السياسة الشرعية - جامعة المدينة
جامعة المدينة العالمية
الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها.
الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها) 1 - مفهوم السياسة الشرعية وشروط إعمال أحكامها مفهوم السياسة الشرعية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد: أبنائي وبناتي طلاب الدراسات العليا بجامعة المدينة العالمية، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذه محاضرات في مادة الساسة الشرعية، وسوف نبدأ بالحديث عن مفهومها، والموضوعات التي تشملها، وأدلة اعتبارها. ونبدأ الآن في بيان مفهوم السياسة الشرعية، والتعريف بالسياسة الشرعية في اللغة: جاء في (المصباح المنير): ساس زيد الأمر يسوسه أي: دبره وقام بأمره. وجاء في (لسان العرب) لابن منظور الأفريقي: السَّوس: الرئاسة، يقال: ساسوهم سوسًًا، وإذا رأسوا الشخص، قيل: سوسوه، وأساسوه. ونقول: ساس الأمر سياسة أي: قام به. ونقول: سوسه القوم أي: جعلوه يسوسهم. ويقال: سوس فلانٌ أمر بني فلانٍ أي: كلف سياستهم. والسياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه. ومن هذا يتضح أن كلمة السياسة تطلق في اللغة بإطلاقاتٍ كثيرة، ومعناها في جميع إطلاقاتها يدور على تدبير الشيء، والتصرف فيه بما يصلحه هذا هو تعريف السياسة الشرعية في اللغة. أما تعريف السياسية الشرعية في اصطلاح الفقهاء، فللفقهاء فيه أقوال: قيل في تعريف السياسة الشرعية: هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئ -أي: دليل تفصيلي من كتابٍ، أو سنة، أو إجماع، أو قياس.
شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية.
وعرفها البعض أيضا بأنها: هي ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي، وهذا التعريف إنما هو موجود في كتاب (السياسة الشرعية مصدر للتقنين) للدكتور عبد الله محمد محمد القاضي، طبعة 1410 - 1989 دار الكتب الجامعية الحديثة بطنطا صـ32. وعرف البعض أيضًًا السياسة الشرعية بأنها: هي ما يراه الإمام، أو يصدره من الأحكام، والقرارات زجرًًا عن فسادٍ واقع، أو وقاية من فسادٍ متوقع، أو علاجًًا لوضعٍ خاص. وهذا التعريف إنما هو للدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (السياسة الشرعية) الطبعة الأولى 1419هـ - 1989م مكتبة وهبة بمصر صـ15، وما بعدها. وأيضًا عرف البعض السياسة الشرعية بأنها: تدبير شئون الدولة الإسلامية التي لم يرد بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغير، وتتبدل بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة، وأصولها العامة، وهذا التعريف إنما هو للدكتور محمود الصاوي في كتابه (نظام الدولة في الإسلام) الطبعة الأولى 1418 - 1998 دار الهداية بمصر صـ39. شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية ونستخلص من هذه التعريفات المختلفة للسياسة الشرعية أن هذا معناه: أن عدم دلالة شيء من النصوص الواردة في الكتاب والسنة على أحكام السياسة الشرعية تفصيلًا لا يضر، ولا يمنع من أن نصفها من بوصف السياسة الشرعية، أما الذي يضر، ويمنع من ذلك أن تكون تلك الأحكام مخالفة مخالفة حقيقيةً لنص من النصوص التفصيلية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، هذه النصوص التفصيلية التي أريد بها تشريع عام للناس في كل زمان، وفي كل مكان.
فمتى سلمت السياسة الشرعية، أو أحكام السياسة الشرعية من هذه المخالفة للنصوص التفصيلية، وكانت متمشية مع روح الشريعة، ومبادئها العامة؛ كانت نظامًًا إسلاميًّا، وسياسة شرعية نأخذ بها، وبأحكامها، ولذلك يقول ابن عقيل الحنبلي، يقول: السياسية ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي -كما قلنا قبل ذلك. ومن أجل ذلك كان من المغالطة، أو الغلط ما يزعم بعض المخالفين من أنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فهذا القول فيه غلط وتغليط، وهو: لا سياسة إلا ما وافق الشرع فيه غلط وتغليط إن أريد به أنه لا يعتبر من الشريعة الإسلامية شيء من الأحكام الجزئية التي يتحقق بها مصلحة، أو تندفع بها مفسدة، إلا إذا نطق به الشرع، ودلت عليه -على اليقين- نصوص من الكتاب، أو السنة، هذا يكون مرفوضًًا. أما إذا كان معنى لا سياسة إلا ما وافق الشرع إذا كان معناها: أنه لا سياسة: أنه الموافقة للشرع أن تكون تلك الأحكام الجزئية متفقة مع روح الشريعة، ومبادئها الكلية، وأن تكون مع ذلك غير مناقضة لنصٍ من نصوصها التفصيلية، التي يراد بها التشريع العام؛ فالقول بأنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع قول صحيح ومستقيم، تؤيده الشريعة نفسها، ويشهد له عمل الصحابة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين، وهذه الأشياء موجودة، أو الكلام الذي تحدثت عنه موجود في كتاب (السياسة الشرعية والفقه الإسلامي) للشيخ عبد الرحمن تاج، الطبعة الأولى 1373هـ - 1953م دار التأليف مصر صـ11. إن خلاصة القول في هذا الشأن أن الحكم الذي تقتضيه حاجة الأمة يكون سياسة شرعية معتبرة إذا توافر فيه أمران:
الأمر الأول: أن يكون متفقًا مع روح الشريعة، معتمدًا على قواعدها الكلية، ومبادئها الأساسية. الأمر الثاني: ألا يناقض مناقضة حقيقية دليلًا من أدلة الشريعة التفصيلية التي نقصد بها الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذه الأدلة التفصيلية هي التي ثبتت شريعة عامة للناس في جميع الأزمان، وفي جميع الأحوال. وعلى ذلك إذا لم يكن هناك دليل تفصيلي من كتابٍ، أو سنة، أو إجماعٍ، أو قياس قد دل على خلاف حكم السياسة، أو كان هناك مخالفة، ولكن تلك المخالفة ظاهرية، وليست حقيقية، أو علم أن ما دل عليه الدليل التفصيلي لم يقصد ليكون شريعة عامة، وإنما كان لحكمة خاصة، وسبب لا وجود له في غير واقعة الحكم؛ عندئذ لا تكون مخالفة حكم السياسة مخالفة لأدلة الشرع وأحكام الإسلام. وبالتطبيق على ما ذكرناه فإنه لا يعد مخالفةً شرعية، وإنما يعتبر من أحكام السياسة الشرعية الأمور التالية: الأمر الأول: ما فعله سيدنا أبو بكرٍ الصديق رضوان الله -تبارك وتعالى- عليه من جمع القرآن في مصحفٍ واحد؛ فسيدنا أبو بكر -رضوان الله تبارك وتعالى- عليه رأى أن المصلحة تكمن في أن يجمع القرآن في مصحفٍ واحد، وفعل ذلك لأن مصلحة الناس، ومصلحة المسلمين تقتضي ذلك، والمصلحة إنما تدخل في باب السياسة الشرعية. وأيضًا الأمر الثاني: ما أنشأه عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من الدواوين، والدواوين: تشبه الآن المكاتب الحكومية التي تدون فيها أسماء الموظفين،
ورواتبهم، وغير ذلك من الأمور التي تتصل بالجهاز الإداري، أنشأه سيدنا عمر بن الخطاب، ولم يكون موجودًًا أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أيام سيدنا أبو بكرٍ الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- ومع ذلك أنشأه؛ لأن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، وهذا يعتبر حكمًًا من أحكام السياسة الشرعية، وكذلك ما فرضه من وظيفة الخراج -وهي الضريبة على رقاب الأرض- هذا أيضًًا فرضه سيدنا عمر بن الخطاب، ولم يكن ذلك موجودًًا أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أيام سيدنا أبي بكر، وإنما أنشأه سيدنا عمر؛ لأن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، ولم ينكر عليه أحد؛ ولذلك كان ذلك من باب السياسة الشرعية. الأمر الثالث: كان تعدد المصاحف في صدر الإسلام أمرًًا عاديًّا، إذ كان من الجائز أن يكتب كل صحابيٍ مصحفًا بالحرف الذي سمعه به من النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما انتفت المصلحة؛ بسبب الاختلاف في القراءة؛ أمر سيدنا عثمان بن عفان بإبقاء مصحفٍ واحد، وحرق باقي المصاحف. لماذا فعل ذلك سيدنا عثمان بن عفان؟ فعل ذلك من أجل مصلحة المسلمين عندما وجد أن هناك بعض الخلافات سوف تنشأ بين المسلمين بسبب هذه القراءات المتعددة؛ ولذلك أراد أن يقضي على هذه الفتنة في مهدها؛ ولذلك أبقى مصحفًا واحدا، وحرق ما عداه. الذي جعله يفعل ذلك إنما هو نوع من السياسة الشرعية -أي: من أجل المحافظة على مصلحة المسلمين. الأمر الآخر: الذي يعتبر نوعًًا من السياسة الشرعية -ولا يعد مخالفة لنصوص الكتاب والسنة- ما فعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من حرمان المؤلفة قلوبهم من سهم الصدقات -وإن كان هذا السهم قد قرر لهم في القرآن الكريم صراحة بقول الله -تبارك تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (التوبة: الآية: 60). نقول: على الرغم من وجود هذا النص الصريح بأنه هناك سهم للمؤلفة قلوبهم؛ فإن سيدنا عمر بن الخطاب لم يأخذ بظاهر اللفظ، ولم يقف عند حرفية النص، بل
راعى سر النص، وحكم روح النص، وقرر أن الآية التي فرضت نصيبًا لهؤلاء المؤلفة لم تفعل ذلك؛ ليتخذ شريعة عامة يعمل بها في كل حالٍ، وزمان، بل إنما كان لحكمة خاصة، وسبب لم يعد قائمًا بعد، وأرشد إلى هذا بقوله: إن الله قد أعز الإسلام وأغنى عنهم - يعني: أغنى الإسلام عن هؤلاء المؤلفة قلوبهم- فعمر -رضي الله عنه- رأى أن سهم المؤلفة قلوبهم قد أوجبه الله تعالى لحاجة المسلمين إلى من يعضدهم، وينصرهم، أو لا يؤلب عليهم القبائل؛ فإذا صار المسلمون في قوة، وعزة، وزال المعنى الذي من أجله وجب ذلك السهم؛ كان للإمام أن يصرفه عن أولئك المؤلفة إلى ما هو أجدى على المسلمين وأنفع. وهذا الكلام موجود في كتاب الشيخ عبد الرحمن تاج في السياسية الشرعية، وليس معنى هذا إبطال سهم المؤلفة رأسًًا، بل إن أمره يدور مع ذلك السبب وجودًا وعدمًا. بمعنى: أن سهم المؤلفة قلوبهم لم يرفع على الإطلاق، ولكن ذلك يتوقف على السبب الذي شرع من أجله؛ لقد شرع من أجل أنه كان بالمسلمين ضعف، وكانوا في حاجة إلى من يتألفونهم؛ حتى يقفوا بجانبهم، ولا يؤلبون القبائل عليهم. لكن إذا أصبح هذا السبب غير موجودٍ، عندما أصبح بالمسلمين قوة؛ ففي هذه الحالة لم يعد السبب موجودا، وبالتالي فلا ينطبق الحكم فالحكم يدور مع علته، وجودًا وعدمًا، حتى إذا تجددت للمسلمين حاجة إلى التأليف -كما كانت الحاجة إلى ذلك أول الأمر- صح للإمام أن يصرف للمؤلفة على حسب ما يرى من المصلحة العامة. جاء في (أحكام القرآن) لابن العربي في تفسير آية الصدقات يقول: اختلف في بقاء المؤلفة قلوبهم، فمنهم من قال: هم زائلون -يعني: لم يعد يأخذون من
