه وصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن زوج المرأة لبمكان ما هو لأحد، لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها ثم قال لها: لم قلت هذا؟ قالت: تذكرت يتم بنيه فراعني، فدعا لها صلى الله عليه وسلم ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم الخلف، فتزوّجت طلحة بن عبيد الله، فكان أوصل الناس لولدها وولدت له محمد بن طلحة. قال: وجاءت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه وسعد بن معاذ آخذ بلجامها. فقال له سعد: يا رسول الله أمي؛ فقال صلى الله عليه وسلم: مرحبا بها، فوقف لها، فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنها عمرو بن معاذ. فقالت: أما إذا رأيتك سالما فقد اشتويت المصيبة: أي استقليتها؛ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل من قتل بأحد: أي بعد أن قال لأم سعد: يا أم سعد أبشري، وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهلهم جميعا، قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟!. ثم قالت: يا رسول الله ادع لمن خلفوا. فقال: اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا. وسمع صلى الله عليه وسلم نساء الأنصار يبكين على أزواجهنّ، أي وأبنائهنّ وإخوانهنّ. فقال: حمزة لا بواكي له، أي وبكى صلى الله عليه وسلم، ولعله رضي الله عنه لم يكن له بالمدينة لا زوجة ولا بنت، فأمر سعد بن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكين حمزة بين المغرب والعشاء. أي وكذلك أسيد بن حضير أمر نسائه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكين حمزة. أي ولما جاء صلى الله عليه وسلم بيته حمله السعدان وأنزلاه عن فرسه ثم اتكأ عليهما حتى دخل بيته، ثم أذن بلال لصلاة المغرب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين، فصلى صلى الله عليه وسلم، فلما رجع من المسجد من صلاة المغرب سمع البكاء، فقال: ما هذا؟ فقيل نساء الأنصار يبكين حمزة، فقال: رضي الله عنكن وعن أولادكن، وأمر أن تردّ النساء إلى منازلهن.

وفي رواية: خرج عليهنّ، أي بعد ثلث الليل لصلاة العشاء فإن بلالا أذن بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب ثلث الليل نادى بلال: الصلاة يا رسول الله، فقام من نومه وخرج وهنّ على باب المسجد يبكين حمزة رضي الله عنه. ولا يخالف ما سبق، لأن بيت عائشة رضي الله عنها كان ملاصقا للمسجد، فقال لهنّ: ارجعن رحمكنّ الله، لقد واسيتن معي، رحم الله الأنصار، فإن المواساة فيهم كما علمت قديمة. أي ولا منافاة، لأنه يجوز أن يكون الأمر عند رجوعه من صلاة المغرب كان لطائفة وبعد ثلث الليل كان لطائفة أخرى، وصارت الواحدة من نساء الأنصار بعد لا تبكي على ميتها إلا بدأت بالبكاء على حمزة رضي الله عنه ثم بكت على ميتها. ولعل المراد بالبكاء النوح، وباتت وجوه الأوس والخزرج تلك الليلة على بابه صلى الله عليه وسلم بالمسجد يحرسونه خوفا من قريش أن تعود إلى المدينة. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم نهى نساء الأنصار عن النوح، وقال له الأنصار: يا رسول الله، بلغنا أنك نهيت عن النوح، وإنما هو شيء نندب به موتانا، ونجد فيه بعض الراحة، فائذن لنا فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: إن فعلن، فلا يخمشن، ولا يلطمن، ولا يحلقن شعرا، ولا يشققن جيبا. وجاء أنه في يوم أحد دفع عليّ كرّم الله وجهه سيفه لفاطمة رضي الله عنها وقال لها اغسليه غير ذميم، فقال صلى الله عليه وسلم: إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وعدّد جماعة، أي منهم سهل بن حنيف وأبو دجانة. وما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم في يوم أحد دفع سيفه ذا الفقار لابنته فاطمة رضي الله عنها وقال: اغسلي عنه دمه، لقد صدقني اليوم، وناولها علي كرم الله وجهه سيفه وقال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فو الله لقد صدقني اليوم، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: لئن صدقت القتال لقد صدق معك سهيل بن حنيف وأبو دجانة. وعن ابن عقبة لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف علي كرم وجهه مختضبا دما، قال: إن تكن أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف. وكونه صلى الله عليه وسلم دفع سيفه لابنته فاطمة رضي الله عنها رده الإمام أبو العباس بن تيمية، بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتل في ذلك اليوم بسيف، لكن في النور أن هذا الحديث لم يتعقبه الذهبي. قال: ففيه ردّ على ابن تيمية هذا كلامه فليتأمل. والأكثر على أن الذين قتلوا يوم أحد من المسلمين سبعون: أربعة من المهاجرين، وهم: حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان، وقيل

ثمانون: أربعة وسبعون من الأنصار وستة من المهاجرين. قال الحافظ ابن حجر: لعل الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة. والسادس ثقيف بن عمرو حليف بني عبد شمس، وعدهم في الأصل ستة وتسعين، وهذا لا يناسب ما تقدم في بدر من قوله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم أخذتم منهم الفداء، ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك، وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون، وقيل اثنان وعشرون. أقول: انظر هذا مع ما تقدم من أن؟؟؟ وحده قتل واحدا وثلاثين. ورأيت في الطبقات لمولانا الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله ببركاته، أن أويسا القرني كان مشغولا بخدمة والدته، فلذلك لم يجتمع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد روي أنه اجتمع به مرات وحضر معه وقعة أحد وقال: والله ما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم حتى كسرت رباعيتي ولا شجّ وجهه الشريف حتى شجّ وجهي، ولا وطىء ظهره حتى وطىء ظهري، قال: هكذا رأيت هذا الكلام في بعض المؤلفات والله أعلم بالحال هذا كلامه، ولم أقف على أنه عليه الصلاة والسلام وطىء ظهره في غزوة أحد، فإن مجموع ما دلت عليه الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم شجّ وجهه، وكسرت رباعيته، وجرحت وجنتاه وشفته السفلى من باطنها ووهى منكبه، وجحشت ركبته. ثم رأيت بعض المؤرخين ذكر أن سيدنا عمر رضي الله عنه سمع بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضلك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقد قال تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: الآية 80] بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بذنبك، فقال عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: الآية 43] إلى أن قال: فلقد وطىء ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» . ومما يدل على أن أويسا لم يجتمع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «خير التابعين رجل يقال له أويس القرني» وما أخرجه البيهقي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «سيكون في التابعين رجل من قرن يقال له أويس بن عامر» وفي رواية أن عمر قال لأويس استغفر لي، فقال: كيف أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن خير التابعين رجل يقال له أويس» والمراد من خير التابعين كما في بعض الروايات، فلا ينافي ما نقل عن أحمد بن حنبل وغيره أن أفضل التابعين سعيد بن المسيب. ومما يدل على أن أويسا لم يكن موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم ما جاء في الجامع الصغير سيكون بعدي في أمتي رجل يقال له أويس القرني، وإن شفاعته في أمتي مثل ربيعة ومضر» .

وفي أسد الغابة أن أويسا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وسكن الكوفة وهو من كبار تابعي الكوفة، وكان يسخر به. ووفد رجل ممن كان يسخر به مع جماعة من أهل الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: هل هاهنا أحد من القرنيين، فجاء ذلك الرجل، فقال له عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال «إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس القرني وقد كان به بياض، فدعا الله تعالى فأذهب عنه إلا قدر الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم» فأقبل ذلك الرجل لما قدم الكوفة إلى أويس قبل أن يأتي أهله، فقال له أويس: ما هذا بعادتك؟ قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: كذا وكذا فاستغفر لي، قال: لا أفعل حتى تجعل لي عليك أن لا تسخر بي ولا تذكر قول عمر لأحد فالتزم له ذلك فاستغفر له، وقتل أويس يوم صفين مع عليّ كرم الله وجهه. ولما وصل صلى الله عليه وسلم المدينة أظهر المنافقون واليهود الشماتة والسرور، وصاروا يظهرون أقبح القول، أي ومنه: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب بمثل هذا نبيّ قط؛ أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. واستأذنه صلى الله عليه وسلم عمر في قتل هؤلاء المنافقين، فقال: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بلى، ولكن تعوذا من السيف، فقد بان أمرهم وأبدى الله تعالى أضغانهم، فقال صلى الله عليه وسلم: نهيت عن قتل من أظهر ذلك، وصار ابن أبيّ لعنه الله يوبخ ابنه عبد الله رضي الله عنه وقد أثبتته الجراحة فقال له ابنه: الذي صنع الله لرسوله والمسلمين خير. قال: وكانت عادة عبد الله بن أبيّ ابن سلول إذا جلس صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر قام فقال: «أيها الناس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس» فبعد أحد أراد أن يفعل كذلك، فلما قام أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له: اجلس عدو الله، والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج وهو يتخطى رقاب الناس وهو يقول: كأني إنما قلت هجرا، وقال له بعض الأنصار: ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي، وأنزل الله تعالى قصة أحد في آل عمران، وهي قوله تعالى وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران: الآية 121] الآية.

غزوة حمراء الأسد

غزوة حمراء الأسد لما كان صبيحة قدومه صلى الله عليه وسلم من أحد أذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا خلف قريش، وأن لا يخرج إلا من حضر أحدا، وذلك إرهابا للعدو، وليبلغهم أنه صلى الله عليه وسلم خرج في طلبهم ليظنوا به صلى الله عليه وسلم قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم: أي يضعفهم عن عدوهم. قال: وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن أبا سفيان يريد أن يرجع بقريش إلى المدينة ليستأصلوا من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغه أن المشركين قالوا له: لا محمدا قتلتم، ولا الكواكب أردفتم، بئس ما صنعتم ارجعوا. أي وفي لفظ أنهم لما بلغوا بعض الطريق قدموا فقالوا بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا قوة وشوكة، فقذف الله في قلوبهم الرعب. ويذكر أن عبد الله بن عوف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة قدومه صلى الله عليه وسلم من أحد وأخبره أنه أقبل من أهله حتى إذا كان بمحل كذا إذا قريش قد نزلوا به؛ فسمع أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعتم شيئا قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول: يا قوم لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف عن الخروج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم، فقال صلى الله عليه وسلم: أرشدهم صفوان، وما كان يرشد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي عنهما، وذكر لهما الخبر: أي ما أخبر به عبد الله بن عوف فقالا: يا رسول الله اطلب العدو لا يقتحمون على الذرية. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح ندب الناس، وأمر بلالا أن ينادي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج إلا من حضر القتال بالأمس، انتهى. وعند تهيئه صلى الله عليه وسلم للخروج جاء جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: يا رسول الله إنما تخلفت عن أحد، لأن أبي خلفني على أخوات لي سبع، أي وقيل وهو الصحيح إنهن تسع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقني الشهادة فتخلف على أخواتك فاستخلفت عليهن واستأثر علي بالشهادة، فائذن لي يا رسول الله معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري. واستأذنه رجال لم يحضروا القتال أي منهم عبد الله بن أبي قال له أنا راكب معك، فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل، فدفعه لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه: أي المسمى بالسكب، ولم يكن مع أصحابه فرس سواه، وعليه الدرع والمغفر وما يرى إلا عيناه وخرج الناس معه: أي جميع من كان معه صلى الله عليه وسلم في أحد. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت في قوله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران: الآية 172] الآية، قالت لعروة بن الزبير: يا بن أختي كان أبوك الزبير رضي الله عنه وأبو بكر لما أصاب نبيّ الله ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يرجع في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلا. قال ابن كثير وهذا السياق غريب جدا، فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذي خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد كل من شهد أحدا وكانوا سبعمائة كما تقدم، قتل منهم سبعون وبقي الباقي، هذا كلامه فليتأمل مع ما تقدم. قال: والظاهر أنه لا تخالف، لأن معنى قولها يعني عائشة: أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق بهم الباقون وخرجوا وبهم الجراحات ولم يعرجوا على دواء جراحاتهم: أي لم يلتفتوا لذلك، والمراد دواء غير تكميد جراحهم بالنار، وهو أن تسخن خرقة وتوضع على العضو الوجع، ويتابع ذلك مرة بعد أخرى ليسكن الوجع، فلا يخالف أنهم فعلوا ذلك: أي أوقدوا النيران يكمدون بها جراحاتهم تلك الليلة. فمنهم من كان به تسع جراحات وهو أسيد بن حضير رضي الله عنه، وعقبة بن عامر رضي الله عنه. ومنهم من كان به عشر جراحات، وهو خراش بن الصمة رضي الله عنه ومنهم من كان به بضع عشرة جراحة، وهو كعب بن مالك رضي الله عنه. ومنهم من كان به بضع وسبعون جراحة، وهو طلحة بن عبيد الله، وقطعت أصبعه. قيل السبابة، وقيل البنصر فشلت بقية أصابع يده وهي اليسرى. وفي رواية أنامله كما تقدم. ومنهم من كان به عشرون جراحة، وهو عبد الرحمن بن عوف كما تقدم: أي وجرح من بني سلمة أربعون جريحا فقال صلى الله عليه وسلم لما رآهم «اللهم ارحم بني سلمة» . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مجروح، وفي وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في وجهه، ومكسورة رباعيته وشفته السفلى قد جرحت من باطنها: أي وفي المنتقى: وشفته العليا قد كلمت من باطنها متوهن منكبه الأيمن لضربة ابن قمئة لعنه الله، وركبتاه مجروحتان من وقعته في الحفيرة، وتلقاه صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقال له يا طلحة أين سلاحك؟ فقال: قريب، فذهب وأتى بسلاحه وبصدره تسع جراحات من تلك الجراحات التي به، وهي كما تقدم بضع وسبعون جراحة. يقول طلحة وأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مني بجراحي. ثم أقبل عليّ رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقال: يا طلحة أين ترى القوم، فقلت: بالسفالة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله مكة علينا. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه «يا بن الخطاب: إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن» اهـ. وكان دليله صلى الله عليه وسلم في السير ثابت بن الضحاك، وليس هو أخا جبير، وقيل أخوه، ولا زالوا سائرين حتى عسكروا بحمراء الأسد: أي وهو محل بينه وبين المدينة ثمانية أميال، أي وقيل عشرة أميال. وعن رجل من الأنصار قال «شهدت أحدا أنا وأخي، فرجعنا جريحين، فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، فقال لي أخي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي لفظ «إن تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لفسق والله ما لنا من دابة نركبها، فخرجنا وكنت أيسر جراحا منه، فكنت إذا غلب حملته عقبه ويمشي عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون من حمراء الأسد، أي وذلك عند العشاء وهم يوقدون النيران، فجاءتهما الحرس وكان على حرسه تلك الليلة عباد بن بشر مع طائفة، فلما أتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما ما حبسكما؟ فأخبراه بغلبتهما فدعا لهما بخير وقال لهما: إن طالت بكما مدة كانت لكما مراكب من خيل وبغال وإبل وذلك ليس بخير لكم» أي هذان الرجلان عبد الله ورافع ابنا سهيل بن رافع والذي ضعف عن المشي رافع، والحامل له عبد الله. وأقام المسلمون بذلك المحل ثلاث ليال، وكانوا يوقدون في كل ليلة من تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد. وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله تعالى عدوّهم. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: وكان عامة زادنا التمر. وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيرا حتى وافت حمراء الأسد وساق جزرا لتنحر، فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء. ولقي كفار قريش معبدا الخزاعي، وكان يومئذ مشركا بالروحاء، وكان رأى خروجه صلى الله عليه وسلم خلف قريش، فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلبهم، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه فتمادوا إلى مكة. قال: لما كان صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد لقيه معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم تحبه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في نفسك وما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت لغيرك. ثم مضى معبد حتى كان بالروحاء. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: هذا معبد وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمدا وأصحابه قد خرجوا لطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد

اجتمع معه من كان تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا على أن لا يرجعوا حتى يلقوكم فيثأروا: أي يأخذوا ثأرهم منكم، وغضبوا لقومهم غضبا شديدا، وندموا على ما فعلوا فيهم من الحنق شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل، فقال: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فانصرفوا سراعا اهـ. أي وعند انصرافهم أرسل أبو سفيان مع نفر يريدون المدينة أن يخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم أجمعوا على الرجعة، فلما بلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران: الآية 172] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب» أي وأرسل معبد الخزاعي رجلا يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بانصراف أبي سفيان ومن معه خائفين، فانصرف إلى المدينة، وظفر صلى الله عليه وسلم في حمراء الأسد بأبي عزة الشاعر الذي منّ عليه وقد أسر ببدر من غير فداء لأجل بناته؛ وأخذ عليه عهدا أن لا يقاتله ولا يكثر عليه جمعا ولا يظاهر عليه أحدا كما تقدم، فنقض العهد، وخرج مع قريش لأحد، وصار يستنفر الناس ويحرضهم على قتاله صلى الله عليه وسلم بأشعاره كما تقدم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يفلت فأسر. ثم قيل: إن المشركين لما نزلوا بحمراء الأسد تركوه نائما، فاستمرّ حتى ارتفع النهار، وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت، وما أسر أحد من المشركين غيره في تلك الوقعة، وقيل أسره عمير بن عبد الله. وفي النور: لا أستحضر أحدا في الصحابة اسمه غمير بن عبد الله، فلما جيء به إليه صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد أقلني وامنن علي؛ ودعني لبناتي، وأعطيك عهدا أن لا أعود لمثل ما فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم: لا والله لا تمسح عارضيك بمكة. وفي لفظ: تمسح لحيتك تجلس بالحجز، تقول خدعت محمدا. وفي لفظ: سحرت محمدا مرتين اضرب عنقه يا زيد. وفي لفظ: يا عاصم بن ثابت. وفي لفظ: يا زبير، وقال صلى الله عليه وسلم «لا يلدغ» بالدال المهملة والغين المعجمة. وفي لفظ «لا يلسع المؤمن من حجر مرتين» فضرب عنقه. وذكر أن رأسه حمل إلى المدينة مشهورا على رمح. قال بعضهم: وهو أول رأس حمل في الإسلام، أي ولا ينافيه ما قيل إن أول رأس حمل في الإسلام رأس كعب بن الأشرف كما سيأتي في السرايا، لإمكان أن يراد أن رأس أبي عزة أوّل رأس حمل إلى المدينة على رمح. ولعل هذا لا ينافي ما حكاه بعضهم أن عمرو بن الجموح كان رابع الأربعة الذين دخلوا على سيدنا عثمان الدار، وكان مع علي كرم الله وجهه في مشاهده. فلما ولي معاوية رضي الله عنه فر هاربا إلى العراق فنهشته حية فدخل غارا ومات، فأخبر بذلك زياد والي العراق، فأرسل من حز رأسه وأرسل

به إلى معاوية، فكان أول رأس نقل في الإسلام من بلد إلى بلد. قال بعضهم في معنى هذا المثل: أي لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين: إنه ينبغي للمرء أن يستعمل الحزم، وهذا المثل لم يسمع من غيره صلى الله عليه وسلم. ومورده أن شخصا جرد سيفه وقصد النبي صلى الله عليه وسلم فضربه ليقتله فاخطأت الضربة، فقال: كنت مازحا يا محمد فعفا عنه، ثم عاد لمثل ذلك مرة أخرى وقال مثل ذلك، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله وقال «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» . وأمر صلى الله عليه وسلم في ذلك المحل بقتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهو جد عبد الملك بن مروان لأمه، وقد كان لجأ إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه: أي فإنه لما رجع الكفار من أحد ذهب على وجهه ثم أتى باب عثمان فدقه، فقالت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوج عثمان من أنت؟ قال: ابن عم عثمان، فقالت: ليس هو هاهنا، فقال: أرسلي إليه. فله عندي ثمن بعير كنت اشتريته منه، فجاء عثمان، فلما نظر إليه قال: أهلكتني وأهلكت نفسك، فقال: يا بن عم لم يكن أحد أمس بي رحما منك فأجرني، فأدخله عثمان رضي الله عنه منزله وصيره في ناحية، ثم خرج عثمان ليأخذ له أمانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن معاوية بالمدينة فاطلبوه، فدخلوا منزل عثمان، فأشارت إليهم أم كلثوم رضي الله عنها بأنه في ذلك المكان، فأخرجوه وأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتله، فقال عثمان رضي الله عنه: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لآخذ له أمانا، فهبه لي، فوهبه له وأجله ثلاثا، وأقسم صلى الله عليه وسلم إن وجده بعدها قتله. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، فأقام معاوية ثلاثا يستعلم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتي بها قريشا، فلما كان في اليوم الرابع عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فخرج معاوية هاربا، فأدركه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، فرمياه حتى قتلاه، وقد كان صلى الله عليه وسلم بعثهما إليه وقال لهما إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا: أي بموضع بينه وبين المدينة ثمانية أميال، فوجداه به فقاتلاه. وقيل تبعه علي كرم الله وجهه فقتله، وكان صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحق اثنان منهم للقوم بحمراء الأسد فقتلوهما فوجدهما صلى الله عليه وسلم قتيلين بحمراء الأسد فدفنهما في قبر واحد. ولا يأتي هنا الجواب المتقدم في قتلى أحد. وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بعد رجوعه إلى المدينة، بأن الحارث بن سويد في قباء فانهض إليه واقتص منه بمن قتله من المسلمين غدرا يوم أحد وهو المجذّر، وتقدم أنه بالذال المعجمة مشددة مفتوحة ابن زياد، وتقدم أنه بكسر الذال المعجمة وفتحها وتخفيف المثناة تحت، لأن سويدا كان قد قتل زيادا أبا المجذر، في الجاهلية، فظفر المجذر بسويد والد الحارث فقتله في أبيه وذلك قبل الإسلام، وكان

ذلك سببا لوقعة بغاث، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد، وأسلم المجذر بن زياد وشهدا بدرا، فجعل الحارث يطلب مجذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه كما تقدم، فلما كان يوم أحد رجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، قيل وقتل أيضا قيس بن زيد. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء في وقت لم يكن يأتيهم فيه وهو شدة الحر في يوم حار، فخرج إليه الأنصار من أهل قباء رضي الله عنهم ومنهم الحارث بن سويد وعليه ثوب مورّس. وفي لفظ في ملحفة مورسة. وفي لفظ في ثوبين مضرّجين. وفي لفظ ممرّضين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عويمر بن ساعدة بضرب عنقه، أي فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد واضرب عنقه، وقيل أمر عثمان بن عفان بذلك، فقدم ليضرب عنقه، فقال الحارث: لم يا رسول الله؟ فقال: بقتلك المجذر بن زياد وقيس بن زيد، فما راجعه الحارث بكلمة، فضرب عنقه. قال: وفي رواية أن الحارث قال: والله قتلته: أي المجذر، وما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا فيه، ولكن حمية من الشيطان، وإني أتوب إلى الله ورسوله مما عملت، وأخرج ديته، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة، فلم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك انتهى. ولم يذكر قتل قيس بن زيد، ولعله اكتفى بذلك في قتله الحارث، ويعلم استحقاقه القتل بقتل قيس بن زيد بطريق أولى. أي وكان في هذه السنة الثالثة مولد الحسن بن علي رضي الله عنهما، وسماه حربا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن، أي لأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء قال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قال عليّ حربا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: هو حسن، وحنكه صلى الله عليه وسلم بتمر. وكان في هذه السنة تحريم الخمر. وقيل كان تحريمها في السنة الرابعة وهو محاصر لبني النضير. وقيل كان تحريمها بين الحديبية وخيبر. وقيل كان بخيبر قال صلى الله عليه وسلم «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة» وفي رواية «الكرمة والنخلة» وفي رواية «الكرم والنخل» كذا في مسلم. ولعل ذكر الكرم كان قبل النهي عنه، وإلا ففي مسلم «لا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم وفي رواية «فإن الكرم قلب المؤمن» أو قيل ذلك بيانا للجواز إشارة إلى أن النهي للتنزيه. وقد حرمت الخمر ثلاث مرات: الأولى في قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: الآية 219] أي القمار قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: الآية 219] فإنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر، ويأكلون القمار، فسألوه عن ذلك فنزلت الآية. الثانية أن بعض الصحابة صلى بأصحابه صلاة المغرب وهو سكران فخلط في القراءة، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النّساء: الآية 43] ثم أنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ

تُفْلِحُونَ (90) [المائدة: الآية 90] فكف الناس عن شربها. وقد جاء أن حمزة رضي الله عنه لما شربها قال للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ أي ففي البخاري «أن حمزة رضي الله عنه لما شرب الخمر خرج فوجد ناقتين لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فعلاهما بالسيف وبقر خواصرهما، ثم أخذ من أكبادهما وجبّ سناميهما. قال علي كرم الله وجهه: فنظرت إلى منظر أفظعني، فأتيت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبر، فخرج صلى الله عليه وسلم ومعه زيد، فانطلقت معه فدخل على حمزة فتغيظ عليه، فرفع حمزة رضي الله عنه بصره وقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم يقهقر حتى خرج وذلك قبل تحريم الخمر، ولكون السكر كان مباحا لم يرتب على قول حمزة مقتضاه مع أن من قال لنبي أنت عبدي أو عبد أبي كفر. واعترض القول بأنها في السنة الرابعة، بأن أنس بن مالك كان ساقيا لها، فلما سمع المنادي بتحريمها أراقها. وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه: وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا: أي أبا أيوب وأبا دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل ابن بيضاء وأبيّ بن كعب وأبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، إذ جاء رجل وقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس فأهريقت. وفي لفظ قال أنس رضي الله عنه: فقمت إلى مهراس فضربتها بأسفله حتى تكسرت. وفي مسلم عن أبي طارق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إنما أصنعه: أي الخمر للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء، وإراقة الخمر حينئذ مع أنها كانت مباحة فهي محترمة تغليظ وتوكيد للتحريم وفطم للنفوس، لأن إراقتها لم تكن بأمر منه صلى الله عليه وسلم. وسئل الحافظ السيوطي رحمه الله عن حكمة رجوعه صلى الله عليه وسلم القهقرى، فأجاب بأنه لعله كان من خوف الوثوب عليه إرشادا لمن يخاف الوثوب، أو كان مقصوده صلى الله عليه وسلم مداومته لحظه، أو أن الراوي أراد بالقهقرى مطلق الرجوع إلى المنزل لا بالظهر. وأنس رضي الله عنه لم يكن خادما للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ: أي في السنة الرابعة بل بعدها. وحينئذ يكون القول بأن كونه في الثالثة أشكل. وأشكل من هذا ما حكاه ابن هشام في قصة الأعشى بن قيس أنه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بمكة اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا أبا نصير إنه يحرم الزنا. فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب، فقال: إنه يحرم الخمر. فقال

غزوة بني النضير

الأعشى: أما هذه إن في النفس منها لغلالات، ولكني منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آته فأسلم، فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه لما علمت أن الخمر لم تحرم بمكة وإنما حرمت بالمدينة في السنة الثالثة أو الرابعة. وأجاب بعضهم بأن الأعشى أراد المدينة فاجتاز بمكة، فعرض له بعض كفار قريش. واعترض بأنه قيل إن القائل له ذلك أبو جهل لعنه الله وكان في دار عتبة بن ربيعة وأبو جهل قتل ببدر في السنة الثانية. وأجيب بأنه على تسليم صحة ذلك بأنه يجوز أن يكون أبو جهل لعنه الله قصد صد الأعشى عن الإسلام بطريق التقول والافتراء، لأنه كان يعرف ميل الأعشى إلى الخمر وعدم صبره على تركها، فاختلق هذا القول من عنده ليمنعه بذلك عن الإسلام. أقول: لما حرمت الخمر قال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم أي لأن جماعة شربوها صبح يوم أحد قتلوا من يومهم شهداء، فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [المائدة: الآية 93] وكون أنس رضي الله عنه لم يكن خادما للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد السنة الرابعة يخالف ما سبق أن عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت به أمه ليخدمه صلى الله عليه وسلم. وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم، ثم أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك فخدمته صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر» وتقدم الجمع بين كون الآتي به أبا طلحة والآتي به أمه. وفي البخاري أيضا عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة: التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حين أخرج إلى خيبر، فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل» . وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يأمر أنسا بالخروج معه إلى خيبر لظنه أن أمه لا تسمح له بذلك، فلما قال لأبي طلحة ما ذكر جاء إليه بأنس رضي الله عنه، والله أعلم. غزوة بني النضير وهم قوم من اليهود بالمدينة. وفي كلام بعضهم: بنو النضير هؤلاء حي من يهود خيبر، أي وقريتهم كان يقال لها زهرة.

كانت تلك الغزاة في ربيع الأول: أي من السنة الرابعة. وقيل كانت قبل وقعة أحد، قال: وبه قال البخاري. قال ابن كثير: والصواب إيرادها بعد أحدكما كما ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أئمة المغازي انتهى. أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لحرب بني النضير والسير إليهم. واختلف في سبب ذلك؟ فمن جملة ما قيل: إنه ذهب إليهم ليسألهم كيف الدية فيهم؟ أي لأنه كان بينهم وبين بني عامر قبيلة الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند رجوعه من بئر معونة غيلة حلف وعقد. وقيل ذهب إليهم ليستعين بهم في دية الرجلين المذكورين، أي وكان صلى الله عليه وسلم أخذ العهد على اليهود أن يعاونوه في الديات. وقيل لأخذ دية الرجلين منهم، لأن بني النضير كانوا حلفاء لقوم الرجلين المذكورين وهم بنو عامر، كذا في الأصل فليتأمل. فإن فيه أخذ الدية من حلفاء المقتول وسار إليهم صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه: أي دون العشرة، فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم، فقالوا له: نعم يا أبا القاسم حتى تطعم وترجع بحاجتك، وكان صلى الله عليه وسلم جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم، فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة، فمن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال أحد ساداتهم: أنا لذلك أي وهو عمرو بن جحاش، وقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم به، إنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، فلما صعد ذلك الرجل ليلقي الصخرة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مظهرا أنه يقضي حاجته، وترك أصحابه في مجالسهم ورجع مسرعا إلى المدينة ولم يعلم من كان معه من أصحابه، فقاموا في طلبه صلى الله عليه وسلم لما استبطؤوه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه، فقال: رأيته داخل المدينة، فأقبل أصحابه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أرادت بنو النضير. وقد أشار إلى ذلك الإمام السبكي في تائيته بقوله: وجاء وحي بالذي أضمرت بنو الن ... ضير وقد هموا بإلقاء صخرة أي وفي رواية لما رأوا قلة أصحابه صلى الله عليه وسلم قالوا نقتله ونأخذ أصحابه أسارى إلى مكة، فنبيعهم من قريش. أي ولا مانع من وجود الأمرين. وقيل في السبب في خروجه صلى الله عليه وسلم إليهم أنهم أرسلوا إليه أن أخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرا فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما غدا عليهم في ثلاثين من أصحابه قال بعضهم لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون كل يحب أنه يموت قبله، فأرسلوه إليه أن أخرج في ثلاثة من أصحابك

ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك ففعل، واشتملت اليهود الثلاثة على الخناجر فأرسلت امرأة من بني النضير لأخ لها مسلم تعلمه بذلك، فأعلم أخوها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فرجع، ولا مانع من وجود ذلك مع ما تقدم، لكن في السيرة الهشامية أن خبر ذلك بلغه قبل وصوله إليهم فرجع، فبينما بنو النضير على ذلك: أي على إرادة إلقاء الحجر والتهيؤ لإلقائه، إذ جاء جاء من اليهود من المدينة فقال لهم: ما تريدون؟ فذكروا له الأمر، فقال لهم: أي محمد؟ قالوا: هذا محمد، فقال لهم: والله لقد تركت محمدا داخل المدينة، فأسقط في أيديهم وقالوا: قد أخبر بأمرنا، فأرسل إليهم محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه أن أخرجوا من بلدي يعني المدينة لأن قريتهم من أعمالها، فلا تساكنوني بها، فقد هممتم بما هممتم به من الغدر. أي وأخبرهم بما هموا به من ظهور عمرو بن جحاش على ظهر البيت ليطرح الصخرة، فسكتوا ولم يقولوا حرفا، قال: ويقول لكم: قد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، واقتصاره صلى الله عليه وسلم على ذلك لا ينافي ما تقدم من إرادة قتله أيضا، قيل وأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة: الآية 11] ولا ينافي ذلك ما تقدم من نزولها في حق دعثور في غزوة ذي أمرّ، لجواز تكرار النزول، فأرسلوا في إحضار الإبل، فأرسل إليهم المنافقون أن لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم: إن قوتلتم فلكم علينا النصر، وإن أخرجتم لن نتخلف عنكم، خصوصا عبد الله بن أبي ابن سلول لعنه الله، فإنه أرسل لهم: لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصونكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع بنو النضير فيما قال ابن أبي، فأرسلوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك، فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير وكبر المسلمون لتكبيره وقال: حاربت يهود. قال: والمتولي أمر ذلك سيد بني النضير حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وقد نهاه أحد سادات بني النضير وهو سلام بن مشكم وقال له: منتك نفسك والله يا حيي الباطل، فإن قول ابن أبي ليس بشيء، وإنما يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمدا فيجلس في بيته ويتركك؛ ألا ترى أنه أرسل إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة أن تمدكم بنو قريظة، فقال له: لا ينقض رجل واحد منا العهد فأيس من بني قريظة. وأيضا قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد وحصروا أنفسهم في صياصيهم أي حصونهم، وانتظروا ابن أبي فجلس في بيته وسار إليهم محمد حتى نزلوا على حكمه. فإذا كان ابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حروبهم. أي فإنه إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس، فكيف يقبل

قوله، فقال حيي: نأبى إلا عداوة محمد وإلا قتاله. قال سلام: فهو والله جلاؤنا من أرضنا، وذهاب أموالنا وشرفنا، وسبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا، فأبى حيي إلا محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت له بنو النضير: أمرنا لأمرك تبع لن نخالفك، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكر اهـ، فتهيأ الناس لحربهم. فلما اجتمع الناس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وحمل رايته علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وسار بالناس حتى نزل بهم وصلى بهم العصر بفنائهم، وقد تحصنوا وقاموا على حصنهم يرمون بالنبل والحجارة. أي وفي كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه رضي الله عنهم بالميسر إلى بني النضير فسار بهم إليهم، فوجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف أي الآتي قتله في السرايا، قالوا: يا محمد داعية إثر داعية وباكية إثر باكية، ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: اخرجوا من المدينة، قالوا: الموت أهون من ذلك ثم تبادروا بالحرب، هذا كلامه. قال: ولما جاء وقت العشاء رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته في عشرة من أصحابه عليه الدرع وهو على فرس، واستعمل على العسكر علي بن أبي طالب ويقال أبا بكر وبات المسلمون يحاصرونهم ويكبرون حتى أصبحوا ثم أذن بلال بالفجر، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه الذين كانوا معه فصلى بالناس، وأمر بلالا فضرب القبة، وهي قبة من خشب عليها مسوح، فدخل صلى الله عليه وسلم فيها، وكان رجل من يهود يقال له غزول، وكان أعسر راميا يبلغ نبله ما لا يبلغه نبل غيره، فوصل نبله تلك القبة، فأمر بها فحولت. وفي ليلة من الليالي فقد علي رضي الله تعالى عنه قرب العشاء، فقال الناس: يا رسول الله ما نرى عليا، فقال: دعوه أي اتركوه، فإنه في بعض شأنكم، فعن قليل جاء برأس الرجل الذي يقال له غزول الذي وصل نبله قبته صلى الله عليه وسلم، كمن له عليّ حين خرج يطلب غرة من المسلمين ومعه جماعة، فشد عليه فقتله وفرّ من كان معه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عليّ أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة، فأدركوا أولئك الجماعة الذين كانوا مع غزول وفروا من عليّ فقتلوهم انتهى. وذكر بعضهم أن أولئك الجماعة كانوا عشرة، وأنهم أتوا برؤوسهم فطرحت في بعض الآبار. وفي هذا ردّ على بعض الرافضة حيث ادعى أن عليا هو القاتل لأولئك العشرة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، أي وبحرقها بعد أن حاصرهم ست ليال وقيل خمسة عشر يوما: أي وقيل عشرين ليلة، وقيل ثلاثا وعشرين ليلة، وقيل خمسا وعشرين ليلة. وكان سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه في تلك المدة يحمل التمر للمسلمين: أي يجاء به من عنده. قال: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على قطع النخل أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام. وكان أبو ليلى يقطع العجوة وعبد الله يقطع اللين

ويقال له اللون، وهو ما عدا العجوة، والبرني من أنواع التمر بالمدينة، ومن أنواع تمر المدينة الصيحاني. وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه. قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاحت نخلة بأخرى: هذا النبي المصطفى وعلي المرتضى، فقال صلى الله عليه وسلم يا علي إنما سمي نخل المدينة أي هذا النوع صيحانيا، لأنه صاح بفضلي، وهو حديث مطعون فيه، قيل إنه كذب. والبرن بالفارسية: حمل مبارك أو جيد. وفي شرح مسلم للنووي أنها مائة وعشرون نوعا. أي وفي تاريخ المدينة الكبير للسيد السمهودي أن أنواع التمر بالمدينة التي أمكن جمعها بلغت مائة وبضعا وثلاثين نوعا، ويوافقه قول بعضهم اختبرناها فوجدناها أكثر مما ذكره النووي. قال: ولعل ما زاد على ما ذكره حدث بعد ذلك. أي وأما أنواع التمر بغير المدينة كالمغرب فلا تكاد تنحصر. فقد نقل أن عالم فاس محمد بن غازي أرسل إلى عالم سلجماسة إبراهيم بن هلال يسأله عن حصر أنواع التمر بتلك البلدة، فأرسل إليه حملا أو حملين من كل نوع تمرة واحدة، وكتب إليه هذا ما تعلق به علم الفقير وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: الآية 34] . ثم رأيت في نشق الأزهار أن بهذه البلدة رطبا يسمى البتوني، وهو أخضر اللون، وأحلى من عسل النحل، ونواه في غاية الصغر، وكانت العجوة خير أموال بني النضير، أي لأنهم كانوا يقتاتونها. وفي الحديث «العجوة من الجنة، وثمرها يغذي أحسن غذاء» أي وتقدم أن آدم نزل بالعجوة من الجنة. وفي البخاري «من تصبح كل يوم على سبع تمرات عجوة لم يصبه في ذلك اليوم سم ولا سحر» أي وقد جاء في عجوة العالية شفاء وأنها ترياق أول البكرة من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سمّ ولا سحر» . أي وفي كلام بعضهم: العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني تضرب إلى السواد وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة بالمدينة. أي وقد علمت أنها في نخل بني النضير. وفي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «هبط آدم من الجنة بثلاثة أشياء: بالآسة، وهي سيدة ريحان الدنيا. والسنبلة، وهي سيدة طعام الدنيا. والعجوة، وهي سيدة ثمار الدنيا» . وروي عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العجوة من غرس الجنة وفيها شفاء، وإنها ترياق أول البكرة، وعليكم بالتمر البرني فكلوه

فإنه يسبح في شجره، ويستغفر لآكله» هذا كلام العرائس. وفي حديث وفد عبد القيس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك، وذكر البرني أنه من خير تمركم، وأنه دواء وليس بداء» وجاء «بيت لا تمر فيه جياع أهله» قال ذلك مرتين. ولما قطعت العجوة شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل، أي وذلك البعض الذي حرق كان بمحل يعرف بالبويرة اهـ أي والبويرة تصغير بورة. وهي هنا الحفرة، ويقال لها البولة باللام بدل الراء وعند ذلك نادوه أي يا محمد. وفي رواية: يا أبا القاسم. قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ أي وفي رواية: ما هذا الفساد؟ وفي لفظ قالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ وقالوا للمؤمنين: إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون. وحينئذ وقع في نفوس بعض المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) [الحشر: الآية 5] أي في قولهم إن ذلك من الفساد. قال بعضهم: جميع ما قطعوا وحرقوا ست نخلات، ولا زال عبد الله بن أبي ابن سلول يبعث لبني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنكم إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم، أي ومعه على ذلك جمع من قومه، فانتظروا ذلك، فخذلهم ولم يحصل لهم منه شيء، أي وجعل سلام بن مشكم وكنانة بن صوريا يقولان لحيي أين نصر بن أبيّ الذي زعمت؟ فيقول حيي: ما أصنع، هي ملحمة كتبت علينا، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم حصارهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة: أي آلة الحرب ففعل، فاحتملوا النساء والصبيان، وحملوا من أموالهم غير الحلقة ما استقلت به الإبل وكانت ستمائة بعير، فكان الرجل يهدم بيته عما استحسن من خشبه كبابه وكنجاف به أي أسكفته فيضعه على ظهره بعيره فينطلق به. أي وفي لفظ: صاروا ينقضون العمد والسقوف، وينزعون الخشب حتى الأوتاد، وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسدا وبغضا. وفي رواية: جعل المسلمون يهدمون ما يليهم من حصنهم، ويهدم الآخرون ما يليهم. قال: وفي رواية أنهم خرجوا مظهرين التجلد: خرجت النساء على الهوادج وعليهن الديباج والحرير وقطف الخز الأخضر والأحمر وحلي الذهب والفضة، وخلفهم القيان بالدفوف والمزامير، ومنهم سلمى أم وهب.

وقال ابن إسحاق أم عمرو صاحبة عروة بن الورد الذي قيل فيه: من قال إن حاتما أسمح العرب فقد ظلم عروة بن الورد. أغار عروة على قومها فسباها ثم اتخذها حليلة له فجاءت منه بأولاد. ثم إن بعض بني النضير اشتراها من عروة بعد أن سقاه الخمر، ثم لما أفاق ندم. ثم اتفق هو ومن اشتراها على أن تكون عند من تختاره، فخيرها فاختارت من اشتراها. وقيل إن قومها جاؤوا إليه بفدائها، فخيرها وكان لا يظن أن تختار عليه أحدا، فاختارت قومها فندم. وعند مفارقتها له قالت له: والله ما أعلم امرأة من العرب أرخت سترا على بعل مثلك، أغض طرفا ولا أندى كفا، وأغنى غناء، وإنك لرفيع العماد، كثير الرماد، خفيف على ظهور الخيل، ثقيل على متون الأعداء، وأحنى على الأهل والجار، وما كنت لأوثر عليك أهلي لولا أني كنت أسمع بنات عمك يقلن: قالت أم عروة وفعلت أم عروة فأجد من ذلك الموت، والله لا يجامع وجهي وجه أحد من أهلك فاستوص ببينك خيرا، ثم تزوجت في بني النضير، وشقوا سوق المدينة وصف لهم الناس، فجعلوا يمرون قطارا في أثر قطار، وإن سلام بن أبي الحقيق رافع جلد جمل أي أو ثور أو حمار مملوء حليا، وينادي بأعلى صوته: هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلا ففي خيبر النخل، وحزن المنافقون لخروجهم أشد الحزن انتهى. وهذا الحلي كانوا يعيرونه للعرب من أهل مكة وغيرهم، وكان يكون عند آل أبي الحقيق، وسيأتي في غزوة خيبر أنه صلى الله عليه وسلم عبر عن هذا الحلي بالآنية والكنز وأنه كان سببا لقتل ولدي أبي الحقيق لما كتماه عنه صلى الله عليه وسلم. فمنهم من سار إلى خيبر، أي ومن جملة هؤلاء أكابرهم حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن أبي الربيع بن أبي الحقيق. فلما نزلوا خيبر دان لهم أهلها. ومنهم من سار إلى الشام: أي إلى أذرعات. وكان فيهم جماعة من أبناء الأنصار، لأن المرأة من الأنصار كان إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش لها ولد تهوده، فلما أجليت بنو النضير قال آباء أولئك: لا ندع أبناءنا، وأنزل الله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: الآية 256] وهي مخصوصة بهؤلاء الذين تهودوا قبل الإسلام، وإلا فإكراه الكفار الحربيين على الإسلام سائغ، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: وهما يامين بن عمير، وأبو سعد بن وهب. قال أحدهما لصاحبه: والله إنك لتعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ننتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا، فنزلا من الليل وأسلما فأحرزا أموالهما. أي وجعل يامين لرجل من قيس جعلا أي وهو عشرة دنانير، وقيل

خمسة أوثق من تمر على قتل عمرو بن جحاش الذي أراد أن يلقي الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله غيلة أي بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما همّ به من شأني؟ فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل في أمر بني النضير سورة الحشر، ولذلك كان يسميها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سورة بني النضير كما في البخاري. وفي كلام السبكي رحمه الله: لم يختلفوا أن سورة الحشر نزلت في بني النضير. وقد أشار لقصتهم صاحب الهمزية بقوله: خدعوا بالمنافقين وهل ين ... فق إلا على السفيه الشقاء ونهيتم وما انتهت عنه قوم ... فأبيد الأمار والنهاء أسلموهم لأوّل الحشر لا مي ... عادهم صادق ولا الإيلاء سكن الرعب والخراب قلوبا ... وبيوتا منهم نعاها الجلاء أي وخدعهم قول المنافقين إنهم يكونون معهم وينصرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وما يروج الشقاء إلا على السفيه. والمراد بالمنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ومن كان معه على النفاق، لأنه كما تقدم لا زال يرسل لهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإنكم إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم. ونهاهم عن موافقته سلام بن مشكم، فلم ينتهوا أسلمهم أولئك المنافقون لأول الحشر. وهو أي الحشر جلاؤهم وخروجهم من ديارهم، فميعادهم لهم بأن ينصروهم على النبي صلى الله عليه وسلم، غير صادق وكذا حلفهم لهم على ذلك غير صادق أيضا. ذكر موسى بن عقبة أنهم كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قبلها، فلذلك قال لأول الحشر. والحشر: الجلاء. وقيل المراد بالحشر أرض المحشر، فإنهم قالوا إلى أين نخرج يا محمد؟ قال: إلى الحشر، يعني أرض المحشر. والحشر الثاني: هو حشر النار التي تخرج من قعر عدن، فتحشر الناس إلى الموقف. وقيل الحشر الثاني لهم كان على يد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، أجلاهم من خيبر إلى تيمياء وأريحاء، وسيأتي ذكره. وسكن الرعب: وهو خشية انتقامه صلى الله عليه وسلم منهم قلوبهم، وسكن الخراب بيوتهم. وقد أخبر تلك البيوت بموت أهلها خروجهم وجلاؤهم من أرضهم، وأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الحشر: الآية 11] وهم بنو النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ [الحشر: الآية 11] أي في خذلانكم أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ [الحشر: الآية

11، 12] مثلهم كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) [الحشر: الآية 16] ووجد صلى الله عليه وسلم من الحلقة: أي آلة السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا، ولم يخمس ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كما خمس أموال بني قينقاع. قال: وقد قال له عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله ألا تخمس ما أصبت: أي كما فعلت في بني قينقاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المؤمنين بقوله تعالى ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الحشر: الآية 7] الآية كهيئة ما وقع فيه السهمان أي فكان أموال بني النضير وعقارهم فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وتقدم التنبيه على ذلك في غزوة بني قينقاع، وفسرت القرى بالصفراء ووادي القرى أي ثلث ذلك كما في الإمتاع وينبع، وفسرت القرى ببني النضير وخيبر: أي بثلاث حصون منها. وهي الكتيبة والوطيح وسلالم كما في الإمتاع، وفدك: أي نصفها كما في الإمتاع، ذكره الرافعي في شرح مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه. أقول: قال بعضهم: وهذا أول فيء حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويرده ما تقدم في غزوة بني قينقاع، إلا أن يقال: المراد أوّل فيء اختص به صلى الله عليه وسلم ولم يقسمه قسمة الغنيمة على ما تقدم. ثم دعا الأنصار الأوس والخزرج فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، من إنزالهم في منازلهم، وإيثارهم على أنفسهم بأموالهم. ثم قال لهم: إن إخوانكم المهاجرين ليس لهم أموال، فإن شئتم قسمت هذه الأموال: أي التي أفاء الله عليّ وخصني بها مع أموالكم بينكم جميعا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمت هذه فيهم خاصة، فقالوا: بل اقسم هذه فيهم، واقسم لهم من أموالنا ما شئت. وفي رواية: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم: أي الأرض والنخل، لأنه لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديكم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار: أي النخل، فآثروهم بمتاع من أشجارهم، فمنهم من قبلها منيحة محضة ويكفونه العمل، ومنهم من قبلها بشرط أن يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار، ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة، لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلا وإن أحببتم أعطيتهم أي وخرجوا من دوركم، أي وأموالكم، فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ. فقالا: يا رسول الله بل تقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، بل نحب أن تقسم ديارنا وأموالنا على المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وعشائرهم وخرجوا حبا لله ولرسوله،

ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار. زاد في رواية: وأبناء أبناء الأنصار. وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، أي وأنزل الله تعالى فيهم وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: الآية 9] أي ولو كان بهم فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بين المهاجرين. أي وفي كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يعم المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين: أي وهما سهل بن حنيف وأبو دجانة رضي الله تعالى عنهما، وبعضهم ضم إليهما ثالثا وهو الحارث بن الصمة ونظر فيه بعضهم بأنه قتل في بئر معونة. وأعطى صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق أحد سادات بني النضير وكان سيفا له ذكر عندهم، وكان صلى الله عليه وسلم يزرع أرضهم التي تحت النخل، فيدّخر من ذلك قوت أهله سنة، وما فضل يجعله في الكراع: أي الخيل والسلاح عدة في سبيل الله تعالى. أقول: فيه تصريح بأنه لم يقسم الأرض، ويحتمل أن المراد بقوله كان يزرع أرضهم التي تحت النخل: أي بعض أرضهم، ويدل له ما يأتي، ولم أقف على كيفية زرعه صلى الله عليه وسلم للأرض من مزارعة أو غيرها. وفي الخصائص الكبرى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله تعالى إياه وخصه بها، فأعطى أكثرها المهاجرين وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار. وهذا السياق يدل على أن مراده بنخل بني النضير أموالهم كما تقدم في الروايات، لا خصوص النخل. ثم رأيت في عبارة بعضهم: وأكثر الروايات على أن أموال بني النضير: أي من مواشيهم كالخيل ومزارعهم وعقارهم حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة له، خصه الله تعالى بها، لم يخمسها ولم يسهم منها لأحد، وأعطى منها ما أراد ووهب العقار للناس. وأعطى أبا بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وصهيبا وأبا سلمة بن عبد الأسد ضياعا معروفة من ضياع بني النضير. ولعل المراد بالضياع الأراضي، ويدل لذلك ما في البخاري «أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير أرضا من أراضي بني النضير» كما أن ذلك هو المراد بقول الإمتاع وكانت بنو النضير من صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها حبسا لنوائبه. وكان صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله منها وكانت صدقاته منها. وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون أعطى بعض أراض وأبقى بعضها

غزوة ذات الرقاع

يزرع له صلى الله عليه وسلم. ولما أعطى المهاجرين أمرهم بردّ ما كان للأنصار لاستغنائهم عنهم ولأنهم لم يكونوا ملكوهم ذلك، وإنما كانوا دفعوا لهم تلك النخيل لينتفعوا بثمرها، وظنت أم أيمن أن ذلك ملك لها فامتنعت من رده، أي لأن أم أنس كانت أعطته صلى الله عليه وسلم نخلات، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن ولم ينكر عليها ذلك تطيبيا لقلبها لكونها حاضنته، وصار يعطيها وهي تمتنع من رده إلى أن أعطاها عشرة أمثاله أو قريبا من ذلك. وذكر هذا في بني النضير يخالف ما في مسلم أن ذلك كان عند فتح خيبر، حيث ذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارها، وذكر قصة أم أيمن، فليتأمل والله أعلم. غزوة ذات الرقاع أي وتسمى غزوة الأعاجيب: أي لما وقع فيها من الأمور العجيبة، وغزوة محارب وغزوة بني ثعلبة، وغزوة بني أنمار. عن ابن إسحاق رحمه الله: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربيع الأول. وقال غيره: شهري ربيع وبعض جمادى. ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة، حين بلغه صلى الله عليه وسلم أنهم جمعوا الجموع: أي من غطفان لمحاربته، فخرج صلى الله عليه وسلم في أربعمائة من أصحابه رضي الله عنهم، أي وقيل سبعمائة وقيل ثمانمائة. أي واحتج البخاري رحمه الله على أن هذه الغزاة كانت بعد خيبر بما رواه عن أبي موسى رضي الله عنه مما يدل على أن أبا موسى شهد غزاة ذات الرقاع، وهو «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر بيننا بعير، فنقبت أقدامنا، نقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق: فسميت غزاة ذات الرقاع. وإذا ثبت أن أبا موسى شهد غزاة ذات الرقاع، وثبت أنه لم يجىء إليه صلى الله عليه وسلم من الحبشة إلا بخيبر لزم أن تكون غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، إلا أن يدعي تعدد غزوة ذات الرقاع مرتين، وأنها كانت قبل خيبر وبعدها، والتي وجدت فيها صلاة الخوف هي الثانية. أي والسبب في تسميتها ذات الرقاع ما تقدم عن أبي موسى رضي الله عنه، وحيث كانت بعد خيبر يلزم أن تكون بعد الخندق، لقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت، أي لأنها لو كانت شرعت لصلاها صلى الله عليه وسلم، ولم يؤخر الصلاة كما سيأتي، وسيأتي الجواب عن ذلك. وقد ذكرها الشمس الشامي رحمه الله تعالى بعد خيبر، والأصل لم يذكر ما

تقدم عن البخاري، بل رواه بالمعنى، فقال: روينا في صحيح البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنهم نقبت أقدامهم، فلفوا عليها الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع. قال: وجعله: أي البخاري حديث أبي موسى هذا حجة على أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر، لأن أبا موسى إنما قدم في خيبر لا دلالة فيه على ذلك، أي لأنه يجوز أن يكون قول أبي موسى رضي الله عنه إنهم نقبت أقدامهم: يعني الصحابة، فيكون هذا مما رواه أبو موسى عمن شاهد الوقعة من الصحابة. وفيه أن هذا لا يأتي مع قول البخاري عن أبي موسى «فنقبت قدماي وسقطت أظفاري» إذ هو صريح في أن أبا موسى رضي الله عنه حضرها، والأصل تبع في تقديمها على خيبر شيخه الدمياطي، وتابعه أيضا في رواية ما تقدم عن البخاري بالمعنى. ونظر الدمياطي في رواية أبي موسى: أي التي في البخاري التي رواها عنه بالمعنى، بأنها مخالفة لما عليه أهل المغازي من تقديمها على خيبر. قال الحافظ ابن حجر: وادعى الدمياطي غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه، والاعتماد على ما في الصحيح أي من تأخيرها على خيبر أولى، لأن أصحاب المغازي مختلفون في زمانها. قال: والبخاري مع روايته عن أبي موسى الصريحة في تأخر غزوة ذات الرقاع عن غزوة خيبر، قدم غزوة ذات الرقاع على خيبر. قال: ولا أدري، هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازي أنها كانت قبل خيبر، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين: أي واحدة قبل خيبر، والثانية بعدها كما قدمناه. أي وقدمنا أن سبب التسمية في الثانية ما ذكر عن أبي موسى رضي الله عنه، وأما في الأولى فأحد الأسباب الآتية. قال في الإمتاع: وقد قال بعض من أرخ: إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة، فواحدة كانت قبل الخندق، وأخرى بعدها: أي وبعد خيبر. ولم غزا صلى الله عليه وسلم استخلف على المدينة أبا ذر الغفاري. وقيل عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال ابن عبد البر: وعليه الأكثر. أي وقد نظر في الأول، بأن أبا ذرّ رضي الله عنه لما أسلم بمكة رجع إلى بلاد قومه، فلم يجىء حتى مضت بدر وأحد والخندق. أقول: وهذا النظر بناء على أنها كانت قبل الخندق، وأما على أنها كانت بعد الخندق وبعد خيبر فلا يتأتى هذا النظر، والله أعلم. وسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ نجدا فلم يجد بها أحدا ووجد نسوة فأخذهنّ وفيهن جارية وضيئة. ثم لقي جمعا فتقارب الجمعان ولم يكن بينهما حرب.

وقد خاف بعضهم بعضا: أي خاف المسلمون أن تغير المشركون عليهم وهم غارون أي غافلون حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، وكانت أول صلاة للخوف صلاها. قال وفي رواية «حانت صلاة الظهر فصلاها صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فهمّ بهم المشركون، فقال قائلهم: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه هي أحبّ إليهم من أبنائهم، أي وهي صلاة العصر، فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصلى صلاة العصر صلاة الخوف» اهـ. أقول: سيأتي هذا كله بعينه في غزوة الحديبية التي هي صلاة الخوف بعسفان. ولا مانع من تعدد ذلك. ويحتمل أنه من الاشتباه على بعض الرواة، والله أعلم. وكان العدوّ في غير جهة القبلة، ففرقهم فرقتين: فرقة وقفت في وجه العدوّ، وفرقة صلى بها ركعة، ثم عند قيامة للثانية فارقته وأتمت بقية صلاتها، ثم جاءت ووقفت في وجه العدوّ، وجاءت تلك الفرقة التي كانت في وجه العدوّ واقتدت به في ثانيته فصلى بها ركعة، ثم قامت وهو في جلوس التشهد، وأتمت بقية صلاتها ولحقته في جلوس التشهد وسلم بها. وهذه الكيفية في ذات الرقاع رواها الشيخان، ونزل بها القرآن، وهو قوله تعالى وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء: الآية 102] الآية. أي وفي كلام بعضهم: فصلى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، صلى بطائفة ركعتين، وبالأخرى أخريين. وسيأتي أن هذه صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل وفي الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بصلاة الخوف فلم تشرع لأحد من الأمم قبلنا، وبصلاة شدة الخوف عند التحام القتال. أي وفي هذه الغزوة نزل صلى الله عليه وسلم ليلا، وكانت تلك الليلة ذات ريح. وكان نزوله صلى الله عليه وسلم في شعب استقبله فقال: من رجل يكلؤنا: أي يحفظنا هذه الليلة، فقام عباد بن بشر رضي الله تعالى عنه وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما، فقالا: نحن يا رسول الله نكلؤكم، فجلسا على فم الشعب، فقال عباد بن بشر لعمار بن ياسر: أنا أكفيك أول الليل وتكفيني آخره، فنام عمار رضي الله عنه وقام عباد رضي الله عنه يصلي، وكان زوج بعض النسوة التي أصابهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غائبا، فلما جاء أخبر الخبر فتتبع الجيش، وحلف لا ينثني حتى يصيب محمدا أو يهريق في أصحاب محمد دما، فلما رأى سواد عباد قال: هذا ربيئة القوم، ففوّق سهما فوضعه فيه، فانتزعه عباد فرماه بآخر فوضعه فيه فانتزعه، فرماه بآخر فانتزعه، فلما غلبه الدم قال لعمار اجلس فقد أتيت، فلما رأى ذلك الرجل عمار أجلس علم أنه قد نذر به، فهرب، فقال عمار: أي أخي ما منعك أن توقظني له في أول سهم رمي به، فقال:

كنت أقرأ في سورة: أي في سورة الكهف فكرهت أن أقطعها. وفي لفظ: جعل صلى الله عليه وسلم شخصين من أصحابه يقال هما عباد بن بشر من الأنصار وعمار بن ياسر من المهاجرين في مقابلة العدو، فرمى أحدهما بسهم فأصابه ونزفه الدم وهو يصلي، ولم يقطع صلاته بل ركع وسجد ومضى في صلاته، ثم رماه بثان وثالث وهو يصيبه ولم يقطع صلاته أي وهو عباد بن بشر كما تقدم. وقد قال عباد اعتذارا عن إيقاظ صاحبه: لولا أني خشيت أن أضيع ثغرا أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انصرفت ولو أتى على نفسي. أقول: وبهذه الواقعة استدل أئمتنا على أن النجاسة الحادثة من غير السبيلين لا تنقض الوضوء، لأنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولم ينكره. وأما كونه صلى مع الدم فلعلّ ما أصاب ثوبه وبدنه منه قليل؛ ولا ينافي ذلك ما تقدم في الرواية قبل هذه «فلما غلبه الدم» إذ يجوز مع كونه كثيرا أنه لم يصب ثوبه ولا بدنه إلا القليل منه والله أعلم. ويقال إن رجلا من القوم: أي وهو غورث بالغين المعجمة مكبرا على الأشهر وقيل غويرث بالتصغير والمهملة ابن الحارث، قال لهم: ألا أقتل لكم محمدا، قالوا بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به أي أجيء إليه على غفلة، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وسيفه في حجره، فقال: يا محمد أرني أنظر إلى سيفك هذا؟ فأخذه من حجره فاستله، ثم جعل يهزه ويهمّ فيكبته الله: أي يخزيه، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا بل يمنعني الله تعالى منك، ثم دفع السيف إليه صلى الله عليه وسلم فأخذه صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: أعاهدك على أني لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبيله فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس، وأسلم هذا بعد، وكانت له صحبة. وفي رواية: جاء إليه صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟ قال نعم، فأخذه فاستله، ثم جعل يهزه، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ قال: لا، وما أخاف منك، قال: وفي يدي السيف؟ قال: لا، يمنعني الله تعالى منك، ثم غمد سيف رسول الله فرده عليه. وهذه واقعة غير واقعة دعثور المتقدمة في غزوة ذي إمرّ، فهما واقعتان: أحدهما مع دعثور، والثانية مع غورث، فقول أصله والظاهر أن الخبرين واحد فيه نظر ظاهر فليتأمل. قال: وفي رواية: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة أدركته القائلة يوما

بواد كثير العضاة: أي الأشجار العظيمة التي لها شوك، وتفرق الناس في العضاة: أي الأشجار يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة أي ظليلة. قال جابر رضي الله عنه: تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فعلق صلى الله عليه وسلم سيفه فيها، فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا إليه فوجدنا عنده أعرابيا جالسا، فقال: إن هذا قد اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده مصلتا: أي مسلولا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت الله، قال ذلك ثلاث مرات ولم يعاقبه صلى الله عليه وسلم اهـ. وهذه الرواية مع ما قبلها يقتضي سياقهما أنهما واقعتان لا واقعة واحدة. ويبعد أن يكون ذلك الأعرابي هو غورث صاحب الواقعة الأولى، فيكون تعدد منه هذا الفعل مرتين، أي وأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة: الآية 11] وتقدم أن سبب نزولها إرادة إلقاء الحجر عليه من بعض أهل بني النضير لعنهم الله، وتقدم أنه لا مانع من تعدد النزول لتعدد الأسباب. وفي الشفاء: قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف قريشا، فلما نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ [المائدة: الآية 11] الآية، استلقى ثم قال: من شاء فليخذلني. أي وفيه أن هذا لا يحسن إلا عند نزول آية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: الآية 67] إلا أن يقال: هو صلى الله عليه وسلم علم من ذلك أن الله مانع له ممن يريده بسوء وإن كان يجوز أن يمنعه من شخص دون آخر فليتأمل. وإنما لم يعاقب صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي حرصا على استئلاف قلوب الكفار ليدخلوا في الإسلام. وكانت مدة غيبته صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة. وبعث صلى الله عليه وسلم جعال بن سراقة إلى المدينة مبشرا بسلامته وسلامة المسلمين، أي وكان رضي الله عنه من أهل الصفة، وهو الذي تمثل به إبليس لعنه الله يوم أحد حين نادى إن محمدا قد قتل كما تقدم. وأبطأ جمل جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما فنخسه صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ أنه حجنه بمحجنه فانطلق متقدما بين يدين الركب. وفي رواية: فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه لا يسبقه: أي وهو ينازعني خطامه مع أني كنت أرجو أن يستاق معنا. ثم قال له صلى الله عليه وسلم: أتبيعنيه؟ فابتاعه منه: أي بأوقية، وقيل بأربع أواق وقيل بخمس أواق، وقيل بخمسة دنانير، وقيل بأربعة دنانير بعد أن أعطاه فيه أولا درهما ممازحا له، فقال له جابر رضي الله عنه: تبيعني يا رسول الله؟ وفي رواية: لا زال صلى الله عليه وسلم يزيده درهما درهما، فيقول جابر: آخذته بكذا والله يغفر لك يا رسول الله، قال بعضهم: كأنه صلى الله عليه وسلم أراد بإعطائه درهما درهما أن يكثر استغفاره له، وقال له: لك

ظهره إلى المدينة. وفي رواية وشرط لي ظهره إلى المدينة أي واستغفر لجابر رضي الله عنه في تلك الليلة خمسا وعشرين مرة، وقيل سبعين مرة، فلما وصل صلى الله عليه وسلم المدينة أعطاه الثمن ووهب له الجمل أي وقيل إن هذه القصة: أي إبطاء جمل جابر رضي الله عنه إنما كانت في رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. وقيل كانت في رجوعه من غزوة تبوك. أي والذي في البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على جمل ثقال، إنما هو في آخر القوم، فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا؟ فقلت: جابر بن عبد الله، قال: فما لك؟ قلت: إني على جمل ثقال، قال: أمعك قضيب؟ قلت نعم، قال: أعطنيه، فضربه فزجره، فكان من ذلك المكان من أول القوم، قال: بعنيه، قلت: بل هو لك يا رسول الله، قال: بل بعنيه، فقد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة، فلما قدمت المدينة قال: يا بلال اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا، قال جابر رضي الله عنه: وأعطاني الجمل وسهمي مع القوم» . وفي لفظ عن جابر قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فدخلت إليه، فعلفت الجمل في ناحية البلاط، فقلت: يا رسول الله هذا جملك، فخرج صلى الله عليه وسلم فجعل يطوف بالجمل. قال: الثمن والجمل لك، وفي لفظ: إنما باعه له بوقية: أي ذهب، وأنه استثنى حملانه إلى أهله، فلما قدم المدينة وأنقده الثمن وانصرف أرسل على أثره وقال له: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك. وعن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم اشتراه بطريق تبوك بأربع أواق وفي لفظ: بعشرين دينارا، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها، فإن التعدد بعددها بعيد. قيل وسميت ذات الرقاع باسم شجرة كانت في ذلك المحل يقال لها ذات الرقاع، أو لأنهم رقعوا راياتهم، أو لأنهم لفوا على أقدامهم الخرق لما حصل لهم الحفاء كما تقدم، أو لأن الصلاة رقعت فيها، أو لأن الجبل الذي نزلوا به كانت أرضه ذات ألوان تشبه الرقاع فيه بقع حمر وسود وبيض، واستغربه الحافظ ابن حجر. قال الإمام النووي رحمه الله: ويحتمل أنها سميت بالمجموع، قال: وفي هذه الغزوة جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة بدوية بابن لها. فقالت: يا رسول الله هذا ابني، قد غلبني عليه الشيطان، ففتح فاه فبزق فيه وقال: أخسأ عدوّ الله أنا رسول الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: شأنك بابنك، لن يعود إليه شيء مما كان يصيبه، أي فكان كذلك.

وفيها أيضا: جاء رجل بفرخ طائر فأقبل أحد أبويه حتى طرح نفسه بين يدي الذي أخذ فرخه، فعجب الناس من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه، والله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه. وفيها أيضا: جيء له صلى الله عليه وسلم بثلاث بيضات من بيض النعام، فقال لجابر دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات، قال جابر رضي الله عنه: فعملتهنّ، ثم جئت بهنّ في قصعة، فجعلنا نطلب خبزا فلم نجد، فجعل صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون من ذلك البيض بغير خبز حتى انتهى كل إلى حاجته: أي إلى الشبع؛ والبيض في القصعة كما هو. وفيها أيضا: جاء جمل يرفل: أي حتى وقف عنده صلى الله عليه وسلم وأرغى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما قال هذا الجمل؟ هذا جمل يستعيذ بي على سيده يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين وأنه أراد أن ينحره، اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به، قال جابر رضي الله عنه: فقلت لا أعرفه، قال: إنه سيدلك عليه. قال جابر: فخرج بين يدي حتى وقف على صاحبه، فجئته به، فكلمه صلى الله عليه وسلم في شأن الجمل اهـ. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائط رجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح عليه فسكن. ثم قال: من رب هذا الجمل، فجاء فتى من الأنصار، فقال: هذا لي يا رسول الله، فقال: ألا تتقي الله عز وجل في هذه البهيمة التي ملكك الله، فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه. وفي رواية: كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعير أقبل حتى وقف على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أيها البعير اسكن فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، إن الله تعالى قد أمن عائذنا ولن يخيب لائذنا، فقلنا: يا رسول الله، ما يقول هذا البعير؟ قال: يريد أهله نحره وأكل لحمه، فهرب منهم واستغاث بنبيكم، فبينما نحن كذلك إذا أقبل أصحابه يتعاودون، فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام فلم نجده إلا بين يديك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه يشكو، فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟ قال: يقول إنه ربي فيكم سنين وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ، فإذا كان الشتاء حملتم عليه إلى موضع الدفء، فلما كبر استفحلتموه فرزقكم الله إبلا سليمة. فلما أدركته هذه السنة الجدبة هممتم بنحره وأكل لحمه، فقالوا: والله يا رسول الله قد كان ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا جزاء المملوك الصالح من مواليه، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نتعبه ولا ننحره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، قد استغاث بكم فلم تغيثوه، وأنا أولى بالرحمة

غزوة بدر الآخرة

منكم لأن الله قد نزع الرحمة من قلوب المنافقين، وأسكنها في قلوب المؤمنين فاشتراه صلى الله عليه وسلم منهم بمائة درهم، وقال أيها البعير انطلق حيث شئت فرغا البعير على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: آمين، ثم رغا الثانية، فقال له آمين. ثم رغا الثالثة، فقال له آمين، ثم رغا الرابعة، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟ فقال: قال جزاك الله خيرا أيها النبي عن الإسلام والقرآن قلت: آمين، قال: سكن الله رعب أمتك كما سكنت قلبي، قلت: آمين، قال: حقن الله دماء أمتك كما حقنت دمي، قلت آمين، قال: لا جعل الله بأسهم بينهم شديدا، فبكيت لأني سألت ربي فيها: أي في هذه الرابعة فمنعني إعطاءها. وقوله صلى الله عليه وسلم للجمل اذهب كيف شئت، لا يناسب ما عليه أئمتنا من عدم جواز إرسال الدواب تقرّبا إلى الله تعالى لأنه في معنى سوائب الجاهلية، إلا أن يقال: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم له اذهب كيف شئت، أي أنت آمن في سائر أحوالك مما شكوت منه. ورأيت في كلام ابن الجوزي رحمه الله ما يؤيد ذلك، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمه سمة نعم الصدقة ثم بعث به. وعليه لا إشكال، وإلى قصة الجمل أشار الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله: ورب بعير قد شكا لك حاله ... فأذهبت عنه كل كل وثقلة وفي هذه: أعني السنة الرابعة تزوّج صلى الله عليه وسلم أم سلمة هند رضي الله تعالى عنها بعد موت أبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه. وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: تزوّجها سنة اثنتين ليس بشيء، قيل وفيها شرع التيمم. غزوة بدر الآخرة ويقال لها بدر الموعد: أي لموعد أبي سفيان رضي الله عنه، حيث قال حين منصرفه من أحد: موعد ما بيننا وبينكم بدر: أي موسمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: قل نعم إن شاء الله تعالى كما تقدم. لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع أقام بقية جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان وعليه اقتصر الأصل وقيل خرج في شوّال، وقيل في مستهل ذي القعدة كل ذلك في سنة أربع. من الوهم قول موسى بن عقبة رحمه الله: إنها كانت في شعبان سنة ثلاث لما علمت أنها بعد أحد، وأحد كانت في شوّال سنة ثلاث، والحافظ الدمياطي قدّم هذه الغزوة على غزوة ذات الرقاع، وتبعه الشمس الشامي وصاحب الإمتاع. وكان وصوله صلى الله عليه وسلم إلى بدر هلال ذي القعدة، وهذا لا يناسب إلا القول بأن

خروجه صلى الله عليه وسلم كان في شوّال، وكان ذلك موسما لبدر في كل سنة يحضره الناس ويقيمون به ثمانية أيام كما تقدمت الحوالة عليه. وحين خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة استخلف عليها عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول رضي الله تعالى عنه، وقيل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وخرج في ألف وخمسمائة من أصحابه، وكان الخيل عشرة أفراس. وعند تهيؤ المسلمين للخروج قدم نعيم بن مسعود الأشجعي، أي وكان ذلك قبل إسلامه رضي الله تعالى عنه، وأخبر قريشا أن المسلمين تهيؤوا للخروج لقتالهم ببدر، فكره أبو سفيان الخروج لذلك، وجعل لنعيم إن رجع إلى المدينة وخذل المسلمين عن الخروج لبدر عشرين بعيرا. وفي لفظ عشرة من الإبل وحمله على بعير، أي وقال له أبو سفيان إنه بدا لي أن لا أخرج، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جراءة، فلأن يكون الخلف من قبلهم أحب إليّ من أن يكون من قبلي فالحق بالمدينة، وأعلمهم أنا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا، ولك عندي من الإبل كذا وكذا أدفعها لك على يد سهيل بن عمرو، فجاء نعيم إلى سهيل بن عمرو، فقال له: يا أبا يزيد تضمن لي هذه الإبل وانطلق إلى محمد وأثبطه؟ قال نعم، فقدم نعيم المدينة وأرجف بكثرة جموع أبي سفيان أي وصار يطوف فيهم حتى قذف الرعب في قلوب المسلمين، ولم يبق لهم نية في الخروج، واستبشر المنافقون أي واليهود، وقالوا: محمد لا يفلت من هذا الجمع، فجاء أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعا ما أرجف به المسلمون وقالا له: يا رسول الله، إن الله مظهر نبيه ومعز دينه، وقد وعدنا القوم موعدا لا نحب أن نتخلف عنه، فيرون أن هذا جبن، فسر لموعدهم، فو الله إن في ذلك لخيرة فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال: والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد، فأذهب الله عنهم ما كانوا يجدون، وحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وخرج المسلمون معهم بتجارات إلى بدر، فربحت الضعف. ثم إن أبا سفيان قال لقريش: لقد بعثنا نعيما ليخذل أصحاب محمد عن الخروج، ولكن نخرج نحن فنسير ليلة أو ليلتين ثم نرجع، فإن كان محمد لم يخرج وبلغه أنا خرجنا فرجعنا، لأنه إن لم يخرج كان هذا لنا عليه، وإن خرج أظهرنا أن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام عشب، قالوا: نعم ما رأيت، فخرج أبو سفيان في قريش: أي وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا حتى انتهوا إلى مجنة، أي بفتح الميم والجيم وتشديد النون: وهو سوق معروف من ناحية مرّ الظهران، وقيل إلى عسفان، ثم قال: يا معشر قريش لا يصلحكم إلا عام خصب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه الماء، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس،

غزوة دومة الجندل

فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم لتشربوا السويق. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده مدة الموسم التي هي ثمانية أيام، أي فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى بدر هلال ذي القعدة كما تقدم، وقام السوق صبيحة الهلال، فأقاموا ثمانية أيام والسوق قائمة. أي وصار المسلمون كلما سألوا عن قريش وقيل لهم قد جمعوا لكم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى قيل لهم لما قربوا من بدر: إنها قد امتلأت من الذين معهم أبو سفيان يرعبونهم ويرهبونهم، فيقول المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلما قدموا بدرا وجدوا أسواقا لا ينازعهم فيها أحد، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) [آل عمران: الآية 173] فالمراد بالناس الأول: نعيم نزل منزلة الجماعة. وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن القائلين ذلك كانوا أربعة، ولا مانع أن يكون هؤلاء الأربعة من المنافقين لعنهم الله، وافقوا نعيما على ما قال حتى إن قائلهم قال للمسلمين: إنما أنتم لهم أكلة رأس، وإن ذهبتم إليهم لا يرجع منكم أحد. وقيل القائلون ركب من عبد القيس، كانوا قاصدين المدينة للميرة، فجعل لهم أبو سفيان حمل أبعرتهم زبيبا إن هم خذلوا المسلمين وأرجفوهم. ولا مانع من وجود ذلك كله. هذا، وقد نقل ابن عطية رحمه الله عن الجمهور أن هذه الآية الواقعة المذكورة إنما كانت بحمراء الأسد عند انصرافه من أحد فليتأمل. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أي وبلغ قريشا خروج المسلمين لبدر وكثرتهم، وإنهم كانوا أصحاب الموسم: أي والمخبر لهم بذلك معبد بن أبي معبد الخزاعي، فإنه بعد انقضاء الموسم خرج سريعا إلى مكة وأخبرهم بذلك. فقال صفوان بن أمية لأبي سفيان: قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم، وقد اجترؤوا علينا ورأوا أنا أخلفناهم، وإنما خلفنا الضعف. غزوة دومة الجندل بضم الدال ويجوز فتحها، واقتصر الحافظ الدمياطي على الأول: أي وأما دومة بالفتح لا غير فموضع آخر، ومن ثم قال الجوهري: الصواب الضم، وأخطأ المحدثون في الفتح. سميت بدومي بن إسماعيل عليه السلام، لأنه كان نزلها: وهي بلدة بينها وبين دمشق خمس ليال، وهي أقرب بلاد الشام إلى المدينة، وبينها وبين

المدينة خمس أو ست عشرة ليلة: أي وهي بقرب تبوك، بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لذلك، فخرج في ألف من المسلمين، أي وذلك في أواخر السنة الرابعة. وذكر بعضهم أنها كانت في ربيع الأول من السنة الخامسة، ويوافقه قول الحافظ الدمياطي: إنها كانت على رأس تسعة وأربعين شهرا من مهاجرته صلى الله عليه وسلم: أي واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة: أي يقال له مذكور رضي الله تعالى عنه. فلما دنا منهم جاء إليهم الخبر فتفرقوا، فهجم على ما شيتهم ورعاتهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يلق بها أحدا، وبعث السرايا فرجعت ولم تلق منهم أحدا: أي ورجعت كل سرية بإبل، وأخذ محمد بن مسلمة رجلا منهم وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فقال: هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نعمهم، فعرض عليه الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وفي رجوعه وادع: أي صالح عيينة بن حصن واسمه حذيفة الفزاري أن يرعى بمحل بينه وبين المدينة ستة وثلاثون ميلا، أي لأن أرضه كانت أجدبت، ولما سمن حافره وخفه، وانتقل إلى أرضه غزا على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة كما سيأتي، وقيل له بئس ما جزيت به محمدا صلى الله عليه وسلم، أحلك أرضه حتى سمن حافرك وخفك، وتفعل معه ذلك، فقال: هو حافري، وقيل له عيينة لأنه أصابته لقوة فجحظت عيناه وسمي عيينة، وعيينة هذا أسلم بعد الفتح وشهد حنينا والطائف، وكان من المؤلفة كما سيأتي، وكان يقال له الأحمق المطاع، كان يتبعه عشرة آلاف فتى. ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذن وأساء الأدب، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم على جفوته، وقال فيه صلى الله عليه وسلم «إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه» وقيل إن ذلك إنما قيل في مخرمة بن نوفل: أي ولا مانع من تعدد ذلك، وقد ارتد عيينة بعد ذلك في زمن الصديق رضي الله عنه: فإنه لحق بطليحة بن خويلد حين تنبأ وآمن به. فلما هرب طليحة أسره خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرسل به إلى الصديق في وثاق فلما دخل المدينة صار أولاد المدينة ينخسونه بالحديد ويضربونه، ويقولون: أي عدو الله كفرت بالله بعد إيمانك، فيقول: والله ما كنت آمنت، فمنّ عليه الصديق فأسلم، ولم يزل مظهر للإسلام. وفي سنة أربع نزلت آية الحجاب لأزواجه صلى الله عليه وسلم، وكان فيها قصر الصلاة، وولاة الحسين رضي الله عنه. ووقع أنه لما ولد سماه علي كرم الله وجهه حربا، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال «أروني ابني، ما سميتموه؟ قالوا: حربا، قال: بل اسمه حسين» أي كما

غزوة بني المصطلق

فعل ذلك بالحسن كما مر، فلما ولد الثالث جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أروني ابني، ما سميتموه؟ قال علي كرم الله وجهه: سميته حربا، فقال بل هو محسن ثم قال صلى الله عليه وسلم: إني سميتهم بأسماء ولد هارون شبر وشبير ومشبر» . ومن المستظرف ما حكاه بعضهم، قال: وقع بين الحسن والحسين كلام فتهاجرا، فلما كان بعد ذلك أقبل الحسن على الحسين وأكب على رأسه يقبله، فقال له الحسين: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا أنك أحق بالفضل مني، فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به، ورجم اليهوديين الزانيين، وفرض الحج، وقيل فرض في الخامسة، وقيل في السادسة، وقيل في السابعة، وقيل في الثامنة، وقيل في التاسعة، وقيل في العاشرة. قيل وفيها أي الرابعة شرع التيمم، أي كما تقدم. وقيل شرع في الغزوة التي تلي هذه وهي غزوة بني المصطلق. وقيل كان في غزوة أخرى، أي وفي غيبته صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة ماتت أم سعد بن عبادة، وكان ابنها رضي الله عنه معه صلى الله عليه وسلم، ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صلى على قبرها، وذلك بعد شهر، وقال له سعد: يا رسول الله أتصدق عنها؟ قال نعم، قال أيّ الصدقة أفضل؟ قال: الماء فحفر بئرا، وقال هذه لأم سعد رضي الله عنها. غزوة بني المصطلق ويقال لها غزوة المريسيع، ويقال لها غزوة محارب، وقيل محارب غيرها. ويقال لها غزوة الأعاجيب لما وقع فيها من الأمور العجيبة، أي كما قيل بذلك كذلك في غزوة ذات الرقاع كما تقدم. وبنو المصطلق: بطن من خزاعة، وهم بنو جذيمة، وجذيمة هو المصطلق، من الصلق: وهو رفع الصوت. والمريسيع: اسم ماء من مياههم، أي من ماء خزاعة مأخوذة من قولهم: رسعت عين الرجل إذا دمعت من فساد، وذلك الماء في ناحية قديد. وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق رضي الله عنه، فإنه أسلم بعد ذلك كما سيأتي، جمع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قدر عليه من قومه ومن العرب، فأرسل صلى الله عليه وسلم بريدة بالتصغير ابن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين في آخره موحدة كما تقدم، أي ليعلم علم ذلك. قال: واستأذن بريدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما يتخلص به من شرهم، أي وإن كان خلاف الواقع فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج حتى ورد عليهم ورأى جمعهم،

فقالوا له: من الرجل؟ قال: رجل منكم قدمت لما بلغني من جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني، فنكون يدا واحدة حتى نستأصلهم، فقال له الحارث: فنحن على ذلك؛ فعجل علينا، قال بريدة: أركب الآن فآتيكم بجمع كثير من قومي، فسروا بذلك منه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر القوم انتهى. فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليهم، فأسرعوا الخروج، وكان في شعبان لليلتين خلتا منه سنة خمس من الهجرة، وقيل أربع كما في البخاري نقلا عن ابن عقبة، وعليه جرى الإمام النووي في الروضة. قال الحافظ ابن حجر: وكأنه سبق فلم أراد أن يكتب سنة خمس من الهجرة فكتب سنة أربع، لأن الذي في مغازي ابن عقبة من عدة طرق سنة خمس، وقيل سنة ست، وأن عليه أكثر المحدثين، وقادوا الخيل وهي ثلاثون فرسا عشرة للمهاجرين: أي منها فرسان له صلى الله عليه وسلم اللزاز والظرب، وعشرون للأنصار رضي الله عنهم: واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة زيد بن حارثة رضي الله عنهما. وقيل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه. وقيل نميلة تصغير نملة بن عبد الله الليثي رضي الله عنه، وخرج معه صلى الله عليه وسلم من نسائه عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: أي وخرج معه صلى الله عليه وسلم ناس كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزوة قط مثلها منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، وزيد بن الصلت ليس لهم رغبة في الجهاد، وإنما غرضهم أن يصيبوا من عرض الدنيا مع قرب المسافة، وسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ محلا نزل به، فأتي برجل من عبد القيس فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أين أهلك؟ قال: بالروحاء، قال أين تريد؟ قال: إياك جئت لأومن بك، وأشهد أن ما جئت به حق: وأقاتل معك عدوك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداك للإسلام، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة لأوّل وقتها. فكان بعد ذلك يصلي الصلاة لأول وقتها. وأصاب صلى الله عليه وسلم عينا للمشركين وكان وجهه الحارث ليأتيه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يذكر من شأنهم شيئا، فعرض عليه الإسلام فأبى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يضرب عنقه فضرب عنقه، فلما بلغ الحارث مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قتل عينه سىء بذلك ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنه جمع كثير ممن كان معه، وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع فضربت له صلى الله عليه وسلم قبة من أدم، وكان معه فيها عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما فتهيأ المسلمون للقتال، ودفع صلى الله عليه وسلم راية المهاجرين إلى أبي بكر رضي الله عنه. وقيل لعمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، أي وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم ففعل عمر ذلك فأبوا فتراموا بالنبل ساعة. ثم أمر

رسول الله أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل منهم عشرة، وأسر سائرهم: الرجال والنساء والذرية؛ واستاق إبلهم وشياههم، فكانت الإبل ألفي بعير، والشأء خمسة آلاف شاة، واستعمل صلى الله عليه وسلم على ذلك مولاه شقران، أي بضم الشين المعجمة، واسمه صالح، وكان رضي الله عنه حبشيا، وكان السبي مائتي أهل بيت. وفي كلام بعضهم كانوا أكثر من سبعمائة، وكانت برة بنت الحارث الذي هو سيد بني المصطلق في السبي. وقيل أغار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم غافلون، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، أي وهذا القول هو الذي في صحيح البخاري: أي ومسلم، والأول هو الذي في السيرة الهشامية. وجمع بأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لما أغار عليهم ثبتوا وصفوا للقتال، ثم انهزموا، ووقعت الغلبة عليهم، أي وقتل منهم من قاتل ولم يستأسر. وكان شعار المسلمين: أي علامتهم التي يعرفون بها في ظلمة الليل أو عند الاختلاط «يا منصور؟؟؟» تفاؤلا بأن يحصل لهم النصر بعد موت عدوهم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى فكتفوا، واستعمل عليهم بريدة رضي الله عنه. ثم فرق صلى الله عليه وسلم السبي، فصار في أيدي الناس. أي وفي هذا دليل لقول إمامنا الشافعي رضي الله عنه في الجديد: يجوز استرقاق العرب، لأن بني المصطلق عرب من خزاعة خلافا لقوله في القديم إنهم لا يسترقون لشرفهم. وقد قال في الأمّ: لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هكذا: أي لا يجري الرق على عربي. وبعث صلى الله عليه وسلم أبا ثعلبة الطائي إلى المدينة بشيرا من المريسيع، أي وجمع صلى الله عليه وسلم المتاع الذي وجده في رحالهم والسلاح والنعم والشاء، وعدلت الجزور بعشرة من الغنم، ووقعت برة بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس، وابن عم له، فجعل ثابت لابن عمه نخلات له بالمدينة في حصته من برة، وكاتبها أي على تسع أواق من ذهب، فدخلت عليه صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول الله إني امرأة مسلمة: أي أسلمت لأني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وإني برة بنت الحارث سيد قومه، أصابنا من الأمر ما قد علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس وابن عم له، وخلصني ثابت من ابن عمه بنخلات في المدينة، وكاتبني على ما لا طاقة لي به، وإني رجوتك فأعني في مكاتبتي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو خير من ذلك؟ قالت: ما هو؟ قال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت بن قيس فطلبها منه، فقال ثابت رضي الله عنه: هي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان كاتبها عليه وأعتقها

وتزوجها، أي وهي ابنة عشرين سنة، وسماها جويرية: أي وكان اسمها برة، وكذلك ميمونة، وزينب بنت جحش كان اسم كل منهما برة فغيره صلى الله عليه وسلم، وكذا كان اسم بنت أم سلمة برة فسماها زينب. ويذكر أن عليا كرم الله وجهه هو الذي أسرها. أقول: ولا مانع أن يكون عليّ كرّم الله وجهه أسرها ثم وقعت في سهم ثابت وابن عمه رضي الله عنهما عند القسمة، لأنه لم يثبت في هذه الغزوة أنه صلى الله عليه وسلم جعل الأسرى لمن أسرهم كما وقع في بدر، إلا ما يأتي من قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ورغبنا في الفداء وقد يقال: رغبوا في الفداء بعد القسمة والله أعلم. قال: وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كانت جويرية امرأة حلوة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم عندي ونحن على الماء: أي الذي هو المريسيع، إذ دخلت جويرية تسأله في كتابتها، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفت أنه سيرى منها مثل الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله إني امرأة مسلمة الحديث» اهـ وإنما كرهت ذلك لما جبلت عليه النساء من الغيرة. ومن ثم جاء «أنه صلى الله عليه وسلم خطب امرأة فأرسل عائشة رضي الله تعالى عنها لتنظر إليها، فلما رجعت إليه قالت: ما رأيت طائلا، فقال: بلى لقد رأيت خالا في خدّها فاقشعرت منه كل شعرة في جسدك، أي وفي لفظ آخر عن عائشة رضي الله عنها «فما هو إلا أن وقفت جويرية بباب الخباء لتستعين رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتابتها فنظرت إليها فرأيت على وجهها ملاحة وحسنا، فأيقنت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآها أعجبته علما منها بموقع الجمال منه صلى الله عليه وسلم، فما هو إلا أن كلمته صلى الله عليه وسلم، فقال لها صلى الله عليه وسلم: خير من ذلك، أنا أؤدي كتابتك وأتزوجك، فقضى عنها كتابتها وتزوجها» والملاح أبلغ من المليح، والمليح، مستعار من قولهم طعام مليح: إذا كان فيه الملح بمقدار ما يصلحه. قال الأصمعي رحمه الله: الحسن في العينين، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم. وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهم على الماء الذي هو المريسيع، ويؤيده ما يأتي عنها رضي الله تعالى عنها. قال الشمس الشامي رحمه الله: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لجويرية حتى عرف من حسنها ما دعاه لتزوجها، لأنها كانت أمة مملوكة: أي لأنها مكاتبة، ولو كانت غير مملوكة: أي حرة ما ملأ صلى الله عليه وسلم عينه منها، أو أنه صلى الله عليه وسلم نوى نكاحها، أو أن ذلك كان قبل آية الحجاب. أقول: تبع في هذا السهيلي رحمه الله. وقد قدمنا أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز نظر الأجنبية والخلوة بها لأمنه صلى الله عليه وسلم من الفتنة، فلا يحسن قوله ولو كانت حرة ما ملأ صلى الله عليه وسلم عينه منها.

ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم حرمة نكاح الأمة، فلا يحسن قوله أو أنه نوى نكاحها، وأن نزول آية الحجاب كان في سنة ثلاث على الراجح. ومذهب الشافعي رضي الله عنه: حرمة نظر سائر بدن الأمة الأجنبية كالحرة على الراجح عند الشافعية ومنهم الشمس الشامي، فلا يحسن قوله لأنها كانت أمة مملوكة، والله أعلم. روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب أي واقتسمناها وملكناها، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا نستمتع ونعزل، فقلنا نفعل ذلك» وفي لفظ «فأصبنا سبايا وبنا شهوة للنساء، واشتدت علينا العزوبة، وأحببنا الفداء، وأردنا أن نستمتع ونعزل، وقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فسألناه عن ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا عليكم أن لا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة» أي نفسا «قدّرها هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون» . وفي لفظ «ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة» وفي رواية «لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك، فإنما هو القدر» وفي رواية «ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه» أي ما عليكم حرج في عدم فعل العزل: وهو الإنزال في الفرج، لأن العزل الإنزال خارج الفرج، فيجامع حتى إذا قارب الإنزال نزع فأنزل خارج الفرج «ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» أي عزلتم أم لا فلا فائدة في عزلكم، لأن الماء قد يسبق العزل إلى الرحم فيجيء الولد، وقد ينزل في الفرج ولا يجيء الولد. وكون ذلك كان في بني المصطلق هو الصحيح، خلافا لما نقل عن موسى بن عقبة رحمه الله تعالى أن ذلك كان في غزوة أوطاس. وقول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: «قد طالت علينا العزبة واشتهينا النساء» أي لعل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ومن تكلم على لسانه كان في المدينة أعزب، وإلا فأيام تلك الغزوة لم تطل، فإنها كانت ثمانية وعشرين يوما قال أبو سعيد رضي الله عنه: فقدم علينا وفدهم: أي بالمدينة. ففي الإمتاع وكانوا قدموا المدينة ببعض السبي، فقدم عليهم أهلوهم فاقتدوا الذرية والنساء، كل واحد بست فرائض، ورجعوا إلى بلادهم. قال أبو سعيد رضي الله عنه: وخرجت بجارية أبيعها في السوق: أي قبل أن يقدم وفدهم في فدائهم فقال لي يهودي: يا أبا أسعيد تريد بيعها وفي بطنها منك سخلة هي في الأصل ولد الغنم، فقلت: كلا، إني كنت أعزل عنها، فقال: تلك الوأدة الصغرى: أي المرة من الوأد، وهو أن يدفن الرجل بنته حية، فالموؤودة البنت تدفن في القبر وهي حية، كانت الجاهلية خصوصا كندة تفعل ذلك، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرته، فقال: كذبت يهود، كذبت يهود، زاد في رواية «لو أراد

الله عز وجل أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه» وبهذا مع ما تقدم من نفي الحرج استدل أئمتنا رحمهم الله على جواز العزل مع الكراهة في كل امرأة سرية أو حرة في كل حال، سواء رضيت أم لا؛ وقال جمع بحرمته، قالوا لأنه طريق إلى قطع النسل، وفي مسلم ما يوافق ما قالته يهود. ففي مسلم «سألوه صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي» أي بمثابة دفن البنت حية الذي كان يفعله الجاهلية خوف الإملاق أو خوف حصول العار. إلا أن يقال: هذا كان منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه بحل ذلك ثم نسخ فلا مخالفة. ويدل لذلك ما في مسلم أيضا عن جابر رضي الله عنه: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل فلم ينهنا» . وفي رواية «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية هي خادمنا وساقيتنا في النخل، وأنا أكره أن تحمل، فقال صلى الله عليه وسلم: أعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل ثم أتاه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الجارية قد حبلت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها» فقد أرشده صلى الله عليه وسلم إلى العزل الذي لا يكون معه الولد غالبا، وأخبر بأن ذلك لا يمنع وجود ما قدر لها من حصول الولد. وعن عبد الله بن زياد رضي الله عنه. قال «أفاء» أي غنم «رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة بني المصطلق جويرية بنت الحارث، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقبل أبوها في فدائها، فلما كان بالعقيق نظر إلى إبله التي يفدي بها ابنته فرغب في بعيرين منها كانا من أفضلها، فعقبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أصبتم ابنتي. وفي رواية قال: يا رسول الله كريمة لا تسبى وهذا فداؤها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين البعيران اللذان عقبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أنك رسول الله، ما اطلع على ذلك إلا الله وأسلم» ولعله دخل بالأمان إلى المدينة. وفي رواية: أنه أسلم قبل ذلك وأسلم معه ابنان وناس من قومه وعليه فيكون قوله فأسلم: أي أظهر إسلامه، وعند ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخيرها، فقالت: أحسنت وأجملت، فقال لها أبوها: يا بنية لا تفضحي قومك، قالت اخترت الله ورسوله. وفيه كيف يأمره صلى الله عليه وسلم بتخييرها بعد أن تزوجها، كما تقدم أن مقتضى السياق أنه تزوجها وهم على الماء. ثم رأيت الإمام أبا العباس بن تيمية أنكر مجيء أبيها وتخييرها فليتأمل. وفي الاستيعاب: أن عبد الله بن الحارث أخا جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بني المصطلق وغيب في الطريق ذودا وجارية سوداء، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء الأسارى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم فما جئت به؟ قال: ما جئت بشيء قال: فأين الذود والجارية السوداء الذي غيبت في

موضع كذا؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما كان معي أحد ولا سبقني إليك أحد فأسلم. وفيه ما تقدّم في أبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك الهجرة حتى تبلغ برك الغماد، هذا كلامه. والذود: من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر. والمتبادر من هذا السياق أنه جاء بذلك الذود وتلك الجارية للفداء، فعنّ له أن يسأل في الفداء من غير شيء، فغيب ذلك الذود وتلك الجارية طمعا في أنه صلى الله عليه وسلم يجيبه لذلك لمكان أخته عنده. ويحتمل أن العبارة فيها اختصار، وحينئذ يكون الأصل في قوله صلى الله عليه وسلم فما جئت به المال الزائد على هذا الذي جئت به، فيكون الذود والجارية بعض ما جاء به للفداء؛ فقال: ما جئت بشيء: أي زائد على هذا الذي جئت به لأنه يبعد أن يطلب الفداء من غير شيء فليتأمل. وفي لفظ أنه لما جاء أبوها في فدائها دفعت إليه ابنته جويرية وأسلمت وحسن إسلامها فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فزوّجه إياها وأصدقها أربعمائة درهم. وفي الإمتاع يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل صداقها عتق كل أسير من بني المصطلق. ويقال جعل صداقها عتق أربعين من قومها، ولا يخفى أن مجيء أبيها في فدائها وتزويجها للنبي صلى الله عليه وسلم مخالف لسياق ما تقدم أنه تزوجها وهم على الماء، ويحتاج للجمع بين ما ذكر وبين ما روي أنه لما رأى المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية قال في حق بني المصطلق: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقوا ما بأيديهم منهم. وعبارة الإمتاع: ولما تزوّجها صلى الله عليه وسلم، خرج الخبر إلى الناس وقد اقتسموا رجال بني المصطلق وملكوهم ووطئوا نساءهم، فقالوا أصهار النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي. وعن جويرية رضي الله تعالى عنها قالت: لما أعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوّجني، والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله سبحانه وتعالى. أقول: وذكر بعضهم أن ليلة دخوله صلى الله عليه وسلم بها طلبتهم منه فوهبهم لها ويحتاج للجمع، ويقال في الجمع بين ما تقدم من فدائهم وإطلاقهم من غير فداء بأنه يجوز أن يكون الفداء وقع لبعضهم قبل عتق جويرية والتزوّج بها، فلما تزوّجها صلى الله عليه وسلم أطلق بعضهم الآخر الباقي، فالفداء وقع لبعضهم والإعتاق وقع لبعضهم الآخر، فإن السبي كان لأهل مائتي بيت. ويؤيد ذلك قول بعضهم: كان السبي منهم من منّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فداء ومنهم من افتدى. ويؤيد ذلك ما يأتي في كلام عائشة رضي الله تعالى عنها أن الإعتاق كان لأهل مائة بيت، أي فيكون الفداء لأهل مائة بيت والإطلاق في الفداء لأهل المائة الأخرى، ويكون مراد جويرية رضي الله عنها

بقولها «ما كلمته في قومي» أي فيمن بقي منهم. ثم لا يخفى أن مجيء أبيها أو أخيها ومجيء وفدهم لفدائهم مخالف لما تقدم من أنه أسر سائرهم: الرجال والنساء والذرية، ولم يفلت منهم أحد، ويبعد غياب هؤلاء خصوصا أباها الذي كان يجمع القوم، فعليك أن تتنبه للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها والله أعلم. ثم بعد ذلك أسلم بنو المصطلق. وبعد بعامين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط لأخذ الصدقة: أي وكان بينهم وبينه شحناء في الجاهلية، فخرجوا للقائه وهم متقلدون السيوف فرحا وسرورا بقدومه، فتوهم أنهم خرجوا لقتاله ففر راجعا، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ارتدوا، فهمّ عليه الصلاة والسلام بقتالهم: أي وأكثر المسلمون ذكر غزوهم، فعند ذلك قدم وفدهم وأخبروا بأنهم خرجوا إليه ليكرموه ويؤدوا ما عليهم من الصدقة. أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم خالد بن الوليد فأخبروه الخبر. وعند إرساله قال له صلى الله عليه وسلم أرمقهم عند الصلاة فإن كان القوم تركوا الصلاة فشأنك بهم، فدنا منهم عند غروب الشمس، فكمن حيث يسمع الصلاة، فإذا هو بالمؤذن قد قام حين غربت الشمس فأذن ثم أقام الصلاة فصلوا المغرب، ثم لما غاب الشفق أذن مؤذنهم ثم أقام الصلاة فصلوا العشاء، ثم لما كان جوف الليل فإذا هم يتهجدون ثم عند طلوع الفجر أذن مؤذنهم وأقام الصلاة فصلوا، فلما انصرفوا وأضاء النهار فإذا هم بنواصي الخيل في ديارهم. فقالوا ما هذا؟ قيل خالد بن الوليد. فقالوا يا خالد ما شأنك؟ قال: أنتم والله شأني، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله، فجثوا يبكون وقالوا معاذ الله، وهذا الوليد بيننا وبينه شحناء في الجاهلية، وإنما خرجنا بالسيوف خشية أن يكافئنا بالذي كان بيننا وبينه، فرد الخيل عنهم ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ [الحجرات: الآية 6] الآيتين. قال ابن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات: الآية 6] نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق لأخذ صدقاتهم: أي ونزل فيه وفي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) [السّجدة: الآية 18] أي فكان يدعى الفاسق، وبعثه لأخذ صدقات بني المصطلق يرد قول من قال إنه ممن أسلم يوم الفتح، وكان قد ناهز الحلم. أي ويرد ما روى بعضهم عنه أنه قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم بالبركة فأتي بي إليه وأنا مضمخ بالخلوق، فلم يمسح على رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا وجود الخلوق.

ويرد ذلك أيضا ما سيأتي أنه خرج هو وأخوه عمارة ليرد أختهما أم كلثوم عن الهجرة وكانت هجرتها في الهدنة: هدنة الحديبية. والوليد هذا كان أخا عثمان بن عفان لأمه وولاه الكوفة: أي وعزل عنها سعد بن أبي وقاص، فلما قدم الوليد الكوفة على سعد رضي الله عنه قال له: والله ما أدري أصرت كيسا بعدنا أم حمقنا بعدك، فقال له: لا تجزعنّ أبا إسحاق وإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون، فقال سعد: أراكم- يعني بني أمية- ستجعلونها والله- يعني الخلافة- ملكا، وعند ذلك قال الناس: بئسما فعل عثمان رضي الله عنه، عزل سعدا الهين اللين الورع المستجاب الدعوة، وولى أخاه الخائن الفاسق كما تقدم. ولقي الوليد ابن مسعود رضي الله عنه فقال له: ما جاء بك؟ فقال: جئت أميرا. فقال له ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس؟ وكان الوليد شاعرا ظريفا حليما شجاعا كريما، شرب الخمر ليلة من أول الليل إلى الفجر، فلما أذن المؤذن لصلاة الفجر خرج إلى المسجد وصلى بأهل الكوفة الصبح أربع ركعات، وصار يقول في ركوعه وسجوده اشرب واسقني، ثم قاء في المحراب، ثم سلم وقال: هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا، وأخذ فردة خفه وضرب بها وجه الوليد، وحصبه الناس، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو مترنح، وإلى ذلك يشير الحطيئة بقوله: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم سكرا وما يدري ولما شهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان بن عفان رضي الله عنه استقدمه، وأمر به فجلد: أي أمر عليا كرم الله وجهه أن يقيم عليه الحدّ فجلده. وقيل: فقال عليّ كرم الله وجهه لابن أخيه عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: أقم عليه الحدّ أي بعد أن أمر ابنه الحسن رضي الله عنه بذلك فامتنع، فأخذ عبد الله رضي الله عنه السوط وجلده وعليّ كرم الله وجهه يعدّ عليه حتى بلغ أربعين. فقال لعبد الله: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين، وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين، وكل سنة. وهذا: أي ما فعلته من جلده أربعين أحبّ إليّ من جلد عمر ثمانين. هذا، وفي البخاري أن عبد الله جلده ثمانين. وأجيب عنه بأن السوط كان له رأسان وحينئذ يكون قوله «وكل سنة» أي طريقة، فأربعون طريقته صلى الله عليه وسلم. وطريقة الصديق رضي الله عنه، والثمانون طريقة عمر رضي الله عنه رآها اجتهادا مع استشارته

لبعض الصحابة في ذلك، لما رآه من كثرة شرب الناس للخمر. وبعد أن جلده وعزله عن الكوفة أعاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ولما أراد سعد أن يصعد المنبر قال: لا أصعد عليه حتى تغسلوه من آثار الوليد الفاسق فإنه نجس فغسلوه كما تقدم. وإرسال الوليد بن عقبة لبني المصطلق كان ينبغي أن يذكر في السرايا، وكذا إرسال خالد رضي الله عنه لهم. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها من جويرية، أعتق بتزويجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مائة بيت، أي ومن المعلوم أن هذا كان قبل سبايا أوطاس الذين أطلقوا بسبب أخته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة على ما سيأتي في بعض الروايات وقيل في حقها: ما عرفت امرأة هي أيمن على قومها منها. وذكرت جويرية رضي الله عنها أنها قبل قدومه صلى الله عليه وسلم عليهم بثلاث ليال رأت كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجرها. أي وعنها رضي الله عنها قالت: فكرهت أن أخبر بها أحدا من الناس، فلما سبينا رجوت الرؤيا. قال وعنها رضي الله عنها أنها قالت: لما أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على المريسيع، فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به فلبثت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعلمت أنه رعب من الله تعالى يلقيه في قلوب المشركين، أي وهذا مما يؤيد ما تقدّم من أنه صلى الله عليه وسلم تزوّجها وهم على الماء الذي هو المريسيع، وكان رجل منهم ممن أسلم وحسن إسلامه يقول: لقد كنا نرى رجالا بيضا على خيل بلق ما كنا نراهم قبل ولا بعد انتهى. وهو يدل على أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانت مددا لهم في هذه الغزوة. ولم يقتل في غزوة بني المصطلق من المسلمين إلا رجل واحد قتله رجل من الأنصار خطأ يظنه من العدوّ، والمقتول هشام بن صبابة رضي الله تعالى عنه. أقول: وهذا مجمل قول الحافظ الدمياطي رحمه الله في سيرته: إنه لم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد فاعتراض صاحب الهدى عليه بأن هذا وهم لأنهم لم يكن بينهم قتال ليس في محله، لأنه فهم أن الرجل قتله الكفار، وقد علمت أنه إنما قتله شخص من الأنصار يظنه من العدوّ، والله أعلم، وقدم أخو هذا المقتول من مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهرا الإسلام وقال: جئت أطلب دية أخي، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه، فأخذها مائة من الإبل، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدا، ويوم فتح مكة أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه،

فقتل في ذلك اليوم كما سيأتي. وما هنا هو الصحيح خلافا لما يأتي عن الأصل في فتح مكة أن قتل أخيه كان في غزوة ذي قرد ثم بعد انقضاء الحرب وهم على الماء اختصم أجير لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أي كان يقود له فرسه يقال له جهجاه رضي الله عنه مع رجل من حلفاء الخزرج، قيل حليف عمرو بن عمرو، وقيل حليف عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وهو سنان بن فروة رضي الله عنه، أي فضرب أجير عمر رضي الله عنه حليف الخزرج فسال الدم، وفي لفظ: كسعه، أي دفعه، فنادى حليف الخزرج؛ يا معشر الأنصار، أي وقيل قال: يا للخزرج، ونادى أجير عمر يا معشر المهاجرين، وقيل قال: يا لكنانة يا لقريش، فأقبل جمع من الجيشين، وشهروا السلاح حتى كاد أن تكون فتنة عظيمة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ فأخبر بالحال. أي فقالوا رجل من المهاجرين ضرب رجلا من الأنصار. فقال صلى الله عليه وسلم: دعوها، أي تلك الكلمة التي هي يا لفلان فإنها منتنة، أي مذمومة لأنها من دعوى الجاهلية، وجاء «من دعا دعوى الجاهلية كان من محشي جهنم» أي مما يرمى به فيها «قيل: يا رسول الله وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم، قال: وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم» وقال صلى الله عليه وسلم «لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه ناصر، أي له، وإن كان مظلوما فلينصره» أي يزيل ظلامته، ثم كلموا ذلك المضروب فترك حقه، فسكنت الفتنة وانطفت ثائرة الحرب. وجهجاه هذا روى عنه عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد» وهو المراد بهذا الحديث في كفره وإسلامه، لأنه شرب حلاب سبع شياه قبل أن يسلم ثم أسلم، فلم يستتم حلاب شاة واحدة، أي وسيأتي نظير ذلك لثمامة الحنفي. ونقل أبو عبيد أن الرجل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة هو أبو بصرة الغفاري، أي ولا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حق الرجل المذكور أيضا، فقد تكرر منه صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات لرجال ثلاثة أكل كل واحد منهم في الكفر أكثر مما أكل في الإسلام. قال ابن عبد البر رحمه الله: وجهجاه هذا هو الذي تناول عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يد عثمان رضي الله عنه وهو يخطب فكسرها على ركبته، فأخذته أكلة في ركبته فمات منها، هذا كلامه. وفي كلام السهيلي رحمه الله أنه انتزع تلك العصا من عثمان حين أخرج من المسجد ومنع من الصلاة فيه؛ وكان هو أحد المعينين عليه هذا كلامه.

وقد يقال: لا مخالفة بين كونه أخذ العصا منه وهو يخطب وبين كونه أخذها حين أخرج من المسجد، لأنه يجوز أن يكون أخرج من المسجد في أثناء الخطبة وأخذت العصا منه حينئذ. وعند تخاصم الرجلين غضب عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكان عنده رهط من قومه من الخزرج من المنافقين، وكان عندهم زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه وهو غلام حديث السن، فقال عبد الله بن أبيّ لعنه الله: والله ما رأيت كاليوم مذلة، أو قد فعلوها؟ نافرونا، أي غلبونا وكاثرونا في بلادنا، أي وأنكرونا ملتنا، والله ما أعدّنا: أي أظننا يعني معاشر الأنصار وقريش. وفي رواية: وجلابيب قريش، هؤلاء يعني معاشر المهاجرين إلا كما قال الأول، أي الأقدمون في أمثالهم: سمن كلبك يأكلك، أي ويقولون: أجع كلبك يتبعك، والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما سمعت أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعني بالأعز نفسه، وبالأذل النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الاستيعاب أن عبد الله بن أبيّ قال ذلك في غزوة تبوك، هذا كلامه، وفيه نظر ظاهر. والجلابيب: جمع جلبيب ما يجلب من بلد إلى غيره يعني أغراب. وقيل شبهوا بالجلابيب التي هي الأزر الغلاظ القليلة القيمة. ثم أقبل على من حضر من قومه. فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، أي ثم لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا فقتلتم دونه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فأيتمتم أولادكم، وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من عند محمد صلى الله عليه وسلم، فسمع ذلك زيد بن أرقم رضي الله عنه على ما هو الصحيح، وقيل سفيان بن تيم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي ونفر من المهاجرين والأنصار. وفي البخاري عن زيد بن أرقم رضي الله عنه «فذكرت ذلك لعمي أو لعمر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فدعاني فحدثته، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وتغير وجهه، وقال له: يا غلام لعلك غضبت عليه، قال: والله يا رسول الله لقد سمعته منه، قال: لعله أخطأ سمعك، ولامه من حضر من الأنصار، وقالوا: عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل» . أي وفي البخاري «فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأصابني همّ لم يصبني مثله قط، وجلست في البيت» أي الخباء «فقال لي عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومقتك، فقال زيد: والله لقد سمعت ما قال، ولو سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرجو أن ينزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يصدق حديثي» . أي وقيل إن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال لابن أبيّ لما قال أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل: أنت والله الذليل المنقص في قومك: ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن وقوة من المسلمين، فقال له ابن أبيّ لعنه الله: اسكت، فإنما كنت ألعب، فعند تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه عمر رضي الله عنه في أن يقتل ابن أبي، والتمس منه أن يأمر غيره بقتله إذا لم يأذن له في ذلك. أي فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان من أمر ابن أبيّ ما كان، جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فيء شجرة: أي ظلها، عنده غليم أسود يغمز ظهره أي يكبسه. فقلت يا رسول الله كأنك تشتكي ظهرك: فقال تقحمت بي الناقة: أي ألقتني الليلة، فقلت يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنق ابن أبيّ، أو مر محمد بن مسلمة بقتله. أي وفي رواية مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يا عمر إذا تحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه. وفي لفظ أن عمر رضي الله عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصاريا؛ فقال: ترعد له أذن وأنف كثيرة بيثرب يعني المدينة، ولعل تسميته صلى الله عليه وسلم لها بذلك إن كان بعد النهي لبيان الجواز. ويبعد أن يكون ذلك كان قبل النهي عن ذلك ولكن أذن بالرحيل، وكان ذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها. أي وفي رواية: لما شاع الخبر ولم يكن للناس حديث في ذلك اليوم. أي الوقت إلا ذلك، أذن بالرحيل، وكانت ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحل فيها، أي لشدة الحر، فارتحل الناس وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه أسيد بن حضير رضي الله عنه فحياه بتحية النبوّة وسلم عليه، أي قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقال: يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها، أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرحل إلا إن برد الوقت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بلغك ما قال صاحبكم، فقال: أي صاحب يا رسول الله؟ قال عبد الله بن أبي ابن سلول، قال وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل، قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله أرفق به فو الله لقد جاء الله بك. وفي رواية لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، ما بقيت عليهم إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي، فإنه ليرى أنك استلبته ملكا، وقد تقدم الاعتذار عنه بذلك في غير ما مرة.

ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس سيرا حثيثا أي صار يضرب راحلته بالسوط في مراقها: أي مارق من جلد أسفل بطنها، وسار يومهم ذلك وليلتهم، وصدر ذلك اليوم الثاني حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما، وإنما فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ليشتغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي ابن سلول. قال وذهب بعض الأنصار الذين سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ورده على الغلام إلى ابن أبي لعنه الله. فقال له: يا أبا الحباب إن كنت قلت ما نقل عنك فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فليستغفر لك، ولا تجحده فينزل فيك ما يكذبك وإن كنت لم تقله فائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر له واحلف له ما قلته، فحلف بالله العظيم ما قاله من ذلك شيئا، ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن أبيّ إن كانت سبقت منك مقالة فتب، فجعل يحلف بالله ما قلت ما قال زيد، وما تكلمت به انتهى. أي وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى ابن أبي فأتاه، فقال له: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني عنك؟ فقال: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا لكاذب، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل. أي، وفي لفظ أنهم قالوا: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا يصدق عليه كلام غلام. ثم إن عبد الله رضي الله عنه ولد عبد الله بن أبي ابن سلول، أي وكان اسمه الحباب، فسماه صلى الله عليه وسلم يوم موت أبيه عبد الله لما بلغه مقالة عمر رضي الله عنه من قتل أبيه، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي يعني والده فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني أن أحمل لك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. قال وفي رواية، فمرني، فو الله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النار، فعفوك أفضل، ومنتك أعظم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت قتله، ولا أمرت به ولنحسنن صحبته ما كان بين أظهرنا، فقال عبد الله: يا رسول الله إن أبي كانت أهل هذه البحيرة أي المدينة، اتفقوا على أن يتوّجوه عليهم، فجاء الله عز وجل بك فوضعه ورفعنا بك، أي زاد في رواية: ومعه قوم أي من المنافقين يطيفون به ويذكرونه أمورا قد غلب الله عليها، وتقدم أنه وقع لعبد الله رضي الله عنه مثل ذلك مع أبيه.

روى الدارقطني مسندا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على جماعة فيهم عبد الله بن أبي، فسلم عليهم ثم ولى، فقال عبد الله: لقد عثا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبد الله، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأتيه برأس أبيه، فقال لا ولكن بر أباك، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب المدينة هاجت ريح شديدة تخوفوها كادت تدفن الراكب» أي خافوا أن تكون لأمر حدث بالمدينة على أهلهم، فإن مدة الموادعة التي كانت بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيينة بن حصن كان ذلك حين انقضائها، فخافوا على المدينة منه «فقال صلى الله عليه وسلم: ليس عليكم منه» يعني من عيينة بن حصن «بأس، ما بالمدينة من نقب» أي باب «إلا وملك يحرسه، وما كان ليدخلها عدو حتى تأتوها، ولكن تعصف هذه الريح لموت عظيم من الكفار» وفي رواية «لموت منافق» وفي لفظ «مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة» فكان كما قال صلى الله عليه وسلم مات في ذلك اليوم زيد بن رفاعة بن التابوت وكان كهفا للمنافقين، كان من عظماء يهود بني قينقاع وكان ممن أسلم ظاهرا، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله: وقد عصفت ريح فأخبرت أنها ... لموت عظيم في اليهود بطيبة قال: وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموته، فقد جاء أن عبادة بن الصامت قال لابن أبي: يا أبا حباب مات خليلك قال: أيّ خليل؟ قال: من موته فتح للإسلام وأهله، قال: من؟ قال: زيد بن رفاعة. قال: واويلاه من أخبرك يا أبا الوليد بموته؟ قال، قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه مات هذه الساعة، فحزن حزنا شديدا. انتهى وذكر أهل المدينة أن هذه الريح وجدت بالمدينة، وأنه لما دفن عدوّ الله سكنت. أقول لكن في كلام ابن الجوزي رفاعة بن زيد بن التابوت، وهو عمّ قتادة بن النعمان، قد ذكر عنه قتادة رضي الله تعالى عنه ما يدل على صحة إسلامه. أي وقد يقال: جاز أن يكون أظهر ذلك لقتادة ليظن به ما ظنه من صحة إسلامه. قال ابن الجوزي: ولهم رفاعة بن التابوت معدود في الصحابة ذكره في الإصابة. قال: جاء ذكره في حديث مرسل، كانوا في الجاهلية إذا أحرموا لم يأتوا بيتا من قبل بابه، ولكن من قبل ظهره، إلا الحمس فإنها كانت تأتي البيوت من أبوابها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا ثم خرج من بابه، فأتبعه رجل يقال له رفاعة بن التابوت ولم يكن من الحمس. فقالوا: يا رسول الله نافق رفاعة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت ولم تكن من الحمس؟ قال: فإن ديننا واحد، فنزلت وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة: الآية 189] وسيأتي نحو هذه القصة لقطبة بن عامر ولعلها وقعت لهما.

وأما الحديث الذي أخرجه مسلم «إن ريحا عظيمة هبت فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها هبت لموت منافق عظيم النفاق» وهو رفاعة بن التابوت، فهو آخر غير هذا. فقد جاء من وجه آخر «رافع بن التابوت» أي فذكر رفاعة بدل رافع من تصرف بعض الرواة. وذكر في الإصابة أن رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان رضي الله عنه لم يوصف بأنه ابن التابوت كما ذكره ابن الجوزي، أي فوصفه بابن التابوت من تصرف بعض الرواة، فليتأمل والله أعلم. وعن جابر رضي الله عنه قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فهاجت ريح منتنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ناسا من المنافقين اغتابوا ناسا من المؤمنين فلذلك هاجت هذه الريح» ولم يعين جابر السفرة، فيحتمل أن تكون هي هذه الغزوة وهو ظاهر سياقها فيها. ويحتمل أن تكون غيرها، وفقدت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء من بين الإبل: أي ليلا. فجعل المسلمون يطلبونها من كل وجه، فقال زيد بن الصلت وكانت منافقا كما علمت من بني قينقاع وكان بمجمع من الأنصار: أي يذهب هؤلاء في كل وجه، قالوا يطلبون ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضلت، قال: أفلا يخبره الله بمكانها، أي وفي لفظ: كيف يدعي أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ولا يخبره الذي يأتيه بالوحي، فأنكر عليه القوم؛ وقالوا قاتلك الله يا عدوّ الله نافقت، وأرادوا قتله فعمد هاربا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متعوذا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذلك الرجل يسمع: إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ألا يخبره الله بمكانها، والله قد أخبرني بمكانها، ولا يعلم الغيب إلا الله، وإنها في الشعب مقابلكم، قد مسك زمامها بشجرة، فاعمدوا نحوها، فذهبوا فأتوا بها من حيث قال صلى الله عليه وسلم، فقام ذلك الرجل سريعا إلى رفقائه، فقالوا له حين دنا لا تدن منا، فقال لهم: أنشدكم الله، هل أتى أحد منكم محمدا فأخبره خبري، قالوا: لا والله، ولا قمنا من مجلسنا، فقال: إني وجدت ما تكلمت به عنده، فأشهد أن محمدا رسول الله كأني لم أسلم إلا اليوم فقالوا له: فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فذهب إليه واعترف بذنبه واستغفر له، قال: ويقال إنه لم يزل فشلا أي جبانا حتى مات ووقع مثل هذا أي هبوب الريح وإضلال ناقته صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. وأوقع صلى الله عليه وسلم السباق بين الإبل، فسابق بلال رضي الله عنه على ناقته صلى الله عليه وسلم القصواء فسبقت غيرها من الإبل، وسابق أبو سعيد الساعدي رضي الله عنه على فرسه صلى الله عليه وسلم الذي يقال له الظرب فسبق غيره من الخيل اهـ. أي وجاء أن ناقته صلى الله عليه وسلم العضباء كانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم «حقّ على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه» اهـ.

أقول في الإمتاع: أنه صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة تسابق مع عائشة رضي الله عنها فتحزمت بقبائها، وفعل كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استبقا فسبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: هذه بتلك التي كنت سبقتني، يشير صلى الله عليه وسلم إلى أن جاء إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه فوجد مع عائشة شيئا فطلبه منها فأبت وسعت، وسعى صلى الله عليه وسلم خلفها فسبقته. هذا. وفي كلام ابن الجوزي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال للناس: تقدموا فتقدموا. ثم قال: تعالى حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم وخرجت معه في سفرة أخرى. فقال للناس: تقدموا، فتقدموا. ثم قال لي تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك» فليتأمل. قال: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي العقيق تقدّم عبد الله رضي الله عنه ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلول وجعل يتصفح الركاب حتى مرّ أبوه، فأناخ به ثم وطىء على يد راحلته، فقال أبوه ما تريد يا لكع، فقال: والله لا تدخل حتى تقرّ أنك الذليل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتعلم أيضا الأعز من الأذل، أنت أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصار يقول لأنا أزل من الصبيان، لأنا أزل من النساء، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خلّ عن أبيك، فخلى عنه. أي وفي لفظ أنه لما جاء قال له ابنه: وراءك قال: ما لك ويلك قال: والله لا تدخلها يعني المدينة حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم اليوم من الأعز من الأذل: وفي لفظ: حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنت الأذل، فقال له: أنت من بين الناس، فقال: نعم أنا من بين الناس، وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكا له ما صنع ابنه رضي الله عنه، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى ابنه أن خلّ عنه. وفي لفظ قال له ابنه رضي الله عنه: لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك، فقال: ويحك أفاعل أنت؟ قال نعم، ولما رأى منه الجد قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنه: جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا. وأنزل الله تعالى سورة المنافقين. قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذه البرحاء، ويعرق جبينه الشريف، وتثقل يدا راحلته، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ورجوت أن ينزل الله تصديقي. فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بأذني وأنا على راحلتي يرفعها إلى السماء حتى ارتفعت عن مقعدي وهو يقول: وعت أذنك يا غلام، وصدق الله حديثك، وكذب المنافقين. وفي رواية «هذا الذي أوفى الله بأذنه، ونزل وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقّة: الآية 12] فكان يقال لزيد بن أرقم رضي الله عنه ذو الأذن الواعية» . وذكر بعض الرافضة أن قوله تعالى وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقّة: الآية 12] جاء في

الحديث أنها نزلت في علي كرم الله وجهه. قال الإمام ابن تيمية: وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم: أي وعلى تقدير صحته لا مانع من التعدد. وصار قوم عبد الله بن أبي عند نزول سورة المنافقين يعاتبونه ويعنفونه، ولما بلغه صلى الله عليه وسلم أي بغض قومه له ومعاتبتهم له، قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: كيف ترى يا عمر، إني والله لو قتلته يوم قلت لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته، فقال عمر رضي الله عنه: وقد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري اهـ. وجاء «أنه لما نزلت سورة المنافقين وفيها تكذيب ابن أبيّ، قال له أصحابه: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة أموالي فأعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [المنافقون: الآية 5] الآية» . وفي تفسير القرطبي عند قوله تعالى لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [المجادلة: الآية 22] قال السدي: نزلت في عبد الله بن أبيّ، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: بالله يا رسول الله، أما أبقيت فضلة من شرابك أسقها أبي لعل الله يطهر بها قلبه، فأفضل له فأتاه بها؟ فقال له عبد الله: ما هذا؟ فقال هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها، فقال له أبوه، فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله بالله أما أذنت لي في قتل أبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل ترفق به وتحسن إليه. وقد جاء أن ابنه رضي الله عنه قال: يا رسول الله ذرني أسقي والدي من وضوئك لعل قلبه أن يلين، فتوضأ صلى الله عليه وسلم وأعطاه فذهب به إلى أبيه، فسقاه وقال له هل تدري ما سقيتك؟ قال: نعم، سقيتني بول أمك، قال: لا والله لكن سقيتك بول رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة هلال رمضان، فكانت غيبته ثمانية وعشرين ليلة. قال: وفي هذه الغزوة جاءت امرأة بابن لها وقالت يا رسول الله هذا ابني غلبني عليه الشيطان، ففتح صلى الله عليه وسلم فم الولد وبزق فيه وقال: اخسأ عدو الله، أنا رسول الله، قال ذلك ثلاثا. ثم قال للمرأة: شأنك بابنك، لن يعود إليه شيء مما كان يصيبه» . وفي هذه الغزوة «جاء شخص بثلاث بيضات له صلى الله عليه وسلم من بيض النعام فقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات. قال جابر: فعملتهنّ ثم جئت بهنّ، فجعلنا نطلب خبزا فلم نجد، فجعل كلّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكل من ذلك بغير خبز حتى انتهى كل إلى حاجته والبيض كما هو» . وفي هذه الغزوة «جاء جمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفل» أي يختال في

مشيه «وصوت، فقال صلى الله عليه وسلم: تدرون ما يقول هذا الجمل؟ هذا يستعيذني على سيده، يقول: إنه كان يحرث عليه، وإنه أراد أن ينحره، اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به، فقلت: لا أعرفه، قال: إنه سيدلك عليه، فخرج بين يديّ حتى وقف على صاحبه فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في شأن الجمل» اهـ. أقول: وقد تقدمت هذه الأمور الثلاثة التي هي قصة ابن المرأة، وقصة البيض، وقصة الجمل في ذات الرقاع، والتعدد فيهما حتى لأجل هذه الأمور سميت كل منهما بغزوة الأعاجيب بعيد. والذي أراه أنه اشتباه من بعض الرواة فليتأمل. وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك: أي الكذب على عائشة الصديقة المبرأة المطهرة رضي الله عنها قالت «لما دنونا من المدينة قافلين» أي راجعين «أذن ليلة بالرحيل، فقمت وذهبت لأقضي حاجتي حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع أظفار» كذا بالألف عند البخاري. وفي رواية «ظفار» بغير ألف. قال القرطبي: ومن قيده بالألف فقد أخطأ، أي ولعل المراد خالف الرواية، وفي لفظ «ظفاريّ» أي بياء النسبة. وفي لفظ «الجزع الظفري» . وقد يقال: لا مانع من وقوع هذه الألفاظ من الصديقة في أوقات مختلفة. قال بعضهم: الجزع بفتح الجيم وإسكان الزاي وآخره عين مهملة خرز «وطفار» بالطاء المعجمة كوبار مبنية على الكسر: قرية من قرى اليمن كان ثمنه يسيرا. وفي كلام بعضهم: كان يساوي اثني عشر درهما «قد انقطع، فالتمست عقدي» أي ذهبت إلى التماسه في المحل الذي قضيت فيه حاجتي وحبسني التماسه «أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي» هو بتخفيف الحاء: أي يجعلون هودجها على الرحل، «فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لقلة أكلهنّ» أي لأن السمن وكثرة اللحم غالبا تنشأ عن كثرة الأكل «وساروا» . أي وعن عائشة رضي الله عنها أن الذي كان يرحل هودجها ويقود عبيرها أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا صالحا. ولا يخالف هذا قولها وأقبل الرهط إلى آخره. وقولها في بعض الروايات «ولم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه» لأنه يجوز أن جماعة كانوا يعاونون أبا مويهبة في ذلك «فوجدت عقدي، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، وأقمت بمنزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان السلمي خلف الجيش» : أي لأنه كان على ساقة الجيش يتخلف عن الجيش ليلتقط ما يسقط من المتاع. وقيل كان ثقيل النوم لا يستيقظ حتى يرتحل الناس. وقد جاء «أن زوجته شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: إنه لا يصلي الصبح،

فقال: يا رسول الله إني امرؤ ثقيل النوم لا أستيقظ حتى تطلع الشمس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استيقظت فصلّ» أي وفي رواية «شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يضربها، فقال: إنها تصوم بغير إذني، فقال لها لا تصومي إلا بإذنه قالت: إنه ينام عن الصلاة، أي صلاة الصبح، قال إنه شيء ابتلاه الله به، فإذا استيقظ فليصلّ» وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم من حاله أنه ينام عن صلاة الصبح «قالت إنه إذا سمعني أقرأ يضربني فقال: إن معي سورة ليس معي غيرها هي تقرؤها، قال: لا تضربها، فإن هذه السورة لو قسمت في الناس لوسعتهم» أي وهذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم يدل على أن صفوان ظنّ أن امرأته إذا قرأت تلك السورة شاركته في ثوابها فليتأمل. «فأدلج: أي سار ليلا فأصبح عند منزلي» أي على خلاف عادته «فرأى سوادا» أي شخص إنسان نائم «فأتاني فعرفني، فاستيقظت باسترجاعه» أي بقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: الآية 156] أي لأن تخلف أمّ المؤمنين عن الرفقة في مضيعة: مصيبة أي مصيبة، قالت: فخمرت وجهي بجلبابي» وهو ثوب أقصر من الخمار، ويقال له المقنعة تغطي بها المرأة رأسها: أي لأن ذلك كان بعد نزول آية الحجاب أي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب: الآية 53] الآية أي لأنه تقدم أن ذلك كان في سنة ثلاث على الراجح عند الأصل. وفي الإمتاع وذكر بعض علماء الأخبار أن تزوجه صلى الله عليه وسلم زينب التي نزلت آية الحجاب بسببها كان في ذي القعدة سنة خمس، ولا يخفى أن هذا القول ينافيه ما يأتي عن عائشة رضي الله عنها من قولها «إن زينب هي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم» إذ هو صريح في أنها كانت زوجة له صلى الله عليه وسلم قبل هذه الغزوة بناء على أن هذه الغزوة كانت سنة ست. «قالت والله ما كلمني» وفي لفظ «والله ما يكلمني كلمة، وما سمعت منه كلمة» أي فلا كلمها ولا كلم نفسه، قيل استعمل الصمت أدبا لهول هذا الأمر الذي هو فيه، فلم يقع منه غير الاسترجاع حين أناخ ناقته فوطىء على يدها فركبتها. وفي رواية «ثم قرب البعير، فقال اركبي أي وفي لفظ قال أمه قومي فاركبي، وأخذ برأس البعير» وجاء «أنها لما ركبت، قالت حسبي الله ونعم الوكيل» . وفي سيرة ابن هشام «أنه لما قال لها ما خلفك يرحمك الله؟ قالت فما كلمته» أي ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات الثلاث وما قبلها على تقدير صحتها. وقد يقال إنها لم تسمع منه غير استرجاعه ولا كلمها ولا تكلم قبل أن يقرب إليها البعير كما علمت، فلما قرب البعير إليها، قال لها: يا أمه قومي فاركبي» لأن إناخة البعير وتقريبه ليس صريحا في الإذن لها في الركوب. فأتى بذلك اللفظ الدالّ على مزيد احترامها وإجلالها وتعظيمها. وبعض الرواة اقتصر على قولها اركبي «وبعد

أن ركبت، أي وحصلت الطمأنينة، واندفعت الريبة، قال لها متعجبا لا مستفهما: ما خلفك؟ قالت: فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا، وذلك في نحر الظهيرة» أي وسطها «وهو بلوغ الشمس منتهاها من الارتفاع» . وبهذه الواقعة استدل فقهاؤنا على أنه يجوز الخلوة بالمرأة الأجنبية إذا وجدها منقطعة ببرية أو نحوها. بل يجب استصحابها إذا خاف عليها لو تركها. هذا، وفي الخصائص الصغرى، وفي معاني الآثار للطحاوي رحمه الله. قال أبو حنيفة كان الناس لعائشة رضي الله عنها محرما، فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم وليس غيرها من النساء كذلك. أي وقوله وليس غيرها من النساء كذلك يشمل بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فليتأمل الفرق بينها وبين بقية أمهات المؤمنين فيما ذكر. وفيما سيأتي عن بعضهم أن من قذف عائشة يقتل، ويحدّ في غيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم حدين. «قالت عائشة رضي الله عنها: فلما نزلنا هلك من هلك بقول البهتان والافتراء، والذي تولى كبره» أي معظمه عبد الله بن أبيّ ابن سلول، أي فإنه كان أول من أشاعه في العسكر، أي فإنه كان ينزل مع جماعة المنافقين متبدين من الناس «فمرت عليهم. فقال من هذه؟ قالوا: عائشة وصفوان. فقال: فجربها ورب الكعبة، وفي لفظ «ما برئت منه وما برىء منها» وفي لفظ «والله ما نجت منه ولا نجا منها، وصار يقول: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت. ثم أشاع ذلك في المدينة بعد دخولهم لها لشدّة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم» أي والذي في البخاري «كان يتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه» أي يستخرجه بالبحث عنه. وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون هو أول من أشاعه عند دخول المدينة، ثم صار يستخرجه بالبحث عنه ليكثر إشاعته «قالت: فقدمنا المدينة، فاشتكيت» أي مرضت «حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك» أي ووصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أبويّ ولا أشعر بشيء من ذلك، وكان يريا بني أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي أي حين أمرض، واللطف بضم اللام وسكون الطاء. وقيل بفتح اللام والطاء، وهو من الإنسان الرفق، ومن الله التوفيق «إنما يدخل عليّ فيسلم» أي وعندي أمي تمرضني، ثم يقول: كيف تيكم» أي لا يزيد على ذلك «ثم ينصرف، فلذاك الذي يريا بني حتى خرجت بعد ما نقهت» بكسر القاف وفتحها «أي أول ما أفقت من المرض، فخرجت معي أمّ مسطح وهي بنت خالة أبي بكر» أي وما في لفظ «وكان مسطح ابن خالة أبي بكر هو على ضرب من التجوز والمسامحة «وكان مسطح يتيما في حجر أبي بكر» وكان فقيرا ينفق عليه أبو بكر، قالت: وخروجنا كان إلى المحل الذي تخرج إليه

النساء ليلا، أي لقضاء حاجة الإنسان، وذلك قبل أن تتخذ الكنف» أي فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنّ يخرجن بالليل إذا تبرزن نحو المنصع: وهو محل متسع. قالت: فلما فرغنا من شأننا وأقبلت عثرت أم مسطح في مرطها» أي إزارها «فقالت: تعس مسطح» بفتح العين وكسرها: هلك مسطح تعني ولدها، ومسطح في الأصل عمود الخيمة: قلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: يا هنتاه» بفتح الهاء الأولى وسكون النون وضم الهاء الثانية: أي يا هذه «أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك: فازددت مرضا على مرضي» أي عاودني المرض وازددت عليه» أي وفي لفظ «فخرّت مغشيا عليها» . وفي رواية «خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح قد حملت السطل وفيه ماء فعثرت ووقع السطل منها، فقالت: تعس مسطح، فقلت: أي أم تسبين ابنك، فسكتت ثم عثرت الثانية، فقالت: تعس مسطح، فقلت: أي أم تسبين ابنك؟ ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح فنهرتها، فقالت: والله ما أسبه إلا فيك، فقلت: في أي شأني؟ فبقرت» أي كشفت لي الحديث، فقلت: وقد كان هذا؟ قالت: نعم، فأخذتني حمى نافضة ورجعت إلى بيتي، فلما رجعت إلى بيتي مكثت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعد أن سلم: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي بيت أبويّ؟ وأنا أريد أن أتثبت الخبر من قبلهما، أي لأن أمها فارقتها لما نقهت من المرض، وذهبت إلى بيتها، فلا ينافي ما سبق من قولها: وعندي أمي تمرّضني «قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبويّ، أي وأرسل معي الغلام، فدخلت الدار فوجدت أم رومان في السفل وأبا بكر فوق يقرأ، فقالت أمي: ما جاء بك؟ فأخبرتها» فذهابها إلى أبويها كما علمت كان بعد أن صحت من المرض وبعد إخبار أم مسطح لها بالقصة. والذي في السيرة الهشامية يفيد أنه كان قبل ذلك، وهو أنها رضي الله عنها قالت: «كان صلى الله عليه وسلم كلما يدخل يقول: «كيف تيكم» لا يزيد على ذلك حتى وجدته في نفسي، فقلت: يا رسول الله حين رأيت ما رأيت من جفائه: لو أذنت لي؟ قال: لا عليك، قالت: فانتقلت إلى أمي تمرضني ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة، وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم» أي بيوت الأخلية «نعافها ونكرهها، إنما كنا نذهب في فسح المدينة، فخرجت ليلة ومعي أم مسطح بنت خالة أبي بكر، إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح، قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين وقد شهد بدرا، قالت: أو ما بلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. قلت: أو قد كان هذا، قالت: نعم، والله لقد كان، فو الله

ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت، فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي» فليتأمل الجمع بين ما في السيرة الهشامية وما في غيرها على تقدير صحتهما. «قالت: وقلت لأمي يغفر الله لك، تحدّث الناس بما تحدّثوا به لا تذكرين لي من ذلك شيئا» الحديث. وفي رواية «فقلت لأمي يا أماه يتحدّث الناس» وفي لفظ «قلت لأمي يغفر الله لك، تحدّث الناس بما تحدثوا ألا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: يا بنية هوّني عليك» وفي لفظ «خفضي عليك الشأن، فو الله لقلما ما كانت امرأة قط وضيئة» أي جميلة «عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها» أي القول في تنقيصها. وفيه أن ضرائرها أمهات المؤمنين لم يكنّ السبب في إشاعة ذلك ولم ينقصنها به، إلا أن يقال ظنت أمها ذلك على ما هو العادة في ذلك «وعند ذلك قالت: فقلت: سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا؟ أي وقلت قد علم به أبي؟ قالت نعم، قلت: ورسول الله؟ قالت: نعم، فاستعبرت وبكيت، فسمع أبو بكر صوتي، فنزل فقال لأمي: ما شأنها؟ فقالت: بلغها الذي ذكر من شأنها، ففاضت عيناه، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع» أي لا يرتفع «ولا اكتحلت بنوم في الليلة الثانية كذلك، ولما أصبحت أصبح أبواي عندي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي أي وهما يبكيان وأهل الدار يبكون، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي» وسمعت من بعض الشيوخ أن هرّة كانت بالبيت جالسة تبكي أيضا «فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث صلى الله عليه وسلم شهرا لا يوحى إليه في شأني، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس. ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه» . قال بعضهم: دعاها إلى الاعتراف ولم يأمرها بالستر، أي مع أنه المطلوب ممن أتى ذنبا لم يطلع عليه. وفي لفظ. «قال يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتق الله، فإن كنت قارفت» أي اكتسبت «سواء مما يقول الناس، فتوبي إلى الله تعالى، فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده. قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي» أي ارتفع «حتى ما أحس منه بقطرة. فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قال: فو الله لا أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت:

والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟» وفي لفظ «قلت لأبوي: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: والله لا ندري بماذا نجيبه؟ فقلت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، فو الله لا أجد لي ولكم» وفي لفظ «لا أجد لي مثلا إلا قول أبي يوسف عليهما السلام، أي والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه، إذ يقول: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ [يوسف: الآية 18] . أي وفي رواية كما في البخاري «مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: الآية 18] وفي لفظنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: الآية 86] وبذلك استدل على جواز ضرب المثل من القرآن أيضا «ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى» ، وفي لفظ «قرآنا يقرأ به في المسجد ويصلى به، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى. وكنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في النوم يبرئني الله بها، أي وعند ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل عليّ، والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية حيث لا يعبد الله، فيقال لنا في الإسلام. وأقبل على عائشة مغضبا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يأخذه عند نزول الوحي» أي من شدة الكرب «فسجي أي غطي، بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه» وفي لفظ «قالت عائشة رضي الله عنها: فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فو الله ما فزعت، لأني قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي وأما أبواي فو الذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وأخبر بما أخبر حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا» أي خوفا «من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك، وإنه لينحدر منه العرق كالجمان» وهي حبوب مدحرجة تجعل من الفضة أمثال اللؤلؤ «فجعل يمسح العرق عن وجهه الكريم، فكان أول كلمة تكلم بها: يا عائشة أما إن الله قد برأك، فقالت أمي: قومي إليه صلى الله عليه وسلم، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله» وفي لفظ «قال أبشري يا عائشة فقد أنزل الله تعالى براءتك، قلت: نحمد الله لا نحمد أحدا. قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت تلك الآيات في يوم شات. قالت: وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم درعي، فقلت بيده هكذا: أي أدفع يده عن درعي «فأخذ أبو بكر النعل ليعلوني بها فمنعته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: أقسمت عليك لا تفعل» وفي رواية: «لما أنزل الله براءتها قام إليها أبو بكر رضي الله عنه فقبل رأسها، فقالت له: هلا كنت عذرتني. فقال: أي بنية أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلت بما لا أعلم؟» ولا مخالفة بين هذه الرواية وما قبلها، لجواز أن يكون ما قبلها بعدها، وأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [النور: الآية 11] الآيات العشر أي وفي تفسير البيضاوي الثمانية عشر.

قال السهيلي: وكان نزول براءة عائشة رضي الله عنها بعد قدومهم المدينة: أي من الغزوة المذكورة لسبع وثلاثين ليلة في قول بعض المفسرين، فمن نسبها رضي الله عنها إلى الزنا كغلاة الرافضة كان كافرا لأن في ذلك تكذيبا للنصوص القرآنية ومكذبها كافر. وفي حياة الحيوان عن عائشة رضي الله عنها «لما تكلم الناس في الإفك رأيت في منامي فتى فقال لي: ما لك؟ قلت: حزينة مما ذكر الناس فقال: ادعي بهذه يفرج الله عنك. قلت: وما هي؟ قال: قولي: يا سابغ النعم، ويا دافع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كاشف الظلم، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا أول بلا بداية، ويا آخر بلا نهاية، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. قالت: فقلت ذلك فانتبهت وقد أنزل الله فرجي» . قال بعضهم: برأ الله تعالى أربعة بأربعة. برّأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهل زليخة. وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهود فيه إن له أدرة بالحجر الذي فرّ بثوبه وبرّأ مريم بإنطاق ولدها. وبرأ عائشة بهذه الآيات. «وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح لقرابته منه أي كما تقدم ولفقره، فحلف لا ينفق عليه، أي فإنه قال: والله لا أنفق على مسطح أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعد ما قال لعائشة وأدخل علينا» . وفي لفظ «أخرجه من منزله وقال له: لا وصلتك بدرهم أبدا، ولا عطفت عليك بخير أبدا، فأنزل الله تعالى وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ [النّور: الآية 22] أي الفضيلة والإفضال مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النّور: الآية 22] أي في الرزق أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النّور: الآية 22] وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: أما تحب أن يغفر الله لك. قال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لأحب أن يغفر لي، فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه. وقال: والله إني لا أنزعها عنه أبدا» . وفي معجم الطبراني الكبير والنسائي «أنه أضعف له في النفقة التي كان يعطيه إياها قبل القذف» أي أعطاه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك «أي وكفر عن يمينه» . وبهذا وبما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» . استدّل فقهاؤنا على أن الأفضل في حق من حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه أن يحنث ويكفر عن يمينه. وهنا لطيفة، وهي: أن ابن المقري رحمه الله منع عن ولده النفقة تأديبا له على

أمر وقع منه، فكتب إلى والده رحمه الله تعالى هذه الأبيات: لا تقطعنّ عادة برّ ولا ... تجعل عقاب المرء في رزقه فإن أمر الإفك من مسطح ... يحط قدر النجم من أفقه وقد جرى منه الذي قد جرى ... وعوتب الصدّيق في حقه فكتب إليه والده رحمه الله تعالى هذه الأبيات: قد يمنع المضطر من ميتة ... إذا عصى بالسير في طرقه لأنه يقوى على توبة ... تكون إيصالا إلى رزقه لو لم يتب مسطح من ذنبه ... ما عوتب الصديق في حقه ووصف الله تعالى الصديق بأولي الفضل موافق لوصفه صلى الله عليه وسلم له بذلك، فقد جاء أن عليا كرّم الله وجهه دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه جالس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنحى أبو بكر عن مكانه وأجلس عليا كرّم الله وجهه بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا وسرورا. وقال «لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل» . وعنها رضي الله عنها «أنها قالت: لما استلبث الوحي عنه صلى الله عليه وسلم» أي أبطأ عليه ولم ينزل «استشار الصحابة، فقال له عمر رضي الله عنه: من زوّجها لك يا رسول الله؟ قال: الله تعالى، قال: أفتظن أن الله دلس عليك فيها؟ سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) [النور: الآية 16] ، فنزلت، ودعا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأسامة بن زيد رضي الله عنهما ليستأمرهما في فراق أهله» أي تعني نفسها «فأما أسامة بن زيد، فقال: أهلك» أي الزم أهلك «يا رسول الله، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإنك لتقدر أن تستخلف» وفي لفظ «قد أحل الله لك فطلقها وأنكح غيرها، وإن تسأل الجارية تصدقك» يعني بريرة رضي الله عنها، أي لأنها كانت تخدم عائشة إما قبل شرائها لها أو بعده وقبل عتقها لها كان بعد الفتح «فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه» بالغين المعجمة والصاد المهملة بينهما ميم مكسورة: أي أعيبه «عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن وهي الدابة التي تألف البيوت ولا تخرج للمرعى، وهي هنا الشاة «فتأكله» . وفي لفظ «فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فسألها، فقام إليها عليّ كرم الله وجهه فضربها ضربا شديدا، وجعل يقول لها: أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: والله ما أعلم

إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله» أي وضربها كما قال السهيلي ولم تستوجب ضربا، ولا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربها، لأنه اتهمها في أنها خانت الله ورسوله، فكتمت من الحديث ما لا يسعها كتمه، هذا كلامه. والذي في البخاري «وانتهرها بعض الصحابة. فقال: أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصانع على تبر الذهب الأحمر» . وفي الإمتاع «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لبريرة وسألها. فقالت: هي أطيب من طيب الذهب، والله لا أعلم عليها إلا خيرا، والله يا رسول الله لئن كانت على غير ذلك ليخبرك الله بذلك» . أي وبريرة هذه روى عنها عبد الملك بن مروان. فقد ذكر أنه قال: كنت أجالس بريرة رضي الله عنها بالمدينة قبل أن آتي إلى هذا الأمر يعني الخلافة، فكانت تقول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالا، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر يعني الخلافة، فإن وليته فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق» . «قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش أم المؤمنين عن أمري، يقول: ماذا علمت أو رأيت، فتقول: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري» أي أصون سمعي من أن أقول سمعت ولم أسمع، وأصون بصري من أن أقول أبصرت ولم أبصر «ما علمت إلا خيرا» أي وفي رواية «حاشا سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا، والله ما أكلمها، وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول إلا الحق. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وفي لفظ «تناصيني» أي تعادلني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة والمحبة عنده صلى الله عليه وسلم «فعصمها الله تعالى» أي ولهذا جعلها في النور أفضل نسائه صلى الله عليه وسلم بعد عائشة وخديجة حيث قال: والذي يظهر أن أفضلهن: أي زوجاته صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وعائشة زينب بنت جحش. «وقالت عائشة رضي الله عنها في وصفها: لم أر امرأة قط خيرا من زينب في الدين، وأتقي الله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي يتقرب به إلى الله، ما عدا سورة» أي حدة «تسرع فيها الفيئة» أي ترجع عنها سريعا «قالت عائشة رضي الله عنها: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عند استلباث الوحي وتأخره في الناس وخطبهم فحمد الله وأثني عليه. ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذوني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق» وفي رواية «فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال وهو على المنبر: من يعذرني أن ينصفني من

رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا- يعني صفوان- ما علمت عليه إلا خيرا، أي وزاد في رواية «ولا يدخل بيتي» . وفي لفظ «بيتا من بيوتي إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي يقولون عليه غير الحق. فقام سعد بن معاذ: أي سيد الأوس فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وقد احتملته الحمية» وفي لفظ «أجهلته الحمية. وكان قبل ذلك رجلا صالحا» : أي لما ذكر سعد بن معاذ الخزرج الذين هم قوم سعد بن عبادة غضب سعد بن عبادة لأجلهم وحملته الحمية لهم على أن يجهل» أي قال قول الجهل «فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ كما تقدم. فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه وأنفك راغم. فإنك منافق تجادل عن المنافقين» أي والمراد بكونه منافقا أنه يفعل فعل المنافقين، ومن ثم لم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك إن كان سمعه، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، لأنه كان بين الحيين قبل الإسلام مشاحنة ومحاربة كما تقدم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، «فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، قالت: وأنا لا أعلم بشيء من ذلك» . أقول فيه أن سعد بن معاذ لم يقل إنه إن كان من الخزرج نقتله، بل قال نفعل فيه ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحسن ردّ سعد بن عبادة عليه بما ذكر. ثم رأيت بعضهم ذكر أن الأظهر عندي أن ابن عبادة لم يقل ذلك حمية لقومه، وإنما أراد الإنكار على ابن معاذ في كونه يقتل شخصا من قومه الذين هم الأوس مع أنه يظهر الإسلام لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل من يظهر الإسلام، فكأنه قال لا تقل ما لا تفعل ولا تقدر على فعله حيث لم يأمرك بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما انتصر أسيد بن حضير لسعد بن معاذ نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة العظيمة التي طلب النبي صلى الله عليه وسلم فيها من يعذره من ذلك القائل، وإنكاره على سعد بن عبادة إنما هو إنكار ظاهر لفظه وإن كان لباطنه مخلص حسن، وكم من لفظ ينكر إطلاقه على قائله وإن كان في الباطن له مخلص هذا كلامه. ثم رأيت في السيرة الهشامية أن المتكلم أسيد بن حضير، وأنه قال يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا أمرك، فو الله إنهم لأهل لأن نضرب أعناقهم، فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت لعمر الله، والله ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك يعني الأوس ما قلت هذا: أي لأن عبد الله بن أبي ابن سلول من

الخزرج، وكذا حسان بن ثابت رضي الله عنه، بناء على أنه كان من أصحاب الإفك. وفي البخاري «أن سعد بن معاذ قال: ائذن لي يا رسول الله أن أضرب أعناقهم، فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان من رهط ذلك الرجل» أي من الخزرج «فقال: كذبت، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم» وعلى هذه الرواية فلا إشكال. وقول البخاري «وكانت أم حسان إلى آخره» يشعر بأن حسان لم يكن من الخزرج، وهو يخالف ما تقدم وما سيأتي أنه من الخزرج، إلا أن يقال وصفه بذلك على المسامحة لكون أمه منهم فليتأمل، ولا يخفى أن ذكر المنبر يخالف ما في الأصل من أن اتخاذ المنبر كان في السنة الثامنة، وقصة الإفك كانت في السنة الخامسة أو السادسة. وفي النور: المراد بالمنبر شيء مرتفع، قال: وإلا فالمنبر إنما اتخذ في السنة الثامنة، أي فيكون المراد المنبر الذي اتخذ في السنة الثانية كان من الطين، والذي كان من خشب إنما اتخذ في السنة الثامنة، وقد بينا ذلك مبسوطا والله أعلم. ثم بعد نزول آيات الإفك أي وهي إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ [النور: الآية 11] إلى قوله أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) [النور: الآية 26] خرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس وخطبهم وتلا عليهم الآيات وأمر بجلد أصحاب الإفك، أي وهم: عبد الله بن أبيّ، ومسطح، وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين وأخوها عبيد الله بالتصغير ابن جحش ويقال له أبو أحمد، كان ضريرا. أي وكان يدور مكة أعلاها وأدناها في أيّ محل من غير قائد، وكان شاعرا وهو ابن عمة أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما أخوها عبد الله مكبرا فقد قتل يوم أحد كما تقدم، وزاد بعضهم خامسا وهو زيد بن رفاعة. وفيه أنه تقدم أنهم لما قدموا المدينة وجدوه قد مات، إلا أن يقال. إن لهم زيد بن رفاعة غيره فيجوز أن يكون هو ذلك، ويقال وحسان بن ثابت «فجلدوا الحد وهو ثمانون» . قال بعضهم: وذكر سعد بن معاذ في هذه الرواية، أي أنه القائل أنا أعذرك وهم من بعض الرواة، وإنما المتكلم بذلك أسيد بن حضير أي كما تقدم عن السيرة الهشامية، لأن سعد بن معاذ مات بعد بني قريظة. قال في الأصل: لو اتفق أهل المغازي على أن غزوة الخندق وبني قريظة متقدمة على غزوة بني المصطلق لكان الوهم لازما ولكنهم مختلفون أقول: أي فالوهم لا يلزم إلا من جعل هذه الغزوة التي هي غزوة بني المصطلق متأخرة عن بني قريظة، ويذكر فيها سعد بن معاذ كالأصل. ومن ثم لما قال ابن إسحاق بأنها بعد بني قريظة. روى عن عائشة بدل سعد بن معاذ أسيد بن حضير. قال في الإمتاع:

وهذا هو الصحيح، والوهم لم يسلم منه أحد من بني آدم. وفيه أن مما يدل على تقدمها، وأن ذكر سعد بن معاذ ليس من الوهم في شيء ما ذكره في الكتاب المذكور الذي هو في الإمتاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث أياما. ثم أخذ بيد سعد بن معاذ في نفر حتى دخل على سعد بن عبادة فتحدثوا ساعة وقرّب لهم سعد بن عبادة طعاما فأصابوا منه ثم انصرفوا، فمكث أياما ثم أخذ بيد سعد بن عبادة في نفر فانطلقوا حتى دخلوا منزل سعد بن معاذ فتحدثوا ساعة وقرّب لهم سعد بن معاذ طعاما فأصابوا منه، ثم خرجوا، فذهب من أنفسهم ما كان، وأن ذكر سعد بن معاذ وقع في الصحيحين وغيرهما والله أعلم. وذكر أن صفوان بن المعطل رضي الله عنه الذي كان الإفك بسببه ظهر أنه كان حصورا لا يأتي النساء، أي إنما معه مثل الهدبة: أي عنين. وقد قال الشيخ محيي الدين: الحصور عندنا العنين، أي ويدل له ما في البخاري «أنه رضي الله عنه ما كشف كنيف امرأة قط» أي سترها، لأن الكنيف الساتر. وقد جاء في تفسير وصف يحيى بن زكريا بحصورا أنه صلى الله عليه وسلم أهوى إلى الأرض وأخذ قذاة. وقال: كان ذكره- يعني يحيى عليه السلام مثل هذه القذاة، ولعل المراد التشبيه في الارتخاء وعدم الشدة، فلا يخالف ما قبله، لكن في النهر: الحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك، أي وربما يؤيد ذلك ما جاء «أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة. رجل جعله الله ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء. وامرأة جعلها الله أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال. والذي يضل الأعمى. ورجل حصور، ولم يجعل الله حصورا إلا يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام» فالحصور وصف مذموم إلا في يحيى عليه السلام خصوصية له دون غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلا فقد امتنّ سبحانه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرّعد: الآية 38] ، قيل وهذا الوصف جاء ليحيى من أثر همة والده زكريا عليهما السلام، فإنه لما شهد مريم منقطعة عن الأزواج أحب أن يرزقه الله ولدا: مثلها أي منقطعا عن الزوجات، فجاء يحيى عليه السلام حصورا، ويؤيد ذلك ما في «أنس الجليل» وكان يحيى عليه السلام لا يأتي النساء لأنه لم يكن له ما للرجال، كذا قيل، وهو غير مرضيّ. وقد تكلم القاضي عياض رحمه الله في الشفاء على معنى كون يحيى حصورا بما حاصله، أن هذا الذي قيل نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب لا يأتيها، فكأنه حصر عنها، وأنه حصر نفسه عن الشهوات قمعا لها، هذا كلامه فليتأمل.

أي وعلى الأول لا ينافي ذلك كون صفوان كان متزوّجا، لما تقدم أن زوجته شكته للنبي صلى الله عليه وسلم: أي على أن ابن الجوزيّ نقل عن شيخه ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى أن صفوان رضي الله عنه إنما تزوّج بعد حديث الإفك. ومما يدل على أن حسان رضي الله عنه لم يكن من أصحاب الإفك تبرؤه مما نسب إليه في أبيات مدح بها عائشة رضي الله عنها منها: مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل ومن ثم قال ابن عبد البر: وقد أنكر قوم كون حسان رضي الله عنه خاض في الإفك، وأنه جلد. وجاء أن عائشة رضي الله عنها برأته من ذلك. أي فقد ذكر الزبير بن بكار، أنه قيل لعائشة رضي الله عنها وقد قالت في حق حسان رضي الله عنه: إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه بلسانه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس هو ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قالت: لم يقل شيئا ولكنه القائل: فإن كان ما قد قيل عني قلته ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي وقد قال مثل هذا البيت أنس بن زنيم، وقد بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنه هجاه، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم معتذرا وأنشده أبياتا منها: ونبي رسول الله إني هجوته ... فلا رفعت سوطي إليّ إذن يدي لكن في رواية أنها كانت تأذن لحسان بن ثابت وتلقي له الوسادة وتقول: لا تقولوا لحسان إلا خيرا، فإنه كان يردّ عن النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه. وقد قال تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ [النّور: الآية 11] وقد عمي، والعمى عذاب عظيم، والله قادر على أن يحيل ذلك ويغفر لحسان ويدخله الجنة. وفيه أنه سيأتي عن عائشة وغيرها أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول كما تقدم إلا أن يقال كبره مقول بالتشكيك، والذي بلغ فيه الغاية عبد الله بن أبي ابن سلول فليتأمل. وعن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور مستلقيا على سريره، فلما بلغ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ [النور: الآية 11] جلس ثم قال: يا أبا بكر من تولى كبره، أليس علي بن أبي طالب؟ قال الزهري: فقلت في نفسي: ماذا أقول؟ إن قلت لا، لا آمن أن ألقى منه شرا، وإن قلت نعم جئت بأمر عظيم.

ثم قلت لنفسي: لقد عوّدني الله على الصدق خيرا، فقلت لا، فضرب بقضيبه السرير. قال: فمن؟ بكر ذلك مرارا، قلت: لكن عبد الله بن أبيّ ابن سلول. ووقع لسليمان بن يسار مع هشام بن عبد الملك نحو ذلك؛ فإن سليمان بن يسار رحمه الله دخل على هشام بن عبد الملك. فقال له: يا أبا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبيّ. قال: كذبت هو عليّ، قال: أنا أكذب، لا أبا لك، لو نادى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت. حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة رحمهم الله، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ. وعن عائشة رضي الله عنها «أنه ذكر عندها حسان بسوء فنهتهم، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق» وفي البخاري «كانت عائشة رضي الله عنها تنكر أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال: فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء فبهذا البيت يغفر الله تعالى له» . وذكر بعضهم أن الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش عبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان ابن عمه صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن العاص، وضرار بن الحارث. ولما أراد حسان رضي الله عنه أن يهجوهم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان ابن عمي؟ فقال له: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له صلى الله عليه وسلم ائت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك. فكان يجيء إلى أبي بكر ليوقفه على أنسابهم، فجعل حسان يهجوهم، فلما سمعوا هجوه. قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة: وعاش حسان رضي الله عنه مائة وعشرين سنة، نصفها في الجاهلية، ونصفها في الإسلام، وعاش والده مائة وعشرين سنة، وكذا جده ووالد جدّه. قال بعضهم: ولا يعرف أربعة تناسلوا وتساوت أعمارهم غيرهم، ولم يشهد حسان مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهدا، لأنه كان يخشى الموت، فكان ينسب للجبن. ومن ثم جعل يوم الخندق مع النساء والذراري في الآطام. وما وقع له مع صفية عمته صلى الله عليه وسلم في أمر اليهودي قتلته في ذلك المكان، وما قاله لها يدل على أنه كان جبانا شديد الجبن. ويردّ إنكار بعض العلماء كونه جبانا قال: إذ لو صح ذلك لهجي به، فإنه كان يهاجي الشعراء، وكانوا يردون عليه، فما عيره أحد منهم به ولا وسمه به، ولعله كان

به علة اقتضت جعله مع الذراري في الآطام منعته من شهود القتال، هذا كلامه. وقد يقال: على تسليم أنه لم يهج بالجبن يجوز أن يكون لكونه كان لا يتأثر بوصفه بذلك. وذكر بعضهم أن حسان رضي الله عنه شلت يداه بضربة ضربها له صفوان بسيف لما هجاه فذكر ذلك حسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا حسان وصفوان، أي وأظهر التغيظ على صفوان بسبب إظهاره السلاح على حسان وضربه به، فقال صفوان: يا رسول الله آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب فضربته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: يا حسان أحسن فيما أصابك، قال: هي لك. وفي رواية قال: كل حق لي قبل صفوان فهو لك، فقال له صلى الله عليه وسلم: قد أحسنت وقبلت ذلك منك، وأعطاه رسول صلى الله عليه وسلم عوضا منها حديقة له، يقال لها بئر حا بفتح الراء في الأحوال الثلاثة مع قصر حا. قيل لها ذلك لأن الإبل يقال لها إذا وردت وزجرت عن الماء حا، حا. وفيه أنه كان القياس أن يقال بئرحا بضم الراء في حالة الرفع وحدها، إلا أن يقال المجموع اسم مركب، وكانت هذه البئر لأبي طلحة رضي الله عنه فتصدق بها على رسول الله ليضعها صلى الله عليه وسلم حيث شاء، ثم باعها حسان من معاوية بمال عظيم. أقول: الذي في البخاري: «كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر أنصاري بالمدينة مالا؛ وكان أحب أمواله إليه بئرحا، وهي حديقة كانت مستقبلة المسجد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويستظل بها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: الآية 92] قام أبو طلحة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله يقول في كتابه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: الآية 92] وإن أحب أموالي إليّ بئرحا، وإنه صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال صلى الله عليه وسلم: بخ بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، قد قبلناها منك، ورددناها عليك، وأرى أن تجعلها في الأقربين. قال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» وفي لفظ آخر في البخاري «قال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: اجعله لفقراء أقاربك. فجعل لحسان وأبيّ بن كعب» . وفيه أن أبيّ بن كعب كان غنيا، وبين في البخاري وجه قرابتهما من أبي طلحة، فذكر أن حسان يجتمع مع أبي طلحة في الأب الثالث وأبي يجتمع معه في الأب السادس، وذكر بعضهم أن أبيّ بن كعب كان ابن عمة أبي طلحة. وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم أعطى حسان تلك الحديقة وأعطاه سيرين جاريته أخت مارية أمّ ولده صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فجاءت منه بابنه عبد الرحمن، وكان يفتخر بأنه ابن خالة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روت سيرين هذه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثا قالت «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خللا

في قبر ابنه إبراهيم فأصلحه وقال: إن الله يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه» وأعطاه سعد بن عبادة رضي الله عنه بستانا كان يتحصل منه مال كثير. وحاصل ما في الإمتاع فيما وقع بين حسان وصفوان: أن حسان رضي الله عنه لما قال: أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كبروا ... وابن القريعة أمسى بيضة البلد قال صفوان: ما أراه إلا عناني أي بالجلابيب، وتقدم أن ابن أبيّ ابن سلول قد قالها في حق المهاجرين، والقريعة بالقاف: جدة حسان رضي الله عنه، وقيل أمه. وقريعة الشيء: خياره، وقريعة القبيلة لسيدها، واستعمل بيضة البلد في الذم بقرينة المقام، وإلا فكما تستعمل في الذم تستعمل في المدح. ويقال: فلان بيضة البلد: أي واحد في قومه عظيم فيهم. فعند ذلك خرج صفوان مصلتا السيف وجاء إلى حسان وهو في نادي قومه الخزرج وضربه، فلقي بيده فوقع السيف فيها، فقام قومه وأوثقوا صفوان رباطا، ثم إنه حلّ وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حسان رضي الله عنه: يا رسول الله شهر عليّ السيف في نادي قومي ثم ضربني ولا أراني إلا ميتا من جراحتي، فقال صلى الله عليه وسلم لصفوان: ولم ضربته وحملت السلاح عليه؟ وتغيظ لحسان، فقال صفوان ما تقدم. ثم قال لقوم حسان: احبسوا صفوان، فإن مات حسان فاقتلوه به، فحبسوه، فبلغ ذلك سيد الخزرج سعد بن عبادة، فأقبل على قومه ولامهم على حبسه، فقالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبسه وقال لنا: إن مات صاحبكم فاقتلوه. فقال سعد: والله إن أحبّ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العفو عنه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالحق، والله لا أبرح حتى يطلق، فاستحى القوم وأطلقوه، وأخذه سعد وانطلق به إلى منزله وكساه حلة، وجاء به إلى المسجد، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: صفوان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من كساه؟ قالوا سعد بن عبادة. قال: كساه الله من ثياب الجنة. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم حسان رضي الله عنه في العفو عن صفوان. فقال: يا رسول الله كل حق لي قبل صفوان فهو لك. فقال صلى الله عليه وسلم: قد أحسنت وقبلت ذلك. ثم أعطاه صلى الله عليه وسلم أرضا له وسيرين جاريته أخت مارية أم ولده إبراهيم وأعطاه أيضا سعد بن عبادة رضي الله عنه حائطا كان يتحصل منه مال كبير بما عفا عن حقه. وقيل إنما أعطاه سيرين لذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره. فقد قال ابن عبد البر رحمه الله: إعطاه رسول الله سيرين أخت مارية لحسان بن ثابت يروى من وجوه، وأكثرها أن ذلك ليس بسبب ضرب صفوان له بل لذبه بلسانه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل وكان لسان حسان يصل لجبهته وإلى نحره. وكذلك كان أبوه وجده، وكان حسان رضي الله عنه يقول على لسانه: والله لو وضعته على صخر لفلقه أو شعر لحلقه. وقد عمي مسطح أيضا.

أي وقد روى أصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم. قال الترمذي حسن غريب. أي والمرأة حمنة بنت جحش، والرجلان أخوها عبيد الله أبو أحمد بن جحش ومسطح. ولم يحدّ الخبيث عبد الله بن أبيّ ابن سلول، لأن الحدّ كفارة وليس من أهلها. وقيل لأنه لم تقم عليه البينة بذلك بخلاف أولئك. وقيل لأنه كان لا يأتي بذلك على أنه من عنده بل على لسان غيره. وفي الطبراني ومعجم النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن أبيّ ابن سلول جلد مائة وستين أي حدّ حدّين. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وهكذا يفعل بكل من قذف زوجة نبيّ. أي ولعل المراد أنه يجوز أن يفعل به ذلك فلا ينافي ما تقدم من أن الحدّ كان ثمانين جلدة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «ما زنت» . وفي لفظ «لم تبغ امرأة نبيّ قط» . وأما قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فَخانَتاهُما [التّحريم: الآية 10] فالمراد آذتاهما. قالت امرأة نوح عليه السلام في حقه إنه لمجنون. وامرأة لوط عليه السلام دلت على أضيافه. قيل: إنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط عليهما السلام، ولم يجز أن تكون فاجرة، أي زانية لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم، فيجب أن لا يكون معه منقص ينفرهم عنه والكفر غير منقص عندهم. وأما الفجور فمن أعظم النقصان. وفي الخصائص الصغرى: ومن قذف أزواجه صلى الله عليه وسلم فلا توبة له ألبتة، كما قاله ابن عباس وغيره، ويقتل كما نقله القاضي عياض وغيره. وقيل يختص القتل بمن قذف عائشة، ويحد في غيرها حدين. وقد وقع أن الحسن بن يزيد الراعي من أهل طبرستان. وكان من العظماء، كان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف، وكان يرسل في كل سنة إلى بغداد عشرين ألف دينار تفرق على أولاد الصحابة. فحضر عنده رجل من أشياع العلويين، فذكر عائشة رضي الله عنها بالقبيح. فقال الحسن لغلامه: يا غلام اضرب عنق هذا، فنهض إليه العلويون وقالوا: هذا رجل من شيعتنا. فقال: معاذ الله، هذا طعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النّور: الآية 26] فإن كانت عائشة رضي الله عنها خبيثة فإن زوجها يكون خبيثا، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، بل هو الطيب الطاهر، وهي الطيبة الطاهرة المبرأة من السماء، يا غلام اضرب عنق هذا الكافر، فضرب عنقه. وفي كتاب «الإشارات» للفخر الرازي أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام التي تكلم فيها

بالإفك كان أكثر أوقاته في البيت، فدخل عليه عمر رضي الله عنه، فاستشاره صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة، فقال: يا رسول الله أنا أقطع بكذب المنافقين، وأخذت براءة عائشة رضي الله عنها من الذباب، لأن الذباب لا يقرب بدنك؛ فإذا كان الله تعالى صان بدنك أن يخالطه الذباب لمخالطته للقاذورات فكيف أهلك؟. ودخل عليه صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه فاستشاره، فقال له عثمان: يا رسول الله أخذت براءة عائشة رضي الله عنها من ظلك، إني رأيت الله تعالى صان ظلك أن يقع على الأرض: أي لأن شخصه الشريف كان لا يظهر في شمس ولا قمر، لئلا يوطأ بالأقدام. فإذا صان الله ظلك فكيف بأهلك. أي وقد أشار إلى ذلك الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله: لقد نزه الرحمن ظلك أن يرى ... على الأرض ملقى فانطوى لمزية وهنا لطيفة لا بأس بها: وهي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان مسافرا وكان يسايره يهودي، فلما أراد المفارقة قال عبد الله رضي الله عنه لليهودي: بلغني أنكم تدينون بإيذاء المسلمين، فهلا قدرت على شيء من ذلك معي وأقسم عليه، فقال: إن أمنتني أخبرتك، فأمنه، فقال: لم أقدر عليك في شيء أكثر من أني كنت إذا رأيت ظلك وطئته بقدمي وفاء بأمر ديننا. ودخل عليه صلى الله عليه وسلم علي كرم الله وجهه فاستشاره، فقال له علي كرم الله وجهه: أخذت براءة عائشة من شيء هو أنا صلينا خلفك وأنت تصلي بنعليك، ثم إنك خلعت إحدى نعليك فقلنا ليكون ذلك سنة لنا، قلت لا، إن جبريل عليه السلام أخبرني أن في تلك النعل نجاسة، فإذا كان لا تكون النجاسة بنعليك فكيف تكون بأهلك؟ فسرّ صلى الله عليه وسلم بذلك، أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن خلع إحدى نعليه في أثناء الصلاة لنجاسة بها واستمر في الصلاة. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال لزوجته أم أيوب: ألا ترين ما يقال: أي من الإفك؟ فقالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تهمّ بسوء لمحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خير مني وصفوان خير منك. وفي السيرة الشامية أن أبا أيوب رضي الله عنه قالت له زوجته أم أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت: لا، والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك. وجاء أن ابن عباس رضي الله عنهما دخل على عائشة رضي الله عنها في مرض موتها فوجدها وجلة من القدوم على الله، فقال لها: لا تخافي، فإنك لا تقدمين إلا

على مغفرة ورزق كريم، فغشي عليها من الفرح بذلك، لأنها كانت تقول متحدثة بنعمة الله عليها: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة. لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله أن يتزوجني. ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري. ولقد توفي وإن رأسه في حجري. ولقد قبر في بيتي وإن الوحي ينزل عليه في أهله فيفرقون منه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحاف واحد، وأبي رضي الله عنه خليفته وصديقه. ولقد نزلت براءتي من السماء، ولقد خلقت طيبة عن طيب. ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما» . قيل وفي هذه الغزوة فقدت عائشة رضي الله عنها عقدها أيضا فاحتبسوا على طلبه، أي فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه رجلين من المسلمين أي أحدهما أسيد بن حضير، فحضرت الصلاة أي صلاة الصبح وكانوا على غير ماء. زاد في رواية: وليس معهم ماء فنزلت آية التيمم. وهذا القيل نقله إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن عدة من أهل المغازي. أي وعليه يكون سقط عقدها في تلك الغزوة مرتين لاختلاف القضيتين باختلاف سياقهما. والصحيح أن ذلك كان في غزوة أخرى أي متأخرة عن هذه الغزوة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا، فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس التماسه الناس، أي فإنه صلى الله عليه وسلم بعث رجالا في طلبه، وهو لا يخالف ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم أرسل في طلبه رجلين، وطلع الفجر، فلقيت من أبي بكر رضي الله عنه ما شاء الله، أي لأن الناس جاؤوا لأبي بكر رضي الله عنه وشكوا إليه ما نزل بهم، فجاء إليها ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه الشريف على فخذها قد نام، فقال لها: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، جعل يطعن بيده في خاصرتها ويقول: يا بنية في كل سفرة تكونين عناء وبلاء وليس مع الناس ماء. قالت: فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي: أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نام لا يوقظه أحد حتى يكون هو يستيقظ، لأنهم لا يدرون ما يحدث له في نومه، فقال حين أصبح. وفي لفظ: فاستيقظ وحضرت الصلاة فالتمس الماء فلم يجد فأنزل الله تعالى الرخصة بالتيمم. وفي لفظ: فأنزل الله تعالى آية التيمم أي التي في المائدة. ففي بعض الروايات فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: الآية 6] الآية. وقيل المراد بالآية آية النساء، لأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر للوضوء فيها، فيتجه تسميتها بآية التيمم، وكلام الواحدي رحمه الله في أسباب النزول يدل عليه. فقال أبو بكر عند ذلك: والله يا بنية إنك كما علمت مباركة، أي

وقال لها صلى الله عليه وسلم ما أعظم بركة قلادتك، وقال أسيد بن حضير: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أي وفي رواية إنه قال لها جزاك الله خيرا، فما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله منه مخرجا وللمسلمين فيه خيرا، أي وهذا ربما يفيد تكرر وقوع ما تكرهه، وأن في ذلك خيرا للمسلمين فليتأمل. وفي لفظ قال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركة لهم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وإنما قال أسيد بن حضير ما قال دون غيره، لأنه كان رأس من بعث في طلب العقد، أي بل تقدم في بعض الروايات الاقتصار على بعثه لطلب ذلك. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، أي أقمناه من مبركه فوجدنا العقد تحته. أقول في النور: اعلم أن العقد سقط مرتين: مرة كان لها ومرة كان لأختها أسماء استعارته. وبهذا يجمع بين الأحاديث التي في المسألة، هذا كلامه فليتأمل وينظر تلك الأحاديث، وما هي أي وكون هذا العقد لأسماء أختها لا يخالف ذلك قولها عقدي، لأن الإضافة تأتي لأدنى ملابسة، أي فعقد أسماء كان في المرة الثانية. وفي البخاري أيضا أن آية التيمم نزلت بعد أن صلوا بلا وضوء. فعن عائشة رضي الله عنها. «أنها استعارت من أسماء رضي الله عنها قلادة فهلكت: أي ضاعت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى آية التيمم» . وقد ترجم البخاري عن تلك بقوله باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا، وقوله «فبعث رجلا فوجدها» يجوز أن يكون هذا الرجل هو الذي أقام البعير أو من جملة من أقامه، فلا يخالف ما سبق مما يدل أن الذين بعثهم في طلبه لم يجدوه. ثم رأيت الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن أسيدا كان رأس من بعث لذلك، فلذلك سمي في بعض الروايات دون غيره، ولذا أسند الفعل إلى واحد منهم، وكأنهم لم يجدوا العقد أولا. فلما رجعوا ونزلت آية التيمم، وأرادوا الرحيل وأثاروا البعير وجده أسيد رضي الله عنه هذا كلامه. قيل وفي هذه الغزوة خرجوا عن الطريق، وأدركهم الليل بقرب واد وعر، فهبط جبريل عليه السلام وأخبره صلى الله عليه وسلم أن طائفة من كفار الجن بهذا الوادي يريدون كيده صلى الله عليه وسلم وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا صلى الله عليه وسلم بعلي كرّم الله وجهه وعوذه وأمره بنزول الوادي فقتلهم. قال الإمام ابن تيمية: وهذا من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عليّ كرم الله وجهه. قال ابن تيمية: ومن هذا ما روي في عام الحديبية أنه قاتل

غزوة الخندق

الجن في بئر ذات العلم، وهي بئر في الجحفة، وهو حديث موضوع عند أهل المغازي. أي وجاء في سبب مشروعية التيمم غير ما ذكر. ففي الطبراني عن أسلع، قال: «كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرحل له ناقته، فقال لي ذات يوم: يا أسلع قم فارحل، فقلت: يا رسول الله أصابتني جنابة أي ولا ماء، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بآية الصعيد: أي التراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا أسلع فتيمم، فأراني التيمم: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت فتيممت، ثم رحلت له حتى مر بماء، فقال: يا أسلع أمسّ هذا جلدك» . وفي الإمتاع: نزلت آية التيمم طلوع الفجر، فمسح المسلمون أيديهم بالأرض، ثم مسحوا بأيديهم إلى المناكب، أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن هذه الرواية. وفي هذه السنة الخامسة خسف القمر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخسوف حتى انجلى القمر، وصارت اليهود تضرب بالطساس ويقولون سحر القمر. غزوة الخندق ويقال لها غزوة الأحزاب: أي وهي الغزوة التي ابتلى الله تعالى فيها عباده المؤمنين وثبت الإيمان في قلوب أوليائه المتقين: أي وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق والشقاق والمعاندين. وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم كما تقدم سار منهم جمع من كبرائهم، منهم سيدهم حيي بن أخطب أبو صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، وعظيمهم سلام بن مشكم، ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس، وأبو عامر الفاسق، إلى أن قدموا مكة على قريش يدعونهم ويحرّضونهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. أي ونكون معكم على عداوته. فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا. وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد. زاد في رواية: فقال لهم: لكن لا نأمنكم إلا أن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا. فقالت قريش لأولئك اليهود: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. وفي رواية: نحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقالوا: أنتم أهدى سبيلا، أي لأنكم تعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية؛ وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان يعبد آباؤكم، أي فأنتم أولى بالحق منه،

فأنزل الله تعالى فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النّساء: الآية 51] الآيات، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطهم لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند ذلك خرج من بطون قريش خمسون رجلا وتحالفوا، وقد ألصقوا أكبادهم بالكعبة متعلقين بأستارها، أن لا يخذل بعضهم بعضا، ويكونون كلهم يدا واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي منهم رجل، وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية رحمه الله بأبيات ذم فيها اليهود لعنهم الله بأمور بقوله: لا تكذب أن اليهود وقد زا ... غوا عن الحق معشر لؤماء جحدوا المصطفى وآمن بالطا ... غوت قوم هم عندهم شرفاء قتلوا الأنبياء واتخذوا العج ... ل ألا إنهم هم السفهاء وسفيه من ساءه المن والسل ... وى وأرضاه الفوم والقثاء ملئت بالخبيث منهم بطون ... فهي نار طباقها الأمعاء لو أريدوا في حال سبت بخير ... كان سبتا لديهم الأربعاء هو يوم مبارك قيل للتصر ... يف فيه من اليهود اعتداء فبظلم منهم وكفر عدتهم ... طيبات في تركهن ابتلاء أي لا تكذب أن اليهود والحال أنهم قد مالوا عن الحق قوم لؤماء، واللئيم: الدني الأصل، الشحيح النفس. ومن عظيم لؤمهم أنهم جحدوا نبوته صلى الله عليه وسلم ورسالته والحال أنه قد آمن بالطاغوت، وهو كل ما عبد من دون الله؟ مأخوذ من الطغيان قوم هم عندهم شرفاء وهم كفار قريش. ورد أن اليهود قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا، ومن جملة من قتلوا زكريا ويحيى، واتخذوا العجل إلها يعبدونه، ومن يفعل ذلك لا سفيه غيره، ومن أرضاه الفوم والقثاء بدل المنّ وهو نوع من الحلواء، والسلوى: نوع من الطير، سفيه بلا شك، ملئت بالحرام كالربا بطون منهم، فبطونهم نار لاشتمالها على ما يؤدي إلى تلك النار، طباق تلك النار المصارين، ولو أراد الله لليهود في حال سبتهم الذي اختاروا تعظيمه على ما تقدم خيرا لكان يوم الأربعاء يوم سبتهم لأنه يوم خلق فيه النور؛ فاختيار يوم السبت دون يوم الأربعاء لسبتهم: أي سكوتهم عما عدا العبادة دليل على أنه تعالى لم يرد بهم الخير، ويوم السبت ابتداء الله فيه خلق العالم، خلافا لهم حيث قالوا إن ذلك أي ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وفرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت. قالوا: فنحن نستريح فيه كما استراح الرب تعالى فيه

وقالوا: فإن الله لا يقضي يوم السبت شيئا من خلق ولا رزق ولا رحمة ولا عذاب ولا إحياء ولا إماتة، ومن مات يوم السبت يكون محي اسمه من اللوح المحفوظ قبل ذلك، وقد كذبهم الله تعالى بقوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرّحمن: الآية 29] فكان فيه منهم ظلم وعدوان لأجل التصريف فيه بغير العبادة، فبسبب ظلم وكفر حاصل منهم فيه فاتتهم طيبات كانت حلالا لهم، فحرمها الله تعالى عليهم، فكان في ذلك ابتلاء لهم. ونقل عن ابن حجر الهيتمي رحمه الله، أنه بحث استحباب صوم يوم الأربعاء، ولما ذكر من أنه خلق فيه النور فليتأمل. ثم جاء أولئك إلى غطفان ودعوهم وحرضوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: إنا سنكون معكم، وإن قريشا قد بايعوهم على ذلك، وجعلوا لهم تمر خيبر سنة إن هم نصروهم عليه، فتجهزت قريش، أي وأتباعها من القبائل، وغطفان أي وأتباعها، وقائد قريش أبو سفيان بن حرب وكانوا أربعة آلاف، ومعهم ثلاثمائة فرس أي وألف أو خمسمائة بعير، وعقد اللواء في دار الندوة وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة المقتول والده الذي هو طلحة يوم أحد، وكذا عماه: أي عما عثمان بن طلحة وهما عثمان بن أبي طلحة وأبو سعيد بن أبي طلحة وعثمان بن أبي طلحة هو أبو شيبة كما تقدم، فشيبة ابن عم عثمان بن طلحة، وقتل يوم أحد أخوه عثمان بن طلحة الأربعة، وهم: مسافع بن طلحة، والحارث بن طلحة، وكلاب بن طلحة؟ والجلاس بن طلحة، وعثمان بن طلحة هذا، أي الحامل لواء قريش أسلم بعد ذلك، ويقال له الحجبي لأنه كان من بني عبد الدار وهم سدنة الكعبة، وبنو عبد الدار كان لهم ولأبيهم حمل لواء قريش عند الحرب دون غيرهم كما تقدم. أي وقائد غطفان عيينة بن حصن الفزاري في بني فزارة أي وهم ألف، وتقدم أن عيينة أسلم بعد ذلك، ثم ارتد بعد إسلامه وأخذ أسيرا في زمن خلافة الصديق رضي الله عنه، ثم أسلم وكان قبل إسلامه يتبعه عشرة آلاف قناة. وكان عنده جفوة وغلظة، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم في حقه «إنه الأحمق المطاع» وقال فيه «إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره» . أي وقائد بني مرة أي وهم أربعمائة الحارث بن عوف المري، وأسلم بعد ذلك: أي وقيل لم تحضر بنو مرة. وقائد بني أشجع أبو مسعود بن رخيلة، بضم الراء وفتح الخاء المعجمة وأسلم بعد ذلك. أي وقائد بني سليم وهم سبعمائة سفيان بن عبد شمس لا يعلم إسلامه. أي وقائد بني أسد طليحة بن خويلد الأسدي، وأسلم بعد ذلك: أي بعد أن

كان ارتد بعد إسلامه، ثم حسن إسلامه، وكانت أشجع وبنو أسد تتمة العشرة آلاف. فقد قال بعضهم: كانت الأحزاب عشرة آلاف، وهم ثلاث عساكر، وملاك أمرها لأبي سفيان: أي المدبر لأمرها والقائم بشأنها. ولما تهيأت قريش للخروج أتى ركب من خزاعة في أربعة ليال حتى أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أجمعوا عليه ندب الناس: أي دعاهم، وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم في أمرهم، أي قال لهم: هل نبرز من المدينة أن نكون فيها؟ فأشير عليه بالخندق، أي أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه. فقال: يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا، أي فإن ذلك كان من مكائد الفرس، وأول من فعله من ملوك الفرس ملك كان في زمن موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه، فأعجبهم ذلك، فضرب على المدينة الخندق. أي وعند ذلك ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا له ومعه عدة من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعا ينزل له، وجعل سلعا خلف ظهره، وأمرهم بالجد ووعدهم بالنصر إن هم صبروا. فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين، أي وحمل التراب على ظهره الشريف، ودأب المسلمون يبادرون قدوم العدو. قال: واستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة من مساحي وكرارين ومكاتل، وكان من جملة من يعمل في الخندق جعال أو جعيل بن سراقة؛ وكان رجلا دميما قبيح الوجه، صالحا من أصحاب الصفة. وهو الذي تمثل به الشيطان يوم أحد، وقال إن محمدا قد قتل كما تقدم، فغير صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون: سماه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قالوا عمرا قال عمرا، وإذا قالوا ظهرا قال ظهرا انتهي، أي وسياق أسد الغابة يدل على أن هذا الذي غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه عمرا غير جعيل المذكور، وحصل للصحابة رضي الله عنهم تعب وجوع لأنه كان في زمن عسرة وعام مجاعة. ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه من النصب والجوع قال متمثلا بقول ابن رواحة رضي الله عنه: اللهم لا عيش إلا عيش الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره قيل: وإنما قال ابن رواحة لا هم إن العيش من غير ألف ولام فقد غيره صلى الله عليه وسلم على ما هو عادته كما تقدم، وفي لفظ: اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فبارك في الأنصار والمهاجره

وفي لفظ: فأكرم الأنصار والمهاجرة وتقدم في بناء المسجد: اللهم إن الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره زاد في الإمتاع: اللهم العن عضلا والقاره ... هم كلفوني أنقل الحجاره وفي لفظ: هم كلفونا ننقل الحجارة، قال الحافظ ابن حجر ولعله كان «والعن إلهي عضلا والقارة» أي والتغيير منه صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فارحم المهاجرين والأناصره وفي لفظ: فانصر الأنصار والمهاجرة وأجابوه رضي الله تعالى عنهم بقولهم: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا وقال صلى الله عليه وسلم متمثلا بقول ابن رواحة وهو ينقل التراب وقد وارى الغبار جلد بطنه الشريف: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إذ لاقينا والمشركون قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا يمد بها صوته مكررا لها: أبينا أبينا. ولما بدأ صلى الله عليه وسلم بالحفر في الخندق قال: بسم الإله وبه بدينا، بكسر الدال: ولو عبدنا غيره شقينا ... يا حبذا ربا وحب دينا وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال ما تقدم عنه في بناء المسجد وهو: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأطهر وتقدم الكلام عليه وعلى إنشاده الشعر في الكلام على بناء المسجد. أي ورأيت «أن عمار بن ياسر رضي الله عنه حين كان يحفر في الخندق جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه ويقول: ابن سمية تقتلك الفئة الباغية» أي كما تقدم له في بناء المسجد، وصار الشخص منهم إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بها، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان

عليه من عمله رغبة في الخير، وتباطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف، وصار الواحد منهم يتسلل إلى أهله من غير استئذان له صلى الله عليه وسلم، أي وكان زيد بن ثابت ممن ينقل التراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه «أما إنه نعم الغلام» وغلبته عينه فنام في الخندق، فأخذ عمارة بن حزم سلاحه وهو نائم. فلما قام فزع على سلاحه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بار قد نمت حتى ذهب سلاحك. ثم قال: من له علم بسلاح هذا الغلام؟ فقال عمارة: أنا يا رسول الله وهو عندي. فقال: ردّه عليه، ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا» وإليه استند أئمتنا في تحريم أخذ متاع الغير مع عدم علمه بذلك. واشتد على الصحابة رضي الله عنهم في حفر الخندق كدية، أي محل صلب، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول وضرب فصارت كثيبا أهيل أو أهيم: أي رملا سائلا. وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء ثم تفل عليه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء أي رشه على تلك الكدية» قال بعض الحاضرين: فو الذي بعثه بالحق لا نهالت حتى عادت كالكثيب: أي الرمل، ما ترد فأسا ولا مسحاة، وهي المجرفة من الحديد. أي وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ينقلان التراب في ثيابهما إذا لم يجدا مكاتل من العجلة. وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني. فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان عليّ نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت يلمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: أو قد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: قلت نعم. قال أما الأولى، فإن الله تعالى فتح عليّ بها اليمن وأما الثانية، فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب. وأما الثالثة، فإن الله فتح عليّ بها المشرق. قال: وقد ذكر أن سلمان الفارسي رضي الله عنه تنافس فيه المهاجرون والأنصار. فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: سلمان منا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سلمان منا أهل البيت» ولذلك يشير بعضهم بقوله: لقد رقي سلمان بعد رقه ... منزلة شامخة البنيان وكيف لا والمصطفى قد عده ... من أهل بيته العظيم الشان وإنما وقع التنافس في سلمان رضي الله عنه، لأنه كان رجلا قويا يعمل عمل

عشرة رجال في الخندق، أي فكان يحفر في كل يوم خمسة أذرع في عمق خمسة أذرع حتى أصيب بالعين، أصابه بالعين قيس بن صعصعة فلبط به: أي بلام مضمومة فموحدة مكسورة فطاء مهملة: صرع فجأة، وتعطل عن العمل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم «مروه فليتوضأ وليغتسل، ويكفىء الإناء خلفه ففعل، فكأنما نشط» أي حل «من عقال» وفي لفظ «فأمر أن يتوضأ قيس لسلمان ويجمع وضوءه في ظرف ويغتسل سلمان بتلك الغسالة، ويكفىء الإناء خلف ظهره» . وذكر «أنه لما اشتدت تلك الكدية على سلمان أخذ صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان، وقال: بسم الله، وضرب ضربة فكسر ثلثها، وبرقت برقة، فخرج نور من قبل اليمن كالمصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطيت مفاتيح اليمن، إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة كأنها أنياب الكلاب. ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فخرج نور من قبل الروم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها» أي زاد في رواية «الحمر. ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر، وبرق برقة فكبر، وقال: أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب في مكاني هذا» أي وفي رواية «إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، وجعل صلى الله عليه وسلم يصف لسلمان أماكن فارس، ويقول سلمان: صدقت يا رسول الله، هذه صفتها، أشهد أنك رسول الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه فتوح يفتحها الله بعدي يا سلمان» اهـ. أي وعند ذلك قال جمع من المنافقين. منهم معتب بن قشير: ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق: أي الخوف، لا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل الله تعالى قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [آل عمران: الآية 26] الآية. وقيل في سبب نزولها أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ وهم أعزّ وأمنع من ذلك. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش ومن معها، وكانوا عشرة آلاف كما تقدم، فنزلت قريش بمجمع الأسيال وغطفان ومن معهم إلى جانب أحد، وكان المسلمون ثلاثة آلاف. أي وقد قال ابن إسحاق: سبعمائة، ووهم في ذلك. وقال ابن حزم: إنه الصحيح الذي لا شك فيه ولا وهم، وعسكر بهم صلى الله عليه وسلم إلى سفح سلع: وهو جبل فوق المدينة، أي فجعل ظهر عسكره إلى سلع كما تقدم، والخندق بينه وبين القوم،

أي وضربت له صلى الله عليه وسلم قبة من أدم. قال: وكان صلى الله عليه وسلم يعقب فيها بين ثلاثة من نسائه عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش، فتكون عائشة عنده أياما. أي فإنه مكث في عمل الخندق بضع عشرة ليلة، وقيل أربعا وعشرين ليلة، أي وقيل عشرين ليلة، وقيل قريبا من شهر، وقيل شهرا. قال بعضهم: وكونه قريبا من شهر هو أثبت الأقاويل. وقيل أثبت الأقاويل أنها كانت خمسة عشر يوما، وبه جزم النووي رحمه الله في الروضة، وسائر نسائه صلى الله عليه وسلم في بني حارثة، وجعل النساء والذراري في الآطام، وعرض الغلمان وهو يحفر الخندق وكانوا بأجمعهم من بلغ ومن لم يبلغ يعملون فيه، فلما التحم الأمر أمر من لم يبلغ خمس عشرة سنة أن يرجع إلى أهله، وأجاز من بلغ خمس عشرة سنة. فمن أجازه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهم اهـ وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فصارت كالحصن. وفي كلام بعضهم: كان أحد جوانب المدينة عورة، وسائر جوانبها مشتبكة بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدوّ منه، فاختار ذلك الجانب للخندق. واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه. وأرسل سليطا وسفيان بن عوف طليعة للأحزاب فقتلوهما، فأتي بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنهما في قبر واحد، فهما الشهيدان القرينان. وأعطى لواء المهاجرين لزيد بن حارثة ولواء الأنصار لسعد بن عبادة، وبعث مسلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير تخوفا على الذراري من بني قريظة، أي لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنهم نقضوا ما بينه وبينهم من العهد كما سيأتي، أي وأنهم يريدون الإغارة على المدينة، فإن حيي بن أخطب أرسل إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل، وإلى غطفان أن يأتيه منهم ألف رجل أخرى ليغيروا على المدينة، وجاء الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم البلاء، وصار الخوف على الذراري أشدّ من الخوف على أهل الخندق. ولما نظر المشركون إلى الخندق قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، وصار المشركون يتناوبون، فيغدو أبو سفيان في أصحابه يوما، ويغدو خالد ابن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو جبيرة بن وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم ويفترقون مرة، ويجتمعون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي يقربون منهم، ويقدمون رجالهم فيرمون، ومكثوا على ذلك المدة المتقدمة، ولم يكن بينهم

حرب إلا الرمي بالنبل والحصى. وفي تلك المدّة أقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق فقتله الله: أي اندقت عنقه. أي وفي لفظ: وأما نوفل بن عبد الله، فضرب فرسه ليدخل الخندق فوقع فيه مع فرسه فتحطما جميعا. وقيل رمي بالحجارة، فجعل يقول: قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب؟ فنزل إليه علي كرم الله وجهه فقتله: أي ضربه بالسيف فقطعه نصفين، وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيك الدية على أن تدفعه إلينا فندفنه. فردّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب: أي غرض لنا في ديته. وقيل أعطوا في جثته عشرة آلاف، أي وفي رواية أنهم أرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم: أن أرسل إلينا بجسده ونعطيك اثني عشر ألفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في جثته ولا في ثمنه، ادفعوه إليهم فإنه خبيث الجسد خبيث الدية. وفي لفظ: إنما هي جيفة حمار. ثم إن عدوّ الله حيي بن أخطب سيد بني النضير، كان يقول لقريش في مسيره معهم إن قومي بني قريظة معكم وهم أهل حلقة وافرة، وهم سبعمائة مقاتل وخمسون مقاتلا، فقال له أبو سفيان: ائت قومك حتى ينقضوا العهد الذي بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك خرج حيي لعنه الله حتى أتى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة وولي عهدهم الذي عاهدهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي المتقدّم ذكره، فدق عليه باب حصنه، فأبي أن يفتح له وألح عليه في ذلك. فقال له: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. فقال له: ويحك افتح لي أكلمك، فقال: ما أنا بفاعل، فغاظه، فقال له: والله ما أغلقت دوني إلا تخوّفا على جشيشتك، أي بالجيم المفتوحة والشين المعجمة- وهي البر يطحن غليظا، ويقال له الدشيش- أن آكل معك منها ففتح له. فقال له: ويحك يا كعب، جئت بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال، وبغطفان حتى أنزلتهم بجانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، وكل ما يخشى، فإني لم أر في محمد إلا صدقا ووفاء. وفي لفظ: جئتني بجهام: أي سحاب قد هراق ماء: أي لا ماء فيه، يرعد ويبرق، وليس فيه شيء، ويحك يا حيي، دعني وما أنا عليه. فلم يزل حيي بكعب حتى أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يقتلوا محمدا أن يكون معه في حصنه ويصيبه ما أصابه، فعند ذلك نقض كعب العهد، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومزقوا

الصحيفة التي كان فيها العقد، وجمع رؤساء قومه وهم الزبير بن مطا، وشاس بن قيس، وعزال بن ميمون، وعقبة بن زيد، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد وشق الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلجم الأمر لما أراد الله من هلاكهم. وكان حيي بن أخطب في اليهود يشبه بأبي جهل في قريش. فلما انتهى الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أخبره بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال: يا رسول الله بلغني أن بني قريظة قد نقضت العهد وحاربت، فاشتدّ الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشق عليه ذلك. وأرسل سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وأرسل معهما ابن رواحة وخوات بن جبير. وأسقطهما في الإمتاع وذكر بدلهما أسيد بن حضير. وقال لهم: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقا فالحنوا إليّ لحنا أعرفه دون القوم، أي ورّوا وكنوا في كلامكم بما لم يفهمه القوم، أي لئلا يحصل لهم الوهن والضعف، وإلا فاجهروا بذلك بين الناس. فإن اللحن العدول بالكلام عن الوجه المعروف عند الناس إلى وجه لا يعرفه إلا صاحبه؛ كما أن اللحن الذي هو الخطأ عدول على الصواب المعروف، ومنه قول القائل «وخير الحديث ما كان لحنا» فخرجوا حتى أتوا بني قريظة فوجدوهم قد نقضوا العهد ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي قالوا من رسول الله؟ تبرؤوا من عقده وعهده، وقالوا لا عهد بيننا وبين محمد، فشتمهم سعد بن معاذ وهم حلفاؤه، أي وقيل سعد بن عبادة أي وكان فيه حدة وشاتموه أي ولا مانع من وجود الأمرين. وقال سعد بن معاذ لسعد بن عبادة: أو بالعكس؟ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى، أي أقوى من المشاتمة. ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنوا له عن نقضهم العهد، أي قالوا عضل والقارة: غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، وسيأتي خبر ذلك في السرايا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أي وقال: أبشروا يا معاشر المسلمين نصرة الله تعالى وعونه، وتقنع صلى الله عليه وسلم بثوبه واضطجع ومكث طويلا، فاشتدّ على الناس البلاء والخوف حين رأوه صلى الله عليه وسلم اضطجع ثم رفع رأسه، فقال: أبشروا بفتح الله ونصره، أي ولعل هذا: أي إرسال السعدين ومن معهما كان بعد إرساله صلى الله عليه وسلم الزبير إليهم ليأتي بخبرهم، هل نقضوا العهد استثباتا للأمر. فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمرو بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان بن ثابت. أي وكان حسان مع النساء، ومن جملتهم صفية بنت عبد المطلب، واتفق أن يهوديا جعل يطوف بذلك الحصن. فقالت صفية لحسان: يا حسان لا آمن هذا اليهودي أن يدلهم على عورة الحصن فيأتوا إلينا، فانزل فاقتله. قال حسان رضي الله عنه: يا بنت عبد المطلب قد عرفت

ما أنا بصاحب هذا. قالت: فلما أيست منه أخذت عمودا ونزلت ففتحت باب الحصن وأتيته من خلفه فضربته بالعمود حتى قتلته، وصعدت الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. فقال: يا بنة عبد المطلب ما لي بسلبه حاجة. أي وهذا يدل على ما قيل إن حسان بن ثابت كان من أجبن الناس كما تقدم. قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا. فلما رجعت، قلت يا أبت رأيتك تختلف إلى بني قريظة. قال: رأيتني يا بني؟ قلت نعم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه. فقال: فداك أبي وأمي أخرجه الشيخان. أي وفي كلام ابن عبد البر رحمه الله ثبت عن الزبير رضي الله عنه أنه قال: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه مرتين: يوم أحد، ويوم بني قريظة، فقال: ارم فداك أبي وأمي. وقال ولعل ذلك كان في أحد «إن لكل نبي حواريا، وإن حواريّ الزبير» وقال «الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي» ويذكر أن الزبير رضي الله عنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج. وكان يتصدق بذلك كله ولا يدخل بيته من ذلك درهما واحدا وذلك من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم. فقد جاء أنه لما نزل قوله تعالى ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) [التكاثر: الآية 8] قال له الزبير: يا رسول الله أي نعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان التمر والماء؟ قال: أما إنه سيكون، وقد جعله سبعة من الصحابة وصيا على أولادهم، فكان يحفظ على أولادهم ما لهم وينفق عليهم من ماله، وهؤلاء السبعة: منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، والمقداد، وابن مسعود. وعظم عند ذلك البلاء على المسلمين لما وصل إليهم الخبر: أي خبر نقض بني قريظة العهد. ولا منافاة بين بلوغهم الخبر وما تقدم من عدم الإفصاح به، لأنهم جاءهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المسلمون كل الظن، وأنزل الله تعالى إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] وظهر النفاق من المنافقين حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، فأنزل الله تعالى وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) [الأحزاب: الآية 12] . ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الأمر بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري في أن يقطعهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه. فجاآ مستخفيين من أبي سفيان فوافقاه على ذلك، أي بعد أن طلبا النصف فأبى عليهما إلا الثلث، فرضيا وكتبا بذلك صحيفة.

أي وفي رواية: أحضرت الصحيفة والدواة ليكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه الصلح. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقع الصلح على ذلك، بعث إلى سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فتصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ أي وفي لفظ: إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمع وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي، فما لهم عندنا إلا السيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أمرني الله ما شاورتكما، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر شوكتهم إلى أمرّ ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم: أي غطفان على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أي وإن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نقطعهم أموالنا. أي وفي لفظ: نعطي الدنية ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحى ما فيها من الكتابة. أي وهذا إنما يناسب الرواية الأولى، وكذا ما جاء في لفظ. «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شق الكتاب، فشقه سعد، وقال لعيينة والحارث: ارجعا بيننا وبينكم السيف رافعا صوته. ثم قال لسعد ليجهدوا علينا» . ثم إن طائفة من المشركين أقبلوا: أي وأكرهوا خيولهم على اقتحام الخندق من مضيق به وفيهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فإنه أسلم بعد ذلك. وفيهم هبيرة بن أبي وهب أي وهو زوج أم هانىء أخت علي كرم الله وجهه رضي الله عنها، وأبو أولادها، مات على كفره. وضرار بن الخطاب وعمرو بن عبدود. أي قيل ونوفل بن عبد الله، وكان عمرو بن عبدود عمره إذ ذاك تسعين سنة، فقال: من يبارز، فقام علي كرم الله وجهه وقال: أنا له يا نبي الله. فقال صلى الله عليه وسلم له اجلس إنه عمرو بن عبدود. ثم كرر عمرو النداء وجعل يوبخ المسلمين ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزنّ لي رجلا وأنشد أبياتا منها ولقد بححت من الندا ... ء يجمعكم هل من مبارز إن الشجاعة في الفتى ... والجود من خير الغرائز فقام علي كرم الله وجهه، فقال: أنا له يا رسول الله، فقال: اجلس إنه عمرو بن عبدود. ثم نادى الثالثة، فقام علي كرم الله وجهه فقال: أنا له يا رسول الله، فقال: إنه عمرو فقال وإن كان عمرا، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشد سيدنا عليّ أبياتا منها:

لا تعجلن فقد أتا ... ك مجيب قولك غير عاجز ذو نية وبصيرة ... والصدق منجي كل فائز وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وعممه بعمامته. وقال «اللهم أعنه عليه، أي وفي لفظ: اللهم هذا أخي وابن عمي، فلا تذرني فردا وأنت خير الوارثين» . زاد في رواية «أنه صلى الله عليه وسلم رفع عمامته إلى السماء. وقال: إلهي أخذت عبيدة مني يوم بدر وحمزة يوم أحد، وهذا عليّ أخي وابن عمي» الحديث، فمشى إليه علي كرّم الله وجهه، فقال له: يا عمرو إنك كنت قد عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين: أي خصلتين إلا أخذتها منه. قال له أجل: أي نعم، فقال له علي كرّم الله وجهه: فأنا أدعوك إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الإسلام فقال: لا حاجة لي بذلك. قال له عليّ: فإني أدعوك إلى البراز. قال وفي رواية: إنك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاثة إلا قبلتها. قال: أجل، فقال عليّ: فإني أدعوك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتسلم لرب العالمين، فقال: يابن أخي أخر عني هذه. قال: وأخرى، ترجع إلى بلادك، فإن يك محمد صلى الله عليه وسلم صادقا كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذبا كان الذي تريد. قال: هذا ما لا تتحدث به نساء قريش أبدا، كيف وقد قدرت على استيفاء ما نذرت، أي فإنه نذر لما أفلت هاربا يوم بد وقد جرح أن لا يمس رأسه دهنا حتى يقتل محمدا صلى الله عليه وسلم. قال: فالثالثة ما هي؟ قال البراز، فضحك عمرو وقال: إن هذه لخصلة ما مكنت أظن أحدا من العرب يروّعني بها اهـ ثم قال له عند طلب المبارزة: لم يابن أخي؟ فو الله ما أحب أن أقتك، فقال علي كرّم الله وجهه: ولكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك: أي أخذته الحمية. وفي رواية أن عمرا قال له: من أنت أي لأن عليا كرّم الله وجهه كان مقنعا بالحديد، قال: عليّ، قال ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: غيرك يابن أخي من أعمامك من هو أشد منك، فإني أكره أن أهريق: أي أسيل دمك، أي وزاد في رواية: فإن أباك كان لي صديقا، أي وفي لفظ: كنت له نديما، فقال علي: وأنا والله ما أكره أن أهريق دمك، فغضب، فقال له علي كرّم الله وجهه: كيف أقاتلك وأنت على فرسك ولكن أنزل معي، فاقتحم عن فرسه وسلّ سيفه كأنه شعلة نار، فعقر فرسه وضرب وجهه، وأقبل على عليّ كرّم الله وجهه، فاستقبله على بدرقته فضربه عمرو فيها فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، فضربه علي كرم الله وجهه على حبل عاتقه أي وهو موضع الرداء من العنق فسقط وكبر

المسلمون، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير عرف أن عليا كرم الله وجهه قتل عمرا لعنه الله. أي وذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك قال «قتل علي لعمرو بن عبدود أفضل من عبادة الثقلين» قال الإمام أبو العباس بن تيمية: وهذا من الأحاديث الموضوعة التي لم ترد في شيء من الكتب التي يعتمد عليها ولا بسند ضعيف، وكيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين الإنس والجن ومنهم الأنبياء. قال: بل إن عمرو بن عبدود هذا لم يعرف له ذكر إلا في هذه الغزوة. أقول: ويردّ قوله إن عمرو بن عبدود هذا لم يعرف له ذكر إلا في هذه الغزوة قول الأصل. وكان عمرو بن عبدود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما: أي جعل له علامة يعرف بها ليرى مكانه، أي ويرده أيضا ما تقدم من أنه نذر أن لا يمس رأسه دهنا حتى يقتل محمدا صلى الله عليه وسلم، واستدلاله بقوله وكيف يكون إلى آخره فيه نظر، لأن قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان للكافرين. وفي تفسير الفخر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه بعد قتله لعمرو بن عبدود «كيف وجدت نفسك معه يا علي؟ قال: وجدته لو كان أهل المدينة كلهم في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم» . وفي كلام السهيلي رحمه الله: ولما أقبل علي كرم الله وجهه بعد قتله لعمرو بن عبدود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متهلل، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هلا سلبته درعه، فإنه ليس في العرب درع خير منها؟ قال: إني حين ضربته استقبلني بسوءته فاستحيت يابن عمي أن أسلبه، هذا كلامه. وعندي أن هذا اشتباه من بعض الرواة، لأن هذه الواقعة لعلي كرم الله وجهه إنما كانت في يوم أحد مع طلحة بن أبي طلحة كما تقدم وعمرو بن عبدود لم يشهد أحدا كما تقدم عن الأصل فليتأمل. قال: وذكر ابن إسحاق أن المشركين بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لكم ولا نأكل ثمن الموتى، وحين قتل عمرو رجع من وصل الخندق من المشركين بخيلهم هاربين، فتبعهم الزبير رضي الله عنه وضرب نوفل بن عبد الله بالسيف فشقه نصفين ووصلت الضربة إلى كاهل فرسه، فقيل له: يا أبا عبد الله ما رأينا مثل سيفك، فقال والله ما هو السيف ولكنها الساعد، أي وفيه أنه تقدم أن نوفل بن عبد الله وقع في الخندق فاندقت عنقه إلى آخر ما تقدم، لكني رأيت بعضهم قال: إن وقوع نوفل في الخندق ورميه بالحجارة وقتل عليّ كرم

الله وجهه له في الخندق غريب من وجهين فليتأمل. وحمل الزبير رضي الله عنه على هبيرة بن أبي وهب وهو زوج أم هانىء أخت علي بن أبي طالب كما تقدم، فضرب ثغر فرسه فقطعه، وسقطت درع كان محقبها الفرس: أي جعلها على مؤخر ظهرها، فأخذها الزبير، وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه وهو منهزم انتهى. أي وفي رواية: ثم حمل ضرار بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهبيرة بن أبي وهب على علي كرم الله وجهه فأقبل عليّ عليهما فأما ضرار فولى هاربا ولم يثبت، وأما هبيرة فثبت ثم ألقى درعه وهرب وكان فارس قريش وشاعرها. وذكر أن ضرار بن الخطاب لما هرب تبعه أخوه عمر بن الخطاب وصار يشتد في أثره، فكر ضرار راجعا وحمل على عمر رضي الله عنه بالرمح ليطعنه ثم أمسك وقال: يا عمر هذه نعمة مشكورة أثبتها عليك ويدلي عندك غير مجزيّ بها فاحفظها. أي ووقع له مع عمر رضي الله عنه مثل ذلك في أحد، فإنه التقى معه، فضرب عمر رضي الله عنه بالقناة ثم رفعها عنه وقال له: ما كنت لأقتلك يابن الخطاب، ثم منّ الله على ضرار فأسلم وحسن إسلامه، وكان شعار المسلمين «حمّ لا ينصرون» أي ولعل المراد بالمسلمين الأنصار، فلا يخالف ما في الإمتاع، وكان شعار المهاجرين «يا خيل الله» . وفيه خرجت طائفتان للمسلمين ليلا لا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون إلا أنهم العدوّ فكانت بينهم جراحة وقتل ثم نادوا بشعار الإسلام «حمّ لا ينصرون» فكف بعضهم عن بعض. وقد يقال: يجوز أن تكون الطائفتان كانتا من الأنصار جاؤوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «جراحكم في سبيل الله، ومن قتل فهو شهيد» وبهذا استدل أئمتنا على أن من قتله مسلم خطأ في الحرب يكون شهيدا. ورمي سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله: وهو عرق في الذراع تتشعب منه عروق البدن، ولعله محل الفصد الذي يقال له المشترك، أي ويقال لهذا العرق عرق الحياة. أي رماه ابن العرقة اسم جدّته، سميت بذلك لطيب عرقها، وقال خذها وأنا ابن العرقة، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: عرّق الله وجهه في النار، وقيل قائل ذلك سعد رضي الله عنه، وعند ذلك قال سعد: اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم يعني قريشا فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني. وفي لفظ: حتى تشفيني من بني قريظة، وفي لفظ: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وأخرجوه وكذبوه.

وفي يوم استمرت المقاتلة، قيل من سائر جوانب الخندق إلى الليل ولم يصلّ صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. أي وصار المسلمون يقولون: ما صلينا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ولا أنا، فلما انكشف القتال جاء صلى الله عليه وسلم إلى قبته وأمر بلالا فأذن وأقام الظهر فصلى ثم أقام بعد كل صلاة إقامة وصلى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى الظهر ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء» . أقول: في الرواية الأولى ما يشهد لقول إمامنا الشافعي: يندب أن يؤذن للأولى من الفوائت ويقيم لما عداها إذا قضاها متوالية، وكونه يؤذن للأولى من الفوائت هو ما ذهب إليه في القديم وهو المفتي به. وفي الرواية الثانية دليل على أنه يؤذن لكل من الفوائت إذا قضاها متوالية، ولم يقل به إمامنا، فإنه جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه مرسلا لأنه رواه عنه ابنه أبو عبيدة ولم يسمع منه لصغر سنه. وروى إمامنا الشافعي رضي الله عنه بإسناد صحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هويّ» أي طائفة «من الليل حتى كفينا القتال، وذلك قوله تعالى وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب: الآية 25] فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك» أي وفي لفظ «فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها، وهو دليل لعدم ندب الأذان للفائتة، وهو ما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله عنه في الجديد وهو مرجوح. وجمع الإمام النووي في شرح المهذب بين رواية إلى الليل ورواية حتى ذهب هويّ من الليل بأنهما قضيتان جرتا في أيام الخندق، قال: فإنها كانت خمسة عشر يوما، أي على ما تقدّم. وفيه أن كونهما قضيتين أمر واضح لاخفاء فيه، لأن في الأولى وفي يوم استمرت المقاتلة إلى الليل، وفي الثانية حتى كفينا القتال، فمع ذلك كيف يظن أنهما قضية واحدة حتى يحتاج إلى الجمع، وظاهر سياق هذه الروايات أنه صلى الأربع صلوات بوضوء واحد وبه صرّح البغوي في تفسير سورة المائدة، وحينئذ يحتاج للجمع بينه وبين ما يأتي في فتح مكة. وروى الطحاوي، واستدل به مكحول والأوزاعي على جواز تأخير الصلاة لعذر

القتال أن الشمس ردت له صلى الله عليه وسلم بعد ما غربت حين شغل عن صلاة العصر حتى صلى العصر، وذكر الإمام النووي في شرح مسلم أن رواته ثقات. وفي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أنه جاء يوم الخندق بعد ما كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها- يعني العصر- فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب» وهذه الرواية تقتضي أنه لم يفته إلا العصر وأنه صلاها بعد الغروب. قال الإمام النووي رحمه الله: وطريق الجمع أن هذا كان في بعض أيام الخندق، وكون صلاة العصر هي الوسطى قد جاء في بعض الروايات «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غابت الشمس، ملأ الله أجوافهم» وفي لفظ «بطونهم وقبورهم نارا» والذي في البخاري ومسلم وأي داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس» وكون الوسطى هي صلاة العصر هو قول من تسعة عشر قولا ذكرها الحافظ الدمياطي في مؤلف له سماه [كشف الغطا عن الصلاة الوسطى] وفي الينبوع أن كون الصلاة الوسطى هي العصر هو الذي أعتقده والله أعلم. قال وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب، فلما فرغ قال: أحد منكم علم أني صليت العصر؟ قالوا: يا رسول الله ما صلينا» أي لا نحن ولا أنت «فأمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر ثم أعاد المغرب» قيل وكان ذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: الآية 239] اهـ. أقول: يحتاج إلى الجواب عن إعادة المغرب. وقد يقال: أعادها مع الجماعة، وأن قوله فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: الآية 239] يرشد إلى أن المراد بصلاة الخوف صلاة شدته لا صلاة ذات الرقاع التي نزل فيها قوله تعالى وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء: الآية 102] الآية كما تقدم، فلا ينافي ما تقدم من صلاته في الرقاع بناء على تقدمها على هذه الغزوة التي هي غزوة الخندق. وحينئذ يندفع الاستدلال على أن ذات الرقاع متأخرة عن الخندق بقولهم ولم تكن شرعت صلاة الخوف: أي صلاة ذات الرقاع، وإلا لصلاها في الخندق، ولم يخرج الصلاة عن وقتها لما علمت أن المراد بصلاة الخوف التي لم تشرع زمن الخندق صلاة شدته لا صلاة ذات الرقاع. وسقط القول بأن الآية التي نزلت في صلاة ذات الرقاع منسوخة، فتركه صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة في الخندق، لأن الخندق وإن لم يلتحم فيه القتال إلا أنهم لا يأمنون هجوم العدوّ عليهم، فلو صلوها لكانت تلك الصلاة صلاة شدة الخوف لا صلاة ذات الرقاع، لأن شرطها أمن هجوم العدو،

وصلاة شدة الخوف إما أن يلتحم فيها القتال أو يخافوا هجوم العدو. وقول بعضهم أن ابن إسحاق وهو إمام أهل المغازي ذكر أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان، وذكر أنها قبل الخندق، فتكون صلاة عسفان منسوخة أيضا فيه نظر ظاهر، لأن صلاة عسفان إنما كانت في الحديبية كما سيأتي. وعلى تسليم أن صلاة عسفان كانت قبل الخندق، فتلك يشترط فيها الأمن من هجوم العدوّ والله أعلم. قال: ثم إن طائفة من الأنصار خرجوا ليدفنوا ميتا منهم بالمدينة فصادفوا عشرين بعيرا لقريش محملة شعيرا وتمرا وتبنا، حملها ذلك حيي بن أخطب شدادا وتقوية لقريش فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوسع بها أهل الخندق. ولما بلغ أبا سفيان ذلك قال: إن حييا لمشؤوم، فطع بنا ما نجد ما نحمل عليه إذا رجعنا. ثم إن خالد بن الوليد كرّ بطائفة من المشركين يطلب غرّة للمسلمين: أي غفلتهم، فصادف أسيد بن حضير على الخندق في مائتين من المسلمين فناوشوهم: أي تقاربوا منهم ساعة، وكان في أولئك المشركين وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه، فرزق الطفيل بن النعمان فقتله، ثم بعد ذلك صاروا يرسلون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة: أي الإغارة، فأقام المسلمون في شدة من الخوف. أي وفي الصحيحين «ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب. فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، وزلزلهم» أي وقام في الناس فقال «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية فإن لقيتم العدوّ فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» أي السبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيف في سبيل الله تعالى. ودعا صلى الله عليه وسلم بقوله «يا صريخ المكروبين، يا مجيب المضطرين، اكشف همي وغمي وكربي، فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي. وقال له المسلمون رضي الله عنهم: هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، فأتاه جبريل عليه السلام فبشره أن الله يرسل عليهم ريحا وجنودا، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك وصار يرفع يديه قائلا شكرا شكرا» . وجاء أن دعاءه صلى الله عليه وسلم عليهم كان يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء واستجيب له ذلك اليوم الذي هو يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فعرف السرور في وجهه صلى الله عليه وسلم أي ومن ثم كان جابر رضي الله عنه يدعو في مهماته في ذلك اليوم في ذلك الوقت، ويتحرى ذلك. والأحاديث والآثار التي جاءت بذم يوم الأربعاء محمولة على آخر أربعاء في

الشهر، فإن في ذلك اليوم ولد فرعون وادعى الربوبية وأهلكه الله فيه، وهو اليوم الذي أصيب فيه أيوب عليه الصلاة والسلام بالبلاء. قال: وكان صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمة في الخندق. والثلمة: الخلل في الحائط فعن عائشة رضي الله عنه قالت: كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى تلك الثلمة، فإذا أخذه البرد جاء فأدفأته في حضني، فإذا دفىء خرج إلى تلك الثلمة ويقول: ما أخشى أن تؤتي المسلمون إلا منها، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضني صار يقول «ليت رجلا صالحا يحرس هذه الثلمة الليلة، فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال سعد بن أبي وقاص: سعد، يا رسول الله أتيتك أحرسك، فقال عليك هذه الثلمة فاحرسها، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غط، وقام صلى الله عليه وسلم في قبته يصلي لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» ومن ثم لما نعي لابن عباس أخوه قثم وهو في سفر استرجع وتنحى عن الطريق وصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس وتلا وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: الآية 45] . ثم خرج صلى الله عليه وسلم من قبته، فقال: هذه خيل المشركين تطيف بالخندق، ثم نادى صلى الله عليه وسلم: يا عباد بن بشر، قال: لبيك؛ قال هل معك أحد، قال: نعم أنا في نفر حول قبتك يا رسول الله، وكان ألزم الناس لقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسها، فبعثه صلى الله عليه وسلم يطيف بالخندق، وأعلمه بأن خيل المشركين تطيف بهم. ثم قال: اللهم ادفع عنا شرهم، وانصرنا عليهم، واغلبهم لا يغلبهم غيرك. وإذا أبو سفيان في خيل يطوفون بمضيق من الخندق، فرماهم المسلمون حتى رجعوا. ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ليلا، فقال: يا رسول الله إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. قال وفي رواية أن نعيما لما سارت الأحزاب سار مع قومه: أي غطفان وهو على دينهم، فقذف الله في قلبه الإسلام، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء فوجده يصلي، فلما رآه جلس. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك يا نعيم؟ قال: جئت أصدقك، وأشهد أن ما جئت به حق فأسلم انتهى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة بفتح الخاء وسكون الدال المهملة: أي ينقضي أمرها بالمخادعة. فقال له نعيم: يا رسول الله إني أقول: أي ما يقتضيه الحال وإن كان خلاف الواقع. قال: قل ما بدا لك فأنت في حل. فخرج نعيم رضي الله عنه حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما. قال: فلما رأوني رحبوا بي وعرضوا علي الطعام والشراب. فقلت: إني لم آت لشيء من هذا، إنما جئتكم تخوفا عليكم لأشير عليكم برأي، يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، ليست عندنا بمتهم. فقال لهم: اكتموا

عني، قالوا: نفعل. قال: لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع ولبني النضير من إجلائهم وأخذ أموالهم، وإن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم، وبها أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، لا تقدرون على أن ترحلوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم: أي عاونتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة: أي فرصة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين بلدكم، والرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، أي سبعين رجلا يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى يناجزوه: أي يقاتلوه. قالوا له: لقد أشرت بالرأي والنصح، ودعوا له وشكروا، وقالوا: نحن فاعلون. قال: ولكن اكتموا عني، قالوا: نفعل. ثم خرج رضي الله عنه حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان ومن معه من أشراف قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي لمحمد، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا. قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن معشر يهود: يعني بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد: أي من نقض عهده. وقد أرسلوا إليه، أي وأنا عندهم أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان رجالا من أشرافهم، أي سبعين رجلا فنعطيكهم فتضرب أعناقهم؟ أي وتردّ جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم: يعنون بني النضير، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم نعم، فإن بعثت إليكم يهود يطلبون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا، واحذروهم على أسراركم، ولكن اكتموا عني ولا تذكروا من هذا حرفا. قالوا: لا نذكره. ثم خرج رضي الله عنه حتى أتى غطفان. فقال: يا معشر غطفان، إنكم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عليّ، قالوا نعم، فقال لهم، مثل ما قال لقريش وحذرهم. فلما كان ليلة السبت، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز: أي نقاتل محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم: إن اليوم: أي الذي يلي هذه الليلة يوم السبت، وقد علمتم ما نال منا من تعدي في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، أي سبعين رجلا، فقالوا: صدق والله نعيم. وفي رواية أن بني قريظة أرسلت لقريش قبل مجيء رسل قريش إليهم رسولا يقول لهم: ما هذا التواني، والرأي أن تتواعدوا على يوم يكونون معكم فيه لكنهم لا

يخرجون حتى ترسلوا إليهم رهنا سبعين رجلا من أشرافكم، فإنهم يخافون إن أصابكم ما تكرهون رجعتم وتركتموهم، فلم ترد لهم قريش جوابا. وجاءهم نعيم وقال لهم: كنت عند أبي سفيان، وقد جاءه رسولكم. فقال لو طلبوا مني عناقا ما دفعتها لهم، فاختلفت كلمتهم، أي وجاء حيي بن أخطب لبني قريظة فلم يجد منهم موافقة له وقالوا: لا نقاتل معهم حتى يدفعوا إلينا سبعين رجلا من قريش وغطفان رهنا عندنا، وبعث الله تعالى ريحا عاصفا، أي وهي ريح الصبا في ليال شديدة البرد، فنقلت بيوتهم، وقطعت أطنابها، وكفأت قدورهم على أفواهها، وصارت الريح تلقي الرجال على أمتعتهم. وفي رواية: دفنت الرجال وأطفأت نيرانهم. أي وأرسل الله إليهم الملائكة زلزلتهم. قال تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: الآية 9] ولم تقاتل الملائكة بل نفثت في روعهم الرعب. وقال صلى الله عليه وسلم «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» وفي لفظ «نصر الله المسلمين بالريح، وكانت ريحا صفراء ملأت عيونهم ودامت عليهم» . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه اختلاف كلمتهم، وكانت تلك الليلة شديدة البرد والريح في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وسيأتي أنها لم تجاوز عسكر المشركين، وشديدة الظلمة بحيث لا يرى الشخص أصبعه إذا مدها. فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون إن بيوتنا عورة: أي من العدو، لأنها خارج المدينة، وحيطانها قصيرة يخشى عليها السرقة، فائذن لنا أن نرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا فيأذن صلى الله عليه وسلم لهم. قيل ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم تلك الليلة إلا ثلاثمائة، وقال: من يأتينا بخبر القوم: فقال الزبير رضي الله عنه: أنا. قال صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاثا والزبير يجيبه بما ذكر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل نبي حواري» أي ناصر «وإن حواري الزبير» أي وهذا قاله صلى الله عليه وسلم له أيضا عند إرساله لكشف خبر بني قريظة، هل نقضوا العهد أولا؟ كما تقدم. وسيأتي قول ذلك له أيضا في خيبر. وفي الحديث «حواري الزبير من الرجال وحواري من النساء عائشة» وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال إلا رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة» وفي لفظ «يكون معي يوم القيامة» وفي لفظ «يكون رفيق إبراهيم يوم القيامة» قال ذلك ثلاثا فما قام أحد من شدة الخوف والجوع والبرد، فدعا صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان. قال: فلم أجد بدّا من القيام حيث فوّه باسمي، فجئته صلى الله عليه وسلم فقال: تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم؟ فقلت: لا، والذي بعثك بالحق إن قدرت. أي ما قدرت على ما بي من الجوع والبرد والخوف، فقال: اذهب حفظك الله من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا. قال حذيفة: فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني. وقال: يا حذيفة اذهب فادخل في

القوم، فقمت مستبشرا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأني احتملت احتمالا، وذهب عني ما كنت أجد من الخوف والبرد، وعهد صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا أحدث حدثا. وفي رواية «أما سمعت صوتي؟ قلت نعم. قال: فما منعك أن تجيا بني؟ قلت البرد. قال: لا برد عليك حتى ترجع» كما يدل على ذلك الرواية الآتية «فقال له: إن في القوم خبرا فائتني بخبر القوم» قال: وفي رواية «إنه صلى الله عليه وسلم لما كرر قوله: ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة؟ ولم يجبه أحد. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله حذيفة. قال حذيفة: فمر عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عليّ جنة من العدو والبرد إلا مرطا لامرأتي ما يجاوز ركبتيّ، وأنا جاث على ركبتي. فقال: من هذا؟ قلت: حذيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حذيفة، قال حذيفة رضي الله عنه: فتقاصرت بالأرض. قلت: بلى يا رسول الله. قال: قم، فقمت. فقال: إنه كائن في القوم خبر فائتني بخبر القوم. فقلت: والذي بعثك بالحق ما قمت إلا حياء منك من البرد. قال: لا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إليّ. فقلت: والله ما بي أن أقتل، ولكن أخشى أن أوسر. فقال: إنك لن تؤسر. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فمضيت كأني أمشي في حمام» مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار وهو عربي «قال حذيفة: فلما وليت دعاني، فقال لي: لا تحدثن شيئا» وفي رواية، لا ترم بسهم ولا حجر، ولا تضربن بسيف حتى تأتيني. فجئت إليهم ودخلت في غمارهم، فسمعت أبا سفيان يقول: يا معشر قريش ليتعرف كل امرىء منكم جليسه، واحذروا الجواسيس والعيون، فأخذت بيد جليسي على يميني وقلت من أنت؟ فقال: معاوية بن أبي سفيان، وقبضت يد من على يساري. وقلت: من أنت، قال عمرو بن العاص، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، والله إنكم لستم بدار مقام. ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم، أي فإنه لما ركبه كان معقولا، فلما ضربه وثب على ثلاثة قوائم، ثم حل عقاله. فقال له عكرمة بن أبي جهل: إنك رأس القوم وقائدهم تذهب وتترك الناس، فاستحيى أبو سفيان وأناخ جمله وأخذ بزمامه وهو يقوده. وقال ارحلوا، فجعل الناس يرحلون وهو قائم. ثم قال لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله نقيم في جريدة من الخيل بإزاء محمد وأصحابه، فإنا لا نأمن أن نطلب، فقال عمرو: أنا أقيم، وقال لخالد بن الوليد: ما ترى أبا سليمان؟ فقال: أنا أيضا أقيم، فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس، وسار جميع العسكر. قال حذيفة رضي الله عنه: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ حين بعثني أن لا أحدث شيئا لقتلته؟ يعني أبا سفيان بسهم، وسمعت غطفان بما

فعلت قريش فاشتدوا راجعين إلى بلادهم» . وفي رواية «فدخلت العسكر، فإذا الناس في عسكرهم يقولون الرحيل الرحيل لا مقام لكم والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم، وتضربهم بالحجارة، والريح لا تجاوز عسكرهم، فلما انتصفت الطريق إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمين، فخرج إليّ منهم فارسان وقالا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم. قال حذيفة: ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قائما يصلي فخبرته، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، أي وفي رواية «فأخبرته الخبر فضحك حتى بدت ثناياه في سواد الليل، وعاودني البرد، فجعلت أقرقف، فأومأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فدنوت منه، فسدل عليّ من فضل شملته فنمت ولم أزل نائما حتى الصبح» أي طلوع الفجر «فلما أن أصبحت» أي دخل وقت صلاة الصبح «وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا نومان: أي يا كثير النوم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال له: لا بأس عليك من برد حتى ترجع إليّ» . أي ومن هذا أي إرسال حذيفة رضي الله عنه وما تقدّم: أي من إرسال الزبير رضي الله عنه تعلم أن ذلك كان في الخندق، ولا مانع منه، لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم عدل عن إرسال الزبير، واختار حذيفة لأمر قام عنده صلى الله عليه وسلم، من جملة ذلك كون الزبير رضي الله عنه كان عنده حدة وشدة لا يملك نفسه أن يحدث بالقوم ما نهى عنه حذيفة رضي الله عنه، وحينئذ يرد قول بعضهم إن الزبير إنما أرسل لكشف أمر بني قريظة هل نقضوا العهد أم لا؟ لا لكشف أمر قريش، وحذيفة رضي الله عنه ذهب لكشف أمر قريش هل ارتحلوا أولا، وقد اشتبه الأمر على بعض الناس فظنهما قضية واحدة فليتأمل ذلك. وكان يقال لحذيفة رضي الله عنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه غيره. فقد قال حذيفة رضي الله عنه «لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وبما يكون حتى تقوم الساعة» أي وتقدم أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقال له أيضا صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن ظفر في «ينبوع الحياة» في تفسير قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: 9] وهبت ريح الصبا ليلا، فقلعت الأوتاد، وألقت عليهم الأبنية، وكفأت القدور، وسفت عليهم التراب، ورمتهم بالحصا، وسمعوا في أرجاء: أي نواحي معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح: أي من الملائكة، فصار سيد كل حي يقول لقومه: يا بني فلان هلموا إليّ، فإذا اجتمعوا قال: النجاء النجاء، فارتحلوا هرابا في ليلتهم، وتركوا ما استتقلوه من متاعهم. أي والصبا هي الريح الشرقية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قالت الصبا للشمال: اذهبي بنا ننصر رسول الله

فقالت: إن الحرائر لا تهب بالليل، فغضب الله عليها فجعلها عقيما، ويقال لها الدبور. فكان نصره صلى الله عليه وسلم بالصبا. وكان إهلاك عاد بالدبور، وهي الريح الغربية. وحين انجلاء الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم «الآن نغزوهم ولا يغزونا» والصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع ليال من ذي القعدة، أي بناء على أنها كانت في القعدة وهو قول ابن سعد. وقيل كانت في شوال وكان ذلك سنة خمس، أي كما قاله الجمهور. قال الذهبي: وهو المقطوع به، وقال ابن القيم: إنه الأصح. وقال الحافظ ابن حجر: هو المعتمد. وقيل سنة أربع، وصححه الإمام النووي في الروضة. قال بعضهم: وهو عجيب، فإنه صحح أن غزوة بني قريظة كانت في الخامسة، ومعلوم أنها كانت عقب الخندق. أي وفيه أنه يجوز أن تكون بنو قريظة أوائل الخامسة، والخندق أواخر الرابعة، فتكون في ذي الحجة. واستدل من قال إن الخندق كانت سنة أربع بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، فيكون بينهما سنة واحدة، أي وكانت سنة ثلاث، فيكون الخندق سنة أربع. قال الحافظ ابن حجر: ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشرة، وكان في الأحزاب قد استكمل الخمسة عشرة، وسبقه إلى ذلك البيهقي. وحينئذ يكون بين أحد والخندق سنتان كما هو الواقع لا سنة واحدة. ومما وقع من الآيات في هذه الغزوة في مدة حفر الخندق غير ما تقدم: أن بنت بشير بن سعد جاءت لأبيها وخالها: أي عبد الله بن رواحة بحفنة من التمر ليتغذيا بها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاتيه، فصبته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأهما، ثم أمر بثوب فبسطت له، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء، فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه. وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب؛ أي فإن أهل الخندق أصابهم مجاعة. قال بعض الصحابة: «لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق زادا، وربط صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع» . أقول: أورد ابن حبان في صحيحه لما أورد الحديث الذي فيه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الوصال، وقالوا له ما لك تواصل يا رسول الله: قال «إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» . قال: يستدل بهذا الحديث على بطلان ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يضع الحجر على بطنه من الجوع، لأنه كان يطعم ويسقى من ربه إذا واصل، فكيف يترك جائعا مع

عدم الوصال حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه. قال: وإنما لفظ الحديث الحجز بالزاي، وهو طرف الإزار فصحفوا وزادوا لفظ «من الجوع» . وأجيب بأنه لا منافاة، كان صلى الله عليه وسلم يطعم ويسقى إذا واصل في الصوم: أي يصير كالطاعم والساقي تكرمة له، ولا يحصل له ذلك دائما، بل يحصل له الجوع في بعض الأحايين على وجه الابتلاء الذي يحصل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام تعظيما لثوابهم والله أعلم. وإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لما علم ما به صلى الله عليه وسلم من شدّة الجوع صنع شويهة وصاعا من شعير. قال جابر: وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده. فلما قلت له أمر صارخا، فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله. قال جابر: فقلت إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: الآية 156] فأقبل الناس معه: أي بعضهم، فجلس صلى الله عليه وسلم فأخرجناها إليه، فبرّك ثم سمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا، أي وذهبوا إلى الخندق وجاء آخرون، حتى صدر أهل الخندق عنها وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانصرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو. قال: وفي رواية «أن جابرا رضي الله تعالى عنه لما رأى ما به صلى الله عليه وسلم من الجوع استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانصراف إلى بيته، فأذن له. قال جابر: فجئت لامرأتي وقلت لها: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا أفعندك شيء؟ قالت: عندي صاع من شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير وجعلت اللحم في برمة، فلما أمسينا، جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساورته وقلت له: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه في أصابعي، وقال: كم هو؟ فذكرت له، قال: كثير طيب، لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء، وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سؤارا» أي ضيافة «فحيهلا بكم: أي سيروا مسرعين، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس. قال جابر رضي الله عنه: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، والله إنها لفضيحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخلوا عشرة عشرة، أي بعد أن أخرجت له عجيننا فبصق فيه وبارك، ثم عمد صلى الله عليه وسلم إلى برمتنا وبصق فيها وبارك» الحديث. أي ومجيء القوم كان على الوجه المتقدم «وإن أم عامر الأشهلية أرسلت بقصعة فيها حيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في القبة عنده أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فأكلت أم سلمة حاجتها، ثم خرج بالقصعة، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلموا إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا منها وهي كما هي» . وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله ونفعنا ببركاته أنه قدّم لأربعة

غزوة بني قريظة

عشر رجلا من الفلاحين رغيفا واحدا، فأكلوا منه كلهم وشبعوا، قال: وقدّمت مرة الطاجن الذي نعمله في الفرن إلى سبعة عشر نفسا فأكلوا منه وشبعوا. وذكر أنه شاهد شيخه الشيخ محمد الشناوي رحمه الله ونفعنا ببركاته، وقد جاء من الريف ومعه نحو خمسين رجلا ونزل بزاوية شيخه الشيخ محمد السروي، فتسامع مجاورو الجامع الأزهر بمجيئه، فأتوا لزيارته، فامتلأت الزاوية، وفرشوا الحصر في الزقاق. ثم قال لنقيب شيخه: هل عندك طبيخ؟ قال نعم، الطبيخ الذي أفعله لي ولزوجتي، فقال له: لا تغرف شيئا حتى أحضر، ثم غطى الشيخ الدست بردائه وأخذ المغرفة وصار يغرف إلى أن كفي من في الزاوية ومن في الزقاق، وهذا شيء رأيته بعيني هذا كلامه. ولا بدع. فقد ذكر غير واحد من العلماء كالحافظ ابن كثير أن كرامات الأولياء معجزات للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن الولي إنما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه وثواب إيمانه به، وهذا كلامه. قال: وأرسل أبو سفيان كتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى أي وأساف ونائلة وهبل كما في لفظ: لقد سرت إليك في جمع وأنا أريد أن لا أعود إليك أبدا حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بالخندق: أي وفي لفظ، قد اعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تعرف ظل رماحها وشبا سيوفها، وما فعلت هذا إلا فرارا من سيوفنا ولقائنا، ولك مني يوم كيوم أحد، فأرسل له صلى الله عليه وسلم جوابه فيه: أما بعد، أي بعد بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب، كذا في كلام سبط ابن الجوزي، فقد أتاني كتابك، وقديما غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافا ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب انتهى. غزوة بني قريظة وهم قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ رضي الله عنه كما تقدم. لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وكان وقت الظهيرة، أي وقد صلى الظهر، ودخل بيت عائشة رضي الله عنها، وقيل زينب بنت جحش رضي الله عنها ودعا بماء، فبينما هو صلى الله عليه وسلم يغتسل: أي غسل شق رأسه الشريف، وفي رواية بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغسل يرجل رأسه قد رجل أحد شقيه. أي وفي رواية: غسل

رأسه واغتسل ودعا بالمجمرة ليتبخر أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم معتجرا بعمامة: أي سوداء من استبرق، وهو نوع من الديباج، مرخيا منها بين كتفيه، وفي رواية عليه لأمته. ولا معارضة، لأنه يجوز أن يكون الاعتجار بالعمامة على تلك اللامة وهو على بغلة أي شهباء، عليها قطيفة: وهي كساء له وبر من ديباج أي أحمر. وفي رواية: جاءه على فرس أبلق، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، قال جبريل عليه السلام: ما وضعت السلاح. وفي رواية: ما وضعت ملائكة الله السلاح بعد. قال: وفي رواية أنه قال: يا رسول الله ما أسرع ما حللتم، عذيرك من محارب عفا الله عنك: أي من يعذرك. وفي لفظ: غفر الله لك، أو قد وضعتم السلاح قبل أن تضعه الملائكة؟ فقال رسول الله: نعم، قال: فو الله ما وضعناه. وفي لفظ: ما وضعت الملائكة السلاح منذ نزل بك العدوّ؛ وما رجعنا الآن إلا من طلب القوم يعني الأحزاب حتى بلغنا الأسد انتهى: أي حمراء الأسد، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم، زاد في رواية: بمن معي من الملائكة، فمزلزل بهم الحصون، زاد في رواية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في أصحابي جهدا فلو نظرتهم أياما، فقال جبريل عليه السلام: اهض إليهم، فو الله لأدقنهم كدق البيض على الصفا، ولأدخلن فرسي هذا عليهم في حصونهم ثم لأضعضعنها، فأدبر جبريل عليه السلام ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم، وهم طائفة من الأنصار. وفي البخاري عن أنس، قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم، موكب جبريل عليه السلام حين سار لبني قريظة، والموكب بكسر الكاف؛ اسم لنوع من السير. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بينما هو عندي إذ دق الباب، أي وفي رواية: نادى مناد: أي في موضع الجنائز: عذيرك من محارب أي من يعذرك، فارتاع لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي فزع، ووثب وثبة منكرة، وخرج فخرجت في أثره، فإذا رجل على دابة والنبي صلى الله عليه وسلم متكىء على معرفة الدابة يكلمه فرجعت، فلما دخل قلت: من ذلك الرجل الذي كنت تكلمه؟ قال: ورأيته؟ قلت نعم، قال: بمن تشبهينه؟ قلت بدحية الكلبي، قال: ذاك بكسر الكاف جبريل عليه السلام، أمرني أن أمضي إلى بني قريظة، أي وهذا يؤيد أنه صلى الله عليه وسلم كان عند منصرفه من الخندق في بيت عائشة، وأبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا: أي وهو بلال كما في سيرة الحافظ الدمياطي، فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر، أي وفي رواية: الظهر إلا ببني قريظة.

قال في النور: والجمع بينهما أن الأمر بعد دخول وقت الظهر بالمدينة وقد صلى بعضهم دون بعض، فقيل للذين لم يصلوا الظهر لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة، وقيل للذين صلوها لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة. وفي رواية: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يا خيل الله؟ أي يا فرسان خيل الله اركبي. ثم سار إليهم قال، وقد لبس صلى الله عليه وسلم السلاح الدرع والمغفر والبيضة، وأخذ قناة بيده الشريفة، وتقلد السيف، وركب فرسه اللجيف بالضم، وقيل ركب حمارا وهو اليعفور عريانا، والناس حوله قد لبسوا السلاح وركبوا الخيل، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرسا، له صلى الله عليه وسلم منها ثلاثة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إلى بني قريظة. أي وفي رواية دفع إليه لواءه، وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق، ومر صلى الله عليه وسلم بنفر من بني النجار قد لبسوا السلاح. فقال: هل مرّ بكم أحد قالوا: نعم، دحية الكلبي مرّ على بغلة بيضاء. أي وفي رواية: على فرس أبيض عليه اللامة، وأمرنا بحمل السلاح، وقال لنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليكم الآن فلبسنا سلاحنا وصففنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك جبريل عليه السلام، بعث إلى بني قريظة ليزلزل حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم. فلما دنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من الحصن، أي ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، وغرز اللواء عند أصل الحصن، سمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه صلى الله عليه وسلم أي وحق أزواجه، أي فسكت المسلمون وقالوا: السيف بيننا وبينكم، فلما رأى علي كرم الله وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا أمر أبا قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن يلزم اللواء، ورجع إليه صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: لعلك سمعت منهم لي أذى، قال نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم: قال يا إخوان القردة هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟ قال: وفي رواية نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم وقال: أجيبوا يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت: أي وهو ما عبد من دون الله كما تقدم، هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟ أتشتموني، فجعلوا يحلفون ويقولون ما قلنا اهـ ويقولون: يا أبا القاسم ما كنت جهولا، أي وفي لفظ: ما كنت فاحشا. وفي رواية: تقدمه صلى الله عليه وسلم إلى يهود أسيد بن حضير رضي الله عنه، فقال لهم: يا أعداء الله لا تبرحوا من حصنكم حتى تموتوا جوعا، إنما أنتم بمنزلة ثعلب في جحر،

فقالوا: يابن الحضير نحن مواليك وخاروا: أي خافوا، قال: لا عهد بيني وبينكم. وتقدم أسيد إلى بني قريظة يجوز أن يكون قبل مقدم عليّ لهم، ويجوز أن يكون بعده. وإنما قال لهم: يا إخوان القردة والخنازير، لأن اليهود مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير عند اعتدائهم يوم السبت بصيد السمك، وقد حرم عليهم ذلك كسائر الأعمال. وقد أمرهم أن يتفرغوا لعبادة ربهم في ذلك اليوم، وكان ذلك في زمن داود عليه السلام فلما مسخوا خرجوا من تلك القرية هائمين على وجوههم متحيرين، فمشوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون، ثم ماتوا، وهذا دليل لمن يقول إن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولم يحصل منه توالد ولا تناسل. وفي الكشاف؛ قيل إن أهل أيلة: أي وهي قرية بين مصر ومدين لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام: اللهم العنهم واجعلهم للناس آية، فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام بعد المائدة، قال عيسى: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي، هذا كلامه فليتأمل، فمكثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون فماتوا. ثم إن جماعة من الصحابة شغلهم ما لم يكن لهم منه بدّ عن المسير لبني قريظة ليصلوا بها العصر، فأخروا صلاة العصر إلى أن جاؤوا بعد عشاء الآخرة، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يصلين العصر إلا في بني قريظة» فصلوا العصر بها بعد عشاء الآخرة. أي وبعضهم قال: نصلي، ما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أي ندع الصلاة ونخرجها عن وقتها، وإنما أراد الحث على الإسراع فصلوها في أماكنهم، ثم ساروا فما عابهم الله في كتابه ولا عنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لأن كلا من الفريقين تأول. قال في الهدى: كل من الفريقين مأجور بقصده، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين ولم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، وهو دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب. وادعى ابن التين رحمه الله أن الذين صلوا العصر صلوها على ظهور دوابهم. قال لأنهم لو صلوا نزولا لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع، ولا يظن ذلك مع تقرب أفهامهم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه نظر، لأنه لم يأمرهم بترك النزول، ولم أر أنهم صلوا ركبانا في شيء من طرق القصة. والتعليل بالإسراع يقتضي أنهم صلوا

على ظهور دوابهم سائرة لا واقفة. وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة خمسا وعشرين ليلة، وقيل خمسة عشر يوما، أي وقيل شهرا، وكان طعام الصحابة التمر يرسل به إليهم سعد بن عبادة رضي الله عنه: أي يجاء به من عنده. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ «نعم الطعام التمر» حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة حصنهم حين رجعت الأحزاب وفاء لكعب بما كان عاهده عليه، أي كما تقدم، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم أي يقاتلهم. قال كبيرهم كعب بن أسيد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا أيها شئتم، قالوا وما هي؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم ونسائكم وأبنائكم. قال: وزاد في لفظ آخر: وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن من بني إسرائيل، ولقد كنت كارها لنقض العهد، ولم يكن البلاء والشؤم إلا من هذا الجالس، يعني حيي بن أخطب، أتذكرون ما قال لكم ابن خراش حين قدم عليكم؟ إنه يخرج بهذه القرية نبي فاتبعوه وكونوا له أنصارا، وتكونوا آمنتم بالكتابين الأول والآخر اهـ أي التوراة والقرآن. أي وكانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم ويعلمون الولدان صفته، وأن مهاجرة المدينة. وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال: كانت يهود بني قريظة وبني النضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة، ولما قال لهم كعب ذلك، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. قال كعب: فإذا أبيتم على هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، ولم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا: أي ولدا يخشى عليه، وإن نظفر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟ قال فإن أبيتم على هذه، فإن الليلة ليلة السبت وأن عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة: أي غفلة، فقالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت وأصابه ما لم يخف عليك من المسخ. قال: وقال لهم عمرو بن سعدي: قد خالفتم محمدا فيما حالفتموه: أي عاهدتموه عليه. ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية، وأعطوا الجزية، فو الله ما أدري يقبلها أم لا؟ قالوا: نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه، القتل خير من ذلك. قال فإني بريء منكم، وخرج في

تلك الليلة، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: من هذا؟ قال عمرو بن سعدي، قال مرّ، اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام وخلى سبيله، وبعد ذلك لم يدر أين هو؟ وقيل وجدت رمته؟ وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، فقال: ذلك رجل نجاه الله بوفاته. وفي لفظ أنه قال لهم قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم لحصارهم: يا بني قريظة لقد رأيت عبرا، رأيت دار إخواننا يعني بني النضير خالية بعد ذلك العز والخلد والشرف والرأي الفاضل والعقل، تركوا أموالهم قد تملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل، لا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط ولله بهم حاجة. وقد أوقع ببني قينقاع، وكانوا أهل عدّة وسلاح ونخوة، فلم يخرج أحد منهم رأسه حتى سباهم، فكلم فيهم فتركهم على إجلائهم من يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا فو الله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به علماؤنا. ثم لا زال يخوفهم بالحرب والسبي والجلاء، ثم أقبل على كعب بن أسيد، وقال: والتوراة التي أنزلت على موسى صلى الله عليه وسلم يوم طور سيناء إنه للعز والشرف في الدنيا. فبينما هم على ذلك لم يرعهم إلا مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم قد حلت بساحتهم، فقال: هذا الذي قلت لكم، أي وبعد الحصار قيل أرسلوا بنباش بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير من أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويسلم لهم نساءهم والذرية. فأرسلوه ثانيا بأنه لا حاجة لهم بشيء من الأموال لا من الحلقة ولا من غيرها، فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاد نباش إليهم بذلك اهـ. ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث إلينا أبا لبابة أي وهو رفاعة بن المنذر لنستشيره في أمرنا، أي لأنه كان من حلفاء الأوس وبنو قريظة منهم. وفي لفظ: وكان أبو لبابة مناصحا لهم، لأن ماله وولده وعياله كانت في بني قريظة فأرسله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش: أي أسرع إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه من شدة المحاصرة وتشتيت ما لهم، فرّق لهم وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم، وأشار بيده إلى حلقه: أي إنه الذبح. أي وفي لفظ: ما ترى، إن محمدا قد أبى أن لا ننزل إلا حكمه، قال. فانزلوا وأومأ إلى حلقه. ويروى أنهم قالوا له: ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ، فأومأ أبو لبابة بيده إلى حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة رضي الله عنه فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله، أي لأن في ذلك تنفيرا لهم عن الانقياد له صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أنزل الله فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [الأنفال:

الآية 27] الآية: أي وقيل نزل وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة: الآية 102] الآية، وهذا أثبت من الأوّل، وقد يقال: كلاهما نزل فيه تلك الآية في توجه اللوم عليه، وهذه في توبته. لا يقال: هي ليست نصا في توبة الله عليه. لأنا نقول: الترجي في حقه تعالى أمر محقق. وعن أبي لبابة رضي الله عنه: لما أرسلت بنو قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يرسلني إليهم، دعاني قال: اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس، فذهبت إليهم، فقام كعب بن أسيد فقال: يا أبا بشير قد عرفت ما بيننا. وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد لا يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنه لحقنا بأرض الشام أو خيبر، ولم نطأ له أرضا، ولم نكثر عليه جمعا أبدا، أما ترى قد اخترناك على غيرك، أننزل على حكم محمد؟ قال أبو لبابة نعم فانزلوا، وأومأ إلى حلقه بالذبح. قال: فندمت واسترجعت، فقال لي كعب: ما لك يا أبا لبابة؟ فقلت: خنت الله ورسوله، فنزلت وإن عيني لتسيل من الدموع. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتبط بالمسجد إلى عمود من عمده: أي وهي السارية، ويقال لها الأسطوانة: وهي التي كانت عند باب أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حر شديد، وقيل الأسطوانة المخلقة التي يقال لها أسطوانة التوبة، والأوّل أثبت، وكانت تلك الأسطوانة أكثر تنفله صلى الله عليه وسلم عندها، وكان ينصرف إليها من صلاة الصبح، فكان يستبق إليها الفقراء والمساكين ومن لا بيت له إلا المسجد، فيجيء إليهم صلى الله عليه وسلم ويتلو عليهم ما أنزل من ليلته ويحدثهم ويحدثونه، وكان ارتباطه بسلسلة ريوض أي ثقيلة. وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي مما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه. قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه. هذا، وفي كلام البيهقي وأورده في الدر أن ارتباطه إنما كان لتخلفه عن تبوك. فقد ذكر أنه لما أشار بيده إلى حلقه وأخبر عنه صلى الله عليه وسلم بذلك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسبت أن الله غفل عن يدك حيث تشير إليهم بها إلى حلقك، فلبث حينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه. ثم لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك كان أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رجع جاءه أبو لبابة يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع أبو لبابة وارتبط بالسارية. واستغرب ذلك بعضهم، فقال: وأغرب من ادعى أن أبا لبابة إنما فعل ذلك لتخلفه عن غزوة تبوك.

ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم فكتفوا وجعلوا ناحية، وكانوا ستمائة، وقيل سبعمائة وخمسين مقاتلا، وهو الذي تقدم عن حيي بن أخطب. ولا يخالف هذا ما قيل إنهم كانوا بين الثمانمائة والسبعمائة. وقيل كانوا أربعمائة مقاتل. ولا يخالف ما قبله، لأنه يجوز أن يكون ما زاد على ذلك كانوا أتباعا لا يعدون، وأخرج النساء والذراري من الحصون وجعلوا ناحية: أي وكانوا ألفا. واستعمل عليهم عبد الله بن سلام فتواثبت الأوس. وقالوا: يا رسول الله موالينا وحلفاؤنا، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد فعلت، يعنون بني قينقاع، لأنهم كانوا حلفاء الخزرج، ومن الخزرج عبد الله بن أبي ابن سلول. وقد نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كلمه فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فوهبهم له على أن يجلوا كما تقدم، أي فظنت الأوس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب لهم بني قريظة كما وهب بني قينقاع للخزرج، فلما كلمته الأوس أبي أن يفعل ببني قريظة ما فعل ببني قينقاع. ثم قال لهم: أما ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؛ قالوا بلى، فقال: فذلك إلى سعد بن معاذ، أي وقيل إنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ، أي وهو رضي الله عنه سيد الأوس حينئذ كما تقدم. وقيل إنهم قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه يومئذ في المسجد في خيمة رفيدة رضي الله عنها، وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لقوم سعد بن معاذ حين أصابه السهم بالخندق، اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قرب، أي لأن رفيدة رضي الله عنها كان لها خيمة في المسجد تداوي فيها الجرحى من الصحابة ممن لم يكن له من يقوم عليه، فأتاه قومه فحملوه على حمار؛ ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون له: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فأحسن فيهم، فقد رأيت ابن أبيّ وما صنع في حلفائه، وهو ساكت، فلما أكثروا عليه، قال رضي الله عنه لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال بعضهم واقوماه. فلما انتهى سعد رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين وهم حوله جلوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى سيدكم» أي زاد في رواية «فأنزلوه» فقال عمر رضي الله عنه: السيد هو الله. وفي رواية «إلى خيركم» أي معاشر المسلمين من المهاجرين والأنصار، أو معاشر الأنصار، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم. وفي رواية: فقمنا صفين يحييه كل رجل

منا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحكم فيهم يا سعد، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم. قال قد أمرك الله أن تحكم فيهم، فقال سعد: أي لمن في الناحية التي ليس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت. قالوا نعم، قال: وعلى من هاهنا مثل ذلك، وأشار إلى الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أي وفي لفظ: فقال سعد لبني قريظة: أترضون بحكمي، قالوا نعم. فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم به. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وفي لفظ: أن يقتل كل من جرت عليه الموسى، وتغنم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، زاد بعضهم: وتكون الديار للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار، إخواننا يعنون المهاجرين لنا معهم، فقال: إني أحببت أن يستغنوا عنكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» أي السموات السبع، قيل سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم. وجاء في الصحيح «من فوق سبع سموات» والمراد أن شأن هذا الحكم العلوّ والرفعة «قد طرقني بذلك الملك سحرا» . ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن يجمع ما وجد في حصونهم من الحلقة والسلاح وغير ذلك فجمع، فوجد فيها ألف وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخمسمائة ترس وحجفة ووجد أثاثا كثيرا، وآنية كثيرة، وأجمالا نواضح: أي يسقى عليها الماء، وماشية وشياها كثيرة، وخمس ذلك: أي مع النخل والسبي حتى الرثة: وهو السقط من أمتعة البيت خمسة أجزاء، ففضّ أربعة أسهم على الناس. فجعل للفارس ثلاثة أسهم، أي سهم له وسهمان لفرسه، والراجل سهما. قال بعضهم: وهو أوّل فيء وقعت فيه السهام. ورضخ للنساء اللاتي حضرن القتال، وهنّ صفية عمته صلى الله عليه وسلم، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء، والسيراء بنت قيس، وأم سعد بن معاذ، وكبشة بنت رافع ولم يسهم لهن، وأخذ هو صلى الله عليه وسلم جزآ وهو الخمس. وعبارة بعضهم: وهو أوّل فيء وقعت فيه السهمان، وخمس: أي جزىء خمسة أجزاء، وكتب في سهم لله، ثم أخذ ذلك السهم الذي خرج عليه وعلى سنته مضت قسمة الغنائم. وفي كون هذا أوّل فيء جرت فيه السهمان نظر، إنما كان ذلك في بني قينقاع، فإن الفيء الحاصل منهم خمس خمسة أخماس، أخذ صلى الله عليه وسلم واحدا، والأربعة لأصحابه: أي ووجد جرار خمر فأهريق ولم يخمس، وهذا يدل على أن الخمر كانت محرمة قبل ذلك. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والنساء والذرية في دار ابنة الحارث النجارية، أي لأن تلك الدار كانت

معدودة لنزول الوفود من العرب. وقيل في دار كبشة بنت الحارث بن كريز، كانت تحت مسيلمة الكذاب ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز، وهذه إنما نزل في دارها وفد بني حنيفة كما سيأتي وبالمتاع أن يحمل، وترك المواشي هناك ترعى الشجر. ثم غدا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق: أي حفر فيها حفائر. ثم أمر بقتل كل من أنبت، فبعث إليهم فجاؤوا إليه أرسالا، تضرب أعناقهم ويلقون في تلك الخنادق. وقد قال بعضهم لسيدهم كعب بن أسيد: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: في كل موطن لا تعقلون، أما ترون أن من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل، قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم عليّ قالوا ليس حين عتاب، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي وذلك ليلا على شعل السعف. ثم ردّ عليهم التراب في تلك الخنادق، وعند قتلهم صاحت نساؤهم، وشقت جيوبها، ونشرت شعورها، وضربت خدودها، وملأت المدينة نواحا. وكان من جملة من أتى معهم عدوّ الله حيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ألم يمكن الله منك يا عدوّ الله؟ قال بلى، أبي الله إلا تمكينك مني، أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل. وفي كلام السهيلي رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم لما قال له: ألم يمكن الله منك فقال بلى، ولقد قلقنا كل مقلقل، ولكنه من يخذلك يخذل. فقوله يخذلك كقول الآخر في البيت: ولكنه من يخذل الله يخذل لأنه إنما نظم في البيت كلام حيي. ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة. أي قتال كتب الله على بني اسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. قال: ولما أتي بكعب بن أسد سيد بني قريظة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا كعب، قال نعم يا أبا القاسم، قال: ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدّقا بي، أما أمركم باتباعي وإن رأيتموني تقرؤوني منه السلام. قال: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكنه على دين يهود. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدم فيضرب عنقه ففعل به ذلك. أي وكان المتولي لقتلهم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، والزبير بن العوام رضي الله عنه.

أقول في الإمتاع: وجاء سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر. فقالا: يا رسول الله إن الأوس قد كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: ما كرهه أحد من الأوس فيه خير، فمن كرهه فلا أرضاه الله، فقام أسيد بن حضير، فقال: يا رسول الله لا تبق دارا من دور الأوس إلا فرقتهم فيها، ففرقهم في دور الأنصار فقتلوهم هذا كلامه. والضمير في قتلوهم ظاهر في رجوعه للأوس، وأنهم المراد بالأنصار. وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون المراد بالأوس الذين كرهوا ذلك طائفة منهم، وأن تلك الطائفة قتلوا من بعث به إلى دورهم، وما عدا ذلك تعاطى قتله عليّ والزبير والله أعلم. ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة أخرجت من بين النساء يقال لها نباتة، وقيل مزنة، كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد رضي الله عنه فقتلته بإرشاد زوجها، لأنه أحب أن لا تبقى بعده فيتزوّجها غيره. وقد أسهم صلى الله عليه وسلم لخلاد بن سويد هذا، وقال: إن له أجر شهيدين، وأسهم لسنان بن محصن، وقد مات في زمن الحصار. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لم يقتل من نسائهم يعني بني قريظة إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا، أي وكانت جارية حلوة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجلها في السوق، أي لأنها دخلت على عائشة، وبنو قريظة يقتلون. إذ هتف هاتف باسمها أين نباتة، قالت: أنا والله؛ قالت عائشة: فقلت لها، ويلك ما لك؟ قالت: أقتل قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، أي وفي لفظ قتلني زوجي. فقالت لها عائشة: كيف قتلك زوجك، قالت: أمرني أن ألقي رحى على أصحاب محمد كانوا تحت الحصن مستظلين في فيئة، فأدركت خلاد بن سويد فشدخت رأسه فمات وأنا أقتل به. وفي لفظ آخر: إني كنت زوجة رجل من بني قريظة، وكان بيني وبينه كأشد ما يتحاب الزوجان، فلما اشتد أمر المحاصرة، قلت لزوجي: يا حسرتي على أيام الوصال، كادت أن تنقضي وتتبدل بليالي الفراق وما أصنع بالحياة بعدك؟ فقال زوجي: إنك صادقة في دعوى المحبة، تعالى فإن جماعة من المسلمين جالسون في ظل حصن. قال الزبير بن بطا وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة فألقي عليهم حجر الرحا لعله يصيب واحدا منهم فيقتله، فإن ظفروا بنا فإنهم يقتلونك بذلك ففعلت، قالت: فانطلق بها فضرب عنقها فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: والله ما ألقى عجبا منها، طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل.

وكان في بني قريظة الزبير بن بطا، وهو جد الزبير ابن ابنه عبد الرحمن وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة كاسم جده. وقيل بضم الزاي وفتح المثناة، وهو قول البخاري في التاريخ، وكان شيخا كبيرا، وكان قد منّ على ثابت بن قيس في الجاهلية يوم بغاث، وهي الحرب التي كانت بين الأوس والخزرج قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان الظفر فيها للأوس على الخزرج آخرا كما تقدم أخذه فجزّ ناصيته، ثم خلى سبيله، فجاء ثابت رضي الله عنه للزبير، فقال له: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟ قال: فهل يجهل مثلي مثلك، قال: إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليك اليوم. وعبد الرحمن هذا هو الذي تزوج امرأة رفاعة وشكته للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي معه كهدبة الثوب وأحبت طلاقه لها. ثم أتى ثابت رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه كان للزبير عليّ منة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك فأتاه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ قال ثابت: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي امرأته وولده، فقال: هم لك، قال: فأتيته، فقلت: قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك، فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ما له، قال: هو لك، فأتيته فقلت له: قد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك فهو لك، فقال: أي ثابت، أما أنت فقد كافأتني، وقد قضيت الذي عليك، ما فعل بالذي كان وجهه مرآة مضيئة تتراءى منها عذارى الحي كعب بن أسد؟ أي سيد بني قريظة، قلت قتل، قال: فما فعل بسيد الحاضر والبادي: أي من يحملهم في الجدب، ويطعمهم في المحل حيي بن أخطب؟ قلت قتل. قال: فما فعل بمقدمتنا، بكسر الدال مشددة، إذا شددنا، وحامينا إذا فررنا عزال بالعين المهملة وتشديد الزاي ابن سموأل بالسين المهملة مفتوحة ومكسورة؟ قلت قتل، قال: فما فعل المجلسان بكسر اللام: محل الجلوس وبفتحها المصدر، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قلت قتلا، وفي لفظ قتلوا. قال: فإني أسألك يا ثابت بيدك عندي إلا ألحقتني بالقوم، فو الله ما بالعيش بعد هؤلاء من خير، أأرجع إلى دار قد كانوا حلولا فيها فأخلد فيها بعدهم، لا حاجة لي، فما أنا بصابر لله إفراغة دلو ناضح: أي مقدار الزمن الذي يفرغ فيه ماء الدلو. وفي رواية: فتلة دلو ناضج بالفاء والتاء المثناة فوق، وقيل بالقاف والباء الموحدة: أي مقدار ما يتناول المستسقي للدلو حتى ألقى الأحبة. قال ثابت: فقدمته فضربت عنقه.

أي وقيل إن ثابتا رضي الله عنه قال له ما كنت لأقتلك، فقال: لا أبالي من قتلني، فقتله الزبير بن العوام رضي الله عنه. ولما بلغ أبا بكر رضي الله عنه مقالته: ألقى الأحبة، قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا. قال في الأصل: وذكر أبو عبيدة هذا الخبر، وفيه «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك أهله وماله إن أسلم» أي ولم يسلم، فكان أهله وماله من جملة الفيء، وكان القتل لكل من أنبت ومن لم ينبت يكون في السبي. قال عطية القرظي رضي الله عنه كنت غلاما فوجدني لم أنبت فخلوا سبيلي، أي عن القتل، وكان رفاعة قد أنبت فأرادوا قتله، فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر، وكانت إحدى خالاته صلى الله عليه وسلم: أي خالات جده عبد المطلب، لأنها من بني النجار، فقالت بأبي وأمي يا رسول الله هب لي رفاعة، فوهبه لها، أي فأسلم. وقرت عين سعد بن معاذ رضي الله عنه بقتل بني قريظة حيث استجاب الله دعوته، فإنه سأل الله تعالى لما أصيب بالسهم في الخندق، وقال: لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة كما تقدم. أي وفي بعض الروايات أن دعاءه رضي الله عنه بذلك، كان في الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقدم عن بعض الروايات. أي ويجوز أن يكون رضي الله عنه دعا بذلك مرتين، وفي لفظ فدعا الله أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة. ويمكن أن يكون صاحب الهمزية رحمه الله أشار إلى سب بني قريظة له صلى الله عليه وسلم، ونهى بعض أشرافهم لهم عن نقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم، الذي سببه حيي بن خطب لعنه الله، واغترارهم بالأحزاب بقوله: وتعدوا إلى النبي حدودا ... كان فيها عليهم العدواء واطمأنوا بقول الأحزاب إخوا ... نهم إننا لكم أولياء وبيوم الأحزاب إذا زاغت الأ ... بصار فيه وضلت الآراء وتعاطوا في أحمد منكر القو ... ل ونطق الأراذل العوراء كل رجس يزيده الخلق السو ... ء سفاها والملة العوجاء فانظروا كيف كان عاقبة القو ... م وما ساق للبذيّ البذاء وجد السب فيه سما ولم يد ... ر إذ الميم في مواضع باء كان من فيه قتله بيديه ... فهو من سوء فعله الزباء

أو هو النحل قرصها يجلب ... الحتف إليها وماله إنكاء أي ولما انقضى شأن بني قريظة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم» فكان كذلك وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد انقضاء الأحزاب. وانفجر جرح سعد بن معاذ، أي الذي في يده وسال الدم واحتضنه صلى الله عليه وسلم فجعلت الدماء تسيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات منه وحمل إلى منزله ولم يعلم صلى الله عليه وسلم بموته، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم من الليل معتجرا بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا العبد الصالح، وفي لفظ: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟ وفي رواية عرش الرحمن: أي فتحت أبواب السماء لصعود روحه، واهتز العرش: أي تحرك فرحا بذلك. وقال النووي: اهتزاز العرش هو فرح الملائكة بقدوم روحه. وفيه أن هذا لا يحتاج إليه إلا لو كان تحرك العرش مستحيلا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات. وعن سلمة بن أسلم بن حريش رضي الله عنه. قال «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في البيت أحد إلا سعدا مسجى، فرأيته يتخطى وأومأ صلى الله عليه وسلم إليّ قف، فوقفت ورددت من ورائي وجلس صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم خرج فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت أحدا ورأيتك تتخطى، فقال: ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه» . أقول: قد وقع له صلى الله عليه وسلم نظير ذلك عند تشييعه لجنازة ثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري رضي الله عنه، فإنه صار يمشي على أطراف أنامله، فلما دفن قيل: يا رسول الله رأيناك تمشي على أطراف أناملك، قال: والذي بعثني بالحق ما قدرت أن أضع قدمي من كثرة ما نزل من الملائكة لتشييعه، وقصته مذكورة في السيرة الشامية. ولما حملوا نعش سعد رضي الله عنه، وكان جسيما وجدوا له خفة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له حملة غيركم؛ أي من الملائكة؛ لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا: أي جنازته؛ ومنهم جملة ما وطؤوا الأرض إلا يومهم هذا. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال: كنت ممن حفر لسعد رضي الله عنه قبره؛ فكان يفوح علينا المسك؛ كلما حفرنا قبره من تراب. وجاء «لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد ضم ضمة؛ ثم فرج الله عنه» وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال «لما دفن سعد رضي الله عنه ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه؛ ثم كبر فكبر الناس معه؛ فقالوا: يا رسول الله لم سبحت؛ أي وكبرت؟ قال: لقد تضايق على هذا العبد

الصالح قبره حتى فرجه الله عنه» . وجاء «إن بعض أهل سعد رضي الله عنه سئل: ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي في سبب تضايق القبر على سعد كما يرشد إليه جوابهم بقولهم، فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك، فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول بعض التقصير» وهذا قد يخالف ما في الخصائص الصغرى: وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يضغط في قبره وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم يسلم من الضغطة صالح ولا غيره سواهم، وكذا ما في التذكرة للقرطبي إلا فاطمة بنت أسد ببركته صلى الله عليه وسلم، أي حيث اضطجع صلى الله عليه وسلم في قبرها. ويحتاج للجمع بينه وبين ما في الخصائص. وجاء عن عائشة رضي الله عنها «أنها قالت: يا رسول الله ما انتفعت بشيء منذ سمعتك تذكر ضغطة القبر وضمته، فقال: يا عائشة إن ضغطة القبر على المؤمن كضمة الأم الشفيقة يديها على رأس ابنها يشكو إليها الصداع، وضرب منكر ونكير عليه كالكحل في العين، ولكن يا عائشة ويل للشاكين الكفارين، أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطا يقبض على الصخر» أي وحينئذ يكون المراد بالمؤمن الذي هذا شأنه الذي لم يحصل منه تقصير، فلا ينافي ما تقدم عن سعد فليتأمل. وقد روى البيهقي رحمه الله «أنه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ رضي الله عنه بين العمودين» وبه استدلّ أئمتنا على أن ذلك أفضل من حمل الجنازة بالتربيع الذي اعتاده الناس الآن «ومشى صلى الله عليه وسلم أمام جنازته، ثم صلى عليه. وجاءت أمه رضي الله عنها ونظرت إليه في اللحد، وقالت: أحتسبك عند الله؛ وعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على قدميه على القبر، فلما سوى التراب على قبره رش عليه الماء، ثم وقف صلى الله عليه وسلم ودعا ثم انصرف وناحت عليه أمه، فقال صلى الله عليه وسلم: كل نائحة تكذب إلا نائمة سعد بن معاذ رضي الله عنه» . أي فإنه رضي الله عنه موصوف بكل ما يقال فيه من الأوصاف الحسنة، بخلاف غيره. وبعث صاحب دومة الجندل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة من سندس كما سيأتي، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم يعجبون من تلك الجبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن» يعني من هذا، ومن المعلوم أن المنديل أدنى الثياب، لأنه معد للامتهان، فثيابه رضي الله عنه في الجنة أعلى وأغلى. وقد وهب صلى الله عليه وسلم تلك الجبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونزلت توبة أبي لبابة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة رضي الله عنها. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر يضحك. قالت: فقلت ممّ تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة. قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها. قيل وذلك قبل أن يضرب

عليهن الحجاب وهو لا يناسب ما تقدم في قصة الإفك، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده الشريفة. وقيل المبشر له عائشة رضي الله تعالى عنها، فلما مر صلى الله عليه وسلم على أبي لبابة خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. وجاء أن فاطمة رضي الله عنها أرادت إطلاقه فأبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني» أي وظاهر هذا أنه رضي الله عنه كان يبرّ بإطلاق سيدتنا فاطمة رضي الله عنها له فليتأمل. وقد أقام مربوطا ست ليالي أي أو سبع ليال. وقيل سبع عشرة ليلة. وقيل خمس عشرة ليلة، وعليه اقتصر في الإمتاع، وكانت تأتيه امرأته أو بنته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة وكذا إذا أراد حاجة الإنسان، ثم يعود فيربط بالعمود حتى كاد يذهب سمعه وبصره، ولا مانع أن امرأته وبنته كانتا تتناوبان في ذلك. أي وجاء أنه رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم «من تمام توبتي أن أهجر دار قوم أصبت فيها الذنب» وفيه أنه تقدم أنه عاهد الله على ذلك «قال: وأن انخلع من مالي، فقال له عليه الصلاة والسلام: يجزيك الثلث أن تتصدق به» أي ولم يأمره صلى الله عليه وسلم أن يهجر تلك الدار. والجمع بينه وبين ما تقدم من أنه عاهد الله أن لا يطأ تلك الدار ممكن. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري بسبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا. قال: وفي لفظ بعث سعد بن عبادة إلى الشام بسبايا يبيعهم ويشتري بهم سلاحا وخيلا. أي فاشترى بذلك خيلا كثيرا قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، واشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما جملة من السبايا، فجعلت تلك الجملة من السبايا قسمين، جعلت الشوابّ على حدة، وجعلت العجائز على حدة ثم خير عبد الرحمن بن عوف عثمان بن عفان، فأخذ العجائز، وأخذ عبد الرحمن الشواب، وجعل عثمان رضي الله عنه على كل واحدة منهن شيئا إن أتت به عتقت، فكان المال يوجد عند العجائز ولا يوجد عند الشواب فربح عثمان مالا كثيرا. أقول: ويحتاج إلى الجمع. وقد يقال: إن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة وعثمان وعبد الرحمن سبايا بني قريظة، فيكون قسموا ثلاثة أقسام: قسم أعطي لسعد بن زيد، وقسم أعطي لسعد بن عبادة، وقسم اشتراه عثمان وعبد الرحمن، ووقع الفداء في سبايا بني قريظة. وحينئذ يكون المراد بقول القائل: وبعث سعد بن زيد بسبايا بني قريظة: أي

بجملة منهم. وبعث سعد بن عبادة بسبايا أي بسبايا بني قريظة: أي بجملة منهم وإن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة غير سبايا بني قريظة فالأمر ظاهر، ويدل لهذا الثاني إسقاط بني قريظة منه. ثم رأيته في الإمتاع أسقط قصة سعد بن زيد الأنصاري واقتصر على سعد بن عبادة حيث قال: ولما سبيت السبايا والذرية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة إلى الشام مع سعد بن عبادة رضي الله عنه يبيعهم ويشتري سلاحا هذا كلامه، والله أعلم. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأم وولدها، أي في السبايا الأعم من قريظة، وقال «لا يفرق بين أم وولدها حتى يبلغ، قيل: يا رسول الله وما بلوغه؟ قال: تحيض الجارية ويحتلم الغلام» وكان إذا وجد الولد الصغير ليس له أم لم يبع من المشركين أي مشركي العرب ولا من يهود، وإنما يباع من المسلمين، أي وكانت أم الولد الصغير تباع من المشركين هي وولدها من العرب ومن يهود المدينة. قال في الإمتاع: وكان يفرق بين الأختين إذا بلغتا، ومقتضاه أنهما إذا لم يبلغا لا يفرق بينهما. وأئمتنا معاشر الشافعية لم يحرموا إلا التفرقة بين الأصول والفروع إذا لم يميزوا، وهو محمل قوله صلى الله عليه وسلم «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» ولعله لم تصح تلك الرواية عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه. واصطفي صلى الله عليه وسلم لنفسه منهم ريحانة بنت عمرو وهو شمعون مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني النضير، وكانت متزوّجة في بني قريظة، ولعله مراد من قال إنها كانت من بني قريظة، أي وكانت جميلة، وأسلمت بعد أن أبت الإسلام ووجد صلى الله عليه وسلم في نفسه: أي غضب بسبب ذلك، أي بسبب عدم إسلامها، ولم يظهر ذلك، ثم لما أسلمت سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فقد جاء «لما أبت ريحانة الإسلام عزلها صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه لذلك، وأرسل إلى ثعلبة بن شعبة وكان ممن نزل من حصون بني قريظة في الليلة التي صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ، أي على ما في بعض الروايات «وأسلم هو وإخوته أسيد وأسيد وأسد وابن عمه، وأحرزوا دماءهم وأموالهم، وليسوا من بني قريظة، وإنما هم من بني هذيل «فذكر له صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال سعد: فداك أبي وأمي هي مسلمة» أي ظنا منه أنها تسلم «فخرج حتى جاءها ولا زال يقول لها أسلمي يصطفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، فأجابت إلى ذلك وأسلمت، فبينما هو صلى الله عليه وسلم في مجلس من أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إن هاتين لنعلا مبشري بإسلام ريحانة فكان كذلك، وأخبره أنها أسلمت، فسر صلى الله عليه وسلم بذلك، واستمرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في ملكه، اختارت بقاءها في ملكه على العتق والنكاح، أي فقد خيرها صلى الله عليه وسلم بين أن يعتقها ويتزوجها أو تكون في ملكه يطؤها بالملك؟ فاختارت أن تكون في ملكه» .

قال بعضهم: والأثبت عند أهل العلم أنه أعتقها وتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وأعرس بها في المحرم سنة ست بعد أن حاضت حيضة، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه، فطلقها تطليقة، فأكثرت من البكاء، فراجعها، ولم تزل عنده صلى الله عليه وسلم حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع سنة عشر، فدفنها بالبقيع. ووجوب استبرائها بحيضة يدل لما قاله فقهاؤنا أن من ملك أمة وطئها غيره وطئا غير محرم لا يحل له تزوجها قبل استبرائها وإن أعتقها. وتقدّم أن قريظة والنضير أخوان من أولاد هارون على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام.

(فهرس محتويات الجزء الثاني من السيرة الحلبية) المسمى إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات باب عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل من العرب أن يحموه ويناصروه على ما جاء به من الحق 3 باب الهجرة إلى المدينة 57 باب بدء الأذان ومشروعيته 129 باب ذكر مغازيه صلى الله عليه وسلم 169 غزوة بواط 174 غزوة العشيرة 175 غزوة سفوان ويقال لها غزوة بدر الأولى 177 باب تحويل القبلة 177 باب غزوة بدر الكبرى 197 غزوة بني سليم 280 غزوة بني قينقاع 284 غزوة السويق 287 غزوة قرقرة الكدر 289 غزوة ذي أمرّ 290 غزوة بحران 291 غزوة أحد 294 غزوة حمراء الأسد 349 غزوة بني النضير 356 غزوة ذات الرقاع 366 غزوة بدر الآخرة 373

غزوة دومة الجندل 375 غزوة بني المصطلق 377 غزوة الخندق 415 غزوة بني قريظة 440

الجزء الثالث

الجزء الثالث [تتمة باب ذكر مغازيه ص] بسم الله الرحمن الرّحيم غزوة بني لحيان بناحية عسفان، ولحيان بكسر اللام وفتحها: قبيلة من هذيل. لا يخفى أن بعد مضي ستة أشهر من غزوة بني قريظة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني لحيان يطلبهم بأصحاب الرجيع، أي وهم خبيب وأصحابه رضي الله عنهم الذين قتلوا ببئر معونة كما سيأتي ذكر ذلك في السرايا. أي لأنه صلى الله عليه وسلم وجد: أي حزن وجدا شديدا على أصحابه المقتولين بالرجيع، وأراد أن ينتقم من هذيل فأمر أصحابه بالتهيؤ، وأظهر أنه يريد الشام: أي ليدرك من القوم غرة: أي غفلة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وخرج في مائتي رجل ومعهم عشرون فرسا، ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى المحل الذي قتل فيه أهل الرجيع ترحم عليهم ودعا لهم بالمغفرة، فسمعت به بنو لحيان، فهربوا إلى رؤوس الجبال أي وأرسل السرايا في كل ناحية فلم يجدوا أحدا أي وأقام على ذلك يومين، فلما رأى صلى الله عليه وسلم أنه فاته ما أراده من غرتهم. قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة، فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، وهذا يدل على أن أصحابه كانوا أكثر من مائتين، وهو يخالف ما تقدم أنه خرج في مائتي رجل. إلا أن يقال زادوا على المائتين بعد خروجه. ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم كرا راجعين. وفي لفظ آخر فبعث أبا بكر رضي الله عنه في عشرة فوارس القصة. أي وقد يقال: لا منافاة بين اللفظين. ثم توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. قال جابر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه أي توجه إلى المدينة «آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون» أي وفي رواية «لربنا عابدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر» أي مشقة السفر «وكآبة» أي حزن «المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال» قال وزاد بعضهم «اللهم بلغنا بلاغا صالحا يبلغ إلى خير مغفرتك ورضوانك» قيل ولم يسمع هذا الدعاء

غزوة ذي قرد

منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وكانت غيبته عن المدينة أربع عشرة ليلة اهـ. وذكر بعضهم «أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من بني لحيان وقف على الأبواء فنظر يمينا وشمالا، فرأى قبر أمه آمنة، فتوضأ ثم صلى ركعتين فبكى وبكى الناس لبكائه ثم قام فصلى ركعتين ثم انصرف إلى الناس وقال لهم صلى الله عليه وسلم: ما الذي أبكاكم؟ قالوا: بكيت فبكينا يا رسول الله، قال: ما ظننتم؟ قالوا، ظننا أن العذاب نازل علينا، قال: لم يكن من ذلك شيء، قالوا: ظننا أن أمتك كلفت من الأعمال ما لا تطيق، قال: لم يكن من ذلك شيء ولكني مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها فزجرت زجرا» أي منعت عن ذلك منعا شديدا «فأبكاني» وفي لفظ «فعلى بكائي هذ» أي فعلى هذا بكائي. والذي في الوفاء «أنه صلى الله عليه وسلم وقف على عسفان، فنظر يمينا وشمالا، فأبصر قبر أمه فورد الماء، فتوضأ ثم صلى ركعتين، قال بريدة: فلم يفجأنا إلا ببكائه، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف فقال: ما الذي أبكاكم؟» الحديث. «ثم دعا براحلته فركبها، فسار يسيرا فأنزل الله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ [التّوبة: الآية 113] صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التّوبة: الآية 113] إلى آخر الآيتين، فلما سري عنه الوحي قال: أشهدكم أني بريء من آمنة كما تبرأ إبراهيم من أبيه. أي وهذا السياق يدل على أن هاتين الآيتين غير ما زجر به عن الاستغفار لها المتقدّم في قوله «فزجرت زجرا» فليتأمل. وفي مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه قال «زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزورها» أي بعد ذلك «فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» . وسيأتي عن عائشة رضي الله عنها «أن في حجة الوداع مرّ صلى الله عليه وسلم على عقبة الحجون فنزل وقال لها: وقفت على قبر أمي» وسيأتي أن ذلك يدل على أن قبر أمه بمكة لا بالأبواء، وتقدم الجمع بين كونه بالأبواء، وكونه بمكة، وسيأتي بالحديبية أنه صلى الله عليه وسلم زار قبرها وفي فتح مكة أيضا، وسيأتي الكلام على ذلك وأن ذلك كان قبل إحيائها له وإيمانها به صلى الله عليه وسلم. غزوة ذي قرد بفتح القاف والراء، وقيل بضمهما، أي وقيل بضم الأول وفتح الثاني: اسم ماء. والقرد في الأصل: الصوف الرديء، ويقال لها غزوة الغابة، والغابة: الشجر الملتف.

لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة بني لحيان لم يقم بها إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن في خيل من غطفان على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، أي وكانت اللقاح عشرين لقحة وهي ذات اللبن القريبة من الولادة: أي لها ثلاثة أشهر، ثم هي لبون، وفيها رجل من بني غفار هو ولد أبي ذر الغفاري وزوجة لأبي ذر، فقوله وامرأة له، أي لأبي ذرّ رضي الله عنه لا لولده كما يعلم مما يأتي، وكان راعيها يؤوب: أي يرجع بلبنها كل ليلة عند المغرب إلى المدينة، أي فإن المسافة بينها وبين المدينة يوم أو نحو يوم، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة مع اللقاح. وعند ابن سعد: كان فيها أبو ذرّ وولده أي وزوجة أبي ذر، فقتلوا ولده، أي واحتملوا المرأة. قال: «جاء أن أبا ذرّ الغفاري رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون في اللقاح، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تأمن عيينة بن حصن وذويه أن يغيروا عليك، فألح عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأني بك قد قتل ابنك وأخذت امرأتك وجئت تتوكأ على عصاك، فكان أبو ذرّ رضي الله عنه يقول: عجبا لي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لكأني بك وأنا ألح عليه، فكان والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني والله لفي منزلنا ولقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قد روّحت وحلبت عتمتها ونمنا، فلما كان الليل أحدق بنا عيينة بن حصن في أربعين فارسا فصاحوا بنا وهم قيام على رؤوسنا، فأشرف لهم ابني فقتلوه وكان معه ثلاثة نفر فنجوا، وتنحيت عنهم، وشغلهم عني إطلاق عقل اللقاح، ثم صاحوا في أدبارها، فكان آخر العهد بها. ولما قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته تبسم» اهـ أي وروي بدل عيينة بن حصن قال بعضهم: ولا منافاة، لأن كلا من عيينة بن حصن وعبد الرحمن بن عيينة كانا في القوم، وكان أوّل من علم بهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه فإنه غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس له: أي لطلحة يقوده، فلقى غلاما لعبد الرحمن بن عوف، فأخبره أن عيينة بن حصن قد أغار على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعين فارسا من غطفان. قال سلمة: فقلت: يا رباح اقعد على هذا الفرس، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد أغير على سرحه. أي وهذا السياق يدل على أن رباحا غلامه صلى الله عليه وسلم كان مع سلمة أسقط الراوي ذكره ولم يقل ومعه رباح غلامه صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن رباحا هذا هو غلام عبد الرحمن الذي أخبر سلمة خبر اللقاح. ولا منافاة بين كون رباح غلامه صلى الله عليه وسلم وغلام عبد الرحمن، لجواز أن يكون كان لعبد الرحمن ثم وهبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو غلام عبد الرحمن بحسب ما كان. ثم رأيت ما يؤدي الأوّل وهو ما في بعض الروايات عن سلمة قال: خرجت أنا ورباح عبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤذن بالأولى يعني لصلاة الصبح نحو الغابة وأنا راكب

على فرس أبي طلحة الأنصاري، فلقيني عبد لعبد الرحمن بن عوف قال: أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: من أخذها؟ قال: غطفان وفزارة، وقد طوي في هذه الرواية ذكر غلام طلحة. ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر أنه لم يقف على اسم غلام عبد الرحمن بن عوف هذا: أي الذي أخبر سلمة بأمر اللقاح. قال: ويحتمل أن يكون هو رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ملك أحدهما وكان يخدم الآخر، فنسب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا، هذا كلامه، ولا يخفى بعده للتصريح بأن رباحا غير غلام عبد الرحمن، وأن رباحا كان مع سلمة، وأن غلام عبد الرحمن هو الذي أخبر سلمة خبر اللقاح. ولا منافاة بين كون الفرس لطلحة، ولا بين كونها لأبي طلحة، ولا بين كون عبد طلحة كان قائدا لها وبين كون سلمة راكبا لها لأنه يجوز أن يكون ركبها أثناء الطريق فليتأمل. وفي تسمية غلامه صلى الله عليه وسلم رباحا مع نهيه صلى الله عليه وسلم أن الشخص يسمي رقيقه بأحد أربعة أسماء أفلح ورباح ويسار ونافع. وزاد في رواية خامسا وهو نجيح فهلا غير صلى الله عليه وسلم اسمه إنه كانت وقعت التسمية من غيره صلى الله عليه وسلم ويقال لم يغير صلى الله عليه وسلم ذلك الاسم إشارة إلى أن النهي للتنزيه. ثم إن سلمة رجع إلى المدينة وعلائنية الوداع فنظر إلى بعض خيولهم، فصرخ بأعلى صوته واصباحاه: أي قال ذلك ثلاث مرات. أي وقيل نادى: الفزع الفزع ثلاثا، ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك. وفي لفظ: وقمت على تلّ بناحية سلع، أي وفي لفظ: على أكمة، وفي لفظ آخر: فصعدت في سلع ولا مخالفة كما لا يخفى، فجعلت وجهي من قبل المدينة. ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه أسمع ما بين لابتيها، أي لسعة صوته، أو أن ذلك وقع خرقا للعادة، ويا صباحاه: كلمة تقال عند استنفار من كان غافلا عن عدوه، لأنهم يسمون يوم الغارة يوم الصباح. ثم خرج يشتدّ في أثر القوم كالسبع، وقد كان يسبق الفرس جريا حتى لحق بهم، فجعل يردهم بالنبل ويقول: إذا رمى خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع: أي يوم هلاك اللئام، فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا، وهكذا يفعل قال: كنت ألحق الرجل منهم فأرميه بسهم في رجله فيعقره؛ فإذا رجع إليّ فارس منهم أتيت شجرة فجلست في أصلها. ثم أرميه فأعقره فيولي عني، فإذا دخلت الخيل في بعض مضايق الجبل علوت الجبل ورميتهم بالحجارة، قال: ولم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وأكثر من ثلاثين بردة يستخفون بها، ولا يلقون شيئا من ذلك إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي وما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا

خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الأكوع صرخ بالمدينة: الفزع، يا خيل الله اركبي. قيل وكان أول ما نودي بها وفيه كما في الأصل أنه نودي بها في بني قريظة كما تقدم. وأوّل من انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان المقداد بن عمرو ويقال له ابن الأسود، وتقدم أنه قيل له ذلك، لأنه كان في حجر الأسود بن عبد يغوث وتبناه فنسب إليه. ثم عباد بن بشر وسعيد بن زيد، ثم تلاحقت به الفرسان، وأمر عليهم سعيد بن زيد. وقيل المقداد وجزم به الدمياطي رحمه الله، أي ويدل له قول حسان رضي الله عنه في وصف هذه الغزوة: غداة فوارس المقداد لكن في السيرة الشامية أن سعيد بن زيد رضي الله عنه غضب على حسان وحلف لا يكلّمه أبدا وقال انطلق إلى خيلي فجعلها للمقداد، وإن حسان رضي الله عنه اعتذر إلى سعد بأن الروي وافق في اسم المقداد وذكر أبياتا يرضى بها سعيد بن زيد فلم يقبل منه سعيد ذلك، وهذا يدل للأول. وعقد صلى الله عليه وسلم لذلك الأمير لواء في رمحه. ثم قال له: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس، فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا بهم وكان شعارهم يومئذ «أمت أمت» وأول فارس لحق بهم محرز بن نضلة، ويقال له الأخرم الأسدي، ووقف لهم بين أيديهم، وقال لهم: يا معشر بني اللكيعة: أي اللئيمة قفوا حتى يلحق بكم من وراءكم من المهاجرين والأنصار، فحمل عليه شخص من المشركين فقتله. وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: ثم إن القوم جلسوا يتغدون وجلست على رأس قرن جبل، فقال لهم رجل أتاهم: من هذا؟ قالوا لقينا من هذا البرح حتى انتزع كل شيء في أيدينا. قال: فليقم إليّ منكم أربعة فتوجهوا إليّ فهددتهم، أي فقد جاء عنه رضي الله عنه أنه قال لهم: هل تعرفونني؟ قالوا لا ومن أنت؟ قلت أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرّم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني فيدركني، قال بعضهم إنا نظن ذلك فرجعوا. قال: فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمهم الأخرم الأسدي. فلما رأيت الأخرم الأسدي أوّل الفرسان، نزلت من الجبل وأخذت بعنان فرسه، وقلت له: احذر القوم لا يقتطفوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق وأن النار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة، فخليت عنه، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة فعقر

فرس عبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه، فلحق عبد الرحمن أبو قتادة رضي الله عنه، فعقر عبد الرحمن فرس أبي قتادة فقتله أبو قتادة وتحول أبو قتادة رضي الله عنه إلى الفرس. أقول: ولعل عبد الرحمن هذا هو حبيب بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة ابن عيينة، فإني لم أقف على ذكر عبد الرحمن هذا فيمن قتل من المشركين في هذه الغزوة، وإن أبا قتادة رضي الله عنه قتل حبيبا وغشاه ببرده كما سيأتي، إلا أن يقال جاز أن يكون له اسمان عبد الرحمن وحبيب، ثم رأيت الحافظ ابن حجر أشار إلى ذلك. وقيل قاتل محرز مسعدة الفزاري، وبه جزم الحافظ الدمياطي، وذكر أن قاتل حبيب المقداد بن عمرو، فقال: وقتل أبو قتادة مسعدة، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه. وقتل المقداد بن عمرو حبيب بن عيينة بن حصن والله أعلم، ولم يقتل من المسلمين إلا محرز بن نضلة الذي هو الأخرم الأسدي، وكان رأى قبل ذلك بيوم أن سماء الدنيا فرجت وما بعدها حتى انتهى إلى السماء السابعة، ثم انتهى إلى سدرة المنتهى، فقيل له: هذا منزلك، فعرضها على أبي بكر رضي الله عنه وكان من أعلم الناس بالتعبير كما تقدم، فقال له: أبشر بالشهادة، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين. وقد استعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه. أي واستعمل على حرس المدينة سعد بن عبادة رضي الله عنه في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة، فإذا حبيب بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة مسجى: أي مغطى ببرد أبي قتادة، فاسترجع المسلمون، أي قالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: الآية 156] وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده ليعرف أنه صاحبه أي القاتل له. قال وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال «والذي أكرمني بما أكرمني به إن أبا قتادة على آثار القوم يرتجز، فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى كشف البرد عن وجهه المسجى فإذا وجه حبيب، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله، يا رسول الله غير أبي قتادة» . وفي لفظ «فخرج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حتى كشفا البرد» الحديث. وقيل الذي قتله أبو قتادة وغشاه ببرده هو مسعدة قاتل محرز رضي الله عنه لا حبيب على ما تقدم. ففي رواية أن أبا قتادة رضي الله عنه اشترى فرسا فلقيه مسعدة الفزاري فتفاوض معه، فقال له أبو قتادة: أما إني أسأل الله أن ألقاك وأنا عليها، قال: آمين، فلما أخذت اللقاح ركب تلك الفرس وسار، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: امض يا أبا قتادة صحبك الله، قال: فسرت حتى هجمت على القوم، فرميت بسهم في

جبهتي، فنزعت قدحه وأنا أظن أني نزعت الحديدة، فطلع عليّ فارس وقال: لقد ألقانيك الله يا أبا قتادة، وكشف عن وجهه فإذا هو مسعدة الفزاري. فقال: أيما أحب إليك: مجالدة، أو مطاعنة، أو مصارعة؟ فقلت: ذاك إليك، فقال: صراع فنزل وعلق بسيفه في شجرة ونزلت وعلقت سيفي في شجرة وتواثبنا فرزقني الله الظفر عليه، فإذا أنا على صدره وإذا شيء مس رأسي، فإذا سيف مسعدة قد وصلت إليه في المعالجة، فضربت بيدي إلى سيفه وجردت السيف، فلما رأى أن السيف وقع بيدي قال: يا أبا قتادة استحيني، قلت: لا والله، قال: فمن للصبية؟ قلت: النار، ثم قتلته وأدرجته في بردي، ثم أخذت ثيابه فلبستها، ثم استويت على فرسه، فإن فرسي نفرت حيث تعالجنا، وذهبت للقوم فعرقبوها، ثم ذهبت خلق القوم فحملت على ابن أخيه فدققت صلبه، فانكشف من معه عن اللقاح، فحبست اللقاح برمحي وجئت أحرسها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح وجهك يا أبا قتادة، أي فقلت: ووجهك يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبو قتادة سيد الفرسان، بارك الله فيك يا أبا قتادة وفي ولدك وولد ولدك» وفي لفظ «وفي ولد ولدك» اهـ «أي وقال له صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي بوجهك؟ قلت: سهم أصابني، فقال ادن مني فنزع السهم نزعا رفيقا، ثم بزق فيه ووضع راحته عليه، فو الذي أكرمه بالنبوة ما ضرب عليّ ساعة قط ولا قرح عليّ، وفي رواية «ولا قاح» وفي لفظ «قال لي: قتلت مسعدة؟ قلت نعم، ثم قال صلى الله عليه وسلم يدعو لأبي قتادة: اللهم بارك في شعره وبشره» فمات أبو قتادة رضي الله عنه وهو ابن سبعين سنة وكأنه ابن خمس عشرة سنة «أي وأعطاه صلى الله عليه وسلم فرس مسعدة وسلاحه أي كما تقدم، وقال بارك الله لك فيه» وهذا السياق يدل على أن أبا قتادة رضي الله عنه انفرد عن الصحابة وتقدمهم، وتخلف مسعدة عن قومه مدة مصارعة أبي قتادة له وقتله، ولا مانع من ذلك، وقيل استنقذوا نصف اللقاح، أي عشرة وفيها جمل أبي جهل الذي غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وأفلت القوم بالعشرة الأخرى. أي ولا ينافيه ما تقدم من قول أبي قتادة: فانكشفوا عن اللقاح وجئت أحرسها، لأن المراد جملة من اللقاح، لكنه مخالف لما تقدم عن سلمة رضي الله عنه من قوله: ما زلت أرشقهم؟ يعني القوم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه فليتأمل، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد بناحية خيبر وتلاحق به الناس، أي وقال له سلمة بن الأكوع يا رسول الله إن القوم عطاش فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بقي في أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم. أي وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم من قوله حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه، لجواز أن يكون صدر

عنه ما تقدم لظنه أن ذلك هو جميع اللقاح التي أخذت، ثم تحقق أن الذي استنقذه هو وأبو قتادة جملة منها، وما في البخاري من قوله «واستنقذوا اللقاح كلها» يجوز أن يكون قائل ذلك ظن أن الذي استنقذ من أيدي القوم هو جميع ما أخذوه من اللقاح، كما أن سلمة رضي الله عنه اعتقد أن جميع اللقاح التي أخذت هي التي جعلها خلف ظهره كما تقدم فكل من سلمة وأبي قتادة خلف نصف اللقاح التي هي العشرة التي خلصت من أيدي القوم. وفي رواية عن سلمة قال «قلت يا رسول الله ابعث معي فوارس لندرك القوم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ضحك صلى الله عليه وسلم: ملكت فأسجح» أي فارفق، والمعنى قدرت فاعف، وإنما كانوا عطاشا لأن سلمة رضي الله عنه ذكر أنه تبعهم إلى قبيل غروب الشمس، إلى أن عدلوا إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد، فنحاهم: أي طردهم عنه ومنعهم الشرب منه، وتركوا فرسين وجاء بهما سلمة رضي الله عنه يسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا كان من سلمة رضي الله عنه بعد أن رجعت الصحابة عنهم واستمر يتبعهم، وقال له صلى الله عليه وسلم شخص: يا رسول الله القوم الآن يغبقون بأرض غطفان، أي يشربون اللبن بالعشي الذي هو الغبوق، فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابا، ولما نزل صلى الله عليه وسلم بالمحل المذكور لم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكث يوما وليلة، أي وعن سلمة رضي الله عنه: وأتاني عمي عامر بن الأكوع بسطيحة فيها ماء وسطيحة فيها لبن فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو صلى الله عليه وسلم قد أخذ كلّ شيء استنقذته منهم، ونحر لهم بلال رضي الله عنه ناقته. ولا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الماء بعد أن كان مكثه بالجبل المذكور، وصلى صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، أي الخوف أن العدو يجيء إليهم، ولعل هذه هي صلاة بطن نخل، وهي على ما رواه الشيخان «أنه جعل القوم فرقتين، وصلاها مرتين كل مرة بفرقة والأخرى تحرس» أي تكون في وجه العدو، أي في المحل الذي يظن مجيئهم منه، وذلك كان لغير جهة القبلة، وإلا فالعدو لم يكن يمر أي منهم وهذه الصلاة لم ينزل بها القرآن. أقول: لكن رأيت في الإمتاع «وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صلاة الخوف، فقام إلى القبلة، وصفّ طائفة خلفه وطائفة مواجهة العدو، وصلى بالطائفة التي خلفه ركعة وسجد سجدتين، ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم، وأقبل الآخرون، فصلى بهم ركعة وسجد سجدتين وسلم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة» ولا يخفى أن هذه الكيفية هي صلاة عسفان، والله أعلم.

ولما أصبح صلى الله عليه وسلم قال «خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة رضي الله عنهما» . وعند خروجه صلى الله عليه وسلم وتلاحق بعض الفرسان به؛ قال لأبي عياش «لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك للحق بالناس، قال أبو عياش: فقلت: يا رسول الله إني أفرس الناس، قال أبو عياش: فو الله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت لذلك، وقسم صلى الله عليه وسلم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها وكانوا خمسمائة، وقيل سبعمائة. وبعث سعد بن عبادة رضي الله عنه بأحمال تمر وبعشر جزائر، فوافت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد، أي وقال صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم سعدا وآل سعد، نعم المرء سعد بن عبادة، فقالت الأنصار: هو سيدنا وابن سيدنا، من بيت يطعمون في المحل، ويحملون الكل، ويحملون عن العشيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين» وأقبلت امرأة أبي ذر رضي الله عنهما على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي من جملة اللقاح وهي القصوى، أفلتت من القوم فطلبوها فأعجزتهم، وفي لفظ: وانفلتت المرأة من الوثاق ليلا فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى انتهت إلى العضباء، فلم ترغ فقعدت على عجزها ثم زجرتها وعلموا بها فطلبوها فأعجزتهم، ونذرت إن نجاها الله عز وجل لتنحرنها، فلما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، قالت: يا رسول الله قد نذرت أن أنحرها إن نجاني الله عليها، أي وآكل من كبدها وسنامها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بئسما جزيتها أن حملك: أي لأجل أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها «لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين» وفي لفظ «لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم، إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك على بركة الله تعالى، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة» أي وهذا السياق يدل على أن المرأة قدمت عليه صلى الله عليه وسلم بتلك الناقة قبل قدومه المدينة. وفي السيرة الهشامية «أنها قدمت عليه صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبرته الخبر، ثم قالت: يا رسول الله إني نذرت لله» الحديث، وهو يخاف ما يأتي من قوله: ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته العضباء. أي ولعل ما في الأوسط للطبراني بسند ضعيف عن النواس بن سمعان رضي الله عنه «أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم سرقت، فقال: لئن ردّها الله عليّ لأشكرن ربي، وقد وقعت في حيّ من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها فصبحت المدينة» إلى آخره لا ينافي ما هنا لجواز تعدد الواقعة. «ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على ناقته العضباء مردفا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وقد غاب عنها خمس ليال، وأعطى صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع سهم الراجل

غزوة الحديبية

والفارس جميعا» أي مع كونه كان راجلا. وهذا استدل به من يقول إن للإمام أن يفاضل في الغنيمة، وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد. وعند مالك وإمامنا الشافعي رضي الله عنهما لا يجوز، ولعله لعدم صحة ذلك عندهما، وتبعت في تقديم هذه الغزوة على غزوة الحديبية الأصل، وهو الموافق لقول بعضهم: أجمع أهل السير على أن غزوة الغابة قبل الحديبية، ولقول أبي العباس شيخ القرطبي صاحب التذكرة والتفسير: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، والشمس الشامي ذكرها بعد الحديبية تبعا لما في صحيح البخاري أنها بعد الحديبية وقبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه. ففيه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه «فرجعنا: أي من غزوة ذي قرد إلى المدينة، فلم نلبث إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر» . ويؤيده قول الحافظ شمس الدين ابن إمام الجوزية: قد وهم جماعة من أصحاب المغازي والسير فذكروا غزوة الغابة قبل الحديبية؛ قال الحافظ ابن حجر: ما في البخاري أصح مما ذكره أهل السير. قال: ويحتمل في طريق الجمع أن تكون إغارة عيينة بن حصن على اللقاح، أي في الغابة وقعت مرتين، مرة قبل الحديبية، ومرة بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، أي ويلزم أن يكون في كل كان خروجه صلى الله عليه وسلم، وأن أوّل من علم بأخذ اللقاح سلمة بن الأكوع. ووقع له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ما تقدم، هذا حقيقة التكرار وإلا فهل الذي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع فيها لسلمة ولغيره من الصحابة ما وقع كانت أولا أو ثانيا؟ فليتأمل، ثم رأيت عن الحاكم رحمه الله تعالى أنه ذكر في الإكليل أن الخروج إلى ذي قرد تكرر أي ثلاث مرات؛ ففي الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفي الثانية خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة خمس، والثالثة هي المختلف فيها، أي ومعلوم أن هذه المختلف فيها خرج إليها صلى الله عليه وسلم فليتأمل، والله تعالى أعلم. غزوة الحديبية بالتخفيف تصغير حدباء وعلى التشديد عامة الفقهاء والمحدثين؛ وأشار بعضهم إلى أنه لم يسمع من فصيح، ومن ثم قال النحاس: سألت كل من لقيت ممن أثق بعلمه عن الحديبية، فلم يختلفوا في أنها بالتخفيف. وفي كلام بعضهم: أهل الحديث يشددون، وأهل العربية يخففون. وفي كلام بعض آخر: أهل العراق يشددون؛ وأهل الحجاز يخففون، وهي بئر، وقيل شجرة سمي المكان باسمها، وقيل قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم.

قال: وسببها أنه صلى الله عليه وسلم رأى في النوم أنه دخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، أي بعضهم محلق وبعضهم مقصر؛ وأنه دخل البيت وأخذ مفتاحه وعرّف مع المعرفين انتهى، أي وطاف هو وأصحابه؛ واعتمر وأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، ثم أخبر أصحابه أنه يريد الخروج للعمرة فتجهزوا للسفر، فخرج صلى الله عليه وسلم معتمرا ليأمن الناس: أي أهل مكة ومن حولهم من حربه، وليعلموا أنه صلى الله عليه وسلم إنما خرج زائر للبيت ومعظما له. وكان إحرامه صلى الله عليه وسلم بالعمرة من ذي الحليفة، أي بعد أن صلى بالمسجد الذي بها ركعتين وركب من باب المسجد وانبعثت به راحلته مستقبل القبلة؛ أحرم وأحرم معه غالب أصحابه، ومنهم من لم يحرم إلا بالجحفة، أي وكان خروجه في ذي القعدة، وقيل كان خروجه في رمضان وهو غريب، ولفظ تلبيته صلى الله عليه وسلم «لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» . واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة الشريفة نميلة بن عبد الله الليثي، أي وقيل ابن أم مكتوم، وقيل أبارهم كلثوم بن الحصين. أي وقيل استخلف أبارهم مع ابن أم مكتوم جميعا، فكان ابن أم مكتوم على الصلاة، وكان أبو رهم حافظا للمدينة، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم بعد أن استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب، ممن أسلم غفار ومزينة وجهينة وأسلم- القبيلة المعروفة- خشية من قريش أن يحاربوه وأن يصدّوه عن البيت كما صنعوا فتثاقل كثير منهم وقالوا أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم، واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم، وأنه ليس لهم من يقوم بذلك، فأنزل الله تعالى تكذيبهم في اعتذارهم بقوله يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: الآية 11] . وخرج صلى الله عليه وسلم بعد أن اغتسل ببيته، ولبس ثوبين، وركب راحلته القصوى من عند بابه، وخرج معه أم سلمة وأم عمارة وأم منيع وأم عامر الأشهلية رضي الله عنهن، ومعه المهاجرون والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وأبطأ عليه كثير منهم كما تقدم، وساق معه الهدي سبعين بدنة، أي وقد جللها، أي في ذي الحليفة بعد أن صلى بها الظهر، ثم أشعر منها عدة وهي موجهات للقبلة في الشق الأيمن: أي من سنامها. ثم أمر صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب وكان اسمه ذكوان فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه ناجية لما أنه نجا من قريش. فأشعر ما بقي وقلدهن نعلا نعلا، وأشعر المسلمون بدنهم وقلدوها. والإشعار جرح بصفحة سنامها. والتقليد أن تقلد في عنقها قطعة جلد أو نعل بالية ليعلم أنه هدي فيكف الناس عنه، وكان الناس سبعمائة رجل فكانت كل بدنة عن عشرة، وقيل كانوا أربع عشرة مائة، وقيل خمس عشرة وقيل ست عشرة، وقيل كانوا ألفا وثلاثمائة، وقيل وأربعمائة، وقيل وخمسمائة

وخمسة وعشرين، أي وقيل ألف وسبعمائة أي وليس معهم سلاح إلا السيوف في القرب، وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتخشى يا رسول الله من أبي سفيان وأصحابه ولم تأخذ للحرب عدتها؟ فقال: لست أحب أن أحمل السلاح معتمرا وكان معهم مائتا فرس فأقبلوا نحوه صلى الله عليه وسلم أي في بعض المحالّ، وكان بين يديه صلى الله عليه وسلم ركوة يتوضأ منها، فقال: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء نشربه ولا ماء نتوضأ منه إلا ما في ركوتك، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه الشريفة أمثال العيون، أي وفي لفظ: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه الشريفة. وفي لفظ آخر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه» وفي لفظ آخر «فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه» واستدل به بعضهم على أن الماء خرج من نفس بشرته الشريفة صلى الله عليه وسلم. قال أبو نعيم في الحلية: وهو أعجب من نبع الماء لموسى صلى الله عليه وسلم من الحجر، فإن نبعه من الحجر متعارف معهود، وأما من بين اللحم والدم فلم يعهد. قال بعضهم: وإنما لم يخرجه صلى الله عليه وسلم بغير ملابسة ماء في إناء تأدبا مع الله تعالى، لأنه المنفرد بابتداع المعدومات من غير أصل. قال جابر رضي الله عنه: فشربنا وتوضأنا ولو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. فلما كانوا بعسفان جاء إليه صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان العتكي، أي وقد كان صلى الله عليه وسلم أرسله إلى مكة عينا له، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بخروجك واستنفروا من أطاعهم من الأحابيش؛ وأجلبت ثقيف معهم ومعهم النساء والصبيان. وفي لفظ: يخرجون ومعهم العوذ المطافيل، أي النياق ذوات اللبن التي معها أولادها ليتزودوا بذلك، ولا يرجعون خوف الجوع. قال السهيلي: أو العوذ جمع عائذ وهي الناقة التي معها ولدها وإنما قيل للناقة عائذ وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها، لأنها عاطف عليه كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها لأنها في معنى نامية وزاكية، هذا كلامه: أو العوذ المطافيل النساء معهن أطفالهن، أي أنهم خرجوا بنسائهم معهن أولادهن ليكون أدعى لعدم الفرار. أي ويجوز أن يكونوا خرجوا بذلك جميعه وقد لبسوا جلود النمر: أي أظهروا العداوة والحقد، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله أن لا يدخلها عليهم عنوة أبدا، وهذا خالد بن الوليد- أي رضي الله عنه لأنه أسلم بعد ذلك- في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم، أي وكانت مائتي فرس، أي وقد صفت إلى جهة القبلة، فأمر صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر رضي الله عنه فتقدم في خيله، فقام بازاء خالد وصف أصحابه رضي الله عنهم، أي وحانت صلاة الظهر، فأذن بلال رضي الله عنه وأقام، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وصف الناس خلفه فركع بهم وسجد ثم سلم، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟.

وفي لفظ قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاة أخرى هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم: أي التي هي صلاة العصر، وبهذا استدل على أنها الصلاة الوسطى، واستدل له أيضا بأنه كان في أول ما أنزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر ثم نسخ ذلك أي تلاوته بقوله تعالى وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: الآية 238] فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر لقوله تعالى وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النّساء: الآية 102] الآيات، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم جميعا حتى عباد بن بشر وأصحابه جميعا الذين قاموا بازاء خالد رضي الله عنهم، وحانت صلاة العصر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف: أي على ما ذكره الله تعالى، فلما جعل المسلمون يسجد بعضهم وبعضهم قائم ينظر إليهم، قال المشركون: لقد أخبروا بما أردناه بهم، ولعل الصلاة هي صلاة عسفان، لأن كراع الغميم بالقرب منه كما تقدّم، وهي على ما رواه مسلم «أنه صلى الله عليه وسلم صفهم صفين وأنه أحرم بهم وركع واعتدل بهم جميعا ثم لما سجد سجد معه الصف الأول سجدتيه وتخلف الصف الثاني في اعتداله للحراسة، فلما قام وقام معه من سجد سجد الصف الثاني ولحقه في القيام وتقدم الصف الثاني وتأخر الصف الأول ثم ركع واعتدل بهم جميعا ثم سجد وسجد معه الصف الثاني الذي تقدم، واستمر الصف الأول الذي تأخر على الحراسة في اعتداله، فلما جلس للتشهد أتموا بقية صلاتهم وجلسوا معه للتشهد، فتشهد وسلم بهم جميعا» وعلى هذه الصلاة حمل أئمتنا ما جاء: «فرضت الصلاة في الخوف ركعة» أي أنها ركعة مع الإمام ويضم إليها أخرى. ثم رأيت في الدر المنثور التصريح بأن هذه الصلاة هي صلاة عسفان. عن ابن عياش الزرقي قال «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حالة غرة» الحديث المتقدّم. واشترط أئمتنا في هذه الصلاة، وهي إذا كان العدو في جهة القبلة ولا ساتر أن يكون كل صف مقاوما للعدو وأن كل واحد لاثنين وإلا لم تصح الصلاة لما فيه من التغرير بالمسلمين ولعل صلاته صلى الله عليه وسلم بالصفين كانت كذلك، وهذه الصلاة لم ينزل بها القرآن كصلاة بطن نخل، فعلم أن القرآن لم ينزل إلا بصلاة ذات الرقاع وبصلاة شدة الخوف، ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة شدة الخوف وهي أن يلتحم القتال أو لم يأمنوا هجوم العدو. ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قريشا تريد منعه عن البيت قال: أشيروا عليّ أيها الناس، أتريدون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حربا، فتوجه له فمن صدنا عنه

قاتلناه، أي وفي الإمتاع: فقال المقداد رضي الله عنه يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) [المائدة: الآية 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والله يا رسول الله لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فامضوا على اسم الله فساروا؛ ثم قال: يا ويح قريش نهكتهم الحرب: أي أضعفتهم. وفي لفظ: أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين: أي كاملين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذين بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفر هذه السالفة: أي وهي صفحة العنق، فهو كناية عن القتل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: هل من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، أي ويقال إنه ناجية بن جندب رضي الله عنه، فسلك بهم طريقا وعرا. فلما خرجوا منه وقد شق عليهم ذلك وأفضوا إلى أرض سهلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: قولوا نستغفر الله ونتوب إليه، فقالوا ذلك، فقال: والله إنها: أي قول أستغفر الله للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها. ثم إن خالدا رضي الله عنه لم يشعر بهم إلا وقد نزلوا بذلك المحل، فانطلق نذيرا لقريش. وقد جاء في تفسير الحطة أنها المغفرة: أي طلب المغفرة: أي اللهم حط عنا ذنوبنا، وهذا هو المناسب لقوله صلى الله عليه وسلم «قولوا نستغفر الله» إلى آخره. وجاء في تفسيرها أيضا أنها لا إله إلا الله، فلم يقولوا حطة؛ بل قالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة سوداء استهزاء وجراءة على الله تعالى. وفي البخاري: فقيل لبني إسرائيل وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: الآية 58] فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم، أي أطيازهم وقالوا حطة في شعيرة، وقد جاء «أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل، من دخله غفر له الذنوب» أي المذكورة في قوله تعالى وَادْخُلُوا الْبابَ [البقرة: الآية 58] أي باب أريحاء بلد الجبارين سُجَّداً: أي خاضعين متواضعين وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: الآية 58] أي حط عنا خطايانا. قال بعضهم: فكما جعل الله لبني إسرائيل دخولهم الباب على الوجه المذكور سببا للغفران، فكذا حب أهل البيت سبب للغفران. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يسلكوا طريقا تخرجهم على مهبط الحديبية من أسفل مكة فسلكوا ذلك الطريق، فلما كانوا به: أي بالثنية التي يهبط عليهم منها

بركت ناقته صلى الله عليه وسلم، أي القصوى، فقال الناس: حل حل، فألحت: أي تمادت واستمرت على عدم القيام، فقالوا: خلأت القصوى: أي حرنت، يقال خلأت الناقة وألخ الجمل بالخاء المعجمة فيهما، وحرن الفرس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما خلأت وما هو لها بخلق» وفي لفظ: «ما ذاك لها بعادة ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة: أي منعها الله عن دخول مكة: أي علم صلى الله عليه وسلم أن ذلك صدّ له من الله عن مكة أن يدخلها قهرا، «والذي نفس محمد بيده لا تدعني قريش اليوم إلى حطة» أي خصلة «يسألون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» أي وفي رواية «فيها تعظيم حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها» أي من ترك القتال في الحرم، والكفّ عن إراقة الدم «ثم زجرها صلى الله عليه وسلم فقامت، فولى راجعا عوده على بدئه، ثم قال للناس: انزلوا فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه، فأخرج صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته فأعطاه ناجية بن جندب رضي الله عنه سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو البراء بن عازب رضي الله عنه، أو خالد بن عبادة الغفاري فنزل في قليب فغرزه في جوفه، فجاش: أي علا وارتفع بالرواء: أي الماء العذب حتى ضرب الناس عليه بعطن» وفي لفظ «حتى صدروا عنها بعطن» : أي حتى رووا ورويت إبلهم حتى بركت حول الماء لأن عطن الإبل مباركها. قال: ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى الحديبية على ثمد: وهو حفرة فيها ماء من ثمادها قليل الماء يتربضه الناس تربضا أي يأخذونه قليلا قليلا، ثم لم يلبث الناس حتى نزحوه فاشتكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء. وفي لفظ: العطش أي وكان الحر شديدا، فنزع صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته ودفعه للبراء فقال: اغرز هذا السهم في بعض قليب الحديبية ففعل، والقليب جافّ، فجاش الماء، وقيل دفعه لناجية بن الأعجم. فعنه رضي الله عنه، قال: «دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكي إليه قلة الماء فأخرج سهما من كنانته ودفعه إليّ، ودعا بدلو من ماء البئر فجئت به، فتوضأ فمضمض ثم مج الماء في الدلو. ثم قال: انزل بالدلو في البئر وأثر ماءها بالسهم ففعلت، فو الذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى يغمرني الماء، وفارت كما يفور القدر حتى طمت واستوت بشفيرها، يغترفون من جوانبها حتى نهلوا عن آخرهم، وعلى البئر نفر من المنافقين منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال له أوس بن خولي رضي الله عنه: ويحك يا أبا الحباب، ما آن لك تبصر ما أنت عليه؟ أبعد هذا شيء؟ فقال: إني رأيت مثل هذا فقال له أوس رضي الله عنه: قبحك الله وقبح رأيك، ثم أقبل: أي عبد الله المذكور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحباب أني رأيت؟ أي كيف رأيت مثل ما رأيت اليوم؟ قال: ما رأيت مثله قط، قال: فلم

قلت ما قلت؟ فقال: يا رسول الله استغفر لي، وقال ابنه عبد الله: يا رسول الله استغفر له فاستغفر له. وفي لفظ: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر نتبرضها» من البرض: هو الماء الذي يقطر قليلا قليلا «فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ماشيتنا وركابنا. وفي لفظ: فرفعت إليه الدلو فغمس يده فيها فقال ما شاء الله أن يقول: ثم صب الدلو فيها، فلقد لقيت آخرنا أخرج بثوب خشية الغرق ثم ساحت نهرا» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها. وقد يقال: لا مانع من وقوع جميع ذلك، لكن يبعد أن يكون ذلك في قليب واحد، قال بعضهم: فلما ارتحلوا أخذ البراء رضي الله عنه السهم فجف الماء كأن لم يكن هناك شيء. وفي كلام هذا البعض: أن أبا سفيان قال لسهيل بن عمرو رضي الله عنهما: قد بلغنا أنه ظهر بالحديبية قليب فيه ماء فقم بنا ننظر إلى ما فعل محمد، فأشرفنا على القليب والعين تنبع تحت السهم، فقال: ما رأينا كاليوم قط، وهذا من سحر محمد قليل. وفيه أنا أبا سفيان رضي الله عنه لم يكن حاضرا في الحديبية، وحمل ذلك على أن ذلك كان من أبي سفيان بعد ارتحاله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ينافيه ما قدمه هذا البعض أن عند ارتحالهم من الحديبية رفع السهم وجف القليب، فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء وكان سيد قومه رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح، فكان من كبار مسلمة الفتح في رجال من خزاعة وكانت خزاعة، مسلمها ومشركها لا يخفون عليه صلى الله عليه وسلم شيئا كان بمكة، بل يخبرونه به وهو بالمدينة، وكانت قريش ربما تفطن لذلك، فسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا؛ وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته. وفي المواهب أنه صلى الله عليه وسلم قال لبديل ما تقدم من قوله «وإن قريشا قد نهكتهم الحرب إلى آخره» وإن بديلا رضي الله عنه قال له سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول: قال سمعته يقول كذا وكذا: فحدثهم بما قال، هذا كلامه. والرواية المشهورة أن بديلا ومن معه من خزاعة لما رجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد وإن محمدا لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا

لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم: أي قابلوهم بما يكرهون، وقالوا إن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة: أي قهرا أبدا، ولا تتحدث بذلك عنا العرب. أي وفي لفظ أنهم قالوا: أيريد محمد أن يدخلها علينا في جنوده معتمرا تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا، والله لا كان هذا أبدا ومنا عين تطرف، ثم بعثوا إليه صلى الله عليه وسلم مكرز بن حفص أخا بني عامر فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، قال: هذا الرجل غادر، أي وفي رواية فاجر، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل فرجع إلى قريش وأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بعثوا إليه صلى الله عليه وسلم الحليس بن علقمة وكان سيد الأحابيش يومئذ، وتقدم عن الأصل أن الأحابيش هم بنو الهون بن خزيمة، وبنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق بن خزيمة، أي وأنه قيل لهم ذلك، لأنهم تحالفوا تحت جبل بأسفل مكة يقال له حبشي هم وقريش على أنهم يد واحدة على من عاداهم ما سجا ليل، ووضح نهار، وما سار حبشي، فسموا «أحابيش قريش» . فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون، أي يتعبدون ويعظمون أمر الإله. وفي لفظ: يعظمون البدن. وفي لفظ: يعظمون الهدي، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه بقلائده من عرض الوادي بضم المهملة أي ناحيته، وأما ضد الطول فبفتح المهملة؛ قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله بكسر الحاء المهلمة، موضعه الذي ينحر فيه من الحرم: أي يرجع الحنين، واستقبله الناس يلبون قد شعثوا؛ صاح وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت أبى الله أن يحج لخم وجذام ونهد وحمير ويمنع ابن عبد المطلب، هلكت قريش ورب الكعبة، إنما القوم أتوا عمارا أي معتمرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل يا أخا بني كنانة. وقيل إنه بمجرد أن رأى هذا الأمر رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى، فقال لهم في ذلك، أي قال إني رأيت ما لا يحل منعه، رأيت الهدي في قلائده، قد أكل أوباره، أي معكوفا عن محله، والرجال قد شعثوا وقملوا، فقالوا له: اجلس، إنما أنت أعرابي ولا علم لك، أي فما رأيت من محمد مكيدة، فعند ذلك غضب الحليس وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما، والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وما جاء له أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد فقالوا له: مه: أي كف يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه فإنه أسلم

بعد ذلك، وهذا هو الذي شبهه صلى الله عليه وسلم بعيسى ابن مريم عليه السلام، ولما قتله قومه قال صلى الله عليه وسلم «مثله في قومه كصاحب يس» كما سيأتي ذلك، فقال: يا معشر قريش إني رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، فقالوا صدقت. وهذا يدل على أن ذهاب عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه إنما كان بعد تكرر الرسل من قريش إليه صلى الله عليه وسلم. وبه يعلم ما في المواهب أن عروة لما سمع قريشا توبخ بديلا ومن معه من خزاعة، قال: أي قوم، ألستم بالوالد إلى آخره. وفي لفظ: ألستم كالوالد، أي كل واحد منكم كالوالد لي وأنا كالولد له، وقيل أنتم حي قد ولدني، لأن أمه سبيعة بنت عبد شمس، قالوا بلى قال: أو لست بالولد؟ قالوا بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه، ثم قال: يا محمد جمعت أوباش: أي أخلاط الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك، أي أصلك وعشيرتك لتفضها بهم، إنها قريش، قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمر يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك؛ أي انهزموا غدا. وفي لفظ والله لا أرى وجوها أي عظماء، وإني أرى أسرابا من الناس، خليقا أي حقيقا أن يفرو ويدعوك، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه جالس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: اعضض بظر اللات. والبظر. قطعة تبقى في فرج المرأة بعد الختان، وقيل التي تقطعها الخاتنة، أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أبي قحافة، فقال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، أي على هذه الكلمة التي خاطبتني بها ولكن هذه بها. وفي رواية: والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك بها، وتلك اليد التي كانت لأبي بكر رضي الله تعالى عنه عند عروة، هي أن عروة استعان في حمل دية فأعانه الرجل بالواحد من الإبل والرجل بالاثنين. وأعانه أبو بكر رضي الله عنه بعشرة إبل شواب، ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، أي وهذه عادة العرب أن الرجل يتناول لحية من يكلمه خصوصا عند الملاطفة، وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يمنعه من ذلك استمالة وتأليفا له، والمغيرة بضم الميم وكسرها ابن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد وعليه المغفر، فجعل يقرع يد عروة إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بنعل السيف: وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها، ويقول: اكفف يدك عن وجه، وفي رواية: عن مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك فإنه لا ينبغي لمشرك ذلك؛ وإنما فعل ذلك المغيرة رضي الله عنه إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينظر لما هو عادة العرب، فيقول للمغيرة: ويحك ما أفظك وما أغلظك، أي وما أشدّ قولك.

وفي رواية: فلما أكثر عليه غضب عروة وقال: ويحك ما أفظك وما أغلظك، ليت شعري من هذا الذي آذاني من بين أصحابك، والله إني لا أحسب فيكم ألأم منه ولا شرّ منزلة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، أي لأن عروة كان عم والد المغيرة، فالمغيرة يقول له يا عم، لأن كل قريب من جهة الأب يقال له عم، وليس في الصحيح لفظ ابن أخيك فقال: أي غدر: أي يا غادر، وهل غسلت غدرتك. وفي لفظ سوأتك وفي لفظ: ألست أسعى في غدرتك إلا بالأمس، وفي لفظ: يا غدر، والله ما غسلت عنك غدرتك بعكاظ إلا بالأمس، وقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر. قيل أراد عروة بذلك أنه الذي ستر غدر المغيرة بالأمس، لأن المغيرة رضي الله عنه قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف، وفد هو وإياهم مصر على المقوقس بهدايا قال وكنا سدنة اللات: أي خدامها، واستشرت عمي عروة في مرافقتهم فأشار عليّ بعدم ذلك، قال: فلم أطع رأيه، فأنزلنا المقوقس في كنيسة للضيافة ثم أدخلنا عليه، فقدموا الهدية له، فاستخبر كبير القوم عني، فقال ليس منا، بل من الأحلاف فكنت أهون القوم عليه، فأكرمهم وقصر في حقي، فلما خرجوا لم يعرض عليّ أحد منهم مواساة فكرهت أن يخبروا أهلنا بإكرامهم وازدراء الملك بي، فأجمعت قتلهم، ونزلنا محلا فعصبت رأسي، فعرضوا عليّ الخمر فقلت رأسي تصدع، ولكن أسقيكم فسقيتهم وأكثرت لهم بغير مزج حتى همدوا، فوثبت عليهم فقتلتهم جميعا، وأخذت كل ما معهم، وقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، فسلمت عليه وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداك للإسلام يا مغيرة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: من مصر قدمت؟ قلت نعم، قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ لأنهم من بني مالك، فقلت: كان بيني وبينهم ما يكون بين العرب وقتلتهم، وجئت بأسلابهم ليخمسها النبي صلى الله عليه وسلم أو يرى فيها رأيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إسلامك فقبلته ولا آخذ من أموالهم شيئا ولا أخمسه، فإنه غدر والغدر لا خير فيه، فقلت: يا رسول الله إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ثم أسلمت، فقال صلى الله عليه وسلم «الإسلام يجبّ ما قبله» . قال: وبلغ ذلك ثقيفا، فتداعوا للقتال واصطلحوا على أن يحمل عمي عروة ثلاث عشرة دية. وفي رواية لما وردوا على المقوقس أعطى كل واحد منهم جائزة ولم يعط المغيرة شيئا فحقد عليهم، فلما رجعوا نزلوا منزلا وشربوا خمرا، ولما سكروا وناموا وثب عليهم المغيرة فقتلهم وأخذ أموالهم وجاء وأسلم، فاختصم بنو مالك مع رهط المغيرة، وشرعوا في المحاربة، فسعى عروة في إطفاء نار الحرب وصالح بني مالك

على ثلاث عشرة دية ودفعها عروة. ولما أسلم المغيرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء» وفيه أن هذا مال حربي قصد أخذه والتغلب عليهم، إلا أن يقال هؤلاء مؤمنون منه، لأنهم اطمأنوا إليه. أي ويذكر أن المغيرة بن شعبة هذا رضي الله عنه كان من دهاة العرب، وأحصن في الإسلام ثمانين امرأة، ويقال ثلاثمائة امرأة، وقيل ألف امرأة. قيل لإحدى نساء المغيرة إنه لدميم أعور، فقالت: هو والله عسيلة يمانية في ظرف سوء. ولما ولي رضي الله عنه الكوفة أرسل يخطب بنت النعمان بن المنذر، فقالت لرسوله: قل له ما قصدت إلا أن يقال تزوّج المغيرة الثقفي بنت النعمان بن المنذر، وإلا فأيّ حظ لشيخ أعور في عجوز عمياء، وهذه هي القائلة لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما وفدت عليه وهو والي الكوفة وأكرمها في دعائها له: ملكتك يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا أزال عن كريم نعمة إلا جعلك السبب في عودها إليه، إنما يكرم الكريم الكريم. والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه أوّل من حيا سيدنا عمر رضي الله عنه بأمير المؤمنين. وعند مجيء عروة أخبر صلى الله عليه وسلم عروة بما أخبر به من تقدّم من أنه لم يأت لحرب، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه. لا يتوضأ: أي يغسل يديه إلا ابتدروا وضوءه؛ أي كادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه: أي يدلك به من وقع في يده وجهه وجلده، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه أي وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون النظر إليه تعظيما له صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم فإنه عرض عليكم رشدا فاقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع أني أخاف أن لا تنصروا عليه، فقالت له قريش: لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور، ولكن نرده عامنا هذا ويرجع إلى قابل، فقال: ما أراكم إلا ستصيبكم قارعة، ثم انصرف هو ومن معه إلى الطائف. وعروة هذا هو ابن مسعود الثقفي، وهو عظيم القريتين الذي عنته قريش بقولها لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزّخرف: الآية 31] وقيل المعنيّ بذلك الوليد بن المغيرة.

ويقال إن عروة هذا كان جدا للحجاج لأمه. ويدل لذلك كما يدل للأوّل ما حكى عن الشعبي أنه سأل الحجاج وهو والي العراق حاجة فاعتل عليه فيها، فكتب إليه: والله لا أعذرك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعي رضي الله عنه، فبعثه إلى قريش، وحمله صلى الله عليه وسلم على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي عقره عكرمة بن أبي جهل، وأسلم بعد ذلك رضي الله عنه، وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما لقي. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وما بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان رضي الله عنه، أي فإن بني عمه يمنعونه. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه لم يأت إلا زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته، أي ولعل ذكر أبي سفيان من غلط بعض الرواة، لما تقدّم أنه لم يكن حاضرا بالحديبية: أي صلحها، وأمر صلى الله عليه وسلم عثمان أن يأتي رجالا مسلمين بمكة ونساء مسلمات ويدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله وشيك: أي قريب أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم بعث عثمان رضي الله عنه بكتاب لقريش: أي قيل فيه إنه ما جاء لحرب أحد، وإنما جاء معتمرا بدليل ما يأتي في ردّهم عليه. وقيل فيه ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمر، وليقع الصلح بينهم على أن يرجع في هذه السنة الحديث، وأنهم لما احتبسوه أمسك صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو عنده كذا في شرح الهمزية لابن حجر، وقدمه على الأوّل فليتأمل. فخرج عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة، ودخل مكة من الصحابة عشرة أيضا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ليزوروا أهاليهم لم أقف على أسمائهم، ولم أقف على أنهم هل دخلوا مع عثمان أم لا فلقيه قبل أن يدخل مكة أبان بن سعيد بن العاص رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك قبل خيبر، فأجاره حتى يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله بين يديه، فجاء إلى أبي سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، أي وهم يردّون عليه إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا، فلما فرغ عثمان من تبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. وفي رواية: قال له أبان إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وقال المسلمون: قد خلص عثمان إلى البيت فطاف به دوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون، وقال: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص إليه، قال: ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف، لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف به حتى أطوف، فلما رجع عثمان وقالوا له في ذلك: أي قالوا له طفت بالبيت، قال بئسما ظننتم بي، دعتني قريش إلى أن أطوف بالبيت فأبيت، والذي نفسي بيده لو مكثت بها معتمرا سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالحديبية ما طفت حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ. وكانت قريش قد احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه قد قتل، أي وكذا قتل معه العشرة رجال الذين دخلوا مكة أيضا؛ فقال صلى الله عليه وسلم عند بلوغه ذلك: لا نبرح حتى نناجز القوم: أي نقاتلهم، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، أي بعد أن قال لهم: إن الله أمرني بالبيعة. فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: بينما نحن جلوس قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وهو عمر بن الخطاب: أيها الناس البيعة البيعة، نزل روح القدس فاخرجوا على اسم الله، فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة فبايعناه، أي وبايعه الناس على عدم الفرار، وأنه إما الفتح وإما الشهادة، وهذا هو المراد بما جاء في بعض الروايات، فبايعناه على الموت ولم يتخلف منا أحد إلا الجدّ بن قيس، قال: لكأني أنظر إليه لا صقا بإبط ناقته يستتر بها من الناس. وقد قيل إنه كان يرمي بالنفاق، وقد نزل في حقه في غزوة: أي غزوة تبوك من الآيات ما يدل على ذلك كما سيأتي، وهو ابن عمة البراء بن معرور رضي الله عنه، وكان سيد بني سلمة بكسر اللام في الجاهلية، وقد قال صلى الله عليه وسلم لبني سلمة: «من سيدكم؟ قالوا الجدّ بن قيس: أي على بخل فيه قال: وأيّ داء أدوأ من البخل؛ ثم قال صلى الله عليه وسلم: بل سيدكم عمرو بن الجموح. وقيل قالوا: يا رسول الله من سيدنا؟ قال: سيدكم بشر بن البراء بن معرور وهذا قال ابن عبد البر إن النفس إليه أميل. ومما يدل للأوّل ما أنشده شاعر الأنصار رضي الله عنهم من قوله: وقال رسول الله والحق قوله ... لمن قال منا من تسموه سيدا فقالوا له جد بن قيس على التي ... نبخله فيها وإن كان أسودا فتى ما يخطي خطوة لدنيئة ... ولا مد يوما ما إلى سوأة يدا فسود عمرو بن الجموح لجوده ... وحق لعمرو بالندى أن يسودا إذا جاءه السؤال أنهب ماله ... وقال خذوه إنه عائد غدا ولو كنت يا جد بن قيس على التي ... على مثلها عمرو لكنت المسوّدا

أي وبايع صلى الله عليه وسلم عن عثمان فوضع يده على يده: أي وضع يده اليمنى على يده اليسرى، وقال: اللهم إن هذه عن عثمان فإنه في حاجتك وحاجة رسولك. أي وفي لفظ قال: اللهم إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله فأنا أبايع عنه، فضرب بيمينه شماله، وما ذاك إلا أنه صلى الله عليه وسلم علم بعدم صحة القول بأن عثمان قد قتل أو أن ذلك كان بعد مجيء الخبر له صلى الله عليه وسلم بأن القول بقتل عثمان رضي الله عنه باطل. وفيه أنه حيث علم صلى الله عليه وسلم أن عثمان لم يقتل لا معنى للبيعة، لأن سببها كما علمت بلوغه الخبر أن عثمان قد قتل. إلا أن يقال: سببها ما ذكر، وقتل العشرة من الصحابة، ويدل لذلك ما يأتي قريبا أن عثمان رضي الله عنه بايع بعد مجيئه من مكة فليتأمل، أي وبهذا يرد ما تمسك به بعض الشيعة في تفضيل علي كرم الله وجهه على عثمان رضي الله عنه، لأن عليا كان من جملة من بايع تحت الشجرة، وقد خوطبوا بقوله صلى الله عليه وسلم «أنتم خير أهل الأرض» فإنه صريح في تفضيل أهل الشجرة على غيرهم. وأيضا عليّ حضر بدرا دون عثمان، وقد جاء مرفوعا «لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية» . وحاصل الرد أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عن عثمان مع الاعتذار عنه بأنه في حاجة الله وحاجة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه عن بدر لتمريض بنته صلى الله عليه وسلم، وأسهم له كما تقدم، فهو في حكم من حضرها، على أنه سيأتي أنه رضي الله عنه بايع تحت تلك الشجرة بعد مجيئه من مكة، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم «أنتم خير أهل الأرض» على عدم حياة الخضر عليه الصلاة والسلام حينئذ، لأنه يلزم أن يكون غير النبي أفضل منه، وقد قامت الأدلة الواضحة على ثبوت نبوته كما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، وقد أشار إلى امتناع عثمان رضي الله تعالى عنه من الطواف وإلى عدم صحة القول بأن عثمان قتل وإلى مبايعته صلى الله عليه وسلم عنه صاحب الهمزية بقوله رحمه الله: وأبى أن يطوف بالبيت إذ لم ... يدن منه إلى النبي فناء فجزته عنها بيعة رضوا ... ن يد من نبيه بيضاء أدب عنده تضاعفت الأع ... مال بالترك حبذا الأدباء أي وامتنع رضي الله عنه أن يطوف بالبيت لأجل أنه لم يقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من البيت جانب، فجزته عن تلك الفعلة، وهي ذهابه إليهم وامتناعه من الطواف يد من نبيه عليه الصلاة والسلام تلك اليد البالغة في الكرم، وذلك في بيعة الرضوان، وذلك أدب عظيم عند عثمان رضي الله تعالى عنه حصل منه أمر عظيم مستغرب هو

تضاعف ثواب الأعمال التي تركها بسبب تركها، وهي الطواف. وذكر أن قريشا بعثت إلى عبد الله بن أبي ابن سلول إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل، فقال له ابنه عبد الله رضي الله عنه: يا أبت أذكرك الله أن لا تفضحنا في كل موطن، تطوف ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى حينئذ، وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله. وفي لفظ قال: إن لي في رسول الله أسوة حسنة، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم امتناعه رضي الله عنه أثنى عليه بذلك. وكانت البيعة تحت شجرة هناك، أي من أشجار السمر. أي ولما جاء عثمان رضي الله تعالى عنه بايع تحت تلك الشجرة، وقيل لها بيعة الرضوان، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» رواه مسلم وكانوا ألفا وأربعمائة على الصحيح. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «يا أيها الناس إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية» وتقدم أن الواو بمعنى أو في حديث «لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية» بدليل رواية مسلم هذه. ومن ثم قال ابن عبد البر رحمه الله: ليس في غزواته صلى الله عليه وسلم ما يعدل بدرا أو يقرب منها إلا غزوة الحديبية. والراجح تقديم غزوة أحد على غزوة الحديبية، وأنها التي تلي بدرا في الفضيلة. وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم سنان بن أبي سنان الأسدي، كذا في الأصل أنه الصواب بعد أن حكي أن أول من بايع أبو سنان، أي وهو ما ذهب إليه في الاستيعاب حيث قال: الأكثر الأشهر أن أبا سنان أول من بايع بيعة الرضوان، أي لا ابنه سنان، وأبو سنان هذا هو أخو عكاشة بن محصن رضي الله عنه، وكان أكبر من أخيه عكاشة بعشرين سنة. وضعفه في الأصل بأن أبا سنان رضي الله عنه مات في حصار بني قريظة ودفن بمقبرتهم، أي كما تقدم. ولما بايعه سنان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبايعك على ما في نفسك، قال: وما في نفسي؟ قال: أضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل، وصار الناس يقولون له صلى الله عليه وسلم: نبايعك على ما بايعك عليه سنان. وقيل أول من بايع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقيل سلمة بن الأكوع. قال: وذكر أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بايع ثلاث مرات: أول الناس، ووسط الناس، وآخر الناس بأمره له صلى الله عليه وسلم في الثانية والثالثة بعد قول سلمة له: قد بايعت، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأيضا، وذلك ليكون له في ذلك فضيلة، أي لأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤكد بيعته لعلمه بشجاعته وعنايته بالإسلام وشهرته في الثبات، أي

بدليل ما وقع له رضي الله عنه في غزوة ذي قرد بناء على تقدمها على ما هنا أو تفرس فيه صلى الله عليه وسلم ذلك بناء على تأخرها وبايع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرتين. أي وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [المائدة: الآية 2] الآية أن المسلمين لما صدوا عن البيت بالحديبية، مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال المسلمون: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله تعالى الآية: أي لا تصدوا هؤلاء العمار أن صدكم أصحابهم. قال: وكان محمد بن مسلمة رضي الله عنه على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثت قريش أربعين، وقيل خمسين رجلا عليهم مكرز بن حفص، أي وهو الذي بعثته قريش له صلى الله عليه وسلم ليسأله فيما جاء، وقال صلى الله عليه وسلم في حقه: هذا رجل غادر، وفي لفظ: رجل فاجر، ليطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا رجاء أن يصيبوا منهم أحدا أو يجدوا منهم غرة: أي غفلة، فأخذهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلا مكرزا فإنه أفلت، وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه رجل فاجر أو غادر كما تقدم، وأتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسوا، وبلغ قريشا حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم حتى رموا المسلمين بالنبل والحجارة، وقتل من المسلمين ابن زنيم رضي الله عنه، رمي بسهم. فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلا. وعند ذلك بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعا، منهم سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: سهيل أمركم، فقال سهيل: يا محمد إن الذي كان من حبس أصحابك، أي عثمان والعشرة رجال وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنا كارهين له حين بلغنا ولم نعلم به وكان من سفهائنا، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أولا وثانيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي، فقالوا نفعل، فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بذلك، فبعثوا بمن كان عندهم وهو عثمان والعشرة رجال، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابهم انتهى. ولما علمت قريش بهذه البيعة خافوا، وأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل، فيقيم ثلاثا معه سلاح الراكب السيوف في القرب والقوس، فبعثوا سهيل بن عمرو أي ثانيا ومعه مكرز بن حفص وحويطب بن عبد العزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصالحوه على أن يرجع في عامه هذا، لئلا تتحدث العرب بأنه دخل عنوة أي وأنه يعود من قابل، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل، أي ثانيا فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جثا على ركبتيه بين يديه صلى الله عليه وسلم والمسلمون حوله جلوس وتكلم فأطال، ثم تراجعا، أي ومن جملة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به، فقال له سهيل: والله لا تتحدث العرب بنا أنا أخذنا ضغطة بالضم: أي بالشدة

والإكراه، ولكن ذلك من العام القابل، ثم التأم الأمر بينهما على الصلح على ترك القتال إلى آخر ما يأتي، ولم يبق إلا الكتاب بذلك. وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتى أبا بكر رضي الله عنه، فقال له يا أبا بكر أليس هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال بلى؛ قال: فعلام نعطي الدنية بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء: النقيصة والخصلة المذمومة في ديننا؛ فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا عمر الزم غرزة: أي ركابه، وفي رواية أنه قال له: أيها الرجل إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره، استمسك بغرزه حتى تموت، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر رضي الله عنه: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولم يضيعني. ولقي عمر رضي الله عنه من ذلك الشروط الآتي ذكرها أمرا عظيما، وجعل يردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام حتى قال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: ألا تسمع يا بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما يقول، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فجعل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر إني رضيت وتأبى؟ فكان عمر رضي الله عنه يقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون هذا خيرا. هذا، والذي في الإمتاع عكس ما هنا: أي أنه قال ما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، ثم لأبي بكر ثانيا، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أي بعد أن كان أمر أوس بن خولة أن يكتب، فقال له سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك عليّ أو عثمان بن عفان، فأمر عليا كرم الله وجهه، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا: أي الرحمن الرحيم، ولكن اكتب باسمك اللهم، فكتبها لأن قريشا كانت تقولها. وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت، ومنه تعلموها، وتعلمها هو من رجل من الجن في خبر ذكره المسعودي، أي وإنما كتبها بعد أن قال المسلمون: والله لا يكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فضج المسلمون. وعن الشعبي رحمه الله: كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم، فكتب النبي أول ما كتب باسمك اللهم، وتقدم أنه كتب ذلك في أربع كتب حتى نزلت بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: الآية 41] فكتب بسم الله، ثم نزلت ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: الآية 110] فكتب بسم الله الرحمن ثم نزلت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) [النّمل: الآية 30] أي فكتبها وهذا السياق يدل على تأخر نزول الفاتحة

عن هذه الآيات، لأن البسملة نزلت أولها، وتقدم الخلاف في وقت نزولها فليتأمل، ثم قال صلى الله عليه وسلم «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل بن عمرو: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أصدك عن البيت، ولكن اكتب باسمك واسم أبيك» أي وفي لفظ «لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: امحه» وفي لفظ «امح رسول الله، فقال علي كرم الله وجهه: ما أنا بالذي أمحاه، وفي لفظ: لا أمحوك، وفي لفظ: والله لا أمحوك أبدا، فقال: أرنيه، فأراه إياه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، وقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، وقال: أنا والله رسول الله وإن كذبتموني، وأنا محمد بن عبد الله» وفي لفظ «فجعل عليّ يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا محمد رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد» : أي مقهور. وهو إشارة منه صلى الله عليه وسلم لما سيقع بين عليّ ومعاوية رضي الله تعالى عنهما فإنهما في حرب صفين وقعت بينهما المصالحة على ترك القتال إلى رأس الحول. وكان القتال في صفر دام مائة يوم وعشرة أيام، قتل فيه سبعون ألفا خمسة وعشرون ألفا من جيش علي كرم الله وجهه من جملة تسعين ألفا وخمسة وأربعون ألفا من جيش معاوية من جملة مائة وعشرين ألفا. فلما كتب الكاتب في الصلح: هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، قال عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي هو أحد الحكمين: اكتب اسمه واسم أبيه، وأرسل معاوية يقول لعمرو: لا تكتب أن عليا أمير المؤمنين، لو كنت أعلم أنه أمير المؤمنين ما قاتلته، فبئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم أقاتله، ولكن اكتب عليّ بن أبي طالب وامح أمير المؤمنين، فقيل له: يا أمير المؤمنين لا تمح إمارة اسم أمير المؤمنين، فإنك إن محوتها لا تعود إليك، فلما سمع علي كرم الله وجهه ذلك، وأمره بمحوها، وقال امحها تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم له في الحديبية ما تقدم، ومن ثم قال: الله أكبر مثلا بمثل، والله إني لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إذ قالوا لست برسول الله ولا نشهد لك بذلك، اكتب اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله، فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: سبحان الله أتتشبه بالكفار؟ فقال له علي كرم الله وجهه: يا بن النابغة: أي العاهرة، ومتى كنت عدوا للمسلمين هل تشبه إلا أمك التي وقعت بك، فقال عمرو: لا يجمع بيني وبينك مجلس أبدا، فقال عليّ كرم الله وجهه: إني لأرجو الله أن يطهر مجلسي منك ومن أشباهك. وذكر أن أسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي الله عنهما أخذا بيد عليّ كرم

الله وجهه، ومنعاه أن يكتب إلا محمد رسول الله وإلا فالسيف بيننا وبينهم، وضجت المسلمون وارتفعت الأصوات، وجعلوا يقولون: لم نعط هذه الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومىء بيده إليهم أن اسكتوا، ثم قال: أرنيه الحديث، وكان الصلح على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وقيل سنتين، وقيل أربع سنين، أي وصححه الحاكم- تأمن فيه الناس ويكفّ بعضهم عن بعض. أي ويقال لهذا العقد هدنة ومهادنة وموادعة ومسالمة. وقال زيادة على اشتراط الكف عن الحرب على أنه من أتى محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش ممن هو على دين محمد بغير إذن وليه رده إليه ذكرا كان أو أنثى. قال السهيلي رحمه الله: وفي رد المسلم إلى مكة عمارة للبيت وزيادة خير له في الصلاة بالمسجد الحرام والطواف بالبيت، فكان هذا من تعظيم حرمات الله، هذا كلامه. ومن أتى قريشا ممن كان مع محمد: أي مرتدا ذكرا كان أو أنثى لم نردّه إليه. وهذا الثاني يوافق قول أئمتنا معاشر الشافعية يجوز شرط أن لا يردوا من جاءهم مرتدا والأول يخالف قولهم: لا يجوز شرط رد مسلمة تأتينا منهم، فإن شرط فسد الشرط والعقد، إلا أن يقال هذا ما وقع عليه الأمر أولا ثم نسخ كما سيأتي، وشرطوا أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأن بيننا وبينكم عيبة مكفوفة: أي صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة؛ وقيل صدورا نقية من الغلّ والخداع منطوية على الوفاء بالصلح؛ وأنه لا إسلال ولا إغلال: أي لا سرقة ولا خيانة، قال سهيل: وأنك ترجع عامك هذا فلا تدخل مكة؛ وأنه إذا كان عام قابل خرج منها قريش فتدخلها بأصحابك فأقمت بها ثلاثة؛ أي ثلاثة أيام معك سلاح الراكب، السيوف في القرب والقوس لا تدخلها بغيرها. ويقال إنه صلى الله عليه وسلم هو الذي كتب الكتاب بيده الشريفة، وهو ما وقع في البخاري أي أطلق الله يده صلى الله عليه وسلم بالكتابة في تلك الساعة خاصة وعد معجزة له. قال بعضهم: لم يعتبره أي القول بذلك أهل العلم، ومعنى كتب أمر بالكتابة. وفي النور: وفي كون هذا أي أنه كتب بيده في البخاري فيه نظر، والذي في البخاري: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب ليكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد الحديث، أي فلفظة بيده ليست في البخاري، ومع إسقاطها التأويل ممكن. وتمسك بظاهر قوله: فكتب أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله على أنه صلى الله عليه وسلم كتب بيده، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، بأن هذا مخالف للقرآن، فناظرهم واستظهر عليهم بأن هذا لا ينافي القرآن وهو قوله تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا

تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: الآية 48] لأن هذا النفي مقيد بما قبل ورود القرآن، وبعد أن تحققت أمنيته صلى الله عليه وسلم وتقررت بذلك معجزته، لا مانع من أن يعرف الكتابة من غير معلم فتكون معجزة أخرى ولا يخرجه ذلك عن كونه أميا. أي ويقال إن الذي كتب هذا الكتاب محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وعده الحافظ ابن حجر رحمه الله من الأوهام. وجمع بأن أصل هذا الكتاب كتبه علي كرم الله وجهه، ونسخ مثله محمد بن مسلمة رضي الله عنه لسهيل بن عمرو، أي فإن سهيلا قال: يكون هذا الكتاب عندي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عندي، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كتب لسهيل نسخة أخذها عنده. وعند كتابته اشترط أن يردّ إليهم من جاء مسلما، قال المسلمون: سبحان الله كيف نردّ للمشركين من جاء مسلما؟ وعسر عليهم شرط ذلك وقالوا: يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا. وفي لفظ قال عمر: يا رسول الله أترضى بهذا؟ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: من جاءنا منهم فرددناه إليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا، ومن أعرض عنا وذهب إليهم فلسنا منه في شيء، وليس منا بل هو أولى بهم. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وسهيل بن عمرو يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى المسلمين يرسف في الحديد: أي يمشي في قيوده متوشحا سيفه، قد أفلت إلى أن جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فجعل المسلمون يرحبون به ويهنئونه، فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه، وفي لفظ: أخذ غصنا من شجرة به شوك وضرب به وجه أبي جندل ضربا شديدا حتى رق عليه المسلمون وبكوا وأخذ بتلبيبته، وقال: يا محمد هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ، لقد لجت القضية بيني وبينك، أي وجبت وتمت قبل أن يأتيك هذا، قال: صدقت، فجعل ينثره بتلبيبته ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل رضي الله عنه يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني عن ديني؟ ألا ترون ما لقيت، فإنه رضي الله عنه كان عذب عذابا شديدا على أن يرجع عن الإسلام فزاد الناس ذلك إلى ما بهم، أي فإنهم كانوا لا يشكون في دخولهم مكة وطوافهم بالبيت للرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأوا الصلح وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، خصوصا من اشترط أن يردّ إلى المشركين من جاء مسلما منهم، أي وردّ أبي جندل إليهم بعد ضربه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا

وبين القوم صالحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله أن لا نغدر بهم. وبهذا استدل أئمتنا على أنه يجوز شرط ردّ من جاءنا منهم مسلما إليهم ولا نرده إليهم إلا إذا كان حرا ذكرا غير صبيّ ومجنون وطلبته عشيرته. وفي لفظ آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهيل: إنا لم نفضّ الكتاب بعد، فقال: بلى لقد لجت القضية بيني وبينك، أي تمّ العقد فرده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم فأجره لي؛ فقال: ما أنا مجير ذلك لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، فقال مكرز وحويطب: قد أجرناه لك لا نعذبه. أي وهذا وما تقدم يخالف قول ابن حجر الهيتمي رحمه الله أن مجيء أبي جندل كان قبل عقد الهدنة معهم رواه البخاري. وعند ذلك قال حويطب لمكرز: ما رأيت قوما قط أشدّ حبا لمن دخل معهم من أصحاب محمد، أما إني أقول لك: لا تأخذ من محمد نصفا أبدا بعد هذا اليوم حتى يدخلها عنوة، فقال مكرز: وأنا أرى ذلك. وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومشى إلى جنب أبي جندل، أي وأبوه سهيل بجنبه يدفعه، وصار عمر رضي الله عنه يقول لأبي جندل: اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، أي ومعك السيف، يعرض له بقتل أبيه، أي وفي رواية إن دم الكافر عند الله كدم الكلب ويدني قائم السيف منه، أي وفي لفظ: وجعل يقول: يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله، فقال له أبو جندل: ما لك لا تقتله أنت، فقال عمر: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله وقتل غيره، فقال أبو جندل رضي الله عنه ما أنت أحق بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، فقال عمر رضي الله عنه: وددت أن يأخذ السيف فيضرب أباه فضنّ الرجل بأبيه. وفيه كيف يظن عمر حينئذ جواز قتله لأبيه حتى يعرض له به، إلا أن يقال ظن ذلك لكونه يريد أن يفتنه عن دينه ويرجع إلى الكفر وإن كان صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا جندل اصبر واحتسب. ورجع أبو جندل إلى مكة في جوار مكرز بن حفص أي وحويطب، فأدخلاه مكانا وكف عنه أبوه. وأبو جندل اسمه العاص، وهو أخو عبد الله بن سهيل بن عمرو، وإسلام عبد الله سابق على إسلام أبي جندل، لأن عبد الله شهد بدرا، أي فإنه خرج مع المشركين لبدر، ثم انحاز من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد معه بدرا والمشاهد كلها وأبو جندل رضي الله عنه أول مشاهده الفتح.

ودخلت خزاعة في عقده صلى الله عليه وسلم وعهده، أي وفي لفظ: ووثب من هناك من خزاعة. فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم. ويذكر أن حويطبا قال لسهيل: بادأنا أخوالك يعني خزاعة بالعداوة، وكانوا يستترون منا فدخلوا في عهد محمد وعقده، فقال له سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمتنا قد دخلوا مع محمد، قوم اختاروا لأنفسهم أمرا فما نصنع بهم، قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر، قال سهيل إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر فإنهم أهل شؤم فيسبوا خزاعة، فيغضب محمد لحلفائه فينقض العهد بيننا وبينه. ومن هذا التقرير يعلم أن بيعة الرضوان كانت قبل الصلح، وأنها السبب الباعث لقريش عليه. ووقع في المواهب ما يقتضي أن البيعة كانت بعد الصلح، وأن الكتاب الذي ذهب به عثمان كان متضمنا للصلح الذي وقع بينه صلى الله عليه وسلم وبين سهيل بن عمرو، فحبست قريش عثمان، فحبس صلى الله عليه وسلم سهيلا، ولا يخفى عليك ما فيه. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلح وأشهد عليه رجالا من المسلمين: أي أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة، أي ورجالا من قريش حويطبا ومكرزا قام إلى هديه فنحره، ومن جملته جمل لأبي جهل وكان نجيبا مهريا، وكان يضرب في لقاحه صلى الله عليه وسلم في رأسه برة، أي حلقة من فضة، وقيل من ذهب ليغيظ بذلك المشركين، غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر كما تقدم. قال: وقد كان فر من الحديبية ودخل مكة وانتهى إلى دار أبي جهل، وخرج في أثره عمرو بن غنمة الأنصاري، فأبى سفهاء مكة أن يعطوه حتى أمرهم سهيل بن عمرو بدفعه، ودفعوا فيه عدة ثياب، فقال رسول الله: لولا أنا سميناه في الهدي فعلنا انتهى. وفي لفظ قال لهم سهيل بن عمرو: إن تريدوه فاعرضوا على محمد مائة من الإبل، فإن قبلها فأمسكوا هذا الجمل وإلا فلا تتعرضوا له: أي فعرضوا عليه صلى الله عليه وسلم ذلك فأبى، وقال: لو لم يكن هذا الجمل للهدي لقبلت المائة، وفرق صلى الله عليه وسلم لحم الهدي على الفقراء الذين حضروا الحديبية. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عشرين بدنة مع ناجية حتى نحرت بالمروة وقسموا لحمها على فقراء مكة، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه وكان الحالق

لرأسه خراش بن أمية الخزاعي الذي بعثه إلى قريش فعقروا جمله وأرادوا قتله كما تقدم. فلما رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون، وقصر بعضهم كعثمان وأبي قتادة. وفي كلام بعضهم أي وهو السهيلي أنه لم يقصر غيرهما، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة فقال «اللهم ارحم المحلقين» وفي لفظ «يرحم الله المحلقين» وفي لفظ «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ فقال: يرحم الله المحلقين أو قال: اللهم ارحم المحلقين أو اللهم اغفر للمحلقين قالوا: والمقصرين فقال: يرحم الله المحلقين والمقصرين» وفي رواية قال «والمقصرين في الرابعة، وقد قالوا له يا رسول الله لم ظاهرت؟ أي أظهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين؟ قال لأنهم لم يشكوا: أي لم يرجوا أن يطوفوا بالبيت، بخلاف المقصرين» أي لأن الظاهر من حالهم أنهم أخروا بقية شعورهم رجاء أن يحلقوها بعد طوافهم بالبيت. وأرسل الله سبحانه وتعالى ريحا عاصفة احتملت شعورهم فألقتها في الحرم، وفيه أنه تقدم أن الحديبية أكثرها في الحرم، فاستبشروا بقبول عمرتهم. وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الكتاب أمرهم بالنحر والحلق قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها، أي وهو شديد الغضب فاضطجع. فقالت ما لك يا رسول الله مرارا وهو لا يجيبها، ثم ذكر لها ما لقي من الناس وقال لها: هلك المسلمون؛ أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا، وفي لفظ قال: عجبا يا أم سلمة، ألا ترين إلى الناس؟ آمرهم بالأمر فلا يفعلونه، قلت لهم: انحروا واحلقوا وحلوا مرارا فلم يجبني أحد من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي، فقالت: يا رسول الله لا تلمهم، فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح، ثم أشارت عليه صلى الله عليه وسلم أن يخرج ولا يكلم أحدا منهم وينحر بدنه ويحلق رأسه، ففعل كذلك: أي أخذ الحربة وقصد هديه وأهوى بالحربة إلى البدن رافعا صوته: بسم الله والله أكبر، ثم دخل صلى الله عليه وسلم قبة له من أدم أحمر ودعا بخراش فحلق رأسه ورمى شعره على شجرة فأخذه الناس وتحاصوه، وأخذت أم عمارة رضي الله عنها طاقات منه، فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا ثم انصرف صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة أي بعد أن أقام بالحديبية تسعة عشر يوما؛ وقيل عشرين يوما. فلما كان صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة أي بكراع الغميم أنزلت عليه سورة الفتح أي وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت

عليه الشمس، وحصل للناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله جهدنا: أي أصابنا الجهد وهو المشقة من الجوع وفي الناس ظهر: أي إبل فانحره لنأكل من لحمه، ولندهن من شحمه، ولنحتذي من جلوده، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تفعل يا رسول الله، فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل، كيف بنا إذا لاقينا العدو غدا جياعا رجالا، أي ثم قال: ولكن إن رأيت أن تدعو الناس إلى أن يجمعوا بقايا أزوادهم ثم تدعو فيها بالبركة، فإن الله سيبلغها بدعوتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابسطوا أنطاعكم وعبائكم ففعلوا، ثم قال: من كان عنده بقية من زاد أو طعام فلينثره، ودعا لهم، ثم قال: قربوا أوعيتكم، فأخذوا ما شاء الله، أي وحشوا أوعيتهم وأكلوا حتى شبعوا وبقي مثله حتى شبعوا وبقي مثله. وفي مسلم «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأخذنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا من أزوادنا فبسطنا له نطعا، فاجتمع زاد القوم على النطع، فكان كربضة العنز» أي كقدر العنز وهي رابضة أي باركة «وكنا أربع عشرة مائة» وقال الراوي «فأكلنا حتى شبعنا ثم حشونا جربنا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، والله لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجب من النار، وقال صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: هل من وضوء» بفتح الواو: وهو ما يتوضأ به «فجاء رجل باداوة» وهي الركوة «فيها نطفة من ماء» أي قليل من ماء، وقيل للماء نطفة لأنه ينطف أي يصب «فأفرغها في قدح، أي ووضع راحته الشريفة في ذلك الماء» قال الراوي «فتوضأنا كلنا، أي الأربع عشرة مائة ندغفقه دغفقة» أي نصبه صبا شديدا «ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغ الوضوء» وإلى تكثير الطعام والماء أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله في وصف راحته الشريفة: أحييت المرملين من موت جهد ... أعوز القوم فيه زاد وماء أي حفظت على المحتاجين للزاد والماء حياتهم، فسلموا من موت قحط شديد، أعوز القوم في ذلك القحط زاد وماء. وقال الإمام السبكي في تائيته في تكثير الماء: وعندي يمين لا يمين يأنّ في ... يمينك وكفا حيثما السحب ضنت ولما أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم سورة الفتح، قال له جبريل عليه السلام يهنئك يا رسول الله، وهنأه المسلمون وتكلم بعض الصحابة وقال: ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت وصدّ هدينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: بئس الكلام بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم، وسألوكم القضية

ويربحوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم الله تعالى سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أحد إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [آل عمران: الآية 153] وأنا أدعوكم في أخراكم ونسيتم يوم الأحزاب إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) [الأحزاب: الآية 10] فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، فهو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا، وقال له بعض الصحابة: أي وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا لا، قال: فهو كما قال جبريل عليه السلام، فإنكم تأتونه وتطوفون به. أقول: فيه أنه تقدم أن ذلك كان عن رؤيا لا عن وحي، إلا أن يقال: يجوز أن يكون جاءه صلى الله عليه وسلم الوحي بمثل ما رأى ثم أخبرهم بذلك والله أعلم. وفي لفظ: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين وأخبرهم بذلك؛ فلما صدوا قالوا له: أين رؤياك يا رسول الله؟ فأنزل الله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الفتح: الآية 27] الآية. أقول: ولا يخالف هذا ما تقدّم أن الرؤيا المذكورة كانت بالمدينة، وأنها السبب الحامل على الإحرام بالعمرة، لجواز تكرر الرؤيا، وأن الأولى اقترن بها الوحي. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام القضية وحلق رأسه، قال: هذا الذي وعدتكم، فلما كان يوم الفتح وأخذ المفتاح قال: ادعو لي عمر بن الخطاب فقال: هذا الذي قلت لكم. ولما كان في حجة الوداع ووقف صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هذا الذي قلت لكم، وفيه أنه لم يتقدم في الرؤيا أنه صلى الله عليه وسلم يأخذ المفتاح، ولا أن يقف بعرفة. إلا أن يقال: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك بعد الرؤيا، وأن المراد من ذلك مجرد دخول مكة؛ والله أعلم. وأصابهم مطر في الحديبية لم يبلّ أسفل نعالهم، أي ليلا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن صلوا في رحالكم. أي ووقع مثل ذلك في حنين أنه أصابهم مثله، فأمر صلى الله عليه وسلم مناديه، أن ينادي: ألا صلوا في رحالكم. وقال صلى الله عليه وسلم صبيحة ليلة الحديبية لما صلى بهم «أتدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله

ورسوله أعلم، قال: قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا برحمة الله وفضله فهو مؤمن بالله وكافر بالكواكب، ومن قال مطرنا بنجم كذا؛ وفي رواية: بنوء كذا وكذا فهو مؤمن بالكواكب كافر بي» وهذا عند أئمتنا مكروه لا حرام، أي لأن المراد بالإيمان شكر نعمة الله حيث نسبها إلى الله، والكفر كفران النعمة حيث نسبها لغيره، فإن اعتقد أن النجم هو الفاعل كان الكفر فيه على حقيقته وهو ضد الإيمان، والأوّل إنما نهي عنه لأنه كان من أمر الجاهلية، وإلا فهذا التركيب لا يقتضي أن يكون نوء كذا فاعلا، ومن ثم لو قال مطرنا في نوء كذا: أي في وقت نوء كذا لم يكره. وكان ابن أبي ابن سلول قال: هذا نوء الخريف، مطرنا بالشعرى، أي وسمي الخريف خريفا، لأنه تخترف فيها الثمار: أي تقطع. والنوء: سقوط نجم ينزل في الغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق من أنجم المنازل، وذلك يحصل في كل ثلاثة عشر يوما إلا الجبهة النجم المعروف، فإن لها أربعة عشر يوما، قال بعضهم: والأنواء ثمانية وعشرون نوآ: أي نجما، كان العرب يعتقدون أن من ذلك يحدث المطر أو الريح. وفي الحديث «لو حبس الله القطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله أصبح طائفة منهم به كافرين، يقولون مطرنا بنوء المجرّة» بكسر الميم: نجم يقال هو الدبران. وعن أبي هريرة رضي الله عنه «إن الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون مطرنا بنوء كذا» . ونقل عن عمر رضي الله عنه «أنه قال: مطرنا بنوء كذا» ولعله لم يبلغه النهي عن ذلك حيث قال. قال العارف بالله ابن عطاء الله: لعل هذا يكون ناهيا لك أيها المؤمن عن التعرّض إلى علم الكواكب واقتراناتها، ومانعا لك أن تدّعي وجود تأثيراتها. واعلم أن الله فيك قضاء لا بد أن ينفذه وحكما لا بدّ أن يظهره، فما فائدة التجسس على غيب علام الغيوب، وقد نهانا سبحانه أن نتجسس على غيبه. وصارت تلك الشجرة التي وقعت عندها البيعة يقال لها شجرة الرضوان، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أي في خلافته أن ناسا يصلون عندها، فتوعدهم وأمر بها فقطعت: أي خوف ظهور البدعة. ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة هاجرت إليه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدّة، وكانت أسلمت بمكة وبايعت قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أوّل من هاجر من النساء بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإنها خرجت من مكة وحدها وصاحبت رجلا من خزاعة حتى قدمت المدينة.

وفي الاستيعاب: يقولون إنها مشت على قدميها من مكة إلى المدينة ولا يعرف لها اسم إلا هذه الكنية، وهي أخت عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه. ولما قدمت المدينة دخلت أم سلمة رضي الله تعالى عنها وأعلمتها أنها جاءت مهاجرة وتخوّفت أن يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة أعلمته بها، فرحب بأم كلثوم رضي الله تعالى عنها، فخرج أخواها عمارة والوليد في ردها بالعهد، فقالا: يا محمد أوف لنا بما عاهدتنا عليه. فلم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، أي بعد أن قالت له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي، فنزل القرآن بنقض ذلك العهد بالنسبة للنساء لمن جاء منهم مؤمنا لكن بشرط امتحانهن بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ [الممتحنة: الآية 10] أي في مدة هذا العهد والصلح مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: الآية 10] قال السهيلي رحمه الله: وكان الامتحان أن تستحلف المرأة المهاجرة أنها ما هاجرت ناشزة، ولا هاجرت إلا لله ولرسوله، وفي لفظ: كانت المرأة إذا جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر رضي الله عنه بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت لالتماس دنيا ولا لرجل من المسلمين، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله، فإذا حلفت لم ترد ورد صداقها إلى بعلها. أي ولما قدم الوليد وعمارة مكة أخبرا قريشا بذلك، فرضوا أن تحبس النساء، ولم يكن لأم كلثوم رضي الله عنها زوج بمكة، فلما قدمت المدينة زوّجها زيد بن حارثة. وفي رواية: لما كان صلى الله عليه وسلم بالحديبية جاءته جماعة من النساء المؤمنات مهاجرات من مكة، من جملتهنّ سبيعة بنت الحارث، فأقبل زوجها وهو مسافر المخزومي طالبا لها، وأراد، مشركو مكة أن يردّوهن إلى مكة، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: الآية 10] فاستحلف صلى الله عليه وسلم وسبيعة فحلفت، فأعطى صلى الله عليه وسلم زوجها مسافرا ما أنفق عليها، فتزوّجها عمر رضي الله عنه. وهذا السياق يدل على أن الآية الكريمة نزلت بالحديبية، وما قبله يدل على أنها نزلت بالمدينة. وقد يقال: لا مانع من تكرر نزول الآية. وأما في غير مدة هذا العهد، أي بعد نسخة بفتح مكة فلم تستحلف امرأة جاءت إلى المدينة ولا يرد صداقها إلى بعلها، ومن ثم ذهب أئمتنا إلى أنه إذا شرط رد المسلمة إليهم فسدت الهدنة كما تقدم، ولا يجب دفع المهر للزوج لو جاءت مسلمة، وقوله تعالى وَآتُوهُمْ [النّور: الآية 33] أي الأزواج ما أَنْفَقُوا [البقرة: الآية 262] أي من المهور محمول على الندب، والصارف له عن الوجوب كون الأصل براءة الذمة، لأن البضع ليس بمال للكافر.

وفيه أن طلب رد المهور للأزواج كان واجبا في مدة العهد خاصة كما علمت، وأنزل الله تعالى وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: الآية 10] أي نهى المؤمنين عن البقاء على نكاح المشركات فطلق الصحابة رضي الله عنهم كل امرأة كافرة في نكاحهم، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له امرأتان فطلقهما يومئذ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية، فكان صلى الله عليه وسلم في مدة العهد يرد الرجال ولا يرد النساء، أي بعد امتحانهنّ. فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة أبو بصير رضي الله عنه، وكان ممن حبس بمكة، وكتب في رده أزهر بن عوف رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وهو من الطلقاء، وهو عم عبد الرحمن بن عوف والأخنس بن شريق رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك كتابا، وبعث به رجلا من بني عامر يقال له خنيس ومعه مولى يهديه الطريق، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب، فقرأه أبيّ رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه من رد من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما علمت ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك، قال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني، قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن حولك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق معهما، أي وصار المسلمون رضي الله عنهم يقولون له: الرجل يكون خيرا من ألف رجل يغرونه بالذين معه حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلس رضي الله عنه إلى جدار ومعه صاحباه، فقال أبو بصير رضي الله عنه لأحد صاحبيه ومعه سيفه: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم انظر إليه إن شئت، فاستله أبو بصير رضي الله عنه، ثم علاه به حتى قتله. وفي لفظ: إن الرجل هو الذي سل سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل؛ فقال له أبو بصير: أو صارم سيفك هذا؟ قال: نعم فقال: ناولنيه أنظر إليه فناوله؛ فلما قبض عليه ضربه به حتى برد؛ وقيل تناوله بفيه وصاحبه نائم فقطع إساره أي كتافه؛ ثم ضربه به حتى برد؛ فطلب المولى فخرج المولى سريعا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم والحصى يطنّ تحت قدميه. وفي لفظ: والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه، أي وأبو بصير في أثره حتى أزعجه؛ قال صلى الله عليه وسلم: إن هذا الرجل قد رأى فزعا؛ وفي لفظ قد رأى هذا ذعرا؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، قال له: ويحك ما لك؟ قال قتل صاحبكم صاحبي وأفلت منه ولم أكد وإني لمقتول واستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه؛ فإذا أبو بصير رضي الله عنه أناخ بعير العامري بباب المسجد؛ ودخل متوشحا السيف، ووثب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو

يفتن بي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب حيث شئت، فقال: يا رسول الله هذا سلب العامري: أي الذي قتلته رحله وسيفه فخمسه، فقال له صلى الله عليه وسلم: إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، ومن ثم قال فقهاؤنا: يجوز رد المسلم إلى الطالب له من غير عشيرته إذا قدر على قهر الطالب والهرب منه. وعند ذلك ذهب أبو بصير رضي الله عنه إلى محل من طريق الشام تمر به عيرات قريش؛ واجتمع إليه جمع من المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة؛ أي إنهم لما بلغهم خبره رضي الله عنه؛ أي وأنه صلى الله عليه وسلم قال في حقه: ويل أمه مسعر حرب؛ أي لو كان معه رجال صاروا يتسللون إليه وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما الذي رده يوم الحديبية وخرج من مكة في سبعين فارسا أسلموا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المدة التي هي زمن الهدنة أي خوف أن يردهم إلى أهليهم، وانضم إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب ممن أسلم حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، فقطعوا مادة قريش لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا أخذوها، حتى كتبت قريش له صلى الله عليه وسلم تسأله بالأرحام إلا آواهم ولا حاجة لهم بهم. وفي رواية أن قريشا أرسلت أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه في ذلك وأن قريشا قالوا إنا أسقطنا هذا الشرط من الشروط، من جاء منهم إليك فأمسكه في غير حرج، أي وفي لفظ: من أتاه فهو آمن، فإنا أسقطنا هذا الشرط، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وإلى أبي بصير رضي الله عنهما أن يقدما عليه وأن من معهما من المسلمين يلحقوا ببلادهم وأهليهم، ولا يتعرضوا لأحد مرّ بهم من قريش ولا لعيراتهم، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وأبو بصير رضي الله عنه يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل رضي الله عنه مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وقدم أبو جندل رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ناس من أصحابه، ورجع باقيهم إلى أهليهم. وأمنت قريش على عيراتهم وعلمت أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم الذين عسر عليهم رد أبي جندل إلى قريش مع أبيه سهيل بن عمرو أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مما أحبوه وأن رأيه صلى الله عليه وسلم أفضل من رأيهم، وعلموا بعد ذلك أن مصالحته صلى الله عليه وسلم كانت أولى، لأنها كانت سببا لكثرة المسلمين، فإن الكفار لما أمنوا القتال اختلطوا بالمسلمين فأثر فيهم الإسلام، فأسلم كثير منهم. وقد ذكر بعض المفسرين أن الذين أسلموا في سنتي الفتح بناء على أن المدة كانت سنتين أو المعنى سنتين من الصلح: أي من مدته يعدلون الذين أسلموا قبلهما.

قال: وعن بعضهم: أي وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وربه، والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. لقد رأيت سهيل بن عمرو رضي الله عنه بعد إسلامه في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق لحلق رأسه فانظر إلى سهيل كلما يلفظ من شعره صلى الله عليه وسلم يضعه على عينيه، وأذكر امتناعه أن يقرّ يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم أي وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمدت الله وشكرته الذي هداه للإسلام. وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون قد حصرنا المشركون، وكان لي وفرة فجعلت الهوام: أي القمّل تتساقط على وجهي، فمرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي رواية «ملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمّل يتناثر على وجهي» وفي رواية «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادنه، فدنوت يقول ذلك مرتين أو ثلاثا» وفي رواية «أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وأنا أوقد تحت برمة» وفي لفظ «قدر لي، فقال: يؤذيك تؤذيك هوامّ رأسك؟ قال أجل، قال: احلق واهد هديا، فقال: ما أجد هديا، فقال صم ثلاثة أيام» وفي لفظ «فقال: أيؤذيك هوّام رأسك» وفي لفظ «لعلك آذاك هوامّ رأسك، قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، فأمرني أن أحلق» أي وفي رواية «أصابتني هوامّ في رأسي وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، حتى تخوّفت على بصري، وأنزل الله تعالى هذه الآية فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ [البقرة: الآية 196] أي فحلق فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: الآية 196] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق» أي زاد في رواية «من زبيب بين ستة مساكين» والفرق بفتح الفاء والراء: ثلاثة آصع، أي زاد في رواية «من تمر، لكل مسكين نصف صاع، أو انسك» أي اذبح «ما تيسر لك» انتهى. زاد في رواية: «أيّ ذلك فعلت أجزأ عنك فحلقت، ثم نسكت» . أي وفي رواية الشيخين «انسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقا من الطعام على ستة مساكين» . قال ابن عبد البر عامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم، وما ورد من الترتيب في بعض الأحاديث لو صح كان معناه الاختيار أولا فأولا. قال الزمخشري في «سفر السعادة» : أمر صلى الله عليه وسلم في علاج القمّل بحلق الرأس لتنفتح المسام، وتتصاعد الأبخرة، وتضعف المادة الفاسدة التي يتولد القمل منها. وذكر في الهدى أن أصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، والاستفراغ،

فإلى الأول شرع التيمم خوفا من استعمال الماء. وإلى الثاني شرع الفطر في رمضان في السفر لئلا تتوالى مشقة السفر ومشقة الصوم. وإلى الثالث بحلق رأس المحرم إذا كان به أذى من قمل ليستفرغ المادة الفاسدة والأبخرة الرديئة. وعند أئمتنا لا بد أن يكون ما يذبحه مجزئا في الأضحية وبعد الحديبية قبل خيبر، وقيل بعد خيبر نزلت آية الظهار قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: الآية 1] . وسبب ذلك: أن أوس بن الصامت لا عبادة بن الصامت كما قيل أي وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، وفي لفظ: كان به لمم: أي نوع من الجنون. وكان فاقد البصر، قال لزوجته خولة بنت ثعلبة، وفي لفظ: بنت خويلد، وكانت بنت عمه وقد راجعته في شيء فغضب، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، وكان ذلك في زمن الجاهلية طلاقا: أي كالطلاق في تحريم النساء ثم راودها عن نفسها، فقالت كلا لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: أنه لما قال لها أنت عليّ كظهر أمي أسقط في يده، وقال ما أراك إلا قد حرمت عليّ، انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأليه، فدخلت عليه صلى الله عليه وسلم وهو يمشط رأسه الشريف، أي عنده ماشطة، أي وهي عائشة رضي الله عنها تمشط رأسه. وفي لفظ كان الظهار أشد الطلاق وأحرم الحرام إذا ظاهر الرجل من امرأته لم ترجع إليه أبدا، فأخبرته، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ما أمرنا بشيء من أمرك ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت: يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي، وأحب الناس إليّ، فقال: حرمت عليه، فقالت أشكو إلى الله فاقتي وتركي إلى غير أحد وقد كبر سني ودق عظمي. وفي لفظ أنها قالت: اللهم إني أشكو إليك شدّة وحدتي وما شق عليّ من فراقه وما نزل بي وبصبيتي، قالت عائشة رضي الله عنها: فلقد بكيت وبكى من كان في البيت رحمة لها ورقة عليها. وفي لفظ قالت: يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوّجني وأنا ذات مال وأهل، فلما أكل مالي وذهب شبابي ونفضت بطني وتفرق أهلي ظاهر مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا قد حرمت عليه فبكت وصاحت وقالت: أشكو إلى الله فقري ووحدتي وصبية صغارا أن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وصارت ترفع رأسها إلى السماء، فبينما هو صلى الله عليه وسلم قد فرغ من شق رأسه وأخذ في الشق الآخر أنزل الله عليه الآية فسريّ عنه وهو يتبسم، فقال صلى الله عليه وسلم لها مريه فليحرر رقبة، فقالت: والله ما له خادم غيري، قال مريه فليصم شهرين متتابعين، فقالت: والله إنه لشيخ كبير إنه إن لم يأكل في اليوم مرتين يندر بصره: أي لو كان مبصرا، فلا ينافي ما تقدم أنه كان فاقد البصر، قال: فليطعم

ستين مسكينا، فقالت: والله ما لنا اليوم وقية، فقال: مريه فلينطلق إلى فلان يعني شخصا من الأنصار أخبرني أن عنده شطر وسق من تمر يريد أن يتصدق به فليأخذه منه. وفي رواية: مريه فليأت أم المنذر بنت قيس فليأخذ منها شطر وسق من تمر فليتصدق به على ستين مسكينا وليراجعك، ثم أتته فقصت عليه القصة فانطلق ففعل. أي وفي لفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا سأعينه بفرق من تمر فبكت، وقالت: وأنا يا رسول الله سأعينه بفرق آخر، قال: قد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا. وفي رواية: لما قال لها صلى الله عليه وسلم: ما أعلم إلا قد حرمت عليه، قالت لها عائشة رضي الله عنها: وراءك، فتنحت، فلما نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي وسري عنه قال: يا عائشة أين المرأة؟ قالت: ها هي هذه، قال: ادعيها فدعتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبي فجيئي بزوجك، فذهبت فجاءت به، وأدخلته على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ضرير البصر، فقير، سيىء الخلق فقال له صلى الله عليه وسلم أتجد رقبة، قال لا. وفي لفظ قال: ما لي بهذا من قدرة، قال: أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرة والمرتين والثلاث يغشى عليّ. وفي لفظ إني إذا لم آكل في اليوم مرتين كلّ بصري: أي لو كان موجودا، قال: أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال لا، إلا أن تعينني بها، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفر عنه. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه مكتلا يأخذ خمسة عشر صاعا، فقال: أطعمه ستين مسكينا، قال بعضهم: وكانوا يرون أن عند أوس رضي الله عنه مثلها حتى يكون لكل مسكين نصف صاع. وفيه أنه خلاف الروايات من أنه لا يملك شيئا. فقال: على أفقر مني، فو الذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه مني، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اذهب به إلى أهلك، وهذا أوّل ظهار وقع في الإسلام. ومر عمر رضي الله تعالى عنه بخولة هذه أيام خلافته، فقالت له: قف يا عمر، فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها، وأطالت الوقوف، وأغلظت له القول: أي قالت له هيهات يا عمر، عهدتك وأنت تسمي عميرا وأنت في سوق عكاظ ترعى القيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت، فقال لها الجارود: قد أكثرت أيتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه: دعها. وفي رواية فقال له قائل: حبست الناس لأجل هذه العجوز، قال: ويحك، وتدري من هذه؟ قال لا، قال: هذه امرأة قد سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف

عني إلى الليل ما انصرفت حتى تنقضي حاجتها. قيل وفي هذه السنة التي هي سنة ست حرمت الخمر، وبه جزم الحافظ الدمياطي، وقيل حرمت سنة أربع، أي ويدل له ما تقدم من اراقة الخمر وكسر جررها في بني قريظة، وقيل في السنة الثالثة، وقيل إنما حرمت في عام الفتح قبل الفتح. قال بعضهم: حرمت ثلاث مرات: أي نزل تحريمها ثلاث مرات كان المسلمون يشربونها حلالا، أي لغيره صلى الله عليه وسلم، أما هو فحرمت عليه قبل البعثة بعشرين سنة، فلم تبح له قط. وقد جاء «أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأصنام شرب الخمر» وتقدم أن جماعة حرموها على أنفسهم وامتنعوا من شربها، ولا زالت حلالا للناس حتى نزل قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: الآية 219] فعند ذلك اجتنبها قوم لوجود الإثم وتعاطاها آخرون لوجود النفع، أي وكانوا ربما شربوها وصلوا، فلما نزل قوله تعالى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النّساء: الآية 43] امتنع من كان يشربها لأجل النفع من شربها في أوقات الصلاة، ورجع قوم منهم عن شربها حتى في غير أوقات الصلاة، وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة. وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن علي كرم الله وجهه، قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما: أي وشرابا من الخمر، فأكلنا وشربنا، فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة: أي الجهرية، وقدموني فقرأت قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) [الكافرون: الآية 1، 2] ونحن نعبد ما تعبدون، إلى أن قلت: وليس لي دين وليس لكم دين. ثم نزلت الآية الأخرى الدالة على تحريمها مطلقا وهي إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: الآية 90] إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: الآية 91] أي ولعل هذه الآية الأخيرة هي التي عناها أنس رضي الله عنه بقوله كما في البخاري: كنت ساقي القوم الخمر بمنزل أبي طلحة، أي وهو زوج أمه رضي الله عنهم، ونزل تحريم الخمر، فمرّ مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت، فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها، فقال بعض القوم: قتل قوم: أي في أحد وهي في بطونهم. وفي رواية قالوا: يا رسول الله كيف بمن مات من أصحابنا، وكان شربها، فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [المائدة: الآية 93] أي لأن ذلك كان قبل تحريمها مطلقا. وقد جيء لعمر رضي الله عنه بشخص من المهاجرين الأوّلين قد سكر، فأراد عمر جلده فاستدل على عمر بهذه الآية، فقال عمر لمن حضره ألا تردون عليه، فقال

غزوة خيبر

ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية نزلت عذرا للماضين وحجة على الباقين، ثم استشار عمر رضي الله عنه عليا كرّم الله وجهه، فأشار عليه أن يجلده ثمانين جلدة: ولعل هذا الشخص هو قدامة بن مظعون، وتقدمت قصته في بدر وتقدّم في ذلك أن الذي ردّ عليه بذلك عمر لا ابن عباس رضي الله عنهم وكذا وقد لأبي جندل رضي الله عنه مثل ذلك، وأنه أشفق: أي خاف من ذلك، فلما بلغ عمر رضي الله عنه كتب إليه: إن الذي زين إليك الخطيئة هو الذي حظر: أي منع عليك التوبة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ [غافر: الآيات 1- 3] الآية. غزوة خيبر على وزن جعفر، سميت باسم رجل من العماليق نزلها يقال لها خيبر وهو أخو يثرب: أي الذي سميت باسمه المدينة كما تقدم. وفي كلام بعضهم: الخيبر بلسان اليهود الحصن ومن ثم قيل لها خيابر لاشتمالها على الحصون، وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثيرة، بينها وبين المدينة الشريفة ثمانية برد كما في سيرة الحافظ الدمياطي، ومعلوم أن البريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال. ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية أقام شهرا وبعض شهر: أي ذا الحجة ختام سنة ست. وأقام من المحرم افتتاح سنة سبع أياما؛ قيل عشرين يوما أو قريبا من ذلك، ثم خرج إلى خيبر، أي وهذا ما ذهب إليه الجمهور. ونقل عن الإمام مالك رضي الله عنه أن خيبر كانت سنة ست؛ وإليه ذهب الإمام ابن حزم. وفي التعليقة للشيخ أبي حامد أنها كانت سنة خمس. قال الحافظ ابن حجر: وهو وهم، ولعله انتقل من الخندق إلى خيبر. قال: وقد استنفر صلى الله عليه وسلم من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه، وجاءه المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا: أي لا تعطوا منها شيئا، ثم أمر مناديا ينادي بذلك فنادى به. قال أنس رضي الله عنه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة وهو زوج أم أنس كما تقدّم حين أراد الخروج إلى خيبر التمسوا غلاما من غلمانكم يخدمني، فخرج أبو طلحة مردفي وأنا غلام قد راهقت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل خدمته فسمعته كثيرا ما يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال اهـ. أقول: وهذا السياق يدل على أن أوّل خدمة أنس رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم حينئذ،

وهو يخالف ما سبق أن عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت به أمه وقالت: هذا ابني، وهو غلام كيس، وكان عمره عشر سنين، وقيل تسع سنين، وقيل ثمان سنين. ففي مسلم عن أنس قال «جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله هذا أنيس ابني أتيتك به ليخدمك فادع الله له فقال: اللهم أكثر ماله وولده» . وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما قال لأبي طلحة ما ذكر رجاء أن يأتي له بمن هو أقوى من أنس على السفر شفقة على أنس، ومن ثم لم يخرجه صلى الله عليه وسلم معه. وفيه أنه خرج معه في بدر، فقد جاء «أنه قيل لأنس رضي الله عنه: أشهدت بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أم لك، وأين غبت عن بدر؟» . وقد يقال: جاز أن يكون عرض لأنس رضي الله عنه حين خروجه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ما يقتضي الشفقة عليه في عدم إخراجه معه والله أعلم. واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة نميلة، وقيل سباع بن عرفطة، أي وصحح وكان الله وعده وهو بالحديبية: أي عند منصرفه منها في سورة الفتح بمغانم بقوله تعالى وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها [الفتح: الآية 20] أي مغانم خيبر، وخرج معه صلى الله عليه وسلم من نسائه أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وقال صلى الله عليه وسلم في سيرة لعامر بن الأكوع عم سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنهما: انزل فحدثنا من هناتك، وفي رواية: من هنيهاتك، وفي لفظ: من هنياتك بقلب الهاء الثانية ياء، أي من أراجيزك وأشعارك. وفي لفظ: انزل فحرك بنا الركاب، فقال: يا رسول الله قد تولى قولي: أي الشعر، فقال له عمر رضي الله عنه: اسمع وأطع، فنزل يرتجز بقوله رضي الله تعالى عنه: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا الأبيات. وفي مسلم «اللهم لولا أنت ما اهتدينا» قيل وصوابه في الوزن لا هم، أو يا ألله، أو والله لكن في تلك الأبيات فاغفر فداء لك ما اقتفينا: أي فاغفر ما اكتسبنا، وأصل الاقتفاء الاتباع. وفي خطاب الباري عز وجل بفداء لك ما لا ينبغي لأنه لا يقال للباري عز وجل فديتك لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه متوقع حلوله بالمفدي بالفتح، فيجعل المفدي بالكسر نفسه فداء له من ذلك، فيبذل نفسه عن نفسه. وأجيب عن ذلك بأن الشاعر لم يرد ذلك، بل أراد أن يبذل نفسه في رضاه سبحانه وتعالى.