الصدقات، وليس لهم سهم- قاله جماعة، وأخذ به مالك -رضي الله عنه- ومنهم من قال: هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام، وقد قطعهم عمر لما رأي إعزاز الدين، والذي عندي -وهذا الكلام لابن العربي- يقول: والذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا - يعني: لا يعطون سهمًًا من الزكاة- وإن احتيج إليهم أعطوا سهم المؤلفة قلوبهم، كما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم. وهذا الكلام منقول من ابن العربي (أحكام القرآن) لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي الطبعة الأولى دار الكتب العلمية بيروت الجزء الثاني صـ530. بل قال البعض: إن إعطاء المؤلفة قلوبهم له موضعه الآن؛ فإن بعض الناس يدخل الإسلام؛ فينقطع عن أهله، وعن قومه، وقد يكون ذا عملٍ؛ فيفصل من عمله؛ فمن حق هؤلاء أن يصرف لهم من الزكاة من سهم المؤلفة قلوبهم؛ تثبيتًا لإيمانهم، ومنعًا لهم من أن يفتنوا في دينهم تلك الفتنة المادية، وهذا الرأي قاله الدكتور عبد الخالق النواوي في كتابه (النظام المالي في الإسلام) الطبعة الأولى 1971م مكتبة الأنجلو المصرية صـ180. أيضًًا من الأمور التي لا تعارض فيها بين النصوص الشرعية -وأخذ فيها بأحكام السياسة الشرعية- أقول: ليس من المخالفة لنصوص الشريعة ما فعله سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ما فعله بضالة الإبل إذ أمر بتعريفها؛ فإن أدركها صاحبها أخذها، وإن لم يدركها؛ بيعت، وحفظ ثمنها. فهو -رضي الله عنه- لم يسر على ما كان عليه العمل من قبل أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأيام أبي بكرٍ، وأيام عثمان، كانت الإبل الضالة تترك مرسلة لا يمسها أحد؛ حتى يعثر عليها صاحبها، وسيدنا عثمان لم يقف عند حرفية النص الذي روي عن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن اللقطة فقال -صلى الله عليه وسلم- ((اعرف عفاصهًا ووكاءها ثم عرفها سنة؛ فإن جاء صاحبها؛ وإلا فشأنك بها)) قال
الرجل: فضالة الغنم يا رسول الله قال -صلى الله عليه وسلم-: ((هي لك، أو لأخيك، أو للذئب)) يعني: إن لم تأخذها أنت؛ كاد أن يأخذها الذئب، معنى ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بأن يأخذها ويعرفها سنة، قال الرجل: فضالة الإبل يا رسول الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ حتى يلقاها ربها)). ففي ضالة الإبل بين النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الرجل أن الإبل لا تؤخذ، ولا تلتقط، بل ينبغي أن تترك في مكانها؛ حتى يأتي إليها صاحبها؛ لأنه لا خوف على الإبل؛ معها الماء، وأيضا الغذاء؛ ولذلك لا نخاف عليها، ومنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- من التقاط الإبل -كما قلنا- سار الأمر على ذلك في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد أبي بكرٍ، وفي عهد عمر -رضوان الله على الجميع- لكن سيدنا عثمان بن عفان لم يقف على حرفية هذا النص، بل خالفه مخالفة ظاهرية؛ لأنه رأي أن الحال قد تبدل، وأن الحديث ورد في عهدٍ ما كان يخشى فيه على ضالة الإبل أن تضيع، وتمتد إليه الأيدي؛ فلما رأى هذه الأيدي قد امتدت إليها؛ نظرًًا لضعف الوازع الديني عند الناس؛ أمر -رضي الله عنه- بجمعها والتقاطها، وبيعها؛ ليحفظ ثمنها لأصحابها، أو ينتفع بهذا الثمن في المصالح العامة للمسلمين -إن لم يظهر لها صاحب. فعثمان -رضي الله عنه- إذا كان قد خالف في الظاهر هذا الحديث؛ فهو في الواقع، وباطن الأمر عامل بهذا الحديث، ومتمسك بروحه من حيث إن ذلك العارض الذي خاف معه على الإبل الضالة قد اختلف به الأمر، ولم تعد الحالة الثانية من جنس الحالة التي ورد فيها الحديث - بمعنى: أنه كانت الإبل لا يخاف عليها في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد سيدنا عمر؛ لأن الناس كانوا يخافون الله -تبارك وتعالى- وكان الوازع الديني متوفرًا. أما وقد بعد الناس عن الدين، وأصبح هناك ضعف في الوازع الديني؛ فرأى سيدنا عثمان بن عفان أن يخالف الحكم الذي كان معمولًا به، والذي، ورد به الحديث، وهذه المخالفة لا تتصادم مع المبادئ العامة في الشريعة
التي جاءت من أجل المحافظة على أموال الناس إذ إن حفظ المال إنما هو من الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع جميعها من أجل المحافظة عليها وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العرض. فسيدنا عثمان بن عفان عندما خرج على أحكام هذا النص، أو على هذا الحكم الذي ورد في الحديث، إنما راعى ذلك مصلحة المسلمين، وهذا ما تقضي به السياسة الشرعية. والخلاصة: أنه لا يصح في تصرفٍ من التصرفات، أو حكمٍ من الأحكام التي تسن لتحقيق مصلحةٍ عامة أنه يقال: أنه مناقض للشريعة؛ بناءً على ما يُرى فيه من مخالفة ظاهرية لدليلٍ من الأدلة، بل يجب تفهم هذه الأدلة، وتعرف روحها، والكشف عن مقاصدها، وأسرار التشريع فيها، والتفرقة بين ما ورد على سببٍ خاص، وما هو من التشريع العام الذي لا يختلف، ولا يتبدل؛ فإن مخالفة النوع الثاني هي الضارة المانعة من دخول أحكام السياسة في محيط شريعة الإسلام. وهكذا تبين لنا من فعل سيدنا عمر، وفعل سيدنا عثمان أنهم خرجوا عن الأحكام المنصوص عليها، لكن هذا خروج ناتج عن فهمهم للنصوص، وناتج عن فهمهم لروح هذه النصوص، وسر التشريع في هذه النصوص؛ ولذلك جاء في باب السياسة الشرعية التي يقصد بها تحقيق مصلحة المسلمين في كل زمان، وفي كل مكان؛ ولذلك لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان. ومما تجب ملاحظته هنا أنه إنما وصفت هذه السياسية بالشرعية؛ لأن اجتهاد الحاكم فيما جد من وقائع، وأحداثٍ، وما يدخل في مجال علم السياسة الشرعية لم يبنى على الهوى والتشهي، وإنما على مبادئ وقواعد معتبرة شرعًًا، وهذه الأشياء ينظر إليها في (السياسة الشرعية للدكتور عبد الله محمد محمد القاضي صـ36، والشيخ عبد الرحمن تاج صـ18، وما بعدها).
موضوعات علم السياسة الشرعية.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في هذا الشأن: إن السياسة الشرعية هي السياسة القائمة على سياسة الشرع، وأحكامه، وتوجيهاته، فليس كل سياسة نحكم عليها بأنها شرعية، فكثيرٌ من السياسات تعادي الشرع، وتمضي في طريقها وفقًًا لتصورات أصحابها وأهوائهم، وهذا و (السياسة الشرعية للدكتور يوسف القرضاوي صـ27) فيه مزيد من التفصيل. موضوعات علم السياسة الشرعية وبعد أن بينا المقصود بالسياسة الشرعية، أو مفهوم السياسة الشرعية نتحدث الآن عن موضوعات علم السياسة الشرعية: إن الموضوعات التي تدخل ضمن السياسة الشرعية تكمن في عدة أمور، أولًا الوقائع المتعلقة بعلاقة الحاكم بالمحكومين من تحديد سلطة الحاكم، وبيان حقوقه، وواجباته، وحقوق الرعية، وواجباتها، والسلطات المختلفة في الدولة من تشريعية، وتنفيذية، وقضائية. هذه الموضوعات التي تتصل بالنظام السياسي في الإسلام هو الذي ينظمها، أو الذي ينظمها هو علم السياسة الشرعية؛ ولذلك نصوص الكتاب، والسنة لم تأتي كثيرة في موضوع التنظيم السياسي للدولة الإسلامية، وإنما وضعت قواعد عامة، ونصوصًا عامة، وتركت بعد ذلك للأمة أن يختاروا القالب الذي يتمشى مع مصالحهم؛ ولذلك بيان علاقة الحاكم بالمحكومين ينبغي أن تخضع للمصالح العامة للدولة الإسلامية، وهذه المصالح العامة إنما ينظمها علم السياسة الشرعية، وكذلك سلطات الحاكم، وحدود هذه السلطات، وحقوق الحاكم على المحكومين، وكذلك حقوق الرعية على الحاكم، والواجبات الملقاة على عاتقه، كل هذه الأمور إنما نظمها علم السياسة الشرعية، وعندما تركها الإسلام لعلم السياسة الشرعية إنما أراد أن يثبت للناس أن الشريعة الإسلامية مرنة، ومتطورة، وهي صالحة للتطبيق لكل زمان،
ومكان؛ فلنا أن نقيم الحكم في الإسلام، لكن الصفة التي يتم بها ذلك، كل ذلك تركه الإسلام. الحقوق والواجبات ينبغي أن تتم وفق مصالح المسلمين، وواقع المسلمين؛ ولذلك كان من فضل الله علينا أن تركت هذه الأمور، وفيها مجال للاجتهاد من أجل تحقق المصلحة العامة، هذه الأمور المتعلقة بعلاقة الحاكم بالمحكومين، وبتحديد سلطة الحاكم، وبيان حقوقه، وواجباته، وحقوق الرعية، وواجباتها، وبيان السلطات المختلفة، ووظيفة كل سلطة من هذه السلطات هو ما تشمله مادة تسمى -في الفقه الإسلامي- نظام الحكم في الإسلام؛ ولذلك مادة نظام الحكم في الإسلام تبحث في هذه الأمور بالتفصيل، ونظام الحكم في الإسلام هي مادة تقابل في النظم الوضعية مادة تسمى: القانون الدستوري، مادة: القانون الدستوري في النظم الوضعية يقابلها في الإسلام مادة: نظام الحكم في الإسلام. أيضًًا من الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية: الوقائع المتعلقة بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدولة الأخرى في حالة السلم، وفي حالة الحرب هذا ما يطلق عليه: النظام الدولي في الإسلام، والنظام الدولي في الإٍسلام المبني على علاقة المسلمين بغيرهم، والتي تبين على أن أساس هذه العلاقة إنما هو يقوم على مبدأ المعاملة بالمثل، وأن الأساس في معاملة الدولة الإسلامية لغيرها من الدول الأخرى إنما هو السلام، وليس الحرب، وأن الدولة الإٍسلامية لا تلجأ إلى الحرب إلا في حالات الضرورة، كما في حالات الدفاع عن نفسها، وغير ذلك، كل ذلك وضح تمامًًا في مادة تدرس، تسمى النظام الدولي في الإسلام، بينت الأساس: أساس علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول الأخرى، وهي أن هذه العلاقة قائمة على السلام، وأيضًا بينت إذا حدث حرب، وكانت هناك ضرورة في دخول المسلمين في حرب؛ فتدخلت السياسية الشرعية في بيان كيف يعامل المسلمين غيرهم في حالة الحرب، كيفية معاملة الأسرى، إلى غير ذلك من الأمور التي تتصل بالأمور الحربية، وكل هذا تنظمه
قواعد السياسة الشرعية، وإنما تنظمه، أو ينظمه علم السياسة الشرعية -كما قلنا- لأن علم السياسة الشرعية قائم على تحقيق المصلحة العامة للأمة الإسلامية. وما دام المراد من ذلك تحقيق المصلحة العامة؛ فينبغي علينا أن ننظر إلى الواقع، وكيف يعاملنا الأعداء، وينبغي علينا أن نعاملهم بمثل ما يعاملوننا به، وهذا تطبيقًا لمبدأ المساواة في العلاقات الدولية، هذا القانون يقابله في وهو النظام الدولي في الإسلام يقابله في القانون الوضعي قانون يسمى: القانون الدولي. فإذن القانون الدولي الموجود في النظم الوضعية يقابله عندنا النظام الدولي في الإسلام، بل إن فقهاء الشريعة أفاضوا كثيرًا في علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول الأخرى، سواء في حالة السلم، أو في حالة الحرب، بل ربما كانت النظم الغربي قد استفادت من هذه الأحكام، وأخذتها في قانونها الدولي. أيضًًا من الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية هو الوقائع المتعلقة بالضرائب وجباية الأموال، بالضرائب من زكاة، ومن خراج، ومن عشورٍ -كما سنرى إن شاء الله- كل ذلك -يعني: نظمته، أو نظمه علم السياسة الشرعية، وأيضًا كذلك موارد الدولة، ومصارفها العامة، ونظام بيت المال- هذا هو الذي يختص به علم السياسة الشرعية، وهذا ما يشمله قانون يدرس يسمى: النظام المالي في الإسلام، فالنظام المالي في الإسلام، أو الموضوعات التي يتناولها قانون، أو النظام المالي في الإسلام، إنما يعتمد في أساسه على السياسة الشرعية لأنه -كما قلنا-: النظام المالي، وكل نظام ينبغي أن يراد منه، أو يكون الهدف منه إنما هو تحقيق مصلحة المسلمين؛ ولذلك يترك لعلم السياسة الشرعية. النظام المالي في الإسلام يقابله بالنظم الوضعية علم المالية العامة، معنى ذلك أن الفقهاء سبقوا -فقهاء المسلمين القدامى- سبقوا فقهاء القانون الدولي في تنظيم هذه الأمور، فإذا كان عندهم علم المالية العامة، نقول لهم: في الشريعة الإسلامية -ومنذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا من الزمان- بين الفقهاء النظامَ المالي في الإسلام بكل دقة.
كذلك من الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية الوقائع المتعلقة بتداول المال، وكيفية تنظيم استثمار هذا المال، وهذا ما يشمله مادة النظام الاقتصادي في الإسلام، بين ذلك الفقهاء، وتحدثوا عن النظام الاقتصاد في الإسلام، وكيفية استثمار هذا المال عن طريق المضاربة الإسلامية، وغير ذلك من الوسائل المختلفة من طريق المزارعة المساقاه، إلى غير ذلك مما هو موجود بكثرة في كتب الفقهاء، والذي يتحدث عن النظام الاقتصادي في الإسلام، هذا النظام الاقتصادي في الإسلام هو ما يقابل مادة تسمى: علم الاقتصاد في النظم الوضعية، فعلم الاقتصاد الموجود في النظم الوضعية سبقه علم النظام الاقتصادي في الإسلام؛ لأن المسلمين أو فقهاء المسلمين أفاضوا في هذا الموضوع -موضوع كيفية استثمار المال- تحدثوا عن المضاربة الإسلامية، وشروط هذه المضاربة، وكيفية الاستثمار الذي يعود على الفرد، وعلى المجتمع بالخير العميم -إن شاء الله. أيضًًا من الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية الوقائع المتعلقة بالنظم القضائية، وطرق القضاء، وبيان، وسائل الإثبات كل ذلك يضمنه، أو يحتويه علم السياسة الشرعية -وكما قلنا- لأن هذه الأمور إنما تخضع لحال المجتمع، وتطور المجتمع، وواقع المجتمع؛ ولذلك دخل في علم السياسة الشرعية نظم القضاء، وطرق القضاء، والقضاء المخصص، وغير المخصص، وأنواع القضاء، وبيان وسائل الإثبات بيان وسائل الإثبات من الإقرار، ومن الشهادة، ومن القسامة في باب القتل، إلى غير ذلك من الوسائل المختلفة التي تضمن حقوق الناس، وليس فيها إضرار بأحدٍ من الناس، هذا النظام القضائي بينه فقهاء المسلمين بيانًًا شافيًا، وكان قائمًا في تنظيمه على علم السياسة الشرعية، هذا النظام القضائي في الإسلام يقابله في النظم الوضعية قانون يسمى قانون المرافعات المدنية والتجارية في النظم الوضعية، هذا -كما قلنا- إذا كان قانون المرافعات المدنية
والتجارية موجود في القوانين الوضعية؛ فقد سبقه فقهاء المسلمين بأزمانٍ كثيرة، وبفترةٍ كثيرة، ونظم في الإسلام تنظيمًا دقيقًا، بل إن القانون الوضعي الذي ينظم هذه المرافعات المدنية والتجارية قد تأثر بتنظيم المسلمين بهذه الوسائل، وهذه الموضوعات الخاصة بموضوع القضاء قد تناولها فقهائنا القدامى على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم ضمن أبواب الفقه العام. لكن وجدنا بعض الفقهاء يتناولونها باستقلال، يعني: الفقهاء في هذه الأمور بينوها في خلال كتب الفقه العام التي تتحدث عن العبادات، وتتحدث عن غيرها، تناولوا القضاء فيها، وطرق الحكم، ووسائل الإثبات، لكن -مع ذلك- وجدنا تخصصًا أكثر في هذا الأمر، ووجدنا من الفقهاء القدامى من اختص، أو من ركز على هذا الموضوع، وألف فيه كتبًًا كثيرة؛ ولذلك وجدنا من الكتب المتخصصة في موضوع القضاء، وتنظيم القضاء، ووسائل الإثبات، منها مثلًا: كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي الشافعي، هذا الكتاب بين فيه الكثير من الأحكام التي تخص، أو تبين التنظيم القضائي في الدولة الإسلامية، بل بين فيه السلطات الثلاث في الدولة الإسلامية: السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية، وكذلك أيضًًا تناول فيه الإدارة في الإسلام، ونظام الإدارة في الإٍسلام بينه بيانًًا شافيًا، وتحدث فيه عن الوزارة؛ وزارة التفويض، ووزارة التنفيذ -كما سنرى- ذلك فيه -إن شاء الله. وكذلك هناك كتاب يسمى (الأحكام السلطانية) لأبي يعلى الحنبلي، أيضًًا تحدث فيه عن القضاء، وتحدث فيه عن السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية باستفاضة، وكذلك كتاب (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) لابن تيمية الحنبلي المعروف، تحدث في هذه السياسة الشرعية عن القواعد العامة التي ينبغي أن تسير عليه أو يسير عليها حكام المسلمين، سواء في حكمهم للناس، أو في توظيفهم للعمال، وبين أن السياسة الشرعية الحكيمة هي التي تراعي مصالح الناس في كل جوانب حياتهم.
وهناك أيضًًا من الكتب التي خصصت في موضوع السياسة الشرعية كتاب (السياسة الشرعية والفقه الإسلامي) للشيخ عبد الرحمن تاج، أفاض فيه أيضًًا في هذا الأمر، وتحدث كثيرًا عن كيفية إدارة الحكومة للسلطات الممنوحة لها في الدولة الإسلامية. وهناك أيضًًا كتاب (الحسبة) لابن تيمية الحنبلي، وهناك أيضًًا كتب تحدثت في الطرق الحكمية، وهو كتاب لابن قيم الجوزية تحدث فيه عن هذه الطرق، وتحدث فيه عن نظام القضاء، وتحدث فيه عن وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي، بينه بيانًًا شافيًا، وهناك أيضًًا كتب تخصصت في النواحي المالية مثل كتاب (الخراج) لأبي يوسف، وهو الضرائب التي توضع على رقاب الأرض، وكذلك أيضًًا كتاب يسمى كتاب (الخراج) ليحيى بن آدم القرشي، وكذلك كتاب يسمى (الأموال) لأبي عبيد بن سلام. كل هذه أمور تتحدث في السياسة الشرعية على وجه العموم، وتتحدث في الموضوعات التي يشملها علم السياسة الشرعية. ونستخلص مما سبق أن السياسة الشرعية غايتها الوصول إلى تدبير شئون الدولة الإسلامية بتنظيمٍ من دينها، والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة، وتقبله رعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان، ومسايرة التطورات الاجتماعية في كل حالٍ، وزمان على وجهٍ يتفق مع المبادئ العامة الإسلامية، وهذا معنى أننا لا يمكن أن نستغني عن السياسة الشرعية، فالسياسة الشرعية إنما تمثل التطور في حياة الأمة الإسلامية، وهي التي تبين بوضوح، وتؤكد بالدليل أن الشريعة الإسلامية صالحة للتطور، وهي صالحة للتطبيق في كل زمانٍ، وفي كل مكان، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها. هذه هي أهم الموضوعات التي تدخل ضمن علم السياسة الشرعية. هذا وبالله التوفيق.
مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام.
2 - أدلة اعتبار السياسة الشرعية مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد: ننتقل إلى موضوع آخر، وهو: أدلة اعتبار السياسة الشرعية - يعني: الأدلة التي تدل على أنه ينبغي أن نأخذ بالسياسة الشرعية، هناك وجوه كثيرة تشهد باعتبار السياسة الشرعية، أو تدل على أنه ينبغي على المسلمين ألا يهملوا السياسة الشرعية، وأنه يجب عليهم أن يأخذوا بأحكامها، وفي مواطنها المختلفة، وهذا الموضوع مشروح بالتفصيل في كتاب (السياسة الشرعية للشيخ عبد الرحمن تاج صـ65)، ومن أولى هذه الوجوه التي تدل على اعتبار السياسة الشرعية، أولًا: إنا عهدنا مع الشرائع السماوية السابقة- أنها كانت تراعي مصالح الأمم، وحاجات كل زمن؛ فكانت تغير في شريعة أحكامًا من شريعة سابقة من أجل تغير الظروف والأحوال، ومن الأمثلة على ذلك: فقد كان محرمًا على بني إسرائيل العمل يوم السبت، وكان محرمًا عليهم بعض شحوم الحيوان بعد أن كان ذلك حلالًا لمن قبلهم، ثم عاد إلى الحل لمن بعدهم، ومعنى ذلك أن هذه الأشياء؛ تحريم العمل يوم السبت، وتحريم بعض شحوم الحيوان، إنما فرضت على أناسٍ بعينهم، ولم تفرض على غيرهم، وربما كان ذلك سببه تغير الظروف، وتغير الأحوال، وهذا إن دل فإنما يدل على الأخذ بالسياسة الشرعية. فكأن الشرائع في حد ذاتها تراعي الأخذ بمبدأ السياسية الشرعية، وهو أن الأحكام تتغير بتغير الزمان تغير الأحكام بتغير الأزمان، كان موجودًًا، أو كان مراعى في الشرائع السابقة، وأيضًا من الأمثلة على ذلك: كان حلالًا -أول عهد الإنسان- أن يتزوج الرجل بأخته، أو عمته، ثم حرم ذلك لما تعدد النسل، وتكاثرت أفراد النوع - يعني: معنى ذلك كان يباح، أولًا للرجل أن يتزوج بأخته، أو عمته، لكن كان ذلك لسبب معين، لم
تكن هناك ذرية لم يكن هناك كثرة من النوع، لكن عندما كثر النوع، وكثر الناس؛ لم يعد هناك حاجة إلى أن يباح للرجل أن يتزوج بأخته، أو عمته. إذن تغير الحكم؛ نظرًًا لتغير الظروف، وتغير العصور والأزمان، وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن تكون الشريعة الإسلامية التي هي ختام الشرائع مسايرة لأحوال الناس - يعني: إذا كان هناك بعض التبدل ببعض الأحكام في الشرائع السابقة؛ فأولى بذلك الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة الإسلامية إنما هي خاتمة الشرائع، وأراد الله لها أن تكون خاتمة الشرائع؛ ولذلك ينبغي أن تكون متطورة مع الحوادث، والمستجدات، أقول: إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للشرائع السابقة؛ وجب أن تكون الشريعة الإسلامية التي هي ختام الشرائع مسايرة لأحوال الناس، محققة لمطالب الحاجات المتجددة، وإنما يفي بذلك قسم السياسية الشرعية، أو علم السياسة الشرعية. إذن نخرج من هذا، أو نخلص من هذا أن علم السياسة الشرعية إنما يعمل، أو يؤكد على أن شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان، ومكان؛ لأنه ما من واقعة، أو حادثة إلا ويجد لها علم السياسة الشرعية حكمًًا مناسبًا له أيضًًا من أدلة اعتبار السياسية الشرعية أنه قد عهد في الشريعة الإسلامية نفسها أنها راعت اختلاف الأحوال فيما شرعته ابتداءً من الأحكام؛ ولذلك شدد في الشهادة ما لم يشدد في الرواية، يعني: في الشهادة تشدد الفقهاء، واشترطوا شروطًا معينة، واشترطوا العدالة في الشاهد إلى غير ذلك، لكنهم لم يشترطوا ذلك في حالة الرواية، أي: في حالة الإخبار. إذن هي راعت الظروف فاشترط في الأولى -وهي الشهادة- ما لم يشترط في الثانية -التي هي الرواية- لماذا؟ نظرًًا إلى ما يكون بين الناس عادة من التنافس - يعني: لماذا اشترط في الأولى، واشترط في الشهادة شروط دقيقة للغاية، وشروط صعبة للغاية، حتى نقبل شهادة الشاهد؟ قلنا:- نظرًًا إلى ما يكون بين الناس عادة من التنافس، والعداوة التي قد تدفع
صاحبها إلى الشهادة، ولو بغير الحق، ولهذا اشترط على الشهادة على الزنا ما لم يشترط على القتل. في الشهادة على الزنا لا بد من أربعة شهود -كما قرر الفقهاء- بناءً على تعاليم القرآن الكريم، أما بالنسبة للشهادة على القتل؛ فيكتفى فيها بشاهدين فقط، سبب ذلك أن الشريعة إنما تراعي ظروف الناس، وتراعي ظروف الناس، وتراعي الأحوال التي فيها الناس، وهذا يشهد باعتبار السياسة الشرعية. أيضًًا من أدلة اعتبار الشريعة، أو اعتبار الأحكام الشرعية، أو السياسة الشرعية أن الشريعة أيضًًا راعت اختلاف الأحوال بما أنشأته من الرخص -يعني: هناك عندنا أحكام رخصة، وأحكام عزيمة- فالشريعة الإسلامية أباحت لبعض الناس رخصة، هذه الرخص في الحقيقة إنما تتعارض مع العزيمة -يعني: مع الحكم الأصلي، الشريعة الإسلامية خففت عن الناس، وأباحت لهم رخصًًا من أجل حاجة الناس، ومن أجل التخفيف عن الناس؛ ولذلك نجد الله -تبارك وتعالى- يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة من الآية: 185) لكن نجد أن الإنسان إذا كان مسافرًا، ففي هذه الحالة نجد أن الشريعة الإسلامية أباحت للمسافر الإفطار في نهار رمضان، فإذا كان الصيام واجبًا عليه إلا أن الشريعة رخصت عنه، وأباحت له أن يفطر، وهو مسافر. p> فالشريعة الإسلامية عندما خففت، وعندما رخصت له في ذلك لماذا؟ فعلت ذلك من أجل المحافظة على هذا المسافر؛ لأن السفر فيه مشقة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((السفر قطعة من العذاب)). فإذن الشريعة الإسلامية بشرعيتها للرخص؛ هذا يدل على أنها راعت مصالح الناس، وراعت التخفيف عليهم، والتخفيف عن الناس، والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم إنما يدخل ضمن علم السياسة الشرعية.