وعند إنشاده الأبيات المذكورة قال له النبي صلى الله عليه وسلم يرحمك ربك، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله وجبت، أي الشهادة يا رسول الله، لولا: أي هلا أمتعتنا به؟ أي أبقيته لنا لنتمتع به، ومنه أمتعني الله ببقائك: أي هلا أخرت الدعاء له بذلك إلى وقت آخر، لأنه صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك لأحد في مثل هذا الموطن إلا واستشهد. وفي لفظ أن القائل له أسمعنا رجل من القوم. قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه صريحا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعه قال: من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال صلى الله عليه وسلم: يرحمه الله، فقتل في هذه الغزاة رجع إليه سيفه فقتله، فإنه أراد أن يضرب به ساق يهودي فجاءت ذبابته في ركبته فمات من ذلك رضي الله عنه فقال الناس: قتله سلاحه، وفي رواية: قتل نفسه أي فليس بشهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لشهيد وصلى عليه صلى الله عليه وسلم والمسلمون. وفي رواية قال سلمة بن الأكوع: يا رسول الله فداك أبي وأمي زعموا أن أخي عامرا حبط عمله. وفي لفظ: يزعم أسيد بن حضير وجماعة من أصحابك أن عامرا حبط عمله إذ قتل بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب من قال: أي أخطأ في قوله، وإن له أجرين وجمع بين أصبعيه، وفي رواية إنه لشهيد. وفي لفظ إنه لجاهد مجاهد. وفي لفظ مات جاهدا مجاهدا والجاهد الجادّ في أمره، فلما قام بوصفين كان له أجران، وقيل هو من باب: جاد مجد، وشعر شاعر، فهو تأكيد، وكون عامر أخا سلمة هو خلاف ما تقدم أنه عمه وهو الصحيح المشهور. قال في النور: ويمكن الجمع بأن يكون عمه من النسب وأخاه من الرضاعة، أي وحينئذ يكون هذا محمل قول ابن الجوزي رحمه الله: من الإخوة الذين حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر وسلمة ابنا الأكوع. وفي فتح الباري عن بعض الصحابة: فلما وصلنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذ الحروب أقبلت تلتهب فبرز له عامر رضي الله عنه يقول: قد علمت خيبر أني عمار ... شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر رضي الله عنه، فذهب عامر يسفل لمرحب، أي يضربه من أسفل فعاد سيفه على نفسه: أي أصاب عين ركبة عامر فمات من ذلك، الحديث. وكون عامر ارتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي حدا به لا ينافي ما جاء أن البراء بن

مالك كان حسن الصوت وكان يرتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره، لأن المراد في غالب أو في بعض أسفاره كما صرح به بعض الروايات. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال له: أي للبراء: إياك والقوارير، وهو يدل على أنه كان يرتجز لنسائه صلى الله عليه وسلم، وهو يخالف أن البراء كان حادي الرجال وأنجشة حادي النساء، إلا أن يقال: جاز أن يكون البراء حدا للنساء في بعض الأسفار أو في بعض الأحيان، وأنجشة كان في الغالب. قال بعضهم: كان أنجشة رضي الله تعالى عنه عبدا أسود، وكان حسن الصوت بالحداء إذا حدا أعنقت الإبل، أي سارت العنق وأسرعت، فلما حدا بأمهات المؤمنين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنجشة رويدك، رفقا بالقوارير. ولما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر وكان وقت الصبح قال لأصحابه رضي الله عنهم قفوا، ثم قال، أي وفي لفظ قال لهم: قولوا «اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين فإنا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، اقدموا بسم الله» أي وفي لفظ «ادخلوا على بركة الله تعالى» وكان صلى الله عليه وسلم يقولها لكل قرية دخلها. أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر، لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اربعوا على أنفسكم» أي ارفقوا بأنفسكم، لا تبالغوا في رفع أصواتكم «فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» قال عبد الله بن قيس رضي الله عنه: «وكنت خلف دابته صلى الله عليه وسلم فسمعني أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقال يا عبد الله بن قيس، قلت لبيك يا رسول الله، قال: ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟ قلت بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي، قال لا حول ولا قوة إلا بالله» . ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين أمره صلى الله عليه وسلم بأن أصحابه يرفعون أصواتهم بالتلبية. وقد يقال: المنهي عنه هنا الرفع الخارج عن العادة الذي ربما آذى بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «اربعوا عن أنفسكم» أي ارفقوا بها كما تقدم، فلا منافاة. ولما أبصر صلى الله عليه وسلم عمالها وقد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم قالوا: محمد والخميس: أي الجيش العظيم معه، قيل له الخميس لأنه خمسة أقسام المقدمة والساقة والميمنة والميسرة وهما الجناحين والقلب، وأدبروا هرابا. قال: وذكر أنه كان بها عشرة آلاف مقاتل، وأنهم كانوا لا يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم حين بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم وهم يخرجون

ويصطفون صفوفا ثم يقولون محمد يغزونا هيهات هيهات. وذكر أن عبد الله بن أبي ابن سلول أرسل إليهم يخبرهم بأن محمدا سائر إليكم، فخذوا حذركم، وأدخلوا أموالكم حصونكم، واخرجوا إلى قتاله ولا تخافوا منه، إن عددكم كثير وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح معهم إلا قليل. فلما كانت الليلة التي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحتها بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، فأصبحوا: أي قاموا من نومهم وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم وغدوا إلى أعمالهم معهم الفؤوس ويقال لها الكرازين والمساحي ومعهم المكاتل، أي وهي القفف الكثيرة، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوا هاربين إلى حصونهم اهـ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، أي وبذلك استدل على جواز الاقتباس من القرآن، وإنما قال صلى الله عليه وسلم خربت خيبر، لأنه لما رأى آلة الهدم التي هي الفؤوس والمساحي تفاءل صلى الله عليه وسلم بأن حصونهم ستخرب، أو أخذ ذلك من اسمها، أو أن ذلك دعاء بلفظ الخبر، قال الإمام النووي رحمه الله: والأصح أنه أعلمه الله بذلك ويوافقه ما في فتح الباري. ويحتمل أن يكون قال ذلك بطريق الوحي ويؤيده قوله «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» أي لأنه نزل بساحتهم، وهي في الأصل الفضاء بين الأبينة. وابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم بحصون النطاة قبل حصون الشق وقيل بحصون الكثيبة، أي لأنهم أدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون الكثيبة، وجمعوا المقاتلة في حصون النطاة، وكان نزل قريبا من حصون النطاة، فجاءه صلى الله عليه وسلم الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمر أمرت به فلا نتكلم، وإن كان الرأي تكلمنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرأي، فقال: يا رسول الله إن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدى سهم منهم ولا أعدل رمية منهم، وهم مرتفعون علينا، وهو أسرع لانحطاط نبلهم، ولا نأمن من بياتهم يدخلون في حمرة النخل. أي النخل المجتمع بعضه على بعض، تحول يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أشرت بالرأي إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه فقال: انظر لنا منزلا بعيدا، فطاف محمد رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله وجدت لك منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله وتحول لما أمسى، وأمر الناس بالتحول. أي وفي لفظ: إن راحلته صلى الله عليه وسلم قامت تجرّ بزمامها فأدركت لتردّ، فقال دعوها فإنها مأمورة، فلما انتهت إلى موضع من الصخرة بركت عندها، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة وتحول الناس إليها واتخذوا ذلك الموضع معسكرا. وفي الأصل أنه نزل

بذلك ليحول بين أهل خيبر وبين غطفان لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يقال: لا مخالفة بين هذه الروايات الثلاث فليتأمل. وابتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك مسجدا صلى به طول مقامه بخيبر، أي وأمر صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل أهل حصون النطاة فوقع المسلمون في قطعها حتى قطعوا أربعمائة نخلة ثم نهاهم عن القطع، فما قطع من نخيل خيبر غيرها. قال: قيل وقاتل صلى الله عليه وسلم يومه ذلك أشد القتال وعليه درعان وبيضة ومغفر وهو على فرس يقال له الظرب، وفي يده قناة وترس. وما قيل إنه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كان على حمار مخطوم برسن من ليف وتحته إكاف من ليف. أي ففي مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار وهو متوجه إلى خيبر، جاز أن يكون ركب ذلك الحمار في الطريق وحال القتال ركب ذلك الفرس انتهى. أقول: يرشد إلى هذا الجمع قوله متوجه إلى خيبر، وظاهر هذا الكلام أنه صلى الله عليه وسلم باشر القتال بنفسه، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يباشر القتال بنفسه إلا في أحد. ويبعد أن يكون باشر القتال بنفسه ولم يقتل أحدا، إذ لو قتل أحدا لذكر لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله. وقد يكون المراد بقولهم وقاتل صلى الله عليه وسلم بنفسه: أي قاتل جيشه، ويدل لذلك ما في الإمتاع: وألح على حصن ناعم، أي وهو من حصون النطاة بالرمي، ويهود تقاتل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس يقال له الظرب وعليه درعان ومغفر وبيضة وفي يده قناة وترس. وقد دفع صلى الله عليه وسلم لواءه لرجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا، فدفعه إلى آخر من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا، وخرجت كتائب اليهود يقدمهم ياسر، فكشف الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه، فاشتد ذلك على رسول الله وأمسى مهموما والله أعلم. وفي ذلك اليوم قتل محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة رضي الله عنهما برحى ألقيت عليه من ذلك الحصن، ألقاها عليه مرحب، وقيل كنانة بن الربيع. وقد يجمع بأنهما اجتمعا على ذلك، وسيأتي ما يدل على أن قاتله غيرهما. وقد يقال: لا مانع من أن يكونوا: أي الثلاثة تجمعوا على قتله، أي فإن محمود بن مسلمة رضي الله عنه كان قد حارب حتى أعياه الحرب وثقل السلاح وكان الحر شديدا، فانحاز إلى ظل ذلك الحصن فألقى عليه حجر الرحى فهشم البيضة على رأسه ونزلت جلدة جبينه على وجهه أي وندرت عينه، فأدركه المسلمون، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فسوى الجلدة إلى مكانها وعصبه بخرقة فمات رضي الله عنه من شدة الجراحة، وجاء أخوه محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن

اليهود قتلوا أخي محمود بن مسلمة فقال صلى الله عليه وسلم «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإنكم لا تدرون ما تبتلون به منهم، فإذا لقيتموه فقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم ونواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تقتلهم أنت، ثم الزموا الأرض جلوسا، فإذا غشوكم فانهضوا وكبروا» . أي وفي سياق بعضهم ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مكث سبعة أيام يقاتل أهل حصون النطاة يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة رضي الله عنه للقتال ويخلف على محل العسكر عثمان بن عفان، فإذا أمسى رجع صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المحل، ومن جرح من المسلمين يحمل إلى ذلك المحل ليداوي جرحه، وكان صلى الله عليه وسلم يناوب بين أصحابه في حراسة الليل، فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه فطاف عمر رضي الله عنه بأصحابه حول العسكر وفرقهم، فأتي برجل من يهود خيبر في جوف الليل، فأمر به عمر رضي الله عنه أن يضرب عنقه فقال: اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي فسمع صلى الله عليه وسلم كلام عمر فسلم وأدخله عليه، فدخل باليهودي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي: ما وراءك؟ فقال: تؤمنني يا أبا القاسم؟ فقال: نعم، قال خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة قال: فأين يذهبون؟ قال: إلى الشق يجعلون فيه ذراريهم ويتهيؤون للقتال، ولعل المراد ما أبقوه من ذراريهم، فلا ينافي ما تقدم من أنهم أدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون الكثيبة، أو أن ذلك المخبر أخبر بحسب ما فهم أنهم يجعلون ذراريهم في الشق والحال أنهم إنما يذهبون ليجعلوا ذراريهم في حصون الكثيبة فليتأمل. وفي هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبابات ودروع وسيوف، فإذا دخلت الحصن غدا وأنت تدخله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله، قال اليهودي إن شاء الله أوقفتك عليه فإنه لا يعرفه غيري. وأخرى، قيل: ما هي؟ قال يستخرج المنجنيق، وينصب على الشق، ويدخل الرجال تحت الدبابات، فيحفروا الحصن، فتفتحه من يومك، وكذلك تفعل بحصون الكثيبة، ثم قال: يا أبا القاسم احقن دمي، قال: أنت آمن، قال: ولي زوجة فهبها لي، قال هي لك، ثم دعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال أنظرني أياما، ثم قال صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة رضي الله عنه «لأعطين الراية» إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبانه» وفي لفظ قال صلى الله عليه وسلم «لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله لا يولي الدبر؛ يفتح الله عز وجل على يده فيمكنه الله من قاتل أخيك» وعند ذلك لم يكن من الصحابة رضي الله عنهم أحد له منزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا يرجو أن يعطاها. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما أحببت الإمارة إلا ذلك

اليوم، ولعل ذلك لا ينافي ما جاء «أن وفد ثقيف لما جاؤوه صلى الله عليه وسلم قال لهم لتسلمن أو لأبعثن إليكم رجلا مني، وفي رواية: مثل نفسي فليضربن أعناقكم وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم، قال عمر رضي الله عنه فو الله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، وجعلت أنصب صدري له صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول هو هذا، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى علي كرم الله وجهه فأخذه بيده وقال: هو هذا، هو هذا» . وقد يقال: لا يلزم من محبة الشي تمنيه بخلاف العكس. ففي هذه الغزاة أحب الإمارة وما تمناها، وفي وفد ثقيف المتأخر عن هذه الغزاة تمناها لأن الوصف في ذلك أبلغ من الوصف هنا فليتأمل. ويروى «أن عليا كرم الله وجهه لما بلغه مقالته صلى الله عليه وسلم: أي في خيبر، قال: اللهم لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، فبعث صلى الله عليه وسلم إلى علي كرم الله وجهه وكان أرمد شديد الرمد» : أي وكان قد تخلف في المدينة ثم لحق بالقوم «أي فقيل له: إنه يشتكي عينيه، فقال صلى الله عليه وسلم من يأتيني به؟ فذهب إليه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأخذ بيده يقوده حتى أتي به النبي صلى الله عليه وسلم قد عصب عينيه فعقد له صلى الله عليه وسلم اللواء: أي لواءه الأبيض. فعن ابن إسحاق وابن سعد: لم تكن الرايات إلا يوم خيبر، أي فإنه صلى الله عليه وسلم فرق الرايات يومئذ بين أبي بكر وعمر والحباب بن المنذر وسعد بن عبادة رضي الله عنهم، وإنما كانت الألوية، وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء من برد لعائشة رضي الله عنها تدعى العقاب. وفي كلام المقريزي: لما ذكر رتب الرياسة في الجاهلية ذكر أن العقاب كان في الجاهلية راية تكون لرئيس الحرب وجاء الإسلام وهي عند أبي سفيان، وجاء الإسلام والسدانة واللواء عند عثمان بن أبي طلحة من بني عبد الدار. وفي سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله: وكانت له صلى الله عليه وسلم راية سوداء مربعة من نمرة مخملة يقال لها العقاب، وكان له راية صفراء، ولواؤه أبيض دفعه إلى علي كرم الله وجهه وفيه أن ذلك اللواء يقال له العقاب. وفي سيرة الدمياطي رحمه الله، وكانت ألويته صلى الله عليه وسلم بيضاء وربما جعل فيها الأسود ولعل السواد كان كتابة في ذلك العلم، ولعل هذا اللواء الذي فيه الأسود هو المعني بما جاء في بعض الروايات «كان له صلى الله عليه وسلم لواء أبيض مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله» أي بالسواد، ولعله محمل قول بعضهم: كان له صلى الله عليه وسلم لواء أغبر، وربما كان من خز بعض نسائه «فقال علي كرم الله وجهه: يا رسول الله إني أرمد كما ترى، لا أبصر موضع قدمي، فتفل صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: بصق في عينيه، أي بعد أن

وضع رأسه في حجره» وفي لفظ «فتفل في كفه وفتح له عينيه فدلكهما فبرأ حتى كأن لم يكن بهما وجع» قال علي رضي الله عنه فما رمدت بعد يومئذ: وفي لفظ فما رمدت ولا صدعت، وفي لفظ: فما اشتكيتهما حتى الساعة. وفي هذا السياق لطيفة وهي: أن من طلب شيئا أو تعرض لطلبه يحرمه غالبا وأن من لم يطلب شيئا لم يتعرض لطلبه ربما وصل إليه، وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله «رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكن لأجل سؤاله إياه ذلك أخر عنه سنة» أي وبعد السنة دعاه الملك وتوجه ورداه وقلده بسيفه وأمر له بسرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت، وضرب له عليه حلة من استبرق وفوض إليه أمر مصر. وقد قيل: لو وقعت قلنسوة من السماء لا تقع إلا على رأس من لا يريدها: زاد في رواية عن علي كرم الله وجهه «أنه صلى الله عليه وسلم دعا له بقوله: اللهم اكفه الحر والبرد قال علي كرم الله وجهه: فما وجدت بعد ذلك اليوم لا حرا ولا بردا» ، أي فكان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين، ويلبس في البرد الشديد الثوبين الخفيفين. وفي لفظ: الثوب الخفيف فلا يبالي بالبرد. وقد يخالف ذلك ما حكاه بعضهم، قال: دخل رجل على عليّ كرم الله وجهه وهو يرعد تحت سمل قطيفة: أي قطيفة خلقة، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله جعل لك في هذا المال نصيبا وأنت تصنع بنفسك هكذا؟ فقال: والله لا أرزؤكم من مالكم، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة. وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون رعدته رضي الله عنه ليست من البرد خلاف ما ظنه السائل لجواز أن تكون لحمّى أصابته في ذلك الوقت، وقد أشار إلى التفل صاحب الهمزية رضي الله تعالى عنه بقوله: وعليّ لما تفلت بعيني ... هـ وكلتاهما معا رمداء فغدا ناظرا بعيني عقاب ... في غزاة لها العقاب لواء وفي قوله صلى الله عليه وسلم: لأدفعن الراية، إطلاق الراية على اللواء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ كرّم الله وجهه: خذ هذه الراية، وتقدم أن الراية قد يطلق عليها لواء. هذا، وفي كلام بعضهم أن أبا سفيان رضي الله عنه كانت إليه الراية المعروفة بالعقاب التي كانت لا يحبسها إلا رئيس إذا حميت الحرب، هذا كلامه، فلعل تسمية رايته صلى الله عليه وسلم بالعقاب لكونها كذلك «فقال عليّ كرم الله وجهه: علام أقاتلهم يا رسول الله؟ قال: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد حقنوا دماءهم وأموالهم» .

وفي رواية «لما أعطاه صلى الله عليه وسلم الراية قال له: امش ولا تلتفت، فسار شيئا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله علام أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى» أي حساب بواطنهم وسرائرهم على الله، لأنه المطلع وحده على ما فيها من إيمان خالص أو نفاق وكفر. زاد في رواية «وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» أي تتصدق بها في سبيل الله، فقد جعل صلى الله عليه وسلم عصمة الدم بالنطق بالشهادتين، لكنه لا يقرّ من نطق بهما على ترك الصلاة ولا على ترك الزكاة، ومن ثم قال له صلى الله عليه وسلم «وأخبرهم بما يجب عليهم» وفي لفظ «قال له: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك» . أي وعن حذيفة رضي الله عنه «لما تهيأ عليّ كرم الله وجهة يوم خيبر للحملة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي والذي نفسي بيده إنّ معك من لا يخذلك، هذا جبريل عليه السلام عن يمينك بيده سيف لو ضرب به الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة، يا عليّ إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم» . وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي الراية كل يوم واحدا من أصحابه ويبعثه، فبعث أبا بكر رضي الله عنه، فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الغد: أي برايته، فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم بعث رجلا من الأنصار فقاتل ورجع ولم يكن فتح، فقال عليه الصلاة والسلام: لأعطين الراية أي اللواء غدا رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، وليس بفارّ. وفي لفظ: كرار غير فرار، فدعا عليا كرم الله وجهه وهو أرمد فتفل في عينيه، ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك، أي ودعا له ولمن معه بالنصر. وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم ألبسه درعه الحديد، وشدّ ذا الفقار، أي الذي هو سيفه في وسطه وأعطاه الراية ووجهه إلى الحصن، فخرج عليّ كرم الله وجهه بها يهرول حتى ركزها تحت الحصن فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وحق ما أنزل على موسى، ثم خرج إليه أهل الحصن، وكان أول من خرج منهم إليه الحارث أخو مرحب وكان معروفا بالشجاعة، فانكشف المسلمون وثبت علي كرم الله وجهه فتضاربا، فقتله علي وانهزم اليهود إلى الحصن، ثم خرج إليه مرحب، فحمل مرحب عليه وضربه فطرح ترسه من يده، فتناول علي كرم الله وجهه بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه الحصن، ثم ألقاه من يده: أي وراء ظهره ثمانين شبرا» .

قال الراوي: فجهدت أنا وسبعة نفر على أن نقلب ذلك الباب فلم نقدر. قال بعضهم: في هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر، قال: وقيل ولم يقدر على حمله أربعون رجلا، وقيل سبعون. وفي رواية أن عليا كرم الله وجهه لما انتهى إلى باب الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده سبعون رجلا فكان جهدا أن أعادوه مكانه، وقيل حمل الباب على ظهره حتى صعد المسلمون عليه ودخلوا الحصن. قال بعضهم: وطرق حديث الباب كلها واهية، وفي بعضها قال الذهبي: إنه منكر، وفي الإمتاع: وزعم بعضهم أن حمل عليّ كرم الله وجهه الباب لا أصل له، وإنما يروى عن رعاع الناس. وليس كذلك، ثم ذكر جملة ممن خرّجه من الحفاظ. وجاء أن مرحبا لما رأى أن أخاه قد قتل خرج سريعا من الحصن في سلاحه، أي وقد كان لبس درعين وتقلد بسيفين واعتم بعمامتين ولبس فوقهما مغفرا وحجرا قد ثقبه قدر البيضة ومعه رمح لسانه ثلاثة أسنان وهو يرتجز ويقول من أبيات: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب ومعنى شاكي السلاح: تام السلاح، ومعنى مجرب: أي معروف بالشجاعة وقهر الفرسان، ثم صار يقول: هل من مبارز؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذا؟ قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: أنا له يا رسول الله، أنا الموتور: أي الذي قتل له قتيل فلم يؤخذ بثأره الثائر، قتل أخي بالأمس، قال صلى الله عليه وسلم: فقم إليه، اللهم أعنه عليه، فقتله محمد بن مسلمة رضي الله عنه، أي: فإن مرحبا حمل على محمد بن مسلمة فاتقاه بدرقته فوقع سيف مرحب فيها فغضت به وأمسكته، فضربه محمد رضي الله عنه فقتله. ويدل لذلك قول الإمام المزني رحمه الله في المختصر: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نفل محمد بن مسلمة سلب مرحب: سيفه ورمحه ومغفره وبيضته، ووجد على سيفه مكتوب: هذا سيف مرحب، من يصبه يعطب. وقيل القاتل له عليّ كرم الله وجهه، وبه جزم مسلم رحمه الله في صحيحه. قال بعضهم: والأخبار متواترة به. وقال ابن الأثير: الصحيح الذي عليه أهل السير والحديث أن عليا كرم الله وجهه قاتله. وفي الاستيعاب: والصحيح الذي عليه أكثر أهل السير والحديث أن عليا قاتله. ويروى أن عليا كرم الله وجهه ورضي الله عنه لما خرج إليه ارتجز بقوله: أنا الذي سمتني أمي حيدرة ... ضرغام آجام وليث قسوره وقيل بدله: كليث غابات كريه المنظره

أي فإن أم علي كرم الله وجهه سمته أسدا باسم أبيها وكان أبوه أبو طالب غائبا، فلما قدم كره ذلك وسماه عليا، أي ومن أسماء الأسد حيدرة، والحيدرة: الغليظ القوي. وقيل لقب بذلك في صغره لأنه كان عظيم البطن ممتلئا لحما، ومن كان كذلك يقال له حيدرة. ويقال إن ذلك كان كشفا من علي كرم الله وجهه، فإن مرحبا كان رأى في تلك الليلة في المنام أن أسدا افترسه فذكره عليّ كرم الله وجهه بذلك ليخيفه ويضعف نفسه. ويروى أن عليا كرم الله وجهه ضرب مرحبا فتترس فوقع السيف على الترس فقدّه وشق المغفر والحجر الذي تحته والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف في الأضراس، وإلى ذلك يشير بعضهم، وقد أجاد بقوله: وشادن أبصرته مقبلا ... فقلت من وجدي به مرحبا قدّ فؤادي في الهوى قدة ... قدّ عليّ في الوغى مرحبا أي وقد يجمع بين كون القاتل لمرحب عليا كرم الله وجهه، وكون القاتل له محمد بن مسلمة بأن محمد بن مسلمة أثبته، أي بعد أن شق علي كرم الله وجهه هامته، لجواز أن يكون شق هامته ولم يثبته فأثبته محمد بن مسلمة، ثم إن عليا كرم الله وجهه وقف عليه. أي ويدل لذلك ما في بعض السير عن الواقدي رحمه الله لما قطع محمد بن مسلمة ساقي مرحب قال له مرحب: أجهز عليّ، فقال: لا، ذق الموت كما ذاقه أخي. ومرّ به علي كرم الله وجهه فضرب عنقه وأخذ سلبه، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه، فقال محمد: يا رسول الله ما قطعت رجليه وتركته إلا ليذوق الموت، وكنت قادرا أن أجهز عليه، فقال علي كرم الله وجهه صدق، فأعطى سلبه لمحمد بن مسلمة رضي الله عنه، ولعل هذا كان بعد مبارزة عامر بن الأكوع لمرحب فلا ينافي ما مر عن فتح الباري، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر أي وهو يرتجز بقوله: قد علمت خيبر أني ياسر ... شاكي السلاح بطل مغادر وكان أيضا من مشاهير فرسان يهود وشجعانهم، وهو يقول: من يبارز؟ فخرج له الزبير رضي الله عنه، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إنه يقتل ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل ابنك يقتله إن شاء الله، فقتله الزبير رضي الله عنه، أي وعند ذلك قال له صلى الله عليه وسلم «فداك عمّ وخال لكل نبي حواريّ، وحواري الزبير» .

وذكر الزمخشري أن هذه الواقعة للزبير كانت في بني قريظة، حيث قال: إنه يعني الزبير رضي الله عنه أوّل من استحق السلب، وكان ذلك في بني قريظة برز رجل من العدو، فقال رجل ورجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا زبير، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: واحدي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهما علا صاحبه فقتله، فعلاه الزبير رضي الله عنه فقتله، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «السلب للقاتل» هذا كلامه فليتأمل، فإني لم أقف في كلام أحد على أن بني قريظة وقعت منهم مقاتلة بالمبارزة. وفي رواية أن القاتل لياسر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. أي ويمكن الجمع بمثل ما تقدم، وكان شعار المسلمين «أمت أمت» وفي رواية «يا منصور أمت أمت» . ومن جملة من قتل من المسلمين الأسود الراعي، كان أجيرا لرجل من اليهود يرعى غنمه، وكان عبدا حبشيا يسمى أسلم، أي وفي الإمتاع اسمه يسار، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وهو محاصر خيبر، وقال: يا رسول الله اعرض عليّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. وفي رواية أنه قال: إن أسلمت فماذا لي؟ قال: الجنة، فأسلم، فلما أسلم قال: يا رسول الله إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم فكيف أصنع بها؟ وفي لفظ إنها أمانة وهي للناس الشاة والشاتان وأكثر من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم له: اضرب في وجهها فإنها سترجع إلى ربها، فقام الأسود فأخذ حفنة من حصباء فرمى بها في وجهها وقال ارجعي إلى صاحبك فو الله لا أصحبك، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم رضي الله عنه إلى ذلك الحصن فقاتل مع المسلمين فأصابه حجر. وفي رواية: سهم غرب بفتح الراء والإضافة، وبتسكين الراء بلا إضافة وهو ما لا يعرف راميه فقتله، ولم يسجد لله سجدة، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، ثم أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله لم أعرضت عنه؟ فقال: إن معه الآن زوجتيه من الحور العين تنفضان التراب عن وجهه وتقولان له: ترب الله وجه من ترب وجهك وقتل من قتلك، زاد في لفظ: لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، قد كان الإسلام من نفسه حقا. وفتح الله ذلك الحصن الذي هو حصن ناعم، وهو أوّل حصن فتح من حصون النطاة على يد علي كرم الله وجهه. أي وعن عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير والتمر حتى فتحت دار بني قمة، أي وهي أوّل دار فتحت بخيبر وهي بالنطاة، وهي منزل ياسر أخي مرحب، وظاهر السياق أنها حصن ناعم.

ويروى أن عليا كرّم الله وجهه لما فتح الحصن أخذ الرجل الذي قتل أخا محمد بن مسلمة وسلمة إليه فقتله، وتقدّم أن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قتل مرحبا لكونه قاتل أخيه على ما تقدم، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم دفع كنانة لمحمد بن مسلمة ليقتله بأخيه، وهذا يؤيد ما تقدّم من أن الثلاثة: أي مرحب وكنانة وذلك الرجل الذي سلمه عليّ له اشتركوا في قتل أخي محمد بن مسلمة. قال: وأصاب المسلمين رضي الله عنهم مجاعة وأرسلت أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بن حارثة، وأمرته أن يقول له صلى الله عليه وسلم: إن أسلم يقرئونك السلام ويقولون أجهدنا الجوع، فلامهم رجل وقال: من بين العرب تصنعون هذا؟ فقال زيد بن حارثة أخو أسماء: والله إني لأرجو أن يكون البعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الخير، فجاءه صلى الله عليه وسلم أسماء وبلغه ما قالت أسلم، فدعا لهم فقال: اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليس بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، وقال: اللهم افتح أكثر الحصون طعاما وودكا، ودفع اللواء للحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه وندب الناس، وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة، ففتح الله حصن الصعب قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم بعد أن أقاموا على محاصرته يومين، وما بخيبر حصن أكثر طعاما منه: أي من شعير وتمر وودك، أي من سمن وزيت وشحم وماشية، ومتاعا منه، ولا يخالف هذا ما تقدم عائشة في وصف حصن ناعم من قولها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره ولا ما تقدّم من أنهم أدخلوا أموالهم حصون الكتيبة، لأنه يجوز أن يكون المراد بأموالهم النقود ونحوها دون ما ذكر هنا، وكان في هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب خمسمائة مقاتل، وقبل فتحه خرج منه رجل يقال له يوشع مبارزا، فخرج له الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه فقتله، وخرج آخر مبارزا يقال له الديال فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري رضي الله تعالى عنه فضربه على هامته فقتله، وقال له: خذها وأنا الغلام الغفاري، فقال الناس حبط جهاده، فقال صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: يؤجر ويحمد، أي وحملت يهود حملة منكرة. فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف قد نزل عن فرسه، فثبت الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه، فحرض صلى الله عليه وسلم المسلمين على الجهاد، فأقبلوا وزحف بهم الحباب رضي الله تعالى عنه فانهزمت يهود وأغلقت الحصون عليهم. ثم إن المسلمين اقتحموا الحصن يقتلون ويأسرون، فوجدوا في ذلك الحصن من الشعير والتمر والسمن والعسل والسكر والزيت والودك شيئا كثيرا، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا واعلفوا ولا تحملوا: أي لا تخرجوا به إلى بلادكم.. وهذا دليل لما ذهب إليه إمامنا رضي الله تعالى عنه من أن للغانمين أخذ ما تعمّ الحاجة إليه من الطعام وما يؤكل غالبا من الفواكه وعلف الدواب من الغنيمة بدار

الحرب إذا كان الجهاد بدار الحرب إلى أن يصلوا إلى غير دار الحرب مما يباع ذلك فيه، وليس لهم أخذ ما تندر الحاجة إليه كالفانيد والسكر، ولا ينافي ذلك ما ذكر هنا، لأنه يجوز أن يكون الاذن في أكل مجموع ما ذكر. وفي السيرة الهشامية عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه، قال: أصبت من فيء خيبر، أي من غنيمتها جراب شحم فاحتملته على عنقي أريد رحلي فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها، أي وهو أبو اليسر كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري رضي الله تعالى عنه فأخذ بناصيته، وقال: هلمّ بهذا حتى نقسمه بين المسلمين، فقلت: والله لا أعطيكه، فجعل يجاذبني الجراب فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك، فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم: لا أبا لك خلّ بينه وبينه، فأرسله، فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه. وفي الإمتاع أنهم وجدوا في هذا الحصن الذي هو حصن الصعب آلة حرب: دبابات ومنجنيقا، أي وذلك موافق لما تقدم عن ذلك المخبر له صلى الله عليه وسلم بأن في حصن في بيت منه تحت الأرض منجنيق ودبابات ودروع وسيوف، ولعلّ وجود ذلك كان بدلالة ذلك الرجل عليه. ولما فتح ذلك الحصن تحوّل من سلم من أهله إلى حصن قلة وهو حصن بقلة جبل، أي ويعبر عن هذا بقلة الزبير رضي الله تعالى عنه، أي الذي صار في سهم الزبير بعد ذلك وهو آخر حصون النطاة، أي فحصون النطاة ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن قلة. فأقام المسلمون على حصار هذا الحصن الذي هو حصن قلة ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود وقال له صلى الله عليه وسلم: يا أبا القاسم تؤّمني على أن أدلك على ما تستريح به، فإنك لو مكثت شهرا لا تقدر على فتح هذا الحصن، فإن به دبولا وهي الأنهار الصغيرة تحت الأرض يخرجون ليلا فيشربون منها، فإن قطعت عنهم شربهم أهلكتهم، فأمنه صلى الله عليه وسلم وسار إلى دبولهم فقطعها، فعند ذلك خرجوا وقاتلوا أشدّ القتال وفتح ذلك الحصن، ثم سار المسلمون إلى حصار حصون الشق بفتح الشين المعجمة وكسرها، والفتح أعرف عند أهل اللغة، فكان أوّل حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبي فقاتل أهله قتالا شديدا، خرج رجل منهم يقال له غزوال يدعو إلى البراز، فبرز له الحباب رضي الله تعالى عنه، وحمل عليه فقطع يده اليمنى ونصف الذراع، فبادر راجعا منهزما إلى الحصن فتبعه الحباب فقطع عرقوبه فوقع فذفف عليه، فخرج آخر مبارزا فخرج له رجل من المسلمين فقتل ذلك الرجل وقام مكانه يدعو للبراز، فخرج له أبو دجانة رضي الله تعالى عنه، فضربه أبو دجانة رضي الله تعالى عنه فقطع رجله، ثم ذفف عليه.

وعند ذلك أحجمت يهود عن البراز، فكبر المسلمون وتحاملوا على الحصن، ودخلوه يقدمهم أبو دجانة رضي الله تعالى عنه، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه ولحق بحصن يقال له حصن البريء، وهو الحصن الثاني من حصني الشق فتمنعوا به أشدّ التمنع، وكان أهله أشد رميا للمسلمين بالنبل والحجارة حتى أصاب النبل ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقت به، فأخذ لهم صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فحصب به ذلك الحصن، فرجع بهم ثم ساخ في الأرض، وأخذ المسلمون من فيه أخذا ذريعا، أي فحصون الشق اثنان: حصن أبيّ، وحصن البريء. وحينئذ يتأمل في قول الحافظ الدمياطي في سيرته: والشق وبه حصون منها حصن أبيّ، وحصن البريء. أقول: وفي الإمتاع أنهم وجدوا في حصن الصعب الذي هو أحد حصون النطاة منجنيقا: أي كما أخبر بذلك اليهودي الذي جاء به عمر رضي الله تعالى عنه وأدخله عليه صلى الله عليه وسلم وأمنه كما تقدم، وأنهم نصبوا المنجنيق الذي وجدوه في حصن الصعب على هذا الحصن الذي هو حصن البريء من حصون الشق، أي وهو يخالف قول بعضهم لم ينصب المنجنيق إلا في غزوة الطائف، إلا أن يقال. يجوز أن يكون المراد بعدم نصبه أنه لم يرم به إلا في غزوة الطائف. وأما هنا فنصب ولم يرم به فلا مخالفة. ووجدوا في هذا الحصن آنية من نحاس وفخار كانت اليهود تأكل فيها وتشرب، فقال صلى الله عليه وسلم: اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا. وفي رواية: سخنوا فيها الماء، ثم اطبخوا بعد وكلوا واشربوا. وحكمة تسخين الماء فيها لا تخفى، وهي أن الماء الحار أقوى في النظافة وإخراج الدسومة والله أعلم. ثم إن المسلمين لما أخذوا حصون النطاة وحصون الشق، انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكثيبة، وهي ثلاثة حصون، القموص كصبور، والوطيح، وسلالم بضم السين المهملة، وكان أعظم حصون خيبر القموص، وكان منيعا حاصره المسلمون عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد عليّ كرم الله وجهه، ومنه سبيت صفية رضي الله تعالى عنها كما قاله الحافظ ابن حجر. قال: وقيل كان اسمها قبل أن تسبى زينب، فلما صارت من الصفيّ سميت صفية. والصفي: ما كان يصطفيه صلى الله عليه وسلم لنفسه من الغنيمة قبل أن تقسم على ما تقدم، وكان في الجاهلية لأمير الجيش ربع الغنيمة. ومن ثم قيل له المرباع. قال السهيلي رحمه الله: كانت أموال النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه: من الصفي، والهدية، وخمس الخمس هذا كلامه، ولا يخفى أنه يزاد على ذلك الفيء.

وانتهى المسلمون إلى حصار الوطيح بالحاء المهملة، مأخوذ من الوطح: وهو في الأصل ما تعلق بمخالب الطير من الطين؛ سمي الوطيح باسم الوطيح بن مازن؛ رجل من ثمود. وحصن سلالم ويقال له السلاليم: وهو حصن بني الحقيق، آخر حصون خيبر. ومكثوا على حصارهما أربعة عشر يوما فلم يخرج أحد منهما، فهمّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل عليهم: أي على من فيهما المنجنيق: أي ينصبه عليهم ولم يرم به، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، وأن لا يصحب واحدا منهم إلا ثوب واحد على ظهره. وفي لفظ: تركوا ما لهم من مال وأرض من الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة والبز إلا ثوبا واحدا، فصالحهم على ذلك، وعلى أن ذمة الله ورسوله بريئة منهم أن يكتموه شيئا من متاعهم يسألهم عنه. فعلم أن حصون خيبر فتحت عنوة إلا الحصنين المذكورين: وهما الوطيح وسلالم، فإنهما لم يفتحا عنوة بل صالحا، فكانا فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أنهم لم يقاتلوا في حال حصارهم، لأن الفيء ما جلوا عنه من غير مقاتلة، كذا قيل. وظاهر إطلاق قول الروضة من الفيء ما صولح عليه أهل بلد من الكفار أنه وإن كان بعد محاصرتهم ومقاتلتهم للمسلمين في حال حصارهم برمي الحجارة أو النبل. وفي فتح الباري نقلا عن ابن عبد البرّ أنه جزم بأن حصون خيبر فتحت عنوة، وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صالحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم، وهو ضرب من الصلح؛ لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال هذا كلامه فليتأمل، فإن بالقتال يخرج عن كونه فيئا، ولعل المراد قتال بالنبل ورمي بالحجارة وإلا فقد تقدم أنه لم يخرج منهما أحد للمقاتلة فليتأمل، فإن كلامه يقتضي أن بالحصار وبالقتال بنحو النبل يخرج ذلك عن كونه فيئا له صلى الله عليه وسلم ويكون غنيمة، ولعله مذهب المالكية الذي هو مذهب ابن عبد البر رحمه الله تعالى. وفي الأصل عن ابن شهاب رحمه الله أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال هذا كلامه. فظاهره أن القتال وقع من الذين جلوا في حال حصارهم، وإلا فقد علمت أن الذين جلوا لم يخرج أحد منهم للقتال في حال حصارهم، وسيأتي ما يصرح بأن ما جلوا عنه فيء لا غنيمة. ووجدوا في الحصنين المذكورين: مائة درع، وأربعمائة سيف، وألف رمح،

وخمسمائة قوس عربية بجعابها، أي ووجدوا في أثناء الغنيمة صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها، فأمر صلى الله عليه وسلم بدفعها إليهم. وهو يخالف ما قاله أئمتنا أن كتبهم التي يحرم الانتفاع بها لكونها مبدلة تمحى إن أمكن أو تمزق، وتجعل في الغنيمة فتباع، إلا أن يدعى أن تلك الصحف لم تكن مبدلة، وغيبوا الجلد الذي كان فيه حليّ بني النضير، أي وعقود الدر والجوهر الذي جلوا به، لأنهم لما جلوا كان سلام بن أبي الحقيق رافعا له ليراه الناس وهو يقول بأعلى صوته: هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها كما تقدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعية بن عمرو: أي وهو عمّ حيي بن أخطب. وفي لفظ: سعية بن سلام بن أبي الحقيق. وفي الإمتاع: وسأل صلى الله عليه وسلم كنانة بن أبي الحقيق: أين مسك: أي جلد حيي بن أخطب، أي وإنما نسب إليه الجلد المذكور، فقيل كنز حيي، لأن حييا كان عظيم بني النضير، وإلا فهو لا يكون إلا عند بني الحقيق، فقال: أذهبته الحروب والنفقات، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سعية بن عمرو للزبير رضي الله تعالى عنه فمسه بعذاب، فقال: رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا فذهبوا إلى الخربة، ففتشوها فوجدوا ذلك الجلد. قال: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتي بكنانة، وهو زوج صفية تزوجها بعد أن طلقها سلام بن مشكم، وبالربيع أخوه، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين آنيتكما التي كنتم تعيرونها أهل مكة، أي لأن أعيان مكة إذا كان لأحدهم عرس ويرسلون فيستعيرون من ذلك الحلي انتهى، أي والآنية والكنز عبارة عن حلي كان أولا في جلد شاة، ثم كان لكثرته في جلد ثور، ثم كان لكثرته في جلد بعير كما تقدم فقالا: أذهبته النفقات والحروب، فقال صلى الله عليه وسلم: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك، إنكما إن كتمتماني شيئا فاطلعت عليه استحللت دماءكما وذراريكما، فقالا: نعم، فأخبره الله بموضع ذلك الحلي، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: اذهب إلى محل كذا وكذا، ثم ائت النخل، فانظر نخلة عن يمينك أو قال عن يسارك مرفوعة فائتني بما فيها فانطلق فجاءه بالآنية. ويمكن الجمع بين هذا وما تقدم وما يأتي أنهم فتشوا عليه في خربة حتى وجدوه، بأن التفتيش كان في أول الأمر، وإعلام الله تعالى له بذلك كان بعد، فجيء به فقوم بعشرة آلاف دينار؛ أي لأنه وجد فيه أساور ودمالج وخلاخيل وأقرطة وخواتيم الذهب، وعقود الجوهر والزمرد، وعقود أظفار مجزع بالذهب، فضرب أعناقهما وسبى أهلهما. أي وفي لفظ آخر: لما فتحت خيبر أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع وفي لفظ: ابن ربيعة بن أبي الحقيق، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله صلى الله عليه وسلم عنه، فجحد

أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، أي فإن كنانة حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم فتح حصن النطاة وتيقن ظهوره عليهم دفنه في خربة. أي وفيه أن هذا لا يناسب ما سبق من أن حييا كان يطيف بتلك الخربة، إلا أن يقال جاز أن يكون دفنه في تلك الخربة في محل آخر غير الذي دفنه فيه حيي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدته عندك أقتلك؟ قال نعم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي فأبى أن يؤديه، فأمر به الزبير رضي الله تعالى عنه فقال: عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير رضي الله تعالى عنه يقدح بزند، أي بالزناد الذي يستخرج به النار على صدره حتى أشرف على نفسه. وأخذ منه جواز العقوبة لمن يتهم ليقر بالحق، فهو من السياسة الشرعية، ثم دفعه صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه فضرب عنقه بأخيه محمود. أي ولا مانع أن يكون السؤال وتعذيب الزبير وقع لسعية وكنانة أيضا. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم: أي التي غنمت قبل الصلح فجمعت، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا منها صفية رضي الله تعالى عنها بنت حيي بن أخطب، من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، وجعلها عند أم سليم التي هي أم أنس خادمه صلى الله عليه وسلم حتى اهتدت وأسلمت، ثم أعتقها صلى الله عليه وسلم وتزوجها وجعل عتقها صداقها: أي أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر لا في الحال ولا في المآل: أي لم يجعل لها شيئا غير العتق. وقد سئل أنس رضي الله تعالى عنه صفية، فقيل له: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها، وهذا يردّ ما استدلّ به بعض فقهائنا: على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز نكاح الأمة الكتابية، وجواز وطئها بملك اليمين من أنه صلى الله عليه وسلم كان يطأ صفية قبل إسلامها بملك اليمين. ويرد أيضا على من استدل من فقهائنا على استحباب الوليمة للسرية، بأنه صلى الله عليه وسلم أو لم على صفية كما علمت أنها زوجة لا سرية. أي لكن ذكر بعض فقهائنا أنه صلى الله عليه وسلم لما أو لم على صفية رضي الله تعالى عنها، قالوا: إن لم يحجبها فهي أم ولد، وإن حجبها فهي امرأته، وذلك دليل على استحباب الوليمة للسرية، إذ لو اختصت بالزوجة لم يترددوا في كونها زوجة أو سرية، وذلك بعد أن خيرها صلى الله عليه وسلم بين أن يعتقها فترجع إلى من بقي من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختار الله ورسوله.

وذكر في الأصل أن جعل عتق الأمة صداقها من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى. وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى عدم الخصوصية. وقال ابن حبان: لم ينقل دليل على أنه خاص به صلى الله عليه وسلم دون أمته. وقيل إن دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية فوهبها له، وقيل وقعت في سهمه رضي الله تعالى عنه، ثم ابتاعها صلى الله عليه وسلم منه بتسعة أرؤس، أي وإطلاق الشراء في ذلك على سبيل المجاز، على أنه يخالف ما تقدّم أنها من صفية صلى الله عليه وسلم قبل القسمة. وفي البخاري «فجمع السبي فجاء دحية رضي الله تعالى عنه فقال: يا نبي الله أعطني جارية من السبي، فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، فقال: ادعوه بها، فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذ جارية من السبي غيرها» أي فأخذ غيرها. أي والتي أخذها غيرها هي أخت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق زوج صفية كما في الأم لإمامنا الشافعي رضي الله عنه عن سيرة الواقدي، وقول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله أعطيت دحية صفية يدل على أنه اسمها، وحينئذ يخالف ما قيل إن اسمها زينب فسماها صلى الله عليه وسلم صفية كما تقدم. وفي رواية أن صفية سبيت هي وبنت عمّ لها، وأن بلالا جاء بهما فمرّ على قتلى يهود، فلما رأتهم بنت عم صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها صلى الله عليه وسلم قال: اعزبوا عني هذه الشيطانة، وقال صلى الله عليه وسلم لبلال: أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟ ثم دفع صلى الله عليه وسلم بنت عمها لدحية الكلبي رضي الله تعالى عنه، وفي رواية: وأعطى دحية بنت عمها عوضا عنها. أي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل بصفية رأى بأعلى عينها خضرة فقال: ما هذه الخضرة؟ قالت: كان رأسي في حجر بن أبي الحقيق- تعني زوجها، أي وهي عروس- وأنا نائمة، فرأيت كأن القمر وقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني وقال: تتمني ملك العرب، وفي لفظ: حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكنت عروسا رأت كأن الشمس نزلت حتى وقعت على صدرها فقصت ذلك على زوجها قال: والله ما تتمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها. ولا مانع من تعدد الرؤية أو أنها رأت الشمس والقمر في وقت واحد، وسيأتي في الكلام على زوجاته صلى الله عليه وسلم أنها قصت ذلك على أبيها ففعل بها ذلك، وسيأتي أنه لا مانع من تعدد الواقعة وأنهما فعلا بها ذلك.

وتقدم أن جويرية رضي الله تعالى عنها رأت القمر أيضا وقع في حجرها، وكون صفية رضي الله تعالى عنها كانت عروسا عند مجيئه صلى الله عليه وسلم خيبر ربما يدل على أن سلام بن مشكم طلقها قبل الدخول بها، فقد تقدّم أن كنانة تزوّج بها بعد أن طلقها سلام بن مشكم فليتأمل. وعن صفية رضي الله عنها أنها قالت «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من الناس أحد أكره إليّ منه قتل أبي وزوجي وقومي، فقال صلى الله عليه وسلم: يا صفية أما إني أعتذر إليك مما صنعت بقومك، إنهم قالوا لي كذا وكذا، وقالوا فيّ كذا وكذا، وفي رواية: إن قومك صنعوا كذا وكذا، وما زال صلى الله عليه وسلم يعتذر إليّ حتى ذهب ذلك من نفسي، فما قمت من مقعدي ومن الناس أحد أحب إليّ منه صلى الله عليه وسلم» وأعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن طهرت من الحيض في قبة بعد أن دفعها صلى الله عليه وسلم لأم سليم لتصلح من شأنها، وبات تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى متوشحا سيفه يحرسه ويطوف بتلك القبة حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى مكان أبي أيوب، فقال: ما لك يا أبا أيوب؟ قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، قتلت أباها وزوجها وقومها وهي حديثة عهد بكفر، فبت أحفظك، فقال: اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني. قال السهيلي رحمه الله: فحرس الله أبا أيوب بهذه الدعوة، حتى إن الروم لتحرس قبره ويستشفون به فيستصحون، أي ويستسقون به فيسقون. فإن غزا مع يزيد بن معاوية سنة خمسين، فلما بلغوا القسطنطينية مات أبو أيوب رضي الله عنه هنالك، فأوصى يزيد أن يدفنه في أقرب موضع من مدينة الروم، فركب المسلمون ومشوا به حتى إذا لم يجدوا مكانا مساغا دفنوه، فسألتهم الروم عن شأنهم، فأخبروهم أنه كبير من أكابر الصحابة، فقالت الروم ليزيد: ما أحمقك وأحمق من أرسلك أأمنت أن ننبشه بعدك، فنحرق عظامه، فحلف لهم يزيد لئن فعلتم ذلك ليهدمن كل كنيسة بأرض العرب، وينبش قبورهم، فحينئذ حلفوا بدينهم ليكرمن قبره وليحرسنه ما استطاعوا. أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما قطع ستة أميال من خيبر وأراد أن يعرس بها فأبت، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، فلما سار ووصل الصهباء مال إلى دومة هناك فطاوعته، فقال لها: ما حملك على إبائك حين أردت المنزل الأول؟ قالت: يا رسول الله خشيت عليك قرب يهود، وهذا المحل الذي هو الصهباء هو الذي ردت فيه الشمس لعليّ بعد ما غربت كما تقدم. وأقام صلى الله عليه وسلم بذلك المحل ثلاثة أيام، وجعل وليمتها حيسا في نطع صغير، والحيس: تمر وأقط وسمن. أي ففي البخاري «فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروسا، فقال: من كان عنده شيء فليجيء به وبسط نطعا، فجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل

يجيء بالسمن، أي وجعل الرجل يجيء بالأقط، وذكر أيضا السويق» . ولا يخفى أن الحيس خلط السمن والتمر والأقط إلا أنه قد يخلط مع هذه الثلاثة السويق، وهذا يدل على أن الوليمة على صفية رضي الله تعالى عنها كانت نهارا. وذهب ابن الصلاح من أئمتنا إلى أن الأفضل فعلها ليلا، قال بعضهم: وهو متجه إن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلها ليلا، أي لأحد من نسائه. وقد جاء «لا بد للعرس من وليمة» . وقال لأنس: آذن من حولك: أي ليأكلوا من ذلك الحيس، وكان صلى الله عليه وسلم يضع لها ركبته لتركب، فتضع رجلها على ركبته الشريفة حتى تركب. وفي لفظ: لما وضع صلى الله عليه وسلم ركبته لتركب عليها أبت أن تضع قدمها على ركبته الشريفة ووضعت فخذها على ركبته، أي ولعل هذا الثاني منها كان في أول الأمر، فلا مخالفة. وعن صفية رضي الله تعالى عنها: ما رأيت أحدا قط أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأيته ركب بي في خيبر وأنا على عجز ناقته ليلا، فجعلت أنعس فتضرب رأسي مؤخرة الرحل فيمسني بيده ويقول: يا هذه مهلا. ونهى صلى الله عليه وسلم عن إتيان الحبالى من النساء اللاتي سبين، وأن لا يصيب أحد امرأة من السبي غير حامل حتى يستبرئها أي تحيض. أي وفي لفظ: أمر صلى الله عليه وسلم مناديه ينادي أن من آمن بالله واليوم الآخر لا يسق بمائة زرع الغير، ولا يطأ امرأة حتى تنقضي عدتها: أي حتى تحيض. وبلغه صلى الله عليه وسلم عن شخص أنه ألمّ بامرأة من السبي حبلى، فقال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره. ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل الثوم. ورأيت في كلام بعضهم أن غالب اقتياتهم في خيبر كان أكل الثوم والكراث حتى تقرحت أشاقهم، أي وذلك قبل النهي. ثم رأيت في الترغيب والترهيب عن أبي ثعلبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فوجدوا في جنانها بصلا وثوما فأكلوا منه وهم جياع، فلما راح الناس إلى المسجد إذا ريح بصل وثوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنا» وليس في ذلك نهي عن أكل الثوم والبصل: أي مطلقا، إنما النهي عن إتيان المسجد لمن أكلهما تأمل. ومن ثم جاء أنه لما قال ذلك صلى الله عليه وسلم قال الناس حرم ذلك، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم ما قالوا، قال: أيها الناس؛ إنه ليس لنا تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها. وعن فرقد السنجي «ما أكل نبي قط ثوما ولا بصلا» .

ونهى صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء. ففي مسلم عن علي رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر» . قال بعضهم: والراجح أن النهي عن متعة النساء لم يكن في خيبر، فإنه شيء لم يعرفه أهل السير ولا رواه أهل الأثر، ويدل لذلك ما قيل إن ثنية الوداع إنما سميت بذلك، لأنهم فيها ودّعوا النساء اللاتي تمتعوا بهنّ في خيبر، أي وإنما كان تحريمها عام الفتح، أي ولا معارضة لأنه أحل بعد ذلك: أي بعد خيبر في عام الفتح، ثم حرم فيه بعد ثلاثة أيام كما سيأتي. وقيل حرمت في حجة الوداع، وقيل في غزوة أوطاس، وهذا هو الصحيح، وسيأتي في غزوة الفتح الجمع بين هذه الأقوال. قال السهيلي رحمه الله: وأغرب ما روي في ذلك رواية من قال إن ذلك كان في غزوة تبوك. وفي حديث خرجه أبو داود أن تحريم نكاح المتعة كان في حجة الوداع، ومن قال من الرواة إنه كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن يقول إنه كان عام الفتح، هذا كلامه. وعن إمامنا الشافعي رضي الله عنه: لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة، أي فقد حرمت مرتين. ونقل السهيلي رحمه الله وغيره عن بعضهم أنها أبيحت وحرمت ثلاث مرات. وعن بعضهم أنها أبيحت وحرمت أربع مرات، ولينظر هذا مع قول بعضهم إن أوّل من حرم المتعة سيدنا عمر رضي الله عنه. وقيل لم يحرمها صلى الله عليه وسلم مطلقا، بل عند الاستغناء عنها. وأباحها عند الحاجة إليها: أي عند خوف الزنا، وبذلك كان يفتي ابن عباس رضي الله عنهما. وفي كلام فقهائنا: والنهي عن نكاح المتعة في خبر الصحيحين الذي لو بلغ ابن عباس رضي الله عنهما لم يستمرّ على القول بإباحتها لمن خاف الزنا مخالفا في ذلك لكافة العلماء. وقد وقعت مناظرة في المتعة بين القاضي يحيى بن أكثم وأمير المؤمنين المأمون؛ فإن المأمون نادى بإباحة المتعة، فدخل عليه يحيى بن أكثم وهو متغير اللون بسبب ذلك وجلس عنده، فقال له المأمون: ما لي أراك متغيرا؟ قال: لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: المتعة زنا؟ قال: نعم المتعة زنا، قال: ومن أين لك هذا؟ قال: من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الكتاب، فقد قال الله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) [المؤمنون: الآية 1] إلى قوله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ

فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) [المؤمنون: الآيات 5- 7] يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: أفهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث ويلحق بها الولد؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين. وأما السنة، فقد روى الزهري بسنده إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها» فالتفت المأمون للحاضرين وقال: أتحفظون هذا من حديث الزهري؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، فقال المأمون: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة. ونهى صلى الله عليه وسلم في خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، أي فإنهم أصابهم جوع فجودوا الحمر الأهلية، أي ثلاثين حمارا خرجت من بعض الحصون، وقيل لم يدخلوها الحصون، فأخذها رهط من المسلمين وذبحوها وجعلوا لحومها في القدور والبرام، وجعلوا يطبخونها للأكل، فمرّ بهم النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عما في القدور والبرام، قالوا: لحوم الحمر الإنسية: أي المخالطة للإنس، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن أكلها حتى أن القدور أكفئت وإنها لتفور» . أي وفي البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نيرانا توقد يوم خيبر، قال: علام توقد هذه النيران؟ قالوا: على الحمر الإنسية، قال: اكسروها وأهريقوها، قالوا: ألا نهريقها ونغسلها؟ قال: اغسلوها» . وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما هذه النيران، على أي شيء توقد؟ قالوا: على لحم، قال: على أي لحم؟ قالوا: على لحم حمر إنسية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهريقوها واكسروها، فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها؟ فقال أو ذاك» وعدوله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الثاني إما باجتهاد أو وحي. وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم عند ذلك أمر عبد الله بن عوف أن ينادي في الناس أن لحوم الحمر الأهلية لا تحل لمن يشهد أن محمد رسول الله، وأمر أن تكفأ القدور ولا يأكلون من لحوم القدور شيئا» . وفي مسلم «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس أو نجس» وهذا السياق كله يدل على أنهم لم يأكلوا منها شيئا. وفي السيرة الهشامية: «وأكل المسلمون من لحوم الحمر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى الناس عن أمور سماها لهم» وهذا يرد القول بأنه إنما نهى عن أكلها للحاجة إليها، أو لأنها أخذت قبل القسمة. وروى أبو داود بإسناد على شرط مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه «ذبحنا

يوم خيبر الخيل والبغال، ولم ينهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخيل» وفي رواية «ورخص في أكل الخيل» أي أباح أكلها. وفي مسلم عن أسماء رضي الله عنها، قالت «نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه» أي وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولم ينكره. وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية والبغال والخيل» . قال السهيلي رحمه الله: وحديث الإباحة أصح، وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحم الجلالة وعن ركوبها، حتى تعلف أربعين يوما» والجلالة: التي تأكل الجلة، وهي الروث والعذرة. وذكر الهروي «أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل الدجاج الجلالة حتى تقصر» أي تحبس ثلاثة أيام. وذكر فقهاؤنا أن الحمر الأهلية حللت بعد تحريمها، ثم حرمت فليتأمل. ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، أي وذي مخلب من الطير وعن بيع المغانم حتى تقسم، وجعلت له صلى الله عليه وسلم مائدة فأكل متكئا وأطلى بالنورة، وكان ينوّره الرجل، فإذا بلغ عانته تولى ذلك صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة. وروى ابن ماجه بسند جيد كما قاله الحافظ ابن كثير «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا طلى بدأ بعورته فطلاها وطلى سائر جسده أهله» وحينئذ يكون المراد بعانته في الرواية السابقة العورة على أن تلك الرواية مرسلة فلا يحتج بذلك لمن يقول إن العورة ما عدا السوءتين. وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها «أنها قالت: أطلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنورة، فلما فرغ منها قال: يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طيبة وطهور، وإن الله تعالى يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم» أي فهو من نعيم الدنيا، ومن ثم كرهه عمر رضي الله عنه. وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له وقد دخل الحمام: أتدخل الحمام وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام. وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: طاب حمامكما» وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنوّر كل شهر، ويقلم أظفاره كل خمسة عشر يوما» وما ورد أنه صلى الله عليه وسلم لم يتنور فهو ضعيف معارض بما هو أقوى منه وأكثر عددا، على أن المثبت مقدّم على النافي. أي وفي الينبوع: وقول أنس رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنوّر وكان يحلق محمول على الغالب من أمره صلى الله عليه وسلم. وفي الخصائص الصغرى، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما تنور نبي قط.

وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لقص الشارب وتقليم الأظفار أن لا يدع ذلك أربعين يوما» أي وكان صلى الله عليه وسلم يقص أظفاره كل خمسة عشر يوما كما تقدم. وقد أستفيد من هذا كما قال بعضهم فائدة نفيسة وهي ذكر التوقيت للتنوّر وقص الأظفار. قال بعضهم: وفيه نظر، فإن بدنه صلى الله عليه وسلم كان في غاية الاعتدال فلا يقاس به صلى الله عليه وسلم غيره في ذلك، نظير ما قالوه فيما صح «أنه صلى الله عليه وسلم كان يوضئه المدّ، ويغسله الصاع» إن ذلك خاص ببدن من يكون بدنه كبدنه عليه الصلاة والسلام نعومة واعتدالا، وإلا زيد ونقص المتفاوت فكذلك هنا، ومن ثم قال الأئمة رحمهم الله في نحو حلق العانة ونتف الإبط والقلم للظفر وقص الشارب: إن ذلك لا يتقيد بمدة، بل يختلف باختلاف الأبدان والمحالّ، فيعتبر وقت الحاجة إلى إزالة ذلك. وبهذا يردّ على من قال يكره التنور في أقل من شهر، وقدم عليه صلى الله عليه وسلم بخيبر الأشعريون، أي ومنهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، والدوسيون ومنهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، فسأل صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم أن يشركوهم في الغنيمة ففعلوا. قال: وعن موسى بن عقبة رحمه الله أن أحد الأشعريين ومن ذكر معهم: أي وهم الدوسيون من هذين الحصنين اللذين فتحا صالحا، وتكون مشاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعطائهم ليست استنزالا لهم عن شيء من حقهم، وإنما هي المشورة العامة: أي المأمور بها في قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: الآية 159] انتهى. أقول: وهذا صريح في أن ذلك كان فيئا له صلى الله عليه وسلم، فهما وما فيهما مما أفاء الله عليه صلى الله عليه وسلم، لأن الفيء ما جلوا عنه من غير قتال؛ أي من غير مصافة للقتال. والحاصل أن أرض خيبر ونخلها غنيمة، لأنه صلى الله عليه وسلم غلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى الحصون، وفتح جميع الحصون عنوة إلا الوطيح، والسلالم فإنهما فتحا صالحا على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم، بشرط أن لا يكتموه شيئا من أموالهم، وأن من كتم شيئا انقض ذلك الصلح له بالنسبة لدمه وذراريه. وهذان الحصنان هما المرادان بالكثيبة في قول بعضهم: كان صلى الله عليه وسلم يطعم من الكثيبة أهله لما علمت أنهما من حصونها، وأنهما وما فيهما مما أفاء الله عليه. وكونه صلى الله عليه وسلم كان يطعم أهله مما فيهما واضح. وأما إذا كان المراد يطعم من الأرض والنخيل المتعلقين بالحصنين فقد يتوقف فيه، لما تقدم أن أرض خيبر ونخلها غنيمة وذلك شامل للأرض والنخيل المتعلقين بالحصنين فليتأمل والله أعلم. وفي لفظ: وقدم عليه صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من

أرض الحبشة ومعه الأشعريون، أبو موسى الأشعري وأخواه أبو رهم وأبو بردة رضي الله عنهم، وكان أبو موسى أصغرهم وأقواهم وكان قوم جعفر بالحبشة، أي لأنهم هاجروا إلى الحبشة من اليمن كما تقدم، وقبل قدومهم إليه صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم «يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوبا» فقدم الأشعريون، وذكر أنهم عند مجيئهم صاروا يقولون: غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه وفي كلام بعضهم ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم قال في حقهم «أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية» . ولما أقبل عليه صلى الله عليه وسلم جعفر رضي الله عنه قام صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وقبله بين عينيه وفي رواية «قبل جبهته» . أي وعن ابن عباس رضي الله عنهما «لما قدم جعفر رضي الله عنه من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بين عينيه» وجعل ذلك أصلا لاستحباب المعانقة. وقال بعضهم: إنها مكروهة، وحديث جعفر يحتمل أن يكون قبل النهي عنها، فإنه نهى عن المعاكمة وهي المعانقة، وحمل ذلك بعضهم على ما إذا كانت المعانقة من غير حائل. أقول: لم يجب بذلك سيدنا مالك رضي الله عنه، فإنه لما قدم عليه سفيان بن عيينة رضي الله عنه صافحه مالك وقال له: لولا أنها بدعة لعانقتك، فقال له سفيان: قد عانق من هو خير منك ومني النبي صلى الله عليه وسلم، قال مالك: تعني جعفر بن أبي طالب؟ قال نعم، قال: ذلك حبيب خاص ليس بعامّ، أي فذلك من خصوصياته، فقال له سفيان: ما عم جعفرا يعمنا، وما يخصه يخصنا، أي فالأصل عدم الخصوصية، ثم قال له سفيان: أتأذن لي أن أحدثك بحديثك. قال نعم، فقال: حدثني فلان عن فلان عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر الحديث المتقدم عنه، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم التزم زيد بن حارثة رضي الله عنه حين قدم عليه من مكة. وأما المصافحة، فقد جاء «أن أهل اليمن لما قدموا المدينة صافحوا الناس بالسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أهل اليمن قد سنوا لكم المصافحة» وقال «من تمام محبتكم المصافحة» وقال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية لما قدم عليه «وإلى عدي بن حاتم» . قال السهيلي: وليس هذا معارضا لحديث «من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» لأن هذا الوعيد إنما توجه للمتكبرين وإلى من يغضب أن لا يقام له، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم لفاطمة رضي الله عنها وكانت تقوم له صلى الله عليه وسلم هذا كلامه، والله أعلم. ولما رآه صلى الله عليه وسلم جعفر حجل: أي مشى على رجل واحدة إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أهل الحبشة يفعلون ذلك للتعظيم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له «أشبهت خلقي

وخلقي» وفي لفظ «جعفر أشبه الناس بي خلقا وخلقا» وكان صلى الله عليه وسلم يسميه أبا المساكين، لأنه رضي الله عنه كان يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه. وذكر بعضهم أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم «أشبهت خلقي وخلقي» رقص من لذة هذا الخطاب، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم رقصه، وجعل ذلك أصلا لجواز رقص الصوفية عند ما يجدونه من لذة المواجيد من مجالس الذكر والسماع، ثم قال صلى الله عليه وسلم «والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟» رضي الله عنه. وقيل قدم مع جعفر رضي الله عنه سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام. وفي لفظ: قدم معه سبعون كافرا أصحاب الصوامع، وقيل كانوا أربعين رجلا: اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام. وقيل كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وأسلموا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه الصلاة والسلام. أي ولعل هؤلاء الذين من الحبشة هم المرادون بقول بعضهم: ووفد إليه وفد النجاشي، فقام صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم. وفي لفظ: وقدم عليه أيضا أبو هريرة رضي الله عنه وطائفة من قومه، وهم دوس كما تقدم. قال أبو هريرة رضي الله عنه: «قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتا من دوس فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة الغفاري، فأخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر: فزودنا سباع، ثم جئنا خيبر وهو محاصر الكثيبة فأقمنا حتى فتح الله: أي وكان من جملة من قدم معهم من بلاد الحبشة أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها: أي عقد عليها وهي بالحبشة، فإنها كانت ممن هاجر الهجرة الثانية للحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش فارتد عن الإسلام هناك وتنصر ومات على ذلك، وبقيت هي على إسلامها كما تقدم. وقد أرسل صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه في المحرم افتتاح سنة سبع إلى النجاشي ليزوجها منه صلى الله عليه وسلم، قالت أم حبيبة رضي الله عنها: رأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت، فأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني، قالت: فما شعرت إلا وقد دخلت عليّ جارية النجاشي، فقالت لي: إن الملك يقول لك: كتب إليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجك منه، فقلت لها: بشره الله بالخير، ويقول لك: وكلي من يزوجك، فأرسلت بالوكالة إلى خالد بن سعيد رضي الله عنه، أي وأعطت تلك الجارية سوارين وخدمتين، أي خلخالين وخواتيم فضة سرورا بما بشرت به، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي

طالب ومن معه من المسلمين فحضروا وخطب النجاشي رضي الله عنه، فقال «الحمد لله الملك القدوس» أي في لفظ بدل ذلك «المؤمن المهيمن، العزيز الجبار. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أما بعد- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبنا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصدقها أربعمائة دينار، أي وفي لفظ أربعمائة مثقال ذهب ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم» ، أي ودفع النجاشي الدنانير لخالد بن سعيد، فقبضها منه، وقيل إنه أنقدها لها النجاشي على يد جاريته التي بشرتها، فلما جاءتها بتلك الدنانير أعطتها خمسين دينارا. وقد يقال: يجوز أن يكون النجاشي استردها من خالد ثم دفعها لتلك الجارية، أو أمر خالد بن سعيد بدفعها للجارية لتدفعها لأم حبيبة فلا مخالفة، وهذا السياق يدل على أن النجاشي كان هو الوكيل عنه صلى الله عليه وسلم. وفي كلام بعض فقهائنا أنه صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية في نكاح أم حبيبة. وقد يقال: معنى توكيل عمرو إرساله بالوكالة للنجاشي، أي ثم لما أرادوا أن يقوموا بعد العقد قال لهم النجاشي: اجلسوا، فإن من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج؛ فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا، قالت أم حبيبة رضي الله عنها: فلما كان من الغد جاءتني جارية النجاشي فردت عليّ جميع ما أعطيتها وقالت: إن الملك عزم عليّ أن لا أرزأك شيئا، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر، فجاءت بورس وعنبر وزباد كثير، وقالت: حاجتي إليك أن تقرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه، وكانت كلما دخلت عليّ تقول لا تنسي حاجتي إليك، ثم أرسل النجاشي أم حبيبة مع شرحبيل ابن حسنة، أي قالت أم حبيبة: ولما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت معي جارية النجاشي وأقرأته منها السلام، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: وعليها السلام ورحمة الله وبركاته. وجاء «أنه لما رجعت إليه صلى الله عليه وسلم مهاجرة الحبشة قال: ألا تخبروني بأعجب شيء رأيتم بأرض الحبشة؟ فقال فتية منهم: يا رسول الله بينما نحن جلوس إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم وعلى رأسها قلة فيها ماء، فمرت بصبي فدفعها فوقعت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت: أي قامت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا

غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، تعلم أمري وأمرك عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت «كيف يقدس الله قوما لا يأخذ لضعيفهم من قويهم» . وذكر «أنه لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر ودنا منها بعث محيصة بن مسعود إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم، قال محيصة: فجئتهم فجعلوا يتربصون ويقولون إن بخيبر عشرة آلاف مقاتل فيهم عامر وياسر والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى أن محمدا يقرب إليه، فمكثت عندهم يومين، ثم أردت الرجوع، فقالوا: نحن نرسل معك رجالا منا يأخذون لنا الصلح، كل ذلك وهم يظنون أنه صلى الله عليه وسلم لا يقدر على فتح خيبر، حتى جاءهم أناس من حصن ناعم، وأخبروهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحه فأرسلوا رجلا من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع في نفر، يصالحون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويجليهم، ويخلوا بينه وبين الأموال، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وقيل تصالحوا معه على أن يكون لهم نصف الأرض ولرسول الله صلى الله عليه وسلم النصف الآخر، فكان فدك على الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الثاني كان له نصفها لأنها لم تؤخذ بمقاتلة، فكان صلى الله عليه وسلم ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم. ولما مات صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة سألته فاطمة رضي الله عنها أن يجعلها أو نصفها لها فأبى. وروى لها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» أي على المسلمين. ومما يؤيد الثاني ما قيل إنه لما أجلاهم عمر رضي الله عنه مع يهود خيبر كما سيأتي اشترى منهم حصتهم التي هي النصف بمال بيت المال. فلما صارت الخلافة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقيل له إن مروان اقتطعها: أي جعلها أقطاعا له، فقال: أرأيتم أمرا منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة: أي بقوله صلى الله عليه وسلم «لا نورث ما تركناه صدقة» ليس لي بحق، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي صدقة على المسلمين. وطلب الصلح كان بعد أن أرادت غطفان وسيدهم عيينة بن حصن أن يعينوا أهل خيبر، أي وكانوا أربعة آلاف، فإن يهود خيبر لما سمعوا بمجيئه صلى الله عليه وسلم إليهم أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهودة بن قيس في أربعة عشر رجلا إلى غطفان ليستمدوا بهم، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن غلبوا على المسلمين، فجمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود خيبر. أي ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم أن لا يعينوهم على أن يعطيهم من

خيبر شيئا سماه لهم، أي وهو نصف ثمارها فأبوا وقالوا جيراننا وحلفاؤنا، فلما ساروا قليلا سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا ظنوه القوم: أي ظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم، أي فألقى الله الرعب في قلوبهم فرجعوا على الصعب والذلول: أي مسرعين على أعقابهم فأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل خيبر، أي وفي رواية سمعوا صوتا: أيها الناس أهليكم خولفتم إليهم، فرجعوا فلم يروا لذلك نبأ. ويدل للثاني أن غطفان لما قدموا صلى الله عليه وسلم خيبر، قال عيينة بن حصن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وجده صلى الله عليه وسلم فتح حصونها: أعطنا الذي وعدتنا. وفي رواية: أعطني مما غنمت من حلفائي، فإني امتنعت عنك وعن قتالك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، ولكن الصياح الذي سمعت أنفذك إلى أهلك ولكن لك ذو الرقيبة، قال عيينة: وما ذو الرقيبة؟ قال الجبل الذي رأيت في منامك أنك أخذته. أي فإن عيينة بن حصن لما سمع الصوت ورجع إلى أهله ولم يجد شيئا رجع بعد ذلك بمن معه إلى خيبر وأنهم بالقرب منها عرّسوا من الليل، فنام عيينة وانتبه وقال لقومه: أبشر فإني رأيت الليلة في النوم أني أعطيت ذا الرقيبة وهو جبل بخيبر، لقد والله أخذت برقبة محمد، فلما قدم خيبر وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر الحديث. وقدم عليه صلى الله عليه وسلم حينئذ أيضا حجاج بن علاط السلمي وأسلم، والعلاط: وسم في العنق، وهو أبو نصر بن حجاج الذي نفاه عمر رضي الله عنه لما سمع أم الحجاج بن يوسف الثقفي تهتف به وتقول الأبيات التي منها: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج ومن ثم قال عروة بن الزبير يوما للحجاج: يا بن المتمنية يعيره بذلك، وكان الحجاج مكثرا من المال، فقال: يا رسول الله إن مالي عند امرأتي بمكة ومتفرق في تجار مكة، فأذن لي أن آتي مكة لآخذ مالي قبل أن يعلموا بإسلامي فلا أقدر على أخذ شيء منه، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا بد لي من أن أقول: أي أتقول وأذكر ما هو خلاف الواقع: أي ما أحتال به لما يوصل إلى أخذ مالي، قال: قل، قال: فخرجت حتى انتهيت إلى الحرم، فإذا رجال من قريش يتشممون الأخبار وقد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إلى خيبر: أي أهل القوة والمنعة بعد ما وقع بينهم من المراهنة على مائة بعير في أن النبي صلى الله عليه وسلم يغلب أهل خيبر أولا، فقال حويطب بن عبد العزى وجماعة بالأول، وقال عباس بن مرداس وجماعة بالثاني، فقالوا: حجاج عنده والله الخبر، ولم يكونوا علموا بإسلامي: يا حجاج إنه قد بلغنا أن القاطع يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إلى خيبر، فقلت: عندي من الخبر ما

يسركم، فاجتمعوا عليّ يقولون: إيه يا حجاج؟ فقلت لهم: لم يلق محمد وأصحابه قوما يحسنون القتل غير أهل خيبر، فهزم هزيمة لم يسمع بمثلها قط وأسر محمد وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فنقلته بين أظهرهم. وفي لفظ: يقتلونه بمن كان أصاب من رجالهم، فصاحوا وقالوا لأهل مكة: قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال حجاج: وقلت لهم أعينوني على غرمائي، أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هناك، فجمعوا لي مالي على أحسن ما يكون، ففشا ذلك بمكة وأظهر المشركون الفرح والسرور، وانكسر من كان بمكة من المسلمين، وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، فجعل لا يستطيع أن يقوم، ثم بعث إلى حجاج غلاما وقال: قل له: يقول لك العباس: الله أعلى وأجل من أن يكون الذي جئت به حقا، فقال له حجاج: اقرىء على أبي الفضل السلام وقل له ليخل لي بعض بيوته لآتيه بالخبر على ما يسره، واكتم عني، فأقبل الغلام، فقال: أبشر أبا الفضل، فوثب العباس فرحا كأن لم يمسه شيء وأخبره بذلك فأعتقه العباس رضي الله تعالى عنه وقال: لله عليّ عتق عشر رقاب. فلما كان ظهرا جاءه حجاج فناشده الله أن يكتم عنه ثلاثة أيام، أي وقال إني أخشى الطلب، فإذا مضت ثلاث، فأظهر أمرك، فوافقه العباس على ذلك فقال: إني قد أسلمت، وإن لي مالا عند امرأتي ودينا على الناس، ولو علموا بإسلامي لم يدفعوه إليّ، إني تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر وجرت سهام الله وسهام رسوله فيها، وتركته عروسا بابنة ملكهم حيي بن أخطب، وقتل ابن أبي الحقيق. فلما أمسى حجاج خرج وطالت على العباس تلك الليالي الثلاث، فلما مضى حجاج أي ومضت الثلاث عمد العباس رضي الله عنه إلى حلة فلبسها، وتخلق بخلوق وأخذ بيده قضيبا، ثم أقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذ مرّ بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل، هذا والله التجلد بحرّ المصيبة، قال: كلا الذي حلفتم به لم يصبني إلا خير بحمد الله، أخبرني حجاج أن خيبر فتحها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، وجرت فيها سهام الله وسهام رسول الله، واصطفى رسول الله صفية بنت ملكهم حيي بن أخطب لنفسه، وأنه تركه عروسا بها، أي وإنما قال ذلك لكم ليخلص ماله، وإلا فهو ممن أسلم، فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، فقال المشركون: ألا يا عباد الله انفلت عدو الله، يعنون حجاجا، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم يلبثوا إن جاءهم الخبر بذلك هذا. وفي الدلائل للبيهقي رحمه الله: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال حجاج بن علاط: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي بمكة مالا، وإن لي بها أهلا. وأنا أريد أن آتيهم،

فأنا في حل إن أنا نلت منك وقلت شيئا، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء، فقال لامرأته حين قدم: أخفي عليّ، واجمعي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا، وأصيبت أموالهم، ففشا ذلك بمكة، فاشتد ذلك على المسلمين، وأظهر المشركون فرحا وسرورا، وبلغ العباس رضي الله تعالى عنه الخبر، فقعد وجعل لا يستطيع أن يقوم، فأرسل العباس رضي الله تعالى عنه غلاما له إلى الحجاج: ويلك ما تقول فالذي وعد الله خير مما جثت به، فقال حجاج: يا غلام اقرىء أبا الفضل السلام، وقل له: فليخل بي في بعض بيوته فآته بالخبر على ما يسره. فلما بلغ العبد باب الدار قال: أبشر يا أبا الفضل، فوثب العباس فرحا حتى قبل ما بين عينيه، فأخبره بقول حجاج فأعتقه. ثم جاء حجاج، فأخبره بافتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وغنم أموالهم، وأن سهام الله قد جرت فيها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفى صفية بنت حيي لنفسه، وخيرها بين أن يعقتها وتكون له زوجة أو يلحقها بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون له زوجة، ولكن جئت لمالي هاهنا أن أجمعه وأذهب به، وإني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول، فأذن لي أن أقول ما شئت، فأخف عليّ يا أبا الفضل ثلاثا ثم اذكر ما شئت. قال: فجمعت له امرأته متاعه، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس رضي الله تعالى عنه امرأة حجاج فقال: ما فعل زوجك؟ قالت: ذهب، وقالت: لا يحزنك الله يا أبا الفضل، لقد شقّ علينا الذي بلغك، فقال: أجل، لا يحزنني الله، فلم يكن لمحمد إلا ما أحب، فتح الله على يد رسوله خيبر، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، فإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به، قالت: أظنك والله صادقا، قال: فإني والله صادق، والأمر على ما أقول. ثم ذهب حتى أتى مجلس قريش الحديث. قال: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر كان التمر أخضر، فأكثر الصحابة من أكله، فأصابتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: برّدوا لها الماء في الشنان: أي القرب، ثم صبوا عليكم منه بين أذاني الفجر، واذكروا اسم الله عليه، ففعلوا، فذهبت عنهم. وعن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: أصابتني ضربة يوم خيبر، قال الناس: أصيب سلمة بن الأكوع، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيت منها ساعة. وفي هذه الغزوة أراد صلى الله عليه وسلم أن يتبرز، فقال لابن مسعود رضي الله تعالى عنه: يا عبد الله انظر هل ترى شيئا؟ فنظرت فإذا شجرة واحدة فأخبرته، فقال لي: انظر هل ترى شيئا؟ فنظرت شجرة أخرى متباعدة من صاحبتها، فأخبرته، فقال: قل لهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركما أن تجتمعا، فقلت لهما ذلك فاجتمعا، فاستتر بهما، ثم قام

فانطلقت كل واحدة إلى مكانها. وفي الإمتاع عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله فلم ير شيئا يستتر به فإذا بشجرتين بشاطىء الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليّ بإذن الله تعالى، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها. فقال: انقادي عليّ بإذن الله تعالى، فانقادت معه كذلك، حتى كان صلى الله عليه وسلم بالنصف مما بينهما ولأم بينهما، وقال التئما، عليّ بإذن الله تعالى فالتأمتا، قال جابر رضي الله تعالى عنه: فخلوت أحدّث نفسي، فحانت مني التفاتة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا وذهبت كل واحدة إلى محلها الحديث، ولا بعد في تعدد الواقعة. ووقع له صلى الله عليه وسلم مجيء بعض الشجر إليه قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم. فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بعض شعاب مكة وقد دخله من الغم ما شاء الله من تكذيب قومه، وقولهم له: تضلل آباءك وأجدادك يا محمد، ومن خضبهم له بالدماء، فقال: يا رب أرني اليوم آية اطمئن إليها ولا أبالي بمن آذاني بعدها، وكان ذلك الوادي به شجرة، فأمر أن يدعو شجرة من تلك الشجر. وفي لفظ: غصنا من أغصان شجرة فدعا ذلك فانتزع من مكانه وجاء إليه وسلم عليه، ثم أمره صلى الله عليه وسلم بالعود فعاد إلى مكانه، فحمد الله وطابت نفسه، وعلم أنه على الحق وقال: لا أبالي بمن آذاني بعد هذا من قومي. أقول: ووقع له صلى الله عليه وسلم إجابة الحجر. فعن تفسير الفخر الرازي أنه صلى الله عليه وسلم كان مع عكرمة بن أبي جهل بشط ماء، فقال عكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فادع ذلك الحجر، لحجر كان في الجانب الآخر يسبح في الماء ويجيء إليك ولا يغرق، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم، فانقلع ذلك الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد له بالرسالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعكرمة: يكفيك هذا، فقال حتى يرجع إلى مكانه، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم فرجع إليه مكانه، ولم يسلم عكرمة في ذلك الوقت، وإنما أسلم يوم فتح مكة، والله أعلم. وعند خروجه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة أمر صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي من كان مضيعا أو ضعيفا أو مصعبا، أي راكبا دابة صعبة فليرجع، فرجع ناس، وارتحل مع القوم رجل على بكر صعب أو ناقة صعبة، فنفر مركوبة فصرعه، فاندقت فخده، فمات، فلما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما شأن صاحبكم؟ فأخبروه، قال: يا بلال ما كنت أذنت في الناس من كان مصعبا: أي راكبا دابة صعبة فليرجع، قال: بلى، فأبى صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، وأمر صلى الله عليه وسلم بلالا فنادي في الناس: الجنة لا تحلّ لعاص ثلاثا، وفيها مات

شخص من الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم، وامتنع من الصلاة عليه، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غلّ في سبيل الله، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين. وفيها أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من المسلمين: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا أشدّ القتال، فارتاب بعض الصحابة: أي كيف يكون من أهل النار مع هذه المقاتلة الشديدة، فلما كثرت الجراحات في ذلك الرجل ووجد ألمها أخرج سهما من كنانته ونحر نفسه، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا بلال فأذن «لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة» الحديث. وفي رواية «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» وتقدّم في غزوة أحد مثل ذلك. ولا بعد في التعدد إن لم يكن من الاشتباه على الراوي. أقول: في سيرة الحافظ الدمياطي: لما فتحت خيبر واطمأن الناس جعلت زينب ابنة الحارث أخي مرحب، وهي امرأة سلام بن مشكم تسأل: أي الشاة أحبّ إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون الذراع، قيل: وإنما أحبّ صلى الله عليه وسلم الذراع لأنه هادي الشاة وأبعدها من الأذى، فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يلبث أن يقتل من ساعته فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف، فلما غابت الشمس وصلى صلى الله عليه وسلم المغرب بالناس انصرف وهي جالسة عند رحله، فسأل عنها، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك، فأمر بها صلى الله عليه وسلم فأخذت منها فوضعت بين يديه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حضور أو من حضر منهم، وفيهم بشر بن البراء بن معرور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادنوا فقعدوا، وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهش منه، فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمة ازدرد بشر ما في فيه وأكل القوم منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع أو الكتف تخبرني أنها مسمومة، فقال بشر: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي، أي لقمتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلا أن أنغص عليك طعامك، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون ازدردتها، فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان أي أسود، وماطله وجعه سنة لا يتحول إلا ما حول ثم مات. وقال بعضهم: فلم يقم بشر من مكانه حتى توفي. أي والمتبادر من المكان مكان الأكل، وربما يدل له عدم ذكر بشر في الحجامة، وطرح منها لكلب فمات اهـ، أي فلم يأكل إلا بشر رضي الله تعالى عنه. وحينئذ يكون المراد بقوله: وأكل القوم منها: أي أرادوا الأكل، أي ووضعوا

أيديهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «ارفعوا أيديكم» ويدل له ما يأتي عن الإمتاع. وفي الأصل أنها أهدتها لصفية رضي الله تعالى عنها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور فقدمت إليهما تلك الشاة، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف، وفي رواية الذراع، فانتهش منه قطعة فلاكها ثم ألقاها: أي ولم يبتلعها، أي وانتهش من الشاة بشر قطعة فابتلعها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناول شيء منها وقال إن كتف هذه الشاة تخبرني أني نعيت فيها، فقال بشر: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك فيما أكلته، فما منعني من لفظه إلا أني أعظمت أن أنغصك طعاما، فلم يقم بشر رضي الله تعالى عنه من مكانه حتى كان لا يتحول إلا إن حوّل، وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله رحمه الله: وأحييت عضو الشاة بعد مماتها ... فجاء بنطق موضح للنصيحة وقال رسول الله لا تك آكلي ... فزينب سامتني الهوان وسمّت وهذا يؤيد القول بأن كلام نحو الجماد يكون بعد أن يخلق الله فيه الحياة. ومذهب الأشعري رحمه الله أن الله يخلق في نحو الجماد حروفا وصوتا يحدث ذلك فيه، أي وليس من لازم ذلك وجود الحياة. واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله، أي حجمه أبو طيبة مولى بني بياضة وقيل أبو هند وهو مولى بني بياضة أيضا، أي وأمر أصحابه فاحتجموا أوساط رؤوسهم أي وهم كما في الإمتاع ثلاثة نفر، وضعوا أيديهم في الطعام ولم يصيبوا منه شيئا. وفيه أنه لا معنى لاحتجام أصحابه إذا لم يأكلوا شيئا، ومن ثم قال في سفر السعادة: واحتجم صلى الله عليه وسلم بين الكتفين في ثلاثة مواضع، وأمر من أكل أي من أراد أن يأكل معه بذلك، إلا أن يقال مجرد وضع اليد ربما سري بسببه السم إلى باقي الجسد، وقال صلى الله عليه وسلم «الحجامة في الرأس هي المعينة، أمرني بها جبريل عليه السلام حين أكلت طعام اليهودية» . وقد احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذه الواقعة مرارا في محالّ مختلفة، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم احتجم على الأخدعين مرتين، واحتجم وسط رأسه الشريف، وكان يسميها منقذة أي وذلك لما سحر. ففي «سفر السعادة» : لما سحره اليهودي ووصل المرض إلى الذات المقدسة النبوية أمر صلى الله عليه وسلم بالحجامة على قبة رأسه المباركة. واستعمال الحجامة في كل متضرر بالسحر غاية الحكمة ونهاية حسن المعالجة، ومن لاحظ له في الدين والإيمان يستشكل هذا العلاج هذا كلامه. ودخل عليه صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس وهو يحتجم في القمحذوة، فقال: يا بن أبي

كبشة لم احتجمت وسط رأسك؟ فقال: يا ابن حابس إن فيها شفاء من وجع الرأس والأضراس والنعاس والجنون، أي وفي الحديث «الحجامة في الرأس شفاء من سبع: من الجنون والصداع والجذام والبرص والنعاس ووجع الضرس وظلمة يجدها في عينيه» وفي الحديث «اجتنبوا الحجامة يوم الجمعة والسبت والأحد» وفي بعض الروايات «يوم الأحد شفاء» ويحتاج للجمع. وجاء النهي عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي، وقال «فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم» وفي حديث بعض رواته واهي الحديث «احتجم صلى الله عليه وسلم ثلاثا في النقرة والكاهل وسط الرأس، وسمى واحدة الدافعة والأخرى المعينة والأخرى المنقذة» وقال صلى الله عليه وسلم «خير ما تداويتم به الحجامة، وما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا قالوا: يا محمد مر أمتك بالحجامة» . قال في الهدى: والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد. والأولى أن تكون في الربع الثالث من الشهر لأنه وقت هيجان الدم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا «من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كانت شفاء من كل داء، والحجامة على الريق دواء، وعلى الشبع داء» . وتكره في الأربعاء والسبت، قيل ويوم الجمعة. وفي الحديث «من احتجم يوم الأربعاء أو السبت وحصل له برص لا يلومنّ إلا نفسه» وجاء أمره صلى الله عليه وسلم باجتناب الحجامة يوم الأربعاء فإنه اليوم الذي أصيب فيه أيوب عليه السلام بالبلاء، وما يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء وليلة الأربعاء. ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تلك اليهودية فقال: أسممت هذه الشاة؟ فقالت: من أخبرك؟ قال: أخبرتني هذه التي في يدي وهي الذراع، قالت: نعم، قال: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: بلغت من قومي ما لا يخفى عليك. أي وفي لفظ: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان ملكا استرحنا منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله: ثم سمت له اليهودية الشا ... ة وكم سام الشقوة الأشقياء فأذاع الذراع ما فيه من سم ... بنطق إخفاؤه إبداء وبخلق من النبي كريم ... لم تقاصص بجرحها العجماء أي ثم جعلت اليهودية السم القاتل لوقته في الشاة، ومرات كثيرة يطلب الشقوة ويتحلى بها الأشقياء الذين لا خلاق لهم، فأخبر ذلك الذراع النبي صلى الله عليه وسلم بالنطق بما فيه

من السم، إخفاء ذلك النطق عن الحاضرين إبداء وإظهار له صلى الله عليه وسلم، وبسبب ما تحلى به صلى الله عليه وسلم من كمال الحلم والعفو لم يقاصص تلك المرأة بجرحها، أي بجرح سمها، لأن السم يجرح الباطن كما يجرح الحديد الظاهر. فلما مات بشر رضي الله تعالى عنه أمر بها فقتلت، أي وقيل وصلبت كما في أبي داود وعبارة السهيلي رحمه الله: وقد روى أبو داود أنه قتلها، ووقع في كتاب «شرف المصطفى» أنه قتلها وصلبها هذا كلامه. وقيل إنما تركها لأنها أسلمت، فالعفو عنها: أي عدم مؤاخذتها كان قبل أن يموت بشر رضي الله تعالى عنه، فلما مات بشر دفعها صلى الله عليه وسلم إلى أولياء بشر فقتلوها. وفي الإمتاع: واختلفت الآثار في قتلها، ففي صحيح مسلم أنه لم يقتلها، وقال ابن إسحاق أجمع أهل الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها، وقد علمت أنه لا مخالفة، لكن قتلها مشكل على ما عليه أئمتنا معاشر الشافعية من أن من ضيف بمسموم يقتل غالبا مميزا فمات كان شبه عمد لا قود فيه. وفي كلام بعضهم أنها قالت: قد استبان لي الآن أنك صادق، وأني أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فانصرف عنها حين أسلمت، كذا في جامع معمر عن الزهري أنها أسلمت، قال معمر: هكذا قال الزهري إنها أسلمت والناس يقولون قتلها وإنها لم تسلم، وأمر صلى الله عليه وسلم بتلك الشاة فأحرقت. وفي رواية أنه بعد سؤال اليهودية واعترافها بسط صلى الله عليه وسلم يده إلى الشاة، وقال لأصحابه: كلوا باسم الله، فأكلوا وقد سموا الله فلم يضر ذلك أحدا منهم، قال ابن كثير: وفيه نكارة وغرابة شديدة، هذا كلامه. ويذكر «أن أخت بشر بن البراء دخلت عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، فقال لها: هذا أوان انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر» والأبهر: العرق المتعلق بالقلب. وقد قسم صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر؛ فأعطى الراجل سهما، والفارس ثلاثة أسهم بعد أن خمسها خمسة أجزاء؛ ومن جملة من أعطاه صلى الله عليه وسلم أبو سبيعة بن المطلب بن عبد مناف واسمه علقمة، ولم يقسم صلى الله عليه وسلم لمن غاب من أهل الحديبية إلا لجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما. ورضخ صلى الله عليه وسلم للنساء، أي وكن عشرين امرأة، فيهن صفية عمته صلى الله عليه وسلم وأم سليم وأم عطية الأنصارية. وعن بعضهم قالت «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقلت: يا رسول الله قد أردنا الخروج معك نعين المسلمين ما استطعنا، فقال: على بركة الله، قالت فخرجنا

معه، فلما افتتح خيبر رضخ لنا وأخذ هذه القلادة ووضعها في عنقي، فو الله لا تفارقني أبدا، وأوصت أنها تدفن معها» . زاد في السيرة الهشامية «أنها قالت: وكنت جارية حديثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، قالت: فلما كان الصبح وأناخ راحلته ونزلت عن حقيبة رحله، وإذا بها دم مني وكانت أول حيضة حضتها. قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حالي قال: ما لك؟ لعلك نفست، قالت: قلت نعم، قال: فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمرتحلك» قالت: فكنت لا أطهر من حيضة إلا جعلت في طهري ملحا، وأوصت أن يجعل ذلك في غسلها حين ماتت. ثم دفع صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر الأرض لما قالوا له صلى الله عليه وسلم: نحن أعلم بها منكم، وأعمرها بشرط ما يخرج منها من تمر أو زرع، وقال لهم: على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. أي وهذا يخاف ما عليه أئمتنا من أنه لا يجوز في عقد الجزية أن يقول الإمام أو نائبه: أقركم ما شئنا، بخلاف ما شئتم، لأنه تصريح بمقتضى العقد، لأن لهم نبذ العقد شاؤوا. وذكر أئمتنا أنه يجوز منه صلى الله عليه وسلم لا منا أن يقول: أقررتكم ما شاء الله لأنه يعلم مشيئة الله دوننا، والشطر في هذا ظاهر في النصف، ولم أقف على تعيينه في رواية. وكان صلى الله عليه وسلم يرسل إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه خارصا. قيل وإنما خرص عليهم عبد الله عاما واحدا؛ ثم مات، وهذا يخالفه قول بعضهم: كان عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه يأتيهم كل عام يخرصها يعني الثمار عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدّة خرصه، وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت، والله لقد جئتم من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، وكان يخرص عليهم بعده جبار بن صخر، وكان خارصا لأهل المدينة. أقول: أي ساقاهم على النخل، وزارعهم على الأرض، هكذا استدل بذلك أئمتنا على ما ذكر: أي على جواز المساقاة، وجواز المزارعة تبعا لها، ويكون ذلك مخصصا للنهي عن المزارعة: أي ما لم تكن تبعا للمساقاة، وهو لا يتم إلا إن كانت أرض خيبر جميعها بين النخل بحيث يعسر سقيها بدون النخل، وأنه صلى الله عليه وسلم دفع لهم بذرا لأن في المزارعة يجب أن يكون البذر من المالك لا من العامل. ولم أقف في شيء من الطرق على أنه صلى الله عليه وسلم دفع لهم بذرا، بل ظاهر الروايات يدل على أن البذر معهم، وصرحت به رواية مسلم.

ويبعد أن تكون أراضي خيبر كلها كانت بين النخل بحيث يغسر سقيها بدون النخل، وحينئذ يكون الواقع في خيبر إنما هي المخابرة، وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل، وهي باطلة عندنا، بل قيل عند المذاهب الأربعة ولو تبعا للمساقاة، والله أعلم. ثم إن الصديق رضي الله تعالى عنه أقرهم بعده صلى الله عليه وسلم، ثم أقرهم عمر رضي الله تعالى عنه إلى أن خرج ولده عبد الله رضي الله تعالى عنهما في خلافة أبيه إلى خيبر، فعدى عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه، فقام عمر رضي الله تعالى عنه خطيبا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل أهل خيبر على أموالهم: أي أرضهم ونخلهم، وقال لهم نقركم على ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ما له هناك فعدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدوّ غيرهم. وقد رأيت إجلاءهم أي ووافقه الصحابة على ذلك، فإن عمر رضي الله تعالى عنه قام خطيبا في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن يهود فعلوا بعبد الله بن عمر ما فعلوا، وفعلوا بمطهر بن رافع ما فعلوا مع عدوانهم على عبد الله بن سهيل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أشك أنهم أصحابه، وأنا أريد أن أجلوا يهود، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقركم ما أقركم الله، وقد أذن الله في إجلائهم، فقام طلحة بن عبيد الله، فقال: قد والله أحسنت يا أمير المؤمنين ووفقت، فهم أهل سوء، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: من معك على مثل رأيك؟ قال المهاجرون جميعا والأنصار، فسرّ بذلك عمر رضي الله تعالى عنه. وقوله وفعلوا بمطهر ما فعلوا، أي لأن مطهر بن رافع قدم خيبر بأعلاج من الشام عشرة عبيد له ليعملوا له بأرضه، فأقام بخيبر ثلاثة أيام، فقال لهم رجل من يهود: أنتم نصارى ونحن يهود، وهذا سيدكم من قوم عرب قهرونا بالسيف، وأنتم عشرة رجال وهو رجل واحد يسوقكم إلى الجهد والبؤس وتكونون في رق شديد، فإذا خرجتم من قريتنا فاقتلوه، فقالوا له: ليس معنا سلاح، فدست اليهود لهم سكينتين أو ثلاثة، فلما خرجوا من خيبر أقبلوا على مطهر بسكاكينهم، فخرج مطهر يعدو إلى سيفه، وكان في قرابه على راحلته، فأدركوه قبل الوصول إليه وبعجوا بطنه، ثم انصرفوا سراعا حتى دخلوا خيبر على يهود فآووهم وزودوهم إلى الشام، وجاء عمر رضي الله تعالى عنه الخبر بقتل مطهر وما صنعت به يهود. وقوله مع عدوانهم على عبد الله بن سهيل، أي فإنه وجد قتيلا في خيبر لأهل حصن الشق، فسألهم أخوه محيصة، فقالوا له: لا والله ما لنا به من علم، قال: فجئت أنا وأخي عبد الرحمن وأخي حويصة وهو أكبرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أخي عبد الرحمن يتكلم وهو أصغرنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر كبر فسكت، فأردت

أن أتكلم، فقال: كبر كبر فسكت، فتكلم أخي حويصة، وذكر أن اليهود تهمتنا وظنتنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يأذنوا بحرب، وكتب صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك، وكتبوا إليه: ما قتلناه، فقال صلى الله عليه وسلم لي ولأخوي: تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم؟ فقلنا: يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد، قال: فتحلف لكم يهود؟ قلنا: يا رسول الله ليسوا بمسلمين، فواده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده بمائة ناقة: خمس وعشرين جذعة وخمس وعشرين حقة، وخمس وعشرين ابنة لبون، وخمس وعشرين بنت مخاض. وعن ابن المسيب رحمه الله: كانت القسامة في الجاهلية، ثم أقرها صلى الله عليه وسلم في الإسلام في الأنصاري الذي وجد قتيلا في جبّ من جباب يهود، فلما أجمع الصحابة على ذلك: أي على ما أراده سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، جاءه أحد بني الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعاملنا على أموالنا وشرط ذلك لنا؟ فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لك «كيف بك إذا أخرجت من خيبر يعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟» فقال: هذه كانت هزيلة من أبي القاسم، فقال كذبت يا عدو الله، ثم بلغه رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبقى دينان في جزيرة العرب» وقوله «لأخرجن اليهود والنصارى» وفي لفظ «المشركين من جزيرة العرب» وفي رواية «آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجوا اليهود من الحجاز» وفي لفظ «إن عشت أخرجت اليهود والنصارى من الحجاز» أي وهو مكة والمدينة واليمامة وطرقها وقراها كالطائف لمكة، وخيبر للمدينة، والمراد بجزيرة العرب الحجاز المشتملة عليه، أي فالمراد بجزيرة العرب بعضها وهو الحجاز خاصة، لأن عمر لما أجلاهم ذهب بعضهم إلى تيما، وبعضهم إلى أريحا، وتيما من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز، وقيل له حجاز لأنه حجز بين نجد وتهامة. ففحص عمر رضي الله تعالى عنه عن ذلك حتى تيقنه وثلج صدره فأجلى يهود خيبر، أي وأعطاهم قيمة ما كان لهم من ثمر وغيره. وأجلى يهود فدك ونصارى نجران، فلا يجوز إقامتهم بذلك أكثر من ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج، ولم يخرج يهود وادي القرى وتيما لأنهما من أرض الشام لا من الحجاز. ثم ركب في المهاجرين والأنصار، وخرج معه جبار بن صخر ويزيد بن ثابت فقسما خيبر على أصحاب السهمان التي كانت عليها كما قسمت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر أصاب حمارا أسود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدّي ستين حمارا كلهم لا

غزوة وادي القرى

يركبهم إلا نبي، وقد كنت أتوقعك لتركبني لم يبق من نسل جدي غيري، ولم يبق من الأنبياء غيرك، قد كنت لرجل يهودي فكنت أتعثر به عمدا، وكان يجيع بطني ويضر بظهري، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأنت يعفور، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى نفسه في بئر جزعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات: قال ابن حبان: هذا خبر لا أصل له وإسناده ليس بشيء. وقال ابن الجوزي: لعن الله واضعه فإنه لم يقصد إلا القدح في الإسلام والاستهزاء به. وقد قال شيخنا العماد بن كثير هذا شيء باطل لا أصل له من طريق صحيح ولا ضعيف، وسألت شيخنا المزي رحمه الله فقال: ليس له أصل وهو ضحكة، وقد أودعه كتبهم جماعة منهم القاضي عياض في الشفاء والسهيلي في روضه، وكان الأولى ترك ذكره، ووافقه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وغفر لنا وله وللمسلمين. غزوة وادي القرى ثم عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من خيبر أتى وادي القرى وأهله يهود، فدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك وقاتلوا: أي برز رجل منهم فقتله الزبير رضي الله تعالى عنه، فبرز آخر فقتله عليّ كرم الله وجهه، ثم برز آخر فقتله أبو دجانة رضي الله تعالى عنه، فقاتلهم المسلمون إلى المساء، وقتل منهم أحد عشر رجلا، ففتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة، وغنمه الله أموال أهلها، وأصاب المسلمون منهم أثاثا ومتاعا، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الأرض والنخيل في أيدي أهلها. أي من بقي منهم، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر. وفي لفظ: ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهود وترك في أيديهم أراضي وادي القرى والبساتين والحدائق، يعلمون فيها ويأخذون الأجرة. وقيل حاصرهم ليالي، ثم انصرف راجعا إلى المدينة. فعلى الأوّل تضم للغزوات التي وقع فيها القتال. ولما بلغ أهل تيما ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر وفدك ووادي القرى صالحوه صلى الله عليه وسلم على الجزية، فأقاموا ببلادهم وأرضهم في أيديهم: قال: وقتل عبده صلى الله عليه وسلم الأسود الذي كان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما هو يحط رحله صلى الله عليه وسلم جاءه سهم فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها من خيبر من الغنائم قبل أن تقسم تشتعل عليه نارا انتهى. ولما قرب من المدينة سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليلة، فلما كان قبيل الصبح نزل وعرس وقال: ألا رجلا حافظا لعينه يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام، فقال بلال رضي الله تعالى عنه: أنا يا رسول الله أحفظه عليك، وفي لفظ قال: يا بلال اكلأ لنا

الليل، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقام بلال رضي الله تعالى عنه يصلي ما شاء الله، ثم استند إلى بعير واستقبل الفجر يرمقه، فغلبته عينه فنام، فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم حتى ضربتهم الشمس، وكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما صنعت يا بلال قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قال: صدقت، أي وتبسم صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم التفت إلى أبي بكر الصديق وقال له: إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي، فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا، فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم الصديق، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أشهد أنك رسول الله. ثم سار صلى الله عليه وسلم بالناس يقود بعيره غير كثير، ثم أناخ، فتوضأ وتوضأ الناس وأمر بلالا فأقام الصلاة. وفي رواية: فاقتادوا رواحلهم. وفي رواية: فاستيقظ القوم وقد فزعوا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي وقال: هذا واد به شيطان، فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي، الحديث. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله تعالى يقول وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: الآية 14] . وفي رواية: إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء ردها إلينا في حين غير هذا، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها، ثم فزع إليها فليصلها في وقتها. أي وقيل إن ذلك كان في مرجعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وقيل في مرجعه من حنين، وقيل في مرجعه من تبوك. قال في الإمتاع: وهذا لا يصح لأن الآثار الصحاح على خلافه، أي دالة على أن ذلك كان في رجوعه صلى الله عليه وسلم من وادي القرى. وقد يقال: لا مانع من التعدد، ويدل للقول بأن ذلك كان في مرجعه من الحديبية ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية» وفي رواية «لما انصرفنا من غزوة الحديبية قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يحرسنا الليلة؟ فقلت: أنا يا رسول الله، قال: إنك تنام، ثم أعاد: من يحرسنا الليلة؟ فقلت: أنا حتى أعاد ذلك مرارا وأنا أقول أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت، قال: فحرستهم حتى إذا كان وجه الصبح أدركني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تنام فنمت، فما أيقظنا إلا حر الشمس في ظهورنا» وسيأتي في تبوك عن الحافظ ابن حجر اختلاف العلماء في التعدد. وكان بين الحديبية وعمرة القضاء، إسلام خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة الحجبي رضي الله تعالى عنهم. وقيل كان بعد عمرة القضاء، ويشهد له ما جاء عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أنه قال: لما أراد الله عز وجل ما أراد بي من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضر لي رشدي، وقلت قد

شهدت هذه المواطن كلها على محمد صلى الله عليه وسلم، فليس موطن أشهده إلا انصرف، وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء وأن محمدا صلى الله عليه وسلم يظهر، فلما جاء صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء تغيبت ولم أشهد دخوله، فكان أخي الوليد بن الوليد دخل معه صلى الله عليه وسلم فطلبني فلم يجدني، فكتب إليّ كتابا، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد- فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وقلة عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد، قد سألني عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين خالد، فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مثله يجهل الإسلام، ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيرا له، ولقد مناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتك مواطن صالحة، فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرتني مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت في المنام كأني في بلاد ضيقة جدبة فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة، فلما اجتمعنا للخروج إلى المدينة لقيت صفوان، فقلت: يا أبا وهب، أما ترى أن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر على العرب والعجم، فلو قدمنا عليه فاتبعناه فإن شرفه شرف لنا، قال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا، قلت: هذا رجل قتل أبوه وأخوه ببدر، فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان، فقال مثل الذي قال صفوان، قلت: فاكتم ذكر ما قلت لك، قال: لا أذكره. ثم لقيت عثمان بن طلحة: أي الحجبي، قلت: هذا لي صديق، فأردت أن أذكر له ثم ذكرت من قتل من آبائه: أي قتل أبيه طلحة وعمه عثمان، أي وقتل إخوته الأربع مسافع والجلاس والحارث وكلاب كلهم قتلوا يوم أحد كما تقدم فكرهت أن أذكر له، ثم قلت: وما عليّ: فقلت له: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج، ثم قلت له: ما قلته لصفوان وعكرمة، فأسرع الإجابة، فواعدني إن سبقني أقام في محل كذا، وإن سبقته إليه انتظرته، فلم يطلع الفجر حتى التقينا فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة: اسم محل، فنجد عمرو بن العاص بها، فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا وبك، أين مسيركم؟ قلنا: الدخول في الإسلام، قال: وذلك الذي أقدمني. وفي لفظ قال عمرو لخالد: يا أبا سليمان أين تريد؟ قال: والله لقد استقام الميسم: أي تبين الطريق وظهر الأمر، وإن هذا الرجل لنبي فأذهب فأسلم، فحتى متى؟ قال عمرو: وأنا ما جئت إلا لأسلم، فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة الشريفة، فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسّر بنا، أي وقال رمتكم مكة بأفلاذ كبدها، فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله فلقيني أخي، فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سرّ بقدومكم وهو ينتظركم فأسرعنا المشي، فاطلعت عليه فما زال صلى الله عليه وسلم يتبسم إليّ حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد على السلام بوجه طلق، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلا

عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية

رجوت أن لا يسلمك إلا خير. قلت: يا رسول الله ادع الله لي أن يغفر لي تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يجب ما كان قبله» أي وتقدم عثمان وعمرو فأسلما. وفي رواية عن عمرو بن العاص قال: قدمنا المدينة فأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ثم نودي بالعصر، فانطلقنا حتى اطلعنا عليه صلى الله عليه وسلم وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا؛ تقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فو الله ما هو إلا أن جلست بين يديه صلى الله عليه وسلم، فما استطعت أن أرفع طرفي حياء منه صلى الله عليه وسلم، قال: فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يحضرني ما تأخر، فقال: «إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها» فو الله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من الصحابة في أمر حربه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر رضي الله تعالى عنه بتلك الحالة، وكان عمر رضي الله تعالى عنه على خالد كالعاتب، وتقدم أن عمرا رضي الله تعالى عنه أسلم على يد النجاشي رضي الله تعالى عنه. قال بعضهم: وفي إسلام عمرو على يد النجاشي لطيفة وهي صحابي أسلم على يد تابعي. ولا يعرف مثله. ومن حين أسلم خالد رضي الله تعالى عنه لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه أعنة الخيل فيكون في مقدمها. والله أعلم. عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية أي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا عليها، أي صالحهم عليها، ومن ثم قيل لها عمرة الصلح، ويقال لها عمرة القصاص. قال السهيلي رحمه الله: وهذا الاسم أولى بها، لقوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: الآية 194] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فتحصل من أسمائها أربعة: القضاء، والقضية، والصلح، والقصاص: أي لأنها كانت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة، أي وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن البيت منها سنة ست، وليست قضاء عن العمرة التي صدّ عن البيت فيها. فإنها لم تكن فسدت بصدهم له عن البيت، بل كانت عمرة تامة معدودة في عمره صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وهي أربعة: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرّانة لما قسم غنائم حنين، والعمرة التي قرنها مع حجه في حجة الوداع بناء على ما هو الراجح من أنه كان قارنا، ولكنها في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجه. وقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجا من مكة إلى الحلّ في تلك المدة أصلا، ولم يفعل هذا على عهده صلى الله عليه وسلم إلا عائشة رضي الله

تعالى عنها كما سيأتي في حجة الوداع. وكون العمرة لا تفسد بالصدّ إنما هو على ما يراه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه. أما على من يرى أن العمرة تفسد بالصدّ عنها، وأنه يجب قضاؤها كما هو المنقول عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، فواضح أنها قضاء، وهذه العمرة ليست من الغزوات، وإنما ذكرها البخاري فيها، لأنه صلى الله عليه وسلم خرج مستعدا بالسلاح للمقاتلة خشية أن يقع من قريش غدر، وليس من لازم الغزو وقوع المقاتلة، ومن ثم قيل لها غزوة الأمن. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدا مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية، أي من أنه يدخل مكة في العام القابل معه سلاح المسافر ولا يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام. وفي أنس الجليل ما يفيد أن اشتراط الثلاثة أيام كان في عمرة القضاء، ففيه: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا عمرة القضاء، فأبى أهل مكة أن يدعوه صلى الله عليه وسلم يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم ثلاثة أيام، وأن لا يخرج من أهلها أحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا أن يقيم بها وأصحابه كانوا ألفين، أي وأمر أن لا يتخلف عنه أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف أحد إلا من استشهد في خيبر ومن مات، وخرج معه جمع ممن لم يشهد الحديبية، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري وقيل غيره، وساق ستين بدنة وقلدها: أي جعل في عنق كل بعير قطعة من جلد أو نعلا بالية ليعلم أنه هدي فيكف الناس عنه، ولم يذكر هنا الإشعار، أي وجعل عليها ناجية بن جندب. قال: وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والدروع والرماح، وقاد مائة فرس عليها محمد بن مسلمة رضي الله عنه، أي وعلى السلاح يشير بوزن أمير ابن سعد، وأحرم صلى الله عليه وسلم من باب المسجد، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه فقيل: يا رسول الله حملت السلاح وقد شرطوا أن لا ندخلها عليهم بسلاح إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندخل عليهم الحرم بالسلاح ولكن يكون قريبا منا، فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منا، فمضى بالخيل محمد بن مسلمة، فلما كان بمر الظهران وجد نفرا من قريش فسألوه، فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله، أي وقد رأوا سلاحا كثيرا، فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح، ففزعت قريش وقالوا: ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا ومدتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه. ثم إن قريشا بعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إليه صلى الله عليه وسلم، فقالوا والله يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد

شرطت عليهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال صلى الله عليه وسلم: إني لا أدخل عليهم بسلاح، فقال مكرز: هو الذي تعرف به البرّ والوفاء، ثم رجع مكرز إلى مكة سريعا وقال: إن محمدا لا يدخل بسلاح وهو على الشرط الذي شرط لكم انتهى. فلما اتصل خروجه لقريش خرج كبراؤهم من مكة حتى لا يروه صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت وهو وأصحابه عداوة وبغضا وحسدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، أي راكبا ناقته القصواء وأصحابه محدقون به، قد توشحوا السيوف يلبون، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون وهي ثنية كداء بالمد، أي وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة قال: اللهم لا تجعل منيتنا بها، يقول ذلك من حين يدخل حتى يخرج منها، أي وجعل صلى الله عليه وسلم في بطن ناجح، موضع قريب من الحرم، وتخلف عنده جمع من المسلمين؛ أي نحو مائتين من أصحابه عليهم أوس بن خولى، وقعد جمع من المشركين بجبل قينقاع ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه وهم يطوفون بالبيت، وقد قالوا: أي كفار قريش: إن المهاجرين أوهنتهم: أي أضعفتهم حمى يثرب. وفي لفظ قالوا: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأ أراهم من نفسه قوة فأمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، أي ليروا المشركين أن لهم قوة: أي فعند ذلك قال المشركين؛ أي قال بعضهم لبعض: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهمتهم، هؤلاء أجلد من كذا، إنهم لينفرون: أي يثبون نفر الظبي: أي الغزال، وإنما لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالرمل في الأشواط كلها رفقا بهم، واضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه وكشف عضده اليمنى ففعلت الصحابة رضي الله تعالى عنهم كذلك، وهذا أوّل رمل واضطباع في الإسلام. وأقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثة أيام، فلما تمت الثلاثة التي هي أمد الصلح جاء حويطب بن عبد العزى ومعه سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنهما- فإنهما أسلما بعد ذلك- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرانه بالخروج هو وأصحابه من مكة، فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا ما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه منها، وكان صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها؛ أي وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهي أخت أم الفضل زوج العباس رضي الله عنهما، وأخت أسماء بنت عميس لأمها زوج حمزة رضي الله تعالى عنه، وكان تزوجه صلى الله عليه وسلم ميمونة قبل أن يحرم بالعمرة، وقيل بعد أن أحلّ منها، وقيل وهو محرم، أي وهو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ورواه الدارقطني من طريق ضعيف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قد بعث إليها جعفرا رضي الله عنه ليخطبها، ولما انتهت إليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم كانت

على بعيرها، فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله، أي ومن ثم قيل إنها التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل جعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وقيل جعلت أمرها لأم الفضل أختها فجعلت أمّ الفضل أمرها للعباس فزوجها العباس وأصدقها عنه صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم، ولا مانع من نكاحه صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فإن من خصائصه صلى الله عليه وسلم حلّ عقد النكاح في الإحرام. أي وفي كلام السهيلي، كان من شيوخنا من يتأول قول ابن عباس: تزوجها محرما: أي في الشهر الحرام وفي البلد الحرام، ولم يرد الإحرام بالحج، أي كما أراد ذلك الشاعر بقوله في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... ورعا لم أر مثله مقتولا أي في شهر حرام، فإنه قتل في أيام التشريق هذا كلام السهيلي. قال ابن كثير رحمه الله: وفيه نظر لأن الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما متضافرة بخلاف ذلك التي منها تزوجها وهو محرم هذا كلامه. وعن ابن المسيب: غلط ابن عباس، أو قال: وهم ابن عباس، ما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو حلال، ومن ثم روى الدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، قال السهيلي: فهذه الرواية عن ابن عباس موافقة لرواية غيره، فقف عليها فإنها غريبة عن ابن عباس. وذكر بعض فقهائنا «أنه صلى الله عليه وسلم وكل أبا رافع رضي الله تعالى عنه في نكاح ميمونة رضي الله تعالى عنها» وفي بعض السير، وعن أبي رافع قال «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال، وأنا الرسول بينهما» رواه البيهقي والترمذي والنسائي، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يا بني بها في مكة فلم يمهلوه يا بني بها، قال: وقد قال لهم «ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، فصنعت لكم طعاما؟ فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا من أرضنا، هذه الثلاثة قد مضت» وفي لفظ «قال لهم: إني قد نكحت فيكم امرأة فما يضركم أن مكثت حتى أدخل بها وأصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا» وفي رواية «جاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم في قبته التي نصبها بالأبطح، وذلك وقت الظهر، وقيل وقت الصبح» ولا مخالفة لجواز مجيئهم له في الوقتين. وعند مجيئهم له صلى الله عليه وسلم كان مع الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب: ناشدتك الله والعقد إلا ما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث، فغضب سعد بن عبادة رضي الله عنه لما رأى من غلظ كلامهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لذلك القائل: كذبت لا أمّ لك، ليست بأرضك ولا أرض آبائك، أي وفي لفظ قال: يا عاضّ بظر أمه أرضك وأرض أمك دونه، ليست بأرضك ولا أرض آبائك، والله لا يبرح منها إلا طائعا راضيا،

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا سعد لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا، وأسكت الفريقين. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا رافع رضي الله تعالى عنه أن ينادي بالرحيل ولا يمسي بها أحد من المسلمين وخلف أبا رافع ليأتي له بميمونة حين يمسي، فخرج بها، ولقيت ميمونة رضي الله تعالى عنها من سفهاء مكة عناء. فعن أبي رافع رضي الله تعالى عنه: لقينا عناء من أهل مكة من سفهاء المشركين من أذى ألسنتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولميمونة، فقلت لهم: ما شئتم، هذه والله الخيل والسلاح ببطن ناجح وأنتم تريدون نقض العهد والمدة، فولوا راجعين منكسين، وأقام صلى الله عليه وسلم بسرف بكسر الراء: وهو محل بين مساجد عائشة وبطن مرو، وهو أقرب إلى مساجد عائشة، وفيه دخل صلى الله عليه وسلم بميمونة: أي تحت شجرة هناك، وكان محل موتها ودفنها، دفنت فيه بعد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرها بأنها لا تموت بمكة، فلما ثقل عليها المرض وهي بمكة قالت: أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني بذلك، فحملوها حتى أتوا بها ذلك الموضع فماتت به ودفنت به، أي وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر من توفي من أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن. وحين دخوله صلى الله عليه وسلم مكة أخذ عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه بغرزه: أي ركابه صلى الله عليه وسلم أي وقيل بزمام الناقة، وهو رضي الله تعالى عنه وعنا وعن المسلمين يقول من أبيات: خلوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكلّ الخير في رسوله قد أنزل الرحمن في تنزيله ... بأن خير القتل في سبيله فاليوم نضربكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله وفي لفظ: نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله وما قيل: نحن قتلناكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... أو يذهل الخليل عن خليله قال عمار بن ياسر يوم صفين: لا يمنع أن يكون ذلك من كلام ابن رواحة رضي الله تعالى عنه وتمثل به عمار رضي الله تعالى عنه. أي وأما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أنا أقاتل على تنزيل القرآن وعليّ يقاتل على تأويله، فقال فيه الدارقطني رحمه الله تفرد به بعض الرافضة.

قال: وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: مه يا بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال: إيها يا بن رواحة: «قل لا إله إلا الله وحده. صدق وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده» فقالها وقالها الناس، أي وفي الإمتاع: وكان ابن رواحة يرتجز في طوافه وهو آخذ بزمام الناقة، فقال عليه الصلاة والسلام: إيها يا بن رواحة «قل: لا إله إلا الله وحده. صدق وعده. ونصر عبده. وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده» فقالها وقالها الناس، وطاف صلى الله عليه وسلم على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت، فلم يزل به حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة، فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله تعالى أبا الحكم: يعني والده أبا جهل، حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول. وقال صفوان بن أمية: الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أذهب أبي ولم يشهد هذا اليوم، حيث يقوم بلال ينهق فوق الكعبة، وسهيل بن عمرو لما سمع ذلك غطى وجهه، وكل هؤلاء أسلموا بعد ذلك رضي الله تعالى عنهم. قال بعضهم: وكون ما ذكر: أي من دخوله صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة وأذان بلال رضي الله تعالى عنه فوق ظهرها كان في عمرة القضاء خلاف المشهور، إذ المشهور أن ذلك كان في يوم الفتح، ويدلّ لذلك ما قيل: لم يدخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وأنه أراد ذلك فأبوا وقالوا لم يكن في شرطك، فأمر بلال فأذن فوق ظهر الكعبة مرة واحدة ولم يعد بعدها، قال الواقدي: في هذا القيل إنه أثبت. أقول: ويؤيد الأول ما جاء «دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي من بعدي» أي لاتخاذهم ذلك سنة، إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وينبغي أن يكون هذا من أعلام النبوة، فإن الناس يحصل لهم من التعب بسبب دخولها سيما زمن الموسم ما لا يعبر عنه من المتاعب والأمور الفظيعة، والله أعلم. ثم سعى صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة، أي وأوقف الهدي عند المروة، وقال «هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر فنحر عندها وحلق» ولم أقف على من حلق رأسه الشريف في هذه العمرة. ثم رأيته في الإمتاع قال: حلقه معتمر بن عبد الله العدوي وفعل كفعله صلى الله عليه وسلم المسلمون، أي ومن لم يجد منهم بدنة رخص له في البقرة، وكان قدم رجل مكة ببقر فاشتراه الناس منه، وأمر صلى الله عليه وسلم من تحلل أن يذهب إلى السلاح ويأتي آخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا.

غزوة مؤتة

ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة تبعته عمارة، أي وقيل اسمها أم أبيها، وقيل أمامة، وقيل أمة الله، قال ابن عبد البر: والمثبت أمامة، وأمها سلمى بنت عميس بنت عمه حمزة رضي الله تعالى عنه تنادي: يا عم يا عم، أي في لفظ: أن أبا رافع خرج بها فتناولها علي كرم الله وجهه؛ فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك، فلما وصلوا المدينة اختصم فيها عليّ وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم، فقال زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه: أنا أحق بها، لأنها بنت أخي أي وأنا وصيه، لأنه صلى الله عليه وسلم آخى بين حمزة وزيد، أي وجعل حمزة رضي الله تعالى عنه وصيه. وقال علي كرم الله وجهه: أنا أحق بها لأنها ابنة عمي وجئت بها من مكة. وقال جعفر رضي الله تعالى عنه: أنا أحق بها لأنها بنت عمي وخالتها تحتي، أي وهي أسماء بنت عميس فقضى بها صلى الله عليه وسلم لجعفر رضي الله تعالى عنه، وقال «الخالة بمنزلة الأم» هذا. وفي الإمتاع «وكلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمارة بنت حمزة رضي الله تعالى عنهما، وكانت مع أمها سلمى بنت عميس بمكة، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمة بين أظهر المشركين؟ وإنه لما قضى بها لجعفر رضي الله تعالى عنه حجل جعفر حول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا جعفر؟ فقال: يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله، وفيه أنه فعل مثل ذلك بخيبر. وما بالعهد من قدم إلا أن يقال يجوز أن يكون في خيبر فعل ذلك ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» وفيه تقديم الخالة في الحضانة على العمة، لأن عمتها صفية رضي الله تعالى عنها كانت موجودة، وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه في هذا الموطن «أنت أخي وصاحبي» وفي لفظ «أنت مني وأنا منك» وقال صلى الله عليه وسلم لجعفر رضي الله تعالى عنه «أشبهت خلقي وخلقي» أي وقد تقدم منه صلى الله عليه وسلم ذلك له في خيبر، وقال صلى الله عليه وسلم لزيد رضي الله تعالى عنه «أنت أخي ومولاي» وفي لفظ «أنت مولى الله ومولى رسوله صلى الله عليه وسلم» . غزوة مؤتة بضم الميم وبالهمزة ساكنة ويترك الهمزة: موضع معروف عند الكرك. وفي كلام السهيلي مؤتة مهموز الفاء، وأما الموتة بلا همزة فضرب من الجنون، وفي الحديث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزة، ونفخة، ونفثة» وفسره راوي الحديث فقال: نفثة: السحر، ونفخة: الكبر،

وهمزة: الموتة، هذا كلامه. كانت هذ الغزوة في جمادى الأولى سنة ثمان. وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى هرقل عظيم الروم بالشام، أي فلما نزل مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، أي وهو من أمراء قيصر على الشام، فقال: أين تريد، لعلك من رسل محمد؟ قال نعم، فأوثقه ربطا ثم قدمه فضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، فلما بلغ رسول الله ذلك اشتدّ الأمر عليه، فجهز جمعا من أصحابه وعدّتهم ثلاثة آلاف وبثعهم إلى مقاتلة ملك الروم، وأمر عليهم زيد بن حارثة وقال «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس» . قال: وفي رواية «فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون برجل منهم فليجعلوه عليهم» وقد حضر ذلك المجلس رجل من يهود فقال: يا أبا القاسم إن كنت نبيا يصاب جميع من ذكرت لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من بني إسرائيل كان الواحد منهم إذا استعمل رجلا على القوم وقال إن أصيب فلان لا بد أن يصاب، أي ولو عدّ مائة أصيبوا جميعا، ثم صار يقول لزيد: اعهد فلن ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا، وزيد يقول أشهد أنه نبي، وعقد صلى الله عليه وسلم لواء أبيض ودفعه لزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ويدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله تبارك وتعالى وقاتلوهم. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يأتوا مؤتة فغشيتهم ضبابة فلم يبصروا حتى أصبحوا على مؤتة انتهى. وودعهم الناس وقالوا لهم: صحبكم الله، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين. قال: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف فقال: أي بعد قوله «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة، ولا صغيرا ولا بصيرا فانيا، ولا تقطعوا شجرة، ولا تهدموة بناء» انتهى، وقال لهم المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم غانمين، فمضوا حتى نزلوا من أرض الشام؛ فبلغهم أن هرقل ملك الروم في مائة ألف من الروم وانضم إليه من قبائل العرب أي المنتصرة: أي من بني بكر ولخم وجذام مائة ألف. وفي رواية: كانوا مائتي ألف من الروم وخمسين ألفا من العرب ومعهم من الخيول والسلاح ما ليس مع المسلمين وكان المسلمون ثلاثة آلاف كما مر، فلما بلغهم ذلك أقاموا في ذلك المحل ليلتين ينظرون في أمرهم. هل يبعثون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بعدد عدوهم؟ فإما أن يمدهم برجال، أو يأمرهم بأمر فيمضوا إليه، فشجعهم

عبد الله بن رواحة، وقال لهم: يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة، أي فقال الناس: صدق والله ابن رواحة، فمضوا للقتال. فلقيتهم جموع هرقل ملك الروم من الروم والعرب، فانحاز المسلمون إلى مؤتة. فالتقى الجمعان عندها واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه ومعه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي لواؤه حتى قتل رضي الله تعالى عنه فأخذ الراية جعفر رضي الله تعالى عنه وقاتل على فرس أشقر ثم نزل عنه وعقره، أي وهو أول رجل من المسلمين عقر فرسه، وأول فرس عقر في سبيل الله، عقره خوفا أن يأخذه الكفار فيقاتلوا عليه المسلمين، ومن ثم لم ينكر عليه أحد من الصحابة، وبه استدل من جوّز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به الكفار وتقاتل عليه المسلمين، ثم قاتل رضي الله تعالى عنه فقطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره، فاحتضن الراية فأخذ الراية وقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه، فأخذها عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وتقدم بها وهو على فرسه وجعل يتردد في النزول عن فرسه، ثم نزل وقاتل حتى قتل، أي وحينئذ اختلط المسلمون والمشركون. وأراد بعض المسلمين الانهزام فجعل عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه يقول: يا قوم يقتل الإنسان مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا فأخذ الراية ثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت. فقال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. أي ويقال إن ثابت بن أرقم دفعها إلى خالد رضي الله تعالى عنه وقال: أنت أعلم بالقتال مني. أي فقال له خالد: أنت أحق به مني، ونك ممن شهد بدرا. ثم أخذها خالد رضي الله تعالى ومانع القوم وثبت، ثم انحاز كل من الفريقين عن الآخر من غير هزيمة على أحدهما. قال: وفي رواية قاتلوا المشركين حتى هزموهم. فعند ابن سعد أن خالدا رضي الله تعالى عنه لما أخذ اللواء حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاؤوا وأظهر الله المسلمين. قيل وسبب ذلك أن خالدا رضي الله تعالى عنه لما أصبح جعل مقدمة الجيش ساقة وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة، فظن المشركون مجيء عدد للمسلمين فرعبوا وانهزموا فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم. ويجوز أن يكون ذلك بعد انحياز المسلمين، فلا منافاة بين الروايتين، وكانت مدة القتال سبعة أيام. وروى البخاري عن خالد رضي الله تعالى عنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية انتهى: وأطلع الله تعالى

رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأخبر به أصحابه، أي فإنه لما اطلع على ذلك نادى في الناس: الصلاة جامعة ثم صعد المنبر وعيناه تذرفان. وقال «أيها الناس باب خير باب خير باب خير ثلاثا. أخبركم عن جيشكم هذا الغازي، إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد رضي الله تعالى عنه شهيدا فاستغفروا له. ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفروا له، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمير نفسه ولكنه سيف من سيوف الله فآب بنصره» وفي لفظ «ثم أخذ الراية خالد بن الوليد، نعم عبد الله، وأخو العشيرة، وسيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين من غير إمرة حتى فتح الله عليهم» . قال وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره. فمن يومئذ سمي خالد سيف الله» وفي لفظ «ثم أخذ اللواء سيف من سيوف الله تبارك وتعالى ففتح الله على يديه» . وعن عبد الله بن أبي أوفى قال «اشتكى عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا خالد لم تؤذي رجلا من أهل بدر؟ لو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تدرك عمله، فقال: يا رسول الله إنهم يقعون فيّ فأرد عليهم، فقال: لا تؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار» قال بعضهم: وكون هذا نصرا وفتحا واضح لإحاطة العدو بهم وتكاثرهم عليهم لأنهم كانوا مائتي ألف والصحابة ثلاثة آلاف أي كما تقدم؛ إذا كان مقتضى العادة أن يقتلوا بالكلية. وفي رواية أصاب خالد رضي الله عنه منهم مقتلة عظيمة، وأصاب غنيمة، وهذا لا يخالف ما يأتي أن طائفة منهم فروا إلى المدينة لما عاينوا كثرة جموع الروم فصار أهل المدينة يقولون لهم: أنتم الفرارون إلى آخر ما يأتي. وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنهما، أي زوج جعفر رضي الله عنه قالت «دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أصيب جعفر وأصحابه، فقال ائتيني ببني جعفر فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه أي وبكى حتى نقطت لحيته الشريفة، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال نعم، أصيبوا هذا اليوم، فقمت أصيح واجتمع عليّ النساء: أي وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: يا أسماء لا تقولي هجرا ولا تضربي خدا، وجاء إليه صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله إن النساء عيين وفتنّ، قال: فارجع إليهن فأسكتهن، فذهب ثم رجع، فقال له مثل الأول وقال نهيتهنّ فلم يطعنني، فقال اذهب فأسكتهن، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب، وقال صلى الله عليه وسلم اللهم قد قدم، يعني جعفرا إلى أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من

عبادك في ذريته، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله وقال: لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» انتهى. أي وفي لفظ «دخل صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله عنها وهي تقول: واعماه، فقال صلى الله عليه وسلم على مثل جعفر فلتبك الباكية» وفي لفظ «البواكي» ثم قال صلى الله عليه وسلم «اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم» وفي رواية «فإنهم قد شغلهم ما هم فيه» . وعن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما «أن سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم عمدت إلى شعير فطحنته ونسفته ثم طبخته وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا، قال عبد الله رضي الله عنه: فأكلت من ذلك الطعام، وحبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إخوتي» وفي لفظ «أنا وأخي في بيته ثلاثة أيام، ندور معه صلى الله عليه وسلم كلما صار في بيت إحدى نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا» وهذا الطعام الذي فعل لآل جعفر رضي الله عنهم، قال السهيلي هو أصل في طعام التعزية وتسميه العرب الوضيمة، كما تسمي طعام العرس الوليمة، وطعام القادم من السفر النقيعة، وطعام البناء الوكيرة. قال عبد الله رضي الله عنه: «ودعا لي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فما بعت شيئا ولا اشتريت شيئا إلا بورك لي فيه» . ولما قدم عليه صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بخبر الجيش قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن شئت فأخبرتني، وإن شئت فأخبرتك، قال: فأخبرني يا رسول الله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصف له، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم، أي وحين رأى ذلك صلى الله عليه وسلم، قال قد حمي الوطيس: أي حميت الحرب واشتدت، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل لي جعفر وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة في خيمة من در كل واحد منهم على سرير، فرأيت زيدا وابن رواحة في أعناقهما صدودا: أي اعتراضا، ورأيت جعفر مستقيما ليس في عنقه صدود، فسألت، فقيل لي: إنهما حين غشيهما الموت أعرضا بوجههما، وأما جعفر فإنه لم يفعل» . وعن قتادة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما قتل زيد أخذ الراية جعفر رضي الله عنه، فجاءه الشيطان لعنه الله فحبب إليه الحياة وكرّه إليه الموت ومناه الدنيا ثم مضى حتى استشهد رضي الله عنه. قال وفي رواية «رأيتهم أي فيما يرى النائم» وفي رواية: «لقد رفعوا إليّ أي في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه: أي انحرافا؟ فقلت مم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى» انتهى. أي فإنه كما تقدم صار يستنزل نفسه ويتردد في

النزول بعض التردد. وفي لفظ «دخل عبد الله بن رواحة الجنة معترضا، فقيل: يا رسول الله ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراحة نكل، فعاتب نفسه فتشجع فاستشهد» وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله أبدل جعفرا بيده جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء» . قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وجدنا فيما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة، ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح. وفي لفظ: طعنة ورمية. وفي لفظ آخر: ضربه رومي فقده نصفين، فوجدوا في إحدى شقيه بضعة وثمانين جرحا، وفيما أقبل من بدنه اثنين وسبعين ضربة بسيف وطعنة برمح. أي وقيل أربعا وخمسين ورواية التسعين أثبت. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أتيته وهو مستلق آخر النهار فعرضت عليه الماء، فقال. إني صائم فضعه في ترسي عند رأسي، فإن عشت حتى تغرب الشمس أفطرت، قال: فمات صائما قبل غروب الشمس شهيدا وعمره إحدى وأربعون سنة، وقيل ثلاث وثلاثون سنة، وفيه أنه تقدم أنه كان أسن من عليّ بعشر سنين، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين. ثم رأيت ابن كثير رحمه الله، قال: وعلى ما قيل إنه كان أسن من علي بعشر سنين يقتضي أن عمره يوم قتل تسع وثلاثون سنة، لأن عليا كرم الله وجهه أسلم وهو ابن ثمان سنين على المشهور، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر وعمره إحدى وعشرون سنة، ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة، وكونه رضي الله عنه مات صائما لا يناسب كونه شق نصفين. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء فقال: وعليكم السلام ورحمة الله، فقال الناس: يا رسول الله ما كنت تصنع هذا، قال مر بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلم عليّ» . ولما دنا الجيش من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان ينشدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «هنيئا لك، أبوك يطير مع الملائكة في السماء» وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا «دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة» وفي رواية «يطير مع جبريل وميكائيل، له جناحان عوضه الله تعالى من يديه» وروي «جناحان من ياقوت» أي وذكر السهيلي رحمه الله أن الجناحين عبارة عن صفة ملكية وقوة روحانية أعطيهما جعفر رضي الله عنه يقتدر بهما على الطيران، لا

أنهما جناحان كجناح الطائر كما يسبق للوهم. أي لأن الصورة الآدمية أشرف الصور، أي ولا يضر في ذلك وصفهما بأنهما من ياقوت ولا كونهما مضمخين بالدم، وصار المسلمون يحثون في وجوههم التراب ويقولون لهم يا فرارون، فررتم في سبيل الله، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بل هم الكرارون. وفي لفظ: إنهم قالوا: يا رسول الله نحن الفارون، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنتم العكارون: أي الكرارون، وهو دليل على أنه كان بينهم محاجزة وترك للقتال. وعن بعض الصحابة: لما قتل ابن رواحة رضي الله عنه انهزم المسلمون رضي الله عنهم أسوأ هزيمة ثم تراجعوا، ولقد لقوا من أهل المدينة لما رجعوا شرا، حتى إن الرجل يجيء إلى أهل بيته يدق عليهم بابه، فيأبون يفتحون له ويقولون له: هلا تقدمت مع أصحابك؟ فقتلت، حتى إن نفرا من الصحابة رضي الله عنهم جلسوا في بيوتهم استحياء، كلما خرج واحد منهم صاحوا به، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم رجلا رجلا. ثم يقول: أنتم الكرارون في سبيل الله، ويعنون بالفرار انحيازهم مع خالد رضي الله عنه حين انحاز العدو عنهم؛ وإنما انحاز خالد رضي الله عنه لترتيبه العسكر، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم خالدا رضي الله عنه على ذلك وأثنى عليه. وقتل رجل من المسلمين رجلا من الروم، فأراد أخذ سلبه فمنعه خالد رضي الله عنه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفعه له. وكان عوف بن مالك رضي الله عنه كلم خالدا في دفع ذلك لذلك الرجل قبل أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر خالد بعوف بن مالك أطلق لسانه في خالد رضي الله عنه وقال له: أما ذكرت لك ذلك ونحوه؟، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال لخالد: لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟. وفيه أن القاتل استحق السلب فكيف منعه. وأجيب بأنه يجوز أن يكون دفعه له بعد، وإنما أخر دفعه تعزيزا لعوف رضي الله عنه حين أطلق لسانه في خالد، وانتهك حرمته، وتطييبا لقلب خالد رضي الله عنه للمصلحة في إكرام الأمراء، وهذا السياق لا يدل على أن الجيش كله رضي الله عنهم قيل لهم الفرارون وإنما كان لطائفة من الجيش فروا إلى المدينة لما رأوا من كثرة العدو فليتأمل. وعد هذه غزوة تبعت فيه الأصل، والحق أنها ليست من الغزوات بل من السرايا الآتي ذكرها لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها، والله أعلم.

فتح مكة شرفها الله تعالى

فتح مكة شرفها الله تعالى كان في رمضان سنة ثمان. وكان السبب في ذلك أنه لما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش كان فيه أن: من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وكان قبل ذلك بينهما دماء، أي فحجز الإسلام بينهما لتشاغل الناس به، وهم على ما هم عليه من العداوة، وكانت خزاعة حلفاء عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، أي يناصرونه على عمه نوفل بن عبد مناف. فإن المطلب لما مات وثب نوفل على ساحات وأفنية كانت لعبد المطلب واغتصبه إياها، فاضطرب عبد المطلب لذلك واستنهض قومه، فلم ينهض معه أحد منهم، وقالوا له لا ندخل بينك وبين عمك، وكتب إلى أخواله بني النجار، فجاءه منهم سبعون راكبا فأتوا نوفلا وقالوا له: ورب البينة لتردنّ على ابن أختنا ما أخذت وإلا ملأنا منك السيف، فرده ثم حالف خزاعة بعد أن حالف نوفل بني أخيه عبد شمس، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم بذلك الحلف فإنهم أوقفوه على كتاب عبد المطلب وقرأه عليه أبي بن كعب رضي الله عنه: أي بالحديبية، وهو باسمك اللهم، هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذا قدم عليه سرواتهم وأهل الرأي منهم، غائبهم يقرّ بما قاضى عليه شاهدهم أن بيننا وبينكم عهود الله وميثاقه وما لا ينسى أبدا، اليد واحدة والنصر واحد، ما أشرق ثبير وثبت حرا مكانه، وما بلّ بحر صوفة. وفي الإمتاع أن نسخة كتابهم: باسمك اللهم، هذا ما تحالف عليه عبد المطلب بن هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة، تحالفوا على التناصر والمواساة ما بلّ بحر صوفة، حلفا جامعا غير مفرق، الأشياخ على الأشياخ، والأصاغر على الأصاغر، والشاهد على الغائب، وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد وأوثق عقد لا ينقض ولا ينكث، ما أشرقت شمس على ثبير، وحنّ بفلاة بعير، وما أقام الأخشبان، وعمر بمكة إنسان، حلف أبد لطول أمد، يزيده طلوع الشمس شدّا، وظلام الليل مدا، وأن عبد المطلب وولده ومن معهم ورجال خزاعة متكافئون متظاهرون متعاونون، فعلى عبد المطلب النصرة لهم بمن تابعه على كل طالب، وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده ومن معهم على جميع العرب في شرق أو غرب أو حزن أو سهل، وجعلوا الله على ذلك كفيلا، وكفى بالله جميلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أعرفني بحقكم وأنتم على ما أسلفتم عليه من الحلف. فلما كانت الهدنة، وهي ترك القتال التي وقعت في صلح الحديبية اغتنمها بنو

بكر: أي طائفة منهم يقال لهم بنو نفاثة. أي وفي الإمتاع: وسببها أن شخصا من بني بكر هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار يتغنى به، فسمعه غلام من خزاعة فضربه فشجه، فثار الشرّ بين الحيين مما كان بينهم من العداوة، فطلب بنو نفاثة من أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على خزاعة، فأمدوهم بذلك، فبيتوا خزاعة: أي جاؤوهم ليلا بغتة وهم آمنون على ماء لهم يقال له الوتير، فأصابوا منهم. أي قتلوا منهم عشرين أو ثلاثة وعشرين، وقاتل معهم جمع من قريش مستخفيا، منهم صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى، أي وعكرمة بن أبي جهل وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو رضي الله عنهم، فإنهم أسلموا بعد ذلك، ولا زالوا بهم إلى أن أدخلوهم دار بديل بن ورقاء الخزاعي بمكة، أي ولم يشاوروا في ذلك أبا سفيان. قيل شاوروه فأبى عليهم ذلك، وظنوا أنهم لم يعرفوا، وأن هذا لا يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما ناصرت قريش بني بكر على خزاعة، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق ندموا، وجاء الحارث بن هاشم إلى أبي سفيان وأخبره بما فعل القوم، فقال: هذا أمر لم أشهده ولم أغب عنه، وأنه لشر، والله ليغزونا محمد، ولقد حدثتني هند بنت عتبة يعني زوجته أنها رأت رؤيا كرهتها، رأت دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة فكره القوم ذلك. وعند ذلك خرج عمرو، وقيل عمر بضم العين وصححه الذهبي ابن سالم الخزاعي: أي سيد خزاعة في أربعين راكبا: أي من خزاعة فيهم بديل بن ورقاء الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ودخل المسجد ووقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين الناس وقال من أبيات: يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم، أي ودمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقال: لا ينصرني الله. وفي لفظ: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب: يعني خزاعة مما أنصر به نفسي. وفي رواية: لأمنعهم مما أمنع منه نفسي. زاد في رواية: وأهل بيتي ثم مرّت سحابة في السماء وأرعدت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا السحاب ليستهلّ، أي وفي لفظ: لينصب بنصر بني كعب يعني خزاعة. أي وعن بشر بن عصمة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خزاعة مني وأنا منهم» وقبل قدوم عمرو بن سالم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلامه بذلك

حدّثت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الوقعة قال لها: لقد حدث في خزاعة حدث، قالت: فقلت: يا رسول الله أترى قريشا يجترئون على نقض العهد الذي بينك وبينهم؟ فقال: ينقضون العهد لأمر يريده الله، فقلت: خير، قال خير، وفي لفظ قالت: لخير أو لشر؟ قال لخير. وعن ميمونة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات عندها ليلة، فقام ليتوضأ للصلاة، قالت: فسمعته يقول لبيك لبيك ثلاثا. نصرت نصرت نصرت ثلاثا، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول لبيك لبيك لبيك ثلاثا نصرت نصرت نصرت ثلاثا كأنك تكلم إنسانا، فهل كان معك أحد؟ قال: هذا راجز بني كعب يعني خزاعة يزعم أن قريشا أعانت عليهم بكر بن وائل: أي بطنا منهم وهم بنو نفاثة، قالت ميمونة: فأقمنا ثلاثا، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فسمعت الراجز يقول: يا رب إني ناشد محمدا إلى آخر ما تقدم، انتهى. وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن سالم وأصحابه: فيمن تهمتكم؟ قالوا: بنو بكر، قال: كلها؟ قالوا: لا ولكن بنو نفاثة، قال: هذا بطن من بكر. ولما ندمت قريش على نقضهم العهد أرسلوا أبا سفيان ليشد العقد ويزيد في المدة، فقالوا له: ما لها سواك، اخرج إلى محمد فكلمه في تجديد العهد وزيادة المدة، فخرج أبو سفيان ومولى له على راحلتين فأسرع السير، لأنه يرى أنه أوّل من خرج من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس قبل قدوم أبي سفيان: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة، وهو راجع بسخطه، ثم رجع أولئك الركب من خزاعة، فلما كانوا بعسفان لقوا أبا سفيان، أي ومولى له كلّ على راحلة وقد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد خافوا مما صنعوا، فسألهم: هل ذهبتم إلى المدينة؟ قالوا: لا، وتركوه وذهبوا، فجاء إلى مبركهم بعد أن فارقوه، فأخذ بعرا وفته فوجد فيه النوى، فعلم أنهم ذهبوا إلى المدينة الشريفة. قال: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن سالم وأصحابه: ارجعوا وتفرقوا في الأودية، أي ليخفي مجيئهم للنبي صلى الله عليه وسلم. فرجعوا وتفرقّوا، فذهبت فرقة إلى الساحل، أي وفيهم عمرو بن سالم. وفرقة فيهم بديل بن ورقاء لزمت الطريق، وأن أبا سفيان لقي بديل بن ورقاء بعسفان، فأشفق أبو سفيان أن يكون بديل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فقال للقوم: أخبرونا عن يثرب متى عهدكم بها، فقالوا: لا علم لنا بها، أي وقالوا: إنما كنا في الساحل نصلح بين الناس في قتل. ثم صبر أبو سفيان حتى ذهب أولئك القوم. وفي لفظ قال: من أين أقبلت يا بديل؟ قال: سرت إلى خزاعة في هذا

الساحل، قال: ما أتيت محمدا؟ قال لا، فلما راح بديل إلى مكة. أي توجه إليها، قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فجاء منزلهم ففتت أبعار أباعرهم فوجد فيها النوى، قال أبو سفيان: أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا انتهى. فالما قدم أبو سفيان المدينة دخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، ولما أراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، قال: والله لقد أصابك بعدي شر، فقالت: بل هداني الله تعالى للإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر، واعجبا منك يا أبت وأنت سيد قريش وكبيرها، فقال: أترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد؟ ثم خرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له إني كنت غائبا في صلح الحديبية فامدد العهد وزدنا في المدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك جئت يا أبا سفيان؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان فيكم من حدث؟ قال: معاذ الله، نحن على عهدنا وصلحنا لا نغير ولا نبدّل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن على مدتنا وصلحنا، فأعاد أبو سفيان القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يردّ عليه شيئا هذا. وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمهما الله أن مجيئه لأم حبيبة رضي الله عنها بعد مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ما أنا بفاعل. وفي رواية قال لأبي بكر: جدّد العقد وزدنا في المدة، فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. ثم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكلمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم: أي بها. وفي رواية أنه قال له: ما كان من حلفنا جديدا أخلفه الله، وما كان مقطوعا فلا وصلة الله، فعند ذلك قال له أبو سفيان: جزيت من ذي رحم شرا. وفي لفظ سوآ، ثم جاء إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: إنه ليس في القوم أقرب بي رحما منك فزد في المدة وجدد العقد، فإن صاحبك لا يرده عليك أبدا، فقال عثمان: جواري في جواره صلى الله عليه وسلم، انتهى. ثم جاء فدخل على عليّ بي أبي طالب كرّم الله وجهه وعنده فاطمة وحسن رضي الله عنه غلام يدب بين يديها، فقال: يا عليّ إنك أمسّ القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه، فالتفت إلى فاطمة رضي الله عنها، فقال: يا ابنة محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر، قالت: والله ما يبلغ ببنيّ ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وفي رواية أنه قال لفاطمة: أجيري

بين الناس، فقالت: إنما أنا امرأة، قال: قد أجارت أختك يعني زينب أبا العاص بن الربيع يعني زوجها وأجاز ذلك محمد، قالت: إنما ذاك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فأمري أحد ابنيك، قالت: إنما هما صبيان ليس مثلهما يجير. قال: فكلمي عليا، فقالت: أنت تكلمه، فكلم عليا، فقال: يا أبا سفيان إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتات على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار، وقول فاطمة رضي الله عنها في حق ابنيها إنهما صبيان ليس مثلهما يجير هو الموافق لما عليه أئمتنا من أن شرط من يؤمن أن يكون مكلفا، وأما قولها وإنما أنا امرأة فلا يوافق ما عليه أئمتنا من أن للمرأة والعبد أن يؤّمنا لأن شرط المؤمن عند أئمتنا أن يكون مسلما مكلفا مختارا. وقد أمنت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوجها أبا العاص بن الربيع، وقال صلى الله عليه وسلم «قد أجرنا من أجرت» وقال: «المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم» كما سيأتي في السرايا، وقد تقدم ذلك قريبا عن أبي سفيان. وسيأتي قريبا أن أم هانىء أجارت، وأنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «أجرنا من أجرت يا أم هانىء» لكن سيأتي أن هذا كان تأكيدا للأمان الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لا أمان مبتدأ. ثم إن أبا سفيان أتى أشراف قريش والأنصار وكل يقول جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم جاء إلى علي كرم الله وجهه وقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد انسدت عليّ فانصحني، قال: والله لا أعلم لك شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة، فقم وأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: والله ما أظنه ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني أجرت بين الناس. زاد في رواية: ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد، ولا يردّ جواري، قال: وفي رواية أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إني أجريت بين الناس، أي وقال: لا والله ما أظن أحدا يخفرني ويردّ جواري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة» ؟ وفي لفظ: يا أبا سفيان انتهى. ثم ركب بعيره فانطلق حتى قدم على قريش وقد طالت غيبته واتهمته قريش أنه صبأ واتبع محمدا سرا وكتم إسلامه وقالت له زوجته: إن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجح فأنت الرجل، فلما أخبرها: أي وقد دنا منها وجلس منها مجلس الرجل من امرأته فضربت برجلها في صدره وقالت: قبحت من رسول قوم، فما جئت بخير، فلما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند أساف ونائلة، وذبح عندهما البدن، ومسح رؤوسهما بالدم ليدفع عنه التهمة، فلما رأته قريش قالوا: ما وراءك؟ هل جئت بكتاب من محمد أو عهد؟ قال: لا والله، لقد أبى عليّ، وقد تتبعت أصحابه، فما رأيت قوما لملك أطوع منهم له. وفي رواية قال: جئت محمدا فكلمته، فو الله ما رد عليّ شيئا، ثم جئت إلى ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت عمر بن

الخطاب فوجدته أدنى العدو. أي وفي رواية: أعدى العدوّ، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليّ بشيء صنعته، فو الله لا أدري أيغني عني شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس: أي قال لي لم تلتمس جوار الناس على محمد ولا تجير أنت عليه وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن لا يخفر جواره، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال لا، أي وإنما قال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة، والله لم يزدني، قالوا: رضيت بغير رضا، وجئت بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا، ولعمر الله ما جوارك بجائز، وإن إخفارك: أي إزالة خفارتك عليهم لهين، والله أراد الرجل: يعنون عليا كرم الله وجهه أن يلعب بك. قال: والله ما وجدت غير ذلك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، أي قال لعائشة جهزينا وأخفي أمرك، فدخل أبو بكر رضي الله عنه على ابنته عائشة رضي الله عنها وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي تجعل قمحا سويقا ودقيقا. وفي لفظ: وجد عندها حنطة تنسف وتنقى، فقال: أي بنية أمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه؟ قالت: نعم فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري، وإن ذلك قبل أن يستشير صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في السير إلى مكة كما سيأتي. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتجهيز. أي وفي الإمتاع أن أبا بكر رضي الله عنه لما سأل عائشة رضي الله عنها دخل عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أردت سفرا؟ قال نعم؟ قال: أفأتجهز، قال نعم، قال: فأين تريد يا رسول الله؟ قال: قريشا، وأخف ذلك يا أبا بكر، وأمر صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وطوى عنهم الوجه الذي يريده، وقد قال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله أو ليس بيننا وبينهم مدة؟ قال إنهم غدروا ونقضوا العهد، واطو ما ذكرت لك، وفي رواية أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله أتريد أن تخرج مخرجا، قال: نعم، قال: لعلك تريد بني الأصفر، قال: لا، قال: أفتريد أهل نجد. قال: لا، قال: فلعلك تريد قريشا، قال: نعم، قال: يا رسول الله أليس بينك وبينهم مدة، قال: أو لم يبلغك ما صنعوا ببني كعب: يعني خزاعة، قال: وأرسل صلى الله عليه وسلم إلى أهل البادية ومن حوله من المسلمين في كل ناحية يقول لهم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة، أي وذلك بعد أن تشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في السير إلى مكة، فذكر له أبو بكر رضي الله عنه ما يشير به إلى عدم السير حيث قال له: هم قومك، وحضه عمر رضي الله عنه حيث قال: نعم هم رأس الكفر، زعموا أنك ساحر، وأنك كذاب وذكر له سوء كانوا يقولون، وايم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة، فعند ذلك ذكر صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر كإبراهيم، وكان في الله ألين من اللين، وأن عمر كنوح وكان في الله أشد من الحجر، وأن الأمر

أمر عمر، وتقدم نحو هذا لما استشارهما صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، أي ثم قدمت المدينة من قبائل العرب: أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة. ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، أي وفي رواية قال: اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعون بنا إلا فجأة، وأخذ بالأنقاب: أي الطرق، أي أوقف بكل طريق جماعة ليعرف من يمر بها، أي وقال لهم: لا تدعوا أحدا يمرّ بكم تنكرونه إلا رددتموه. ولما أجمع صلى الله عليه وسلم المسير إلى قريش وعلم بذلك الناس كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش: أي إلى ثلاثة منهم من كبرائهم، وهم: سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بي أبي جهل رضي الله عنهم- فإنهم أسلموا بعد ذلك كما تقدم- كتابا يخبرهم بذلك ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، ويقال أعطاها عشرة دنانير وكساها بردا، أي وقال لها: اخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق، فإن عليه حرسا فسلكت غير الطريق، قال: وتلك المرأة هي سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب بن عبد مناف، وكانت مغنية بمكة، وكانت قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلمت، وطلبت منه الميرة، وشكت الحاجة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان في غنائك ما يغنيك؟ فقالت: إن قريشا منذ قتل منهم من قتل ببدر تركوا الغناء، فوصلها صلى الله عليه وسلم، وأوقر لها بعيرا طعاما، فرجعت إلى قريش وارتدت عن الإسلام، وكان ابن خطل يلقي عليها هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغني به انتهى، فجعلت الكتاب في قرون رأسها: أي ضفائر رأسها خوفا أن يطلع عليها أحد، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والزبير وطلحة والمقداد، أي وقيل عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد، أي ولا مانع أن يكون أرسل الكل، وبعض الرواة اقتصر على بعضهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أدركا امرأة بمحل كذا، قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم، فخذوه منها وخلوا سبيلها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فخرجا حتى أدركاها في ذلك المحل الذي ذكره صلى الله عليه وسلم فقالا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فاستنزلاها وفتشاها والتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي كرم الله وجهه: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ولا كذبنا، ولتخرجن هذا الكتاب، أو لنكشفنك، أو أضرب عنقك، فلما رأت الجد منه قالت أعرض، فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منه. وفي البخاري أخرجته من عقاصها، ولا منافاة، وفيه في محل آخر أخرجته من حجزتها، والحجزة معقد الإزار والسراويل. قال بعضهم: ولا مانع أن يكون في ضفائرها وأنها جعلت الضفائر في حجزتها فدفعته إليه، وسيأتي أنها ممن أباح صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، ثم أسلمت وعفا

عنها. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الكتاب، أي وصورة الكتاب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لينصرنه الله تعالى عليكم، فإنه منجز له ما وعده فيكم، فإن الله تعالى ناصره ووليه. وقيل فيه: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذر، وقيل فيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آذن بالغزو ولا أراه إلا يريدكم، وقد أحببت أن تكون لي يد بكتابي إليكم. أقول: لا مانع أن يكون جميع ما ذكر في الكتاب، بأن يكون فيه: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد آذن، أي أعلم بالغزو وقد نفر: أي عزم على أن ينفر، فإما إليكم وإما إلى غيركم، ولا أراه إلا يريدكم، وهذا كان قبل أن يعلم بسيره إلى مكة، فلما علم ألحق بالكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه، أي يريد التوجه إليكم بجيش إلى آخره. وبعض الرواة اقتصر على ما في بعض الكتاب والله أعلم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال له: أتعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم، فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت. وفي لفظ: ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششت منذ نصحت، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني ليس لي في القوم أهل ولا عشيرة، ولي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. أي وفي لفظ قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا: أي حليفا من قريش. وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الملصق هو الذي لا نسب له ولا دخل في حلف. قال: ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون أموالهم وأهليهم بمكة، ولم يكن لي قرابة، فأحببت أن أتخذ فيهم يدا أحمي بها أهلي، أي وهي أمه. ففي بعض الروايات: كنت غريبا في قريش، وأمي بين أظهرهم، فأردت أن يحفظوني فيها، وما فعلت ذلك كفرا بعد إسلام، وقد علمت أن الله تعالى منزل بهم بأسه لا يغني عنهم كتابي شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله دعني لأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، وفي لفظ قال له: قاتلك الله ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم. وفي رواية: دعني أضرب عنقه، لأنه يعلم أنك يا رسول الله أخذت على الطريق، وأمرت أن لا ندع أحدا يمر ممن تنكره إلا رددناه انتهى. وأقول: مراد سيدنا عمر بقوله قد نافق، أي خالف الأمر، لا أنه أخفى الكفر لقوله صلى الله عليه وسلم: «قد صدقكم» ورأي أن مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم مقتضية للقتل، ولكن رواية البخاري: «إنه قد صدقكم، ولا تقولوا له إلا خيرا» وعليها يشكل قول عمر المذكور ودعاؤه عليه بقوله: قاتلك الله. إلا أن يقال: يجوز أن يكون قول عمر لذلك كان

قبل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر. وعند قول عمر رضي الله عنه: دعني لأضرب عنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وفي رواية «فقد وجبت لكم الجنة» وفي رواية: «لا يدخل النار أحد شهد بدرا» فعند ذلك فاضت عينا عمر رضي الله عنه بالبكاء، أي وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: الآية 1] الآيات. وفي قوله: عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ [الممتحنة: الآية 1] منقبة عظيمة لحاطب رضي الله عنه بأن في ذلك الشهادة له بالإيمان، وقوله: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: الآية 1] أي تبدونها لهم، وذكر بعضهم أن البلتعة في اللغة: التظرف بالظاء المشالة، يقال تبلتع في كلامه: إذا تظرف فيه. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وقيل ابن أم مكتوم وبه جزم الحافظ الدمياطي في سيرته. وخرج لعشر، وقيل لليلتين، وقيل لثنتي عشرة، وقيل ثلاث عشرة، وقيل سبع عشرة، وقيل ثمان عشرة، وهو في مسند الإمام أحمد بسند صحيح. قال ابن القيم: إنه أصح من قول من قال إنه خرج لعشر خلون من رمضان، أي وصدّر به في الإمتاع، وقيل خرج لتسع عشرة مضين من شهر رمضان في سنة ثمان. قال في النور لا أعلم خلافا في الشهر والسنة. وما في البخاري أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمة المدينة، أي فيكون في السنة التاسعة فيه نظر، وكان صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، أي باعتبار من لحقه في الطريق من القبائل كبني أسد وسليم، ولم يتخلف عند أحد من المهاجرين والأنصار، وكان المهاجرون سبعمائة ومعهم ثلاثمائة فرس، وكانت الأنصار أربعة آلاف ومعهم خمسمائة فرس، وكانت مزينة ألفا وفيها مائة فرس، وكانت أسلم أربعمائة ومعها ثلاثون فرسا، وكانت جهينة ثمانمائة ومعها خمسون فرسا، وقيل كان صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا. ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى الأبواء أو قريبا منها لقيه أبو سفيان ابن عمه الحارث وكان الحارث أكبر أولاد عبد المطلب، وكان يكنى به كما تقدم، وكان أبو سفيان أخاه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة على حليمة كما تقدم، ولقيه عبد الله بن أمية بن المغيرة ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب أخو أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها لأبيها، لأن والدة أم سلمة عاتكة بنت جندل الطعان، وكان عند أبيها أمية بن المغيرة زوجتان أيضا كل منهما تسمى عاتكة، فكان عنده أربع عواتك. وكان مجيء الحارث وعبد الله له صلى الله عليه وسلم يريدان الإسلام، وكانا رضي الله تعالى عنهما من أكبر القائمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أشد الناس إذاية له صلى الله عليه وسلم، أي بعد أن كان الحارث قبل النبوة آلف الناس له صلى الله عليه وسلم

لا يفارقه كما تقدم، وقد تقدم بعض ذكر أذيتهما له صلى الله عليه وسلم، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما فكلمته أم سلمة رضي الله عنها فيهما: أي قالت له: لا يكون ابن عمك وابن عمتك أي وصهرك أشقى الناس بك، فقال صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي: يعني أبا سفيان فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري يعني عبد الله أخا أم سلمة فهو الذي قال لي بمكة ما قال: أي قال له: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر إليك، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون لك أن الله أرسلك إلى آخر ما تقدم. فلما خرج الخبر إليهما، قال أبو سفيان ومعه ابن له: والله ليأذننّ لي أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت جوعا وعطشا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه وأسلما وقبل صلى الله عليه وسلم إسلامهما. وقيل إن عليا كرم الله وجهه قال لأبي سفيان: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [يوسف: الآية 91] ، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَثْرِيبَ [يوسف: الآية 92] عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. وكان أبو سفيان رضي الله عنه بعد ذلك لا يرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه لأنه عاداه صلى الله عليه وسلم نحو عشرين سنة يهجوه ولم يتخلف عن قتاله. وكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يحبه ويشهد له بالجنة، ويقول: أرجو أن يكون خلفا من حمزة رضي الله عنهما، أي وقال له صلى الله عليه وسلم يوما: «الصيد كل الصيد في جوف الفرا» وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم: «أنت يا أبا سفيان كما قيل: كل الصيد في جوف الفرا» . وفي سفره صلى الله عليه وسلم صام وصام الناس، حتى إذا كانوا بالكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة الأولى: أي وهو محل بين عسفان وقديد أفطر، أي وقيل أفطر بعسفان، وقيل أفطر بقديد، وقيل أفطر بكراع الغميم. ولا منافاة لتقارب الأمكنة. وقال بعضهم: لا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم كرر الفطر في تلك الأماكن لتتساوى الناس في رؤية ذلك، فأخبر كل منهم عن محل رؤيته. قال: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج ووصل إلى محل يقال له الصلصال قدم أمامه الزبير بن العوام رضي الله عنه في مائتين، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر. أي وفي الإمتاع: لما خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة نادى مناديه: من أحب أن يصوم فليصم، وفي بعض الأيام صب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه الماء ووجهه من شدة العطش، وفي لفظ: من شدة الحر وهو صائم. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ الكديد بلغه أن الناس شق عليهم الصيام، أي وأنهم

ينظرون فيما فعلت، فاستوى صلى الله عليه وسلم على راحلته بعد العصر ودعا بإناء فيه ماء، وقيل لبن فشرب، ثم ناوله لرجل بجنبه فشرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس صام، فقال: أولئك العصاة، أي لأنهم خالفوه أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالفطر ليقووا على مقاتلة العدو، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يفطر حتى انسلخ الشهر انتهى. أي وفي قديد عقد صلى الله عليه وسلم الألوية والرايات، ودفعها للقبائل، ثم سار حتى نزل بمر الظهران: أي وهو الذي يقال له الآن بطن مرو عشاء، أي وقد أعمى الله الأخبار عن قريش إجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم، فلم يعلموا بوصوله إليهم، أي ولم يبلغهم حرف واحد من مسيره إليهم، فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان العباس رضي الله عنه قد خرج قبل ذلك بعياله مسلما، أي مظهرا للإسلام مهاجرا، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وقيل بذي الحليفة، فرجع معه إلى مكة، أي وأرسل أهله وثقله إلى المدينة، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة» قال العباس رضي الله عنه: ورقت نفسي لأهل مكة، أي وقال: يا صباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال العباس رضي الله عنه: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء أي زاد بعضهم التي أهداها له دحية الكلبي، فخرجت عليها حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة يخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة فو الله إني لأسير إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، أي وقد خرجا وحكيم بن حزام: أي بعد أن خرج أبو سفيان وحكيم بن حزام، فلقيا بديلا فاستصحباه وخرجوا يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به؟ أي لأنهم علموا بمسيره صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا إلى أي جهة. وفي سيرة الدمياطي: ولم يبلغ قريشا مسيره إليهم فلا ينافي ما قبله. وهم مغتمون يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب يتجسس الأخبار وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، أي فلما سمعوا صهيل الخيل راعهم ذلك وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، هذه كنيران عرفة، وبديل يقول له: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، وحمشتها بالحاء المهملة والشين المعجمة: أي أحرقتها وقيل بالسين المهملة: أي اشتدت عليها من الحماسة وهي الشدة، وأبو سفيان يقول: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. أي وفي رواية أن القائل هذه خزاعة غير بديل، وأن بديلا هو القائل هؤلاء أكثر من خزاعة وهو المناسب، لأن بديلا من خزاعة. قال العباس رضي الله عنه: فعرفت صوت أبي

سفيان، أي وكان أبو سفيان صديقا للعباس ونديمه، قال العباس، فقلت: يا أبا حنظلة فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ فقلت نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي؟ قلت: والله هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس قد جاءكم بما لا قبل لكم به، أي وفي رواية: قد جاءكم بعشرة آلاف، فقال: واصباح قريش والله فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتيك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، أي ورجع صاحباه، فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا من هذا؟ وإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من هذا؟ وقام إليّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال أبو سفيان عدوّ الله، الحمد لله الذي قد أمكن منك من غير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فركضت البغلة فسبقته فاقتحمته عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر في أثري، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان، أي عدوّ الله قد أمكن الله منه من غير عقد ولا عهد، فدعني لأضرب عنقه، قال: قلت يا رسول الله إني قد أجرته. ولعل العباس وعمر رضي الله عنهما لم يبلغهما قوله صلى الله عليه وسلم إنكم لاقون بعضهم. فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه إن صح. قال العباس رضي الله عنه: ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلما أكد عمر في شأنه، قلت: مهلا يا عمر، فو الله لو كان من رجال بني عدّي بن كعب ما قلت مثل هذا، أي ولكنك قد عرفت أنه من رجال عبد مناف، قال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به» . وفي البخاري أن الحرس ظفروا بأبي سفيان ومن معه وجاؤوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا. وجمع بعضهم بأنه يجوز أن يكون العباس أخذهم من الحرس، أي ويؤيده قول ابن عقبة رحمه الله لما دخل الحرس بأبي سفيان وصاحبيه لقيهم العباس بن عبد المطلب فأجارهم، أي وأتي بأبي سفيان وتأخر صاحباه، قال وفي لفظ: أخذهم نفر من الأنصار بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عيونا فأخذوا بخطم أبعرتهم، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وها هو، فقال أبو سفيان: هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم، فجاؤوا بهم إلى عمر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه كان في تلك الليلة على الحرس كما تقدم، فقالوا: جئناك بنفر من أهل

مكة، فقال عمر وهو يضحك إليهم: والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم، فقالوا: والله أتيناك بأبي سفيان، فقال: احبسوه، فحبسوه حتى أصبح، فغدوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، وفيه ما لا يخفى، فإن الجمع بينه وبين ما قبله بعيد. قال العباس: ولما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «اذهب به يا عباس إلى رحلك» فذهبت به، فلما أصبح غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد أن نودي بالصلاة وثار الناس، ففزع أبو سفيان وقال للعباس يا أبا الفضل ما يريدون؟ قال الصلاة. وفي رواية: ما للناس؟ أأمروا فيّ بشيء؟ قال: لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة ورأى المسلمين يتلقون وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رآهم يركعون إذا ركع ويسجدون إذا سجد، فقال للعباس: يا عباس ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه، فقال له العباس: لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه، فقال: ما رأيت ملكا مثل هذا لا ملك كسرى ولا ملك قيصر ولا ملك بني الأصفر، ثم قال للعباس: كلمه في قومك هل عنده من عفو عنهم؟ فانطلق العباس بأبي سفيان حتى أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي وأمي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عني شيئا بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، أما والله هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا. قال: وفي رواية أن بديلا وحكيم بن حزام لم يرجعا بل جاء بهم العباس، وأن العباس قال: يا رسول الله أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد أجرتهم وهم يدخلون عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدخلهم، فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم، أي عن أهل مكة، ودعاهم إلى الإسلام، فقالوا نشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا أني رسول الله» ، فشهد بذلك بديل وحكيم بن حزام، فقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك، والله إن في النفس من هذا شيئا فأرجئها انتهى: أي أخرها إلى وقت آخر. وفي أسد الغابة أنه صلى الله عليه وسلم، قال ليلة قرب من مكة في غزوة الفتح: إن بمكة أربعة نفر من قريش أربأ بهم عن الشرك وأرغب بهم في الإسلام: عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو، أي وهذا يدل على القول بأن جبيرا أسلم يوم الفتح كمن ذكر معه. وذكر بعضهم أنه أسلم بعد الحديبية وقبل الفتح. فقال العباس رضي الله عنه لأبي سفيان: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فشهد شهادة الحق فأسلم.

وذكر عبد بن حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين عرض الإسلام على أبي سفيان، قال له: كيف أصنع بالعزى، فسمعه عمر رضي الله تعالى عنه من وراء القبة، فقال له: تخرأ عليها، فقال له أبو سفيان: ويحك يا عمر، إنك رجل فاحش، دعني مع ابن عمي فإياه أكلم، وكان في هذا تصديق أمية بن أبي الصلت، فإنه كان يقول: كنت أرى في كتبي أن نبيا يبعث في حرتنا فكنت أظن بل كنت لا أشك أني أنا هو، فلما دارست أهل العلم إذ هو في بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر إلا عتبة بن ربيعة فلما جاوز الأربعين سنة ولم يوح إليه علمت أنه غيره. قال أبو سفيان: فخرجت في ركب أريد اليمن في تجارة فمررت بأمية بن أبي الصلت فقلت له كالمستهزىء به: يا أمية قد خرج النبي الذي قد كنت تنعته، قال إنه حق فاتبعه، قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني من اتباعه إلا الاستحياء من بنيات ثقيف، إني كنت أحدّثهم أني هو يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف، ثم قال لأبي سفيان: كأني بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي حتى يأتي بك إليه فيحكم فيك بما يريد، رواه الطبراني في معجمه. وذكر بعضهم أن أمية هذا كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوان، فمر يوما على بعير عليه امرأة راكبة وهو يرفع رأسه إليها ويرغو، فقال: هذا البعير يقول إن في رحله مسلة تصيب ظهره، فأنزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرحل، فوجدوا المسلة كما قال. وذكر أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله أجئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك وعشيرتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم أظلم وأفجر، قد غدرتم بعقد الحديبية، وتجارتهم على بني كعب يعني خزاعة بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه، فقال بديل: صدقت والله يا رسول الله، فقد غدروا بنا، والله لو أن قريشا خلوا بيننا وبين عدوّنا ما نالوا منا الذي نالوا، فقال حكيم: قد كنت يا رسول الله حقيقا أن تجعل عدتك وكيدك لهوازن، فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن يجمعها لي ربي: فتح مكة، وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن وأخذ أموالهم وذراريهم، وقال له أبو سفيان: يا رسول الله ادع الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها آمنون هم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، من كف يده وأغلق داره فهو آمن، قال العباس: فقلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن. أي فحكيم بن حزام من مسلمة الفتح، وكان عمره ستين سنة، وبقي في

الإسلام مثل ذلك، كان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، وأعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مثل ذلك، فإنه حج في الإسلام، وأوقف بعرفة مائة وصيف في أعناقهم أطواق الفضة منقوش عليها «عتقاء الله عن حكيم بن حزام» وأهدى مائة بدنة قد جللها بالحبرة، وأهدى ألف شاة. وعقد صلى الله عليه وسلم لأبي رويحة الذي آخى صلى الله عليه وسلم بينه وبين بلال لواء، وأمره أن ينادي: من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن، أي وإنما قال ذلك لما قال له أبو سفيان: وما تسع داري، وما يسع المسجد؟ ولما قال له صلى الله عليه وسلم ذلك قال أبو سفيان: هذه واسعة، ثم أمر صلى الله عليه وسلم العباس أن يحبس أبا سفيان وبديلا وحكيم بن حزام أي وعليه إنما خص أبو سفيان بالذكر في بعض الروايات لشرفه قال له: احبسه بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها. قال العباس: ففعلت، فمرت القبائل كلها، كلما مرت قبيلة كبرت ثلاثا عند محاذاته. قال: يا عباس من هذه؟ فأقول سليم، فيقول: ما لي ولسليم، أي فإن أوّل القبائل مرّ سليم، وفيها خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، ثم تمر القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفدت بالفاء والدال المهملة القبائل كلها، ما تمر قبيلة إلا سألني عنها، فإذا قلت له بنو فلان، قال: ما لي ولبني فلان. أي وقد ذكرها بعضهم مرتبة، فقال: أوّل من مر خالد بن الوليد في بني سليم بضم السين. فقال أبو سفيان: يا عباس من هؤلاء؟ قال: هذا خالد بن الوليد، قال: الغلام؟ قال: نعم، قال: ومن معه؟ قال: بنو سليم، قال: ما لي ولبني سليم. ثم مر على أثره الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه في خمسمائة من المهاجرين وفتيان العرب؟ فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال الزبير، قال: ابن أخيك؟ قال: نعم. ثم مرت بنو غفار بكسر الغين المعجمة، ثم أسلم، ثم بنو كعب، ثم مزينة، ثم جهينة ثم كنانة، ثم أشجع. ولما مرت أشجع قال أبو سفيان للعباس: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد، قال العباس: أدخل الله الإسلام قلوبهم، فهذا فضل الله حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء للبسهم الحديد. والعرب تطلق الخضرة على السواد كما تطلق السواد على الخضرة، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد: أي فيها ألفا دارع وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: رويدا حتى يلحق أوّلكم آخركم. قال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فقال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، فقال أبو سفيان: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، فقلت: يا أبا سفيان إنها النبوّة،

فقال: نعم إذن، ثم قلت له: النجاء بالفتح والمد إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة أم معاوية رضي الله تعالى عنهم، فأخذت بشاربه وقالت كلاما: معناه اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه، قبح من طليعة قوم. أي وفي رواية أنها أخذت بلحيته ونادت: يا آل غالب اقتلوا الشيخ الأحمق، هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم؟ فقال لها: ويحك اسكتي وادخلي بيتك. وقال: ويحكم، لا تغرّنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا قبحك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، أي وبهذا استدل على أن مكة فتحت صالحا لا عنوة. وبه قال إمامنا الشافعي رحمه الله. وقال غيره: فتحت عنوة. وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه حكيم بن حزام مع أبي سفيان بعد إسلامهما إلى مكة، وقال: من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن وكانت بأسفل مكة، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وكانت بأعلى مكة، واستثنى صلى الله عليه وسلم جماعة أمر بقتلهم، وهم أحد عشر رجلا، أي وفي الإمتاع: ستة نفر، وأربع نسوة وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة: منهم عبد الله بن أبي سرح، وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، وكان فارس بني عامر، وكان أحد النجباء الكرام من قريش رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، وعبد الله بن خطل وقينتاه، وعكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، والحويرث بن نفيل، ومقبس بن حبابة، وهبار بن الأسود رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وكعب بن زهير رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وهو صاحب بانت سعاد، والحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وهو أخو أبي جهل لأبويه، وزهير بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وسارّة مولاة لبعض بني عبد المطلب رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت بعد ذلك وعاشت إلى خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وتقدم أنها كانت حاملة لكتاب حاطب بن أبي بلتعة، وصفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وزهير بن أبي سلمى: أي وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، ووحشي بن حرب رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك. وفي رواية أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه كان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي على الأنصار.

ولما مر على أبي سفيان وهو واقف بمضيق الوادي، قال أبو سفيان: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فلما حاذاه سعد قال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة: أي الحرب والقتال: اليوم تستحل الحرمة. وفي لفظ: الكعبة، اليوم أذلّ الله قريشا، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: ورأيته مع الزبير رضي الله تعالى عنه، فلما مر بأبي سفيان وحاذاه أبو سفيان ناداه: يا رسول الله أمرت بقتل قومك، فإنه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا، فإنه قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما: يا رسول الله فإنا لا نأمن من سعد أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا سفيان كذب سعد، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشا. أي وفي رواية: اليوم يعظم الله فيه الكعبة، اليوم تكسى فيه الكعبة، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة: أي أرسل عليا كرم الله وجهه أن ينزع اللواء منه ويدفعه لابنه قيس رضي الله تعالى عنهما. وقيل أعطاه للزبير، وقيل لعليّ كرم الله وجهه خشية أن يقع من ابنه قيس ما لا يرضاه صلى الله عليه وسلم، أي لأن قيسا رضي الله تعالى عنه كان من دهاة العرب وأهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والبسالة والشجاعة. من وقف على ما وقع بينه وبين معاوية لما ولاه سيدنا عليّ كرّم الله وجهه بعد قتل عثمان رضي الله تعالى عنه مصر لرأي العجب من وفور عقله، ومع ذلك كان له من الكرم ما لا مزيد عليه. وقفت له رضي الله تعالى عنه عجوز: وقالت له: أشكو إليك قلة الجرذان ببيتي. والجرذان بالذال المعجمة: نوع من الفئران، فقال: ما أحسن هذا السؤال وقال لها: لأكثرنّ الجرذان ببيتك، فملأ بيتها طعاما وأدما. وقيل قالت له: مشت جرذان بيتي على العصيّ، فقال لها: لأدعهن يثبن وثبة الأسود، ثم ملأ بيتها طعاما، ولا مانع من تعدد الواقعة. ومن هذا الوادي ما كتب به بعضهم إلى عبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين أشكو إليك الشرف. فقال له: ما أحسن ما استمنحت، وأعطاه عشرة آلاف درهم، فقيل له في ذلك؟ فقال: يسأل ما لا يقدر عليه، ويعتذر فلا يعذر. ولما أشرف أبوه سعد رضي الله تعالى عنهما على الموت قسم ماله في أولاده، وكان له حمل لم يشعر به، فلما مات سعد وولد له ذلك الحمل كلمه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في أن ينقض ما صنع أبوه من تلك القسمة، فقال: نصيبي للمولود، ولا أغير ما صنع أبي، ولم يكن في وجه قيس رضي الله تعالى عنه شعر، وكان مع ذلك جميلا، وكانت الأنصار رضي الله تعالى عنهم تقول: وددنا أن نشتري لقيس بن سعد لحية بأموالنا. وكان له ديون على الناس كثيرة فلما مرض رضي الله

تعالى عنه استبطأ عواده، فقيل له إنهم مستحيون من أجل دينك، فأمر مناديا ينادي: كل من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو له، فأتاه الناس حتى هدموا درجة كان يصعد عليها إليه. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار لابنه قيس رضي الله تعالى عنهما. قال: وروي أن سعدا أبى أن يسلم اللواء إلا بأمارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه بعمامته. فدفع اللواء لابنه قيس رضي الله تعالى عنهما انتهى. وفي صحيح البخاري أن كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه ومعه الراية ولم ير مثلها، ثم جاءت كتيبة وهي أقل. وفي رواية الحميدي وهي أجلّ الكتائب بالجيم. قال في الأصل: وهي أظهر من رواية أقل، لأنها كانت خاصة المهاجرين، فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والراية مع الزبير رضي الله تعالى عنه. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل مع جملة من قبائل العرب من أسفل مكة، أي وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت. وقال: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، وكان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو رضي الله عنهم، فإنهم أسلموا بعد ذلك قد جمعوا ناسا بالخندمة: وهو جبل بمكة ليقاتلوا، وكان من جملتهم رجل كان يعدّ سلاحا، ويصلح من شأنه، فتقول له زوجته، أي وقد كانت أسلمت سرا لماذا تعدّ ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، فتقول له: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم. وفي تاريخ مكة للأزرقي قال رجل من قريش لامرأته وهي تبري نبالا له، وكانت أسلمت سرا، فقالت له: لم تبري هذا النبل؟ قال: بلغني أن محمدا يريد أن يفتح مكة ويغزوها، فلئن كان لأخدمنك خادما من بعض من أستأسره، فقالت له: والله لكأني بك وقد رجعت تطلب مخبأ أخبئك فيه لو رأيت خيل محمد، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أقبل ذلك الرجل إليها، فقال: ويحك هل من مخبأة، فقالت له: فأين الخادم؟ فقال لها: دعي عنك، وأنشد الأبيات الآتية، هذا كلامه. وسبب ذلك أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه لما لقيهم بالمحل المذكور منعوه الدخول ورموه بالنبل، وقالوا له: لا تدخلها عنوة، فصاح خالد في أصحابه، فقتل من قتل وانهزم من لم يقتل، وكان من جملة من انهزم ذلك الرجل. وفي رواية أنه لما دخل بيته قال لامرأته: أغلقي عليّ بابي، قالت: وأين ما كنت تقول؟ أين الخادم الذي كنت وعدتني، تسخر به؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمه عبارة الأزرقي:

وأنت لو أبصرتنا بالخندمه ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه واستقبلتنا بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا تسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت حولنا وهمهمه لا تنطقي في اللوم أدنى كلمه والغمغة: الصوت الذي لا يفهم. والنهيت بالمثناة تحت وفوق: الزحير. والهمهمة: صوت في الصدر. أي واستمر خالد رضي الله تعالى عنه يدفعهم إلى أن وصل الحزورة إلى باب المسجد أي وصعدت طائفة منهم الجبل فتبعهم المسلمون، فرأى صلى الله عليه وسلم وهو على العقبة بارقة السيوف، فقال: ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ فقيل له: لعل خالدا قوتل وبدىء بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتل من يقاتله، وما كان يا رسول الله ليخالف أمرك، فقتل من المشركين أربعة وعشرون من قريش، وأربعة من هذيل. وفي رواية جعل صلى الله عليه وسلم الزبير رضي الله تعالى عنه على إحدى المجنبتين: أي وهما الكتيبتان، تأخذ أحداهما اليمين والأخرى اليسار والقلب بينهما، وخالدا على الأخرى، وأبا عبيدة على الرجالة. وفي لفظ: على الحسر بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة: أي الذين لا دروع لهم. قال في شرح مسلم: فهم رجالة لا دروع عليهم، وقد أخذوا بطن الوادي، ولعل ذلك كان قبل الدخول إلى مكة، فلا ينافي ما سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير رضي الله تعالى عنه راية، وأمره أن يغرزها بالحجون، لا يبرح حتى يأتيه في ذلك المحل وفي ذلك المحل بني مسجد يقال له مسجد الراية. وقد بوّشت قريش أبواشا: أي جمعوها من قبائل شتى، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله تعالى عنه وقال له. اهتف: أي صح لي بالأنصار، فهتف بهم، فجاؤوا وطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم بيديه إحداهما على الأخرى: احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا: أي ودخلوا من أعلى مكة. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل منهم ما شاء وما أحد يوجه إلينا منهم شيئا. وفي لفظ: فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه: أي لا يقدر أن يدفع عن نفسه، فجاء أبو سفيان رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش: أي لا جماعة لقريش بعد اليوم، لأن الجماعة المجتمعة يعبر عنها بالسواد الأعظم، فيقال السواد الأعظم، ويعبر عنها بالخضرة كما هنا، فالمراد جماعة قريش، وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من أغلق بابه فهو آمن» .

قال: ووجه صلى الله عليه وسلم اللوم على خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. وقال له: لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ قال: هم يا رسول الله بدؤونا بالقتال ورمونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام فأبوا، حتى إذا لم أجد بدا من أن أقاتلهم فظفرنا الله بهم فهربوا من كل وجه. وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار عنده: يا فلان، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ائت خالد بن الوليد وقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن لا تقتل بمكة أحدا، فجاء الأنصاري فقال: يا خالد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن لا تقتل من لقيت من الناس، فاندفع خالد فقتل سبعين رجلا بمكة. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش فقال: يا رسول الله هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم. قال: ولم؟ قال: هذا خالد بن الوليد لا يلقى أحدا من الناس إلا قتله، قال: ادع لي خالدا، فدعاه له، فقال: يا خالد ألم أرسل إليك أن لا تقتل أحدا؟ قال: بل أرسلت إن اقتل من قدرت عليه. قال صلى الله عليه وسلم: ادع لي الأنصاري، فدعاه له، فقال: أما أمرتك أن تأمر خالدا أن لا يقتل أحدا، قال: بلى ولكنك أردت أمرا وأراد الله غيره، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل للأنصاري شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كف عن الطلب، قال: قد فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى الله أمرا، ثم قال: كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أي وهذه المقاتلة التي وقعت لخالد رضي الله تعالى عنه لا تنافي كون مكة فتحت صالحا كما تقدم، أي لأنه صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن» فهو من زيادة الاحتياط لهم في الأمان. وقوله احصدوهم حصدا محمول على من أظهر من الكفار القتال ولم يقع قتال، ومن ثم قتل خالد رضي الله تعالى عنه من قاتل من الكفار، وإرادة علي كرم وجهه قتل الرجلين اللذين أمنتهما أخته أم هانىء كما سيأتي لعله تأول فيهما شيئا أو جرى منهما قتال له وتأمين أم هانىء لهما من تأكيد الأمان الذي وقع للعموم، فلا حجة في كل ما ذكر على أن مكة فتحت عنوة كما قاله الجمهور. وقيل أعلاها فتح صالحا: أي الذي سلكه أبو هريرة والأنصار لعدم وجود المقاتلة فيه، وأسلفها الذي سلكه خالد رضي الله عنه فتح عنوة لوجود المقاتلة فيه كما تقدم.

ودخل صلى الله عليه وسلم مكة وهو راكب على ناقته القصواء: أي مردفا أسامة بن زيد بكرة يوم الجمعة معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، واضعا رأسه الشريف على رحله تواضعا لله تعالى، حين رأى ما رأى من فتح الله تعالى مكة وكثرة المسلمين، ثم قال: «اللهم إن العيش عيش الآخرة» . وقيل دخل صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه المغفر، وقيل وعليه عمامة سوداء حرقانية قد أرخى طرفيها بين كتفيه بغير إحرام، ورايته سوداء ولواؤه أسود. وعن جابر رضي الله تعالى عنه: «كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة أبيض» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «كان لواؤه يوم الفتح أبيض. ورايته سوداء تسمى العقاب» أي وهي التي كانت بخيبر، وتقدم أنها كانت من برد عائشة. وعنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من كداء» بفتح الكاف والمد والتنوين «من أعلى مكة» وهذا هو المعروف خلافا لمن قال إنه دخل من أسفل مكة، وهي ثنية كدى بضم الكاف والقصر والتنوين، وسيأتي أنه عند الخروج خرج صلى الله عليه وسلم من هذه، وبهذا استدل أئمتنا على أنه يستحب دخول مكة من الأولى، والخروج منها من الثانية، أي واغتسل صلى الله عليه وسلم لدخول مكة كما حكاه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم، وبه استدل على استحباب الغسل لداخل مكة ولو حلالا أي وسيأتي ذلك عن أم هانىء رضي الله تعالى عنها، أي وكان شعار المهاجرين «يا بني عبد الرحمن» وشعار الخزرج «يا بني عبد الله» وشعار الأوس «يا بني عبيد الله» أي شعارهم الذي يعرف به بعضهم بعضا في ظلمة الليل، وعند اختلاط الحرب لو وجد. ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأن الناس، قال وذلك بالحجون: موضع ما غرز الزبير رضي الله تعالى عنه رايته صلى الله عليه وسلم عند شعب أبي طالب الذي حصرت فيه بنو هاشم، أي وبنو المطلب قبل الهجرة، بقبة من أدم نصبت له هناك ومعه صلى الله عليه وسلم فيها أم سلمة وميمونة زوجتاه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما. فعن جابر رضي الله تعالى عنه: «لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوت مكة وقف، فحمد الله وأثنى عليه ونظر إلى موضع قبته، وقال: هذا منزلنا يا جابر حيث تقاسمت قريش علينا، قال جابر رضي الله تعالى عنه: فذكرت حديثا كنت سمعته منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالمدينة: «منزلنا إذا فتح الله تعالى علينا مكة في خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» : أي لأنّ قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما تقدم في قصة الصحيفة انتهى، وفيه أنه سيأتي في حجة الوداع أنهم تحالفوا بالمحصب.

ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم، قال يوم النحر وهو بمنى: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» يعني بالمحصب. وعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما. قال: «يا رسول الله أين تنزل غدا؟ أتنزل في دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار؟» وتقدم ما يغني عن إعادته هنا، فكان صلى الله عليه وسلم يأتي المسجد من الحجون لكل صلاة، وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الاثنين. فقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، ووضع الحجر يوم الاثنين، وخرج من مكة: أي مهاجرا يوم الاثنين، أي ودخل المدينة يوم الاثنين، ونزلت عليه سورة المائدة يوم الاثنين. ثم سار صلى الله عليه وسلم وإلى جانبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه يحادثه ويقرأ سورة الفتح حتى جاء البيت وطاف به سبعا على راحلته، أي ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه آخذ بزمامها ليستلم الحجر بمحجن في يده. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء العرب صنم قد شد إبليس أقدامها بالرصاص، فجاء صلى الله عليه وسلم ومعه قضيب، فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه» وفي لفظ «لقفاه» وفي لفظ فما أشار لصنم من ناحية وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع على وجهه من غير أن يمسه بما في يده، يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: الآية 81] حتى مر عليها كلها» . وفي رواية: «فأقبل صلى الله عليه وسلم إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس أخذ بسيته» والسية: ما انعطف من طرف القوس «فأتى صلى الله عليه وسلم في طوافه على صنم إلى جنب البيت: أي من جهة بابه يعبدونه وهو هبل وكان أعظم الأصنام فجعل يطعن بها في عينيه، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: الآية 81] أي فأمر به صلى الله عليه وسلم فكسر، فقال الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه لأبي سفيان: قد كسر هبل، أما إنك قد كنت في يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم، فقال أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: دع هذا عنك يا ابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد صلى الله عليه وسلم غيره لكان غير ما كان، أي وانتهى صلى الله عليه وسلم إلى المقام وهو يؤمئذ لاصق بالكعبة» . قال: وعن علي كرم الله وجهه، قال: «انطلق بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا حتى أتى الكعبة، فقال: اجلس، فجلست إلى جنب الكعبة، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكبي، ثم قال: انهض فنهضت، فلما رأى ضعفي تحته، قال اجلس. فجلست، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا علي اصعد على منكبي، ففعلت» أي وفي رواية: «أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه اصعد على منكبي واهدم الصنم، فقال، يا رسول الله، بل اصعد أنت فإني

أكرمك أن أعلوك، فقال: إنك لا تستطيع حمل ثقل النبوة فاصعد أنت، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فصعد علي كرم الله وجهه على كاهله ثم نهض به» قال علي: فلما نهض بي، فصعدت فوق ظهر الكعبة، وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وخيل لي حين نهض بي أني لو شئت لنلت أفق السماء أي وفي رواية: قيل لعلي كرم الله وجهه: كيف كان حالك، وكيف وجدت نفسك حين كنت على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان من حالي أني لو شئت أن أتناول الثريا لفعلت، وعند صعوده كرم الله وجهه، قال له صلى الله عليه وسلم: ألق صنمهم الأكبر وكان من نحاس، أي وقيل من قوارير أي زجاج. وفي رواية: «لما ألقى الأصنام لم يبق إلا صنم خزاعة موتدا بأوتاد من الحديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عالجه فعالجته وهو يقول: إيه إيه جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: الآية 81] فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه فقذفته فتكسر. أقول: وهذا السياق يدل على أن الصنم غير هبل وأن هبل ليس أكبر أصنامهم، بل هذا أكبر منه ولم أقف على اسمه. ومما يدل على أن الذي كسر هو هبل قول الزبير رضي الله تعالى عنه كما تقدم لأبي سفيان أن هبل الذي كنت تفتخر به يوم أحد قد كسر، قال: دعني ولا توبخني، لو كان مع إله محمد إله آخر لكان الأمر غير ذلك. وفي الكشاف: ألقاها جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من قوارير صفر، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا علي ارم به، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا أسحر من محمد» . وفي خصائص العشرة لصاحب الكشاف زيادة، وهي: ونزلت من فوق الكعبة وانطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم نسعى، وخشينا أن يرانا أحد من قريش هذا كلامه، وهذا يدل على أن ذلك لم يكن يوم فتح مكة فليتأمل. وفي الكشاف أيضا: كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، لكل قوم صنم بحيالهم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «كانت لقبائل العرب أصنام يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت إلى ربه عز وجل، فقال: يا رب إلى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟ فأوحى الله تعالى إلى البيت: إني سأحدث لك نوبة جديدة، فلأملؤك خدودا سجدا يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالبيت» هذا كلامه. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، أي بعد أن أرسل بلالا رضي الله تعالى عنه إلى

عثمان بن أبي طلحة يأتي بمفتاح الكعبة إلى آخر ما سيأتي، وبعد أن محيت منها الصور، أي فإنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر رضي الله تعالى عنه وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، وكان عمر رضي الله تعالى عنه قد ترك صورة إبراهيم، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر ألم آمرك أن لا تترك فيها صورة؟ قاتلهم الله حيث جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) [آل عمران: الآية 67] هذا. وفي كلام سبط ابن الجوزي، قال الواقدي رحمه الله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما أن يقدما إلى البيت، وقال لعمر: لا تدع صورة حتى تمحوها إلا صورة إبراهيم هذا كلامه، فليتأمل. وفي رواية، عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، قال: «دخلت على صلى الله عليه وسلم في الكعبة فرأى صورا، فدعا بدلو من ماء فأتيته به، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمحوها» أي وتلك الصور هي صور الملائكة وصور إبراهيم وإسمعيل في أيديهما الأزلام يستقسمان بها، أي وإسحاق وبقية الأنبياء كما تقدم في بنيان قريش الكعبة وصورة مريم، فقال: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون، قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بالأزلام قط» أي ولا منافاة لأنه يجوز أن يكون عمر رضي الله تعالى عنه ترك مع صورة إبراهيم إسمعيل ومريم وصور الملائكة، ووجد صورة حمامة من عيدان بفتح العين المهملة وكسرها بيده ثم طرحها، ودعا بزعفران فلطخه بتلك التماثيل: أي بموضعها، وصلى بها ركعتين بين اسطوانتين، وفي لفظ: بين العمودين اليمانيين، وفي لفظ: المقدمين، وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع انتهى. أي وفي الترمذي: «دخل صلى الله عليه وسلم البيت وكبر في نواحيه ولم يصل» وفي رواية لمسلم: «دخل صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن أبي طلحة» زاد في رواية «والفضل بن العباس» قال الحافط ابن حجر: وفي رواية شاذة: «فأغلقوا عليهم الباب» وفي لفظ آخر «فأغلقا» أي عثمان وبلال فأجاف: «أي أغلق عليهم عثمان الباب» وجمع بأن عثمان هو المباشر لذلك، لأنه من وظيفته، وبلال رضي الله تعالى عنه كان مساعدا له في الغلق. أي ولما دخلوا كان خالد بن الوليد يدب الناس وهو واقف على باب الكعبة. قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وذهب عني أن أسأله كم صلى؟ وهذا يدل على أن قول بلال رضي الله تعالى عنه إنه صلى الله عليه وسلم صلى أتى بالصلاة المعهودة لا الدعاء كما ادعاه بعضهم. وفي كلام السهيلي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى فيها

ركعتين. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «أخبرني أسامة بن زيد أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين» أي بين الباب والحجر الذي هو الملتزم، وقال: هذه القبلة، فبلال رضي الله تعالى عنه مثبت للصلاة في الكعبة، وأسامة رضي الله تعالى عنه ناف، والمثبت مقدم على النافي، على أنه جاء أن أسامة رضي الله تعالى عنه أخبر أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم في الكعبة. وأجيب بأن أسامة حيث أثبت اعتمد قول بلال، وحيث نفى اعتمد ما عنده، أي وفي مجمع الزوائد للحافظ الهيتمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين، ثم قال: هذه القبلة، ثم دخل صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقام يدعو ولم يصلّ» فالنقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اختلف. وسبب الاختلاف تعدد دخوله صلى الله عليه وسلم، ففي المرة الأولى دخل وصلى، وفي المرة الثانية دخل ولم يصلّ، وهذا السياق يدل على أن ذلك كان يوم الفتح. وفي كلام بعضهم: رواية ابن عباس ورواية بلال رضي الله تعالى صحيحتان، لأنه صلى الله عليه وسلم دخلها يوم النحر فلم يصلّ، ودخلها من الغد فصلى، وذلك في حجة الوداع هذا كلامه فليتأمل. أي ثم إنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى مقام إبراهيم وكان لاصقا بالكعبة فصلى ركعتين، ثم أخره على ما تقدم ودعا صلى الله عليه وسلم بماء فشرب منه وتوضأ. وفي لفظ: «ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فاطلع فيها وقال: لولا أن تغلب بنو عبد المطلب» أي يغلبهم الناس على وظيفتهم وهي النزع من زمزم «لنزعت منها دلوا» أي فإن الناس يقتدون به صلى الله عليه وسلم في ذلك مع أن النزع من وظيفته بني عبد المطلب، وانتزع له العباس رضي الله تعالى عنه دلوا فشرب منه وتوضأ، فابتدر المسلمون يصبون على وجوههم. وفي لفظ لا تسقط قطرة إلا في يد إنسان إن كان قدر ما يشربها شربها وإلا مسح بها جلده، والمشركون يقولون: ما رأينا ولا سمعنا ملكا قط بلغ هذا. ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد أي والناس حوله خرج أبو بكر وجاء بأبيه رضي الله تعالى عنهما يقوده، وقد كان كف بصره، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه؟ وفي لفظ: لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه تكرمة لأبي بكر، فقال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، فأجلسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: أسلم تسلم، فأسلم رضي الله تعالى عنه، وهنأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بإسلام أبيه رضي الله تعالى عنهما، أي وعند ذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي

بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه، يعني أباه أبا قحافة، وذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك كذا في الشفاء، وكان رأس أبي قحافة ولحيته بيضاء كالثغامة، فقال: غيروهما، وجنبوهما السواد. أي وفي رواية: «واجتنبوا السواد» وجاء: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى» وفي رواية: «اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» وجاء: «إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم» وعن أنس رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب بالحناء والكتم» قال ابن عبد البر رحمه الله: والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يخضب، ولم يبلغ من الشيب ما يخضب له. وقد اختصب أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالحناء والكتم. واختضب عمر رضي الله تعالى عنه بالحناء. وجاء: «يا معشر الأنصار حمروا أو صفروا وخالفوا أهل الكتاب» وكان عثمان رضي الله تعالى عنه يصفر. وعن أنس رضي الله تعالى عنه «دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبيض الرأس واللحية، فقال ألست مؤمنا؟ قال بلى، قال: فاختضب» لكن قيل إنه حديث منكر. وجاء «من اختضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة» قيل إنه حديث منكر. وجاء «يكون آخر الزمان رجال من أمتي يغيرون بالسواد لا ينظر الله إليهم يوم القيامة» قيل هو غريب جدا. قال بعضهم: ولعل من خضب بالسواد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كسعد بن أبي وقاص والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم، أي وعقبة بن عامر المدفون بمصر قال بعضهم: ليس بمصر قبر صحابي متفق عليه إلا قبر عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، فإنه كان يخضب بالسواد وهو القائل في ذلك: تسوّد أعلاها وتأبى أصولها ... ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل وكان واليا على مصر من جهة معاوية رضي الله تعالى عنه، فعزله بمسلمة بن مخلد وأمره بالغزو في البحر. وكان عقبة رضي الله تعالى عنه يقول: ما أنصفنا معاوية، عزلنا وغرّبنا لم يبلغهم النهي أو فهموا أن النهي للكراهة. وقد جاء: «أول من جزع من الشيب إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين رآه فى عارضه، فقال عليه الصلاة والسلام: يا رب ما هذه الشوهة التى شوهت بخليلك؟ فأوحى الله إليه: هذا سربال الوقار، ونور الإسلام، وعزتي وجلالي ما ألبسته أحدا من خلقي يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي إلا استحيت منه يوم القيامة، أن أنصب له ميزانا، وأنشر له ديوانا أو أعذبه بالنار، فقال: يا رب زدني، فأصبح رأسه مثل الثغامة البيضاء» وفي المشكاة قال صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بهذا السواد لا يجدون رائحة الجنة» رواه أبو داود والنسائي، أي وفي

الكلام ابن الجوزي رحمه الله: أول من خضب بالسواد فرعون، ومن أهل مكة أي من العرب عبد المطلب بن هاشم. وعن عمر رضي الله تعالى عنه: «اخضبوا بالسواد، فإنه أنكى للعدوّ وأحب للنساء» فليتأمل. وكان لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أخت صغيرة في عنقها طوق من فضة اقتلعه إنسان من عنقها، فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه بيد أخته وقال: أنشدتكم بالله وبالإسلام طوق أختي، فما أجابه أحد، ثم قال الثانية والثالثة، فما أجابه أحد، فقال رضي الله تعالى عنه: يا أختاه احتسبي طوقك، فو الله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل. قال بعضهم: ولم يعش لأبي قحافة رضي الله تعالى عنه ولد ذكر إلا أبو بكر، ولا يعرف له بنت إلا أم فروة التي أنكحها أبو بكر من الأشعث بن قيس، وكانت قبله تحت تميم الداري، وهي هذه المذكورة هنا. وقيل كانت له بنت أخرى تسمى عريبة. وعليه فيحتمل أن تكون هي المذكورة هنا وتقدم إسلام أبي بكر رضي الله تعالى عنهما لما كان المسلمون في دار الأرقم، وأمه بنت عم أبيه. قال بعضهم: لم يكن أحد من الصحابة المهاجرين والأنصار أسلم هو ووالده وجميع أبنائه وبناته غير أبي بكر. وبنوه ثلاثة: عبد الله وهو أكبرهم، مات أول خلافة والده. وعبد الرحمن ومحمد رضي الله تعالى عنهم. ولد محمد في حجة الوداع وهو المقتول بمصر، وبناته ثلاثة أيضا: أسماء، وهي أكبرهن، وهي شقيقة عبد الله وعائشة، وهي شقيقة عبد الرحمن. وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهم وعنهن. مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهي ببطن أمها، وقد أنزل الله تعالى في حقه رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [الأحقاف: الآية 15] الآيات. قال بعضهم: لا يعرف في الصحابة أربعة أسلموا وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد أبو الذي بعده إلا في بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه: أبو قحافة وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن، وابن عبد الرحمن محمد، ويكنى بأبي عتيق. أي وقد قيل: إن قيل: هل تعرفون أربعة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في نسق: أي من الذكور كلّ ابن الذي قبله؟ أجيب بأنهم هؤلاء الأربعة: أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن، وابن عبد الرحمن محمد، وبقولنا من الذكور لا يردّ ما أورد على ذلك أن هذا يصدق على أبي قحافة وابنه أبي بكر وبنته أسماء وابنها عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم، نعم يرد على ذلك حارثة أبو زيد فإنه أسلم على ما ذكره الحافظ المنذري، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه وابنه زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد، وجاء أسامة بولد في حياته صلى الله عليه وسلم، أي ويحتاج إلى إثبات كونه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك المولود إلا أن يقال كان من شأنهم إذا ولد لأحدهم مولود جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم

فيحنكه ويسميه، خصوصا وهذا المولود ابن حب الحب، ولم أقف على اسم هذا المولود، فليراجع في أسماء الصحابة. وحينئذ يقال لأجل عدم ورود من ذكر ليس لنا أربعة ذكور معروفة أسماؤهم، وبعد الوقوف على اسم ذلك المولود يقال لأجل عدم الورود: ليس لنا أربعة ليسوا من الموالي إلا أبو قحافة وابنه أبو بكر وابن أبي بكر عبد الرحمن وابن عبد الرحمن محمد أبو عتيق فليتأمل. لا يقال: هذا موجود في غير بيت الصديق، فقد ذكروا في الصحابة أربعة كذلك: أي ذكور، كل واحد أبو الذي بعده، عرفت أسماؤهم وليس فيهم مولى، وهم إياس بن سلمة بن عمرو بن لال. لأنا نقول: المراد المتفق على صحبتهم، وهؤلاء لم يقع الاتفاق على صحبتهم. ومن الفوائد المستحسنة أنه ليس في الصحابة، قال بعضهم: بل ولا في التابعين من اسمه عبد الرحيم، وثلاثة ذكور أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم على نسق، وهم السائب والد إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، وأبوه عبيد، وجده عبد يزيد. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه، والأنصار تحته. قال بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، فنزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم بما ذكر القوم، فلما قضي الوحي رفع صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: يا معشر الأنصار قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: فما اسمي إذن، أي إن فعلت ذلك كيف اسمي؟ وأوصف بأني عبد الله ورسوله، كلا لا أفعل ذلك إني عبد الله ورسوله، أي ومن كان هذا وصفه لا يفعل ذلك، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم، فأقبلوا إليه صلى الله عليه وسلم يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضنّ: أي البخل بالله وبرسوله: أي لا نسمح أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير بلدتنا، يعنون المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم. وفي رواية أن الأنصار رضي الله تعالى عنهم قالوا فيما بينهم: أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله أرضه وبلده يقيم بهما، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم» . أي وتقدم له صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة نظير ذلك، وهو أن الأنصار قالوا: يا رسول

الله هل عسيت إن نحن نصرناك وأظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم، والهدم والهدم. وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله بن أبي سرح، لأنه كان أسلم قبل الفتح، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أملى عليه سميعا بصيرا كتب عليما حكيما، وإذا أملى عليه حكيما كتب غفورا رحيما، وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال: إن محمدا لا يعلم ما يقول، فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة فارتدّ وهرب إلى مكة. وقيل إنه لما كتب: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) [المؤمنون: الآية 12] إلى قوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: الآية 14] تعجب من تفصيل خلق الإنسان فنطق بقوله: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: الآية 14] قبل إملائه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب ذلك، هكذا أنزلت، فقال عبد الله: إن محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ، فارتد ولحق بمكة، فقال لقريش: إني كنت أصرف محمدا كيف شئت كان يملي عليّ عزيز حكيم. فأقول أو عليم حكيم، فيقول نعم كل صواب، وكل ما أقوله يقول اكتب، هكذا نزلت، فلما كان يوم الفتح وعلم بإهدار النبي صلى الله عليه وسلم دمه لجأ إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة، فقال له: يا أخي استأمن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يضرب عنقي، فغيبه عثمان رضي الله عنه حتى هدأ الناس واطمأنوا، فاستأمن له، ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار عثمان رضي الله عنه يقول: يا رسول الله أمنته والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ثم قال: نعم، فبسط يده فبايعه، فلما خرج عثمان وعبد الله قال صلى الله عليه وسلم لمن حوله: أعرضت عنه مرارا، ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، وقال صلى الله عليه وسلم لعباد بن بشر وكان نذر إن رأى عبد الله قتله، أي وقد أخذ بقائم السيف ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه أن يقتله، فقال له صلى الله عليه وسلم: «انتظرتك أن تفي بنذرك» ، قال: يا رسول الله خفتك، أفلا أومضت إليّ، فقال «إنه ليس لنبي أن يومض» . وفي رواية: «الإيماء خيانة ليس لنبي أن يومي» . وفي رواية: «لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» أي وهذا يدل على أن خائنة الأعين الإيماء بالعيون: أي أن يومي بطرفه خلاف ما يظهره بكلامه وهو اللمز هذا. وقيل إنه أسلم وبايع والنبي صلى الله عليه وسلم بمرّ الظهران، وصار يستحي من مقابلته صلى الله عليه وسلم فقال لعثمان: أما بايعته وأمنته؟ قال بلى، ولكن يذكر جرمه القديم فيستحي منك، قال: «الإسلام يجبّ ما قبله» وأخبره عثمان رضي الله عنه بذلك، ومع ذلك فصار إذا جاء جماعة للنبي صلى الله عليه وسلم يجيء معهم ولا يجيء إليه منفردا. وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل لأنه كان ممن أسلم: أي قدم المدينة قبل فتح مكة وأسلم، وكان اسمه عبد العزى، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ الصدقة، وأرسل معه رجلا من الأنصار يخدمه. وفي لفظ: كان معه مولى

يخدمه، وكان مسلما فنزل منزلا وأمره أن يذبح له تيسا ويصنع له طعاما ونام ثم استيقظ فلم يجده صنع له شيئا وهو نائم فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكان شاعرا يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره، وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يصنعه. وقد قيل إنه ركب فرسه لابسا للحديد، وأخذ بيده قناة وصار يقسم لا يدخلها محمد عنوة، فلما رأى خيل الله دخله الرعب، فانطلق إلى الكعبة فنزل عن فرسه وألقى سلاحه ودخل تحت أستارها فأخذ رجل سلاحه، وركب فرسه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون، وأخبره خبره، فأمر بقتله. وقيل لما طاف صلى الله عليه وسلم بالكعبة قيل هذا ابن خطل معلقا بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه فإن الكعبة لا تعيذ عاصيا، ولا تمنع من إقامة حد واجب» أي فقتله سعد بن حريث وأبو برزة. وقيل قتلة الزبير رضي الله عنه، وقيل سعد بن ذؤيب، وقيل سعد بن زيد. قال في النور: والظاهر اشتراكهم فيه جميعا جمعا بين الأقوال. وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل قينتيه، فقتلت إحداهما واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأخرى فأمنها وأسلمت. والحويرث بن نقيذ، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ويعظم القول في أذيته، وينشد الهجاء، وكان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه حمل فاطمة وأم كلثوم بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة فنخس الحويرث البعير الحامل لهما فرمى به الأرض، قتله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في ذلك اليوم وقد خرج يريد أن يهرب. ومقيس بن ضبابة إنما أمر بقتله، لأنه كان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما طالبا لديه أخيه هشام بن ضبابة رضي الله عنه، قتله رجل من الأنصار في غزوة ذي قرد خطأ يظنه من العدو، ودفع له النبي صلى الله عليه وسلم دية أخيه، ثم إنه عدا على الأنصاري قاتل أخيه فقتله بعد أن أخذ دية أخيه ثم لحق بمكة مرتدا كما تقدم، قتله ابن عمه ثميلة بن عبد الله الليثي، أي بعد أن أخبر ثميلة بأن مقيسا مع جماعة من كبار قريش يشربون الخمر، فذهب إليه فقتله، وذلك بردم بني جمح، وقيل قتل وهو معلق بأستار الكعبة. وأما هبار بن الأسود رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفهاء من قريش حين بعث بها زوجها أبو العاص إلى المدينة، فأهوى إليها هبار ونخس بعيرها.

وفي رواية: ضربها بالرمح فسقطت من على الجمل على صخرة، أي وكانت حاملا فألقت ما في بطنها وأهراقت الدماء، ولم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت كما تقدم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن لقيتم هبارا فأحرقوه» ، ثم قال: «إنما يعذب بالنار رب النار» . إن ظفرتم به فاقطعوا يده ورجله ثم اقتلوه فلم يوجد يوم الفتح ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه. ويذكر أنه لما أسلم وقدم المدينة مهاجرا جعلوا يسبونه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سب من سبك فانتهوا عنه» وهذا السياق يدل على إنه أسلم قبل أن يذهب إلى المدينة. وفي لفظ: ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء هبار رافعا صوته وقال: «يا محمدا أنا جئت مقرا بالإسلام وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» واعتذر إليه أي قال له صلى الله عليه وسلم بعد أن وقف عليه وقال: السلام عليك يا نبي الله لقد هربت منك في البلاد فأدرت اللحوق بالأعجام، ثم ذكرت عائدتك وفضلك في صفحك عمن جهل عليك، وكنا يا نبي الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا بك من الهلكة، فاصفح عن جهلي وعما كان مني فأني مقر بسوء فعلي، معترف بذنبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا هبار عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله» . وقوله مهاجرا، فيه أنه لا هجرة بعد فتح مكة، إلا أن يقال هي مجاز عن مجرد الانتقال عن محل إلى آخر أخذا مما يأتي إن شاء الله في عكرمة. وأما عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتله لأنه كان أشد الناس هو وأبوه أذية للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس على المسلمين، ولما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه فرّ إلى اليمن فاتبعته امرأته بنت عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد أن أسلمت فوجدته في ساحل البحر يريد أن يركب السفينة، وقيل وجدته في السفينة فردته، أي بعد أن قالت له: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس، وأبرّ الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، فقد استأمنت لك، فجاء معها فأسلم وحسن إسلامه أي بعد أن قال: يا محمد هذه يعني زوجتي أخبرتني أنك أمنتني، قال: صدقت إنك آمن، فقال عكرمة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله وطأطأ رأسه من الحياء، فقال له صلى الله عليه وسلم: يا عكرمة ما تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتكه قال: استغفر لي كل عداوة عاديتكها، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها أو منطق تكلم به، أي ولما قدم عليه صلى الله عليه وسلم وثب صلى الله عليه وسلم إليه قائما فرحا به، أي ورمى صلى الله عليه وسلم رداءه وقال: مرحبا بمن جاء مؤمنا مهاجرا، وكان بعد ذلك من فضلاء الصحابة. وفي «بهحة المجالس في أنس الجالس» لابن عبد البر رحمه الله: أنه صلى الله عليه وسلم رأى

في منامه أنه دخل الجنة، ورأى فيها عذقا فأعجبه وقال: لمن هذا؟ فقيل لأبي جهل فشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وقال: لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، فلما جاءه عكرمة بن جهل مسلما فرح به، وأول ذلك العذق لعكرمة. والعكرمة: الأنثى من الحمير واستدل بذلك على تأخر الرؤيا، وأنها تكون لعير من ترى له. قال: وصار عكرمة قبل إسلامه يطلب امرأته أم حكيم يجامعها فتأبى وتقول: أنت كافر وأنا مسلمة، والإسلام حائل بيني وبينك فقال: إن أمرا منعك عني لأمر كبير، أي ولما قتل عكرمة رضي الله عنه في اليرموك في قتال الروم وانقضت عدتها تزوجها خالد بن سعيد، وأراد أن يدخل بها، فجعلت تقول له: لو أخرت الدخول حتى يفض الله هذه الجموع يعني الروم، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أن أصاب في جموعهم، قالت: فدونك، فدخل بها في خيمته، فما أصبح الصبح إلا والروم قد اصطفت، فخرج خالد رضي الله عنه، فقاتل حتى قتل، فشدت أم حكيم عليها ثيابها، وأخذت عمود الخيمة التي دخل بها خالد فيها، فقتلت بها سبعة من الروم، وقال صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم عليه عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه: «يأتيكم عكرمة مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه فإن سبّ الميت يؤذي الحي ولا يلحق الميت» انتهى. أي وفي رواية: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» وفي أخرى: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» وفي أخرى: «اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم» . وجاء أنه شكا إليه صلى الله عليه وسلم قولهم عكرمة بن أبي جهل، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات» وقد كان قبل إسلامه بارز رجلا من المسلمين فقتله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الأنصار: ما أضحكك يا رسول الله وقد فجعنا بصاحبنا؟ فقال: أضحكني أنهما في درجة واحدة في الجنة، ومن ثم قتل عكرمة شهيدا في قتال الروم في وقعة اليرموك كما مر. وسارة رضي الله عنها، فإنها أسلمت، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتلها، لأنها كانت مغنية بمكة، وكانت تغني بهجائه صلى الله عليه وسلم، وهي التي وجد معها كتاب حاطب، وقد استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها وأسلمت كما تقدم. والحارث بن هشام وزهير بن أمية، استجارا بأم هانىء بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه شقيقته ولم تكن أسلمت إذ ذاك فأراد عليّ قتلهما. فعنها رضي الله عنها أنها قالت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إليّ رجلان من أحمائي: أي من أقارب زوجها هبيرة بن أبي وهب مستجيران بي فأجرتهما. وذكر الأزرقي بدل زهير بن أمية عبد الله بن أبي ربيعة، فدخل عليّ أخي علي بن أبي طالب فقال: والله لأقتلنهما، أي وقال: تجيري المشركين، فحلت بينه وبينهما. فخرج فأغلقت عليهما بيتي ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فوجدته

يغتسل من جفنة فيها أثر العجين وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: مرحبا بأم هانىء، وفي الرواية الأولى: فلما اغتسل أخذ ثوبه وتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم أقبل عليّ، فقال: مرحبا وأهلا بأم هانىء، ما جاء بك؟ فأخبرته الحديث، فقال: «أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت فلا نقتلهما» وفي البخاري أيضا «أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل في بيتها ثم صلى الضحى ثمان ركعات» أي ولما ذكر ذلك لابن عباس رضي الله عنهما قال: إني كنت أمر على هذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ [ص: الآية 18] فأقول أيّ صلاة صلاة الإشراق؟ فهذه صلاة الإشراق. وفي لفظ: ما عرفت صلاة الإشراق إلا الساعة، وهذا يدل لما أفتى به والد شيخنا الرملي رحمهما الله تعالى أن صلاة الضحى صلاة الإشراق، خلافا لما في العباب من أنها غيرها. ويحتاج للجمع بين هذه الرواية والتي قبلها على ثبوت صحتهما، وبهذه الواقعة قال المحاملي من أئمتنا في كتابه اللباب الذي هو أصل التنقيح الذي هو أصل التحرير: ومن دخل مكة وأراد أن يصلي الضحى أول يوم اغتسل وصلاها كما فعله عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة. وبه ألغز فقيل: شخص يستحب له الاغتسال لصلاة الضحى في مكان خاص. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها: أي أصليها. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: ما أخبرني أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أم هانىء، وهذا ينازع فيه ما يأتي أن صلاة الضحى مما اختص بوجوبها صلى الله عليه وسلم. وأسلمت أم هانىء ذلك اليوم الذي هو يوم الفتح. أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «هل عندك من طعام نأكله؟ قالت: ليس عندي إلا كسر يابسة وأنا أستحي أن أقدمها إليك، فقال: هلمي بهن، فكسرهن في ماء، وجاءت بملح فقال: هل من أدم، فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل، فقال: هلميه، فصبه على الكسر وأكل منه، ثم حمد الله، ثم قال: نعم الأدم الخل. يا أم هانىء لا يقفر بيت فيه خل» . أي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل أهله الإدام فقالوا: ما عندنا إلا الخل فدعا به، فجعل يأكل به ويقول: «نعم الأدم الخل» وفي الحديث عن جابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: «إن الله يوكل بآكل الخل ملكين يستغفران له حتى يفرغ» وجاء «نعم الأدم الخل، اللهم بارك في الخل، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يقفر بيت فيه خل» . وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «أخذني رسول الله صلى الله عليه وسلم

بيدي ذات يوم إلى بعض حجر نسائه فدخل، ثم أذن لي فدخلت، فقال: هل من غداء؟ فقالوا نعم، فأتي بثلاثة أقرصة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرصا فوضعه بين يديه، وأخذ قرصا فوضعه بين يديّ، ثم أخذ الثالث فكسره، فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يدي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: هل من أدم؟ فقالوا: لا إلا شيء من خل، قال: هاتوه، فنعم الأدم الخل» وفي رواية: «فإن الخل نعم الإدام» قال جابر رضي الله تعالى عنه: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: ما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر. وصفوان بن أمية استأمن له عمير بن وهب، أي قال له: يا نبي الله إن صفوان سيد قومي قد هرب ليقذف نفسه في البحر فأمنه، فإنك أمنت الأحمر والأسود، فقال صلى الله عليه وسلم: أدرك ابن عمك فهو آمن، فقال: أعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطى صلى الله عليه وسلم لعمير عمامته التي دخل بها مكة. أي وفي لفظ: أعطاه برده، أي بعد أن طلب منه العود، فقال: لا أعود معك إلا أن تأتيني بعلامة أعرفها، فقال: امكث مكانك حتى آتيك به. فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فرده: أي بعد أن قال له: اعزب عني لا تكلمني، فقال: أي صفوان، فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبرّ الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، وابن عمك عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك، وأكرم، فرجع معه حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني، قال: صدق فقال: يا رسول الله أمهلني بالخيار شهرين، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت بالخيار أربعة أشهر، أي ثم خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ولما فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمها: أي بالجعرانة رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمق شعبا ملآنا نعما وشاء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعجبك هذا؟ قال: نعم، قال هو لك وما فيه، فقبض صفوان ما في الشعب، وقال: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نبي، فأسلم كما سيأتي. وهند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فإنها أسلمت بعد، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتلها لأنها مثلت بعمه حمزة رضي الله تعالى عنه يوم أحد ولاكت قلبه كما تقدم. وكعب بن زهير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان ممن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووحشي رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه قتل عمه حمزة رضي الله تعالى عنه يوم أحد، وكانت الصحابة أحرص شيء على قتله، ففر إلى الطائف، وقد قدمنا إسلامه استطرادا. قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي يوم الفتح على الصفا يبايع الناس فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء يبايعهم على الإسلام، أي على شهادة أن لا إله إلا

الله وأن محمدا عبده ورسوله، فدخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا. أي وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل فأخذته الرعدة فقال له صلى الله عليه وسلم: «هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا امرأة من قريش كانت تأكل القديد» . أي وكان من جملة من بايعه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما. فعن معاوية رضي الله تعالى عنه لما كان عام الحديبية وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي، فقالت: إياك أن تخالف إياك فيقطع عنك القوت، فأسلمت وأخفيت إسلامي، فقال لي يوما أبو سفيان وكأنه شعر بإسلامي: أخوك خير منك، هو على ديني، فلما كان عام الفتح أظهرت إسلامي، ولقيته صلى الله عليه وسلم فرحت بي وكتبت له: أي بعد أن استشار فيه جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال، استكتبه فإنه أمين، وأردفه النبي صلى الله عليه وسلم يوما خلفه، فقال: ما يليني منك؟ قلت بطني، قال: اللهم املأه حلما وعلما. وعن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: «اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب» زاد في رواية: «ومكن له في البلاد» . وعن بعض الصحابة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمعاوية يقول: اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به ولا تعذبه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوما لمعاوية: «يا معاوية أنت مني وأنا منك لتزاحمني على باب الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تليها» ويذكر أنه كان عنده قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وإزاره ورداؤه وشيء من شعره، فقال عند موته: كفنوني في القميص، وأدرجوني في الرداء، وأزروني بالإزار، واحشوا منخري وشدقي من الشعر، وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين. وقد بشر بمعاوية رضي الله تعالى عنه بعض كهان اليمن. وسبب ذلك أن أمه هند كانت قبل أبيه أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوما من الضيفان، فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة، ثم خرج الفاكه لبعض حاجته، وأقبل رجل كان يغشاه فولج البيت، فلما رأى المرأة التي هي هند ولى هاربا، وأبصره الفاكه وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند فضربها برجله. وقال لها: من هذا الذي كان عندك؟ قالت: ما رأيت رجلا ولا انتبهت حتى أيقظتني، فقال لها: الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها عتبة: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني نبأك، فإن كان الرجل عليك صادقا دسست إليه من يقتله فنقطع

عنك المقالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فحلفت له أنه لكاذب عليها، فقال عتبة للفاكه: يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، وخرجوا معهم بهند ونسوة معها، فلما شارفوا البلاد وقالوا: غدا نرد على الكاهن الفلاني، تنكرت حالة هند وتغير وجهها، فقال لها أبوها: إني أرى ما بك من تنكر الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك، كان هذا قبل أن يشهد الناس مسيرنا، قالت: لا والله يا أبتاه ما ذاك لمكروه عندي، ولكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطىء ويصيب، ولا آمنه أن يسمني ميسما يكون عليّ سبة في العرب، قال: إني سوف أختبره من قبل أن ينظر في أمرك، فصفر بفرس حتى أدلى، ثم أخذ حبة من حنطة فأدخلها في إحليله وأوكأ عليها بسير، فلما وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم، فلما تغدّوا قال له عتبة: إنا قد جئناك في أمر وإني قد خبأت لك خباء أختبرك به، فانظر ما هو؟ قال: سمرة في كمرة، قال: أريد أبين من هذا قال: حبة برّ في إحليل مهر، قال: صدقت انظر في أمر هذه النسوة، فجعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها، ويقول انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها. وقال: انهضي غير وسخاء ولا زانية، ولتلدنّ ملكا يقال له معاوية فوثب إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنثرت يدها من يده وقالت: إليك عني، فو الله لأحرصن على أن يكون من غيرك فتزوجها أبو سفيان، فجاءت منه بمعاوية رضي الله تعالى عنهم، وقد قال له صلى الله عليه وسلم: «يا معاوية إذا ملكت فأحسن» وفي رواية: «إذا ملكت من أمر أمتي شيئا فاتق الله واعدل» . ويؤثر عنه رضي الله تعالى عنه أنه لما حضرته الوفاة قال: اللهم ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي. اللهم أقل عثرتي، واغفر زلتي، وعد بحلمك على من لا يرجو غيرك ولم يثق بأحد سواك، ثم بكى رضي الله تعالى عنه حتى علا نحيبه. كتب إلى عائشة رضي الله تعالى عنها: اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري، فكتبت إليه: من عائشة إلى معاوية، سلام عليك أما بعد، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس والسلام» وكتبت إليه رضي الله تعالى عنها مرة أخرى: أما بعد فاتق الله، فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس، وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا، والسلام. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، متنقبة متنكرة خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهن: بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن أي وذلك إسقاط الأجنة. زاد في لفظ: ولا تلحقن

بأزواجكن غير أولادهم: أي ولا تقعدن مع الرجال في خلاء: أي لا تجتمع امرأة مع رجل في خلوة، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: البهتان أن تلحق بزوجها ولدا ليس منه أي ولا يغني عنه الزنا، كما أن ذلك لا يغني عن الزنا، وقد تحبل ولا يلحقه بأحد، ولا تعصين في معروف. وجاء أن بعض النسوة قالت: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال لا تصحن، أي وفي لفظ: لا تنحن، ولا تخمشن وجها، ولا تنشرن شعرا. وفي لفظ: ولا تحلقن شعرا، ولا تحرقن قرنا، ولا تشققن جيبا ولا تدعين بالويل. وجاء: «هذه النوائح تجعلن يوم القيامة صفين: صفا عن اليمين، وصفا عن اليسار، ينبحن كما ينبح الكلب» وجاء: «تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء، عليها جلباب من لعنة ودرع من جرب، واضعة يدها على رأسها تقول: ويلاه» وجاء «النائحة إذا لم تتب تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» . وجاء: «لا تقبل الملائكة على نائحة» . وجاء: «ليس للنساء في اتباع الجنائز من أجر» . وجاء: «أن هندا قالت له صلى الله عليه وسلم: إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال» أي لأن الرجال كان صلى الله عليه وسلم يبايعهم على الإسلام وعلى الجهاد فقط «وأنها قالت لما قال صلى الله عليه وسلم: ولا تسرقن، والله إني كنت أصيب من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟ فقال أبو سفيان وكان حاضرا: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حلّ عفا الله عنك، أي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت نعم، فاعف عما سلف، عفا الله عنك يا نبي الله، وأنها قالت لما قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تزنين، أو تزني الحرة يا رسول الله؟ ولما قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا» وفي لفظ: «هل تركت لنا ولدا إلا قتلته يوم بدر» وفي لفظ: «أنت قتلت آباءهم يوم بدر وتوصينا بأولادهم» وفي لفظ: «ربيناهم صغارا، وقتلتهم كبارا فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى، وتبسم صلى الله عليه وسلم» وفي لفظ: «فضحك صلى الله عليه وسلم، ولما قال صلى الله عليه وسلم: ولا تأتين ببهتان تفترينه؟ قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح» زاد في لفظ: «وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، ولما قال صلى الله عليه وسلم: ولا تعصينني في معروف، قالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف» وفي لفظ: «أنها أتته منتقبة بالأبطح وقالت: إني امرأة مؤمنة، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، ثم كشفت عن نقابها وقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبا بك» . قال بعضهم: وفي إسلام أبي سفيان قبل هند وإسلامها قبل انقضاء عدتها، أي لأنها أسلمت بعده بليلة واحدة، وإقرارها على نكاحهما حجة للشافعي رضي الله

تعالى عنه. ثم أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم بهدية وهي جديان مشويان مع مولاة لها فاستأذنت، فأذن لها، فدخلت عليه وهو صلى الله عليه وسلم بين نسائه أم سلمة وميمونة ونساء من بني عبد المطلب وقالت له: إن مولاتي تعتذر إليك وتقول: إن غنمها اليوم لقليل الوالدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لكم في غنمكم وأكثر ووالدتها فكثر الله ذلك، تقول تلك المولاة: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتها ما لم نكن نرى قبل. وجاءت إليه وقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل ممسك فهل عليّ من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ فقال لها: لا عليك أن تطعميهم بالمعروف» وفي لفظ: «إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» أي وجاء: «أن بعض النساء قالت: هلم نبايعك يا رسول الله، قال: لا أصافح النساء، وإنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» وفي لفظ: «قولي لألف امرأة كقولي لامرأة واحدة» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: لم يصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة قط، وإنما كان يبايعهن بالكلام. وعن الشعبي «بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وعلى يده ثوب، وقيل إنه غمس يده في إناء وأمرهن فغمسن أيديهن فيه، فكانت هذه البيعة» قال ابن الجوزي: والقول الأول أثبت. وقد ذكر المبايعات له صلى الله عليه وسلم لا في خصوص يوم الفتح على حروف المعجم في كتاب التلقيح، وتقدم عن أم عطية رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام، فقال أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن يبايعكن عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة: الآية 12] ، وقرأ إلى قوله تعالى: فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة: الآية 12] فقلن نعم، فمدّ يده من خارج ومددن أيديهن من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد، ولعل ذلك كان بحائل والفتنة مأمونة. وقال صلى الله عليه وسلم لعمه العباس أين ابنا أخيك؟ يعني أبا لهب عتبة ومعتب؟ لا أراهما، قال العباس رضي الله تعالى عنه: قد تنحيا فيمن تنحى من مشركي قريش، قال ائتني بهما، فركبت إليهما فأتيت بهما، فدعاهما للإسلام فأسلما، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهما ودعا لهما، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بأيديهما وانطلق بهما حتى أتى الملتزم فدعا ساعة، ثم انصرف والسرور يرى في وجهه صلى الله عليه وسلم، فقلت له: سرك الله يا رسول الله، إني أرى السرور في وجهك. قال: إني استوهبت ابني عمي هذين من ربي فوهبهما لي وشهدا معه حنينا والطائف. ولم يخرجا من مكة، ولم يأتيا المدينة، وقلعت عين معتب في حنين. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم

الفتح: «هذا ما وعدني ربي، ثم قرأ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) [النّصر: الآية 1] انتهى وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية رضي الله تعالى عنه بقوله: واستجابت له بنصر وفتح ... بعد ذلك الخضراء والغبراء وتوالت للمصطفى الآية الكب ... رى عليهم والغارة الشعواء فإذا ما تلا كتابا من الله ... تلته كتيبة خضراء أي أجاب دعوته صلى الله عليه وسلم الرفيع والوضيع، وعن الأول كنى بالخضراء التي هي السماء. فقد جاء حديث سنده واه «السماء الدنيا زمردة خضراء، وذكر أنها أشد بياضا من اللبن وخضرتها من صخرة خضراء تحت الأرض» وكنى عن الثاني بالغبراء التي هي الأرض، وإنما كانت غبراء لأن جميع طبقاتها من طين، مع حصول نصر له صلى الله عليه وسلم على أعاديه، وفتح لبلادهم بعد ذلك الضعف الذي كان به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، وقلتهم وكثرة عدوهم مع التصميم على أذيتهم. وتتابعت العلامات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وتوالت له عليهم الإغارة المحيطة بهم من سائر الجوانب. وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه دعا عثمان بن طلحة رضي الله تعالى عنه، فإنه كان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص قبل الفتح وأسلموا كما تقدم، واستمر في المدينة إلى أن جاء معه صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة، وبه يردّ ما روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليّا كرم الله وجهه إلى عثمان بن طلحة لأخذ المفتاح فأبى أن يدفعه له وقال: لو علمت إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه منه، ولوى عليّ كرم الله وجهه يده وأخذ المفتاح منه قهرا وفتح الباب وأنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النّساء: الآية 58] أمره صلى الله عليه وسلم أن يدفع له المفتاح متلطفا به، فجاءه علي كرم الله وجهه بالمفتاح متلطفا به، فقال له: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال علي كرّم الله وجهه: لأن الله أمرنا برده عليك فأسلم. ثم لما دعا صلى الله عليه وسلم عثمان وجاء إليه أخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها، ثم وقف صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم ذكر صلى الله عليه وسلم خطبة بين فيها جملة من الأحكام. منها «أن لا يقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث ليال إلا مع ذي محرم. ولا صلاة بعد العصر ولا بعد الصبح، ولا يصام يوم الأضحى ولا يوم الفطر، ثم قال: يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، والناس من آدم وآدم من تراب. ثم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ

وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: الآية 13] الآية. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون؟» وفي لفظ: «ماذا تقولون؟ ماذا تظنون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خير أخ كريم. وابن أخ كريم، وقد قدرت» أي وفي لفظ: «لما خرج صلى الله عليه وسلم من الكعبة يوم الفتح وضع يده على عضادتي الباب ثم قال: ماذا تقولون؟ ماذا تظنون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، فقال سهيل بن عمرو: نقول خيرا ونظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، فقال: أقول كما قال أخي يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: الآية 92] وفي لفظ «فإني أقول كما قال أخي يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: الآية 92] اذهبوا فأنتم الطلقاء» أي الذين أطلقوا فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق في الأصل، الأسير إذا أطلق؟ فخرجوا فكأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام. قال: وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أرسل بلالا رضي الله تعالى عنه إلى عثمان بن طلحة يأتي بمفتاح الكعبة، فجاء إلى عثمان فأخبره، فقال إنه عند أمي، فرجع بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن المفتاح عند أمه، فبعث إليها رسولا، فقالت: لا واللات والعزى لا أدفعه أبدا، فقال عثمان: يا رسول الله أرسلني أخلصه لك منها، فأرسله، فجاء إليها فطلبه منها، فقالت: لا واللات والعزى لا أوصله إليك أبدا، فقال: يا أمه ادفعيه إليّ فإنه قد جاء أمر غير ما كنا عليه، إن لم تفعلي قتلت أنا وأخي ويأخذه منك غيري، فأدخلته حجرتها وقالت: أي رجل يدخل يده ههنا، أي وقالت له: أنشدك الله أن لا يكون ذهاب مأثرة قومك على يديك، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم ينتظر حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، فبينما هو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الدار، وعمر رضي الله عنه رافعا صوته وهو يقول: يا عثمان اخرج، فقالت: يا بني خذ المفتاح، فإن تأخذه أحب إليّ من أن تأخذه تيم وعدي: أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فأخذه عثمان، فخرج يمشي حتى إذا كان قريبا من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عثر عثمان فسقط منه المفتاح، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المفتاح فحنى عليه وتناوله، أي وفي رواية: فاستقبلته ببشر، واستقبلني ببشر فأخذه مني وفتح الكعبة. وفي رواية أنه قال له: هاك المفتاح بأمانة الله. وفي لفظ: لما أبت أمه أن تعطيه المفتاح، قال: والله لتعطينه أو لأخرجن هذا السيف من منكبي، فلما رأت ذلك أعطته إياه، فجاء به ففتح عثمان له الباب. ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها، وقد أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى إلى بعض هذه القصة بقوله: صرعت قومه حبائل بغي ... مدها المكر منهم والدهاء فأتتهم خيل إلى الحرب تختا ... ل وللخيل في الوغى خيلاء

قصدت منهم القنا فقوافي الطع ... ن منها ما شأنها الايطاء وأثارت بأرض مكة نقعا ... ظن أن الغدو منها عشاء أحجمت عنده الحجون وأكدى ... دون إعطائه القليل كداء ودهت أوجها بها وبيوتا ... ملّ منها الإقواء والإكفاء فدعوا أحلم البرية والعف ... وجواب الحليم والإغضاء ناشدوه القربى التي من قريش ... قطعتها الترات والشحناء فعفا عفو قادر لم ينغص ... هـ عليهم بما مضى إغراء وإذا كان القطع والوصل ... لله تساوى التقريب والإقصاء وسواء عليه فيما أتاه ... من سواه الملام والإطراء ولو إن انتقامه لهوى النف ... س لدامت قطيعة وجفاء قام لله في الأمور فأرضى ... الله عنه تباين ووفاء فعله كله جميل وهل ين ... ضح إلا بما حواه الإناء أي ألقت قومه الذين لم يؤمنوا به بين يديه حبائل بغيهم التي مدها المكر والدهاء حالة كون ذلك منهم، فبسبب مكرهم أتتهم من قبله خيل تتبختر بها راكبوها إلى الحرب والخيل عليها الشجعان كبر وترفع في الحرب، قصدت في أبدانهم الرماح، فبسبب قصدها بهم كانت الطعنات المشبهة بالقوافي في تتابعها حالة كون ذلك الطعن من تلك الرماح، ما عابها الإيطاء: أي لم يعدم وجوده فيها. والإيطاء في القافية: تكريرها متحدة اللفظ والمعنى وهو معيب على الشاعر، لأنه يدل على قصوره. والطعنات المتوالية في محل واحد تدل على قصر ساعد الشجاع. ورفعت تلك الخيل غبارا أظلم الجو حتى ظن أن وقت الغدو من تلك الغبرة وقت العشاء، وذلك بأرض مكة عند فتحها، أمسكت عند ذلك الغبار لكثرته الحجون، وهو كداء بالفتح والمد: أعلى مكة لكثرة ما أعطاه صلى الله عليه وسلم الناس، وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم القليل من الناس كداء بالضم والمد: وهو أسفل مكة، وهذه لغة فيه قليلة، وعند ذلك قلّ غباره، وأهلكت تلك الخيول أوجها من الناس بمكة ممن أباح دمه ومن قاتل، وأهلكت بيوتا كان أهل مكة يرجعون إليها. ملّ من تلك البيوت: خلوّها عن أنس بها والرجوع إليها، وعند ذلك طلبوا منه العفو عما مضى منهم، وجواب الحليم لمن سأله العفو عنه العفو. وإرخاء الجفون من الحياء، وحلفوه بالقربى التي وصلت إليه من بطون قريش، وهم ولد النضر بن كنانة التي قطعتها المقاتلة والتباغض والتحاسد، فبسبب ذلك عفا صلى الله عليه وسلم عفو قادر، لم يكدر ذلك العفو عنهم إغراء سفهائهم به حالة

كون ذلك الإغراء منهم فيما مضى، وإذا كان القطع والوصل لله تساوى عند فاعل ذلك التقريب للأقارب والبعداء والإبعاد للأقارب والبعداء، والذي تقريبه وإبعاده لله لا لغيره يستوي عنده سبه والمبالغة في مدحه إذا أتاه ذلك من غيره، ومن ثم لو كان انتقامه لهوى النفس الأمارة بالسوء لاستمرت قطيعه الرحم ودام إبعاده لها. كيف وقد قام لله في أموره كلها، فبسبب ذلك أرضى الله تباين منه صلى الله عليه وسلم لأعدائه ووفاء لأوليائه، فعله صلى الله عليه وسلم كله جميل. ولا بدع في ذلك، إذ ما يسيل مما في الإناء على ظاهره إلا ما كان في تلك الإناء ممن امتلأ قلبه خيرا كانت أفعاله كلها خيرا ومن امتلأ قلبه شرا كانت أفعاله كلها شرا. ثم جلس صلى الله عليه وسلم في المسجد ومفتاح الكعبة في يده في كمه، فقام إليه علي كرم الله وجهه، فقال: يا رسول الله اجمع لنا. وفي لفظ: اجمع لي الحجابة مع السقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أعطيكم ما تبذلون فيه أموالكم للناس: أي وهو السقاية، لا ما تأخذون فيه من الناس أموالهم، وهي الحجابة لشرفكم وعلو مقامكم. وفي رواية: أن العباس رضي الله عنه تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم أي منهم علي كرم الله وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة فدعى له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء» . وقيل نزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النّساء: الآية 58] في شأن عثمان بن طلحة رضي الله عنه، ودفع المفتاح له: أي لما أخذه عليّ كرم الله وجهه، وقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي: «أكرهت وآذيت» ، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، فقد أنزل الله في شأنك: أي أنزل الله عليه ذلك في جوف الكعبة، وقرأ عليه الآية، ففعل عليّ كرم الله وجهه ذلك. وسياق هذه الرواية يدل على أن عليا كرم الله وجهه أخذ المفتاح على أن لا يرده لعثمان، فلما نزلت الآية أمره صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح لعثمان. والسقاية كما تقدم كانت أحواضا من أدم يوضع فيها الماء العذب لسقاية الحاج، ويطرح فيها التمر والزبيب في بعض الأوقات. وفي كلام الأزرقي: كان لزمزم حوضان: حوض بينها وبين الركن يشرب منه، وحوض من ورائه للوضوء، أي ولعل هذا كان بعد الفتح. والسقاية قام بها العباس رضي الله عنه بعد موت أبيه عبد المطلب، وقام بها بعده ولده عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقد تكلم فيها محمد ابن الحنفية مع ابن عباس، فقال له ابن عباس: ما لك ولها؟ نحن أولى بها في الجاهلية والإسلام، قام بها العباس بعد موت أبيه عبد المطلب، وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس يوم

الفتح، واستمر المفتاح مع عثمان رضي الله عنه إلى أن أشرف على الموت ولم يعقب، دفعه إلى أخيه شيبة، ومن ثم عرفت ذريته بالشيبيين، أي وفي رواية: «دفع صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان وإلى شيبة ابن عمه، وقال: خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم» . أي وكون شيبة ابن عم عثمان هو الموافق لقول الحافظ ابن حجر: الشيبيون نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة. فأبو طلحة له ولدان عثمان وطلحة، أتى عثمان بشيبة، وأتى طلحة بعثمان. وفي كلام ابن الجوزي ما يوافقه، وهو أن عثمان لما هاجر إلى المدينة وأسلم سنة ثمان لم يزل مقيما بالمدينة حتى خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة. أي وقد تقدم «ثم رجع إلى المدينة، ولم يزل مقيما بها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى مكة واستمر مقيما بها حتى مات بها في أول خلافة معاوية رضي الله عنه، فلم يزل عثمان رضي الله عنه يلي فتح البيت إلى أن أشرف على الموت دفع المفتاح إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عمه، فبقيت الحجابة في ولد شيبة، وكان عثمان بن طلحة هذا خياطا وهي صناعة نبي الله إدريس عليه الصلاة والسلام. وفي رواية: «أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا عثمان بن طلحة، وقال له: أرني المفتاح، فأتاه به: فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده، فقال صلى الله عليه وسلم: أرني المفتاح، فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله» ولعل هذا كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة، فيكون طلب العباس رضي الله عنه أن يكون المفتاح له تكرر قبل دخوله الكعبة وبعده. وفي رواية: «أنه قال ائتني بالمفتاح، قال: فأتيته به، فأخذه ثم دفعه إليّ وقال: خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» . وفي لفظ غيره: «أن الله رضي لكم بها في الجاهلية والإسلام، إني لم أدفعها إليكم ولكن الله دفعها إليكم لا ينزعها منكم إلا ظالم» وفي رواية: «لا يظلمكموها إلا كافر» ولا مانع أن يكون ذلك بعد أن دفعه علي كرم الله وجهه له بأمره صلى الله عليه وسلم، وكأنه صلى الله عليه وسلم أحب أن يؤدي الأمانة بيده الشريفة من غير واسطة. وقال له: «يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف، فقال عثمان رضي الله عنه: فلما وليت ناداني، فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ قال رضي الله عنه: فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم لي بمكة قبل الهجرة» . وقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة مع الناس وكنا نفتحها في الجاهلية يوم الاثنين

والخميس، فلما أقبل ليدخلها أغلقت عليه ونلت منه وحلم عليّ. ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت، فقلت: قد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذ، فوقعت كلمته صلى الله عليه وسلم مني موقعا وظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال صلى الله عليه وسلم. قال: فلما قال لي يوم الفتح ذلك، قلت: بلى أشهد أنك رسول الله. وفي رواية: «أنه صلى الله عليه وسلم دخل يومئذ الكعبة ومعه بلال، فأمره أن يؤذن: أي للظهر على ظهر الكعبة وأبو سفيان وعتاب بن أسيد. وفي لفظ: خالد بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد أي أو خالد بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون يسمع هذا العبد فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لا تبعته. أي وفي رواية أنه قال ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، ولا مانع من وجود الأمرين منه، أي وتقدم في عمرة القضاء وقوع مثل ذلك من جماعة لما أذن بلال رضي الله عنه على ظهر الكعبة أيضا، أي وقال غير هؤلاء من كفار قريش لقد أكرم الله فلانا يعني أباه إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة. وفي لفظ: والله، الحدث العظيم أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بيته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: لقد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا، فقال أبو سفيان؟ أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئا، فضحك رسول الله فقالوا نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد معنا فنقول أخبرك. وجاء: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أبي سفيان وهو في المسجد، فلما نظر إليه أبو سفيان قال في نفسه ليت شعري بأيّ شيء غلبني؟ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حتى ضرب يده بين كتفيه، فقال: بالله غلبتك يا أبا سفيان: فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله، وصار بعض قريش يستهزئون ويحكون صوت بطلال غيظا، وكان من جملتهم أبو محذورة رضي الله عنه، وكان من أحسنهم صوتا، فلما رفع صوته بالأذامن مستهزئا سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به فمثل بين يديه وهو يظن أنه مقتول، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته وصدره بيده الشريفة، قال: فامتلأ قلبي والله إيمانا ويقينا، فعلمت أنه رسول الله، فألقى عليه صلى الله عليه وسلم الأذان وعلمه إياه، وأمره أن يؤذن لأهل مكة، وكان سنة ست عشرة سنة وعقبة بعده يتوارثون الأذان بمكة، وتقدم أن أذان أبي محذورة وتعليمه صلى الله عليه وسلم الأذان كان مرجعه من حنين، وتقدم طلب تأمل الجمع بينهما. وفي تاريخ الأزرقي: أن جويرية بنت أبي جهل قالت عند أذان بلال على ظهر

الكعبة: والله لا نحب من قتل الأحبة، ولقد جاء لأبي الذي جاء لمحمد من النبوة فردها، ولم يرد خلاف قومه. وعن الحارث بن هشام قال: «لما أجارتني أم هانىء، وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم جوارها فصار لا أحد يتعرض لي، وكنت أخشى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمر عليّ وأنا جالس، فلم يتعرض لي، وكنت أستحي أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أذكر برؤيته إياي في كل موطن مع المشركين، فلقيته وهو داخل المسجد، فلقيني بالبشر، فوقف حتى جئته فسلمت عليه وشهدت شهادة الحق، فقال: الحمد لله الذي هداك، ما كان مثلك يجهل الإسلام» . وجاءه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح السائب بن عبد الله المخزومي، أي وقيل عبد الله بن السائب بن أبي السائب، وقيل السائب بن عويمر، وقيل قيس بن السائب بن عويمر. قال في الاستيعاب: وهذا أصح ما قيل في ذلك إن شاء الله تعالى، وكان شريكا له صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فقال: فأخذ عثمان وغيره يثنون عليّ، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: لا تعلموني به، كان صاحبي. وفي لفظ: لما أقبلت عليه قال: مرحبا بأخي وشريكي. كان لا يداري، ولا يماري، قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تتقبل منك: أي لتوقف صحتها على الإسلام، وهي الأعمال المتوقفة على النية التي شرطها الإسلام وهي اليوم تتقبل منك، أي لوجود الإسلام. وأرسل سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه ولده عبد الله ليأخذ له أمانا منه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أبي تؤمنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم هو آمن بالله فليظهر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «من لقي سهيل بن عمرو فلا يحد إليه النظر، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهل الإسلام» فخرج ابنه عبد الله إليه فأخبره بقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال سهيل: كان والله برا صغيرا برا كبيرا، فكان سهيل رضي الله تعالى عنه يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على شركه حتى أسلم بالجعرّانة. وذكر أن فضالة بن عمير بن الملوح حدّث نفسه بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح. قال: فلما دنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال يا فضالة، قال فضالة: نعم يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده الشريفة على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة رضي الله تعالى عنه يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إليّ منه. قال: ولما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بعد الظهر مسندا ظهره الشريف إلى الكعبة.

وقيل كان على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس إن الله تعالى قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرة، ولم تحل لأحد كان قبلي، ولم تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة» أي من صبيحة يوم الفتح إلى العصر غضبا على أهلها «ألا قد رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا له: إن الله قد أحلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحلها لكم» . وقد جاء في صحيح مسلم: «لا يحل أن يحمل السلاح بمكة، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله، ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة» وهو ابن الأقرع الهذلي من بني بكر فإنه دخل مكة وهو على شركه فعرفته خزاعة فأحاطوا به، فطعنه منهم خراش بمشقص في بطنه حتى قتله، فلامه صلى الله عليه وسلم وقال «لو كنت قاتلا مسلما بكافر لقتلت خراشا» أي والمشقص ما طال من النصال وعرض. قال ابن هشام: وبلغني أنه أول قتيل وداه النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه تقدم في خيبر أنه ودى قتيلا. وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: «لا نغزي مكة بعد اليوم إلى يوم القيامة» قال العلماء: أي على الكفر: أي لا يقاتلوا على أن يسلموا، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره» . ولما أسلمت هند رضي الله تعالى عنها عمدت إلى صنم كان في بيتها وجعلت تضربه بالقدوم وتقول: كنا منك في غرور. ثم بعث صلى الله عليه وسلم السرايا إلى كسر الأصنام التي حول مكة، أي لأنهم كانوا اتخذوا مع الكعبة أصناما جعلوا لها بيوتا يعظمونها كتعظيم الكعبة، وكانوا يهدون لها كما يهدون للكعبة، ويطوفون بها كما يطوفون بالكعبة، فكان في كل حي صنم، من ذلك كما تقدم: العزى، وسواع، ومناة، وسيأتي الكلام على ذلك في السرايا إن شاء الله تعالى. أي وفي هذا العام الذي هو عام الفتح كانت غزوة أوطاس، وأوطاس: هي هوازن. وحلل صلى الله عليه وسلم المتعة ثم بعد ثلاثة أيام حرمها. ففي صحيح مسلم عن بعض الصحابة «لما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتعة خرجت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة غيطاء» وفي لفظ «مثل البكرة الغطنطية، فعرضنا عليها أنفسنا. فقلنا لها: هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ فقالت: ما تدفعان؟ قلنا بردينا» وفي لفظ: «رداءينا،

فجعلت تنظر فتراني أجمل من صاحبي وترى برد صاحبي أحسن من بردي، فإذا نظرت إليّ أعجبتها، وإذا نظرت إلى برد صاحبي أعجبها، فقالت: أنت وبردك تكفيني فكنت معها ثلاثا» . والحاصل أن نكاح المتعة كان مباحا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم الفتح، ثم نسخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وكان فيه خلاف في الصدر الأول ثم ارتفع، وأجمعوا على تحريمه وعدم جوازه. قال بعض الصحابة: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول: أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» أي لكن في مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي وعمر» . وفي رواية عنه: حتى نهى عنه عمر رضي الله تعالى عنه. وقد تقدم في غزاة خيبر عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة، وهو يدل على أن إباحتها عام الفتح كانت بعد تحريمها بخيبر ثم حرمت به، وهذا يعارض ما تقدم أن الصحيح أنها حرمت في حجة الوداع. إلا أن يقال: يجوز أن تحريمها في حجة الوداع تأكيدا لتحريمها عام الفتح، فلا يلزم أن تكون أبيحت بعد تحريمها أكثر من مرة كما يدل عليه كلام إمامنا الشافعي، لكن يخالفه ما في مسلم عن بعض الصحابة «رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها» . وقد يقال: مراد هذا القائل بعام أوطاس عام الفتح، لأن غزاة أوطاس كانت في عام الفتح كما تقدم، وما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من جوازها رجع عنه. فقد قال بعضهم: والله ما فارق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الدنيا حتى رجع إلى قول الصحابة في تحريم المتعة، ونقل عنه رضي الله تعالى عنه أنه قام خطيبا يوم عرفة فقال: أيها الناس إن المتعة حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير. والحاصل أن المتعة من الأمور الثلاثة التي نسخت مرتين. الثاني لحوم الحمر الأهلية. الثالث القبلة كذا في «حياة الحيوان» . قال: واستقرض صلى الله عليه وسلم من ثلاثة نفر من قريش: أخذ من صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه خمسين ألف درهم. ومن عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم. ومن حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، فرقها صلى الله عليه وسلم في أصحابه من أهل الضعف ثم وفاها مما غنمه من هوازن وقال: «إنما جزاء السلف الحمد والأداء» اهـ.

أي «وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة أي بعد فتحها تسعة عشر، وقيل ثمانية عشر يوما» واعتمده البخاري «يقصر الصلاة في مدة إقامته» . وبهذا الثاني قال أئمتنا إن من أقام بمحل لحاجة يتوقعها كل وقت قصر ثمانية عشر يوما غير يومي الدخول والخروج، ولعل سبب إقامته المدة المذكورة أنه كان يترجى حصول المال الذي فرقه في أهل الضعف من أصحابه، فلما لم يتم له ذلك خرج من مكة إلى حنين لحرب هوازن. وجاء إليه صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص، وقد أخذ بيد ابن وليدة زمعة ومعه عبد بن زمعة، فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إليّ أنه ابنه: أي قال إذا قدمت مكة انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه مني فاقبضه إليك، فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله هذا أخي ابن وليدة أبي زمعة ولدته على فراشه: أي مع كونها فراشا له، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الولد فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص، فقال لعبد بن زمعة: هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراش أبيك زمعة «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وقال لزوجته سودة بنت زمعة «احتجبي منه يا سودة لما رأى عليه من شبه عتبة: أي فخشي أن يكون ابن خاله فأمرها بالاحتجاب ندبا واحتياطا، فلم يرها حتى لقي الله. وفي بعض الروايات «احتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ» . وسرقت امرأة فأراد صلى الله عليه وسلم قطعها ففزع قومها إلى أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم يستشفعون به، فلما كلمه أسامة فيها تلون وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: «أتكلمني في حد من حدود الله تعالى؟ فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، ثم قام صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه» وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها» . وفي كلام بعضهم: كانت العرب في الجاهلية يقطعون يد السارق اليمنى. وولى صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه وعمره إحدى وعشرون سنة أمر مكة، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس، وهو أول أمير صلى بمكة بعد الفتح جماعة، وترك صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه بمكة معه معلما للناس السنن والفقه. في الكشاف، وعنه صلى الله عليه وسلم: «أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال: انطلق فقد استعملتك على أهل الله، أي وقال ذلك ثلاثا» فكان رضي الله عنه شديدا على المريب لينا على المؤمن، وقال: والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابيا جافيا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني

رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالا شديدا حتى فتح له فدخلها فأعز الله به الإسلام فنصرته للمسلمين على من يريد ظلمهم» هذا. وفي تاريخ الأزرقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيت أسيدا في الجنة وأني أي كيف يدخل أسيد الجنة فعرض له عتاب بن أسيد، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا الذي رأيت، ادعوه لي، فدعى له. فاستعمله يومئذ على مكة، ثم قال: يا عتاب أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله فاستوص بهم خيرا يقولها ثلاثا» . فإن قيل: كيف يقول صلى الله عليه وسلم عن أسيد إنه رآه في الجنة ثم يقول عن ولد أسيد إنه الذي رآه في الجنة، قلنا لعل عتابا كان شديد الشبه بأبيه أسيد، فظن صلى الله عليه وسلم عتابا أباه، فلما رآه عرف أنه عتاب لا أسيد. وفي كلام سبط ابن الجوزي: عتاب بن أسيد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة لما خرج إلى حنين وعمره ثماني عشرة سنة. وفي كلام غيره ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم إنما استخلف عتاب بن أسيد وترك معه معاذ بن جبل بعد عوده من الطائف وعمرته من الجعرانة، إلا أن يقال: لا مخالفة، ومراده باستخلافه إبقاءه على ذلك، وينبغي أن يكون ما تقدم عن الكشاف من قول أهل مكة له صلى الله عليه وسلم: «لقد استخلفت على أهل الله عتاب بن أسيد» إلى آخره بعد إبقائه على استخلافه لما لا يخفى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن أسيدا والد عتاب واليا على مكة مسلما فمات على الكفر، فكانت الرؤيا لولده، كما تقدم مثل ذلك في أبي جهل وولده عكرمة رضي الله تعالى عنه. ولما ولاه صلى الله عليه وسلم على مكة جعل له في كل يوم درهما، فكان رضي الله تعالى عنه يقول: لا أشبع الله بطنا جاع على درهم في كل يوم. ويروى أنه قام فخطب الناس، فقال: يا أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم: أي له درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما في كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد. وعن جابر رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وفرض له عمالته أربعين أوقية من فضة» ولعل الدرهم كل يوم يحرز القدر المذكور: أي أربعين أوقية في السنة فلا مخالفة. وفي السنن الكبرى للبيهقي: وولد عتاب هذا عبد الرحمن الذي قطعت يده يوم الجمل واحتملها النسر وألقاها بمكة، وقيل بالمدينة. كان يقال له يعسوب قريش.

غزوة حنين

غزوة حنين اسم موضع قريب من الطائف. وفي كلام بعضهم: إلى جنب ذي المجاز، وهو سوق الجاهلية، وتقدم ذكره. وفي كلام بعض آخر: اسم لما بين مكة والطائف، ويقال لها غزوة هوازن، ويقال لها غزوة أوطاس باسم الموضع الذي كانت به الوقعة في آخر الأمر. أي وسببها أنه لما فتح الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أطاعت له قبائل العرب إلا هوازن وثقيفا، فإن أهلهما كانوا طغاة عتاة مردة. قال: قال أئمة المغازي: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض، فأشفقوا: أي خافوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد فرغ لنا، فلا ناهية: أي لا مانع له دوننا، والرأي أن يغزونا، فحشدوا وبغوا وقالوا: والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال، فأجمعت هوازن أمرها اهـ. أي جمعوا، وكان جماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصيري: أي بالصاد المهملة رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك فاجتمع إليه من القبائل جموع كثيرة فيهم بنو سعد بن بكر وهم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترضعا فيهم وحضر معهم دريد بن الصمة، وكان شجاعا مجرّبا لكنه كبر أي لأنه بلغ مائة وعشرين سنة، وقيل مائة وخمسين، وقيل مائة وسبعين: أي وقيل قارب المائتين قاله ابن الجوزي، وقد عمي وصار لا ينتفع إلا برأيه ومعرفته بالحرب: أي لأنه كان صاحب رأي وتدبير ومعرفة بالحروب، وكان قائد ثقيف ورئيسهم كنانة بن عبد ياليل رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، وقيل قارب بن الأسود وكان سن مالك بن عوف إذ ذاك ثلاثين سنة، فأمر الناس بأخذ أموالهم ونسائهم وأبنائهم معهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة، فقال دريد للناس: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم محل الخيل. وفي لفظ: مجال الخيل بالجيم لا حزن ضرس. والحزن: بفتح الحاء المهملة وإسكان الزاي وبالنون: ما غلظ من الأرض. والضرس بكسر الضاد المعجمة وإسكان الراء وبالسين المهملة: ما صلب من الأرض، ولا سهل دهس. والسهل: ضدّ الحزن. والدهس بفتح الدال المهملة والهاء وبالسين المهملة: اللين كثير التراب، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير بضم النون: أي صوتها، وبكاء الصغير، ويعار الشاء. واليعار بضم المثناة تحت وبالعين المهملة المخففة والراء: صوت الشاء: أي وخوار البقر أي صوتها، قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. قال ابن مالك: أي وكان توافق معه على أن لا يخالفه، فإنه قال له إنك تقاتل رجلا كريما قد أوطأ العرب، وخافته العجم، وأجلى

يهود الحجاز، أي غالبهم، إما قتلا، وإما خروجا عن ذل وصغار، فقال له: لا نخالفنك في أمر تراه، فقيل له: هذا مالك، فقال: يا مالك أما إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء، وخوار البقر؟ قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فانقض به. قال أبو ذر: أي زجره كما تزجر الدابة، وهو أن يلصق اللسان بالحنك الأعلى ويصوت به، وهو معنى قول الأصل: أي صوّت بلسانه في فيه، ثم قال له: راعي. وفي لفظ: رويعي ضأن، والله ما له وللحرب، ثم أشار عليه برد الذرية والأموال وقال: هل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحد والجد، الأول بفتح الحاء المهملة والثاني بالمعجمة مكسورة ضد الهزل، وبفتحها الحظ، لو كان يوم علا ورفعة ما غابا، ثم أشار عليه بأمور لم يقبلها مالك منه وقال: والله لا أطيعك، إنك قد كبرت وضعف رأيك، فقال دريد لهوازن: قد شرط يعني مالكا أن لا يخالفني فقد خالفني، فأنا أرجع إلى أهلي فمنعوه، وقال مالك: والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها رأي أو ذكر، قالوا: أطعناك: أي ثم جعل النساء فوق الإبل وراء المقاتلة صفوفا، ثم جعلوا الإبل صفوفا والبقر والغنم وراء ذلك لئلا يفروا. وفي لفظ: صفت الخيل ثم الرجالة المقاتلة، ثم صفت النساء على الإبل، ثم صفت الغنم، ثم صفت النعم، ثم قال للناس: إذا رأيتموهم شدوا عليهم شدة رجل واحد، وبعث عيونا له: أي وهم ثلاثة أنفار أرسلهم لينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا وقد تفرقت أوصالهم قال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيول بلق، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، وإن أطعتنا رجعنا بقومك، فقال: أف لكم، بل أنتم أجبن العسكر، فلم يرده ذلك، ومضى على ما يريده. ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم أرسل إليهم رجلا من أصحابه، أي وهو عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل فيهم ويسمع منهم ما أجمعوا عليه، فدخل فيهم: أي ومكث فيهم يوما أو يومين وسمع، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر: أي وجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشبابهم، اجتمعوا إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى. فأجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر السير إلى هوازن، وذكر له صلى الله عليه وسلم أن عند صفوان بن أمية- ولم يكن أسلم يومئذ

بل كان مؤمنا- أدرعا وسلاحا، فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه فقال: يا أبا أمية أعرنا سلاحك نلق به عدونا غدا، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل عارية، وهي مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس. وفي رواية الإمام أحمد قال صفوان: عارية مؤداة، فقال صلى الله عليه وسلم: العارية مؤداة، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح. قيل وسأله صلى الله عليه وسلم أن يكفيهم حملها ففعل. وذكر أن بعض تلك الأدراع ضاع، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب. قال: واستعار صلى الله عليه وسلم من ابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح، فقال له: كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين اهـ أي وتقدم أن نوفلا هذا فدى نفسه وكان في أسرى بدر بألف رمح. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا: ألفان من أهل مكة، والعشرة آلاف الذين فتح الله صلى الله عليه وسلم بهم مكة أي على ما تقدم. قال بعضهم: وخرج أهل مكة ركبانا ومشاة حتى النساء يمشين على غير وهن يرجون الغنائم ولا يكرهون: أي من لم يصدق إيمانه أن الضيعة، وفي لفظ أن الصدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أي فقد خرج معه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون من المشركين منهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، فلما قربوا من محل العدو صفهم ووضع الألوية والرايات مع المهاجرين والأنصار، فلواء المهاجرين أعطاه عليا كرم الله وجهه، وأعطى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه راية، وأعطى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه راية، ولواء الخزرج أعطاه الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه، ولواء الأوس أعطاه أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه. وفي سيرة الدمياطي: وفي كل بطن من الأوس والخزرج لواء وراية يحملها رجل منهم، وكذلك قبائل العرب فيها الألوية والرايات يحملها رجال منهم، وركب صلى الله عليه وسلم بغلته ولبس درعين والمغفر والبيضة، والدرعان هما ذات الفضول والسغدية بالسين المهملة والغين المعجمة: وهي درع داود عليه السلام التي لبسها حين قتل جالوت ومروا بشجر سدرة كان المشركون يعظمونها وينوطون بها أسلحتهم: أي يعلقونها بها، فقالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى عليه السلام: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: الآية 138] «لتركبن سنن من كان قبلكم» فلما كان بحنين وانحدروا في الوادي، أي وذلك عند غبش الصبح خرج عليهم القوم وكانوا كمنوا لهم في شعاب الوادي ومضايقه، وذلك بإشارة دريد بن العصمة، فإنه قال لمالك: اجعل لك كمينا يكون لك عونا إن حمل القوم عليك جاءهم الكمين من خلفهم وكررت أنت بمن معك، وإن كانت الحملة لك لم يفلت من القوم

أحد، فحملوا عليهم حملة رجل واحد، أي وكانوا رماة فاستقبلوهم بالنبل كأنهم جراد منتشر، لا يكاد يسقط لهم سهم. أي وعن البراء رضي الله تعالى عنه وسأله رجل، فقال: فررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقال: ولكن رسول الله لم يفر. وأما ما روي عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما، فمنهزما حال من سلمة لا من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينهزم قط في موطن من المواطن كما تقدم. وعن البراء رضي الله عنه: كانت هوازن ناسا رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، فأخذ المسلمون راجعين منهزمين لا يلوي أحد على أحد. أي ويقال إن الطلقاء وهم أهل مكة قال بعضهم لبعض: أي من كان إسلامه مدخولا منهم اخذلوه هذا وقته فانهزموا، فهم أول من انهزم وتبعهم الناس. وعند ذلك قال أبو قتادة رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: ما شأن الناس؟ قال أمر الله. وهذا السياق يدل على أنهم انهزموا مرتين: الأولى في أول الأمر، والثانية عند انكباب المسلمين على أخذ الغنائم. والذي في الأصل الاقتصار على الأولى. وانجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ومعه نفر قليل، منهم أبو بكر وعمر وعليّ والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان ابن أخيه الحارث وربيعة بن الحارث ومعتب ابن عمه أبي لهب، وفقئت عينه، ولم أقف على أيهما كانت، أي ووردت في عدّ من ثبت معه روايات مختلفة، فقيل مائة، وقيل ثمانون، وقيل اثنا عشر، وقيل عشرة، وقيل كانوا ثلاثمائة. ولا مخالفة لإمكان الجمع، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله إني عبد الله ورسوله» . وعن العباس رضي الله عنه: كنت آخذا بحكمة بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي وهي الشهباء التي أهداها له فروة بن عمرو الجزامي، أي صاحب البلقاء وعامل ملك الروم على فلسطين يقال لها فضة. قيل التي يقال لها دلدل التي أهداها له المقوقس. وفي البخاري التي أهداها له ملك أيلة. قال بعضهم: والأول أثبت. ويدل للثاني ما أخرجه أبو نعيم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «انهزم المسلمون بحنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء وكان يسميها دلدل، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: دلدل البدي، فألزقت بطنها بالأرض» الحديث. وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه صلى الله عليه وسلم وهو يقول حين رأى ما رأى من الناس: «إلى أين أيها

الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عباس اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة» يعني الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان. وفي لفظ: «يا عباس اصرخ بالمهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، وبالأنصار الذين آووا ونصروا» أي وإنما خص صلى الله عليه وسلم العباس بذلك، لأنه كان عظيم الصوت، كان صوته يسمع من ثمانية أميال، كان يقف على سلع وينادي غلمانه آخر الليل وهم بالغابة فيسمعهم، وبين سلع والغابة ثمانية أميال. وغارت الخيل يوما على المدينة، فنادى: واصباحاه فلم تسمعه حامل إلا وضعت من عظم صوته. وفي لفظ آخر: نادى يا أصحاب السمرة يوم الحديبية، يا أصحاب سورة البقرة، أي وخص سورة البقرة بالذكر، لأنها أول سورة نزلت في المدينة، لأن فيها كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: الآية 249] وفيها: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: الآية 40] وفيها: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: الآية 207] . وفي لفظ: نادى: «يا أنصار الله وأنصار رسوله، يا بني الخزرج. خصهم بالذكر بعد التعميم لأنهم كانوا صبرا في الحرب. فأجابوا لبيك لبيك. وفي لفظ: يا لبيك يا لبيك» . أي وفي البخاري: «لما أدبروا عنه صلى الله عليه وسلم حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين التفت عن يمينه، فقال: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك، ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك» . ويجوز أن يكون هذا بعد نداء العباس وقربهم منه صلى الله عليه وسلم، وصار الرجل يلوي بعيره فلا يقدر على ذلك، أي لكثرة الأعراب المنهزمين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤمّ الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: فما شبهت عطفة الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عطفة الإبل. وفي لفظ: عطفة البقر على أولادها فلرماحهم أخوف عندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من رماح الكفار، حتى إذا انتهى إليه من الناس مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القوم وهم يجتلدون، أي وكان شعارهم كيوم فتح مكة، فقال صلى الله عليه وسلم: «الآن حمي الوطيس» ، وهو حجارة توقد العرب تحتها النار يشوون عليها اللحم. والوطيس في الأصل: التنور، وهذه من الكلمات التي لم تسمع إلا منه صلى الله عليه وسلم، وهي مثل يضرب لشدة الحرب: أي وصار يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، وهذا السياق يدل على أن المائة انتهت إليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة، وهو يؤيد القول بأن الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم لم يبلغوا المائة.

وفي رواية: لما انكشف الناس عنه يوم حنين قال لحارثه، بالحاء المهملة، ابن النعمان: يا حارثة كم ترى الناس الذين ثبتوا؟ فحزرتهم مائة، فقلت: يا رسول الله مائة، فلما كان يوم من الأيام مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناجي جبريل عليه السلام عند باب المسجد، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حارثة بن النعمان، فقال جبريل عليه السلام: هو أحد المائة الصابرة يوم حنين، لو سلم لرددت عليه السلام. قال: فلما أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت له: ما كنت أظنه إلا دحية الكلبي واقفا معك. وفي رواية: لما فر الناس يوم حنين عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أربعة: ثلاثة من بني هاشم، ورجل من غيرهم: علي بن أبي طالب، والعباس وهما بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من جانبه الأيسر، ولا يقبل أحد من المشركين جهته صلى الله عليه وسلم إلا قتل. وذكر بعضهم أنه رأى أبا سفيان بن الحارث حينئذ آخذا بزمام بغلته صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي ما تقدم أن الآخذ بذلك العباس رضي الله عنه، وأن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بركابه صلى الله عليه وسلم، لجواز أن يكون آخذ بزمامها بعد أخذه بركابه صلى الله عليه وسلم. وعن أبي سفيان بن الحارث قال: لما لقينا العدو بحنين اقتحمت عن فرسي وبيدي السيف مصلتا والله يعلم أني أريد الموت دونه وهو ينظر إليّ، فقال له العباس: يا رسول الله أخوك وابن عمك أبو سفيان فارض عنه، فقال: غفر الله له كل عداوة عادانيها ثم التفت إليّ وقال: يا أخي، فقبلت رجله في الركاب وقال صلى الله عليه وسلم في حقه «أبو سفيان بن الحارث من شبان أهل الجنة أو من سيد فتيان أهل الجنة» وليس قوله صلى الله عليه وسلم: أنا النبي لا كذب إلى آخره من الشعر، لأن شرطه كما تقدم في بناء المسجد أن يكون عن قصد وروية، بناء على أن مشطور الرجز ومنهوكه شعر وهو الصحيح، خلافا للأخفش حيث ردّ على الخليل في قوله: إن الرجز شعر بأنه وقع منه صلى الله عليه وسلم في قوله المذكور، وقد قال الله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: الآية 69] . وردّ بأن ما يقع موزونا لا عن قصد لا يقال له شعر. ولا يقال لقائله إنه شاعر كما تقدم مع زيادة، وأنما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن عبد المطلب» ولم يقل أنا ابن عبد الله، لأن العرب كانت تنسبه صلى الله عليه وسلم إلى جده عبد المطلب لشهرته، ولموت عبد الله في حياته كما تقدم، فليس من الافتخار بالآباء الذي هو من عمل الجاهلية كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن العواتك والفواطم» . وأخذ من هذا أنه لا بأس بالانتساب في موطن الحرب.

وذكر الخطابي أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال: «أنا ابن عبد المطلب» على سبيل الافتخار، ولكن ذكرهم صلى الله عليه وسلم بذلك رؤيا كان رآها عبد المطلب أيام حياته، وكانت القصة مشهورة عندهم فعرّفهم بها وذكرهم إياها، وهي إحدى دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. ثم نزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته. وقيل لم ينزل بل قال: يا عباس ناولني من الحصباء فانخفضت به بغلته حتى كادت بطنها تمس الأرض، ثم قبض قبضة من تراب قال بعضهم: كأنّ الله أفقه: أي أفهم البغلة كلامه صلى الله عليه وسلم: أي علمت مراده. وفي رواية كما تقدم أنه قال لها: يا دلدل البدي، فلبدت: أي انخفضت. وفي رواية قال: اربضي دلدل فربضت. وقيل ناوله العباس ذلك. وقيل ناوله عليّ. وقيل ابن مسعود رضي الله عنهم. فعنه حادت به بغلته، فمال السرج. فقلت: ارتفع رفعك الله، فقال ناولني كفا من تراب فناولته، ثم استقبل بها وجوههم فقال: «شاهت الوجوه» أي وفي رواية قال: «حم لا ينصروني» وفي رواية: «جمع بينهما فما خلف الله منهم إنسانا إلا ملأت عينيه وفمه ترابا تلك القبضة وقال انهزموا ورب محمد فولوا مدبرين» أي وقال بعضهم: ما خيل إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا. وحدث رجل كان من المشركين يوم حنين قال: «لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلبة شاة أن كشفناهم، قال: فبينما نحن نسوقهم ونحن في آثارهم، إذ صاحب بغلة بيضاء، وإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان الوجوه وقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا» فانهزمنا من قولهم وركبوا أجسادنا فكانت إياها، وإلى رميه صلى الله عليه وسلم بالحصى أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله: ورمى بالحصى فأقصد جيشا ... ما العصا عنده وما الإلقاء أي ورمى صلى الله عليه وسلم بالحصى فأهلك ذلك الجيش العظيم، أي شيء عصا موسى عند ذلك الحصى؟ وأي شيء إلقاء موسى عليه السلام لتلك العصا عند إلقاء ذلك الحصى؟ شتان ما بينهما فلا يقاس هذا بذلك لأن هذا أعظم، لأن انقلاب العصا حية كان مشابها لانقلاب حبالهم وعصيهم حيات، ولأن ابتلاعها لحبالهم وعصيهم لم يقهر العدو ولم يشتت شملهم، بل زاد بعدها طغيانهم وعتوهم على موسى عليه السلام، بخلاف هذا الحصى فإنه أهلك العدو وشتت شمله. أي وذكر أنه عند القتال أنزل الله تعالى قوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً [التوبة: الآية 25] إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: الآية 54] .

فقد جاء أن بعض أصحابه: أي وهو أبو بكر رضي الله عنه كما في سيرة الحافظ الدمياطي قال: «يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة، وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءته تلك الكلمة» وقيل بل قائل ذلك هو صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المسلمين، وقيل قال ذلك فتى من الأنصار: أي وهو سلمة بن الأكوع، أو سلامة بن وقش. أي وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم رفع يومئذ يديه، وقال: اللهم أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا» . أي وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن الضحاك، قال: «دعا موسى عليه الصلاة والسلام حين توجه إلى فرعون لعنه الله، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: كنت وتكون، وأنت حي لا تموت، تنام العيون، وتنكدر النجوم، وأنت حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، يا حي يا قيوم» . وكان أمام المشركين رجل على جمل أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل وهوازن خلفه إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فبينما هو كذلك إذ أهوى إليه علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورجل من الأنصار يريدانه، فأتى عليّ من خلفه وضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، واجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة المسلمين من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما انهزم المسلمون تكلم رجال من أهل مكة بما في نفوسهم من الضعف، ومنهم أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه. قيل وكان إسلامه بعد مدخولا، وكانت الأزلام في كنانته، فقال: لا تنتهي هزيمتهم يعني المسلمين دون البحر، أي وقال والله غلبت هوازن، فقال له صفوان: بفيك الكثيب: أي الحجارة والتراب. وقد وصلت الهزيمة إلى مكة، وسر بذلك قوم من مكة، وأظهروا الشماتة، وقال قائل منهم ترجع العرب إلى دين آبائها، أي وقال آخر: أي وهو أخو صفوان لأمه: ألا قد بطل السحر اليوم، فقال له صفوان وهو يومئذ مشرك: اسكت فض الله فاك: أي أسقط أسنانك، والله لأن يربني من الربوبية: أي يملكني ويدبر أمري رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن. وفي رواية مر رجل من قريش على صفوان بن أمية، فقال: أبشر بهزيمة محمد وأصحابه فو الله لا يجبرونها أبدا، فغضب صفوان رضي الله عنه وقال: أتبشرني بظهور الأعراب؟ فو الله لرب رجل من قريش أحب إليّ من رجل من الأعراب. وقال عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه: وكونهم لا يجبرونها أبدا هذا ليس بيدك، الأمر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء، إن أديل عليه اليوم فإن له العاقبة غدا، فقال له

سهيل بن عمرو: والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد إنا كنا على غير شيء وعقولنا ذاهبة نعبد حجرا لا يضر ولا ينفع. وعن شيبة الحجبي رضي الله عنه: أي حاجب البيت ويقال لبنيه بنو شيبة، وهم حجبة البيت كما تقدم أنه كان يحدث عن سبب إسلامه، قال: ما رأيت أعجب مما كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات، ولما كان عام الفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وسار إلى حرب هوازن، قلت: أسير من قريش إلى هوازن بحنين، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأقتله، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها: أي ولفظ: «اليوم أدرك ثأري من محمد» أي لأن أباه وعمه قتلا يوم أحد قتلهما حمزة رضي الله عنه كما تقدم. أقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما اتبعته، لا يزداد ذلك الأمر عندي إلا شدة، فلما اختلط الناس ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته أصلتّ السيف ودنوت منه أريد الذي أريد منه، ورفعت السيف حتى كدت أوقع به الفعل رفع إليّ شواظ من نار كالبرق كاد يهلكني، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه. وفي رواية: لما هممت به حال بيني وبينه خندق من نار وسور من حديد، فناداني صلى الله عليه وسلم: «يا شيبة ادن مني» ، فدنوت منه فالتفت إلي وتبسم وعرف الذي أريد منه، فمسح صدري، ثم قال: «اللهم أعذه من الشيطان» ، قال شيبة: فو الله لهو كان الساعة إذا أحب إليّ من سمعي وبصري ونفسي، واذهب الله ما كان فيّ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ادن فقاتل، فتقدمت أمامه أضرب بسيفي الله أعلم إني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ولو كان أبي حيا ولقيته تلك الساعة لأوقعت به السيف، فجعلت ألزمه فيمن لزمه، حتى تراجع المسلمون وكروا كرة واحدة، وقربت إليه صلى الله عليه وسلم بغلته، فاستوى عليها قائما، وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه: أي لا يلوي أحد منهم على أحد، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه، واتبعتهم المسلمون يقتلونهم حتى قتلوا الذرية، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذرية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا فله سلبه» وفي رواية: «من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه» . وفي الأصل في غزوة بدر أن المشهور أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا فله سلبه» إنما كان يوم حنين. وأما ما روي أنه قال ذلك يوم بدر ويوم أحد فأكثر ما يوجد في رواية من لا يحتج به، ومن ثم قال الإمام مالك رضي الله عنه: لم يبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا يوم حنين. وتعقب ما في الأصل بأنه وقع ذلك في غزوة مؤتة كما في مسلم وهي قبل الفتح.

وفي كلام بعضهم: كون السلب للقاتل أمر مقرر من أول الأمر، وإنما تجدد يوم حنين للإعلام العام والمناداة لا لمشروعيته. وحدّث أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه استلب وحده عشرين رجلا: أي قتلهم وأخذ أسلابهم. وقال أبو قتادة رضي الله عنه: رأيت يوم حنين مسلما ومشركا يقتتلان وإذا رجل من المشركين يريد إعانة المشرك على المسلم فأتيته وضربت يده فقطعتها، فاعتنقني بيده الأخرى فو الله ما أرسلني حتى وجدت ريح الموت، ولولا أن الدم نزفه لقتلني، فسقط وضربته فقتلته، وأجهضني القتال عن استلابه، فلما وضعت الحرب أوزارها، قلت: يا رسول الله، لقد قتلت قتيلا ذا سلب، وأجهضني عنه القتال، فما أدري من استلبه، فقال رجل من أهل مكة: صدق يا رسول الله فأرضه عني من سلبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا يرضيه، تعمد إلى أسد الله يقاتل عن دين الله نقاسمه سلب قتيله. وفي لفظ قال أبو بكر رضي الله عنه: أي للنبي صلى الله عليه وسلم: كلا، تعطيه أضيبع من قريش وتدع أسدا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله. والأضيبع تصغير ضبع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق اردد عليه سلبه. قال أبو قتادة رضي الله عنه: فأخذته منه فاشتريت بثمنه: أي السلب الذي جمعته بستانا، وأدرك ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة فإذا هو شيخ كبير أعمى ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا، فقال له يسخر به: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي هذا من مؤخرة الرحل، ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك، فقتله، فلما أخبر ربيعة أمه بقتله، فقالت له: أما والله لقد أعتق اثنين بل ثلاثا، وقالت له: ألا تكرمت عن قتلة لما أخبرك بمنة علينا، فقال: ما كنت لأتكرم عن رضا الله ورسوله. أي وقيل القاتل لدريد بن الصمة الزبير بن العوام رضي الله عنه، وقيل عبد الله بن قبيع وكانت أم سليم رضي الله عنها مع زوجها أبي طلحة رضي الله عنه وهي حازمة وسطها ببرد لها وفي حزامها خنجر، وكانت حاملا بابنها عبد الله، فقال لها زوجها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به، فقال أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم الرميصاء، فأعادت عليه القول، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، أي وكان يقال لها العميصاء والرميصاء: وهي التي يخرج القذى من عينها، ومن ثم قال بعضهم: قيل لها الرميصاء لرمص كان في عينها.

وعن ولدها أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قد مات أبي مالك عنها مشركا ثم خطبها عمي أبو طلحة وهو مشرك فأبت ودعته إلى الإسلام فأسلم، فقالت له: إني أتزوجك ولا آخذ منك صداقا غيره فتزوجها، قال أنس رضي الله عنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقالوا هذه العميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك» . وعنه رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا أزواجه وإلا أم سليم فإنه كان يدخل عليها، فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أرحمها، قتل أخوها معي» ولعل المراد أنه كان يكثر الدخول عليها كأزواجه، ولا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على غيرها من النساء الأنصار، لأن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الاختلاء بالأجنبية، فكان يدخل على أخت أم سليم وهي أم حرام بالراء رضي الله عنها، وتفلي له رأسه الشريف وينام عندها ويدخل على الربيع، ثم رأيته في الإمتاع أشار إلى ذلك. وفي «مزيل الخفاء» أن أم سليم وأختها خالتا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الرضاع، وعليه فلا دلالة في دخوله صلى الله عليه وسلم عليهما والخلوة بهما على جواز الخلوة بالأجنبية. وعن أنس رضي الله عنه، قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، أي وهو أبو عمير الذي كان صلى الله عليه وسلم يداعبه ويقول أبا عمير ما فعل النغير، ذكره السيوطي في كتابه «تبريد الأكباد» . وفي كلام بعضهم ما يفيد أنه غيره، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه فجاء فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن ما كان، فقربت إليه عشاء فأكل وشرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت وطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوا؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فغضب ثم انطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكما في غابر ليلتكما، قال: فحملت بعبد الله المذكور، قالت: ولما ولدته حملته وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل معك تمر؟ فقلت: نعم، فناولته تمرات فألقاهن صلى الله عليه وسلم في فيه الشريف فلاكهن، ثم فغر فاه الصبي فمجه فيه فجعل الصبي يتلمظ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حب الأنصار التمر وسماه عبد الله، أي وجاء لعبد الله هذا الذي جاء من جماع تلك الليلة تسعة أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن. «ولما أخبر أبو طلحة النبي صلى الله عليه وسلم بما تقدم عن أم سليم، قال: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صابرة بني إسرائيل، فقيل: يا رسول الله ما كان من خبرها؟ قال: كان في بني اسرائيل امرأة وكان لها زوج وكان له منها غلامان، وكان زوجها أمرها

بطعام تصنعه ليدعو عليه الناس، ففعل واجتمع الناس في داره، فانطلق الغلامان يلعبان، فوقعا في بئر كانت في الدار، فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة، فأدخلتهما البيت وسجتهما بثوب، فلما فرغوا دخل زوجها، فقال: أين ابناي، قالت: هما في البيت، وإنها كانت تمسحت بشيء من الطيب وتعرضت للرجل حتى وقع عليها ثم قال: أين ابناي؟ قالت: هما في البيت، فناداهما أبوهما فخرجا يسعيان، فقالت المرأة: سبحان الله. والله لقد كانا ميتين ولكن الله أحياهما ثوابا لصبري. ولما انهزم القوم عسكر بعضهم بأوطاس، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم أبا عامر الأشعري رضي الله عنه، وسيأتي في السرايا. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معسكره، قال شيبة: فدخل خباءه فدخلت عليه، ما دخل عليه غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به، فقال: يا شيبة الذي أراد الله خير مما أردت بنفسك، ثم حدثني بكل ما أضمرته في نفسي مما لم أذكره لأحد قط. فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم قلت: استغفر لي، فقال غفر الله لك، أي وقالت له صلى الله عليه وسلم أم سليم رضي الله عنها: بأبي أنت وأمي يا رسول الله. اقتل هؤلاء الذين انهزموا عنك فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد كفى وأحسن. وعن عائذ بن عمرو قال: أصابتني رمية يوم حنين في جبهتي فسال الدم على وجهي وصدري، فسد النبي صلى الله عليه وسلم الدم بيده عن وجهي وصدري إلى ترقوتي، ثم دعاني فصار أثر يده صلى الله عليه وسلم غرة سائلة كغرة الفرس. وجرح خالد بن الوليد رضي الله عنه، فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في جرحه فلم يضره. أي فعن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما هزم الله الكفار ورجع المسلمون إلى رحالهم، يمشي في المسلمين ويقول: من يدلني على رحل خالد بن الوليد حتى دل عليه، فوجده قد أسند إلى مؤخرة رحله لأنه قد أثقل بالجراحة فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في جرحه فبرىء. وعن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون شيئا أسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشك أنها الملائكة، ولم تكن إلا هزيمة القوم. وفي سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله أن سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين أكتافهم: أي فعن جمع من هوازن قالوا: لقد رأينا يوم حنين رجالا بيضا على خيل بلق، عليها عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض، وكتائب لا نستطيع أن نقاتلهم من الرعب منهم. ولما وقعت الهزيمة أسلم ناس من

غزوة الطائف

كفار مكة وغيرهم لما رأوا نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. وعن شيبة الحجبي قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، والله ما خرجت إسلاما ولكن خرجت اتقاء أن تظهر هوازن على قريش، فو الله إني لواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إني لأرى خيلا بلقا، قال: يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر فضرب بيده صدري ثم قال: اللهم اهد شيبة، فعل ذلك ثلاثا، فما رفع صلى الله عليه وسلم يده عن صدري الثالثة حتى ما أجد من خلق الله أحب إلي منه ويحتاج إلى الجمع بينه وبين ما تقدم على تقدير صحتهما. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبي والغنائم أن تجمع، فجمع ذلك كله وأحضره إلى الجعرانة أي بسكون العين وتخفيف الراء. وكثير من أهل الحديث يشددها وسمي المحل باسم امرأة كانت تلقب بذلك قيل وهي التي نقضت غزلها من بعد قوة، فكان بها إلى أن انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من غزوة الطائف. وفي هذه الغزوة سمي طلحة بن عبيد الله طلحة الجواد لكثرة إنفاقه على العسكر. غزوة الطائف ولما علم صلى الله عليه وسلم أن مالك بن عوف وجمعا من أشراف قومه لحقوا بالطائف عند انهزامهم. أي والطائف بلد كبير، كثير الأعناب والنخيل والفاكهة، قيل سمي بذلك لأن جبريل عليه السلام طاف بها حين نقلها من الشام إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: أي أن الله يرزقهم أهل مكة من الثمرات. أي وقيل إنهم بنوا حواليها حائطا وطافوا به تحصينا لهم، وقيل هي جنة أصحاب الصريم كانوا نواحي صنعاء، نقلها جبريل عليه السلام فسار بها إلى مكة وطاف بها حول البيت، ثم أنزلها في ذلك المكان، أي ويقال له: «وج» سمي ذلك باسم شخص من العماليق أول من نزل به، وأن أولئك القوم تحصنوا في حصن به وأدخلوا فيه ما يصلحهم سنة خرج صلى الله عليه وسلم من حنين وتوجه إليهم وترك السبي بالجعرانة. أي، وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم بعث بالسبي والغنائم إلى الجعرانة مع بديل بن ورقاء الخزاعي. وفي كلام السهيلي: وكان سبي حنين ستة آلاف رأس، قد ولى صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب أمرهم وجعله أمينا عليهم هذا كلامه، أي ولعل هذا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، لأن أبا سفيان كان معه صلى الله عليه وسلم بالطائف كما سيأتي فلا معارضة. أي ومر صلى الله عليه وسلم بحصن مالك بن عوف، فأمر به فهدم، ومر بحائط، أي بستان لرجل من ثقيف قد تمنع فيه، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج، وإما أن نخرب عليك حائطك، فأبى أن يخرج فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحراقه، ومر صلى الله عليه وسلم بقبر، فقال: هذا قبر

أبي رغال وهو أبو ثقيف، أي وكان من ثمود قوم صالح أي وقد أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان ثم دفن فيه، أي بعد أن كان بالحرم ولم تصبه تلك النقمة، فلما خرج من الحرم إلى المكان المذكور أصابته النقمة. فعن بعض الصحابة: حين خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، الحديث. وفي العرائس عن مجاهد قيل له: هل بقي من قوم لوط أحد؟ قال: لا، إلا رجل بقي أربعين يوما وكان بالحرم فجاءه حجر ليصيبه في الحرم، فقام إليه ملائكة الحرم فقالوا للحجر: ارجع من حيث جئت، فإن الرجل في حرم الله تعالى، فرجع فوقف خارجا من الحرم أربعين يوما بين السماء والأرض حتى قضى الرجل حاجته، وخرج من الحرم إلى هذا المحل أصابه الحجر فقتله فدفن فيه. وأبو رغال هذا هو الذي كان دليلا لأبرهة ليوصله إلى مكة لما مر أبرهة بالطائف، وتلقاه أهله، وأظهروا له الطاعة، وقالوا له: نرسل معك من يدلك على الطريق، فأرسلوا أبا رغال معه دليلا كما تقدم. وقال صلى الله عليه وسلم: «آية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه» فابتدر الناس فنبشوه واستخرجوا منه الغصن. وقدّم صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه على مقدمته: أي وهي خيل بني سليم مائة فرس قدمها من يوم خرج من مكة، واستعمل عليهم خالد بن الوليد، فلم يزل كذلك حتى وصل، فلما وصل نزل قريبا من الحصن وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحات. أي وممن أصيب أبو سفيان بن حرب، أصيبت عينه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وعينه في يده، فقال: يا رسول الله، هذه عيني أصيبت في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن شئت دعوت فردت عينك، وإن شئت فالجنة. وفي لفظ: فعين في الجنة، قال: فالجنة، ورمى بها من يده» ، أي وقلعت عينه الثانية في القتال يوم اليرموك عند مقاتلة الروم، فإن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه كان في ذلك اليوم يحرض المسلمين على قتال الروم والثبات لهم، ويقول لهم: الله الله عباد الله، انصروا الله ينصركم، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك، وذلك في آخر خلافة الصديق، فإن الصديق رضي الله عنه توفي وهم في الاستعداد للقتال باليرموك، وكان الأمير على العسكر خالد بن الوليد رضي الله عنه. ولما ولي سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أرسل البريد بعزل خالد وولاية أبي عبيدة بن الجراح على العسكر، فجاء البريد وقد التحم القتال بين المسلمين والروم،

وأخذته خيول المسلمين، وسألوه عن الخبر، فلم يخبرهم إلا بخير وسلامة، وأخبرهم عن إمداد يجيء إليهم، وأخفى موت أبي بكر رضي الله تعالى عنه وتأمير أبي عبيدة، فأتوا به إلى خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، فأسرّ إليه موت أبي بكر وولاية عمر رضي الله تعالى عنهما، وأخبره بما أخبر به الجند، فاستحسن ذلك منه، وأخذ الكتاب فجعله في كنانته وخاف إن هو أظهر ذلك يتخاذل العسكر، ثم لما هزم الله الروم، وجمعوا الغنائم، ودفنوا قتلى المسلمين وقد بلغوا ثلاثة آلاف، دفع خالد رضي الله تعالى عنه الكتاب إلى أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه، فتولى أبو عبيدة، ثم بعث أبو عبيدة أبا جندل رضي الله تعالى عنه بشيرا إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه بالفتح على المسلمين. ولما عزل سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة خطب الناس وقال: إني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، إني نزعته وأثبتّ أبا عبيدة بن الجراح، فقام إليه عمرو بن حفص وهو ابن عم خالد بن الوليد وابن عم أم سيدنا عمر، فقال: والله ما عدلت يا عمر، لقد نزعت عاملا استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغمدت سيفا سله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد قطعت الرحم، وجفوت ابن العم، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: إنك قريب القرابة، حديث السن، غضبت لابن عمك. ومات ممن خرج بالطائف اثنا عشر رجلا، فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف الآن، وكان معه صلى الله عليه وسلم من نسائه أم سلمة وزينب رضي الله تعالى عنهما، فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين الصلاة مقصورة مدة حصار الطائف، وكانت ثمانية عشر يوما: أي غير يومي الدخول والخروج، وهذا هو المراد بقول فقهائنا لأنه صلى الله عليه وسلم أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن يقصر الصلاة، وقيل في مدة حصاره غير ذلك. ودخل صلى الله عليه وسلم خيمة أم سلمة وعندها أخوها عبد الله ومخنث، وإذا المخنث يقول: يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا، فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فلما سمعه صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل هذا عليكن. وأراد المخنث بالأربع التي تقبل بهن عكنها الأربع التي في بطنها، ولكل عكنة طرفان فتكون ثمانية من خلفها، فهي الثمانية التي تدبر بهن. أي وفي الإمتاع: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى لخالته فاخته بنت عمرو بن عائذ يقال له ماتع، وكان يدخل بيوته صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه لا يفطن لشيء من أمر النساء ولا إربة له، فسمعه صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخالد بن الوليد ويقال لعبد الله أخي أم سلمة: إن فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف غدا فعليك ببادية، أي رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت، وبادية بالياء تحت لا بالنون بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر

بثمان، إذا قامت تثنت، وإذا جلست تبنت، وإذا تكلمت تغنت، بين رجليها مثل الإناء المكفوء، ثم نفر كأنه الأقحوان، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أرى هذا الخبيث يفطن لما أسمع» . وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال له: قاتلك الله، لقد أمعنت النظر، ما كنت أظن هذا الخبيث يعرف شيئا من أمر النساء. وفي الأغاني أن هيتا بكسر الهاء وقيل بفتحها وإسكان التحتية بعدها مثناة. والهيت: الأحمق المخنث، قال لعبد الله بن أمية: إن فتح الله عليكم الطائف فاسأل النبي صلى الله عليه وسلم بادية بنت غيلان، فإنها رداح شموع نجلاء إن تكلمت تغنت يعني من الغنة، وإذا قامت تثنت، موردة الخدين، منحطة المانتين، لقحاء الفخذين، مسرولة الساقين، كأنها قضيب بان. وفي لفظ: كأنها خوط بانة قصفت، تقبل بأربع وتدبر بثمان، وبين فخديها شيء مخبوء كأنه الإناء المكفوء، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه قال: لقد غلغلت النظر يا عدو الله، ثم نفاه من المدينة إلى الحمى وقال: لا يدخل على أحد من نسائكم، فقيل له صلى الله عليه وسلم: إنه يموت جوعا، فأذن له أن يدخل المدينة كل جمعة يسأل الناس. وقيل نفى صلى الله عليه وسلم كلا من ماتع وهيت إلى الحمى، فشكيا الحاجة، فأذن لهما أن ينزلا كل جمعة يسألان الناس ثم يرجعان إلى مكانهما، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلا المدينة فأخرجهما أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فلما توفي دخلا المدينة فأخرجهما عمر رضي الله تعالى عنه، فلما مات دخلا. وغيلان أبو بادية هو الذي أسلم وعنده عشرة نسوة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن. واختلف الفقهاء في ذلك؟ فقال فقهاء الحجاز: يختار أربعا، وقال فقهاء العراق يمسك التي تزوج أولا ثم التي تليها إلى الرابعة. واحتج فقهاء الحجاز بترك الاستفصال. وغيلان هذا لما وفد على كسرى قال له: أيّ ولدك أحب إليك، فقال الغائب حتى يقدم والمريض حتى يعافى، والصغير حتى يكبر. وكان المخنثون في زمانه صلى الله عليه وسلم ثلاثة: هيت، وماتع وهذم، وقيل لهم ذلك لأنه كان في كلامهم لين، وكانو يختضبون بالحناء كخضاب النساء لا أنهم يأتون الفاحشة الكبرى. ويحتمل أن يكون كل من ماتع وهيت كان معه صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة وقد سمع منهما ما تقدم عنهما، ويدل لهذا الاحتمال أنه نفاهما. وفي البخاري أن القائل لعبد الله ما تقدم هو هيت. ويحتمل أن الذي كان معه صلى الله عليه وسلم أحدهما وتكرر منه ذكر ما

تقدم، وتسميته باسم الآخر خلط من بعض الرواة فليتأمل. وقال: أقبل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه ونادى من يبارز؟ فلم يطلع إليه أحد ثم كرر ذلك فلم يطلع إليه أحد، وناداه عبد ياليل لا ينزل إليك منا أحد، ولكن نقيم في حصننا، فإن به من الطعام ما يكفينا سنين، فإن أقمت حتى يذهب هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت عن آخرنا اهـ، ونصب عليهم المنجنيق: أي ورمي به كما في كلام غير واحد من أئمتنا، وهو أول منجنيق رمي به في الإسلام، أي أرشده إليه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: إنا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون فنصيب من عدونا، أي ويقال إن سلمان رضي الله تعالى عنه هو الذي عمله بيده، وفيه أنه تقدم في خيبر أنه لما فتح حصن الصعب وجدوا فيه آلة حرب ودبابات ومنجنيقات، إلا أن يقال سلمان صنع هذا المنجنيق الذي بالطائف، لأنه يجوز أن يكون الذي وجدوه في خيبر لم يكن معهم في الطائف، وتقدم في خيبر أنه صلى الله عليه وسلم لما حاصر الوطيح وسلالم أربعة عشر يوما ولم يخرج أحد منهما همّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل عليهم المنجنيق، وتقدم عن الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على حصن البراء. وقد قدمنا أن ذلك لا يخالف قول بعضهم لم ينصب المنجنيق إلا في غزوة الطائف، لأنه يجوز أن يكون مراد هذا البعض لم يرم به إلا في غزوة الطائف، أي كما أشرنا إليه. وأول من صنع المنجنيق إبليس، فإن نمروذا لعنهما الله لما أراد أن يلقي إبراهيم عليهم الصلاة والسلام في النار بنى إلى جنب الجبل جدارا طوله ستون ذراعا، ولما ألقوا الحطب وجعلوا فيه النار ووصلت النار إلى رأس ذلك الجدار لم يدروا كيف يلقون إبراهيم، فتمثل لهم إبليس لعنه الله في صورة نجار فصنع لهم المنجنيق ونصبوه على رأس الجبل ووضعوه فيه وألقوه في تلك النار. وأوّل من رمى به في الجاهلية جذيمة الأبرش، وهو أوّل من أوقد الشمع ودخل نفر من الصحابة تحت دبابة وزحفوا بها إلى جدار الحصن ليحرقوه. وفي الإمتاع دخلوا تحت دبابتين وكانا من جلود البقر، فأرسلت إليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها فرموهم بالنبل فقتل منهم رجال. أي والدبابة بفتح الدال المهملة ثم موحدة مشددة وبعد الألف موحدة ثم تاء التأنيث: وهي آلة من آلات الحرب تجعل من الجلود يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم، أي ونخيلهم وتحريقها، فقطع المسلمون قطعا ذريعا، فسألوه أن يدعها لله وللرحم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أدعها لله وللرحم، ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج منهم بضعة عشر، أي وقيل ثلاثة وعشرون رجلا، ونزل منهم شخص في بكرة، فقيل له

أبو بكرة، أي وكان عبدا للحارث بن كلدة، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة، قال: واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن في أن يأتي ثقيفا في حصنهم ليدعوهم إلى الإسلام فأذن له في ذلك، فأتاهم فدخل في حصنهم، فقال لهم: تمسكوا في حصنكم فو الله لنحن أذل من العبيد، أي زاد بعضهم: ولا تعطوا بأيدكم ولا تتأثروا: أي لا يشق عليكم قطع هذا الشجر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما قلت لهم يا عيينة؟ قال: أمرتهم بالإسلام ودعوتهم إليه، وحذرتهم النار ودللتهم على الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، إنما قلت لهم كذا، وقص عليه القصة، فقال صدقت يا رسول الله، أتوب إلى الله وإليك من ذلك اهـ. ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف، أي فإن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون، قالت له: يا رسول الله ما يمنعك أن تنهض إلى أهل الطائف؟ قال لم يؤذن لنا الآن فيهم، وما أظن أن نفتحها الآن، وقال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ذلك، فقال: لم يؤذن لنا في قتالهم، فقال رضي الله تعالى عنه: كيف نقبل في قوم لم يأذن الله فيهم، وفي لفظ: إن خولة قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حليّ بادية بنت غيلان أو حلي الفارغة بنت عقيل، وكانتا من أحلى نساء ثقيف، فقال لها صلى الله عليه وسلم: وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة، فذكرت خولة ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة؟ زعمت أنك قلت لها، قال: قلته، قال أو ما أذن الله فيهم يا رسول الله؟ قال لا، قال: أو أذن بالرحيل؟ قال بلى، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الناس أي وهو نوفل بن معاوية الديلمي في الذهاب أو المقام، فقال له: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت أخذته، وإن تركته لم يضرك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأذن في الناس بالرحيل، فقبح الناس ذلك وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاغدوا على القتال، فغدوا، فأصابت الناس جراحات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون إن شاء الله، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، أي تعجبا من سرعة تغير رأيهم، لأنهم رأوا أن رأيه صلى الله عليه وسلم أبرك وأنفع من رأيهم، فرجعوا إليه وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلما ارتحلوا واستقبلوا، قال قولوا: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، وقيل: يا رسول الله ادع على ثقيف أهل الطائف، فقال: اللهم اهد ثقيفا وائت بهم مسلمين، ولعل صاحب الهمزية رحمه الله يشير إلى ذلك بقوله: جهلت قومه عليه فأغضى ... وأخو الحلم دأبه الإغضاء

وسع العالمين علما وحلما ... فهو بحر لم تعيه الأعباء أي آذاه صلى الله عليه وسلم قومه من قريش وغيرهم فأرخى جفنه حياء، وصاحب عدم الانتقام شأنه إرخاء الجفن. وسع علمه علوم العالمين من الإنس والجن والملك، ووسع حلمه كل من صدر منه نقص، فهو بسبب ذلك بحر واسع لم تتعبه الأحمال الثقيلة. ومن جملة من جرح سيدنا عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما رماه بسهم أبو محجن، وطاوله ذلك الجرح إلى أن مات به في خلافة أبيه، ورثته زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكان يحبها حبا شديدا مرّ عليه أبوه يوم جمعة وهو يلاعبها وقد صلى الناس، فقال عبد الله: أو جمع الناس؟ فسمعه أبوه، فقال: أشغلتك عن الصلاة؟ لا جرم لا تبرحن حتى تطلقها فطلقها، ثم تعب عبد الله بسبب طلاقها فاطلع عليه أبوه يوما فسمعه يقول أبياتا من جملتها: فلم أرى مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير جرم تطلق فقال له: يا عبد الله راجع عاتكة، فقال لأبيه: قف بمكانك، وكان معه غلام مملوك له، فقال للغلام: أنت حر لوجه الله، اشهدا أني قد راجعت عاتكة، فلما مات رضي الله تعالى عنه رثته بقولها في أبيات: آليت لا تنفك عيني حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا ثم تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فلما أعرس بها، قال له علي كرم الله وجهه: أتأذن لي أن أكلم عاتكة، فقال: لا غيرة عليك كلمها، فقال لها علي كرم الله وجهه: أنت القائلة البيت: آليت لا تنفك عيني قريرة ... عليك ولا ينفك جلدي أصفرا قالت: لم أقل هكذا، وبكت وعادت إلى حزنها، فقال له رضي الله تعالى عنه: يا أبا الحسن ما أردت إلا إفسادها عليّ، فلما قتل عمر رضي الله تعالى رثته بأبيات منها: من لنفس عادها أحزانها ... ولعين شفها طول السهد جسد لفف في أكفانه ... رحمة الله على ذاك الجسد ثم تزوجها الزبير رضي الله تعالى عنه، فلما قتل رثته بأبيات منها تخاطب قاتله: ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد ثم خطبها سيدنا علي كرم الله وجهه، فقالت له: لم يبق للإسلام غيرك وأنا أنفس لك عن القتل، ومن ثم قيل في حقها: من أراد الشهادة فعليه بعاتكة.

وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم من ذلك: أي وبيننا هو يسير ليلا بواد بقرب الطائف إذ غشي سدرة في سواد الليل وهو في وسن النوم، فانفرجت السدرة له نصفين، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بي نصفيها وبقيت منفرجة على حالها، أي وعند انحداره صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة لقيه سراقة، وهو واضع الكتاب الذي كتبه له صلى الله عليه وسلم عند الهجرة بين أصبعيه وينادي: أنا سراقة، وهذا كتابي، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا يوم وفاء ومودة، أدنوه، فأدنوه منه وساق إليه الصدقة، وسأله عن الضالة من الإبل ترد حوضه الذي ملأه لإبله هل له في ذلك من أجر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم في كل ذات كبد حراء أجر» . وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة أحصى السبي فكان ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرين ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألفا وأربعة آلاف أوقية فضة. فأعطى صلى الله عليه وسلم للمؤلفة، أي من أسلم من أهل مكة، فكان أولهم أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه أعطاه أربعين أوقية ومائة من الإبل، وقال: ابني يزيد ويقال له يزيد الخير فأعطاه كذلك، وقال ابني معاوية فأعطاه كذلك، فأخذ أبو سفيان رضي الله عنه ثلاثمائة من الإبل ومائة وعشرين أوقية من الفضة. وقال: بأبي أنا وأمي يا رسول الله، لأنت كريم في الحرب وفي السلم، أي وفي لفظ: لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، وقد سالمتك فنعم المسالم أنت، هذا غاية الكرم جزاك الله خيرا. وأعطى حكيم بن حزام رضي الله عنه مائة من الإبل ثم سأله مائة أخرى، فأعطاه إياها، أي وفي الامتاع: وسأله حكيم بن حزام مائة من الإبل فأعطاه، ثم سأله مائة فأعطاه ثم سأله مائة فأعطاه، وقال له: «يا حكيم هذا المال خضر حلو من أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه باشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» فأخذ حكيم المائة الأولى وترك ما عداها، أي وقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبيا لا أرزأ أحد بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال عمر: يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. وأعطى صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس مائة من الإبل. وأعطى عيينة مثله. وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل، فقال في ذلك شعرا: أي يعاتبه صلى الله عليه وسلم به حيث فضل الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن عليه وهو: أتجعل نهبي ونهب العبي ... د (يعني فرسه) بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرىء منهم ... ومن تضع اليوم لا يرفع فأعطاه صلى الله عليه وسلم تمام المائة. أي وفي رواية أنه قال: اقطعوا عني لسانه. وفي الكشاف أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا بكر اقطع لسانه عني وأعطه مائة من الإبل، هذا كلامه، وحينئذ يتوقف في قولهم فظن ناس أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يمثل به وفزع هو أيضا لذلك فأتي به إلى الغنائم، وقيل له خذ منها كما شئت، فقال: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع لساني بالعطاء فكرة أن يأخذ منها شيئا، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلة، وفي رواية: «فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة» وروي بدل: فما كان حصن ولا حابس: فما كان بدر ولا حابس وهو صحيح أيضا، لأن بدرا جد حصن أبو أبيه فانتسب تارة إلى أبيه حصن وتارة إلى جد أبيه بدر، فإن عيينة بن حصن بي حذيقة بن بدر. ويروى بدل مرداس: شيخي بالإفراد يعني والده، ويروى بالتثنية يعني والده وجده. وفي كلام بعضهم: كانت المؤلفة ثلاثة أصناف. صنف يتألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا كصفوان بن أمية. وصنف ليثبت إسلامهم كأبي سفيان بن حرب. وصنف لدفع شرهم كعيينة بن حصن والعباس بن مرداس والأقرع بن حابس. لكن في رواية: «قيل يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة. وتركت جعيل بن سراقة؟ فقال: أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع، ولكني تألفتهما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» وتقدم أن جعيلا هذا كان من فقراء المسلمين، وكان رجلا صالحا دميما قبيحا، وهو الذي تصوّر الشيطان بصورته يوم أحد، وقال إن محمدا قد مات، وجاء: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من الناس ناسا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حبان» وأعطى صفوان بن أمية ما تقدم ذكره وهو جميع ما في الشعب من غنم وإبل وبقر، وكان مملوآ وكان ذلك سببا لإسلامه كما تقدم. أقول: في كلام ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن من المؤلفة قلوبهم أقواما تؤلفوا في بدء الاسلام ثم تمكن الإسلام في قلوبهم، فخرجوا بذلك عن حد المؤلفة، وإنما ذكرهم العلماء في المؤلفة اعتبارا ببداية أحوالهم، وفيهم من لم يعلم منه حسن الإسلام، والظاهر بقاؤه على حالة التأليف. ولا يمكن أن يفرق بين من حسن إسلامه، وبين من لم يحسن إسلامه لجواز أن يكون من ظننا به شرا أنه على خلاف ذلك، إذ الإنسان قد يتغير عن حاله ولا ينقل إلينا أمره فالواجب أن نظن بكل من نقل عنه الإسلام خبرا. وقد جاء عن أنس رضي الله عنه، قال: «كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم

لشيء يعطاه من الدنيا، فلا يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها» هذا كلام ابن الجوزي، والعباس بن مرداس أسلم قبل الفتح بيسير، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، والله أعلم. ولا زال صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل ما بين مائة وخمسين من الإبل، أي وذلك من الخمس كما سيأتي. ثم أمر صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم: أي ما بقي منها، وهي الأربعة الأخماس الباقية بعد إعطاء من تقدم ما تقدم من الخمس وقسمتها عليهم، أي بعد أن اجتمعوا إليه وصاروا يقولون يا رسول الله اقسم علينا حتى ألجؤوه صلى الله عليه وسلم إلى شجرة فاختطفت رداءه، فقال ردوا ردائي أيها الناس، فو الله إن كان لي فيه شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كدودا، ثم قام صلى الله عليه وسلم إلى جنب بعيره فأخذ وبرة من سنامه ثم رفعها، ثم قال: أيها الناس، والله ما لي من فيئكم أي غنيمتكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة، فجاء شخص من الأنصار بكبة من خيوط شعر، وقال: يا رسول الله أخذت هذه الكبة أعمل بها بردعة بعير لي دبر، فقال: أما نصيبي منها فلك، قال: أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي بها وألقاها. ويروى أن عقيلا كان دفع لامرأته إبرة أخذها من الغنيمة، أي فإنها قالت له: إني قد علمت أنك قد قاتلت فماذا أصبت من الغنيمة، فقال: دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك. فسمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخذ شيئا فليرده حتى الخياط والمخيط، فرجع وأخذها منها وألقاها في الغنائم. وفي كلام السهيلي أن أبا جهم بن حذيفة العدوي كان على الأنفال يوم حنين، فجاءه خالد بن البرصاء وأخذ من الأنفال زمام شعر فمانعه أبو جهم، فلما تمانعا ضربه أبو جهم بالقوس فشجه منقلة، فاستعدى عليه خالد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: خذ خمسين شاة ودعه فقال: أقدني منه، فقال: خذ مائة ودعه، فقال: أقدني منه، فقال: خذ خمسين ومائة ودعه وليس لك إلا ذلك، ولا أقيدك من وال عليك، فقوّمت المائة والخمسون بخمس عشرة فريضة من الإبل، فمن هنا جعلت دية المنقلة خمس عشرة فريضة، ولما قسم ما بقي خص كل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنتي عشرة بعيرا وعشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس لم يسهم إلا لفرس واحد ومن ثم لم يعط الزبير رضي الله عنه إلا لفرس واحد، وكان معه أفراس، وبه أخذ إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه فقال: لا يعطى إلا لفرس واحد، وقال بعض المنافقين، قيل وهو معتب هذه القسمة ما عدل فيها ولا أريد بها وجه الله، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغير وجهه الشريف، أي

حتى صار كالصرف بكسر الصاد المهملة: وهو شيء أحمر يدبغ به الجلد. وفي رواية: فغضب صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا واحمر وجهه وقال: «من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحمة الله على أخي موسى عليه السلام، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» انتهى. ولعل من ذلك أن قارون ابن خالة موسى عليه السلام أو ابن عمه حمله البغي والشر على أن أحضر امرأة بغيا وجعل لها جعلا على أن ترمي موسى بنفسها، وأحضر بني إسرائيل وأعلمهم بذلك ودعا موسى عليه السلام وقال له: إن قومك اجتمعوا فاخرج إليهم لتأمرهم وتنهاهم، فخرج عليه السلام إليهم وقال لهم: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى محصنا رجمناه حتى يموت، ومن زنى وهو لم ينكح جلدناه مائة جلدة، فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل زعموا أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعها، فإن قالت فهو كما قالت، فأتت فقال موسى: يا فلانة أنشدك بالذي أنزل التوراة أصدق قارون؟ فقالت: أما إذا أنشدتني فقد أشهد أنك بريء وأنك رسول الله، وإن قارون جعل لي جعلا على أن أرميك بنفسي، وجاءت بخريطتين فيهما دراهم عليهما ختمه، وقالت للملأ: إن قارون أعطاني هاتين وهذا ختمه، وأعوذ بالله أن أفتري على الله، فنظر القوم إلى ختمه فعلموا صدقها فخر موسى ساجدا، فأوحى الله إليه: أن ارفع رأسك فإني أمرت الأرض أن تطيعك، فخسف به فهو يتجلجل في الأرض، يخسف به في كل مقدار قامة إلى يوم القيامة. ولعل من ذلك أيضا أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام: إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك فخذ منا من يذهب معك ليسمعوا كلامه تعالى فيؤمنوا، فأوحى الله لموسى عليه السلام: أن اختر سبعين من خيارهم واصعد بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ففعل، فلما سمعوا كلامه سبحانه سألوه أن يريهم الله جهرة. ومن ذلك نسبته إلى أنه قتل أخاه هارون عليهما السلام كما تقدم، أي وقيل إن قائل: هذه القسمة ما عدل فيها: ذو الخويصرة التميمي، وهو غير ذي الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد. فقد جاء: «أن ذا الخويصرة التميمي وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل، فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟» فقال عمر رضي الله عنه: ألا نقتله؟ قيل وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ألا أضرب عنقه» . قال الإمام النووي رحمه الله: ولا تعارض، لأن كل واحد منهما استأذن فيه؟ أي ففي مسلم: «فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟

قال: لا، ثم أدبر، فقام إليه خالد رضي الله عنه فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال لا لعله أن يكون يصلي، قال خالد رضي الله عنه: وكم مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم» . وفي مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بعث علي كرم الله وجهه وهو باليمن بذهبة في تربتها، أي لم تخلص من ترابها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس، وعيينة بن بدر، وعلقمة بن علاثة وزيد الخير، فغضبت قريش فقالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم، فجاء رجل فقال: اتق الله يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن يطع الله إن عصيته! يأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟» وفي رواية: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحا ومساء، فجاء رجل فقال ما تقدّم، فقال له: ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟» . ولعل هذه القسمة غير قسمة غنائم حنين، وأن الرجل الذي قال له ما ذكر يحتمل أن يكون واحدا منهما أو من شيعة ذلك الرجل الذي قال في أحدهما. وذكر بعضهم أن ذا الخويصرة أصل الخوارج، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية» وفي رواية: «قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله دعني فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه» أي جماعة يخرجون من صلبه فهو أصل الخوارج: «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم» وفي لفظ: «تراقيهم، لا تفقهه قلوبهم، ليس لهم حظ منه إلا تلاوة الفم، وإنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وثمود» أي قتلا مستأصلا لعامتهم. وفي رواية: «إذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة» وبهذا استدل من يقول بجواز قتل الخوارج. وقد قاتلهم عليّ كرم الله وجهه. وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الخوارج، أهم كفار؟ فقال: «من الكفر فروا، فقيل: أمنافقون؟ فقال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله كثيرا فقيل: ما هم؟ فقال: أصابتهم فتنة فعموا وصموا» فلم يجعلهم صلى الله عليه وسلم كفارا لأنهم تعلقوا بضرب من التأويل. وحينئذ يكون المراد بالدين في وصفهم بالمروق من الدين الطاعة لا الملة، ويبعده رواية بدل الإيمان: الإسلام، وكان مصداق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ذا الخويصرة خرج منه حرقوص المعروف بذي الثدية، وهو أول من بويع من الخوارج بالأمانة.

والخوارج قوم يكفرون مرتكب الكبيرة، ويحكمون بحبوط عمل مرتكبها وتخليده في النار، ويحكمون بأن دار الإسلام تصير بظهور الكبائر فيها دار كفر ولا يصلون جماعة. وسبب مقاتلة سيدنا علي كرّم الله وجهه لهم أنهم نقموا عليه التحكيم الذي وقع بينه وبين معاوية في صفين، وقالوا لا حكم إلا الله، وأنت كفرت حيث حكمت الحكمين، فإن شهدت على نفسك أنك كفرت فيما كان من تحكيمك الحكمين واستأنفت التوبة والإيمان نظرنا فيما سألتنا من الرجوع إليك، وإن تكن الأخرى فإنا ننابذك على سواء وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ [يوسف: الآية 52] فلما أيس من رجوعهم إليه قاتلهم. وحرقوص هذا أول مارق من الدين، وكان رجلا أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة. فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: «إن فيهم رجلا له عصد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض» . ولما قاتلهم علي كرّم الله وجهه وقتل غالبهم التمس ذلك الرجل فأتي به، فإذا هو له ثدي كثدي المرأة. وفي رواية التمسوه في القتلى فلم يجدوه، فقال عليّ كرم الله وجهه بنفسه فطاف في القتلى فأخرجوه من بينهم، فكبر عليّ كرم الله وجهه، ثم قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول «إن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض» فقام إليه عبيدة السلماني، فقال: يا أمير المؤمنين: والله الذي لا إله إلا هو أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجدوا في أنفسهم» أي غضبوا «حتى كثرت منهم القالة» أي وهي القول الرديء «أي حتى قال بعضهم إن هذا لهو العجب يعطي قريشا» وفي لفظ: «الألفاء والمهاجرين، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم» أي وفي لفظ: «إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا تقطر من دماء قريش، وإن غنائمنا تردّ عليهم» وفي رواية: «إذا كانت شديدة ندعى إليها ويعطي الغنيمة غيرنا» وفي رواية: «سيوفنا تقطر من دمائهم وهم يذهبون بالمغنم، فإن كان من أمر الله صبرنا، وإن كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه، فدخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم» ، أي غضبوا «لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة» أي وهي قبة من أدم. أي وفي

كلام بعضهم أن الحظيرة الزريبة التي تجعل للإبل والغنم من الشجر لتقيها من البرد والريح، ولعل هذا باعتبار الأصل فلا مخالفة، فلما اجتمعوا له أتى سعد إليه صلى الله عليه وسلم فقال: «اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي فقال لهم: أفيكم أحد من غيركم؟ قالوا لا إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن أخت القوم منهم» وفي رواية: «قال: من كان ههنا من غير الأنصار فليرجع إلى رحله» ، وذكر بعضهم أن سبب إيراد ابن أخت القوم منهم أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه «اجمع لي من هنا من قريش، فجمعهم له ثم قال: تخرج إليهم أم يدخلون؟ قال: اخرج، فخرج صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر قريش هل فيكم من غيركم، قالوا: لا إلا ابن أختنا فذكره» ثم قال: «يا معشر قريش إن أولى الناس بي المتقون، فانظروا لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها فأصدّ عنكم بوجهي» انتهى. «فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟» المقلة كما علمت: الكلام الرديء، والجدة: الغضب، والمعروف أنه الموجدة، ومن ثم قال بعضهم: الجدة في المال، والموجدة في الغضب «ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء فألف بين قلوبكم» أي وفي لفظ: «وكنتم متفارقين فجمعكم الله» وفي لفظ: «يا معشر الأنصار ألم يمنّ الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء، أنصار الله، وأنصار رسوله؟ قالوا: بلى الله ورسوله أمنّ وأفضل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنة والفضل» أي وفي لفظ: «قالوا: يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور، ووجدتنا على شفا جرف من النار فأنقذنا الله بك. ووجدتنا ضلالا فهدانا الله بك، فرضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فافعل ما شئت، فأنت يا رسول الله في حل، قال: إذن والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فأغنيناك، أي وخائفا فأمناك» أوي أي إن كان متعديا كما هنا فالأفصح المد، وإن كان قاصرا فالأفصح القصر، قال تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ [المؤمنون: الآية 50] وقال تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف: الآية 10] «قال فقال الأنصار: المن لله ولرسوله، والفضل علينا وعلى غيرنا، فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ فسكتوا، فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم، قالوا: يغفر الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم» ، أي وفي رواية: «ما الذي بلغني عنكم؟ قالوا هو الذي بلغك، لأنهم لا يكذبون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعطي رجالا حديثو عهد بكفر أتألفهم» اهـ. أي وفي رواية: «إن قريشا حديثو عهد

بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتالفهم، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم فيّ لغاغة» بضم اللام وغينين معجمتين: أي شيء قليل من الدنيا «ألفت بها قوما ليسلموا، أي ليحسن إسلامهم ويسلم غيرهم تبعا لهم، ووكلتكم إلى إسلامكم الثابت الذي لا يزلزل، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت رجلا من الأنصار» . أي لانتسبت إلى المدينة «ولو سلك الناس شعبا» أي بكسر الشين المعجمة: وهو ما انفرج بين جبلين «وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار» وفي لفظ: «فبكى القوم حتى أخضلوا لحالهم وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا» أي وقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي» ليس من المن المذموم في قوله صلى الله عليه وسلم: «آفة السماحة المن» بل هو من التذكير بنعمة الله، لكن يشكل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «ألا تجيبوني الخ» فليتأمل، أي وقد جاء في مدح الأنصار «اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، ولأزواج الأنصار، ولذراري الأنصار، الأنصار كرشي وعيبتي، وإن الناس يكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» وفي لفظ آخر: «اللهم صل على الأنصار، وعلى ذرية الأنصار وعلى ذرية ذرية الأنصار» وقال للأنصار: «أنتم شعار والناس دثار» أي والشعار الثوب: الذي يلي الجسد، والدثار: الثوب الذي يكون فوق ذلك الثوب، فهم ألصق به وأقرب إليه صلى الله عليه وسلم من غيرهم وقال: «الأنصار حبهم إيمان، وبغضهم نفاق، اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار، ولنساء الأنصار، ولنساء أبناء الأنصار، ولنساء أبناء أبناء الأنصار» . وفي لفظ: «اللهم اغفر للأنصار، ولذراري الأنصار، ولذراري ذراريهم، ولمواليهم، ولجيرانهم، لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر» وقال: «لا تؤذوا الأنصار، فمن آذاهم فقد آذاني، ومن نصرهم فقد نصرني، ومن أحبهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن بغى عليهم فقد بغى عليّ، ومن قضى لهم حاجة كنت في حاجته يوم القيامة أسرع. إن الله اختار دارهم لإعزاز دينه، واختارهم لنبيه أنصارا» وقال صلى الله عليه وسلم «حب الأنصار آية الإيمان وبغضهم آية النفاق» وقال في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» وقال لهم: «اللهم أنتم أحب الناس إليّ قالها ثلاثا» قال: وقال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار: سماهم الله أنصارا بنصرهم ... دين الهدى وعوان الحرب تستعر وسارعوا في سبيل الله واعترفوا ... للنائبات وما خافوا وما ضجروا انتهى أي وقد وقع له صلى الله عليه وسلم نظير ذلك، فعن عمرو بن ثعلبة: «أنه صلى الله عليه وسلم سبى فأعطى

قوما ومنع قوما، وقال: إنا لنعطي قوما نخشى هلعهم وجزعهم، ونكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن ثعلبة» ، فكان عمرو رضي الله عنه يقول: ما يسرني أن لي بها حمر النعم. ولما أسرت أخته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة الشيماء بشين معجمة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وميم بمدة، ويقال الشماء بغير ياء، واختلف في اسمها صارت تقول: «والله إني أخت صاحبكم ولا يصدقوها، فأخذها طائفة من الأنصار حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا محمد إني أختك، قال: وما علامة ذلك؟» الحديث «ثم قال لها ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك، فإني أمضي إلى الطائف، فرجعت إلى الجعرانة، فلما قدم صلى الله عليه وسلم الجعرانة جاءته، فقالت: يا رسول الله إني أختك، أي وأنشدته أبياتا، قال: وما علامة ذلك» بكسر الكاف لأنه خطاب لمؤنث «قالت عضة عضضتنيها في ظهري» وفي رواية «وفي وجهي» وفي رواية: «في إبهامي وأنا متوركتك» فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة. وفي رواية: «قال لها إن تكوني صادقة فإن بك مني أثرا لن يبلى، فكشفت عن عضدها، ثم قالت: نعم يا رسول الله، حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة» فليتأمل «وعند ذلك قام صلى الله عليه وسلم لها قائما وبسط لها رداءه وأجلسها عليه. أي ودمعت عيناه، وسألها عن أمه وأبيه فأخبرته بموتهما، أي وقال لها: سلي تعطي، واشفعي تشفعي، فاستوهبته السبي، أي بعد أن قال لها قومها: إن هذا الرجل أخوك، فلو أتيته فسألته قومك لرجونا أن يحابينا، فأتته فقالت: أتعرفني؟ قال: ما أنكرك فمن أنت؟ قالت: أنا أختك بنت أبي ذؤيب، وآية ذلك أني حملتك ذات يوم فعضضت كتفي عضة شديدة هذا أثرها فرحب بها، ثم استوهبته السبي وهم ستة آلاف فوهبه لها، فما عرفت مكرمة مثلها، ولا امرأة هي أيمن على قومها منها، وخيرها صلى الله عليه وسلم وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أمتعتك وترجعي إلى قومك، قالت: بلى تمتعني وتردني إلى قومي، فأعطاها غلاما يقال له مكحول وجارية، وقيل بل أعطاها ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء» وقيل إن القادمة عليه صلى الله عليه وسلم أمه من الرضاع التي هي حليمة، وتقدم الكلام على ذلك. قال بعضهم: وهذا العطاء الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤلفة من قريش إنما كان من خمس الخمس الذي هو سهمه صلى الله عليه وسلم، لا من أربعة أخماس الغنيمة وإلا لاستأذن الغانمين في ذلك، لأنهم ملكوها بحوزهم لها. ثم قدم صلى الله عليه وسلم وفد هوزان، وهم أربعة عشر رجلا مسلمين ورأسهم زهير بن صرد وفي لفظ: يكنى بأبي صرد، وأبو برقان بالموحدة، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أي فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك.

وفي رواية قالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتهم الأمهات والأخوات والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام، ونرغب إلى الله وإليك يا رسول الله، وقال زهير: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك أي لأن مرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة كانت من هوازن، أي وقال له أيضا: ولو ملحنا أي أرضعنا للحارث بن أبي شمر: أي ملك الشام، أو للنعمان بن المنذر: أي ملك العراق، ثم نزل منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين وأنشده أبياتا يستعطفه صلى الله عليه وسلم بها منها: امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على نسوة قد كنت يرضعها ... إذ فوك مملوءة من مخضها الدرر أي الدفعات الكثيرة من اللبن. إنا لنشكر للنعماء إن كفرت أي جحدت. وفي لفظ: إنا لنشكر آلاء وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر إنا نؤمل عفوا منك نلبسه ... هدي البرية أن تعفو وتنتصر فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر فقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحسن الحديث أصدقه أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» أي وفي لفظ البخاري: «أحب الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال» وفي رواية: «وقد كنت اسأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون» أي لأنه صلى الله عليه وسلم انتظرهم بعد أن قفل من الطائف بضع عشرة ليلة وفي لفظ: «أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: قد وقعت المقاسم مواقعها، فأي الأمرين أحبّ إليكم؟ أطلب لكم السبي أم الأموال؟» وإنما قال صلى الله عليه وسلم لهم: قد وقعت المقاسم، أي لأنه لا يجوز للإمام أن يمن على الأسرى بعد القسم، وإنما يمن عليهم قبله كما وقع له صلى الله عليه وسلم في يهود خيبر، ولا يخفى أن هذا في الرجال دون الذراري «فقالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا اردد علينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير، فقال صلى الله عليه وسلم: أما مالي ولبني عبد المطلب فهو لكم، أي وقال لهم: فإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا، أي بعد أن قال لهم صلى الله عليه وسلم: أظهروا إسلامكم وقولوا نحن إخوانكم في الدين، فسأسأل لكم الناس، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بعد أن أثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيت

أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل» كذا في البخاري. وفي لفظ: «أنه صلى الله عليه وسلم قال: وأما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أسبيه» . وفي رواية: «فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل، ومن كره أن يعطي ويأخذ الفداء فعليّ فداؤهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فقال المهاجرون والأنصار رضي الله تعالى عنهم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس بن مرداس: وهنتموني: أي أضعفتموني حيث صيرتموني منفردا» . وفي رواية: «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء القوم جاؤوا مسلمين وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده من النساء سبي فطابت نفسه أن يرده فليردّه، ومن أبى فليرد عليهم ذلك قرضا علينا بكل إنسان ست فرائض من أوّل ما يفيء الله علينا، قالوا: رضينا وسلمنا، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، ولما فرق صلى الله عليه وسلم النساء نادى مناديه: ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا غير الحبالى حتى يستبرئن بحيضة» . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: «أصبنا سبايا يوم حنين، فكنا نلتمس فداءهن، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله فهو كائن، وليس من كل الماء يكون الولد» قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: وكانت اليهود تزعم أن العزل الموؤدة الصغرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت اليهود، ولو أراد الله أن يخلقه لم يستطع أحد أن يصرفه» وجاء: «لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا» وقد جاء في الحديث ما قالت اليهود. ففي مسلم وابن ماجه «العزل الوأد الخفي» أي لأن التحرز عن الولد بالعزل كدفنه حيا فليتأمل، وقد مر الكلام على ذلك مبسوطا. والفريضة: البعير الذي يؤخذ في الزكاة لأنه فرض وواجب على رب المال، وإلى عفوه صلى الله عليه وسلم عن هوازن، أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله: منّ فضلا على هوازن إذ ... كان له قبل ذاك فيهم رباء وأتى السبي فيه أخت رضاع ... وضع الكفر قدرها والسباء فحباها برا توهمت النا ... س به أنما السباء هداء

بسط المصطفى لها من رداء ... أيّ فضل حواه ذاك الرداء فغدت فيه وهي سيدة النس ... وة والسيدات فيه إماء أي أعتق صلى الله عليه وسلم هوازن قبيلة أمه من الرضاعة التي هي حليمة السعدية، وكانوا ستة آلاف آدمي وإنما أعتقهم لأجل أنه صلى الله عليه وسلم كان له وهو طفل فيهم رباء بفتح الراء والمد: أي تربيته فيهم، ولأجل أن أخته من الرضاعة أتت في ذلك السبي، وتلك الأخت صغّر كفرها وسباؤها قدرها الرفيع بإخوته صلى الله عليه وسلم فأعطاها برا وفعل معها معروفا حتى وقع في وهم الحاضرين بسبب ذلك أن سباءها هداء لها بكسر الهاء كالعروس التي تهدى لزوجها، ومن بره صلى الله عليه وسلم لها أنه بسط لها رداءه لتجلس عليه، أي شرف لذلك الرداء شرف عظيم، لا غاية له بسبب مماسته لجسده الشريف فصارت في ذلك السبي سيدة من فيه من النساء، وصار السيدات التي فيه بالنسبة إليها إماء، وليتأمل الجمع بين كون أخته المذكورة هي الشافعة في السبي وقبلت شفاعتها، وبين كون السائل فيهم هوازن، والأصل اقتصر على سؤال الوفد، وردّ جميع السبي، ولم يتخلف منه أحد إلا عجوز من عجائزهم، كانت عند عيينة بن حصن أبى أن يردها، وقال حين أخذها: أرى عجوزا إني لأحسب أن لها في الحي نسبا وعسى أن يعظم فداؤها، ثم ردها بعد ذلك بعشر من الإبل، وقيل بست أخذ ذلك من ولدها بعد أن ساومه فيها مائة من الإبل، وقال له ولدها: والله ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد، ولا صاحبها بواجد: أي بحزين لفراقها، ولا درها بناكد بالنون: أي غزير وهو من الأضداد. وقيل قائل ذلك له زهير. وقد يقال: لا مخالفة لجواز أن زهيرا هو ولدها، فقال عيينة: خذها لا بارك الله لك فيها، قال وذلك ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم، دعا على من أبى أن يرد من السبي شيئا أن يبخس، أي يكسد، فإن ولدها دفع له فيها مائة من الإبل فأبى، ثم غاب عنه ثم مر عليه معرضا عنه فقال: خذها بالمائة، فقال لا أدفع إلا خمسين فأبى، فغاب عنه ثم مر عليه معرضا عنه، فقال: خذها بخمسين فقال لا أدفع إلا خمسة وعشرين فأبى. فغاب عنه ثم مر عليه معرضا عنه، فقال خذها بالخمسة والعشرين فقال: لا آخذها إلا بعشرة. وفي رواية إلا بستة فقال له ما تقدم، ولما أخذها ولدها قال لعيينة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسا السبي قبطية قبطية، فقال: لا والله ما ذاك لها عندي، فما فارقها حتى أخذ لها منه ثوبا، والقبطية بضم القاف: وهو ثوب أبيض من ثياب مصر منسوب للقبط وهم أهل مصر وضم القاف من التغيير في النسب. أي وفي كلام بعضهم وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يقدم مكة فيشتري للسبي ثياب المتعة فلا يخرج الحر منهم إلا كاسيا، قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبس أهل مالك بن عوف النضري بمكة عند عمتهم أم عبد الله بن أبي أمية،

وكلمه الوفد في ذلك، فقالوا: يا رسول الله أولئك ساداتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أريد بهم الخير، ولم يجز أن تجري السهمان في مال مالك بن عوف، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن: ما فعل مالك بن عوف؟ قالوا: يا رسول الله هرب، فلحق بحصن الطائف مع ثقيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، فلما بلغ مالكا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه وأن ماله وأهله موفور، وما وعده به نزل من الحصن مستخفيا خوفا أن تحبسه ثقيف إذا علموا الحال، وركب فرسه وركضه، حتى أتى الدهناء، محلا معروفا، ركب راحلته ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركه بالجعرانة، وأسلم وردّ عليه أهله وماله، واستعمله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من هوازن، فكان لا يقدر على سرح لثقيف إلا أخذه ولا رحل إلا ميله، وكان رضي الله تعالى عنه يرسل بالخمس مما يغنم لرسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ. أي وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المحل الذي هو الجعرانة، وهو المراد بقول بعضهم وهو بحنين، لأن المراد منصرفه من غزوة حنين، وعلى ذلك الأعرابي جبة وهو متضمخ بخلوق: أي مصفر لحيته ورأسه، وقد أحرم بعمرة فقال: أفتني يا رسول الله. وفي رواية قال له: كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ فسكت ساعة ثم نزل عليه الوحي، فلما سري عنه قال: أين السائل عن العمرة اخلع عنك الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق. وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم: ما كنت تصنع في حجك؟ قال: كنت أنزع هذه الجبة، وأغسل هذا الخلوق، فقال صلى الله عليه وسلم: اصنع في عمرتك ما كنت صانعا في حجك. واستند لذلك من يقول بحرمة التطيب قبل الإحرام بما يبقى عند الإحرام. والراجح عند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه استحباب ذلك. وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل فوقف على رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي عندك موعدا، فقال صلى الله عليه وسلم له: صدقت فاحتكم، فقال: أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها، فقال صلى الله عليه وسلم: هي لك، ولقد احتكمت يسيرا، ولصاحبه موسى عليه الصلاة والسلام التي دلته على عظام يوسف عليه الصلاة والسلام كانت احزم وأجزل حكما منك حين حكمهما موسى عليه الصلاة والسلام، فقالت: حكمي أن تردني شابة، وأدخل معك الجنة، كذا ذكره الغزالي رحمه الله. قال السخاوي: وهذا أخرجه ابن حبان والحاكم وصحح إسناده، وفيه نظر كما قال العراقي، وهذا أصل في عدم إخلاف الوعد بالخير. ونقل الإمام النووي رحمه الله أن جماعة ذهبوا إلى وجوب الوفاء بذلك، ووجهه السبكي رحمه الله بأن إخلاف الوعد كذب، والكذب حرام وترك الحرام واجب.

غزوة تبوك

وذكر الغزالي رحمه الله أن إخلاف الوعد لا يكون كذبا إلا إذا عزم حين الوعد على عدم الوفاء. أي ويدل لذلك ما جاء عن عبد الله بن ربيعة قال: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبت لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا، قال: لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة» . وأحرم صلى الله عليه وسلم من الجعرانة ودخل مكة ليلا، واستمر يلبي حتى استلم الحجر، ثم رجع من ليلته، وأصبح بها كبائت. وفي لفظ: أصبح بمكة كبائت وفيه نظر، ولم يسق هديا في هذه العمرة وحلق رأسه وكان الحالق لرأسه الشريف أبا هند الحجام وقيل أبو خراش بن أمية الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وأتى بأعمال العمرة بعد أن أقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، وقال: اعتمر منها سبعون نبيا. غزوة تبوك بعدم الصرف للعلمية والتأنيث: ووقع في البخاري صرفها نظرا للموضع، أي ويقال لها غزوة العسيرة، ويقال لها الفاضحة، لأنها أظهرت حال كثير من المنافقين. ففي شهر رجب سنة تسع أي بلا خلاف، ووقع في البخاري أنها كانت بعد حجة الوداع، قيل وهو غلط من النساخ، بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة الشام، وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء المحل المعروف. أي وذكر بعضهم أن سبب ذلك أن متنصرة العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي قد خرج يدعي النبوّة هلك وأصابت أصحابه سنون أهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا، أي ولم يكن لذلك حقيقة، أي وإنما ذلك شيء قيل لمن يبلغ ذلك للمسلمين ليرجف به وكان ذلك في عسرة في الناس وجدب في البلاد، أي وشدة من نحو الحر، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم أي وكونه عند طيب الثمار يؤيد قول عروة بن الزبير: إن خروجه صلى الله عليه وسلم لتبوك كان في زمن الخريف، ولا ينافي ذلك وجود الحر في ذلك الزمن، لأن أوائل الخريف وهو الميزان يكون فيه الحر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وورّى بغيرها، إلا ما كان من غزوة تبوك لبعد المشقة وشدة الزمن، أي وكثرة العدو، وليأخذ الناس أهبتهم، وأمر الناس بالجهاز، أي وبعث إلى مكة وقبائل العرب ليستنفرهم، وحض أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، أي أكد عليهم في طلب ذلك، وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وأنفق عثمان بن

عفان رضي الله تعالى عنه نفقه عظيمة لم ينفق أحد مثلها، قال: فإنه جهز عشرة آلاف أنفق عليها عشرة آلاف دينار غير الإبل والخيل، وهي تسعمائة بعير ومائة فرس والزاد وما يتعلق بذلك حتى ما تربط به الأسقية. أي وفي كلام بعضهم أنه أعطى ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرسا، وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارض عن عثمان، فإني عنه راض» . أي وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعا يديه الكريمتين يدعو لعثمان بن عفان يقول: اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سألت ربي أن لا يدخل النار من صاهرته أو صاهرني» . وجاء رضي الله تعالى عنه بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها بيديه ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم يرددها مرارا» اهـ. وفي رواية: «جاء بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصبت بين يديه، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيديه ويقلبها ظهر البطن، ويقول: غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما كان منك، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي ما عمل بعدها» أي ولعل هذه العشرة الآلاف هي التي جهز بها العشرة آلاف إنسان وإنها أي العشرة غير الألف التي صبها في حجره صلى الله عليه وسلم. وأنفق غير عثمان أيضا من أهل الغنى قال: وكان أول من جاء بالنفقة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه جاء بجميع ماله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت لأهلك شيئا. قال: أبقيت لهم الله ورسوله. وجاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت لأهلك شيئا قال: النصف الثاني. وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه بمائة أوقية، أي ومن ثم قيل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما كانا خزنتين من خزائن الله في الأرض ينفقان في طاعة الله تعالى. وجاء العباس رضي الله تعالى عنه بمال كثير، وكذا طلحة رضي الله تعالى عنه، وبعثت النساء رضي الله تعالى عنهن بكل ما يقدرون عليه من حليهن. وتصدق عاصم بن عدي رضي الله تعالى عنه بسبعين وسقا من تمر اهـ. وجاءه صلى الله عليه وسلم جمع، أي سبعة أنفس من فقهاء الصحابة يتحملونه: أي يسألونه أن يحملهم. فقال صلى الله عليه وسلم: لا أجد ما أحملكم عليه، وعند ذلك تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) [التوبة: الآية 92] أي ما يحملهم، ومن ثم قيل لهم البكاؤون، ومنهم العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه، ولم يذكره القاضي البيضاوي في السبعة. وحمل العباس رضي الله تعالى عنه منهم اثنين، وحمل منهم عثمان رضي الله تعالى عنه بعد الجيش الذي

جهزه ثلاثة، أي وحمل يامين بن عمرو النضري اثنين دفع لهما ناضجا له وزودّ كل واحد منهما صاعين من تمر. وعدهم مغلطاي ثمانية عشر. وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم، فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال والله لا أحملكم على شيء. وفي رواية: والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه، فرجعت حزينا إلى أصحابي من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه حيث حلف على أن لا يحملها. قال: فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس؟ فأجبته قال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال: خذ هذه الستة أبعرة فانطلق بها إلى أصحابك. زاد بعضهم: فعند ذلك قال بعضهم لبعض أغلقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حملناه على يمين الغلق وقد حلف أن لا يحملنا ثم حملنا فو الله لا بارك لنا في ذلك، فأتوه فذكروه، فقال عليه الصلاة والسلام: أنا ما حملتكم، والله حملكم، ثم قال: «إني لا أحلف يمينا فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» أي فهو صلى الله عليه وسلم إنما حلف أن لا يتكلف لهؤلاء حملا بقرض ونحوه ما دام لا يجد لهم حملا فلا حنث. وفيه أن هذا لا يناسب قوله: إني لا أحلف إلى آخره. وأجيب بأن هذا استثبات قاعدة لا تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حنث في يمينه بل خرج الكلام على تقدير. كأنه قال لو حنثت في يميني حيث كان الحنث خيرا وكفرت عنها لكان ذلك شرعا واسعا بل ندبا راجحا، ويؤيده أنه لم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر عن هذه اليمين، وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هذا وما قبله. وقد يقال: إن حمل العباس رضي الله تعالى عنه اثنين منهم إلى آخره كان قبل وجود هذه الأبعرة الستة، أو يدعى أن هؤلاء غير من تقدم. فلما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وهم ثلاثون ألفا، أي وقيل أربعون ألفا، وقيل سبعون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس، وقيل بزيادة ألفين. وخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله تعالى عنه على ما هو المشهور، وقال الحافظ الدمياطي رحمه الله: وهو أثبت عندنا، وقيل سباع بن عرفطة، أي وقيل ابن أم مكتوم، وقيل علي بن أبي طالب، قال ابن عبد البر: وهو الأثبت، هذا كلامه. وفي كلام ابن إسحاق: وخلف عليا كرّم الله وجهه على أهله وأمره بالإقامة فيهم، وتخلف عنه عبد الله بن أبيّ ابن سلول ومن كان من المنافقين بعد أن خرج

بهم، وعسكر عبد الله بن أبيّ على ثنية الوداع، أي أسفل منها، لأن معسكره صلى الله عليه وسلم كان على ثنية الوداع، وكان عسكر عبد الله بن أبيّ أسفل منه. قال ابن إسحاق رحمه الله: وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين، أي والتعبير عن ذلك بالزعم واضح لأنه يبعد أن يكون عسكر عبد الله مساويا لعسكره صلى الله عليه وسلم فضلا عن كونه أكثر منه فليتأمل، وقال عند تخلفه: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ والبلد البعيد: أي ما لا طاقة له به، يحسب محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب، والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين في الحبال، يقول ذلك إرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه أي وقيل للروم بنو الأصفر، لأنهم ولد روم بن العيص بن إسحاق نبي الله عليه السلام، وكان يسمى الأصفر لصفرة به. فقد ذكر العلماء بأخبار القدماء أن العيص تزوّج بنت عمه إسماعيل فولدت له الروم وكان به صفرة، فقيل له الأصفر، وقيل الصفرة كانت بأبيه العيص. ولما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثنية الوداع متوجها إلى تبوك عقد الألوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ورايته صلى الله عليه وسلم العظمى للزبير رضي الله عنه، ودفع راية الأوس لأسيد بن حضير رضي الله عنه، وراية الخزرج إلى الحباب بن المنذر رضي الله عنه، ودفع لكل بطن من الأنصار ومن قبائل العرب لواء وراية، أي لبعضهم راية ولبعضهم لواء، وكان قد اجتمع جمع من المنافقين أي في بيت سويلم اليهودي، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر. أي وهم الروم كقتال العرب بعضهم بعضا، والله لكأنهم يعني الصحابة غدا مقرنون في الحبال، يقولون ذلك إرجافا وترهيبا للمؤمنين، والجلاد: الضرب بالسيوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك لعمار بن ياسر رضي الله عنه: «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل بل قلتم كذا وكذا، فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه وقالوا إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التّوبة: الآية 65] وقال صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس: يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر، قال: يا رسول الله أو تأذن لي أي في التخلف ولا تفتني، فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك، فأنزل الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التّوبة: الآية 49] الآية. وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اغزوا تبوك تغنموا بني الأصفر نساء الروم، فقال قوم من المنافقين: ائذن لنا ولا تفتنا فأنزل الله تعالى الآية: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التّوبة: الآية 49] » أي التي هي التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة عنه. وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال للجد بن قيس: «يا أبا قيس هل لك أن تخرج معنا لعلك

تحقب: أي تردف خلفك من بنات بني الأصفر، فقال ما تقدم» وعند ذلك لامه ولده عبد الله رضي الله عنه وقال له: والله ما يمنعك إلا النفاق، وسينزل الله فيك قرآنا فأخذ نعله وضرب به وجه ولده، فلما نزلت الآية قال له: ألم أقل لك؟ فقال له: اسكت يالكع، فو الله لأنت أشد عليّ من محمد. وفي رواية أن الجد بن قيس لما امتنع واعتذر بما تقدّم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ولكن أعينك بمالي، فأنزل الله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التّوبة: الآية 53] وتقدّم أنه لم يبايع بيعة الرضوان، وتقدم أنه تاب من النفاق وحسنت توبته، وأنه صلى الله عليه وسلم قال لبني ساعدة: «من سيدكم؟ فقالوا: الجد بن قيس على بخل فيه، فقال: وأي داء أدوأ من البخل؟ قالوا: يا رسول الله من سيدنا؟ فقال: بشر بن البراء بن معرور» . وفي رواية: «سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح» وذكر ابن عبد البر أن النفس أميل إلى الأوّل ومات الجد بن قيس في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقال بعض المنافقين لبعض: لا تنفروا في الحرّ فأنزل الله تعالى: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التّوبة: الآية 81] أي يعلمون وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ [التّوبة: الآية 90] أي وهم الضعفاء والمقلون مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ [التّوبة: الآية 90] في التخلف فأذن لهم، وكانوا اثنين وثمانين رجلا وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة جراءة على الله ورسوله، وقد عناهم الله تعالى بقوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التّوبة: الآية 90] . قال السهيلي: وأهل التفسير يقولون إن آخر براءة نزل قبل أولها، وإن أوّل ما نزل منها: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التّوبة: الآية 90] قيل معناه شبابا وشيوخا، وقيل أغنياء وفقراء، وقيل أصحاب شغل وغير ذي شغل وقيل ركبانا ورجالة، ثم نزل أولها في نبذ كل ذي عهد إلى صاحبة كما تقدّم. وتخلف جمع من المسلمين منهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع من غير عذر، وكانوا ممن لا يتهم في إسلامه. ولما خلف صلى الله عليه وسلم عليا كرّم الله وجهه أرجف به المنافقون، وقالوا ما خلفه إلا استثقالا له، وحين قيل فيه ذلك أخذ علي كرّم الله وجهه سلاحه، ثم خرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك ما خلفتني إلا استثقلتني وتخففت مني، فقال: «كذبوا، ولكنني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا عليّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» أي فإن موسى عليه السلام حين توجه إلى ميقات ربه استخلف هارون عليه السلام في قومه، فرجع عليّ إلى المدينة. وعن علي كرّم الله وجهه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة وخلف جعفرا في أهله، فقال جعفر: والله لا أتخلف عنك، فخلفني، فقلت: يا رسول الله أتخلفني

إلى شيء تقول قريش، أليس يقولون ما أسرع ما خذل ابن عمه وجلس عنه، وأخرى أبتغي الفضل من الله، أني سمعت الله يقول: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ [التّوبة: الآية 90] الآية، فقال: أما قولك أن تقول قريش ما أسرع ما خذل ابن عمه وجلس عنه، فقد قالوا إني ساحر وإني كاهن وإني كذاب، وأما قولك تبتغي الفضل من الله، فلك بي أسوة أي حيث تخلفت عن بعض مواطن القتال، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى عليهما السلام» أي ولم يتخلف عنه علي كرّم الله وجهه في مشهد من المشاهد إلا في هذه الغزوة. وادّعت الرافضة والشيعة أن هذا من النص التفصيلي على خلافة علي كرّم الله وجهه، قالوا لأن جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوّة ثابتة لعلي كرّم الله وجهه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لما صح الاستثناء: أي استثناء النبوّة بقوله: «إلا أنه لا نبي بعدي» ومما ثبت لهارون من موسى عليه السلام استحقاقه للخلافة عنه لو عاش بعده: أي دون النبوّة. وردّ بأن هذا الحديث غير صحيح كما قاله الآمدي. وعلى تسليم صحته، بل صحته هي الثابتة لأنه في الصحيحين- فهو من قبيل الآحاد، وكل من الرافضة والشيعة لا يراه حجة في الإمامة. وعلى تسليم أنه حجة فلا عموم له، بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا كرم الله وجهه خليفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أهله خاصة مدة غيبته بتبوك، كما أن هارون كان خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة. فعلى تسليم أنه عام لكنه مخصوص والعام المخصوص غير حجة في الباقي أو حجة ضعيفة. وقد استخلف صلى الله عليه وسلم في مرار أخرى غير عليّ فيلزم أن يكون مستحقا للخلافة، وصار بعد مسيره صلى الله عليه وسلم يتخلف عنه الرجل، فيقال تخلف فلان، فيقول دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه. وكان ممن تخلف عن مسيره معه صلى الله عليه وسلم أبو خيثمة. ولما أن سار صلى الله عليه وسلم أياما دخل أبو خيثمة على أهله في يوم حارّ فوجد امرأتين له في عريشتين لهما في حائط قد رشت كل منهما عريشتها، وبرّدتا فيها ماء، وهيأتا طعاما، وكان يوما شديد الحر، فلما دخل نظر إلى امرأتيه وما صنعتا فقال رضي الله عنه: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرّ، وأبو خيثمة في ظلّ بارد وماء مهيأ، وامرأة حسناء؟ ما هذا بالنصف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زادا ففعلتا. ثم قدّم ناضحه فارتحل وأخذ سيفه ورمحه كما في الكشاف، أي ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل بتبوك، وقد كان أبو خيثمة أدرك عمير بن وهب في الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى دنوا من تبوك. فقال أبو خيثمة لعمير: إن

لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، فلما دنا أبو خيثمة قال الناس: هذا ركب مقبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة. فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى لك يا أبا خيثمة، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير: أي وأولى لك كلمة تهديد وتوعد. ولما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر ديار ثمود سجى ثوبه على رأسه واستحث راحلته، وقال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم» ، أي لأن البكاء يتبعه التفكر والاعتبار، فكأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله عز وجل على أولئك بالكفر، مع تمكينه لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه يقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك «ونهى صلى الله عليه وسلم الناس أن يشربوا من مائها شيئا، وأن لا يتوضؤوا به للصلاة، وأن لا يعجن به عجين وأن لا يحاس به حيس، ولا يطبخ به طعام، وأن العجين الذي عجن به أو الحيس الذي فعل به يعلفونه الإبل، وأن الطبيخ الذي طبخ به يلقى ولا يأكلوا منه شيئا» . ثم ارتحل بالناس: أي لا زال سائرا حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، وأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنها تهب عليهم الليلة ريح شديدة، أي وقال: من كان له بعير فليشد عقاله، ونهى الناس في تلك الليلة عن أن يخرج واحد منهم وحده بل معه صاحبه، فخرج شخص وحده لحاجته فخنق، وخرج آخر كذلك في طلب بعير له ندّ فاحتمله الريح حتى ألقته بجبل طيىء، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه، ثم دعا للذي خنق فشفي، والذي ألقته الريح بجبل طيىء له صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. وفي سيرة الحافظ الدمياطي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخلف على عسكره أبا بكر الصديق رضي الله عنه يصلي بالناس. واستعمل على العسكر عباد بن بشر، فكان يطوف في أصحابه على العسكر. ثم أصبح الناس ولا ماء معهم: أي وحصل لهم من العطش ما كاد يقطع رقابهم، حتى حملهم ذلك على نحر إبلهم ليشقوا أكراشها ويشربوا ماءها. فعن عمر رضي الله عنه: خرجنا في حرّ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. وفي لفظ: على صدره، فشكوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، أي قال له أبو بكر: يا رسول الله قد عوّدك الله من الدعاء خيرا فادع الله لنا، قال أتحب ذلك؟ قال نعم، فدعا، أي ورفع يديه فلم يرجعهما حتى أرسل الله سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا ما يحتاجون

إليه، قال: وذكر بعضهم أن تلك السحابة لم تتجاوز العسكر، وأن رجلا من الأنصار قال لآخر متهم بالنفاق: ويحك قد ترى فقال: إنما مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ [الواقعة: الآية 82] أي بدل شكر رزقكم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: الآية 82] أي حيث تنسبونه للأنواء. وقيل إنه قال له: ويحك، هل بعد هذا شيء، قال: سحابة مارّة انتهى. وفي لفظ أنهم لما شكوا إليه صلى الله عليه وسلم شدة العطش. قال صلى الله عليه وسلم لعليّ: لو استسقيت لكم فسقيتم قلتم هذا بنوء كذا وكذا. فقالوا: يا نبيّ الله ما هذا بحين أنواء فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ ثم قام فصلى، فدعا الله تعالى، فهاجت ريح وثار سحاب فمطروا حتى سال كل واد، فمرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يغرف بقدحه، ويقول: هذا نوء فلان فنزلت الآية. وضلت ناقته صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من المنافقين الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم ليس غرضهم إلا الغنيمة: إن محمدا يزعم أنه نبي، وأنه يخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن رجلا يقول كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها أنها في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فوجدوها كذلك، فجاؤوا بها، أي وتقدم له صلى الله عليه وسلم نظير هذا في غزوة بني المصطلق التي هي المريسيع، ولا بعد في تعدد الواقعة. ويحتمل أن يكون من خلط بعض الرواة. ولما سمع بذلك بعض الصحابة جاء إلى رحله، فقال لمن به: والله لعجب في شيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقالة قائل أخبره الله عنه وذكر المقالة. فقال له بعض من في رحله: هذه المقالة قالها فلان يعني شخصا في رحله أيضا قالها قبل أن تأتي بيسير، فقال: يا عباد الله في رحلي داهية وما أشعر: أي عدوّ الله اخرج من رحلي ولا تصحبني فيقال: إنه تاب، ويقال إنه لم يزل منها بشرّ حتى هلك. وتباطأ جمل أبي ذرّ رضي الله عنه لما به من الأعياء والتعب، فتخلف عن الجيش فأخذ متاعه وحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا فأدركه نازلا في بعض المنازل، أي وقبل مجيئه قالوا له: يا رسول الله تخلف أبو ذرّ وأبطأ به بعيره. فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه. ولما أشرف على ذلك المنزل ونظره شخص يمشي، فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذرّ، فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذرّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذرّ،

يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» وكان كما قال صلى الله عليه وسلم إنه يموت وحده. فقد مات رضي الله عنه وحده بالربذة لما أخرجه عثمان رضي الله عنه إليها. أي فإنه بعد موت أبي بكر رضي الله عنه خرج من المدينة إلى الشام. فلما ولى عثمان رضي الله عنه شكاه معاوية رضي الله عنه إليه، فإنه كان يغلظ على معاوية في بعض أمور تقع منه، فاستدعاه عثمان رضي الله عنه من الشام ثم أسكنه الربذة، ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه، فوصاهما عند موته أن غسلاني وكفناني ثم اجعلاني على قارعة الطريق، فأول من يمرّ بكم قولا له هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فلما مات رضي الله عنه فعلا به ذلك. وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق فوجدوا الجنازة على ظهر الطريق، قد كادت الإبل تطؤها فقام إليهم الغلام وقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله، تمشي وحدك وتموت وحدك، وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه، ثم حدثهم عبد الله بن مسعود خبره. أي وفي الحدائق عن أم ذر قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: وما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض ولا بد لنا من معين على دفنك، وليس معنا ثوب يسعك كفنا. فقال: لا تبكي وأبشري، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية، وإني أنا الذي أموت بالفلاة، والله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبت. وفي رواية: ما كذبت ولا كذبت فانظري الطريق. فقالت: قد ذهب الحاج وتقطعت السبل. فقال: انظري، فقالت: كنت أشتد إلى الكثيب فأقوم عليه ثم أرجع إليه فأمرضه، فبينما أنا كذلك إذا أنا برجال على رواحلهم كأنهم الرخم فألحت بثوبي، فأسرعوا إليّ ووضعوا السياط في نحورها يستقلون إليّ، فقالوا ما لك يا أمة الله؟ فقلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه، قالوا: ومن هو؟ قلت أبو ذر. قالوا: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت نعم، فأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فسلموا عليه فرحب بهم. وقال: أبشروا فإنكم عصابة من المؤمنين وحدثهم الحديث، وقال: والله لو كان لي أو لها ما يسعني كفنا ما كفنت إلا فيه، وإني أنشدكم الله والإسلام لا يكفنني منكم رجل كان أميرا ولا عريفا ولا بريدا أو نقيبا، ولم يكن منهم أحد سلم من ذلك إلا فتى من الأنصار، فقال: والله لم أصب مما ذكرت شيئا أن أكفنك في ردائي هذا وثوبين معي من غزل أمي، فمات فكفنه الفتى الأنصاري ودفنه في النفر الذين معه. أقول: يحتاج إلى الجمع بين هذا وما تقدم. وقد يقال: لا ينافي ذلك ما تقدم

عن ابن مسعود رضي الله عنه، لجواز أن يكون قدومه بعد أن كفن بكفن الأنصاري، ولا ينافي ذلك ما تقدم من قول الراوي: فلما مات فعلا: أي زوجته وغلامه ذلك: أي غسله وتكفينه، ولا ينافي ذلك قول الغلام لابن مسعود ومن معه: أعينونا على دفنه. ولا ينافي ذلك قول الراوي هنا: ودفنه: أي الفتى الأنصاري في النفر الذين معه، لأن ذلك يقال إذا اشتركوا مع غيرهم في ذلك. وأبو ذر رضي الله عنه اسمه جندب، وقيل اسمه سلمة بن جنادة. وكان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول بالحق. وقد قال صلى الله عليه وسلم في حقه: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» وكان رضي الله عنه من الأقدمين في الإسلام. قال ابن عبد البر: كان خامس رجل أسلم فليتأمل. وقال صلى الله عليه وسلم: «أبو ذر في أمتي شبيه عيسى ابن مريم في زهده» وبعضهم يرويه: «من ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذر» وإلى وجود ما أخبر صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر من أنه يموت وحده أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله: وعاش أبو ذر كما قلت وحده ... ومات وحيدا في بلاد بعيدة قال: وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: لما كنا فيما بين الحجر وتبوك ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته بعد الفجر وتبعته بماء فأسفر الناس بصلاتهم التي هي صلاة الفجر فقدموا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فصلى بهم، فانتهى صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ ومسح خفيه لعبد الرحمن بن عوف وقد صلى ركعة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن ركعة وقام ليأتي بالركعة الثانية، وقال لهم صلى الله عليه وسلم بعد فراغه: أحسنتم أو أصبتم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته» اهـ. أي ولعل هذا لا ينافي ما تقدم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخلف على عسكره أبا بكر الصديق رضي الله عنه يصلي بالناس، وقوله: «لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته» يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل خلف الصديق في هذه الغزوة حيث يصلي بالعسكر فليتأمل. أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «عبد الرحمن سيد من سادات المسلمين» ولا يخالف هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم خلف أحد من أمته إلا خلف أبي بكر» أي في مرض موته، لأن المراد صلاة كاملة أو تكرر الصلاة. هذا وفي الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم فيما حكى القاضي عياض رحمه الله أنه لا يجوز لأحد أن يؤمه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا غيرها لا لعذر ولا لغيره. وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعا له وقد قال: «أئمتكم

شفعاؤكم» ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: «ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم» فليتأمل. ولما نزلوا تبوك وجدوا عينها قليلة الماء، فاغترف رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده غرفة من مائها فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت. قال: وعن حذيقة رضي الله عنه «بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في الماء قلة أي ماء عين تبوك، أي وقد قال لهم صلى الله عليه وسلم: إنكم لتأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك، وإنكم لن تنالوها حتى يضحا النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي، وأمر صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي بذلك فجئناها فإذا العين مثل الشراك تبض من مائها، وقد سبق إليها رجلان: أي من المنافقين ومسا من مائها فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك» وفي رواية: «سبق إليها أربعة من المنافقين، ثم إنهم غرفوا من تلك العين قليلا قليلا حتى اجتمع شيء في شن فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه ومضمض ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير» وفي رواية: «فجعلوا فيها سهاما دفعها صلى الله عليه وسلم لهم، فجاشت بالماء» وإلى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله: فيوما بوقع النبل جئت بشربهم ... ويوما بوقع الوبل جدت بسقية وحينئذ أي وحين إذ ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جعل السهام في عين تبوك يسقط الاعتراض بأن وقع النبل لم يكن بتبوك وإنما كان بالحديبية على أن الذي بالحديبية إنما هو غرز سهم واحد لا سهم فليتأمل. ثم قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هنا ملىء جنانا» أي بساتين، وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن بعضهم. قال: أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالى تلك العين جنانا خضرة نضرة. وقبل قدومهم تبوك بليلة نام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يستيقظ حتى كادت الشمس قيد رمح، أي وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لبلال: اكلأ لنا الفجر فأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه قال: ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر؟ وفي رواية أن بلالا رضي الله عنه قال لهم ناموا وأنا أوقظكم: فاضطجعوا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال أين ما قلت؟ قال: يا رسول الله ذهب بي مثل الذي ذهب بك، أي وفي لفظ: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، وقال صلى الله عليه وسلم للصديق: إن الشيطان صار يهدأ بلالا للنوم كما يهدّأ الصبي حتى ينام، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا وسأله عن سبب نومه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر به النبي الصديق، فقال الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول الله، فانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزله غير بعيد. ثم صلى وتقدم في خيبر: أي في غزوة وادي القرى، فإنها كانت عند منصرفه من خيبر، الخلاف في أي غزوة كان وسار صلى الله عليه وسلم

مسرعا بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك. وفي منصرفه من تبوك قال أبو قتادة رضي الله عنه: «بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قافل من تبوك وأنا معه، إذ خفق خفقة وهو على راحلته فمال على شقه، فدنوت منه فدعمته، فانتبه فقال: من هذا؟ فقلت أبو قتادة يا رسول الله، خفت أن تسقط فدعمتك، فقال: حفظك الله كما حفظت رسوله ثم سار غير كثير ثم فعل مثلها فدعمته، فانتبه، فقال: يا أبا قتادة هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول الله، فقال انظر من خلفك، فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة فقال: ادعهم، فقلت أجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاؤوا فعرسنا» . وفي رواية قال أبو قتادة رضي الله عنه: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهارّ الليل وأنا إلى جنبه فنعس فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته، فدعمته حتى اعتدل على راحلته ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأولتين حتى كاد يسقط، فأتيته فدعمته فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة، قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: حفظك الله كما حفظت نبيه» وهذا تقدم في منصرفه من خيبر، ولا مانع من التعدد. ويحتمل أن هذا خلط وقع من بعض الرواة فليتأمل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: هل ترى من أحد: يعني من الجيش؟ قلت: هذا راكب، ثم قلت هذا راكب آخر حتى اجتمعنا وكنا سبعة. وفي رواية خمسة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطريق، ثم قال: احفظوا علينا صلاتنا، وكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره، فقمنا فزعين. ثم قال: اركبوا، فركبنا، فسرنا حتى ارتفعت الشمس: ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، فتوضأ منها وبقي فيها شيء، وفي رواية: جرعة من ماء، ثم قال لي: احفظ علينا ميضأتك، وفي رواية: ازدهر بها يا أبا قتادة فسيكون لها نبأ» الحديث. وفي رواية: «ما أيقظنا إلا حر الشمس، فقلنا: إنا لله فاتنا الصبح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغيظن الشيطان كما غاظنا، فتوضأ من الإداوة التي هي الميضأة، ففضل فضل، فقال يا أبا قتادة احتفظ بما في الإداوة، واحتفظ بالركوة فإن لهما شأنا فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر بعد طلوع الشمس. وفي لفظ إن عمر رضي الله عنه هو الذي أيقظ النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير. أقول: ظاهر هذه الرواية أنهم صلوا بمحلهم ولم ينتقلوا. وفي رواية قال لهم صلى الله عليه وسلم: تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة. وفي لفظ: ارتحلوا، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان.

وفي البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان صلى الله عليه وسلم إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له صلى الله عليه وسلم في نومه: أي من الوحي، فكانوا يخافون من إيقاظه قطع الوحي» كما تقدم في غزوة بني المصطلق «فلما استيقظ عمر رضي الله عنه ورأى ما أصاب الناس: أي من فوات صلاة الصبح كبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم» . وفي رواية: «إن الصديق رضي الله عنه استيقظ أولا ثم لا زال يسبح ويكبر حتى استيقظ عمر، ولا زال يكبر حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم: أي من فوات صلاة الصبح، قال: لا ضير، ارتحلوا، فارتحلوا فسار غير بعيد ثم نزل، فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس» وهذا كما نرى فيه التصريح بأن هاتين اليقظتين وقعتا في غزوة تبوك، الأولى عند ذهابهم لها، والثانية عند منصرفهم منها. وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعض الصحابة: «وبعد أن صلينا وركبنا جعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي تهمسون دوني؟ فقلنا: يا رسول الله بتفريطنا في صلاتنا، قال: أما لكم في أسوة حسنة؟ ثم قال: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلّ الصبح حتى يجيء وقت الأخرى» . وفي فتح الباري: اختلف في تعيين هذا السفر. ففي مسلم أنه كان في رجوعهم من خيبر قريب من هذه القصة. وفي أبي داود: «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلا، فنزل فقال: من يكلؤنا؟ فقال بلال أنا» الحديث. وفي مصنف عبد الرزاق أن ذلك كان بطريق تبوك. وقد اختلف العلماء هل كان ذلك: أي نومهم عن صلاة الصبح مرة أو أكثر؟ فجزم الأصيلي رحمه الله بأن القصة واحدة. وتعقبه القاضي عياض رحمه الله بأن قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران بن حصين. ومما يدل على تعدد القصة اختلاف مواطنها. وفي الطبراني قصة شبيهة بقصة عمران وأن الذي كلأ لهم الفجر ذو مخبر، قال ذو مخبر: فما أيقظني إلا حر الشمس، فجئت أدنى القوم فأيقظته وأيقظ الناس بعضهم بعضا حتى استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فليتأمل، وتقدم عن الإمتاع قال عطاء بن يسار: إن ذلك كان بتبوك، وهذا لا يصح، وإلا فالآثار الصحاح على خلاف قوله مسندة

ثابتة، والله أعلم. واستشكل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد قالت له «أتنام قبل أن توتر؟ قال: تنام عيني ولا ينام قلبي» . وأجيب عنه بأجوبة أحسنها أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ولا يدرك ما يتعلق بالعين كرؤية الشمس وطلوع الفجر. ومن الأجوبة أنه صلى الله عليه وسلم كان له نومان: نوم تنام فيه عينه وقلبه، ونوم تنام فيه عينه فقط. وينبغي أن يكون هذا الثاني أغلب أحواله وإن كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثله في ذلك، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا» أي غالبا. ويكون هذا حاله دائما وأبدا إذا كان متوضئا، لقولهم: إنه لا ينقض وضوؤه صلى الله عليه وسلم بالنوم، وفي جعله العين محلا للنوم نظر، لأن العين إنما هي محل السنة، ومحل النعاس الرأس، ومحل النوم القلب. قال الحافظ السيوطي: وكون القلب محلا للنوم دون العين لا يشكل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «تنام عيناي ولا ينام قلبي» ، لأنه من باب المشاكلة، وفيه بحث هذا كلامه. واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم: «ارتحلوا فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان» وفي لفظ: «ارتحلوا، فإن هذا واد به شيطان» بأنه يقتضي تسلط الشيطان على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الظاهر أن وجود الشيطان هو السبب في النوم عن الصلاة. وأجيب بأنه على تسليم ذلك، فإن تسليطه إنما كان على من كان يحفظ الفجر بلال أو غيره. ففي بعض الروايات كما تقدم: «إن الشيطان أتى بلالا فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام» . ثم لحق صلى الله عليه وسلم بالجيش، وقبل لحوقه صلى الله عليه وسلم بهم قال لأصحابه ما ترون الناس: يعني الجيش فعلوا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا، وذلك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أرادا أن ينزلا بالجيش على الماء فأبوا ذلك عليهما فنزلا على الماء فأبوا ذلك عليهما، فنزلا على غير ماء بفلاة من الأرض لا ماء بها عند زوال الشمس وقد كادت أعناق الخيل والركاب تقطع عطشا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أين صاحب الميضأة؟ قيل هو ذا يا رسول الله. قال: جئني بميضأتك فجاءه بها وفيها شيء من ماء، وفي رواية: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركوة فأفرغ ما في الإدواة فيها ووضع أصابعه الشريفة عليها فنبع الماء من بين أصابعه، وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى رووا ورووا خيلهم وركابهم، وكان في العسكر من الخيل اثنا عشر ألف فرس أي على ما تقدم، ومن الإبل خمسة عشر ألف بعير، والناس ثلاثون ألفا، وقيل سبعون ألفا. وواضح أن هذه العطشة غير

المتقدمة التي دعا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل المطر. وفي كلام بعضهم أنه لما حصل للقوم العطش أرسل صلى الله عليه وسلم نفرا، ويقال عليا والزبير يستعرضون الطريق، وأعلمهم أن عجوزا تمر بهم في محل كذا على ناقة معها سقاء ماء، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: اشتروا منها بما عزّ وهان، وائتوا بها مع الماء، فلما بلغوا المكان إذا بالمرأة ومعها السقاء. وفي رواية: إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين، فسألوها في الماء، فقالت: أنا وأهلي أحوج إليه منكم، فسألوها أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الماء، فأبت وقالت: من هو رسول الله؟ لعله الساحر. وفي رواية الذي يقال له الصابىء وخير الأشياء أني لا آتيه، فشدوها وثاقا وأتوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: خلوا عنها. وفي رواية: قلنا لها أين الماء؟ قالت: أهاه أهاه لا حالكم، بينكم وبين الماء مسيرة يوم وليلة، ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتأذنين لنا في الماء، ولتصيبنّ ماءك كما جئت به؟ فقالت: شأنكم، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: هات الميضأة، فقرّبت إليه، فحل السقاء وتفل فيه وصب في الميضأة ماء قليلا، ثم وضع يده الشريفة فيه ثم قال: ادنوا فخذوا، فجعل الماء يفور ويزيد والناس يأخذون حتى ما تركوا معهم إناء إلا ملؤوه، ورووا إبلهم وخيلهم، وبقي في الميضأة ثلثاها. والميضأة هي الإداوة لأنه يتوضأ منها. وفي الدلائل للبيهقي: فجعل في إناء من مزادتيها، ثم قال فيه ما شاء الله أن يقول. زاد في رواية: ثم مضمض، ثم رد الماء في المزادتين وأوكأ أفواههما وأطلق العزالي، ثم أمر الناس أن يملؤوا آنيتهم وأسقيتهم، ثم قال لها: تعلمي والله ما رزأنا من مائك شيئا، ولكن الله عز وجل هو الذي سقانا، والعزالي: جمع عزلاء، والعزلاء: هي التي تجعل في فم القربة لينزل فيها الماء من الراوية وهي المرادة بالمزادة، وهذا السياق يدل على أن هذه عطشة ثالثة، لأن الثانية وضع صلى الله عليه وسلم يده في الركوة التي صب فيها من الميضأة، وهذه وضع يده في الميضأة بعد أن لم يجدوا في الميضأة شيئا. وفي رواية أن تلك المرأة أخبرته أنها مؤتمة: أي لها صبيان أيتام، فقال: هاتوا ما عندكم فجمعنا لها من كسر وتمر وصرتها صرة، ثم قال لها: اذهبي فأطعمي هذا عيالك. وفي رواية أيتامك، وصارت تعجب مما رأت. ولما قدمت على أهلها قالوا لها: لقد احتبست علينا، قالت: حبسني أني رأيت عجبا من العجب، أرأيتم مزادتيّ هاتين؟ فو الله لقد شرب منهما قريب من سبعين بعيرا، وأخذوا من القرب والمزاد والمطاهر ما لا أحصي، ثم هما الآن أوفر منهما يومئذ، فلبثت شهرا عند أهلها ثم أقبلت في ثلاثين راكبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت وأسلموا. وفي مسلم: «لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة بحيث صارت تمص

التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر نواضحنا فأكلنا وادّهنا، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله إن فعلت فني الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة لعل الله أن يجعلها في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فدعا بنطع فبسطه ثم دعاهم بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يأتي بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف من تمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال لهم: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاكّ فيحجب عن الجنة» وفي رواية: «إلا وقاه الله النار» وتقدم نظير ذلك في الرجوع من غزوة الحديبية، أي ولا مانع من التعدد أو هو من خلط بعض الرواة، ولعل هذا كان بعد أن ذبح لهم طلحة بن عبيد الله جزورا فأطعمهم وأسقاهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنت طلحة الفياض» وسماه يوم أحد «طلحة الخير» ويوم حنين «طلحة الجود» لكثرة إنفاقه على العسكر رضي الله عنهم. وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم، قال: «كنت في غزوة تبوك على نحي السمن، فنظرت إلى النحي وقد قلّ ما فيه، وهيأت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ووضعت النحي في الشمس ونمت، فانتبهت بخرير النحي، فقمت فأخذت رأسه بيدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى: لو تركته لسال الوادي سمنا» . وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فقال ليلة لبلال: هل من عشاء؟ فقال: والذي بعثك بالحق لقد نفضنا جربنا» فقال: انظر عسى أن تجد شيئا، فأخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا، فتقع التمرة والتمرتان حتى رأيت في يده صلى الله عليه وسلم سبع تمرات، ثم دعا بصحفة فوضع التمر فيها ثم وضع يده الشريفة على التمرات، وقال: كلوا بسم الله، فأكلنا ثلاثة أنفس، وأحصيت أربعا وخمسين تمرة أعدّها عدّا ونواها في يدي الأخرى وصاحباي يصنعان كذلك، فشبعا ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي، فقال: يا بلال ارفعها فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعا، فلما كان من الغد دعا صلى الله عليه وسلم بلالا بالتمرات، فوضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة عليهنّ، ثم قال: كلوا بسم الله، فأكلنا حتى شبعنا وأنا لعشرة ثم رفعنا أيدينا وإذا بالتمرات كما هي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أن أستحيي من ربي لأكلنا من هذه التمرات حتى نردّ إلى المدينة من آخرنا، فأعطاهنّ غلاما فولى وهو يلوكهن» . وأتاه صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك يحنة بضم المثناة تحت وفتح الحاء المهملة ثم نون مشددة مفتوحة ثم تاء التأنيث ابن رؤبة بالموحدة صاحب أيلة وصحبته أهل جرباء تأنيث أجرب يمد ويقصر: قرية بالشام، وأهل أذرح بالذال المعجمة والراء المهملة

المضمومة والحاء المهملة، مدينة تلقاء السراة، وأهل ميناء، وأهدى يحنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، فكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردا، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على إعطاء الجزية، أي بعد أن عرض عليه الإسلام فلم يسلم. وكتب له صلى الله عليه وسلم ولأهل أيلة كتابا صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل إيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يجوز ماله دون نفسه، وإنه لطيبة لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر» . وكتب صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح وجرباء ما صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، لأهل أذرح وجرباء أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد وأن عليهم مائة دينار في كل رجب، وافية طيبة، والله كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين وصالح صلى الله عليه وسلم أهل ميناء على ربع ثمارهم» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «رأيت ونحن بتبوك شعلة من نار في ناحية العسكر» أي ضوء شمعة كما صرح به الجلال السيوطي رحمه الله حيث أجاب من سأله هل الشمع كان موجودا قبل البعثة وهل وقد عنده صلى الله عليه وسلم بأنه كان موجودا قبل البعثة؟ فقد ذكر العسكري رحمه الله في الأوائل أن أول من أوقده خزيمة الأبرش، أي وقد تقدم وهو قبل البعثة بدهر، وورد في حديث «أنه أوقد للنبي صلى الله عليه وسلم عند دفنه عبد الله ذا البجادين» قال: وقد ألفت في المسألة تأليفا سميته «مسامرة السموع في ضوء الشموع» قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: «فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه، وهو يقول: أدليا إليّ أخاكما، فأدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال: اللهم قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه» يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة: أي والبجاد بموحدة ككتاب: الكساء المخطط الغليظ، أنه لم يكن لعبد الله المذكور إلا بجاد واحد، فشقه نصفين فاتزر بواحد وارتدى بالآخر وقدم المدينة وأسلم، وقرأ قرآنا كثيرا، وكان اسمه عبد العزى فسماه رسول الله عبد الله. «ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك خرج معه وقال: يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: ائتني بلحاء شجرة» أي بقشرها «فأتاه بذلك فربطه صلى الله عليه وسلم على عضده وقال: اللهم حرم دمه على الكفار، قال: يا رسول الله ليس هذا ما أردت، قال إنك إذا أخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، فأخذته الحمى بعد الإقامة بتبوك أياما ومات بها» أي وهذا هو المشهور.

وروي عن الأدرع الأسلمي وكان في حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جئت ليلة أحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل ميت، فقيل: هذا عبد الله ذو البجادين، توفي بالمدينة، وفرغوا من جهازه وحملوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارفقوا به رفق الله بكم، فإنه كان يحب الله ورسوله، قال ابن الأثير: وهذا حديث غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه وتقدم. وعن الحافظ السيوطي رحمه الله: لما ذكر أنه أوقد للنبي صلى الله عليه وسلم الشمع عند دفنه عبد الله ذا البجادين قال: وقد دل ذلك على إباحة استعمالة أي الشمع ولا يعد استعماله إسرافا مع قيام غيره من الأدهان مقامه. وأقام صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة، وفي سيرة الحافظ الدمياطي عشرين ليلة يصلي ركعتين ولم يجاوز تبوك، ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن ذلك على تقدير صحته. قال: وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في مجاوزتها، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: إن كنت أمرت بالسير فسر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أمرت بالسير لم أستشركم فيه، فقال يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة وليس بها أحد من أهل الإسلام وقد دنونا، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعنا هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمرا، وهذا تصريح بأن تبوك لم يقع بها مقاتلة ولا حصل فيها غنيمة، وبه يرد ما ذكره الزمخشري في فضائل العشرة أنه صلى الله عليه وسلم جلس في المسجد يقسم غنائم تبوك، فدفع لكل واحد سهما، ودفع لعلي كرّم الله وجهه سهمين، فقام زائدة بن الأكوع وقال: يا رسول الله أوحي نزل من السماء أم أمر من نفسك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أنشدكم الله هل رأيتم في ميمنتكم صاحب الفرس الأغر المحجل والعمامة الخضراء بها ذؤابتان مرخاتين على كتفيه بيده حربة قد حمل بها على الميمنة فأزالها؟ قالوا نعم، قال: هو جبريل عليه الصلاة والسلام وإنه أمرني أن أدفع سهمه لعليّ، فقال زائدة: حبذا سهم مسهم، وخطب صلى الله عليه وسلم خطبة فيها: «أما بعد، فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، والسعيد من وعظ بغيره، ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، أستغفر الله لي ولكم» . وأهدي له صلى الله عليه وسلم بعض أهل الكتاب جبنة فدعا بالسكين فسمى الله وقطع وأكل، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة وكان في الطريق ماء يخرج من وشل قليل جدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه، فسبق إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه، فلم يجد

فيه شيئا، فقال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل له فلان وفلان وفلان، فقال أو لم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه، ثم لعنهم ودعا عليهم، ثم نزل صلى الله عليه وسلم فوضع يده تحت الوشل فصار يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه ومسح بيده ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء أن يدعو به فانخرق من الماء وكان له حس كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو بقي منكم أحد لتسمعن بهذا الوادي وقد أخصب ما بين يديه وما خلفه. أي وهذا خلاف عين تبوك الذي تقدم له صلى الله عليه وسلم فيها ما يشبه هذا، وقوله لمعاذ: «يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ههنا ملىء جنانا» إلى آخره، لأن تلك العين كانت بتبوك، وهذا عند منصرفه من تبوك. قال: واجتمع رأي من كان معه صلى الله عليه وسلم من المنافقين وهم اثنا عشر رجلا وقيل أربعة عشر، وقيل خمسة عشر رجلا على أن ينكثوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة التي بين تبوك والمدينة، فقالوا: إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي فأخبر الله تعالى رسوله بذلك، فلما وصل الجيش العقبة نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي، وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، فلما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا، وسلكوا العقبة، وأمر صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر صلى الله عليه وسلم حذيقة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما أن يسوق من خلفه. وفي الدلائل عن حذيفة قال: «كنت ليلة العقبة آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمار بن ياسر يسوقه أو أنا أسوقه وعمار يقوده» أي يتناوبان ذلك «فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم قد غشوه، فنفرت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط بعض متاعه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع حذيفة إليهم وقد رأى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه محجن، فجعل يضرب به وجوه رواحلهم وقال: إليكم إليكم يا أعداء الله فإذا هو بقوم ملثمين» وفي رواية: «أنه صلى الله عليه وسلم صرخ بهم فولوا مدبرين، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على مكرهم به، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي واختلطوا بالناس، فرجع حذيفة يضرب الناقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم؟ قال: لا، كان القوم ملثمين والليلة مظلمة» . وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: «لما سقط متاع النبي صلى الله عليه وسلم وأردت جمعه نوّر لي في أصابعي الخمس فأضاءت حتى جمعت ما سقط حتى ما بقي من المتاع شيء» وفي لفظ: «أن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال:

عرفت راحلة فلان وراحلة فلان، قال: هل علمت ما كان من شأنهم، وما أرادوه؟ قال لا: قال: إنهم مكروا ليسيروا معي في العقبة فيزحموني فيطرحوني منها، إن الله أخبرني بهم وبمكرهم وسأخبر كما بهم واكتماهم، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إليه أسيد بن حضير؟ فقال يا رسول الله ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل من سلوك العقبة؟ فقال: أتدري ما أراد المنافقون وذكر له القصة، فقال: يا رسول الله قد نزل الناس واجتمعوا، فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي هم بهذا، فإن أحببت بين بأسمائهم، والذي بعثك بالحق لا أبرح حتى آتيك برؤوسهم، فقال صلى الله عليه وسلم: إني أكره أن يقول الناس إن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم، فقال: يا رسول الله هؤلاء ليسوا بأصحاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يظهرون الشهادة، ثم جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بما قالوه وما أجمعوا عليه، فحلفوا بالله ما قالوا ولا أرادوا الذي ذكر، فأنزل الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التّوبة: الآية 74] الآية، وأنزل الله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [التّوبة: الآية 74] ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم ارمهم بالدبيلة» وهي سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم انتهى. أي وفي لفظ: «شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلكه» . وفي الامتاع أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك صلى إلى نخلة فجاء شخص فمر بينه وبين تلك النخلة بنفسه، وفي رواية وهو على حمار، فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فقال: قطع صلاتنا قطع الله أثره فصار معقدا، وكان يقال لحذيفة رضي الله تعالى عنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حذيفة: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته، فأوحي إليه وراحلته باركة فقامت تجر زمامها، فلقيتها فأخذت بزمامها وجئت إلى قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنختها، ثم جلست عندها حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بها، فقال: من هذا؟ قلت، حذيفة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني مسر إليك سرا فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان، وعد جماعة من المنافقين، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في خلافته إذا مات الرجل ممن يظن به أنه من أولئك الرهط أخذ بيد حذيفة رضي الله عنه فقاده إلى الصلاة عليه، فإن مشى معه حذيفة صلى عليه عمر رضي الله تعالى عنه وإن انتزع يده من يده ترك الصلاة عليه. وقال صلى الله عليه وسلم للمسلمين عند انصرافه: إن بالمدينة لأقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال نعم حبسهم العذر، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان محل بينه وبين المدينة ساعة من نهار، أي وقال البكري: أظن أن الراء سقطت من بين الهمزة والواو: أي أروان، منسوب إلى البئر المشهورة.