ومن الأدلة أيضًًا التي تدل على اعتبار السياسة الشرعية، وأنه يجب أن نأخذ بها أن حالة الناس في هذه العصور المتأخرة قد تغيرت عما كانت عليه في صدر الإسلام، فقد كثر الفساد، وانتشرت في الأمم أمراض اجتماعية تتطلب من أنواع العلاج ما يصلح لهذه الأمم، ويتناسب مع حالها، واستعدادها؛ ليكون أنجع في إزالة تلك العلل، والأمراض على شريطةِ أن ألا يخالف ذلك أصلًا من أصول الإسلام. ولذلك يقول العلماء -في باب الشهادة-: أنه إذا لم يوجد في بلدٍ إلا غير العدول؛ فإنه يقام أصلحهم، وأقلهم فجورًا للشهادة، ومثل هذا يقال في القضاة وغيرهم؛ حتى لا تضيع المصالح، وتتعطل الحقوق، والأحكام. وهذا معناه: أنه إذا كان الفقهاء قد اشترطوا في الشهادة أن يكون الشهود عدولًا، بل إن بعض الفقهاء لم يكتف بتحقق هذه العدالة الظاهرية، أو الظاهرة، وإنما قال: لا بد من البحث في بواطن الأمور؛ ولذلك وجد نظام يسمى: نظام المزكين عند القاضي، ومهمة هؤلاء المزكين أن يسألهم القاضي عن أحوال هذا الشاهد؛ فهم يبحثون عن البواطن الخاصة بهذا الشاهد؛ فإذا قال المزكون: إنه لا ينفع للشهادة، على الرغم من العدالة الظاهرة؛ ففي هذه الحالة لا تقبل شهادتهم. خلاصة القول: أن الفقهاء كانوا يتشددون في موضوع الشهادة، ويشترطون -وكلهم يشترطون ذلك- أن يكون الشاهد عادلا، وهذا مأخوذ من كتاب الله -تبارك وتعالى- فالله -تبارك وتعالى- يقول: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (البقرة: من الآية: 282). ولذلك قال الفقهاء: لا بد من العدالة في هذا الأمر، لكن مع تطور الأزمان، وبعد الناس عن الوازع الديني، وقلة الوازع الديني عندهم، وهو أننا قد لا نجد
إنسانًًا يشهد، وهو على درجة عالية من العدالة كما طلبها الفقهاء، ونصوا عليها، فما العمل؟ هل تتعطل الحقوق، ولا نقبل شهادة؟ هل أن القاضي لا يأخذ بهذا الدليل للإثبات، وهو الشهادة، وهو الذي يأتي بعد الإقرار، أم ماذا نفعل؟ هل تتعطل الحقوق أم أننا تماشيًا مع الحالات التي، وصل إليها الناس نأخذ بأمرٍ وسط، وهو أننا نقبل شهادة هؤلاء غير العدول، لكننا نختار الأقل فسادًًا، والأقل فجورًا منهم. إن السياسة الشرعية الحكيمة تقول: نأخذ بشاهدة هؤلاء الذين لم يصلوا إلى مرحلة العدالة الكاملة؛ لأنه يجوز في هذه الحالات التي كادت أن تنعدم فيها العدالة أن نأخذ بأقلهم فسقًًا، وأقلهم فجورًا؛ ليشهد عند القاضي، والقاضي يأخذ بهذه الشهادة، ويصدر حكمه بناءً عليها، هذه الأشياء، أو القول بأنه يجوز قبول شهادة غير العدل إنما الذي جعلنا نقول بذلك إنما هو السياسة الشرعية، لكن لو تمشينا مع القواعد العامة، ومع نصوص الفقهاء فلن نقبل شهادة غير العدل، لكن السياسة الشرعية تقول لنا: إن مصلحة الناس أن لا نعطل باب الشهادة، أن لا نعطل هذه الوسيلة المهمة من وسائل الإثبات، وهي الشهادة؛ ولذلك نأخذ بشهادة غير العدل، لكن نختار من هو أقل فسادًًا، ومن هو أقل فجورًا بالنسبة لموضوع الشهادة، هذا الأمر أيضًًا يتقرر بالنسبة للقضاء، فالفقهاء اشترطوا شروطًا كثيرة بالنسبة للقاضي، وعلى رأسها العدالة؛ فالقاضي إذا كان يشترط في الشاهد العدالة؛ فهي من باب أولى مطلوبة، وبأكثر أهمية في القاضي، لكن نصل لو افترضنا أن حال الناس، وصل إلى أننا لا نجد قاضٍ مستجمع للشروط التي اشترطها الفقهاء؛ فالفقهاء -على سبيل المثال- أكثرهم يشترط أن يكون القاضي مجتهدًا، لكن إذ وصلنا إلى مرحلة وجدنا أن الناس وصلوا إلى درجة لا نجد فيهم قاضٍ مجتهد، فما العمل في هذه الحالة؟ هل نعطل باب القضاء، أم أننا نعين قاضيًا -وإن لم يكن مجتهدًا?
كذلك إذا لم نجد عدلًا، ولم تتحقق العدالة في إنسانٍ ليكون قاضيًا، فما العمل في هذه الحالة? هل نمتنع عن تعيين القاضي، وتتعطل مصالح الناس، ولا يفصل في الخصومات بين الناس، أم أننا نختار أقلهم فسادًًا؟ ونختار أمثل الموجودين؟ إن السياسة الشرعية هنا تظهر وتقول نأخذ أمثل الموجودين، إذا لم تتحقق الشروط في إنسانٍ؛ فنأخذ من يتوفر فيه أكثر هذه الشروط، من أجل ماذا؟ من أجل مصالح الناس، من أجل أن تسير الحياة، من أجل أن لا تتعطل وظيفة القضاء في المجتمع المسلم، لأن القضاء مهم للغاية، ولا نتصور مجتمعًا ليس فيه قضاء يفصل في منازعات الناس. إذن السياسة الشرعية تتدخل هنا وتقول: نختار الأمثل فالأمثل، سواء بالنسبة إلى الشهادة، أو سواء بالنسبة للقاضي؛ حتى لا تتعطل مصالح الناس، وربما هذا كان معلومًًا، أو كان يستشفه علماء الأحناف الذين لم يشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدًا -يعني: نحن لو نظرنا إلى الاجتهاد: هل هو شرط في القاضي، أم لا؟ والله وجدنا جمهور الفقهاء يشترطون في القاضي أن يكون مجتهدًا -يعني: وصل إلى درجة الاجتهاد، لكن الجماعة الأحناف لم يشترطوا ذلك، وجوزوا القضاء للقاضي المقلد الذي يأخذ بمذهبٍ معين. هذا أيضًًا كأنه نوع من السياسة الشرعية من الجماعة الأحناف؛ ولذلك نصل إلى درجة؛ وهو أنه لا بد من وجود قاضٍ، لا بد من وجود شاهدٍ على الرغم من عدم تحقق الشروط، والذي يقول بذلك إنما هو السياسة الشرعية، السياسة الشرعية التي تقصد في النهاية إلى تحقيق مصالح الناس، وعدم تعطيل باب القضاء في المجتمع المسلم. من الأدلة أيضًًا على اعتبار السياسة الشرعية أن أحكام السياسة الشرعية ترجع في جملتها إلى قاعدة التيسير، ورفع الحرج عن الناس، ترجع في جملتها، وفي عمومها إلى قاعدة التيسير، ورفع الحرج عن الناس، ومبدأ الحكم بالعدل، والتواصي بالخير، وأن أمر المسلمين بينهم شورى يديرونه بما يحقق مصالحهم، ويكفل سعادتهم، هذه المبادئ محكمة، ومقررة، دل على الاعتداء بها الكتاب، والسنة.
فمن الكتاب قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية: 185) وقوله تعالى: {مَايُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} (المائدة: الآية: 6) وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (الحج: من الآية: 78) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: من الآية: 38). ويجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الدين كله في النصيحة فيقول: ((الدين النصيحة -ثلاثَ مراتٍ- قالوا: يا رسول الله، لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)) وهذا الحديث موجود في (سنن الترمذي الطبعة الأولى 1419 هـ -1999 م الناشر دار الحديث القاهرة جـ4 صـ99، باب ما جاء في النصيحة). فرعاية هذه المبادئ العامة التي تحقق الشورى، والعدل بين الناس، ورفع الحرج عن الناس إنما يحققها علم السياسة الشرعية؛ لأنه قد تبين لنا أن رفع الحرج عن الناس، ومراعاة أحوال الناس إنما يبحثه علم السياسة الشرعية، وكذلك مصالح الناس يبحثها علم السياسة الشرعية، ومصلحة الناس في الحكم بالعدل، ومصلحة الناس في أن تكون الشورى موجود: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر}، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}. من الذي ينظم الشورى؟ صحيح أن الله -تبارك وتعالى- أمرنا بإقامة الشورى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} (آل عمران: من الآية: 159) وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} لكن كيفية المشاورة، ما هي الوسيلة التي تتحقق بها المشاورة? هذا تركه القرآن الكريم لعلم السياسة الشرعية. يأتي علم السياسة الشرعية هو الذي يحقق هذه الأشياء، إذا كانت هناك قاعدة رفع الحرج عن الناس، فكيفية تحقيق هذه القاعدة، الذي يبين لنا كيفية التحقيق تحقيق هذه القاعدة، وتطبيقها على الناس إنما هو علم السياسة الشرعية، إذا كان القرآن الكريم يأمرنا بالحكم بالعدل،
فكيف يتحقق العدل بين الناس؟ وما هي الوسائل التي تحقق هذا العدل، كل هذه الأمور يقوم بها علم السياسة الشرعية، وكذلك إذا كان الله -تبارك وتعالى- يأمرنا بالشورى بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} (آل عمران: من الآية: 159) فهذا هو المبدأ -مبدأ الشورى بين المسلمين- لكن كيف تتحقق الشورى؟ وما هي الوسائل التي تتحقق بها هذه الشورى؟ وما هي الطرق التي يتم بها الشورى؟ هذا متروك لعلم السياسة الشرعية، لماذا كان متروكًًا لعلم السياسة الشرعية؛ لأن علم السياسة الشرعية إنما يعمل على تحقيق مصالح الناس وفقًًا للأحوال التي هم فيها، وفقًًا للبيئات التي هم فيها؛ لأنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان. إذن السياسة الشرعية هي التي تحقق لنا هذه المبادئ من الحكم بالعدل، ومن الشورى، ومن رفع الحرج عن الناس، والمشقة عنهم؛ ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل السياسة الشرعية كأنها تقوم بالنصيحة للمسلمين عندما قال: ((الدين النصيحة)) لكن من ينصح؟ من ينصح المسلمين، وعامة المسلمين، وأئمة المسلمين؟ كما قلنا- القانون: السياسة الشرعية، أو علم السياسة الشرعية هو الذي يبين ذلك. رعاية هذه المبادئ -كما قلنا- المبادئ العامة -كما قلنا- التي جاء بها الإسلام مبادئ عامة، لكن التفصيلات، وإجادة فهمها، ومعرفة مواطن هذه المبادئ كفيلة بأن تفتح على الناس أبوابًًا واسعة ينفذ منها كل من له شأن في سياسة الأمم، ومن يعنيه أن تقوم شئونُها على قواعد الصلاح، والرشاد. خلاصة القول في هذا الدليل -الذي يدل على أننا في حاجة إلى علم السياسة الشرعية- أن هذه القواعد العامة -كما قلنا- سواء بالنسبة للحكم بالعدل بين الناس، وتنظيم القضاء، أو إقامة الشورى عند المسلمين، أو رفع الحرج، والتيسير عن الناس، هذه المبادئ العامة التي يقوم بتنظيمها إنما هو علم السياسة الشرعية، لماذا لم ينص على كيفية ذلك في الكتاب،
اعتبار المصالح المرسلة دليلا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية.
والسنة؟ كما قلنا- لأن هذه الأمور تتغير، وتتبدل من زمن إلى زمن، ومن حال إلى حال؛ لذلك كان أنسب شيء أن يقوم بتنظيمها، وتفصيلها، وتطبيقها علم السياسة الشرعية، وهذا معناه أن الشريعة الإسلامية إنما هي صالحة للتطبيق في كل زمانٍ، وفي كل مكان، وهي صالحة لإيجاد الحلول للمشكلات التي تستجد، والوقائع التي تستجد، ومن الذي يفعل ذلك، وفي إمكانه ذلك، إنما هو علم السياسة الشرعية. اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية ومن الأدلة أيضًًا على اعتبار السياسة الشرعية المصالح المرسلة -يعني: عندنا من ضمن الأمور التي تحدث فيها الفقهاء في علم أصول الفقه، وهو المصالح المرسلة، والمصالح المرسلة إنما هي ضمن الأدلة المختلف فيها بين الفقهاء: هل هي دليل من أدلة الأحكام، أم ليست بدليل من أدلة الأحكام؟ لأنه لما نبحث في أصول الفقه عندنا هناك أدلة متفق عليه وهي: الكتاب، وهي السنة، والإجماع، والقياس، هذه أدلة متفق فيها بين الفقهاء، لكن هناك أدلة مختلف فيها كثيرة للغاية، منها: الاستحسان، منها الاستصحاب، منها شرع من قبلنا، إلى غير ذلك من الأمور، ومنها أيضًًا: المصالح المرسلة. فعلاقة المصالح المرسلة بالسياسة الشرعية علاقة وثيقة، تظهر فيما نقوله الآن: فالمصالح المرسلة هي التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها، أو إلغائها. المصالح المرسلة معناها: إننا -واقعة معينة- لم نجد هناك نص من الكتاب على اعتبار هذه الأشياء، أو عدم اعتبارها؛ لم يوجد نص لا في كتابٍ، ولا في سنة يدلنا على عدم اعتبار هذه المصلحة، أو عدم اعتباره؛ ولذلك سمية المصلحة مرسلة؛ لأنها مطلقة عن دليل، لماذا سميت المصلحة مصلحة مرسلة؟ قالوا: لأنها مطلقة عن دليل اعتبارها، أو إلغاءها -يعني: لا يوجد دليل يدل على أنها معتبرة شرعًًا، ولا يوجد دليل على أنها ملغاة شرعًًا، وعلى هذا: فإن المصلحة المرسلة لا تتحقق إلا في الوقائع التي سكت عنها الشارع، وليس لها أصل معين يمكن أن تقاس عليه، ويتحقق فيها معنى مناسب، والمعنى المناسب: هو ما يجلب للإنسان نفعًًا، أو يدفع عنه ضررًا.
أقول: ويتحقق فيها معنى مناسب يصلح أن يكون مناطًًا لحكم شرعي، ووفقًا للرأي الراجح فإن المصالح المرسلة تعتبر مصدرًا من مصادر التشريع -كما قلنا- هذه المصالح المرسلة من الأدلة الشرعية المختلف فيها، بعض الفقهاء لا يأخذ بهذه المصالح المرسلة، ولا يعتبرها دليلًا من أدلة الأحكام، وبعض الفقهاء أخذ بهذه المصالح المرسلة، واعتبرها أدلة من أدلة الشرع. الذين قالوا بأنها أدلة من أدلة الشرع، واعتبروا هذه المصالح المرسلة إنما هم في الحقيقة يطبقون مبدأ السياسة الشرعية؛ لأن السياسة توجد حيث توجد المصلحة، فإذا كانت هناك مصلحة للمسلمين؛ وجدت السياسة الشرعية، وأخذ بأحكام هذه السياسة الشرعية، نقول: وفقًًا للرأي الراجح؛ فإن المصالح المرسلة تعتبر مصدرًا من مصادر التشريع، إذ المتتبع لفقه الأئمة يجدهم يأخذون بالمصلحة المرسلة باعتبارها طريقًا من طرق الاستدلال بالنصوص، ولا يرفض الأخذ بهذه الطريقة أحد، إلا أنهم يطلقون عليها أسماء أخرى غير الاستدلال المرسل، أو المصلحة المرسلة -يعني: إذًن المسألة خلافية بين الفقهاء -كما قلنا- البعض يأخذ بهذه المصالح المرسلة، والبعض لا يأخذ بها. ومن ناحية أخرى فإن أحدًًا منهم -يعني من الفقهاء- لا يترك النصوص الشرعية بالمصلحة، وإنما تطبق قواعد الترجيح بين الأدلة على تعارض المصلحة مع نصٍ شرعي -يعني: خلاصة القول في هذا: أن هذه المصالح -التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها، أو لم يكن هناك دليل على إلغائها- أقول: لا ينظر باتفاق الفقهاء إلى هذه المصلحة إذا كان هناك نص شرعي يخالفها؛ لأنه إذ وجد نص شرعي يخالفها. معنى ذلك: أنها مصالح ملغاة، مصالح ليست معتبرة شرعًًا؛ ولذلك هناك خلاف في المصالح المرسلة عندما لا يوجد نص يدل على إلغاءها؛ ولذلك إذا
كانت هذه المصلحة تتعارض مع نصٍ شرعي من الكتاب، أو من السنة، أو من الإجماع ففي هذه الحالة لا يطلق عليها مصلحة، بل هي مصلحة ملغاة -يعني: لا يعتد بها شرعًًا؛ ولذلك كانت المصلحة التي يحتج بها الفقهاء، أو هؤلاء الأئمة الذين، قالوا: بالأخذ بها، قالوا: هي المصلحة الملائمة -يعني: التي تشهد لها النصوص في الجملة- أو بمعنى آخر لا تتعارض مع القواعد العامة، والمبادئ العامة للفقه الإسلامي، لا بد وأن تكون هذه المصلحة -الذين قالوا بالأخذ بهذه المصلحة اشترطوا أن تشهد لها النصوص في الجملة- بمعنى أن لا تتعارض مع أحكام الشرعية الإسلامية؛ ولذلك وضعوا لها شروطًا فما هي شروط هذه المصلحة؛ حتى نأخذ بها؟ قالوا: يشترط في المصلحة المعتبرة مصدرًا من مصادر التشريع ما يلي: الشرط الأول: أن لا تتعارض مع حكمٍ ثابتٍ بالنص، أو الإجماع؛ لأنه إذا تحقق التعارض ففي هذه الحالة يعتبر من قبيل المصالح الملغاة. يعني: التي ألغاها الشارع، مثال ذلك: إيجاب صوم شهرين في كفارة الجماع في نهار رمضان على مالك الرقبة؛ فإن كونه مالكًا لا يزجره إيجاب الإعتاق عن الإفطار؛ لسهولة ذلك عليه مناسب -يعني: إيجاب صيام شهرين لكفارة الجماع دون الرقبة، قال: هو مناسب لإيجاب الصوم عليه مبالغة في زجره عن قضاء شهوة فرجه حرمة للصوم -يعني: هذه من المصالح الملغاة- يعني: إنسان غني عنده الرقبة- يعني: عبيده -هم ليسوا موجودين الآن- فكان من ضمن الكفارات في الفقه الإسلامي كان الإنسان مثلًا الذي جامع زوجته في نهار رمضان، قالوا: عليه القضاء، وعليه الكفارة، الكفارة ماذا تعني؟ قالوا: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكينًا، فمعنى ذلك: بدأ بماذا؟ بدأ بإعتاق رقبة. بعض الفقهاء يقول، أو بعض الذين نظروا في المصالح يقولون: الأفضل لهذا الإنسان الغني الذي عنده عبيده، كل ما نطلبه منه الذي جامع زوجته في نهار
رمضان؛ ولذلك خالف قول الله -تبارك وتعالى-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: من الآية: 185) عقابًًا له، قالوا: يقضي اليوم، ثم بعد ذلك عليه كفارة. ما هي الكفارة؟ القرآن نص على أن الكفارة تبدأ أولًا -الكفارة هنا مرتبة- يعني: نبدأ بالعتق -عتق رقبة- بعض الفقهاء نظر إلى هذا الأمر، وقال: لو أوجبنا عليه عتق رقبة؛ فلن يتأثر من ذلك، هو إنسان غني، وإنسان ثري، ويملك رقابًًا من العبيد، عندما نقول له: اعتق رقبة، هذا أمر هين للغاية -بالنسبة له- فما أكثر العبيد عنده، وبذلك هو لم يتأثر بهذا الحكم، أو بهذه العقوبة؛ ولذلك البعض من الفقهاء قال ماذا؟ قال: نفرض عليه صيام شهرين -يعني: بدل أن يعتق رقبة- لا، نقول له: يجب عليك صيام شهرين، لماذا؟ قالوا: لأن صيام الشهرين في هذه الحالة سوف يترتب عليه العقوبة، هو أن يحس بالعقوبة؛ ولذلك لن يعود إلى ذلك مرة أخرى. لكن الرأي طبعًًا -رأي كل الفقهاء- وقفوا إلى هذا وقالوا: إذن هؤلاء الذين أرادوا من هذا الشخص الغني الذي يملك الرقاب أرادوا منه أن يصوم شهرين بدل أن يعتق رقبة، قالوا: بأن المصلحة تقتضي ذلك؛ لأنه انتهك حرمة الصوم، والمصلحة تقتضي أن نفرض عليه صيام شهرين، وليس عتق رقبة؛ لأن الذي يؤثر عليه ويكون عقابًًا ناجعًا بالنسبة له هو أن نفرض عليه صيام شهرين، وليس عتق رقبة. ولكن يرد على ذلك، نقول لهم: هذه المصلحة التي نظرتم إليها هي ملغاة ملغاة لماذا، قالوا: لأنها خالفت نصًًا من نصوص الكتاب؛ فالقرآن الكريم يبين أن الإنسان الذي جامع زوجته في نهار رمضان عليه القضاء، والكفارة، والكفارة تبدأ -كما قلنا- هي مرتبة، تبدأ بعتق رقبة، فإذن القرآن يقول لنا: نبدأ بعتق رقبة، وأنتم تقولون: إن المصلحة تقتضي أن يقال، أو يعاقب بصيام شهرين متتابعين، أو قولكم صيام شهرين بدل عتق رقبة.