وحين نزل صلى الله عليه وسلم أتاه خبر مسجد الضرار، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التّوبة: الآية 107] الآية: أي لإضرار أهل قباء، أي فإن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا نصلي في مربط حمار، لا، لعمر الله أي لأنه كان لامرأة كانت تربط فيه حمارها، ولكننا نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، فيثبت لنا الفضل والزيادة على إخواننا وكان المسلمون في تلك الناحية كلهم يصلي في مسجد قباء جماعة، فلما بني هذا المسجد فصرف عن مسجد قباء جماعة وصلوا بذلك المسجد، فكان به تفريق للمؤمنين، فكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي صلى الله عليه وسلم ويستهزئون به، أي ويقال إن أبا عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم فاسقا هو الآمر لهم ببنائه، فقال لهم: ابنوا لي مسجدا واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة، وإنهم لما فرغوا من بنائهم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم ويصلي فيه كما صلى في مسجد قباء، فهمّ أن يأتيهم، فأنزل الله تعالى الآية. وفي رواية أتوه صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، قال: إني علي جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لأتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما قفل من السفر وسألوه إتيان المسجد جاءه صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء فأمر جماعة منهم وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهم وقال لهم: انطلقوا إلى المسجد الظالم أهله فاحرقوه واهدموه على أصحابه، ففعل به ذلك، قال: وكان ذلك بين المغرب والعشاء، ووصل الهدم إلى الأرض، وأعطاه صلى الله عليه وسلم لثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه يجعله بيتا، فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، وحفر فيه بقعة فخرج منها الدخان، ولعل هذا أي جعله بيتا كان بعد أن أمر صلى الله عليه وسلم أن يتخذه محلا لإلقاء الكناسة والجيفة. وفي الكشاف أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في خلافته أن يأذن لمجمع بن حارثة أن يؤمهم في مسجدهم، فقال: لا ولا نعمة، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ فو الله لقد صليت بهم والله يعلم إني لا أعلم ما أضمروا فيه ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرؤون من القرآن شيئا فعذره وصدقه، وأمره بالصلاة بهم. ولما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة قال: هذه طابة أسكننيها ربي، تنفي خبث أهلها كما ينفي الكبر خبث الحديد.

ولما رأى صلى الله عليه وسلم جبل أحد قال: «هذا أحد جبل يحبنا ونحبه» وتقدم ما في ذلك في غزوة أحد، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تلقاه النساء والصبيان يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع» قال البيهقي رحمه الله: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة من مكة لا أنه عند مقدمه المدينة من تبوك، هذا كلامه، ولا مانع من تعدد ذلك. ولما دنا صلى الله عليه وسلم من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا تكلموا رجلا منهم، ولا تجالسوهم حتى آذن لكم، فأعرض عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، حتى أن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه انتهى. أي وعن فضالة بن عبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غزا غزوة تبوك جهد الظهر جهدا شديدا حتى صاروا يسوقونه، فشكوا إليه صلى الله عليه وسلم ذلك ورآهم يسوقونه، فوقف صلى الله عليه وسلم في مضيق والناس يمرون فيه فنفخ في الظهر، وقال: اللهم احمل عليها في سبيلك فإنك تحمل على القوي والضعيف والرطب واليابس في البر والبحر، فزال ما بها من الأعياء، وما دخلنا إلا وهي تنازعنا أزّمتها. وجاء: «أن حية عارضتهم في الطريق عظيمة الخلقة، فانحاز الناس عنها، فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إليّ يستمعون القرآن أي بنخلة عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من الطائف، وتقدم الكلام عليه فرأى عليه من الحق حين ألمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلده أن يسلم عليه، وها هو يقرئكم السلام» فقال الناس: وعليه السلام ورحمة الله. وقد كان تخلف عنه صلى الله عليه وسلم، رهط من المنافقين وكانوا بضعة وثمانين رجلا، وتخلف عنه أيضا كعب بن مالك وكان من الخزرج ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وكانا من الأوس، فأما المنافقون فجعلوا يحلفون ويعتذرون فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله، واستغفر لهم، وأما الثلاثة، فعن كعب بن مالك الخزرجي رضي الله تعالى عنه أنه قال: «لما جئته صلى الله عليه وسلم وسلمت عليه تبسم تبسم المغضب وقال لي تعال، فجئت حتى جلست بين يديه، فقال: ما خلفك؟ فصدقته، وقلت: والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك» وفي رواية: «قلت: يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت

أن سأخرج من سخطه بعذره، ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخط عليّ فيه، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي من عذر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، وقال الرجلان الآخران وهما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية وكانا ممن شهد بدرا وهما من الأوس مثل قول كعب، فقال لهما صلى الله عليه وسلم مثل ما قال لكعب، ونهى صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامهم، فاجتنبهم الناس، فأما الرجلان فمكثا في بيوتهما يبكيان، وأما كعب فكان يشهد الصلاة مع المسلمين ويطوف بالأسواق فلا يكلمه أحد منهم، قال: ولما طال ذلك عليّ من جفوة الناس تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه، والله ما رد عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك الله هل تعلمني أحب الله ورسوله، فسكت فعدت إليه فنشدته، فسكت فعدت إليه فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، قال: وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك، فطفق: أي جعل الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إليّ كتابا من ملك غسان أي وهو الحارث بن أبي شمر أو جبلة بن الأيهم، وكان الكتاب ملفوفا في قطعة من الحرير، فإذا فيه: أما بعد فانه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك، فقلت لما قرأته: وهذا أيضا من البلاء، فيممت أي قصدت به التنور فسجرته بها: أي ألقيته فيها: أي والأنباط قوم يسكنون البطائح بين العراقين: قال حتى إذا مضت أربعون ليلة جاءني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل صلى الله عليه وسلم إلى صاحبيّ: أي وهما هلال بن أمية ومرارة بن الربيع بمثل ذلك، فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا ولكن لا يقربك، قالت: والله إنه ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لي بعض أهلي. قال في النور: الظاهر أن القائل له امرأة لأن النساء لم يدخلن في النهي لأن في الحديث «ونهى المسلمين» وهذا الخطاب لا يدخل فيه النساء فدل على أن المراد الرجال، قالت: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، ثم مضى بعد ذلك عشر ليال حتى

كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما كان صلاة الفجر صبح تلك الليلة سمعت صوتا فوق جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، فخررت ساجدا. وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آذن، أي أعلم بتوبة الله علينا، فلما جاءني الرجل الذي سمعت صوته يبشرني أي وهو حمزة بن عمرو الأوسي نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، والله لا أملك غيرهما يومئذ: واستعرت أي من أبي قتادة رضي الله عنه ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا: أي جماعة جماعة يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة: أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان آخى بينهما حين قدم المدينة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، فلما جلست بين يديه صلى الله عليه وسلم قال: أبشر بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك يا رسول الله أم عند الله عز وجل؟ قال: لا بل من عند الله، فقلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، أي وكان المبشر لهلال بن أمية أسعد بن أسد، وكان المبشر لمرارة بن الربيع سلطان بن سلامة أو سلامة بن وقش. أي وفي البخاري عن كعب رضي الله عنه: «فأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة رضي الله عنها محسنة في شأني معينة في أمري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم سلمة تيب على كعب، قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره، قال: إذن يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الليل، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر أعلم بتوبة الله علينا وأنزل الله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التّوبة: الآية 117] إلى قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التّوبة: الآية 119] وقال في حق من اعتذر له صلى الله عليه وسلم: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ [التّوبة: الآية 95] إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التّوبة: الآية 96] . واستشكل نزول الوحي بالقرآن في بيت أم سلمة بقوله صلى الله عليه وسلم في حق عائشة رضي الله عنها: «ما نزل عليّ الوحي في فراش امرأة غيرها» وأجاب بعضهم بأنه يجوز أن يكون ما تقدم في حق عائشة كان قبل هذه القصة، أو أن الذي خصت به عائشة رضي الله تعالى عنها نزول الوحي في خصوص الفراش لا في البيت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ

[التّوبة: الآية 102] الآية، قال: كانوا عشرة أبو لبابة وأصحابه، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد منهم أبو لبابة، فلما مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من هؤلاء؟ قالوا: أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك حتى تطلقهم وتعذرهم، قال صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا، فأنزل الله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ [التّوبة: الآية 102] الآية، فعند ذلك أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أمرت أن آخذ أموالكم، فأنزل الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التّوبة: الآية 103] إلى قوله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التّوبة: الآية 106] وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسواري، وتقدم أن أبا لبابة رضي الله عنه ربط نفسه ببعض سواري المسجد في قصة بني قريظة، وعلى هذا فقد تكرر منه ربط نفسه، وقد ذكره ابن إسحاق فليتأمل ذلك. ولما قدم صلى الله عليه وسلم من تبوك وجد عويمر العجلاني رضي الله عنه امرأته حبلى، أي وهي خولة بنت عمه قيس، فلاعن بينهما صلى الله عليه وسلم أي في المسجد بعد العصر وكان قد قذفها بشريك ابن سمحاء ابن عمه وقال: وجدته على بطنها، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عويمرا وقال له: اتق الله في زوجتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، ودعا صلى الله عليه وسلم بالمرأة التي هي خولة وقال لها: اتقي الله ولا تخبريني إلا بما صنعت، فقالت: يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور، وأنه يأتي وشريكا يطيل السهر ويتحدث، حملته الغيرة، على أن قال ما قال، فدعا شريكا وقال له: ما تقول؟ فقال مثل قول المرأة فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ [النّور: الآية 6] الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادى بالصلاة جامعة، فلما صلى العصر أي وقد نودي بذلك واجتمع الناس، قال صلى الله عليه وسلم لعويمر: قم، فقام وقال: أشهد بالله إن خولة لزانية، وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثانية: أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها، وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثالثة: أشهد بالله إنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين، ثم قال في الرابعة: أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين، ثم قال في الخامسة: لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين، ثم أمره صلى الله عليه وسلم بالقعود، وقال لخولة: قومي، فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا زانية، وإن عويمرا لمن الكاذبين، ثم قالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، ثم قالت في الثالثة: أشهد بالله إني لحبلى منه وإنه لمن الكاذبين، ثم قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة، وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة:

إن غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما: أي قال له لا سبيل لك عليها وهو دليل لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه القائل إن الفرقة بين الزوجين تحصل بنفس التلاعن. وما جاء في بعض الروايات أنه طلقها ثلاثا قبل أن يأمره صلى الله عليه وسلم: أي بعدم الاجتماع بها فهو محمول على أنه ظن أن التلاعن لا يحرّمها عليه، فأراد تحريمها بالطلاق، فقال: هي طالق ثلاثا، ومن ثم قال له صلى الله عليه وسلم عقب ذلك لا سبيل لك عليها، أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاقك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن جاء الولد على صفة كذا فعويمر صادق، وإن جاء على صفة كذا فعويمر كاذب، فجاء على الصفة التي تصدق عويمرا، فكان الولد ينسب إلى أمه. وفي البخاري: «أن عويمرا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا: أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فكره النبي صلى الله عليه وسلم تلك المسألة وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عويمر، فقال له عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة وعابها، أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكره المسألة التي لا يحتاج إليها: أي التي لم تكن وقعت لا سيما إن كان فيها هتك ستر مسلم أو مسلمة. قال: فعويمر رضي الله عنه لم يكن وقع له مثل ذلك حينئذ ثم اتفق له وقوع ذلك بعد، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاءه عويمر وهو وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا إن تكلم جلدتموه، وإن قتله قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان، وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم لعويمر: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فائت بها» أي وذلك بعد أن ذكر له عويمر قصته. وفي رواية «قد قضى فيك وفي امرأتك فتلاعنا» وفي «أن هلال بن أمية أحد المتخلفين عن تبوك قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سمحاء، أي وكانت حاملا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة» زاد في رواية: «أو حدّ في ظهرك: فقال، يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا يتكلف يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول وإلا فحدّ في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام: أي بعد أن قال صلى الله عليه وسلم: اللهم افتح، أي بين لنا الحكم، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النّور: الآية 6] فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فجاءت وتلاعنا، وعند الخامسة تلكأت ونكصت حتى ظن أنها ترجع، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لها: إنها أي اللعنة موجبة: أي للعذاب في الآخرة، وعذاب الدنيا

أهون من غضب الآخرة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر الأيام وقالتها: أي الخامسة، أي وقال صلى الله عليه وسلم: إن جاءت به كذا فهو لهلال، وإن جاءت به كذا فهو لشريك، فجاءت به على الوصف الذي ذكر أنه يكون لشريك، فقال صلى الله عليه وسلم: لولا ما سبق من كتاب الله تعالى لكان لي ولها شأن. وجمهور العلماء على أن سبب نزول آية اللعان قصة هلال بن أمية، وإنه أول لعان وقع في الإسلام. وذهب جمع إلى أن سبب نزولها قصة عويمر العجلاني، لقوله صلى الله عليه وسلم: «قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا» وأجيب بأن معناه لما نزل في قصة هلال، لأن ذلك عام في جميع الناس. قال الإمام النووي رحمه الله: ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعا، فلعلهما سألا في وقتين متقاربين: أي وقال صلى الله عليه وسلم في كل: اللهم افتح، فنزلت هذه الآية فيهما، وسبق هلال باللعان، فكان أول من لا عن. وفي مسلم: «أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال، سعد: بلى والذي أكرمك بالحق» . وفي رواية: «كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف» وفي لفظ: «لضربته بالسيف من غير صفح» أي بل أضربه بحده، «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا الى ما يقول سيدكم» وليس ذلك من سعد رضي الله تعالى عنه ردا عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما هو إخبار عن حاله، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني» فأخبر صلى الله عليه وسلم عن سعد بأنه غيور، وأنه صلى الله عليه وسلم أغير منه، وأن الله أغير منه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم جاء في الحديث، «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك أرسل مبشرين ومنذرين. ولا أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة ليكثر سؤال العباد إياها والثناء منهم عليه» . وفي تفسير الفخر الرازي رحمه الله «لا شخص أغير من الله» وبه استدل على جواز إطلاق الشخص على الله تعالى. وفي الحلية لأبي نعيم رحمه الله عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر أرأيت لو وجدت مع أم رومان رجلا ما كنت صانعا؟ قال: كنت فاعلا به شرا ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا عمر أرأيت لو وجدت رجلا، أي مع زوجتك ما كنت صانعا؟ قال: كنت والله قاتله، فقرأ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النّور: الآية 6] الآية» .

وفي الأم لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه: «أن رجلا من أهل الشام وجد مع امرأته رجلا فقتله، فرفع الأمر إلى معاوية رضي الله تعالى عنه فأشكل على معاوية القضاء فيها فكتب. معاوية إلى أبي الأشعري رضي الله تعالى عنه أن يسأل عن ذلك علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، فاستخبر علي أبا موسى عن القصة، فأخبره أبو موسى أن معاوية كتب إليه في ذلك، فقال علي كرّم الله وجهه: أنا أبو الحسن إن لم يأت بأربعة شهداء قتلناه، فليتأمل. وفي الخصائص الكبرى أن في غزوة تبوك اجتمع صلى الله عليه وسلم بإلياس. فعن أنس رضي الله تعالى عنه: سمعنا صوتا يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة المغفور لها المستجاب لها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس انظر ما هذا الصوت؟ قال أنس رضي الله تعالى عنه: فدخلت الجبل، فإذا رجل عليه ثياب بيض أبيض الرأس واللحية، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فلما رآني قال: أنت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت نعم، قال: ارجع إليه وأقرئه السلام، وقل له: أخوك إلياس يريد أن يلقاك، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فجاء صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا معه، حتى إذا كنت منه قريبا تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت أنا فتحدثا طويلا فنزل عليهما من السماء شيء شبه السفرة ودعاني فأكلت معهما قليلا فإذا فيها كمأة ورمان وحوت وتمر وكرفس، فلما أكلت قمت فتنحيت ثم جاءت سحابة فاحتملته وأنا أنظر إلى بياض ثوبه فيها. قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث موضوع مخالف للأحاديث الصحاح من وجوه، وأطال في بيان ذلك. والعجب من الحاكم كيف يستدركه على الصحيحين، وهذا مما يستدرك به على الحاكم. وفي النور: لم يجىء في حديث صحيح اجتماعه صلى الله عليه وسلم بإلياس. وفي الجامع الصغير إلياس أخو الخضر. وفي تفسير البغوي: أربعة من الأنبياء أحياء إلى يوم البعث اثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس، أي وإلياس في البر والخضر في البحر، يجتمعان كل ليلة على ردم ذي القرنين يحرسانه. وأكلهما الكرفس والكمأة، واثنان في السماء إدريس وعيسى عليهما الصلاة والسلام. وعن ابن إسحاق الخضر من ولد فارس وإلياس من بني إسرائيل، أي وقد يقال: لا ينافي ذلك ما تقدم أنهما أخوان، لجواز أن يكونا أخوين لأم. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن إليه النفس أن الخضر عليه الصلاة والسلام اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، ولو كان حيا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله اجتماعه به صلى الله عليه وسلم. وفي الخصائص الكبرى عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: «خرجت ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم أحمل الطهور، فسمع قائلا يقول: اللهم أعني على ما ينجيني مما

خوفتني منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس ضع الطهور وائت هذا فقل له: ادع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعينه الله على ما بعثه به، وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به من الحق، فأتيته فقلت له: فقال مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا كنت أحق أن آتيه، اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له أخوك الخضر يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الله فضلك على النبيين كما فضل شهر رمضان على الشهور، وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام، فلما وليت سمعته يقول: اللهم اجعلني من هذه الأمة المرحومة المتاب عليها قال بعضهم: وهذا حديث واه منكر الإسناد سقيم المتن، ولم يراسل الخضر عليه الصلاة السلام نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يلقه. قال السيوطي في اللآلىء قلت: قد أخرج هذا الحديث الطبراني في الأوسط. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة: قد جاء من وجهين. وفي الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه جمعت له الشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أحدهما بدليل قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام، والمراد بالشريعة الحكم بالظاهر، وبالحقيقة الحكم بالباطن. وقد نص العلماء على أن غالب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا ليحكموا بالظاهر دون ما اطلعوا عليه من بواطن الأمور وحقائقها، ومن ثم أنكر موسى عليه الصلاة والسلام على الخضر صلى الله عليه وسلم في قتله الغلام بقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف: الآية 74] فقال له الخضر عليه الصلاة والسلام وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: الآية 82] ومن ثم قال الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام: إني على علم من عند الله لا ينبغي لك أن تعلمه، أي تعمل به لأنك لست مأمورا بالعمل به، وأنت على علم من عند الله لا ينبغي لي أن أعلمه: أي لا ينبغي لي أن أعمل به، لأني لست مأمورا بالعمل به. وفي تفسير أبي حيان: والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن أمور أوحيت إليه، أي ليعمل بها، وعلم موسى عليه الصلاة والسلام الحكم بالظاهر، أي دون الحكم بالباطن. ونبينا صلى الله عليه وسلم حكم بالظاهر في أغلب أحواله، وحكم بالباطن: أي في بعضها، بدليل قتله صلى الله عليه وسلم للسارق وللمصلي لما اطلع على باطن أمرهما وعلم منهما ما يوجب القتل. وقد ذكر بعض السلف رحمه الله أن الخضر إلى الآن ينفذ الحكم بالحقيقة، وأن الذين يموتون فجأة هو الذي يقتلهم، فإن صح ذلك فهو في هذه الأمة بطريق النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام صار من أتباعه صلى الله عليه وسلم، كما أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما ينزل يحكم بشريعته نيابة عنه لأنه من أتباعه.

وفيه أن عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع به صلى الله عليه وسلم اجتماعا متعارفا ببيت المقدس فهو صحابي. وجاء في حديث مطعون فيه: أي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الخضر وإلياس عليهما الصلاة والسلام يجتمعان في كل عام: أي في الموسم، ويحلق كل منهما رأس صاحبه ويفترقان عن هذه الكلمات «بسم الله، ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله ما يكون من نعمة فمن الله، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله» . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من قالها حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات عوفي من السرق والحرق والغرق ومن السلطان، ومن الشيطان، ومن الحية والعقرب. وعن علي كرّم الله وجهه: مسكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة إلى باب الأسباط، والله اعلم.

باب: سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه

باب: سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه لا يخفى أن ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له غزوة، وما خلا عنه صلى الله عليه وسلم يقال له سرية إن كان طائفة اثنين فأكثر، فإن كان واحدا قيل له بعث، وربما سموا بعض السرايا غزوة كما في مؤتة، حيث قالوا غزوة مؤتة، وكما في سرية الرجيع حيث عبر عنها السيوطي في الخصائص بغزوة الرجيع، وعن سرية ذات السلاسل بغزوة ذات السلاسل، وعن سرية سيف البحر بغزوة سيف البحر، وربما سموا الواحد سرية وهو في الأصل كثير، وربما سموا الاثنين فأكثر بعثا، ومنه قول الأصل كالبخاري بعث الرجيع، وظاهر كلامهم أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون إرسال ذلك لقتال، أو لغير قتال كتجسس الأخبار، أو لتعليمهم الشرائع كما في بئر معونة والرجيع، أو للتجارة كما في سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما حيث ذهب مع جمع بالتجارة للشام فلقيه بنو فزارة فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم كما سيأتي. والسرية في الأصل الطائفة من الجيش تخرج منه، ثم تعود إليه خرجت ليلا أو نهارا، وقيل السرية هي التي تخرج ليلا. والسارية هي التي تخرج نهارا، وهي من مائة إلى خمسمائة، وقيل إلى أربعمائة: أي وفي القاموس: السرية من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة، وعليه فما دون ذلك لا يقال له سرية، فما زاد على الثلاثمائة أو الأربعمائة إلى ثمانمائة يقال له منسر بالنون، فإن زاد على ذلك إلى أربعة آلاف قيل له جيش، أي وقيل الجيش من ألف إلى أربعة آلاف، فإن زاد على ذلك قيل له جحفل وجيش جرار أي إلى اثني عشر ألفا. والبعث في الأصل: الطائفة تخرج من السرية، ثم تعود إليها، وهو من عشرة إلى أربعين يقال له حفيرة، ومن أربعين إلى ثلاثمائة يقال له معتقب، وما زاد على ذلك يسمى حمزة: قال بعضهم: والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، وما هزم قوم بلغوا اثني عشر ألفا من قلة إذا صدقوا وصبروا» أي فلا يرد انهزام القدر المذكور يوم حنين. قال في الأصل: وكانت سراياه صلى الله عليه وسلم التي بعث بها سبعا وأربعين سرية، وهو في ذلك موافق لما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب. قال الشمس الشامي: والذي وقفت عليه من السرايا والبعوث لغير الزكاة يزيد على السبعين اهـ.

سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه

أي وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، والوليد الصبي، أي ما لم يقاتل كالنساء وإلا قتلوا. وفي رواية: «لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة» ، وهذا عند العمد، فلا ينافي أنه يجوز الإغارة على المشركين ليلا وإن لزم على ذلك قتل الصبيان والنساء والشيوخ. فقد روى الشيخان: «سئل صلى الله عليه وسلم عن المشركين يبيتون، أي يغار عليهم ليلا فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم» وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ولا سمع ولا طاعة في معصية الله» وكان صلى الله عليه وسلم يعتذر عن تخلفه عن تلك السرايا ويقول: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب نفوسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل» . ومن جملة وصيته صلى الله عليه وسلم لمن يوليه على سرية «وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» . ومن جملة قوله صلى الله عليه وسلم للسرايا: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا» ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى رضي الله تعالى عنهما إلى اليمن قال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» . سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة في ثلاثين رجلا من المهاجرين، قيل ومن الأنصار، وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث من الأنصار إلا بعد أن غزا بهم بدرا، أي وذلك في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة، وعقد له صلى الله عليه وسلم لواء أبيض. وهو أول لواء عقد في الإسلام، حمله أبو مرثد بفتح الميم وإسكان الراء ثم مثلثة مفتوحة: حليف حمزة رضي الله تعالى عنه، ليعترض عيرا لقريش جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل لعنه الله في ثلاثمائة رجل، وقيل في مائة وثلاثين، فصار رضي الله تعالى عنه إلى أن وصل سيف البحر، أي بكسر السين المهملة وإسكان المثناة تحت ثم فاء: ساحله من ناحية العيص، أرض من جهينة فصادف العير هناك،

سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه

فلما تصافوا للقتال حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان حليفا للفريقين، فأطاعوه وانصرفوا، ولم يقع بينهم قتال. ولما عاد حمزة رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، أي بأن مجديا حجز بينهم وأنهم رأوا منه نصفة، قال صلى الله عليه وسلم في مجدي: إنه ميمون النقيبة: أي مبارك النفس، مبارك الأمر. وقال سعيد أو رشيد الأمر: أي أموره ناجحة، ولم يقع له إسلام. أي وفي الإمتاع: وقدم رهط مجدي على النبي صلى الله عليه وسلم فكساهم. سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس ثمانية أشهر من الهجرة عبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنه في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين، منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وعقد له لواء أبيض، وحمله مسطح بن أثاثة رضي الله تعالى عنه ليعترض عيرا لقريش، وكان رئيسهم أبا سفيان. وقيل عكرمة بن أبي جهل. وقيل مكرز بن حفص في مائتي رجل، فوافوا العير ببطن رابغ: أي ويقال له ودان، فلم يكن بينهم إلا المناوشة برمي السهام، أي فلم يسلوا السيف، ولم يصطفوا للقتال. وكان أول من رمى المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فكان سهمه أول سهم رمى به في الإسلام، أي كما أن سيف الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أول سيف سل في الإسلام. ففي كلام ابن الجوزي: أول من سل سيفا في سبيل الله الزبير بن العوام. وقد ذكر أن سعدا رضي الله تعالى عنه تقدم أصحابه ونثر كنانته، وكان فيها عشرون سهما ما منها سهم إلا ويجرح إنسانا أو دابة، أي لو رمى به لصدق رمية وشدّة ساعده رضي الله تعالى عنه، ثم انصرف الفريقان، فإن المشركين ظنوا أن المسلمين مددا فخافوا وانهزموا، ولم يتبعهم المسلمون، وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو، أي الذي يقال له ابن الأسود، وعيينة بن غزوان، فإنهما كانا مسلمين ولكنهما خرجا مع المشركين ليتوصلا بهم إلى المسلمين، فعلم أن سرية عبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنه بعد سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وقيل بل هي قبلها، وكلام الأصل يشعر به، ويؤيده قول ابن إسحاق كانت راية عبيدة بن الحارث فيما بلغنا أول راية عقدت في الإسلام. قال بعضهم: ومنشأ هذا الاختلاف أن بعث حمزة وبعث عبيدة رضي الله تعالى عنهما كانا معا، أي في يوم واحد في محل واحد، أي وشيعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا كما في ذخائر العقبى فاشتبه الأمر، فمن قائل يقول: إن راية حمزة رضي الله تعالى عنه أول راية عقدت في الإسلام، وأن بعثه أول البعوث، ومن قائل يقول: إن راية عبيدة رضي الله تعالى

سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار

عنه أول راية عقدت في الإسلام، وأن بعثه أول البعوث، لكن يشكل على ذلك أن خروج حمزة كان على رأس سبعة أشهر من الهجرة كما تقدم، وخروج عبيدة كان على رأس ثمانية أشهر كما تقدم، وبما ذكر أن بعثهما معا إلى آخره يردّ ما أجاب به بعضهم عن هذا الإشكال، بأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم عقد رايتهما معا، وتأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية أشهر لأمر اقتضى ذلك هذا كلامه، إلا أن يقال يجوز أن يكون المراد ببعثهما معا أمرهما بالخروج، وإن المراد بتشييعهما جميعا أن كلا منهما وقع له التشييع منه صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يقتضي أن يكون ذلك في وقت واحد تأمل. وفي هذا إطلاق الراية على اللواء، وهو الموافق لما صرح به جماعة من أهل اللغة أنهما مترادفان، وتقدم أنه لم يحدث له اسم الراية إلا في خيبر، أي وكانوا لا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية، وما هنا يرده. وفي كلام بعضهم كانت رايته صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض كما في حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما. زاد أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: مكتوب فيه «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» . سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار بفتح الخاء المعجمة وراءين مهملتين: وفي النور بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء الأولى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس تسعة أشهر من الهجرة سعد بن أبي وقاص في عشرين من المهاجرين، أي وقيل ثمانية وعقد له لواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو قال: والخرار واد يتوصل منه إلى الجحفة، وقد عهد صلى الله عليه وسلم إليه أن لا يجاوزه ليعترض عيرا لقريش تمرّ بهم فخرجوا يمشون على أقدامهم يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبحوا المكان المذكور في صبح خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس، فضربوا راجعين إلى المدينة اهـ. وقد ذكر ابن عبد البر وابن حزم هذه السرية بعد بدر الأولى. وفي السيرة الشامية: «الباب السادس في سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار» وساق ما تقدم وقال بعده: «الباب السابع في سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه» . روى الإمام أحمد عنه قال: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت جهينة فقالوا له: إنك نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا، وبعثنا صلى الله عليه وسلم ولا نكون مائة، وكان ذلك في رجب أي من السنة الثانية، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغير على حي من كنانة، فأغرنا عليهم، فكانوا كثيرا فلجأنا إلى جهينة

سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى بطن نخلة

فمنعونا، وقالوا لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقال بعضنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره، وقال بعض آخر لا نقيم ههنا، وقلت أنا في أناس معي: بل نأتي عير قريش فنقطعها، فانطلقنا إلى العير وانطلق بعض أصحابنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان محمرا وجهه، فقال: جئتم متفرقين وإنما أهلك من قبلكم الفرقة، لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش، فبعث علينا عبد الله بن جحش أميرا فأمره علينا لنذهب إلى جهة نخلة بين مكة والطائف» . سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى بطن نخلة قال: لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الأخيرة، قال لعبد الله بن جحش واف مع الصبح معك سلاحك أبعثك وجها، فوافاه الصبح ومعه قوسه وجعبته ودرقته، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح وجده واقفا عند بابه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فدخل عليه، فأمره فكتب كتابا ثم دعا عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه، فدفع إليه الكتاب، وقال له: قد استعملتك على هؤلاء النفر اهـ. أي وكان قبل ذلك بعث عليهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فلما ذهب لينطلق بكى صبيانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث عليهم عبد الله وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين، أي فهو أول من تسمى في الإسلام بأمير المؤمنين ثم بعده عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ولا ينافي ذلك قول بعضهم: أول من تسمى في الإسلام بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، لأن المراد أول من تسمى بذلك من الخلفاء أو أن هذا أمير جميع وذاك أمير من معه من المؤمنين خاصة. فقد جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يكتب أولا: من خليفة أبي بكر، فاتفق أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل إلى عامل العراق أن يبعث إليه برجلين جلدين يسألهما عن أهل العراق، فبعث إليه بعبد بن ربيعة وعدي بن حاتم الطائي، فقدما المدينة ودخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين، فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، فدخل عليه عمرو وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: ما بدا لك في هذا الاسم؟ فأخبره الخبر وقال: أنت الأمير ونحن المؤمنون، فأول من سماه بذلك عبد بن ربيعة وعدي بن حاتم. وقيل أول من سماه بذلك المغيرة بن شعبة، وحينئذ صار يكتب: من عبد الله عمر أمير المؤمنين، فقد كتب رضي الله تعالى عنه بذلك إلى نيل مصر، فإن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح مصر ودخل شهر بؤنة من شهور

العجم دخل إليه أهل مصر وقالوا له: أيها الأمير إذا كان أحد عشر ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبوابها وجعلنا عليها من الثياب والحلي ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، أي ليجري، فقال لهم عمرو رضي الله تعالى عنه: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا مدة والنيل لا يجري لا قليلا ولا كثيرا حتى هم أهل مصر بالجلاء منها، فكتب عمرو بذلك إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه كتابا وكتب بطاقة في داخل الكتاب، وقال في الكتاب: قد بعثت إليك بطاقة في داخل الكتاب فألقها في نيل مصر، فلما قدم الكتاب أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر. أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجري، وإن كان الله هو الذي يجريك فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة، فقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم. وكان أولئك النفر ثمانية: أي وقيل اثني عشر من المهاجرين. يعتقب كل اثنين منهم بعيرا منهم سعد بن أبي وقاص وعيينة بن غزوان، وكانا يعتقبان بعيرا، ومنهم واقد بن عبد الله، ومنهم عكاشة بن محصن، وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الله أن لا ينظر في ذلك الكتاب حتى يسير يومين، أي قبل مكة ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه أي على السير معه. أي وقد عقد له صلى الله عليه وسلم راية. قال ابن الجوزي: أول راية عقدت في الإسلام راية عبد الله بن جحش، أي بناء على أن الراية غير اللواء، وحينئذ تعارض القول بترادفهما والقول بأن اسم الراية إنما وجد في خيبر. قال ابن الجوزي رحمه الله: وهو أول أمير أمر في الإسلام. وفيه أنه مخالف لما سبق. إلا أن يريد أول من سمي أمير المؤمنين، فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب، فإذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فأت حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، ولا تكره أحدا من أصحابك على السير معك، أي لفظ الكتاب: سر بسم الله وبركاته ولا تكرهن أحدا من أصحابك على السير معك، وامض لأمري حتى تأتي بطن نخلة فترصد عير قريش، وتعلم لنا أخبارهم، فلما قرأ الكتاب على أصحابه قالوا: نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك، فسر على بركة الله تعالى، أي وجعل البخاري دفعه صلى الله عليه وسلم الكتاب لعبد الله ليقرأه ويعمل بما فيه دليلا على صحة الرواية بالمناولة، وهي أن الشيخ يدفع لتلميذه كتابا، ويأذن له أن يحدّث عنه بما فيه. وممن قال بصحة المناولة سيدنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه. روى إسماعيل بن صالح عنه أنه أخرج لهم كتبا مشدودة وقال لهم: هذه كتبي صححتها

ورويتها فارووها عني، فقال له إسماعيل بن صالح: نقول: حدثنا مالك؟ قال نعم. وفي لفظ أن عبد الله رضي الله عنه لما قرأ الكتاب قال سمعا وطاعة، أي بعد أن استرجع ثم أعلم أصحابه، وقال لهم من كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضوا ولم يتخلف منهم أحد حتى إذا كانوا ببحران بفتح الموحدة وبضمها وسكون الحاء المهملة: موضع أضل سعد بن وقاص وعيينة بن غزوان بعيرهما فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله ومن عداهما معه حتى نزل بنخلة فمرت عير لقريش: أي تحمل زبيبا وأدما: أي جلودا من الطائف وأمتعة للتجارة، في تلك العير عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن المغيرة، وأخوه نوفل والحكم بن كيسان، ونزلوا قريبا من عبد الله وأصحابه وتخوّفوا منهم، فأشرف عليهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه: أي وتراءى لهم ليظنوا أنهم عمارا فيطمئنوا، أي وذلك بإرشاد عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه، فإنه قال لهم: إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم، فلما رأوا رأسه محلوقا قالوا عمّار، أي هؤلاء قوم معتمرون لا بأس عليكم منهم، وكان ذلك آخر يوم من شهر رجب، أي وقيل أول يوم منه. ويدل للأول ما جاء أن عبد الله تشاور مع أصحابه فيهم، فقال بعضهم لبعض: إن تركتموهم في هذه الليلة دخلوا الحرم فقد تمنعوا منكم به، وإن قتلتموهم في هذا اليوم تقتلوهم في الشهر الحرام، أي وكان ذلك قبل أن يحل القتال في الشهر الحرام، فإن تحريم القتال في الأشهر الحرم كان معمولا به من عهد إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام، جعل الله ذلك مصلحة لأهل مكة، فإن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما دعا لذريته بمكة أن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إليهم لمصلحتهم ومعاشهم، جعل الأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سردا وواحدا فردا وهو رجب، أما الثلاثة فليأمن الحجاج فيها واردين لمكة وصادرين عنها، شهرا قبل شهر الحج، وشهرا آخر بعده قدر ما يصل الراكب من أقصى بلاد العرب ثم يرجع، وأما رجب فكان للعمار يأمنون فيه مقبلين ومدبرين وراجعين نصف الشهر للإقبال ونصفه الآخر للإياب، لأن العمرة لا تكون من أقاصي بلاد العرب كالحج، وأقصى منازل بلاد المعتمرين خمسة عشر يوما، ذكره السهيلي. ولم يزل تحريم القتال في تلك الأشهر الحرم إلى صدر الإسلام، وذلك قبل نزول براءة، فإن براءة كان فيها نبذ العهد العام، وهو أن لا يصدّ أحد عن البيت جاءه، ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم، وأن لا يحج مشرك، وإباحة القتال في الأشهر الحرم، أي مع بقاء حرمتها، فإنها لم تنسخ، قال تعالى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ

أَنْفُسَكُمْ [التّوبة: الآية 36] فتعظيم حرمتها باقية لم تنسخ، وإنما نسخ حرمة القتال فيها، خلافا لما نقل عن عطاء من أن حرمة القتال فيها باقية لم تنسخ. ويدل للثاني ما في الكشاف وكان ذلك اليوم أول يوم من رجب وهم يظنون أنه من جمادى الآخرة، فتردد القوم وهابوا الإقدام، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، ثم أجمع رأيهم على قتل من لم يقدروا على أسره، أي وأخذ ما معهم فقتلوا عمرو بن الحضرمي، رماه واقد بن عبد الله بسهم فهو أول قتيل قتله المسلمون، وأسروا عثمان والحكم فهما أول أسير أسره المسلمون، وأفلت بفتح الهمزة باقي القوم، أي وجاء الخبر لأهل مكة فلم يمكنهم الطلب لدخول شهر رجب، أي بناء على ما تقدم، واستاق عبد الله وأصحابه رضي الله عنهم العير حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول غنيمة غنمها المسلمون فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وأبى أن يستلم العير والأسيرين، فسقط بالبناء للمجهول في أيديهم: أي ندموا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام؟ سفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، أي وصارت قريش تعير بذلك من مكة من المسلمين، يقولون لهم: يا معشر الصباة قد استحللتم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، وزادوا في التشنيع والتعيير وصارت اليهود تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون القتيل عمرو الحضرمي والقاتل واقد، فيه عمرت بفتح العين المهملة وكسر الميم الحرب: أي حضرت الحرب ووقدت الحرب، فكان ذلك الفأل عليهم لعنهم الله وضاق الأمر على عبد الله وأصحابه رضي الله عنهم، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: الآية 217] أي عظيم الوزر وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: الآية 217] أي ومنع للناس عن دين الله وَكُفْرٌ بِهِ [البقرة: الآية 217] أي بالله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: الآية 217] أي ومنع للناس عن مكة وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ [البقرة: الآية 217] وهمّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين منه من أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: الآية 217] أعظم وزرا وَالْفِتْنَةُ [البقرة: الآية 191] الشرك: أي الذي أنتم عليه، أو حملكم من أسلم على الكفر بالتعذيب له أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: الآية 217] لكم فيه: أي صدهم لكم عن المسجد الحرام، وكفرهم بالله وإخراجكم من مكة وأنتم أهلها، وفتنة من أسلم بحيث يرتد عن الإسلام ويرجع إلى الكفر أكبر من قتل من قتلتم منهم، ففرج عن عبد الله وأصحابه رضي الله عنهم، أي وهذا كما ترى يدل على أنهم قتلوا مع علمهم بأن ذلك اليوم من رجب، ويضعف ما تقدم عن الكشاف الموافق لما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أصحاب محمد كانوا يظنون أن ذلك اليوم آخر جمادى، وكان أول رجب ولم يشعروا، أي لأن جمادى يجوز أن يكون ناقصا. وفيه أنه لو كان الأمر كذلك لاعتذر عبد الله وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بذلك.

وجاء أن المسلمين اختلفوا في ذلك اليوم، فمن قائل منهم هذه غرة من عدوكم وغنم رزقتموه، ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا؟ وقال قائل منهم: لا نعلم اليوم إلا من الشهر الحرام، ولا نرى أن تستحلوه لطمع اشتملتم عليه، ويذكر أنه صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي أي أعطى ديته، ويضعفه ما تقدم في غزوة بدر من أن أخاه طلب ثأره وكان ذلك سببا لإثارة الحرب وأن عتبة بن ربيعة أراد أن يتحمل ديته ويتحمل جميع ما أخذ من العير وأن تكف قريش عن القتال، وحينئذ تسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وطمع عبد الله وأصحابه في حصول الأجر، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) [البقرة: الآية 218] أي فقد أثبت لهم الجهاد في سبيل الله. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم ذلك العير وخمسه. أي جعل خمسه لله وأربعة أخماسه للجيش. وقيل تركه حتى رجع من بدر وخمسه مع غنائم بدر، وقيل إن عبد الله هو الذي خمسها، أي فإنه رضي الله عنه، قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما غنمنا الخمس فأخرج خمس ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عزلها له، وقسم سائرها بين أصحابه رضي الله عنهم. وحينئذ يكون ما تقدم من قوله وأبى أن يتسلم العير، الظاهر في أن العير لم تقسم، المراد خمس تلك العير، وهو أول غنيمة خمست في الإسلام: أي قبل فرضه، ثم فرض على ما صنع عبد الله رضي الله عنه، ويوافق ذلك قول ابن عبد البر في الاستيعاب. وعبد الله بن جحش أوّل من سنّ الخمس من الغنيمة للنبي صلى الله عليه وسلم من قبل أن يفرض الله الخمس، وأنزل الله تعالى بعد ذلك آية الخمس: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: الآية 41] الآية، وإنما كان قبل ذلك المرباع، هذا كلامه، والمرباع: ربع الغنيمة، وتقدم أن الفيء والغنيمة يطلق أحدهما على الآخر. وفي كلام فقهائنا أن الغنيمة كانت في صدر الإسلام له صلى الله عليه وسلم خاصة، ثم نسخ ذلك بالتخميس. وبعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء عثمان والحكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا يعني سعد بن أبي وقاص وعيينة بن غزوان، فإنا نخشاكم عليهما، فإن قتلتموها نقتل صاحبيكم، فإن سعدا وعيينة رضي الله عنهما لم يحضرا الوقعة بسبب التماسهما بعيرهما وقد مكثا في طلبه أياما ثم قدما، فأفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين: أي كل واحد بأربعين أوقية. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا.

سرية عمير بن عدي الخطمي الضرير إلى عصماء

أي وعن المقداد: أراد أميرنا يعني عبد الله بن جحش أن يقتل الحكم، فقلت: دعه فقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا بعث وفي الأصل تبعا لشيخه الحافظ الدمياطي. سرية عمير بن عدي الخطمي الضرير إلى عصماء أي بالمد: بنت مروان اليهودية، وكانت متزوجة في بني خطمة، وكان زوجها مرثد بن زيد بن حصين الأنصاري أسلم بعد ذلك رضي الله عنه. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن عدي الخطمي، وهو أول من أسلم من بني خطمة إلى قتل عصماء بنت مروان، لأنها كانت تسب الإسلام وتؤذي النبي صلى الله عليه وسلم في شعر لها، وتحرّض عليه، فجاءها عمير في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام وعلى صدرها صبي ترضعه فمسها بيده ونحى الصبي عن صدرها، ووضع سيفه على صدرها وتحامل عليه حتى أنفذه من ظهرها ثم صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقتلت ابنة مروان؟ فقال: نعم، فهل عليّ في ذلك من شيء؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان: أي الأمر في قتلها هين لا يعارض فيه معارض، وهذه الكلمة من جملة الكلمات التي لم تسمع إلا من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جمع غالبها في النور في هذا المحل، قال: وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم عميرا هذا بالبصير، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: انظروا إلى هذا الأعمى الذي يسري في طاعة الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقل الأعمى، ولكن البصير. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: ألا رجل يكفينا هذه؟ يعني عصماء بنت مروان، فقال عمير بن عدي: أنا لها، فأتاها وكانت تمارة: أي تبيع التمر، فقال لها: أعندك أجود من هذا التمر، لتمر بين يديها؟ قالت نعم، فدخلت إلى البيت وانكبت لتأخذ شيئا من التمر، فالتفت يمينا وشمالا فلم يشعر بأحد، فضرب رأسها حتى قتلها، فليتأمل هذا مع ما قبله. ثم إنّ عميرا أتى المسجد فصلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم من صلاته نظر إليه، فقال له: أقتلت ابنة مروان؟ قال نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله فانظروا إلى عمير، فلما رجع عمير إلى منزل بني خطمة وجد بنيها في جماعة يدفنونها، فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ قال: نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون: والذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لأضربنكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم، فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة، وكان يخفي إسلامه من أسلم منهم، لكن جاء في رواية أنها كانت تلقي خرق الحيض في مسجد بني خطمة فليتأمل.

سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما أهدر دم عصماء نذر عمير إن رد الله رسوله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة سالما ليقتلنها، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة عدا عليها عمير رضي الله تعالى عنه فقتلها. وفي كلام السهيلي رحمه الله أن الذي قتل عصماء بعلها. وقد يقال: لا مخالفة لأن عميرا رضي الله عنه جاز أن يكون كان بعلا لها قبل مرثد بن زيد. وذكر في الاستيعاب في ترجمة عمير رضي الله عنه أنه قتل أخته لسبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمها. أقول: الظاهر أنها كانت غير عصماء، لأن نسب عصماء غير نسب عدي، إلا أن يقال إنها أخته لأمه ويبعده ما تقدم من أنه كان زوجا لها، والله أعلم وبعث وفي الأصل تبعا لشيخه الحافظ الدمياطي. سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك أي والعفك بفتح العين المهملة وبالفاء وبالكاف: أي الحمق أي أبي الحمق اليهودي، قال صلى الله عليه وسلم يوما: «من لي بهذا الخبيث، يعني أبا عفك» أي من ينتدب إلى قتله وكان شيخا كبيرا قد بلغ مائة وعشرين سنة، وكان يحرض الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبه في شعر له، فقال سالم بن عمير رضي الله عنه، أي وهو أحد البكائين، وقد شهد بدرا: عليّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه فطلب له غرة: أي غفلة، فلما كانت ليلة صائفة أي شديدة الحر نام أبو عفك بفناء بيته، أي خارجه، فعلم بذلك سالم رضي الله عنه فأقبل نحوه فوضع السيف على كبده ثم تحامل حتى خش السيف في الفراش وصاح عدو الله، فتركه سالم رضي الله عنه وذهب، فقام إلى أبي عفك ناس من أصحابه فاحتملوه وأدخلوا داخل بيته فمات عدو الله، وابن إسحاق قدم هذا البعث على بعث عمير. سرية عبد الله بن مسلمة رضي الله عنه إلى كعب بن الأشرف الأوسي أي فإن أباه أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف منهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، وكان شاعرا مجيدا، وقد كان ساد يهود الحجاز بكثرة ماله، وكان يعطي أحبار اليهود ويصلهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاءه أحبار يهود من بني قينقاع وبني قريظة لأخذ صلته على عادتهم، فقال لهم: ما عندكم من أمر هذا الرجل:

يعني النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو الذي كنا ننتظر، ما أنكرنا من نعوته شيئا، فقال لهم قد حرمتم كثيرا من الخير، فارجعوا إلى أهليكم، فإن الحقوق في مالي كثيرة، فرجعوا عنه خائبين، ثم رجعوا إليه وقالوا له إنا أعجلناك فيما أخبرناك به، ولما استثبتنا علمنا أنا غلطنا وليس هو المنتظر، فرضي عنهم ووصلهم، وجعل لكل من تابعهم من الأحبار شيئا من ماله، وهذا نزل فيه قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران: الآية 75] استودعه شخص دينارا فجحده كذا في تكملة الجلال السيوطي. وفي الكشاف وفروعه أنها نزلت في فنحاص بن عازوراء. وقد يقال: لا مانع من تعدد الواقعة. ولما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقدم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنهما مبشرين لأهل المدينة بذلك وصارا يقولان قتل فلان وفلان وأسر فلان وفلان من أشراف قريش، صار كعب يكذب في ذلك ويقول هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها، أي كما تقدم، فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة وكان شاعرا فجعل يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح عدوهم ويحرضهم عليه، وينشد الأشعار ويبكي من قتل ببدر من أشراف قريش، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت، ثم رجع إلى المدينة: أي بعد أن لم يجد من يأوي رحله بمكة، أي لأنه لما قدم مكة وضع رحله عند المطلب بن وداعة وأكرمته زوجة المطلب وهي عاتكة بنت أسيد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان وأخبره بذلك، فهجا المطلب وزوجته، فلما بلغهما هجاء حسان ألقت رحله، وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟ وأسلم المطلب وزوجته بعد ذلك رضي الله عنهما، وصار كلما تحول عند قوم من أهل مكة صار حسان يهجوهم فيلقون رحله، أي يقال إنه خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على أبي سفيان فقال لهم أبو سفيان إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما، ففعلوا، فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النّساء: الآية 51] أي وحالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين، فخرج من مكة للمدينة، فلما وصل إلى المدينة وصار يشبب بنساء المسلمين: أي يتغزل فيهن ويذكرهن بالسوء حتى آذاهن. أي وقيل إن كعب بن الأشرف صنع طعاما وواطأ جماعة من اليهود أن يدعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام، فإذا حضر يفتكون به، ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه، فأعلمه جبريل عليه السلام بما أضمروه بعد أن جالسه، فقام صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام يستره بجناحه حتى خرج، فلما فقدوه تفرّقوا، ولا مانع من تعدد الأسباب، فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ينتدب لقتل كعب بن الأشرف؟ وفي لفظ: من لنا بابن الأشرف، فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، أي وفي رواية: إنه يؤذي الله ورسوله، وفي أخرى فإنه قد آذانا بشعره وقوى المشركين علينا، أي فإن أبا سفيان قال لكعب: فإنك تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق، أنحن أم محمد؟ فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء، ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا قديم ودين محمد الحديث، فقال كعب لعنه الله: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه، فقال له صلى الله عليه وسلم: من لي بقتل ابن الأشرف؟ فقال محمد بن سلمة الأوسي: أنا لك به يا رسول الله، هو خالي- لأن محمد بن مسلمة ابن أخته- أنا أقتله، وأجمع: أي عزم على ذلك هو وأربعة: أي من الأوس عباد بن بشر وأبو نائلة، وكان رضي الله عنه أخا لكعب بن الأشرف من الرضاعة والحارث بن عيسى والحارث بن أوس. ومكث محمد بن مسلمة رضي الله عنه بعد قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب إلا ما تقوم به نفسه خوفا من عدم وفائه بما ذكر، ثم قال: يا رسول الله لا بد لنا أن نقول: أي نذكر ما نتوصل به إليه من الحيلة، وحينئذ كان المناسب أن يقول لا بد لنا أن نتقول: أي نخترع ما نحتال به عليه، فقال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك، فأباح صلى الله عليه وسلم لهم الكذب لأنه من خدع الحرب كما تقدم. وقيل إنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه، والجمع ممكن، فتقدمهم إلى كعب أبو نائلة رضي الله عنه، وكان يقول الشعر فتحدث معه ساعة وتناشدا شعرا، ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني، قال: افعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، فقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس. أي وسألنا الصدقة ونحن لا نجد ما نأكل، وسائر ما عندنا أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه، فقال كعب: لقد كنت أخبرتك يا بن مسلمة أن الأمر سيصير إلى ما تقول، أي ثم قال له كعب: أصدقني ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتنحي عنه، قال شر تبين، بأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل، فقال أبو نائلة، وقيل محمد بن مسلمة كما في رواية صحيحة. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن كلا منهما قال له: إني أريد أن تبيعني وأصحابي طعاما ونرهنك ونوثق لك، فقال: أترهنوني أبناءكم. وفي رواية نساءكم، قال: أردت أن تفضحنا، نرهنك من الحلقة: أي السلاح كما تقدم- وقيل الدرع

خاصة- ما فيه وفاء، وقد أردت أن آتيك بأصحابي، أراد أبو نائلة رضي الله عنه أن لا ينكر كعب السلاح إذا جاء به هو وأصحابه، فقال إن في الحلقة لوفاء: أي وفي البخاري، قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب. زاد في رواية: ولا نأمنك عليهنّ، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك فإنك تعجب النساء، قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم، فيقال رهن يوسف، قالوا: هذا عار علينا ولكنا نرهنك اللامة: أي السلاح، فرجع أبو نائلة رضي الله عنه إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا من عنده متوجهين إلى كعب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته: أي وأمرّ عليهم محمد بن مسلمة، وكانت تلك الليلة مقمرة، فأقبلوا رضي الله عنهم حتى انتهوا إلى حصن كعب فهتف به أبو نائلة رضي الله عنه، وكان كعب قريب عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها أي طرفها، وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في مثل هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة، لو وجدني قائما لا يوقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، أي وفي البخاري: فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فإني أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم. وفي مسلم كأنه صوت دم: أي صوت طالب دم، قال: إنما هو ابن أختي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب كذا في البخاري. وفي مسلم: إنما هو محمد ورضيعته، قيل وصوابه إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة. فقد ذكر أهل العلم أن أبا نائلة رضي الله عنه كان رضيعا لمحمد فنزل أي وهو ينفح منه ريح طيب، فتحدث معه هو وأصحابه ساعة ثم تماشوا، ثم إن أبا نائلة رضي الله عنه وضع يده على رأس كعب ثم شم يده، وقال: ما رأيت طيبا أعطر من هذا الطيب. أي فقال: وكيف وعندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب؟ وفي لفظ: وأجمل بدل أكمل، وهي أشبه، فقال له: يا أبا سعيد ادن مني رأسك أشمه وأمسح به عيني ووجهي، ثم مشوا ساعة، ثم عاد أبو نائلة لوضع يده على رأسه، واستمسك به وقال اضربوا عدوّ الله، فضربوه، فاختلفت أسيافهم، فلم تغن شيئا: أي وقع بعضها على بعض ولصق عدوّ الله بأبي نائلة وصاح صيحة لم يبق حصن إلا وعليه نار، قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: فوضعت سيفي في ثنيته ثم تحاملت عليه حتى بلغ عانته فوقع، أي ولما صاح اللعين صاحت امرأته: يا آل قريظة والنضير مرتين، فخرجت اليهود فأخذوا على غير طريق الصحابة ففاتوهم. قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: وأصيب الحارث بن أوس من بعض

سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع

أسيافنا في رجله ورأسه ونزف به الدم، فتخلف عنا: أي وناداهم: اقرئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، فعطفوا عليه واحتملوه. وفي رواية تخلف عن أصحابه فافتقدوه ورجعوا إليه فاحتملوه. قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا وأخبرناه بقتل عدوّنا، وتفل على جرح صاحبنا فلم يؤلمه. قال: وفي رواية أنهم حزوا رأس كعب وحملوا ذلك الرأس ثم خرجوا يشتدّون، فلما بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تلك الليلة، فلما سمع تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف أنهم قد قتلوا عدوّ الله، وخرج إلى باب المسجد فجاؤوا فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على باب المسجد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلحت الوجوه، قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله، أي وعند ذلك أصبحت يهود مذعورين، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قتل سيدنا غيلة، فذكر لهم النبي لله صنيعه من التحريض عليه وأذيته المسلمين فازدادوا خوفا. سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع سلام بالتخفيف ابن أبي الحقيق على وزن نصير بالتصغير وبالحاء المهملة الخزرجي: أي وفي البخاري: أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، ويقال له سلام بن أبي الحقيق، كان بخيبر، وكان تاجر أهل الحجاز. لما قتلت الأوس: أي عبد الله بن مسلمة وأبو نائلة ومن تقدم معهما كعب بن الأشرف تذاكر الخزرج من يشابه كعب بن الأشرف في العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الخزرج، فذكروا أبا رافع سلام بن أبي الحقيق، أي لأنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي وعن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حزب الأحزاب يوم الخندق، لأن الأوس والخزرج كانا يتنافسان فيما يقرّب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تفعل الأوس شيئا من ذلك إلا فعلت الخزرج نظيره وبالعكس، ويقولون: والله لا يذهبون بهذا قتيلا علينا في الإسلام، فانتدب لقتله خمسة من الخزرج منهم عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: أي في أن يتكلموا بما يتوصلون به إليه من الحيلة، فأذن لهم وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وأمرهم أن لا يقتلوا وليدا ولا امرأة فخرجوا حتى أتوا خيبر فتسوروا دار أبي رافع ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله، وكان أبو رافع في علية لها درجة، أي سلم من الخشب من محل يصعد عليه إلى تلك العلية، فطلعوا في تلك الدرجة حتى قاموا

على باب تلك العلية، فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته، فقالت: من أنتم؟ قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة. وفي لفظ: لما صعدوا قدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يتكلم بلسان يهود، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته وقالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلوا عليه أغلقوا عليهم وعليها باب الحجرة ووجدوه وهو على فراشه، ما دلهم عليه في الظلمة إلا بياضه كأنه قبطية بيضاء فابتدروه بأسيافهم، ووضع عبد الله بن أنيس رضي الله عنه سيفه في بطنه وتحامل عليه حتى أنفذه وهو يقول قطني قطني: أي يكفيني يكفيني، وعند ذلك صاحت المرأة. قال بعضهم: ولما صاحت المرأة جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يتذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكف يده. قال: وفي رواية أن المرأة لما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بعضنا بالسيف فسكتت، فابتدرناه بأسيافنا وخرجنا من عنده، وكان عبد الله بن عتيك رجلا سيىء البصر فوقع من الدرجة فوثبت رجله وثبا شديدا، أي جرحت جرحا شديدا. وفي لفظ: قد انكسرت ساقه. وفي آخر فانخلعت رجله فعصبها بعمامته، والجمع بين كسر ساقه وخلع رجله واضح، لأن الانخلاع يكون من المفصل، فقد انكسرت ساقه وانخلعت من مفصلها، ومع الكسر والانخلاع حصلت فيها جراحة أيضا. وأما قول ابن إسحاق رحمه الله فوثبت يده فقيل وهم والصواب رجله كما تقدم. وفي السيرة الهشامية. فوثبت يده، وقيل رجله. وقد يقال: لا مانع من حصولهما، قال: فحملناه حتى أتينا محلا استخفينا فيه: أي وذلك المحل من أفنيتهم التي يلقون فيها كناستهم. وفي لفظ: أنهم كمنوا في نهر من عيونهم حتى سكن الطلب. وقد يقال: لا مخالفة، لأنهم أوقدوا النيران، وتفرقوا من كل وجه يطلبونهم أي وفي لفظ: فخرج الحارث في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران حتى إذا أيسوا رجعوا إلى عدوّ الله، فاكتنفوه وهو بينهم يجود بنفسه، فقال بعضنا لبعض: كيف نعلم أن عدوّ الله مات؟ فقال رجل منهم: أنا ذاهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس قال: فوجدت امرأته تنظر في وجهه وفي يدها المصباح، ورجال يهود حوله وهي تحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي. أي وعلى الرواية الآتية أنه أكذبها، ثم أقبلت تنظر في وجهه، ثم قالت فاضت وإله يهود: أي خرجت روحه، فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جئت وأخبرت أصحابي، واحتملنا عبد الله بن عتيك، وقدمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: أن ابن عتيك لما عصب رجله انطلق حتى جلس على الباب. وقال: لا أخرج الليلة حتى أعلم أني قتلته أولا؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلق يحجل إلى أصحابه وقال قد قتل الله أبا رافع، فأسرعوا، وليتأمل هذا مع ما قبله، وقوله أنعى هو بفتح العين، وقيل الصواب انعو، والنعي: خبر الموت والاسم الناعي. ويقال له الناعية، وكانت العرب إذا مات فيهم الكبير ركب راكب فرسا وصار يذكر أوصافه ومآثره، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ولا منافاة بين كونه انطلق يحجل إلى أصحابه وكونهم حملوه، لأنه يجوز أن يكون عند وقوعه وحصول ما تقدم له لم يحس الألم لما هو فيه من الاهتمام وقدر على المشي يحجل، ومن ثم جاء في بعض الروايات: فقمت أمشي ما بي قلبة: أي علة مهلكة. فلما وصل إلى أصحابه وعاد عليه المشي أحسّ بالألم، فحمله أصحابه، وهذا السياق يدل على أن الذي قتله عبد الله بن عتيك وحده، وهو ما في البخاري، وفي رواية أن الذي كسرت رجله أبو قتادة لأنهم لما قتلوه وخرجوا نسي أبو قتادة قوسه فرجع إليها وأخذها فأصيبت رجله فشدها بعمامته ولحق بأصحابه، وكانوا يتناوبون حمله حتى قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فمسحها فبرئت، أي وقال لما رآنا: أفلحت الوجوه، قلنا أفلح وجهك يا رسول الله وأخبرناه بقتل عدوّ الله، واختلفنا عنده صلى الله عليه وسلم في قتله كل منا ادعاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتوا أسيافكم فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. قال: والثابت في الصحيح كما علمت أن عبد الله بن عتيك هو الذي انفرد بقتله وأن عدوّ الله كان بحصن بأرض الحجاز، ولا منافاة لأن خيبر من الحجاز، أي من قراه وريفه. فلما دنوا من خيبر وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله، ناداه بذلك كما ينادي الشخص شخصا لا يعرفه وهو يظن أنه من أهل الحصن، إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب فدخل وكمن. فلما أغلق الباب علق المفاتيح. قال ثم أخذتها وفتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده. فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقته عليّ من داخله حتى انتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فضربته بالسيف فما أغنت شيئا وصاح، فخرجت من البيت، أي وعند ذلك قالت له امرأته: يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك. قال: ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك؟ قال ابن

سرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى القردة

عتيك: ثم عدت وقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني بالسيف فعمدت إليه فضربته أخرى فلم تغن شيئا فتواريت ثم جئته كهيئة المغيث وغيرت صوتي، وإذا هو مستلق على ظهره فوضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم جئت إلى الدرجة فوقعت، فانكسرت رجلي فعصبتها بعمامتي فانطلقت إلى أصحابي، وقلت النجاة قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته. فقال: ابسط رجلك فمسحها فكأني لم أشتكها قط، وعادت كأحسن ما كانت انتهى، أي وهذا ما في البخاري. وفيه في رواية أخرى أن ابن عتيك قال: لما وضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه حتى سمعت صوت العظم خرجت دهشا حتى أتيت السلم: أي الذي صعدت فيه أريد أن أنزل فأسقطت منه فانخلعت رجلي، فعصبتها، فأتيت أصحابي أحجل. فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية، فقال أنعى أبا رافع، فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشرته. وفي سيرة الحافظ الدمياطي أنهم مكثوا في ذلك المحل الذي استخفوا فيه يومين حتى سكن عنهم الطلب. وينبغي النظر إلى وجه الجمع بين ما ذكر. سرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى القردة بفتح القاف والراء، وقيل بالفاء مفتوحة، وقيل بكسرها وسكون الراء، وقدمه في الأصل على الأول: اسم ماء. وسببها أن قريشا لما كانت وقعة بدر خافوا الطريق التي كانوا يسلكونها إلى الشام من على بدر، فسلكوا طريقا أخرى من جهة العراق. فخرج عير لهم فيه أموال كثيرة جدا من تلك الطريق يريدون الشام، واستأجروا رجلا يدلهم على الطريق، وكان ذلك الرجل ممن هرب من أسارى بدر. وفي ذلك العير من أشراف قريش: أبو سفيان، وصفوان بن أمية، وعبد الله بن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في مائة راكب، وهي أول سرية لزيد بن حارثة خرج فيها أميرا، فصادف تلك العير على ذلك الماء فأصاب العير، وأفلت القوم وأسروا دليلهم. وقدم زيد رضي الله عنه بتلك العير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمسها فبلغ الخمس ما قيمته عشرون ألف درهم، وأتي بذلك الأسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له إن تسلم تترك: أي من القتل. فأسلم فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه بعد ذلك.

سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد

سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد وهو ابن عمته صلى الله عليه وسلم برة بنت عبد المطلب وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة كما تقدم- إلى قطن- أي وهو جبل، وقيل ماء من مياه بني أسد. وسببها أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طليحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أخبره بذلك رجل من طيىء قدم المدينة لزيارة بنت أخيه بها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سلمة المذكور، وعقد له لواء وبعث معه مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار، وخرج الرجل المخبر له صلى الله عليه وسلم دليلا لهم، وقال له صلى الله عليه وسلم: سر حتى تنزل أرض بني أسد فأغر عليهم قبل أن يتلاقى عليك جموعهم، فأغذّ السير، أي بفتح الهمزة والغين المشددة والذال المعجمة: أي أسرع، ونكب، أي بفتح الكاف المخففة: عدل عن سيف الطريق، وسار بهم ليلا ونهارا ليستبق الأخبار، فانتهى إلى ماء من مياههم، فأغار على سرح لهم، وأسروا ثلاثة من الرعاة وأفلت سائرهم، ففرق أبو سلمة أصحابه ثلاث فرق: فرقة بقيت معه، وفرقتان أغارتا في طلب النعم والشاء والرجال، فأصابوا إبلا وشاء ولم يلقوا أحدا، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة. قال: وقيل إنه خرج صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك عبدا، أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان يباح له أخذ الصفي، وهو ما يختاره له أمير السرية قبل القسمة من الفيء أو الغنيمة من جارية أو غيرها كما تقدم. وأخرج الخمس، ثم قسم ما بقي بين أصحابه، فأصاب كل إنسان سبعة أبعرة، أي وطليحة هذا كان يعد بألف فارس، قدم عليه صلى الله عليه وسلم في بعض الوفود وأسلم، ثم ارتد وادعى النبوة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقويت شوكته، ثم أسلم بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه، وحسن إسلامه، وحج في زمن عمر رضي الله عنه، ولم يعرف لأخيه سلمة إسلام. بعث عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلي ثم اللحياني بكسر اللام وفتحها. وسبب ذلك أنه عليه الصلاة والسلام بلغه أن سفيان المذكور قد جمع الجموع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه ليقتله، فقال: صفه لي يا رسول الله، فقال إذا رأيته هبته وفرقت: أي خفت منه وذكرت الشيطان، فقال عبد الله: يا رسول الله ما فرقت من شيء قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى إنك تجد له قشعريرة إذا رأيته، فقال عبد الله: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول: أي ما أتوصل به إليه من الحيلة فأذن لي: أي قال لي: قل ما بدا لك: أي وقال انتسب إلى خزاعة. قال عبد الله بن أنيس فسرت حتى إذا كنت ببطن عرنة: وهو واد بقرب عرفة لقيته يمشي: أي متوكئا على عصا يهدّ الأرض ووراءه الأحابيش: أي أخلاط الناس

ممن انضم إليه، فعرفته بنعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأني هبته وكنت لا أهاب الرجال، فقلت: صدق الله ورسوله، أي وكان وقت العصر، فخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة يشغلني عن الصلاة فصليت وأنا أمشي نحوه أومىء برأسي. فلما انتهيت إليه، قال لي: من الرجل؟ فقلت: رجل من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك، قال: أجل، إني لأجمع له، فمشيت معه ساعة وحدثته فاستحلى حديثي. أي وكان فيما حدثته به أن قلت له: عجبت لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث. فارق الآباء، وسفه أحلامهم. فقال لي: إنه لم يلق أحدا يشبهني ولا يحسن قتاله. فلما انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه قال لي: يا أخا خزاعة هلم، فدنوت منه. فقال اجلس فجلست معه، حتى إذا هدأ الناس وناموا اغتررته فقتلته وأخذت رأسه ثم دخلت غارا في الجبل وصيرت العنكبوت: أي نسجت عليّ، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا. فانصرفوا راجعين، ثم خرجت. فكنت أسير الليل وأتوارى النهار حتى قدمت المدينة. فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما رآني قال: قد أفلح الوجه. قلت: أفلح وجهك يا رسول الله. فوضعت رأسه بين يديه وأخبرته خبري، فدفع لي عصا وقال: تحضر بهذه في الجنة: أي توكأ عليها فإن المتخصرين في الجنة قليل، فكانت تلك العصا عنده. فلما حضرته الوفاة أوصى أهله أن يدخلوها في كفنه ويجعلوها بين جلده وكفنه ففعلوا. أي وفي القاموس ذو المخصرة: أي كمكنسة بكسر الميم عبد الله بن أنيس. وهذه القصة وقصة كعب بن الأشرف تردّ على الزهري قوله لم يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس إلى المدينة قط. وحمل إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه رأس فكره ذلك. وأول من حملت الرؤوس عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. وفيه أنه لما قتل الحسين وجماعة من أهل بيته بعث ابن زياد قبحه الله برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية. وابن الزبير رضي الله عنهما لم يبايع بالخلافة إلا بعد موت يزيد. ومضى مدة خلافة ابنه معاوية رضي الله عنه الذي خلع نفسه وهي أربعون يوما. ولعل إرسال رأس الحسين ومن معه كان قبل رأس عبد الله بن أبي الحمق، فلا ينافي قول ابن الجوزي أول رأس حمل في الإسلام- أي من المسلمين- رأس عبد الله بن أبي الحمق. وذلك أنه لدغ فمات، فخشيت الرسل أن تتهم فقطعوا رأسه فحملوه. ثم رأيت ابن الجوزي قال: قال ابن حبيب: نصب معاوية رضي الله عنه رأس عمرو بن أبي الحمق. ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضي الله عنه. وقول الزهري إلى المدينة لا يخالف ما في النور ما تقدم في غزوة بدر: كم من رأس حمل

سرية الرجيع

بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن تلك الرؤوس لم تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، على أن فيه أنه لم يحمل إليه ذلك اليوم إلا رأس أبي جهل على ما تقدم. سرية الرجيع وفي الأصل: بعث الرجيع. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة، وقيل ستة عيونا إلى مكة يتجسسون أخبار قريش ليأتوه بها، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ويقال له ابن أبي الأفلح بالفاء، وقيل أمر عليهم مرثدا الغنوي رضي الله عنه حليف عمه صلى الله عليه وسلم حمزة رضي الله عنه، ومرثد بفتح الميم وإسكان الراء وبالمثلثة. والغنوي بغين معجمة: أي وكان مرثد هذا يحمل الأسرى ليلا من مكة حتى يأتي بهم المدينة، فوعد رجلا من الأسرى بمكة أن يحمله، قال: فجئت به حتى انتهيت به إلى الحائط من حيطان مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عناق وكانت من جملة البغايا بمكة، فرأت ظلي في جانب الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني قالت: مرثد؟ قلت مرثد، قالت: مرحبا وأهلا هلم تبت عندنا الليلة، فقلت: يا عناق إن الله حرم الزنا، فدلت عليّ، فخرج في أثري ثمانية رجال، فتواريت في كهف الخندمة فجاؤوا حتى وقفوا على رأسي، فأعماهم الله عني، فلما رجعوا رجعت لصاحبي، فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى محل فككت عنه قيده، ثم جعلت أحمله حتى قدمت المدينة، ثم استشرته صلى الله عليه وسلم أن أنكح عناقا، فأمسك عني حتى نزلت الآية: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) [النّور: الآية 3] فدعاني صلى الله عليه وسلم فتلاها عليّ، ثم قال لي: لا تتزوجها. وفي قطعة التفسير للجلال المحلي أن الآية نزلت في بغايا المشركين لما همّ فقراء المهاجرين أن يتزوجوهن وهن موسرات لينفقن عليهم، فقيل التحريم خاص بهم، وقيل عام، ونسخ بقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: الآية 32] الآية. وفيه أن عند فقهائنا يحرم على المسلم نكاح من تعبد الأوثان وإن لم تكن بغيا. ومن جملة العشرة عبد الله بن طارق وخبيب بن عدي وخبيب تصغير خب: وهو الماكر من الرجال الخدّاع، وزيد بن الدثنة بفتح الدال المهملة وكسر الثاء المثلثة وقد تسكن ثم نون مفتوحة ثم تاء تأنيث مقلوب من الندثة. والندث: استرخاء اللحم، فخرجوا رضي الله عنهم: أي يسيرون الليل ويكمنون النهار، حتى إذا كانوا بالرجيع: وهو ماء لهذيل لقيهم سفيان بن خالد الهذلي الذي قتله عبد الله بن أنيس وجاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقومه- وهم بنو لحيان- فإنهم ذكروا لهم فنفروا إليهم فيما يقرب من مائة رام، أي ولا يخالف ما في الصحيح قريبا من مائة

رجل، فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا نوى تمر أكلوا في منزل نزلوه، أي فإن منهم امرأة كانت ترعى غنما فرأت النوى فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أتيتم، فتبعوهم إلى أن وجدوهم في المحل المذكور، فلما أحسوا بهم لجؤوا إلى موضع من جبل هناك: أي صعدوا إليه، فأحاطوا بهم، وقالوا لهم: انزلوا ولكم العهد أن لا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم رضي الله تعالى عنه: أما أنا فلا أنزل على ذمة: أي أمان وعهد كافر، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما، أي وستة منهم، وصار عاصم يرميهم بالنبل وينشد أبياتا منها: الموت حق والحياة باطل ... وكل ما قضى الإله نازل بالمرء والمرء إليه آيل ولا زال يرميهم حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم حتى انكسرت رمحه، ثم سل سيفه. وقال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخره، ونزل إليهم ثلاثة على العهد وهم: خبيب، وزيد، وعبد الله بن طارق رضي الله تعالى عنهم، فلما أمسكوهم أطلقوا أوتارا قسيهم فربطوا خبيثا وزيدا وامتنع عبد الله، وقال: هذا أول الغدر: أي ترك الوفاء بعهد الله، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء يعني القتلى أسوة فعالجوه، فأبي أن يصحبهم أي فقتلوه كما في الصحيح، وقيل صحبهم إلى أن كانوا بمر الظهران يريدون مكة، انتزع عبد الله يده منهم، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد، أي ودخلوا بهما مكة في شهر القعدة، فباعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة، أي وقيل بيع كل بخمسين من الإبل، أي وقيل بيع خبيب بأمة سوداء، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا، قيل لأنه قتل الحارث يوم بدر كما في البخاري. وتعقب بأن المعروف عندهم أن قاتل الحارث يوم بدر إنما هو خبيب بن إساف الخزرجي، أي وقيل القاتل له علي كرّم الله وجهه، وخبيب بن عدي هذا أوسي لم يشهد بدرا عند أحد من أرباب المغازي، أي وقيل في هذا تضعيف الحديث الصحيح. ثم رأيت الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر أنه لزم من هذا رد الحديث الصحيح، ولو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث بن عامر ما كان لاعتناء آل الحارث بشرائه وقتله به معنى، إلا أن يقال لكونه من قبيلة قاتله وهم الأنصار. وابتاع زيدا صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك ليقتله بأبيه، فحبسوهما إلى أن تنقضي الأشهر الحرم، واستعار خبيب رضي الله تعالى عنه وهو محبوس موسى من بنت الحارث. وفي الصحيح من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها: أي يحلق بها عانته، فدرج لها ابن صغير وهي غافلة عنه حتى أتى إلى خبيب رضي الله تعالى عنه،

فأجلسه خبيب رضي الله تعالى عنه على فخذه والموسى بيده، فلما رأت ابنها على تلك الحالة فزعت فزعة عرفها خبيب رضي الله تعالى عنه، فقال: أتخشين أن أقتله: ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، وبكسر الكاف لأنه خطاب للمؤنث. وروي أنه رضي الله عنه أخذ بيد الغلام، وقال: هل أمكن الله منكم، فقالت المرأة ما كان هذا ظني بك، فرمى لها بالموسى، وقال: إنما كنت مازحا، ما كنت لأغدر. وفي السيرة الشامية أن تلك المرأة قالت: قال لي: تعني خبيبا رضي الله تعالى عنه حين حضره القتل: ابعثني إليّ بحديدة أتطهر بها للقتل: أي وقد كان رضي الله تعالى عنه قال لها: إذا أرادوا قتلي فآذنيني، فلما أرادوا قتله آذنته، فطلب منها تلك الحديدة، فقالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل البيت، قالت: فو الله لما دخل عليه الغلام قلت والله أصاب الرجل ثأره بقتل هذا الغلام ويكون رجل برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده، ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إليّ؟ ثم خلى سبيله. ويقال إن الغلام ابنها: أي ويرشد إليه قول خبيب رضي الله تعالى عنه: ما خافت أمك. وكانت بنت الحارث تقول: والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، قالت: والله لقد وجدته يوما أي وقد اطلعت عليه من شق الباب يأكل قطفا من عنب في يده: أي مثل رأس الرجل، وأنه لموثق بالحديد وما بمكة ثمرة. وفي رواية: لا أعلم في أرض الله عنبا يؤكل. أي واستدل أئمتنا بقصة خبيب هذه على أنه يستحب لمن أشرف على الموت أن يتعهد نفسه بتقليم أظفاره وأخذ شعر شاربه وإبطه وعانته، ولعل ذلك كان بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأقره، فلما انقضت الأشهر الحرم بانقضاء المحرم خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه في الحل، فلما قدم للقتل قال لهم: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فركع ركعتين وقال لهم: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي من جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا: أي متفرقين واحدا بعد واحد، ولا تبقي منهم أحدا: أي الكفار، وقد قتلوا في الخندق متفرقين. قال: ذكر أنهم لما خرجوا به ليقتلوه خرج النساء والصبيان والعبيد، فلما انتهوا به إلى التنعيم أمروا بخشبة طويلة فحفروا لها، فلما انتهوا بخبيب إليها وبعد صلاته للركعتين صلبوه على تلك الخشبة، أي ليراه الوارد والصادر، فيذهب بخبره إلى الأطراف، ثم قالوا له: ارجع عن الإسلام نخلّ سبيلك، وإن لم ترجع لنقتلنك قال: إن قتلي في سبيل الله لقليل، اللهم إنه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت عني السلام وبلغه ما يصنع بنا.

وعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا مع أصحابه فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي فسمعناه يقول: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، فلما سري عنه صلى الله عليه وسلم قال: هذا جبريل عليه السلام يقرئني من خبيب السلام، خبيب قتلته قريش» . وقد جاء: أن المشركين دعوا أربعين ولدا ممن قتل آباؤهم يوم بدر فأعطوا كل واحد رمحا، وقالوا هذا الذي قتل آباءكم، فطعنوه بتلك الرماح حتى قتلوه، ووكلوا بتلك الخشبة أربعين رجلا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المقداد والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في إنزال خبيب عن خشبته. وفي لفظ قال صلى الله عليه وسلم: «أيكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟ فقال له الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود، فجاآ فوجدا عندها أربعين رجلا لكنهم سكارى نيام فأنزلاه» وذلك بعد أربعين يوما من صلبه وموته. وحمله الزبير رضي الله تعالى عنه على فرسه وهو رطب لم يتغير منه شيء فشعر بهما المشركون، أي وكانوا سبعين رجلا فتبعوهما، فلما لحقوا بهما قذفه الزبير رضي الله تعالى عنه، فابتلعته الأرض اه. ومن ثم قيل له بليع الأرض، أي وكشف الزبير رضي الله تعالى عنه العمامة عن رأسه وقال لهم: أنا الزبير بن العوام وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يذبان عن شبلهما، فإن شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا عنهما. وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان عنده صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السّلام، فقال له جبريل: يا محمد إن الملائكة تباهي بهذين الرجلين من أصحابك، فنزل فيهما: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: الآية 207] الآية، وتقدم أنه قيل إنها نزلت في عليّ كرم الله وجهه لما نام على فراشه صلى الله عليه وسلم ليلة ذهابه إلى الغار. وقيل إنها نزلت في حق صهيب لما أراد الهجرة ومنعه منها قريش، فجعل لهم ثلث ماله أو كله كما تقدم. ورأيت بعضهم هنا قال: إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما أخذه المشركون ليعذبوه، فقال لهم: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أو من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتدعوني وديني ففعلوا. وفي كلام ابن الجوزي رحمه الله أن عمرو بن أمية هو الذي أنزل خبيبا، فعنه رضي الله تعالى عنه قال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها فحللته فوقع إلى الأرض، ثم التفت فلم أر خبيبا ابتلعته الأرض، وهذا هو الموافق لما في السيرة الهشامية، وأن ذلك كان حين أرسله صلى الله عليه وسلم والأنصار لقتل أبي سفيان بن حرب كما سيأتي إن شاء الله تعالى: أي كان خبيب رضي الله تعالى عنه تحرك على الخشبة

فانقلب وجهه عن القبلة: أي الكعبة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله وجهه نحوها، فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي الله لنفسه ولنبيه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين، ودعا عليهم خبيب رضي الله تعالى عنه، فقال: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما: فألقى أبو سفيان بنفسه إلى الأرض على جنبه خوفا من دعوة خبيب رضي الله تعالى عنه، لأنهم كانوا يقولون إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زال عنه: أي لم تصبه تلك الدعوة. وقد ولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سعد بن عامر رضي الله تعالى عنه على بعض أجناد الشام، فقيل له إنه مصاب يلحقه غشي، فاستدعاه، فلما قدم عليه وجد معه مزودا وعكازا وقدحا، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ليس معك إلا ما أرى، فقال له: وما أكثر من هذا يا أمير المؤمنين؟ مزودي أضع فيه زادي، وعكازي أحمل به ذلك، وقدحي آكل فيه، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أبك لمم؟ فقال: لا، فقال: فما غشية بلغني أنها تصيبك؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل، وسمعت دعوته، فو الله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غشي علي فزاده ذلك عند عمر رضي الله تعالى عنهما خيرا، ووعظ عمر، فقال له: من يقدر على ذلك؟ فقال: أنت يا أمير المؤمنين، إنما هو أن يقال فتطاع، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ارجع إلى عملك، فأبى، وناشده الإعفاء، فأعفاه. وكان خبيب رضي الله تعالى عنه هو الذي سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة، أي لأنه صلى الله عليه وسلم بلغه ذلك عنه فاستحسنه فكان سنة، وهذا يدل على أن واقعة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما متأخرة عن قصة خبيب رضي الله تعالى عنه، لكن في النور: والمعروف أن زيد بن حارثة صلاهما قبل خبيب بزمن طويل. وفي الينبوع أن قصة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما كانت قبل الهجرة، أي وكان ابن سيرين رحمه الله إذا سئل عن الركعتين قبل القتل، قال: صلاهما خبيب رضي الله تعالى عنه وحجروهما فاضلان، ويعني بحجر: حجر بن عدي رضي الله تعالى عنه، فإن زيادا والي العراق من قبل معاوية رضي الله تعالى عنه وشى به إلى معاوية، فأمر معاوية بإحضاره، فلما قدم على معاوية، قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: أو أمير المؤمنين أنا اضربوا عنقه، فلما قدم للقتل قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلاهما خفيفتين، ثم قال رضي الله تعالى عنه: لولا أن تظنوا بي غير الذي بي لأطلتهما، ثم قتل هو وخمسة من أصحابه. ولما حج معاوية رضي الله تعالى عنه وجاء المدينة زائرا استأذن على عائشة

رضي الله تعالى عنها فأذنت له، فلما قعد، قالت له: أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال: إنما قتلهم من شهد عليهم. وقصة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما رواها الليث بن سعد. قال: بلغني أن زيد بن حارثة اكترى بغلا من رجل بالطائف، فمال به ذلك الرجل إلى خربة وقال له: انزل فنزل زيد رضي الله تعالى عنه، فإذا في الخربة المذكورة قتلى كثيرة، فلما أراد أن يقتله، قال له: دعني أصلي ركعتين، أي لأنه رأى أن الصلاة خير ما ختم به عمل العبد، قال صلّ فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا، وهذا يدل على أن القتلى كلهم كانوا مسلمين، قال: فلما صليت أتاني ليقتلني، فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتا يقول: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج يطلبه، فلم ير شيئا فرجع إليّ، فناديت يا أرحم الراحمين، فعل ذلك ثلاثا، فإذا بفارس على فرس في يده حربة حديد في رأسها شعلة نار فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتا. ثم قال لي لما دعوت الأولى «يا أرحم الراحمين» كنت في السماء السابعة، فلما دعوت الثانية «يا أرحم الراحمين» كنت في سماء الدنيا، فلما دعوت الثالثة أتيتك. أقول: وقد وقع مثل ذلك لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنى أبا معلق، وكان يتجر بمال له ولغيره يسافر به في الآفاق، وكان ناسكا ورعا فخرج مرة في بعض أسفاره، فلقيه لص مقنع في السلاح، فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك، فقال: ما تريد من دمي؟ فشأنك والمال، فقال: أما المال فلي، ولست أريد إلا دمك فقال: ذرني أصلي أربع ركعات، فقال صل ما شئت، فتوضأ ثم صلى أربع ركعات، ثم دعا في آخر سجدة، فقال: يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، وكرر ذلك ثلاث مرات، فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة وضعها من أدنى فرسه، فلما بصر به اللص أقبل نحوه، فطعنه الفارس فقتله، ثم أقبل إلى أبي معلق، فقال: قم، فقال: من أنت بأبي أنت وأمي، فلقد أغاثني الله بك اليوم، قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة، دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث، فقيل لي دعاء مكروب، فسألت الله تعالى أن يوليني قتله، قال أنس رضي الله تعالى عنه: من فعل ذلك استجيب له مكروب كان أو غير مكروب. أي وقد وقع نظير هذه المسألة، أي من حيث إقراره صلى الله عليه وسلم على فعل غيره، وهو أنهم كانوا يأتون الصلاة قد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها، فكان الرجل يشير إلى الرجل كم صلى؟ فيقول واحدة أو اثنتين فيصيلهما وحده، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم،

فجاء معاذ رضي الله تعالى عنه، فقال: لا أجده صلى الله عليه وسلم على حال أبدا إلا كنت عليها، ثم قضيت ما سبقني، فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فثبت معه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قام فقضى ما عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد سن لكم معاذ، فكذا فاصنعوا، أي وكان هذا قبل قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» . وأخرج صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه زيدا رضي الله تعالى عنه إلى الحل مع مولى له ليقتله به، واجتمع عند قتله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فلما قدم للقتل، قال له أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: انشدك بالله يا زيدا أتحب محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك، فقال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني لخالص في أهلي، فقال أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا، ونقل مثل ذلك عن خبيب رضي الله تعالى عنه، أي فإنهم لما وضعوا السلاح في خبيب رضي الله تعالى عنه وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله ما أحب أن يؤذى بشوكة في قدمه، ثم قتله ذلك المولى. أي طعنه برمح في صدره حتى أنفذه من ظهره، وقيل رمي بالنبل، وأرادوا فتنته عن دينه، فلم يزدد إلا إيمانا. ولما قتل عاصم رضي الله تعالى عنه الذي هو أمير هذه السرية على ما تقدم، أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار وكلام بعضهم يقتضي أنها أسلمت بعد، فإن عاصما هذا كما تقدم قتل يوم أحد ولديها كلاهما أشعره سهما، وكل يأتي إليها بعد إصابته بالسهم ويضع رأسه في حجرها، فتقول: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا يقول حين رماني: خذها وأنا ابن أبي الأفلح فنذرت إن قدرت على رأسه لتشربن في قحفة الخمر، وجعلت لمن يجيء برأسه مائة ناقة كما تقدم، فحالت الدبر بفتح الدال المهملة وسكون الباء الموحدة: وهي الزنابير بينهم وبين عاصم رضي الله تعالى عنه، كلما قدموا على قحفة طارت في وجوههم ولدغتهم فقالوا: دعوه حتى يمسي فنأخذه، فبعث الله الوادي: أي سال، فاحتمل السيل عاصما فذهب به حيث أراد الله فسمي حمى الدبر وبعث ناس من قريش لما بلغهم قتل عاصم في طلب جسده أو شيء منه يعرفونه: أي ليمثلوا به لأنه قتل عظيما من عظمائهم، قال الحافظ ابن حجر لعله عقبة بن أبي معيط فإن عاصما قتله صبرا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرفوا من بدر أي كما تقدم، قال: وكأنّ قريشا لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الزنابير لهم عن عاصم، أو شعروا بذلك ورجوا أن الزنابير تركته: أي ولم يشعروا بأن السيل أخذه اه أي وقد كان عاصم رضي الله تعالى عنه دعا الله أن لا يمس مشركا، ولا

سرية القراء رضي الله تعالى عنهم إلى بئر معونة

يمسه مشرك في حياته، وتقدم هنا أنه دعا الله أن يحمي لحمه فاستجاب الله له، فلم يحصل له ذلك لا في حياته ولا بعد موته. أي وفي كلام بعضهم: لما نذر عاصم أن لا يمس مشركا ووفي بنذره عصمه الله عن مساس سائر المشركين إياه، فصار عاصم معصوما هذا. وقيل إن هؤلاء العشرة لم يخرجوا ليأتوا بخبر قريش، وإنما خرجوا مع رهط من عضل والقارة، وهما بطنان من بني الهون قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام، فبعث صلى الله عليه وسلم معهم أولئك النفر، فساروا حتى إذا كانوا على الرجيع استصرخوا عليهم هذيلا، فلم يشعروا إلا والرجال بأيديهم السيوف فدعوهم فأخذوا أسيافهم ليقتلوا القوم، فقالوا لهم: والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم، فأبوا الحديث، والحافظ الدمياطي رحمه الله اقتصر على هذا الثاني، وأن أميرهم كان مرثدا الغنوي رضي الله تعالى عنه، فقال: سرية مرثد الغنوي إلى الرجيع، قال قدم رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما الحديث، لكنه في سياق القصة قال وأمر عليهم عاصما وقيل مرثدا رضي الله تعالى عنهما، وأخر هذه السرية عن السرية بعدها التي هي سرية القراء إلى بئر معونة. سرية القراء رضي الله تعالى عنهم إلى بئر معونة لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة: أي ويقال له ملاعب الرماح وهو رأس بني عامر. أي ويقال له أيضا أبو براء بالمد لا غير، وهو عم عامر بن الطفيل عدوّ الله، أي وأهدي إليه صلى الله عليه وسلم ترسين وراحلتين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أقبل هدية من مشرك» . وفي رواية: «نهيت عن عطايا المشركين» . أقول: وفي كلام السهيلي أنه أهدي إليه فرسا، وأرسل إليه إني قد أصابني وجع فابعث إلى بشيء أتداوى به فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم بعكة عسل، وأمره أن يستشفى به، وقال: «نهيت عن زبد المشركين» قال السهيلي: والزبد مشتق من الزبد، لأنه نهي عن مداهنتهم واللين لهم: كما أن المداهنة مشتقة من الدهن، فرجع المعنى إلى اللين، كذا قال، ولعل هذا كان بعد ما تقدم. ويحتمل أن يكون قبله وهو الأقرب والله أعلم. فلما قدم عليه أبو عامر عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام، أي وقال إني أرى أمرك هذا أمرا حسنا شريفا، أي ولم يسلم

بعد ذلك على الصحيح، خلافا لمن عده في الصحابة، ثم قال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد: أي وهم بنو عامر وبنو سليم، فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى أهل نجد عليهم، قال أبو براء: أنا لهم جار وهم في جواري وعهدي، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك، وخرج أبو براء إلى ناحية نجد وأخبرهم أنه قد أجار أصحاب محمد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو رضي الله تعالى عنه في أربعين، وقيل في سبعين، وعليه اقتصر الحافظ الدمياطي: أي لأنه الذي في الصحيح البخاري، وقيل في ثلاثين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين. أي وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل وهم، وأنه يمكن الجمع بين كونهم سبعين وكونهم أربعين بأن الأربعين كانوا رؤساء وبقية العدة كانوا أتباعا، ويقال لهؤلاء القراء: أي لملازمتهم قراءة القرآن، فكانوا إذا أمسوا اجتمعوا في ناحية المدينة يصلون ويتدارسون القرآن، فيظن أهلوهم إنهم في المسجد، ويظن أهل المسجد أنهم في أهاليهم، حتى إذا كان وجه الصبح استعذبوا من الماء واحتطبوا وجاؤوا بذلك إلى حجر النبي صلى الله عليه وسلم. وفي كلام بعضهم إنهم كانوا يحتطبون بالنهار، ويتدارسون القرآن بالليل، وكانوا يبيعون الحطب ويشترون به طعاما لأصحاب الصفة. وقد يقال: لا منافاة، لجواز أنهم كانوا يفعلون هذا مرة وهذا أخرى، أو بعضهم يفعل أحد الأمرين وبعضهم يفعل الآخر، وكان منهم عامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنه. وكتب صلى الله عليه وسلم لهم كتابا فساروا حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، والحرة: أرض فيها حجارة سود، فلما نزلوها بعثوا حرام، بالحاء المهملة والراء، ابن ملحان وهو خال أنس بن مالك بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّ الله عامر بن الطفيل لعنه الله. أي وهو رأس بني سليم. وفي لفظ سيد بني عامر وابن أخي أبي براء عامر بن مالك كما تقدم، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله، أي بعد أن قال: يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فآمنوا بالله ورسوله، فجاء إليه رجل من خلفه قطعنه بالرمح في جنبه حتى نفذ من جنبه الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، وقال: بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه، ثم استصرخ عليهم: أي استغاث بني عامر. فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: إنا لن نخفر بأبي براء: أي لا نزيل خفارته وتنقض عهده، وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم. قال الحافظ الدمياطي: عصية ورعلا وذكوان زاد بعضهم: وبني لحيان، قال بعضهم: وليس في محله.

أقول: كان قائله سرى إليه ذلك من كونه صلى الله عليه وسلم جمع بني لحيان في الدعاء عليهم مع من ذكر قبله. وسيأتي أنه إنما جمعهم معهم لأن خبر أصحاب الرجيع وأصحاب بئر معونة جاءه صلى الله عليه وسلم في يوم واحد وبنو لحيان أصحاب الرجيع، فدعا عليهم دعاء واحدا، والله أعلم، فلما دعا تلك القبائل الثلاثة التي هي عصية ورعل وذكوان أجابوه إلى ذلك، ثم خرجوا حتى أحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم إلا كعب بن زيد رضي الله تعالى عنه، فإنه بقي به رمق، وحمل من المعركة، فعاش بعد ذلك حتى قتل يوم الخندق شهيدا، وإلا عمرو بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه ورجلا آخر كانا في سرح القوم، لما أحاطوا بهم قالوا: اللهم إنا لا نجد من يبلغ رسولك عنا السلام غيرك، فأقرأه منا السلام، فأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال: وعليهم السلام. أي وفي لفظ أنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا فلما جاءه الخبر من السماء قام صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إخوانكم قد لقوا المشركين، وقتلوهم، وإنهم قالوا: ربنا بلغ قومنا أنا قد لقينا ربنا ورضينا عنه ورضي عنا ربنا. وفي لفظ: فرضي عنا وأرضانا فأنا رسولهم إليكم إنهم قد رضوا عنه ورضي عنهم. وذكر أنس رضي الله عنه أن ذلك: أي قولهم المذكور كان قرآنا يتلى، ثم نسخت تلاوته، أي فصار ليس له حكم القرآن من التعبد بتلاوته وأنه لا يمسه إلا الطاهر ولا يتلى في صلاة إلى غير ذلك من أحكام القرآن. ولما رأى عمرو بن أمية والرجل الذي معه الطير تحوم على محل أصحابهما، أي وكانا في رعاية إبل القوم كما تقدم، قالا والله إن لهذا الطير لشأنا، فأقبلا ينظران، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الرجل الذي مع عمرو: ماذا ترى؟ فقال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال له لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، فأقبلا فلقيا القوم، فقتل ذلك الرجل وأسر عمرو، فأخبرهم أنه من مضر. فأخذه عامر بن الطفيل وجز ناصيته. وأعتقه عن رقبة كانت على أمه. فخرج عمرو حتى جاء إلى ظل فجلس فيه. فأقبل رجلان حتى نزلا به معه، فسألهما فأخبراه أنهما من بني عامر، وفي لفظ من بني سليم وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو. فأمهلهما حتى ناما فعدا عليهما فقتلهما وهو يرى أي يظن أنه قد أصاب بهما ثأرا من بني عامر، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر وأخبره بقتل الرجلين، فقال له: لقد قتلت قتيلين لأدينهما: أي لأدفعن ديتهما. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء. قد كنت لهذا كارها متخوفا. ولما بلغ أبا براء أن عامر بن الطفيل ولد أخيه

أزال خفارته شق عليه ذلك وشق عليه ما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه فعند ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل، أي الذي هو ابن عمه فطعنه بالرمح فوقع في فخذه ووقع عن فرسه، وقال: إن أنا مت فدمي لعمي يعني أبا براء، وإن أعش فسأرى رأيي، أي وفي لفظ: نظرت في أمري. وفي الإصابة أن ربيعة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيغسل عن أبي هذه العذرة أن أضرب عامر بن الطفيل ضربة أو طعنة، قال نعم فرجع ربيعة فضرب عامرا ضربة أشواه منها فوثب عليه قومه، فقالوا لعامر بن الطفيل اقتص، فقال قد عفوت. أي وعقب ذلك مات أبو براء أسفا على ما صنع به ابن أخيه عامر بن الطفيل من إزالته خفارته، وعاش عامر بن الطفيل ولم يمت من هذه الطعنة، بل مات بالطاعون بدعائه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في الوفود في وفد بني عامر. أي وقال بعضهم: قد أخطأ المستغفري في عده صحابيا، ولما قتل عامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنه رفع إلى السماء، فلما رأى قاتله ذلك أسلم، أي وهو جبار بن سلمى، أي لا عامر بن الطفيل كما وقع في بعض الروايات، كما علمت. وقال صلى الله عليه وسلم أي لما بلغه قتل عامر بن فهيرة: «إن الملائكة وارت جثة عامر بن فهيرة» أي في الأرض: أي بناء على أنه لما رفع إلى السماء وضع كما في البخاري، فقد جاء أن عامر بن الطفيل، قال لعمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه وأشار إلى قتيل من هذا، فقال له عمرو هذا عامر بن فهيرة، فقال لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء وبين الأرض ثم وضع. وفي بعض الروايات أن عامر بن فهيرة التمس في القتلى يومئذ، أي فلم يوجد فيرون أن الملائكة رفعته، وظاهرها أن الملائكة لم تضعه في الأرض بل رفعته، أي ويؤيده أن عامر بن الطفيل لعنه الله دخل بعمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه في القتلى، وصار يقول له ما اسم هذا، ما اسم هذا، ما اسم هذا؟ ثم قال له هل من أصحابك من ليس فيهم؟ قال نعم، ما رأيت فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، قال له عامر: أي رجل هو فيكم؟ قال: من أفضلنا وأولى، أي ومن أولى المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عامر: لما قتل رأيته رفع إلى السماء. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة، ومكث يدعو عليهم ثلاثين صباحا. أقول: وفي رواية الشيخين قنت شهرا أي متتابعا يدعو على قاتلي أصحاب بئر معونة، أي بعد الاعتدال في الصلوات الخمس من الركعة الأخيرة وحينئذ يكون

سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء

المراد بالصباح اليوم وليلته. وذكر بعض أصحابنا أنه صلى الله عليه وسلم: «كان يرفع يديه في الدعاء المذكور وقاس عليه رفعهما في قنوت الصبح» وروى الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في قنوت الصبح. واستدل أصحابنا على استحباب القنوت للنازلة في سائر المكتوبات بقنوته ودعائه على قاتلي أصحاب بئر معونة. وفي بعض السير: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهرا عليهم في صلاة الغداة. وفي لفظ يدعو في الصبح، وذلك بدء القنوت، وما كان يقنت رواه الشيخان. وقد سئل الجلال السيوطي هل دعاؤه صلى الله عليه وسلم على من قتل أصحابه كان عقب فراغه من القنوت المشهور أو كان الدعاء هو قنوته؟ فأجاب رحمه الله بأنه لم يقف على شيء من الأحاديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين القنوت والدعاء، قال: بل ظاهر الأحاديث أنه اقتصر على الدعاء، أي فيكون قنوته هو الدعاء، وهو الموافق لقول أصحابنا. ويستحب القنوت في اعتدال آخرة صبح مطلقا وآخر سائر المكتوبات أي باقيها للنازلة وهو: اللهم اهدنا الخ في أن أل في القنوت للعهد والله أعلم. وفي رواية أنه يدعو على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين، أي بئر معونة والرجيع دعاء واحدا، لأنه صلى الله عليه وسلم جاءه خبرهما في وقت واحد كما تقدم، وأدمج البخاري رحمه الله بئر معونة مع بعث الرجيع لقربهما في الزمن، أي ففيه مكث صلى الله عليه وسلم يدعو على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، أي وهو يقتضي أنهما شيء واحد وليس كذلك، وقد علمت أن بني لحيان قتلوا أصحاب الرجيع ومن قبلهم قتلوا أصحاب بئر معونة، والله سبحانه وتعالى أعلم. سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء بالقاف المفتوحة وبالطاء المهملة، وهم بنو بكر بن كلاب. بعث صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إلى القرطاء في ثلاثين راكبا أي وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار، وأمره أن يشن عليهم الغارة فسار الليل وكمن النهار، قال: وصادف في طريقه ركبانا نازلين، فأرسل إليهم رجلا من أصحابه يسأل من هم؟ فذهب الرجل ثم رجع إليه، فقال: قوم من محارب، فنزل قريبا منهم، ثم أمهلهم حتى عطنوا: أي بركوا الإبل حول الماء، أغار عليهم، فقتل نفرا منهم أي عشرة وهرب سائرهم، واستاق نعما وشاء، ولم يتعرض للظعن أي النساء انتهى ثم انطلق حتى إذا كان بموضع يطلعه على بني بكر بعث عابد بن بشير إليهم وخرج محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه في أصحابه فشن عليهم الغارة، فقتل منهم عشرة واستاقوا النعم

والشاء، ثم انحدر رضي الله تعالى عنه إلى المدينة فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به وعدل الجزور بعشرة من الغنم، وكان النعم مائة وخمسين بعيرا، والغنم ثلاثة آلاف شاة، وأخذت تلك السرية ثمامة بن أثال الحنفي من بني حنيفة أي سيد أهل اليمامة وهم لا يعرفونه، وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: أتدرون من أخذتم، هذا ثمامة بن أثال الحنفي، فأحسنوا إساره أي قيده فربط بسارية من سواري المسجد. قال: وقيل إن هذه السرية لم تأخذه بل دخل المدينة وهو يريد مكة للعمرة فتحير في المدينة، وقد كان جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا من عند مسيلمة وأراد اغتياله صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه أن يمكنه منه، فأخذ وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربط بسارية من سواري المسجد، فدخل صلى الله عليه وسلم على أهله فقال اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه، وأمر له صلى الله عليه وسلم بناقة يأتيه لبنها مساء وصباحا، وكان ذلك لا يقع عند ثمامة موقعا من كفايته: أي وجاء إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك يا ثمام: هل أمكن الله منك؟ فقال: قد كان ذلك يا محمد. وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه فيقول: ما عندك يا ثمامة، فيقول: يا محمد عندي خير، إن تقتل تقتل ذا كرم. وفي لفظ: ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ففعل ذلك معه، ثلاثة أيام، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فجعلنا أيها المساكين أي أصحاب الصفة نقول: نبينا صلى الله عليه وسلم ما يصنع بدم ثمامة، والله لأكله جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دم ثمامة. وفي الاستيعاب أنه صلى الله عليه وسلم انصرف عن ثمامة وهو يقول: اللهم أكلة لحم من جزور أحب إليّ من دم ثمامة، ثم أمر به فأطلق، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث قال: أطلقوا ثمامة فقد عفوت عنك يا ثمامة، فأطلق، فانطلق إلى ماء جار قريب من المسجد فاغتسل وطهر ثيابه، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أي وهذا يخالف ما ذكره فقهاؤنا من الاستدلال بقصة ثمامة على أنه يستحب لمن أسلم أن يغتسل لإسلامه، ثم رأيت بعض متأخري أصحابنا أجاب بأنه أسلم أولا، ثم لما اغتسل أظهر إسلامه. وفي الاستيعاب: فأسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل كما في رواية أخرى أنه قال: يا محمد والله على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ، والله ما كان على الأرض من دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إليّ، ثم شهد شهادة الحق، فلما أمسى جيء له بما كان يأتيه من الطعام، فلم ينل منه إلا قليلا. ولم يصب من حلاب اللقحة إلا يسيرا،

فعجب المسلمون. قال وقال: يا رسول الله إني خرجت معتمرا، وفي لفظ في الصحيح: فإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فأمره أن يعتمر، فلما قدم بطن مكة لبى، فكان أول من دخل مكة ملبيا، فأخذته قريش، فقالوا: لقد اجترأت علينا، أنت صبوت يا ثمامة. قال: أسلمت وتبعت خير دين محمد، والله لا يصل إليكم حبة من حنطة: أي من اليمامة من أرض اليمن، وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموه ليضربوا عنقه، فقال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة فخلوا سبيله، فخرج ثمامة إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا حتى أضرّبهم الجوع، وأكلت قريش العلهز وهو الدم يخلط بأوبار الإبل فيشوى على النار كما تقدم، فكتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين، فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة رضي الله تعالى عنه أن يخلي بينهم وبين الحمل. وفي لفظ: خلّ بين قومي وبين ميرتهم، ففعل، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ [المؤمنون: الآية 76] الآية. هذا والذي في الاستيعاب أن ثمامة لما دخل مكة وقد سمع المشركون خبره، فقالوا: يا ثمامة صبوت وتركت دين أبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني أقسمت برب هذه البنية يعني الكعبة لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمدا من آخركم، وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج رضي الله تعالى عنه فمنع عنهم ما كان يأتي منها. فلما أضرّ بهم ذلك كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحث عليها وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضرّ بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن خل بين قومي وبين ميرتهم. ولما عجب المسلمون من أكله بعد إسلامه رضي الله تعالى عنه، لكونه دون أكله قبل إسلامه قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تعجبون؟ أمن رجل أكل أول النهار في معى كافر وأكل آخر النهار في معى مسلم، إن الكافر ليأكل في سبعة أمعاء، وإن المسلم يأكل في معى واحد اه. أي وقد وقع له صلى الله عليه وسلم ذلك مع جهجهاه الغفاري رضي الله تعالى عنه فإنه أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر فأكثر، ثم أكل معه وقد أسلم فأقل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب، ثم رأيت في الجامع الصغير: «إن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء والمسلم يشرب في معى واحد» والمراد أنه يأكل ويشرب مثل الذي يأكل ويشرب في سبعة أمعاء.

سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه إلى الغمر

وكان رضي الله تعالى عنه مقيما باليمامة، ولما ارتد أهل اليمامة ثبت ثمامة في قومه على الإسلام، وكان ينهاهم عن اتباع مسيلمة لعنه الله، ويقول لهم: إياكم وأمرا مظلما لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله على من اتبعه منكم. سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه إلى الغمر بفتح الغين المعجمة وسكون الميم والراء: ماء لبني أسد: أي جمع من بني أسد: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن الأسدي رضي الله تعالى عنه في أربعين رجلا منهم ثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه، وقيل إن ثابتا رضي الله تعالى عنه هو الذي كان الأمير على هذه السرية، فخرج يسرع في السير إلى أن وصل إلى الماء المذكور، فوجد القوم علموا بهم فهربوا ولم يجدوا في دارهم أحدا، فبعث شجاع بن وهب طليعة يطلب خبرا ويرى أثرا فأخبر أنه رأى أثر نعم قريبا، فخرجوا فوجدوا رجلا نائما، فسألوه عن خبر الناس: فقال: وأين الناس، لقد لحقوا بعليات بلادهم، قالوا: فالنعم؟ قال: معهم، فضربه به أحدهم بسوط في يده، فقال: تؤمنوني على دمي وأطلعكم على نعم لبني عم له لم يعلموا بمسيركم إليهم، قالوا نعم، فأمنوه فانطلقوا معه، فأمعن: أي بالغ في الطلب حتى خافوا أن يكون ذلك غدرا منه لهم. فقالوا: والله لتصدقنا أو لنضربن عنقك، فقال: تطلعون عليهم من هذا المحل، فلما طلعوا منه وجدوا نعما رواتع، فأغاروا عليها، فاستاقوها، فإذا هي مائة بعير وشردت الأعراب في كل وجه ولم يطلبوهم، وانحدروا إلى المدينة بتلك الإبل، وأطلقوا الرجل الذي أمنوه، والله أعلم. سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه لذي القصة بفتح القاف والصاد المهملة المشددة، وهو موضع قريب من المدينة. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في عشرة نفر لبني ثعلبة وبني عوال من ثعلبة بذي القصة، فورد عليهم ليلا، فكمن القوم وهم مائة رجل لمحمد بن مسلمة وأصحابه، وأمهلوهم حتى ناموا وأحدقوا بهم: أي فما شعروا إلا وقد خالطهم القوم، فوثب محمد بن مسلمة فصاح في أصحابه: السلاح، فوثبوا وتراموا ساعة، ثم حمل القوم عليهم بالرماح فقتلوهم، ووقع محمد بن مسلمة جريحا، فضربوا كعبه فلم يتحرك فظنوا موته، فجردوه من الثياب وانطلقوا، ومر بمحمد وأصحابه رجل من المسلمين فاسترجع، فلما سمعه محمد رضي الله تعالى عنه يسترجع تحرك له، فأخذه

سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه إلى ذي القصة أيضا

وحمله إلى المدينة. فعند ذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلا إلى مصارعهم فلم يجدوا أحدا. ووجدوا نعما وشاء، فانحدروا بها إلى المدينة. سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه إلى ذي القصة أيضا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه في أربعين رجلا إلى من بذي القصة: فإنه بلغه صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى يومئذ بمحل بينه وبين المدينة سبعة أميال فصلوا المغرب، ومشوا ليلتهم حتى وافوا ذا القصة مع عماية الصبح، فأغاروا عليهم: فأعجزوهم هربا في الجبال: وأسروا رجلا واحدا، وأخذوا نعما من نعمهم، ورثة: أي ثيابا خلقة من متاعهم، وقدموا بذلك إلى المدينة، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم الرجل، فتركه صلى الله عليه وسلم. سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم بالجموح بفتح الجيم، وهو اسم لناحية من بطن نخل. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى بني سليم، بالجموح، فسار حتى ورد ذلك المحل. فأصابوا امرأة من مزينة فدلتهم على محلة من محال القوم، فأصابوا في تلك المحلة إبلا وشاء، وأسروا منها جماعة من جملتهم زوج تلك المرأة، وانحدروا بذلك إلى المدينة، فوهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة نفسها وزوجها. سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى العيص وهو محل بينه وبين المدينة أربع ليال. بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب ليعترضها، أي وكان فيها أبو العاص بن الربيع، وقدم به وبتلك العير المدينة، فاستجار أبو العاص بزوجته زينب رضي الله تعالى عنها، فأجارته ونادت في الناس حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر: أي دخل في الصلاة هو وأصحابه، فقالت: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فقال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: أي لما سلم وأقبل على الناس وقال: هل سمعتم ما سمعت؟ قالو نعم، قال: أما والذي نفسي بيده ما علمت بشيء من هذا، أي ثم انصرف صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته وقال: قد أجرنا من أجرت. قال: وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم» أي وفي الصحيحين: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما» أي أزال خفارته: أي نقض جواره وعهده «فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ثم دخلت عليه صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله تعالى عنها فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه، فأجابها إلى ذلك، وقال لها صلى الله عليه وسلم: «أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له» : أي لتحريم نكاح المؤمنات على المشركين أي كما تقدم في الحديبية. وبعث صلى الله عليه وسلم للسرية فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي فاء عليكم، فأنتم أحق به، فقالوا: يا رسول الله بل نرد عليه، فرد عليه ما أخذ منه. وهذا السياق يدل على أن ذلك كان قبل صلح الحديبية ووقوع الهدنة، لأن بعد ذلك لم تتعرض سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش، وهو يخالف قوله صلى الله عليه وسلم لها: «لا يخلص إليك، لأن تحريم نكاح المؤمنات على المشركين إنما كان في الحديبية» . وقد ذكر بعضهم أن ذلك كان قبيل الفتح سنة ثمان، ومن ثم ذكر الزهري وتبعه ابن عقبة رحمهما الله تعالى أن الذين أخذوا هذا العير وأسروا من فيها أبو بصير وأبو جندل وأصحابهما رضي الله تعالى عنهم، لأنهم كانوا في مدة صلح الحديبية، من شأنهم أن كل عير مرت بهم لقريش أخذوها بغير معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فلما أخذوا هذه العير خلوا سبيل أبي العاص لكونه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل أعجزهم هربا، وجاء تحت الليل فدخل على زوجته زينب رضي الله تعالى عنها فاستجار بها فأجارته، ثم كلمها في أصحابه الذين أسروا، فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فخطب الناس وقال: إنا صاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه، وإنه قد أقبل من الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير وأسروهم، وأخذوا ما كان معهم، وأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟ فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأبا بصير وأصحابهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا الأسرى، وردوا عليهم كل شيء حتى العقال. وصوّب في الهدى هذا الذي ذكره الزهري، أي لما علمت أن مما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لبنته زينب: ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له، لأن تحريم نكاح المؤمنات على المشركين إنما كان بعد الحديبية.

وذكر أن المسلمين قالوا لأبي العاص: يا أبا العاص إنك في شرف من قريش وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لأنه يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف، فهل لك أن تسلم فتغنم ما معك من أموال أهل مكة، فقال: بئسما أمرتموني أفتتح ديني بغدره: أي بالغدر وعدم الوفاء، ثم ذهب أبو العاص إلى أهل مكة فأدى كل ذي حقّ حقه، ثم قام فقال: يا أهل مكة هل بقي لأحد منكم مال لم يأخذه، هل وفيت ذمتي؟ فقالوا اللهم نعم، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما، فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني عن الإسلام عنده إلا خشية أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم. ثم خرج حتى قدم المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد له رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله تعالى عنها على النكاح الأول ولم يحدث نكاحا، وذلك بعد ست سنين وقيل بعد سنة واحدة انتهى. أقول: وفي رواية بعد سنتين. والمتبادر أن السنة أو السنتين من إسلامها دونه، وهو مخالف لما عليه أهل العلم من أنه لا بد أن يجتمع الزوجان في الإسلام والعدة، ومن ثم قالت طائفة منهم الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا يعرف وجهه. وفي كلام بعض الحفاظ: يمكن أن يقال قوله بعد ست سنين ولم يقل من إسلامها دونه صيره مجهول تاريخ الابتداء فلا يصح الاستدلال به. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ بنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. قال بعضهم: وهذا في إسناده مقال، وقال غيره: هذا حديث ضعيف، وقال آخر: لا يثبت» والحديث الصحيح إنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول. وقال ابن عبد البر: حديث أنه صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول متروك لا يعمل به عند الجميع. وحديث ردها بنكاح جديد عندنا صحيح يعضده الأصول، وإن صح الأول أريد به على الصداق الأول وهو حمل حسن، هذا كلامه. قال بعضهم: تصحيح ابن عبد البر لحديث إنه ردها بنكاح جديد مخالف لكلام أئمة الحديث كالبخاري وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان والدارقطني والبيهقي وغيرهم، هذا كلامه. وفي كون زينب رضي الله تعالى عنها كانت مشركة وأسلمت قبل زوجها المشعر به قول بعضهم ولم يقل من إسلامها نظر، لأنها اتبعت ما بعث به أبوها صلى الله عليه وسلم من غير تقدم شرك منها.

سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى بني ثعلبة

لا يقال: فحيث كانت مسلمة فكيف زوّجها من أبي العاص وهو كافر. لأنا نقول على فرض أنه صلى الله عليه وسلم زوّجها له بعد البعث فقد زوجها له قبل نزول قوله تعالى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة: الآية 221] لأن تلك الآية نزلت بعد صلح الحديبية كما علمت. على أن ابن سعد ذكر أنه صلى الله عليه وسلم زوّجها له في الجاهلية: أي قبل البعثة، والله أعلم. سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى بني ثعلبة أي بالطرف ككتف: اسم ماء. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا: أي بالطرف، فأصاب عشرين بعيرا وشاء، واقتصر الحافظ الدمياطي على النعم، ولم يذكر الشاء ولم يجد أحدا، لأنهم ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فصبح زيد رضي الله تعالى عنه بالنعم والشاء المدينة، أي وقد خرجوا في طلبه فأعجزهم وكان شعارهم الذي يتعارفون به في ظلمة الليل «أمت أمت» . سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى جذام محل يقال له حسمى بكسر الحاء المهملة وسكون السين على وزن فعلى. وهو موضع وراء وادي القرى، يقال إن الطوفان أقام بذلك المحل بعد نضوبه: أي ذهابه ثمانين سنة. وسببها أن دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه أقبل من عند قيصر ملك الروم، أي وكان صلى الله عليه وسلم وجهه إليه كذا قيل، ولعله من تصرف بعض الرواة، أو أنه أرسله إليه بغير كتاب، وإلا فإرساله إليه بالكتاب كان بعد هذه السرية، لأنه كان بعد الحديبية. ولما وصل رضي الله تعالى عنه إليه أجازه بمال وكساء فأقبل بذلك إلى أن وصل ذلك المحل، فلقيه الهنيد وابنه في ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق وسلبوه ما معه، ولم يتركوا عليه إلا ثوبا خلقا، فسمع بذلك نفر من جذام من بني الضبيب: أي ممن أسلم منهم فنفروا إليهم، واستنفذوا لدحية رضي الله تعالى عنه ما أخذ منه، وقدم دحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة في خمسمائة رجل وردّ معه دحية، وكان زيد رضي الله تعالى عنه يسير بالليل ويكمن بالنهار ومعه دليل من بني عذرة فأقبل حتى هجم على القوم: أي على الهنيد وابنه ومن كان معهم مع الصبح، فقتلوا الهنيد وابنه ومن كان معهم، وأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، ومن السبي مائة من النساء والصبيان. قال: ولما سمع بنو الضبيب بما

سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه لبني فزارة كما في صحيح مسلم بوادي القرى

صنع زيد رضي الله تعالى عنه ركبوا وجاؤوا إلى زيد وقال له رجل منهم: إنا قوم مسلمون، فقال له زيد اقرأ أمّ الكتاب فقرأها، ثم قدم منهم جماعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر وقال بعضهم: يا رسول الله لا تحرم علينا حلالا، ولا تحل لنا حراما، فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقال: أطلق لنا من كان حيا ومن قتل فهو تحت قدمي هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق، فقالوا: ابعث معنا رجلا لزيد رضي الله تعالى عنه، فبعث صلى الله عليه وسلم معهم عليا كرم الله وجهه يأمر زيدا أن يخلي بينهم وبين حرمهم وأموالهم، أي فقال عليّ: يا رسول الله إن زيدا لا يطيعني، فقال: خذ سيفي هذا، فأخذه وتوجه، فلقي علي كرم الله وجهه رجلا أرسله زيد رضي الله تعالى عنه مبشرا على ناقة من إبل القوم، فردها علي كرم الله وجهه على القوم، وأردفه خلفه، ولقي زيدا فأبلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وعند ذلك قال له زيد، ما علامة ذلك؟ فقال: هذا سيفه صلى الله عليه وسلم فعرف زيد السيف وصاح بالناس فاجتمعوا، فقال: من كان معه شيء فليرده، فهذا سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الناس كافة كل ما أخذوه انتهى. أقول: وهذا السياق يدل على أن جميع ما أخذه من النعم والشاء والسبي كان لمن أسلم من جذام من بني الضبيب، وإن بعض من قتل مع الهنيد وابنه كان مسلما، وفي ذلك من البعد ما لا يخفى، والله أعلم. سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه لبني فزارة كما في صحيح مسلم بوادي القرى عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فزارة وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشنينا الغارة فوردنا الماء. فقتل أبو بكر: أي جيشه من قتل، ورأيت طائفة منهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فأدركتهم ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا وفيهم امرأة: أي وهي أم قرفة عليها قشع من أدم: أي فروة خلقة معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر رضي الله تعالى عنه ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا، فقدمنا المدينة، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك: أي أبوك لله خالصا حيث أنجب بك وأتى بمثلك، يقال ذلك في مقام المدح والتعجب: أي وقد كان وصف له صلى الله عليه وسلم جمالها، فقلت: هي لك يا رسول الله، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين. وفي لفظ: فدى بها أسيرا كان في قريش من المسلمين، كذا ذكر الأصل أن

أمير هذه السرية: أي التي أصابت أم قرفة أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وأنه الذي في مسلم. وذكر في الأصل قبل ذلك عن ابن إسحاق وابن سعد أن أمير هذه السرية، أي التي أصابت أم قرفة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما، وأنه لقي بني فزارة وأصيب بها ناس من أصحابه، وانفلت زيد من بين القتلى: أي احتمل جريحا وبه رمق، فلما قدم زيد رضي الله تعالى عنه نذر أن لا يمس رأسه غسل من الجنابة حتى يغزو بني فزارة، فلما عوفي أرسله صلى الله عليه وسلم إليهم، فكمنوا النهار وساروا الليل حتى أحاطوا بهم، وكبروا وأخذوا أم قرفة وكانت أم قرفة في شرف من قومها، وكان يعلق في بيتها خمسون سيفا كلهم لها محرم، وكان لها اثنا عشر ولدا. ومن ثم كانت العرب تضرب بها المثل في العزة، فتقول: لو كنت أعز من أم قرفة، فأمر زيد بن حارثة أن تقتل أم قرفة، أي لأنها كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء أنها جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها وقالت لهم: اغزوا المدينة واقتلوا محمدا، لكن قال بعضهم: إنه خبر منكر فربط برجليها حبلين ثم ربطا إلى بعيرين وزجرهما، أي وقيل إلى فرسين، فركضا فشقاها نصفين، وقرفة ولدها هذا الذي تكنى به قتله النبي صلى الله عليه وسلم وبقية أولادها قتلوا مع أهل الردة في خلافة الصديق فلا خير فيها ولا في بنيها، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة، وذكر له صلى الله عليه وسلم جمالها، فقال صلى الله عليه وسلم لابن الأكوع: يا سلمة ما جارية أصبتها، قال: يا رسول الله جارية رجوت أن أفدي بها امرأة منا في بني فزارة: فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام مرتين أو ثلاثا، فعرف سلمة أنه صلى الله عليه وسلم يريدها، فوهبها النبي صلى الله عليه وسلم لخاله حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بمكة، وكان أحد الأشراف، فولدت له عبد الرحمن بن حزن، وإنما قيل لحزن خاله لأن فاطمة أم أبي النبي صلى الله عليه وسلم هي بنت عائذ كما تقدم، وعائذ جد حزن لأبيه، وفي لفظ بنت عمرو بن عائذ. وفي كلام السهيلي أن رواية الفداء لمن كان أسيرا بمكة أصح من رواية أنه صلى الله عليه وسلم وهبها لخاله حزن. وجمع الشمس الشامي بين الروايتين حيث قال: يحتمل أنهما سريتان اتفق لسلمة بن الأكوع فيهما ذلك، أي إحداهما لأبي بكر، والأخرى لزيد بن حارثة، ويؤيد ذلك أن في سرية أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ببنت أم قرفة إلى مكة ففدى بها أسرى كانوا في أيدي المشركين. أي وفي سرية زيد وهبها لخاله حزن بمكة. قال: ولم أر من تعرض لتحرير ذلك انتهى. أقول: في هذا الجمع نظر، لأنه يقتضي أن أم قرفة تعددت، وأن كل واحدة كانت لها بنت جميلة، وأن سلمة بن الأكوع أسرهما، وأنه صلى الله عليه وسلم أخذهما منه، وفي

ذلك بعد، إلا أن يقال: لا تعدد لأم قرفة وتسمية المرأة في سرية أبي بكر أم قرفة وهم من بعض الرواة. ويدل عليه أن بعضهم أوردها ولم يسم المرأة أم قرفة، بل قال فيهم امرأة من بني فزارة معها ابنة لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر بنتها فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبا، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق مرتين في يومين، فقال: يا سلمة هبني المرأة، فقلت: هي لك، فبعث بها إلى مكة ففدى بها ناسا كانوا أسرى بمكة. ثم لا يخفى أن ما ذكره الأصل عن ابن إسحاق وابن سعد من أنه صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة إلى وادي القرى، أي غازيا لبني فزارة، وأنه لقيهم وأصيب بها ناس من أصحابه، وأفلت زيد من بين القتلى جريحا الخ يخالفه ما ذكر عن ابن سعد مما يقتضي أن زيد بن حارثة في هذه لم يكن غازيا، بل كان تاجرا، وأنه لم يرسل لبني فزارة وإنما اجتاز بهم فقاتلوه. والمذكور عن ابن سعد ما نصه: قالوا: خرج زيد بن حارثة في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة فضربوه وضربوا أصحابه، أي فظنوا أنهم قد قتلوا وأخذوا ما كان معهم، فقدموا المدينة، ونذر زيد أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة، فلما خلص من جراحته بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية لهم، وقال لهم: اكمنوا النهار وسيروا الليل، فخرج بهم دليل من بني فزارة وقد نزر بهم القوم، فكانوا يجعلون له ناظورا حين يصبحون فينظر على جبل يشرف على وجه الطريق الذي يرون أن المسلمين يأتون منه، فينظر قدر مسيرة يوم، فيقول اسرحوا فلا بأس عليكم، فإذا أمسوا أشرف ذلك الناظر على ذلك الجبل فينظر مسيرة ليلة، فيقول ناموا فلا بأس عليكم في هذه الليلة، فلما كان زيد بن حارثة وأصحابه على نحو مسيرة ليلة أخطأ بهم الدليل الفزاري طريقهم، فأخذ بهم طريقا أخرى حتى أمسوا وهم على خطأ، فعاينوا الحاضر من بني فزارة، فحمدوا خطأهم فكمن لهم في الليل حتى أصبحوا فأحاطوا بهم ثم كبر زيد وكبر أصحابه إلى آخر ما تقدم. ولما قدم زيد بن حارثة المدينة جاء إليه صلى الله عليه وسلم وقرع عليه الباب، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه واعتنقه وقبله، وسأله فأخبره بما ظفره الله تعالى به. وحينئذ يشكل قوله في الأصل: ثبت عن ابن سعد أن لزيد بن حارثة سريتين بوادي القرى. إحداهما في رجب والأخرى في رمضان، فإنه بظاهرة يقتضي أنه أرسل غازيا في المرتين لبني فزارة بوادي القرى. وقد علمت أن كلام ابن سعد يدل على أن زيد بن حارثة في السرية الأولى إنما كان تاجرا اجتاز ببني فزارة بوادي القرى. وقد علمت أن كلام ابن سعد يدل على أن زيد بن حارثة في السرية الأولى إنما كان تاجرا اجتاز ببني فزارة بوادي القرى فقاتلوه هو وأصحابه وأخذوا ما معهم.

سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل

ثم رأيت الأصل تبع في ذلك شيخه الحافظ الدمياطي حيث قال سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب: قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا رضي الله تعالى عنه أميرا. ثم قال: سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بناحية وادي القرى في رمضان. وفيه ما علمت. ثم لا يخفى أن في هذا إطلاق السرية على الطائفة التي خرجت للتجارة ولا يختص ذلك بمن خرج للقتال أو لتجسس الأخبار، وقد تقدم. سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل بضم الدال المهملة وبفتحها، وأنكره ابن دريد لبني كلب. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فأقعده بين يديه وعممه بيده، قال أي بعد أن قال له: تجهز فإني باعثك في سرية من يومك هذا أو من الغد إن شاء الله تعالى. ثم أمره أن يسري من الليل إلى دومة الجندل في سبعمائة وعسكروا خارج المدينة. فلما كان وقت السحر جاء عبد الرحمن بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وكان عليه عمامة من كرابيس: أي غليظة قد لفها على رأسه، فنقضها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم عممه بعمامة سوداء وأرخى بين كتفيه منها أربع أصابع أو نحوا من ذلك. ثم قال: هكذا يا بن عوف فاعتم فإنه أحسن وأعرف. ثم أمر صلى الله عليه وسلم بلالا أن يدفع إليه اللواء فدفعه إليه، وقام صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم صلى على نفسه، ثم قال: خذه يا بن عوف انتهى، وقال: اغز بسم الله وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغلّ، أي لا تخن في المغنم ولا تغدر، أي لا تترك الوفاء، ولا تقتل وليدا وفي رواية: لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تنكثوا، ولا تملوا، ولا تقتلوا وليدا: أي صبيا: فهذا عهد الله وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فيكم ثم قال صلى الله عليه وسلم له: إذا استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم، فسار عبد الرحمن بن عوف حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام وهم يأبون ويقولون: لا نعطي إلا السيف. وفي اليوم الثالث أسلم رأسهم وملكهم الأصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانيا: قال في النور: لم أجد أحدا ترجمه، والظاهر أنه ما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فهو تابعي، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقر من أقام على كفره بإعطاء الجزية: أي وأرسل رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه بذلك وأنه يريد أن يتزوج فيهم. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج ببنت الأصبغ، أي فتزوجها رضي الله تعالى عنه، وبنى بها عندهم، وقدم بها

سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى مدين

المدينة، وهي أم ولده سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهي أول كلبية نكحها قرشي، ولم تلد غير سلمة وطلقها عبد الرحمن في مرض موته ثلاثا ومتعها جارية سوداء، ومات وهي في العدة، وقيل بعد انقضاء العدة فورّثها عثمان رضي الله تعالى عنه. قال: وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «سرت لأسمع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فإذا فتى من الأنصار أقبل يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس، فقال: يا رسول الله أيّ المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقا، ثم قال: وأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعدادا قبل أن ينزل بهم، أولئك الأكياس. ثم سكت الفتى وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلت بكم، وأعوذ بالله أن تدركوهن، إنه لن تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. وما نقص المكيال والميزان في قوم إلا أخذهم الله بالسنين، ونقص من الثمرات، وشدة المؤنة، وجور السلطان لعلهم يذكرون. وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عنهم قطر السماء ولولا البهائم لم يسقوا وما نقض قوم عهد الله ورسوله إلا سلط الله عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذ ما كان في أيديهم. وما حكم قوم بغير كتاب الله إلا جعل الله تعالى بأسهم بينهم» وفي رواية: «إلا ألبسهم الله شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض» . وفي الأصل ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه لدومة الجندل في سرية. زاد في السيرة الشامية على ذلك قوله: كما سيأتي. سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى مدين قرية سيدنا شعيب صلوات الله وسلامه عليه، وهي تجاه تبوك فأصاب سبيا، وفرقوا في بيعهم بين الأمهات والأولاد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، فقال: «ما لهم؟» فقيل: يا رسول الله فرق بينهم: أي بين الأمهات والأولاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوهم إلا جميعا» . قال في الأصل: وكان مع زيد رضي الله تعالى عنه في هذه السرية ضميرة مولى علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وكذا أخوه رضي الله تعالى عنه، وأخ له وهو تابع في ذلك لابن هشام. وردّ بأن مولى عليّ هذا الذي هو ضميرة لم يذكر في كتب الصحابة وكذا أخوه.

سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بني سعد بن بكر بفدك

سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بني سعد بن بكر بفدك وهي قرية بينها وبين المدينة ست ليال، أي وفي لفظ: ثلاث مراحل، وهي خراب الآن. وفي الصحاح: فدك قرية بخيبر. وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن لبني سعد جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، وأن يجعلوا لهم تمر خيبر: أي ما يوجد من غلتها، فبعث إليهم عليا كرّم الله وجهه في مائة رجل، فسار الليل وكمن النهار إلى أن نزلوا محلا بين خيبر وفدك، فوجدوا به رجلا فسألوه عن القوم؟ أي فقال: لا علم لي، فشدوا عليه، فأقر أنه عين: أي جاسوس لهم، وقال: أخبركم على أن تؤمنوني؟ فأمنوه، فدلهم، فأغاروا عليهم وأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعن، فعزل علي كرّم الله وجهه صفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوحا: أي حلوبا قريبة عهد بنتاج تدعى الحفدة بفتح الحاء وكسر الفاء وفتح الدال المهملة لسرعة سيرها، ومنه في الدعاء: إليك نسعى ونحفد ثم عزل الخمس وقسم الباقي على أصحابه. أقول: قوله يريدون أن يمدوا يهود خيبر، يقتضي بظاهره أن ذلك كان عند محاصرة خيبر أو عند إرادة ذلك، وفيه ما لا يخفى لما تقدم، والله أعلم. سرية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه إلى أسير بضم الهمزة وفتح السين، ويقال أسير بن رزام اليهودي بخيبر. لما قتل الله أبا رافع بن سلام بن أبي الحقيق عظيم يهود خيبر كما تقدم، أمروا عليهم أسير بن رزام، قال: ولما أمروه عليهم، قال لهم: إني صانع بمحمد ما لم يصنعه أصحابي، فقالوا له: وما عسيت أن تصنع؟ قال: أسير في غطفان فأجمعهم لحربه، قالوا: نعم ما رأيت، وكان ذلك قبل فتح خيبر انتهى. فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجه إليه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر سرا يسأل عن خبر أسير وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لذلك، فانتدب له ثلاثون رجلا، وأمرّ عليهم عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه، وقيل عبد الله بن عتيك، فقدموا على أسير، فقالوا: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له. قال: نعم ولي منكم مثل ذلك، فقالوا: نعم، فقلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك فطمع في ذلك: أي واستشار يهود في

سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريس رضي الله عنهما

ذلك فأشاروا عليه بعدم الخروج وقالوا: ما كان محمد ليستعمل رجلا من بني إسرائيل، قال: بلى قد ملّ الحرب. قال في النور: هذا الكلام لا يناسب أن يقال قبل فتح خيبر، فالذي يظهر أنها بعد فتح خيبر. وأقول: يجوز أن يكون المراد باستعماله على خيبر المصالحة وترك القتال، ومن ثم أجاب بقوله إنه صلى الله عليه وسلم: قد ملّ الحرب، والله أعلم. فخرج، وخرج معه ثلاثون رجلا من يهود مع كل رجل منهم رديف من المسلمين، قال عبد الله بن أنيس، كنت رديفا لأسير، فكأنّ أسيرا ندم على خروجه معنا، فأهوى بيده إلى سيفي، ففطنت بفتح الطاء له، وقلت أغدر عدوّ الله أغدر عدوّ الله أغدر عدو الله ثلاثا؟ فضربته بالسيف فأطحت عامة فخذه فسقط، وكان بيده مخدش من شوحط فضربني به على رأسي فشجني مأمومة، وملنا على أصحابه فقتلناهم إلا رجلا واحدا أعجزنا جريا. ثم أقبلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثناه الحديث، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد نجاكم الله من القوم الظالمين وبصق في شجتي فلم تقح عليّ ولم تؤذني» . قال: وفي رواية زيادة على ذلك، وهي وقطع لي قطعة من عصاه، فقال: أمسك هذه معك علامة بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها، فإنك تأتي يوم القيامة متخصرا، فلما دفن عبد الله بن أنيس جعلت معه على جلده دون ثيابه انتهى. أقول: تقدم نظير ذلك لعبد الله بن أنيس هذا لما أرسله صلى الله عليه وسلم لقتل سفيان بن خالد الهذلي وجاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن هذا وهم من بعض الرواة، ويحتمل تعدد الواقعة: أي أعطاه صلى الله عليه وسلم عصاه أولا في تلك، وأعطاه أخرى ثانيا في هذه، وجعل العصا بين جلده وكفنه، ولا مانع منه، لكن ربما تتشوف النفس للسؤال عن حكمة تكرير ذلك لعبد الله بن أنيس وتخصيصه بهذه المنقبة دون بقية الصحابة، والله أعلم. سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريس رضي الله عنهما بالحاء المهملة وكسر الراء وسين مهملة، وكل ما في الأنصار حريس بالسين المهملة إلا الحريش فإنه بالشين المعجمة، وقيل بدله جبار بن صخر إلى أبي سفيان بن حرب بمكة ليغتالاه. وسببها أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قال لنفر من قريش: ألا أحد يغتال لنا

محمدا فإنه يمشي في الأسواق وحده، فأتاه رجل من الأعراب، وقال يعني نفسه: قد وجدت أجمع الرجال قلبا، وأشدهم بطشا، وأسرعهم عدوا، فإذا أنت فديتني خرجت إليه حتى أغتاله فإن معي خنجرا بفتح الخاء المعجمة كجناح النسر، وإني عارف بالطريق، فقال له: أنت صاحبنا، فأعطاه بعيرا ونفقة، وقال له: اطو أمرك، وخرج ليلا إلى أن قدم المدينة، ثم أقبل يسأل عن رسول الله فدل عليه، وكان صلى الله عليه وسلم في مسجد بني عبد الأشهل، فعقل راحلته وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم، قال: إن هذا يريد غدرا، والله حائل بينه وبين ما يريد، فجاء ليجني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجذبه أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه بداخلة إزاره: أي بحاشيته من داخل، فإذا بالخنجر فأخذ أسيد يخنقه خنقا شديدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدقني، قال: وأنا آمن؟ قال: نعم، فأخبره بأمره فخلى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، أي وقال: يا رسول الله ما كنت أخاف الرجال، فلما رأيتك ذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم اطلعت على ما هممت به، فعلمت أنك على الحق، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم. فعند ذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ومن تقدم إلى أبي سفيان بمكة. أي وذلك بعد قتل خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه وصلبه على الخشبة. ومضى عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فعرفه، فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه لأنه كان فاتكا في الجاهلية وقالوا: لم يأت عمرو بخير، واشتدّوا في طلبه. قال: وفي رواية لما قدما مكة حبسا جمليهما ببعض الشعاب، ثم دخلا ليلا، فقال له صاحبه: يا عمرو لو طفنا بالبيت وصلينا ركعتين ثم طلبنا أبا سفيان، فقال له عمرو: إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق، أي وإن القوم إذا تعشوا جلسوا على أفنيتهم، فقال: كلا إن شاء الله، قال عمرو: فطفنا بالبيت وصلينا، ثم خرجنا لطلب أبي سفيان، فلقيني رجل من قريش فعرفني، وقال: عمرو بن أمية فأخبر قريشا بي، فهربت أنا وصاحبي انتهى أي وصعدنا الجبل، وخرجوا في طلبنا، فدخلنا كهفا في الجبل، ولقي عمرو رجلا من قريش فقتله: أي قتل ذلك الرجل عمرو، فلما أصبحنا، غدا رجل من قريش يقود فرسا ونحن في الغار، فقلت لصاحبي: إن رآنا صاح بنا، فخرجت إليه ومعي خنجر أعددته لأبي سفيان فضربته على يده فصاح صيحة أسمع أهل مكة، فجاء الناس يشتدّون فوجدوه بآخر رمق فقالوا: من ضربك؟ قال عمرو بن أمية، وغلبه الموت فاحتملوه، فقلت لصاحبي، لما أمسينا: النجاء، فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة، فمررنا بالحرس الذين يحرسون خشبة خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه، فقال أحدهم: لولا أن عمرو بن أمية بالمدينة

سرية سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه

لقلت إنه هذا الماشي، فلما حاذيت الخشبة شددت عليها، فحملتها واشتديت أنا وصاحبي فخرجوا وراءنا، فألقيت الخشبة فغيبه الله عنهم، كذا في السيرة الهشامية. وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير والمقداد لإنزاله وأن الزبير أنزله فابتلعته الأرض. وتقدم عن ابن الجوزي مثل ما هنا من أن الذي أنزله عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه، فيحتاج إلى الجمع على تقدير صحة الروايتين. ويقال إن عمرا قتل رجلا آخر سمعه يقول: ولست بمسلم ما دمت حيا ... ولست أدين دين المسلمينا ولقي رجلين بعثتهما قريش إلى المدينة يتجسسان لهم الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر ثم قدم رضي الله تعالى عنه المدينة، وجعل يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. سرية سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه وقيل كرز بن جابر رضي الله تعالى عنه وعليه الأكثرون. ومن ثم اقتصر عليه الحافظ الدمياطي، أي وقيل جرير بن عبد الله البجلي. ورد بأن إسلام جرير بن عبد الله المذكور كان بعد هذه السرية بنحو أربع سنين إلى العرنيين. وسببها أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر: أي ثمانية من عرينة، وقيل أربعة من عرينة وثلاثة من عكل، والثامن من غيرهما مسلمين، نطقوا بالشهادتين، كانوا مجهودين قد كادوا يهلكون أي لشدة هزالهم وصفرة ألوانهم وعظم بطونهم، وقالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا، فأنزلهم صلى الله عليه وسلم عنده: أي بالصفة ثم قال لهم: أي بعد أن ذكروا له صلى الله عليه وسلم أن المدينة وبئة وخمة، وأنهم أهل ضرع ولم يكونوا أهل ريف: لو خرجتم إلى ذود لنا: أي لقاح وكانت خمسة عشر فشربتم من ألبانها وأبوالها، أي لأن في لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتفتيحا للسدد، فإن الاستسقاء وعظم البطن إنما ينشأ عن السدد وآفة الكبد. ومن أعظم منافع الكبد لبن اللقاح، لا سيما إن استعمل بحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل مع حرارته التي يخرج بها ففعلوا ثم لما صحت أجسامهم كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعيها وهو يسار مولى النبي صلى الله عليه وسلم، ومثلوا به: أي قطعوا يديه ورجليه، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات واستاقوا اللقاح. وفي لفظ أنهم ركبوا بعضها واستاقوها، فأدركهم يسار ومعه نفر، فقاتلهم فقطعوا يده ورجله، الحديث. وبلغه صلى الله عليه وسلم الخبر، فبعث صلى الله عليه وسلم في آثارهم عشرين فارسا، واستعمل عليهم من

سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى طائفة من هوازن

تقدم، وأرسل معهم من يقص آثارهم، فأدركوهم فأحاطوا بهم فأسروهم ودخلوا بهم المدينة فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسلمت أعينهم: أي غورت بمسامير محماة بالنار، وألقوه بالحرة: أي وهي أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار، يستسقون فلا يسقون. قال أنس رضي الله تعالى عنه: ولقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش ليجد بردها لما يجده من شدة العطش حتى ماتوا على حالهم وأنزل الله فيهم: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: الآية 33] الآية، ولم يقع بعد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم سمل عينا. وفي لفظ أنهم لما أسروا ربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، فخرجوا بهم نحوه، فلقوه بمجمع السيول، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وصلبوا هنالك، وأنه صلى الله عليه وسلم فقد من اللقاح لقحة تدعى الحفياء، فسأل عنها، فقيل نحروها، كذا في سيرة الحافظ الدمياطي، وقدم فيها هذه السرية على سرية عمرو بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه. سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى طائفة من هوازن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ثلاثين رجلا إلى عجز بفتح العين المهملة وبضم الجيم وبالزاي: محل بينه وبين مكة أربع ليال بطريق صنعاء، يقال له تربة بضم المثناة فوق وفتح الراء ثم موحدة مفتوحة ثم تاء تأنيث. وأرسل صلى الله عليه وسلم دليلا من بني هلال فكان يسير الليل ويكمن النهار فأتى الخبر لهوازن فهربوا، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه محالهم، فلم يجد منهم أحدا، فانصرف راجعا إلى المدينة، فلما كان بمحل بينه وبين المدينة ستة أميال قال له الدليل: هل لك جمع آخر من خثعم، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، إنما أمرني بقتال هوازن. سرية أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى بني كلاب عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وأمّره علينا، فسبى ناسا من المشركين، فقتلناهم، فقلت بيدي سبعة أهل أبيات من المشركين، وما زاده الأصل على هذا من قوله إن سلمة بن الأكوع قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فزارة الخ نسب فيه للوهم، لأن ذلك كان في سريته لبني فزارة بوادي القرى، وقد تقدمت، فهما قضيتان مختلفتان جمع

سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى بني مرة بفدك

بينهما، أي وهذا الذي في الأصل تبع فيه شيخه الحافظ الدمياطي، وفيه ما علمت. سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى بني مرة بفدك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجلا إلى بني مرة بفدك وتقدم أنها قرية بينها وبين المدينة ستة أميال، فخرج فلقي رعاء الشاء، فسأل عن الناس؟ فقيل في بواديهم، فاستاق النعم والشاء، وانحدر إلى المدينة، فخرج الصريخ إليهم فأدركه منهم العدد الكثير عند الليل فباتوا يترامون بالنبل حتى فني نبل أصحاب بشير، أي فلما أصبحوا حملوا على بشير وأصحابه، فقتلوا منهم من قتلوا، وولى من ولي منهم، وقاتل بشير قتالا شديدا حتى ارتث: أي جرح وصار ما به رمق، وضربت كعبه اختبارا لحياته فلم يتحرك، فقيل مات، فرجعوا بنعمهم وشياههم، وجاء إليه صلى الله عليه وسلم خبرهم ثم جاء بشير رضي الله تعالى عنه إلى المدينة بعد ذلك، أي فإنه استمر بين القتلى إلى الليل، فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك فأقام بفدك عند يهودي أياما حتى قوي على المشي، وجاء إلى المدينة. أقول: وهذا يدل على أن بني مرة الذين توجه إليهم بشير لم يكونوا بفدك، بل بالقرب منها، فيكون قوله أوّلا لبني مرة بفدك فيه تسمح، وأن بشيرا حصلت له هذه الحالة مرتين، فليتأمل. سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، اسم محل وراء بطن نخل بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه في مائة وثلاثين رجلا لبني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، ودليلهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهجموا عليهم جميعا ووقعوا في وسط محالهم، فقتلوا جمعا من أشرافهم واستاقوا نعما وشاء، ولم يأسروا أحدا وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، وهو مرداس بن نهيك. وفي سيرة الحافظ الدمياطي نهيك بن مرداس، والأول هو الذي في الكشاف، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟» فعن أسامة رضي الله تعالى عنه: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما أعييناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟

قلت: إنما قالها متعوّذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» أي تمنيت أن أكون أسلمت اليوم فيكفر عني ما صنعت، قال: كذا وقع في الأصل أن قتل أسامة للرجل الذي قال لا إله إلا الله كان في هذه السرية، وقد تبع في ذلك ابن سعد. وإنما كان ذلك في سرية أسامة بن زيد للحرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف ثم تاء تأنيث بطن من جهينة، وسيأتي عن أسامة «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحناها، فكان رجل يدعى مرداس بن نهيك إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان من حاميتهم فهزمناهم، فتبعته أنا ورجل من الأنصار، فرفعت عليه السيف، فقال لا إله إلا الله» وزاد في رواية: «محمد رسول الله، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، ثم وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى ما أقدر على أكل الطعام، حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلني وأعتقني» قال بعضهم: «كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة بن زيد يسأل عنه أصحابه، ويحب أن يثني عليه خيرا، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدثون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله لو رأيت ما فعل أسامة ولقيه رجل، فقال الرجل لا إله إلا الله، فشد عليه أسامة فقتله وهو صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم، فلما أكثروا عليه صلى الله عليه وسلم رفع رأسه الشريف لأسامة فقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله، فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فقال أسامة رضي الله تعالى عنه: إنما قالها خوفا من السلاح» وفي رواية: «إنما كان متعوّذا من القتل، قال أسامة رضي الله تعالى عنه: ولا زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر عليّ حتى تمنيت أني لم أسلم إلا يؤمئذ» انتهى. والذي في الكشاف في تفسير قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: الآية 94] أصله أن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليها غالب بن فضالة الليثي رضي الله تعالى عنه، فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه. فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فوجدوا وجدا شديدا وقال: قتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول الله استغفر لي، قال: فكيف بلا إله إلا الله؟ فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي وقال: أعتق رقبة، وسيأتي نحو ذلك في سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب بشير بن سعد. ويبعد تعدد هذه الواقعة سيما في مواطن ثلاثة أو أربعة، وكون يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دليلا في هذه السرية يقتضي أنها متقدمة على سرية العرنيين، فقد

سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى يمن

تقدم أنهم قتلوه ثم رأيته في النور قال: ولعل هذا غير ذاك، لكن لم أر له ذكرا في الموالي إلا أن يكون أحد موالي أقاربه عليه الصلاة والسلام فنسب إليه، ومن ثم لم يشهد أسامة رضي الله تعالى عنه مع علي كرم الله وجهه قتالا، وقال له: لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها، ولكنك قد سمعت ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد أن لا إله إلا الله وقلت له: أعطي الله عهدا أن لا أقتل رجلا بقول لا إله إلا الله، والله أعلم. سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى يمن بفتح الياء آخر الحروف وقيل بضمها، أو يقال أمن بالهمزة مفتوحة وسكون الميم، وجبار بفتح الجيم: واد قريب من خيبر. لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان قد واعدهم عيينة بن حصن: أي قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه، ليكون معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا المحل المذكور، فأصابوا نعما كثيرا، وتفرق الرعاء بكسر الراء والمد، وذهبوا إلى القوم، وأخبروهم فتفرقوا ولحقوا بعليا بلادهم، وعليا بضم العين وسكون اللام مقصورا: نقيض السفلى، فلم يظفر بأحد منهم إلا برجلين أسروهما فرجع بالنعم والرجلين إلى المدينة، فأسلم الرجلان، فأرسلهما صلى الله عليه وسلم قال: والرجلان من جمع عيينة، فإن المسلمين لما قالوا جمع عيينة انهزموا أمامهم وتبعوهم أخذوا منهم ذينك الرجلين انتهى، أي وعيينة بن حصن كان يقال له الأحمق المطاع، لأنه كان يتبعه عشرة آلاف قناة، وقيل له عيينة، قال في الأصل: لأن عينه حجفلت: أي عظمت وكبرت، فلقب بذلك رضي الله تعالى عنه. سرية ابن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى عنه في خمسين رجلا إلى بني سليم، فكان لهم جاسوس مع القوم، فخرج إليهم وسبق القوم وحذرهم، فجمعوا لهم جمعا كثيرا، فجاؤوا لهم وهم معدّون لهم فدعوهم إلى الإسلام، فقالوا: أيّ حاجة لنا بما تدعونا إليه؟ فتراموا بالنبل ساعة، وجعلت الأمداد تأتيهم، وأحدقوا بالمسلمين من كل ناحية، فقاتل المسلمون قتالا شديدا حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني الملوح

سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني الملوّح بضم الميم وفتح اللام وتشديد الواو مكسورة ثم حاء مهملة بالكديد، بفتح الكاف وكسر الدال المهملة. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي في بضعة عشر رجلا قال: وما نقل عن الواقدي أنهم كانوا مائة وثلاثين رجلا فذلك في سرية لغالب غير هذه انتهى. أقول: وهي المتقدمة التي توجهت لبني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، والله أعلم. وأمر صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله وأصحابه أن يشنوا الغارة على القوم، فخرجوا حتى إذا كانوا بقديد لحقوا الحارث الليثي فأسروه، فقال: إنما خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام، فقالوا له: إن كنت مسلما لم يضرك ربطنا لك يوما وليلة، وإن كنت غير ذلك استوثقنا منك، فشدوه وثاقا، وخلفوا عنده سويد بن صخر. أي وفي لفظ: خلفوا عليه رجلا أسود منهم، وقالوا له: إن نازعك فاحتز رأسه، وساروا حتى أتوا محل القوم عند غروب الشمس، فكمنوا في ناحية الوادي. قال جندب الجهني: وأرسلني القوم جاسوسا لهم، فخرجت حتى أتيت تلا مشرفا على الحاضر: أي القوم المقيمين بمحلهم، فلما استويت على رأسه انبطحت عليه لأنظر، إذ خرج رجل منهم فقال لامرأته: إني لأنظر على هذا الجبل سوادا ما رأيته قبل، انظري إلى أوعيتك لا تكون الكلاب جرت منها شيئا. فنظرت فقالت: والله ما فقدت من أوعيتي شيئا، فقال: ناوليني قوسي ونبلي، فناولته قوسه وسهمين، فأرسل سهما، فو الله ما أخطأ بين عينيّ، فانتزعته وثبتّ مكاني، فأرسل آخر فوضعه في منكبي، فانتزعته وثبت مكاني، فقال لامرأته: والله لو كان جاسوسا لتحرك، لقد خالطه سهمان لا أبالك: أي بكسر الكاف: أي لا كافل لك غير نفسك وهو بهذا المعنى يذكر في معرض المدح، وربما يذكر في معرض الذم وفي معرض التعجب لا بهذا المعنى، فإذا أصبحت فانظريهما لا تمضغهما الكلاب ثم دخل، فلما اطمأنوا وناموا شنينا عليهم الغارة، واستقنا النعم والشاء بعد أن قتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، أي ومروا على الحارث الليثي، فاحتملوه واحتملوا صاحبهم الذي تركوه عنده، فخرج صريخ القوم في قومهم، فجاء ما لا قبل لنا به، فصار بيننا وبينهم الوادي، فأرسل الله سحابا فأمطر الوادي ما رأينا مثله، فسال الوادي بحيث لا يستطتع أحد أن يجوز به، فصاروا وقوفا ينظرون إلينا ونحن متوجهون إلى أن قدمنا المدينة.

سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله تعالى عنه أي في بني مرة بفدك

أي وفي لفظ آخر: فقلنا القوم ينظرون إلينا، إذ جاء الله بالوادي من حيث شاء يملأ جنبيه ماء، والله ما رأينا يومئذ سحابا ولا مطرا، فجاء بما لا يستطيع أحد أن يجوزه فوقفوا ينظرون إلينا، وقد وقع نظير ذلك: أي سيل الوادي لقطنة بن عامر حين توجه إلى بني خثعم بناحية تبال كما سيأتي. سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله تعالى عنه أي في بني مرة بفدك لما قدم غالب من الكديد مؤيدا منصورا بعثه صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل إلى حيث أصيب أصحاب بشير بن سعد، وذلك في بني مرة فدك، وكان قبل قدوم غالب هيأ صلى الله عليه وسلم الزبير لذلك وعقد له لواء، فلما قدم غالب رضي الله تعالى عنه قال صلى الله عليه وسلم للزبير اجلس، فصار غالب رضي الله تعالى عنه إلى أن أصبح القوم فأغاروا عليهم، وكان غالب رضي الله تعالى عنه قد أوصاهم بعدم مخالفتهم له، وآخى بين القوم، فساقوا نعما وقتلوا منهم. قال: لما دنا غالب منهم ليلا، قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله تعالى وحده لا شريك له وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمرا فإنه «لا رأي لمن لا يطاع» وفي رواية: لا تعصوني، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يطع أميري فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني» وإنكم متى تعصوني فإنكم تعصون نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم ألف رضي الله تعالى عنه بين القوم، فقال: يا فلان أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يفارق رجل منكم زميله، فإياكم أن يرجع الرجل منكم فأقول له أين صاحبك؟ فيقول لا أدري، فإذا كبرت فكبروا، فلما أحاطوا بالقوم كبر غالب رضي الله تعالى عنه وكبروا معه وجردوا السيوف، فخرج الرجال فقاتلوا ساعة، ووضع المسلمون فيهم السيف، وكان شعار المسلمين «أمت أمت» وكان في القوم أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، وتفقده غالب رضي الله تعالى عنه فلم يره، وبعد ساعة: أي من الليل أقبل، فلامه غالب وقال: ألم تر إلى ما عهدت إليك، فقال: خرجت في أثر رجل منهم جعل يتهكم بي حتى إذا دنوت منه وضربته بالسيف قال: «لا إله إلا الله» فقال له الأمير: بئسما فعلت وما جئت به، تقتل امرأ يقول: «لا إله إلا الله» فندم أسامة وساق المسلمون النعم والشاء والذرية، فكان سهم كل رجل عشرة أبعرة، وعدل البعير بعشرة من الغنم انتهى، وتقدمت الحوالة على هذه، وتقدم ما فيها. وقوله هنا حتى إذا دنوت منه وضربته بالسيف قال: «لا إله إلا الله» يقتضي أنه

سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه إلى بني عامر

إنما قال: «لا إله إلا الله» بعد ضربه السيف. إلا أن يحمل على الإرادة، وتقدم أنه طعنه برمحه، فليتأمل. سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه إلى بني عامر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب رضي الله تعالى عنه في أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن: أي يقال لهم بنو عامر، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يغير عليهم، فكان يسير الليل ويكمن بالنهار حتى صبحهم وهم غافلون. أي وقد نهى أصحابه أن يمعنوا في الطلب، فأصابوا نعما وشاء، واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، فكان سهم كل رجل خمسة عشر بعيرا، وعدل البعير بعشرة من الغنم. سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله تعالى عنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح من أرض الشام وراء وادي القرى في خمسة عشر رجلا، فوجدوا جمعا كثيرا، أي لأنه لما دنا كعب بن عمير رضي الله تعالى عنه من القوم ذهب عين لهم فأخبروهم بقلة المسلمين فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا ورشقوهم بالنبل. فقاتلهم المسلمون أشد القتال حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن عمير فإنه ظن قتله، فلما أمسى تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك عليه، فهمّ بالبعث إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى محل آخر، فتركهم. أقول: لم أقف على السبب الذي اقتضى البعث إلى ذلك المحل، والله أعلم. سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل أرض بها ماء يقال له السلاسل، بضم السين الأولى وكسر الثانية. أي وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. المشهور أنها بفتح الأولى، قيل سمي المكان بذلك، لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة، يقال ماء سلسل وسلسال: إذا كان سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، وتلك الأرض وراء وادي القرى، وقيل لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. أقول: ولخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في زمن الصديق غزاة مع أهل فارس يقال لها ذات السلاسل، لكثرة من تسلسل فيها من الشجعان خوف الفرار، فقتلوا عن آخرهم لأن السلاسل منعتهم الهزيمة. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاسل إلى

الصديق رضي الله تعالى عنه، والله أعلم. بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا يريدون المدينة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، أي وذلك بعد إسلامه بسنة، وعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا. وأمره صلى الله عليه وسلم أن يستعين بمن يمر عليهم، فسار الليل وكمن النهار حتى قرب من القوم، فبلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن كعب الجهني رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين من سراة المهاجرين والأنصار منهم أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعقد له لواء، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلحق بعمرو أبو عبيدة، وأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا وأنا الأمير، قال: وعند ذلك قال جمع من المهاجرين الذين مع أبي عبيدة لعمرو: أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه، فقال عمرو: أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، قال: لتعلم يا عمرو أن آخر شيء عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إن قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك، قال: فإني الأمير عليك، فقال: فدونك اه أي لأن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه كان حسن الخلق لين العريكة فكان عمرو يصلي بالناس. أي وعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، قال: بعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن آخذ ثيابي وسلاحي. فقال: يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك؟ فقلت: إني لم أسلم رغبة في المال، قال: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» ورأوا جمعا كثيرا، فحمل عليهم المسلمون فتفرقوا. قال: وأراد المسلمون أن يتبعوهم، فمنعهم عمرو رضي الله تعالى عنه، وأرادوا أن يوقدوا نارا ليصطلوا عليها من البرد فمنعهم عمرو، أي وقال: كل من أوقد نارا لأقذفنه فيها، فشق عليهم ذلك لما فيه من شدة البرد، فكلمه بعض سراة المهاجرين في ذلك فغالظه عمرو في القول، وقال له: قد أمرت أن تسمع لي وتطيع؟ قال نعم، قال: فافعل. ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غضب وهم أن يأتيه، فمنعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستعمله إلا لعلمه بالحرب فسكت، واحتلم عمرو رضي الله تعالى عنه وكانت تلك الليلة شديدة البرد جدا، فقال لأصحابه ما ترون؟ قد والله احتملت، فإن اغتسلت مت، فدعا بماء فغسل فرجه وتوضأ وتيمم ثم قام وصلى بالناس اه ثم بعث عمرو عوف بن مالك مبشرا للنبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم وسلامتهم. قال: قال عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه: جئته صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في بيته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله

سرية الخبط وهو ورق السمر

وبركاته، فقال: عوف بن مالك؟ فقلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: أخبرني، فأخبرته بما كان من مسيرنا وما كان بين أبي عبيدة بن الجراح وبين عمرو، ومطاوعة أبي عبيدة لعمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح، وأخبرته بمنع عمرو رضي الله تعالى عنه للمسلمين من اتباع العدو، ومن إيقاد النار، ومن صلاته بأصحابه وهو جنب، فلما قدم عليه عمرو كلمه صلى الله عليه وسلم في ذلك قال: كرهت أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفون عليهم، فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره. قال عمرو: وسألني عن صلاتي فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقلت: والذي بعثك بالحق إني لو اغتسلت لمت، لم أجد بردا قط مثله، وقد قال الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: الآية 195] فضحك صلى الله عليه وسلم اه. أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن صلاة الصحابة خلفه، فإني لم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء. سرية الخبط وهو ورق السمر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار فيهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى حي من جهينة في ساحل البحر، وقيل ليرصدوا عيرا لقريش، أي وعليه فتكون هذه السرية قبل الهدنة الواقعة في الحديبية، لما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم بعد الهدنة لم يكن يرصد عيرا لقريش إلى الفتح، وتعدد سرية الخبط بعيد، فلا يقال يجوز أن تكون سرية الخبط مرتين: مرة قبل الهدنة، ومرة بعدها، ومن ثم حكم على هذا القول بأنه وهم. فأقاموا بالساحل نصف شهر، فأصابهم جوع شديد حتى أكلوا الخبط: أي كانوا يبلونه بالماء ويأكلونه حتى تقرحت أشداقهم. فإن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه كان يعطي الواحد منهم في اليوم والليلة تمرة واحدة يمصها ثم يصرها في ثوبه. أي وعن الزبير رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: كيف كنتم تصنعون بالتمرة؟ قال: نمصها كما يمص الصبي ثدي أمه، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، لأنه صلى الله عليه وسلم زوّدهم جرابا من تمر، فجعل أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه يقوتهم إياه، حتى صار يعدّه لهم عدا، حتى كان يعطي الواحد تمرة كل يوم ثم بعد التمر أكلوا الخبط. ولما رأى قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما ما بالمسلمين من جهد الجوع أي مشقته، أي وقال قائلهم: والله لو لقينا عدّوا ما كان منا حركة إليه لما بالناس من الجهد، قال: من يشتري مني تمرا أو فيه له في المدينة بجزر يوفيها إليّ

ههنا؟ فقال له رجل من أهل الساحل: أنا أفعل، لكن والله ما أعرفك، فمن أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة، فقال الرجل: ما أعرفني بسعد، إن بيني وبين سعد خلة سيد أهل يثرب، فاشترى خمس جزائر كل جزور بوسق من تمر. والوسق: بفتح الواو وكسرها ستون صاعا، وجمع الأوّل أوسق، والثاني أوساق، فقال له الرجل: أشهد لي، فقال أشهد من تحب، فأشهد نفرا من المهاجرين والأنصار من جملتهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وقيل إن عمر رضي الله تعالى عنه امتنع من أن يشهد، وقال: هذا يدّان ولا مال له إنما المال أبيه. فقال الرجل: والله ما كان سعد ليخني بابنه، أي لا يوفي عن ابنه ما التزمه، فكان بين قيس وعمر كلام حتى أغلظ له قيس الكلام، وأخذ قيس رضي الله تعالى عنه الجزر فنحر لهم منها ثلاثة في ثلاثة أيام، وأراد أن ينحر لهم في اليوم الرابع، فنهاه أبو عبيدة وقال له: عزمت عليك أن لا تنحر، أتريد أن تخفر ذمتك، أي لا يوفى لك بما التزمت ولا مال لك. فقال له قيس رضي الله تعالى عنه: أترى أبا ثابت، يعني والده سعدا يقضي ديون الناس ويطعم في المجاعة ولا يقضي دينا استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟ وفي البخاري أن قيسا رضي الله تعالى عنه نحر لهم تسع جزائر كل يوم ثلاثا، ثم نهاه أبو عبيدة. أي ومما يؤيد ما ذكر من أن الجزر كانت خمسة، وأنه نحر لهم ثلاثة أيام كل يوم جزورا ما جاء في بعض الروايات أنه بقي معه جزوران قدم بهما المدينة يتعاقبون عليهما فلينظر الجمع. ثم إنّ البحر ألقى لهم دابة هائلة يقال لها العنبر بحيث إن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه نصب لهم ضلعا من أضلاعها. وفي لفظ: من أضلاعه ومرّ تحته أطول رجل في القوم: أي وهو قيس بن سعد بن عبادة راكبا على أطول بعير لم يطأطىء رأسه. وعن جابر رضي الله تعالى عنه، أنه قال: دخلت أنا وفلان وفلان وعدّ خمسة نفر عينها ما رآنا أحد. أي وفي لفظ. ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينها، فأكلوا منها أياما: أي نحو شهر وكانوا ثلاثمائة. فعن بعضهم: لما تقرّحت أشداقنا من الخبط انطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه: ميتة، ثم قال: اضطررتم فكلوا، فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال. وفي رواية: فأخرجنا من عينه كذا وكذا قلة ودك، وصحبوا من لحمها إلى

المدينة، أي وقيل لها العنبر لأنها تبتلع العنبر. فعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه. قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله، وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من جوفها. وقيل العنبر اسم لسمكة مخصوصة في البحر هائلة الخلقة طولا وعرضا، وقد أخبرني بعض السفار أن جملا مات على شاطىء البحر، فألقي في البحر، فابتلعته سمكة، فوقفت أخفاف يديه في حلقها، فجاءت سمكة فابتلعت تلك السمكة. وفي زمن الحاكم بأمر الله وجدت سمكة بدمياط طولها مائتا ذراع وعرضها مائة وستون ذراعا، وكان يقف في حلقها خمس رجال بالمجاريف يجرفون الشحم، وأقام أهل دمياط يأكلون من لحمها خمسة أشهر. ولما بلغ سعد بن عبادة ما حصل للمسلمين من المجاعة قبل قدومهم قال: إن يكن قيس، يعني ولده كما أعهد فلينحر للقوم. فلما قدم قيس قال له سعد: ما صنعت في مجاعة القوم؟ قال: نحرت، قال أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال أصبت، ثم قال ماذا؟ قال: ثم نهيت، قال: ومن نهاك؟ قال أميري أبو عبيدة، قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي، إنما المال لأبيك، فقلت له: أبي يقضي عن الأباعد ويحمل الكل ويطعم في المجاعة ولا يصنع هذا لي؟ فلان لموافقتي، فأبى عليه عمر بن الخطاب إلا التصميم على المنع، فقال سعد لولده قيس ذاك أربع حوائط، أي بساتين، أدناها ما يتحصل منه خمسون وسقا. ثم إن قيسا رضي الله تعالى عنه وفي الرجل صاحب الجزر، وحمله: أي أعطاه ما يركبه، وكساه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل قيس، قال: إنه في بيت جود. إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت. أي ومن ثم قال بعضهم: لم يكن في الأوس والخزرج مطعمون يتوالدون في بيت واحد إلا قيس وأبوه سعد وأبوه عبادة وأبوه دليم، كان في كل يوم يقف شخص على أطم ينادي: من يريد الشحم واللحم فعليه بدار أبي دليم. أي وكان أصحاب الصفّة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد والرجل بالاثنين والرجل بالجماعة، وأما سعد فينطلق بالثمانين. وعن سعد بن عبادة: «زارنا النبي صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم قال: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» . قال: ويذكر أن سعدا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من عذيري من ابن الخطاب يبخل عليّ ابني، اه.

سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان أرض محارب

ويذكر عن سعد بن عبادة أنه كان شديد الغيرة، لم يتزوج إلا بكرا، وما طلق امرأة وقدر أحد أن يتزوجها. وعن جابر رضي الله تعالى عنه: فلما قدمنا المدينة ذكرنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر العنبر، فقال: رزق أخرجه الله تعالى لكم، لعل معكم من لحمه شيء فتطعمونا، فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله أي ولم يكن أروح، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال: لو نعلم أنا ندركه لم يروّح لأحببنا لو كان عندنا منه، قال ذلك ازديادا منه. سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان أرض محارب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة في خمسة عشر رجلا إلى غطفان، وأمره أن يشن الغارة عليهم، فصار يسير الليل ويكمن النهار، حتى هجم عليهم، وأحاط بهم، وقتلوا من أشراف لهم، واستاقوا الإبل والغنم، فكانت الإبل مائة بعير، والغنم ألفي شاة، وسبوا سبايا كثيرة، فأصاب كل رجل بعد إخراج الخمس اثني عشر بعيرا، وعدل البعير بعشرين من الغنم. ووقع في سهم أبي قتادة رضي الله تعالى عنه جارية حسناء وضيئة، فاستوهبها منه صلى الله عليه وسلم، فوهبها له، ثم وهبها صلى الله عليه وسلم لشخص، أي كان وعده بجارية من أول فيء يفيء الله به، فجاء ذلك الشخص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن أبا قتادة قد أصاب جارية وضيئة وقد كنت وعدتني جارية من أول فيء يفيء الله به عليك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي قتادة، قال: هب لي الجارية، فوهبها له الحديث. سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله تعالى عنه إلى الغابة وهي الشجر الملتف. قال عبد الله المذكور: تزوجت امرأة من قومي، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على ذلك، فقال: كم أصدقت؟ قلت: مائتي درهم. فقال: سبحان الله لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واديكم هذا. وفي لفظ: لو كنتم تغرفونها من ناحية بطحان ما زدتم. والله ما عندي ما أعينك، فلبثت أياما، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا يقال له رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة في جمع عظيم نزل بالغابة يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين، فقال: اخرجوا إلى هذا الرجل

حتى تأتوني منه بخبر، ودفع لنا شارفا عجفاء: أي ناقة مسنة، وقال: تبلغوا عليها، واعتقبوها، فركبها أحدنا، فو الله ما قامت به ضعفا حتى ضربت، فخرجنا ومعنا سلاحنا النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريبا من القوم عند غروب الشمس، فكنت في ناحية وصاحبي في ناحية أخرى، فقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت فكبرا، فو الله إنا كذلك ننتظر غرة القوم إلا ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة المجمع للقوم خرج في طلب راع لهم أبطأ عليهم وتخوّفوا عليه، فقال له نفر من قومه: نحن نكفيك ولا تذهب أنت، فقال: والله لا يذهب إلا أنا، فقالوا فنحن معك، فقال: والله لا يتبعني أحد منكم، وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته: أي رميته بسهم فوضعته في فؤاده، فو الله ما تكلم، ووثبت عليه فاحتززت رأسه، وشددت في ناحية العسكر وكبرت، وشدّ صاحباي وكبرا، فهرب القوم واستقنا إبلا وغنما كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا في صداقي. قال: وبعضهم جعل هذه السرية وسرية أبي قتادة إلى غطفان بأرض محارب التي قبل هذه واحدة، أي ومن ثم ذكرتها عقبها خلاف ما صنع في الأصل. قال: ويدل لكونهما واحدة ما نقل عن عبد الله بن أبي حدرد قال: لما طلبت منه صلى الله عليه وسلم الإعانة في مهر زوجتي، قال لي: ما وافقت عندنا شيئا أعينك به، ولكن قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلا في سرية، فهل لك أن تخرج فيها فإني أرجو أن يغنمك الله مهر امرأتك، فقلت: نعم، فخرجنا حتى جئنا الحاضر: أي وهم القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرتحلون عنه، أي كما تقدم، فلما ذهبت فحمه العشاء: أي إقباله وأول سواده، خطبنا أبو قتادة، وأوصانا بتقوى الله تعالى، وألف بين كل رجلين، وقال: لا يفارق كل رجل زميله حتى يقفل: أي يرجع، ولا يجيء إليّ الرجل فأساله عن صاحبه، فيقول لا علم لي به، وإذا كبرت فكبروا، وإذا حملت فاحملوا، ولا تمعنوا في الطلب، فأحطنا بالحاضر، فجرد أبو قتادة سيفه وكبر وجردنا سيوفنا وكبرنا معه، وقاتل رجال من القوم وإذا فيهم رجل طويل، فأقبل عليّ قال: يا مسلم هلم إلى الجنة يتهكم بي، فملت إليه فذهب أمامي: أي وصار يقبل عليّ بوجهه مرة ويدبر عني بوجهة مرة أخرى، فتبعته، فقال لي صاحبي: لا تتبعه فقد نهانا أميرنا أن نمعن في الطلب، ولا زال كذلك، وقال: إن صاحبكم لذو مكيدة، وإن أمره هو الأمر، فأدركته فرميته بسهم فقتلته، وأخذت سيفه وجئت صاحبي فأخبرني أنهم جمعوا الغنائم، وأن أبا قتادة تغيظ عليّ وعليك، فجئت أبا قتادة فلامني فأخبرته الخبر، ثم سقنا النعم، وحملنا النساء، وجفون السيوف معلقة بالأقتاب، ثم لما أصبحنا رأيت في السبي امرأة كأنها ظبي تكثر الالتفات خلفها

سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى بطن أضم

وتبكي، فقلت لها: أي شيء تنظرين؟ قالت: والله أنظر إلى رجل لئن كان حيا ليستنقذنا منكم، فوقع في نفسي أنه الذي قتلته، فقلت لها: والله قد قتلته، وهذا والله سيفه معلق بالقتب، فقالت: فألق إليّ غمده، فقلت: هذا غمد سيفه، فلما رأته بكت ولبثت انتهى، ولا يخفى أن السياق في كل يبعد كونهما واحدة. سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى بطن أضم اسم موضع أو جبل. لما همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة رضي الله تعالى عنه في ثمانية نفر من جملتهم محكم بن جثامة الليثي إلى بطن أضم، ليظن ظان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية وتنشر بذلك الأخبار، فمرّ عليهم عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محكم فقتله، أي لشيء كان بينه وبينه، وسلبه متاعه وبعيره، وعند وصولهم إلى المحل رجعوا، فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة، فمالوا إليه حتى لقوه، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحكم: أقتلته بعد ما قال آمنت بالله؟ وفي رواية: بعد ما قال إني مسلم؟ أي أتى بما لم يأت به إلا مؤمن آمن بالله وكان مسلما، قال: يا رسول الله إنما قالها: أي تحية الإسلام متعوذا، قال: أفلا شققت عن قلبه؟ قال: لما يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أم كاذب. أي وفي رواية فقال: يا رسول الله لو شققت عن قلبه أكنت أعلم ما في قبله؟ فقال له: فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه، فقال: استغفر لي يا رسول الله، فقال: لا غفر الله لك، فقام يتلقى دمعه ببرده اه، وأنزل الله تعالى فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء: الآية 94] إلى آخر الآية. وذكر ابن إسحاق في خبر محكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بحنين ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها، فقام إليه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن يختصمان في عامر بن الأضبط، عيينة بن حصن يطلب دمه، أي ويقول: والله يا رسول الله إني لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائي، والأقرع يدافع عن محكم، وارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعيينة ومن معه: بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا، وهو يأبي عليه، فلم يزل به حتى اتفقا على الدية، ثم قالوا: إن محكما يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام محكم وهو رجل آدم طويل: أي عليه حلة قد كان تهيأ للقتل فيها حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان، فقال له: ما اسمك؟ قال: أنا محكم، قد فعلت الذي

سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى العزى

بلغك، و 7 ني أتوب إلى الله تعالى، واستغفر لي يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم لا تغفر لمحكم، قالها ثلاثا بصوت عال، فقام يتلقى دمعه بفضل ردائه، فما مكث إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض مرات حتى ضموا عليه الحجارة وواروه. أي ولما أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال لهم: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله يعظكم: أي وفي رواية: إن الله أحب أن يريكم تعظيم حرمة لا إله إلا الله: أي حرمة من يأتي بها. ولفظ الأرض له يرّد ما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له بعد دعائه عليه، إلا أن يكون المراد استغفر له بعد موته، ويوافقه ما في بعض الروايات: أراد الله أن يجعله موعظة لكم لكيلا يقدم رجل منكم على قتل من يشهد أن لا إله إلا الله، أو يقول إني مسلم، اذهبوا به إلى شعب بني فلان فادفنوه فإن الأرض ستقبله، فدفنوه في ذلك الشعب، فيجوز أن يكون استغفر له حينئذ، وقيل إن الذي لفظته الأرض غير محكم، لأن محكما مات بحمص أيام ابن الزبير رضي الله تعالى عنه، والذي لفظته الأرض اسمه فليت. سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى العزى أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي حين فتح مكة خالد بن الوليد في ثلاثين فارسا من أصحابه إلى العزى، وهو صنم كان لقريش، وكان معظما جدا، وفي لفظ: العزى نخلات أي سمرات مجتمعة، لأنه كان يهدى إليها كما يهدى إلى الكعبة، لأن عمرو بن لحي أخبرهم أن الرب يشتي بالطائف عند اللات ويصيف عند العزى، فلما وصل إلى محلها أي وكان بناء على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم ذلك البناء، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال له: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال: فارجع إليها، فرجع خالد وهو متغيظ، فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس: أي شعر رأسها منتشر تحثو التراب على رأسها، فجعل السادن يصيح بها: أي يقول: يا عزى عوّريه، يا عزى خبليه، فضربها خالد فقطعها نصفين: أي وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم تلك العزى.

سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى سواع

سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى سواع بالعين المهملة: أي سمي باسم سواع بن نوح عليه السّلام، وكان على صورة امرأة وكان لقوم نوح، ثم صار لهذيل. كانوا يحجون إليه: أي قبل فتح مكة، وبعد ذلك أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جماعة من أصحابه إلى سواع ليكسره ويهدم محله. قال عمرو رضي الله تعالى عنه: فانتهيت إلى ذلك الصنم وعنده سادنه: أي خادمه، فقال لي: ما تريد؟ فقلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر، قلت لم؟ قال: تمنع. قلت: حتى الآن أنت على الباطل، ويحك وهل يسمع أو يبصر؟ فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم نجد فيها شيئا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة صنم كان للأوس والخزرج. أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا إلى مناة ليهدم محله، فلما وصلوا إلى ذلك الصنم قال السادن لسعد: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد إلى ذلك الصنم، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل وتضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصيانك، فضربها سعد رضي الله عنه فقتلها، وهدم محلها. سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني جذيمة بناحية يلملم يدعوهم إلى الإسلام، أي ولم يكن صلى الله عليه وسلم علم بإسلامهم ولم يأمره بمقاتلتهم. أي إذا لم يسلموا. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار ومن بني سليم، أي وهو عليه الصلاة والسلام مقيم بمكة إلى بني جذيمة، وكانوا في الجاهلية قد قتلوا الفاكه عم خالد، وقتلوا أخا للفاكه أيضا في الجاهلية، وكانوا من أشرّ حي في الجاهلية وكانوا يسمون لعقة الدم، وقتلوا والد عبد الرحمن بن عوف، فلما علموا به وعلموا أن معه بني سليم وكانوا قتلوا منهم مالك بن الشريد وأخويه في موطن واحد خافوه، فلبسوا السلاح، فلما انتهى خالد رضي الله تعالى عنه إليهم تلقوه، فقال لهم خالد: أسلموا، فقالوا نحن قوم مسلمون. قال: فألقوا سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا والله ما بعد وضع السلاح إلا

القتل، ما نحن بآمنين لك ولا لمن معك. قال خالد: فلا أمان لكم إلا أن تنزلوا، فنزلت فرقة منهم فأسرهم وتفرقت بقية القوم. وفي رواية: لما انتهى خالد إلى القوم فتلقوه، فقال لهم: ما أنتم؟ أي أمسلمون أم كفار؟ قالوا: مسلمون، قد صلينا، وصدّقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبنينا المساجد في ساحتنا وأذنا فيها. وفي لفظ: لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين القوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح، قال: فضعوا السلاح فوضعوا، فقال: استأسروا، فأمر بعضهم فكتف بالتخفيف بعضا وفرقهم في أصحابه، فلما كان في السحر نادى منادي خالد رضي الله عنه: من كان معه أسير فليقتله، فقتل بنو سليم من كان معهم، وامتنع المهاجرون والأنصار رضي الله تعالى عنهم، وأرسلوا أسراهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل خالد، أي فإن رجلا من القوم جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل خالد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أنكر عليه أحد ما صنع؟ قال: نعم، رجل أصفر ربعة، ورجل طويل أحمر، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: والله يا رسول الله أعرفهما، أما الأول فهو ابني فهذه صفته، وأما الثاني فهو سالم مولى أبي حذيفة، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، أي قال ذلك مرتين، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فودي لهم قتلاهم، قال له صلى الله عليه وسلم: يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، ودفع إليه صلى الله عليه وسلم مالا: أي إبلا وورقا، يدي به قتلاهم، ويعطيهم منه ما تلف عليهم من أموالهم، فودي قتلاهم، وأعطاهم عوض ما تلف عليهم حتى ميلغة الكلب: أي الإناء التي يشرب فيها، حتى إذا لم يبق لهم دم ولا مال، قال: هل بقي لكم دم أو مال؟ قالوا: لا، قال: أعطيكم ما بقي من المال احتياطا بدل ما لا تعلمون: أي مما تلف من أموالكم، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبت وأحسنت أي وزاد. وفي رواية: والذي أنا عبده لهي أحب إليّ من حمر النعم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة شاهرا يديه يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات انتهى. ووقع بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما شر بسبب ذلك، فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام، فقال له: إنما أخذت بثأر أبيك، فقال له عبد الرحمن: كذبت، أنا قتلت قاتل أبي. أي وفي رواية: كيف تأخذ مسلمين بقتل رجل في الجاهلية؟ فقال خالد: ومن أخبركم أنهم أسلموا؟ فقال: أهل السرية كلهم أخبروا بأنك قد وجدتهم بنوا المساجد وأقروا بالإسلام، فقال: جاءني أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أغير، فقال له عبد الرحمن بن عوف:

كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخذت بثأر عمك الفاكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فو الله لو كان لك أحد ذهبا فأنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل منهم ولا روحته، أي والغدوة: السير في أول النهار إلى الزوال. والروحة: السير من الزوال إلى آخر النهار. والمراد بأصحابه هنا السابقون إلى الإسلام ومنهم عبد الرحمن بن عوف، بل هو المراد كما تصرح به الرواية الآتية، فقد نزّل صلى الله عليه وسلم الصحابة غير السابقين الذين يقع منهم الرد على الصحابة غير السابقين- لكون ذلك لا يليق بهم- منزلة غير الصحابة. قال: ولما عاب عبد الرحمن على خالد الفعل المذكور أعان عبد الرحمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عن خالد وقال: يا خالد ذر أصحابي. وفي رواية: «لا تسب أصحابي لو كان لك ذهبا فأنفقته قيراطا قيراطا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن» انتهى. أي ولا يخفى أنه يبعد أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إنما قتلهم لقولهم صبأنا ولم يقولوا أسلمنا، إلا أن يقال: يجوز أن يكون خالد فهم أنهم قالوا ذلك على سبيل الأنفة وعدم الانقياد إلى الإسلام، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا، ثم لا يخفى أنه جاء: «لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» ونقل الإمام السبكي عن الشيخ تاج الدين بن عطاء الله: فإنه كان يحضر مجلس وعظه أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي كان خطايا لمن يأتي بعده من أمته، لأنه صلى الله عليه وسلم كان له تجليات، فرأى في بعضها سائر أمته الآتين من بعده، فقال خطابا لهم: لا تسبوا أصحابي، وارتضي منه هذا التأويل اه. فالنهي والخطاب بلا تسبوا أصحابي لغير الصحابة تنزيلا للغائب الذي لم يوجد منزلة الموجود الحاضر. وفيه أن هذا لا يساعد عليه المقام. وفي الحديث من التنويه برفعة الصحابة وعلو منزلتهم ما يقطع الأطماع عن مداناتهم، فإن كون ثواب إنفاق مثل جبل أحد ذهبا في وجه الخير لا يبلغ ثواب التصديق بنصف المدّ الذي إذا طحن وعجن لا يبلغ الرغيف المعتاد أمر عظيم. أقول: ووقع لخالد رضي الله تعالى عنه نظير ذلك في زمن خلافة الصديق فإن العرب لما ارتدت بعد موته صلى الله عليه وسلم عين خالدا لقتال أهل الردة وكان من جملتهم مالك بن نويرة، فأسره خالد هو وأصحابه، وكان الزمن شديد البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفئوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد ادفنوا أسراكم: أي اقتلوهم، فقتلوهم، وقتل مالك بن نويرة، فلما سمع خالد بذلك، قال: إذا أراد الله أمرا أمضاه، وتزوج

خالد رضي الله عنه زوجة مالك بن نويرة وكانت من أجمل النساء. ويقال إن خالدا استدعى مالك بن نويرة وقال له: كيف ترتد عن الإسلام وتمنع الزكاة؟ ألم تعلم أن الزكاة قرينة الصلاة؟ فقال: كان صاحبكم يزعم ذلك، فقال له: هو صاحبنا وليس هو بصاحبك، يا ضرار اضرب عنقه، وأمر برأسه فجعل ثالث حجرين جعل عليها قدر يطبخ فيه لحم، فعل ذلك إرجافا لأهل الردة، فلما بلغ سيدنا عمر ذلك قال للصديق رضي الله تعالى عنهما اعزله، فإن في سيفه رهقا كيف يقتل مالكا ويأخذ زوجته؟ فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: لا أغمد سيفا سله على الكافرين والمنافقين، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكافرين والمنافقين» وقال الصديق رضي الله تعالى عنه في حق خالد: عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد. وفي كلام السهيلي أنه روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكر الصديق: إن في سيف خالد رهقا فاقتله، وذلك حين قتل مالك بن نويرة وجعل رأسه تحت قدر حتى طبخ به، وكان مالك ارتد ثم رجع إلى الإسلام ولم يظهر ذلك لخالد، وشهد عنده رجلان من الصحابة برجوعه إلى الإسلام فلم يقبلهما وتزوج امرأته، فلذلك قال عمر لأبي بكر اقتله، فقال: لا أفعل لأنه متأول، فقال: اعزله، فقال: لا أغمد سيفا سله الله تعالى على المشركين، ولا أعزل واليا ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل وأصل العداوة بين خالد وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما على ما حكاه الشعبي أنهما وهما غلامان تصارعا، وكان خالد ابن خال عمر، فكسر خالد ساق عمر فعولجت وجبرت. ولما ولي سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه الخلافة أوّل شيء بدأ به عزل خالدا لما تقدم، وقال: لا يلي لي عملا أبدا. وقيل لكلام بلغه عنه، ومن ثم أرسل إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو أمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فهو معزول، فانتزع عمامته وقاسمه ماله نصفين فلم يكذب نفسه، فقاسمه أبو عبيدة ماله حتى إحدى نعليه وترك له الأخرى وخالد يقول: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين. وبلغه أن خالدا أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف وقد قصده ابتغاء إحسانه، فأرسل لأبي عبيدة أن يصعد المنبر ويوقف خالدا بين يديه وينزع عمامته وقلنسوته ويقيده بعمامته، لأن العشرة آلاف إن كان دفعها من ماله فهو سرف، وإن كان من مال المسلمين فهي خيانة، فلما قدم خالد رضي الله تعالى عنه على عمر رضي الله تعالى عنه قال له: من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟ فقال: من الأنفال والسهمان، قال: ما زاد على التسعين ألفا فهو لك، ثم قوّم أمواله وعروضه وأخذ منه عشرين ألفا، ثم قال له: والله إنك عليّ لكريم، وإنك لحبيب، ولم تعمل لي

سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى أوطاس

بعد اليوم على شيء، وكتب رضي الله عنه إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن مبخلة ولا خيانة ولكن الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، أي وأن نصر خالد على من قاتله من المشركين ليس بقوته ولا بشجاعته، بل بفضل الله. فالصّديق لم يعزل خالد بن الوليد مع فعله ما يكرهه بتأويل له في ذلك، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يعزله مع فعله لما كرهه صلى الله عليه وسلم حيث رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، لكونه كان شديدا على الكفار، لرجحان المصلحة على المفسدة. وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه عزله لخوف افتتان الناس به، فعزله وولى أبا عبيدة بن الجراح. قال بعضهم: كان الصديق رضي الله تعالى عنه لينا وخالد بن الوليد شديدا، وعمر رضي الله تعالى عنه كان شديدا وأبو عبيدة لينا، فكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه ليحصل التعادل، والله أعلم. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في القوم رجل قال لهم أنا لست من هؤلاء ولكني عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها ثم افعلوا بي ما بدا لكم، ثم أشار إلى نسوة مجتمعات غير بعيد. قال بعضهم: فقلت: والله ليسير ما طلب، فأخذته حتى أوقفته عليهن فأنشد أبياتا، ثم جئت به، فقدموه فضربت عنقه، فقامت امرأة من بينهن، فجاءت حتى وقفت عليه فشهقت بفتح الهاء شهقة أو شهقتين ثم ماتت. أي وفي رواية فأكبت عليه تقبله حتى ماتت انتهى. أي وفي رواية فانحدرت إليه من هودجها فحنت عليه حتى ماتت، فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما كان فيكم رجل رحيم القلب» . سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى أوطاس لما انصرف صلى الله عليه وسلم من حنين وانهزم المشركون عسكر منهم طائفة بأوطاس، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري عم أبي موسى الأشعري في جماعة فيهم أبو موسى الأشعري. ووقع في الأصل أن أبا عامر ابن عم أبي موسى الأشعري قال في النور وهو غلط، وإنما أبو موسى ابن أخي أبي عامر. فلحقوا بالقوم وتناوشوا القتال: أي تكافؤوا فيه، وبارز أبو عامر تسعة، ويقال إنهم إخوة وهو يقتلهم واحدا بعد واحد، أي وصار كل من برز له منهم يدعوه إلى الإسلام فيأبي فيقول اللهم اشهد ويحمل عليه فيقتله. ثم برز له أخوهم العاشر فقتل أبا عامر، أي فإنه قال له أسلم فأبى، فقال: اللهم اشهد فقال: اللهم لا تشهد وفرش يديه، فظن أبو عامر أنه أسلم فكف عنه، فعاد إلى أبي عامر فقتله ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه، وكان إذا رآه صلى الله عليه وسلم يقول: هذا شريد أبي عامر.