إذن هذه المصلحة التي نظرتم إليها إنما هي مصلحة ملغاة، لا يعتد بها إطلاقًًا، ونحن نشترط في المصلحة أن لا تكون مخالفة لنص من نصوص الكتاب، أو السنة. هذا هو الشرط الأول؛ لكي يعمل بهذه المصلحة، قلنا: ملغى شرعًًا؛ لأن الخصال مرتبة -كما قلنا- وهي العتق، ثم الصوم، ثم الإطعام. أيضًًا بالنسبة لشروط إعمال هذه المصلحة المرسلة: أن تندرج المصلحة في مقاصد الشريعة -يعني: إذا أردنا أن نعتبر هذه المصلحة المرسلة، أو الذين قالوا بها، قالوا: من شروطها -كما قلنا- أن لا تتعارض مع حكم ثبت بالنص، أو الإجماع. الشرط الثاني لإعمال هذه المصلحة: أن تندرج المصلحة في مقاصد الشريعة، ومقاصد الشريعة هي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. الشريعة جاءت من أجل المحافظة على الضروريات الخمس، أو على الكليات الخمس، هذه الأمور الخمس، أو الكليات الخمس هي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ العرض، حفظ المال، وبالمناسبة: كل الشرائع جاءت من أجل المحافظة على هذه الكليات الخمسة، فالمصلحة لن تعتبر، ولن تكون معتبرة، ولن يعتد بها -عند القائلين بها- إلا إذا دارت في خلال هذه الكليات الخمس، أو كان يراد منها حفظ كلية من هذه الكليات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. فكل مصلحة كانت دائرة في فلك هذه الشريعة -يعني: تدور حول حفظ هذه الأمور الخمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال -كلها- مصلحة كانت دائرة في فلك هذه الشريعة؛ فهي مصلحة معتبرة شرعًًا، وكل مصلحة ليس عليها دليل إلا العقل؛ فهي مرفوضة شرعًًا. وبمعنى آخر: ينبغي أن تكون المصلحة ضرورية، قطعية، كلية، والضرورية هي التي تكون من إحدى الضروريات الخمس -كما قلنا- وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض -يعني: إذا لم يكن يراد منها واحد من هذه الأمور الخمسة، أو كان يراد منها شيء غير المحافظة على واحدٍ من هذه الأمور الخمسة؛ فلا يعتد بها، ويشترط أيضًًا أن تكون قطعية، والقطعية هي التي يجزم بحصول المصلحة فيها، وأما الكلية فهي التي تكون موجبة لفائدة. نعطي مثالًا لذلك -لكي تعتبر هذه المصلحة أن تندرج المصلحة في مقاصد الشريعة، وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال-: إذا تترّس الكفار الصائلين بأسرى
المسلمين -يعني: أخذوا المسلمين الأسرى الذين هم عندهم، وجاءوا إلى بلادنا من أجل أن يغزونا، أو يقتلونا، تترس الكفار الصائلين -يعني: وضعوا الأسرى المسلمين في مقدمة الجيش، بحيث: لو ضربهم المسلمون؛ لضربوا هؤلاء الأسرى المسلمين، هذا هو نظام التترس- إذا تترس الكفار الصائلين يعني: المغيرين عليه بأسرى المسلمين، يعني: وضعوا أسرى المسلمين في مقدمة الجيش، وقطعنا بأنهم إن لم نرميهم ونقاتلهم؛ استأصلوا المسلمين المتترسين بهم، وغيرهم، بمعنى: أننا لو امتنعنا عن التترس؛ لصدمونا واستولوا على ديارنا، وقتلوا المسلمين كافة، حتى التترس -يعني: حتى الأسرى الموجودين معهم، والذين تترسوا بهم- ولو رمينا التترس؛ لقتلنا مسلمًا من غير ذنبٍ صدر منه. فإن قتل التترس -والحالة هذه مصلحة- مرسلة؛ لكونه لم يعهد -في الشرع- جواز قتل مسلم بلا ذنب، ولم يقم أيضًًا دليل على عدم جواز قتله عند اشتماله على مصلحة عامة للمسلمين، لكنها مصلحة ضرورية قطعية كلية؛ فلذلك يصح اعتباره، أي: يجوز أن يؤدي اجتهاد مجتهدٍ إلى أن يقول: هذا الأسير مقتول بكل حال؛ فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ مسلمٍ واحد، معنى تلك المصلحة -يعني: إذا تترس هؤلاء الكفار بالمسلمين -الأسرى الموجودين عندهم- وهم يفعلون ذلك؛ لأنهم يعلمون أن المسلمين لن يقتلوا المسلمين مثلهم؛ ففي هذه الحالة ماذا نفعل؟ هل لا نضرب الكفار خوفًًا على المسلمين الذين تترسوا بهم، وفي هذه الحالة إذا لم نضربهم؛ فإنهم سوف يستولون علينا ويقتلوننا، ويقتلون أيضًًا الذين تترسوا بهم؟ ما هو الحل في هذه الحال؟ يعني: هل نحافظ على حياة التترس من المسلمين، وهي مصلحة خاصة، أم أننا ننظر إلى المصلحة العامة للمسلمين جميعًا، قالوا: والله المصلحة تقتضي -في هذه الحالة- أن نضحي بهذا التترس، أو بهذا الجزء من المسلمين، أو الأسير من المسلمين -الذي هو معهم- نضحي به من أجل ماذا؟ من أجل المصلحة العامة. وهذا له ما يؤيده في القواعد الفقهية؛ ولذلك نقول: والله- الضرر الخاص يتحمل من أجل دفع الضرر العام، وهذا معناه: أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة -يعني: إذا تعارضت مفسدتان؛ روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما، هذه هي القواعد الفقهية. فالقواعد الفقهية لا بد أن ننظمها، أو أن نطبقها في هذه الحالة، نقول: إذا قتلنا الكفار مع التترس -المسلم معهم- في هذه الحالة هناك فيه ضرر خاص بالنسبة لهذا
المسلم الذي قتلناه، والذي تترس به الكفار، ولكن حققنا مصلحة عامة، وهي المحافظة على بقية المسلمين، والمحافظة على الدولة الإسلامية؛ ولذلك نضحي بهذه المصلحة الخاصة، المصلحة الخاصة المتمثلة بالنسبة للحفاظ على حياة التترس من أجل المصلحة العامة، وهي المحافظة على بقية المسلمين، والمحافظة على دولة المسلمين، وهذا -كما قلنا- ما تؤيده القواعد الفقهية المعروفة، وهو أنه: قاعدة فقهية تقول: إذا تعارضت مفسدتان؛ روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما. وأيضًا المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، هذه هي أهم الشروط التي قالها الفقهاء، لكن الحقيقة الإمام مالك توسع في هذا الأمر، وقال: ليس بلازم أن تكون المصلحة كلية ضرورية قطعية، يقول: المهم توجد مصلحة؛ فإذا وجدت هذه المصلحة العامة؛ ففي هذه الحالة تقدم على المصلحة الخاصة، ولما كانت الشريعة الإسلامية تجعل المصلحة المرسلة مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي -كما قلنا- لأن هناك بعض الفقهاء -يقولون بأن المصلحة المرسلة إنما هي تصلح دليلًا في التشريع الإسلامي، نقول: لما كانت الشريعة الإسلامية تجعل المصلحة المرسلة مصدرًا من مصادر التشريع الإسلام؛ فإن هذا معناه أن هذه المصلحة يمكن أن تغطي الوقائع المتجددة، والمصالح غير المتناهية، وهو ما تقصر عنه النصوص؛ لأنها متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي. والمصلحة المرسلة يمكن أن تواجه ما يستجد على الأمة من وقائع، ونوازل -يعني معنى هذا: أن المصلحة المرسلة التي قال الفقهاء بها، والتي رجحناها بهذه الشروط التي قالها الفقهاء، نقول: الأخذ بهذه المصالح المرسلة معناها: فعلًا سوف يترتب عليه أمور، هذه الأمور هي: أن كل الوقائع والحوادث التي تستجد في حياة المسلمين ننظر إليها بمنظار المصلحة للمسلمين، فإذا كانت هذه الوقائع فيها مصلحة للمسلمين علينا أن نعطيها الحكم الذي يحقق المصلحة للمسلمين عامة -يعني: لا ننظر إلى
المصالح الخاصة، وإنما ننظر إلى المصالح العامة- فالحقيقة الوقائع، وأحداث الناس متجددة، وغير متناهية، لكن عندنا الكتاب، وعندنا السنة نصوص، نصوص الكتاب، ونصوص السنة متناهية، محصورة، لكن الوقائع، والنوازل التي تستجد، وتوجد كل يومٍ هذه غير متناهية، كل يوم تستجد أشياء جديدة. على سبيل المثال القرآن، والسنة لم يضعا حكمًًا لموضوع عملية نقل الأعضاء -نقل الأعضاء البشرية على سبيل المثال- لم يضع حكمًًا لموضوع الاستنساخ، سواء أكان الاستنساخ بالنسبة للنبات، أو بالنسبة للحيوان، أو بالنسبة للإنسان، فماذا نفعل إزاء هذه الأمور المستجدة؟ صحيح كما قلنا: حتى فقهاءنا -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم- القدامى؛ لم يبحثوا هذه النوازل، لم يبحثوا هذه الوقائع، لم يكن على عهدهم، هناك نقل للأعضاء البشرية، ينقل مثلًا على سبيل المثال: كلية لإنسان -من إنسانٍ إلى إنسانٍ آخر- ماذا نفعل في هذا الأمر؟ ما هو حكم الشريعة في ذلك؟ هذه هي الحوادث، هذه هي المستجدات، هذه هي النوازل التي يجب علينا أن ننظر إليها، يجب علينا أن نراها في المنظار الإسلامي، وفي ميزان الفقه الإسلامي، ونعطي لها الحكم. كما قلنا-: لا يوجد نص لا في الكتاب، ولا في السنة، ولا الإجماع على حكم هذه الأمور الجديدة؛ كنقل الأعضاء البشرية، أو حكم الاستنساخ -كما قلنا- للزراعة، أو للحيوان، أو للإنسان، ماذا نفعل في هذه الحالة؟ هل لو وقفنا عند النصوص نصوص القرآن، ونصوص السنة، وأردنا أن نأخذ الحكم من هذه النصوص؛ فلن نجد هذا النص، لماذا؟ لأن -كما قلنا- إن هذه النصوص إنما هي متناهية، ومحدودة، أما حوادث الناس، والوقائع، والنوازل؛ فمتجددة، وليست بمحدودة، فعندما نذهب إلى الكتاب، أو إلى السنة؛ لن نجد حكمًًا لهذه الموضوعات الجديدة كنقل الأعضاء، أو الاستنساخ، فماذا نفعل؟ هل نقول: لا نعرف شيئًًا؟ هل نقول: ليس هناك حكم؟ لا نستطيع أن نقول: ليس هناك حكم في الإسلام لهذه النوازل، وهذه الوقائع الجديدة؛ لأننا لو قلنا ذلك، فمعنى ذلك أننا نقول: بأن شريعتنا جامدة، وغير متطورة، وغير صالحة للزمان، والمكان.
لكن الشريعة الإسلامية الله -تبارك وتعالى- عندما جعلها خاتمة الشرائع؛ أراد لها أن تكون صالحة للتطبيق في كل زمانٍ، وفي كل مكان، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها؛ ولذلك لا بد أن نبحث، -كما قلنا- ليس هناك نصوص في الكتاب، والسنة لهذه الوقائع الجديدة، فماذا نفعل؟ نذهب إلى علم السياسة الشرعية، علم السياسة الشرعية الذي يقوم على تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة؛ ولذلك نذهب إلى القواعد العامة، ولا بد وأن نجد هذه الأشياء، ننظر؛ هل هذه المستجدات؛ مثل نقل الأعضاء البشرية؛ هل فيه مصلحة للناس، أم فيه مضرة لهم؟ ومن هذا المنطلق نريد أن نعطي حكمًًا. إذن المقياس هو المصالح التي نتحدث عنها الآن، ننظر إلى هذه الواقعة، وغيرها من الوقائع المستجدة، وسوف تستجد مع تطور الأزمان نضعها في نطاق المصالح، والمضار، فما كان صالحًا للناس، وكان الصلاح فيه أكثر من الضرر أبحناه، وما كان ضارًًا بالناس، أو كان الضرر فيه أكثر من الصلاح نمنعه من ذلك. إذن -كما قلنا- يأتي منها حكم المصالح المرسلة فإذن المصالح المرسلة عندما نأخذ بها؛ هي تحقق لنا علم السياسة الشرعية -يعني: المصالح المرسلة منصب عليها حكم السياسة الشرعية لأننا -كما قلنا- السياسة الشرعية تنظر في مصالح الناس في الدين، والدنيا؛ ولذلك المصالح المرسلة إنما تعبر عن السياسة الشرعية؛ ولذلك -كما قلنا- إذا لم نعتمد على هذه المصالح المرسلة، معنى ذلك: أننا لن نستطيع أن نجد حكمًًا للوقائع المستجدة، والنوازل المستجدة في حياة الناس -كما قلنا- فهذه الوقائع نعرضها على المبادئ العامة في الشريعة الإسلامية نعرضها على السياسة الشرعية، نعرضها من باب المصالح، والمفاسد -كما قلنا- فما فيه صلاح أبحناه، وما فيه ضرر منعناه، والحقيقة -يعني: ومما قيل في مشروعية المصلحة ما ذكره ابن تيمية في المناظرة التي تمت بين ابن عقيل الحنبلي، وبين بعض الفقهاء، جاء فيها -يعني: كانت مناظرة ذكرها ابن تيمية في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين في الجزء الرابع صـ309 طبعة دار الحديث القاهرة). جاء في موضوع يهم المصلحة المرسلة، وأردنا أن نقوله؛ لأن فيه مصلحة الحقيقة، ويدل على مدى فهم فقهاءنا رضوان الله -تبارك وتعالى- عليهم لـ: أن الشريعة
صالحة لتطبيق في كل زمان، ومكان، وكل ما يؤدي إلى ذلك ينبغي أن ننصره، ونأخذ بيده. ما قلنا- ذكر ابن تيمية المناظرة التي تمت بين ابن عقيل، وبين بعض الفقهاء جاء في هذه المناظرة، وقال الآخر -يعني: -أي: الذي كان يناظر ابن عقيل- قال: له لا سياسة إلا ما وافق الشرع -الذي يتكلم مع ابن عقيل قال: له لا سياسة إلا ما وافق الشرع- فقال ابن عقيل: السياسة كأنه يريد أن يبين له المقصود بالسياسة قال: له ابن عقيل السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد -وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي. انظر إلى هذه -أيها الدارس، وأيتها الدارسة- انظر إلى هذا القول من ابن عقيل -هذا الذي فهم الإسلام فهمًًا جيدًًا هذا الذي؛ فهم الشريعة فهمًًا جيدًًا، وعلم أنها ينبغي أن نجعلها صالحة للتطبيق في كل زمانٍ، ومكان، وأن لا نقف عاجزين عن الوقائع المستجدة- ابن عقيل يرد على الآخر الذي يقول: له لا سياسة إلا ما وافق الشرع يقول له: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وهذا -كما قلنا- المصالح المرسلة التي تفعله -كما قلنا- الآن الوقائع ننظر إليها ما كان صالحًا أبحناه، وما كان ضارًًا منعناه، وما كان فيه صالح أكثر من الفساد أبحناه، وما كان فيه فساد أكثر من الصلاح منعناه يقول: ابن عقيل يؤيد. هذا المعني بقوله: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي -يعني: حتى ولو لم توجد هناك نصوص في هذه الواقعة لا في الكتاب، ولا في السنة. إذن ماذا ننظر لهم -يعني: واقعة من الوقائع جاءت لكن لم نجد لها حكمًًا لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله هذا معنى لم يشرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به، وحي، فماذا نفعل؟ ابن عقيل يقول: نعرضه على ننظر إليه من وجهة المصلحة، فما كان صالحًا أبحناه، وما كان غير صالحٍ، أو كان ضارًًا منعناه.
يقول: وإن لم يشرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي؛ فإن أردت بقولك -هذا ابن عقيل يقول -للطرف الآخر الذي يناظره-: إذا أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع -أي: لم يخالف ما نطق به الشرع- فصحيح، وإن أردت أنه لا سياسة إلا ما نطق به الشرع؛ فغلط، وتغليط لفعل الصحابة رضوان الله -تبارك وتعالى- عليهم. إذن أراد ابن عقيل أن يقول له: إذا أردنا بكلمة لا سياسة إلا ما وافق الشرع، هل مقصود به -يعني: لا بد أن يكون منصوصًًا على حكمه أم لا. والله إذا أردت بقولك: لا سياسة إلا ما وافق به الشرع -يعني: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، يعني: كان منصوصًًا عليه في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع- هذا قول لا ينفع، وهذا قول لا نأخذ به إطلاقًًا؛ لأننا لو أخذنا بهذا القول بهذا المعنى، وهو أنه لا نأخذ شيئا إلا من الكتاب إلا إذا كان منصوصًًا عليه أو على حكمه في الكتاب، أو السنة. كما قلنا- معنى ذلك أن شريعتنا سوف تكون جامدة، لماذا؟ لأنه -كما قلنا- مرارًًا أن نصوص الشريعة المتمثلة في الكتاب، والسنة متناهية، ومحدودة، أما وقائع الناس، والنوازل؛ فهي غير متناهية، وغير محدودة؛ ولذلك لو قلنا: إنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع -يعني: ما نطق به الشرع؛ فهذا يؤدي إلى -يعني: أمور خطيرة للغاية، وإلى أن الشريعة ليست صالحة للتطبيق في كل زمان، وفي كل مكان، لكن لو أردنا بقولنا لا سياسة إلا ما وافق الشرع -يعني: لا سياسة إذا خالفت الشرع؛ فهذا جائز، لماذا؟ لأن المخالفة معناها المخالفة العامة لأحكام الشريعة، وكل سياسة شرعية ينبغي أن تكون في الإطار العام للإسلام -يعني: المبادئ العامة، والأحكام العامة، والقواعد الكلية للفقه الإسلامي. إذن كل ما لا يخالف المبادئ العامة نأخذه، ولا شيء فيه، أما الذي يخالف المبادئ العامة؛ فلا نأخذه، وكيف نعرف أنه خالف المبادئ العامة، أم لم يخالفها، فكما -قلنا:- ننظر إليه من ناحية المصلحة، وعدم المصلحة، فإن كان فيه مصلحة؛ أبحناه، وإن كان فيه ضرر منعناه.
ونخلص من هذا أن عدم دلالة شيء من النصوص الواردة للكتاب، والسنة على أحكام السياسة الشرعية تفصيلا لا يضر، ولا يمنع من أن السياسة الشرعية بكونها شرعية، يعني -كما قلنا- ليس بلازم أن تكون المصلحة منصوص على حكمها في الكتاب، أو في السنة، ولكن يكفي فقط أن تحتويها السياسة الشرعية، أو على المبادئ العامة، والأحكام العامة للشريعة الإسلامية، فما دامت هذه الوقائع -كما قلنا- متفقة مع الضوابط العامة، والأحكام الشرعية؛ فنأخذها. أما الذي يضر، ويمنع من ذلك أن تكون تلك الأحكام هي أحكام السياسة الشرعية مخالِفةً مخَالَفةً حقيقية لنصٍ من النصوص التفصيلية. أقول: يعني معنى ذلك أحكام السياسة الشرعية مأخوذ بها، ونأخذ بها ما دامت لم تتعارض مع نص تفصيلي، ما دامت لا تتعارض مع نص من نصوص الكتاب، أو نص من نصوص السنة، أو من الإجماع فنأخذ بها. لكن إذا كانت هذه أو كانت هذه الأحكام التي تقولها السياسة الشرعية مخالفة مخالفةً حقيقية لنص من النصوص التفصيلية -ونقصد بالنصوص التفصيلية الأحكام التفصيلية التي تحدث عنها علم أصول الفقه، وهي الأدلة الإجمالية مثل: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس- فإذا كانت هذه الأحكام أحكام السياسة الشرعية قد خالفت حكما من الأحكام التي نص عليها الكتاب، أو الأحكام التي نصت عليها السنة، أو الأحكام التي نص عليها الإجماع، أو القياس؛ في هذه الحالة لا نأخذ بها؛ لأنها لا تعتبر سياسة شرعية في هذا الأمر. نقول: فمتى سلمت هذه المخالفة، وكانت متماشية مع روح الشريعة، ومبادئها العامة؛ كانت نظامًًا إسلاميًا، وسياسةً شرعية -يعني: حتى ولو كانت هناك مخالفة،
لكنها ليست حقيقية، نقول: إذا كانت هناك مخالفة حقيقية، ومصادمة حقيقية مع نصٍ من نصوص الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو مصادمة للقياس؛ لا نأخذ بها. لكن نفرض أن هناك مخالفة، لكنها ظاهرية -يعني: في الظاهر فقط، لكن عند التمعن، وعند التدبر؛ نجد أنه ليس هناك خلاف في الحقيقة، وهذا طبعًًا -كما قلنا كما مثلنا قبل ذلك بموضوع المؤلفة قلوبهم، وموضوع ضالة الإبل، أو الذي فعله سيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا عمر ابن الخطاب- ما فعله لم يكن مخالفة حقيقية في النص، وإنما في الحقيقة هي مخالفة ظاهرية فقط، وليس هناك خلاف حقيقي، لماذا؟ لأننا لو نظرنا إلى مضمون الحكم، ونظرنا إلى سر الحكم، وإلى الحكمة من هذا الحكم، والتي أخذ بها سيدنا عمر؛ نجد أنه لم يخالف النص، ولكنه وجد أن العلة التي بُنِي عليها الحكم لا تتحقق في وقتٍ معين، وهو عندما أصبح المسلمون أقوياء. فإذًن الحقيقة ليس هناك إن كان هناك تعارض هو ظاهري فقط، لكن عند التدبر نجد أنه ليس هناك تعارض، وكذلك الأمر أيضًًا إذا كانت هناك مخالفة، ولكنها ظاهرية، وليست ظاهرة، وليست حقيقية هذا حدث مع موقف سيدنا عثمان بن عفان مع ضالة الإبل -كما قلنا- فضالة الإبل الأصل أنها لا تلتقط، وتترك حتى يأتي صاحبها فيأخذها؛ لأنه لا خوف عليها من ذلك كما بين النبي -صلى الله عليه وسلم-: معها سقائها، ومعها حذائها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ ولذلك طلب من الذي سأله أن يتركها، ولا يتعرض لها حتى يأتي صاحبها لما خالف في ذلك سيدنا عثمان بن عفان، هو خالف النص، هذا في الظاهر، لكنها ليست مخالفة حقيقية، وإنما هي مخالفة ظاهرية فقط -بمعنى: أننا لو تمعنا موقف سيدنا عثمان بن عفان؛ لوجدنا أنه في الحقيقة لم يعارض النص، وإنما نظر إلى مضمون النص، وإلى الحكمة من النص، وإلى سر هذا النص. ولذلك هو في الحقيقة وجد أنه إذا كان النص مبني على أن هذه الإبل
لن يتعرض لها أحد، لماذا؟ كما بين الحديث؛ لأن هناك وازع ديني يمنعهم من أخذ هذه الإبل، لكن عندما تغير وضع الناس، وأصبح الوازع الديني ضعيفا عندهم؛ لذلك ورد أن العلة التي بني عليها حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث هو أن الإبل لا تلتقط لم يعد موجودا -العلة لم تكن موجودة، بل تغيرت العلة، وأصبح الناس لا مانع عندهم من أن يأخذوا، ويسرقوا هذه الإبل؛ ولذلك وجد سيدنا عثمان أن العلة، أو أن الحكم يدور مع العلة، وجودًا وعدمًا، فلما وجد أن هؤلاء الناس لا مانع عندهم من أن يأخذوا هذه الإبل، لذلك قال: بأنها تلتقط، وتعرف، ثم تباع، ويحفظ ثمنها. هذا وبالله التوفيق.
الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة.
الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة.
خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة) 1 - مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد: نتكلم في هذه المحاضرة -إن شاء الله- عن مفهوم النظم الإسلامية، ثم عن نشأة هذه النظم، فنقول -وبالله التوفيق-: تعرف النظم بأنها جمع نظامٍ، وهي كلمة تطلق على كل شيء يراعى فيه الترتيب والانسجام والارتباط، وهي بهذا الاعتبار تشبه العقد من حيث انتظام أحجاره بعضها مع بعضٍ، ونظم أي دولة تتكون من مجموعات القوانين والمبادئ والتقاليد التي تقوم عليها الحياة في هذه الدولة، ومن هذه النظم: النظام السياسي، والنظام الإداري، والنظام المالي، والنظام القضائي، وهناك نظم أخرى كالعبادات من: صلاة، وصيام، وحجٍ، وزكاة. وهناك نوع آخر من النظم وهو النظم الاجتماعية التي تعني بدراسة حالة الشعوب. وإذا أردنا أن نتكلم عن نشأة النظم الإسلامية، فسوف نتحدث عن المنابع الأولى لهذه النظم الإسلامية، فنتحدث عن تنظيمات الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكة، ثم عن تنظيماته -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، ونبدأ الآن بالحديث عن تنظيمات الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكة: تكون الدعوة الإسلامية وجهاد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في نشرها المفاهيم الفكرية التي استندت إليها جميع النظم، ومؤسساتها التي عرفتها الدولة الإسلامية، ذلك أن تعاليم الإسلام لا يمكن فصمها عن شخصية الرسول الذي لقنها، كما أن شخصية الرسول الكريم لا يمكن فصمها عن التطور الثقافي لأمته العربية، فهذه الأمور جميعها وثيقة الصلة في بناء النظم الإسلامية بدرجة توجب دراستها سويًا لأن كلًا منها ملتصق بالآخر التصاق الحمل بحامله.