سرية الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حميمة الدوسي ليهدمه

قال: وعن أبي موسى الأشعري قال: جئت لأبي عامر وفيه رمق فقلت: يا عم من رماك؟ فقال: ذاك، وأشار إلى شخص من القوم، فقصدته فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي ألا تثبت؟ فثبت، فاختلفنا ضربتين فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قد قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم فنزعته، فقال: يا بن أخي بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له يستغفر لي، وقال: ادفع فرسي وسلاحي له انتهى، فليتأمل الجمع بين هذا وما قبله. وقبل أن يموت أبو عامر رضي الله عنه استخلف ابن عمه أبا موسى ودفع الراية له. وفي لفظ: أن أبا عامر رماه واحد فأصاب قلبه، ورماه آخر فأصاب ركبته فقاتلاه، وولى الناس أبا موسى فحمل عليهما فقتلهما: أي وفتح الله عليهم، وانهزم المشركون وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا. ولما رجع أبو موسى رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بموت أبي عامر استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم اجعله من أعلى أمتي في الجنة» أي وفي رواية: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس» ودعا لأبي موسى أي فقال: «اللهم اغفر له ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» . سرية الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حميمة الدوسي ليهدمه لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف بعث الطفيل رضي الله تعالى عنه لهدم ذي الكفين، وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف، فخرج سريعا إلى قومه، فهدم ذا الكفين، وجعل يحثي النار في وجهه، وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد مقدمة بأربعة أيام، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأزد من يحمل رايتكم؟ فقال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية النعمان بن الراوية، قال: أصبتم. سرية عيينة بن حصن الفزاري رضي الله تعالى عنه إلى بني تميم أي وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بعث بشر بن سفيان إلى بني كعب لأخذ صدقاتهم وكانوا مع بني تميم على ماء، فأخذ بشر صدقات بني كعب، فقال لهم بنو تميم وقد استكثروا ذلك: لم تعطوهم أموالكم؟ فاجتمعوا وأشهروا السلاح، ومنعوا بشرا من أخذ الصدقة، فقال لهم بنو كعب: نحن أسلمنا ولا بد في ديننا من دفع الزكاة، فقال لهم بنو تميم: والله لا ندع يخرج بعير واحد، ولما رأى بشر رضي الله تعالى عنه

ذلك قدم المدينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فعند ذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم، وأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة. وفي لفظ: إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فجاء بهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسوا في دار رملة بنت الحارث، فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم، منهم عطارد بن حاجب، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورياح بكسر الراء والمثناة تحت ابن الحارث، فلما رأوهم بكى إليهم النساء والذراري، فجاؤوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم، أي بعد أن دخلوا المسجد ووجدوا بلالا يؤذن بالظهر والناس ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستبطؤوه فجاؤوا من وراء الحجرات، فنادوا: أي بصوت جاف: اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك فإن مدحنا زين وذمنا شين، يا محمد اخرج إلينا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وقد تأذى من صياحهم، وأقام بلال رضي الله تعالى عنه الصلاة، وتعلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه، فوقف معهم: أي قالوا له: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالشعر بعثنا، ولا بالفخار أمرنا، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر ثم جلس في صحن المسجد، أي بعد أن قالوا له ما تقدم، ومنه: إن مدحنا لزين، وإن شتمنا لشين، نحن أكرم العرب، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل مدح الله عز وجل الزين وشتمه الشين، وأكرم منكم يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام، ثم قالوا له: فائذن لخطيبنا وشاعرنا، قال: أذنت فليقم. وفي لفظ: إني لم أبعث بالشعر، ولم أومر بالفخر، ولكن هاتوا، فقدموا عطارد بن حاجب. وفي لفظ قال الأقرع بن حابس لشاب منهم: قم يا فلان فاذكر فضلك وفضل قومك، فتكلم وخطب، أي فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف. وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم عددا، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا رؤوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخر فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو شئنا لأكثرنا، وإنما أقول قولي هذا لأن يأتوا بمثل قولنا أو أمرا أفضل من أمرنا، ثم جلس. أي وفي رواية أنه قال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وأعطانا أموالا نفعل فيها ما نشاء، فنحن خير أهل الأرض، وأكثرهم عددا، وأكثرهم سلاحا، فمن أنكر علينا قولنا فليأت بقول هو أحسن من قولنا أو بفعال هي أفضل من فعالنا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس أن يجيبه، أي قال له: قم فأجب

الرجل في خطبته، فقام ثابت رضي الله تعالى عنه فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله، ثم إنه كان من فضله أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبتا وأصدقه قلبا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون من قومه وذوو رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس مقالا، ثم كان أول الناس إجابة واستجابه لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن، فنحن أنصار الله ورسوله؟ نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله، فمن آمن بالله ورسوله منع دمه وماله، ومن كفر جاهدناه في الله، وكان قتله علينا يسيرا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم. أي وفي رواية أنه قال: الحمد لله نحمده ونستعينه، ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه، أحسن الناس وجوها، وأعظم الناس أحلاما فأجابوه. والحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزا لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا نفسه وماله، ومن أباها قاتلناه وكان رغمه في الله علينا هينا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله المؤمنين والمؤمنات. ثم قال الزبرقان لرجل منهم: فقم يا فلان فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك، فقال أبياتا منها: نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليّ بحسان بن ثابت، فحضر، فقال له: قم فأجبه، فقال: يسمعني ما قاله، فأسمعه فقال حسان رضي الله تعالى عنه أبياتا، منها: نصرنا رسول الله والدين عنوة ... على رغم عات من بعيد وحاضر وأحياؤنا من خير من وطىء الحصا ... وأمواتنا من خير أهل المقابر وثابت بن قيس هذا كان يعرف بخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: من يعلم لي علمه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، فذهب فوجده في منزله جالسا منكسا رأسه؟ فقال له: ما شأنك؟ قال: أخشى أن أكون من أهل النار لأني رفعت صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم. فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه. فقال: اذهب إليه فقل له: لست من أهل النار. ولكنك من أهل الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس» قتل يوم اليمامة، وكان عليه درع نفيسة، فمر

به رجل من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس، وقد كفأ على الدرع برمة وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره فليأخذها، فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقل له: إن عليّ من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق، فاستيقظ الرجل فأتى خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها بعد أن وجدها على ما وصف، وحدث أبا بكر رضي الله تعالى عنه برؤياه فأجاز وصيته. قال بعضهم: ولا يعلم أحد حدثت وصيته بعد موته سواه. ووقعت مفاخرة بين الزبرقان بن بدر وبين حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه كل منهما يذكر قصيدة يذكر فيها فخرا، فمن قصيدة الزبرقان بن بدر وهو مطلعها: نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع ومن قصيدة حسان رضي الله تعالى عنه وهو مطلعها: إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع وفيه أن هذا البيت من قول بعض بني تميم، وقد أسمعه لحسان كما تقدم فليتأمل. ووقعت مفاخرة بين الأقرع بن حابس وبين حسان رضي الله تعالى عنه، فقال الأقرع بن حابس: إني والله يا محمد قد قلت شعرا فاسمعه، فقال له صلى الله عليه وسلم: هات، فأنشد: أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر المكارم وإنا رؤوس الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حسان فأجبه، فقال: بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأقرع: لقد كنت غنيا يا أخا بني دارم أن تذكر ما كنت ترى أن الناس قد نسوه، فكان هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليهم من قول حسان رضي الله تعالى عنه. وحينئذ قال الأقرع بن حابس: لخطيبه. يعني النبي صلى الله عليه وسلم. أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، أي ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يضرك ما كان قبل هذا. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن رضي الله تعالى عنه،

فقال: يا رسول الله لي من الولد عشرة ما قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرجم» . قال ابن دريد رحمه الله: اسم الأقرع نواس، وإنما لقب الأقرع لقرع كان في رأسه، والقرع: انحصاص الشعر. وكان رضي الله تعالى عنه شريفا في الجاهلية والإسلام، ونزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) [الحجرات: الآية 4- 5] . ووقع أن عمرو بن الأهتم مدح الزبرقان للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لمطاع في أنديته، سيد في عشيرته، فقال الزبرقان: لقد حسدني يا رسول الله لشرفي، وقد علم أفضل مما قال، فقال عمرو: إنه لزمن المروءة، ضيق العطن، لئيم الخال. وفي لفظ أن الزبرقان قال: يا رسول الله أنا سيد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقوقهم، وأمنعهم من الظلم وهذا يعلم ذلك، يعني عمرو بن الأهتم، فقال عمرو: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في ناديه، مانع لما وراء ظهره، فقال الزبرقان: والله لقد كذب يا رسول الله، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك؟ والله إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مبغض في العشيرة، فعرف عمرو الإنكار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، والله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الثانية، رضيت فقلت أحسن ما عملت، وسخطت فقلت أقبح ما عملت. وفي رواية: والله يا رسول الله لقد صدقت فيهما، أرضاني فقلت أحسن ما عملت، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» وجاء: «إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيا» . قال بعضهم: أما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان سحرا» فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله: «إن من العلم جهلا» فإن العالم يكلف ما لا يعلم فيجهله ذلك. وأما قوله: «إن من الشعر حكما» فهو هذه المواعظ والأمثال. وأما قوله: «وإن من القول عيا» فعرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه، هذا كلامه. وفيه إن هذا بيان للسحر المذموم، وليس المراد هنا وإنما هو من السحر الحلال، ومن ثم أقرّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عليه ولم يسخطه منه، فالسحر المذموم أن يصوّر الباطل في صورة الحق ببيانه، ويخدع السامع بتمويهه وهو المراد عند الإطلاق، والسحر غير المذموم فما كان من البيان على حق، لأن البيان بعبارة مقبولة عذبة لا استكراه فيها تستميل القلوب كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إلى ما موّه به.

سرية قطبة بن عامر رضي الله تعالى عنه إلى حي من خثعم

ثم إنه صلى الله عليه وسلم رد عليهم الأسارى والسبي وأحسن جوائزهم، قال: أي بعد أن أسلموا، وأعطى كل واحد اثني عشر أوقية، قيل إلا عمرو بن الأهتم فإن القوم خلفوه في ظهورهم، لأنه كان أصغرهم سنا فأعطاه خمس أواق. وقد اختلف في عدد هذا الوفد، فقيل كانوا سبعين رجلا، وقيل كانوا ثمانين، وقيل كانوا تسعين انتهى. أي والذي في الاستيعاب: ثم أسلم القوم وبقوا في المدينة مدة يتعلمون الدين والقرآن، ثم أرادوا الخروج إلى قومهم فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم أسراهم ونساءهم، وقال: أما بقي منكم أحد؟ وكان عمرو بن الأهتم في ركابهم، فقال قيس بن عاصم وكان مشاحنا له: لم يبق منا إلا غلام في ركابنا وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم، وبلغ عمرا ما قال قيس في حقه، فأنشد أبياتا تتضمن لومه على ذلك، وكان عمرو خطيبا بليغا شاعرا محسنا، يقال إن شعره كان حللا منثورة، وكان رضي الله تعالى عنه جميلا يدعى الكحيل لجماله، وهو القائل: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق هذا كلامه، وأنزل الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: الآية 63] قيل معناه لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضا فتؤخروا إجابته بالأعذار التي يؤخر بها بعضكم إجابة بعض، لكم عظموه صلى الله عليه وسلم بسرعة الإجابة. سرية قطبة بن عامر رضي الله تعالى عنه إلى حي من خثعم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قطبة بن عامر في عشرين رجلا إلى حي من خثعم، وأمره أن يشن الغارة عليهم، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم: أي سكت ولم يعلمهم بالأمر، فجعل يصيح بالحاضر: أي وهم القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرتحلون عنه كما تقدم ويحذرهم، فضربوا عنقه، ثم أمهلوا حتى نام الحاضر فشنوا الغارة عليهم، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت الجرحى في الفريقين، وساقوا النعم والشاء إلى المدينة، وجاء سهيل فحال بينهم وبين القوم، فلم يجد القوم إليهم سبيلا وتقدمت الحوالة على هذا. سرية الضحاك الكلابي رضي الله تعالى عنه في جمع إلى بني كلاب، فلقوهم ودعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم، وكان من جملة المسلمين شخص لقي أباه في جملة القوم، فدعاه إلى الإسلام فسبه وسب الإسلام فضرب عرقوب فرس أبيه فوقع، فأمسك أباه إلى أن أتى

سرية علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما

بعض المسلمين فقتله، أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث لبني كلاب وكتب إليهم في رق فلم ينقادوا للإسلام، وغسلوا الخط من الرق، وخاطوه تحت دلوهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: ما لهم؟ أذهب الله عقولهم، فصار لا يوجد أحد منهم إلا مختلّ العقل، مختلط الكلام بحيث لا يفهم كلامه. سرية علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما بضم الميم وفتح الجيم وزايين الأولى مكسورة مشددة المدلجيّ: أي وهو ولد القائف الذي قاف في حق زيد بن حارثة وأسامة رضي الله تعالى عنهما وقال: إن بعض هذه الأقدام من بعض، فهو صحابي ابن صحابي، إلى جمع من الحبشة، بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدة: أي في مراكب، وجدة بضم الجيم وتشديد الدال المهملة: قرية، سميت بذلك لبنائها على ساحل البحر، لأن الجدة شاطىء البحر، فبعث إليهم علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما في ثلاثمائة، فخاض بهم البحر حتى أتوا إلى جزيرة في البحر فهربوا، أي ورجعوا، ولم يلق كيدا. ثم لما كانوا في أثناء الطريق أذن علقمة رضي الله تعالى عنه لجماعة أن يعجلوا وأمر عليهم أحدهم، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال لهم أميرهم: عزمت عليكم إلا تواثبتم: أي وقعتم في هذه النار، فقام بعض القوم فحجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا إنما كنت أضحك معكم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه» . قال: وعن علي كرم الله وجهه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوها، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنا فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكان كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك، فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في معصية الله، وإنما الطاعة في المعروف» انتهى، أي والضمير في «دخلوها» للنار التي أوقدت، والضمير في منها لنار الآخرة، لأن الدخول فيها معصية والعاصي يستحق النار، فالمقصود من ذلك الزجر. وفي رواية: «من أمركم منهم» أي من الأمراء «بمعصية الله فلا تطيعوه» وفي لفظ: «لا طاعة في معصية الله» ولا مانع من تكرر هذه الواقعة.

سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى هدم الفلس بضم الفاء وسكون اللام"صنم طيىء" والغارة عليهم

سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى هدم الفلس بضم الفاء وسكون اللام «صنم طيىء» والغارة عليهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في خمسين ومائة رجل من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا معه راية سوداء ولواء أبيض إلى هدم الفلس والغارة عليهم، فشنوا الغارة عليهم مع الفجر، فهدموا الفلس وأحرقوه، واستاقوا النعم والشاء والسبي، وكان في السبي أخت عدي بي حاتم الطائي، أي واسمها سفّانة بفتح السين المهملة وتشديد الفاء وبعد الألف نون مفتوحة ثم تاء تأنيث، والسفانة في الأصل: هي الدرة، وهذه أسلمت رضي الله تعالى عنها. قال بعضهم: ولا يعرف لحاتم بنت إلا هذه، ووجدوا في خزانة الصنم ثلاثة أسياف معروفة عند العرب، وهي: رسوب، والمخذم، واليماني، وثلاثة أدراع. وجعل الرسوب والمخذم صفيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صار إليه الثالث الذي هو اليماني. قال: ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأخت عدي فقامت إليه، وكانت امرأة جذلة: أي ذات وقار وعقل، وكلمته صلى الله عليه وسلم أن يمن عليها، فمنّ عليها، فأسلمت رضي الله تعالى عنها، وخرجت إلى أخيها عدي فأشارت إليه بالقدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه كما سيأتي في الوفود. ويذكر أنها قالت له صلى الله عليه وسلم: «يا محمد أرأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء من العرب فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيىء، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق» . أي وفي لفظ: «قالت له صلى الله عليه وسلم: يا محمد أرأيت أن تمنّ عليّ ولا تفضحني في قومي فإني بنت سيدهم، إن أبي كان يطعم الطعام، ويحفظ الجوار، ويرعى الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العريان، ولم يردّ طالب حاجة قط» أنا بنت حاتم الطائي. فقال لها صلى الله عليه وسلم: هذه مكارم الأخلاق حقا، ولو كان أبوك مسلما لترحمت عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وإن الله يحب مكارم الأخلاق» . وفي رواية: «أنها قالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن عليّ منّ الله عليك. قال: ومن وفدك؟ قالت عدي بن حاتم، قال: الفارّ من الله ورسوله»

سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج

أي لأنه هرب لما رأى الجيش كما سيأتي في الوفود «قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني حتى إذا كان من الغد قلت له كذلك وقال لي مثل ذلك، ففي اليوم الثالث أشار إليّ رجل خلفه بأن كلميه فكلمته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلت فلا تعجلي حتى يجيء من قومك من يكون لك ثقة يبلغك إلى بلادك، فآذنيني أي أعلميني وسألت عن الرجل الذي أشار عليّ بكلامه، فقيل لي إنه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قالت: فصبرت حتى قدم عليّ من أثق به، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة قالت فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت حتى قدمت الشام على أخي» انتهى. سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج بفتح الميم وإسكان الذال المعجمة ثم حاء مهملة مكسورة ثم جيم كمسجد: أبو قبيلة من اليمن. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج من أرض اليمن في ثلاثمائة فارس، وعقد له لواء وعممه بيده وقال: امض ولا تلتفت، فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلونك، فكانت أول خيل دخلت إلى تلك البلاد، ففرق أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فأتوا بنهب بفتح النون وغنائم وأطفال ونساء ونعم وشاء وغير ذلك، وجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا بالنبل والحجارة فصف أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان، ثم حمل عليهم فقتل منهم عشرين رجلا فانهزموا وتفرقوا، فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرع إلى إجابته ومتابعته نفر من رؤسائهم وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا، فخذ منها حق الله تعالى. وجمع عليّ كرم الله وجهه الغنائم فجزأها على خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها لله، وأقرع عليها فخرج أول السهام سهم الخمس، وقسم الباقي على أصحابه، ثم رجع علي كرم الله وجهه فوافى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قدمها للحج، أي حجة الوداع. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا كرم الله وجهه في سرية إلى اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ كتابه خر ساجدا ثم جلس، فقال: السلام على همدان، وتتابع أهل اليمن إلى الإسلام. قال في الأصل: إن هذه السرية هي الأولى وما قبلها السرية الثانية.

سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وكان نصرانيا

سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وكان نصرانيا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارسا في رجب سنة تسع إلى أكيدر بدومة الجندل وقال له: إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وكانت ليلة مقمرة صافية وهو على سطح له ومعه امرأته، فجاءت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج، وركب معه نفر من أهله فيهم أخ له يقال له حسان، فتلقتهم خيل خالد فاستأسر أكيدر، وقاتل أخوة حتى قتل، وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له دومة الجندل، وكان على أكيدر قباء من ديباج مخوصة: أي فيها خوص منسوجة بالذهب مثل خوص النخل، فاستلبه خالد إياها، وأرسلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعجبت الصحابة منها. فقال صلى الله عليه وسلم: «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» أي وقد تقدم. وصالح على أهل دومة الجندل بألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح. ثم خرج خالد بأكيدر وأخيه مصاد قافلا إلى المدينة، فقدم بالأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصالحه على الجزية، وحقن دمه ودم أخيه، وخلى سبيلهما، وكتب له كتابا فيه أمانهم وختمه يؤمئذ بظفره: أي ومن جملة الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها» إلى آخره، وهذا كما لا يخفى يدل على أن أكيدر أسلم، أي وهو الموافق لقول أبي نعيم وابن منده بإسلامه، وأنه معدود من الصحابة وأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة، فوهبها صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب. وذكر ابن الأثير: أي في أسد الغابة أن القول بإسلامه غلط فاحش، فإنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير، أي وحينئذ يكون قوله في الكتاب حين أجاب إلى الإسلام أي انقاد إليه. ويبعده قوله: وخلع الأنداد والأصنام فليتأمل، وأنه صلى الله عليه وسلم لما صالحه عاد إلى حصنه وبقي فيه على نصرانيته. ثم إن خالدا رضي الله تعالى عنه حاصره في زمن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما فقتله لنقضه العهد. قال ابن الأثير: وذكر البلاذري أن أكيدر لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أسلم، ثم بعد موته صلى الله عليه وسلم ارتد، ثم قتله خالد: أي بعد أن عاد من العراق إلى الشام.

سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى أبنى

قال: وعلى هذا القول لا ينبغي أن يذكر في الصحابة، وإلا كان كل من أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد، أي ومات مرتدا يذكر في الصحابة، أي ولا قائل بذلك. ثم رأيت الذهبي قال في عمارة بن قيس بن الحارث الشيباني إنه ارتد، وقتل مرتدا في خلافة أبي بكر، وبهذا خرج عن أن يكون صحابيا بكل حال. سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى أبنى بضم الهمزة ثم موحدة، ثم نون مفتوحة مقصورة: اسم موضع بين عسقلان والرملة. وفي كلام السهيلي رحمه الله: وهي قرية عند مؤتة التي قتل عندها زيد بن حارثة، رضي الله تعالى عنهما. لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة أمر صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعا صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال: سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فاغز صباحا على أهل أبنى، وحرق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن ظفرك الله عليهم فأقل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع معك. فلما كان يوم الأربعاء بدأ به صلى الله عليه وسلم وجعه فحم وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد صلى الله عليه وسلم لأسامة لواء بيده، ثم قال: اغز باسم الله وفي سبيل الله، وقاتل من كفر بالله، فخرج رضي الله تعالى عنه بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة، وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا اشتد لذلك، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم، فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين والأنصار، أي لأن سن أسامة رضي الله تعالى عنه كان ثمان عشرة، وقيل تسع عشرة سنة، وقيل سبع عشرة سنة. ويؤيد ذلك أن الخليفة المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية الذي ضرب به المثل في الذكاء وهو صبي وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة. فقال المهدي: أف لهذه العثانين، أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث، ثم التفت إليه المهدي وقال: كم سنك يا فتى؟ فقال: سني. أطال الله بقاء أمير المؤمنين. سن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم لما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. فقال: تقدم، بارك الله فيك، وكان سنة سبع عشرة سنة. ومما يؤثر عنه: من لم يعرف عيبه فهو أحمق، فقيل له ما عيبك يا أبا واثلة؟

قال: كثرة الكلام، وقيل كان عمر أسامة رضي الله تعالى عنه عشرين سنة. ولما بلغ رسول الله مقالتهم وطعنهم في ولايته مع حداثة سنه غضب صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق الإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإنهما مظنة لكل خير، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم، وتقدم أنه رضي الله تعالى عنه كان يقال له الحب ابن الحب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح خشمه وهو صغير بثوبه. ثم نزل صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وذلك في يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرجون إلى العسكر بالجرف، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: أرسلوا بعث أسامة، أي واستثنى صلى الله عليه وسلم أبا بكر وأمره بالصلاة بالناس. أي فلا منافاة بين القول بأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان من جملة الجيش وبين القول بأنه تخلف عنه، لأنه كان من جملة الجيش أوّلا، وتخلف لما أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس. وبهذا يرد قول الرافضة طعنا في أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه تخلف عن جيش أسامة رضي الله تعالى عنه، لما علمت أن تخلفه عنه كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم لأجل صلاته بالناس، وقول هذا الرافضي مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن المتخلف عن جيش أسامة مردود، لأنه لم يرد اللعن في حديث أصلا. فلما كان يوم الأحد اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فدخل أسامة من عسكره والنبي صلى الله عليه وسلم مغمور، فطأطأ رأسه فقبله وهو صلى الله عليه وسلم لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة رضي الله تعالى عنه. قال أسامة: فعرفت أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لي، ورجع أسامة رضي الله تعالى عنه إلى عسكره، ثم دخل عليه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين. فقال له صلى الله عليه وسلم: اغد على بركة الله تعالى، فودعه أسامة وخرج إلى معسكره وأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن رضي الله تعالى عنها قد جاءه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت. وفي لفظ: فسار حتى بلغ الجرف فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول له: لا تعجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل، فأقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنهم، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس.

أي وفي لفظ أنه رضي الله تعالى عنه لما نزل بذي خشب قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بلواء أسامة حتى أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده. فلما بويع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه بالخلافة أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة وأن يمضي أسامة لما أمر به. فلما مات صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، أي فإنه لما اشتهرت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ظهر النفاق، وقويت نفوس أهل النصرانية واليهودية، وصارت المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، وارتدت طوائف من العرب وقالوا نصلي ولا ندفع الزكاة وعند ذلك كلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه في منع أسامة من السفر: أي قالوا له كيف يتوجه هذا الجيش إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فأبى أي وقال: والله الذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرد جيشا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللت لواء عقده. وفي لفظ: والله لأن تخطفني الطير أحب إلي من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: ذكر بعضهم أن أسامة رضي الله تعالى عنه وقف بالناس عند الخندق وقال لسيدنا عمر: ارجع إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه أن يأذن لي أن أرجع بالناس، فإن معي وجوه الناس ولا آمن على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقله وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون، وقالت له الأنصار رضي الله تعالى عنهم: فإن أبي أبو بكر إلا أن يمضي: أي الجيش فأبلغه منا السلام، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة، فقدم عمر على أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: والله لو تخطفني الذئاب والكلاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر رضي الله تعالى عنه: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة، فوثب أبو بكر وكان جالسا وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه، فخرج عمر إلى الناس فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت اليوم بسببكم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، هذا كلامه. وفيه أن هذا مخالف لما تقدم من صعوده صلى الله عليه وسلم المنبر وإنكاره على من طعن في ولاية أسامة، إذ يبعد عدم بلوغ ذلك للأنصار رضي الله تعالى عنهم، إلا أن يقال: لعل من قال لسيدنا عمر هذه المقالة جمع من الأنصار لم يكونوا سمعوا ذلك ولا بلغهم، أو جوزوا أن الصديق رضي الله تعالى عنه يوافق على ذلك حيث رأى فيه المصلحة، وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه جوّز ذلك حيث لم يتكفل بالرد عليهم بأنه صلى الله عليه وسلم أنكر على من طعن في ولاية أسامة رضي الله تعالى عنه، فليتأمل، والله أعلم.

وكلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه أسامة في عمر رضي الله تعالى عنه أن يأذن له في التخلف ففعل، ولعل ذلك كان تطبيبا لخاطر أسامة، ومن ثم كان عمر رضي الله تعالى عنه لا يلقى أسامة إلا قال السلام عليك أيها الأمير كما يأتي، فلما كان هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة خرج أسامة رضي الله تعالى عنه: أي في ثلاثة آلاف فيهم ألف فرس، وودعه سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه بعد أن سار إلى جنبه ساعة ماشيا، وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: والله لست بنازل، ولست براكب ثم قال له الصديق، رضي الله تعالى عنه: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. وقد وقع نظير ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله تعالى عنه إلى اليمن شيعه صلى الله عليه وسلم وهو يمشي تحت راحلة معاذ وهو يوصيه. ثم إن أسامة رضي الله تعالى عنه سار إلى أهل أبنى، فشنّ عليهم الغارة: أي فرق الناس عليهم، وكان شعارهم «يا منصور أمت» فقتل من قتل وأسر من أسر، وحرق منازلهم وحرق أرضها فأزال نخلها، وأجال الخيل في عرصاتها، ولم يقتل من المسلمين أحد. وكان أسامة رضي الله تعالى عنه على فرس أبيه وقتل قاتل أبيه رضي الله تعالى عنهما، وأسهم للفرس سهمين وللفارس سهما، وأخذ لنفسه مثل ذلك، فلما أمسى أمر الناس بالرحيل، وأسرع السير، وبعث مبشرا إلى المدينة بسلامتهم. وخرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار ممن لم يكن في تلك السرية يتلقون أسامة ومن معه، وسروا بسلامتهم، ودخل أسامة رضي الله تعالى عنه واللواء بين يديه حتى انتهى إلى باب المسجد ثم انصرف إلى بيته. أي وكان في خروج هذا الجيش نعمة عظيمة، فإنه كان سببا لعدم ارتداد كثير من طوائف العرب أرادوا ذلك. وقالوا: لولا قوة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، فثبتوا على الإسلام. أي وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حتى بعد أن ولي الخلافة إذا رأى أسامة رضي الله تعالى عنه قال: السلام عليك أيها الأمير، فيقول أسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، تقول لي هذا؟ فيقول: لا أزال أدعوك ما عشت الأمير. مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت عليّ أمير. وفي السيرة الشامية سرايا أخر تركنا ذكرها تبعا للأصل. وفي السنة الثامنة أمر صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه أن يحج بالناس وهو بمكة.

وقد كان صلى الله عليه وسلم استعمله عليها لما أراد الخروج إلى حنين، وقيل لما رجع من حنين. واستمر أميرا على مكة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقره الصديق رضي الله تعالى عنه إلى أن توفي، وكانت وفاته يوم وفاة الصديق رضي الله تعالى عنهما، أي لأنه أطعم سم سنة في اليوم الذي فيه الصديق ذلك، وكان ذلك الحج على ما كانت عليه العرب في الجاهلية من حج الكفار مع المسلمين، لكن كان المسلمون بمعزل عنهم في الموقف. ولما دخلت سنة تسع استعمل صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه على الحج، فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة، وبعث معه صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة قلدها صلى الله عليه وسلم وأشعرها بيده الشريفة، وساق أبو بكر رضي الله تعالى عنه خمس بدنات، ثم تبعه عليّ كرم الله وجهه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء: أي بفتح القاف والمد. وقيل بالضم والقصر ونسب للخطأ، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده، وكان العهد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عاما وخاصا، فالعام أن لا يصدّ أحد عن البيت جاءه، ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم كما تقدم، والخاص بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل العرب إلى آجال مسماة. وفي كلام السهيلي رحمه الله تعالى: لما أردف أبو بكر بعليّ رضي الله تعالى عنهما رجع أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله هل أنزل فيّ قرآن؟ قال: لا ولكن أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي، فمضى أبو بكر رضي الله تعالى عنه فحج بالناس: أي في ذي الحجة لا في ذي القعدة كما قيل من أجل النسيء الذي كان في الجاهلية، يؤخرون له الأشهر الحرم، أي فإن براءة نزلت: أي صدرها، وإلا فقد نزل منها قبل ذلك في غزوة تبوك انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: الآية 41] الآيات، وكان نزول صدرها بعد سفر أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقيل له صلى الله عليه وسلم: لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي. ثم دعا صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه، فقال: اخرج بصدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، فقرأ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه براءة يوم النحر: أي الذي هو يوم الحج الأكبر عند الجمرة الأول وقال: «لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «أمرني علي كرم الله وجهه أن أطوف في المنازل من منى ببراءة فكنت أصيح حتى صحل حلقي، فقيل له: بماذا كنت تنادي؟ فقال: بأربع: أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن لا يحج بعد العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد فله عهد أربعة أشهر ثم لا

عهد له، وأول تلك الأربعة يوم النحر من ذلك العام. ومن لا عهد له فعهده إلى انقضاء المحرم» . وكان المشركون إذا سمعوا النداء ببراءة يقولون لعلي كرم الله وجهه: سترون بعد الأربعة أشهر، فإنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب. وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بما ذكر، لأنهم كانوا يحجون مع المسلمين ويرفعون أصواتهم بقولهم: لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. أي وتقدم سبب الإتيان بذلك، ويطوف رجال منهم عراة ليس على رجل منهم ثوب بالليل، فيقول الواحد منهم: أطوف بالبيت كما ولدتني أمي ليس عليّ شيء من الدنيا خالطه الظلم: أي وفي لفظ التي قارفنا فيها الذنوب. وكان لا يطوف الواحد منهم بثوب إلا بثوب من ثياب الحمس وهم قريش، يستعيره أو يكتريه، وإذا طاف بثوب من ثيابه ألقاه بعد طوافه فلا يمسه هو ولا أحد غيره أبدا، فكانوا يسمون تلك الثياب اللعنى. وفي الكشاف: كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه، لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها. وقيل تفاؤلا بأن يعروا من الذنوب كما يعرون من الثياب. وكانت النساء يطفن كذلك، وقيل كانت الواحدة تلبس درعا مفرجا. وقد طافت امرأة عريانة ويدها على قبلها وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله فأنزل الله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: الآية 31] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: الآية 32] فأبطلت ذلك سورة براءة في تلك السنة، أي وقيل الزينة المشط، وقيل الطيب. وكان بنو عامر في أيام الحج لا يأكلون الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجتهم، فقال المسلمون فإنا أحق أن نفعل ذلك، فقيل لهم: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: الآية 31] . ويحكى أن بعض الأطباء الحذاق من النصارى، قال لبعض الحكماء: ليس في كتابكم من علم الطب شيء. والعلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان. فقال له: قد جمع الله الطب كله في بعض آية من كتابه، قال له: وما هي، قال: قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: الآية 31] ، فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم صلى الله عليه وسلم شيء من الطب؟ قال: قد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال قوله: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودته» . فقال

ذلك الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس شيئا. وبينت براءة أن من كان له عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر. وفي لفظ: لما لحق علي كرم الله وجهه أبا بكر رضي الله تعالى عنه، قال له أبو بكر: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور. وزعمت الرافضة أنه صلى الله عليه وسلم عزل أبا بكر عن إمارة الحج بعليّ. وعبارة بعض الرافضة: ولما تقدم أبو بكر بسورة براءة رده صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام بوحي من الله. وكيف يرضى العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من براءة، هذا كلامه. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: وهذا أبين من الكذب، فإن من المعلوم المتواتر أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يعزل، وأنه حج بالناس، وكان عليّ كرم الله وجهه من جملة رعيته في تلك السفرة، يصلي خلفه كسائر المسلمين، ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج في ذلك العام. وإنما أردف صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعلي كرم الله وجهه لنبذ العهود، وكان من عادة العرب لا ينبذ العهد إلا المطاع أو رجل من أهل بيته، أي فلو تلا أبو بكر رضي الله عنه ما فيه نقض عهد عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تعللوا وقال قائلهم: هذا خلاف ما نعرف، فأزاح الله عللهم بكون ذلك على يد رجل من بني أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأدنى إليه ممن له ذرية وهو عبد المطلب، قال: وهذا غير بعيد من افتراء الرافضة وبهتانهم، أي وعلى عادة العرب بما ذكر جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي» كما تقدم. وفي لفظ «إلا رجل مني» أي لا يبلغ عني عقد العقود ولا حلها إلا رجل مني، أي من بني أبي الأدنى ولا أب له ذرية أدنى إليه صلى الله عليه وسلم من عبد المطلب. ولا يجوز حمل ذلك على تبليغ الأحكام والقرآن، إذ كل أحد من المسلمين مأذون له في تبليغ ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. وفي هذه السنة التي هي سنة تسع تتابعت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيل لها سنة الوفود.

باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم

باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم أي غير من تقدم، فقد تقدم أنه قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد هوازن بالجعرانة، وكذا وفد عليه بها مالك بن عوف النصري وذلك في آخر سنة ثمان: أي ووفد نصارى نجران، أي قبل الهجرة، ووفد بني تميم في سرية عيينة بن حصن. وذكر ابن سعد أن ذلك كان في المحرم سنة تسع. ووفد عليه وفد نصارى نجران أيضا بعد الهجرة وكانوا ستين راكبا ودخلوا المسجد النبوي، أي وعليهم ثياب الحبرة وأردية الحرير مختمين بخواتم الذهب، أي ومعهم هدية وهي بسط فيها تماثيل ومسوح، فصار الناس ينظرون للتماثيل فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذه البسط فلا حاجة لي فيها، وأما هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها، فقالوا نعم: نعطيكها. ولما رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزي الحسن تشوقت نفوسهم إلى الدنيا، فأنزل الله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [آل عمران: الآية 15] الآيات، وأرادوا أن يصلوا بالمسجد بعد أن حان وقت صلاتهم وذلك بعد العصر، فأراد الناس منعهم، فقال صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم، فعرض عليهم صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا عليهم القرآن فامتنعوا وقالوا قد كنا مسلمين قبلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولدا: أي لأن أحدهم قال له صلى الله عليه وسلم: المسيح عليه الصلاة والسلام ابن الله لأنه لا أب له. وقال له آخر: المسيح هو الله لأنه أحيا الموتى، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الأدواء كلها، وخلق من الطين طيرا. وقال له أفضلهم: فعلام تشتمه وتزعم أنه عبد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: الآية 171] فغضبوا، وقالوا: إنما يرضينا أن تقول إنه إله، وقالوا له صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فأرنا عبد الله يحيي الموتى ويشفي الأكمه والأبرص ويخلق من الطين طيرا فينفخ فيها فتطير؟ فسكت صلى الله عليه وسلم عنهم، فنزل الوحي بقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: الآية 17] وقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: الآية 59] ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني إن لم تنقادوا للإسلام أن أباهلكم، أي ندعوا ونجتهد في الدعاء باللعنة على الكاذب، فقالوا له: يا أبا القاسم نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فخلا بعضهم ببعض، فقال بعضهم: والله علمتم أن الرجل نبيّ مرسل، وما لاعن قوم قط إلا استؤصلوا: أي أخذوا عن آخرهم، وإن أنتم أبيتم إلا دينكم فوادعوه وصالحوه وارجعوا إلى بلادكم، وفي

لفظ: أنهم ذهبوا إلى بني قريظة: أي من بقي منهم وبني النضير وبني قينقاع واستشاروهم، فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه. وفي لفظ: أنهم وادعوه على الغد، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم أقبل ومعه حسن وحسين وفاطمة وعلي رضي الله عنهم وقال: اللهم هؤلاء أهلي، أي وعند ذلك قال لهم الأسقف: إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل لهم جبلا لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني، فقالوا: لا نباهلك. وعن عمر رضي الله عنه: «أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لولا عنتهم يا رسول الله بيد من كنت تأخذ؟ قال صلى الله عليه وسلم: آخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين وعائشة وحفصة» وهذا أي زيادة عائشة وحفصة في هذه الرواية دل عليه قوله تعالى: وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ [آل عمران: الآية 61] وصالحوه صلى الله عليه وسلم على الجزية، صالحوه على ألف حلة في صفر، وألف في رجب، ومع كل حلة أوقية من الفضة، وكتب لهم كتابا وقالوا له: أرسل معنا أمينا، فأرسل معهم أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، وقال لهم: هذا أمين هذه الأمة، أي وفي رواية: هذا هو القويّ الأمين، وكان لذلك يدعى في الصحابة بذلك. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أما والذي نفسي بيده لقد تدلى العذاب على أهل نجران، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولأضرم الوادي عليهم نارا، ولا ستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولا حال الحول على النصارى حتى يهلكوا» . ووفد عليه صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة الداريون أبو الهند الداري وتميم الداري وأخوه نعيم، وأربعة آخرون، وسألوا رسول الله أن يعطيهم أرضا من أرض الشام فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا حيث شئتم، قال أبو هند: فنهضنا من عنده نتشاور في أي أرض نأخذ؟ فقال تميم الداري رضي الله تعالى عنه نسأله بيت المقدس وكورتها، فقال أبو هند: هذا محل ملك العجم وسيصير محل ملك العرب، فأخاف أن لا يتمّ لنا، قال تميم: نسأله بيت جيرون وكورتها، فنهضنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له، فدعا بقطعة من أدم وكتب لهم كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للداريين إذا أعطاه الله الأرض وهب لهم بيت عينون وجيرون والمرطوم، وبيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أبد الأبد، شهد بذلك عباس بن عبد المطلب، وخذيمة بن قيس، وشرحبيل ابن حسنة، وكتب: ثم أعطانا كتابنا، وقال: انصرفوا حتى تسمعوا أني قد هاجرت، قال أبو هند: فانصرفنا، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابا آخر، فكتب لنا كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أنطى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم بيت عينون وجيرون والمرطوم، وبيت إبراهيم عليه الصلاة

والسلام برمتهم وجميع ما فيهم نطية بيت ونفذت، وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد، فمن آذاهم آذاه الله، شهد بذلك أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب نقل ذلك في المواهب وأقره. وخطب صلى الله عليه وسلم خطبة، قال فيها: حدثني تميم الداري، وذكر خبر الجساسة: أي لأن تميما رضي الله عنه أخبره صلى الله عليه وسلم أنه ركب البحر فتاهت به سفينته. فسقطوا إلى جزيرة فخرجوا إليها يلتمسون الماء فلقي إنسانا يجر شعره، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الجساسة، قالوا: فأخبرنا، قال: لا أخبركم ولكن عليكم بهذه الجزيرة فدخلناها، فإذا رجل مقيد، فقال: من أنتم؟ قلنا ناس من العرب، قال: ما فعل هذا النبي الذي خرج فيكم؟ قلنا قد آمن به الناس واتبعوه وصدقوه، قال: فإن ذلك خير لهم، قال: أفلا تخبروني عن عين ذعر ما فعلت؟ فأخبرناه عنها، فوثب وثبة، ثم قال: ما فعل نخل بيسان العرب، هل أطعم بتمر؟ فأخبرناه أنه قد أطعم، فوثب مثلها، فقال: أما لو قد أذن لي في الخروج لو طئت البلاد كلها غير طيبة، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدث الناس، فقال: هذه طيبة وذاك الدجال، قال ابن عبد البر: وهذا أولى ما يخرجه المحدثون في رواية الكبار عن الصغار، أي كما تقدم. ووفد عليه صلى الله عليه وسلم وهو في خيبر الأشعريون صحبة أبي موسى الأشعري، وصحبوا جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وقال صلى الله عليه وسلم فيهم كما تقدم: «أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية» وقال في حق أهل اليمن: «يريد أقوام أن يضعوهم ويأبي الله إلا أن يرفعهم» والأشعري نسبه إلى أشعر، واسمه نبت بن أدد بن يشجب، وإنما قيل له أشعر، لأن أمه ولدته والشعر على بدنه. قال: ولما فتحت مكة ودانت له صلى الله عليه وسلم قريش عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعداوته، لأن قريشا كانت قادة العرب ودخلوا في دين الله أفواجا. قال في النهاية: الوفد القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافد اه. والوفد رسول القوم يقدمهم، وقد يراد به ما هو أعم من ذلك، فيشمل من قدم غير رسول الله، وحينئذ يكون من ذلك كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه فإنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب ذلك أن أخاه بجير بن زهير خرج يوما هو وكعب في غنم لهما، فقال لأخيه كعب اثبت في الغنم حتى آتي هذا الرجل، يعني النبي صلى الله عليه وسلم فأسمع كلامه وأعرف ما عنده، فأقام كعب ومضى بجير، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه وآمن به، وذلك أن أباهما زهيرا كان يجالس أهل الكتاب ويسمع منهم أنه قد آن مبعثه

صلى الله عليه وسلم، ورأى زهير والدهما رضي الله تعالى عنهما أنه قد مد بسبب من السماء، وأنه مد يده ليتناوله ففاته، فأوله بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يبعث في آخر الزمان وأنه لا يدركه وأخبر بنيه بذلك وأوصاهم إن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلموا، ولما اتصل خبر إسلام بجير بأخيه كعب أغضبه ذلك، فلما كان منصرفه صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير رضي الله تعالى عنه إلى أخيه كعب بن زهير- وكان ممن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم- يخبره بفتح مكة وأنه صلى الله عليه وسلم قتل بها رجالا ممن كان يهجوه من شعراء قريش، وهرب بعضهم في كل وجه كابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب وأنه صلى الله عليه وسلم، قال: من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله: فإن كان لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا، ولا يطالبه بما تقدم الإسلام، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجاتك. وفي تصحيح الأنساب لابن أبي الفوارس أن زهير بن أبي سلمى قال لأولاده: أني رأيت في المنام سببا ألقي إليّ من السماء، فمددت يدي لأتناوله ففاتني، فأولته أنه النبي الذي يبعث في هذا الزمان وأنا لا أدركه، فمن أدركه منكم فليصدّقه وليتبعه ليهتدي به، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به ابنه بجير وأقام كعب ابنه على الشرك والتشبيب بأم هانىء بنت أبي طالب رضي الله تعالى عنها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: لئن وقع كعب في يديّ لأقطعن لسانه الحديث. أي ولا مانع أن يكون ضم إلى هذا هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأرجف به أعداؤه، وصاروا يقولون هو مقتول لا محالة، فلم يجد بدا من مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمل القصيدة التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فيها إرجاف أعدائه به رضي الله تعالى عنه التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ثم خرج رضي الله تعالى عنه حتى قدم المدينة فنزل على رجل كان بينه وبينه معرفة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح، فأشار له ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا رسول الله، فقم إليه واستأمنه، فقام إلى أن جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ومن حضره لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: يا رسول الله أنا كعب بن زهير، فوثب رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه عنك فإنه قد جاء تائبا نازعا، فلما أنشد القصيدة المذكورة ومدح فيها المهاجرين ولم يتعرض للأنصار، قيل حمله على ذلك ما سمعه من ذلك الأنصاري مما غاظه، ولم يسمع من المهاجرين شيئا يغيظه.

وفيه أن هذا واضح إذا كان أنشأ ذلك في ذلك الوقت، وأما إذا كان عمله قبل مجيئه كما هو ظاهر ما تقدم أنه عمل تلك القصيدة التي من جملتها ما ذكر فلا، فعند ذلك غضب الأنصار، فمدحهم بالقصيدة التي مطلعها. من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار أي ويقال إنه صلى الله عليه وسلم هو الذي حضه على مدحهم وقال له لما أنشد: بانت سعاد، ورآها صلى الله عليه وسلم مشتملة على مدح المهاجرين دون الأنصار: لولا: أي هلا ذكرت الأنصار بخير، فإن الأنصار أهل لذلك؟ أي ولما أنشده صلى الله عليه وسلم بانت سعاد وقال: إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول ألقى صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه صلى الله عليه وسلم، وقد اشتراها معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما من آل كعب بمال كثير، أي بعد أن دفع لكعب فيها عشرة آلاف، فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فلما مات كعب رضي الله تعالى عنه أخذها من ورثته بعشرين ألفا، وتوارثها خلفاء بني أمية، ثم خلفاء بني العباس. اشتراها السفاح أول خلفاء بني العباس بثلاثمائة دينار بعد انقراض دولة بني أمية، أي وكانوا يطرحونها على أكتافهم جلوسا وركوبا، وكانت على المقتدر حين قتل وتلوثت بالدم. ويقال إن التي كانت عند بني العباس بردته صلى الله عليه وسلم التي أعطاها لأهل أيلة مع كتابه الذي كتبه لهم أمانا وذلك في غزوة تبوك، وحينئذ تكون بردة كعب رضي الله تعالى عنه فقدت عند زوال دولة بني أمية. وأما هذه البردة فلعل فقدها كان في فتنة التتار. ثم رأيت ابن كثير رحمه الله قال: إن معاوية رضي الله تعالى عنه اشترى البردة التي كانت عند الخلفاء من أهل كعب بأربعين ألف درهم توارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون حتى أخذها التتر منهم سنة أخذ بغداد. وقال: هذا من الأمور المشهورة جدا، ولكني لم أر ذلك في شيء من الكتب بإسناد أرتضيه. وصار كعب رضي الله تعالى عنه من شعرائه صلى الله عليه وسلم الذين يذبون عن الإسلام كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنهما. ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان قدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف. وكان من خبرهم أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محاصرتهم تبع أثره عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه حتى أدركه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم قاتلوك، فقال له عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم: أي أول أولادهم. وفي رواية: من أبصارهم، فخرج رضي الله تعالى عنه يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمرتبته فيهم، أي لأنه رضي الله تعالى عنه كان فيهم محببا مطاعا، فلما

أشرف لهم على علية ودعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل جانب فأصابه سهم فقتله. وفي لفظ: أنه رضي الله تعالى عنه قدم الطائف عشاء، فجاءته ثقيف يسلمون عليه، فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يغشاه منهم، فخرجوا من عنده حتى إذا كان السحر وطلع الفجر قام على غرفة في داره وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فقيل له قبل أن يموت: ما ترى في دمك؟ فقال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلى فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم، وقال في حقه صلى الله عليه وسلم: «إن مثله في قومه كمثل صاحب يس إنه قال لقومه: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس: الآية 20] الآيات فقتله قومه» أي المذكورة في سورة يس وهو حبيب بن بري. وقال السهيلي: يحتمل أن المراد به صاحب إلياس، فإن إلياس يقال في اسمه يس أيضا. وقد قال صلى الله عليه وسلم مثل هذه المقالة في حق شخص آخر يقال له قرة بن حصين أو ابن الحارث، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هلال بن عامر يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: «مثله مثل صاحب يس» . ثم إن ثقيفا أقامت بعد قتل عروة شهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم، ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد أسلموا. فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا، فكلموا عبد ياليل بن عمرو وكان في سن عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه في ذلك، فأبي أن يفعل، لأنه خشي أن يفعل به كما فعل بعروة. وقيل كلموا مسعود بن عبد ياليل ونسب قائله إلى الغلط، فقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا فبعثوا معه خمسة أنفار منهم شرحبيل بن غيلان أحد أشراف ثقيف، أسلم غيلان بالغين المعجمة على عشر نسوة، وممن أسلم على عشر نسوة أيضا عروة بن مسعود، وكذلك مسعود بن معتب، ومسعود بن عمير، وسفيان بن عبد الله، وأبو عقيل مسعود بن عامر، وكلهم من ثقيف. ويقال: وفد عليه صلى الله عليه وسلم تسعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ، وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغرهم، فلما قربوا من المدينة لقوا المغيرة بن شعبة الثقفي، فذهب مسرعا ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخبره، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه ففعل، فدخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة أي وعلمهم رضي الله تعالى عنه كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا تحية

الجاهلية وهي عم صباحا، ثم قدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب لهم قبة في ناحية المسجد: أي ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، وكانوا يغدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص عند أسبابهم، فكان عثمان إذا رجعوا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الدين ويستقرئه القرآن، وإذا وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائما ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحبه وكان فيهم رجل مجذوم، فأرسل صلى الله عليه وسلم يقول له: إنا بايعناك فارجع. وفي المرفوع: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» وجاء: «كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين» وهذا معارض بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة» وبما جاء في أحاديث أخر: «أنه صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم طعاما. وأخذ يده وجعلها معه في القصعة وقال: كل بسم الله، ثقة بالله، وتوكلا عليه» . وأجيب بأن الأمر باجتناب المجذوم إرشادي، ومؤاكلته لبيان الجواز، أو جواز المخالطة محمولة على من قوي إيمانه وعدم جوازها على من ضعف إيمانه، ومن ثم باشر صلى الله عليه وسلم الصورتين ليقتدى به، فيأخذ القوي الإيمان بطريق التوكل، والضعيف الإيمان بطريق الحفظ والاحتياط. وعند انصرافهم قالوا: يا رسول الله: أمر علينا رجلا يؤمنا، فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام وقراءته للقرآن وتعلم الدين، ولقول الصديق رضي الله تعالى عنه له صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن. وفي رواية أن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، وقال لي: إذا أممت فأخف بهم الصلاة، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا، فكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب لهم كتابا، وكان الكاتب له خالد المذكور. ومن جملته: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، إن عضاه وجّ وصيده حرام، لا يعضده شجره، ومن وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه. ووج: واد بالطائف، وقيل هو الطائف. والعضاه: كل شجر له شوك واحده عضة كشفه وشفاه. وروى أبو داود والترمذي: «ألا إن صيد وجّ وعضاهه حرام محرم» وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا. وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك لهم الصلاة. فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه. وفي لفظ: لا ركوع فيه. وأن يترك لهم الزنا والربا وشرب الخمر فأبي ذلك. وسألوه أن يترك لهم الطاغية التي هي صنمهم وهي اللات، أي وكانوا يقولون لها الربة، لا

يهدمها إلا بعد ثلاث سنين من مقدمهم له، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا زالوا يسألونه سنة وهو يأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم وأرادوا بذلك ليدخل الإسلام في قومهم ولا يرتاع سفهاؤهم ونساؤهم بهدمها، فأبى عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي وعند خروجهم قال لهم سيدهم كنانة: أنا أعلمكم بثقيف، اكتموا إسلامكم وخوّفوهم الحرب والقتال، وأخبروهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم سألنا أمورا عظيمة ما أبيناها عليه، سألنا أن نهدم الطاغية، وأن نترك الزنا والربا وشرب الخمر، فلما جاءتهم ثقيف وسألوهم قالوا: جئنا رجلا فظا غليظا قد ظهر بالسيف ودان له الناس، فعرض علينا أمورا شدادا وذكروا ما تقدم، قالوا: والله لا نطيعه ولا نقبل هذا أبدا، فقالوا لهم: أصلحوا السلاح، وتهيؤوا للقتال، ورموا حصنكم، فمكثت ثقيف كذلك يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله الرعب في قلوبهم وقالوا: والله ما لنا طاقة، فارجعوا إليه وأعطوه ما سأل، فعند ذلك قالوا لهم: قد قاضيناه وأسلمنا، فقالوا لهم: لم كتمتمونا؟ قالوا أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا ومكثوا أياما، فقدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهما لهدم الطاغية. وفي رواية: لما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة رضي الله تعالى عنه أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه وقال: ادخل أنت على قومك، فلما دخل المغيرة علاها ليضربها بالمعول: أي الفأس العظيمة التي يقطع بها الصخر، وقام قومه دونه خشية أن يرمي كما رمى عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا. أي مكشوفات الرؤوس حتى العواتق من الحجال يبكين على الطاغية. قال: وفي رواية يظنون أنه لا يمكن هدمها لأنها تمنع من ذلك، وأراد المغيرة رضي الله تعالى عنه أن يسخر بثقيف، فقال لأصحابه: لأضحكنكم من ثقيف، فألقى نفسه لما علا على الطاغية ليهدمها. وفي لفظ: أخذ يرتكض فصاحوا صيحة واحدة، فقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وقالوا: والله لا يستطيع هدمها. وفي رواية لما أخذ المعول وضرب به اللات ضربة صاح وخرّ لوجهه، فارتجّ الطائف بالصياح سرورا، وإن اللات قد صرعت المغيرة، وأقبلوا يقولون كيف رأيت يا مغيرة؟ دونكها إن استطعت، ألم تعلم أنها تهلك من عاداها؟ فقام المغيرة يضحك منهم ويقول لهم: يا خبثاء، والله ما قصدت إلا الهزء بكم. وفي رواية: فوثب وقال لهم: قبحكم الله، إنما هي لكاع، حجارة ومدر،

فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم أخذ في هدمها اه، فهدمها بعد أن بدأ بكسر بابها حتى هدم أساسها وأخرج ترابها لما سمع سادنها يقول: ليغضبن الأساس فليخسفن بهم وأخذ مالها وحليها، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود أخاه من مال الطاغية، فقضاه، فإن أبا مليح بن عروة بن مسعود وقارب ابن عمه ابن الأسود أخو عروة بن مسعود سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكانا قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين لما قتلت ثقيف عروة بن مسعود قبل أن تسلم ثقيف كما تقدم، وكان صلى الله عليه وسلم قد أجاب أبا مليح، فقال له نعم، فقال له ابن عمه قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله، فإن عروة والأسود أخوان لأب وأم، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الأسود مات مشركا، فقال قارب: يا رسول الله إنما الدين عليّ وأنا الذي أطلب به. ومن الوفود وفد بني تميم وقد تقدم ذكره: أي في الكلام على سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم، وفي ذلك الوفد عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم والأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر. وذكر في الاستيعاب أنه كان مع وفد تميم قيس بن عاصم فأسلم، وذلك في سنة تسع، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا سيد أهل الوبر، وكان عاقلا حليما مشهورا بالحلم. قيل للأحنف بن قيس- وكان من أحلم الناس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم، رأيته يوما قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدّث قومه، فأتي برجل مكتوف وآخر مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قد قتل ابنك، قال: فو الله ما حل حبوته ولا قطع كلامه، فلما أتمه التفت إلى ابن أخيه، فقال: يا بن أخي بئس ما فعلت، أثمت بربك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمك، ورميت نفسك بسهمك، ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك، وحل كتاف ابن عمك، وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. وكان قيس بن عاصم رضي الله تعالى عنه ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وسبب ذلك أنه سكر يوما فغمز عكنة ابنته وسب أبويها، ورأى القمر فصار يخاطبه، وأعطى الخمار مالا كثيرا، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه وقال في ذمها أبياتا كثيرة. ولما حضرته الوفاة دعا بنيه، فقال لهم: يا بني احفظوا عني فلا أحد أنصح لكم مني، إذا مت فسودوا كباركم، ولا تسودوا صغاركم فيسفه الناس كباركم وتهونوا عليهم. وعليكم بإصلاح المال فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم. وإياكم ومسألة الناس فإنها آخر كسب الرجل، فإذا مت فلا تنوحوا عليّ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه، وقد قيل فيه من جملة أبيات عند موته:

فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما وتقدم أنهم نادوه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات: يا محمد اخرج إلينا ثلاث مرات، فخرج إليهم إلى آخر ما تقدم. ومنها وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى بضم السين وفتحها، وكانوا أي هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم، وكان عامر بن الطفيل عدو الله سيدهم، كان مناديه ينادي بسوق عكاظ: هل من راجل فنحمله، أو جائع فنطعمه، أو خائف فنؤمنه؟ وكان من أجمل الناس، وكان مضمرا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأربد وهو أخو لبيد الشاعر: إذا قدمنا على هذا الرجل فإني شاغل عنك وجهه؟ فإذا فعلت ذلك فاعله السيف، وقد قال قومه: يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم، فقال: والله لقد كنت آليت: أي حلفت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني: أي اجعلني خليلا وصديقا لك، قال: لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، قال: يا محمد خالني، وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يأتي بشيء. وفي رواية لما أتاه صلى الله عليه وسلم عامر وسده: أي ألقى له وسادة ليجلس عليها، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: أسلم يا عامر، فقال له عامر: إن لي إليك حاجة، قال: اقرب مني، فقربت منه حتى حنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن قوله خالني: أي اجعل لي منك خلوة، وهو المناسب لقول عامر لأربد إني أشاغل عنك وجهه. قال: وذكر أن عامر بن الطفيل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال له أسلم يا عامر، فقال: أتجعل لي الأمر بعدك إن أسلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك لك ولا لقومك: أي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء: أي وقال له: يا محمد أسلم على أن لي الوبر ولك المدر، فقال: لا، فقال: ما لي إن أسلمت؟ فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، فقال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا، وفي رواية: خيلا جردا ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله عز وجل. قال السهيلي: وجعل أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه يضرب في رؤوسهما ويقول اخرجا أيها الهجرسان: أي القردان، فقال له عامر: ومن أنت؟ فقال: أسيد بن حضير، فقال: أحضير بن سماك؟ قال نعم، قال: أبوك كان خيرا منك، قال: بلى أنا خير منك ومن أبي، لأن أبي كان مشركا وأنت مشرك. ومكث صلى الله عليه وسلم أياما يدعو الله عليهم ويقول: اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت

وابعث له داء يقتله اه. أي ثم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو أسلم وأسلمت بنو عامر لزاحمت قريشا على منابرها، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا قوم آمنوا، ثم قال: اللهم اهد بني عامر، واشغل عني عامر بن الطفيل بما شئت وأني شئت. وفي البخاري: «أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أخيرك بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل ولي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك من غطفان بألف أشقر وألف شقراء، فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد: ويلك يا أربد، أين ما كنت أمرتك به، والله ما كان على وجه الأرض من رجل أخافه على نفسي منك أبدا، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا، فقال: لا أبالك، لا تعجل عليّ، والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين هذا الرجل حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟ أي وفي رواية: إلا رأيت بيني وبينه سورا من حديد. وفي رواية: لما وضعت يدي على قائم السيف يبست فلم أستطع أن أحركها. وفي رواية: لما أردت سل سيفي نظرت فإذا فحل من الإبل فاغر فاه بين يديّ يهوي إليّ، فو الله لو سللته لخفت أن يبتلع رأسي. ويمكن الجمع بأن ما في الرواية الأولى كان بعد أن تكرر منه الهم، وما في الرواية الثانية كان بعد أن حصل منه هم آخر، وكذا يقال في الثالثة، وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه: أي وفي لفظ حلقه، أي وأوى لبيت امرأة سلولية من بني سلول، وكانوا موصوفين باللؤم. وفي كلام السهيلي: إنما اختصها بالذكر لقرب نسبها منه لأنها منسوبة إلى سلول بن صعصعة، والطفيل من بني عامر بن صعصعة أي فهي تأسف عليه، وصار يأسف الذي كان موته ببيتها، وصار يمس الطاعون ويقول: يا بني عامر غدة: أي أغد غدة كغدة البعير، وموتا في بيت امرأة من بني سلول، ائتوني بفرسي، ثم ركب فرسه وأخذ رمحه، وصار يجول حتى وقع عن فرسه ميتا. أي ويذكر أنه صار يقول: ابرز يا ملك الموت. وفي لفظ: يا موت ابرز لي: أي لأقاتلك، وهذا يدل على أن موت عامر لم يتأخر سيما وقد جاء في رواية: فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها سلولية فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه فوثب على فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول: غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية، فلم يزل على تلك الحالة حتى سقط عن فرسه ميتا. ويحتاج للجمع بينه وبين قول الأوزاعي قال يحيى: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا، وقدم صاحباه على قومهما، فقالوا لأربد: ما

وراءك يا أربد؟ فقال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أني عنده الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين معه جمله يتبعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة أحرقتهما. أي وذلك في يوم صحو قائظ، وأنزل الله تعالى قوله: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [الرّعد: الآية 13] وأما جبار بن سلمى الذي هو ثالثهم فقد أسلم مع من أسلم من بني عامر. ومنها وفود ضمام بن ثعلبة، أي وقيل وفد في سنة خمس، بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه متكئا جاءه رجل من أهل البادية قال فيه طلحة بن عبيد الله: جاءنا أعرابي من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دويّ صوته ولا نفقه ما يقول، الحديث: أي جاء على جمل وأناخه في المسجد ثم عقله وقال: أيكم ابن عبد المطلب، أي وفي رواية: أيكم محمد؟ قالوا هذا الأمغر المرتفق: أي الأبيض المشرب بحمرة المتكىء على مرفقه، فدنا منه صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة قال: سل عما بدا لك. أي وفي رواية: لمغلظ عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك ما لا أجد في نفسي، فقال: سل ما بدا لك، فقال: يا محمد جاءنا رسولك فذكر لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق، فقال: أنشدك بفتح الهمزة برب من قبلك ورب من بعدك. وفي رواية: بالذي خلق السموات والأرض، ونصب هذه الجبال، قال: اللهم نعم. قال: وفي رواية أنه قال له قبل ذلك: آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ قال: اللهم نعم انتهى. قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة؟ قال اللهم نعم. قال: وأنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا؟ قال: اللهم نعم، قال وأنشدك بالله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من اثني عشر شهرا؟ قال: اللهم نعم، قال: وأنشدك بالله آلله أمرك أن يحج هذا البيت من استطاع إليه سبيلا، قال: اللهم نعم، قال: فأنا قد آمنت وصدقت وأنا ضمام بن ثعلبة. أقول: وهذا السياق يدل على أن وفوده كان بعد فرض الحج، وهو يخالف ما سبق أنه كان في سنة خمس ومن ثم استبعده ابن القيم. قال: والظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من كلام بعض الرواة. وفيه أن الذي جزم به إسحاق وأبو عبيدة أنه وفد في سنة تسع وصوبه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، ومن ثم جاء ذكر الحج في مسلم، ويؤيد ذلك قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم علينا الحديث، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قدم المدينة بعد الفتح، فلما أن ولي ضمام رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقه الرجل: أي بضم القاف صار فقيها، وبكسرها فهم. وفي لفظ: لئن صدق ليدخلنّ الجنة،

وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة. أي وفي لفظ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فما سمعنا بوافد وقد كان أفضل من ضمام. ولما رجع ضمام رضي الله تعالى عنه إلى قومه قال لهم: إن الله تعالى قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه. قال: وفي رواية أن أول شيء تكلم به أن سب اللات والعزى، فقال له قومه: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، فقال لهم: ويلكم، والله إنهما لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا إلى آخر ما تقدم، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فلم يبق من القوم رجل ولا امرأة إلا وأسلم. ومنها وفد عبد القيس وفيهم الجارود، وكان نصرانيا: أي قد قرأ الكتب فقال أبياتا مخاطبا بها النبي صلى الله عليه وسلم، منها: يا نبي الهدى أتاك رجالا ... قطعت فدفدا وآلا فآلا تتقي وقع شر يوم عبوس ... أوجل القلب ذكره ثم هالا الفدفد: المفازة، والآل: ما يرفع الشخوص في أول النهار وفي آخره، وقيل السراب. وقيل وكانوا ستة عشر، فعرض عليهم صلى الله عليه وسلم الإسلام، فقال: يا محمد إني كنت على دين وإني تارك ديني لدينك فتضمن لي ذنبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم أنا ضامن لك أن قد هداك إلى ما هو خير لك منه، فأسلم وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه، فقال: يا رسول الله يحال بيننا وبين بلادنا ضوالّ من ضوال المسلمين أي من الإبل والبقر مما يحمي نفسه أفنتبلغ عليها: أي نركبها إلى بلادنا. قال: لا، إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار أي لهبها كذا في الأصل. وفي السيرة الهشامية أن الجارود إنما وفد مع حليف له يقال له سلمة بن عياض الأزدي وأن الجارود قال لسلمة: إن خارجا خرج بتهامة يزعم أنه نبي، فهل لك أن تخرج إليه، فإن رأينا خيرا دخلنا فيه، وأنا أرجو أن يكون هو النبي الذي بشر به عيسى ابن مريم، لكن يضمر كل واحد منا له ثلاث مسائل يسأله عنها لا يخبر بها صاحبه، فلعمري إنه إن أخبرنا بها إنه لنبي يوحى إليه، فلما قدما عليه صلى الله عليه وسلم قال له الجارود: بم بعثك به ربك يا محمد؟ قال: بشهادة أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله، والبراءة من كل ند أو دين يعبد من دون الله، وبإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة لحقها، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا بغير إلحاد مَنْ

عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) [فصّلت: الآية 46] قال الجارود: يا محمد إن كنت نبيا فأخبرنا عما أضمرنا عليه، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة كأنها سنة ثم رفع رأسه الشريف والعرق يتحدر عنه، فقال: أما أنت يا جارود، فإنك أضمرت أن تسألني عن دماء الجاهلية، وعن حلف الجاهلية، وعن المنيحة. ألا وإن دم الجاهلية موضوع وحلفها مردود، ولا حلف في الإسلام. ألا وإن أفضل الصدقة أن تمنح أخاك ظهر دابة أو لبن شاة، فإنها تغدو برفدة وتروح بمثله. وأما أنت يا سلمة فإنك أضمرت على أن تسألني عن عبادة الأوثان، وعن يوم السباسب، وعن عقل الهجين. فأما عبادة الأوثان فإن الله تعالى يقول: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) [الأنبياء: الآية 98] وأما يوم السباسب فقد أعقبه الله ليلة خيرا من ألف شهر، فاطلبوها في العشر الأواخر من رمضان، فإنها ليلة بلجة سمحة لا ريح فيها، تطلع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها. وأما عقل الهجين، فإن المؤمنين إخوة تتكافأ دمائهم، يجير أقصاهم على أدناهم، أكرمهم عند الله أتقاهم، فقالا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله انتهى. وذكر في السيرة الهشامية في وفد عبد القيس أنه كان قبل فتح مكة، وذكر ما حاصله: «أنه صلى الله عليه وسلم بينما هو يحدّث أصحابه، إذ قال لهم: سيطلع عليكم من ههنا ركب هم خير أهل المشرق» وفي رواية: «ليستبين ركب من المشرق لم يكرهوا على الإسلام قد أنضوا» أي أهزلوا «الركائب، وأفنوا الزاد، اللهم اغفر لعبد القيس، فقام عمر رضي الله تعالى عنه، فتوجه نحو مقدمهم، فلقي ثلاثة عشر راكبا، وقيل كانوا عشرين راكبا، وقيل كانوا أربعين رجلا، فقال: من القوم؟ قالوا: من بني عبد القيس، فقال: أما إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكركم آنفا، فقال خيرا، ثم مشى معهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الذي تريدون، فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم بباب المسجد بثياب سفرهم، وتبادروا يقبلون يده صلى الله عليه وسلم ورجله، وكان فيهم عبد الله بن عوف الأشج، وهو رأسهم، وكان أصغرهم سنا، فتخلف عند الركائب حتى أناخها وجمع المتاع، وذلك بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ثوبين أبيضين لبسهما، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، وكان رجلا دميما ففطن لنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دمامته، فقال: يا رسول الله إنه لا يستقي أي يشرب في مسوك: أي جلود الرجال، وإنما يحتاج الرجل من أصغريه لسانه وقلبه. فقال له رسول الله: إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: لا، بل الله تعالى جبلك عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله صلى الله عليه وسلم» والأناة على وزن قناة: التؤدة. وقد جاء: «التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزآ من النبوة» .

وفي رواية: «أنهم لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: من القوم؟ قالوا: من ربيعة» أي وهو المراد بما في بعض الروايات ربيعة، فإنه من التعبير عن البعض بالكل. وفي البخاري في الصلاة: «إن هذا الحي من ربيعة» أي إن هذا الحي من ربيعة وهو في الأصل اسم لمنزل القبيلة، سميت به القبيلة لأن بعضهم يحيا ببعض، قال: «خير ربيعة عبد القيس، مرحبا بالقوم» أي صادفتم رحبا بضم الراء: أي سعة. وأول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن، وقد تكررت هذه الكلمة منه صلى الله عليه وسلم، قالها لابنة عمه أم هانىء رضي الله تعالى عنها. وقال لعكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه: «مرحبا بالراكب الهاجر» وقال لا بنته فاطمة رضي الله تعالى عنها: «مرحبا بابنتي» وقال لشخص دخل عليه: «مرحبا، وعليك السلام» . ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: «غير خزايا، ولا ندامى» أي حالة كونكم سالمين من الخزي ومن الندم، وفي لفظ: «مرحبا بالوفد الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى، أنا حجيج من ظلم عبد القيس، فقالوا: يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة» أي من سفر بعيد، لأن مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق. «وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام» أي وفي لفظ: «إلا في هذا الشهر الحرام» «وهو كمسجد الجامع ونساء مؤمنات» وهو شهر رجب للتصريح به في بعض الروايات. وقال بعضهم: وفي هذا دليل على أن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت، وقبولها يقع برحمة الله، لأن مضر كانت تبالغ في تعظيم شهر رجب زيادة على بقية الأشهر الحرم ومن ثم قيل رجب مضر: «فأمرنا بأمر فصل» أي فاصل بين الحق والباطل «فقال: آمركم بأربع» أي بخصال أربع أو جمل أربع. ففي بعض الروايات: «قالوا: حدثنا بجمل من الأمر، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» أي وفيه أن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمة الشهادة. ووقع في البخاري في الزكاة زيادة واو قبل شهادة وهي زيادة شاذة لم يتابع عليها راويها: «وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس» أي لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، وهذا زائد على الأربع، ومن ثم قال بعضهم هو معطوف على قوله بأربع: أي آمركم بأربع وبأن تعطوا، ومن ثم غاير في الأسلوب. وفي مسلم: «آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة،

وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم» ولم يذكر الحج، لأنه لم يكن فرض على الصحيح كما قال الحافظ الدمياطي رحمه الله، وهو بناء على الأصح أنه فرض سنة ست. وقول الواقدي إن قدوم وفد عبد القيس كان في سنة ثمان ليس بصحيح، لكن ذكر بعضهم أن لعبد القيس وفدتين، واحدة كانت قبل فرض الحج، وواحدة بعده. ومن ثم جاء ذكر الحج في مسند الإمام أحمد، وهو «وأن تحجوا البيت» وأنه لم يتعرض في هذه الرواية لعدد: أي لقوله أربع، ثم قال صلى الله عليه وسلم لهم: «وأنهاكم عن أربع، عن الدباء» أي القرع: أي عما ينبذ فيها «والحنتم» وهو جرار مدهونة بدهان أخضر: أي عما ينبذ فيها: أي وقيل الحنتم جرار كانت تعمل من طين وشعر وأدم «والنقير» أصل النخلة ينقر وينبذ فيه التمر، أي ما ينبذ في ذلك «والمزفت» ما طلي بالزفت أي عما ينبذ فيه. وفي رواية زيادة على ذلك «والقير» ما طلي بالقار، وهو نبت يحرق إذا يبس وتطلى به السفن كما تطلى بالزفت، زاد في رواية: «وأخبروا بهن من وراءكم» أي من جئتم من عندهم، ومن يحدث من الأولاد «قالوا: فيم نشرب يا رسول الله؟ قال: في أسقية الأدم» أي الجلود التي يلات: أي يربط على أفواهها «قالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان» ، أي الفئران: أي لا تبقي فيها أسقية الأدم، قال «وإن أكلها الجرذان، قال ذلك مرتين أو ثلاثا» فقال له الأشج «يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة، وإنا إذا لم نشرب هذه الأشربة عظمت بطوننا، فرخص لنا في مثل هذه، فأومأ صلى الله عليه وسلم بكفيه وقال له: يا أشج إن رخصت لك في مثل هذه شربته في مثل هذه وفرج بين يديه وبسطها» يعني أعظم منها: «حتى إذا ثمل» أي سكر «أحدكم من شرابة قام إلى ابن عمه فضرب ساقه بالسيف» وكان في القوم رجل وقع له ذلك أي وهو جهم بن قثم، قال: لما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت أسدل ثوبي لأغطي الضربة وقد أبداها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، أي وفي كلام السهيلي: فعجبوا من علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وإشارته إلى ذلك الرجل هذا كلامه. أي وفي رواية: «أنهم سألوه عن النبيذ، فقالوا: يا رسول الله إن أرضنا أرض وخمة لا يصلحها إلا النبيذ، قال: فلا تشربوا في النقير، فكأني بكم إذا شربتم في النقير قام بعضكم إلى بعض بالسيوف، فضرب رجلا منكم ضربة لا يزال يعرج منها إلى يوم القيامة فضحكوا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما يضحككم؟ قالوا: والله لقد شربنا في النقير فقام بعضنا إلى بعض بالسيوف فضرب هذا ضربة بالسيف فهو أعرج كما ترى، ثم ذكر لهم صلى الله عليه وسلم أنواع تمر بلدهم، فقال: لكم تمرة تدعونها كذا وتمرة تدعونها كذا، فقال له رجل من القوم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو كنت ولدت في جوف هجر ما كنت بأعلم منك الساعة، أشهد أنك رسول الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أرضكم رفعت إليّ منذ قعدتم، أي فنظرت من أدناها إلى أقصاها وقال لهم: خير

تمركم البرني، يذهب بالداء ولا داء معه» أي وإنما اقتصر صلى الله عليه وسلم في المناهي على شرب الأنبذة في الأوعية المذكورة مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم لكثرة تعاطيهم لها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها أنه يسرع فيها الإسكار، فربما يشرب منها من لا يشعر بذلك. وكان في عبد القيس أبو الوازع بن عامر وابن أخته مطر بن هلال، ولما ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ابن أختهم قال: «ابن أخت القوم منهم» وكان فيهم ابن أخي الوازع وكان شيخا كبيرا مجنونا جاء به الوازع معه ليدعو له صلى الله عليه وسلم، فمسح ظهره ودعا له، فبرأ لحينه وكسي شبابا وجمالا حتى كأن وجهه وجه العذراء. وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم زودهم الأراك يستاكون به وذكر أنه كان فيهم غلام ظاهر الوضاءة فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم خلف ظهره، وقال: إنما كان خطيئة داود عليه الصلاة والسلام النظر» . ومنها وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب، قيل جاء بنو حنيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم مسيلمة الكذاب، يسترونه بالثياب، وكان رسول الله جالسا في أصحابه رضي الله تعالى عنهم معه عسيب من عسب النخل في رأسه خويصات، فلما انتهى مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب، كلمه وسأله أن يشركه معه في النبوة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه. وقيل إن بني حنيفة جعلوه في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبنا في رحالنا يحفظها لنا فأمر له صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به لواحد من القوم، وهو خمس أواق من فضة، وقال: أما إنه ليس بشركم مكانا، فلما رجعوا إليه أخبروه بما قال عنه، فقال: إنما قال ذلك لأنه عرف أن لي الأمر من بعده، فلما رجعوا وانتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وكذب، وادعى أنه أشرك معه صلى الله عليه وسلم في النبوة وقال لمن وفد معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: أما إنه ليس بشركم مكانا ما ذاك إلا لما كان يعلم أني أشركت معه في الأمر. أي وهو صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك أنه حفظ ضيعة أصحابه. هذا وفي الصحيحين: «أنه صلى الله عليه وسلم أقبل ومعه ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، أي فإنه صلى الله عليه وسلم بلغه عنه أنه قال: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته «وإني لأراك الذي منه رأيت» وهذا قيس يجيبك عني ثم انصرف» .

والذي رآه منه صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام أن في يده سوارين من ذهب قال: فأهمني شأنهما فأوحى الله إلى في المنام: أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي: أي وهما طليحة العبسي صاحب صنعاء، ومسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، فإن كلا منهما ادعى النبوة في حياته صلى الله عليه وسلم. وكان طليحة العبسي يقول: إن ملكا كان يقال له ذو النون يأتيني كما يأتي جبريل محمدا، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: لقد ذكر ملكا عظيما في السماء يقال له ذو النون. وجمع بعضهم بين هذا الذي في الصحيحين وما هنا بأنه يجوز أن يكون مسيلمة قدم مرتين: الأولى كان تابعا ومن ثم كان في حفظ الرحال، والثانية كان متبوعا ولم يحضر أنفة منه واستكبارا، وعامله صلى الله عليه وسلم معاملة الإكرام على عادته صلى الله عليه وسلم في الاستئلاف فأتى إلى قومه وهو فيهم كذا قيل. ولا يخفى أن قوله ولم يحضر يقتضي أنه لم يجىء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المرتين، وتقدم أنه جاء إليه صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب، وهذا: أي ستره بالثياب وهو المناسب لكونه متبوعا ثم صار مسيلمة لعنه الله يتكلم بالهذيان يضاهي به القرآن. فمن ذلك قوله قبحه الله: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمه تسعى من بين شغاف وحشا، وقال: والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. والخابزات خبزا. والثاردات ثردا. واللاقمات لقما. ووضع عنهم الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا. وقيل إنه لعنه الله طلب منه أن يتفل في بئر تبركا ففعل فملح ماؤها. ومسح رأس صبي فصار أقرع قرعا فاحشا. ودعا لرجل في بنين له بالبركة فيهما، فرجع الرجل إلى منزله فوجد أحدهما قد سقط في بئر والآخر أكلة الذئب. ومسح على عيني رجل للاستشفاء بمسحة فابيضت عيناه، فعل ذلك مضاهاة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا السياق يرشد إلى أنه كان برأس ذلك الصبي قرع يسير فمسح عليه للاستشفاء، ثم أظهر معجزة بزعمه. وهو أنه أدخل بيضة في قارورة وافتضح بأن البيضة بنت يومها إذا ألقيت في الخل والنوشادر يوما وليلة فإنها تمتد كالخيط. فتعجل في القارورة ويصب عليها ماء فتجمد، وبهذا يردّ على من رثاه من بني حنيفة بقوله: لهفي عليك أبا ثمامة ... كم آية لك فيهمو كالشمس تطلع من غمامه فيقال له: كذبت، بل كانت آياته معكوسة. قال: وكتب مسيلمة قبحه الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا فقال: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد- فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأمر، وليس قريش قوما يعدلون، وبعث رجلين. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب سلام على من

اتبع الهدى. أما بعد- فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ثم قال للرجلين: وإنما يقولان مثل ما يقول؟ قالا نعم، قال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما انتهى. ومنها وفد طيىء، وفيهم زيد الخيل رضي الله تعالى عنه. وفد عليه صلى الله عليه وسلم، وفيهم قبيصة بن الأسود، وسيدهم زيد الخيل. قيل له ذلك، لخمسة أفراس كانت له: أي ولو كان وجه التسمية يلزم اطراده لقيل للزبرقان بن بدر زبرقان الخيل. فقد قيل: إنه وفد على عبد الملك بن مروان وقاد إليه خمسة وعشرين فرسا، ونسب كل واحدة من تلك الأفراس إلى آبائها وأمهاتها، وحلف على كل فرس يمينا غير اليمين التي حلف بها على غيرها، فقال عبد الملك: عجبي من اختلاف أيمانه أشدّ من عجبي من معرفته بأنساب الخيل. وكان زيد الخيل شاعرا خطيبا بليغا جوادا، فعرض عليهم صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم. وقال صلى الله عليه وسلم في حق زيد الخيل: «ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما قيل فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ أي ما قيل فيه كل ما فيه» وسماه صلى الله عليه وسلم زيد الخير، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال له وهو لا يعرفه: «الحمد لله الذي أتى بك من سهلك وحزنك، وسهل قلبك للإيمان، ثم قبض صلى الله عليه وسلم على يده، فقال: من أنت؟ قال: أنا زيد الخيل بن مهلهل، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، فقال له صلى الله عليه وسلم: بل أنت زيد الخير، ثم قال: يا زيد ما أخبرت عن رجل قط شيئا إلا رأيته دون ما أخبرت عنه غيرك أي وأجاز صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم خمس أواق، وأعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشا: أي وأقطعه محلين من أرضه، وكتب له بذلك كتابا، ولما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى قومه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ينجو زيد من الحمى» أي ما ينجو منها، ففي أثناء الطريق أصابته الحمى، أي وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال له: يا زيد تقتلك أم ملدم يعني الحمى. وفي رواية أن زيد الخيل لما قام من عنده صلى الله عليه وسلم وتوجه إلى بلاده، قال صلى الله عليه وسلم: «أيّ فتى إن لم تدركه أم كلبة» يعني الحمى، والكلبة الرعدة. وفي رواية: «ما قدم عليّ رجل من العرب يفضله قومه إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد، فإن ينج زيد من حمى المدينة فلأمر ما هو» . قال: ولما مات أقام قبيضة بن الأسود الناحة عليه سنة، ثم وجه براحلته ورحله. وفيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أقطعه فيه محلين بأرضه، فلما رأت امرأته الراحلة ضرمتها بالنار، فاحترقت واحترق الكتاب انتهى. وفي كلام السهيلي: وكتب له كتابا على ما أراد وأطعمه قرى كثيرة منها فدك،

هذا كلامه. وقيل بقي إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنهما. ومنها وفود عدي بن حاتم الطائي. حدث عديّ رضي الله تعالى عنه قال: كنت امرأ شريفا في قومي، آخذ المرباع من الغنائم كما هو عادة سادات العرب في الجاهلية: أي وهو ربع الغنيمة كما تقدم، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، ما من رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، فقلت لغلام كان راعيا لإبلي: لا أبا لك اعزل من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتسبها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني ففعل، ثم إنه أتاني ذات يوم، فقال يا عديّ ما كنت صانعا إذا غشيك محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد. فقلت له قرب لي أجمالي، فقرّبها فاحتملت أهلي وولدي، والتحقت بأهل ديني من النصارى بالشام، وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر، فأصيبت فيمن أصيب: أي سبيت فيمن أصيب من الحاضر، فلما قدمت في السبايا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام منّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساها، وحملها، وأعطاها نفقة، وخرجت إلى أن قدمت عليّ الشام، فو الله إني لقاعد في أهلي، إذ نظرت إلى ظغينة تؤمنا، فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي. فلما وقعت عليّ قالت: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وقطعت بقية والديك وعورتك، فقلت: أي أخية، لا تقولي إلا خيرا فو الله ما لي من عذر، ولقد صنعت ما ذكرت، ثم نزلت وأقامت عندي. فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فأنت أنت. فقلت والله إن هذا للرأي، أي ولعلها لم تظهر له إسلامها لئلا ينفر طبعه من قولها له إن يكن نبيا أي على الفرض والتنزل تحريضا له على اللحوق به صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى جئته صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلت عليه. فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لقائدني إليه إذ لقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته صلى الله عليه وسلم فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها. فقلت ما هو بملك، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة بيده من أدم محشوة ليفا فقدمها إليّ وقال: اجلس على هذه. فقلت بل أنت فاجلس عليها، قال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض. فقلت والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال لي ما معناه: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم قالها ثلاثا. فقلت: إني على دين، قال: أنا أعلم بدينك منك، فقلت أنت أعلم بديني؟ قال نعم ألست من الركوسية: ألست من القوم الذين لهم دين؟ لأنه تقدم أنه كان نصرانيا. فقلت بلى، فقال: ألم تكن تسير في قومك بالمرباع، أي تأخذ ربع الغنيمة كما هو شأن الأشراف من أخذهم في الجاهلية ربع الغنيمة؟ قلت بلى. قال: فإن

ذلك لم يكن يحل لك في دينك. فقلت: أجل والله وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى، تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب مع حاجتهم، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك أنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، أتعرف الحيرة؟ قلت لم أرها وقد سمعت بها، قال: فو الله، وفي لفظ: فو الذي نفسي بيده ليتمن هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة تطوف بالبيت من غير جوار أحد. وفي رواية: ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية: أي وهي قرية بينها وبين الكوفة نحو مرحلتين- على بعيرها حتى تزور البيت، أي الكعبة لا تخاف- ولعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم. قال عدي: وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تحج بالبيت وايم الله لتكونن الثانية ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه. ومنها وفود فروة بن مسيك المرادي، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة مفارقا لملوك كندة، وكان بين قومه مراد وبين همدان قبيل الإسلام وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا في يوم يقال الردم، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم. فقال: يا رسول الله من ذا تصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم ولا يسؤوه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا، واستعمله صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد، وبعث معه خالد بن سعيد العاص على الصدقة فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فروة عند توجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرجل خان الرجل عرق نسائها فركبت راحلتي أؤمّ محمدا ... أرجو فواضلها وحسن ثوابها ومنها وفد بني زبيد بضم الزاي وفتح الموحدة. وفد بنو زبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وكان فارس العرب مشهورا بالشجاعة، شاعرا مجيدا، قال لابن أخيه قيس المرادي: إنك سيد قومك وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقول إنه نبيّ فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفى عليك، وإذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه. فركب عمرو رضي الله تعالى عنه حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه فأسلم، فلما بلغ ذلك قيسا قال: خالفني

وترك أمري ورأيي، وتوعد عمرا، فقال عمرو في قيس أبياتا منها: فمن ذا عاذري من ذي سفاه ... يريد بنفسه شدّ المزار أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادي أي وبعد موته صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو هذا مع الأسود العبسي، ثم أسلم وحسن إسلامه، وشهد فتوحات كثيرة في أيام الصديق وأيام عمر رضي الله تعالى عنهما. وعن ابن إسحاق: قيل إن عمرو بن معد يكرب لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم قيس بعد ذلك، قيل له صحبة، وقيل لا. ومنها وفد كندة، أي وله صلى الله عليه وسلم جدّة منهم، وهي أمّ جدّه كلاب. وفد عليه صلى الله عليه وسلم ثمانون، أي وقيل ستون من كندة فيهم الأشعث بن قيس، وكان وجيها مطاعا في قومه، وفي الإمتاع وهو أصغرهم. فلما أرادوا الدخول عليه صلى الله عليه وسلم رجلوا: أي سرحوا جممهم. أي شعور رؤوسهم، أي الساقطة على مناكبهم، وتكحلوا، ولبسوا عليهم جبب الحبرة أي بوزن عنبة: برود اليمن المخططة، قد كففوها: أي سجفوها بالحرير. فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وعند ذلك قالوا: أبيت اللعن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست ملكا أنا محمد بن عبد الله. قالوا: لا نسميك باسمك، قال: أنا أبو القاسم. فقالوا: يا أبا القاسم إنا خبأنا لك خبئا فما هو؟ وكانوا خبؤوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عين جرادة في ظرف سمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، إنما يفعل ذلك بالكاهن، وإن الكاهن والكهانة والمتكهن في النار، فقالوا: كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فقال: هذا يشهد أني رسول الله، فسبح الحصى في يده، فقالوا: نشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني بالحق وأنزل عليّ كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقالوا: أسمعنا منه، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) [الصافات: الآية 1] حتى بلغ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المعارج: الآية 40] ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن بحيث لا يتحرك منه شيء ودموعه تجري على لحيته، فقالوا: إنا نراك تبكي، أفمن مخافة من أرسلك تبكي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن خشيتي منه أبكتني، بعثني على صراط مستقيم في مثل حد السيف، إن زغت عنه هلكت، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: الآية 86] الآية، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: ألم تسلموا؟ قالوا بلى، قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم. فعند ذلك شقوه منها وألقوه. وفيه أن هذا يخالف ما قاله فقهاؤنا معاشر الشافعية من جواز التسجيف بالحرير، إلا أن يقال الجواز مخصوص، بأن لا يجاوز الحد اللائق بالشخص، ولعل سجفهم جاوزت الحد اللائق بهم وقد قال الأشعث له صلى الله عليه وسلم: نحن بنو آكل المرار

وأنت ابن آكل المرار، يعني جدته أم كلاب، فقد تقدم أنها من كندة، وقيل إنما قال ذلك الأشعث، لأن عمه العباس بن عبد المطلب كان إذا دخل حيا من أحياء العرب، لأنه كما تقدم كان تاجرا، فإذا سئل من أين؟ قال: أنا ابن آكل المرار ليعظم، يعني انتسب إلى كندة، لأن كندة كانوا ملوكا فاعتقدت كندة أن قريشا منهم لقول العباس المذكور، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا، نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفو أمنا ولا ننتفي من آبائنا: أي لا ننتسب إلى الأمهات ونترك النسب إلى الآباء. والأشعث هذا ممن ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الإسلام في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي فإنه حوصر، ثم جيء به أسيرا، فقال للصديق حين أراد قتله: استبقني لحروبك وزوّجني أختك، فزوجه أخته أم فروة فدخل سوق الإبل بالمدينة واخترط سيفه، فجعل لا يرى جملا إلا عرقبه، فصاح الناس: كفر الأشعث، فلما فرغ طرح سيفه وقال: والله ما كفرت إلا أن الرجل يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه زوجني أخته، ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه وقال: يا أهل المدينة انحروا وكلوا، وأعطى أصحاب الإبل أثمانها، قال: وقال صلى الله عليه وسلم للأشعث: «هل لك من ولد؟ فقال: لي غلام ولد لي عند مخرجي إليك لوددت أن لي به لسبعة، فقال: إنهم لمجبنة مبخلة محزنة، وإنهم لقرة العين، وثمرة الفؤاد» انتهى. ومنها وفد أزد شنوءة. وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من الأزد وفيهم صرد بن عبد الله الأزدي أي وكان أفضلهم، فأمّره صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فخرج حتى نزل بجرش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة وهي مدينة بها قبائل من قبائل اليمن وحاصرها المسلمون قريبا من شهر ثم رجعوا عنها، حتى إذا كانوا بجبل يقال له شكر بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين، وقيل بإسكان الكاف، فلما وصلوا ذلك المحل ظن أهل جرش أن المسلمين رضي الله تعالى عنهم إنما رجعوا عنهم منهزمين، فخرجوا في طلبهم حتى إذا أدركوهم عطفوا عليهم فقتلوهم قتلا شديدا. وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يرتدان: أي ينظران الأخبار، فينما هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأيّ بلاد الله شكر؟ فقام إليه رجلان فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له كشر، فقال إنه ليس بكشر ولكنه شكر، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال إن بدن الله لتنحر عنده الآن، وأخبرهما الخبر، فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما فوجدا قومهما قد أصيبوا في اليوم والساعة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، وعند إخبارهما لقومهما بذلك وفد وفد جرش على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

مرحبا بكم أحسن الناس وجوها، وأصدقه لقاء، وأطيبه كلاما، وأعظمه أمانة، أنتم مني وأنا منكم، وحمى لهم حمى حول بلدهم. ومنها وفد رسول ملوك حمير، وحامل كتابهم إليه صلى الله عليه وسلم، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول ملوك حمير وحامل كتابهم إليه صلى الله عليه وسلم بإسلام الحارث بن عبد كلال بضم الكاف. وقد اختلف في كون الحارث له وفادة فهو صحابي أولا، والنعمان ومعافر بالفاء مكسورة وهمدان، أي بإسكان الميم وفتح الدال المهملة وهي قبيلة. وأما همذان بفتح الميم والذال المعجمة فقبيلة بالعجم، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال وإلى النعمان ومعافر وهمدان، أما بعد: فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم: أي رجوعنا من غزوة تبوك، فلقيناه بالمدينة فبلغ ما أرسلتم به وخبر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وإن الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من الغنائم خمس الله وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة. أما بعد: فإن محمدا النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن. وفي الاستيعاب: زرعة بن سيف ذي يزن. وفي كلام الذهبي: زرعة بن سيف ذي يزن أن: إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيرا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرارة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم بالخاء المعجمة جمع مخلاف، وأبلغوها رسلي، وأن أميرهم معاذ بن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا. أما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله. ثم إن مالك بن كعب بن مرارة قد حدثني أنك قد أسلمت من أول حمير وقتلت المشركين: فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخونوا، ولا تخاذلوا بضم التاء المثناة الفوقية وكسر الذال. ويجوز أن يكون بفتح المثناة وفتح الذال محذوف إحدى التاءين، فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته إنما هي زكاة يزكي بها على الفقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب، وآمركم به خيرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ومنها وفد رسول فروة بن عمرو الجذامي: وفد رسول الله فروة إلى رسول صلى الله عليه وسلم يخبره بإسلامه: وأهدى له صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء: أي يقال لها فضة وحمارا يقال له يعفور وفرسا يقال له الظرب وثيابا وقباء مرصعا بالذهب.

وكان فروة رضي الله تعالى عنه عاملا للروم على ما يليهم من العرب، فلما بلغ الروم إسلامه أخذوه وحبسوه، ثم ضربوا عنقه وصلبوه أي بعد أن قال له الملك ارجع عن دين محمد ونحن نعيدك إلى ملكك قال: لا أفارق دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإنك تعلم أن عيسى عليه الصلاة والسلام بشّر به، ولكنك تضنّ بملكك. ومنها وفد بني الحارث بن كعب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، وقال له: إن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد رضي الله تعالى عنه حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا فأسلموا، فقام فيهم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهم يعلمهم الإسلام، أي شرائعه، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل ويقبل معه وفدهم. فأقبل رضي الله تعالى عنه ومعه وفدهم، وفيهم قيس بن الحصين ذو الغصة بالغين المعجمة. أي لأنه كان في حلقه غصة لا يكاد يبين الكلام منها. وهي صفة لأبيه الحصين. وربما وصف بها قيس. قال في النور: ويحتمل أن يقال له ذو الغصة وابن ذي الغصة لأنه وأباه كانت بهما الغصة وفيه بعد. وحين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم قال لهم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم. قال صدقتم. وأمر عليهم صلى الله عليه وسلم زيد بن الحصين، ولم يمكثوا بعد رجوعهم إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها أنه وفد عليه صلى الله عليه وسلم رفاعة بن زيد الخزاعي. وفد رفاعة بن زيد الخزاعي بالخاء المعجمة والزاي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما فأسلم وحسن إسلامه، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إلى قومه «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لرفاعة بن زيد إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله وإلى رسوله، فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين» فلما قدم رفاعة رضي الله تعالى عنه على قومه أجابوا وأسلموا. ومنها وفد همدان. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من همدان فيهم مالك بن نمط وكان شاعرا مجيدا، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، عليهم مقطعات من الحبرات بكسر الحاء المهملة: ثياب قصار. وقيل مخططة من برود اليمن. والعمائم العدنية نسبة إلى عدن مدينة باليمن، سميت بذلك لأن تبعا كان يحبس فيها أرباب الجرائم. وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم على الرواحل المهرية والأرحبية. والمهرية: نسبة إلى قبيلة يقال لها مهرة باليمن والأرحبية: نسبة إلى أرحب وصار مالك بن نمط يرتجز: أي

يقول الرجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: إليك جاوزنا سواد الريف ... في هبوات الصيف والخريف مخطمات بجبال الليف ومن شعره: حلفت برب الراقصات إلى منى ... صوادر بالركبان من هضب قردد بأن رسول الله فينا مصدق ... رسول أتى من عند ذي العرش مهتد فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمد وقد أمره صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره بقتال ثقيف، فكان لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه كذا في الأصل. وفي الهدى: روى البيهقي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى من ذكر يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه. ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا كرم الله وجهه وأمر خالدا بالرجوع إليه وأن من كان مع خالد إن شاء بقي مع عليّ وإن شاء رجع مع خالد، فلما دنا من القوم خرجوا إليه، فصف علي كرم الله وجهه أصحابه صفا واحدا، ثم تقدم بين أيديهم وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا جميعا، وكتب بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه، ثم قال: السلام على همدان، السلام على حمدان وهذا أصح، لأن همدان لم تكن تقاتل ثقيفا، فإن همدان باليمن وثقيفا بالطائف. أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: نعم الحي همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد. وفيهم أبدال وفيهم أوتاد. ومنها وفد تجيب أي بضم المثناة فوق وتحتية ويجوز الفتح، وهي قبيلة من كندة. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد تجيب وقد كانوا ثلاثة عشر رجلا، وقد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم مثواهم. وقالوا: يا رسول الله إنا سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوها فاقسموها على فقرائكم، قالوا: يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، أي وفضل بفتح الضاد وكسرها، قال أبو بكر: يا رسول الله ما قدم علينا وفد من العرب مثل هذا الوفد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رغبة، وأرادوا الرجوع إلى أهليهم فقيل لهم ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاقينا إياه وما ورد علينا، ثم جاؤوا

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعوه، فأرسل إليهم بلالا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل بقي منكم أحد؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنا، قال: فأرسلوه إلينا، فأرسلوه فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله أنا من الرهط الذين أتوك آنفا فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتي؟ قال: تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، ويجعل غناي في قلبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه، ثم أمر له صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه. ثم إنهم بعد ذلك وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في الموسم إلا ذلك الغلام، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لولا أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا، فقال رجل منهم، أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل الأجل يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام ذلك الغلام في قومه فذكرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يذكر ذلك الغلام ويسأل عنه، ولما بلغه ما قام به كتب إلى زياد بن الوليد أي وكان واليا على حضرموت يوصيه به خيرا. ومنها وفد بني ثعلبة. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الجعرانة أربعة نفر من بني ثعلبة: أي مقرين بالإسلام، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من بيته ورأسه يقطر ماء. قال بعضهم: فرمى ببصره إلينا فأسرعنا إليه وبلال يقيم الصلاة، فسلمنا عليه وقلنا يا رسول الله إنا رسل من خلفنا من قومنا، ونحن مقرون بالإسلام وقد قيل لنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا إسلام لمن لا هجرة له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيثما كنتم واتقيتم الله فلا يضركم، أي ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا الظهر ثم انصرف إلى بيته فلم يلبث أن خرج إلينا فدعا بنا، فقال: كيف بلادكم؟ فقلنا مخصبون، فقال: الحمد لله، فأقمنا أياما وضيافته صلى الله عليه وسلم تجري علينا، ثم لما جاؤوا يودعونه صلى الله عليه وسلم قال لبلال أجزهم، فأعط كل واحد منهم خمس أواق فضة أي والأوقية أربعون درهما. ومنها وفد بني سعد هذيم من قضاعة. عن النعمان رضي الله تعالى عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدا في نفر من قومي وقد أوطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد: أي جعلها موطأة قهرا وغلبة، وأزاح العرب: أي استولى عليها والناس صنفان إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف السيف، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم

خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على جنازة في المسجد، أي وهو سهيل ابن البيضاء، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في مسجده على جنازة إلا عليه رضي الله تعالى عنه. وما وقع له في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه على سهيل وأخيه نظر فيه مع أن فقهاءنا ذكروه وأقروه، فقمنا خلفه ناحية ولم ندخل مع الناس في صلاتهم. وقلنا حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبايعه. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلينا، فدعا بنا فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من بني سعد هذيم، فقال: أمسلمون أنتم؟ قلنا: نعم، فقال: هلا صليتم على أخيكم؟ قلنا: يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما أسلمتم فأنتم مسلمون قال: فأسلمنا وبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيدينا على الإسلام، ثم انصرفنا إلى رحالنا وقد كنا خلفنا عليها أصغرنا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبنا، فأتى بنا إليه، فتقدم صاحبنا فبايعه صلى الله عليه وسلم على الإسلام. فقلنا: يا رسول الله إنه أصغرنا، وأنه خادمنا فقال صلى الله عليه وسلم «سيد القوم خادمهم، بارك الله عليه» قال النعمان رضي الله تعالى عنه: فكان والله خيرنا وأقرأنا للقرآن لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فكان يؤمنا فلما أردنا الانصراف أمر صلى الله عليه وسلم بلالا فأجازنا بأواق من فضة، لكل رجل منا، فرجعنا إلى قومنا. ومنها وفد بني فزارة. وفد عليه صلى الله عليه وسلم بضعة عشر رجلا من بني فزارة فيهم خارجة بن حصن أخو عيينة بن حصن وابن أخيه الجد بن قيس بن حصن وهو أصغرهم مقرين بالإسلام وهم مسنتون: أي توالى عليهم الجدب على ركائب عجاف: أي هزال، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم؟ فقال رجل منهم: أي وهو خارجة: أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا: أي ما حولنا وغرثت أي جاعت عيالنا فادع لنا ربك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله ويلك يا هذا أنا أشفع إلى ربي عز وجل، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه! لا إله إلا هو العلي العظيم، وسع كرسيه: أي علمه، كذا قيل. وقيل موضع قدميه السموات والأرض: أي أحاط بالسموات والأرض، وهو دون العرش كما جاءت الآثار، فهي تئط: أي تصوت من عظمته وجلاله كما يئط الرحل بالحاء المهملة» الحديث: أي من ثقل الحمل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ليضحك من شغفكم وأزلكم: أي شدة ضيقكم وجدبكم، وقرب غياثكم، فقال الأعرابي: لن نعدم من رب يضحك خيرا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، وصعد صلى الله عليه وسلم المنبر فتكلم بكلمات، وكان لا يرفع يديه: أي الرفع البالغ في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه حتى رئي بياض إبطيه. أي وفي النور: وقد جوزت وجها وهو أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه

في الاستسقاء يعني ظهور كفيه إلى السماء كما في مسلم، أي فيكون التقدير: لا يرفع ظهور كفيه إلى السماء إلا في الاستسقاء. وأقول: فيه أن هذا يقتضي أنه يفعل ذلك، وإن كان استسقاؤه لطلب حصول شيء كما في دعائه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء فإنه متضمن للحصول. وقد ذكر في النور أن ما كان الدعاء فيه لطلب شيء كان ببطون الكفين إلى السماء. والظاهر أن مستند ذلك استقراء حاله صلى الله عليه وسلم في الدعاء في الاستسقاء وغيره فليتأمل، والله أعلم. ومما حفظ من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسق» بقطع الهمزة ووصلها «بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا» أي مطرا «مغيثا مربعا» بضم الميم وإسكان الراء، وبالموحدة مكسورة وبالعين المهملة: مسرعا لإخراج الربيع، «مرتعا» بالتاء المثناة فوق من رتعت الدابة: إذا أكلت ما شاءت «طبقا» أي مستوعبا للأرض منطبقا عليها، واسعا «عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار. اللهمّ اسقنا رحمة، ولا تسقنا عذابا، ولا هدما، ولا غرقا، ولا محقا. اللهمّ اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء. فقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله التمر في المرابد، أي وتكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم ومن أبي لبابة ثلاث مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أسقنا الغيث حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده، أي المحل الذي يخرج منه ماء المطر بإزاره فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فو الله ما رأينا الشمس سبتا» أي من السبت إلى السبت الآخر، وقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه. وفي بعض الروايات: «فأمطرت السماء وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طاف الأنصار بأبي لبابة رضي الله تعالى عنهم يقولون له: يا أبا لبابة إن السماء والله لم تقلع حتى تقوم عريانا تسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره فأقلعت السماء» وحينئذ يكون قول الراوي لئلا يخرج منه التمر بحسب ما فهم، ويكون قول الصحابة: فو الله ما رأينا الشمس سبتا كان في قصة غيرها فخلط بعض الرواة: فجاء ذلك الرجل أو غيره. والذي في الصحيح أنه الرجل الأول. وذكر بعض الحافظ: «أنه خارجة بن حصن، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فدعا ورفع يديه حتى رئي

بياض إبطيه» وهو أي بياض الإبط معدود من خصائصه صلى الله عليه وسلم «ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الإكام» بكسر الهمزة، جمع أكمة: وهي التل المرتفع «والظراب» بكسر الظاء المشالة جمع ظرب بفتحها: الروابي الصغار «وبطون الأودية، ومنابت الشجر فانجابت السحابة» أي أقلعت عن المدينة انجياب الثوب. أقول: لعل هذا المطر كان عاما للمدينة وما حولها حتى وصل إلى محل هؤلاء الوفد، وإلا فهم إنما طلبوا حصول المطر لمحلهم، ولا يلزم من وجوده بالمدينة وجوده بمحلهم إلا إذا كان قريبا بالمدينة بحيث إذا وجد المطر بها يوجد بمحلهم غالبا، وقد أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى إلى هذه القصة بقوله: ودعا للأنام إذ دهمتهم ... سنة من محولها شهباء فاستهلت بالغيث سبعة أيا ... م عليهم سحابة وطفاء تتحرى مواضع الرعي والسق ... ي وحيث العطاش توهي السقاء وأتى الناس يشتكون أذاها ... ورخاء يؤذي الأنام غلاء فدعا فانجلى الغمام فقل في ... وصف غيث إقلاعه استسقاء ثم أثرى الثرى وقرت عيون ... بقراها وأحييت إحياء فترى الأرض عنده كسماء ... أشرقت من نجومها الظلماء يخجل الدر واليواقيت من نو ... ر رباها البيضاء والحمراء ثم رأيت في الحدائق لابن الجوزي رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله أن يسقينا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وما في السماء قزعة سحاب، فدار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته الشريفة، قال: فمطرنا يومنا ذلك. ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، ادع الله لنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا قال: فما جعل يشير بيديه إلى ناحية السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجونة حتى سال الوادي شهرا فلم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود. ثم رأيت بعضهم قال: أحاديث الاستسقاء ثابتة في الصحيحين. وظاهرها أنه تعدد، ففي بعضها أنه وقع وهو في خطبة الجمعة، وفي بعضها أنه صعد المنبر حين شكي إليه فخطب ودعا.

وفي بعضها، أنه خرج إلى المصلى بعد أن وعد الناس يوما يخرج فيه ونصب له منبرا واستسقى وأجيبت دعوته ونزل المطر وجاء إليه صلى الله عليه وسلم أعرابي. وقال له: يا رسول الله أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صغير يغط، ثم أنشد شعرا يقول فيه: وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل فقام صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر فدعا فسقي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لو كان أبو طالب حيا لقرت عيناه، من ينشدنا قوله؟ فقام علي كرم الله وجهه فقال: يا رسول الله كأنك تريد قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل الأبيات. فقال صلى الله عليه وسلم: «أجل» . وفي رواية: «لما جاءه صلى الله عليه وسلم المسلمون: وقالوا: يا رسول الله، قحط المطر، ويبس الشجر، وهلكت المواشي وأسنت الناس، فاستسق لنا ربك، فخرج صلى الله عليه وسلم والناس معه يمشون بالسكينة والوقار حتى أتوا المصلى، فتقدم صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب: وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) [الأعلى: الآية 1] ، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) [الغاشية: الآية 1] ، فلما قضى صلاته استقبل الناس بوجهه وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب، ثم جثى صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ورفع يديه وكبر تكبيرة، ثم قال: اللهم اسقنا، وأغثنا غيثا مغيثا رحيما واسعا وجدا، طبقا مغدقا عاما، هنيئا مريئا مربعا مرتعا وابلا، سائلا مسيلا، مجللا دائما، دارّا نافعا، غير ضار، عاجلا غير واب غيثا. اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد. اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل علينا سكنها. اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا، تحيي به بلدة ميتة واسعة، مما خلقت أنعاما وأناسيّ كثيرا، فما برحوا حتى أقبل قزع من السحاب فالتأم بعضه إلى بعض. ثم أمطرت سبعة أيام لا تقلع عن المدينة، فأتاه صلى الله عليه وسلم المسلمون فقالوا: قد غرقت الأرض، وتهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع لله يصرفها عنا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر حتى بدت نواجذه، تعجبا لسرعة ملالة ابن آدم. ثم رفع يديه، ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا. اللهم على رؤوس الظراب، ومنبت الشجر، وبطون الأودية، وظهور الآكام، فتقشعت عن المدينة ثم قال صلى الله عليه وسلم: لله در أبي طالب لو كان حيا قرت عيناه، من الذي ينشدنا قوله؟ فقام علي كرم الله وجهه فقال: يا رسول الله كأنك أردت قوله فقال الأبيات. ومنها وفد بني أسد. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من بني أسد، منهم ضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد وطلحة بن عبد الله الذي ادعى النبوة بعد ذلك، ثم أسلم وحسن إسلامه، ومنهم معاذة بن عبد الله بن خلف.

وقد استهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ناقة تكون جيدة للركوب والحلب، من غير أن تكون لها ولد معها، فطلبها فلم يجدها إلا عند ابن عم له، فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلبها فشرب منها ثم سقاه، ثم قال: اللهم بارك فيها وفيمن منحها، فقال: يا رسول الله وفيمن جاء بها، فقال: وفيمن جاء بها. ومنهم حضرمي بن عامر ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد مع أصحابه، فسلموا عليه، وقال شخص منهم: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إلينا بعثا، ونحن لمن وراءنا. أي وفي لفظ إن حضرمي بن عامر قال: أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء: أي ذات قحط ولم تبعث إلينا. وفي رواية: يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك العرب، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) [الحجرات: الآية 17] . وسألوه صلى الله عليه وسلم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من العيافة وهي زجر الطير، والتخرص على الغيب، والكهانة، وهي الأخبار عن الكائنات في المستقبل، وضرب الحصباء، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله خصلة بقيت، فقال: وما هي؟ قالوا الخط: أي خط الرمل ومعرفة ما يدل عليه، قال صلى الله عليه وسلم: علمه نبي، فمن صادف مثل علمه علم. أي وفي رواية لمسلم: فمن وافق خطه، أي علم موافق خطه فذاك: أي يباح له وإلا فلا يباح له إلا بتبيين الموافقة. أي وفي شرح مسلم أن محصل مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه، أي لأنه لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة، وكأنه صلى الله عليه وسلم قال: لو علمتم موافقته، لكن لا علم لكم بها، وأقاموا أياما يتعلمون الفرائض، ثم جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعوه وأمر لهم بجوائز ثم انصرفوا إلى أهليهم. ومنها وفد بني عذرة: قبيلة باليمن، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا من بني عذرة، أي وسلموا بسلام الجاهلية فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من القوم؟ فقال قائلهم: من بني عذرة: أي أخو قصي لأمه: نحن الذين عضدوا قصيا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، فلنا قرابات وأرحام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بكم وأهلا: أي لقيتم رحبا وأتيتم أهلا، فاستأنسوا ولا تستوحشوا، ما أعرفني بكم، قال: ثم قال صلى الله عليه وسلم لهم: فما يمنعكم من تحية الإسلام؟ قالوا: يا محمد كنا على ما كان عليه آباؤنا، فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولقومنا، وقالوا إلام تدعو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تشهدوا أني رسول الله إلى الناس كافة، فقال متكلمهم: فما وراء ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس تحسن

طهورهن وتصليهن لمواقيتهن فإنه أفضل العمل، ثم ذكر لهم صلى الله عليه وسلم باقي الفرائض من الصيام والزكاة والحج انتهى فأسلموا، وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الشام عليهم، وهرب هرقل إلى ممتنع بلاده، ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن سؤال الكاهنة: أي فقد قالوا: يا رسول الله إن فينا امرأة كاهنة قريش والعرب يتحاكمون إليها، أفنسألها عن أمور؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تسألوها عن شيء. ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن الذبائح التي كانوا يذبحونها إلى أصنامهم، وقالوا نحن أعوانك وأنصارك، ثم انصرفوا وقد أجيزوا، أي وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهم بردا. ومنها وفد بني بليّ على وزن علي مكبرا، وهو حي من قضاعة. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من بلي، منهم- وهو شيخهم- أبو الضبيب تصغير الضب: الدابة المعروفة، نزلوا على رويفع بن ثابت البلوي، وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: هؤلاء قومي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بك وبقومك، فأسلموا، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فمن مات منكم على غير الإسلام فهو في النار. قال: وفي رواية عن رويفع رضي الله تعالى عنه قال: قدم وفد قومي، فأنزلتهم عليّ، ثم خرجت بهم حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه، فسلمنا عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: رويفع؟ فقلت: لبيك، قال: من هؤلاء القوم؟ قلت: قومي يا رسول الله، قال: مرحبا بك وبقومك. قلت: يا رسول الله قدموا وافدين عليك مقرّين بالإسلام وهم على من وراءهم من قومهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يهديه للإسلام» فتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا وفدنا إليك لنصدّقك، ونشهد أنك نبي حق، ونخلع ما كنا نعبد وكان يعبد آباؤنا، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار انتهى. وقال له أبو الضبيب: يا رسول الله إن لي رغبة في الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟ قال: نعم، وكل معروف صنعته إلى غنيّ أو فقير فهو صدقة، فقال: يا رسول الله ما وقت الضيافة؟ قال: ثلاثة أيام فما بعد ذلك صدقة، ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحوجك: أي يضيق عليك، أي وفي لفظ: فيؤثمك: أي يعرضك للإثم: أي تتكلم بسيء القول، قال: يا رسول الله أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض؟ قال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب. قال: فالبعير؟ قال: ما لك وله؟ دعه يجده صاحبه. قال رويفع: ثم قاموا فرجعوا إلى منزلي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي منزلي يحمل تمرا، فقال: استعن بهذا التمر، فكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجازهم ورجعوا إلى بلادهم.

ومنها وفد بني مرة. وفد عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلا من بني مرة، رأسهم الحارث بن عوف، فقال: يا رسول الله إنا قومك وعشيرتك، نحن قوم من بني لؤي بن غالب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للحارث: أين تركت أهلك؟ فقال: بسلاح وما والاها، فقال: كيف البلاد؟ فقال: والله إنا لمسنتون، وما في المال مح: أي صوت يردده فادع الله لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اسقهم الغيث فأقاموا أياما، ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مودعين له فأمر بلالا أن يجيزهم، فأجازهم بعشرة أواق من فضة، وفضل الحارث بن عوف فأعطاه اثني عشر أوقية، أي وهذا يفيد أن كل واحد أعطي عشر أواق، ورجعوا إلى بلادهم فوجدوا البلاد مطيرة، فسألوا قومهم متى مطرتم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخصبت لهم بعد ذلك بلادهم. ومنها وفد خولان، وهي قبيلة من اليمن. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من خولان، فقالوا: يا رسول الله نحن على من وراءنا من قومنا، ونحن مؤمنون بالله عز وجل، مصدقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباط الإبل وركبنا حزون الأرض وسهولها. وحزون كفلوس: وهو ما غلظ منها، والمنة لله ولرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما ذكرتم من مسيركم إليّ، فإن لكم بكل خطوةخطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة. فقالوا: يا رسول الله، هذا السفر الذي لا توى عليه: أي والتوى بفتح المثناة فوق وفتح الواو مقصورا: هو هلاك المال، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل عم أنس؟ وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه، قالوا: بشرّ بدلنا الله تعالى ما جئت به، وقد بقيت منا بعد بقايا شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به، ولو قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى فقد كنا منه في غرور وفتنة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أعظم ما رأيتم من فتنة؟ قالوا: لقد رأيتنا بضم المثناة فوق، أسنتنا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه وابتعنا مائة ثور ونحرناها لعم أنس قربانا في غداة واحدة، وتركناها يردها السباع ونحن أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، ولقد رأينا الغيث يواري الرحال ويقول قائلنا أنعم علينا عم أنس، وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقسمون لهذا الصنم من أموالهم من إنعامهم وحرثهم، فقالوا: كنا نزرع الزرع، فنجعل له وسطه، فنسميه له ونسمي زرعا آخر حجرة: أي ناحية لله، فإذا مالت الريح بالذي سميناه له: أي لله جعلناه لعم أنس، وإذا مالت الريح بالذي سميناه لعم أنس لم نجعله لله، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل عليّ في ذلك وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الأنعام: الآية 136] الآية، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الشياطين

تكلمكم، وسألوه صلى الله عليه وسلم عن فرائض الله فأخبرهم بها صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار لمن جاوروا، وأن لا يظلموا أحدا، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ثم ودعوه صلى الله عليه وسلم بعد أيام وأجازهم: أي أعطى كل واحد اثنتي عشرة أوقية ونشا، ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس. ومنها وفد بني محارب. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من بني محارب وفيهم خزيمة بن سواد، وكانوا أغلظ العرب وأشدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام عرضه نفسه على القبائل في المواسم يدعوهم إلى الله تعالى، فجلسوا عنده يوما من الظهر إلى العصر، وأدام صلى الله عليه وسلم النظر إلى رجل منهم، وقال له: قد رأيتك، فقال له ذلك الرجل: إي والله لقد رأيتني، وكلمتك بأقبح الكلام، ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، ثم قال: يا رسول الله ما كان في أصصحابي أشد عليك يومئذ ولا أبعد عن الإسلام مني، فأحمد الله الذي جاء بي حتى صدقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه القلوب بيد الله عز وجل. فقال: يا رسول الله استغفر لي من مراجعتي إياك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الإسلام يجب ما قبله: يعني الكفر، أي مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه خزيمة بن سواد فصارت له غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفود، ثم انصرفوا إلى أهليهم. ومنها وفد صداء: حيّ من عرب اليمن. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا من صداء. وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم هيأ بعثا أربعمائة من المسلمين استعمل عليهم قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهم، ودفع له لواء أبيض، ودفع إليه راية سوداء، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل منهم، وعلم بالجيش، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله جئتك وافدا على من ورائي، فاردد الجيش، وأنا لك بقومي، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد رضي الله تعالى عنهما وخرج الصدائي إلى قومه، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولئك القوم، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله دعهم ينزلون عليّ، فنزلوا عليه فحباهم بالموحدة: أعطاهم وأكرمهم وكساهم، ثم ذهب بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فبايعوه على الإسلام، وقالوا له: نحن لك على من وراءنا من قومنا فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع، وسمي ذلك الرجل الذي كان سببا في رد الجيش ومجيء الوفد بزياد بن الحارث الصدائي، أي وذكر زياد أنه صلى الله عليه وسلم قال له: يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك، قال: فقلت بلى من منّ الله عز وجل ومنّ رسوله. قال وفي رواية: بل الله هداهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا

أؤمرك عليهم؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فكتب لي كتابا بذلك، فقلت: يا رسول الله مر لي بشيء من صدقاتهم، قال: نعم. فكتب لي كتابا آخر انتهى. قال زياد رضي الله تعالى عنه: وكنت معه صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وكنت رجلا قويا، فلزمت غرزه: أي ركابه، وجعل أصحابه يتفرقون عنه، فلما كان السحر قال صلى الله عليه وسلم: أذّن يا أخا صداء، فأذنت على راحلتي، ثم سرنا حتى نزلنا، فذهب صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع، فقال: يا أخا صداء هل معك ماء؟ قلت معي شيء في إداوتي: أي وهي إناء من جلد صغير. وفي رواية: لا إلا شيء قليل لا يكفيك، قال: هاته، فجئت به، قال: صب، فصببت ما في الإداوة في العقب، أي وهو القدح الكبير، وجعل أصحابه صلى الله عليه وسلم يتلاحقون، ثم وضع صلى الله عليه وسلم كفه في الإناء فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور، ثم قال: يا أخا صداء لولا أني أستحي من ربي عز وجل لسقينا وأسقينا: أي من غير أصل، ثم توضأ وقال: أذن في أصحابي: من كانت له حاجة في الوضوء بفتح الواو فليرد، قال: فورد الناس من آخرهم، ثم جاء بلال يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم فأقمت، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فلما سلم: يعني من صلاته قام رجل يشكو من عامله، فقال: يا رسول الله إنه آخذنا بذحول كانت بيننا وبين قومه في الجاهلية: أي وفي رواية آخذنا بكل شيء كان بيننا وبين قومه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في الإمارة لرجل مسلم، ثم قام رجل آخر، فقال: يا رسول الله أعطني من الصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل لم يكل قسمتها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت جزآ منها أعطيتك، وإن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن، فقلت: يا رسول الله هذان كتاباك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم؟ قلت: إني سمعتك تقول: لا خير في الإمارة لرجل مسلم وأنا رجل مسلم، وسمعتك تقول: من سأل الصدقة وهو عنها غنيّ فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن وأنا غني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن الذي قلت كما قلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على رجل من قومك أستعمله، فدللته صلى الله عليه وسلم على رجل منهم فاستعمله. قلت: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها، وإن كان الصيف قلّ علينا فتفرقنا على المياه، والإسلام فينا قليل، ونحن نخاف، فادع الله عز وجل لنا في بئرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناولني سبع حصيات، فناولته ففركهن في يده الشريفة ثم دفعهن إليّ وقال: إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة حصاة وسمّ الله، قال: ففعلت، فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة. ومنها وفد غسان: اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، ومنهم بنو حنيفة، وقيل غسان قبيلة.

وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من غسان فأسلموا، وقالوا: لا ندري هل تبعنا قومنا أم لا وهم يحبون بقاء ملكهم وقربهم من قيصر، فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوائز، وانصرفوا راجعين إلى قومهم، فلما قدموا عليهم ولم يستجيبوا لهم كتموا إسلامهم. ومنها وفد سلامان بفتح السين وتخفيف اللام. وفي العرب بطون ثلاثة منسوبون إليه: بطن من الأزد، وبطن من طيىء، وبطن من قضاعة وهم هؤلاء. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة نفر من سلامان، فيهم خبيب بن عمرو السلاماني فأسلموا. قال: وعن خبيب رضي الله تعالى عنه: صادفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا من المسجد إلى جنازة دعي إليها، فقلنا: السلام عليك يا رسول الله: فقال: وعليكم السلام من أنتم؟ قلنا: نحن من سلامان قدمنا إليك لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى ثوبان غلامه، فقال: أنزل هؤلاء، وسألنا عن أشياء انتهى. قال خبيث رضي الله تعالى عنه: قلت يا رسول الله ما أفضل الأعمال؟ قال: الصلاة في وقتها، وصلوا معه صلى الله عليه وسلم يومئذ الظهر والعصر، ثم شكوا له صلى الله عليه وسلم جدب بلادهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اسقهم الغيث في دارهم، فقلت يا رسول الله ارفع يديك فإنه أكثر وأطيب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قام صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، وأقمنا ثلاثة أيام وضيافته صلى الله عليه وسلم تجري علينا، ثم ودعناه، وأمر لنا بجوائز، فأعطينا خمس أواق فضة لكل واحد واعتذر إلينا بلال رضي الله تعالى عنه وقال: ليس عندنا اليوم مال، فقلنا: ما أكثر هذا وأطيبه ثم رجعنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت في اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها وفد بني عبس. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من بني عبس فقالوا: يا رسول الله قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش هي معاشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا من آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم أي ينقصكم من أعمالكم شيئا وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد بن سنان هل له عقب؟ فأخبروه أنه لا عقب له كانت له ابنة فانقرضت، وأنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن خالد بن سنان وقال: إنه نبي ضيعه قومه، وجاء: «ليس بيني وبين عيسى عليه الصلاة والسلام نبي» . أي وإذا صح شيء من الأحاديث التي ذكر فيها خالد بن سنان أو غيره يكون معناه: لم يكن بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام نبي مرسل، أي وتقدم ما في ذلك.

ومنها وفد النخع: أي بفتح النون والخاء المعجمة: قبيلة من اليمن، وهم آخر الوفود، وكان وفودهم سنة إحدى عشرة في النصف من المحرم. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا رجل من النخع مقرين بالإسلام وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، فقال رجل منهم يقال له زرارة بن عمرو: يا رسول الله إني رأيت في سفري هذا عجبا: أي وفي رواية: رأيت رؤيا هالتني، قال: وما رأيت؟ قال: رأيت أتانا نركبها في الحي ولدت جديا: أي وهو ولد المعز أسقع أحوى، أي والأسقع الذي سواده مشرب بحمرة، والأحوى: الذي ليس شديد السواد ومن ثم فسر بالأخضر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تركت أمة لك مصرة لك على حمل؟ قال نعم، قال فإنها تلد غلاما وهو ابنك قال: يا رسول الله، فما له أسقع أحوى؟ قال: ادن مني، فدنا منه، فقال: هل بك من برص تكتمه؟ قال: فو الذي بعثك بالحق ما علم به أحد ولا اطلع عليه غيرك، قال هو ذاك، قال: يا رسول الله ورأيت النعمان بن المنذر أي وهو ملك العرب وعليه قرطان. والقرط: ما يكون في شحمة الأذن، ودملجان بضم الدال المهملة وضم اللام وفتحها، ومسكتان بضم الميم وسكون المهملة، قال: ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته، قال: يا رسول الله، ورأيت عجوزا شمطاء: أي يخالط شعر رأسها الأبيض شعر أسود خرجت من الأرض، قال: تلك بقية الدنيا، وقال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، وهي تقول لظى لظى، بصير وأعمى أطعموني أكلكم أهلكم ومالكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فتنة تكون في آخر الزمان، قال: يا رسول الله وما الفتنة؟ قال: يقتل الناس إمامهم ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس، ويشتجرون بالشين المعجمة وبالجيم: أي يشتبكون في الفتنة اشتباك أطباق الرأس، وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه، يحسب المسيء فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن عند المؤمن أسهل. أي وفي لفظ: أحلى من شرب الماء البارد، وإن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك، فقال: يا رسول الله ادع الله أني لا أدركها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يدركها، فمات وبقي ابنه عمرو، ولم يجتمع به صلى الله عليه وسلم، فهو تابعي وكان ممن خلع عثمان رضي الله تعالى عنه. قال: وفي رواية أن النخع بعثت رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم أرطاة بن شرحبيل من بني حارثة والأرقم من بني بكر، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فقبلاه فبايعاه على قومهما، وأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهما وحسن هيئتهما، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل خلفتما وراء كما من قومكما مثلكما؟ قالا: لا يا رسول الله، قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلا كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء ما يشاء، فدعا لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقومهما بخير،

وقال: اللهم بارك في النخع. وعقد صلى الله عليه وسلم لأرطاة لواء على قومه، فكان في يده يوم الفتح، وشهد به القادسية، وقتل يومئذ رضي الله تعالى عنه اه. وقوله وكان في يده يوم الفتح لا يناسب ما تقدم أن وفد النخع كان قدومه في سنة إحدى عشرة، إلا أن يقال هذين وفدا قبل وفود ذلك الجمع. وقد ترك الأصل التعرض لجملة من الوفود وذكرت في السيرة العراقية والسيرة الهشامية تركناها تبعا للأصل. منها أن عمرو بن مالك وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: حتى نصيب من بني عقيل مثل ما أصابوا منا فكان بينهم وبين بني عقيل مقتلة، وكان عمرو بن مالك هذا من جملة من قاتل معهم، فقتل رجلا من بني عقيل، قال عمرو: فشددت يدي في غل وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه ما صنعت، فقال صلى الله عليه وسلم: إن أتاني لأضرب ما فوق الغل من يده، فلما جئت سلمت فلم يرد عليّ السلام وأعرض عني، فأتيته عن يمينه فأعرض عني، فأتيته عن يساره فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، فقلت: يا رسول الله إن الرب عز وجل ليترضى فيرضى، فارض عني رضي الله تعالى عنك، قال: رضيت. وتقدم أنه قد جاء في الصحيح: «لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» والله أعلم.

باب بيان كتبه صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام

باب بيان كتبه صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام أي في الغالب، وإلا فمنها ما ليس كذلك، وهذه غير كتبه صلى الله عليه وسلم التي كتبها بالأمان التي تقدم ذكرها. أي ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتب للملوك قيل له: يا رسول الله إنهم لا يقرؤون كتابا إلا إذا كان مختوما: أي ليكون في ذلك إشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم. وفيه أن هذا واضح إذا كان الختم عليها بعد طيها، ويجعل عليها نحو شمع ويختم فوق ذلك. والظاهر أن ذلك لم يكن، وحينئذ يكون الغرض من ذلك أمن التزوير لبعده مع الختم، فاتخذ صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة، أي بعد أن اتخذ خاتما من ذهب، فاقتدى به صلى الله عليه وسلم ذو اليسار من أصحابه، فصنعوا خواتيم من ذهب. ولما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لبس أصحابه رضي الله تعالى عنهم خواتيمهم، فجاءه جبريل عليه السلام بعد من الغد بأن لبس الذهب حرام على ذكور أمتك، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الخاتم، فطرح أصحابه خواتيمهم، وكان نقش خاتمه الفضة ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر. وفي حديث موضوع: كان نقش خاتمه صدق الله: وفي رواية شاذة أنه بسم الله محمد رسول الله، والأسطر الثلاثة تقرأ من أسفل إلى فوق، فمحمد آخر الأسطر، ورسول في الوسط، والله فوق، كذا قال بعض أئمتنا. قال في النور: والذي يظهر لي أن هذه الكتابة كانت مقلوبة حتى إذا ختم بها يختم على الاستواء كما في خواتم الكبراء اليوم. وختم صلى الله عليه وسلم بذلك الخاتم الكتب وكان في يده الشريفة، ثم في يد أبي بكر، ثم في يد عمر، ثم في يد عثمان رضي الله تعالى عنهم، حتى وقع في بئر أريس في السنة التي توفي فيها عثمان رضي الله تعالى عنه، فالتمسوه ثلاثة أيام فلم يجدوه. وذكر أن هذا الخاتم الذي كان في يده صلى الله عليه وسلم ثم في يد أبي بكر ثم في يد عمر ثم في يد عثمان رضي الله تعالى عنهم، كان الخاتم الحديد الذي كان ملويا عليه الفضة، وأنه الذي كان في يد خالد بن سعيد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما نقش هذا الخاتم، قال: محمد رسول الله، قال: اطرحه إليّ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبسه،

فكان في يده ثم في يد أبي بكر الحديث. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: «أنه صلى الله عليه وسلم لبس خاتم فضة فصه حبشي أي من جذع» لأنه يؤتى به من بلاد الحبشة. وقيل صنف من الزبرجد، وأنه الذي نقش فيه «محمد رسول الله» وفي لفظ: «فصة منه» وفي لفظ «فصه من عقيق» . أي ولا ينافي ذلك وصفه بأنه حبشي، لأن العقيق يؤتى به من بلاد الحبشة، ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم لبس خاتما كله عقيق. وفي الحديث: «تختموا بالعقيق فإنه مبارك، تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر» . قيل وكان خاتمه صلى الله عليه وسلم في خنصر يده اليسرى، وهو المرويّ عن عامة الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين. وقيل كان في خنصر يمينه صلى الله عليه وسلم، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وطائفة، ومنهم عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه وقبض والخاتم في يمينه، قال بعضهم: وهذا رواه عبيدة بن القاسم وهو كذاب: أي وهو يخالف ما جمع به البغوي بأنه تختم أولا في يمينه ثم تختم به في يساره، وكان ذلك آخر الأمرين. وروى أشعب الطامع عن عبد الله بن جعفر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمنى» . قال الإمام النووي رحمه الله: التختم في اليمين أو اليسار كلاهما صح فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه في اليمين أفضل، لأنه زينة واليمين بها أولى، هذا كلامه، أي ولأن ابن حاتم نقل عن أبي زرعة أنه كان في يمينه صلى الله عليه وسلم أكثر منه في يساره وكان يجعل فصه مما يلي كفه، وتقدم أن الخاتم الذي لبسه صلى الله عليه وسلم يوما وألقاه كان من الذهب، وقيل كان ذلك الخاتم من حديد. وقد قال صلى الله عليه وسلم للابس خاتم الحديد: «ما لي أرى عليك حلية أهل النار» فطرحه، ولعله لكون سلاسل أهل النار وأغلالهم وقيودهم من حديد، أي ثم جاء وعليه خاتم من صفر: أي نحاس فقال: «ما لي أجد فيك ريح الأصنام» ولعل الأصنام كانت تتخذ من نحاس غالبا، ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب فقال: «ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة» أي المختص إباحتها بأهل الجنة في الجنة قال: «يا رسول الله: من أي شيء أتخذه؟ قال: من ورق ولا تتمه مثقالا» أي وزن مثقال، لكن في رواية أبي دواد: «ولا تتمه مثقالا ولا قيمة مثقال» وهي تفيد أن الخاتم إذا كان دون مثقال وزنا لكن بلغ بالصنعة قيمة مثقال كان منهيا عنه. وفي الحديث: «ما طهر الله كفا فيه خاتم من حديد» وهو يفيد كراهة لبس الخاتم الحديد.

ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى قيصر

وفي كلام الشمس العلقمي: ولا يكره كونه من نحو حديد ونحاس، لحديث الشيخين: «التمس ولو خاتما من حديد» فليتأمل. وعند عزمه صلى الله عليه وسلم على إرسال الكتب وتكلم مع أصحابه في ذلك خرج على أصحابه يوما فقال: «أيها الناس إن الله بعثني رحمة وكافة، فأدوا عني رحمكم الله، ولا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم عليه السلام، فقال أصحابه رضي الله تعالى عنهم: وكيف اختلف الحواريون على عيسى عليه السلام يا رسول الله؟ قال: دعاهم لمثل ما دعوتكم له، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وأبي، فشكا ذلك عيسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذين وجه إليهم» . ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى قيصر المدعو هرقل ملك الروم على يد دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه، والدحية: بلسان اليمن الرئيس. وقيصر معناه في اللغة البقير لأنه شق عنه، لأن أم قيصر ماتت في المخاض فشق عنه وأخرج فسمي قيصر، وكان يفتخر بذلك ويقول: لم أخرج من فرج، أي لأن كل من ملك الروم يقال له قيصر. كتب صلى الله عليه وسلم كتابا لقيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث به دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه، وأمره أن يدفعه إلى قيصر ففعل كذلك، أي بعد أن قال صلى الله عليه وسلم: «من ينطلق بكتابي هذا، فيسير إلى هرقل وله الجنة؟» . وقيل أمر صلى الله عليه وسلم دحية أن يدفعه إلى عظيم بصرى وهو الحارث ملك غسان ليدفعه إلى قيصر. ولما انتهى دحية رضي الله تعالى عنه إلى الحارث أرسل معه عديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه ليوصله إلى قيصر، فذهب به إليه، فقال قومه لدحية رضي الله تعالى عنه: إذا رأيت الملك فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك. قال دحية رضي الله تعالى عنه: لا أفعل هذا أبدا ولا أسجد لغير الله، قالوا: إذن لا يؤخذ كتابك، فقال له رجل منهم: أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك ولا تسجد له، فقال دحية رضي الله تعالى عنه وما هو؟ فقال: إن له على كل عتبة منبرا يجلس عليه، فضع صحيفتك تجاه المنبر فإن أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ثم يدعو صاحبها ففعل، فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، ثم قال: انظروا لنا من قومه أحدا نسأله عنه، وكان أبو

سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنه بالشام، أي بغزة مع رجال من قريش في تجارة زمن هدنة الحديبية، أي وكان أولها في ذي القعدة سنة ست. وقيل كتب إليه صلى الله عليه وسلم من تبوك، وذلك في السنة التاسعة. وجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كتب لقيصر مرتين، والأول ما هو في الصحيحين، والثاني قاله السهيلي، واستدل له بخبر في مسند الإمام أحمد: أي وأغرب من قال إن الكتابة له كانت سنة خمس. قال أبو سفيان: فأتانا رسول قيصر: أي وهو والي شرطته، فانطلق بنا حتى قدمنا عليه: أي في بيت المقدس، فإذا هو جالس وعليه التاج وعظماء الروم حوله، فقال لترجمانه: أي وهو المعبر عن لغة بلغة وهو معرّب. وقيل اسم عربي، سلهم أيهم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ أي وفي لفظ: لهذا الرجل الذي خرج بأرض العرب يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان، أنا أقربهم نسبا إليه، لأنه لم يكن في الركب يومئذ من بني عبد مناف غيري: أي لأن عبد مناف هو الأب الرابع له صلى الله عليه وسلم وكذا لأبي سفيان، أي وزاد في لفظ: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي، فقال له: ادن مني ثم أمر بأصحابي، فجعلوا خلف ظهري ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إنما قدمت هذا أمامكم كي أسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وإنما جعلتكم خلف ظهره لتردوا عليه كذبا إن قاله: أي حتى لا تستحيوا أن تشافهوه بالتكذيب إذا كذب، قال أبو سفيان: فو الله لولا الحياء يومئذ أن يردوا عليّ كذبا لكذبت، ولكني استحيت، فصدقت وأنا كاره، أي وفي رواية: لولا مخافة أن يؤثر عني الكذب لكذبت: أي لولا خفت أن ينقل عني الكذب إلى قومي ويتحدثوا به في بلادي لكذبت عليه، لبغضي إياه ومحبتي نقصه، وبه يعلم أن الكذب من القبائح جاهلية وإسلاما. ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قلت: هو منا ذو نسب. قال: قل له هل قال هذا القول أحد منكم قبله؟ قلت: لا قال: قل له هل كنتم تتهمونه بالكذب على الناس قبل أن يقول ما قال؟ قلت لا. أي وفي رواية: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره لعله يطلب ملكا وشرفا كان لأحد من أهل بيته قبله. قال: هل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا، أي وزاد في رواية: كيف عقله ورأيه؟ قال لم نعب عليه عقلا ولا رأيا قط. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، أي والمراد بأشراف الناس أهل النخوة وأهل التكبر، فلا يرد مثل أبي بكر وعمر وحمزة رضي الله تعالى عنهم ممن أسلم قبل هذا السؤال. وعند ابن إسحاق رحمه الله تعالى: تبعه منا الضعفاء والمساكين والأحداث، وأما ذوو الأحساب والشرف فما تبعه منهم أحد، وهو محمول على الأكثر الأغلب: أي الأكثر والأغلب أن أتباعه صلى الله عليه وسلم ضعفاء. قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه: أي كراهة له وعدم رضا به بعد أن

يدخل فيه؟ قلت لا. ولا يقال هذا منقوض بما لعبد الله بن جحش حيث ارتد ببلاد الحبشة لأنه يرتد كراهية للإسلام بل لغرض نفساني كما تقدم. قال: فهل يغدر إذا عاهد؟ قلت لا ونحن الآن منه في ذمة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت دول وسجال، ندل عليه مرة أي كما في أحد، ويدال علينا أخرى أي كما في بدر، وقد تقدم في أحد أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قال يوم أحد يوم بيوم بدر والحرب سجال: أي نوب. وفي لفظ قال أبو سفيان: انتصر علينا مرة يوم بدر وأنا غائب ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وبجدع الآذان والأنوف والفروج، وأشار بذلك إلى يوم أحد. قال: فما يأمركم به؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا أي والذي في البخاري يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة. وفي لفظ: والزكاة. وفي لفظ جمع بين الصدق والصدقة والعفاف أي ترك المحارم وخوارم المروءة، ويأمرنا بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة. فقال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل هذا القول قاله أحد منكم قبله فزعمت أن لا فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت هو يأتم بقول قيل قبله. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى. وسألتك: هل كان من آبائه ملك فقلت لا فلو كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل: أي لأن الغالب أن أتباع الرسل أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار. وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل يرتد أحد منهم سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، إذا حصل به انشراح الصدور والفرح به لا يسخطه أحد. وسألتك: هل قاتلتموه؟ قلت نعم، وإن حربكم وحربه دول وسجال يدال عليكم مرة وتدالون عليه أخرى، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون له العاقبة. وسألتك ماذا يأمركم به فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. أي وفي البخاري: وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر: أي لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يناله طالبه إلا بالغدر، فعلمت أنه نبي. وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه فيكم، وإن كان ما حدثني به حقا فيوشك: أي يقرب أن يملك موضع قدمي هاتين.

أي وذكر بعضهم أن هذا يدل على أن هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل كانت عنده في الكتب القديمة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم. وفيه أن هذا لا يأتي مع قوله ما تقدم إذ هو يقتضي أن ذلك علامة على رسالة كل رسول ثم قال قيصر: ولو أعلم أني أخلص أي أصل إليه لتجشمت: أي تكلفت مع المشقة لقيه. أي وفي لفظ آخر: لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ولا عذر له في هذا، لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما شح بالملك، فطلب الرياسة وآثرها على الإسلام، ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب إليه: «أسلم تسلم» وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم لو أسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله. ثم قال: ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه: أي مبالغة في خدمته والتعبد له، ولا أطلب منه ولاية ولا منصبا. قال أبو سفيان: ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرىء عليه، فإذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى» أي ومن لم يتبع الهدى فلا سلام عليه، فليس في هذا بداءة الكافر بالسلام «أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام» أي بالكلمة الداعية للإسلام وهي كلمة التوحيد أي إليها، فالباء موضع إلى «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» أي لإيمانك بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو لإيمان أتباعك بسبب إيمانك «فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين» أي فلاحين القرى: أي ومن ثم جاء في رواية: «إثم الفلاحين» وفي رواية «إثم الأكارين» والأكار: الفلاح، لأن أهل السواد وما والاهم أهل فلاحة، والمراد إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك. وخص هؤلاء بالذكر لأنهم أسرع انقيادا من غيرهم، لأن الغالب عليهم الجهل والجفاء وقلة الدين، والمراد عليك مع إثمك إثم رعاياك، لأنه إذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا، فهو متسبب في عدم إسلامهم، والفاعل لمعصية المتسبب لارتكاب غيره لها عليه الإثم من جهتين: جهة فعله وجهة تسببه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) [آل عمران: الآية 64] والواو في قوله صلى الله عليه وسلم: «ويا أهل الكتاب» عاطفة على مقدر معطوف على قوله أدعوك. والتقدير أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك يا أهل الكتاب.

قيل وهذه الآية كتبها صلى الله عليه وسلم قبل نزولها لأنها إنما نزلت في وفد نجران، وذلك في سنة تسع. وهذه القصة كانت في سنة ست، وقيل بعد نزولها لأن نزولها كان في أول الهجرة في شأن اليهود. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وجوز بعضهم نزولها مرتين وهو بعيد كذا قال فليتأمل. قال أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: فلما قضى مقالته وفرغ من الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم: أي أصواتهم التي لا تفهم. وفي البخاري: كثر عنده الصخب: وارتفاع الأصوات. والصخب. اختلاط الأصوات عند المخاصمة. زاد البخاري: فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا، فلما خرجت أنا وأصحابي وخلصنا قلت لهم لقد أمر أمر ابن أبي كبشة: أي عظم أمره، هذا ملك بني الأصفر يخافه، فما زلت موقنا أن سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام، أي فأظهرت ذلك اليقين لأنه ارتفع. وفي لفظ: فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت. وقد تقدم الكلام على كبشة، وهو أن جد وهب لأمه أبو آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم كان يكنى أبا كبشة. قال في شرح مسلم: وهو الذي كان يعبد الشعرى، وأبو سلمة أم جده عبد المطلب كان يكنى أبا كبشة، وزوج مرضعته صلى الله عليه وسلم كان يكنى أبا كبشة، وتقدم الكلام أيضا على بني الأصفر. ويروى أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قال لقيصر لما سأله: هل كنتم تتهمونه بالكذب؟ فقال: لا لكن أخبرك عنه أيها الملك خبرا تعرف به أنه قد كذب، قال: وما هو؟ قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح، فقال بطريق: أي قائد من قواد الملك كان واقفا عند رأس قيصر: صدق أيها الملك، فنظر إليه قيصر، فقال: ما أعلمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول جبلا، فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا: لا نستطيع أن نحركه حتى نصبح، فلما أصبحت جئت إليه فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب. قال في النور: الذي يظهر لي أنه الصخرة: أي المراد بالصخرة في بعض الروايات كما قدمناه، وإذا فيه أثر مربط الدابة فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا لهذا الأمر، فقال قيصر لقومه: يا قوم ألستم تعلمون أن بين يدي الساعة نبيا بشركم به عيسى ابن مريم ترجون أن يجعله الله فيكم؟ قالوا: بلى، قال: فإن الله قد جعله في غيركم، وهي رحمة الله عز وجل يضعها حيث يشاء، أي وأمر بإنزال دحية وإكرامه.

وذكر أن ابن أخي قيصر أظهر الغيظ الشديد وقال لعمه: قد ابتدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، ألق به: يعني الكتاب، فقال له: والله إنك لضعيف الرأي، أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر؟ هو أحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق، أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه. أي وفي لفظ أن أخا قيصر لما سمع الترجمان يقرأ: «من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم ضرب في صدر الترجمان ضربة شديدة، ونزع الكتاب من يده، وأراد أن يقطعه، فقال له قيصر: ما شأنك؟ فقال: تنظر في كتاب رجل قد بدأ بنفسه قبلك وسماك قيصر صاحب الروم وما ذكر لك ملكا؟ فقال له قيصر: إنك أحمق صغير أو مجنون كبير، أتريد أن تمزق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه؟ ولعمري إن كان رسول الله كما يقول لنفسه أحق أن يبدأ بها مني، ولئن سماني صاحب الروم لقد صدق، ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم، ولكن الله سخرهم لي، ولو شاء لسلطهم عليّ كما سلط فارس على كسرى فقتلوه. ولما جاء صلى الله عليه وسلم الخبر عن قيصر قال: «ثبت ملكه» وفي لفظ: «سيكون لهم بقية، ولقد صدق الله ورسوله» . فقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أن الملك المنصور قلاوون أرسل بعض أمرائه إلى ملك المغرب بهدية فأرسله ملك المغرب إلى الفرنج في شفاعة فقبله وأكرمه وقال له لأتحفنك بتحفة سنية فأخرج له صندوقا مصفحا بالذهب وأخرج منه مقلمة، وفي لفظ قصبة من الذهب. فعن السهيلي رحمه الله تعالى قال: بلغني أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيما له، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصق عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وذكر لنا آباؤنا عن آبائهم أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزول الملك عنا فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه، ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا، أي ولا ينافيه ما جاء: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده» لأن المراد إذا زال ملكه عن الشام لا يخلفه فيه أحد، وكان كذلك لم يبق إلا ببلاد الروم. أي ويروى أن قيصر لما رجع من بيت المقدس إلى محل دار ملكه وهي حمص، أي فإنه لما ظهر على الفرس وأخرجهم من بلاده نذر أن يأتي بيت المقدس ماشيا شكرا لله، فلما أراد الذهاب إلى بيت المقدس ماشيا بسط له البسط وطرح له عليها الرياحين، ولا زال يمشي على ذلك إلى أن وصل إلى بيت المقدس كما سيأتي، فلما رجع إلى حمص كان له فيها قصر عظيم، فأغلق أبوابه وأمر مناديا ينادي: ألا إن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه، فدخلت الأجناد في سلاحها وطافت تريد قتله فأرسل إليهم: إني أردت اختبار صلابتكم في دينكم، فقد رضيت فرضوا عنه.

ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس على يد عبد الله بن حذافة، أي لأنه كان يتردد عليه كثيرا

والذي في البخاري أن قيصر لما سار إلى حمص أذن لعظماء الروم في دسكرة له، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع، فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد أغلقت، فلما رأى قيصر نفرتهم وأيس من الإيمان منهم أي وقالوا له اتدعونا أن نترك النصرانية ونصير عبيدا لأعرابي، فقال ردوهم عليّ وقال: إني قلت مقالتي أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه. وعند ذلك كتب كتابا وأرسله مع دحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه إني مسلم ولكنني مغلوب، وأرسل بهدية، فلما قرىء عليه صلى الله عليه وسلم الكتاب قال: كذب عدو الله، ليس بمسلم، وقبل صلى الله عليه وسلم هديته وقسمها بين المسلمين، ومصداق قوله صلى الله عليه وسلم: أن قيصر بعد هذه القصة بدون سنتين قاتل المسلمين بغزوة مؤتة. وفي صحيح ابن حبان عن أنس رضي الله تعالى عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أيضا من تبوك يدعوه وأنه قارب الإجابة ولم يجب» وفي مسند الإمام أحمد: «أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب إنه على نصرانيته» . وفي لفظ: «كذب عدو الله والله إنه ليس بمسلم» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن: أي أظهر التصديق، لكنه لم يستمر عليه ولم يعمل بمقتضاه، بل شح بملكه، وآثر العافية على العاقبة لعنة الله عليه، أي لأنه تحقق كفره أي وقد ذكر حامل كتابه إليه صلى الله عليه وسلم قال جئت تبوك فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: هو هذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره، ثم قال: من أنت؟ قلت: أنا أحد تنوخ، قال: هل لك في الإسلام دين الحنيفة ملة إبراهيم؟ قلت إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) [القصص: الآية 56] فلما فرغ من قراءة كتابي قال: إن لك حقا، وإنك رسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا قوم سفر، فقال رجل: أنا أجوزه، فأتى بحلة فوضعها في حجري، فسألت عنه؟ فقيل لي: إنه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس على يد عبد الله بن حذافة، أي لأنه كان يتردد عليه كثيرا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي، وقيل أخاه خنيسا، وقيل أخاه خارجة، وقيل شجاع بن وهب، وقيل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم إلى

كسرى، وبعث معه كتابا مختوما فيه «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس» أي الذين هم أتباعك. قال عبد الله بن حذافة رضي الله تعالى عنه: فأتيت إلى بابه وطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرىء عليه، فأخذه ومزقه. أي وفي رواية: «أن كسرى لما أعلم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن بحامل الكتاب أن يدخل عليه، فلما وصل أمر كسرى أن يقبض منه الكتاب، فقال: لا، حتى أدفعه إليك كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كسرى ادنه، فدنا فناولته الكتاب، فدعا من يقرؤه، فقرأه فإذا فيه: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس، فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وصاح ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بإخراج حامل ذلك الكتاب فأخرج، فلما رأى ذلك قعد على راحلته وسار، فلما ذهب عن كسرى سورة غضبه، بعث فطلب حامل الكتاب فلم يجده، فلما وصل إليه صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر قال صلى الله عليه وسلم: مزق كسرى ملكه» . وكتب كسرى إلى بعض أمرائه باليمن له باذان: إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلا فابعث إليّ برأسه، يكتب إليّ هذا الكتاب: أي الذي بدأ فيه بنفسه وهو عبدي، أي وفي رواية: إن تكفيني رجلا خرج بأرضك يدعوني إلى دينه وإلا فعلت فيك كذا يتوعده، فابعث إليه برجلين جلدين فيأتياني به، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قهرمانه، وبعث معه رجلا آخر من الفرس، وبعث معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فخرجا وقدما الطائف، فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف. فسألاه عنه، فقال: هو بالمدينة. فلما قدما عليه صلى الله عليه وسلم المدينة قالا له: شاهنشاه ملك الملوك كسرى بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك، وقد بعثنا إليك فإن أبيت هلكت وأهلكت قومك وخربت بلادك، وكانا على زي الفرس من حلق لحاهم وإعفاء شواربهم، فكره صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، ثم قال لهما: ويلكما، من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي، ثم قال لهما: ارجعا حتى تأتياني غدا، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه يقتله في شهر كذا في ليلة كذا، فلما كان الغد دعاهما وأخبرهما الخبر، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى باذان: إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى يوم كذا من شهر كذا. فلما أتى الكتاب

ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة على يد عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه

باذان توقف، وقال إن كان نبيا فسيكون ما قال، فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد ولده شيرويه، قيل قتله ليلا بعد ما مضى من الليل سبع ساعات فيكون المراد باليوم في تلك الرواية مجرد الوقت: أي وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم لرسول باذان: اذهب إلى صاحبك وقل له إن ربي قد قتل ربك الليلة، ثم جاء الخبر بأن كسرى قتل تلك الليلة فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه صلى الله عليه وسلم هلاك كسرى قال: «لعن الله كسرى، أول الناس هلاكا فارس ثم العرب» . وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لتفتحن عصابة من المسلمين أو المؤمنين أو رهط من أمتي كنوز كسرى التي في القصر الأبيض» فكنت أنا وأبي فيهم، وأصبنا من ذلك ألف درهم وقدم على باذان كتاب ولد كسرى شيرويه، فيه: أما بعد، فقد قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضبا لفارس فإنه قتل أشرافهم. فتفرق الناس، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى يكتب إليك فيه فلا تزعجه حتى يأتيك أمري فيه، فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا وفي رواية أنه قيل له صلى الله عليه وسلم: إن كسرى قد استخلف ابنته. فقال: «لا يفلح قوم تملكهم امرأة» . ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة على يد عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، سلم أنت: أي أنت سالم» لأن السلم يأتي بمعنى السلامة «فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن. وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة» : أي العفيفة: أي المنقطعة عن الرجال التي لا شهوة لها فيهم، أو المنقطعة عن الدنيا وزينتها، ومن ثم قيل لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم البتول «فحملت بعيسى. حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والمولاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى» فلما وصل إليه الكتاب وضعه على عينيه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض، ثم أسلم ودعا بحق من عاج، أي وهو الفيل، وجعل فيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لن تزال الحبشة

بخير ما كان هذا الكتاب بين أظهرهم. أي وفي كلام بعضهم: بعث صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فكان أول رسول، وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، وفي الآخر يأمره أن يزوجه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، فأخذ الكتابين وقبلهما ووضعهما على رأسه وعينيه، ونزل عن سريره تواضعا، ثم أسلم وشهد شهادة الحق. وكتب إليه صلى الله عليه وسلم النجاشي: أي جواب الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من النجاشي أصحمة، السلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته الذي لا إله إلا هو. زاد في لفظ: الذي هداني للإسلام. أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فورب السماء والأرض إن عيسى عليه الصلاة والسلام لا يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعث به إلينا. وقد قرّبنا ابن عمك وأصحابه، يعني جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين رضي الله عنهم، فأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، أي جعفر بن أبي طالب، وأسلمت على يده لله رب العالمين. أي وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «اتركوا الحبشة ما تركوكم» . وذكر أن عمرو بن أمية رضي الله عنه قال للنجاشي. أي عند إعطائه الكتاب: يا أصحمة إن عليّ القول وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منا وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نحفظك على شرّ قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم، والإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يردّ، وقاض لا يجور، في ذلك موقع الخير وإصابة الفضل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم كاليهود في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه لخير سالف وأجر ينتظر، فقال النجاشي: أشهد بالله إنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى عليه الصلاة والسلام براكب الحمار كبشارة عيسى عليه الصلاة والسلام براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر. زاد بعضهم: ولكن أعواني من الحبشة قليل، فأنظرني حتى أكثر الأعوان وألين القلوب. أقول: كذا في الأصل، وهو صريح في أن هذا المكتوب إليه هو الذي هاجر إليه المسلمون سنة خمس من النبوة، ونعاه صلى الله عليه وسلم يوم توفي وصلى عليه بالمدينة منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك، وذلك في السنة التاسعة. والذي قاله غيره كابن حزم أن هذا النجاشي الذي كتب إليه صلى الله عليه وسلم الكتاب وبعث به عمرو بن أمية الضمري لم يسلم، وأنه غير النجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم الذي آمن به وأكرم أصحابه، وفي صحيح مسلم ما يوافق ذلك.

ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمقوقس ملك القبط

ففيه عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النجاشي الذي كتب إليه ليس بالنجاشي الذي صلى عليه. ويردّ بأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم كتب للنجاشي الذي صلى عليه وللنجاشي الذي تولى بعده على يد عمرو بن أمية فلا مخالفة. ومن ثم قال في النور: والظاهر أن هذه الكتابة متأخرة عن الكتابة لأصحمة الرجل الصالح الذي آمن به صلى الله عليه وسلم وأكرم أصحابه هذا كلامه. وفيه أن رد الجواب على النبي صلى الله عليه وسلم بالكتاب المذكور ورده على عمرو بن أمية بقوله أشهد بالله النبي الذي ينتظره أهل الكتاب إلى آخره إنما يناسب الأوّل الذي هو الرجل الصالح ويكون جواب الثاني لم يعلم، وقد تقدم عن ابن حزم أنه لم يسلم. وقال بعضهم: إنه الظاهر، وحينئذ يكون الراوي خلط فوهم أن المكتوب إليه ثانيا هو المكتوب إليه أوّلا كما أشار إليه في الهدى، والله أعلم. ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمقوقس ملك القبط وهم أهل مصر والإسكندرية وليسوا من بني إسرائيل- على يد حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى المقوقس، أي فإنه صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من الحديبية، قال: أيها الناس، أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله، فوثب إليه حاطب رضي الله عنه، وقال، أنا يا رسول الله، قال: بارك الله فيك يا حاطب، قال حاطب رضي الله عنه: فأخذت الكتاب وودّعته صلى الله عليه وسلم، وسرت إلى منزلي، وشددت على راحلتي، وودعت أهلي وسرت. زاد السهيلي: وأنه صلى الله عليه وسلم أرسل مع حاطب جبيرا مولى أبي رهم الغفاري، فإن جبيرا هو الذي جاء بمارية من عند المقوقس. واعترض بأن هذا لا يلزمه أن يكون صلى الله عليه وسلم أرسل جبيرا مع حاطب للمقوقس، لجواز أن يكون المقوقس أرسل جبيرا مع حاطب. والمقوقس لقب، وهو لغة: المطول للبناء، واسمه جريج بن مينا. وبعث معه صلى الله عليه وسلم كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتّين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط» أي الذين هم رعاياك، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: الآية 64] وختم الكتاب، وجاء به حاطب رضي الله عنه حتى دخل على المقوقس بالإسكندرية: أي بعد أن

ذهب إلى مصر فلم يجده فذهب إلى الإسكندرية، فأخبر أنه في مجلس مشرف على البحر، فركب حاطب رضي الله عنه سفينة وحاذى مجلسه، وأشار بالكتاب إليه، فلما رآه أمر باحضاره بين يديه، فلما جيء به نظر إلى الكتاب وفضه وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه: أي من قومه، وأخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلط عليهم، فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت، فقال له حاطب: ألست تشهد أن عيسى ابن مريم رسول الله؟ فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله تعالى حتى رفعه الله إليه؟ قال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم، ثم قال له حاطب رضي الله عنه: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى يعني فرعون فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) [النّازعات: الآية 25] فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك، إن هذا النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له يهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي. ولسنا ننهاك عن دين المسيح عليه السلام، ولكنا نأمرك به. فقال: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضالّ ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة النبوّة بإخراج الخبء بفتح الخاء المعجمة وهمز في آخره: أي الشيء الغائب المستور، والإخبار بالنجوى، أي يخبر بالمغيبات وسأنظر، وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وجعله في حق عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له. ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك. أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك» ، أي فإنه قد دفع له مائة دينار وخمسة أثواب «وبعثت لك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم» أي وهما مارية وسيرين بالسين المهملة مكسورة «وبثياب: أي وهي عشرون ثوبا من قباطي مصر» قال بعضهم: وبقيت تلك الثياب حتى كفن صلى الله عليه وسلم في بعضها. وفي كلام هذا البعض: وأرسل له صلى الله عليه وسلم عمائم وقباطي وطيبا وعودا وندا ومسكا مع ألف مثقال من الذهب ومع قدح من قوارير، فكان صلى الله عليه وسلم يشرب فيه، أي لأنه سأل حاطبا رضي الله عنه فقال: أي طعام أحب إلى صاحبكم؟ قال: الدباء: يعني القرع، ثم قال له: في أي شيء يشرب؟ قال: في قعب من خشب، ثم قال «وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك» ، ولم يزد على ذلك، ولم يسلم.

ولا يخفى أنه سيأتي أنه أهدى إليه صلى الله عليه وسلم زيادة على الجاريتين جارية أخرى اسمها قيسر، وهي أخت مارية، ولعله إنما اقتصر على ذكر الجاريتين دون هذه الثالثة مع أنها أخت مارية لأنها دونهما في الحسن. وذكر بعضهم أن سيرين أيضا أخت مارية، فالثلاث أخوات. وفي ينبوع الحياة لابن ظفر: فأهدى إليه صلى الله عليه وسلم المقوقس جواري أربعا، أي ويوافقه قول بعضهم: وأرسل إليه صلى الله عليه وسلم جارية سوداء اسمها بريرة. وفي كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم أهدى إحدى الجاريتين لأبي جهم بن قيس العبدي، فهي أم زكريا بن جهم الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر. وأخرى أهداها لحسان بن ثابت، وهي أم عبد الرحمن بن حسان كما تقدم في قصة الإفك. وأهدى إليه المقوقس زيادة على ذلك خصيا: أي مجبوبا: أي غلام أسود يقال له مأبور بإثبات الراء، وقيل بحذفها، وقيل هابو أي بالهاء بدل الميم وإسقاط الراء ابن عمّ مارية. وكونه كان مجبوبا عند إرساله وكان المهدي له المقوقس هو المشهور. وفي كلام بعضهم أن المهدي له جريج بن مينا القبطي الذي كان على مصر من قبل هرقل، وأنه لم يكن حال الإرسال مجبوبا، وأنه قدم مع مارية فأسلم وحسن إسلامه، وكان يدخل عليها، وأنه رضي من مكانه من دخوله على سرية النبي صلى الله عليه وسلم أن يجبّ نفسه فقطع ما بين رجليه حتى لم يبق منه شيء فليتأمل، وسيأتي ما وقع له. وأهدى إليه المقوقس زيادة على البغلة وهي الدلدل، وكانت شهباء. والدلدل في اللغة: اسم للقنفذ العظيم، وكانت أنثى، ولا يستدل بلحوق التاء لها لأنها للوحدة. وفي كلام بعضهم: أجمع أهل الحديث على أن بغلة النبي صلى الله عليه وسلم كانت ذكرا لا أنثى، وأول من استنتج البغال قارون. قالوا: والبغل أشبه بأمه منه بأبيه. قيل: ولم يكن يومئذ في العرب بغلة غيرها. وقد قال له سيدنا على رضي الله عنه: لو حملنا الحمر على الخيل لكان لنا مثل هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون. قال ابن حبان: أي الذين لا يعلمون النهي عنه. وفيه أن الله امتن بها كالخيل والحمير، ولا يقع الامتنان بالمكروه. وحمارا أشهب يقال له يعفورا وعفير بالعين المهملة مضمومة. وضبطه القاضي عياض بالمعجمة وغلط في ذلك، مأخوذ من العفرة: وهي لون التراب، وفرسا وهو اللزاز، أي فإن المقوقس سأل حاطبا رضي الله عنه ما الذي يحب صاحبك من الخيل؟ فقال له حاطب: الأشقر، وقد يركب عنده فرسا يقال له المرتجز، فانتخب له صلى الله عليه وسلم فرسا من خيل مصر الموصوفة، فأسرج وألجم، وهو فرسه صلى الله عليه وسلم الميمون. وأهدى له صلى الله عليه وسلم عسلا من عسل بنها بكسر الباء الموحدة: قرية من قرى مصر،

وأعجب به صلى الله عليه وسلم ودعا في عسل بنها بالبركة، لأنه حين أكل منه قال: إن كان عسلكم أشرف فهذا أحلى، ثم دعا فيه بالبركة. وأهدى إليه مربعة يضع فيها المكحلة وقارورة الدهن والمشط والمقص والمسواك، ومكحلة من عيدان شامية ومرآة ومشطا، أي فإن المقوقس سأل حاطبا عن النبي صلى الله عليه وسلم هل يكتحل؟ فقال له: نعم، وينظر في المرآة، ويرجل شعره، ولا يفارق خمسا في سفر كان أو في حضر، وهي: المرآة، والمكحلة، والمشط، والمدرى، والمسواك والمدرى: شيء كالمسلة يفرق به بين شعر الرأس ويحك به لأن حكه بالأصبع يشوش الشعر ويلوي بها قرون شعر الرأس. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «سبع لم تفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ولا حضر: القارورة التي يكون فيها الدهن، والمشط، والمكحلة، والمقراض» ، أي المقص والمسواك، والمرآة. زاد بعضهم «والإبرة، والخيط» ولعل عدم ذكر ذلك في الكتاب أنه لم يره شيئا ينبغي ذكره. أي وقد قال بعضهم: إن المقوقس أرسل مع الهدية طبيبا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى أهلك نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع» . واعترض كون الحمار الذي أرسله المقوقس يسمى يعفورا، بأن الحمار الذي يسمى يعفورا أهداه له فروة بن عمرو الجذامي عامل قيصر. وأهدى إليه أيضا بغلة شهباء يقال لها فضة. وفرسا يقال له الظرب كما تقدم. ثم رأيت بعضهم سمى الحمار الذي أهداه عامل قيصر عفيرا أيضا، وعليه فتسمية حمار المقوقس عفيرا أيضا كما في الأصل أن الحمار الذي أهداه المقوقس يقال له يعفورا وعفير من خلط بعض الرواة فلا منافاة. وفي هذا قبول هدية المشركين. وقد تقدم رده صلى الله عليه وسلم لهداياهم وقال: لا أقبل زبد المشركين. ومما يشكل عليه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية أهدى صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان عجوة، واستهداه أدما فأهداه إليه أبو سفيان وهو على شركه. وذكر أن المقوقس قال لحاطب رضى الله عنه: القبط لا يطاوعوني في اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك، وأنا أضنّ: أي أبخل بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده أي وكان كذلك، فإن المسلمين فتحوا مصر سنة ست عشرة ونزلها الصحابة. فارجع إلى صاحبك، وارحل من عندي، ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا. قال حاطب رضي الله عنه: فرحلت من عنده، أي وبعث معه جيشا إلى أن دخل جزيرة العرب ووجد قافلة من الشام تريد المدينة فردّ الجيش وارتفق بالقافلة.

ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوي العبدي بالبحرين على يد العلاء بن الحضرمي

قال حاطب: وذكرت قوله للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ضنّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه» . ومن ثم ذكر بعضهم أن هرقل لما علم ميل المقوقس إلى الإسلام عزله، ويخالفه قول بعضهم: وبعث أبو بكر رضي الله عنه حاطبا هذا إلى المقوقس بمصر فصالح القبط، إلا أن يقال: يجوز أن يكون المقوقس عاد لولايته بعد عزله. وذكر بعضهم أن باني الإسكندرية لما أراد بناءها قال: أبني مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس فدامت، وبنى أخوه مدينة قال عند إرادة بنائها: أبني مدينة فقيرة إلى الناس غنية عن الله، فسلط الله عليها الخراب في أسرع وقت. ولما فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر وقف على بعض ما بقي من آثار تلك المدينة فسأل عن ذلك، فأخبر بهذا الخبر. ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوي العبدي بالبحرين على يد العلاء بن الحضرمي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي، وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية» أي وهذا جواب كتاب أرسله المنذر جوابا لكتاب أرسله له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وحسن إسلامه. أقول: ولم أقف على ذلك الكتاب ولا على حامله. والظاهر أنه العلاء المذكور، فقد ذكر السهيلي رحمه الله أن العلاء قدم على المنذر بن ساوي، فقال له: يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغرنّ عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين، ينكح فيها ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكره من أكله، وتعبدون في الدنيا نارا تأكلكم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا أن لا نصدقه، ولمن لا يخون أن لا نأتمنه، ولمن لا يخلف أن لا نثق به، فإن كان هذا هكذا فهذا هو النبيّ الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن

ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان

يقول ليت ما أمر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمر به. فقال المنذر: قد نظرت في هذا الذي في يديّ فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فرأيته للآخرة والدنيا فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت؟ ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده. وإن من إعظام من جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر والله أعلم. ومن جملة كتاب المنذر، أي الذي هذا الكتاب جوابه «أما بعد يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحبّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود فأحدث لي في ذلك أمرك» . وذكر ابن قانع أن المنذر المذكور وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الصحابة. قال أبو الربيع: ولا يصح ذلك. ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان أي بضم العين المهملة وتخفيف الميم: بلدة من بلاد اليمن على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى» أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحقّ القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل: أي تنزل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما» وختم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب. قال عمرو: ثم خرجت حتى انتهيت إلى عمان، فعمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم عليّ بالسن والملك، وأنا أوصلك به حتى يقرأ كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعوك إلى الله وحده. وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: يا عمرو إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك؟ يعني العاص بن وائل، فإن لنا فيه قدوة؟ قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووددت له لو كان آمن وصدق به، وقد كنت قبل على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام قال: متى اتبعته؟ قلت: قريبا، فسألني أين كان إسلامي؟ فقلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه واتبعوه قال:

والأساقفة: أي رؤساء النصرانية والرهبان، قلت نعم؟ قال: انظر يا عمرو ما تقول؟ إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له: أي أكثر فضيخة من كذب. قلت: وما كذبت وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت له بلى، قال: بأي شيء علمت ذلك يا عمرو؟ قلت: كان النجاشي رضي الله عنه يخرج له خراجا. فلما أسلم النجاشي وصدّق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال لا والله، ولو سألني درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خراجا ويدين دينا محدثا. فقال هرقل: رجل رغب في دين واختاره لنفسه ما أصنع به؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع، قال: انظر ما تقول يا عمرو. قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرني: ما الذي يأمر به وينهى عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبرّ وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. فقال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا: أي تابعا. قلت: إنه إن أسلم ملّكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم، قال: إن هذا الخلق حسن، وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال. أي ولما ذكرت المواشي قال: يا عمرو، يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى في الشجر وترد المياه: فقلت نعم، فقال؟ والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا. قال عمرو: فمكث أياما بباب جيفر وقد أوصل إليه أخوه خبري، ثم إنه دعاني فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي: أي عضدي، قال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه، فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه كتابا مختوما، ففض خاتمه، فقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه، ثم قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: اتبعوه، إما راغب في الدين وإما راهب مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام، واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال مبين، فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الخرجة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه تطؤك الخيل وتبيد خضراءك: أي جماعتك فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، قال: دعني يومي هذا وارجع إليّ غدا. فلما كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لي، فرجعت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله ههنا، وإن بلغت خيله ألفت: أي وجدت قتالا ليس كقتال

ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة

من لاقى. قلت وأنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه، فأصبح فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا، وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونا على من خالفني. ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بالذال المعجمة، وقيل بالدال المهملة. قال في النور: ولا أظنه إلا سبق قلم- صاحب اليمامة- أي وزاد بعضهم: وإلى ثمامة بن أثال الحنفيين ملكي اليمامة، وفيه نظر، لأن ثمامة رضي الله تعالى عنه كان مسلما حينئذ على يد سليط بفتح السين المهملة ابن عمرو العامري أي لأنه كان يختلف إلى اليمامة، وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى. واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر: أي حيث تقطع الإبل والخيل، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوما أنزله وحياه، وقرأ عليه الكتاب فردّ ردا دون ردّ. فكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر أتبعك، وأجاز سليطا رضي الله تعالى عنه بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه، وقال: لو سألني سيابة، أي بفتح السين المهملة وتخفيف المثناة من تحت وموحدة مفتوحة: أي قطعة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما في يديه. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام. فأخبره بأن هوذة قد مات، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي، أي فقال قائل: يا رسول الله من يقتله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت وأصحابك، فكان كذلك. أقول: هذا يدل على أن القائل له صلى الله عليه وسلم ذلك هو خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه وجهه أميرا على الجيش الذي أرسله لمقاتلة مسيلمة لعنه الله، وتقدم الخلاف في قاتله. والمشهور أنه وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما، وكان سن هوذة مائة وخمسين سنة. ويذكر أن هوذة هذا كان عنده عظيم من عظماء النصارى حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال له: لم لا تجيبه؟ قال: أنا ملك قومي، ولئن اتبعته لم أملك، فقال: بلى والله لئن اتبعته ليملكنك، وإن الخيرة لك في اتباعه، وإنه النبي العربي الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله الحديث.

ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني

أي وذكر السهيلي رحمه الله تعالى أن سليطا قال له: يا هوذة إنه سودتك أعظم حائلة: أي بالية، وأرواح في النار يعني كسرى، لأنه الذي كان توجه، وإنما السيد من متع بالإيمان، ثم تزود بالتقوى. وإن قوما سعدوا برأيك فلا تشقينّ به، وأنا آمرك بخير مأمور به، وأنهاك عن شر منهي عنه، آمرك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإن في عبادة الله الجنة، وفي عبادة الشيطان النار. فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطلع، فقال هوذة: يا سليط سوّدني من لو سودك تشرفت به، وقد كان لي رأي أختبر به الأمور ففقدته، فاجعل لي فسحة ليرجع إليّ رأيي فأجيبك به إن شاء الله تعالى. ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أي وكان بدمشق: أي بغوطتها: أي وهو محلّ معروف كثير المياه والشجر. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك» وختم الكتاب. قال شجاع رضي الله تعالى عنه: فخرجت حتى انتهيت إلى بابه، فأقمت يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا، وجعل حاجبه يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إني قرأت في الإنجيل وأجد صفة هذا النبيّ بعينه فكنت أراه: أي أظنه يخرج بالشام، فأراه قد خرج بأرض القرظ: أي وهو ورق، أو ثمر السلم، فأنا أؤمن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني، فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي، ويخبرني عن الحارث باليأس منه. ويقول: هو يخاف قيصر، فخرج الحارث يوما وجلس وعلى رأسه التاج وأذن لي عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، ثم رمى به، ثم قال: من ينزع مني ملكي، أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته. عليّ بالناس. فلم يزل جالسا يعرض عليه حتى الليل وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره الخبر وصادف أن كان عند قيصر دحية الكلبي رضي الله عنه، بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه أن لا تسر إليه واله عنه، أي لا تذكره، واشتغل بإيلياء: أي بيت المقدس، ومعنى إيلياء بالعبرانية بيت الله، والمراد باشتغاله بذلك أن يهيىء لقيصر الإنزال ببيت المقدس، فإنه نذر المشي من حمص، وقيل من قسطنطينية إلى بيت المقدس ماشيا شكرا لله تعالى حيث كشف عنه

جنود فارس، وأظهر الله تعالى الروم على فارس، ففرشوا له بسطا ونثروا عليها الرياحين وهو يمشي عليها حتى بلغ بيت المقدس فجاء إليه كتاب قيصر: أي والذي فيه أنه يلهو عنه ولا يذكره وأنا مقيم فدعاني وقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت: غدا، فأمر لي بمائة مثقال ذهبا، ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال لي ذلك الحاجب: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وأخبره أني متبع دينه. قال شجاع: فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما كان من الحارث، قال باد: أي هلك ملكه، وأقرأته السلام من الحاجب وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق. وفي كلام بعضهم وبعض أهل السير على أن الحارث أسلم، ولكن قال: أخاف أن أظهر إسلامي فيقتلني قيصر. وذكر ابن هشام وغيره أن شجاع بن وهب إنما توجه إلى جبلة بن الأيهم. ويقال إن شجاع بن وهب أرسل إلى الحارث وإلى جبلة بن الأيهم، وإن شجاعا قال له: يا جبلة إن قومك نقلوا هذا النبي من داره إلى دارهم، يعني الأنصار، فآووه ومنعوه ونصروه، وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك ولكنك ملكت الشام وجاورت الروم، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا وكانت لك الآخرة، وقد كنت استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والجمع بالشعانين، وكان ما عند الله خير وأبقى. قال جبلة: إني والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبي اجتماعهم على من خلق السموات والأرض، وقد سرّني اجتماع قومي له، وقد دعاني قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه، ولكني لست أرى حقا ولا باطلا وسأنظر. وفي كلام بعضهم أنه أسلم ورد جواب كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمه بإسلامه، وأرسل الهدية، وكان ثابتا على إسلامه لزمن عمر رضي الله عنه فإنه حج في خلافته. أي وفي كلام بعضهم: لما أسلم جبلة بن الأيهم في أيام عمر رضي الله عنه كتب إليه يخبره بإسلامه ويستأذنه في القدوم عليه، فسرّ عمر بذلك، وأذن له، فخرج في خمسين ومائتين من أهل بيته، حتى إذا قارب المدينة عمد إلى أصحابه فحملهم على الخيل، وقلدها بقلائد الذهب والفضة، وألبسها الديباج وسرف الحرير، ووضع تاجه على رأسه، فلم تبق بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إليه وإلى زيه وزينته. فلما دخل على عمر رضي الله تعالى عنه رحب به وأدنى مجلسه، وأقام بالمدينة مكرما، فخرج عمر رضي الله تعالى عنه حاجا فخرج معه وحين تطوف بالبيت وطىء رجل من فزارة إزاره فانحل، فلطم الفزاري لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه، أي ويقال فقأ عينه، فشكا الفزاري ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فاستدعاه وقال له: لم

هشمت أنفه، أو قال لم فقأت عينه؟ فقال: يا أمير المؤمنين تعمد حلّ إزاري، ولولا حرمة البيت، لضربت عنقه بالسيف، فقال له عمر: إما أنت فقد أقررت، أما أن ترضيه وإلا أقدته منك. وفي رواية: وحكم إما بالعفو أو بالقصاص، فقال جبلة فتصنع بي ماذا؟ قال: مثل ما صنعت به. وفي رواية: أتقتص له مني سواء وأنا ملك وهذا سوقي؟ فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: الإسلام سوى بينكما، ولا فضل لك عليه إلا بالتقوى، فقال: إن كنت أنا وهذا الرجل سواء في الدين فأنا أتنصر، فإني كنت أظن يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعزمني في الجاهلية، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: إذا أضرب عنقك، فقال فأمهلني الليلة حتى أنظر في أمري، قال: ذلك إلى خصمك فقال الرجل: أمهلته يا أمير المؤمنين، فأذن له عمر رضي الله تعالى عنه في الانصراف، ثم ركب في بني عمه وهرب إلى القسطنطينية أي فدخل على هرقل وتنصر هناك ومات على ذلك. وقيل عاد إلى الإسلام ومات مسلما. وكان جبلة رجلا طوالا طوله اثنا عشر شبرا، وكان يمسح الأرض برجليه وهو راكب، فسرّ هرقل به، وزوجه ابنته، وقاسمه ملكه، وجعله من سماره، وبنى له مدينة بين طرابلس واللاذقية سماها جبلة باسمه يقال إن فيها قبر إبراهيم بن أدهم. وقيل المحاكمة كانت عند أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه. أي فقد ذكر بعضهم أن جبلة لم يزل مسلما حتى كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فبينما هو في سوق دمشق إذ وطىء رجلا من مزينة فوثب المزني فلطم خدّ جبلة، فأرسله مع جماعة من قومه إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة، قال: فليلطمه، قالوا: ما يقبل، قال: لا، يقبل، قالوا: إنما تقطع يده، قال: لا، إنما أمر الله بالقود، فلما بلغ جبلة ذلك، قال: أترون أني جاعل وجهي ندا لوجه؟ بئس الدين هذا، ثم ارتد نصرانيا وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم على هرقل.

حجة الوداع

حجة الوداع ويقال لها حجة البلاغ، وحجة الإسلام، لأنه صلى الله عليه وسلم ودّع الناس فيها ولم يحج بعدها، ولأنه ذكر لهم ما يحل وما يحرم. وقال لهم: هل بلغت، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج من المدينة غيرها، قيل لإخراج الكفار الحج عن وقته، لأن أهل الجاهلية كانوا يؤخرون الحج في كل عام أحد عشر يوما حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في هذه الحجة: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» فإن هذه الحجة كانت في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته وكانت سنة عشر. قال الجمهور: فرض الحج وكان سنة ست من الهجرة أي وصححه الرافعي في باب السير وتبعه النووي. وقيل فرض سنة تسع. وقيل سنة عشر انتهى، وبه قال أبو حنيفة، ومن ثم قال إنه على الفور. وقيل فرض قبل الهجرة واستغرب. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الحج وأعلم الناس بذلك، ولم يحج منذ هاجر إلى المدينة غير هذه الحجة، قال: وأما بعد النبوة قبل الهجرة فحج ثلاث حجات، أي وقيل حجتين: أي وهما اللتان بايع فيهما الأنصار عند العقبة. وفي كلام ابن الأثير: كان صلى الله عليه وسلم يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وفي كلام ابن الجوزي: حج صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها حججا لا يعلم عددها، أي وكان صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يقف بعرفات ويفيض منها إلى مزدلفة، مخالفا لقريش توفيقا له من الله، فإنهم كانوا لا يخرجون من الحرم، فإنهم قالوا: نحن بنو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأهل الحرم، وولاة البيت وعاكفو مكة فليس لأحد من العرب منزلتنا فلا تعظموا شيئا من الحل أي كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فليس لنا أن نخرج من الحرم نحن الحمس، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منه إلى المزدلفة، ويرون ذلك لسائر العرب: قال بعض الصحابة: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه واقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها توفيقا له من الله عز وجل. وعند خروجه صلى الله عليه وسلم للحج أصاب الناس بالمدينة جدري بضم الجيم وفتح الدال

وبفتحهما أو حصبة، منعت كثيرا من الناس من الحج معه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالى، قيل كانوا أربعين ألفا، وقيل كانوا سبعين ألفا وقيل كانوا تسعين ألفا وقيل كانوا مائة ألف وأربعة عشر ألفا وقيل وعشرين ألفا، وقيل كانوا أكثر من ذلك. وقد قال صلى الله عليه وسلم: أي عند ذهابه: عمرة في رمضان تعدل حجة، أو قال حجة معي، أي قال ذلك تطبيبا لخواطر من تخلف. وصوب بعضهم أن هذا إنما قاله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه أي إلى المدينة، قاله لأم سنان الأنصارية لما قال لها: ما منعك أن تكوني حججت معنا؟ وقالت: لنا ناضحان حج أبو فلان: تعني زوجها وولدها على أحدهما، وكان الآخر نسقي عليه أرضنا لنا. وقال ذلك أيضا لغيرها من النسوة، قاله لأم سليم ولأم طلق ولأم الهيثم. ولا مانع أن يكون قال ذلك مرتين: مرة عند ذهابه لما ذكر، ومرة عند رجوعه لمن ذكر. وكان خروجه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة أي وقيل يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة ورجحه بعضهم وأطال في الاستدلال له وذلك سنة عشر نهارا بعد أن ترجل وادهن، وبعد أن صلى الظهر بالمدينة، وصلى عصر ذلك اليوم بذي الحليفة ركعتين، وطاف تلك الليلة على نسائه، أي فإنهن كن معه صلى الله عليه وسلم في الهوداج وكن تسعة، ثم اغتسل، ثم صلى الصبح أي والظهر، ثم طيبته عائشة رضي الله تعالى عنها بذريرة: هي نوع من الطيب مجموع من أخلاط الطيب وبطيب فيه مسك، ثم أحرم صلى الله عليه وسلم أي وذلك بعد أن اغتسل لإحرامه غير غسله الأول، وتجرد في إزاره وردائه، أي فقد روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم أحرم في رداءه وإزار، ولم يغسل الطيب بل كان يرى وبيص المسك في مفارقه ولحيته الشريفة، أي فإنه صلى الله عليه وسلم لبد شعر رأسه بما يلزق بعضه ببعض فلا يشعت. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «طيبته صلى الله عليه وسلم لحرمه وحله» وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، رواه الشيخان. وعنها قالت: «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضح طيبا» وبه ردّ على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قوله: لأن أصبح مطيبا بقطران أحب إليّ من أن أصبح محرما أنضح طيبا. ويؤيد ما قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما تقدم في الحديبية: من أمره صلى الله عليه وسلم من تطيب قبل إحرامه بغسل الطيب وتقدم ما فيه، أي وصلى كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ركعتين أي قبل أن يحرم، وبه يردّ قول ابن القيم رحمه الله تعالى: لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر وأهل حيث انبعثت به راحلته أي وهي القصواء أي وهو يردّ ما روي عن ابن سعد رحمه الله تعالى، حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم، ومن

ثم قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إنه حديث منكر ضعيف الإسناد، وإنما كان صلى الله عليه وسلم راكبا وبعض أصحابه مشاة: ولم يعتمر صلى الله عليه وسلم في عمره ماشيا، وأحواله صلى الله عليه وسلم أشهر من أن تخفى على الناس، بل هذا الحديث منكر شاذ لا يثبت مثله وكان على راحلته صلى الله عليه وسلم رحل رث يساوي أربعة دراهم وفي رواية: «حج صلى الله عليه وسلم على رحل وقطيفة تساوي أو لا تساوي أربعة دراهم، وقال: اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة وذلك عند مسجد ذي الحليفة، وأحرم بالحج والعمرة معا فكان قارنا. قال: وقيل أحرم بالحج فقط فكان مفردا، وقيل بالعمرة فقط، أي ثم أحرم بالحج بعد فراغه من أعمال العمرة فكان متمتعا، أخذا من قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم أحرم متمتعا، وقيل أطلق إحرامه. وفي كلام السهيلي رحمه الله: واختلفت الروايات في إحرامه صلى الله عليه وسلم، هل كان مفردا، أو قارنا، أو متمتعا وكلها صحاح إلا من قال كان متمتعا وأراد أنه أهل بعمرة. قال الإمام النووي: وطريق الجمع أي بين من يقول إنه أحرم قارنا، ومن يقول إنه أحرم مفردا، ومن يقول إنه أحرم متمتعا أنه أحرم أولا مفردا: أي بالحج ثم أدخل العمرة، أي وذلك: أي دخول الأضعف وهي العمرة على الأقوى الذي هو الحج من خصائصه صلى الله عليه وسلم فصار قارنا، ويدل لذلك حديث البخاري «أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج، فلما كان بالعقيق أتاه آت من ربه فقال له: صل بهذا الوادي المبارك، وقل لبيك بحجة وعمرة معا فصار قارنا بعد أن كان مفردا. فمن روى القرآن اعتمد آخر الأمر، أي ومنه سيدنا أنس رضي الله عنه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا» . ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والارتفاق بالقرآن انتهى: أي بالقرآن المذكور الذي هو إدخال العمرة على الحج، لأنه يكفي فيه الاقتصار على عمل واحد في النسكين، أي فلا يأتي بطوافين ولا بسعيين، أي وليس مراده التمتع الحقيقي، بأن أحرم بعمرة فقط، ثم بعد فراغه من أعمالها أحرم بالحج كما هو حقيقة التمتع. ومن ثم قال بعضهم: أكثر السلف يطلقون المتعة على القرآن. ومن روى الإفراد اعتمد أول الأمر، ومنه قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد سئل عن ذلك «لبى بالحج وحده» أو أن ابن عمر سمعه يقول: لبيك بحج ولم يسمع قوله وعمرة فلم يحك إلا ما سمع، وأنس رضي الله عنه سمع ذلك: أي سمع الحج والعمرة، أي فإن ابن عمر رضي الله عنه قيل له عن أنس بن مالك «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة فقال ابن عمر لبى بالحج وحده، فقيل لأنس عن ابن

عمر ذلك، فقال أنس رضي الله عنه: ما يعدونا إلا صبيانا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك لبيك عمرة وحجا» أي يصرح بهما جميعا وقال: «إني لرديف لأبي طلحة وإن ركبتي لتمس ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي بالحج والعمرة، وذلك مثبت لما قاله ابن عمر وزائد عليه فليس مناقضا له. أي ودليل من قال إنه أحرم مطلقا ما رواه إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم: «خرج هو وأصحابه رضي الله عنهم مهلّين: أي محرمين إحراما مطلقا ينتظرون القضاء» أي نزول الوحي لتعيين ما يصرفون إحرامهم المطلق إليه أي بإفراد أو تمتع أو قران» أي فجاءه صلى الله عليه وسلم الوحي أن يأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة فيكون متمتعا، ومن معه هدي أن يجعله حجا فيكون مفردا، لأن من معه هدي أفضل ممن لا هدي معه، والحج أفضل من العمرة. ويدل لكون الصحابة أطلقوا إحرامهم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: «خرجنا نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة» لكن أجيب عن ذلك بأنهم لا يذكرون ذلك مع التلبية وإن كانوا سموه حال الإحرام. هذا وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أراد منكم أن يهلّ بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل» فلينظر الجمع بين هذا وما قبله. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من لم يكن معه هدي وأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا» أي فلا يجعلها عمرة بل يجعل إحرامه حجا، ولم يذكر القران. وجاء في بعض الطرق: «أنه أمر من كان معه هدي أن يحرم بالحج والعمرة معا» . وفي بعض الروايات: «خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم أهلّ بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعله عمرة» . وفي الهدى: الصواب أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج والعمرة معا من حين أنشأ الإحرام، فهو قارن، ولم يحل حتى حل منهما جميعا وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترات تواترا يعلمه أهل الحديث. وما ورد أنه صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين لم يصح. قال: وغلط من قال لبى بالحج وحده ثم أدخل عليه العمرة: أي الذي تقدم في الجمع بين الروايات عن النووي رحمه الله تعالى. ومن قال لبى بالعمرة ثم أدخل عليها الحج: أي وهذا لم يتقدم. ومن قال أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ثم

عينه بعد إحرامه أي وهو ما تقدم عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه. ومن قال أفرد الحج، أراد به أنه أتى بأعمال الحج ولم يفرد للعمرة أعمالا، وهذا محمل ما في بعض الروايات، وأفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ولم يعتمر. على أن بعض الحفاظ قال: إنه حديث غريب جدا، وفيه نكارة شديدة. ثم لبى صلى الله عليه وسلم أي بعد أن استقبل القبلة فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وروي أنه زاد على ذلك لبيك إله الخلق لبيك: أي وروي أنه زاد: لبيك حقا، تعبدا ورقا على تلبيته المذكورة والناس معه يزيدون فيها وينقصون لم ينكر عليهم، وبه استدل أئمتنا على عدم كراهة الزيادة على تلبيته المشهورة المتقدمة فكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها: لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل. وأتاه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام، وأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية من شعائر الحج، فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج» . واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا دجانة رضي الله عنه، وقيل سباع بن عرفطة رضي الله عنه وولدت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ولدها محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم في ذي الحليفة، وأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل وتستثفر، أي بخرقة عريضة بعد أن تحشو بنحو قطن، وتربط طرفي تلك الخرقة في شيء تشده في وسطها لتمنع بذلك سيلان الدم كما تفعل الحائض وتحرم. ثم حاضت سيدتنا عائشة رضي الله عنها في أثناء الطريق بمحل يقال له سرف بكسر الراء، وكانت قد أحرمت بعمرة، ففي البخاري: «أنها قالت: وكنت فيمن أهلّ بعمرة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتدخل الحج على العمرة» . أقول: وقد جاء: «أنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟» وفي لفظ «ما يبكيك يا هنتاه؟ لعلك نفست: أي حضت، قلت: نعم: والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر، قال: لا تقولين ذلك، فهذا شيء كتبه الله على بنات آدم» . أي واستدل البخاري رحمه الله بهذا على أن الحيض كان في جميع بنات آدم، وأنكر به على من قال إن الحيض أول ما وقع في بني إسرائيل، وفي لفظ: «قال: ما شأنك؟ قلت: لا أصلي، قال: لا ضير عليك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب

الله عليك ما كتب عليهن، أهلي بالحج» وفي رواية: «ارفضي عمرتك» ، أي لا تشرعي في شيء من أعمالها، «وأحرمي بالحج فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج» أي تفعلين كل ما يفعل الحاج وأنت حائض «إلا أنك لا تطوفين بالبيت، ففعلت ذلك؟ أي أدخلت الحج على العمرة، ووقفت المواقف» فوقفت بعرفة وهي حائض حتى إذا طهرت: أي وذلك يوم النحر، وقيل عشية عرفة طافت بالبيت وبالصفا والمروة «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» . وذكر بعضهم أن في هذه الحجة كان جمل عائشة رضي الله عنها سريع المشي مع خفة حمل عائشة، وكان جمل صفية بطيء المشي مع ثقل حملها، فصار يتأخر الركب بسبب ذلك فأمر صلى الله عليه وسلم أن يجعل حمل صفية على جمل عائشة، وأن يجعل حمل عائشة على جمل صفية، فجاء صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها يستعطف خاطرها، فقال لها: يا أم عبد الله، حملك خفيف وجملك سريع المشي، وحمل صفية ثقيل وجملها بطيء، فأبطأ ذلك بالركب، فنقلنا حملك على جملها، وحملها على جملك ليسير الركب، فقالت له: إنك تزعم أنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أفي شك أني رسول الله أنت يا أم عبد الله؟ قالت فما لك لا تعدل؟ قالت: فكان أبو بكر رضي الله عنه فيه حدة، فلطمني على وجهي، فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما سمعت ما قالت؟ فقال: دعها فإن المرأة الغيراء لا تعرف أعلى الوادي من أسفله. قالوا: ولما نزلوا بمحل يقال له العرج فقد البعير الذي عليه زاملته صلى الله عليه وسلم وزامله أبي بكر، أي زادهما، وكان ذلك البعير مع غلام لأبي بكر. فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه للغلام: أين بعيرك؟ قال: ضللته البارحة. فقال أبو بكر وقد اعترته حدة: بعير واحد تضله، وأخذ يضربه بالسوط ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ويتبسم لا يزيد على ذلك، فلما بلغ بعض الصحابة أن زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت جاء بحيس ووضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو يغتاط على الغلام: هون عليك يا أبا بكر، فإن الأمر ليس لك ولا إلينا. وقد كان الغلام حريصا على أن لا يضل بعيره، وهذا غذاء طيب قد جاء الله به، وهو خلف عما كان معه، فأكل صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ومن كان يأكل معهما حتى شبعوا، فأقبل صفوان بن المعطل رضي الله تعالى عنه وكان على ساقة القوم، أي لأن هذا كان شأنه كما تقدم في قصة الإفك والبعير معه وعليه الزاملة حتى أناخه على باب منزله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: انظر هل تفقد شيئا من متاعك؟ فقال: ما فقدت شيئا إلا قعبا كنا نشرب فيه، فقال الغلام: هذا القعب معي. ولما بلغ سعد بن عبادة وابنه قيسا رضي الله تعالى عنهما زاملته صلى الله عليه وسلم قد ضلت جاآ بزاملة وقالا: أي كل واحد منهما: يا رسول الله بلغنا أن زاملتك ضلت الغداة، وهذه زاملة مكانها، فقال رسول

الله صلى الله عليه وسلم قد جاء الله بزاملتنا. فارجعا بزاملتكما. بارك الله لكما اه ثم نزل صلى الله عليه وسلم بذي طوى فبات بها تلك الليلة وصلى بها الصبح أي بعد أن اغتسل بها. أي ثم سار صلى الله عليه وسلم ونزل بالمسلمين ظاهر مكة ودخل مكة نهارا: أي وقت الضحى من الثنية العليا التي هي ثنية كداء بفتح الكاف والمد. قال أبو عبيدة: لا ينصرف، وهي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة مكة، وهي التي يقال لها الآن الحجون التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة كما تقدم، ودخل المسجد الحرام صبحا من باب عبد مناف، وهو باب بني شيبة المعروف الآن بباب السلام. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أبصر البيت. قال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا. وفي مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت» الخ. وفي رواية: «كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام. اللهم زد هذا البيت» الخ. وعند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد طاف بالبيت: أي سبعا ماشيا، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «دخلنا مكة عند ارتفاع الشمس، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثا ومشى أربعا، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم قبل الحجر ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه» رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناد جيد. وقيل طاف صلى الله عليه وسلم على راحلته الجدعاء، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته، فلما أتى الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين» رواه أبو داود، ورد بأن هذا الحديث تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف. على أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يذكر أن ذلك كان في حجة الوداع ولا في الطواف الأول من طوافاتها الثلاثة التي هي: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع، فينبغي أن يكون ذلك في غير الطواف الأول، بأن يكون في طواف الإفاضة أو طواف الوداع، فلا ينافي ما تقدم عن جابر ولا ما في مسلم عنه أنه قال: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت ليراه الناس فيسألوه» وقوله: «ورمل في ثلاث» منها: أي يسرع المشي مع تقارب الخطأ، ومشى: أي على هينته في أربع يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة، وابتداء الرمل كان في عمره القضاء لما قال المشركون: غدا يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ليرى المشركون جلدهم» ومن ثم

قال بعضهم لبعض: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا كما تقدم، فلما كانت هذه الحجة فعلوا كذلك فصارت سنة. قال: وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحجر الأسود وثبت أنه استلمه بيده ثم قبلها. وثبت أنه استلمه بمحجنه فقبل المحجن، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الركن اليماني ولا قبل يده حين استلمه اه. وعند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه يستحب أن يقبل ما استلمه به. روى إمامنا الشافعي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه طويلا، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استلم الحجر قال: بسم الله والله أكبر، وقال بينهما: أي بين الركن اليماني والحجر رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة: الآية 201] ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم شيء من الأذكار في غير هذا المحل حول الكعبة، ولم يستلم الركنين المقابلين للحجر، أي لأنهما ليسا على قواعد سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: «إنك رجل قويّ لا تزاحم على الحجر» أي الأسود تؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر» وأخذ منه بعض فقهائنا أن من شق عليه استلام الحجر الأسود يسن له أن يهلل ويكبر. ثم بعد الطواف رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين عند مقام سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، جعل المقام بينه وبين الكعبة: أي استقبل جهة باب المحل الذي به المقام الآن، وهو المراد بخلف المقام، قرأ فيهما مع أم القرآن قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [الكافرون: الآية 1] : وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] ودخل صلى الله عليه وسلم زمزم، فنزع له دلو فشرب منه، ثم مج فيه، ثم أفرغها في زمزم، ثم قال: لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت. أي وتقدم في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لا نتزعت منها دلوا، وانتزع له العباس. ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، وقرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: الآية 158] ابدؤوا بما بدأ الله به، فسعى بين الصفا والمروة سبعا راكبا على بعيره» . وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، أن سعيه الذي طاف لقدومه كان على قدميه لا على بعير، أي فذكر البعير في هذا السعي غلط من بعض الرواة. ثم رأيت بعضهم قال: بعض الروايات عن جابر وغيره يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ماشيا بين الصفا والمروة. ولعل بين الصفا والمروة مدرجة، أو أنه صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة بعض المرات على قدميه، فلما ازدحم الناس عليه ركب في الباقي. ويدل لذلك أنه قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن قومك يزعمون السعي بين الصفا والمروة راكبا سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، فقيل: كيف صدقوا وكذبوا؟

فقال: صدقوا في أن أن السعي سنة، وكذبوا في أن الركوب سنة، فإن السنة المشي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى في السعي، فلما كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه الناس ركب، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم مشى بين الصفا والمروة، والأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم ركب فيه وصار صلى الله عليه وسلم في السعي يخب ثلاثا ويمشي أربعا، ويرقى الصفا، ويستقبل الكعبة، ويوحد الله ويكبره ويقول: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، أي من غير قتال «ثم يفعل على المروة مثل ذلك» . واعترض بأن كونه كان يخب ثلاثا ويمشي أربعا كان في الطوف بالبيت لا في السعي بين الصفا والمروة، وهذا السياق يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم سعى بعد طواف القدوم. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم حج، فأول شيء بدأ به حين قدم مكة «أنه توضأ ثلاثا ثم طاف بالبيت ولم يذكر السعي» أي وفي مسلم في سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: الآية 158] أن المهاجرين في الجاهلية كانوا يهلون بصنمين على شط البحر يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاءهم الإسلام كرهوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، يرون أن ذلك من أمر الجاهلية، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: الآية 158] . وقيل إن سبب نزولها «أن الأنصار كانوا في الجاهلية يهلون لمناة، وكان من أحرم بمناة لا يطوف بين الصفا والمروة، وأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: الآية 158] الآية، ثم أمر صلى الله عليه وسلم من لا هدي معه بالإحلال، أي وإن لم يكن أحرم بالعمرة بأن لم يكن سمع أمره صلى الله عليه وسلم بأن من لا هدي معه يحرم بالعمرة، فأحرم بالحج قارنا أو مفردا، قال السهيلي رحمه الله: ولم يكن ساق الهدي معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلا طلحة بن عبد الله، وكذا علي كرم الله وجهه جاء من اليمن وقد ساق الهدي معه، ويأتي ما فيه. أي وأمره صلى الله عليه وسلم من ذكر بالإحلال كان بعد الحلق والتقصير، لأنه أتى بعمل العمرة فحل له كل ما حرم على المحرم من وطء النساء والطيب والمخيط، وأن يبقى كذلك إلى يوم التروية الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة فيهل: أي يحرم بالحج. وقيل له يوم التروية لأنهم كانوا يتروون فيه الماء ويحملونه معهم في ذهابهم من مكة إلى عرفات لعدم وجدان الماء بها ذلك الزمن. وأمر صلى الله عليه وسلم من معه الهدي أن يبقى على إحرامه أي بالحج قارنا أو مفردا، حتى قال بعضهم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي. قال: ويروى أن قائل ذلك هو صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لما تم سعيه قال: «لو أني استقبلت من أمري ما

استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة» قال ذلك جوابا لقول بلغه عن جمع من الصحابة، ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر. وفي لفظ: وفرجه يقطر منيا، أي قد جامع النساء. أي وفيه أنهم لا ينطلقون إلى منى إلا بعد الإحرام بالحج، لأنهم يحرمون من مكة إلا أن يقال مرادهم أنا كيف نجامع النساء بعد إحرامنا بالحج وكيف نجعلها عمرة بعد الإحرام بالحج كما سيأتي في بعض الروايات. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون؟» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت الخ» تأسف على فوات أمر من أمور الدين ومصالح الشرع، كذا قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، لأنه يرى أن التمتع أفضل. وردّ بأنه لم يتأسف على التمتع لكونه أفضل، وإنما تأسف عليه لكونه أشق على أصحابه في بقائه محرما على إحرامه وأمره لهم بالإحلال. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لو تفتح عمل الشيطان» محمول على التأسف على فوات حظ من حظوظ الدنيا فلا تخالف. ويروى «أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه تلك المقالة قام خطيبا فحمد الله تعالى، فقال: أما بعد، فتعلمون أيها الناس لأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ولا حللت» وفي رواية: «قالوا: كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اقبلوا ما أمرتكم به، واجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ففعلوا وأهلوا، ففسحوا الحج إلى العمرة» وكان من جملة من ساق الهدي أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وعلى رضي الله تعالى عنهم، فإن عليا كرم الله وجهه قدم إلى مكة من اليمن ومعه هدي. وعن جابر رضي الله تعالى عنه: «لم يكن أحد معه هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة» وفي رواية: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه: انطلق وطف بالبيت وحل كما أحل أصحابك، فقال: يا رسول الله أهللت كما أهللت، فقال له: ارجع فأحل كما أحل أصحابك، قال: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إن أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد، فقال: هل معك من هدي؟ قال لا، فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وثبت على إحرامه، وهذا صريح في أن إحرامه صلى الله عليه وسلم كان بالحج. ويمكن الجمع بين رواية أن عليا قدم من اليمن ومعه هدي، وبين رواية أنه لم يكن معه هدي بأن الهدي تأخر مجيئه بعده، لأنه تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على الجيش رجلا من أصحابه. ويؤيد ذلك قول بعضهم: كان الهدي الذي قدم به علي كرم الله وجهه من

اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة، أي وإلا فالذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستين بدنة، والذي قدم به من اليمن لعلي كان سبعة وثلاثين بدنة، ولا يخالف ذلك إشراكه له في الهدي لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لاحتمال تلف ذلك الهدي وعدم مجيئه، والذي في البخاري لما قدم علي كرم الله وجهه من اليمن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: بم أهللت يا علي؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فأهدوا مكث حراما كما أنت، أي فإنه تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان أرسل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى اليمن لهمدان يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء رضي الله تعالى عنه: فكنت ممن خرج مع خالد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأمره أن يقفل خالد بن الوليد ويكون مكانه، وقال: مر أصحاب خالد، من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقفل، فكنت ممن أعقب مع علي كرم الله وجهه، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، وصلى بنا علي كرم الله وجهه، ثم صفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان السلام على همدان. وكان من جملة من لم يسق الهدي أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: «فإنه لما قدم من اليمن قال له: بم أهللت؟ قال: أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: هل معك من هدي؟ قال: قلت لا، فأمرني فطفت بالبيت والصفا والمروة» ورواية الشيخين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: «أنه صلى الله عليه وسلم قال: لم بم أهللت؟ فقلت: لبيت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل» أي بعد الحلق أو التقصير. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان مهلا بالحج فقط أو مع العمرة، إلا أن يقال جوز لأبي موسى الفسخ من الحج إلى العمرة كما فعل ذلك مع غيره من الصحابة الذين أحرموا بالحج ولا هدي معهم. ومن جملة من لم يسق الهدي أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن فأحللن، أي لأنهن أحرمن إحراما مطلقا ثم صرفنه للعمرة، أو أحرمن متمتعات أي بالعمرة، إلا عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تحل أي لأنها أدخلت الحج على العمرة كما تقدم. وممن أحلت سيدتنا فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، أي لأنها لم يكن معها هدي وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، وشكا عليّ كرم الله وجهه فاطمة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم إذ أحلت، أي فإنه وجدها لبست صبيغا واكتحلت، فأنكر عليها، فقالت رضي الله تعالى عنها: أمرني أبي بذلك،

فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم محرشا له عليها رضي الله تعالى عنها، فصدقها عليه الصلاة والسلام في أنه أمرها بذلك، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال له: صدقت صدقت صدقت، أنا أمرتها بذلك يا علي. وسأله سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد: فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه فقال: بل الأبد «دخلت العمرة في الحج هكذا إلى يوم القيامة» أي وفي رواية: «فشبك بين أصابعه واحدة في أخرى وقال: دخلت العمرة في الحج هكذا مرتين بل لأبد الأبد» بالإضافة أي إلى آخر الدهر، وهذا الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج يدل على أن المراد السائل بالتمتع القران لا حقيقته الذي هو الإحرام بالحج بعد الفراغ من عمل العمرة، لكن قول بعضهم: لما كان آخر سعيه صلى الله عليه وسلم على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد» الحديث، يدل على أن مراده بالتمتع حقيقته، لكن لا يحسن الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج، إلا أن يقال المراد حصلت العمرة مع الإحرام بالحج لقلب الإحرام بالحج إلى العمرة لأن هذا كله يدل على أنه أمر من أحرم بالحج ممن لا هدي معه أن يقلب إحرامه عمرة. وأجاب عنه أئمتنا بأن ذلك: أي فسخ الحج إلى العمرة كان من خصائص الصحابة في تلك السنة ليخالفوا ما كان عليه الجاهلية: من تحريم العمرة في أشهر الحج ويقولون إن من أفجر الفجور، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وإمامنا الشافعي وجماهير العلماء من السلف والخلف رضي الله عنهم. وفي مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: «لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم» وخالف الإمام أحمد رضي الله عنه وطائفة من أهل الظاهر فقالوا: بل هذا ليس خاصا بالصحابة في تلك السنة، أي بل باق لكل أحد يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها. وبعضهم قال: إن قول سراقة رضي الله تعالى عنه معناه أن جواز العمرة في أشهر الحج خاصة بهذه السنة أو جائزة إلى يوم القيامة، وفيه أنه لا يحسن الجواب عنه بما تقدم من قوله: «دخلت العمرة في الحج» . ثم نهض صلى الله عليه وسلم ونهض معه الناس يوم التروية الذي هو اليوم الثامن إلى منى وأحرم بالحج كل من كان أحل، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بمنى، والعصر والمغرب والعشاء، وبات بها تلك الليلة أي وكانت ليلة الجمعة وصلى بها الصبح ثم نهض بعد طلوع الشمس إلى عرفة. وأمر صلى الله عليه وسلم أن تضرب له قبة من شعر بنمرة، فأتى

عليه الصلاة والسلام عرفة ونزل في تلك القبة حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء بفتح القاف والمد، وقيل بضم القاف والقصر، وهو خطأ كما تقدم. وفي كلام الأصل أن القصواء والعضباء والجدعاء اسم لناقة واحدة وفيه ما لا يخفى. فرحلت ثم أتى بطن الوادي فخطب على راحلته خطبة ذكر فيها تحريم الدماء والأموال والأعراض، ووضع ربا الجاهلية، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس رضي الله تعالى عنه. ووضع الدماء في الجاهلية، وأوّل دم وضعه دم ابن عمه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قتلته هذيل فقال: هو أوّل دم أبدأ به من دماء الجاهلية، موضوع فلا يطالب به في الإسلام وأوصى صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا، وأباح ضربهنّ غير المبرح إن أتين بما لا يحل. وقضى لهن بالرزق والكسوة بالمعروف على أزواجهن. وأمر صلى الله عليه وسلم بالاعتصام بكتاب الله عز وجل، أي وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، وأخبر إنه لا يضل من اعتصم به، وأشهد الله عز وجل على الناس أنه قد بلغهم ما يلزمهم، فاعترف الناس بذلك. وأمر أن يبلغ ذلك الشاهد والغائب. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنكم لتسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس، اللهم فاشهد ثلاث مرات» . وجاء أنه صلى الله عليه وسلم أمر مناديا صار ينادي بكل ما قاله من ذلك: أي وهو ربيعة بن أمية بن خلف أخو صفوان بن أمية وكان صّيتا. وصار صلى الله عليه وسلم يقول له: يا ربيعة قل: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا كما تقدم، فيصرخ به وهو واقف تحت صدر ناقته صلى الله عليه وسلم. وربيعة هذا ارتد في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه شرب الخمر، فهرب منه إلى الشام، ثم هرب إلى قيصر فتنصر ومات عنده. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، أنه طاف ليلة هو وعمر رضي الله تعالى عنهما للحرس بالمدينة فرأوا نورا في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فإذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الرحمن: تدري بيت من هذا؟ قال: لا، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن شرب، فما ترى؟ قال: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات: الآية 12] فانصرف عمر. ثم إن عمر رضي الله تعالى عنه غرب ربيعة إلى خيبر فكان ما تقدم.

وقد رأى ربيعة قبل ذلك في المنام كأنه في أرض معشبة مخصبة وخرج منها إلى أرض مجدبة كالحة. ورأى أبا بكر رضي الله تعالى عنه في جامعة من حديد عند سرير إلى الحشر، فقص ذلك على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال إن صدقت رؤياك تخرج من الإيمان إلى الكفر، وأما أنا فإن ذلك ديني جمع لي في أشد الناس إلى يوم الحشر. وبعثت إليه صلى الله عليه وسلم أم الفضل زوجة العباس أم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم لبنا في قدح شربه أمام الناس، فعلموا أنه صلى الله عليه وسلم: لم يكن صائما ذلك اليوم الذي هو التاسع، أي لأنهم تماروا عندها في صيامه صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم الذي هو يوم عرفة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» أي وبهذا استدل أئمتنا أنه لا يستحب للحاج صوم يوم عرفة الذي هو التاسع من ذي الحجة. فلما تم صلى الله عليه وسلم خطبته أمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا فصلاهما مجموعتين في وقت الظهر بأذان واحد وإقامتين: أي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بمكة إقامة تقطع السفر لأنه دخلها في اليوم الرابع وخرج يوم الثامن، فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة من أول ظهر يوم الرابع إلى عصر الثامن يقصر تلك الصلوات، فالجمع للسفر كما يقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه كالجمهور لا للنسك كما يقول غيرهم. أقول: وفيه أن فقهاءنا ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة في حجة الوداع مع عزمه على الإقامة أياما: أي تقطع السفر لعدم استيطانه. ويردّ بأنه من أين أنه صلى الله عليه وسلم عزم على الإقامة بمكة المدة التي تقطع السفر هذه دعوى تحتاج إلى دليل. وأيضا عزمه على ذلك إنما هو بعد عوده إلى مكة بعد فراغه من الوقوف والرمي، ولا ينقطع سفره إلا بوصوله إلى مكة. والأولى استدلال فقهائنا على وجوب الاستيطان في إقامة الجمعة بعد أمره صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بإقامة الجمعة مع أنهم غير مسافرين لعدم استيطانهم للمحل. فما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن الجمع للسفر لا للنسك في محله. وقد رأيت أن مالكا رضي الله تعالى عنه سأل أبا يوسف وقد كان حج مع هارون الرشيد وذلك بحضرة الرشيد، فقال له: ما تقول في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة، أصلى جمعة أم صلى ظهرا مقصورة؟ فقال أبو يوسف: صلى جمعة، لأنه خطب لها قبل الصلاة، فقال مالك: أخطأت، لأنه لو وقف يوم السبت لخطب قبل الصلاة، فقال أبو يوسف: ما الذي صلى؟ فقال مالك: صلى الظهر مقصورة، لأنه أسرّ بالقراءة فصوبه هارون في احتجاجه على أبي يوسف، والله أعلم.

ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته إلى أن أتى الموقف، فاستقبل القبلة، ولم يزل واقفا للدعاء من الزوال إلى الغروب. وفي الحديث: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، أي في يوم عرفة» كما في بعض الروايات: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» . وجاء أن من جملة دعائه في ذلك اليوم: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن وسوسة الشيطان، ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذي شر» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «كان فيما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وابتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضريع، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه. اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين» واستمر كذلك صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة. أي وخطب صلى الله عليه وسلم على ناقته في ذلك اليوم. فعن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم قال: «بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة فبلغته ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لعابها ليقع على رأسي، فسمعته يقول: أيها الناس إن الله قد أدى إلى كل ذي حق حقه. وإنه لا تجوز وصية لوارث والولد للفراش، وللعاهر الحجر. ومن ادعى إلى غير أبيه أو مولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا، وجاءه صلى الله عليه وسلم جماعة من نجد فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادي: الحج عرفة. من جاء ليلة جمع، أي المزدلفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج» وجمع بفتح الجيم وسكون الميم أيام منى ثلاثة فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: الآية 203] ، أي وقال صلى الله عليه وسلم «وقفت ههنا وعرفة كلها موقف» زاد مالك في الموطأ «وارفعوا عن بطن عرنة» . وفي كلام بعضهم نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: الآية 3] يوم الجمعة بعد العصر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة يندق من ثقل الوحي. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اتفق في ذلك اليوم أربعة أعياد: عيد للمسلمين وهو يوم الجمعة. وعيد لليهود. وعيد للنصارى. وعيد للمجوس، ولم

تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم قبله ولا بعده. ولما نزلت بكى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أبكاني أنا كنا في زيادة، أما إذا كمل فإنه لا يكمل شيء إلا نقص، فقال: صدقت» . فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يعش بعدها إلا ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، ولم ينزل بعدها شيء من الأحكام. ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه خلفه ودفع إلى مزدلفة وقد ضم زمام راحلته القصواء التي خطب عليها في نمرة حتى أن رأسها ليصيب طرف رجليه، يسير العنق، حتى إذا وجد فسحة سار النص وهو فوق العنق، وهو يأمر الناس بالسكينة في السير، فلما كان في الطريق عند الشعب الأبتر نزل فيه فبال وتوضأ وضوآ خفيفا، ثم ركب حتى أتى المزدلفة التي هي جمع، أي وتقدم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفات وإفاضته إلى مزدلفة قبل أن يبعث كان مخالفا في ذلك لقوله: «وصلى المغرب والعشاء مجموعتين في وقت العشاء» أي مقصورتين بأذان واحد وإقامتين، ثم اضطجع وأذن للنساء والضعفة: أي الصبيان أن يرموا ليلا، أي أن يذهبوا من مزدلفة إلى منى بعد نصف الليل بساعة ليرموا جمرة العقبة قبل الزحمة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس» فليتأمل ذلك. فعن عائشة رضي الله عنها «أن سودة رضي الله عنها: أفاضت في النصف الأخير من مزدلفة بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرها بالدم ولا النفر الذين كانوا معها» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفه أهله وروى ذلك الشيخان. ولم يأذن صلى الله عليه وسلم للرجال في ذلك إلا لضعفائهم ولا لغير ضعفائهم، أي فالمراد بالضعفة الصبيان كما تقدم، وبهذا استدل أئمتنا على أنه يستحب تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى أي وأن يبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح مغسلين. وفي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنه: «أنها قالت: فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إليّ من مفروح به، أي لأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس» وفي لفظ: «قبل حطمة الناس» لأن سودة رضي الله عنها كانت امرأة ضخمة ثقيلة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من مزدلفة مع النساء والضعفة. وفي مسلم: «مضت أم حبيبة من جمع بليل» أي في نصف الليل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال «أرسلني صلى الله عليه وسلم مع ضعفة أهله، فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة، فلما كان وقت الفجر قام صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس أي بالمزدلفة الصبح مغلسا ثم أتى المشعر الحرام فوقف به: أي وهو راكب ناقته، واستقبل القبلة، ودعا الله، وكبر، وهلل ووحد، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا» وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة

لأمته يوم عرفة، فأجيب بأنه يغفر لها ما عدا المظالم، ثم دعا بذلك أي بالمغفرة لأمته بمزدلفة، فأجيب إلى ذلك: أي إلى غفران المظالم، فجعل إبليس لعنه الله يحثو التراب على رأسه، فضحك صلى الله عليه وسلم من فعله» وجاء ما بين أن المراد بالأمة من وقف بعرفة. ثم إنه صلى الله عليه وسلم دفع: أي من المشعر الحرام قبل أن تطلع الشمس: أي قال جابر رضي الله تعالى عنه: وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وأردف خلفه الفضل بن العباس، وجاءته امرأة تسأله، فقالت له: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. وفي لفظ آخر: «فوضع صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحوّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر» وفي لفظ آخر: «أنه صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل، فقال له أبوه العباس رضي الله عنهما: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان، فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى محسر حرّك ناقته قليلا وسلك الطريق التي تسلك على جمرة العقبة، فرمى بها أسفلها سبع حصيات، التقطها له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من موقفه الذي رمى فيه مثل حصى الخذف» بفتح الخاء المعجمة وإسكان الذال المعجمة، وهذا لا يخالف ما عليه أئمتنا من أن الأولى أن يلتقط حصى الرمى من مزدلفة. ويكره أخذه من المرمى لجواز أن يكون التقط له ذلك من مزدلفة ثم سقط منه عند جمرة العقبة، فأمر ابن عباس بالتقاطه. لكن الذي في مسلم: «أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل محسرا: أي الوادي المعروف، وهو أول منى قال: عليكم بحصى الخذف الذي ترمى به الجمرة، وهو يدل على أن أخذ الحصى من ذلك أولى، إلا أن يقال يجوز أن يكون قال ذلك لجماعة تركوا أخذ ذلك من مزدلفة، وأمر صلى الله عليه وسلم بمثلها ونهى عن أكبر منها، وقطع صلى الله عليه وسلم التلبية عند الرمي، وصار يكبر عند رمي كل حصاة وهو راكب ناقته» . وفي رواية «على بغلة» . قال بعضهم: وهو غريب جدا: «وبلال وأسامة أحدهما آخذ بخطامها والآخر يظله بثوبه، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك» . وفي رواية: «فرأيت بلالا رضي الله عنه يقود براحلته، وأسامة بن زيد رضي الله عنه رافعا عليه ثوبه من الحر حتى رمى جمرة العقبة» وخطب صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء، وقيل على بعير بمنى خطبة قرر فيها تحريم الزنا والأموال والأعراض، وذكر حرمة يوم النحر، وحرمة مكة على جميع البلاد، فقال: «يا أيها الناس أيّ يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا، قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا شهر

حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا» أعادها مرارا «ثم رفع صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وأمرهم صلى الله عليه وسلم بأخذ مناسكهم عنه لعله لا يحج بعد عامه ذلك، وكان وقوفه صلى الله عليه وسلم بين الجمرات والناس بين قائم وقاعد. وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم خطب في اليوم الأول واليوم الثاني من أيام التشريق وهو أوسطها، ويقال له يوم النفر الأول لجواز النفر فيه كما يقال لليوم الثالث في أيام التشريق يوم النفر الآخر. ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة، أي وهي التي قدم بها من المدينة وذلك بيده الشريفة لكل سنة بدنة. قال بعضهم. وفي ذلك إشارة إلى منتهى عمره صلى الله عليه وسلم، لأن عمره صلى الله عليه وسلم كان في ذلك اليوم ثلاثا وستين سنة، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة لكل سنة بدنة، وطبخ له اللحم من لحمها، وأكل منه: أي أخذ من كل بدنة بضعة، فجعل ذلك في قدر وطبخ، فأكل من ذلك اللحم وشرب من مرقته، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عليا كرّم الله وجهه فنحر ما بقي وهو تمام المائة، أي ولعله الذي أتى به عليّ كرم الله وجهه من اليمن هذا. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه حجة الوداع مائة بدنة نحر منها ثلاثين بدنة، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عليا فنحر ما بقي منها وقال له اقسم لحومها وجلودها وجلالها بين الناس، ولا تعط جزارا منها شيئا، وخذ لنا من كل بعير جذية من لحم واجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحمها ونحثو من مرقها ففعل، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن منى كلها منحر، وأن فجاج مكة كلها منحر. ثم حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه الشريف: أي حلقه معمر بن عبد الله وقال له: هنا وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فبدأ بشقه الأيمن فحلقه ثم بشقه الأيسر، وقسم شعره فأعطى نصفه لأبي طلحة الأنصاري» : أي شعر نصف رأسه الأيسر «بعد أن قال: ههنا أبو طلحة» وقيل أعطاه لأم سليم زوج أبي طلحة رضي الله عنهما، وقيل لأبي كريب: «وأعطى من نصفه الثاني» أي الذي هو الأيمن: «الشعرة والشعرتين للناس» . وفي رواية: «ناول صلى الله عليه وسلم الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري قأعطاه إياه، ثم ناول الحلاق الشق الأيسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة، وقال: اقسمه بين الناس» . قال في النور: والحاصل أن الروايات اختلفت في مسلم. ففي بعضها أنه أعطاه الأيسر، وفي بعضها أنه أعطاه الأيمن. ورجح ابن القيم أن الذي اختص به أبو طلحة هو الشق الأيسر.

أقول: الذي في مسلم قال للحلاق: «ها وأشار بيده إلى جانبه الأيمن، فقسم شعره بين من يليه» وفي رواية: «فوزعه الشعرة والشعرتين، ثم أشار إلى الحلاق وإلى جانبه الأيسر فحلقه فأعطاه لأم سليم» وفي رواية «هال ههنا أبو طلحة» وفي لفظ: «أين أبا طلحة فدفعه إلى أبي طلحة» . وفي رواية: «ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة، فقال اقسم بين الناس» والجمع ممكن بين هذه الروايات، والله أعلم. وعن بعضهم قال: شقت قلنسوة خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم اليرموك وهو في الحرب فسقطت فطلبها طلبا حثيثا فعوقب في ذلك، فقال: إن فيها شيئا من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها. وعن أنس رضي الله عنه، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وقد طاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل» . ثم تطيب صلى الله عليه وسلم، طيبته عائشة رضي الله عنها بطيب فيه مسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة، ويقال له طواف الركن، ويقال له طواف الصدر، والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع. وحلق بعض أصحابه وقصر بعض آخر. وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين، فأعاد صلى الله عليه وسلم: وأعادوا ثلاثا، وقال في الرابعة والمقصرين» . والصحيح المشهور أنه قال ذلك في هذه الحجة التي هي حجة الوداع كما قال ذلك في الحديبية كما تقدم، وقيل لم يقله إلا في الحديبية، وبه جزم إمام الحرمين في النهاية. وقال النووي: ولا يبعد أن يكون وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم في الموضعين. قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين، أي فإن في مسلم في حجة الوداع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين، قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين، قال. وللمقصرين، ثم نهض صلى الله عليه وسلم راكبا إلى مكة فطاف في يومه ذلك طواف الإفاضة قبل الظهر وشرب من نبيذ السقاية» . فعن ابن عباس رضي الله عنهما: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة رضي الله عنه فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ» : أي من سقاية العباس رضي الله عنه، فإنهم كانوا يضعون في السقاية التمر والزبيب كما تقدم، فشرب صلى الله عليه وسلم وسقى فضله لأسامة رضي الله تعالى عنه، وقال: أحسنتم وأجملتم، كذا فاصنعوا. ثم شرب صلى الله عليه وسلم من ماء

زمزم بالدلو، قيل وهو قائم، وقيل وهو على بعير، والذي نزع له الدلو عمه العباس بن عبد المطلب» أي وفعل ذلك عند فتح مكة أيضا كما تقدم، وقيل لما شرب صلى الله عليه وسلم صب منه على رأسه الشريف. وعن ابن جريج: «أنه صلى الله عليه وسلم نزع الدلو لنفسه» . وقيل إن هذا يخالف ما تقدم من قوله: «لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت» ومن قوله يوم فتح مكة: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر» كما اتفق عليه الشيخان، وقيل صلاة بمكة وبه انفرد مسلم ورحج بأمور. وجمع بينهما بأنه يجوز أن يكون صلى الظهر بمكة أول الوقت ثم رجع إلى منى فصلاها مرة أخرى بأصحابه، أي الذين تخلفوا عنه بمنى، فإنه صلى الله عليه وسلم وجدهم ينتظرونه، فهي له صلى الله عليه وسلم معادة. قال بعضهم: وهذا مشكل على من لم يجوّز الإعادة. وعورض هذا بأنه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم رمى جمرة العقبة ونحر ثلاثا وستين بدنة، ونحر علي كرّم الله وجهه بقية المائة، وأخذ من كل بدنة بضعة، ووضعت في قدر وطبخت حتى نضجت، فأكل من ذلك اللحم وشرب من مرقه، وحلق رأسه، ولبس وتطيب وخطب فكيف يمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة أول الوقت، ويعود إلى منى في وقت الظهر. على أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى» رواه أبو داود. وأجيب بأن النهار كان طويلا فلا يضر صدور أفعال منه صلى الله عليه وسلم كثيرة في صدر ذلك اليوم. على أن ابن كثير رحمه الله، قال: لست أدري أن خطبته صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم أكانت قبل ذهابه أو بعد رجوعه إلى منى؟. وأما رواية عائشة رضي الله تعالى عنها المقتضية لكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت. فأجاب بعضهم عنها بأنها ليست نصا في ذلك بل تحتمل فليتأمل. فإن قيل: روى البخاري وأهل السنن الأربعة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرّ الزيارة الى الليل» وفي لفظ: «زار ليلا» قلنا المراد بالزيارة زيارة مجيئه، لا طواف الزيارة الذي هو طواف الإفاضة. فقد روى البيهقي: «أنه صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى» وهو قول عروة بن الزبير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل، فقد أخذه من

قول عائشة المتقدم، وقد علمت ما فيه. وقد قال بعضهم: الصحيح. من الروايات وعليه الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر بالنهار. والأشبه أنه كان قبل الزوال هذا كلامه. وطافت أم سلمة رضي الله عنها في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس. قالت: «وطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جانب البيت وهو يقرأ ب وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) [الطور: 1- 2] » . أي وعورض ذلك «بأنه صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت» فكيف يلتئم هذا مع طوافه قبل الظهر؟ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ذلك الوقت بمكة. ويجاب بأنه يجوز أن تكون أم سلمة أخرت طوافها لذلك الوقت وإن كانت قدمت مكة قبل الفجر. وعورض بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي الطواف بالطور ولا جهر بالقراءة في النهار بحيث تسمعه أم سلمة من وراء الناس، هذا من المحال. ويجاب بأن كونه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي الطواف بالطور شهادة نفي على من يثبت. وأم سلمة رضي الله عنها لم تدّع أنها سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم. ثم رأيت ابن كثير رحمه الله قال: والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصبح يومئذ، أي عند قدومه مكة لطواف الوداع عند الكعبة وأصحابه، وقرأ في صلاته وَالطُّورِ (1) بكمالها. قال: ويؤيد ذلك ما روي عن أم سلمة قالت: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، قال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، ومضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حينئذ إلى جنب البيت وهو يقرأ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) [الطور: 1- 2] » . أي وحينئذ يكون ما تقدم من قول الراوي: «وطافت أم سلمة في ذلك اليوم الذي هو يوم النحر» وقوله في الرواية الأخرى: «أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل النحر ثم مضت فأفاضت» أي طافت طواف الافاضة. وما جاء عن أم سلمة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة» قال بعضهم: ذكر يوم النحر غلط من الراوي أو من الناسخ، وإنما هو يوم النفر. ويقال بمثل ذلك فيما قبله فليتأمل، فإنه سيأتي في بعض الروايات أنه طاف طواف الوداع سحرا قبل صلاة الصبح. إلا أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم مكث بعد الطواف لصلاة الصبح حتى صلاها وفيه أن بعضهم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت، أي طواف الوداع بعد صلاة الصبح، والله أعلم، وطافت في ذلك اليوم الذي هو يوم النحر عائشة رضي الله عنها بعد أن طهرت من

حيضها وكانت حائضا يوم عرفة، أي كما تقدم. وطافت أيضا صفية رضي الله عنها في ذلك اليوم. وسئل صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عما تقدم بعضه على بعض من الرمي والحلق والنحر والطواف، فقال: لا حرج: أي لا إثم. ففي مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى على راحلته للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر أن التحلل قبل النحر فحلقت قبل أن أنحر، فقال: اذبح ولا حرج، ثم جاءه رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج وجاءه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج، قال: فما سئل عن شيء قدم ولا آخر إلا قال افعل ولا حرج» ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أيضا في تقديم السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت «أي فمن شاء قدم السعي عقب طواف القدوم، ومن شاء أخره عن طواف الإفاضة» وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أتي بالسعي عقب طواف القدوم. وأقام صلى الله عليه وسلم بمنى ثلاثة أيام يرمي الجمار: أي ماشيا في ذهابه وإيابه وأمر صلى الله عليه وسلم شخصا أن ينادي في الناس بمنى إنها أيام أكل وشرب وباءة. ورمى لكل جمرة من الجمرات الثلاث بعد الزوال، أي قبل الصلاة للظهر سبع حصيات، يبدأ بالتي تلي مسجد منى: أي الخيف ويقف عندها للدعاء، ثم التي تليها وهي الوسطى ثم يقف للدعاء ثم جمرة العقبة، ولم يقف عندها للدعاء: أي وكان أزواجه صلى الله عليه وسلم يرمين بالليل. وخطبهم أي الناس في اليوم الأول من أيام منى كما تقدم» ويقال لذلك اليوم يوم القر لأنهم يقرون فيه في منى وهو يوم الرؤوس لأكلهم الرؤوس في ذلك اليوم، وفي اليوم الثاني من أيام منى وهو يوم النفر الأول، أي ويقال له يوم الأكارع: أي لأكلهم الأكارع في ذلك اليوم. وأوصى بذي الأرحام خيرا. فقد خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب: الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة. والثانية يوم عرفة. والثالثة يوم النحر بمنى. والرابعة يوم القر بمنى. والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضا. ثم نهض صلى الله عليه وسلم من منى في اليوم الثالث الذي هو يوم النفر الآخر ونفر معه المسلمون بعد الزوال أي وبعد الرمي. واستأذنه عمه العباس رضي الله عنه في عدم المبيت بمنى في الليالي الثلاث من أجل السقاية فرخص له في ذلك. وضربت له صلى الله عليه وسلم قبة بالمحصب وهو الأبطح، أي ضربها له أبو رافع رضي الله

عنه، وكان على ثقله ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بذلك. فعن أبي رافع رضي الله عنه: «لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل بالأبطح، ولكني جئت فضربت قبة، فجاء فنزل، وكان صلى الله عليه وسلم قال لأسامة رضي الله عنه: غدا ننزل بالمحصب إن شاء الله» وهو المحل الذي تحالف فيه قريش وكنانه على منابذه بني هاشم وبني المطلب حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، أي وكان ذلك سببا لكتابة الصحيفة. وفيه أنه تقدم في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم نزل بالحجون عند شعب أبي طالب المكان الذي حصرت فيه بنو هاشم وبنو المطلب وأنه خيف بني كنانة الذي تقاسمت قريش فيه جملتهم. وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر» . ولما نزل صلى الله عليه وسلم بالمحصب صلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة، ثم إن عائشة رضي الله عنها قالت له: يا رسول الله أأرجع بحجة ليس معها عمرة، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقال: اخرج بأختك من الحرم، ثم افرغا من طوافكما حتى تأتياني ههنا بالمحصب، قالت: فقضى الله العمرة، وفي لفظ: «فاعتمرنا من التنعيم مكان عمرتي التي فاتتني، وفرغنا من طوافها في جوف الليل، فأتيناه صلى الله عليه وسلم بالمحصب فقال: فرغتما من طوافكما، قلنا نعم، فأذن في الناس بالرحيل» وفي رواية: «فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة إليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها» . واعترض كيف يأتي قولها عمرتي التي فاتتني مع قوله صلى الله عليه وسلم: «قد حللت من حجتك وعمرتك» وكيف أقرأها صلى الله عليه وسلم على ذلك. وأجيب بأنها لما رأت صواحبها أتين بعمرة ثم بحج وهي لم تأت إلا بحج أحبت أن تأتي بعمرة أخرى زائدة على الحج وإن كانت العمرة مندرجة فيه، وأقرها صلى الله عليه وسلم تطييبا لخاطرها، لأنه صلى الله عليه وسلم كان معها إذا هويت الشيء الذي لا مخالفة فيه للشرع تابعها عليه. وبهذا استدل أئمتنا على جواز الإحرام بالعمرة قبل طواف الوداع. وأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن لا ينصرفوا: أي إلى بلادهم حتى يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت: أي الذي هو طواف الوداع. ورخص صلى الله عليه وسلم في ترك المؤمنين ذلك للحائض التي قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضها كصفية أم المؤمنين رضي الله عنها، فإنها حاضت بعد طواف الإفاضة ليلة النفر من منى. أي وقالت: ما أراني إلا حابستكم لانتظار طهري وطواف الوداع، فقال لها صلى الله عليه وسلم: أو ما كنت طفت يوم النحر؟ أو في لفظ: «ما كنت طفت طواف

الإفاضة يوم النحر؟ قالت بلى، قال: لا بأس انفري معنا» وفي رواية: «قال يكفيك ذلك» أي لأنه هو طواف الركن الذي لابد لكل أحد منه، بخلاف طواف الوداع لا يجب على الحائض ولا يلزمها الصبر لتطهر وتأتي به، ولا دم عليها في تركه. قال الإمام النووي رحمه الله: وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض السلف وهو شاذ مردود. ثم إنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في تلك الليلة، وطاف طواف الوداع سحرا قبل صلاة الصبح، ثم خرج من الثنية السفلى ثنية كدى بضم الكاف والقصر: وهو عند باب شبيكة متوجها إلى المدينة: أي التي خرج منها لما فتح مكة كما تقدم. وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المسجد من باب الحزورة، ويقال له باب الحناطين. وجاء عن جابر رضي الله عنه: «أن خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة كان عند غروب الشمس فلم يصلّ حتى أتى سرف» قال بعضهم: لعل هذا كان في غير حجة الوداع، فإنه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت بعد صلاة الصبح فماذا أخره إلى وقت الغروب هذا غريب جدا هذا كلامه. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد طواف الوداع إلى المحصب غير محفوظ. أقول: هذا جمع به الإمام النووي رحمه الله بين الروايات المتقدمة عن عائشة حيث قال: ووجه الجمع أنه صلى الله عليه وسلم بعث عائشة مع أخيها بعد نزوله المحصب، وواعدها أن تلحقه بعد اعتمارها، ثم خرج هو صلى الله عليه وسلم بعد ذهابها فقصد البيت ليطوف طواف الوداع، ثم رجع بعد فراغه من طواف الوداع فلقيها وهو صادر وهي داخله لطواف عمرتها، ثم لما فرغت لحقته وهو في المحصب. قال: وأما قولها فأذن في أصحابه فخرج ومر بالبيت وطاف فمتأول بأن في الكلام تقديما وتأخيرا، وإلا فطوافه صلى الله عليه وسلم كان بعد خروجها إلى العمرة وقبل رجوعها، وأنه فرغ قبل طوافها للعمرة هذا كلامه فليتأمل، فكانت مدة دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وخروجه منها عشرة أيام، وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يأت بعمرة بعد حجه، وهو لا يناسب القول بأنه أحرم مفردا بالحج، بل يدل للقول بأنه أحرم قارنا أو نواهما بعد إطلاق الإحرام، أو أدخل الحج على العمرة. وفي كلام بعضهم لم يعتمر صلى الله عليه وسلم تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج ولا بعده ولو جعل حجه منفردا لكان خلاف الأفضل، أي لأنه لم يقل أحد إن الحج وحده من غير اعتمار في سنته أفضل من القران. وفي كلام بعض آخر: أجمعوا على أنه لم يعتمر بعد الحج، فتعين أن يكون متمتعا تمتع قران. وقد يطلق الإفراد على الإتيان بأعمال الحج فقط وإن كان قد أحرم بهما معا

كما أن القران قد يطلق على الإتيان بطوافين وسعيين. فمن روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه أفرد الحج أراد به أنه أتى بأعمال الحج ولم يفرد للعمرة أعمالا. ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في هذه الحجة التي هي حجة الوداع. ولما طاف صلى الله عليه وسلم سبعا وقف في الملتزم بين ركن الحجر وبين باب الكعبة فدعا الله وألزق جسده: أي صدره الشريف ووجهه بالملتزم. أي ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى محل بين مكة والمدينة يقال له غدير خمّ بقرب رابغ جمع الصحابة وخطبهم خطبة بين فيها فضل علي كرم الله وجهه، وبراءة عرضه مما تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وبخلا، والصواب كان معه كرم الله وجهه في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم «أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب» أي وفي لفظ في الطبراني «فقال: يا أيها الناس إنه قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا نصف عمر الذي يليه من قبله، وإني لأظن أن يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول، وإنكم مسؤولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأن السعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: اللهم اشهد» الحديث «ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته، أي فقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن تتفرقا حتى تردا عليّ الحوض» ، وقال في حق علي كرم الله وجهه لما كرر عليهم: ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثا، وهم يجيبونه صلى الله عليه وسلم بالتصديق والاعتراف، ورفع صلى الله عليه وسلم يد علي كرم الله وجهه وقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار» وهذا أقوى ما تمسكت به الشيعة والإمامية والرافضة على أن عليا كرم الله وجهه أولى بالإمامة من كل أحد، وقالوا هذا نص صريح على خلافته سمعه ثلاثون صحابيا وشهدوا به، قالوا: فلعلي عليهم من الولاء ما كان له صلى الله عليه وسلم عليهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «ألست أولى بكم» وهذا حديث صحيح ورد بأسانيد صحاح وحسان، ولا التفات لمن قدح في صحته كأبي داود وأبي حاتم الرازي. وقول بعضهم إن الزيادة اللهم وال من والاه إلى آخره موضوعة مردود، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثيرا منها. وقد جاء أن عليا كرم الله وجهه قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أنشد الله من ينشد يوم غدير خمّ إلا قام، ولا يقوم رجل يقول أنبئت أو بلغني إلا

رجل سمعت أذناه ووعى قلبه، فقام سبعة عشر صحابيا وفي رواية ثلاثون صحابيا، وفي المعجم الكبير ستة عشر. وفي رواية اثنا عشر، فقال: هاتوا ما سمعتم، فذكروا الحديث، ومن جملته «من كنت مولاه فعلي مولاه» وفي رواية «فهذا مولاه» وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه: وكنت ممن كتم، فذهب الله ببصري، وكان علي كرم الله وجهه دعا على من كتم. قال بعضهم: ولما شاع قوله صلى الله عليه وسلم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» في سائر الامصار وطار في جميع الأقطار، بلغ الحارث بن النعمان الفهري، فقدم المدينة فأناخ راحلته عند باب المسجد، فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله أصحابه، فجاء حتى جثا بين يديه، ثم قال: يا محمد إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ذلك منك، وإنك أمرتنا أن نصلي في اليوم والليلة خمس صلوات ونصوم شهر رمضان ونزكي أموالنا ونحج البيت فقبلنا ذلك منك، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته، وقلت: من كنت مولاه، فعلى مولاه، فهذا شيء من الله أو منك؟ فاحمرت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله الذي لا إله إلا هو إنه من الله وليس مني، قالها ثلاثا، فقام الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك» وفي رواية «اللهم إن كان ما يقول محمد حقا «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) [الأنفال: الآية 32] ، فو الله ما بلغ باب المسجد حتى رماه الله بحجر من السماء فوقع على رأسه فخرج من دبره فمات، وأنزل الله تعالى سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) [المعارج: الآية 1- 2] الآية، وكان ذلك اليوم الثامن عشر من ذي الحجة» وقد اتخذت الروافض هذا اليوم عيدا فكانت تضرب فيه الطبول ببغداد في حدود الأربعمائة في دولة بني بويه. وما جاء: من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله له صيام ستين شهرا. قال بعضهم قال الحافظ الذهبي هذا حديث منكر جدا أي بل كذب. فقد ثبت في الصحيح ما معناه: «أن صيام شهر رمضان بعشرة أشهر» فكيف يكون صيام يوم واحد يعدل سني شهرا هذا باطل، هذا كلامه فليتأمل. وقد رددت عليهم في ذلك بما بسطته في كتابي المسمى بالقول المطاع في الرد على أهل الابتداع لخصت فيه الصواعق للعلامة ابن حجر الهيتمي، وذكرت أن الرد عليهم في ذلك من وجوه: أحدها: أن هؤلاء الشيعة والرافضة اتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدلون به على الإمامة من الأحاديث، وهذا الحديث مع كونه آحاد طعن في صحته جماعة من أئمة الحديث كأبي داود وأبي حاتم الرازي كما تقدم، فهذا منهم مناقضة، ومن ثم قال بعض أهل السنة: يا سبحان الله من أمر الشيعة والرافضة إذا استدللنا عليهم بشيء

من الأحاديث الصحيحة قالوا هذا خبر واحد لا يعني، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموا أتوا بأخبار باطلة كاذبة لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد التي منها أنه قال لعلي أخي ووصي وخليفتي في ديني بكسر الدال وخبر: أنت سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. وخبر: سلموا على عليّ بإمرة الناس، فإنها أحاديث كاذبة موضوعة مفتراة عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام. ثانيها: أن اسم المولى يطلق على عشرين معنى، منها: أنه السيد الذي ينبغي محبته ويجتنب بغضه، ويؤيد إرادة ذلك «أن سبب إيراد ذلك أن عليا كرم الله وجهه تكلم فيه بعض من كان معه باليمن من الصحابة وهو بريدة، قدم هو وإياه عليه صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة التي هي حجة الوداع، وجعل يشكوه له صلى الله عليه وسلم لأنه حصل له منه جفوة، فجعل يتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا بريدة لا تقع في علي، فإن عليا مني وأنا منه، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فقال ذلك لبريدة خاصة. ثم لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى غدير خم أحب أن يقول ذلك للصحابة عموما أي فكما عليهم أن يحبوني فكذلك ينبغي أن يحبوا عليا. وعلى تسليم أن المراد أنه أولى بالإمامة، فالمراد في المآل لا في الحال قظعا، وإلا لكان هو الإمام مع وجوده صلى الله عليه وسلم، والمآل لم يعين له وقت، فمن أن أنه عقب وفاته صلى الله عليه وسلم، وجاز أن يكون بعد أن يعقد له البيعة ويصير خليفة، ويدل لذلك أنه كرم الله وجهه لم يحتج بذلك إلا بعد أن آلت إليه الخلافة ردا على من نازعه فيها كما تقدم. فسكوته كرم الله وجهه عن الاحتجاج بذلك إلى أيام خلافته، قاض على كل من له أدنى عقل فضلا عن فهم بأنه لا نص في ذلك على إمامته عقب وفاته صلى الله عليه وسلم. ثالثها: أنه تواتر النقل عن علي كرم الله وجهه، أنه صلى الله عليه وسلم لم ينص عند موته على خلافة أحد لا هو ولا غيره، فقد قيل له كرم الله وجهه كما يأتي: حدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت، فقال: لا والله لئن كنت أول من صدّق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك ولو لم أجد إلا بردتي هذه. وفي رواية: ما تركت أخا نبي تيم وعدي يعني أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما ينوبان على منبره صلى الله عليه وسلم ولقاتلتهما بيدي. رابعها: أن لو كان هذا الحديث نصا على إمامته لم يسعه الامتناع من متابعة عمه العباس رضي الله تعالى عنه لما قال له العباس: اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا الأمر فينا علمنا. وأيضا لو كان الحديث نصا لكان لما قالت الأنصار منا

أمير ومنكم أمير، واحتج عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه بأن الأئمة من قريش قالوا له: قد ورد النص بخلافة علي كرم الله وجهه، ولم يكن بين ذكر الحديث في غدير خم وبين ذلك إلا نحو شهرين، فاحتمال النسيان على عليّ والعباس وعلى جميع الأنصار رضي الله تعالى عنهم من أبعد البعيد. على أنه ورد أنه لما قيل لعلي إن الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير قال كرم الله وجهه: هلا ذكرت الأنصار قول النبي صلى الله عليه وسلم «يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم» فكيف يكون الأمر فيهم مع الوصاية بهم، ودعوى الرافضة والشيعة أن الصحابة رضوان الله عليهم علموا هذا النص ولم يعلموا به عنادا غير مسموعة إذا هي ظاهرة البطلان، لأن في ذلك تضليلا لجميع الصحابة وهم رضي الله تعالى عنهم معصومون عن أن يجتمعوا على ضلالة. ومن العجب العجيب أن بعض غلاة الرافضة يقول بتكفير الصحابة بسبب ذلك، وأن عليا كرم الله وجهه كفر لأنه أعان الكفار على كفرهم. وأما دعواهم أن عليا إنما ترك النزاع في أمر الخلافة تقية وامتثالا لوصيته صلى الله عليه وسلم أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفا فكذب وافتراء، إذ كيف يجعله إماما على الأمة ويمنعه أن يسل سيفا على من امتنع من قبول الحق؟ وكيف منع سل السيف على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم مع قلة أتباعهم وكثرة أتباعه، وسله على معاوية رضي الله تعالى عنه مع وجود من معه من الألوف، ولما ساغ له أن يقول كما تقدم، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم وعدي ينوبان على منبره صلى الله عليه وسلم، ولما بين سبب تركه لمقاتلة أبي بكر وعمر وعثمان ومقاتلته لمعاوية بأن أبا بكر اختاره صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعناه فولاها عمر فبايعناه وأعطيت ميثاقي لعثمان، فلما مضوا بايعني أهل الحرمين وأهل المصرين البصرة والكوفة، فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابيت ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي وكنت أحق بها منه: يعني معاوية رضي الله تعالى عنه كما سيأتي. ومن ثم لما قيل للحسن المثنى ابن الحسن السبط إن خبر «من كنت مولاه فعلي مولاه» نص في إمامة علي كرم الله وجهه قال: أما والله لو يعني النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الإمارة والسلطان لأفصح لهم ولقال لهم: يا أيها الناس هذا وال بعدي والقائم عليكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، وو الله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه في ذلك ثم تركه كان أعظم خطيئة. وقد سئل الإمام النووي رحمه الله: هل يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» أنه كرم الله وجهه أولى بالإمامة من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. فأجاب إنه لا يدل على ذلك، بل معنى ذلك عند العلماء الذين هم أهل هذا الشان وعليهم الاعتماد في تحقيق ذلك «من كنت ناصره ومواليه ومحبه ومصافيه فعليّ كذلك» .

وقد قيل في سبب ذلك أن أسامة بن زيد رضي الله تعالى قال لعلي كرم الله وجهه: لست مولاي، وإنما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول صلى الله عليه وسلم ذلك. ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة بات بها، أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان كره أن يدخل المدينة ليلا. ولما رأى المدينة كبر ثلاث مرات وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دخل عليه الصلاة والسلام المدينة نهارا من طريق المعرّس بفتح الراء المشددة.

باب ذكر عمره صلى الله عليه وسلم

باب ذكر عمره صلى الله عليه وسلم قد اعتمر صلى الله عليه وسلم: أي بعد الهجرة أربع عمر. فقد قال بعضهم: لا خلاف أن عمره صلى الله عليه وسلم لم تزد على أربع أي كلهن في ذي القعدة، مخالفا للمشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور أي كما تقدم. وأول تلك الأربعة عمرة الحديبية، أي وكانت في ذي القعدة التي صده فيها المشركون عن البيت. وثانيها: عمرته صلى الله عليه وسلم من العام المقبل، أي وهي عمرة القضاء، وكانت في ذي القعدة كما تقدم. وعن قتادة رضي الله تعالى عنه «كان المشركون فجروا عليه صلى الله عليه وسلم حيث ردوه في الحديبية وكان في ذي القعدة، فاقتص الله منهم وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي هو ذو القعدة، وأنزل الله الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة: الآية 194] . وثالثها: عمرته صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين، وكانت من الجعرانة، وكانت في ذي القعدة، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة ليلا، فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت بها. ومن ثم خفيت على الناس كما تقدم. ورابعها: عمرته صلى الله عليه وسلم مع الحجة الوداع: أي التي دخلت في الحج بناء على أنه أحرم قارنا أو التي أدخلها على الحج بناء على أنه أحرم بالحج خصوصية له، أو عينهما بعد أن أحرم مطلقا على ما تقدم فإنه أحرم لخمس بقين من ذي القعدة. وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع» . وأخرج البخاري ومسلم «أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة إلا التي في حجته» أي فإنه لم يوقعها في ذي القعدة، بل أوقعها في ذي الحجة تبعا للحج. وأما إحرامه بها فكان في ذي القعدة في خمس بقين منه كما تقدم. وأخرجا أيضا أن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها وإنا لنسمع صوتها بالسواك تستن، فقلت: يا أبا عبد الرحمن اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال نعم، فقلت لعائشة: أي أمتاه ألا تسمعني ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهدها، وفي رواية إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط، أي وإنما اعتمر في ذي القعدة.

باب ذكر نبذ من معجزاته صلى الله عليه وسلم

ولكن روى الدارقطني رحمه الله عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت «خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت» قال في الهدى إنه غلط عليها وهو الأظهر، فإنه صلى الله عليه وسلم ما اعتمر في رمضان قط. أقول: وزاد بعضهم أنه اعتمر أيضا عمرتين عمرة في رجب وعمرة في شوال فيكون اعتمر ستة، إلا أن يقال: يجوز أن يكون مستند القائل اعتمر في رجب قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المتقدم، وقد تقدم رده وجاز أن يكون قوله اعتمر في شوال أي خرج للعمرة في شوال وهي العمرة التي كانت في ضمن حجة الوداع، والله أعلم. باب ذكر نبذ من معجزاته صلى الله عليه وسلم التي يمكن التحدي بها، سواء تحدى بها بالفعل كالقرآن وتمنى اليهود الموت أولا. وتلك المعجزة اصطلاحا هي الحاصلة له صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إلى وفاته. وأما الأمور الحاصلة له بين يدي أيام مولده وبعثته، وقبل ذلك من الأمور الخارقة للعادة الغربية الموهنة للكفر، التي يعجز عن بلوغها قوى البشر، ولا يقدر عليها إلا خالق القوى القدر، لأنها في الاصطلاح يقال لها إرهاصات وتأسيسات للرسالة، ولا تسمى في الاصطلاح معجزات. وهي إذا تليت على قلب المؤمن زادته إيمانا، وإذا تفكر فيها ذو البصيرة واليقين زادته إيقانا، فإن كل من أرسله الله عز وجل لم يخله من آية أيده بها مخالفة للعادات، لكون ما يدعيه من الرسالة مخالفا لها، فيستدل بتلك الآية على صدقه فيما يدعيه، لأن اقترانها بدعواه الرسالة تصديق له فيها. وقد كانت للأنبياء: أي الرسل معجزات مختلفة، أي وهو صلى الله عليه وسلم أكثر الرسل معجزة، وأعظمهم آية، وأظهرهم برهانا فقد جاء «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن عليه البشر» : أي آمنوا بسبب إظهاره «وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله عز وجل إليّ» وهو القرآن لأنه الذي تحداهم به «فأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة» . أي فإنه لما غلب السحر في زمن عليه الصلاة والسلام جاءهم بجنسه في معجزاته، فألقى العصا، وفلق البحر. ولما غلب الطب في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام جاءهم بجنسه، فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص. ولما غلبت الفصاحة وقول الشعر في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام جاءهم بالقرآن. وهذا السياق يدل على أن المعجزة خاصة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، ويوافق ذلك قول صاحب المواقف وشرحه، وهي: أي المعجزة بحسب الاصطلاح عبارة عما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله.

لكنه قال في شروط المعجزة: الرابع أن يكون أي الأمر الخارق للعادة ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له انتهى. فيحتمل أنه أراد بالنبوة الرسالة. ويحتمل أنه أراد بها ما يعم الرسالة للشخص لنفسه، فهو رسول إلى نفسه، فتكون المعجزة عامة في حق الرسول والنبي الذي ليس برسول. ومما يؤيد هذا الثاني قول النسفي رحمه الله في عقائده: وأيدهم، قال السعد رحمه الله: أي الأنبياء بالمعجزات الناقضات للعادات. ثم قال: وقد روي بيان عددهم في بعض الأحاديث. قال السعد على ما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن عدد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. وفي رواية، مائتا ألف وأربعة وعشرون الفا» ويؤيده أيضا قول الإمام السنوسي في شرح عقيدته الكبرى: إن معجزة النبي غير الرسول، يجوز أن تتأخر بعد موته، تخلاف معجزة الرسول فإن فيها خلافا إلى آخر ما ذكر. ومما يؤيد هذا الثاني أيضا ما نقله في الخصائص الصغرى عن بعضهم وأقره: فرض الله على الأنبياء إظهار المعجزات ليؤمنوا بها، وفرض على الأولياء كتمان الكرامات لئلا يفتتنوا بها انتهى. فقد قابل بين المعجزة والكرامة. وفيه تصريح بأنه يجب على النبي غير المرسل إظهار المعجزة. وعن القرافي المالكي رحمه الله أنه يجب على النبي أنه يخبر بنبوته، وذكر في الأصل أن الغرض ذكر نبذة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإلا فمعجزاته صلى الله عليه وسلم كالبحر المتدافق بالأمواج. وقد ذكر بعض العلماء أن معجزاته صلى الله عليه وسلم لا تنحصر. وفي كلام بعض آخر أنه صلى الله عليه وسلم أعطى ثلاثة آلاف معجزة: أي غير القرآن، فإن فيه ستين، وقيل سبعين ألف معجزة تقريبا. قال في الخصائص: قال الحليمي: وليس في شيء معجزات غيره ما ينجو نحو اختراع الأجسام، فإن ذلك من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة، هذا كلامه. وفيه أن هذا معارض بقول الله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [آل عمران: الآية 49] الآية. والغرض ذكر تلك النبذة مجموعة وإن كان أكثرها قد سبق لكنه مفرق، أي وأنبه على ما تقدم بقولي أي كما تقدم، وأسكت عن ذلك فيما لم يتقدم. فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم وهو أعظمها القرآن، أي لأنه تعالى أتى به مشتملا على أخبار الأمم السالفة وسير الأنبياء الماضية التي عرفها أهل الكتاب، وهو صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا عرف بمجالسة الكهان والأحبار، لأنه صلى الله عليه وسلم قد نشأ بين أظهرهم

في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار القرون الماضية والأمم السالفة التي اشتمل عليها، أي ومن كان من العرب يكتب ويقرأ ويجالس الأحبار لم يدرك علم ما أخبر به من القرآن خصوصا عن المغيبات المستقبلة الدالة على صدقه، لوقوعها على ما أخبر به. وقد أعجز الفصحاء البلغاء، أي لحسن تأليفه والتآم كلماته، بهرت العقول بلاغته، وظهرت على كل قول فصاحته، أحكمت آياته وفصلت كلماته، فحارت فيه عقولهم، وتبلدت فيه أحلامهم، وهم رجال النظم والنثر، وفرسان السجع والشعر. وقد جاء على وصف مباين لأوصاف كلامهم النثر لأن نظمه لم يكن كنظم الرسائل والخطب ولا الأشعار وأسجاع الكهان وقد تحداهم ودعاهم إلى معارضته والإتيان بأقصر سورة منه، أي وهو دليل قاطع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل له ذلك إلا وهو واثق مستيقن أنهم لا يستطيعون ذلك، لكونه من عند الله، إذا يستحيل أن يقول صلى الله عليه وسلم ذلك وهو يعلم أنه الذي تولى نظمه ولم ينزل عليه من عند الله، إذ لا يأمن أن يكون في قومه من يعارضه وهم أهل فصاحة وشعر وخطابة قد بلغوا الدرجة العليا في البلاغة، وهو من جنس كلامهم، فيصير كذابا، ولو كان في استطاعة أحد منهم ذلك لما عدلوا عن ذلك إلى المحاربة التي فيها قتل صناديدهم ونهب أموالهم وسبى ذراريهم، أي لأن النفوس إذا قرعت بمثل هذا استفرغت الوسع في المعارضة، فهو ممتنع في نفسه عن المعارضة، خلافا لمن قال إنما لم تقع المعارضة منهم لأن الله تعالى صرفهم عنها مع وجود قدرتهم عليها، لأنه وإن كان صرفهم عنها فيه إعجاز لكن الإعجاز في الأول أكمل وأتم، وهو اللائق بعظيم فضل القرآن. ومن ثم لما جاءه الوليد بن المغيرة وكان المقدم في قريش بلاغة وفصاحة، وكان يقال له ريحانة قريش كما تقدم، وقال له صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ، فقرأ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [النّحل: الآية 90] قال له أعده، فأعاد ذلك قال: والله إن له الحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وفي رواية قرأ عليه حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ [غافر: الآيات 1- 3] الآيات فانطلق حتى أتى منزل أهله بني مخزوم فقال: والله كلام محمد ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إلى آخر ما تقدم، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: قد صبأ الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلها، فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أكفيكموه، فقعد على هيئة الحزين فمر به الوليد، فقال له: ما لي أراك كئيبا؟ قال: وما يمنعني أن أحزن، وهذه قريش قد جمعوا لك نفقة ليعينوك على أمرك، وزعموا أنك إنما زينت قول محمد لتصيب من فضل طعامه، فغضب الوليد وقال: أو ليس قد علمت قريش أني من أكثرهم مالا وولدا،

وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام؟ فانطلق مع أبي جهل حتى أتى مجلس بني مخزوم فقال: هل تزعمون أن محمدا كذاب فهل رأيتموه كذبكم قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: فتزعمون أنه مجنون فهل رأيتموه خرفكم قط؟ أي أتى بالخرافات من القول؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل سمعتموه يخبر بما تخبر به الكهنة؟ قالوا لا، فعند ذلك قالت له قريش، فما هو يا أبا المغيرة؟ فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر. وقد سمع أعرابي رجلا يقرأ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: الآية 94] فسجد، فقيل له في ذلك؟ فقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. وسمع آخر رجلا يقرأ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: الآية 80] فقال: أشهد أن مخلوقا لن يقدر على مثل هذا الكلام. أي ولما سمع الأصمعي من جارية خماسية أو سداسية فصاحة فعجب منها، فقالت له: أو تعدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: الآية 7] الآية فجمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟ ولما أراد بعضهم معارضة بعض سوره وقد أوتي من الفصاحة والبلاغة الحظ الأوفى، فسمع صبيا في المكتب يقرأ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [هود: الآية 44] رجع عن المعارضة ومحا ما كتبه. وقال والله ما هذا من كلام البشر. قال بعضهم: ولم يتحدّ صلى الله عليه وسلم بشيء من معجزاته إلا بالقرآن. قال بعضهم: كل جملة من القرآن معجزة، وحفظ من التبديل والتحريف على ممر الدهور، وقارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل لا يزال مع تكريره وترديده غضا طريا، تتزايد حلاوته، وتتعاظم محبته، وغيره من الكلام ولو بلغ الغاية يمل من الترداد ويعادي، إذا أعيد يؤنس به في الخلوات ويستراح بتلاوته من شدائد الأزمات، واشتمل على جميع ما اشتملت عليه جميع الكتب الإلهية وزيادة. وقد قال بعض بطارقة الروم لما أسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: إن آية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ [النور: الآية 52] جمعت جميع ما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام من أحوال الدنيا والآخرة. قال الحليمي في منهاجه: ومن عظم قدر القرآن أن الله خصه بأنه دعوة وحجة، ولم يكن هذا النبي قط، إنما يكون لكل منهم دعوة، ثم يكون له حجة غيرها، وقد جمعهما الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن، فهو دعوة وحجة، دعوة بمعانيه، حجة بألفاظه. وكفى الدعوة شرفا أن تكون حجتها معها، وكفى حجتها شرفا أن لا تنفصل دعوتها عنها. وجمع كل شيء أي خصوصا الإخبار بالمغيبات، وتوجد على طبق ما

أخبر به، والإخبار عن القرون السالفة، كقصة موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام، وقصة أهل الكهف، وقصة ذي القرنين. والأمم الماضية كقصص الأنبياء مع أممهم، وتيسره للحفظ، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء. ومنها شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم، أي والتآمه من غير حصول أدنى ضرر ولا مشقة مع تكرر ذلك أربعا أو خمسا كما تقدم. ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم عن صفة بيت المقدس: أي لما أخبر قريشا بأنه أسري به إلى بيت المقدس كما تقدم. ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي يوم موته، وصلاته عليه مع أصحابه، فقال المنافقون: انظروا هذا يصلي على علج نصراني: أي لم يره قط، فأنزل الله تعالى وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [آل عمران: الآية 199] الآية. ومنها انشقاق القمر كما تقدم. ومنها أن الملأ من قريش لما تعاقدوا على قتلة صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، جاؤوا إلى منزله صلى الله عليه وسلم، وقعدوا إلى بابه، فخرج عليهم وقد خفضوا أبصارهم، وسقطت ذقونهم في صدورهم، وأقبل صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فقبض قبضة من تراب، والقبضة بضم القاف: الشيء المقبوض، وبفتحها: المرة الواحدة، وقال «شاهت الوجوه» أي قبحت، وألقاها على رؤوسهم، فكل من أصابه شيء من ذلك قتل يوم بدر كما تقدم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم هزم القوم يوم حنين بقبضة من تراب رمى بها في وجوههم كما تقدم له في بدر مثل ذلك. ومنها نسج العنكبوت عليه صلى الله عليه وسلم في الغار، أي وعلى بعض أتباعه كما تقدم. ومنها ما وقع لسراقة رضي الله تعالى عنه، من غوض قوائم فرسه في الأرض الجلد كما تقدم في خبر الهجرة. ومنها در الشاة التي لم ينز الفحل عليها كما تقدم في قصة شاة أم معبد. وفي قصة أخرى عن أبي العالية قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبياته التسعة يطلب طعاما وعنده ناس من أصحابه فلم يجد، فنظر إلى عناق في الدار ما نتجت قط، فمسح مكان ضرعها، فدفقت بضرع مدلى بين رجليها، فدعا بقعب فحلب فيه، فبعث إلى أبياته قعبا، ثم قعبا، ثم حلب فشرب وشربوا» . ومنها دعوته صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه أن يعز الله به الإسلام فكان كذلك كما تقدم.

ومنها دعوته صلى الله عليه وسلم لعليّ أن يذهب عنه الحر والبرد فلم يشك واحدا منهما وكان كرم الله وجهه يلبس ثياب الشتاء في الصيف وثياب الصيف في الشتاء ولا يتأثر كما تقدم. أي ومن ذلك ما حدّث به بلال رضي الله تعالى عنه قال: «أذنت في غداة باردة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير في المسجد أحدا، فقال: أين الناس؟ فقلت: حبسهم البرد. فقال: اللهم أذهب عنهم البرد، قال: فلقد رأيتهم يتروّحون في الصلاة» . ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه وقد أصابه مرض واشتد به وسمعه يقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني، وإن كان بلاء فصبرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعاد ذلك عليه، فمسح صلى الله عليه وسلم بيده المباركة الشريفة، ثم قال: اللهم اشفه، فما عاد ذلك المرض إليه. أي ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله تعالى عنه في الخندق ليلة انهزام الأحزاب، بأن الله يذهب عنه البرد، فكان كأنه يمشي في حمام كما تقدم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم تفل في عيني علي كرم الله وجهه وهو أرمد، فعوفي من ساعته كما تقدم في خيبر. أي ومنها أنه صلى الله عليه وسلم بصق في نحر كلثوم بن الحصين وقد رمي فيه بسهم يوم أحد فبرأ كما تقدم. ومنها صلى الله عليه وسلم تفل على أثر سهم في وجه أبي قتادة في غزاة ذي قرد، فما ضرب عليه ولا قاح كما تقدم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم تفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تؤلمه كما تقدم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه يوم خيبر فبرئت كما تقدم. أي ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على رجل ورأس زيد بن معاذ رضي الله تعالى عنه حين أصابهما السيف عند قتل كعب بن الأشرف فبرئا كما تقدم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على ساق ابن الحكم يوم الخندق وقد انكسرت، فبرأ مكانه ولم ينزل عن فرسه كما تقدم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على يد معوذ ابن عفراء وقد قطعها عكرمة بن أبي جهل يوم بدر، وجاء يحملها فألصقها رسول الله فالتصقت كما تقدم. ومنها أن محمد بن حاطب يحدث عن أمه أنها ولدته بأرض الحبشة وأنها خرجت به، قالت: حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طعاما ففني الحطب، فذهبت أطلب، فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك، فقدمت

المدينة، فأتيت بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي بك: أي بعد الإسلام قالت: فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيك ومسح على ذراعك ودعا لك ثم تفل على يدك، ثم قال: «أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما» قالت: فما قمت من عنده صلى الله عليه وسلم حتى برئت يدك. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم نفث على عاتق خبيب وقد أصيبت يوم بدر بضربة على عاتقه حتى مال شقه فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه، فالتصق كما تقدم. ومنها رد عين قتادة بعد أن سالت على خده، فكانت أحسن عينيه كما تقدم. ومنها أن ضريرا شكا إليه صلى الله عليه وسلم ذهاب بصره وأنه لا قائد له، فقال له صلى الله عليه وسلم: توضأ وصلّ ركعتين ولقنه دعاء فدعا به فأبصر لوقته. أي ومنها أن رجلا ابيضت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصر. قال بعضهم: رأيته وهو ابن ثمانين يدخل الخيط في الإبرة. ومنها أن عتبة بن فرقد السلمي كان يشم منه رائحة الطيب ولا يمس طيبا، لكونه صلى الله عليه وسلم نفث في يده الشريفة ومرّ بها صلى الله عليه وسلم على جسده. قال بعض نساء عتبة: كنا أربع نسوة ما منا امرأة إلا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها وما يمس عتبة الطيب، وإذا خرج إلى الناس، قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلن له يوما: إنا لنجهد في الطيب ولأنت أطيب ريحا منا فممّ ذلك؟ فقال: أخذني الشرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوت إليه ذلك، فأمرني أن أتجرد فتجردت وقعدت بين يديه صلى الله عليه وسلم، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث صلى الله عليه وسلم في يده الشريفة ودلك بها الأخرى ثم مسح ظهري وبطني بيديه فعبق هذا الطيب من يديه يومئذ، وإلى ذلك أشار صاحب الأصل بقوله رحمه الله ورحمنا به: وعتبة لما مسه راح عاطرا ... يضوع الشذا منه بأعطر ما يحوي ومنها دعوته صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بأن الله يعلمه التأويل والفقه في الدين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما «ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: اللهم علمه الكتاب» ، وفي لفظ «الحكمة» وعنه رضي الله عنه، قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوآ، فلما خرج قال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال: اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل» . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس، قال: اللهم بارك فيه، وانشر منه فكان كما دعا» . ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لجمل جابر رضي الله عنهما، فصار سابقا بعد أن كان مسبوقا كما تقدم.

ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأنس بطول العمر وكثرة المال والولد فكان كما دعا. فقد ذكر أنه عاش فوق المائة، وأخبر عن نفسه أنه أكثر الأنصار مالا، ولم يمت حتى رأى مائة ولد من صلبه، وقد كان دفن مائة وعشرين من أولاده حين قدم الحجاج البصرة، وولد له بعد ذلك. أي ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأم أبي هريرة رضي الله عنهما بالإسلام فأسلمت. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كنت أدعو أمي للإسلام وهي مشركة فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله قد كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أمّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة للإسلام، فخرجت مستبشرا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جئت قصدت إلى الباب فإذا هو مجاف: أي مردود، فسمعت أمي حسّ قدمي، فقالت: على رسلك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح، فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعوتك، وهدى أمّ أبي هريرة، فحمد الله وقال خيرا. ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم في تمر حائط جابر رضي الله عنه بالبركة، فأوفى منه ما عليه وهو ثلاثون وسقا بسبب دين استدانه والده من يهودي، وفضل بعد ذلك ثلاثة عشر وسقا. وفي رواية: سبعة عشر وسقا، أي مع قلة ما كان فيه من التمر حتى قال جابر رضي الله عنه: كنت أود أن يؤدي الله دين والدي ولا أرجع إلى إخوتي بتمرة واحدة فإن النخل في ذلك العام لم يحمل إلا القليل، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم اليهودي في أن يصبر إلى عام قابل وهو يأبى ويقول: يا أبا القاسم لا أنظره، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف في النخيل، ثم قال: يا جابر جذّ، أي اقطع واقض، فأخذت في الجذاذ ووفيته ثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا، فجئته صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، وقال: أخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهبت فأخبرته فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركنّ فيها. وفي لفظ آخر عن جابر: توفي أبي وعليه دين فعرضت على غرمائه أن يأخذوا النخل بما عليه. فأبوا ولم يروا أن فيه وفاء، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إذا جذذته ووضعته في المربد فأعلمني فجذذته، فلما وضعته في المربد آذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ومعه أبو بكر وعمر فجلس عليه ودعا بالبركة، أي وهذا محمل رواية: ودعا صلى الله عليه وسلم في تمر جابر بحذف حائط.

وقد يقال: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم طاف في النخل أوّلا ودعا، ثم لما قطع التمر ووضع في المربد جاء وجلس عليه ودعا فلا مخالفة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ادع غرماءك فأوفهم، فما تركت أحدا له دين إلا قضيته وفضل مثله، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشرته، فقال: أشهد أني رسول الله. ومنها استسقاؤه صلى الله عليه وسلم فأمطرت السماء أسبوعا، ثم شكي له من كثرة المطر فاستصحى لهم فانجاب السحاب كما تقدم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عتيبة بالتصغير ابن أبي لهب بأن يسلط عليه كلب فافترسه الأسد من بين القوم كما تقدم، أي والأسد إنما يسمى كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله، ومن ثم قيل: إن كلب أهل الكهف كان أسدا. وحكي أنه كان رجلا يسمى بالكلب لملازمته للحراسة. ويرده ما جاء ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أهل الكهف، وحمار العزير، وناقة صالح، وتقدم ذلك مع زيادة. وأما عتبة مكبرا فقد أسلم يوم فتح مكة هو وأخوه معتب هذا هو المشهور وبعضهم عكس، فقال: عتبة المكبر هو عقير الأسد، وعتيبة المصغر هو الذي أسلم يوم الفتح. ومنها شهادة الشجرة له صلى الله عليه وسلم بالرسالة في خبر الأعرابي الذي دعاه إلى الإسلام، فقال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال: نعم هذه الشجرة ادعها، فدعاها فأقبلت فاستشهدها فشهدت أنه كما قال ثلاثا ثم رجعت إلى منبتها. ومنها أمره صلى الله عليه وسلم للشجرتين اللتين كانتا بشاطىء الوادي أن يجتمعا ليستتر بهما عند قضاء الحاجة، فاجتمعا ثم افترقتا وذهبتا إلى محلهما كما تقدم في غزاة خيبر. ومنها أمره صلى الله عليه وسلم أنسا أن يتلطف إلى نخلاته يقول لهن، أمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجتمعن ليقضي حاجته بينكن، فلما قضى حاجته أمره أن يأمرهن بالعود إلى أماكنهن فعدن كما تقدم. ومنها مجيء الشجرة إليه صلى الله عليه وسلم لتظله وتسلم عليه. فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم نام: أي في الشمس فجاءت شجرة تشق الأرض حتى قامت عليه، فلما استيقظ ذكر له ذلك. فقال: هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم عليّ فأذن لها. ومنها حنين الجذع إليه صلى الله عليه وسلم كما تقدم. ومنها تسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم كما تقدم. أي ومنها تأمين أسكفة الباب وحوائط البيت على دعائه صلى الله عليه وسلم آمين آمين آمين كما تقدم. ومنها تسبيح الطعام بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم. ومنها إعلام الشاة المسمومة له صلى الله عليه وسلم بأنها مسمومة كما تقدم. ومنها شكوى البعير له صلى الله عليه وسلم قلة العلف وكثرة العمل كما تقدم.

أي ومنها شكوى بعض الطيور له صلى الله عليه وسلم بسبب أخذ بيضة أو فراخه. فقد جاء: «أن حمرة جاءت فوق رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: أيكم فجع هذه؟ فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضها، فقال: رده رده رحمة لها» . وفي لفظ: «من فجع هذه بفرخيها؟ فقلن: نحن، فقال صلى الله عليه وسلم: ردوهما إلى موضعهما» ولا مانع من وجود البيض مع الفراخ. ومنها سجود البعير له صلى الله عليه وسلم الذي استصعب على أهله وصار كالكلب الكلب لا يقدر أن يقرب إليه كما تقدم. ومنها سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم في بعض حوائط الأنصار كما تقدم. ومنها تكليم الجمل له صلى الله عليه وسلم كما تقدم. ومنها تكليم الحمار له صلى الله عليه وسلم في خيبر، وهو اليعفور كما تقدم. ومنها شهادة الجمل عنده صلى الله عليه وسلم أنه لصاحبه الأعرابي دون من ادعاه. ففي المعجم الكبير للطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصرنا بأعرابي أخذ بخطام بعيره حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم ونحن حوله، فقال: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام. وجاء رجل آخر كأنه حرسي، فقال الحرسي: يا رسول الله هذا الأعرابي سرق سرب البعير، فرغا البعير ساعة وحنّ فأنصت له رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة فسمع رغاءه وحنينه، فلما هدأ البعير أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال للرجل: انصرف عنه فإن البعير شهد عليك أنك كاذب فانصرف، وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي؟ فقال: أي شيء، قلت حين جئت لي، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّ على محمد حتى لا تبقى صلاة، وبارك على محمد حتى لا تبقى بركة، اللهم سلم على محمد حتى لا يبقى سلام، اللهم وارحم محمدا حتى لا يبقى رحمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل أبداها لي والبعير ينطق بعذرك وإن الملائكة قد سدوا الأفق. أي ومنها سؤال الظبية له صلى الله عليه وسلم، أن يخلصها لترضع ولدها وتعود، فخلصها، وعادت وتلطفت بالشهادتين. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظبية مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله خلصني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني، فقال لها: صيد قوم وربيطة قوم، ثم استحلفها أن ترجع، فحلفت له، فحلها فمكثت قليلا ثم جاءت وقد نفضت ضرعها، فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له فحلّها. وعن زيد بن أرقم نحو هذا، وزاد فأنا والله رأيتها لتسبيح في البرية وتقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وذكر بعضهم أن حديث الغزالة موضوع:

أي ومنها شهادة الذئب له صلى الله عليه وسلم بالرسالة كما تقدم. ومنها شهادة الضبّ له صلى الله عليه وسلم بالرسالة كما تقدم. ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم عن مصارع المشركين ببدر، فلم يعد أحد منهم من مصرعه كما تقدم. ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأن طائفة من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بالراء المهملة بنت ملحان منهم، فكان كذلك كما تقدم. ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان رضي الله عنه بأنه تصيبه بلوى شديدة فأصابته وقتل فيها. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني» والأثرة: بضم الهمزة وسكون الثاء المثلثة: أي يستأسر عليكم غيركم بأمور الدنيا، فكان ما وقع في زمن معاوية في وقعة الجمل وصفين، وفي زمن ولده يزيد في وقعة الحرة كما تقدم. ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه لا يبقى أحد من أصحابه بعد المائة: أي من الهجرة. والذي ينبغي أن تكون المائة من حين وفاته صلى الله عليه وسلم، لأن أبا الطفيل رضي الله عنه آخر من مات من الصحابة فكان موته بعد المائة من الوفاة. وعن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: «وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي، وقال: يعيش هذا الغلام قرنا فعاش مائة سنة» . ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات وهو باب واسع جدا. فمن ذلك أنه جيء إليه صلى الله عليه وسلم برجل سرق، فقال: اقتلوه، فقيل له أنه سرق. فقال: اقطعوه، ثم أتي به بعد إلى أبي بكر رضي الله عنه وقد سرق فقطع، ثم ثالثة ورابعة إلى أن قطعت قوائمه، ثم جيء به إلى أبي بكر وقد سرق، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: لا أجد لك شيئا إلا ما قضى به فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أمر بقتلك، فإنه كان أعلم بذلك، ثم أمر بقتله. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لقيس بن خرشة العبسي رضي الله عنه وقد قال له: «يا رسول الله أبايعك على ما جاء من الله، وعلى أن أقول الحق: يا قيس عسى إن مرّ بك الدهر أن يليك ولاة لا تستطيع أن تقول معهم الحق، فقال قيس: لا والله لا أبايعك على شيء إلا وفيت به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذن لا يضرك شيء» وكان قيس رضي الله عنه يعيب زيادا وابنه عبيد الله بن زياد ومن بعده، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل إليه فقال له: أنت الذي تفتري على الله وعلى رسوله؟ فقال: لا والله ولكن إن شئت أخبرتك بمن يفتري على الله ورسوله؟ قال: ومن هو؟ قال: من ترك

العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: ومن ذلك؟ قال: أنت وأبوك ومن أمركما. قال: وأنت الذي تزعم أنك لا يضرك بشر؟ قال نعم. قال: لتعلمنّ اليوم أنك كاذب، ائتوني بصاحب العذاب، فمال قيس عند ذلك فمات. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزوجاته: «أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟ وأيتكن صاحبة الجمل الأديب» بالدال المهملة والفك لغة في الأدب بالإدغام: وهو كثير الشعر «يقتل حولها قتلى كثير وتنجو بعد ما كادت» فكانت تلك عائشة رضي الله عنها، فإنه لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت عائشة بمكة، لأنها خرجت إلى مكة وهو محاصر وكلمها مروان بن الحكم في عدم الخروج، وقال لها: لا تخرجي يا أماه، فجاء إليها طلحة والزبير رضي الله عنهما بعد أن بايعا عليا على كره، واستأذنا عليا كرم الله وجهه في العمرة فأذن لهما فقدما مكة، وخرجت بنو أمية من المدينة ولحقت بمكة قبل المبايعة لعليّ، فخرج مروان وغيره من أهل المدينة، وجاء إلى عائشة رضي الله عنها يعلى بن أمية رضي الله عنه وكان عاملا لعثمان باليمن. فلما بلغه حصار عثمان قدم لنصرته فسقط من على بعيره في أثناء الطريق فكسر فخذه، وبلغه قتل عثمان، فلا زالوا بعائشة حتى وافقت على الخروج إلى العراق في طلب دم عثمان رضي الله عنه، ودفع لها ذلك الجمل يعلى بن أمية اشتراه بمائتي دينار، وأعان الزبير بأربعمائة ألف دينار، وصار يقول: من خرج في طلب دم عثمان فعليّ جهازه، فحمل سبعين رجلا من قريش، وطلبت عائشة رضي الله عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يكون معها. فقال: معاذ الله أن أدخل في الفتنة، ويقال إن طلحة والزبير دعوا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم إلى الخروج معهم، فقال لهم: أما تخافون الله أيها القوم، وتدعوا هذا الأباطيل عنكم؟ وكيف أضرب في وجه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالسيف وقد عرفت فضله وسابقته ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنكما بايعتماه وسألتماه القيام بهذا الأمر ثم نكثتما بعد أن جعل الله عليكما شهيدا، وإنه ما بدل ولا غير. والقاتل لعثمان رضي الله تعالى عنه أخو زعيمتكم ورئيستكم يعني بعائشة وأخوها محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فإنه أخذ بلحيته فضربها حتى تقلقلت أضراسه وضربه بالمشقص، فلما كانت عائشة رضي الله عنها في أثناء الطريق سمعت كلابا تنبح، فسألت عن ذلك المحل، فقيل لها: هذا الحوأب، فأرادت الرجوع لما تذكرت ما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي فإنها صرخت وأناخت بعيرها، وقالت: والله أنا صاحبة الحوأب، ردوني ردوني ردوني. فعند ذلك يقال إن طلحة والزبير أحضرا خمسين رجلا شهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب، وأن المخبر لها كذاب. قال الشعبي: وهي أول شهادة زورت في الإسلام، وقال لها الزبير رضي الله

عنه: ولعل الله أن يصلح بك بين الناس، فلما بلغ عليا كرم الله وجهه توجه عائشة ومن ذكر معها إلى العراق توجه إلى العراق بعد أن كان أراد الذهاب إلى الشام وقام في الناس، وقال: ألا إن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد تمالؤوا على سخط إمارتي، وإني خارج إليهم، ثم جاءه الخبر أن ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان، وهو منصوب على منبر دمشق ومعلق فيه أصابع زوجة عثمان، فقال: أمني يطلبون دم عثمان؟. ولما أراد الخروج جاءه عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها: أي المدينة، فو الله لئن خرجت منها لا يرجع إليها سلطان المسلمين فسبوه، وقالوا له: يا بن اليهودية ما لك ولهذا الأمر؟ فقال لهم علي كرم الله وجهه: دعوا الرجل، فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إن طلحة والزبير وأم المؤمنين وصلوا إلى البصرة ووقع بينهم وبين أهل البصرة مقتلة كبيرة، بعد أن افترقوا فرقتين إحداهما تقول صدقت وبرت، يعني عائشة وجاءت بالمعروف. وقالت الأخرى كذبت. ثم انحازت الأخرى إلى عسكر أم المؤمنين وقهروا أهل البصرة، ونادى منادي الزبير وطلحة: ألا من كان عنده أحد ممن غزا المدينة فليأت به، فجيء بهم كما يجاء بالكلاب وكانوا ستمائة فقتلوا فما أفلت منهم من أهل البصرة إلا حرقوص بن زهير. وكتب طلحة والزبير إلى أهل الشام: إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب الله، فوافقنا خيار أهل البصرة وخالفنا شرارهم، ولم يفلت من قتلة أمير المؤمنين عثمان من أهل البصرة إلا حرقوص بن زهير، والله مقيده إن شاء الله. وكتبوا لأهل الكوفة بمثله وكتبوا إلى أهل اليمامة بمثل ذلك، وكتبوا إلى أهل المدينة بمثل ذلك. ثم سار علي كرم الله وجهه إلى البصرة، ثم أرسل إلى أهل الكوفة يستنفرهم إليه فنفروا إليه بعد أمور يطول ذكرها، وكانوا سبعة آلاف. والتقى الجيشان جيش علي كرم الله وجهه وجيش عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، بعد أن كتب لطلحة والزبير: أما بعد، فقد علمتما أني لم أرد البيعة حتى أكرهت عليها، وأنتما ممن رضي ببيعتي وألزمني إياها، فإن كنتما بايعتما طائعين فتوبا إلى الله وارجعا عما أنتما عليه فإنك يا طلحة شيخ المهاجرين، وأنت يا زبير فارس قريش، لو دفعتما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه لكان أوسع لكما من خروجكما منه والسلام. وكتب لعائشة رضي الله عنها: أما بعد، فإنك قد خرجت من بيتك تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين، وطلبت بزعمك دم عثمان وأنت بالأمس تؤلبين عليه فتقولين في ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوا نعثلا فقد كفر، قتله الله، واليوم تطلبين بثأره، فاتقي الله وارجعي إلى بيتك وأسبلي عليك سترك قبل أن يفضحك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلما قرؤوا الكتابين عرفوا أنه على الحق.

وعند ذلك خرج طلحة والزبير رضي الله عنهما على فرسين وخرج إليهما علي كرم الله وجهه، ودنا كل واحد من الآخر. فقال لهما عليّ: لعمري لقد أعددتما خيلا ورجالا وسلاحا، فاتقيا الله ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النحل: الآية 92] ألم تكونا: أخويّ في الله تحرمان دمي وأحرم دمكما؟ فقال له طلحة رضي الله عنه: ألبت الناس على عثمان، فقال له علي كرم الله وجهه: أنتما خذلتما، حتى قتل، فسلط الله اليوم على أشرنا على عثمان ما يكره، ثم توافقوا على الصلح، وقتل من كان له دخل في قتل عثمان رضي الله عنه. وبات الفريقان على ذلك. وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة وباتوا يتشاورون. ثم اتفقوا على إنشاب الحرب، فلما كان وقت الغلس ثاروا ووضعوا السلاح، فثار الناس، فخرج طلحة والزبير في وجوه الناس. وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا جيش عليّ فقالا: علمنا أن عليا غير سيفه حتى يسفك الدماء، ويستحل الحرمة: فقام علي كرم الله وجهه في وجوه الناس. وقال: ما هذا، قالوا: طرقنا جيش عائشة. فقال: لقد علمت أن طلحة والزبير غير سفيهين حتى يسفكا الدماء ويستحلا الحرمة، ونشبت الحرب فألبسوا هودج عائشة رضي الله عنها الدروع، ووقفت على الجمل، وصار كل من أخذ زمامه قتل، وقتل طلحة رضي الله عنه جاءه سهم غرب يقال أرسله له مروان بن الحكم وهو كان في جيش أم المؤمنين. وفر الزبير رضي الله عنه لما قال له علي كرم الله وجهه: يا زبير أتذكر لما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تقاتلني وأنت ظالم لي؟ فقال: والله لو ذكرت ذلك ما قاتلتك ولا سرت سيري هذا، ولكن رجوعي عين العار فقال له علي كرم الله وجهه: ترجع بالعار ولا ترجع بالنار، فترك وذهب، وصار الهودج مثل القنفذ من كثرة النشاب. فعند ذلك عقروا الجمل، ووقع الهودج على الأرض، وجعلت تقول عائشة رضي الله عنها: يا بني اتبعنه اتبعنه. وعند ذلك قال علي كرم الله وجهه لمحمد بن أبي بكر رضي الله عنهما، انظر أختك هل أصابها شيء؟ فلما جاءها وأدخل يده، قالت: من أنت؟ قال: ابن الخثعمية، قالت: محمد؟ قال نعم. قالت: بأبي أنت وأمي، الحمد لله الذي عافاك. وفي رواية قال لها: أخوك محمد البار، فقالت: بل مذمم العاق فضرب عليها فسطاطا، فلما كان من آخر الليل خرج بها، وأدخلها البصرة وأنزلها في دار صفية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وبكت عائشة رضي الله عنها بكاء كثيرا وقالت: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وقد قال علي كرم الله وجهه مثل ذلك لما رأى من كثرة القتلى، فقد قيل: إن القتلى بلغت عشرة آلاف، وقيل ثلاثة عشر ألفا.

ثم إن عليا كرم الله وجهه صلى على القتلى من الفريقين، ثم دخل البصرة على بغلته متوجها لعائشة رضي الله عنها، فلما دخل عليها سلم عليها وقعد عندها ثم جهزها بكل شيء ينبغي لها، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وأمرهن بلبس العمائم وتقليد السيوف، ثم قال لهن: لا تعلمنها بأنكن نسوة وتلثمن مثل الرجال وكن حولها من بعيد ولا تقربنها، وقال لأخيها محمد: تجهز معها. وفي رواية جهز معها أخاها عبد الرحمن في جماعة من شيوخ الصحابة. فلما كان يوم خروجها جاء إليها علي كرم الله وجهه ووقف الناس وخرجت فودعها وودعتهم، وقالت: يا بني والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي عليه عندي لمن الأخيار، فقال علي: أيها الناس صدقت والله وبرت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وذهب معها نحو سبعة أميال: ثم ذهبت إلى مكة حتى حجت، ثم رجعت إلى المدينة وعلمت عند وصولها إلى مكة أن هؤلاء الرجال حولها نساء فإنهن كشفن عن وجوههن وعرفنها الحال فشكرت وقالت: والله لا يزداد ابن أبي طالب إلا كرما. وقيل إن كعب بن سعد أتى عائشة رضي الله تعالى عنها وقال: لعل الله أن يصلح بك، والأولى الصلح والسكون والنظر في قتلة عثمان بعد ذلك، فوافقت وركبت هودجها وقد ألبسوه الأدراع ثم بعثوا جملها وذهب إلى علي كرم الله وجهه وقال له مثل ذلك، فقال له: قد أحسنت، وأشرف القوم على الصلح، فخافت قتلة عثمان رضي الله عنه فأشار عليهم ابن السوداء الذي هو السبائي الذي هو أصل الفتنة أن يفترقوا فرقتين تكون كل فرقة في عسكر من العسكرين، فإذا جاء وقت السحر ضربت كل فرقة منهما إلى العسكر الذي فيه الفرقة الأخرى فنادت كل فرقة في العسكر الذي هي فيه غررنا، ففعلوا ذلك، فنشبت الحرب وحصل ما تقدم. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن رضي الله عنه: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فصالح معاوية رضي الله عنهما، وحقن دماء الفئتين من المسلمين. أي فإن الحسن رضي الله عنه لما بويع له بالخلافة يوم مات أبوه كان في الخلافة سبعة أشهر، وقيل ستة أشهر. ولما سار إلى قتال معاوية كان معه أكثر من أربعين ألفا، فلما سار عدا عليه شخص وضربه بخنجر في فخذه ليقتله، فقال الحسن: قتلتم أبي بالأمس، ووثبتم عليّ اليوم، تريدون قتلي، زهدا في العادلين، ورغبة في القاسطين، لتعلمن نبأه بعد حين. أي ويذكر أنه بينما هو يصلي إذ وثب عليه شخص فطعنه بخنجر وهو ساجد، ثم خطب الناس، فقال: يا أهل العراق اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم ونحن أهل البيت الذين قال الله فيهم: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ

تَطْهِيراً [الأحزاب: الآية 33] فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إلا وهو يبكي. ثم كتب إلى معاوية رضي الله عنهما بتسليم الأمر: أي بعد أن أرسل إليه معاوية رضي الله عنه رجلين يكلمانه في الإصلاح، فإن عمرو بن العاص لما رأى الكتائب مع الحسن أمثال الجبال، قال لمعاوية: إني لأرى هذه الكتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فخلع الحسن رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية، تورعا وزهدا، وقطعا للشر، وإطفاء لثائرة الفتنة، وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله المتقدم، وغض منه شيعته حتى قال له بعضهم: يا عار المؤمنين سوّدت وجوه المؤمنين، فقال: العار خير من النار. وقال له بعضهم: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال له: لا تقل ذلك كرهت أن أقتلكم في طلب الملك، وعند ذلك: أي لما انبرم الصلح طلب منه معاوية رضي الله عنهما أن يتكلم بجمع من الناس ويعلمهم أنه سلم الأمر إلى معاوية، فأجابه إلى ذلك وصعد المنبر وحمد الله إلى أن قال في خطبته: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، إلا أن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت أنا ومعاوية فيه إما أن يكون أحق به مني أو يكون حقي، فإن كان حقي فقد تركته لله ولصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائهم، ثم التفت رضي الله عنه إلى معاوية وقال وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) [الأنبياء: الآية 111] ، أي ثم انتقل من الكوفة إلى المدينة وأقام بها، وكان من جملة ما اشترطه على معاوية رضي الله عنه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعده، ولا يعهد إلى أحد من بعده عهدا. وقيل على أن يكون الأمر للحسن بعده فلما سم الحسن اتهم بذلك زوجته بنت الأشعث بن قيس، وأن ذلك بدسيسة من يزيد ولد معاوية، ووعدها أن يتزوجها، وبذل لها مائة ألف درهم حرصا على أن يكون الأمر له، فإن معاوية عرّض بذلك في حياة الحسن ولم يكشفه إلا بعد موته. ولما جاء الخبر لمعاوية بموته رضي الله عنه قال: يا عجبا من الحسن بن علي شرب شربة مع عسل بماء رومة، يعني بئر رومة فقضى نحبه. وأتى ابن عباس رضي الله عنهما معاوية وهو لا يعلم الخبر، فقال له معاوية: هل عندك خبر المدينة؟ قال لا، فقال معاوية: يا بن عباس احتسب الحسن، لا يحزنك الله ولا يسوؤك، فأظهر عدم التشوش وقال: أما ما أبقاك الله لي يا أمير المؤمنين فلا يحزنني الله ولا يسوؤني، فأعطاه على تلك الكلمة ألف ألف. وذكر بعضهم قال: كنا عند الحسن رضي الله عنه ومعنا الحسين رضي الله عنه، فقال الحسن: لقد سقيت السم مرارا وما سقيته مثل هذه المرة، ولقد لفظت

طائفة من كبدي، فقال له الحسين: أي أخي ومن سقاك؟ قال: وما تريد؟ أتريد أن تقتله؟ قال نعم: قال لئن كان الذي أظن فالله أشد نقمة، ولئن كان غيره ما أحب أن يقتل بي بريئا. وكان الحسن رضي الله عنه رجلا حليما لم يسمع منه كلمة فحش، وكان مروان وهو وال على المدينة يسبه ويسب عليا كرم الله وجهه كل جمعة على المنبر، فقيل له في ذلك؟ فقال: لا أمحو عنه شيئا بأن أسبه، ولكن موعدي وموعده الله، فإن كان صادقا جازاه الله بصدقه، وإن كان كاذبا فالله أشد نقمة. وأغلظ عليه رضي الله تعالى عنه مروان يوما وهو ساكت، ثم امتخط مروان بيمينه، فقال له الحسن رضي الله تعالى عنه: أف لك، لك علمت أن اليمين لها شرف، فخجل مروان. وبكى مروان في جنازته، فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟ فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا وأشار إلى الجبل. ومن ثم لما وقع بين الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعض الشحناء فتهاجرا، ثم أقبل الحسن على الحسين فأكب على رأسه يقبله، فقال له الحسين: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا أنك أحق بالفضل مني، وكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به مني، وقد تقدم ذلك. ومن شعر الحسن رضي الله تعالى عنه: من ظن أن الناس يغنونه ... فليس بالرحمن بالواثق ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بقتل الأسود العنسي الكذاب: أي الذي ادعى النبوة ليلة قتله بصنعاء وبمن قتله كما تقدم. أي ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأن رجلا من أمته يتكلم بعد الموت، فكان كذلك وهو زيد بن حارثة. وتكلم غيره أيضا، فعن ابن المسيب أن رجلا من الأنصار توفي، فلما كفن أتاه القوم يحملونه تكلم، فقال: محمد رسول الله، فلعل المراد بالرجل جنس الرجل. ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأن أمته تتخذ الخصيان، وأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يستوصوا بهم خيرا، فقال: «سيكون قوم ينالهم الخصاء، فاستوصوا بهم خيرا» وهو يقتضي أن الخصاء لم يكن في غير هذه الأمة. ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بذهاب الأمانة والعلم والخشوع وعلم الفرائض أي قرب قيام الساعة. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: «تعيش حميدا، وتقتل شهيدا» ، فقتل رضي الله تعالى عنه يوم القيامة في قتال مسيلمة الكذاب لعنه الله.

وإخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات باب واسع. منه الإخبار بالحوادث الكائنة بعده إلى آخر الزمان. والإخبار عن أحوال يوم القيامة من القضاء والحشر والحساب، والإخبار عن الجنة والنار. فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: «لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يكون حتى تقوم الساعة» وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح يوما وصعد المنبر فخطب حتى حضرت الظهر فنزل فصلى الظهر، ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس فأخبر بما كان وبما هو كائن. ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن في جماعة من المهاجرين والأنصار: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي غدا وقبري» وكان كذلك، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ باليمن، ولم يتقدم إلا في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «سنفتح عليكم مصر، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم رحما وصهرا، والمراد بالرحم، أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام جده صلى الله عليه وسلم فإنها كانت قبطية، والمراد بالصهر أم ولده إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنها كانت قبطية كما علمت. ومنها إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم غير ما تقدم: فمن ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لثعلبة بن حاطب الأنصاري أي غير البدري، لأن ذاك قتل بأحد، وهذا تأخر إلى زمن عثمان رضي الله تعالى عنه كما سيأتي خلافا لمن وهم في ذلك، لأن من شهد بدرا لا يدخل النار: وكثيرا ما يقع الاشتراك في الاسم واسم الأب كما قال بعض الصحابة، وهو طلحة بن عبيد الله: لئن مات محمد صلى الله عليه وسلم لأتزوجن عائشة من بعده، فأنزل الله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: الآية 53] الآية، ظن بعضهم أن المراد بطلحة هذا أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحشاة من ذلك، وهو أجلّ مقاما من أن يصدر منه مثل ذلك. ولما قال ثعلبة بن حاطب له: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الذي نفسي بيده، لو سألت ربي أن يسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا، فاتخذ غما فصارت تنمى كما ينمى الدود، وضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من

أوديتها، فكان يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك الجماعة فيما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجماعة فيما سوىّ الجمعة فإنه كان يشهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ترك الجمعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل ثعلبة؟ فأخبروه بخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: يا ويح ثعلبة قالها ثلاثا، فلما نزل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التّوبة: الآية 103] الآية بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة وكتب لهما فرائض الصدقة وأسنانها وقال لهما مرا بثعلبة، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقا حتى تفرغا، ثم تعودا إليّ فانطلقا ثم مرّا عليه، فقال: أرياني كتابكما أنظر فيه، فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخية الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال قبل أن يكلماه: يا ويح ثعلبة، فلما أخبراه بالذي صنع ثعلبة، أنزل الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ [التّوبة: الآية 75] الآيات، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فأرسل إليه بأن الله قد أنزل فيك قرآنا وهو كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة فقال: إن الله منعني أن أقبل صدقتك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني، وأبي أن يقبل منه شيئا، فأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه حين استخلف فسأله قبول صدقته، فقال له: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا لا أقبلها، ثم فعل كذلك مع عمر رضي الله تعالى عنه، ثم مع عثمان رضي الله تعالى عنه، وكل يأبى أن يقبل صدقته، ومات في خلافة عثمان. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رجل ارتد ولحق بالمشركين: اللهم اجعله آية. فعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رجل من بني النجار حفظ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فارتد ولحق بأهل الكتاب، وكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتب له، فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اجعله آية، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوه وألقوه فحفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا مثل الأول، فحفروا وأعمقوا، فلفظته الأرض في المرة الثالثة، فعلموا أنه ليس من فعل الناس. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لرجل يأكل بشماله: «كل بيمينك، فقال: لا أستطيع» أي قال ذلك تكبرا وعنادا «فقال له صلى الله عليه وسلم: لا استطعت، فلم يطق أن يرفعها إلى فيه بعد» . أي ومن ذلك المرأة التي خطبها صلى الله عليه وسلم فقال له أبوها إن بها برصا ولم يكن بها برص، وإنما قال ذلك امتناعا من خطبته صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: فلتكن كذلك، فبرصت. ومن ذلك «أن فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت إليه صلى الله عليه وسلم فنظر إليها وقد ذهب الدم من وجهها وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ادن مني يا فاطمة، فدنت منه، فرفع يده فوضعها على صدرها وفرج بين أصابعه، وقال: اللهم مشبع الجاعة، ورافع الوضيعة، ارفع فاطمة بنت محمد، فذهبت الصفرة عنها

حالا، ولم تشك بعد ذلك جوعا» . ومن ذلك ما حدّث به وائلة بن الأسقع قال: «حضر رمضان ونحن في أهل الصفّة فصمنا. فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلا من أهل الصفة فأخذه فانطلق به فعشاه فأتت علينا ليلة فلم يأتنا أحد، فأصبحنا صياما، ثم أتت علينا الليلة القابلة فلم يأتنا أحد، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه يسألها هل عندها شيء؟ فما بقيت امرأة إلا أرسلت تقسم ما أمسى في بيتها ما يأكل ذو كبد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتمعوا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك فإنهما بيدك لا يملكهما أحد غيرك، فلم يكن إلا مستأذن يستأذن، فإذا بشاة مصلية ورطب، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت بين أيدينا فأكلنا حتى شبعنا» . ومنها تساقط الأصنام حول الكعبة بإشارته صلى الله عليه وسلم إليها، أو طعنة فيها بقضيب كان في يده قائلا: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الإسراء: الآية 81] كما تقدم. ومنها تكثير الطعام، وقد وقع له ذلك في مواطن كثيرة. فمن ذلك إطعام ألف من صاع شعير في حفر الخندق فشبعوا والطعام أكثر مما كان كما تقدم. ومن ذلك إطعام أهل الخندق من تمر يسير كما تقدم. ومن ذلك جمع ما فضل من الأزواد ودعاؤه صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وقسمتها في العسكر، فقامت بهم كما تقدم في الحديبية وتبوك. ومن ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة في تمرات قد صفهن في يده، وقال ادع لي فيهن بالبركة، أي فدعا له صلى الله عليه وسلم بذلك، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فأخرجت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل منه ونطعم حتى انقطع في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، أي بانقطاع المزود الذي أمره صلى الله عليه وسلم أن يكون به التمر. والمزود: وعاء من جلد يوضع فيه الزاد وقال له: إذا أردت شيئا فأدخل يدك ولا تكفأ فيكفأ عليك، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وكان لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان انقطع حقوي فسقط. وفي رواية: كان معلقا خلف رحلي فوقع في زمن عثمان: أي في زمن محاصرته وقتله فذهب. وفي رواية: فلما قتل عثمان انتهب بيتي وانتهب المزود: أي بعد سقوطه من حقوه فلا يخالف ما سبق. وقد جاء في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بتمرات، فقلت: يا رسول الله ادع لي فيهن بالبركة، فصفهن ثم دعا فيهن بالبركة وقال: خذهن واجعل في مزودك ما أردت منهن، أي إذا أردت أخذ شيء منهن

أدخل يدك فيه فخذه ولا تنثره نثرا. أي وفي لفظ: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الناس مجاعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة هل من شيء؟ قلت: نعم شيء من تمر في المزود، فقال: ائتني به فأتيته به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها، ثم قال لي: ادع لي عشرة، فدعوت عشرة فأكلوا حتى شبعوا، فما زال يصنع ذلك حتى أطعم الجيش كلهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: خذ ما جئت به أدخل يدك فاقبض ولا تكفأه، قال: فقبضت على أكثر ما جئت به، ثم أكلت منه حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر وأطعمت، وحياة عمر وأطعمت، وحياة عثمان وأطعمت فلما قتل عثمان انتهب مني. ومن ذلك تكثير الطعام الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصابعه، فقد جاء: «أنه صلى الله عليه وسلم دعا أهل الصفة لقصعة ثريد، فأكلوا حتى لم يبق إلا اليسير في نواحيها، فجمعه صلى الله عليه وسلم فصار لقمة، فوضعها على أصابعه وقال لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه» أي لأنه كان من أهل الصفة «كل بسم الله. قال أبو هريرة: فو الذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت كما تقدم» قيل وكان أصحاب الصفة حينئذ تسعين، وقيل مائة ونيفا، وقيل أربعمائة. ومن ذلك تكثير الطعام الذي جاء به أنس رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم. فعنه رضي الله تعالى عنه قال «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله. فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول لك: إن هذا لك منا قليل، قال: فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: إن أمي تقرئك السلام وتقول لك: إن هذا منا لك قليل، فقال: ضعه، ثم قال: اذهب فادع لي فلانا وفلانا وفلانا ومن لقيت، فدعوت من سمى ومن لقيت. قيل لأنس: كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس هات التور، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا كلهم، ثم قال: يا أنس ارفع فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت» . ومن ذلك تكثير الطعام الذي صنعه أبو أيوب الأنصاري، فعنه رضي الله تعالى عنه قال: «صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله تعالى عنه طعاما قدر ما يكفيهما فأتيتهما به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار، قال فشق ذلك عليّ، ما عندي ما أزيده، فقال: اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار. قال أبو أيوب رضي الله تعالى عنه: فدعوتهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اطعموا، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله قبل أن يخرجوا، ثم قال: اذهب فادع لي ستين من أشراف الأنصار، فدعوتهم فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله قبل أن يخرجوا، ثم قال: اذهب فادع لي تسعين من الأنصار،

فدعوتهم فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرجوا، فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا كلهم من الأنصار. قال: ومنها تكثير اللبن في القدح. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أنه اشتد به الجوع يوما، قال: فمر عليّ أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقمت إليه وسألته عن آية من كتاب الله ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثم مر عليّ عمر ففعلت معه وفعل معي كذلك، ثم مر صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي، ثم قال: يا أبا هريرة» وفي لفظ: «يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، فتبعته صلى الله عليه وسلم إلى أن دخل بيته وأذن لي، فدخلت فوجدت لبنا في قدح، فقال صلى الله عليه وسلم» أي لأهل بيته «من أين هذا اللبن؟ فقيل: أهدي لك، فقال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ادع لي أهل الصفة، فساءني ذلك، فقلت: ما هذا اللبن في أهل الصفة، وما أظن أن ينالني من هذا اللبن شيء» أي لأنهم كانوا أربعمائة على ما تقدم «فدعوتهم، فأقبلوا وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: يا أبا هريرة، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، حتى لم يبق إلا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: اقعد فاشرب، فشربت فقال لي: اشرب فشربت، فما زال يقول لي اشرب فأشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، فأعطيته القدح، فحمد الله عز وجل وسمى وشرب الفضلة» اه أي وتقدم ذلك. وفي لفظ: «حتى إذا لم يبق إلا أنا وهو فأخذ القدح على يده ونظر إليّ وتبسم، فقال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب» الحديث. وقد جاء: «أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي هريرة: يا أبا هر، قال إنما أبو هريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: الذكر خير من الأنثى» . ولما وقع القتال بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يصلي خلف علي كرم الله وجهه، ويحضر طعام معاوية، وعند القتال يصعد على تل فقيل له في ذلك فقال: الصلاة خلف عليّ أقوم، وطعام معاوية أدسم، والقعود على هذا التل أسلم. ومن ذلك ما حدثت به بنت خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنهما قالت: «خرج خباب في سرية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهدنا وكان لنا عنز، فكان يحلبها فيملأ حلابها جفنة لنا، فلما جاء خباب عاد حلابها لما كان عليه أولا. فقلت لأبي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلبها فتمتلىء جفنتنا، فلما حلبتها رجع حلابها» . ومن ذلك ما حدث به بعض الصحابة أنه قال: «كنا زهاء أربعمائة رجل فنزلنا في موضع ليس فيه ماء فشق ذلك على أصحابه صلى الله عليه وسلم، فجاءت شويهة لها قرنان فقامت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلبها، فشرب حتى روي وسقى أصحابه حتى رووا ثم قال

لي صلى الله عليه وسلم: املكها الليلة وما أراك تملكها، فأخذتها فوتدت لها وتدا ثم ربطتها بحبل، ثم قمت في بعض الليل، فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحا فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ذهب بها الذي جاء بها» . ومنها: «أن امرأة كانت أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم سمنا في عكة فقبله، وترك في العكة قليلا ونفخ فيه ودعا بالبركة، فكان يأتيها بنوها يسألونها الأدم، فتعمد إلى تلك العكة فتجد فيها سمنا، فما زالت تقيم بها أدم بيتها بقية حياته صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، حتى كان من أمر علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما ما كان» وفي رواية «أنها عصرتها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: عصرتيها؟ قالت نعم قال: لو تركتيها ما زال دائما» ويحتمل أن الواقعة تعددت. وعن أم سليم أم أنس رضي الله تعالى عنهما، قالت: «كان لي شاة، فجمعت من سمنها ما ملأت به عكة وأرسلت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، وأمر ففرغوها وردوها فارغة وكنت غائبة عن المنزل، فلما جئت رأيت العكة مملوءة سمنا، قالت: فقلت للتي أرسلتها معها: كيف الخبر؟ فأخبرتني الخبر فما صدقتها، وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته، وقلت له: يا رسول الله وجهت إليك عكة سمن، قال: قد وصلت. فقلت: بالذي بعثك بالهدى ودين الحق لقد وجدتها مملوءة سمنا تقطر، قال: أفتعجبين أن أطعمك الله كما أطعمت نبيه صلى الله عليه وسلم: اذهبي فكلي واطعمي» الحديث. أي ومنها دعاؤه صلى الله عليه وسلم لفرس جعيل الأشجعي. فعنه رضي الله تعالى عنه قال: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته وأنا على فرس عجفاء ضعيفة فكنت في آخر الناس، فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سر يا صاحب الفرس. فقلت: يا رسول الله عجفاء ضعيفة فرفع محقنة كانت معه فضربها بها. وقال: اللهم بارك له فيها، فلقد رأيتني ما أملك رأسها قدام القوم. ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا» . ومنها أن جليبيبا على وزن قنيديل الأنصاري، وكان قصيرا دميما، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه، فقال: يا رسول الله إذا تجدني كاسدا، فقال: إنك عند الله لست بكاسد، فخطب له صلى الله عليه وسلم جارية من أولاد الأنصار، فكره أبو الجارية وأمها ذلك، فسمعت الجارية بما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قبلت: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: الآية 36] وقالت: رضيت وسلمت لما رضي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اصبب الخير عليها صبا ولا تجعل عيشها كدا، فكانت من أكثر الأنصار نفقة ومالا مع كونها أيما، فإنه رضي الله تعالى عنه قتل عنها في بعض غزواته معه صلى الله عليه وسلم بعد أن قتل سبعة من المشركين، ووقف عليه صلى الله عليه وسلم ودعا له، وقال: هذا مني وأنا منه، وحمله صلى الله عليه وسلم على ساعديه،

ماله سرير غير ساعديه صلى الله عليه وسلم، ثم حفروا له فوضعه في قبره ولم يغسله ولم يصل عليه. ومنها نبع الماء من بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم، حتى شرب القوم وتوضؤوا وهم ألف وأربعمائة. قال: وفي رواية ألف وخمسمائة. وفي رواية: فشربوا وسقوا وملؤوا قربهم، وكان في العسكر اثنا عشر ألف بعير، والخيل اثنا عشر ألف فرس، أي وهذه في غزوة تبوك، وقد تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم عدة مواطن عظيمة تقدمت، وتكررت الروايات بحسب تكرر الوقائع، وهو أشرف المياه كما قاله السراج البلقيني ولم يسمع بمثل هذه المعجزة التي هي خروج الماء من بين الأصابع عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي أبلغ من نبع الماء من الحجر الذي ضربه موسى عليه الصلاة والسلام، لأن خروج الماء من الحجر معهود، بخلاف خروجه من بين اللحم والدم والعظم والعصب كما تقدم اه. ومنها: أن الماء فار بغزر سهم من كنانته صلى الله عليه وسلم في محله. وقع له ذلك في الحديبية، وفي تبوك، فقد جاء: «أنه ورد في منصرفه من غزوة تبوك على ماء قليل لا يروي واحدا، وشكوا إليه صلى الله عليه وسلم العطش، فأخذ سهما من كنانته وأمر أن يغرز فيه، ففار الماء، وارتوى القوم، وكانوا ثلاثين ألفا» كما تقدم. قال: ومنها ما تقدم له صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب بذي المجاز من ضربه صلى الله عليه وسلم الأرض أو صخرة برجله حين عطش فخرج الماء كما تقدم. ومنها: ركوبه صلى الله عليه وسلم الفحل الذي قطع الطريق على من يمر لما سافر صلى الله عليه وسلم مع عمه الزبير بن عبد المطلب إلى اليمن كما تقدم. ومنها: انقلاب الماء الملح عذبا ببركة ريقه الشريف. فقد جاء: «أن قوما شكوا إليه صلى الله عليه وسلم ملوحة في ماء بئرهم، فجاء صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه حتى وقف على ذلك البئر، فتفل فيه، فتفجر بالماء العذب المعين» . ومنها: «أنه كان باليمن ماء يقال له زعاق من شرب منه مات، فلما بعث صلى الله عليه وسلم وجه إليه: أيها الماء أسلم فقد أسلم الناس، فكان بعد ذلك من شرب منه حم ولا يموت» . ومنها: زوال القرّاع بمرور يده الشريفة صلى الله عليه وسلم. فقد جاء: «أن امرأة أتته بصبي لها أقرع، فمسح صلى الله عليه وسلم رأسه فاستوى شعره وذهب داؤه» . ومنها: إحياء الموتى له صلى الله عليه وسلم وسماع كلامهم. فمن ذلك: «أنه صلى الله عليه وسلم دعا رجلا للإسلام فقال: لا أومن بك حتى تحيي لي بنتي، فقال صلى الله عليه وسلم: أرني قبرها، فأراه قبرها فقال صلى الله عليه وسلم: «يا فلانة، فقالت: لبيك وسعديك، فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبين أن ترجعي إلى الدنيا؟ فقالت: لا والله يا رسول الله، إني وجدت الله خيرا لي من أبويّ، ووجدت الآخرة خيرا من الدنيا» .

ومنها: إبراء الأبرص، فقد روي: «أن امرأة معاوية ابن عفراء كان بها برص فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح عليه بعصا، فأذهبه الله» . ومنها: إبراء الرئة واللقوة والقرحة واللسعة والحرارة والدبيلة والاستسقاء، فإن ابن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة حثوة من الأرض فتفل عليها ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجبا يرى أنه قد هزىء به، فأتاه بها وهو على شفا، فشربها فشفاه الله وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية بقوله: وبكف من تربة الأرض داوي ... من تشكي من مؤلم استسقاء ومنها: أن أخت إسحاق الغنوي هاجرت من مكة تريد المدينة هي وأخوها إسحاق المذكور، حتى إذا كانت في بعض الطريق قال لها أخوها: اجلسي حتى أرجع إلى مكة، فأخذ نفقة أنسيتها، قالت له: إني أخشى عليك الفاسق أن يقتلك: تعني زوجها فذهب أخوها إلى مكة وتركها، فمر عليها راكب جاء من مكة، فقال لها: ما يقعدك ههنا؟ قالت: أنتظر أخي، قال لا أخ لك، قد قتله زوجك بعد ما خرج من مكة، قالت: فقمت وأنا أسترجع وأبكي حتى دخلت المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ في بيت حفصة، فأخبرته الخبر، فأخذ ملء كفه ماء فضربني به، فمن يومئذ لم ينزل من عيني دمعة، وكانت تصيا بني المصائب العظام، غايته أن ينفر الدمع على مقلتي ولا يسيل على وجنتي. ومنها: إبراء الجراحة كما تقدم. ومنها: إبراء الكسر «فقد مسح صلى الله عليه وسلم على رجل ابن عتيك رضي الله تعالى عنه وقد انكسرت فكأنها لم تكسر قط» كما تقدم. ومنها: إبراء الجنون. أي ومنها أن امرأة جاءته صلى الله عليه وسلم بابن لها لا يتكلم وقد بلغ أوان الكلام، فأتي بماء فمضمض وغسل يديه ثم أعطاها صلى الله عليه وسلم إياه وأمرها أن تسقيه وتمسه به، ففعلت ذلك، فبرىء وعقل عقلا يفضل عقول الناس. ومنها: «أن بعض الصحابة ثبتت في كفه سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فما زال صلى الله عليه وسلم يطحنها بكفه الشريفة حتى زالت ولم يبق لها أثر. ومنها: «أنه صلى الله عليه وسلم أعطى جذلا من الحطب فصار سيفا» وقع ذلك لعكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه يوم بدر كما تقدم. ووقع ذلك لعبد الرحمن بن جحش أيضا يوم أحد كما تقدم. أي ومنها: انقلاب الماء لبنا وزبدا. ومنها: «أنه عرضت كدية بالخندق ولم يقدر أحد على إزالة شيء منها فضربها فصارت كثيبا» كما تقدم.

باب نبذة من خصائصه صلى الله عليه وسلم

أي ومن إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم ما روي عن النابغة الجعدي رضي الله تعالى عنه قال: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبياتا منها: فلا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجدت، لا أفضض الله فاك من هذه إشارة إلى أسنانه» قال النابغة رضي الله تعالى عنه: فلقد أتت علي نيف ومائة سنة وما ذهب لي سن. قيل عاش مائة واثنتي عشرة سنة، وقيل مائة وثمانين سنة، أي كما تقدم. وفي لفظ: كان من أحسن الناس ثغرا، وكان إذا سقطت له سن نبت له أخرى. أي وعلى هذا الأخير فالمراد لا أخلى الله فاك من الأسنان. ومن ذلك: أن امرأة جاءت بابن لها صغير، فقالت: «يا رسول الله إن بابني هذا جنونا، وإنه يأخذه عند غذائنا وعشائنا فيفسد علينا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا له، فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود فشفي» . ومنها: إبراء وجع الضرس. فقد جاء: «أن بعض الصحابة شكا إليه صلى الله عليه وسلم وجع ضرسه، فقال له صلى الله عليه وسلم: ادن مني، فو الذي بعثني بالحق لأدعون لك بدعوة لا يدعو بها مؤمن مكروب إلا كشف الله عنه كربه، فوضع رسول الله يده على الخد الذي فيه الوجع وقال: اللهم أذهب عنه سوء ما يجد وفحشه بدعوة نبيك المبارك المكين عندك سبع مرات، فشفاه الله تعالى قبل أن يبرح» هذا ما يتعلق ببعض معجزاته صلى الله عليه وسلم التي يمكن التحدي بها، والحمد لله وحده. باب نبذة من خصائصه صلى الله عليه وسلم أي ما اختص به صلى الله عليه وسلم عن سائر الناس من الأنبياء وغيرهم، وما اختص به عن غير الأنبياء، وفيما اختصت به أمته صلى الله عليه وسلم عن سائر الناس من الأنبياء وغيرهم، وفيما اشتركت فيه مع الأنبياء دون أممهم. لا يخفى أن ذكر خصائصه صلى الله عليه وسلم مندوب. قال في الروضة: ولا يبعد القول بوجوب ذلك ليعرف، فلا يتأسى به جاهل في ذلك. ثم لا يخفى أن الذي من خصائصه صلى الله عليه وسلم عن سائر الناس إما أن يكون اختص بوجوبه عليه لأن الله علم أنه صلى الله عليه وسلم أقوم به وأصبر عليه من غيره، ولأن ثواب الفرض أفضل من ثواب النفل غالبا. وقد جاء: «ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه» أو اختص بتحريمه عليه، لأن الله علم أنه صلى الله عليه وسلم أصبر على تركه ولمزيد فضل تركه، أو اختص بإباحته له تسهيلا عليه، أو اختص باتصافه به ولمزيد فضله وشرفه.

فمن القسم الأول صلاة الضحى: أي بما هو أقلها، وهو ركعتان، وركعتا الفجر وصلاة الوتر. قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث علي فرائض ولكم تطوع: الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى» . أي وفي الإمتاع أن هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه ومع ذلك ففي ثبوت خصوصية هذه الثلاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم نظر. فإن الذي ينبغي ولا يعدل عنه إلى غيره أن لا تثبت خصوصيته إلا بدليل صحيح. وفي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها» وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» وهذا يدل بظاهره، ويقتضي عدم الوجوب، إذ لو كانت واجبة في حقه صلى الله عليه وسلم لكان مداومته عليها أشهر من أن تخفى هذا كلامه. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الضحى يوم الفتح في بيت أم هانىء واظب عليها إلى أن مات، وأنه صلى الله عليه وسلم صلى ثمان ركعات. وجاء في حديث مرسل «كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين وأربعا وستا وثمانيا» وهل المراد بالوتر أقله أو أكثره أو أدنى كماله؟ والسواك قال في الإمتاع: وهل هو بالنسبة إلى الصلاة المفروضة أو في كل الأحوال المؤكدة في حقنا أو فيما هو أعم من ذلك. وغسل الجمعة والأضحية واستدل لوجوبهما بقوله تعالى: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي [الأنعام: الآية 162] إلى قوله: وَبِذلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام: الآية 163] قال في الإمتاع: والأمر على الوجوب، هذا كلامه؟ وفيه نظر، لأن أمر للوجوب والندب، والذي للوجوب إنما هو صيغة أفعل. قال في الإمتاع: إن الآمدي وابن الحاجب رحمهما الله عدا ركعتي الفجر من خصائصه صلى الله عليه وسلم ولا سلف لهما في ذلك إلا حديث ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. واعترض كون الوتر واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، بأنه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين صلاة على البعير، إذ لو كان واجبا لما صلاة على الراحلة. وأجاب النووي رحمه الله بأن جواز هذا الواجب على الراحلة من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأجاب القرافي المالكي رحمه الله بأن الوتر لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم إلا في الحضر، ووافقه على ذلك من أئمتنا الحليمي والعز بن عبد السلام. والعقيقة وأنه صلى الله عليه وسلم يجب عليه أن يؤدي فرض الصلاة كاملة لا خلل فيها، وأنه يجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في كل يوم وليلة خمسين صلاة على وفق ما كان في ليلة الإسراء، كذا في الخصائص الصغرى للسيوطي.

والمشاورة في أمر الدين والدنيا لذوي من الأحلام من الأمور الاجتهادية. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما نزلت هذه الآية: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: الآية 159] قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله غنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة في أمتي، فمن شاور منهم لم يعدم رشدا، ومن ترك المشورة منهم لم يعدم غيا» وقد وقيل: الاستشارة حصن من الندامة ومصابرة العدو وإن كثر. وفي الحاوي للماوردي: «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بارز رجلا لا ينفك عنه قبل قتله» هذا كلامه، ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم بارز أحدا. وقضاء دين من مات معسرا من المسلمين، وأداء الجنايات والكفارات عن من لزمته وهو معسر، وتخيير نسائه صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة أي بين زينة الدنيا ومفارقته، بين اختيار الآخرة والبقاء في عصمته، وأن من اختارت الدنيا يفارقها ومن اختارت الآخرة يمسكها ولا يفارقها: أي لأن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) [الأحزاب: الآية 28، 29] . قيل اختلف سلف هذه الأمة في سبب نزول هذه الآية على تسعة أقوال: فقد قيل نزلت لما طلبن منه صلى الله عليه وسلم زيادة في النفقة، فاعتزلهن شهرا، ثم أمر بتخييرهن فيما ذكر كما تقدم. عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: جاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه ليأذن لهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه، أي قد سألنه النفقة وهو حاجم ساكت لا يتكلم، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لو رأيت فلانة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى يسألتني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى عائشة فوجأ عنقها وقام عمر رضي الله تعالى عنه إلى حفصة فوجأ عنقها، وكل يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، ثم أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجتمع بهن شهرا. فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ذكر أن بعض أصدقائه من الأنصار جاء إليه ليلا ودق عليه بابه وناداه، قال عمر: فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم. فقلت ماذا؟ أجاءت غسان، لأنا كنا حدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فقال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت،

كنت أظن هذا كائنا، حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ودخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري هو هذا معتزلا في هذه المشربة، أي لأن نساءه صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن عليه في طلب النفقة أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهنّ، قال عمر رضي الله تعالى عنه: لأقولنّ من الكلام شيئا أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم فأتيت غلاما له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المسجد فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فلما كان في المرة الرابعة وقال لي مثل ذلك وليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني، فقال: أدخل، قد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكىء على زمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ قال: فرفع رأسه إليّ وقال لا فقلت: الله أكبر، ثم قلت: كنا معاشر قريش بمكة نغلب على النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساءهم، فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فكلمت فلانة يعني زوجته فراجعتني فأنكرت عليها، فقالت تنكر عليّ أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لتراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها بغضب زوجها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها بغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسألينه شيئا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك؟ يعني عائشة، فتبسم أخرى، فقلت، استأنس يا رسول الله قال نعم، فجلست وقلت: يا رسول الله قد أثر في جنبك زمل هذا الحصير وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا وقال: أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر الله يا رسول الله فلما مضى تسع وعشرون يوما أنزل الله تعالى عليه أن يخبر نساءه في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: الآية 28] الآية، فنزل ودخل على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت له: يا رسول الله أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وقد دخلت وقد مضى تسع وعشرون يوما أعددهن، قال: إن الشهر تسع وعشرون، وفي رواية: يكون هكذا وهكذا وهكذا، يشير بأصابع يديه، وفي الثالثة حبس إبهامه ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. فقالت: وما هو يا رسول الله، فقرأ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: الآية 28] الآية. قلت، أفي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله، ورسوله والدار الآخرة. وفي رواية «أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟» بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم قلت له: لا تخبر امرأة من

نساءك بالذي قلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما بشيرا. ثم فعل أزواجه صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت عائشة رضي الله تعالى عنهن. وقد ذكر الأقوال التسعة في الإمتاع وذكر فيه أن التخيير كان بعد فتح مكة، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يقدم المدينة إلا بعد الفتح مع أبيه العباس رضي الله تعالى عنهما، وذكر أنه حضر الواقعة. ومن القسم الثاني تحريم أكل الصدقة واجبة أو مندوبة، وكذا الكفارة والمنذورة والموقوف عليه إلا على جهة عامة كالآبار الموقوفة على المسلمين، ويشاركه في الصدقة الواجبة آلة دون صدقة التطوع على الجهة الخاصة دون الجهة العامة، والصدقة الواجبة هي المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» ولما سأله عمه العباس رضي الله تعالى عنه أن يستعمله على الصدقات قال صلى الله عليه وسلم: «ما كنت لأستعملك على غسلات ذنوب الناس» ولما أخذ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» وفي رواية: «إن آل محمد لا يأكلون الصدقة» . واختلف علماء السلف هل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تشارك النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ فذهب الحسن رحمه الله تعالى إلى أن الأنبياء تشاركه في ذلك. وذهب سفيان بن عيينة إلى اختصاصه بذلك دونهم، وأن يعطي شيئا لأجل أن يأخذ شيئا أكثر منه، وأن يتعلم الكتابة أو الشعر وإنشاءه وروايته لا التمثل به، وأنه إذا لبس لامته للقتال لا يدعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، وهذا الأخير مما شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وخائنة الأعين، وهي الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يظهر كما تقدم. وإمساك من كرهته، ونكاح الكتابية، قيل والتسري بها والراجح خلافه. ونكاح الأمة المسلمة لأنه لا يخشى العنت، أي الزنا. ومن القسم الثالث القبلة في الصوم مع وجود الشهوة. فقد كان صلى الله عليه وسلم يقبل عائشة رضي الله تعالى عنها وهو صائم ويمص لسانها، ولعله صلى الله عليه وسلم لم يكن يبلع ريقه المختلط بريقها. والخلوة بالأجنبية، وأنه صلى الله عليه وسلم إذا رغب في امرأة خلية كان له أن يدخل بها من غير لفظ نكاح أو هبة ومن غير ولي ولا شهود، كما وقع له صلى الله عليه وسلم في زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها كما تقدم، ومن غير رضاها، وأنه إذا رغب في امرأة متزوجة يجب على زوجها أن يطلقها له صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا رغب في أمة وجب على سيدها أن يهبها له. وله أن يتزوج المرأة لمن يشاء بغير رضاها، وله أن يتزوج في حال إحرامه، ومن ذلك نكاح ميمونة على ما تقدم. وأن يصطفي من الغنيمة ما شاء قبل القسمة من جارية أو غيرها.

ومن صفاياه صلى الله عليه وسلم صفية وذو الفقار كما تقدم، وأن يتزوج من غير مهر كما وقع لصفية رضي الله تعالى عنها. وقد قال المحققون: معنى ما في البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم جعل عتقها صداقها أنه صلى الله عليه وسلم أعتقها بلا عوض وتزوّجها بلا مهر، فقول أنس رضي الله تعالى عنه أمهرها نفسها معناه أنه لما لم يصدقها شيئا كان العتق كأنه المهر وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، وأن يدخل مكة بغير إحرام اتفاقا، وأن يقضي بعلمه ولو في حدود الله تعالى. قال القرطبي في تفسيره: أجمع العلماء على أنه ليس لأحد أن يقضي بعلمه إلا النبي صلى الله عليه وسلم. قال الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وجمع له صلى الله عليه وسلم بين الحكم بالظاهر والباطن معا وجمعت له الشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء إلا إحداهما بدليل قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام، وقوله: إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه وأنت على علم لا ينبغي لي أن أعلمه هذا كلامه. وكتب عليه الشهاب القسطلاني رحمه الله: هذه غفلة كبيرة وجراءة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ يلزم منه خلو بعض أهل العزم عليهم الصلاة والسلام من علم الحقيقة الذي لا يجوز خلو بعض آحاد الأولياء عنه وإخلاء الخضر بل بقية بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم الشريعة. وأعجب من ذلك أنه بين له وجه الخطأ، فأجاب بقوله: مرادي الجمع بين الحكم والقضاء هذا كلامه. وأقول: ذكر السيوطي في كتابه «الباهر في حكم النبي بالباطن والظاهر» هل يقول مسلم إن الذي خص به نبينا صلى الله عليه وسلم، أي عن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورث نقصا في حق سائر الأنبياء؟ معاذ الله، وكل مسلم يعتقد أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء على الإطلاق، وذلك لا يورث نقصا في حق أحد منهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وهذا الاعتراض كان لا يحتاج إلى جواب عنه، لكن خشيت أن يسمعه جاهل فيؤديه ذلك إلى إنكار خصائص النبي صلى الله عليه وسلم التي فضل بها على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، توهما منه أن ذلك يورث نقصا فيهم، فيقع والعياذ بالله في الكفر والزندقة هذا كلامه. ومما حكم فيه بالظاهر والباطن معا، قوله صلى الله عليه وسلم في ولد وليدة زمعة والد سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها لما اختصم فيه سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وعبد بن زمعة، فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي، عهد إلى أنه ابنه، انظر إلى شبهه به، وقال عبد بن زمعة، هذا أخي ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبها بينا بعتبة، ثم قال: «هو لك يا عبد الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة» زاد في رواية: «فليس بأخ لك» فقد جعله صلى الله عليه وسلم أخا لسودة عملا بظاهر الشرع، ونفى أخوته عنها بمقتضى الباطن. فقد حكم في هذه القصة بالظاهر والباطن معا. وأما حكمه صلى الله عليه وسلم بالباطن فقد جاء في أمور متكثرة. من ذلك قتله الحارث بن سويد بقتله المجذر بن زياد غيلة من غير دعوى وارث ولا قيام بينة ولا قبل الدية كما تقدم. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل مات أخوه: «إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه، فقال يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال أعطها فإنها محقة» . ومن ذلك أن امرأة جاءت إلى أخرى وقالت لها: فلانة تستعيرك حليك وهي كاذبة فأعارتها إياه، فبعد مدة جاءت للمرأة تطلب حليها فقالت: لم أطلب حليك فجاءت للمرأة التي أخذته فأنكرت أخذه، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته القصة فدعاها، فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فخذوه من تحت فراشها فأخذ وأمر بها فقطعت» . وأن يقضي لنفسه ولولده، وأن يشهد لنفسه ولولده وأن يقبل الهدية ممن يريد الحكومة عنده، وأن يقضي في حال غضبه، وأن يقطع الأرض قبل أن يفتحها. ومما شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في هذا القسم أن له صلى الله عليه وسلم أن يصلي بعد نومه غير متمكن، أي في النوم الذي تنام فيه عينه وقلبه، بناء على أنه صلى الله عليه وسلم كان له نومان، وحينئذ يكون قوله: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» والمراد به غالبا، إذ يبعد أن يكون بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس لهم إلا نوم واحد وله صلى الله عليه وسلم نومان. وإباحة ترك إخراج زكاة المال، لأنه كبقية الأنبياء لا ملك لهم مع الله، وما في أيديهم من المال وديعة لله عندهم يبذلونه في محله ويمنعونه في غير محله، ولأن الزكاة طهرة وهم مبرؤون من الدنس كذا في الخصائص الصغرى نقلا عن سيدي الشيخ تاج الدين بن عطاء الله. وفيها بعد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم اختص بأن ماله باق بعد موته على ملكه ينفق منه على أهله في أحد الوجهين، وصححه إمام الحرمين، والذي صححه النووي الوجه الآخر، وهو خروجه عن ملكه، لكنه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة، وما قاله ابن عطاء الله بناء مذهب إمامه سيدنا مالك، ومذهب الشافعي رحمه الله

تعالى خلافه. ففي الخصائص الصغرى قبل هذا: وذكر مالك رضي الله تعالى عنه، من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يملك الأموال، إنما كان له التصرف وأخذ قدر كفايته. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه وغيره أنه يملك هذا كلام الخصائص. ومن القسم الرابع أنه صلى الله عليه وسلم أول من أخذ عليه الميثاق يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: الآية 172] وأنه أول من قال بلى، أي وأنه خص بالبسملة: وفيه ما تقدم أن ذلك على وجه وأن الأصح خلافه لما في القرآن في سورة النمل وفي المرفوع: «أنزل على آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) [الفاتحة: الآية 1] وجاء: «بسم الله فاتحة كل كتاب» وفيه أن الإنجيل من جملتها وهو كتاب عيسى ابن مريم وهو بعد سليمان عليهما السلام، وقد قدمنا ذلك عند الكلام على أوائل البعث وبفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة: الآية 285] إلى ختامها وآية الكرسي أعطيها من كنز تحت العرش وكذا الفاتحة والكوثر. فقد جاء: «أربع نزلت من كنز تحت العرش لم ينزل منه شيء غيرهن أم الكتاب، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة والكوثر» . وذكر الجلال السيوطي رحمه الله في الخصائص الصغرى، أن مما خص به أعطى من كنز تحت العرش ولم يعط منه أحد غيره والسبع الطوال والمفصل. وأن دار هجرته التي هي المدينة آخر الدنيا خرابا، وأن جميع ما في الكون خلق لأجله، وأنه تعالى كتب اسمه على العرش وعلى كل سماء، وما فيها كما تقدم وعلى بعض الأحجار وورق الأشجار وبعض الحيوانات كما تقدم، قال بعضهم: بل وعلى سائر ما في الملكوت وذكر الملائكة له صلى الله عليه وسلم في كل ساعة، وذكر اسمه صلى الله عليه وسلم في الأذان في عهد آدم والملكوت الأعلى كما تقدم. ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه يحرم نكاح أزواجه صلى الله عليه وسلم بعد موته حتى على الأنبياء بخلاف زوجات الأنبياء بعد موتهم لا يحرم نكاحهن على المؤمنين. قال شيخنا الشمس الرملي والأقرب عدم حرمتهن على الأتقياء من أممهم. وفيه أنه إذا لم يحرمن على آحاد المؤمنين فعلى الأتقياء بطريق الأولى، إلا أن يقال الفرق ممكن، يدل عليه قوله: والأقرب وإلا فهذا مما يتوقف فيه على النقل. وقيل ومن ذلك أنه يجب على أزواجه صلى الله عليه وسلم من بعده الجلوس في بيوتهن ويحرم عليهن الخروج منها ولو لحج أو عمرة والراجح خلاف ذلك، فقد حججن مع عمر رضي الله تعالى عنه وعنهن إلا سودة وزينب فخرجن في الهوداج عليهن الطيالسة الخضر وعثمان رضي الله تعالى عنه يسير أمامهن يقول لمن أراد أن يمر عليهن إليك

إليك. وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه خلفهن يقول لمن أراد أن يمر عليهن مثل ذلك، ولا ترى هوادجهن إلا مد البصر، ولما ولي عثمان رضي الله تعالى عنه حج بهن أيضا إلا سودة وزينب. وأنه يحرم أيضا رؤية أشخاص زوجاته صلى الله عليه وسلم في الأزر، وسؤالهن مشافهة أي من غير حجاب. ولا يجوز كشف وجوههن لشهادة بلا خلاف، وأن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على سائر النبيين آدم فمن بعده أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم وينصروه إن أدركوه وأن يأخذوا العهد على أممهم بذلك كما تقدم، وأنه صلى الله عليه وسلم يحشر على البراق، فقد جاء: «تبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الدواب ويبعث صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة رضي الله تعالى عنهم على ناقته العضباء والقصوى، ويبعث بلال رضي الله تعالى عنه على ناقة من نوق الجنة، وأن في كل يوم ينزل على قبره الشريف صلى الله عليه وسلم سبعون ألف ملك يضربونه بأجنحتهم ويحفون به، ويستغفرون له، ويصلون عليه إلى أن يمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك كذلك حتى يصبحون لا يعودون إلى أن تقوم الساعة» وأنه شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم عند ابتداء الوحي، وأنه تكرر له ذلك خمس مرات على ما تقدم، وأن خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان لغيره. وخاتم الأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام كان في يمينهم كما تقدم، وتقدم ما فيه، وأن له صلى الله عليه وسلم ألف اسم، ونقل عن تفسير الفخر الرازي أن له صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف اسم، وأنه صلى الله عليه وسلم تسمى من أسماء الله تعالى بنحو سبعين اسما، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على الصورة التي خلق عليها مرتين كما تقدم، وغيره لم يره كذلك، وأنه عليه الصلاة والسلام يحكم بالظاهر والباطن كما تقدم، وأنه صلى الله عليه وسلم أحلت له مكة ساعة من نهار وأنه حرّم ما بين لابتي المدينة كما تقدم، وأنه لم تر عورته قط، وأن من رآها طمست عيناه كما تقدم، وأنه إذا مشى في الشمس أو في القمر لا يكون صلى الله عليه وسلم ظل لأنه كان نورا وأنه إذا وقع شيء من شعره في النار لا يحترق، وأن وطأة أثر في الصخر على ما تقدم، وأن الذباب لا يقع على ثيابه فضلا عن جسده الشريف، ولا يمتص نحو البعوض والقمل دمه كما تقدم، وهذا لا ينافي كون القمل يكون في ثوبه، ومن ثم جاء: «كان صلى الله عليه وسلم يفلي ثوبه» وأن عرقه أطيب من ريح المسك كما تقدم. وكان صلى الله عليه وسلم إذا ركب دابة لا تبول ولا تروث وهو راكبها، ولو بنى مسجده إلى صنعاء اليمن كان مسجده أي في المضاعفة خلافا لجمع منهم ابن حجر الهيتمي. وقد قال الحافظ السيوطي: نص العلماء على أن المسجدين: أي المكي والمدني، ولو وسعا لم تختلف أحكامهما الثابتة لهما.

وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لو مدّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه، فهذا الأثر مصرح بأن أحكام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة له، فالتوسعة لا تمنع استمرار الحكم، وتقدم ما في ذلك، وأنه يجب على أمته صلى الله عليه وسلم أن تصلي وتسلم عليه في التشهد الأخير وعند كل ما يذكر عند بعضهم، وأن القمر شق له صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وأن الحجر والشجر سلما عليه صلى الله عليه وسلم، وشهادة الشجر له صلى الله عليه وسلم بالنبوة وإجابتها دعوته، وكلام الصبيان المراضع، وشهادتهم له بالنبوة كما تقدم، وأن الجذع اليابس حن إليه صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وأنه صلى الله عليه وسلم أرسل للناس كافة الإنس والجن إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر جاحد ذلك، وقد يتوقف في كفر العامي بجحد إرساله صلى الله عليه وسلم للجن وإلى الملائكة على ما هو الراجح كما تقدم. قال بعضهم والقول بمقابلة مبني على تفضيل الملائكة على الأنبياء، وهو قول مرجوح ذهب إليه المعتزلة والفلاسفة وجماعة من أهل السنة الأشاعرة. واستدلوا بأمور كلها مردودة وتقدم عن البارزي رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الحيوانات والجمادات، لكن استدل له بشهادة الضب والشجر له بالرسالة صلى الله عليه وسلم. وقد يتوقف في الاستدلال بذلك. وتقدم عن الحافظ السيوطي رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم أرسل لنفسه، وتقدم الفرق بين عموم رسالته عليه الصلاة والسلام وعموم رسالة نوح صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للبر والفاجر، ورحمة للكفار بتأخير العذاب، وعدم معالجتهم بالعقوبة بنحو الخسف والمسخ والغرق كسائر الأمم المكذبة كما تقدم، وأن الله تعالى لم يخاطبه باسمه كما خاطب غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل خاطبه صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: الآية 64] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: الآية 41] يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدّثّر: الآية 1] يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) [المزمّل: الآية 1] وقال: يا آدَمُ [البقرة: الآية 33] يا نُوحُ [هود: الآية 32] يا إِبْراهِيمُ [هود: الآية 76] يا داوُدُ [ص: الآية 26] يا زَكَرِيَّا [مريم: الآية 7] يا يَحْيى [مريم: الآية 12] يا عِيسى [آل عمران: الآية 55] وأن الله أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) [الحجر: الآية 72] . وروى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم» وأقسم الله على رسالته بقوله: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) [يس: الآية 1- 3] وأن إسرافيل عليه السلام أهبط إليه صلى الله عليه وسلم ولم يهبط إلى نبي قبله كما تقدم، وأنه صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله، وأنه يحرم نكاح موطوآته صلى الله عليه وسلم من الزوجات والسراري إلا من باعه أو وهبه من السراري في حياته إن فرض ذلك، وذهب الماوردي إلى تحريمها. وفي كلام بعضهم: وتحرم زوجاته صلى الله عليه وسلم على غيره ولو قبل الدخول ولو مختارة

للفراق، خلافا لما في الشرح الصغير للرافعي من حل المختارة للفراق، وأنه يحرم التزوّج على بناته صلى الله عليه وسلم، وقيل على فاطمة خاصة رضي الله تعالى عنها. وأما التسري إلا عليهنّ فلم أقف على حكمه، وما علل به منع التزويج عليهنّ حاصل في التسري إلا أن يفرق. وأوتي صلى الله عليه وسلم قوة أربعين رجلا من أهل الجنة في الجماع، وقوة الرجل من أهل الجنة كمائة من أهل الدنيا، فيكون أعطي صلى الله عليه وسلم قوة أربعة آلاف رجل، وسليمان صلوات الله وسلامه عليه أعطى قوة مائة رجل. وقيل ألف رجل أي من رجال الدنيا، وأن فضلاته صلى الله عليه وسلم طاهرة كما تقدم، وأنه كان له صلى الله عليه وسلم أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستبقه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وتباطا الأعرابي والفرس معه فساومه في الفرس رجال لا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه بزيادة عما اشتراه به صلى الله عليه وسلم فقال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه وإلا بعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع نداء الأعرابي: أو ليس قد ابتعته منك، فقال الأعرابي: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى قد ابتعته منك، فقال الأعرابي: شاهدان يشهدان أني بعتك، فلما سمع خزيمة رضي الله تعالى عنه ذلك، قال: أنا أشهد أنك بعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخزيمة: كيف تشهد ولم تكن معنا؟ فقال: يا رسول الله إنا نصدقك بخبر السماء أفلا نصدقك بما تقول، فجعل صلى الله عليه وسلم شهادته رضي الله تعالى عنه في القضايا بشهادة رجلين. ومنه أخذ جواز الشهادة له صلى الله عليه وسلم بما ادعاه. وترخيصه صلى الله عليه وسلم لأم عطية رضي الله تعالى عنها، ولخولة بنت حكيم رضي الله تعالى عنها في النياحة لجماعة مخصوصين. وترخيصه صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها في عدم الإحداد لما قتل زوجها سيدنا جعفر بن أبي طالب حيث قال لها تسلي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت. وتجويز التضحية بالعناق لأبي بردة ولعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهما. وزاد بعضهم ثلاثة آخرين. وتزويجه صلى الله عليه وسلم لشخص امرأة على سورة من القرآن وقال: لا تكون لأحد غيرك مهرا ولعل المراد سورة مجهولة، فلا يخالفه ذلك ما عند أئمتنا من جواز ذلك على معين من السور القرآنية. وتزويجه صلى الله عليه وسلم أم سليم أبا طلحة رضي الله تعالى عنهما على إسلامه كما تقدم وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل. وتخصيصه صلى الله عليه وسلم نساء المهاجرين بأن يرثن دور أزواجهن دون بقية الورثة وقد

ألغز في ذلك بعضهم بقوله: سلم على مفتي الأنام وقل به ... هذا سؤال في الفرائض مبهم قوم إذا ماتوا تحوز ديارهم ... زوجاتهم فلغيرها لا تقسم وبقية المال الذي قد خلفوا ... يجري على أهل التوارث منهم وأنه صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر، فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر ثم أهل البقيع فيخرجون معي ثم أنتظر أهل مكة» ، أي وفي رواية: «وأنا أول من تنشق عنه الأرض فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى عليه الصلاة والسلام آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله» . وفيه أن الاستثناء إنما هو من نفخة الفزع التي هي النفخة الأولى التي يفزع بسببها أهل السموات والأرض، وتمر الجبال مر السحاب، وترتج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة في البحر تضربها الأمواج المعنية بقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) [النازعات: الآية 6 و 7] والمعنية بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) [الحج: الآية 1] الآية. قال صلى الله عليه وسلم: «والأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك، قلنا يا رسول الله فمن استثنى الله في قوله: إلا من شاء الله: قال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: الآية 169] ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه» . وفيه أن هذا يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يفزعون لأنهم أحياء، ولم يذكرهم صلى الله عليه وسلم مع الشهداء، والقياس قد يمنع لأنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. وأنه من يكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة، وأنه صلى الله عليه وسلم يقوم في المقام المحمود على يمين العرش، وأنه الذي يشفع في فصل القضاء بين أهل الموقف، وأنه له صلى الله عليه وسلم شفاعات في ذلك اليوم وهي إحدى عشرة شفاعة ذكرها في «مزيل الخفاء» وأنه صلى الله عليه وسلم صاحب لواء الحمد في ذلك اليوم، آدم فمن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم، وأنه خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإمامهم في ذلك اليوم كما تقدم. وأول من يؤذن له في السجود. وأول من ينظر إلى الرب عز وجل، وأنه يسجد أوّلا فيقول له الرب جل جلاله، ارفع رأسك يا محمد، قل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم ثانيا، ثم ثالثا كذلك فيشفع. وأنه أول من يفيق من الصعقة. وفيه أن نفخة الصعقة، وهي النفخة الثانية التي هي نفخة الموت لأهل السموات والأرض، إلا أن يقال المراد بالصعقة هنا نفخة رابعة أثبتها ابن حزم.

فقد قال الحافظ الجلال السيوطي رحمه الله: وأغرب ابن حزم رحمه الله تعالى، فادعى أن النفخ في الصور يقع أربع مرات، فعليه تكون هذه النفخة ليست هي المذكورة في القرآن، وأنها تكون في الموقف بعد النفخة الثالثة التي هي نفخة البعث التي بسببها يكون القيام من القبور إلى المحشر المعنية بقوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: الآية 68] وهذه النفخة الرابعة تسمى نفخة الصعق أيضا، لأن بها يحصل لجميع أهل السموات والأرض في ذلك الوقت غشي وهو شبيه بالموت، ويكون أول من يفيق من تلك الصعقة هو صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يجد موسى عليه الصلاة والسلام آخذا بقائمة من قوائم العرش، ويكون قوله: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكون أنا أول من رفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» من تخليط بعض الرواة. وحينئذ لا يحتاج إلى الجواب بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بقوله لا أدري قبل أن أعلمه الله تعالى بأنه أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق، وأن موسى عليه الصلاة والسلام سبقه إلى العرش لأنه صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من الأرض ينتظر خروج أهل البقيع، ومجيء أهل مكة فليتأمل ذلك. وأول من يمر على الصراط، وأول من يدخل الجنة ومعه فقراء المسلمين، وأن له الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة. وقيل إنه في الجنة لا يصل لأحد شيء إلا بواسطته صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يقرأ في الجنة إلا كتابه، ولا يتكلم في الجنة إلا بلسانه. ومما شارك فيه الأنبياء في هذا القسم، أن من دعاه صلى الله عليه وسلم، في الصلاة تجب عليه الإجابة قولا وفعلا ولو كثيرا، ولا تبطل صلاته بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنها تبطل. ومنه أيضا العصمة من الذنب مطلقا كبيرا أو صغيرا عمدا أو سهوا، وعدم التثاؤب والاحتلام، لأن كلا من الشيطان، ولم ير أثر لقضاء حاجته صلى الله عليه وسلم، بل كانت الأرض تبتلعه ويشم من مكانه رائحة المسك. قال: وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينظر بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء. واستشكل بما جاء: «أنه صلى الله عليه وسلم لما ابتنى بأم سلمة رضي الله عنها دخل عليها في الظلمة، فوطىء صلى الله عليه وسلم على ابنتها زينب فبكت، فلما كانت الليلة القابلة دخل صلى الله عليه وسلم في ظلمة أيضا فقال: «انظروا ربائبكم لا أطأ عليها» وزينب هذه ولدتها من أبي سلمة بالحبشة، ودخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وهي إذ ذاك طفلة فنضح صلى الله عليه وسلم وجهها بالماء، فلم يزل ماء الشباب بوجهها حتى عجزت وقاربت المائة سنة. وكان صلى الله عليه وسلم ينظر من خلفه كما ينظر أمامه، أي وعن يمينه وعن شماله، فقد جاء: «إني لأنظر إلى ما وراء ظهري كما أنظر إلى أمامي» فقيل كان له صلى الله عليه وسلم بين كتفيه

عينان كسم الخياط يبصر بهما لا تحجبهما الثياب، وقيل كانت تنطبع صورة المحسوسات التي خلفه في حائط قبلته كما تنطبع الصور في المرآة. وهذا يدل على أن ذلك خاص بالصلاة، وهو ظاهر أكثر الروايات أي وكانت تلك الصلاة إلى حائط فليتأمل. وكان صلى الله عليه وسلم يرى الثريا اثنا عشر نجما وغيره لا يزيد على تسعة ولو أمعن النظر. واختصت هذه الأمة المحمدية بأمور لم يشاركها فيه من قبلهم من الأمم، وهي أنها خير الأمم، وأكرم الخلق على الله. قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: الآية 110] . وفي الحديث: «إن الله اختار أمتي على سائر الأمم. وإن الله ينظر إليها في أول ليلة من رمضان» وأعطيت الاجتهاد في الأحكام، وأظهر الله ذكرها في الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل، وأثنى عليها، وأعطيت الصلوات الخمس: أي جمعت لهم على ما تقدم، وأعطيت صلاة العشاء. فقد أخرج أبو داود والبيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم فضلتم بها» أي بصلاة العشاء «على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم» وفيه ما تقدم. وأعطيت افتتاح الصلاة بالتكبير. وأعطيت التأمين: أي قول آمين عقب الدعاء، فقد جاء: «أعطيت آمين ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا أن يكون الله أعطاها هارون فإن موسى كان يدعو ويؤمن هارون عليهما الصلاة والسلام» وتقدم أن آمين عقب الفاتحة ليس من القرآن اتفاقا. وأعطيت الاستنجاء بالحجر. وأعطيت الأذان والإقامة والركوع في الصلاة، وأما قوله تعالى لمريم: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: الآية 43] فالمراد بالركوع الخضوع كما تقدم، ويلزمه أنها أعطيت في الرفع منه «سمع الله لمن حمده» . وفي الاعتدال «اللهم ربنا لك الحمد» إلى آخره. وأعطيت تحريم الكلام في الصلاة دون الصوم عكس من قبلهم. وأعطيت الجماعة في الصلاة. وأعطيت الاصطفاف فيها كصفوف الملائكة. وأعطيت صلاة العيدين والكسوفين والاستسقاء والوتر. وأعطيت قصر الصلاة في السفر، والجمع بين الصلاتين فيه على ما تقدم وفي المطر والمرض على قول اختاره جمع من العلماء ومنهم والدي رحمه الله. وأعطيت صلاة الخوف وصلاة شدته. وأعطيت شهر رمضان على ما تقدم. وأعطيت فيه أمورا منها تصفيد الشياطين. وقد سئلت: ما فائدة تصفيد الشياطين في رمضان مع وجود الفساد والشر وقتل الأنفس فيه؟ وقد أجبت عنه أربعة أجوبة، حاصلها أن فائدة ذلك قلة الشر لا نفيه بالكلية، وقد ذكرت ذلك في كتابي «إسعاف الإخوان في شرح غاية الإحسان» وهو

كتاب ألفته في الصوم وما يتعلق به. ومنها صلاة الملائكة عليهم حين يفطروا. ومنها أن ريح فمهم بعد الزوال أطيب عند الله من ريح المسك، وفيه أن هذا لا يختص بصوم رمضان. ومنها أن الجنة تزين فيه من رأس الحول إلى رأس الحول، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران، وتفتح أبواب السماء في أول ليلة منه. ومنها أنه يغفر لهم في آخر ليلة منه. وأعطيت العقيقة عن الأنثي. وأعطيت العذبة في العمامة. وأعطيت الوقف، والوصية بالثلث عند الموت. وأعطيت غفران الذنوب بالاستغفار، وجعل الندم توبة. وأعطيت صلاة الجمعة. وأعطيت ساعة الإجابة في يومها. وأعطيت ليلة القدر. وأعطيت السحور وتعجيل الفطر. وأعطيت الاسترجاع عند المصيبة. وأعطيت الحوقلة: أي لا حول ولا قوة إلا بالله. وأعطيت رفع الإصر عنها، ومنه وجوب القصاص في الخطأ والمؤاخذة بحديث النفس والنسيان وما وقع عليه الإكراه، وأن إجماعها حجة لأنها لا تجتمع على ضلالة: أي محرم. وأعطيت أن اختلاف علمائها رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذابا، والمراد بعلماء الأمة المجتهدون، كما أن المراد ذلك كما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اختلاف أصحابي رحمة» أي ويقاس بأصحابه غيرهم ممن بلغ رتبة الاجتهاد. قال بعضهم: وما ذكره بعض الأصوليين والفقهاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اختلاف أمتي رحمة» لا يعرف من خرّجه بعد البحث الشديد، وإنما يعرف عن القاسم بن محمد بلفظ: «اختلاف أمة محمد رحمة» قال الحافظ السيوطي: ولعله خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا، وأن الطاعون لهم رحمة وكان على من قبلهم عذابا. وأعطيت الإسناد للحديث. قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام من يحفظون آثار الرسل، أي ويأخذها واحد عن الآخر إلا في هذه الأمة، أي حتى إن الواحد منهم يكتب الحديث الواحد من ثلاثين طريقا أو أكثر، وأن فيها الأقطاب والأنجاب والأوتاد، ويقال لهم العمد والأبدال والأخيار والعصب، فالأبدال بالشام، واختلفت الروايات في عددهم: فأكثر الروايات أنهم أربعون رجلا، وفي بعض الروايات أربعون رجلا، وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة. وعن الفضل بن فضالة قال: الأبدال بالشام في حمص خمسة وعشرون رجلا، وفي دمشق ثلاثة عشر، وفي بيسان اثنان. وفي رواية عن حذيفة بن اليمان: «الأبدال بالشام ثلاثون رجلا على منهاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام» .

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أربعون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال. وعن الحسن البصري رحمه الله: لن تخلو الأرض من سبعين صدّيقا وهم الأبدال: أربعون بالشام، وثلاثون في سائر الأرض. وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه فهو من الأبدال الذين بهم قوام الدنيا وأهلها: الرضا بالقضاء، والصبر عن محارم الله، والغضب في ذات الله» . وجاء في وصف الأبدال: «إنهم لم ينالوا ما نالوا بكثرة صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكن بسخاء النفس، وسلامة القلوب، والنصيحة لأئمتهم» وفي لفظ: «لجميع المسلمين» . وعن أبي سليمان: الأبدال بالشام والنجباء بمصر. وفي لفظ: الأبدال من الشام والنجباء من أهل مصر. وفي رواية عن علي كرم الله وجهه أيضا: والنجباء بالكوفة، والعصب باليمن، والأخيار بالعراق. وفي لفظ: والعصب بالعراق. وعن بعضهم: النقباء ثلاثمائة وسبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث: أي الذي هو القطب واحد، فمسكن النقباء الغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سائحون في الأرض، والعمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العمد، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فما تتم مسألته حتى يجاب. وجاء عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكن نبي قط إلا أعطي سبعة نجباء وزراء رفقاء، وإني أعطيت خمسة عشر: حمزة، وجعفر، وأبو بكر، وعمر، وعلي، والحسن، والحسين، وعبد الله بن مسعود، وسلمان، وعمار بن ياسر، وحذيفة، وأبو ذر، والمقداد، وبلال، ومصعب» وأسقط الترمذي حذيفة وأبا ذر والمقداد. وأنهم: أي أمته صلى الله عليه وسلم يخرجون من قبورهم بلا ذنوب يمحصها الله عنهم باستغفار المؤمنين لهم، وأنها أول من يحاسب، وأنها أول من تنشق عنها الأرض، وأنها في الموقف تكون على مكان عال مشرف على الأمم، وأنها أول من يدخل الجنة من الأمم، وأن لكل منها نورين كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنها تمر على الصراط كالبرق الخاطف وأنها تشفع في بعضها، وأن لها ما وسعت وما سعى

لها، وأنها اختصت عن الأمم ما عدا الأنبياء بوصف الإسلام على الراجح كما تقدم لأنه لم يوصف بالإسلام أحد الأمم السالفة سوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد شرفت بأن توصف بالوصف الذي توصف به الأنبياء تشريفا لها وتكريما لها، فقد قال زيد بن أسلم أحد أئمة السلف العالمين بالقرآن والتفسير: لم يذكر الله بالسلام غير هذه الأمة، أي وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول. وقد خصت هذه الأمة بخصائص لم تكن لأحد سواها إلا للأنبياء فقط، فمن ذلك الوضوء، فإنه لم يكن أحد يتوضأ إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا، في التوراة والإنجيل وصف هذه الأمة أنهم يوضؤون أطرافهم. وفي بعض الآثار: افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء لكن تقدم في الحديث: «أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين فقال: هذا وضوء الأمم من قبلكم، من توضأ مرة آتاه الله أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، فقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليلي إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» وهذا الحديث كما ترى يقتضي مشاركة الأمم مع هذه الأمة في أصل الوضوء، والاختصاص إنما هو بالتثليث، وتقدم الكلام على ذلك، أي والغسل من الجنابة. ففيما أوحى الله إلى داود عليه الصلاة والسلام في وصف هذه الأمة: «وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأن منها سبعين ألفا، مع كل واحد من هؤلاء السبعين ألفا سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، أي وبإجلال الله تعالى توقير المشايخ منهم، وأنهم اذا حضروا القتال في سبيل الله حضرتهم الملائكة لنصرة الدين، وأن الملائكة عليهم تنزل عليهم في كل سنة ليلة القدر تسلم عليهم، وأكل صدقاتهم في بطونهم، وإثابتهم عليها، وتعجيل الثواب في الدنيا مع ادخاره في الآخرة، كصلة الرحم فإنها تزيد في العمر ويثاب عليها في الآخرة وما دعوا به استجيب لهم. روى الترمذي رحمه الله: «أعطيت هذه الأمة ما لم يعط أحد بقوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: الآية 60] » وإنما يقال هذا للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وأوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام في وصف هذه الأمة «إن دعوني استجيب لهم، فإما أن يكون عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوآ، وإما أن أدخر لهم في الآخرة» ومخالطة الحائض سوى الوطء وما ألحق به، وهو مباشرة ما بين سرتها وركبتها، وتقدم وصفهم في الكتب القديمة بما لا ينبغي إعادته هنا لطوله.

باب ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم

باب ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم ولد له صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله تعالى عنها قبل البعثة: القاسم، وهو أول أولاده صلى الله عليه وسلم، وبه كان يكنى، قيل عاش سنتين، وقيل سنة ونصفا، وقيل حتى مشى، وقيل بلغ ركوب الدابة، وقيل عاش سبع ليال. وهو أول من مات من ولده قبل البعثة، ثم ولدت قبل البعثة أيضا زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم رضي الله تعالى عنهن. وقيل أول بناته صلى الله عليه وسلم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم رضي الله تعالى عنهن. وقيل أكبر بناته صلى الله عليه وسلم رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم ثم فاطمة. وقيل أول بناته صلى الله عليه وسلم زينب، ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة. وبعض الناس ذكر رقية بعد فاطمة. وبعد البعثة ولد له صلى الله عليه وسلم عبد الله، ويسمى الطيب الطاهر. وقيل الطيب والطاهر غير عبد الله المذكور ولدا في بطن واحدة قبل البعثة. أي وقيل اللذان ولدا في بطن واحدة قبل البعثة الطاهر والمطهر. وقيل ولد له أيضا قبل البعثة في بطن واحد الطيب والمطيب. وقيل ولد له قبل البعثة عبد مناف، مات هؤلاء قبل البعثة وهم يرضعون، أما عبد الله الذي ولد له بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فكان آخر الأولاد من خديجة رضي الله تعالى عنها. وبهذا يظهر التوقف في قول السهيلي رحمه الله كلهم ولدوا بعد النبوة. وأجاب بعضهم بأن المراد بعد ظهور دلائل النبوة. وفيه أن دلائل النبوة وجدت قبل تزويجه بخديجة رضي الله تعالى عنها. وعند موت عبد الله هذا قال العاص بن وائل والد عمرو بن العاص. وقيل أبو لهب قد انقطع ولده: أي لا ولد له ذكر لأن ما عدا الذكر عند العرب لا يذكر فهو أبتر، فأنزل الله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر: الآية 3] . أقول: في مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله، فقال: أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر: الآيات 1- 3] ولا يخفى أن هذا يقتضي أن السورة المذكورة مدنية، ثم رأيت الإمام النووي رجح ذلك لما ذكر. وقد يقال: يجوز أن يكون إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر: الآية 3] نزل بمكة وما عداه نزل بالمدينة وقد يعبر عن معظم السورة بالسورة. ثم رأيته في الإتقان ذكر أن مما نزل دفعة واحدة سورا منها الفاتحة والإخلاص والكوثر. ثم رأيت الإمام

الرافعي رحمه الله قال: فهم فاهمون من الحديث أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة، وقالوا: من الوحي ما كان يأتيه في النوم، لأن رؤيا الأنبياء وحي، وهذا غير صحيح، لكن الأشبه أن يقال: القرآن كله نزل يقظة، وكان صلى الله عليه وسلم خطر له في النوم سورة كوثر المنزل عليه في اليقظة: أي قبل ذلك. وفيه أن قول آنفا لا يناسبه، قال: أو يحمل الإغفاء على الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي. ثم رأيت الجلال السيوطي في الإتقان نظر في جواب الرافعي الأول بما ذكرته واستحسن الجواب الثاني. وفي المواهب أن العاص بن وائل اجتمع هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم في باب من أبواب المسجد فتحدثا وصناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاص المسجد قالوا له: من ذا الذي كنت تتحدث معه؟ قال: ذاك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان توفي أولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله تعالى عنها أي الذكور، فرد الله سبحانه وتعالى عليه وتولى جوابه بقوله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر: الآية 3] أي عدوك ومبغضك هو الذليل الحقير: أي باغضك هو الأبتر: أي المقطوع عن كل خير، أو المقطوع رحمه بينه وبين ولده، لأن الإسلام حجزهم عنه فلا توارث بينهم. فلا يقال العاص وأبو لهب لهما أولاد ذكور؟ فالأول له عمرو وهشام رضي الله تعالى عنهما. والثاني له عتبة ومعتب رضي الله تعالى عنهما. قيل وكان بين كل ولدين لخديجة سنة. وكانت رضي الله تعالى عنها تعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، وكانت تسترضع لهم. وذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره في قوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً [الشّورى: الآية 49] كلوط عليه الصلاة والسلام كان له إناث ولم يكن له ذكور وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [الشّورى: الآية 49] كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنه لم يكن له بنت أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الشّورى: الآية 50] كنبينا صلى الله عليه وسلم وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً [الشّورى: الآية 50] كيحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فإنهما لم يولد لهما ولد. أما زينب رضي الله تعالى عنها، فتزوجها ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة شقيقتها، وهو العاصي بن الربيع كما تقدم. وذكر بعضهم بدل هالة هند. قال: وهالة صحابية، وهند لا أعرف لها إسلاما. ويحتمل أن يكون أحدهما اسما والآخر لقبا، فهما واحدة. وفي سنة ثمان من الهجرة، أي من ذي الحجة ولدت له صلى الله عليه وسلم مارية القبطية رضي الله تعالى عنها- وكان صلى الله عليه وسلم معجبا بها، لأنها كانت بيضاء جميلة- ولده إبراهيم. وعق عنه صلى الله عليه وسلم بكبشين يوم سابعه، وحلق رأسه، وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض، أي وغارت نساؤه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن

من ذلك ولا كعائشة رضي الله تعالى عنها حتى أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: انظري إلى شبهه، فقالت: ما أرى شيئا فقال: ألا تري إلى بياضه ولحمه، وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول صلى الله عليه وسلم، أي وكانت قبل ذلك مولاة عمته صلى الله عليه وسلم صفية رضي الله تعالى عنها وهبتها له صلى الله عليه وسلم، وسلمى زوجة أبي رافع رضي الله تعالى عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لعمه العباس رضي الله تعالى عنه قبل ذلك، وهبه له صلى الله عليه وسلم واسمه إبراهيم وكان قبطيا. وقيل غير ذلك، أعتقه صلى الله عليه وسلم لما أخبره بإسلام العباس، وزوّجه مولاته سلمى المذكورة. وقيل كان مولى لسعيد بن العاص، فورثه بنوه ثمانية فأعتقوه كلهم إلا ولده خالد فإنه لم يعتق نصيبه منه، فكلمه صلى الله عليه وسلم أن يعتق نصيبه أو يبيعه أو يهبه منه، فوهبه منه صلى الله عليه وسلم فأعتقه، قيل بعد أن سأله صلى الله عليه وسلم أبو رافع في ذلك، وبقي عقبة من أشراف المدينة. وكان ولده عبد الله كاتبا وخازنا لعلي كرم الله وجهه أيام خلافته، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته أن مارية قد ولدت غلاما، فجاء أبو رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشره، فوهب له عبدا. وروى أبو رافع رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه واغتسل عند كل واحدة منهن غسلا» قال أبو رافع «فقلت له: يا رسول الله لو جعلته غسلا واحدا، قال: هذا أزكى وأطيب» وسمى صلى الله عليه وسلم ابنه يومئذ: أي يوم ولادته، وقيل سماه سابع ولادته، ودفعه لأم بردة خولة بنت المنذر بن زيد الأنصاري زوجة البراء بن أوس لترضعه، وأعطاها قطعة نخل، فكانت ترضعه في بني مازن وترجع به إلى المدينة، وكان صلى الله عليه وسلم ينطلق إليها فيدخل البيت ويأخذه فيقبله، ثم يرجع. ولما احتضره جاء صلى الله عليه وسلم فوجده في حجر أمه، فأخذه صلى الله عليه وسلم في حجره وقال: «يا إبراهيم إنا لن نغني عنك من الله شيئا، ثم ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب ونهانا عن الصياح. أي وفي لفظ: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع- فإن الآخر منا يتبع الأول- وجدنا عليك يا إبراهيم وجدا شديدا ما وجدناه، أي وفي لفظ: «ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وإنها سبيل مأتية لحزنا عليك حزنا شديدا أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» وفي لفظ: «وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» . وعن سيرين: لما نزل بإبراهيم الموت صرت كلما صحت أنا وأختي نهانا صلى الله عليه وسلم عن الصياح، أي ولما بكى صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: «أنت أحق من علم الله حقه، قال: تدمع العين، وقال له صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: ولا ولكني نهيت عن صوتين

أحمقين وآخرين: صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، وصوت عند نغمة لهو، وهذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم» وذكر «أنه لما مات كان صلى الله عليه وسلم مستقبلا للجبل فقال: يا جبل لو كان بك مثل ما بي لهدك، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون وصرخ أسامة رضي الله تعالى عنه، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: رأيتك تبكي، فقال له صلى الله عليه وسلم البكاء من الرحمة، والصراخ من الشيطان» . ولما مات ولد سليمان بن عبد الملك التفت إلى ولي عهده عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وقال له: إني أجد في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر. والتفت إلى وزيره رجاء، فقال له رجاء اقضها يا أمير المؤمنين فما بذلك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، فأرسل سليمان عينيه فبكى حتى قضى أربا، ثم أقبل عليهما، فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لا نصدعت كبدي ثم لم يبك بعدها، ولذلك قيل: في إفاضة الكئيب لدمعته ... ما يذهب من لوعته وفي إرساله لعبرته ... ما يعينه على سلوته ومات سنة عشرة من الهجرة. واختلف في سنة؟ فقيل سنة وعشرة أشهر وستة أيام، وقيل ثمانية عشر شهرا، مات عند ظئره أم بردة، وغسلته، وحملته بين يديها على سرير. وفي رواية غسله الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير. وفي كلام ابن الأثير رحمه الله قيل: إن الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما غسل إبراهيم ونزل في قبره هو وأسامة بن زيد، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر، قال الزبير: ورش على قبره ماء، وعلم على قبره بعلامة. وهو أول قبر رش عليه الماء، وفيه أنه رش على قبر عثمان بن مظعون بالماء، وهو سابق على سيدنا إبراهيم كما تقدم، وصلى عليه صلى الله عليه وسلم وكبر أربعا، أي وقيل لم يصلّ عليه: أي لم تقع الصلاة عليه من أحد. وفي كلام النووي رحمه الله القول بالصلاة عليه، هو قول جمهور العلماء وهو الصحيح. وما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لم يصلّ عليه قال ابن عبد البر رحمه الله إنه غلط، فقد أجمع جماهير العلماء على الصلاة على الأطفال إذا استهلوا عملا مستفيضا عن السلف والخلف. وقال الإمام أحمد رحمه الله في خبر عائشة رضي الله تعالى عنها: إنه خبر

منكر جدا، أي وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: «الطفل يصلى عليه» وجاء: «صلوا على أطفالكم فإنه من أفراطكم» وقد جاء: في المرفوع: «إذا استهل المولود صلى عليه وورّث وورث» وجاء: «أحق ما صليتم على أطفالكم» ومن المقرر أنه إذا تعارض الإثبات والنفي قدم الإثبات على النفي. ولما كسفت الشمس في ذلك اليوم قال قائل: كسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكسف لموت أحد ولا لحياته» . وفي لفظ: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فلا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» الحديث. ودفن بالبقيع وقال: «الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون رضي الله عنه» ولقنه صلى الله عليه وسلم. قال الإمام السبكي: وهو غريب. وقد احتج به بعض أئمتنا على استحباب تلقين الطفل. وفي التتمة للمتولي من أئمتنا: والأصل في التلقين ما روي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن إبراهيم قال: قل الله ربي، ورسول الله أبي، والإسلام ديني. فقيل له: يا رسول الله أنت تلقنه فمن يلقننا؟ فأنزل الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: الآية 27] أي وفي رواية: «أنه صلى الله عليه وسلم لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره، فقال: يا بني إن القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا بني قل الله ربي، والإسلام ديني، ورسول الله أبي، فبكت الصحابة رضوان الله عليهم. ومنهم عمر رضي الله عنه بكى حتى ارتفع صوته، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: يا رسول الله هذا ولدك وما بلغ الحلم ولا جرى عليه القلم ويحتاج إلى تلقين مثلك يلقنه التوحيد في مثل هذا الوقت، فما حال عمر وقد بلغ الحلم، وجرى عليه القلم، وليس له ملقن مثلك؟ فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكت الصحابة معه، ونزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: الآية 27] يريد بذلك وقت الموت: أي عند وجود الفتانين وعند السؤال في القبر، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية، فطابت الأنفس وسكنت القلوب، وشكروا الله» . وفيه أن هذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يلقن أحدا قبل ولده إبراهيم، وهذا الحديث استند إليه من يقول بأن الأطفال يسألون في القبر فيسن تلقينهم. وذهب جمع إلى أنهم لا يسألون، وأن السؤال خاص بالمكلف، وبه أفتى الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: والذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون مكلفا، ويوافقه قول النووي رحمه الله في الروضة وشرح المهذب: التلقين إنما هو في حق الميت المكلف أما الصبي ونحوه فلا يلقن. قال الزركشي: وهو مبني على أن غير المكلف لا يسأل في قبره.

وذكر القرطبي رحمه الله أن الذي يقتضيه ظواهر الأخبار أن الأطفال يسألون، وأن العقل يكمل لهم. وذكر أن الأحاديث مصرحة بسؤال الكافر، أي من هذه الأمة. ويخالفه قولهم حكمة السؤال تمييز المؤمن من المنافق الذي يظهر الإسلام في الدنيا، وأما الكافر الجاحد فلا يسأل. قال الفاكهاني: إن الملائكة لا يسألون. قال بعضهم: ووجهه ظاهر، فإن الملائكة إنما يموتون عند النفخة الأولى، أي فلم يبق منهم من يقع منه السؤال. وأما عذاب القبر فعام للمسلم والكافر والمنافق، فعلم الفرق بين فتنة القبر وعذابه، وهو أن الفتنة تكون بامتحان الميت بالسؤال، وأما العذاب فعام يكون ناشئا عن عدم جواب السؤال، ويكون عن غير ذلك. وقد اختص نبينا صلى الله عليه وسلم بسؤال أمته عنه، بخلاف بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما ذاك إلا أن الأنبياء كان الواحد منهم إذا أتى أمته وأبوا عليه اعتزلهم وعوجلوا بالعذاب. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فبعث رحمة بتأخير العذاب ولما أعطاه الله السيف دخل في دينه قوم مخافة من السيف، فقبض الله تعالى فتاني القبر ليستخرجا بالسؤال ما كان في نفس الميت فيثبت الله المسلم ويزل المنافق. وفي بعض الآثار تكرر السؤال في المجلس الواحد ثلاث مرات. وفي بعضها أن المؤمن يسأل سبعة أيام والمنافق أربعين يوما، أي قد يقع ذلك. وفي بعض الآثار أن فتاني القبر أربعة: منكر، ونكير، وناكور، وسيدهم رومان وفي بعضها ثلاثة، أنكر، ونكير، ورومان. وقيل أربعة: منكر، ونكير يكونان للمنافق، ومبشر وبشير للمؤمن. ونقل الحافظ السيوطي عن شيخه الجلال البلقيني رحمهما الله أن السؤال يكون بالسريانية، واستغربه وقال: لم أره لغيره. وفي كلام الحافظ السيوطي: لم يثبت في التلقين حديث صحيح ولا حسن، بل حديثه ضعيف باتفاق جمهور المحدثين. ولهذا ذهب جمهور الأمة إلى أن التلقين بدعة، وآخر من أفتى بذلك العز بن عبد السلام، وإنما استحسنه ابن الصلاح وتبعه النووي نظرا إلى أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال. وحينئذ فقول الإمام السبكي: حديث تلقين النبي صلى الله عليه وسلم لابنه ليس له أصل أي صحيح أو حسن. وقال صلى الله عليه وسلم في حق إبراهيم: «إن له ظئرا تتم رضاعه» وفي رواية «إن له ظئرين يكملان رضاعة في الجنة» وقال: «لو عاش لوضعت الجزية عن كل قبطي» وفي لفظ: «وعتقت القبط وما استرق قبطي قط» وفي لفظ: «مارق له خال» . قال بعضهم: معناه لو عاش فرآه أخواله القبط لأسلموا فرحا به وتكرمة له،

فوضعت الجزية عنهم، لأنها لا توضع على مسلم. ومعنى الثاني إذا أسلموا وهم أحرار لم يجر عليهم الرق، لأن الحر المسلم لا يجري عليه الرق. وذكر أن الحسن بن علي رضي الله عنهما كلم معاوية في أن يضع الخراج عن أهل بلد مارية وهي حفنة بالحاء المهملة وإسكان الفاء وبالنون قرية من قرى الصعيد، ففعل معاوية ذلك رعاية لحرمتهم. أي وقال النووي رحمه الله: وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل، وجسارة على الكلام في المغيبات، ومجازفة وهجوم على بعض الزلات. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، وهو أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، أي وكان اللائق به أن يكون نبيا وإن لم يكن ذلك. ثم رأيت الجلال السيوطي رحمه الله نقل عن الأستاذ أبي بكر بن فورك وأقره: «أنه صلى الله عليه وسلم لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره وقال: يا بني إن القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، إنا لله وإنا إليه راجعون» وكنى به صلى الله عليه وسلم، فقد جاء: «أن جبريل عليه السلام قال له: السلام عليك يا أبا إبراهيم، إن الله قد وهب لك غلاما من أم ولدك مارية، وأمرك أن تسميه إبراهيم، فبارك الله لك فيه، وجعله قرة عين لك في الدنيا والآخرة» زاد الحافظ الدمياطي رحمه الله: «فاطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك» . أقول: وسبب اطمئنانه صلى الله عليه وسلم بذلك أن مأبورا كان يأوي إليها ويأتي إليها بالماء والحطب، فاتهمت به وقال المنافقون علج يدخل على علجة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث عليا كرم الله وجهه ليقتله، فقال له علي كرم الله وجهه: يا رسول الله أقتله أو أرى فيه رأيي؟ فقال: بل ترى رأيك فيه، فلما رأى السيف بيد علي كرم الله وجهه تكشف، وفي لفظ: فإذا هو في ركي يتبرد، فقال علي كرم الله وجهه: اخرج، فناوله يده، فأخرجه فإذا هو مجبوب، أي ممسوح، فكف عنه علي كرم الله وجهه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أصبت، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. أي وتكون هذه القضية متقدمة على قول جبريل عليه الصلاة والسلام المذكور، فالمراد مزيد الاطمئنان. وفي كلام بعضهم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مارية رضي الله تعالى عنها وهي حامل بولده إبراهيم فوجد عندها من ذكر، فوقع في نفسه شيء، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو متغير اللون، فلقيه عمر رضي الله تعالى عنه فعرف الغيظ في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فأخبره، فأخذ عمر السيف ثم دخل على مارية رضي الله عنها وهو عندها فأهوى إليه بالسيف، فلما رأى ذلك كشف عن نفسه فإذا هو مجبوب فلما رآه عمر رضي الله عنه رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ألا أخبرك يا عمر؟ إن جبريل

باب ذكر أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم

عليه الصلاة والسلام أتاني فأخبرني أن الله برأها ونزهها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاما مني، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم، وكناني بأبي إبراهيم، ولولا أني أكره أن أحول كنيتي التي تكنيت بها لتكنيت بأبي ابراهيم» والله أعلم. أي وفي النور: إني لا أعرف في الصحابة خصيا إلا هذا وشخصا آخر يقال له سفد، رآه مولاه يقبل جارية له فخصاه وجدعه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه سيده. وفي كلام بعضهم عد ابن منده وأبو نعيم مأبورا في الصحابة، وقد غلطا في ذلك، فإنه لم يسلم وما زال نصرانيا، ومنه أي بسببه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر رضي الله عنه. باب ذكر أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم أعمامه صلى الله عليه وسلم اثنا عشر، وهم: الحارث وهو أكبر أولاد جده عبد المطلب وبه كان يكنى. وشقيقه قثم وقد هلك صغيرا. وأبو طالب. والزبير. وعبد الكعبة، وهؤلاء الثلاثة أشقاء لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل الحارث لا شقيق له، وحمزة وشقيقاه المقوم بفتح الواو وكسرها مشددة، وجحل بتقديم الجيم على الحاء، واسمه المغيرة، والجحل السقاء الضخم، أي وقيل بتقديم الحاء مفتوحة على الجيم، وهو في الأصل الخلخال. والعباس وشقيقه ضرار، وقد تقدم أن أم العباس رضي الله عنه أول من كست الكعبة الحرير، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والغيداق واسمه مصعب، وقيل نوفل، ولقب بالغيداق لكثرة جوده، أي لأنه كان أجود قريش وأكثرها طعاما ومالا، وذكر بعضهم في أعمامه العوام. وعماته صلى الله عليه وسلم ست وهن: أم حكيم وعاتكة وبرة وأروى وأميمة، وهؤلاء الخمسة أشقاء لعبد الله والده صلى الله عليه وسلم وصفية: أي وهي شقيقة حمزة ولم يسلم من أعمامه صلى الله عليه وسلم الذين أدركوا البعثة إلا حمزة والعباس، وحكي إسلام أبي طالب وقد تقدم ما فيه ولم يسلم من عماته اللاتي أدركن البعثة من غير خلاف إلا صفية أي وهي أم الزبير بن العوام، أسلمت وهاجرت أي وماتت في خلافة عمر رضي الله عنه. قيل وأسلمت عاتكة التي هي صاحبة الرؤيا يوم بدر، وقيل وأروى. قال بعضهم: والمشهور أن عاتكة لم تسلم. باب ذكر أزواجه وسراريه صلى الله عليه وسلم لا يخفى أن أزواجه صلى الله عليه وسلم المدخول بهن اثنتا عشرة امرأة: خديجة رضي الله عنها، وهي أول نسائه صلى الله عليه وسلم وكانت قبله تحت أبي هالة بن زرارة التيمي، وقيل كانت

تحت عتيق بن عائد الخزومي أولا ثم تحت أبي هالة كما تقدم. وجاء: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» أي ليس فيه رفع صوت ولا تعب: أي من درة مجوفة، فقد جاء: «أنها قالت له: يا رسول الله هل في الجنة قصب؟ فقال: إنه من لؤلؤ مجبى» بالجيم وبالموحدة مشددة: أي مجوف. وجوزيت رضي الله عنها بهذا البيت، لأنها أول من بنى بيتا في الإسلام بتزوجها برسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء «من كسا مسلما على عري كساء الله من حلل الجنة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق جزاء وفاقا» . وعن عائشة رضي الله عنها: ما غرت على أحد ما غرت على خديجة رضي الله عنها، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له صلى الله عليه وسلم يوما وقد مدح خديجة رضي الله عنها: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد بدلك الله خيرا منها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها» واتفق له صلى الله عليه وسلم: «أنه أرسل لحما لامرأة تناوله صلى الله عليه وسلم ودفعه لآخر يدفعه لها، فقالت له عائشة رضي الله عنها: لم تحرز يدك فقال: إن خديجة أوصتني بها، فقالت عائشة: لكأنما ليس في الأرض امرأة إلا خديجة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، فلبث ما شاء الله ثم رجع، فإذا أم رومان أم عائشة رضي الله عنهما، فقالت يا رسول الله ما لك ولعائشة؟ إنها حديثة السن وأنت أحق من يتجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة رضي الله عنها، وقال: ألست القائلة: كأنما ليس على وجه الأرض امرأة إلا خديجة، والله لقد آمنت بي إذ كفر بي قومك ورزقت منها الولد وحرمتموه» . ثم سودة بنت زمعة أي وأمها من بني النجار لأنها بنت أخي سلمى بنت عمرو، أم عبد المطلب كما تقدم. ثم أم عبد الله عائشة رضي الله عنها بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، اكتنت بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فصار يقال لها أم عبد الله كما تقدم. وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: «هو عبد الله وأنت أم عبد الله» قالت: فما زلت أكتني به، أي وكان يدعوها أما لأنه رضي الله عنه تربى في حجرها. ويقال إنها أتت منه صلى الله عليه وسلم بسقط: أي وسمي عبد الله. قال الحافظ الدمياطي ولم يثبت كما تقدم، وتزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة في شوال وهي بنت سبع سنين، وبنى صلى الله عليه وسلم بها وهي بنت تسع سنين أي في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة على الصحيح كما تقدم، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لها: أريتك في النوم مرتين، أرى ملكا يحملك في سرقة» أي شقة حرير «فيقول: هذه

امرأتك فأكشف فأراك فأقول، إن كان من عند الله يمضه» وقبض صلى الله عليه وسلم عنها وهي بنت ثمان عشرة ولم يتزوّج بكرا غيرها، وقبض صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجرها، ودفن في بيتها كما سيأتي، وماتت وقد قاربت سبعا وستين سنة في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه بالبقيع، وقيل سعيد بن زيد، ودفنت به ليلا وذلك في زمن ولاية مروان بن الحكم على المدينة في خلافة معاوية. وكان مروان استخلف أبا هريرة رضي الله عنه لما ذهب إلى العمرة في تلك السنة. ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي شقيقة عبد الله بن عمر وأسن منه، وأمها زينب أخت عثمان بن مظعون، وكانت قبله صلى الله عليه وسلم تحت خنيس بن حذافة رضي الله عنه، فتوفي عنها بجراحة أصابته ببدر، وقيل بأحد وهو خطأ لما سيأتي من أن تزوجه صلى الله عليه وسلم لها في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة قبل أحد بشهرين. أقول: وكانت ولادتها قبل النبوة بخمس سنين وقريش تبني البيت. وماتت بالمدينة في شعبان سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو أمير يومئذ، وحمل سريرها، وحمله أيضا أبو هريرة رضي الله عنه وقد بلغت ثلاثا وستين سنة. وقيل ماتت لما بويع معاوية سنة إحدى وأربعين والله أعلم، وطلقها صلى الله عليه وسلم. وقيل في سبب طلاقها أنه صلى الله عليه وسلم كان في بيتها فاستأذنت في زيارة أبيها، أي وقيل في زيارة عائشة لأنهما كانتا متصادقتين: أي بينهما المصافاة فأذن لها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مارية وأدخلها بيت حفصة وواقعها، فرجعت حفصة فأبصرت مارية مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، وقالت له: إني رأيت من كان معك في البيت وغضبت وبكت، أي وقالت: يا رسول الله لقد جئت إليّ بشيء ما جئت به إلى أحد من نسائك في يومي وفي بيتي وعلى فراشي، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهها الغيرة، قال لها: اسكتي فهي حرام عليّ أبتغي بذلك رضاك. وفي رواية: «أما ترضين أن أحرمها على نفسي ولا أقربها أبدا؟ قالت: بلى، وحلف أن لا يقربها» : أي قال إنها حرام. وفي رواية: «قد حرمتها عليّ، ومع ذلك أخبرك أن أباك الخليفة من بعد أبي بكر فاكتمي عليّ» . وفي رواية قال لها: «لا تخبري بما أسررت إليك» فأخبرت بذلك عائشة رضي الله عنهما، فقالت: قد أراحنا الله من مارية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها على نفسه وقصت عليها القصة. وقيل خلا صلى الله عليه وسلم بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة،

فقال لها: اكتمي عليّ قد حرمت مارية على نفسي، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقتين بينهما المصافاة كما تقدم، فطلقها وأنزل الله تعالى عند تحريم مارية قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ [التحريم: الآية 1] إلى قوله: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: الآية 2] أي أوجب عليكم كفارة ككفارة أيمانكم، لأن الكفارة تحل ما عقدته اليمين لأن هذا ليس من الأيمان: أي واطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أن حفصة قد نبأت عائشة بما أسرّه إليها من أمر مارية وأمر الخلافة، فلما أخبر صلى الله عليه وسلم عائشة ببعض ما أسرته لها وهو أمر مارية وأعرض عما أسره إليها من أمر الخلافة أن ينتشر ذلك في الناس، قالت عائشة: من أنبأك هذا؟ قال: «نبأني العليم الخبير» ، ومن ثم كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: والله إن خلافة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله ثم يقرأ هذه الآية. ولما أفشت حفصة رضي الله عنها سره صلى الله عليه وسلم طلقها كما تقدم، فجاءه جبريل عليه السلام يأمره بمراجعتها، لأنها صوامة قوامة، وإنها إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم في الجنة. وفي رواية، تأتي: راجعها رحمة لعمر. وقيل همّ صلى الله عليه وسلم بتطليقها ولم يفعل، فقد جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يطلقها، فقال له جبريل عليه السلام: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة. وعليه فيراد بالمراجعة المصالحة والرضا عنها كما سيأتي. قال في الينبوع: وهذا هو المشهور، فسيأتي ما يدل على صحته: أي والذي سيأتي قول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال لا. وفيه أن هذا كان عند طلبهن منه صلى الله عليه وسلم النفقة، وهذه الواقعة غير تلك، وقيل في سبب نزول الآية غير ذلك. وفي البخاري في سبب نزول الآية عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له صلى الله عليه وسلم أكلت مغافير: أي أجد منك ريح مغافير، فدخل على حفصة رضي الله عنها، فقالت له ذلك، فقال لها: لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» أي لأنه صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يظهر منه ريح كريهة، لأن المغافير صمغ العوسج من شجر الثمام كريه الريح. وعن عمر رضي الله عنه أن امرأته راجعته في شيء فأنكر عليها مراجعتها، فقالت له: عجبا لك يا بن الخطاب: ما تريد أن تراجع، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فقام عمر رضي الله عنه، فدخل على حفصة رضي الله عنها فقال لها: يا بنية إنك لتراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فقالت

له حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا بنية لا تغررك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، يريد عائشة، قال: ثم دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت: يا بن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها، فأنا في منزلي، فجاءني صاحب لي من الأنصار، وأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه، فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة فأخذت ثوبي وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة له يرقى إليها بعجلة، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشربة وينحدر منها عليه، وغلام له أسود يقال له رباح على رأس العجلة، فقلت له قل له هذا عمر بن الخطاب، فأذن لي: أي بعد أن قال له: يا رباح استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وفي كل مرة ينظر رباح إلى المشربة ولا يرد له جوابا، وفي الثالثة رفع له عمر رضي الله عنه صوته فأومأ إليه أن ارق، قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه القصة، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم، ويأتي أن هذا كان عند اجتماعهن عليه في النفقة لا لأجل معاتبة الله إياه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة. ويحتمل أنه لا جتماع الأمرين. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: الآية 4] فقال: وا عجبا لك يا بن العباس هما عائشة وحفصة: أي فإن الله خاطبهما بقوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ [التحريم: الآية 4] أي فهو خير لكما فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: الآية 4] أي مالتا عما يجب عليكما من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتغاء مرضاته، ثم استقبل الحديث قال: كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نسائهم، فصخبت عليّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك منهن، فدخلت على حفصة، فقلت له: أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم فقلت: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله بغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلكي، لا تستكثري النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد عائشة، فأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا، فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ ألم أكن حذرتك هذا؟ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري، ها هو معتزل في المشربة: أي الغرفة، فإنه صلى الله عليه وسلم لما عاتبه الله سبحانه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة على عائشة حلف لا يدخل على نسائه شهرا،

فصار صلى الله عليه وسلم يتغدى ويتعشى وحده في تلك المشربة، فجئت المشربة، فقلت لغلام أسود: استأذن لعمر، فدخل الغلام فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع، فقال: كلمته وذكرتك له فصمت، فانصرفت، ثم غلبني ما أجد، فجئت، فقلت للغلام: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فرجعت، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، ثم قلت: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ، فقال ذكرتك له، فصمت، فلما وليت منصرفا إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت له: وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فرفع بصره إليّ فقال: لا، فقلت: الله أكبر، كنا معاشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة فإذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته صلى الله عليه وسلم تبسم. وفي رواية أن عمر رضي الله عنه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة حثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم من الغد وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر. وقد يراد بالمراجعة المصالحة والرضا فلا ينافي ما تقدم أنه لم يطلقها وإنما أراد ذلك، ويدل له ما جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يطلقها فقال له جبريل عليه السلام: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة، ومن هذا وما يأتي يعلم أنه صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه، وأما الظهار فلم يظاهر أبدا خلافا لمن زعمه. أي وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب اعتزاله صلى الله عليه وسلم لنسائه في المشربة أنه شجر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين حفصة أمر، فقال لها: اجعلي بيني وبينك رجلا، قالت: نعم، قال: فأبوك إذن، فأرسلت إلى عمر فجاء، فلما دخل عليهما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: تكلمي، فقالت: بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقا، فرفع عمر رضي الله عنه يده فوجأها في وجهها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كف يا عمر، فقال عمر: يا عدوة الله، النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد إلى الغرفة، فمكث فيها شهرا لا يعرف شيئا من نسائه ونزلت آية التخيير. ويقال: لا مانع من اجتماع هذا السبب مع ما تقدم. ويروى أن سبب نزول آية التخيير أن نساءه صلى الله عليه وسلم اجتمعن عليه فسألنه النفقة ولم يكن عنده شيء فآلى أن لا يجتمع بهن شهرا وصعد المشربة الحديث. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم

فوجد الناس جلوسا ببابه ليؤذن لهم، قال فأذن لأبي بكر رضي عنه فدخل، ثم أقبل عمر ماشيا، فأذن له فدخل فوجد النبي صلى الله عليه وسلم حوله نساؤه: أي قد سألنه النفقة وهو واجم ساكت لا يتكلم، فقال عمر رضي الله عنه: لأقولن شيئا أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله لو رأيت فلانة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة فوجأ عنقها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة فوجأ عنقها وكل يقول تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ثم أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجتمع بهن شهرا. وفي رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه أنه ذكر أن بعض أصدقائه من الأنصار جاء إليه ليلا، فدق عليه بابه وناداه، قال عمر: فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: ماذا أجاءت غسان، لأنا كنا حدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فقال: لا، بل أمر أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت، كنت أظن هذا كائنا حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ودخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري هو هذا معتزلا في هذه المشربة: أي لأن نساءه صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن عليه صلى الله عليه وسلم في طلب النفقة أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن، قال عمر رضي الله عنه: لأقولن من الكلام شيئا أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيت غلاما له صلى الله عليه وسلم أسود، فقلت له: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج وقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المسجد، فجلست قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فلما كان في المرة الرابعة وقال لي مثل ذلك وليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، قد أذن لك، فدخلت، فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكىء على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ قال: فرفع رأسه إليّ وقال: لا، فقلت: الله أكبر، ثم قلت: كنا معاشر قريش بمكة نغلب على النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فكلمت فلانة يعني زوجته فراجعتني، فأنكرت عليها، فقالت: تنكر أن راجعتك؟ فو الله لقد رأيت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت: قد من فعل ذلك وخسر، أتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسألينه شيئا، وسليني ما بدا

لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك؟ يعني عائشة رضي الله تعالى عنها، فتبسم أخرى، فقلت، أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست وقلت: يا رسول الله قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فاستوى صلى الله عليه وسلم جالسا وقال: أفي شك أنت يا بن الخطاب أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر الله يا رسول الله، فلما مضى تسع وعشرون يوما أنزل الله تعالى عليه أن يخير نساءه في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: الآية 28] الآية، فنزل ودخل على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت له: يا رسول الله أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وقد دخلت وقد مضى تسع وعشرون يوما أعددهن، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشهر تسع وعشرون. وفي رواية يكون هكذا وهكذا وهكذا، يشير بأصابع يديه وفي الثالثة حبس إبهامه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا: فلا عليك أن لا تعجلي. وفي رواية: إني أعرض عليك أمرا وأحب أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. قالت: وما هو يا رسول الله فقرأ عليّ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: الآية 28] الآية، قلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفي رواية: أفيك يا رسول الله أستشير أبويّ بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت رضي الله تعالى عنها: ثم قلت له لا تخبره امرأة من نسائك بالذي قلت لك، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا، ثم فعل بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت عائشة رضي الله تعالى عنهن. ثم زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها، وهي أخت ميمونة لأمها، كانت تدعى: أي في الجاهلية أم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم أي كما سمى صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بأبي المساكين لحبه لهم، وجلوسه عندهم، وتحدثه معهم، وإحسانه إليهم رضي الله تعالى عنه، كانت قبله تحت الطفيل بن الحارث، فطلقها فتزوجها أخوة عبيدة بن الحارث، فقتل يوم بدر شهيدا، فخطبها صلى الله عليه وسلم، فجعلت أمرها إليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي وذلك على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة قبل أحد بشهر. وفي لفظ أن عبيدة بن الحارث قتل عنها يوم أحد فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ أنها كانت تحت عبد الله بن جحش، قتل عنها يوم أحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في المواهب: وهو أصحّ. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله عروسا بزينب، فعمدت أم سليم إلى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيسا فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل: بعثت بهذا إليك أمي وهي تقرئك السلام، فقال صلى الله عليه وسلم:

ادع لي فلانا وفلانا رجالا سماهم، وادع لي من لقيت، فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت، فإذا البيت غاصّ، بأهله، قيل لأنس: ما عددهم؟ قال: كانوا ثلاثمائة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده الشريفة على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عنده عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: اذكروا الله وليأكل كل رجل مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا كلهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم لي: يا أنس ارفع فرفعت، فما أدري حين وضعت كانت أكثر أو حين رفعت، فمكثت عنده صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر وقيل شهران أو ثلاثة، ثم توفيت وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفنت بالبقيع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها. ولم يمت من أزواجه صلى الله عليه وسلم في حياته إلا هي وخديجة رضي الله تعالى عنهما. ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بعد زينب هذه أم سلمة. واسمها هند. وكانت قبله صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة رضي الله تعالى عنه عبد الله بن عبد الأسد ابن عمته صلى الله عليه وسلم برة بنت عبد المطلب، وأخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وكانت هي وهو أول من هاجر إلى الحبشة على ما تقدم، فلما مات أبو سلمة رضي الله تعالى عنه، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرا، فقالت: ومن يكن خيرا من أبي سلمة؟ ولما اعتدت أم سلمة رضي الله تعالى عنها أرسل صلى الله عليه وسلم يخطبها مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، أي وكان خطبها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأبت، وخطبها عمر فأبت، فلما جاءها حاطب، قالت: مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول له: إني امرأة مسنة، وإني أم أيتام: أي لأنها رضي الله تعالى عنها كان معها أربع بنات: برة وسلمة وعمرة ودرة، وإني شديدة الغيرة، فأرسل صلى الله عليه وسلم يقول لها: أما قولك إني امرأة مسنة فأنا أسن منك، ولا يعاب على المرأة أن تتزوج أسن منها. وأما قولك: إني أم أيتام فإن كلهم على الله وعلى رسوله. وأما قولك: إني شديدة الغيرة فإني أدعو الله أن يذهب ذلك عنك. أي وفيه أنهم قالوا: يا رسول الله ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال: إن فيهن غيرة شديدة. وفي لفظ أنها قالت زيادة على ما تقدم: ليس لي ههنا أحد من أوليائي فيزوجني، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله أن يذهبها عنك. وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم. وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني، فقالت لابنها: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجه أي على متاع منه رحى وجفنة وفراش حشوه ليف، وقيمة ذلك المتاع عشرة دراهم، وقيل أربعون درهما. قالت: فتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخلني بيت زينب أم المساكين رضي الله تعالى عنها بعد أن ماتت، فإذا جرة فيها شيء من شعير، وإذا رحى وبرمة وقدر وكعب: أي ظرف الأدم، فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة، وأخذت الكعب فأدمته، فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أهله ليلة عرسه.

وماتت أم سلمى رضي الله تعالى عنها في ولاية يزيد بن معاوية، وكان عمرها أربعا وثمانين سنة ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وقيل سعيد بن زيد وغلط قائله. وذكر بعضهم أن تزويج ولدها لها رضي الله تعالى عنهما إنما كان بالعصوبة لأنه كان ابن ابن عمها. ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بعد أم سلمة رضي الله تعالى عنها زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، وكان اسمها برة، فسماها صلى الله عليه وسلم زينب: أي خشي أن يقال خرج من عند برة، وهي بنت عمته صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وكانت قبله صلى الله عليه وسلم عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما ثم طلقها، فلما انقضت عدتها زوجه الله إياها، أي لأنه صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة يخطبها له صلى الله عليه وسلم، قال زيد: فذهبت إليها فجعلت ظهري إلى الباب فقلت: يا زينب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل، فأنزل الله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الأحزاب: الآية 37] فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فكانت رضي الله تعالى عنها تفتخر بذلك على نسائه صلى الله عليه وسلم وتقول: إن الله أنكحني إياه من فوق سبع سموات، وهذا يرد ما قيل إن أخاها أبا أحمد بن جحش زوجها منه صلى الله عليه وسلم. قال في النور: ويمكن تأويل تزويج أخيها إياها. أي وقد ذكر مقاتل رحمه الله أن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما لما أراد أن يتزوج زينب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله اخطب علي، قال له: من؟ قال: زينب بنت جحش، قال: لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نفسا، فقال: يا رسول الله إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم: إنها امرأة لسناء، فذهب زيد رضي الله تعالى عنه إلى عليّ كرم الله وجهه، فحمله على أن يكلم له النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها فتكلمهم، ففعل، ثم عاد يخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فأنكحوه، وساق لهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأو لم عليها، وأطعم المساكين خبزا ولحما: أي وتزوجها صلى الله عليه وسلم هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة على الصحيح وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وقيل نزلت في ذلك اليوم آية الحجاب، فإنه صلى الله عليه وسلم لما دعا القوم وطعموا تهيأ صلى الله عليه وسلم للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس فلم يدخل، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب: الآية 53] الآية وتكلم في

ذلك المنافقون وقالوا: محمد حرم نساء الأولاد، وقد تزوج امرأة ابنه أي لأن زيد بن حارثة كان يقال له زيد بن محمد: أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان تبناه كما تقدم، فأنزل الله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: الآية 40] وأنزل ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: الآية 5] فمن حينئذ كان يقال له رضي الله تعالى عنه زيد بن حارثة كما تقدم. وهي أول نسائه صلى الله عليه وسلم لحوقا به. ماتت رضي الله تعالى عنها بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة. وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أي فإن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل إلى زينب رضي الله تعالى عنها بالذي لها من العطاء، فسترته بثوب، وأمرت بتفرقته، فكان خمسة وثمانين درهما، ثم قالت: اللهم لا تدركني عاما لعمر بعد عامي هذا فماتت. وهي أول من جعل على نعشها قبة، أي بعد فاطمة رضي الله تعالى عنها، فلا يخالف ما سبق مما ظاهره أنه فعل لها ذلك. وفي كلام بعضهم أن زينب هذه أول من حمل على نعش، وقيل أول من حمل على نعش فاطمة رضي الله تعالى عنها، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول في حقها: هي التي كانت تساويني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت امرأة قط خيرا في الدين وأتقى لله وأصدق في حديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة من زينب رضي الله تعالى عنها. وقال صلى الله عليه وسلم في حقها: إنها لأواهة، فقال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟ قال: الخاشع المتضرع. وهي أول نسائه صلى الله عليه وسلم لحوقا به كما تقدم. وقال له صلى الله عليه وسلم بعض نسائه: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: أطولكن يدا، فأخذن قصبة يذرعنها، وفي لفظ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فكانت سودة رضي الله تعالى عنها أطولهن، فلما ماتت زينب رضي الله تعالى عنها، أي وكانت امرأة قصيرة علموا أن المراد بطول اليد الصدقة، لأنها كانت تعمل وتتصدق لا الجارحة وما في البخاري من أنها سودة، قال ابن الجوزي: غلط من بعض الرواة. والعجب من البخاري رحمه الله كيف لم ينبه عليه ولا علم بفساد ذلك الخطأ، فإنه قال: لحوق سودة به صلى الله عليه وسلم من أعلام النبوة وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب فإنها كانت أطولهن يدا بالعطاء. وجمع الطيبي رحمه الله بأنه يمكن أن يقال إن سودة رضي الله تعالى عنها أوّل نسائه صلى الله عليه وسلم موتا التي اجتمعن عند موته، وكانت زينب رضي الله تعالى عنها غائبة.

وفيه أن في رواية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعن عنده لم يغادر منهن واحدة أي فقد قال له بعضهن. وفي لفظ قلن له: أينا أسرع لحوقا بك يا رسول الله؟ وقد قال الإمام النووي: أجمع أهل السيرة على أن زينب رضي الله تعالى عنها أوّل من مات من أزواجه صلى الله عليه وسلم بعده. ثم جويرية رضي الله تعالى عنها بنت الحارث من بني المصطلق. سبيت في غزوة بني المصطلق، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على تسع أواق، فأدى عليه الصلاة والسلام عنها ذلك وتزوّجها. وقيل جاء أبوها فافتداها، ثم نكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وقيل إنها كانت بملك اليمين فأعتقها صلى الله عليه وسلم وتزوّجها، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية، أي لما تقدم. وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسافع بن صفوان، وتقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت كانت جويرية عليها ملاحة وحلاوة، لا يكاد يراها أحد إلا وقعت بنفسه. وكانت بنت عشرين سنة. أي وتوفيت في المدينة سنة ست وخمسين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو والي المدينة يومئذ، وقد بلغت سبعين سنة، وقيل خمسا وستين سنة. ثم ريحانة بنت يزيد من بني النضير. وقيل من بني قريظة، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رجل من بني قريظة، يقال له الحكم. قال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ولذلك ينسبها بعض الرواة إلى بني قريظة، وكانت جميلة وسيمة، وقعت في سبي بني قريظة، فكانت صفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام ودينها، فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوّجها، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وقيل كانت موطوءة له صلى الله عليه وسلم بملك اليمين. أي فقد ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يعتقها ويتزوّجها، وبين أن تكون له في ملكه، وعليه فتكون من السراري لا من الزوجات. قال الحافظ الدمياطي: والأوّل، أي أنها زوجة أثبت عند أهل العلم. وقال العراقي إن الثاني: أي كونها سرية أضبط. ودخل بها صلى الله عليه وسلم بعد أن حاضت حيضة أي وذلك في بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس النجارية سنة ست من الهجرة، وغارت عليه صلى الله عليه وسلم غيرة شديدة فطلقها فأكثرت البكاء، فراجعها صلى الله عليه وسلم، وهذا مؤيد للقول بأنها كانت زوجة. قيل ماتت مرجعه صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع ودفنها بالبقيع. ثم أم حبيبة رضي الله عنها، وهي رملة بنت أبي سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنهما وهي بنت عمة عثمان بن عفان. هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش

إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فولدت له حبيبة وبها كانت تكنى، وهي ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت في حجره رضي الله تعالى عنها، وتنصر عبيد الله بن جحش هناك وثبتت هي على الإسلام رضي الله تعالى عنها. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي رحمه الله فزوّجه صلى الله عليه وسلم إياها، وأصدقها النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، أي والذي تولى عقد النكاح خالد بن سعيد بن العاص على الأصح وكلته في ذلك، وهو ابن عم أبيها. وقيل الذي تولى عقد النكاح عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وقيل كان الصداق أربعة آلاف درهم، وجهزها النجاشي من عنده، وأرسلها مع شرحبيل ابن حسنة في سنة سبع. وقيل تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وعليه يحمل ما في كلام العامري أن النبي صلى الله عليه وسلم جدد نكاح أم حبيبة رضي الله تعالى عنها بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنه تطبيبا لخاطره. ثم صفية رضي الله تعالى عنها بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، قتل مع بني قريظة كما تقدم. وكانت عند سلام بن مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وقتل عنها يوم خيبر، وتقدمت قصة قتله في خيبر، ولم تلد لأحد منهما، واصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، لأنه لما جمع سبي خيبر جاءه دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية رضي الله تعالى عنها. فقيل: يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خذ جارية من السبي غيرها، فحجبها وجهزتها له أم سليم رضي الله تعالى عنها، وأهدتها له من الليل وكان عمرها لم يبلغ سبع عشرة سنة، فأولم صلى الله عليه وسلم عليها بتمر وسويق. وفي لفظ: لما أصبح صلى الله عليه وسلم قال: من كان عنده شيء فليجيء به، فبسط نطعا، فجعل الرجل يأتي بالأقط، وجعل الرجل يأتي بالتمر، وجعل الرجل يأتي بالسمن، فحاسوا حيسا، فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أنس قال: كانت صفية عاقلة فاضلة، ودخل عليها صلى الله عليه وسلم يوما وهي تبكي. فقال لها في ذلك؟ فقالت قد بلغني أن عائشة وحفصة ينالان مني، ويقولان: نحن خير من صفية، نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولي لهن: كيف تكن خيرا مني، وأبي هارون، وعمي موسى عليهما الصلاة والسلام، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم: أي فهي بنت نبي وزوج نبي، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرا في وجهها، فسألها عن ذلك. فقالت: رأيت كأن القمر وقع في حجري، فذكرت ذلك لأبي. وتقدم في رواية أنها ذكرت ذلك لزوجها كنانة، فضرب وجهي ضربة أثرت فيّ هذا الأثر، وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب.

ولا مانع من تعدد الواقعة. فقد قال في النور: لعلهما فعلا بها ذلك، وتقدم في رواية أنها رأت الشمس وقعت على صدرها، وتقدم أنه يجوز تعدد الرؤيا، أو أنها رأت الشمس والقمر في وقت واحد. وفي زمن خلافة عمر رضي الله عنه أتت جارية لها إلى عمر رضي الله عنه، فقالت له: يا أمير المؤمنين إن صفية تحبّ السبت وتصل اليهود، فسألها عمر رضي الله عنه، فقالت: أما السبت فإني لا أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة. وأما اليهود، فإن لي فيهم رحما، فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة. قال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ماتت في رمضان سنة خمسين. وقيل سنة اثنتين وخمسين ودفنت بالبقيع. وخلفت ما قيمته مائة ألف درهم من أرض وعرض. وأوصت لابن أختها بثلثها وكان يهوديا. وذكر الرافعي رحمه الله عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنها أوصت لأخيها، وكان يهوديا بثلاثين ألفا، أي وهذا لا يعارض ما ذكر لأنه لا يجوز أن يكون من روى عنه إمامنا لم يعتبر ما زاد على الثلاثين الذي هو تتمة الثلث، وهو ثلاثة وثلث، لأن ثلث المائة ثلاثة وثلاثون وثلث، أو أن القائل أوصت بثلثها تجوّز وأطلق على الثلاثين ثلثا. ثم ميمونة رضي الله عنها بنت الحارث، وكان اسمها برة فسماها ميمونة، زوّجها له صلى الله عليه وسلم عمه العباس رضي الله عنه، وهي خالة ابنه عبد الله بن عباس، وأختها أسماء بنت عميس وسلمى بنت عميس وزينب بنت خزيمة أم المؤمنين، وخالة خالد بن الوليد رضي الله عنه. وكانت في الجاهلية عند مسعود بن عمرو ففارقها، فخلف عليها أبو رهم فتوفي عنها فتزوجها صلى الله عليه وسلم وهو محرم، أي كما عليه جمهور علماء المدينة في عمرة القضاء. وفي الهدى: يشبه أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم خلافا لابن عباس ووهمه في ذلك، قال: لأن السفير بينهما في النكاح وهو أبو رافع أعلم بالقصة وهو رجل بالغ، وابن عباس كان سنه نحو عشر سنين. قال: ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح موجب للتقديم، وكان ذلك سنة سبع. وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا وبنى بها بسرف بعد أن أحل على ما تقدم، وماتت سنة إحدى وخمسين على الأصح وبلغت ثمانين سنة، ودفنت بسرف الذي هو محل الدخول بها. والحاصل أن جملة من خطبه صلى الله عليه وسلم من النساء ثلاثون امرأة منهن من لم يعقد

عليه ومنهن من عقد عليه، وهذا القسم أيضا منه من دخل به ومنه من لم يدخل به. وفي لفظ: جملة من عقد عليه ثلاث وعشرون امرأة، والذي دخل به منهن اثنتا عشرة. فمن غير المدخول بها غزية، وهي أم شريك العامرية، وهذه قبل دخوله بها طلقها ولم يراجعها. وهناك أم شريك السلمية أخرى، وهي خولة أو خويلة ولم يدخل بها. وهناك أم شريك ثالثة وهي الغفارية. وأم شريك رابعة وهي الأنصارية. واختلف في الواهبة نفسها، فقيل ميمونة، وقيل أم شريك غزية، وقيل أم شريك خولة التي لم يدخل بها. ورجح القول الثاني الحصني حيث اقتصر عليه في كتاب المؤمنات، فقال: ومنهن أم شريك، واسمها غزية، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها على ما قاله الأكثرون، فلم تتزوج حتى مات عليه الصلاة والسلام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهن للإسلام وترغبهن فيه حتى ظهر أمرها لأهل مكة فأخذوها، وقالوا لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا نسيرك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء ثم تركوني ثلاثا لا يطعموني ولا يسقوني، وكانوا إذا نزلوا منزلا أوقفوني في الشمس واستظلوا، فبينما هم قد نزلوا منزلا وأوقفوني في الشمس إذا أنا بأبرد شيء على صدري فتناولته، فإذا هو دلو من ماء، فشربت قليلا ثم نزع مني ورفع، ثم عاد فتناولته فشربت من ثم رفع، ثم عاد ثم رفع مرارا فشربت منه حتى رويت ثم أفضت سائرة على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء على ثيابي فقالوا: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه، فقلت: لا والله، ولكنه كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا، فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها فأسلموها عند ذلك، وأقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوهبت نفسها له بغير مهر فقبلها ودخل عليها. قال: وفي ذلك أن من صدق في حسن الاعتماد على الله وقطع طعمه عما سواه جاءته الفتوحات من الغيب، هذا كلامه. وقد كان صلى الله عليه وسلم أرجأ من نسائه خمسا: سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة، وآوى إليه أربعا: عائشة وزينب وأم سلمة وحفصة، وهؤلاء التسعة مات عنهن صلى الله عليه وسلم. وقد نظمهن بعضهم فقال: توفي رسول الله عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب فعائشة ميمونة وصفية ... وحفصة تتلوهن هند وزينب

جويرية مع رملة ثم سودة ... ثلاث وست ذكرهن مهذب ومن جملة اللاتي لم يدخل به النبي صلى الله عليه وسلم التي ماتت من الفرح، لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بها وهي عز أخت دحية الكلبي رضي الله تعالى عنهما التي ماتت قبل دخوله بها. ومن جملتهن سودة القرشية التي خطبها صلى الله عليه وسلم فاعتذرت بينيها، وكانوا خمسة، وقيل ستة، فقال لها خيرا. ومن جملتهن التي تعوذت منه صلى الله عليه وسلم، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله مني. وفي لفظ: عذت بعظيم، وفي لفظ: عائذ الله. وفي كلام بعضهم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم خفن أن تغلبهن عليه لجمالها، فقلن لها: إنه صلى الله عليه وسلم يعجبه إذا دنا منك أن تقولي له أعوذ بالله منك، فلما دنا منها قالت: أعوذ بالله منك. وفي رواية: قلن لها: إن اردت أن تحظي عنده فتعوّذي بالله منه فلما دخل عليها قالت له: أعوذ بالله منك، فصرف صلى الله عليه وسلم وجهه عنها وقال ما تقدم وطلقها، وأمر أسامة رضي الله تعالى عنه فمتعها بثلاثة أثواب. وفي لفظ أتى أبو أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجونية: أي أسماء بنت النعمان بن أبي الجون الكندية، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاها فقالت تعال أنت. وفي رواية فقال: هبي نفسك، فقالت: تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى صلى الله عليه وسلم بيده إليها لتسكت، فقالت: أعوذ بالله منك، قال: عذت بمعاذ، فخرج فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيين وألحقها بأهلها، وهذا هو المشهور. وروي هذا الخبر عن أسيد بن أبي أسيد قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة يتزوجها من بلجون: أي من بني الجون، فجئت بها، فأنزلتها بالشعب في أجم ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله جئتك بأهلك، فأتاها صلى الله عليه وسلم، فأهوى إليها ليقبلها فقالت: أعوذ بالله منك» الحديث. ومن جملتهن التي اختارت الدنيا. وقيل التي كانت تلتقط البعر هي المستعيذة منه. ومن جملتهن قتيلة بضم القاف وفتح الباء المثناة فوق، بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجه إياها أخوها وهي بحضرموت، ومات صلى الله عليه وسلم قبل قدومها عليه، وأوصى صلى الله عليه وسلم بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فتنكح من شاءت فاختارت الفراق، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: هممت أن أحرق عليها بيتها، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ما

باب ذكر المشاهير من خدمه صلى الله عليه وسلم من الأحرار

هي من أمهات المؤمنين، ما دخل بها صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تزوجت شيئا من نسائي ولا زوجت شيئا من بناتي إلا بوحي جاءني به جبريل عليه الصلاة والسلام من ربي عز وجل» أي وعنه صلى الله عليه وسلم أن خديجة رضي الله تعالى عنها تزوجها قبل نزول الوحي. أي وقد ألف في أزواجه صلى الله عليه وسلم الحافظ الدمياطي جزآ فليطلب، وكذا ألف فيهن الشمس الشامي. وأما سراريه صلى الله عليه وسلم فأربع: مارية القبطية أم ولده سيدنا إبراهيم، وريحانة على ما تقدم، وجارية وهبتها له صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، وأخرى اسمها زليخة القرظية. باب ذكر المشاهير من خدمه صلى الله عليه وسلم من الأحرار فمن الرجال أنس بن مالك الأنصاري رضي الله تعالى عنه، كان من أخص خدامه صلى الله عليه وسلم. خدمه من حين قدم المدينة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم عشر سنين كما تقدم. فعن أنس رضي الله تعالى عنه: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة يعني زوج أمة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك، فخدمته صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وتقدم في بعض الروايات أن ابتداء خدمته له صلى الله عليه وسلم كان عند خروجه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ومات وقد جاوز المائة. وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، كان صاحب سواكه ونعله صلى الله عليه وسلم، إذا قام صلى الله عليه وسلم ألبسه إياهما، فإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم. وكان رضي الله تعالى عنه يمشي بالعصا أمامه صلى الله عليه وسلم حتى يدخل الحجرة. أي ومعيقب الرومي رضي الله تعالى عنه، كان صاحب خاتمه صلى الله عليه وسلم. وعقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه، كان صاحب بغلته صلى الله عليه وسلم، يقودها في الأسفار، وكان عالما بكتاب الله عز وجل وبالفرائض، فصيحا، شاعرا مفهما. ويأتي أنه ولي مصر لمعاوية رضي الله تعالى عنهما وتوفي بها، وصرف عنها بمسلمة بن مخلد رضي الله تعالى عنه. وأسقع بن شريك، صاحب راحلته صلى الله عليه وسلم. كان رضي الله تعالى عنه يرحل ناقته صلى الله عليه وسلم «وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم: يا أسقع، قم فارحل، فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، فسكت صلى الله عليه وسلم وجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بآية التيمم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قم يا أسقع فتيمم، فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت وتيممت ثم رحلت له صلى الله عليه وسلم، ثم سار صلى الله عليه وسلم حتى مر بماء، فقال

باب ذكر المشاهير من مواليه صلى الله عليه وسلم الذين أعتقهم

لي: يا أسقع أمسّ هذا جلدك. وتقدم أن سبب نزول آية التيمم ضياع عقد عائشة رضي الله تعالى عنها في بعض الغزوات. وبلال مؤذنه صلى الله عليه وسلم. وكان رضي الله تعالى على نفقاته، وهو مولى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه الذي اشتراه وهو يعذب في الله وأعتقه كما تقدم. ومن النساء أمة الله بنت رزينة، وخولة، ومارية أم الرباب، ومارية وجدة المثنى بن صالح، وقيل التي قبلها. باب ذكر المشاهير من مواليه صلى الله عليه وسلم الذين أعتقهم فمن الرجال زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما، كما تقدم أن خديجة رضي الله تعالى عنها وهبته له صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فتبناه صلى الله عليه وسلم. وكان يقال له ابن محمد، فلما نزل: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: الآية 5] أي وقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: الآية 40] الآية قيل له زيد بن حارثة كما تقدم. وكان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه أسامة وأخو أسامة لأمه أيمن ابن أم أيمن بركة الحبشية رضي الله تعالى عنهم. وأبو رافع كان قبطيا، وكان للعباس رضي الله تعالى عنهما فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم. ولما أسلم العباس وبشر أبو رافع رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه. وشقران كان حبشيا، وقيل فارسيا، وكان لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم. وثوبان. وأنجشة، اشتراه صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية وأعتقه. وكان رضي الله تعالى عنه يحدو بالنساء، قال له صلى الله عليه وسلم وقد حدا بهن: رويدا يا أنجشة، رفقا بالقوارير، يعني النساء، لأن الحداء إذا سمعته الإبل أسرعت في المشي فتزعج الراكب والنساء يضعفن من شدة الحركة، وشبههن صلى الله عليه وسلم في ضعفهن بالقوارير وهي الأواني من الزجاج. ورباح كان أسود ويسار كان نوبيا على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قتله العرنيون. وقد تقدم أن هذا غير يسار الذي كان دليلا لسرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة. وسفينة وكان أسود، وكان لأم سلمة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقته، واشترطت عليه أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش. وكان اسمه بهران. وقيل رومان وقيل غير ذلك، وإنما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة لأنه حمل أمتعة للصحابة رضي الله تعالى عنهم ثقلت عليهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: احمل فإنما أنت سفينة،

باب ذكر المشاهير من كتابه صلى الله عليه وسلم

قال رضي الله تعالى عنه: فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين إلى أن عدّ سبعة ما ثقل عليّ. وقيل لأنه انكسرت به السفينة في البحر فركب لوحا من ألواحها فنجا. وذكر أن البحر ألقاه على أجمة سبع فأقبل نحوه، فقال له: أبا الحارث أنا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إليّ وضربني بمنكبيه ثم مشى أمامي حتى أقامني على الطريق ثم همهم وضربني بذنبه فرأيت أنه يودعني. وقيل إنما وقع له ذلك لما أضل الجيش الذي كان فيه بأرض الروم. وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، أي لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أدى عنه نجوم كتابته، وفي كونه رقيقا ما تقدم. أي والخصي الذي أهداه له المقوقس الذي هو مأبور المتقدم ذكره. وآخر يقال له سندر. وفي كلام بعضهم أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه أربعين رقبة. ومن النساء أم أيمن وأميمة وسيرين التي أهديت له صلى الله عليه وسلم مع مارية، أي وتقدم أنها أختها. وذكر بعضهم أن سيرين هذه وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه. وتقدم أن المقوقس أهدى معهما قنسر وأنها أخت مارية وسيرين فهن الثلاث أخوات، وتقدم أنه أهدى إليه صلى الله عليه وسلم رابعة. باب ذكر المشاهير من كتّابه صلى الله عليه وسلم فقد ذكر بعضهم أن كتابه صلى الله عليه وسلم كانوا ستة وعشرين كاتبا على ما ثبت عن جماعة من ثقات العلماء. وفي السيرة للعراقي أنهم اثنين وأربعين، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري. وهو أول من كتب له صلى الله عليه وسلم من قريش بمكة ثم ارتد وصار يقول كنت أصرّف محمدا حيث أريد، كان يملي عليّ عزيز حكيم، فأقول أو عليم حكيم، فيقول: نعم، كل صواب. وفي لفظ: كان يقول اكتب كذا، فأقول أكتب كذا؟ فيقول اكتب كيف شئت، ونزل فيه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام: الآية 144] . أي ثم لما كان يوم الفتح، وأمر صلى الله عليه وسلم بقتله فر إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، لأنه كان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان فغيبه عثمان رضي الله تعالى عنه ثم جاء به بعدما اطمأن الناس، واستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فصمت له رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال نعم، فلما انصرف عثمان قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله: ما صمتّ عنه إلا لتقتلوه إلى آخر ما تقدم. ثم أسلم وحسن إسلامه، ودعا الله تعالى أن يختم عمره بالصلاة، فمات ساجدا في صلاة الصبح، وقيل بعد التسليمة الأولى،

باب يذكر فيه حراسه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: والله يعصمك من الناس [المائدة: 67]

وقيل الثانية. وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنهم. أي وعبد الله بن الأرقم، وكان يكتب الرسائل للملوك وغيرهم، قال عمر في حقه: ما رأيت أخشى لله منه. وأبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه، وهو أول من كتب له صلى الله عليه وسلم من الأنصار بالمدينة، كان في أغلب أحواله يكتب الوحي، وهو أحد الفقهاء الذين كانوا يكتبون في عهده عليه الصلاة والسلام. وثابت بن قيس بن شماس، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان أي وأخوه يزيد. قال بعضهم: كان معاوية وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما ملازمين للكتابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوحي وغيره، لا عمل لهما غير ذلك. قال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم بالسريانية، قال: إني لا آمن يهود على كتابي، فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت وحذقت فيه فكنت أكتب له صلى الله عليه وسلم إليهم وأقرأ له كتبهم. والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوام، وخالد بن الوليد، والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن العاص، وعبد الله بن رواحة، أي ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ ابن سلول. باب يذكر فيه حراسه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] سعد بن معاذ حرسه صلى الله عليه وسلم ومسلم ليلة يوم بدر: أي الليلة التي صبيحتها ذلك اليوم. وفي ذلك اليوم لم يحرسه صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه شاهرا سيفه حين نام بالعريش. وفي كلام بعضهم أن سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه كان مع أبي بكر رضي الله عنه في العرش يحرسانه صلى الله عليه وسلم في بدر. ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه حرسه صلى الله عليه وسلم يوم أحد. والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه حرسه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه حرسه يوم الحديبية. وأبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه حرسه صلى الله عليه وسلم ليلة بنى بصفية ببعض طرق خيبر.

باب يذكر فيه من ولي السوق في زمنه صلى الله عليه وسلم

وبلال وسعد بن أبي وقاص وذكوان بن عبد قيس رضي الله عنهم حرسوه صلى الله عليه وسلم بوادي القرى. أي وحرسه صلى الله عليه وسلم ابن أبي مرثد الغنوي في الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة حنين حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يحرسنا الليلة؟ فقال: أنا يا رسول الله فدعا له صلى الله عليه وسلم، وعد نزول الآية وهي: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: الآية 67] ترك الحرس» . باب يذكر فيه من ولي السوق في زمنه صلى الله عليه وسلم وتصديق هذه الولاية الآن بالحسبة ومتوليها بالمحتسب. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل سعد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة. واستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سوق المدينة. باب يذكر فيه من كان يضحكه صلى الله عليه وسلم منهم نعيمان. كان صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى نعيمان لا يتمالك نفسه أن يضحك لأنه كان مزاحا، وتقدم عنه. ويأتي أيضا ما وقع بينه وبين سليط أو سويط. ومنهم الذي كان يحده في الخمر، واسمه عبد الله، ويلقب بالخمار. باب يذكر فيه أمناء رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه. كان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه. وكذا أبو أسد بن أسيد الساعدي، كان أمينه صلى الله عليه وسلم على نسائه. وهو آخر من مات من أهل بدر رضي الله تعالى عنهم. وكان ممن أبصر الملائكة يوم بدر وكف بصره. وبلال المؤذن رضي الله تعالى عنه، كان أمينه صلى الله عليه وسلم على نفقاته. ومعيقيب، كان أمينه صلى الله عليه وسلم على خاتمه الشريف. باب يذكر فيه شعراؤه صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

باب يذكر فيه من كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم

باب يذكر فيه من كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم وهم علي كرم الله وجهه، والزبير، والمقداد، ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنهم، وعاصم بن ثابت، أي والضحاك بن سفيان رضي الله تعالى عنه. ولعل المراد من كان يتكرر منه ذلك، فلا ينافي ما تقدم في قصة الحارث بن سويد أنه قال لعويمر بن ساعدة رضي الله تعالى عنه اضرب عنقه. باب يذكر فيه مؤذنوه صلى الله عليه وسلم وهم بلال، وابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنهما بالمدينة، وسعد القرظ مولى عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما بقباء، وقيل له القرظ لا تجارة فيه. ومن قال القرظي فقد أخطأ، وأبو محذورة رضي الله تعالى عنه بمكة: أي وأذن بين يديه صلى الله عليه وسلم زياد بن الحارث الصدائي كما تقدم. وقد يقال: مراد الأصل من تكرار أذانه، فلا يرد هذا، وكذا لا يرد عبد العزيز بن الأصم فإنه أذن أيضا بين يديه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة. باب يذكر فيه العشرة المبشرون الجنة رضي الله تعالى عنهم وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وقد نظم ذلك بعضهم في بيت، فقال: لقد بشرت بعد النبي محمد ... بجنة عدن زمرة سعداء سعيد وسعد والزبير وعامر ... وطلحة والزهري والخلفاء أي وربما أسقط بعضهم أبا عبيدة عامر بن الجراح، وذكر بدله عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو غريب جدا. باب يذكر فيه حواريوه صلى الله عليه وسلم بالحاء المهملة: أي أنصاره الذين اشتهروا بهذا الوصف، وهم الخلفاء الأربعة، وحمزة وجعفر، وأبو عبيدة، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة والزبير، وهو أكثرهم شهرة بهذا الوصف بل هو المراد عند إطلاق حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم.

باب يذكر فيه سلاحه صلى الله عليه وسلم

باب يذكر فيه سلاحه صلى الله عليه وسلم كان له صلى الله عليه وسلم من السيوف تسعة. ومن الدروع سبعة. ومن القسي ستة. ومن الأتراس ثلاثة. ومن الرماح اثنان. ومن الحراب ثلاثة ومن الخود اثنتان. فأما السيوف: فسيف يقال له مأثور بهمزة ساكنة ثم ثاء مثلثة. ورثه صلى الله عليه وسلم من أبيه، وقدم به المدينة، أي ويقال: إنه من عمل الجن. وسيف يقال له العضب أي القاطع، أرسل به إليه سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى بدر. وسيف يقال له ذو الفقار، كان في وسطه مثل فقرات الظهر. غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، كان للعاص بن وائل قتل يوم بدر كافرا، وكانت قائمته وقبيعته، بفتح القاف وكسر الموحدة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم عين مهملة مفتوحة، وحلقته بإسكان اللام وفتحها، وعلاقته بكسر العين، فضة، وكان لا يفارقه صلى الله عليه وسلم في حرب من الحروب. ويقال إن أصله من حديدة وجدت مدفونة عند الكعبة. وسيف يقال له الصمصامة بفتح الصاد المهملة وإسكان الميم، كان مشهورا عند العرب، وهو سيف عمرو بن معد يكرب. أهداه صلى الله عليه وسلم لخالد بن سعيد بن العاص حيث استعمله صلى الله عليه وسلم على اليمن. وسيف يقال له القلعي بفتح اللام، نسبة إلى برج القلعة: موضع بالبادية. وسيف يقال له الحيف بفتح الحاء المهملة ثم مثناة تحت ساكنة: وهو الموت وهذه الثلاثة من سلاح بني قينقاع مثلث النون. وسيف يقال له الرسوب بفتح الراء وضم السين المهملة ثم واو ساكنة ثم موحدة: أي يرسب ويستقر في الضربة، وهو أحد السيوف التسعة التي أهدتها بلقيس لسليمان عليه الصلاة والسلام. وسيف يقال له المحذم بكسر الميم، ثم حاء ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة: القاطع وهما كانا معلقين على صنم طي الذي يقال له الغلس، وسيف يقال له القضيب، من قضب الشيء: قطعه، فعيل بمعنى فاعل: أي قاطع. وأما الدروع، فدرع يقال لها ذات الفضول بضم الفاء وبالضاد المعجمة لطولها. أرسل بها إليه صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه حين سار إلى بدر، أي وكانت من حديد، وهي التي رهنها صلى الله عليه وسلم عند أبي الشحم اليهودي على ثلاثين صاعا من الشعير، وكان الدين إلى سنة. ودرع يقال لها ذات الوشاح بكسر الواو وبالشين المعجمة مخففة وفي آخره حاء مهملة: ودرع يقال لها ذات الحواشي. ودرع يقال لها السفرية بالفاء، والسفر: موضع يصنع به الدروع. قال في النور: والذي أحفظه في هذه الدرع السغدية بضم السين المهملة وبالغين المعجمة الساكنة ثم دال مهملة مفتوحة. ودرع يقال لها الفضة، ويقال لها السعدية بالعين المهملة مفتوحة، وهما من دروع بني قينقاع، يقال إنها درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها لقتال جالوت

كما تقدم. ودرع يقال لها البتراء بفتح الموحدة، ثم مثناة فوق ساكنة ممدودة، قيل لها ذلك لقصرها. ودرع يقال لها الخرنق بالخاء المعجمة مكسورة، ثم راء ساكنة ثم نون مكسورة ثم قاف، قيل لها ذلك لنعومتها. وأما القسي، فقوس يقال لها البيضاء من شوحط، وهو من شجر الجبال، يتخذ منه القسي، وهو من سلاح بني قينقاع. وقوس يقال لها الروحاء. وقوس يقال لها الصفراء من نبع وهو شجر يتخذ منه القسي. ومن أغصانه السهام كسرت يوم أحد. وقوس يقال لها الزوراء، ويقال لها الكتوم لا نخفاض صوتها إذا رمي عنها، قيل وهي التي اندقت سيتهايوم أحد، أي وقوس يقال لها السداد. وأما الأتراس، فترس يقال لها الزلوق، لأن السلاح يزلق عنه. وترس يقال لها فتق بضم الفاء وفتح التاء المثناة فوق وبالقاف. وترس يقال لها تمثال عقاب أو كبش، فوضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة عليه فذهب. وأما الرماح، فرمح يقال له المثنى. ورمح يقال لها المثوي بضم الميم وإسكان الثاء المثلثة وكسر الواو، من الثوي: وهو الإقامة، لأن المطعون به يقيم موضعه ولا ينتقل. أي وثلاث رماح أصابها من سلاح بني قينقاع، يقال لأحدها المثنى بضم الميم وإسكان الثاء المثلثة ثم نون مفتوحة. وفي الأصل المنثي بتقديم النون على الثاء. وأما الحراب، فحربة يقال لها النبعة. وحربة يقال لها البيضاء. وحربة صغيرة تشبه العكاز يقال لها العنزة قال: جاء بها الزبير رضي الله تعالى عنه من أرض الحبشة، أعطاها له النجاشي رحمه الله، وقاتل بها بين يدي النجاشي عدوا للنجاشي، وظهر النجاشي على ذلك العدو، وشهد بها الزبير رضي الله تعالى عنه بدرا وأحدا وخيبر، ثم أخذها منه صلى الله عليه وسلم منصرفه من خيبر، فكانت تحمل بين يديه صلى الله عليه وسلم يوم العيد، يحملها بلال رضي الله تعالى عنه، فتركز بين يديه صلى الله عليه وسلم ويصلي إليها، وكذا كان يصلي إليها في أسفاره، أي وكان صلى الله عليه وسلم يمشي بها وهي في يده. ورابعة يقال لها المهر. وخامسة يقال لها النمر، وكان له صلى الله عليه وسلم محجن طوله قدر ذراع أو أكثر بيسير، يمشي به، ويعلق بين يديه على بعيره يسمى الذقن، وكان له رأس معقفة كالصولجان. وكان له صلى الله عليه وسلم قضيب من شوحط يسمى الممشوق، قيل وهذا القضيب هو الذي كانت تتداوله الخلفاء اه. أي وكان له صلى الله عليه وسلم مخصرة بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الصاد: وهي ما يمسكه بيده من عصا أو مقرعة تسمى العرجون، ويقال لها العسيب. وأما الخود جمع خودة: وهي ما يجعل على الرأس من الزرد مثل القلنسوة: فخودة يقال لها الموشح بالميم وبالشين المعجمة مشددة مفتوحة والحاء المهملة. وخودة يقال لها السبوغ بالسين المهملة وبالغين المعجمة أو ذات السبوغ.

باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره صلى الله عليه وسلم

باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره صلى الله عليه وسلم كان له صلى الله عليه وسلم سبعة أفراس. وكان له بغال ست وكان له من الحمر اثنان. وكان له من الإبل المعدّة للركوب ثلاثة. فأما أفراسه صلى الله عليه وسلم، ففرس يقال له السكب: شبه بسكب الماء وانصبابه، لشدة جريه، وهي أول فرس ملكه صلى الله عليه وسلم، اشتراه من أعرابي بعشرة أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس: أي بفتح الضاد وكسر الراء وبالسين المهملة: الصعب السيىء الخلق، وكان أغر: أي له غرة، وهي بياض في وجهه، محجلا طلق اليمين، كميتا: أي بين السواد والحمرة. وقال ابن الأثير كان أسود أدهم، وفرس يقال له المرتجز: أي سمي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر، وكان أبيض، وهو الذي شهد له فيه خزيمة بأنه صلى الله عليه وسلم اشتراه من صاحبه بعد أن أنكر بيعه له، وقال له ائت بمن يشهد لك، فجعل شهادة خزيمة بشهادتين، بعد أن قال له صلى الله عليه وسلم: كيف شهدت ولم تحضر؟ فقال لتصديقي إياك يا رسول الله، وإن قولك كالمعاينة فقال له صلى الله عليه وسلم: أنت ذو الشهادتين، فسمي ذا الشهادتين، ثم قال: صلى الله عليه وسلم «من شهد له، خزيمة أو شهد عليه فهو حسيبه» لكن جاء أنه صلى الله عليه وسلم رد الفرس على الأعرابي وقال «لا بارك الله لك فيها» فأصبحت من الغد شائلة برجلها. وفرس يقال له اللحيف بالحاء المهملة واللام المضمومة فعيل بمعنى فاعل، لأنه كان يحلف الأرض بذنبه لطوله: أي يغطيها. وقيل لأنه كان يلتحف معرفته. وقيل هو بضم اللام مصغرا، وقيل بالخاء المعجمة مع فتح اللام وهو الأكثر. وهذا الفرس أهداه له صلى الله عليه وسلم فروة بن عمرو من أرض البلقاء بالشام. وفرس يقال له اللزاز، أي أهداه له المقوقس كما تقدم، مأخوذ من قولهم: لاززته: أي لاصقته، فكان يلحق بالمطلوب لسرعته، وقيل غير ذلك. وفرس يقال له الطرف أي بكسر الطاء المهملة وسكون الراء وبالفاء: الكريم الجيد من الخيل. وفرس يقال له الورد، وهو بين الكميت والأشقر، أهداه له صلى الله عليه وسلم تميم الداري رضي الله تعالى عنه، وأهداه صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه. وفرس يقال له سبحة: أي بفتح السين وإسكان الموحدة وفتح الحاء المهملة: أي سريع الجري، هذا هو المشهور. وعدّ بعضهم في خيله صلى الله عليه وسلم غير ذلك، فأوصل جملتها إلى خمسة عشر بل إلى العشرين. وقد ذكر الحافظ الدمياطي أسماء الخمسة عشر في سيرته وقال فيها: وقد ذكرناها وشرحناها في كتابنا كتاب الخيل. وكان سرجه صلى الله عليه وسلم دفتين من ليف. قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل. وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم مسح وجه فرسه ومنخريه وعينيه بكمّ قميصه فقيل له: يا

رسول الله تمسح بكم قميصك؟ فقال صلى الله عليه وسلم إن جبريل عليه السلام عاتبني في الخيل» . وفي رواية «في الفرس» أي في امتانها. وفي رواية: «في سياستها» وقال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها فخذوا بنواصيها، وادعوا بالبركة» اه. أي وقد ذكر: «أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قام إلى فرسه الطرف فعلق عليه شعيره، وجعل صلى الله عليه وسلم يمسح ظهره بردائه، فقيل له: يا رسول الله تمسح ظهره بردائك؟ فقال: نعم، وما يدريك لعل جبريل عليه الصلاة والسلام أمرني بذلك؟» . وعن بعضهم قال: دخلت على تميم الداري رضي الله تعالى عنه وهو أمير بيت المقدس، فوجدته ينقي لفرسه شعيرا، فقلت: أيها الأمير ما كان لهذا غيرك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نقى لفرسه شعيرا ثم جاء به حتى يعلقه عليه كتب الله له بكل شعيرة حسنة» وكان صلى الله عليه وسلم يضمر الخيل للسباق، فيأمر بإضمارها بالحشيش اليابس شيئا بعد شيء، ويأمر بسقيها غدوة وعشيا، ويأمر أن يقودها كل يوم مرتين، ويؤخذ منها من الجري الشوط والشوطان. وأما بغاله صلى الله عليه وسلم، فبغلة شهباء يقال لها دلدل، أهداها له المقوقس كما تقدم. والدلدل في الأصل: القنفذ، وقيل ذكر القنافذ، وقيل عظيمها، وهذه أول بغلة ركبت في الإسلام. وفي لفظ: رؤيت في الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يركبها في المدينة وفي الأسفار. وعاشت حتى ذهبت أسنانها، فكان يدق لها الشعير، وعميت. وقاتل عليها عليّ كرم الله وجهه الخوارج بعد أن ركبها عثمان رضي الله تعالى عنه، وركبها بعد عليّ ابنه الحسن ثم الحسين رضي الله تعالى عنهما، ثم محمد ابن الحنفية رحمه الله. وسئل ابن الصلاح رحمه الله: هل كانت أنثى أو ذكرا والتاء للوحدة، فأجاب بالأول. قال بعضهم: وإجماع أهل الحديث على أنها كانت ذكرا، ورماها رجل بسهم فقتلها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى زوجته أم سلمة، فأتيته بصوف وليف، ثم فتلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم لدلدل رسنا وعذارا، ثم دخل البيت فأخرج عباءة فثناها ثم ربعها على ظهرها، ثم سمى وركب، ثم أردفني خلفه» . وبغلة يقال لها فضة، أهداها له عمرو بن عمرو الجذامي كما تقدم. ووهبها صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي وأوصلها بعضهم إلى سبعة. وفي «مزيل الخفاء» وفي «سيرة مغلطاي» : كان له صلى الله عليه وسلم من البغال دلدل وفضة، والتي أهداها له ابن العلماء: أي بفتح العين المهملة وإسكان اللام وبالمد في غزوة تبوك، والأيلية. وبغلة أهداها له كسرى، وأخرى من دومة الجندل، وأخرى من عند النجاشي هذا كلامه.

وعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه كان صاحب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود به في الأسفار، وتوفي بمصر ودفن بقرافتها، وقبره معروف بها، وكان واليها قبل معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان، ثم صرف عنها بمسلمة بن مخلد. وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قدت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته مدة من الليل، فقال أنخ، فأنخت فنزل على راحلته، ثم قال: اركب فقلت: سبحان الله أعلى مركبك يا رسول الله وعلى راحلتك؟ فأمرني، فقال اركب، فقلت له مثل ذلك، ورددت ذلك مرارا حتى خفت أن أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فركبت راحلته. ذكره في الإمتاع. وأما حمره صلى الله عليه وسلم، فحمار يقال له يعفور. وحمار يقال له عفير بالعين المهملة، وقيل بالمعجمة وغلط قائله وكان أشهب، ومات في حجة الوداع. والأول أهداه له فروة بن عمرو الجذامي، وقيل المقوقس. والثاني أهداه له المقوقس، وقيل فروة بن عمرو كذا في سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله، والعفرة هي الغبرة، أي وأوصل بعضهم حمره صلى الله عليه وسلم إلى أربعة. وتقدم أن يعفورا وجده صلى الله عليه وسلم في خيبر، وأنه يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم طرح نفسه في بئر جزعا على رسول الله فمات، وتقدمت قصته وما فيها. وأما إبله صلى الله عليه وسلم التي كان يركبها. فناقة يقال لها القصواء. وناقة يقال لها الجدعاء، وناقة يقال لها العضباء، وهي التي كانت لا تسبق فسبقت، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه» . وفي رواية «إن الناس لم يرفعوا شيئا من الدنيا إلا وضعه الله عز وجل» ويقال إن هذه العضباء لم تأكل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تشرب حتى ماتت، وقيل إن التي كانت لا تسبق ثم سبقت هي القصواء، وكانت العضباء يسبق بها صاحبها الذي كانت عنده الحاجّ، ومن ثم قيل لها سابقة الحاج. وقيل إن هذه الثلاثة اسم لناقة واحدة وهو المفهوم من الأصل، وهو موافق في ذلك لابن الجوزي رحمه الله حيث قال إن القصواء هي العضباء وهي الجدعاء. وقيل القصواء واحدة والعضباء والجدعاء واحدة. وفي كلام بعضهم: وأما البقر فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم ملك شيئا منها: أي للقنية فلا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر. وأما غنمه صلى الله عليه وسلم، فقيل مائة، وقيل سبعة أعنز كانت ترعاها أم أيمن رضي الله تعالى عنها، وجاء: «اتخذوا الغنم فإنها بركة» وكان له صلى الله عليه وسلم شياه يختص بشرب لبنها،

باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الظاهرة وإن شاركه فيها غيره

وماتت له صلى الله عليه وسلم شاة، فقال: ما فعلتم بإهابها؟ قالوا إنها ميتة، قال دباغها طهورها. واقتنى صلى الله عليه وسلم الديك الأبيض، وكان يبيت معه في البيت وقال: «الديك الأبيض صديقي وصديق صديقي وعدو عدوي، والله يحرس دار صاحبه وعشرا عن يمينها، وعشرا عن يسارها، وعشرا من بين يديها، وعشرا من خلفها» وقد جاء: «اتخذوا الديك الأبيض فإن دارا فيها ديك أبيض لا يقربها شيطان ولا ساحر ولا الدويرات حولها، واتخذوا هذا الحمام المقاصيص في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم» . وفي العرائس: «أن آدم قال يا رب شغلت بطلب الرزق لا أعرف ساعات التسبيح من أيام الدنيا فأهبط الله ديكا وأسمعه أصوات الملائكة بالتسبيح، فهو أول داجن اتخذه آدم عليه السلام من الخلق، فكان الديك إذا سمع التسبيح ممن في السماء سبح في الأرض، فيسبح آدم بتسبيحه» . باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الظاهرة وإن شاركه فيها غيره قال: قد خلق الله تعالى أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام سليمة من العيب حتى صلحت لحلول الأنفس الكاملة، وهم في ذلك متفاوتون، ونبينا صلى الله عليه وسلم أصح الأنبياء مزاجا، وأكملهم جسدا. وعن أنس رضي الله عنه: «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أحسنهم وجها وصوتا» انتهى. وكانت صفاته صلى الله عليه وسلم الظاهرة لا تدرك حقائقها، وإلى هذا يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله: إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء وتقدم بعض صفته صلى الله عليه وسلم في خبر أم معبد رضي الله عنها. ووصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان ضخم الهامة: أي الرأس. ووصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان فخما مفخما: أي عظيما في الصدور والعيون، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر قال: كان في وجهه تدوير، ليس بالمطهم ولا المكلثم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنّ الشمس تجري في وجهه. وفي رواية: «تجري من وجهه» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لم يقم صلى الله عليه وسلم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوؤه ضوء السراج انتهى. أقصر من المشذب بضم الميم وفتح الشين والذال المعجمتين مشددة ثم موحدة على وزن معظم: البائن الطويل في نحافة. وأطول من المربوع. قال: وعن علي كرم الله وجهه: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة القوم، والممغط: المتناهي في الطول. والمتردد

المجتمع الخلق: أي القصير جدا، لم يكن يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب للربعة: أي لا طويل ولا قصير، عظيم الهامة. أي وفي رواية: ضخم الرأس، رجل الشعر إذا انفرقت عقيصته، وفي لفظ عقيقته: وهي الشعر المعقوص فرق: أي إذا انفرقت من ذات نفسها فرقها: أي أبقاها مفروقة وإلا تركها معقوصة: أي تركها على حالها لم يفرقها، لم يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره. قال: أي جعله وفرة. وحاصل الأحاديث أن شعره صلى الله عليه وسلم وصف بأنه جمة، ووصف بأنه وفرة، ووصف بأنه لمة. وفسرت اللمة: بالشعر الذي ينزل على شحمة الأذن. والجمة بالذي ينزل على المنكبين. قال بعضهم: كان شعره صلى الله عليه وسلم يقصر ويطول بحسب الأوقات، فإذا غفل عن تقصيره وصل إلى منكبيه، وإذا قصره تارة ينزل عن شحمة أذنه وتارة لا ينزل عنها. وجاء في وصف شعره صلى الله عليه وسلم: ليس بجعد قطط: أي بالغ في الجعودة، ولا رجل سبط: أي بالغ في السبوطة فلا ينافي ما جاء عن علي كرم الله وجهه: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبطا. وعن أم هانىء رضي الله عنها: كان له صلى الله عليه وسلم أربع غدائر: أي ضفائر، تخرج أذنه اليمنى من بين ضفيرتين، وأذنه اليسرى كذلك. قال ابن القيم رحمه الله: لم يحلق صلى الله عليه وسلم رأسه الشريف إلا أربع مرات انتهى. أزهر اللون: أي أبيض مشرب بحمرة: أي وهي المراد بالسمرة، وفي رواية: كان أسمر، ومن ثم جاء في رواية: كان بياضه صلى الله عليه وسلم إلى سمرة، لأن العرب قد تطلق على ومن كان كذلك أي بياضه إلى حمرة أسمر، ومن ثم جاء: ليس بالأبيض الأمهق: أي شديد البياض الذي لا يخالطه حمرة كلون الجص. وعن علي كرم الله وجهه: ليس أبيض شديد الوضح. وفي رواية: شديد البياض، ولا معارضة لأنه محمول على ما كان من جسده تحت الثياب، ومن ثم جاء: أنور المتجرد: وهو ما كشف عنه الثوب من البدن. وقيل المراد بالأمهق الأخضر، فقد قيل إن المهق خضرة الماء، ولا بالآدم: أي شديد الأدمة. واسع الجبين، أي وفي رواية مفاض الجبين: أي واسعه. وفي رواية كان جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صلتا: أي أملس. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى الجبين كأنه السراج المتوقد يتلألأ، أزج الحاجبين، سوابغ من غير قرن: أي بين حاجبيه فرجة، وهو البلج، أي والقرن بالتحريك: اتصال شعر الحاجبين. وورد: مقرون الحاجبين: أي شعرهما متصل بالآخر، لا حاجز بينهما. ولا منافاة لأن ذلك لا يجوز أن يكون بحسب الرائي، لأن الفرجة التي كانت بين حاجبيه يسيرة لا تبين

إلا لمن دقق النظر. بينهما عرق يدره الغضب: أي إذا غضب امتلأ ذلك العرق دما فيظهر ويرتفع. أقنى العرنين: أي سائله مرتفع وسطه: أي وفي وسطه احديداب. وفي رواية: دقيق العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم: أي مرتفعا. أدعج العينين أي شديد سواد العينين. وفي كلام بعضهم: الدعج سواد العين، ويقابله الأشهل وهو من في سواد عينيه حمرة. وقد جاء: أشهل العينين، وأشكل العينين: أي في بياض عينيه صلى الله عليه وسلم حمرة. وكانت في الكتب القديمة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم كما تقدم، أي وفي رواية: أنجل العينين: أي واسعهما. أهدب الأشفار: أي طويل هدب شعر العينين. أي وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أكحل العينين. والكحل: سواد هدب العين خلقة. وعن جابر رضي الله عنه: إذا نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أكحل: أي في عينيه كحل وليس بالكحل. سهل الخدّين أي وفي رواية أسيل الخدّين: أي ليس في خديه نتوء وارتفاع، ضليع الفم: أي واسعه. أشنب: أي في ريقه برد وعذوبة. مفلج الأسنان: أي مفرّق ما بين الثنايا كما في رواية: أفلج الثنيتين، لأن الفلج تباعد ما بين الثنايا والرباعيات. وفي رواية: برّاق الثنايا. كان إذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه، يفتر عن مثل حب الغمام: أي إذا ضحك بانت أسنانه كالبرد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: حسن الثغر. وعن أنس رضي الله عنه: شممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيت من نكهته صلى الله عليه وسلم. كث اللحية: أي كثير شعرها. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيف اللحية، وكان يسرحها بالماء، وكان له صلى الله عليه وسلم مشط من العاج وهو الدبل. وقيل شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية، ويقال لعظم الفيل عاج أيضا: أي وليس مرادا هنا أي وكان له مقراض: أي مقص يقص به أطراف شاربه. وفي المشكاة عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» . أي وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بالمقراض من عرض لحيته وطولها. وقد لا ينافي ذلك ما جاء: «أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي» وقال: «من الفطرة قص الأظفار والشارب، وحلق العانة» . وكان صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه حتى كأن ثيابه ثياب زيات أو دهان. أي وفي لفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر التقنع حتى يرى حاشية ثوبه كأنه ثوب زيات أو دهان وليس في شعر رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.

وعن أنس رضي الله عنه أن شيب لحيته صلى الله عليه وسلم كان في عنفقته وصدغيه متفرقا. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: عرف من مجموع الروايات أن الذي شاب في عنفقته صلى الله عليه وسلم أكثر مما شاب في غيرها. وقال صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ما أخواتها يا رسول الله؟ قال: الواقعة، والقارعة، وسأل سائل، وإذا الشمس كورت، واقتربت الساعة» . وفي رواية: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوّرت، واقتربت الساعة» وقال صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» ولعل شيبه صلى الله عليه وسلم لم يخضب. وقيل كان يخضب بالحناء والكتم. وقال: صلى الله عليه وسلم «أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم» ونهى صلى الله عليه وسلم عن الخضاب بالسواد وقد تقدم. ضليع الفم: أي واسعه وهو مما تمدح به العرب، وتذم بصغر الفم، غاض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، دقيق المسربة بفتح الميم وإسكان السين ثم راء مضمومة: وهو الخيط الشعر الذي بين الصدر والسرة، كأن عنقه جيد دمية: هي صورة تتخذ من العاج في صفاء الفضة. أي وعن علي كرم الله وجهه: كأن عنقه إبريق فضة، معتدل الخلق بادنا متماسكا: أي ذو لحم متماسك يمسك بعضه بعضا، ليس مسترخي اللحم سواء البطن والصدر: أي مستويهما عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس: وهي رؤوس العظام: أي ملتقى كل عظمين كالمرفقين والمنكبين والركبتين. موصول ما بين اللبة بفتح اللام وتشديد الموحدة المفتوحة: هو المنحر والسرة بشعر يجري كالخيط، وهو المعبر عنه فيما سبق بدقيق المسربة عاري الثديين والبطن وما سوى ذلك. أشعر الذراعين والمناكب. وأعالي الصدر، طويل الزندين: أي عظيم الذراعين، رحب الراحة: أي واسعها. قال أنس رضي الله تعالى عنه: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، سائل الأصابع أي طويلها شثن الكفين والقدمين: أي يميلان إلى الغلظ، وذلك ممدوح في الرجال مذموم في النساء. أي وكانت سبابة يديه صلى الله عليه وسلم أطول من الوسطى. قال ابن دحية رحمه الله: وهذا باطل بيقين، ولم يقله أحد من ثقات المسلمين: أي وإنما كان ذلك في أصابع قدميه صلى الله عليه وسلم، وهو في ذلك كغيره من الناس. وفي رواية منهوس بالمهملة والمعجمة العقب: أي قليل لحم القدمين. سبط العظام: أي ممتدها لا نتوء فيها.

وفي رواية سبط العصب وهو كل عظم فيه مخ خمصان الأخصمين، ينبو عنهما الماء: أي يتجافى أخمص القدم وهو وسطه: أي شديد التجافي عن الأرض. مسيح القدمين: أي أملسهما، وهذا يوافق ما جاء في رواية: إذا وطىء بقدمه وطىء بكلها ليس له أخمص، إذا زال زال: تقلعا: أي يرفع رجله بقوة ويخطو تكفيا: أي يتمايل إلى قدامه. وقيل يمينا وشمالا كالمختال، ولا يذم إلا من تكلفه لا من كان ذلك جبلة له. ويمشي هونا: أي برفق ووقار دون عجلة. ذريع المشية: أي واسعها إذا امشى كأنما ينحط من صبب. أي وذكر في «سفر السعادة» أن هذه المشية مشية أصحاب الهمم العلية ومن قبله حي، وإن هذا النوع من المشي يسمى مشي الهوينا المذكور في قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: الآية 63] وهو أعدل أنواع المشي، لأن الماشي إما متهاون بالمشي كالخشبة، أو طائش ينزعج وهذان النوعان في غاية القبح، لأن الأول يدل على الخمول وموت القلب. والثاني يدل على خفة الدماغ وقلة العقل ثم قال: وأنواع المشي عشرة هذه الثلاثة منها، وذكر باقيها. وكان صلى الله عليه وسلم إذا التفت التفت جميعا أي بسائر جسده، ولا يلوي عنقه كما يفعله أهل الخفة والطيش، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه. لا يقال: قد ذم صلى الله عليه وسلم المتشدقين. لأنا نقول: المراد بهم من يكثر الكلام من غير احتياط ولا احتراز ومن يلوي أشداقه استهزاء بالناس. وكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بجوامع الكلم: أي بالكلام القليل الألفاظ الكثير المعاني. فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، قال صلى الله عليه وسلم: «أعطيت جوامع الكلم» ، واختصر لي الكلام اختصارا. قال: ومن تلك الكلمات «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له. ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه. رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم. ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها. خير الأمور أوساطها. السعيد من وعظ بغيره» انتهى. إذا أشار بكفه كلها اه وإذا تعجب قلبها وإذا تحدث قارب يده اليمنى من اليسرى فضرب بإبهام اليمنى راحة اليسرى، أي وربما يسبح عند التعجب وربما حرك رأسه وعض شفته، وربما ضرب بيده على فخذه، وربما نكت الأرض بعود. وإذا غضب أعرض بوجهه. أي وكان صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمر وجهه الشريف، وكان إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته. وفي رواية: إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته وتنفس الصعداء أي تنفس طويلا وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، جلّ: أي معظم ضحكة التبسم، وكون معظم ضحكة ذلك لا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم ضحك غير ما مرة حتى بدت نواجذه. وكان صلى الله عليه وسلم إذا جرى به الضحك وضع يده على فيه، قال: وكان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم

باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الباطنة وإن شاركه فيها غيره

يمشي منتعلا، وربما مشى صلى الله عليه وسلم حافيا. وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل من هدية أهديت إليه حتى يأكل منها صاحبها: أي بعد أن أهديت إليه صلى الله عليه وسلم الشاة المسمومة. وكان صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع ويلعقهن إذا فرغ يلعق الوسطى، ثم التي يليها ثم الإبهام، وقال: «إن لعق الأصابع بركة» . وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بلعق الصحفة ويقول: «إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة» اه. ونحن نوضح بعض هذه الصفات الظاهرة بعبارة واضحة قريبة للأفهام فنقول: كان صلى الله عليه وسلم عظيما معظما في الصدور والعيون كبير الرأس، لأن كبر الرأس يدل على كثرة العقل غالبا، ووجهه كالقمر ليلة البدر، لون جسده الذي ليس تحت الثياب أبيض مشرب بحمرة، طويل الحاجبين مع دقة ما بينهما خال ما الشعر وهو البلج، وضده القرن، وهو أن يتصل شعر أحدهما بالآخر. بين حاجبيه عرق إذا غضب انتفخ، طويل الأنف مع حدب في وسطه ودقة في طرفه ليس في حدبة ارتفاع لأن العرب تذم به. في عينيه شكلة: وهي بياض وحمرة، شديد سواد العين مع اتساعها، واسع الفم، لأن سعة الفم تدل على الفصاحة. بين ثناياه والرباعيات فرجة، ويقال له الفلج. كثير شعر اللحية، شيبه قليل، عنقه كالإبريق الفضة. إذا مشى مال إلى أمامه. باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الباطنة وإن شاركه فيها غيره كان صلى الله عليه وسلم سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب ولا مزاح: أي كثير المزاح، فلا ينافي ما روي: كان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه قال: وقد جاء «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا» لكن جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مزاحا. وكان يقول: إن الله تعالى لا يؤاخذ المزّاح الصادق في مزاحه. وجاء عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: ما رأيت أحدا أكثر مزاحا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانت في النبي صلى الله عليه وسلم دعابة. وعن بعض السلف: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مهابة، فكان يبسط الناس بالدعابة. قال صلى الله عليه وسلم لعمته صفية لا تدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها وهو يضحك: الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) [الواقعة: الآيات 35- 37] وهن العجائز الرمص:

أي والعرب المتحببة لزوجها التي تقول وتفعل ما تهيج به شهوته إياها، وأترابا: كأنهن ولدن في يوم واحد لأنهن يكن بنات ثلاث وثلاثين سنة. وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل وطلب أن يحمله على بعير فقال له: إني حاملك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟. وقد أتى أزيهر، وفي لفظ زاهر وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فكان كلما قدم من البادية يأتي معه بطرف وهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: زاهر باديتنا ونحن حاضروه. وفي لفظ: لكل حاضر بادية، وبادية آل محمد زاهر، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه. جاءه يوما وهو يبيع متاعه في السوق وكان رجلا دميما، فاحتضنه من خلفه، فقال أرسلني، من هذا؟ فلما عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم صار يمكن ظهره من صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله تجدني كاسدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن عند الله لست بكاسد أو قال: أنت عند الله غال. ويجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جمع بين هذين اللفظين، وكل روى ما سمع منهما. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال صلى الله عليه وسلم للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال لي تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت حتى إذا حملت اللحم، وكنا في سفرة أخرى، قال صلى الله عليه وسلم للناس تقدموا فتقدموا ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني، فجعل صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: هذه بتلك. وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل صلى الله عليه وسلم على أمي فوجد أخي أبا عمير حزينا، فقال: يا أم سليم، ما بال أبي عمير حزينا؟ فقالت: يا رسول الله مات نغيره: تعني طيرا كان يلعب به، فقال صلى الله عليه وسلم: أبا عمير ما فعل النغير: وكان كلما رآه قال له ذلك. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحريرة طبختها فقلت لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها كلي فأبت، فقلت لها: كلي كلي، أو لأطلخن وجهك فأبت، فوضعت يدي فيها فطليت وجهها، فضحك صلى الله عليه وسلم وأرخى فخذه لسودة، وقال: الطخي وجهها فلطخت وجهي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم أي وقال صلى الله عليه وسلم يوما لعائشة: ما أكثر بياض عينك انتهى. وكان صلى الله عليه وسلم يتغافل عما لا يشتهي، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والأكبار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب

عورته، وكان صلى الله عليه وسلم يقابل السيئة بالحسنة، ولا يذم ذواقا ولا يمدحه. والذواق الشيء، يقال ما ذقت ذواقا: أي شيئا من طعام أو شراب. وعن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما عن رجل من العرب. قال: زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعجني بعجة بسوط في يده، وقال: بسم الله أوجعتني، قال: فبت لنفسي لائما، أقول أوجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحنا إذا رجل يقول أين فلان، فانطلقت وأنا متخوف، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني فبعجتك بالسوط فهذه ثمانون نعجة فخذها بها، ولما نزل قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) [الأعراف: الآية 199] قال له جبريل عليه السلام، أي بعد أن سأله صلى الله عليه وسلم في ذلك: إن ربك عز وجل يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. وفي الحديث: «لا ينال عبد صريح الإيمان حتى يكون كذلك» وفي الحديث إن ذلك أفضل أهل الدنيا والآخرة. وكان صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق والمسألة، لا يقطع على أحد حديثه، ولا يتكلم في غير حاجة، يعظم النعمة وإن دقت، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. وإنما يغضب إذا تعرض للحق بشيء وعند غضبه لذلك لا يثنيه شيء عن الانتصار له، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويتفقد أصحابه ويسأل عنهم، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده، ويسأل الناس عما الناس فيه، أفضل الناس عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة، أحسنهم مواساة، لا يجلس، ولا يقوم إلا عن ذكر، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك ويعطي كل واحد من جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أحدا أكرم عليه منه. من جالسه أو نادمه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه. من سأله حاجة لم يردّه إلّا بها أو بميسور من القول. عنده الناس في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء: لا ترفع فيه الأصوات، ولا يتنازعون عنده الحديث. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير: أي على غاية من السكون والوقار لأن الطير لا تكاد تقع إلا على ساكن، وإذا تكلم عنده أحد أنصتوا له حتى يفرغ من حديثه: أي لا يقطع بعضهم على بعض حديثه، يضحك مما يضحكون، ويعجب مما يعجبون.

فقد ذكر أن أبا بكر رضي الله عنه خرج تاجرا إلى بصرى ومعه نعيمان بن عمرو الأنصاري وسويط بن حرملة وكلاهما بدري. وكان سويط على زاد أبي بكر فجاءه نعيمان وقال له أطعمني، فقال: لا حتى يأتي أبو بكر وكان نعيمان رجلا مضحاكا مزاحا فيه دعابة وله أخبار ظريفة في دعابته، فقال لسويط: لأغيظنك، فذهب إلى ناس، وفي رواية: فمروا بقوم، فقال لهم نعيمان: تشترون من عبدا لي؟ قالوا نعم. قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم لست بعبده، أنا رجل حر، فإن كان إذا قال لكم هذه تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا عليّ عبدي، قالوا لا بل نشتريه، ولا ننظر في قوله، فاشتروه منه بعشرة قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم هو هذا، فجاء القوم له وقالوا له: قد اشتريناك، فقال: هو كاذب أنا رجل حر، وفي رواية أنهم وضعوا عمامته في عنقه، فقال لهم: إنه يتهزأ ولست بعبده، فقالوا له قد أخبرنا بخبرك، فطرحوا الحبل في عنقه وذهبوا به، ولم يسمعوا كلامه، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فأخبره خبره، فذهب هو وأصحابه وأتبعوا القوم، وأخبروهم أنه يمزح، وردوا عليهم القلائص، وردوا سليطا منهم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فضحك من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حولا كاملا، لأن سفر أبي بكر رضي الله عنه كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بعام. ووقع لنعيمان هذا أنه مر بمخرمة بن نوفل رضي الله عنه وقد كف بصره وهو يقول ألا رجل يقودني حتى أبول، فأخذ بيده نعيمان، فلما بلغ مؤخر المسجد قال له: ههنا فبال فصاح الناس به، فقال: من قادني؟ قيل نعيمان، فقال صلى الله عليه وسلم عليّ أن أضربه بعصاي هذه، فبلغ نعيمان فأتاه، فقال له: هل لك في نعيمان؟ قال نعم، قال: فقم فقام معه، فأتى به عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو إذ ذاك أمير المؤمنين وهو يصلي، فقال: دونك الرجل، فجمع يديه في العصا ثم ضربه، فقال الناس: أمير المؤمنين، فقال: من قادني؟ فقيل نعيمان، قال: لا أعود إلى نعيمان أبدا. وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه فقال بعض الصحابة لنعيمان: لو نحرتها فأكلناها؟ فإنا قد قرمنا إلى اللحم، ويغرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حقها، فنحرها نعيمان، فخرج الأعرابي فرأى راحلته، فصاح: واعقراه يا محمد، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من فعل هذا؟ قالوا نعيمان، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عنه، فوجده في دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد، فأشار إليه رجل ورفع صوته: ما رأيته يا رسول الله وأشار بأصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعفر وجهه بالتراب، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك عليّ يا رسول الله هم الذين أمروني، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عن وجهه التراب ويضحك، ثم غرم صلى الله عليه وسلم ثمنها.

وكان رضي الله عنه إذا دخل المدينة طرفة اشتراها في ذمته، ثم جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله هذه هدية، فإذا جاء صاحبها يطلب ثمنها جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أعط هذا ثمن ما جئت به إليك، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لم تهد ذلك لي؟ فيقول: يا رسول الله لم يكن عندي ثمنه، وأحببت أن يكون لك، فيضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه. وكان صلى الله عليه وسلم دائم البشر ضحوك السن: أي أكثر أحواله ذلك حسما رآه هذا المخبر، فلا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة ليست له راحة، فإنه بحسب ما كان عند ذلك المخبر. وفي كلام ابن القيم رحمه الله: قد صانه الله عن الحزن في الدنيا وأسبابها، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمن أين يأتيه الحزن، بل كان دائم البشر ضحوك السن، كذا قال. وفي كلام الإمام أبي العباس بن تيمية رحمه الله: ليس المراد الحزن الذي هو الألم على فوات مطلوب أو حصول مكروه، فإن ذلك منهي عنه، وإنما المراد به الاهتمام واليقظة لما يستقبله من الأمور، وهذا مشترك بين القلب والعين. وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: خلقه القرآن: أي ما ذكره القرآن: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [القلم: الآية 4] وإنه تأدب بآدابه وتخلق بمحاسنه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال» . قال: وذكر في عوارف المعارف أن في قول عائشة رضي الله عنها خلقه القرآن سرا غامضا، حيث عدلت إلى ذلك عن قولها كان متخلقا بأخلاق الله سترا للحال بلطف المقال استحياء من سبحات ذي الجلال اه، أي فكان صلى الله عليه وسلم متصفا بما فيه من الاجتهاد في طاعة الله والخضوع له، والانقياد لأمره والشدة على أعدائه، والتواضع لأوليائه، ومواساة عباده وإرادة الخير لهم، والحرص على كمالهم، والاحتمال لأذاهم، والقيام بمصالحهم وإرشادهم إلى ما يجمع لهم خيري الدنيا والآخرة مع التعفف عن أموالهم إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة التي اتصف بها صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم. وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس خشية وخوفا من الله، أي ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أتقاكم صلى الله عليه وسلم، وأخوفكم منه» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فدخل معي في لحافي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي، فقام صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم قام فصلى فبكى حتى سال

دمعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاءه بلال رضي الله عنه فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى عليّ في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) [آل عمران: 190] إلى قوله: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) [آل عمران: الآية 191] . وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أواه من عذاب الله قبل أن لا ينفع أواه» أي وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول من صنعت له النورة ودخل الحمام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فلما دخله وجد حره وغمه قال: أواه من عذاب الله، أواه أواه قبل أن لا يكون أواه» . أي وفي «سفر السعادة» : لم يدخل صلى الله عليه وسلم الحمام أبدا، والحمام الموجودة الآن بمكة شرفها الله تعالى المشهورة بحمام النبي صلى الله عليه وسلم لعلها بنيت في موضع اغتسل فيه صلى الله عليه وسلم مرة، هذا كلامه. وأرسل صلى الله عليه وسلم وصيفة فأبطأت عليه، فقال لها: لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك. وما ضرب صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة امرأة ولا خادما من أهله. قال: وعن خادمه أنس رضي الله عنه: ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر فتوانيت عنه، أو ما صنعته فلامني، ولا لامني أحد من أهله صلى الله عليه وسلم إلا قال دعوه. وفي لفظ: خدمته في السفر والحضر عشر سنين والله ما قال لي في شيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه هذا هكذا؟ وهذا يدل على أنه رضي الله عنه خدمه أنس له صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة، وتقدم أن في بعض الروايات ما يدل على أن ابتداء خدمة أنس له صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر، وتقدم ما فيه. ووصف صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة بأن حلمه صلى الله عليه وسلم يسبق غضبه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. وقد تقدمت قصته صلى الله عليه وسلم مع اليهودي الذي طلب منه وفاء ما اقترض منه صلى الله عليه وسلم قبل حلول الأجل ونظيرها. وعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فحاشا. استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة متى عهدتني فحاشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من

تركه الناس اتقاء شره. قال ابن بطال رحمه الله: إن هذا الرجل هو عيينة بن حصن، لأنه كان يقال له الأحمق المطاع، وهو صلى الله عليه وسلم إنما تطلق في وجهه تألفا له ليسلم قومه، لأنه كان المطاع فيهم. وأما ذمه صلى الله عليه وسلم له فلأنه يعلم ما يقع منه بعد، فإنه ارتد في زمن الصديق رضي الله عنه وحارب ثم رجع وأسلم. أي وقد قيل إن سبب نزول قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [الكهف: الآية 28] الآية أن عيينة هذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال له أسلم قال: على أن تبني لي مقصورة في مسجدك هذا أكون أنا وقومي فيها وتكون أنت معي. ومن تأمل سيرته صلى الله عليه وسلم مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والضعفاء والمساكين علم أنه صلى الله عليه وسلم بلغ الغاية في التواضع ورقة القلب ولين الجانب. وعن أنس رضي الله عنه: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة يوما. فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أني أذهب، فخرجت على صبيان يلعبون في السوق، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض ثيابي من ورائي، فنظرت إليه صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك. فقلت نعم أنا أذهب يا رسول الله اه. وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وأرجح الناس حلما، وأعظم الناس عفوا، وأسخى الناس كفا. وكان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وقال صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه وقد اضطروه إلى شجرة فخطفت رداؤه الشريف فوقف، ثم قال: أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم. وفي رواية: «لو أن لي مثل جبال تهامة ذهبا لقسمته بينكم ثم لا تجدوني كذوبا، ولا بخيلا، ولا جبانا» كما تقدم. وكان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس قلبا، وأشد الناس بأسا وأشد الناس حياء. وكان أشد حياء من البنت البكر في خدرها أي بيتها وسترها، وكان إذا فرح، غض طرفه، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض صوته، وربما غطى وجهه بيده أو ثوبه. وكان يحب الفأل الحسن، ويغير الاسم القبيح بالحسن كما تقدم، وربما غير الحسن بالقبيح كما تقدم. وكان يقول لأصحابه: إذا أرسلتم لي رسولا فليكن حسن الاسم، حسن الوجه. من ذلك أن شخصا كان سادنا: أي خادما الصنم، وكان يسمى غاوي بن ظالم. فبينما هو عند صنمه إذ أقبل ثعلبان إلى الصنم ورفع كل واحد منهما رجله

وبال على رأس ذلك الصنم، فلما رأى ذلك كسر ذلك الصنم وأنشد: أربّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له كيف اسمك؟ فقال: غاوي بن ظالم. فقال صلى الله عليه وسلم له: بل أنت راشد بن عبد ربه. ومن هذا السياق يعلم أن الثعلبان بفتح الثاء المثلثة مثنى ثعلب لا بضمها ذكر الثعالب كما قيل. ومن تغيير الاسم القبيح بالحسن ما وقع له صلى الله عليه وسلم في غزوة ذي قرد أنه مر على ماء فسأل عنه، فقيل له: هذا اسمه بئسان وهو مالح. فقال: لا، بل اسمه نعمان وهو طيب، فانقلب عذبا. واشتراه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ثم تصدق به، فلما جاء إليه صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت يا طلحة إلا فياض فسمي طلحة الفياض. وكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر. قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أكثر مشاورة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان صلى الله عليه وسلم إذا حلف قال: لا ومقلب القلوب، وربما قال في يمينه وأستغفر الله، وإذا اجتهد في اليمين قال: لا، والذي نفس أبي القاسم بيده، وربما قال: والذي نفس محمد بيده، وربما قال في يمينه: لا، وأستغفر الله والذي نفسي بيده. وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس إغضاء عن العورات. وكان إذا كره شيئا عرف في وجهه، ولم يشافه أحدا بمكروه حتى إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول أو يفعل كذا. بل يقول: ما بال أقوام يقولون أو يفعلون كذا. لا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة. ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلا قال لبيك، يخالط أصحابه، ويحادثهم، ويداعب، أي يمازح صبيانهم، ويجلسهم في حجره الشريف. أي فقد كان صلى الله عليه وسلم يصفّ أولاد عمه العباس عبد الله وعبيد الله وغيرهما رضي الله عنهم ويقول: من سبق إليّ فله كذا، فيستبقون إليه فيقاعدون على صدره الشريف فيقبلهم ويلتزمهم. ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويشهد الجنائز، ويقبل عذر المعتذر. ما وضع أحد فمه في أذنه إلا استمر صاغيا له حتى يفرغ من حديثه ويذهب، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده صلى الله عليه وسلم منه حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها. وكان صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولم ير قط مادا

رجليه بين أصحابه. يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له رداءه وآثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه بالجلوس عليها إن أبي، ويدعو أصحابه بأحب أسمائهم ويكنيهم، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته، وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته، وطعن في الحديث الذي ورد بذلك، وإذا سمع بكاء الصغير وهو يصلي تجوّز فيها: أي خففها. أكثر الناس شفقة على خلق الله تعالى وأرأفهم بهم وأرحمهم بهم، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: الآية 107] ومن ثم رغب صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى أن يجعل سبه ولعنه لأحد من المسلمين رحمة له: أي إذا كان لا يستحق ذلك السب في باطن الأمر ويستحقه في ظاهر الأمر. أي وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» أوصل الناس للرحم، وأقومهم بالوفاء وحسن العهد. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . وكان يركب الحمار: أي وربما ركبه عريانا ويردف خلفه. فعن أنس رضي الله عنه: رأيته صلى الله عليه وسلم يوما على حمار خطامه ليف، أي وقد جاء أن ركوب الحمار براءة من الكبر، وكان يجلس على الأرض، وكان يشرب قائما وقاعدا وينتعل قائما وقاعدا، ويصلي منتعلا وحافيا. وفي لفظ: كان أكثر صلاته صلى الله عليه وسلم في نعليه وكان يحب التيامن في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله، وكان يحب السواك حتى لقد أحفى لثته. وكان يكتحل بالإثمد عند النوم ثلاثا في كل عين. وفي لفظ: ثلاثا في اليمنى ومرتين في اليسرى. وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر، وإنه من خير أكحالكم» وكان يعود المساكين ويجلس بين أصحابه. «وحج صلى الله عليه وسلم على رحل رث عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم، وقال: اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة» كما تقدم، وأهدى في حجة ذلك مائة بدنة كما تقدم. وكان يفلي ثوبه، أي وإن كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن القمّل لا يؤذيه، ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه ويخدم نفسه، ويعلف ناضحه وهو الجمل الذي يسقي عليه الماء، ويقمّ البيت. قال وعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل عمل البيت، وأكثر ما يعمل الخياطة، ما يرى فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين، أو يخيط ثوبا لأرملة انتهى، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق، ويحب الطيب، ويأمر به.

وكان يتطيب بالمسك والغالية، ويتبخر بالعود والعنبر والكافور، ويأمر أصحابه بالمشي أمامه. ويقول: «خلو ظهري للملائكة» زاهدا في الدنيا. ما ترك درهما ولا دينارا. توفي ودرعه مرهونة، وتقدم أنها ذات الفضول عند يهودي وتقدم أنه أبو الشحم على نفقة عياله، وتقدم أن ذلك كان ثلاثين صاعا من شعير، وكان الأجل سنة. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» . ما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز البر حتى فارق الدنيا. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه. وفي رواية: ما شبع يومين من خبز الشعير. أي ومعلوم أن ذلك إنما هو لتتأسى به أمته في الإعراض عن الدنيا. قالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني عرض عليّ أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، أجوع يوما، وأشبع يوما، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك» . قال صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا، إنما أنا في الدنيا كرجل سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة حتى مال الفيء فتركها ولم يرجع إليها» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أبالي بما رددت به عني الجوع» ولم ينخل له صلى الله عليه وسلم دقيق الشعير. قال: وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والذي بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله تعالى إلى أن قبض. فقيل لها: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قالت: كنا نقول أف أف انتهى، أي فيطير ما طار، وما بقي عجناه: ولا خبز له صلى الله عليه وسلم مرقق. ولا أكل النقي من الخبز. وعن أنس رضي الله عنه قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام» أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتابعة طاويا. ولا أكل على خوان قط، إنما كان يأكل على السفرة، وربما وضع صلى الله عليه وسلم طعامه على الأرض. أي وخطب صلى الله عليه وسلم يوما فقال: والله ما أمسى في بيت محمد صاع من طعام وإنها لتسعة أبيات. قال الحسن: والله ما قالها استقلالا لرزق الله، ولكن أراد صلى الله عليه وسلم أن تتأسى به أمته. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: كان يمر هلال ثم هلال لا يوقد في بيت من

بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار لا لخبز ولا لطبخ، فقيل له: بأي شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ فقال: بالأسودين الماء والتمر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: والله لقد كان يأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الليالي ما يجدون فيها عشاء. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أهدى لنا أبو بكر شاة قالت إني لأقطعها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلمة البيت، فقال لها قائل: أما كان لكم سراج؟ فقالت: لو كان لنا ما نسرج به أكلناه. وكان صلى الله عليه وسلم لا يجمع في بطنه بين طعامين، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه، ولم يكن له صلى الله عليه وسلم إلا ثوب واحد من قطن، قصير الكمين، كمه إلى الرسغ، وطوقه مطلق من غير أزرار. أي وفي لفظ: كان قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم قطنا، قصير الطول، قصير الكمين، كمه إلى الرسغ. وكان له صلى الله عليه وسلم جبة ضيقة الكمين، وكان له رداء طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر من نسج عمان. وكان له صلى الله عليه وسلم بردة يمانية طولها ستة أذرع في عرض ثلاثة أذرع وشبر، كان يلبسهما في يوم الجمعة والعيدين ثم يطويان. وكان له صلى الله عليه وسلم رداء أخضر طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر تداولته الخلفاء. وكان له صلى الله عليه وسلم عمامة تسمى السحاب، كساها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فكان ربما طلع عليه علي كرم الله وجهه فيقول صلى الله عليه وسلم: أتاكم عليّ في السحاب، يعني عمامته التي وهبها له صلى الله عليه وسلم. وكان إذا اعتم يرخي عمامته بين كتفيه، وكان يلبس القلنسوة اللاطئة: أي اللاصقة بالرأس، وذات الآذان كان يلبسها في الحروب، والقلانس الطول إنما حدثت في أيام الخليفة المنصور. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «فرق بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس القلانس تحت العمائم، ويلبس القلانس بغير عمائم ويلبس العمائم بغير قلانس. وكان له صلى الله عليه وسلم عمامة سوداء دخل يوم فتح مكة لابسها. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه» . وجاء أن جبريل عليه السلام كانت عمامته يوم غرق فرعون سوداء. ومقدار

عمامته الشريفة صلى الله عليه وسلم لم يثبت في حديث. قال بعض الحافظ أنها كانت نحو العشرة أذرع أو فوقها بيسير، وكانت له صلى الله عليه وسلم خرقة إذا توضأ تمسح بها، هذا. وفي «سفر السعادة» : لم يكن صلى الله عليه وسلم ينشف أعضاءه بعد الوضوء بمنديل ولا منشفة، وإن أحضروا له شيئا من ذلك أبعده. والحديث المروي عن عائشة رضي الله عنه: كانت له صلى الله عليه وسلم نشافة يتنشف بها بعد الوضوء. وحديث معاذ رضي الله عنه في معناه كلاهما ضعيف وقال: تنشيف الأعضاء من الوضوء لم يصح فيه حديث. وكانت له صلى الله عليه وسلم ملحفة مورسة إذا أراد أن يدور على نسائه رشها بالماء أي لتظهر رائحتها. وكان يصبغ قميصه ورداءه وعمامته بالزعفران. أي وفي لفظ: كان يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميص أصفر ورداء أصفر وعمامة صفراء. وعن ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه: كان أحب الصبغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفرة. وقال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ويعارض هذه الأحاديث ما روي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزعفر، وفي لفظ: نهى عن أن يتزعفر الرجل. أي وقد يقال: على تقدير صحة تلك الأحاديث فهي منسوخة، أو كان ذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم اشترى السراويل. واختلف هل لبسها؟ فقيل نعم، ففي الأوسط للطبراني ومسند أبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت يوما السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى بزازين، فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزّان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أوزن وأرجح. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السراويل فذهبت لأحمله عنه، فقال: «صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم. قلت يا رسول الله إنك لتلبس السراويل. قال: أجل في السفر والحضر، وبالليل وبالنهار، فإني أمرت بالستر، فلم أجد شيئا أستر منه» ومخرجه هو وشيخه ضعيفان. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم توفني فقيرا ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين، وفي لفظ آخر «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة، أتتني الدنيا خضرة حلوة، ورفعت إليّ رأسها وتزينت لي، فقلت: إني لا أريدك، لا حاجة لي فيك. ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها شربة ماء» انتهى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاويا لا يجدون عشاء.

قال: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، الفاقة أحب إليّ من اليسار» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أرثي له صلى الله عليه وسلم من الجوع، وأقول نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنع عنك الجوع، فيقول: يا عائشة إن إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فتقدموا على ربهم، فأكرمهم وأجزل ثوابهم أخشى إن ترفعت في معيشتي أن يقصر بي دونهم، فأصبر أياما يسيرة أحب إليّ من أن ينقص حظي غدا في الأخرى، وما من شيء أحب إليّ من اللحوق بإخواني» . قال: وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولالآل محمد. يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر، وقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: الآية 35] والله أصبرن جهدي ولا قوة إلا بالله» انتهى. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» وكان صلى الله عليه وسلم على غاية من الإعراض عن الدنيا، وكان يصلي على الحصير وعلى الفروة المدبوغة، وربما نام على الحصير فأثرت في جسده الشريف. وكان ينام على شيء أدم محشو ليفا، فقيل له في ذلك؟ فقال: «ما لي وللدنيا؟» . وعن عائشة رضي الله عنها: «دخلت امرأة من الأنصار فرأت ذلك الأدم» . وفي لفظ رأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية فانطلقت فبعثت إليه بفراش حشوة صوف، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت عليّ فرأت فراشك فذهبت فبعثت هذا، فقال: رديه، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: والله يا عائشة لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» . وعنها رضي الله عنها أنها كانت تفرش تلك العباءة مثنية طاقين، ففي بعض الليالي ربعتها، فنام صلى الله عليه وسلم عليها ثم قال: «يا عائشة ما لفراشي الليلة ليس كما يكون؟ قلت: يا رسول الله ربعتها، قال: فأعيديه كما كان» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا قال: «اللهم لك الحمد، أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له» . وكان يقول لأصحابه كلهم رضي الله عنهم: «إذا لبس أحدكم ثوبا فليقل الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي» قال: وكان أرجح الناس عقلا: والعقل مائة جزء: تسعة وتسعون في النبي صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر الناس.

باب يذكر فيه مدة مرضه، وما وقع فيه، ووفاته صلى الله عليه وسلم التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين

وعن وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابا أنه صلى الله عليه وسلم أرجح الناس وأفضلهم رأيا. وفي رواية: وجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انتهائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلا كحبة بين رمال الدنيا. ومما يتفرغ على العقل اقتناء الفضائل، واجتناب الرذائل، وإصابة الرأي، وجودة الفطنة وحسن السياسة والتدبير، وقد بلغ من ذلك صلى الله عليه وسلم الغاية التي لم يبلغها بشر سواه. ومما يكاد يقضي منه العجب حسن تدبيره صلى الله عليه وسلم للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة، كيف ساسهم، واحتمل جفاهم، صبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا عليه، واختاروه على أنفسهم، وقاتلوا دونه أهلهم وآباءهم وأبناءهم وهاجروا في رضاه أوطانهم انتهى، والله أعلم. باب يذكر فيه مدة مرضه، وما وقع فيه، ووفاته صلى الله عليه وسلم التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين ذكر أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع من جوف الليل فاستغفر لهم. فعن أبي مويهية مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له في جوف الليل، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، قال: فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم، قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجاكم الله منه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى، قال: ثم أقبل عليّ، وقال: يا أبا مويهية هل علمت أني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي والجنة» أي وفي رواية: «أن أبا مويهية قال له: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها، ثم الجنة. قال لا، والله يا أبا مويهية لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فلما أصبح ابتدىء بوجعه من يومه ذلك ابتدأه الصداع» أي وفي رواية «ذهب بعد ذلك إلى قتلى أحد فصلى عليهم، فرجع معصوب الرأس، فكان ذلك بدء الوجع الذي مات فيه» وفي رواية: «رجع من جنازة بالبقيع» . قالت عائشة رضي الله عنها: «لما رجع من البقيع وجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه قال: لو كان ذلك وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك وأكفنك وأدفنك» وفي لفظ: «وما يضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك، فقلت: واثكلاه. والله: إنك لتحب موتي، فلو كان ذلك لظللت يومك معرسا ببعض أزواجك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبيك وأخيك فأقص أمري وأعهد عهدي فلا يطمع في الدنيا طامع» . وفي لفظ: «ثم قلت يأبي الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبي المؤمنون» وفي رواية: «أنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أباك أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وفي رواية: «لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه، فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم، قال: أبي الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر» . قال ابن كثير رحمه الله: وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بين فيها فضل الصديق رضي الله عنه من بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولعل خطبته صلى الله عليه وسلم هذه كانت عوضا عما أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتبه في الكتاب. وفي رواية أنه اجتمع عنده صلى الله عليه وسلم رجال، فقال صلى الله عليه وسلم: هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: أي وهو سيدنا عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه الوجع وعندكم القرآن، أي وإنما قال ذلك رضي الله عنه تخفيفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتفعت أصواتهم، فأمرهم بالخروج من عنده. وجاء أن العباس رضي الله عنه قال لعلي كرم الله وجهه: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح من مرضه هذا فإني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، أي وفي رواية: خرج علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الذي مات فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده عمه العباس رضي الله عنهما. وقال له: والله أنت بعد ثلاث عبد العصي، وإني لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجعه هذا بعد ثلاث إلا ميتا، فإني رأيت في وجهه ما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا، فقال عليّ كرم الله وجهه: والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة رضي الله عنها: وصار صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه فاشتدّ به المرض عند ميمونة رضي الله عنها، وقيل في بيت زينب رضي الله عنها، وقيل في بيت ريحانة رضي الله عنها، قالت عائشة رضي الله عنها: فدعا صلى الله عليه وسلم نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذنّ له، وفي رواية: صار يقول وهو في بيت ميمونة أين أنا غدا أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة رضي الله عنها. وفي البخاري يقول: أين أنا اليوم أين أنا غدا؟ استبطأ ليوم عائشة رضي الله عنها، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة.

وفي رواية عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النساء في مرضه فاجتمعن، فقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنّ لي فأكون في بيت عائشة فعلتن: فأذنّ له قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله معتمدا عليهما الفضل بن العباس ورجل آخر، وفي رواية بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر، وفي رواية بين أسامة ورجل آخر عاصبا رأسه الشريف تخط قدماه الأرض حتى دخل بيتي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرجل الذي لم تمسه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي فإنه كان بينها وبين عليّ ما يقع بين الأحماء، وقد صرحت بذلك لما أرادت أن تتوجه من البصرة بعد انقضاء وقعة الجمل وخرج الناس ومن جملتهم علي كرم الله وجهه لتوديعها، حيث قالت: والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال عليّ: أيها الناس صدقت والله وبرت، ما كان بيننا وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وقد تقدم ذلك. ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه، فقال: هريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدناه صلى الله عليه وسلم في مخضب إناء من حجر ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم، وفي لفظ: حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن: أي وصب المياه المذكورة له دخل في دفع السم. أي فإنه صلى الله عليه وسلم صار يقول لعائشة: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أسممته بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه الشريف حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد، أي دعا لهم فأكثر الصلاة عليهم واستغفر لهم. ثم قال: إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده؟ فاختار ذلك العبد ما عند الله، ففهمها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعرف أن نفسه يريد. أي فبكى أبو بكر فقال: نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فقال: «على رسلك يا أبا بكر» . أي وفي رواية قال: «يا أبا بكر لا تبك، أيها الناس إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر» وهذا حديث صحيح جاء عن بضعة عشر صحابيا، ولكثرة طرقه عدّ من المتواتر. وفي أخرى: «إن أعظم الناس عليّ منا في صحبته وذات يده أبو بكر» وفي أخرى: «فإني لا أعلم امرأ أفضل عندي يدا في الصحابة من أبي بكر» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة» أي وفي الحديث «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فإن رأيت شرا استغفرت لكم» أي وهذا بيان للثاني لاستغناء الأول عن البيان، ومعلوم أن خيرا وشرا هنا ليسا أفعل تفضيل الذي يوصل بمن حتى يلزم التناقض، بل المراد أن ذلك فضيلة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: انظروا هذه الأبواب

اللاصقة في المسجد، أي وفي لفظ: هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا باب أبي بكر. أي وفي لفظ: إلا ما كان من باب أبي بكر، فإني وجدت عليه نورا. وفي لفظ: «سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر» فإن المراد بالأبواب الخوخ؟ «فإني لا أعلم أن أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه» أي وفي لفظ: «أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر» وفي لفظ: «لا تؤذوني في صاحبي ولولا أن الله سماه صاحبا لا تخذته خليلا، ألا فسدوا كل خوخة إلا خوخة بن أبي قحافة» أي وجاء في الحديث: «لكل نبي خليل من أمته، وإن خليلي أبو بكر، وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا» وفي رواية «وإن خليلي عثمان بن عفان» وجاء «لكل نبي خليل، وخليلي سعد بن معاذ» . وفي أسباب النزول للثعالبي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإنه لم يكن نبي إلا وله خليل. ألا وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير «خليلي من هذه الأمة أويس القرني» ولعل هذا كان قبل أن يقول صلى الله عليه وسلم في مرض موته قبل موته بخمسة أيام «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا، لكن خلة الإسلام أفضل» . وفي رواية: «ولكن أخوة الإسلام ومودته» وفي رواية: «لكن أخي وصاحبي» . وجمع بأن الأول: أي إثبات الخلة لغير الله محمول على نوع منها ونفيها عن غير الله محمول على كمالها. ثم لا يخفى أن قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا» يدلّ على أن مقام الخلة أرقى من مقام المحبة، وأن المحبة والخلة ليسا سواء خلافا لمن زعم ذلك. أي ولا مانع أن يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم مما يدل على أن مقام المحبة من مقام الخلة: أي الذي يدلّ عليه ما جاء: «ألا قائل قولا غير هجر؟ إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وعند ذلك: أي إغلاق الأبواب، قال الناس: أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر، وأني أرى على باب أبي بكر نورا، وأرى على أبوابكم ظلمة، لقد قلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، وأمسكتم الأموال وجاد لي بماله، وخذلتموني

وواساني. أي ولعل قولهم وترك باب خليله لا ينافي ما تقدم من عدم اتخاذه خليلا. وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بسد الأبواب إلا باب أبي بكر، قال عمر: يا رسول الله دعني أفتح كوة أنظر إليك حيث تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، وقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد يعني أبا بكر وما بالك سددت أبوب رجال في المسجد؟ فقال: يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمي. وفي لفظ: ما أنا سددتها، ولكن الله سدها. وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسد الأبواب إلا باب علي. قال الترمذي حديث غريب. وقال ابن الجوزي: هو موضوع وضعه الرافضة ليقابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. وجمع بعضهم بأن قصة علي متقدمة على هذا الوقت، وأن الناس كان لكل بيت بابان باب يفتح وباب يفتح خارجه إلا بيت علي كرم الله وجهه، فإنه لم يكن له إلا باب من المسجد، وليس له باب من خارج، فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب: أي التي تفتح للمسجد. أي بتضييقها وصيرورتها خوخا إلا باب علي كرم الله وجهه، فإن عليا لم يكن له إلا باب واحد ليس له طريق غيره كما تقدم، فلم يأمر صلى الله عليه وسلم بجعله خوخة، ثم بعد ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بسد الخوخ إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وقول بعضهم حتى خوخة علي كرم الله وجهه، فيه نظر لما علمت أن عليا كرم الله وجهه لم يكن له إلا باب واحد، فالباب في قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليس المراد به حقيقته بل الخوخة. وفي قصة علي كرم الله وجهه المراد به حقيقته. أقول: ومما يدل على ما تقدم قصة علي كرم الله وجهه ما روي عنه قال: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن سد بابك، قال: سمعا وطاعة فسد بابه، ثم أرسل إلى عمر، ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ففعلا، وأمرت الناس ففعلوا، وامتنع حمزة، فقلت: يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة، فقال صلى الله عليه وسلم: قل لحمزة فليحول بابه، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تحول بابك فحوله، وعند ذلك قالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي، فقال: ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها» وفي رواية: «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب عليّ ولكن الله فتح باب عليّ وسد أبوابكم» . وجاء أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيكم قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكني أمرت بشيء فاتبعته، إنما أنا عبد مأمور ما أمرت به فعلت إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس: الآية 15] ومعلوم أن حمزة رضي الله تعالى عنه قتل يوم أحد، فقصة علي كرم الله وجهه متقدمة جدا على قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

وعلى كون المراد بسد الأبواب تضييقها وجعلها خوخا يشكل ما جاء: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فقال العباس: يا رسول الله قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج، قال: ما أمرت بشيء من ذلك، فسدها كلها غير باب علي» فعلى تقدير صحة ذلك يحتاج إلى الجواب عنه، وعلى هذا الجمع يلزم أن يكون باب علي كرم الله وجهه استمر مفتوحا في المسجد مع خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لما علم أنه لم يكن لعلي باب آخر من غير المسجد. وحينئذ قد توقف في قول بعضهم في سد الخوخ إلا خوخة أبي بكر إشارة إلى استحلاف أبي بكر لأنه يحتاج إلى المسجد كثيرا دون غيره، لكن في تاريخ ابن كثير رحمه الله: وهذا: أي سد جميع الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب عليّ لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري من أمره صلى الله عليه وسلم في مرض الموت بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب أبي بكر، لأن في حال حياته صلى الله عليه وسلم كانت فاطمة رضي الله تعالى عنها تحتاج إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها صلى الله عليه وسلم فأبقى صلى الله عليه وسلم باب عليّ كرم الله وجهه لذلك رفقا بها، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فزالت هذه العلة فاحتيج إلى فتح باب الصديق رضي الله تعالى عنه لأجل خروجه إلى المسجد ليصلي بالمسلمين، لأنه الخليفة بعده عليه الصلاة والسلام هذا كلامه. وهو يفيد أن باب علي كرم الله وجهه سد مع سد الخوخ ولم يبق إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وجعل لبيت علي كرم الله وجهه باب من الخارج. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا يحل لأحد جنب مكث في المسجد غيري وغيرك» . وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: «أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه حتى انتهى إلى صرحة المسجد، فنادى بأعلى صوته إنه لا يحلّ المسجد لجنب ولا لحائض إلا لمحمد وأزواجه وعليّ وفاطمة بنت محمد، ألا هل بينت لكم أن لا تضلوا» قال الحافظ ابن كثير: وهذا أي الثاني إسناده غريب وفيه ضعف هذا كلامه، والمراد المكث في المسجد لا المرور به والاستطراق منه فإن ذلك لكل أحد. ثم رأيت الحافظ السيوطي رحمه الله أشار إلى ذلك، وذكر أن مثل علي كرم الله وجهه فيما ذكر ولداه الحسن والحسين حيث قال: وكذا علي بن أبي طالب والحسن والحسين اختصوا بجواز المكث في المسجد مع الجنابة والله أعلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا إنهم كانوا عيبتي التي أويت إليهم، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته هذه: «أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم

أدع الله له، فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لنؤوم، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ويحك أيها الرجل، لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا، وأذهب عنه النوم إذا شاء» . قال ابن كثير: في إسناده ومتنه غرابة شديدة. وأمر صلى الله عليه وسلم في مرضه أبا بكر أن يصلي بالناس، قال: وكانت تلك الصلاة صلاة العشاء، وقد أذن بلال، وقال ضعوا لي ماء في المخضب: أي وهو شبه الإجانة من نحاس، فاغتسل فيه، أي وهذا مع ما سبق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان له مخضب من حجر ومخضب من نحاس. ثم أراد صلى الله عليه وسلم أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك، أي وعند ذلك قال ضعوا إلى ماء في المخضب، فاغتسل ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب فاغتسل، ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس ملمومة في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لعمر: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أنت أحق بذلك. وفي رواية: «أن بلالا رضي الله تعالى عنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم فقال: الصلاة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أستطيع الصلاة خارجا، ومر عمر بن الخطاب فليصل، بالناس، فخرج بلال رضي الله تعالى عنه وهو يبكي، فقال له المسلمون: ما وراءك يا بلال؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع الصلاة خارجا، فبكوا بكاء شديدا، وقال لعمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم بين يدي أبي بكر أبدا، فأدخل على نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أبا بكر على الباب، فدخل عليه صلى الله عليه وسلم بلال رضي الله عنه تعالى فأخبره بذلك، فقال: نعم ما رأى، مر أبا بكر فليصل بالناس، فخرج إلى أبي بكر فأمره أن يصلي فصلى بالناس. وفي رواية فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت: إن أبا بكر رجل أسيف: أي رقيق القلب إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فقال صلى الله عليه وسلم: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فعاودته، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. فمر عمر فليصل بالناس ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة: مه

إنكن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام» . وفي لفظ: «إنكن لأنتن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام» فقالت حفصة رضي الله تعالى عنها لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا ومروا أبا بكر فليصل بالناس» : أي مثل صاحبة يوسف عليه الصلاة والسلام وهي زليخا أظهرت خلاف ما تبطن، وظهرت للنساء اللاتي جمعتهن أنها تريد إكرامهن بالضيافة، وإنما قصدها أن ينظرن لحسن يوسف عليه الصلاة والسلام فيعذرنها في حبه والنبي صلى الله عليه وسلم فهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تظهر كراهة ذلك مع محبتها له باطنا هكذا يقتضيه ظاهر اللفظ. والمنقول عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها إنما قصدت بذلك خوف أن يتشاءم الناس أبا بكر فيكرهونه حيث قام مقامه صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما حملني على كثرة مراجعتي له صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس منه. وفي رواية: «إن الأنصار رضي الله تعالى عنهم لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد وجعا طافوا بالمسجد وأشفقوا من موته صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه الفضل رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه علي كرم الله وجهه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه العباس رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخط برجليه حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا وإني لاحق بربي وإنكم لا حقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم بخير، فإن الله يقول: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) [العصر: الآية 1، 2] السورة وإن الأمور تجري بإذن الله، ولا يحملكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) [محمد: الآية 22] وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الديار، ألم يؤثروكم على أنفسكم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا فإني فرطكم وأنتم لا حقوني بي، ألا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليّ غدا فليكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي: أيها الناس إن الذنوب تغير النعم، فإذا بر الناس برتهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوا أئمتهم» وفي الحديث: «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم» .

وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى خيرية الموت بأنه فرط، فخير صفة لا أفعل تفضيل حتى يشكل بأنه يقتضي أن حياتي خير لكم من مماتي ومماتي خير لكم من حياتي كما مر، ثم لا زال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس سبع عشرة صلاة، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤتما به ركعة ثانية من صلاة الصبح، ثم قضى الركعة الثانية: أي أتى بها منفردا. وقال صلى الله عليه وسلم: «لم يقبض نبي حتى يؤمه رجل من قومه» أي وقد قال ذلك صلى الله عليه وسلم لما صلى خلف عبد الرحمن بن عوف كما تقدم في تبوك. قال: وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة. أي وأبو بكر في الصلاة. فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنب أبي بكر عن يساره. وفي رواية عن يمينه، وأنه صلى الله عليه وسلم دفع في ظهر أبي بكر وقال: صل بالناس أي ومنعه من التأخر، فجعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي قائما كبقية الصحابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا انتهى. وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم مقتديا بأبي بكر رضي الله تعالى عنه. وحينئذ لا يحسن التفريع على ذلك بما جاء في لفظ: فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وفي لفظ: يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم صلوا خلف أبي بكر وأبو بكر يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصار يسمع الصحابة التكبير، وقد بوب البخاري على ذلك: «باب من أسمع الناس تكبير الإمام» ، وقال بعد ذلك «باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم بالناس بالمأموم» فإن منعه صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه من التأخر مع صلاته على يسار أبي بكر أو على يمينه يدل على أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم بل استمر إماما، إذ لا يجوز عندنا أن يقتدي أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع تقدم أبي بكر عليه صلى الله عليه وسلم في الموقف. وحينئذ يخالف ذلك قول فقهائنا إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اقتدائهم بأبي بكر، وجعلوه دليلا على جواز الصلاة بإمامين على التعاقب إذ لا يحسن ذلك إلا أن يكون أبو بكر رضي الله تعالى عنه تأخر ونوى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم. إلا أن يقال يجوز أن تكون صلاته صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر تكررت، ففي مرة منعه صلى الله عليه وسلم من التأخر واقتدى به، وفي مرة تأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن موقفه، واقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، واقتدى الناس بالنبي بعد اقتدائهم بأبي بكر، وصار أبو بكر يسمع الناس التكبير، ولا ينافي ذلك قول البخاري الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم، لجواز أن يكون المراد يقتدون ويتبعون

تكبير المأموم، ثم رأيت الترمذي رحمه الله تعالى صرح بتعدد صلاته صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه حيث قال: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر مقتديا به في مرضه الذي مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له بالرواية هذا كلامه. وبه يردّ قول البيهقي رحمه الله: والذي دلت عليه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلفه في تلك الأيام التي كان يصلي بالناس فيها مرة، وصلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه خلفه صلى الله عليه وسلم مرة، وقال صلى الله عليه وسلم في مرضه ذلك يوما لعبد الله بن زمعة بن الأسود: مر الناس فليصلوا: أي صلاة الصبح. وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه غائبا، فقدّم عبد الله عمر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس، فلما سمع رسول الله صوته أخرج رأسه الشريف حتى أطلعه للناس، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لا، لا، لا، ثلاث مرات، ليصلّ بهم ابن أبي قحافة، فانتفضت الصفوف، وانصرف عمر رضي الله تعالى عنه: أي من الصلاة، فما برح القوم حتى طلع ابن أبي قحافة فتقدم وصلى بالناس الصبح. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت عمر رضي الله تعالى عنه قال: أليس هذا صوت عمر؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: يأبى الله ذلك والمؤمنون. وفي لفظ: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، قال ذلك ثلاثا. قال في السيرة الهشامية: فبعث صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر رضي الله تعالى عنه تلك الصلاة فصلى بالناس. وقد يقال: المراد عمر تلك الصلاة نوى تلك الصلاة ودخل فيها، فلا يخالف ما تقدم من انتقاض الصفوف، وانصراف عمر رضي الله تعالى عنه من الصلاة. وقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن زمعة: ويحك ماذا صنعت يا بن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا، فقال عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه: ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن حيث لم أر أبا بكر ورأيتك أحق من حضر بالصلاة، وفي آخر يوم أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الستارة والناس خلف أبي بكر، فأراد الناس أن ينحرفوا فأشار إليهم صلى الله عليه وسلم أن امكثوا، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من هيئة المسلمين في صلاتهم سرورا منه صلى الله عليه وسلم بذلك، وذلك يوم الاثنين يوم موته صلى الله عليه وسلم ثم ألقى الستارة. وفي السيرة الهشامية: لما كان يوم الاثنين قبض الله تبارك وتعالى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر وفتح الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على باب عائشة رضي الله تعالى عنها، فكاد المسلمون يقتتلون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فرحا به، فأشار إليهم: أن اثبتوا على صلاتكم، ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، وفيها في رواية أنه لما كان يوم الاثنين

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه إلى صلاة الصبح أبو بكر يصلي بالناس، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح الناس، فعرف أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن الناس لم يصيبوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهره، وقال: صل بالناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه على يمين أبي بكر رضي الله تعالى عنه فصلى قاعدا، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس رافعا صوته حتى خرج من باب المسجد يقول: «أيها الناس سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، إني والله ما تمسكون عليّ بشيء، إني لم أحل إلا ما حل القرآن ولم أحل إلا ما حرم القرآن» . ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله قد أراك أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة أفآتيها؟ قال نعم، ثم دخل صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات. وقد أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن يصلي بالناس قبل مرضه، فإنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء بعد أن صلى الظهر وقد وقع بين طائفتين من بني عمرو بن عوف تشاجر حتى تراموا بالحجارة ليصلح بينهم، فقال صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله تعالى عنه: إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصلّ بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أذن بلال، ثم أقام ثم أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه فتقدم وصلى بالناس، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر فصفح الناس: أي صفقوا، فلما كثر ذلك التفت أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه فأراد التأخر، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن يكون على حاله، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته؟ قال: يا أبا بكر ما يمنعك إذ أو مأت إليك أن لا تكون ثبتّ، فقال أبو بكر: يا رسول الله لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للناس: إذا نابكم في صلاتكم شيء فلتسبح الرجال ولتصفق النساء. وهذا استدل به القاضي عياض رحمه الله على أنه لا يجوز لأحد أن يؤمه صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يصلح للتقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ولا في غيرها لا لعذر ولا لغيره. وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعا له صلى الله عليه وسلم: وقد قال صلى الله عليه وسلم «أئمتكم شفعاؤكم» وحينئذ يحتاج للجواب عن صلاته صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه ركعة، وسيأتي الجواب عن ذلك، ولعل هذه المرة كانت في اليوم الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم. فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الغداة، ورأى المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد برىء ففرحوا

فرحا شديدا، ثم جلس صلى الله عليه وسلم في مصلاه يحدثهم حتى أضحى، ثم قام صلى الله عليه وسلم إلى بيته فلم يتفرق الناس من مجلسهم حتى سمعوا صياح الناس، وهبّ يقلب الماء ظنا أنه غشي عليه وابتدر المسلمون الباب فسبقهم العباس رضي الله تعالى عنه، فدخل وأغلق الباب دونهم. فلم يلبث أن خرج إليهم فنعى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا عباس ما أدركت منه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أدركته وهو يقول: جلال ربي الرفيع، قد بلغت، ثم قضى، فكان هذا آخر شيء تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رأيته في الإمتاع نقل هذا القول الذي قدمته عن البيهقي. وذكر في رواية أخرى: لم يزل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس حتى كانت ليلة الاثنين، فأقلع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعك وأصبح مفيقا، فعمد إلى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل وعلى غلام له يدعى ثوبان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقد شهد الناس مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ركعة من صلاة الصبح، وقام ليأتي بالركعة الأخرى، فجاء إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ينفرجون له حتى قام إلى جنب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فاستأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه فقدمه في مصلاه وجلس صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ أبو بكر رضي الله تعالى عنه من صلاته أتمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأخيرة. ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد فجلس إلى ذلك الجذع، واجتمع إليه المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية ثم قام صلى الله عليه وسلم فدخل إلى بيت عائشة، ودخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال: الحمد لله قد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم معافى، وأرجو أن يكون الله عز وجل قد شفاه، ثم ركب رضي الله تعالى عنه فلحق بأهله بالسنح، وانقلبت كل امرأة من نسائه صلى الله عليه وسلم إلى بيتها، فلما دخل صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الوعك، فرجع إليه من كان ذهب من نسائه، وأخذ في الموت فصار يغمى عليه ثم يفيق ويشخص بصره إلى السماء، فيقول في الرفيق الأعلى الإله، وكان عنده صلى الله عليه وسلم وقد اشتدّ به الأمر قدح فيه ماء، وفي لفظ بدل قدح علباء وفي لفظ ركوة فيها ماء فلما اشتدّ عليه صلى الله عليه وسلم الأمر صار يدخل يده الشريفة في القدح ثم يمسح وجهه الشريف بالماء ويقول: «اللهم أعني على سكرات الموت» أي غمراته، وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها: «صار صلى الله عليه وسلم لما يغشاه الكرب وتقول واكرب أبتاه يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم» . أقول: وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم قال: واكرباه، وقال: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرة الموت» وفي رواية: «اللهم أعني على كرب الموت» والحكمة في ذلك، أي فيما شوهد من شدة ما لقي من الكرب عند الموت تسلية أمته صلى الله عليه وسلم إذا وقع لأحد منهم شيء من ذلك عند الموت. ومن ثم قالت عائشة

رضي الله تعالى عنها: لا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: لا أزال أغبط المؤمن بشدة الموت بعد شدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليحصل لمن شاهده من أهله وغيرهم من المسلمين الثواب لما يلحقهم من المشقة عليه كما قيل بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال عند الموت من الكرب الشديد. ثم رأيت الأستاذ الأعظم الشيخ محمد البكري رحمه الله ونفعنا به سئل عن ذلك. فأجاب بأجوبة منها هذا الذي ذكرته. ومنها أن مزاجه الشريف كان أعدل الأمزجة فإحساسه صلى الله عليه وسلم بالألم أكثر من غيره. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم، ولأنّ تشبث الحياة الإنسانية ببدنه الشريف أقوى من تشبثها ببدن غيره لأنه أصل الموجودات كلها أي كما تقدم. أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشدّ منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم في مرضه: «ليس أحد أشد بلاء من الأنبياء. كان النبي من أنبياء الله يسلط عليه القمل حتى يقتله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ليعرى حتى ما يجد ثوبا يوارى به عورته إلا العباءة يدرعها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة» وقال: «ليس من عبد مسلم يصيبه أذى فما سواه إلا حط عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها» وفي لفظ: «لا يصيب المؤمن نكبة من شوكة فما قوقها إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يشتكي ويتقلب على فراشه. وكان يعوّذ بهذه الكلمات إذا اشتكى أحد من الناس منه «أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما فلما ثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أخذت بيده اليمنى وجعلت أمسحه بها فأعوذه بتلك الكلمات، فانتزع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة من يدي وقال: اللهم اغفر لي، واجعلني في الرفيق الأعلى مرتين» . وفي رواية: «لم يشتك صلى الله عليه وسلم شكوى إلا سأل الله العافية» حتى كان مرضه الذي مات فيه فإنه لم يكن يدعو بالشفاء، وطفق صلى الله عليه وسلم يقول: يا نفس ما لك تلوذين كل ملاذ. أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: دخل عليّ عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ومعه سواك يستن به: أي من عسيب النخل، وكان أحب السواك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضريع الأراك: وهو قضيب يلتوي من الإراكة حتى يبلغ التراب فيبقى في ظلها فهو ألين من فرعها فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفت أنه يريده لأنه كان يحب السواك، فقلت، آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فقضمته ثم مضغته. وفي رواية: فتناولته وناولته إياه فاشتد عليه، فقلت ألينه لك؟ فأشار برأسه نعم،

فلينته، فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستن به وهو مستند إلى صدري. وكانت رضي الله تعالى عنها تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو في بيتي وبين سحري ونحري: أي والسحر: الرئة. وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. وفي رواية: فجمع الله بين رقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة. وجاء أنهم لددوه صلى الله عليه وسلم في هذا المرض: أي سقوه لدودا من أحد جانبي فمه، وجعل يشير إليهم وهو صلى الله عليه وسلم مغمى عليه أن لا يفعلوا به وهم يظنون أن الحامل له ذلك كراهة المريض للدواء، فلما أفاق قال، ألم أنهكم أن تلدوني لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظره إلا العباس فإنه لم يشهدكم، وهذا رد عليهم، فإنه قد جاء أنهم قالوا له: عمك العباس أمر بذلك ولم يكن له في ذلك رأي، إنما قالوا ذلك تعللا وخوفا منه صلى الله عليه وسلم، قالوا وتخوفنا أن يكون ذات الجنب، فإن الخاصرة أي وهو عرق في الكلية إذا تحرك وجع صاحبه، كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذته ذلك اليوم فأغمي عليه حتى ظنوا أنه قد هلك فلددوه: أي لددته أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها، فلما أفاق وأراد أن يلدد من في البيت لدد جميع من في البيت حتى ميمونة رضي الله تعالى عنها وكانت صائمة، هذا. وفي رواية أنه لما اشتد عليه صلى الله عليه وسلم المرض دخل عمه العباس رضي الله عنه وقد أغمي عليه، فقال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لو لددتنه. قلن إنا لا نجترىء على ذلك، فأخذ العباس يلدده، فأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من لدني، فقد أقسمت ليلددن إلا أن يكون العباس، فإنكم لددتموني وأنا صائم، قلن فإن العباس هو قد لدك، وقالت له أسماء بنت عميس رضي الله عنها، إنما فعلنا ذلك ظننا أن بك يا رسول الله ذات الجنب، فقال لها: إن ذلك لداء ما كان الله ليعذبني به. وفي رواية: «أنا أكرم على الله من أن يعذبني بها» وفي أخرى «إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطها عليّ» . قال بعضهم: وهذا يدل على أنها من سيء الأسقام التي استعاذ صلى الله عليه وسلم منها بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام وسيء الأسقام» . وفي السيرة الهشامية: لما أغمي عليه صلى الله عليه وسلم اجتمع عليه نساء من نسائه منهم أم سلمة وميمونة، ومن نساء المؤمنين منهم أسماء بنت عميس، وعنده صلى الله عليه وسلم العباس عمه، واجتمعوا على أن فلددوه، فلما أفاق صلى الله عليه وسلم قال: من صنع هذا بي؟ قالوا يا رسول الله عمك، فقال عمه العباس رضي الله تعالى عنه: حسبنا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب، فقال: إن ذلك داء ما كان الله ليعذبني به، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي، فلدوا حتى ميمونة، وكانت رضي الله تعالى عنها صائمة عقوبة لهم بما صنعوا.

وأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه هذا أربعين نفسا، وكانت عنده صلى الله عليه وسلم سبعة دنانير أو ستة، فأمر عائشة رضي الله عنها أن تتصدق بها بعد أن وضعها صلى الله عليه وسلم في كفه وقال: ما ظن محمد بربه، أن لو لقي الله وهذه عنده فتصدقت بها. وفي رواية: أمرها بإرسالها إلى علي كرم الله وجهه ليتصدق بها، فبعثت بها إليه فتصدق بها بعد أن وضعها في كفه، وقد كان العباس رضي الله عنه قبل ذلك بيسير رأى أن القمر قد رفع من الأرض إلى السماء، فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن أخيك. وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام صحبة ملك الموت وقال له: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، قال: فاقبض يا ملك الموت كما أمرت. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: أتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك تكريما لك وتشريفا، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموما وأجدني يا جبريل مكروبا، ثم جاء اليوم الثاني والثالث، فقال له ذلك، فردّ عليه صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك، وجاء معه في اليوم الثالث ملك الموت، فقال له جبريل عليه السلام: هذا ملك الموت يستأذن عليك، ما استأذن على أحد قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، أتاذن له فأذن له فدخل فسلم عليه، ثم قال: يا محمد إن الله أرسلني إليك، فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أترك تركت، قال: أو تفعل؟ قال: نعم وبذلك أمرت، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام، فقال له: يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك، أي وفي رواية: أتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ورحمة الله، ويقول لك: إن شئت شفيتك وكفيتك، وإن شئت توفيتك وغفرت لك، قال: ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء. وفي رواية: الخلد في الدنيا ثم في الجنة أحب إليك أم لقاء ربك، ثم الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقاء ربي ثم الجنة. أي وجاء جبريل عليه السلام قال: هذا آخر وطىء بالأرض، وفي لفظ آخر عهدي بالأرض بعدك، ولن أهبط إلى الأرض لأحد بعدك. قال الحافظ السيوطي رحمه الله: هو حديث ضعيف جدا، ولو صح لم يكن فيه معارضة، أي لما ورد أنه ينزل ليلة القدر مع الملائكة يصلون على كل قائم وقاعد يذكر الله لأنه يحمل على أنه آخر نزوله بالوحي. وفيه أنه ذكر أن حديث: يوحي الله إلى عيسى عليه السلام أي بعد قتله الدجال صريح في أنه يوحى إليه بعد النزول. والظاهر أن الجائي إليه عليه السلام بالوحي جبريل عليه السلام، بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته لأنه السفير

بين الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لملك الموت: امض لما أمرت به فقبض روحه الشريفة، وعند اشتداد الأمر به صلى الله عليه وسلم أرسلت عائشة رضي الله عنها خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه كما تقدم لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا وقال له قد رد الله بك علينا عقولنا، وقد أصبحت بنعمة من الله وفضل فقال له أبو بكر: يا رسول الله اليوم يوم بنت خارجة يعني زوجته وكانت بالسنح، قال له: ائت أهلك، فقام أبو بكر وذهب وأرسلت حفصة خلف عمر وأرسلت فاطمة خلف علي كرم الله وجهه فلم يجىء أحد منهم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صدر عائشة، وذلك يوم الاثنين حين زاغت الشمس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول هكذا ذكر بعضهم. وقال السهيلي: لا يصح أن يكون وفاته يوم الاثنين إلا في ثالث عشرة أو رابع عشرة لإجماع المسلمين على أن وقفة عرفة كانت يوم الجمعة وهو تاسع ذي الحجة وكان المحرم إما بالجمعة وإما بالسبت، فإن كان السبت فيكون أول صفر إما الأحد أو الاثنين فعلى هذا لا يكون الثاني عشر من ربيع الأول بوجه. وقال الكلبي: إنه توفي في الثاني من شهر ربيع الأول. قال الطبري: وهذا القول وإن كان خلاف الجمهور فلا يبعد إن كانت الثلاثة أشهر التي قبلها كلها تسعة وعشرين يوما، وفيما قاله نظر لمتابعة أنس بن مالك فيما حكاه البيهقي والواقدي. وقال الخوارزمي: توفي أول شهر من ربيع الأول، وفي رواية إن سالم بن عبيد ذهب وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف ما قبله لأنه يجوز أن يكون ذلك ذهب إلى الصديق بعد الرسول الذي أرسلته له عائشة رضي الله عنها قبل موته صلى الله عليه وسلم. وآخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يترغرغ بها في صدره ولا يفيض بها لسانه. وآخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وكانت مدة شكواه صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ليلة، وقيل أربع عشرة ليلة، وقيل اثنتي عشرة ليلة، وقيل عشرا، وقيل ثمانية. وقالت فاطمة رضي الله عنها لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وا أبتاه أجاب داع دعاه، يا أبتاه الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. قال ابن كثير رحمه الله: وهذا لا يعد نياحة بل هو من ذكر فضائل الحق عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام؟ قال: وإنما قلنا ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النياحة. وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت من سفاهة رأيي وحداثة سني أني أخذت وسادة فوسدت بها رأسه الشريف من حجري، ثم قمت مع النساء أبكي

وأنتدم، والانتدام: ضرب الخد باليد عند المصيبة. وسمعوا قائلا ولا يرون شخصه، يقال إنه الخضر عليه السلام أي قال علي كرم الله وجهه أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام، وفي إسناده متروك يقول: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: الآية 185] إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا عن كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال ابن كثير رحمه الله: هذا الحديث مرسل وفي إسناده ضعف. وسجي صلى الله عليه وسلم بثوب حبرة أي بالإضافة: برد من برود اليمن، ولم أقف على أن ثيابه صلى الله عليه وسلم التي كانت عليه قبل الموت نزعت عنه ثم سجي، إلا أن كلام فقهائنا يشعر بذلك، حيث جعلوا ذلك ليلا لنزع ثياب الميت وستره بثوب. وعند ذلك دهش الناس وطاشت عقولهم واختلفت أحوالهم، فأما عمر رضي الله تعالى عنه فخبل، وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأخرس، وأما علي كرم الله وجهه فأقعد: وجاء أبو بكر وعيناه تهملان، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، وتكلم كلاما بليغا سكن به نفوس المسلمين وثبت جأشهم. أي فإن عمر رضي الله تعالى عنه صار في ناحية المسجد يقول: والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي ناس من المنافقين كثير وأرجلهم، وصار رضي الله عنه يتوعد من قال إنه مات، بالقتل أو القطع. ونقل عنه رضي الله عنه أنه قال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، ولكن ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران عليه السلام، ثم رجع إلى قومه بعد أربعين ليلة بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، ولا زال رضي الله عنه يتوعد المنافقين حتى أزبد شدقاه. فقام أبو بكر رضي الله عنه وصعد المنبر وقال كلاما بليغا. ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [آل عمران: الآية 144] فقال عمر رضي الله عنه: هذه الآية في القرآن. وفي لفظ: فكأني لم أسمع بها في كتاب الله تعالى قبل الآن لما نزل. ثم قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: الآية 156] صلوات الله وسلامه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند الله نحتسب رسوله، قال: يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر: الآية 30] ، وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا

وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: الآية 88] . وقال تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) [الرحمن: الآية 26] ، وقال تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: الآية 185] ، فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة كما سيأتي أقبلوا على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا هل يغسل في ثيابه أو يجرد منها كما تجرد الموتى، فألقى الله عليهم النوم وسمعوا من ناحية البيت قائلا يقول: لا تغسلوه فإنه كان طاهرا، فقال أهل البيت صدق فلا تغسلوه، فقال العباس رضي الله عنه لا ندع سنة لصوت لا ندري ما هو، فغشيهم النعاس ثانية، فناداهم أن غسلوه وعليه ثيابه، أي وزاد في رواية: «فإن ذلك إبليس وأنا الخضر» وفي رواية: «لا تنزعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه» قال الذهبي حديث منكر، فقاموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، وفي لفظ وعليه قميص ومحول مفتوح يصبون عليه الماء ويدلكونه والقميص دون أيديهم عليّ والعباس وكذا ولدا العباس الفضل وقثم، فكان العباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه مع عليّ، وفي لفظ: «غسله علي والفضل» محتضنه والعباس يصب الماء وجعل الفضل رضي الله عنه يقول: أرحني قطعت وتيني، وأسامة وشقران مولاه، وفي لفظ: «وصالح مولاه صلى الله عليه وسلم يصبان الماء، ولف عليّ كرم الله وجهه على يده خرقة وأدخلها تحت القميص يغسل بها جسده الشريف» . وعن علي كرم الله وجهه: ذهبت ألتمس منه ما يلتمس من الميت: أي ما يخرج من بطن الميت فلم أر شيئا، فكان صلى الله عليه وسلم طيبا حيا وميتا، وما تناولت منه صلى الله عليه وسلم عضوا إلا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلا: أي ويحتاج إلى الجمع بين هذا، وما تقدم عن الفضل رضي الله عنه. قيل وتغسيل علي كرم الله وجهه له صلى الله عليه وسلم كان بوصية منه صلى الله عليه وسلم له. فعن علي كرم الله وجهه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا يغسله أحد غيري وقال: لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه غيرك، أي على فرض وقوع ذلك فلا ينافي ما تقدم، وادعى الذهبي أن هذا الحديث منكر. وفي رواية: فكان الفضل وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، وأعينهما معصوبة. وفي لفظ: مكان العباس وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، لأن العباس رضي الله عنه نصب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلة: أي خيمة رفيعة من ثياب يمانية في جوف البيت وأدخل عليا فيها، زاد بعضهم: والفضل وأبا سفيان بن الحارث ابن عمه صلى الله عليه وسلم. ونصب الكلة دليل لقول فقهائنا رحمه الله: والأكمل وضع الميت عند الغسل بموضع خال من الناس مستور عنهم لا يدخله إلا الغاسل ومن يعينه. والذي رواه ابن ماجه رحمه الله أنه تولى غسله صلى الله عليه وسلم علي والفضل، وأسامة بن زيد يناول الماء، والعباس واقف: أي لا يغسل ولا يناول الماء: أي ويحتاج للجمع بين هذه الروايات.

وقيل إن العباس لم يشاهد غسله صلى الله عليه وسلم، وعن علي رضي الله عنه: لما غسلت النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع ماء في حقويه فرفعته بلساني وازدردته فأورثني ذلك قوة حفظي. ويروى أنه كرم الله وجهه، رأى في عينه صلى الله عليه وسلم قذاة فأدخل لسانه فأخرجها منها. وعن عائشة رضي الله عنها: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه: أي لو ظهر لها قولها المذكور وقت غسله صلى الله عليه وسلم ما غسله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه، وغسل ثلاث غسلات: واحدة بالماء القراح، وواحدة بالماء والسدر، أي والغسلة التي كانت بالماء القراح كانت قبل الغسلة التي بالسدر فهي المزيلة وواحدة بالماء مع الكافور، أي وهذه هي المجزئة في الغسل هذا. وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: وغسل صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالماء والسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور. وفي لفظ: فغسلوه بالماء القراح، وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله، وغسل من ماء بئر غرس وهي بئر بقباء، قال صلى الله عليه وسلم: «نعم البئر بئر غرس هي من عيون الجنة وماؤها أطيب الماء» وكان صلى الله عليه وسلم يشرب منها، ويؤتى له بالماء منها. وعند ابن ماجه رحمه الله صلى الله عليه وسلم، قال لعلي كرم الله وجهه: «إذا أنا مت فغسلني بسبع من بئري بئر غرس» . وكفن صلى الله عليه وسلم بثلاثة أثواب سحولية: أي بيض من القطن، من عمل سحولة: قرية من قرى اليمن، وفي رواية الشيخين عنها: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، قيل إزار ورداء ولفافة، وقوله ليس فيها قميص ولا عمامة: أي ولم يكن في كفنه صلى الله عليه وسلم ذلك كما فسر بذلك إمامنا الشافعي رحمه الله وجمهور العلماء، قال بعضهم: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث. وما قيل إن معناه أن القميص والعمامة زائدان على الأثواب الثلاثة ليس في محله، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كفن في قميص وعمامة، وهذا يدل على أنه نزع عنه صلى الله عليه وسلم القميص الذي غسل فيه قبل تكفينه في الأثواب الثلاثة. وقيل كفن في ذلك الثوب بعد عصره. وفيه أنه لا يخلو عن الرطوبة وهي تفسد الأكفان. ويؤيد كونه صلى الله عليه وسلم كفن في ذلك الثوب ما جاء في رواية: «كفن صلى الله عليه وسلم في ثوبه الذي مات فيه وحلّة نجرانية» والحلة: ثوب فوق ثوب، قال ابن كثير: وهذا غريب جدا، وفي كلام بعضهم أنه حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كفن في الأثواب الثلاثة المتقدمة وزيادة برد حبرة أحمر. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أتي بالبرد ولفوه فيه ولكنهم ردوه، أي

ثم نزع عنه صلى الله عليه وسلم ولم يكفنوه فيه، وفي رواية: ثوبين وبرد أحمر، وهذا يخالف ما عليه أئمتنا أن من كفن في ثلاثة أثواب يجب أن تكون لفائف يستر كل منها جميع البدن. وفي رواية كفن في سبعة أثواب. وبعد تكفينه صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الثلاثاء وضع على سرير، وفي لفظ: ثم أدرج صلى الله عليه وسلم في أكفانه وجمروه عودا وندا، ثم احتملوه حتى وضعوه على سرير وسجوه. وذكر أنه كان عند علي كرم الله وجهه مسك، وقال إنه من فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصلى عليه صلى الله عليه وسلم الناس أفذاذا لم يؤمهم أحد، وفي لفظ: لما أدرج صلى الله عليه وسلم في أكفانه وضع على سريره ثم وضع على شفير حفرته ثم صار الناس يدخلون عليه رفقاء رفقاء لا يؤمهم أحد. وذكر أنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع البيت، فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم المهاجرون والأنصار كما سلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، ثم صفوا صفوفا لا يؤمهم أحد، وكان أبو بكر وعمر في الصف الأول الذي حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا اللهم إنا نشهد أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، فاجعلنا إلهنا ممن تبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، لا نبتغي بالإيمان به بدلا ولا نشتري به ثمنا أبدا، فيقول الناس آمين آمين، وهذا يدل على أنه المراد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم الدعاء لا الصلاة على الجنازة المعروفة عندهم، والصحيح أن هذا الدعاء كان ضمن الصلاة المعروفة التي بأربع تكبيرات. فقد جاء أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم فكبر أربع تكبيرات ثم دخل عمر رضي الله عنه فكبر أربعا، ثم دخل عثمان رضي الله عنه فكبر أربعا، ثم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما، ثم تتابع الناس أرسالا يكبرون عليه، أي وعلى هذا إنما خصوا الدعاء بالذكر لأنه الذي لا يليق به صلى الله عليه وسلم، ومن ثم استشاروا كيف يدعون له فأشير بمثل ذلك. قال: وقال ابن كثير رحمه الله: وهذا الأمر: أي صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم فرادى من غير إمام يؤمهم مجمع عليه. ولا يقال لأن المسلمين لم يكن لهم حينئذ إما لأنهم لم يشرعوا في تجهيزه عليه الصلاة والسلام إلا بعد تمام البيعة لأبي بكر رضي الله عنه لأنه لما تحقق موته صلى الله عليه وسلم، واجتمع غالب المهاجرين على أبي بكر وعمر وانضم إليهم من الأنصار أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ومن معه من الأوس، وتخلف علي

والزبير، أي ومن كان معهما من المهاجرين كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها وتخلف الأنصار بأجمعهم واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، أي وفي دار سعد بن عبادة وكان سعد مريضا مزملا بثيابه بينهم: أي اجتمعوا أولا ثم تفرق عنهم أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من الأوس. فلا يخالف ذلك ما تقدم من انضمام أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين رضي الله عنهم مع أبي بكر رضي الله عنه، ولا يخالف ذلك ما في بعض الروايات عن عمر رضي الله عنه وتخلف الأنصار عنا بأجمعهم في سقيفة بني ساعدة. واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر رضي الله عنه إلا عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة رضي الله عنها، فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. أي فإنه أتاهم آت، فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم. أي فعن عمر رضي الله عنه: «بينا نحن في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدران اخرج إليّ يابن الخطاب، فقلت: إليك عني فأنا عنك متشاغل، يعني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه قد حدث أمر، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون فيه حزب. قال: فانطلقنا نؤمهم: أي نقصدهم حتى رأينا رجلين صالحين، أي وهما عويمر بن ساعدة ومعدة بن عدي وهما من الأوس، قالا: أي تريدون؟ فقلت: نريد إخواننا من الأنصار فقالا: لا عليكم أن تقربوهم، واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين بينكم. فقلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا إنه وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد ذفت ذاقة منكم: أي دب قوم بالاستعلاء والترفع علينا تريدون أن تختزلونا من أهلنا، أي تنحونا عنه تستبدون به دوننا، فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن قولها بين يدي أبي بكر فقال أبو بكر رضي الله عنه: على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه وكنت أرى منه بعض الحدة فسكت، وكان أعلم مني، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل، فقال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم له أهل، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا

لهذا الحيّ من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا، يعني مكة ولدتنا العرب كلها فليست منها قبيلة إلا لقريش منها ولادة ودار، وكنا معاشر المهاجرين أول الناس إسلاما ونحن عشيرته صلى الله عليه وسلم وأقاربه وذوو رحمه، فنحن أهل النبوّة وأهل الخلافة، ولم يترك شيئا أنزل في الكتاب بأيديهم إلا قاله، ولا شيئا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأنصار إلا ذكره، ومنه «لو سلكت الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادي الأنصار» وقال: «لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر» فقال سعد رضي الله تعالى عنه صدقت، فقال أي الصديق رضي الله عنه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، أي وفي رواية أنه: أي الصديق رضي الله عنه، قال لهم: أنتم الذين آمنوا ونحن الصادقون، وإنما أمركم الله أن تكونوا معنا فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) [التّوبة: الآية 119] والصادقون: هم المهاجرون، قال الله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ [الحشر: الآية 8] إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: الآية 15] . وفي رواية: «أن أبا بكر رضي الله عنه احتج على الأنصار بخبر «الأئمة من قريش» وهو حديث صحيح ورد عن نحو أربعين صحابيا، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين وأنتم أحق بالرضا بقضاء الله، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئت وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره ما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي ولا يقربني ذلك من إثم أحب إليّ من أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، فقال كل من عمر وأبي عبيدة: لا ينبغي لأحد أن يكون فوقك يا أبا بكر أي وفي لفظ بل نبايعك، وأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من عمر رضي الله عنه كان بعد أن أتى أبا عبيدة، وقال: إنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما رأيت بك ضعف رأي قبلها منذ أسلمت، أما بقي فيكم الصديق وثاني اثنين؟ وفي رواية أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر ابسط يدك لأبايعك، فقال له أنت أفضل مني، فأجابه بأنت أقوى مني ثم كرر ذلك. فقال له: فأين قوتي مع فضلك. واعترض قول أبي بكر المذكور، بأنه كيف يقول ذلك مع علمه بأنه أحق بالخلافة؟ وكيف يقدم أبا عبيدة على عمر مع أنه أفضل منه؟. وأجيب بأنه رضي الله عنه قال ذلك لأنه استحيى أن يقول: رضيت لكم نفسي مع علمه بأن كلا من عمر وأبي عبيدة لا يقبل وأن أبا بكر رضي الله عنه كان يرى جواز تولية المفضول على من هو أفضل منه، وهو الحق عند أهل السنة لأنه قد يكون أقدر من الأفضل على القيام بمصالح الدين وأعرف بتدبير الأمر وما فيه انتظام حال الرعية.

وعن قول أبي بكر رضي الله عنه ما ذكر قال قائل من الأنصار، أي وهو الحباب بحاء مهملة مضمومة فموحدة رضي الله عنه، ابن المنذر: أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب بالجيم والجذيل تصغير الجذل: وهو عود ينصب للإبل الجرباء فتحتك به ليزول جربها. والمحكك: الذي كثر به الاحتكاك حتى صار أملس والعذيق تصغير العذق بفتح العين وهو النخلة، والمرجب المسند بالرجبة وهي خشبة ذات شعبتين يسند بها النخلة إذا كثر حملها، أي أنا ذو الرأي والتدبير الذي يستشفى به في الحوادث لا سيما هذه الحادثة، منا أمير ومنكم يا معشر قريش، وتتابعت خطباؤهم على ذلك. وقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل الرجل منكم قرن معه رجلا منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منا ومنكم، فقام زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال للأنصار: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وكنا نحن أنصاره فنحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره ثم أخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال هذا صاحبكم. فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يا معشر الأنصار لا تسمعوا مقالة هذا فتذهب قريش بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من بلادكم، فأنتم أحق به منهم، أما والله وإن شئتم لنقيمها جذعة، فقال له عمر رضي الله عنه إذن يقتلك الله فقال بل أراك تقتل، فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما فقال: يا معشر الأنصار إنا كنا أول من سبق إلى هذا الدين وجهاد المشركين، ما قصدنا إلا رضا الله ورسوله فلا ينبغي لنا أن نستطيل على الناس، ولا نطلب عرض الدنيا، وإن قريشا أولى بهذا الأمر فلا ننازعهم، فقال له الحباب، ألفيت على ابن عمك يعني سعد بن عبادة، فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم وفي رواية قال عمر رضي الله عنه يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر يؤم الناس وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر وفي لفظ أن يقيمه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر رضي الله عنه. وفي لفظ قالوا: نستغفر الله، لا تطيب أنفسنا، ولعل المراد قال معظمهم. فلا يخالف ذلك ما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه ولما كثر اللغط، وعلمت الأصوات حتى خشيت الاختلاف. وقلت: سفيان في غمد واحد لا يكونان وفي رواية: هيهات لا يجتمع فحلان في مغرس. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، وكذا قال له من الأنصار يد بن ثابت وأسيد بن حضير وبشير بن سعد رضي الله عنهم، فبسط يده: فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار. أي حتى سعد بن عبادة رضي الله عنه، خلافا لمن قال إن سعد بن عبادة أبي أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله. أي فإنه رضي الله تعالى عنه توجه إلى الشام ومات بها.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والعذر له في ذلك أنه رضي الله عنه تأوّل أن للأنصار في الخلافة استحقاقا فبنى على ذلك، وهو معذور، وإن لم يكن ما اعتقده من ذلك حقا هذا كلامه. ولا ينافيه ما جاء عن عمر رضي الله عنه: وثبنا على سعد بن عبادة. فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة: أي فعلتم معه من الإعراض والإذلال ما يقتله، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، فإنه صاحب فتنة، نعم ينافيه ما حكاه ابن عبد البر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله. قال بعضهم: ويضعفه ما جاء في بعض الروايات أن أبا بكر رضي الله عنه لما قال لسعد: لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر» ، قال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء، وبه يظهر التوقف فيما تقدم عن ابن حجر رحمه الله هذا. وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: فأنكروا على سعد أمره، وكادوا يطؤون سعدا فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعدا لا تطؤوه، فقال عمر رضي الله عنه: اقتلوا سعدا قتله الله، ثم قام عمر رضي الله عنه على رأس سعد وقال: قد هممت أن أطأك حتى تنذر عيونك، فأخذ قيس بن سعد رضي الله عنهما بلحية عمر رضي الله عنه وقال: والله لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفيك جارحة، فقال أبو بكر: مهلا يا عمر، الرفق الرفق، ما هنا أبلغ، فقال عاد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى محلهما أرسلا له بايع فقد بايع الناس، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب من دمائكم سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يداي. والله لو اجتمع لكم الجن والإنس لما بايعتكم. فلما عاد الرسول وأخبرهم بما قال، قال له عمر: لا ندعه حتى يبايع، فقال له قيس بن سعد: دعه فقد لح فاتركوه، فتركوه، وكان سعد رضي الله عنه لا يحضر معهم، ولا يصلي في المسجد، ولا يسلم على من لقي منهم، فلم يزل مجانبا لهم حتى إذا كان بعرفة يقف ناحية عنهم، فلما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة لقيه في بعض طرق المدينة، فقال له: إيه يا سعد فقال له: إيه يا عمر، فقال له عمر: أنت صاحب المقالة، قال نعم أنا ذاك، وقد أفضى الله إليك هذا الأمر، كان والله صاحبك خيرا لنا، وأحب إلينا من جوارك، وقد أصبحت كارها لجوارك، فقال له عمر رضي الله عنه: إنه من كره جوار جاره تحول عنه، فقال له سعد: إني متحول إلى جوار من هو خير من جوارك، فخرج رضي الله عنه إلى الشام واستمر بها إلى أن مات في السنة الخامسة عشر من الهجرة. وذكر الطبري رحمه أن سعدا رضي الله عنه بايع مكرها، وهو وهم، هذا كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله.

قال عمر رضي الله عنه: وإنما بايعت أبا بكر خشية إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن بيايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد، وذلك كان في يوم موته صلى الله عليه وسلم الذي هو يوم الاثنين، فلما كان الغد كانت البيعة العامة صعد أبو بكر رضي الله عنه المنبر، وقام عمر رضي الله عنه بين يدي أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه بيعة عامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر رضي الله عنه فقال في خطبته، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ حتى أردّ عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا أشيعت الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذ عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، فقوموا إلى صلاتكم رحمكم الله. وشن الغارة بعض الرافضة على قول الصديق رضي الله عنه فقوموني، بأنه كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه. وردّ بأن هذا من أكبر الدلائل على فضله، لقوله الآخر: أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، لأن كل أحد ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تجوز عليه المعصية. ولما بويع بالخلافة أصبح رضي الله تعالى عنه على ساعده قماش وهو ذاهب به إلى السوق، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: السوق، قال: تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين، قال: فمن أين أطعم عيالي، فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إليه، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجري ليس بأفضلهم: أي في سعة النفقة ولا بأوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، وإذا أبليت شيئا رددته وأخذت غيره، ففرض له كل يوم نصف شاة. وفي رواية: جعل له ألفين فقال: زيدوني فإن لي عيالا وقد شغلت عن السفارة فزادوه خمسمائة. وهو رضي الله تعالى عنه أول من جمع القرآن وسماه مصحفا، واتخذ بيت المال، وسها من جعل ذلك من أوّليات عمر رضي الله تعالى عنه. ولما تخلف عليّ والزبير ومن معهما كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة كما تقدم عن المبايعة، استمروا على ذلك مدة لأنهم رضي الله عنهم وجدوا في أنفسهم حيث لم يكونوا في المشورة: أي في

سقيفة بني ساعدة مع أن لهم فيها حقا. وقد أشار سيدنا عمر رضي الله عنه إلى بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي بغتة لا عن استعداد لها، ولكن وقى الله شرها: أي لم يقع فيها مخالفة ولا منازعة، ولذلك لما اجتمعوا: أي علي والزبير والعباس وطلحة بن عبيد الله ومن تخلف عن المبايعة منهم بأبي بكر رضي الله عنه قام خطيبا وقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكن أشفقت من الفتنة: أي لو أخرت إلى اجتماعكم. وقد روي أن شخصا قال لأبي بكر رضي الله عنه: ما حملك على أن تلي أمر الناس وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين، فقال: لم أجد من ذلك بدا، خشيت على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الفرقة وقال: ما في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة، فقال علي والزبير رضي الله تعالى عنها ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا ترى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، إنه لنعرف شرفه وخيره، ولذا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة من بين الناس وهو حي، فلم يكن تأخرهم رضي الله تعالى عنهم للقدح في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ومن ثم قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: أجمع الناس على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لأنهم لم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبي بكر فولوه رقابهم. أي فالأمة أجمعت على حقية إمامة بكر رضي الله تعالى عنه، وهذا: أي اجتماع علي كرم الله وجهه بأبي بكر رضي الله تعالى عنهما كان بعد ما أرسل إليه علي كرم الله وجهه في الاجتماع به واجتمع به كما سيأتي، لكن سيأتي أن ذلك كان بعد موت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وسياق غير واحد يدل على أن اجتماع عليّ والزبير ومبايعتهما أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قبل موت فاطمة رضي الله تعالى عنها، وهو ما صححه ابن حبان وغيره، ويؤيده ما حكاه بعضهم أن الصديق رضي الله تعالى عنه خرج يوم الجمعة فقال: اجمعوا لي المهاجرين والأنصار، فاجتمعوا، ثم أرسل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والنفر الذين كانوا تخلفوا معه، فقال له: ما خلفك يا علي عن أمر الناس؟ فقال: خلفني عظيم المعتبة، ورأينكم استقليتم برأيكم فاعتذر إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بخوف الفتنة لو أخر، ثم أشرف على الناس وقال: أيها الناس هذا علي بن أبي طالب لا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار من أمره. ألا أنتم بالخيار جميعا في بيعتكم، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه، فلما سمع ذلك علي كرم الله وجهه زال ما كان قد داخله، فقال أجل لا نرى لها غيرك، امدد يدك، فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه فإن هذا دليل على أن عليا كرم الله وجهه بايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام.

وفي كلام المسعودي: لم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي الله تعالى عنها. وقال رجل للزهري: لم يبايع علي كرم الله وجهه أبا بكر ستة أشهر، فقال: لا والله ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي كرم الله وجهه، فليتأمل الجمع على تقدير الصحة. وقد جمع بعضهم بأن عليا كرم الله وجهه بايع أولا، ثم انقطع عن أبي بكر لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع. أي ويدل لهذا الجمع أن في رواية أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما صعد المنبر ونظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير رضي الله تعالى عنه فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عمة رسول الله وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا كرم الله وجهه، فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخنته على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فبايعه. ويبعد هذا الجمع ما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها فلما توفيت فاطمة رضي الله عنها التمس: أي علي كرم الله وجهه مصالحة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر الحديث. والسبب الذي اقتضى الوقوع بين فاطمة وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما أن فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت إلى أبي بكر تطلب إرثها مما أعطاه الأنصار له صلى الله عليه وسلم من أرضهم وما أوصى به إليه صلى الله عليه وسلم، وهو وصية مخيريق عند إسلامه وهي سبعة حوائط في بني النضير. قال سبط ابن الجوزي: وهو أول وقف كان في الإسلام، ومما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أرض بني النضير وفدك، ونصيبه صلى الله عليه وسلم من خيبر وهما حصنان من حصونها الوطيح وسلالم فإنه صلى الله عليه وسلم أخذهما صالحا كما تقدم، وحصته صلى الله عليه وسلم مما افتتح منها عنوة وهو الخمس. فإن ذلك كله كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان صلى الله عليه وسلم ينفق من ذلك على أهل بيته سنة وما بقي جعله في الكراع: أي الخيل والسلاح في سبيل الله، فربما احتاج صلى الله عليه وسلم إلى شيء ينفقه قبل فراغ السنة فيقترض، ولهذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي على آصع من شعير، وافتكها أبو بكر، وتلك الدرع كانت ذات الفضول التي أهداها له صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة لما توجه إلى بدر كما تقدم، ولم يشبع هو ولا أهل بيته ثلاثة أيام تباعا، أي متتابعة كما تقدم فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لست بالذي أقسم من ذلك شيئا، ولست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به فيها إلا عملته، وإني أخشى إن تركت أمره أو شيئا من أمره أن أزيغ. وفي رواية قال لها قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما هي طعمة أطعمينها الله فإذا مت عادت على المسلمين، فإن اتهمتيني فسلي المسلمين يخبروك

بذلك. وقال لها: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركناه صدقة» ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان ينفق عليه، وقوله صدقة هو بالرفع كما هو الرواية: أي الذي تركناه فهو صدقة، وقد منع بذلك عائشة وبقية أزواجه صلى الله عليه وسلم لما جئن إليه يطلبن ثمنهن. وزعمت الرافضة أن الصديق رضي الله تعالى عنه كان ظالما لفاطمة رضي الله عنها بمنعه إياها من مخلف والدها، وأنه لا دليل له في هذا الخبر الذي رواه، لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث. ورد بأنه إنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنده قطعي فساوى آية المواريث من قطيعة المتن، وكان مخصصا لآية المواريث. وذكر عن الرافضة أنهم زعموا أن صدقة بالنصب وأن ما نافية. ويرده صدر الحديث: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» وأما رواية: «نحن معاشر الأنبياء» فلم تجىء في كتاب من كتب الحديث كما قاله غير واحد، ومن رواه بذلك بالمعنى لأن نحن وإنا مفادهما واحد ولا يعارض ذلك قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النّمل: الآية 16] وقوله تعالى حكاية عن زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ [مريم: الآية 5] إذ المراد وراثة العلم والحكمة. وفي لفظ أنها رضي الله تعالى عنها قالت له: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي، فقالت فما لي لا أرث أبي. فقال لها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث فغضبت رضي الله تعالى عنها من أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهجرته إلى أن ماتت، أي فإنها عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر على ما تقدم. ومعنى هجرانها لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أنها لم تطلب منه حاجة ولم تضطر إلى لقائه، إذ لم ينقل أنها رضي الله تعالى عنها لقيته ولم تسلم عليه، ولا كلمته. وروى ابن سعد أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه جاء إلى بيت علي لما مرضت فاطمة فاستأذن عليها، فقال علي كرم الله وجهه: هذا أبو بكر على الباب يستأذن، فإن شئت أن تأذني له فأذني، قالت: وذاك أحب إليك؟ قال نعم، فأذنت له رضي الله تعالى عنه، فدخل واعتذر إليها فرضيت عنه، وأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه صلى عليها. وقال الواقدي: وثبت عندنا أن عليا كرم الله وجهه دفنها رضي الله تعالى عنها ليلا، وصلى عليها ومعه العباس والفضل رضي الله تعالى عنهم ولم يعلموا بها أحدا. قال بعضهم: وكأنها تأولت قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث» وحملت ذلك على الأموال. أي الدراهم والدنانير كما جاء في بعض الروايات: «لا تقسم ورثتي دينارا ولا درهما» بخلاف الأراضي، ولعل طلب إرثها من فدك كان منها بعد أن ادعت رضي الله تعالى

عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فدكا. وقال لها: هل لك بينة فشهد لها علي كرم الله وجهه وأم أيمن، فقال لها رضي الله عنه أبرجل وامرأة تستحقيها. واعترض عليه الرافضة بأن فاطمة معصومة بنص إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: الآية 33] وخبر «فاطمة بضعة مني» فدعواها صادقة لعصمتها. وأيضا شهد لها بذلك الحسن والحسين وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهم. ورد عليهم بأن من جملة أهل البيت أزواجه صلى الله عليه وسلم ولسن بمعصومات اتفاقا فكذلك بقية أهل البيت. وأما كونها بضعة منه فمجاز قطعا، وإنها كبضعة فيما يرجع للخير والشفقة. وأما زعم أنه شهد لها الحسن والحسين وأم كلثوم فباطل لم ينقل عن أحد ممن يعتمد عليه، على أن شهادة الفرع للأصل غير مقبولة. وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله أنه رضي الله تعالى عنه كتب لها بفدك، ودخل عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: ما هذا. فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها فقال: مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى، ثم أخذ عمر الكتاب فشقه. وقد جاء أن بعد موت فاطمة رضي الله تعالى عنها: أي وذلك بعد ستة أشهر من موته صلى الله عليه وسلم إلا ليالي على ما تقدم، أرسل علي كرم الله وجهه وقد اجتمع علي وبنو هاشم إلى أبي بكر وقالوا: ائتنا ولا يأت معك أحد، كراهة أن يحضر عمر رضي الله تعالى عنه لما علموا من شدته، فخافوا أن ينتصر لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، فيتكلم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لأبي بكر لا والله لا تدخل عليهم وحدك، قال ذلك خوفا عليه أن يغلظوا عليه في المعاتبة، وربما كان ذلك سببا لتغير قلبه فيترتب عليه ما لا ينبغي، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: وما يفعلون بي، والله لآتينهم، أي فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحده، فقال له علي كرم الله وجهه: إنا قد عرفناك لك فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك: أي لا نحسدك عليه، ولكن استبديت علينا بالأمر: أي لم تشاورنا فيه وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لنا نصيبا: أي في المشاورة، ففاضت عينا أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال: والذي نفسي بيدي لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من قرابتي، فقال له علي كرم الله وجهه: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه الظهر، أي وقد حضر عنده علي كرم الله وجهه رقي المنبر بكسر القاف، فتشهد وذكر شأن علي كرم الله وجهه وعذره في تخلفه عن البيعة ثم إن عليا رضي الله تعالى عنه بايعه: أي بعد أن عظم أبا بكر رضي الله تعالى عنه وذكر فضيلته وسابقته، وذكر أنه لم يحمله على

الذي صنع نفاسة حق على أبي بكر، فأقبل الناس على علي كرم الله وجهه وقالوا: أصبت وأحسنت. وقد علمت الجمع بين من قال بايع بعد ثلاثة أيام من موته صلى الله عليه وسلم ومن قال: لم يبايع إلا بعد موت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر، وهو أنه بايع أولا ثم انقطع عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع، ثم بايعه مبايعة أخرى، فتوهم من ذلك بعض من لا يعرف باطن الأمر أن تخلفه إنما هو لعدم رضاه ببيعته فأطلق ذلك من أطلقه. ومن ثم أظهر علي كرم الله وجهه مبايعته لأبي بكر ثانيا بعد ثبوتها على المنبر لإزالة هذه الشبهة. وبهذا يعلم ما وقع في صحيح مسلم عن أبي سعيد من تأخر بيعة علي هو وغيره من بني هاشم إلى موت فاطمة، ومن ثم حكم بعضهم عليه الضعف. ومما يؤيد الضعف ما جاء أن عليا وأبا بكر رضي الله عنهما جاآ لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بستة أيام، فقال علي كرم الله وجهه: تقدم يا خليفة رسول الله، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم رجلا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «عليّ مني بمنزلتي من ربي» وصلاة أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالناس لم تختص بالمرض، فقد جاء أنه وقع قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم، فقال: يا بلال إن حضرت الصلاة ولم آت مر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أقام الصلاة، ثم أمر أبا بكر فصلى كما تقدم. وفي شرح مسلم الإمام النووي رحمه الله: وتأخر علي كرم الله وجهه أي ومن تأخر معه عن البيعة لأبي بكر ليس قادحا فيها، لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل أهل العقد والحل، بل مبايعة من تيسر منهم وتأخره كان للعذر أي الذي تقدم، وكان عذر أبي بكر وعمر وبقية الصحابة واضحا لأنهم رأوا أن المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، لأن تأخرها ربما لزم عليه اختلاف، فينشأ عنه مفاسد كثيرة كما أفصح به أبو بكر رضي الله تعالى عنه فيما تقدم. وجاء كما تقدم أنه قيل لعلي كرم الله وجهه: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة؟ فحدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت، فقال: لا والله لئن كنت أول من صدق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك، ولو لم أجد إلا بردتي هذه، وما تركت أخا بني تيم وعمر بن الخطاب ينوبان على منبره صلى الله عليه وسلم، ولقاتلتهما بيدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمت فجأة بل مكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اخترنا لدنيانا من

رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعناه وكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه من اثنان، فلما قبض تولاها عمر رضي الله تعالى عنه بمبايعته، وأقام فيها لم يختلف عليه منا اثنان، وأعطيت ميثاقي لعثمان رضي الله تعالى عنه، فلما مضوا بايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين: أي الكوفة والبصرة، فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابتي ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه، يعني معاوية فهو رأي رأيته وفي لفظ لكن شيء رأيناه من قبل أنفسنا، فهذا تصريح منه كرم الله وجهه بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامته. وأما قوله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم عند مرجعه من حجة الوداع بعد أن جمع الصحابة وكرر عليهم: «ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثا» وهم يجيبونه بالتصديق والاعتراف ثم رفع يد علي كرم الله وجهه وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» الحديث فتقدم الكلام عليه وأن ذلك لا يدل على الخلافة. وإنما قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: إن بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي من غير استعداد ولا مشورة كما تقدم، ردا على من بلغه عنه أنه قال إذا مات عمر بايعت فلانا، والله ما كانت بيعة أبي بكر بمشورة، فالبيعة لا تتوقف على ذلك فغضب فلما رجع من آخر حجة حجها المدينة قال على المنبر: قد بلغني أن فلانا قال والله لو مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا، إن بيعة أبي بكر كانت فلتة من غير مشورة، فلا يغترن امرؤ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فنعم، وأنها كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنه لا بيعة له ولا الذي بايعه. ولما ثقل المرض على الصديق رضي الله تعالى عنه دعا عبد الرحمن فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: أنت أعلم به مني، فقال الصديق وإن فقال، عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به، ثم دعا عليا كرم الله وجهه وقال له مثل ذلك، ثم قال علي كرم الله وجهه: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، ودعا جمعا من الأنصار فيهم أسيد بن حضير وسألهم، فقال: اللهم أعلمه يرضى للرضا ويسخط للسخط الذي يسر خير الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، فعند ذلك دعا عثمان رضي الله تعالى عنه، فقال: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يؤمن ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فإن

عدل فذلك ظني فيه وعلمي به، وإن بدل فلكل امرىء ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: الآية 227] والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ثم أمر بالكتاب فختم، ثم دعا عمر خاليا فأوصاه بالمسلمين، وقبل أن يظهر الصديق رضي الله عنه هذا الأمر، اطلع على الناس من كوّة وقال: أيها الناس إني قد عهدت عهدا أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام عليّ كرم الله وجهه فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر قال: فإنه عمر وكانت صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم كصلاتهم على غيره: أي بتكبيرات أربع لا مجرد الدعاء من غير تكبيرات اه، وهو يخالف ما تقدم المفيد أن صلاتهم إنما كانت مجرد الدعاء لا الصلاة المعهودة. وقد يقال: لا مخالفة، وإنما نصوا على الدعاء لكونه مخالفا للدعاء المعروف في صلاة الجنازة على غيره صلى الله عليه وسلم. وفي شرح مسلم عن القاضي عياض: واختلف هل صلى عليه صلى الله عليه وسلم: فقيل: لم يصل عليه أحد أصلا، وإنما كان الناس يدخلون أرسالا يدعون ويتضرعون. والصحيح الذي عليه الجمهور أنهم صلوا عليه أفرادا، فكان يدخل عليه فوج يصلون فرادى ثم يخرجون، ثم يدخل فوج آخر فيصلون كذلك. وعن ابن الماجشون: صلي عليه صلى الله عليه وسلم اثنان وسبعون صلاة كحمزة رضي الله عنه قيل له: من أين لك هذا؟ قال: من الصندوق الذي تركه مالك رحمه الله تعالى بخطه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، فصلى عليه الرجال الأحرار أولا ثم النساء الأحرار ثم الصبيان ثم العبيد ثم الإماء. واختلفوا في الموضع الذي يدفن فيه، فمن قائل يدفن في البقيع، ومن قائل ينقل ويدفن عند إبراهيم الخليل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ادفنوه في الموضع الذي قبض فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب. أي وفي رواية أنه رضي الله عنه قال: إن عندي في هذا خبرا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدفن نبي إلا حيث قبض» . وفي لفظ: «لا يقبض الله روح نبي إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه» . وعن أبي بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه» قال بعضهم: ولا شك أن أحبها: أي الأمكنة إليه أحبها إلى ربه تعالى، فإن حبه صلى الله عليه وسلم تابع لحب ربه جل وعلا. وفي الحديث: «ما مات نبي إلا دفن حيث قبض» فحول فراشه وحفر له ودفن في ذلك الموضع الذي توفاه الله فيه. واختلفوا هل يجعل له صلى الله عليه وسلم لحد أو يجعل له شق، وكان في المدينة شخصان،

أحدهما يصنع اللحد، والآخر يصنع الشق والأول هو أبو طلحة زيد بن سهل والثاني أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. وفي لفظ كان أبو عبيدة يحفر حينئذ لأهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل يحفر لأهل المدينة فكان يلحد، فقال عمر رضي الله عنه: ترسلوا لهما، وكل من حضر منهما نزلناه، فأرسلوا خلفهما رجلين، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم خر لرسولك، وقيل المرسل والقائل ما ذكر العباس رضي الله، فسبق أبو طلحة رضي الله عنه فصنع له صلى الله عليه وسلم لحدا وأطبق عليه بتسع لبنات ثم أهيل التراب. وقد جاء في الحديث «ألحدوا ولا تشقوا، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا» وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال في مرض موته: ألحدوا لي لحدا، وانصبوا عليّ اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلّ صلى الله عليه وسلم من قبل رأسه كما رواه البيهقي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي وضع سريره صلى الله عليه وسلم عند مؤخر القبر، فكان رأسه الشريف عند المحل الذي يكون فيه رجلاه فلما أدخل القبر سلّ من قبل رأسه، ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران. واقتصر ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما على الثلاثة الأول، وفرش شقران في اللحد تحته صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء. وفي رواية بيضاء كان يجعلها على رحله، إذا سافر، لأن الأرض كانت ندبة وقال والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل أخرجت: أي عملا بوصيته صلى الله عليه وسلم، فقد روى البيهقي عن أبي موسى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أوصى أن لا تتبعوني بصارخة ولا مجمرة، ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئا، لكن في رواية الجامع الصغير: «افرشوا لي قيطفي في لحدي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» . وكان دفنه صلى الله عليه وسلم ليلة الأربعاء. وعن أم سلمة رضي الله عنها «كنا مجتمعين نبكي تلك الليلة لم ننم فسمعنا صوت المساحي، فصحنا وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة صيحة واحدة، فأذن بلال بالفجر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى وانتحب فزادنا حزنا، فيا لها من مصيبة ما أصابنا بعدها من مصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به صلى الله عليه وسلم. وعن فاطمة رضي الله عنها: لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لأنس: يا أنس كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ وفي لفظ: أطابت نفوسكم أن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التراب ورجعتم. وفي رواية أنها قالت لعلي كرم الله وجهه: يا أبا الحسن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، قالت: كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب عليه؟ كان نبي الرحمة، قال: نعم، ولكن لا رادّ لأمر الله. وقد جاء أن الإنسان

يدفن في التربة التي خلق منها، وهو يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما خلقوا من تربة واحدة لأنهم دفنوا ثلاثتهم في تربة واحدة. فقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال لمن حضره: إذا أنا مت وفرغتم من جهازي فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقفوا بالباب، وقولوا: السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فإن أذن لكم بأن فتح الباب، وكان الباب مغلقا بقفل، فأدخلوني وادفنوني، وإن لم يفتح الباب فأخرجوني إلى البقيع وادفنوني به، فلما وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب، وسمع هاتف من داخل البيت: أدخلوا الحبيب إلى الحبيب، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق. ولما احتضر عمر رضي الله عنه قال لابنه عبد الله رضي الله عنه: يا عبد الله ائت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل لها: إن عمر يقرئك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم بأمير المؤمنين، وقل: يستأذن أن تدفنيه مع صاحبيه، فإن أذنت فادفنوني وأن أبت فردوني إلى مقابر المسلمين، فأتاها عبد الله وهو يبكي، فقال: إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: لقد كنت ادخرت ذلك المكان لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما رجع عبد الله إلى أبيه وأقبل عليه، قال عمر: أقعدوني، ثم قال لعبد الله: ما وراءك، قال: قد أذنت لك، قال: الله أكبر، ما شيء أهم إلي من ذلك المضجع. وقد ذكر أن الحسن رضي الله عنه لما سقي السم ورأى كبده تقطع أرسل إلى عائشة رضي الله عنها أن يدفن عند جده صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلما مات منع من ذلك مروان وبنو أمية، فدفن بالبقيع. ويذكر أنه رضي الله عنه قال لأخيه الحسين رضي الله عنه قال: كنت بلغت إلى عائشة إذا مت أن تأذن لي أن أدفن في بيتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: نعم ولا أدري لعلها كان ذلك منها حياء، فإذا أنا مت فاطلب ذلك منها، فإن طابت نفسها فادفني في بيتها وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا فلا تراجعهم في ذلك، وادفني في بقيع الغرقد، فإن لي فيمن فيه أسوة، فلما مات الحسن رضي الله عنه جاء الحسين رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها فطلب منها ذلك، فقالت: نعم وكرامة فبلغ ذلك مروان، فقال: كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه هناك ويريدون دفن حسن، فبلغ ذلك الحسين رضي الله عنه، فلبس الحديد هو ومن معه، وكذلك مروان لبس الحديد هو ومن معه، فبلغ ذلك أبا هريرة رضي الله عنه، فانطلق إلى الحسين وناشده الله وقال له: أليس أخوك قد قال لك ما قال: فلم يزل به حتى رضي بدفنه بالبقيع فدفن بجانب أمه رضي الله عنها، ولم يشهد جنازته أحد من بني أمية إلا سعيد بن العاص. لأنه

كان أميرا على المدينة، قدمه الحسين فصلى عليه إماما وقال هي السنة. قال ابن كثير رحمه الله: والذي نص عليه وغير واحد من الأئمة سلفا وخلفا أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين قبل أن ينتصف النهار، ودفن يوم الثلاثاء قبل وقت الضحى، والقول إنه مكث ثلاثة أيام لا يدفن غريب، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم مكث بقية يوم الاثنين وليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء وبعض ليلة الأربعاء. وكان السبب في تأخره صلى الله عليه وسلم ما علمت من اشتغالهم ببيعة أبي بكر رضي الله عنه حتى تمت، وقيل لعدم اتفاقهم على موته صلى الله عليه وسلم، وكان آخر من طلع من قبره الشريف قثم بن العباس رضي الله عنهما، وقيل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لأنه ألقى خاتمه في القبر الشريف وقال لعلي: يا أبا الحسن خاتمي، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكون آخر الناس عهدا به قال: انزل فخذه، وقيل ألقى الفأس في القبر وقال: الفأس الفأس فنزل وأخذها، ويقال إن عليا كرم الله وجهه لما قال له المغيرة ذلك نزل وناوله الخاتم أي أو الفأس، أو أمر من نزل وناوله ذلك وقال له: إنما فعلت ذلك لتقول أنا آخر الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا، واعترض بأن المغيرة رضي الله عنه لم يكن حاضرا للدفن. وقد روي أن جماعة من العراق قدموا على عليّ كرم الله وجهه فقالوا: يا أبا الحسن جئناك لنسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه، فقال لهم: أظن أن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أجل، عن هذا جئنا نسألك قال: كان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العباس رضي الله عنهما. وقام الإجماع على أن هذا الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة الشريفة، قال بعضهم: وأفضل من بقاع السماء أيضا حتى من العرش. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ما نفضنا الأيدي من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا، قال بعضهم: وأظلمت الدنيا حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرط لأمتي لن يصابوا بمثلي» وفي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بأمة خيرا قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها» فيا له من خطب جل عن الخطوب، ومصاب علم دمع العيون كيف يصوب، وطارق هجم هجوم الليل، وحادث هد كل القوى والحيل، ولشدة أسف حماره صلى الله عليه وسلم الذي كان يركبه ألقى نفسه في حفيرة فمات كما تقدم، وتركت ناقته صلى الله عليه وسلم الأكل والشرب حتى ماتت، وأنشد الحافظ الدمياطي عن غيره:

باب بيان ما وقع من الحوادث من عام ولادته صلى الله عليه وسلم إلى زمان وفاته صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال وبيان زمن ولادته عاما ويوما وشهرا ومكانا

ألا يا ضريحا ضم نفسا زكية ... عليك سلام الله في القرب والبعد عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وما ناح قمري على البان والرند وما سجعت ورق وغنت حمامة ... وما اشتاق ذو وجد إلى ساكني نجد وما لي سوى حبي لكم آل أحمد ... أمرغ من شوقي على بابكم خدي باب بيان ما وقع من الحوادث من عام ولادته صلى الله عليه وسلم إلى زمان وفاته صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال وبيان زمن ولادته عاما ويوما وشهرا ومكانا اعلم أن الأكثر على أنه صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وحكى بعضهم الإجماع عليه. قال: وكل قول خالفه فهو وهم. وقيل بعد الفيل بخمسين يوما، وقيل بزيادة خمسة أيام، وقيل بشهر، وقيل بأربعين يوما، وقيل بشهرين وعشرة أيام، وقيل بعشرين سنة، وقيل بعشر سنين، وقيل بخمس عشرة سنة. وكانت ولادته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في شهر ربيع الأول لعشر خلون منه وقيل لليلتين، وقيل لثمان خلت، واختاره الحميدي تبعا لشيخه ابن حزم. وحكى القضاعي رحمه الله عن «عيون المعارف» إجماع أهل التاريخ عليه. وقيل لاثنتي عشرة ليلة وهو المشهور، وقيل لسبع عشرة، وقيل لثمان بقين منه، وذلك في النهار عند طلوع الفجر، وقيل ولد ليلا وعليه عمل أهل مكة في زيارة موضع مولده الشريف صلى الله عليه وسلم وكونه في شهر ربيع الأول هو قول الجمهور من العلماء، وحكى ابن الجوزي رحمه الله الاتفاق عليه. وقيل في صفر، وقيل في ربيع الآخر وقيل في رجب، وقيل في شهر رمضان. واختلف في مكان ولادته صلى الله عليه وسلم، فقيل بمكة وعليه قيل بالدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل بالشعب شعب بني هاشم وذلك المحل يزار الآن، وقيل بالردم، وقيل ولد صلى الله عليه وسلم بعسفان. وفي السنة الثالثة من مولده صلى الله عليه وسلم شق صدره الشريف عند ظئره حليمة رضي الله تعالى عنها، وقيل كان في الرابعة، وفيها ولد أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بمنى. وفي السنة السادسة من مولده صلى الله عليه وسلم كانت وفاة أمه آمنة ودفنت بالأبواء، وقيل

بشعب أبي ذئب بالحجون محل مقابر أهل مكة، وقيل في دار رائعة بالمعلاة، وفيها ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه. وفي السنة السابعة من مولده صلى الله عليه وسلم استقل بكفالته جده عبد المطلب، وفيها أصابه صلى الله عليه وسلم رمد شديد، وفيها استسقى عبد المطلب وهو صلى الله عليه وسلم معه بسبب رؤيا دقيقة، وفيها خرج عبد المطلب لتهنئة سيف بن ذي يزن الحميري بالملك. وفي السنة الثامنة من مولده صلى الله عليه وسلم كانت وفاة جده عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب صلى الله عليه وسلم. وفي هذه السنة مات حاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الجود والكرم، ومات كسرى أنو شروان. وفي السنة التاسعة من مولده صلى الله عليه وسلم قيل سافر به عمه أبو طالب إلى بصرى من أرض الشام، وهي مدينة هوازن. وفي السنة العاشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كانت حرب الفجار الأولى. وفي السنة العاشرة وقيل الحادية عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كان شق صدره الشريف. وفي السنة الثانية عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كان حرب الفجار الثانية. وكان سفر عمه أبي طالب به صلى الله عليه وسلم إلى بصرى من أرض الشام على ما عليه الأكثر. وفي السنة الثالثة عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفي السنة الرابعة عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كانت حرب الفجار الثالثة، وقيل كان عمره صلى الله عليه وسلم عشرين سنة. وفي السنة السابعة عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم كان سفر عمه الزبير بن عبد المطلب والعباس ابني عبد المطلب لليمن للتجارة، وصحبهما النبي صلى الله عليه وسلم. وفي السنة الخامسة والعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم كان سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها. وتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة. وفي سنة ثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم ولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الكعبة. وفي سنة أربع وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم ولد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه. وفي سنة خمس وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم هدمت قريش الكعبة وبنتها. وفي سنة سبع وثلاثين رأى صلى الله عليه وسلم الضوء والنور، وكان صلى الله عليه وسلم يسمع الأصوات. وفي السنة الأولى من النبوة كان نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد أن مكث

صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يوحى إليه في المنام. وفي السنة الثالثة من النبوة قيل توفي ورقة بن نوفل. وفي السنة الرابعة من النبوة كان إظهار الدعوة. وفي السنة الخامسة من النبوة ولدت عائشة رضي الله عنها. وقيل ولدت في الرابعة. وفي السنة الخامسة أيضا كانت الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة. وفيها ماتت سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم، وهي أول شهيدة في الإسلام. وفي السنة السادسة من النبوة أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقيل أسلما رضي الله عنهما في سنة خمس، وكان إسلام حمزة رضي الله عنه قبل إسلام عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام. وفي السنة السابعة من النبوة تقاسمت قريش وتعاهدت على معاداة بني هاشم وبني المطلب وقيل كان ذلك في السادسة، وقيل في الخامسة، وقيل في الثامنة وذلك في خيف بني كنانة بالأبطح ويسمى محصبا، وهو بأعلى مكة شرفها الله عند المقابر. وفي السنة التاسعة من النبوة كان انشقاق القمر له صلى الله عليه وسلم. وفي السنة العاشرة من النبوة مات أبو طالب وماتت خديجة رضي الله عنها. وكان صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك العام عام الحزن. وفيها جاءه صلى الله عليه وسلم جن يصيبين وأسلموا. وفيها تزوج صلى الله عليه وسلم سودة رضي الله عنها بنت زمعة ودخل عليها في مكة. وفيها عقد صلى الله عليه وسلم عقده على عائشة رضي الله عنها، ولم يدخل صلى الله عليه وسلم عليها إلا في المدينة. وفي السنة الحادية عشرة من النبوة كان ابتداء إسلام الأنصار رضي الله عنهم. وفي السنة الثانية عشرة من النبوة كان الإسراء والمعراج. وفيها وقعت بيعة العقبة الأولى. وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة كانت بيعة العقبة الثانية التي هي الكبرى، وبعضهم يسميها العقبة الثالثة، ويسمى إسلام الأنصار عقبة مع أنه لا مبايعة فيه. وفي هذه السنة أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يهاجر للحبشة، فلما بلغ برك الغماد رده ربيعة بن الدغنة سيد القارة. وفي السنة الرابعة عشرة من النبوة وهي السنة الأولى من الهجرة إلى المدينة، فكانت الهجرة فيها في صفر أو في غرة ربيع الأول. وفيها كان بناء المسجد ومساكنه صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، قيل وكان ابتداء خدمة أنس رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم. فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صارت

الأنصار يبعثون إليه صلى الله عليه وسلم بالهدايا رجالهم ونساؤهم، وكانت أم أنس رضي الله عنهما لا شيء لها تهديه له صلى الله عليه وسلم فكانت تتأسف، فأخذت يوما بيد أنس رضي الله عنه وقالت: يا رسول الله هذا يخدمك. وجاء أن زوجها أبا طلحة رضي الله عنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك. وجمع بأن أمه جاءت به أولا ثم جاء به أبو طلحة ثانيا لأنه وليه وعصبته، قال في «الخميس» وهذا غير مجيئه به لخدمته صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر. وفيها كما في الأصل، وقيل في السنة الثانية زيد في صلاة الحضر ركعتان وتركت صلاة الفجر وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر، وتركت على الفريضة الأولى كذا قيل. وفي هذه السنة مات من مشركي مكة الوليد بن المغيرة. ولما احتضر جزع، فقال أبو جهل لعنة الله: يا عم ما جزعك؟ فقال: والله ما بي من جزع من الموت ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، فقال أبو سفيان رضي الله عنه: لا تخف، إني ضامن أن لا يظهر. وفيها مات العاص بن وائل. وفيها مات أسعد بن زرارة رضي الله عنه وفيها ابتدئت الغزوات، فكان فيها غزوة الأبواء وغزوة ودان كما في الأصل. وفي هذه السنة بنى صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، وفيها شرع الأذان، وفيها صلى الله عليه وسلم الجمعة في طريقه حيث ارتحل صلى الله عليه وسلم من قباء إلى المدينة، وهي أوّل جمعة صلاها، وأول خطبة خطبها في الإسلام. وفيها أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه. وكان فيها بعث عمه حمزة رضي الله عنه يعترض عيرا لقريش، وبعث ابن عمه عبيدة بن الحارث رضي الله عنه إلى بطن رابغ. وبعث سعد بن أبي وقاص رضي الله إلى الخرار يعترض عيرا لقريش. وفي السنة الخامسة عشرة من النبوة والثانية من الهجرة تزوّج عليا كرم الله وجهه بفاطمة رضي الله عنها وتكنيته بأبي تراب، وغزوة بواط وغزوة العشيرة، وسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى بطن نخلة، وتحويل القبلة، وتجديد بناء مسجد قباء، وفرض رمضان وغزوة بدر الكبرى، ووفاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وقتل عصماء وفرض زكاة الفطر، وشروع صلاة عيده. وفرض زكاة الأموال، وغزوة قرقرة الكدر. وسرية سالم بن عمير رضي الله عنه. وغزوة بني قينقاع. وغزوة السويق، وموت عثمان بن مظعون رضي الله عنه، والتضحية وصلاة عيدها. وفي السنة السادسة عشرة من النبوّة والثالثة من الهجرة سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه لقتل كعب بن الأشرف لعنه الله. وتزوّج عثمان رضي الله عنه أم كلثوم رضي الله عنها، وغزوة غطفان وغزوة بحران، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى قردة. وتزوّج حفصة رضي الله عنها، وتزوّج زينب بنت خزيمة رضي الله عنها،

وولادة الحسن، وغزوة أحد، وغزوة حمراء والأسد، وعلوق فاطمة بالحسين رضي الله عنهما. وفي السنة السابعة عشرة من النبوّة والرابعة من الهجرة سرية أبي سلمة رضي الله عنه إلى قطن. ووفاته. وسرية عبد الله بن أنيس رضي الله عنه إلى عرنة لقتل سنان بن خالد. وسرية القراء رضي الله عنهم إلى بئر معونة. وقصة الرجيع. وسرية عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى مكة لقتل أبي سفيان رضي الله عنه، وغزوة بني النضير، ووفاة زينب بنت خزيمة، وغزوة ذات الرقاع، وصلاة الخوف، وولادة الحسين رضي الله عنه، وغزوة بدر الصغرى، وتزوّج أم سلمة رضي الله عنها، وتحريم الخمر عند بعضهم. وفي السنة الثامنة عشرة من النبوة والخامسة من الهجرة غزوة دومة الجندل، وغزوة المريسيع، ونزول آية التيمم، وتزوّج جويرية رضي الله عنها، وقصة الإفك، وغزوة الخندق، وغزوة بني قريظة، وقصة أولاد جابر رضي الله عنهم، وتزوّج زينب بنت جحش رضي الله عنها، ونزول آية الحجاب، وفرض الحج. وفي السنة التاسعة عشرة من النبوّة والسادسة من الهجرة سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى القرطاء، وقصة ثمامة، وغزوة بني الحيان وغزوة الغابة، وسرية عكاشة رضي الله عنه إلى الغمر، وسرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى ذي القصة، وسرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى مصارع أصحاب محمد بن مسلمة رضي الله عنهم، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى بني سليم بالجموم، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى العيص، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى الطرف، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما الى وادي القرى، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى أم قرفة، وسرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع، وسرية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى أسير ابن رزام اليهودي بخيبر، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى حسمى، وغزوة الحديبية، ونزول حكم الظهار، وتخريم الخمر، وتزوّجه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة رضي الله عنها. وفي السنة العشرين من النبوة والسابعة من الهجرة، كان اتخاذ الخاتم، وإرسال الرسل إلى الملوك، ووقوع السحر به صلى الله عليه وسلم، وغزوة خيبر، وفتح وادي القرى، والدخول بأم حبيبة رضي الله عنها، وسرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى طائفة من هوازن، وعمرة القضاء، وتزوّج ميمونة رضي الله عنها، وسرية ابن أبي العوجاء رضي الله عنه إلى بني سليم. وفي السنة الحادية والعشرين من النبوّة والثامنة من الهجرة، كان إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه وعثمان بن طلحة رضي الله

عنه، وسرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله عنه إلى بني الملوح، وسريته إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله عنه بفدك، واتخاذ المنبر الشريف، وسرية شجاع بن وهب رضي الله عنه إلى بني عامر، وسرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح، وسرية مؤتة، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل؛ وسرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى سيف البحر، وسرية أبي قتادة رضي الله عنه إلى بطن أضم، وسرية عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه إلى الغابة، وغزوة فتح مكة شرفها الله تعالى، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى العزى بنخلة، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع صنم هذيل، وسرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة صنم للأوس، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جزيمة، وغزوة حنين، وسرية أبي عامر رضي الله عنه إلى أوطاس، وسرية أبي الطفيل إلى ذي الكفين، وغزوة الطائف، وولادة ولده إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقدوم أول الوفود عليه صلى الله عليه وسلم وهو وفد هوازن، ووفاة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها. وفي السنة الثانية والعشرين من النبوّة وهي التاسعة من الهجرة، بعث عيينة بن حصن الفزاري إلى تميم، وبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق، وسرية قطبة بن عامر رضي الله عنه إلى خثعم، وسرية الضحاك الكلابي رضي الله عنه إلى بني كلاب، وسرية علقمة بن محرز رضي الله عنه إلى أهل الحبشة، وبعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى الفلس، وبعث عكاشة بن محصن رضي الله عنه إلى الجباب، وإسلام كعب بن زهير، وهجرة صلى الله عليه وسلم لنسائه، وغزوة تبوك، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه من تبوك إلى أكيدر، وإرسال كتابه من تبوك إلى هرقل، وهدم مسجد الضرار، وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم، وقصة اللعان، وإسلام ثقيف، ورجم الغامدية، ووفاة النجاشي، ووفاة أم كلثوم رضي الله عنها، وموت عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وحج أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفي السنة الثالثة والعشرين من النبوّة وهي العاشرة من الهجرة قدوم عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، وبعث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، وبعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وبعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى اليمن، وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى تخريب ذي الخلصة، وبعث جرير بن عبد الله أيضا رضي الله عنه إلى ذي الكلاع، وبعث أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه إلى أهل نجران، وقصة بديل وتميم الداري، ووفاة ولده إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وخروجه صلى الله عليه وسلم للحج. وفي السنة الرابعة والعشرين من النبوة وهي الحادية عشرة من الهجرة، قدوم

وفد النخع، وسرية أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى أبنى، وقصة الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة، وما وقع في ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم، ومدة مرضه، ووقت مرضه صلى الله عليه وسلم. وموته وغسله وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم، والله أعلم. اللهم أعنا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك. اللهم افتح أقفال قلوبنا بذكرك، وأتمم علينا نعمتك من فضلك، واجعلنا من عبادك الصالحين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا. اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شر نفوسنا. اللهم ارزقنا نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك. اللهم إنا مقصرون في طلب رضاك فأعنا عليه بحولك وقوتك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ [الأعراف: الآية 43] . اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، واختم لنا بخير، وأصلح لنا شأننا كله، وافعل ذلك بإخواننا وأحبابنا وسائر المسلمين، وأستغفر الله من قول بلا عمل، وأستغفره من كل خطأ وزلل، وأسأله علما نافعا، ورزقا واسعا، وقلبا خاشعا، وعملا متقبلا، وشفاء من كل داء، وأن يجعل ذلك حجة لنا ولا يجعله حجة علينا أن جواد كريم رؤوف رحيم لطيف خبير، والحمد لله وحده. اللهم صل على من لا نبيّ بعده عبدك ورسولك سيدنا محمد، الذات المكملة، والرحمة المنزلة من عندك. اللهم احشرنا في زمرته، واجعلنا من خدام سنته آمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

(فهرس محتويات الجزء الثالث من السيرة الحلبية) المسمى إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات غزوة بن لحيان 3 غزوة ذي قرد 4 غزوة الحديبية 12 غزوة خيبر 45 غزوة وادي القرى 86 عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية 89 غزوة مؤتة 95 فتح مكة شرفها الله تعالى 102 غزوة حنين 151 غزوة الطائف 163 غزوة تبوك 183 باب: سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه 213 سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه 214 سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه 215 سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار 216 سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى بطن نخلة 217 سرية عمير بن عدي الخطمي الضرير إلى عصماء 222 سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك 223 سرية عبد الله بن مسلمة رضي الله عنه إلى كعب بن الأشرف الأوسي 223

سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع 227 سرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى القردة 230 سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد 231 سرية الرجيع 233 سرية القراء رضي الله تعالى عنهم إلى بئر معونة 240 سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء 244 سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه إلى الغمر 247 سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه لذي القصة 247 سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه إلى ذي القصة أيضا 248 سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم بالجموح 248 سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى العيص 248 سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى بني ثعلبة 251 سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى جذام 251 سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه لبني فزارة كما في صحيح مسلم بوادي القرى 252 سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل 255 سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى مدين 256 سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بني سعد بن بكر بفدك 257 سرية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه إلى أسير 257 سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريس رضي الله عنهما 258 سرية سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه 260 سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى طائفة من هوازن 261 سرية أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى بني كلاب 261 سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى بني مرة بفدك 262

سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، اسم محل وراء بطن نخل 262 سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى يمن 264 سرية ابن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم 264 سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني الملوّح 265 سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله تعالى عنه أي في بني مرة بفدك 266 سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه إلى بني عامر 267 سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله تعالى عنه 267 سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل 267 سرية الخبط وهو ورق السمر 269 سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان أرض محارب 272 سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله تعالى عنه إلى الغابة 272 سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى بطن أضم 274 سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى العزى 275 سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى سواع 276 سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة 276 سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني جذيمة 276 سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى أوطاس 280 سرية الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حميمة الدوسي ليهدمه 281 سرية عيينة بن حصن الفزاري رضي الله تعالى عنه إلى بني تميم 281 سرية قطبة بن عامر رضي الله تعالى عنه إلى حي من خثعم 286 سرية الضحاك الكلابي رضي الله تعالى عنه 286

سرية علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما 287 سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى هدم الفلس بضم الفاء وسكون اللام «صنم طيىء» والغارة عليهم 288 سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج 289 سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وكان نصرانيا 290 سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى أبنى 291 باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم 298 باب بيان كتبه صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام 337 ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى قيصر 339 ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس على يد عبد الله بن حذافة، أي لأنه كان يتردد عليه كثيرا 345 ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة على يد عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه 347 ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمقوقس ملك القبط 349 ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوي العبدي بالبحرين على يد العلاء بن الحضرمي 353 ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان 354 ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة 356 ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني 357 حجة الوداع 360 باب ذكر عمره صلى الله عليه وسلم 389 باب ذكر نبذ من معجزاته صلى الله عليه وسلم 390 باب نبذة من خصائصه صلى الله عليه وسلم 415 باب ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم 432 باب ذكر أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم 439

باب ذكر أزواجه وسراريه صلى الله عليه وسلم 439 باب ذكر المشاهير من خدمه صلى الله عليه وسلم من الأحرار 455 باب ذكر المشاهير من مواليه صلى الله عليه وسلم الذين أعتقهم 456 باب ذكر المشاهير من كتّابه صلى الله عليه وسلم 457 باب يذكر فيه حراسه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] 458 باب يذكر فيه من ولي السوق في زمنه صلى الله عليه وسلم 459 باب يذكر فيه من كان يضحكه صلى الله عليه وسلم 459 باب يذكر فيه أمناء رسول الله صلى الله عليه وسلم 459 باب يذكر فيه شعراؤه صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش 459 باب يذكر فيه من كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم 460 باب يذكر فيه مؤذنوه صلى الله عليه وسلم 460 باب يذكر فيه العشرة المبشرون الجنة رضي الله تعالى عنهم 460 باب يذكر فيه حواريوه صلى الله عليه وسلم 460 باب يذكر فيه سلاحه صلى الله عليه وسلم 461 باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره صلى الله عليه وسلم 463 باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الظاهرة وإن شاركه فيها غيره 466 باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الباطنة وإن شاركه فيها غيره 471 باب يذكر فيه مدة مرضه، وما وقع فيه، ووفاته صلى الله عليه وسلم التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين 484 باب بيان ما وقع من الحوادث من عام ولادته صلى الله عليه وسلم إلى زمان وفاته صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال وبيان زمن ولادته عاما ويوما وشهرا ومكانا 519

§1/1