وكان التطور الثقافي للأمة العربية قد تعرض -في السنوات الأولى من حياة الرسول الكريم قبل البعثة- إلى أزمة عنيفة هزت أركان الحياة القبلية في شبه جزيرة العرب كلها، وأصابت بالشلل جميع الأنظمة القبلية على اختلاف مظاهرها، من ممالك في اليمن وإمارات على أطراف الهلال الخصيب، ومشيخات في جوف بلاد العرب وبخاصة في مكة، وكان قوام هذه الأزمة هو الصراع بين الروح الفردية التي فطرت عليها النظم القبلية، وبين المحاولات التي قامت بها مجموعة من القبائل لبناء أحلافٍ تصلح نواةً لمجتمعات سياسية كبرى، فالهدف من النظام القبلي لم يكن إقامة حلفٍ كبير أو تشييد مجتمعٍ ثابت، وإنما ظل هذا النظام يعمل على تثبيت نفوذ أسرة كبيرة، أو إعلاء شأن عشيرةٍ أو قبيلة ورفعها إلى مكان الصدارة على أقرانها. واتسمت المجتمعات السياسية التي قامت على قواعد هذا النظام القبلي، اتسمت بضيق الأفق، وقصر عمر المؤسسات فيها، إذ بقيت القبيلة هي الوحدة السياسية العليا، وشيخها هو الرئيس الأعلى دون أن تسمح النظرة القبلية الضيقة بانطلاق الأحداث الكبرى نحو بناء مجتمعٍ واحدٍ مترابط، وغدت صورة الحياة القبلية في بلاد العرب قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- غدت هذه الصورة صورة بناءٍ متداع، وما صاحب هذا التداعي من فوضى في جميع النظم التي سيطرت على تلك الحياة. وبدأت مظاهر التداعي في النظام القبلي تدوي ابتداءً من سنة 571م التي شهدت ميلاد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فشب عليه الصلاة والسلام وسط هذه الحياة القبلية الصاخبة ووقف على جميع نظمها عن كثبٍ وعن تجارب ذاتية عديدة، هيأت له -عليه الصلاة والسلام- حمل الأمانة وأداء رسالتها بإخراج العرب من ظلمات تلك النظم إلى نور الإٍسلام وإعدادهم في نفس الوقت لنشر هذا الدين في جميع
أرجاء العالم، وهكذا حصل الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في مسقط رأسه بمكة قبل بعثته بخمس سنوات، حصل على صورة متكاملة لما آلت إليه الحياة القبلية بشتى نظمها ومؤسساتها؛ ذلك أن مكة غدت وأصبحت نتيجة وصولها إذ ذاك إلى المركز الديني والتجاري الأول في بلاد العرب، ووفود القبائل إليها من شتى أرجاء تلك البلاد، أقول: أصبحت تضم مجتمعًا متناقضًا، ترسبت فيه نظم تلك القبائل البدوي منها والحضري على السواء. وتمثل هذا التناقض في النظم التي صارت عليها قريش نفسها فكان الفرد منهم يحتفظ بالعصبية القبلية في أبشع صورها من حيث السلب والنهب، والافتخار بالأحساب والأنساب، ويعتز في نفس الوقت بالتمايز الطبقي الذي صاحب حياة الاستقرار في هذا المركز الديني والتجاري، وهو مكة فدأب القرشي من الملأ -والملأ هذا: إنما هو مجلس يضم رؤساء أحياء قريش بعد توحيدها- على الافتخار بعشيرته من جهة وبثروته من جهة أخرى، وكان يسير في الطرقات وأنفه شامخ في زهوٍ وخيلاء حتى يكاد يخرق الأرض بقدميه رغبة في أن يبلغ الجبال طولًا، ثم هو ينطلق في أثناء مشيه سريع الغضب شديد البغي، يلطم من يعترض سبيله من المستضعفين، وهم الذين لا عشيرة أو قبيلة كبرى تحميهم. وتحولت مكة قبيل بعثة الرسول الكريم بخمس سنواتٍ إلى مجتمع للمتناقضات في النظم القبلية، فهي مركز حضاري يتمسك أهله في نفس الوقت بالتقاليد البدوية الظاهرية، ومراعاتها شكليًا في واقع حياتهم، وما يتصل بتلك الحياة من معالم ومظاهر، فعاش فيها طبقة من أصحاب الثراء الواسع والترف العريض إلى جانب جماعات من الفقراء الساخطين الخاضعين لشتى مظاهر الاستغلال من
الربا وسوء المعاملة، وغدت النظم القبلية أداة في يد الملأ من سادة قريش يسخرونها لما يحقق لهم حياة النعيم على حساب بؤس وشقاء الآخرين. هذه هي النظم التي كانت في مكة قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بيناها وبينا كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاش هذه الحياة، وخبر هذه التجارب، وأصبح على علم تام بهذه النظم القبلية التي كانت سائدة بمكة، لكن بنزول القرآن الكريم، اندلعت الثورة على هذه الحياة القبلية ونظمها ومؤسساتها كما قلنا عند نزول الوحي بالقرآن الكريم على الرسول الأمين -صلى الله عليه وسلم- وهو في الأربعين من عمره، أثناء تعبده في غار حراء، لقد نزل القرآن الكريم ثورة اجتماعية ودينية ضد الاتجاهات القبلية ونظمها ومؤسساتها التي تركزت في مكة، ودعا إلى إقرار نظمٍ جديدة في سبيل بناء مجتمعٍ متحرر من النظرة القبلية الضيقة، وقائم على أساس العدالة العالمية. إذن: بنزول القرآن الكريم أصبح هناك ثورة ضد هذه النظم البالية التي كانت قائمة على العصبية، وعلى حب القبيلة أكثر من غيرها، والتي كانت سائدة عن العرب في مكة، جاء القرآن الكريم ليعلن الثورة على هذه النظم البالية ومن أجل أن تكون هناك نظم أخرى تكون أوسع أفقًا وتشمل العالم بأسره، وتمت تنظيمات الرسول أثناء نشر الدعوة على مرحلتين هامتين مترابطتين الأولى: استهدف فيها الرسول الكريم نشر تعاليم الإسلام بما ينظم حياة الفرد في مكة، للتخلص من قيود العصبية القبلية في هذا المعقل القبلي الآثم وهو مكة، أما المرحلة الثانية: عمل فيها الرسول الكريم بعد هجرته إلى المدينة على تنظيم جماعة المؤمنين فيها لإعلاء شأن المجتمع الإسلامي الوليد وإعداد أبنائه لحمل رسالة الإسلام إلى سائر أرجاء العالم.
القواعد التي أرساها النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة.
القواعد التي أرساها النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة وجاهد الرسول الكريم في مكة على أن يرسي القواعد التالية، وفق ما جاء به القرآن الكريم: أول قاعدة من هذه القواعد التي أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقوم بإرسائها بعد نزول القرآن الكريم في مكة: الدعوة إلى وحدانية الله خالق كل شيء، واتخاذ هذه العقيدة الدينية الأساس لبناء مجتمعٍ جديد له نظمه وله مثله العليا، التي تقف على طرفي نقيض مع المجتمع القبلي وما سيطر عليه من نظم وتقاليد وليدة العصبية، وهي أمور صارت تعرف في المصطلح الإسلامي والدعوة الإسلامية، باسم: دعوى الجاهلية. فالدعوة إلى وحدانية الله كانت المعول الذي انقض على الجمود الجاثم على الحياة القبلية، وكانت سبيلًا لإيقاظ الفكر وتحريره من الرقود المقترن بروح المحافظة التي تدعو إليها النظم القبلية، وأوضح القرآن الكريم أهمية هذه الدعوة الجديدة، وأن العرب لم تكن لهم بها معرفة من قبل، فقال تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} (سبأ: 44) واقترنت الدعوة إلى وحدانية الله، بضرورة إعمال الفكر وعدم الجري والانقياد الأعمى بما تدعو إليه النظم القبلية من تمسكٍ بتراث الآباء والأجداد ولو كانوا على غير هدي، وندد القرآن الكريم بهذا الجمود في كثيرٍ من الآيات فقال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} (الصافات: 69 - 71) وحث القرآن الكريم في نفس الوقت على التدبر والنظر وإعمال الفكر، وأن إثبات وجود الله ووحدانيته يظهر للإنسان بالنظر العقلي في آيات الخالق، من ترابط الوجود وقوانين الطبيعة، بل وفي تأمل الإنسان نفسه لما وهبه
الله من سمع وبصر وغير ذلك من أسباب الحياة؛ ولذلك يقول -تبارك وتعالى-: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون}. القاعدة الثانية من القواعد التي أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرسيها في مكة، من أجل القضاء على هذه النظم القبلية البالية هي: تقرير فكرة البعث والحساب بعد الموت، حيث ينال الإنسان إما جنة الخلد أو عذاب النار حسب ما قدمت يداه في الحياة الدنيا لذلك يقول الله -تبارك وتعالى-: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} (المدثر: 38) ويقول تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 39 - 40) ويقول تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس: 34 - 37). فكما قلنا: هذه القاعدة تعني: تقرير فكرة البعث والحساب بعد الموت، حيث ينال الإنسان إما جنة الخلد أو عذاب النار، حسب ما قدمت يداه في الحياة الدنيا، واستهدفت هذه العقيدة الإطاحة بمفهومٍ بالٍ من مفاهيم الحياة القبلية، وإقرار مبدأ جديد للمجتمع الإسلامي الوليد، فمسئولية المرء في عقيدة البعث والحساب بعد الموت، مسئولية فردية حيث يجزى الإنسان بما كسبت يداه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} (الزلزلة: 7 - 8) وأوضحت آيات القرآن الكريم بجلاء هذه المسئولية الفردية، على أساس أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأنه يوم القيامة لا يسأل والد عن ولده، ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، وأن كل إنسانٍ مسئول عن أعماله يوم القيامة. ولذلك فهذه العقيدة هدمت دعوى الجاهلية القائمة على العصبية القبلية، والتي تقرر أن الفرد يؤخذ بجريرة غيره، على نحو ما تقرره عادة الثأر في القبيلة، وما اقترن بها من دعوة كل فرد من أفراد القبيلة إلى أن ينصر أخاه ظالمًا أم مظلومًا، وهذا معناه أن فكرة البعث والحساب تقرر المسئولية الفردية للإنسان، وأن كل إنسانٍ مسئول عن عمله {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38) {وَأَنْ لَيْسَ
لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وهذا بخلاف ما كان عليه العمل في النظم القبلية في الجاهلية، فالمسئولية الفردية لم تكن معروفة، وإنما كانوا يأخذون الشخص بجريرة غيره وبذنب غيره، وذلك كما كان حادثًا بالنسبة للأخذ بالثأر. فالإسلام يقرر أن القاتل يقتل، لكن هؤلاء إن لم يتمكنوا من قتل القاتل كانوا يقتلون أي فرد من أفراد عائلته، وهذا أمر يأباه الإسلام، وهدمه الإسلام بالعقيدة التي جاء بها وهي: المسئولية الفردية للشخص، والقرآن الكريم يصور يوم البعث والحساب تصويرًا يؤكد للإنسان أهمية المسئولية الفردية، وأن هول ذلك اليوم ينسي كل مرضعة ما أرضعت، وأن لكل امرئ يومئذٍ شأن يغنيه فيخرج لكل إنسانٍ يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا مكتوب فيه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (الإسراء: 14) وأيضًا {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس: 34 - 36) {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (الحج: 2). وهكذا هدمت عقيدة البعث والحساب وما اقترن بها من المسئولة الفردية، هدمت رابطة العصبية القبلية القائمة على الدم، وأحلت مكانها مسئولية جديدة تجعل من الإنسان نواة لوحدة يمكن أن تتسع على أساسٍ من مراعاة الضمير وتقوى الله في السر والعلن، ونعني بها: الوحدة التي يقف الفرد فيها إلى جانب الآخر كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)).
والقاعدة الثالثة من القواعد التي حاول وجاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرسيها في مكة هي: اتخاذ التقوى بدلًا من العصبية القبلية أساسًا لبناء قيمٍ أخلاقية سامية تتعدى مجالاتها حدود القبيلة، وتتسع في نفس الوقت لا لتشمل العرب فحسب بل وجميع الأمم المجاورة لهم أيضًا فالتقوى في الإسلام تقرر مقاييس أخلاقية جديدة، لبناء مجتمعٍ لا تسوده المقاييس القبلية الله -تبارك وتعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: من الآية: 13) فإذن: الله -تبارك وتعالى- يبين في هذه الآية أن أساس التفاضل بين البشر إنما هو تقوى الله -تبارك وتعالى- والعمل الصالح، وأن التمايز عن طريق الجنس أو اللغة أو الدين أو غير ذلك كل ذلك أمور لا ينظر إليها الإسلام وإنما ينظر إلى التقوى فقط {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. والنبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا يبين أنه ليس لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى والعمل الصالح، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى)) ولذلك شريعة الإسلام جاءت لتسوي بين الناس، وأنهم متساوون فيما بينهم أمام الله -تبارك وتعالى- لكن الذي يميز بين فردٍ وآخر إنما هو التقوى التي نص عليها الله -تبارك وتعالى- في الآية التي ذكرناها {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فالشعوب والقبائل في الإسلام ليست وحدات منعزلة، وإنما هي تكون مجتمعات يستوي الناس فيها أمام الإسلام بصرف النظر عن أصلهم وجنسهم، وأن الفارق بين الناس هو فارق أخلاقي، لا يقوم على أساس الوراثة، كما دعت إليه العصبية القبلية، وأن كل فردٍ ينال ما يشاء من رفعت لا على أساس الحسب والنسب والثراء، ولكن على قدر كسبه وبره وتقواه. وبدأت التقوى في الإسلام وما حوته من مقاييس أخلاقية، تنظم العلاقات بين الناس على قواعد جديدة، وتخرجهم من ظلمات النظم القبلية التي بلغت
مساوئها حدًا قاتلًا في مجتمع مكة، فالنظم الإسلامية التي تقررها التقوى، تستنكر المادية المرزولة التي اقترنت بالنظام القبلي في مكة، حيث الناس قد ألهاهم التكاثر بجمع المال، وعده وحبه حبًا جمًا مع سلبٍ لمال اليتيم، وعدم الحض على طعام المسكين، وإغراق في الموبقات، وإساءة إلى العلاقات الاجتماعية بين الأهل، والميل مع الهوى في معاملة الناس اقتصاديًا وأدبيًا. هذا هو ما كان عليه الحال في الجاهلية الحال في الجاهلية كان قائمًا على حب المال حب الثروة، ظلم القوي للضعيف، لكن جاءت التقوى لتبين أن الناس سواسية، وأنه لا فضل لإنسانٍ على آخر إلا بالتقوى، وأنه ليس هناك تمايز على أساس الحسب والنسب والثراء. وأخذ الرسول الكريم يتلو الآيات القرآنية التي تحرم التنظيمات القبلية البالية، والتي تقرر مبادئ التقوى لتنظيم المجتمع الجديد وسعادة أفراده ورفاهيتهم قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: 151 - 152). وأكد الإسلام في نفس الوقت أن التقوى ومبادئها لا تعني داء الواجبات السالفة تظاهرًا، وإنما الهدم منها مرضات الله -تبارك وتعالى- يعني: مطلوب من المسلم عندما يؤدي هذه الفروض التي فرضها الله عليه أن يؤديها خالصة لوجه الله -تبارك وتعالى- {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: من الآية: 5) لا بد من الإخلاص في
العمل لله -تبارك وتعالى- ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) ولذلك كما قلنا: أكد الإسلام في نفس الوقت أن التقوى ومبادئها لا تعني أداء الواجبات في الظاهر فقط، وإنما الهدف منها مرضاة الله؛ لأن الفرد سوف يحاسب على جميع ما يؤديه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. ونأتي إلى القاعدة الرابعة من القواعد التي حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرسيها في تنظيمات الإسلامية في مكة، وهذه القاعدة تعني: التأكيد على وحدة الرسالات، وأنها تستمد تعاليمها جميعًا من نبعٍ واحد هو الله -سبحانه وتعالى- وذلك للقضاء على تعدد المعتقدات في الحياة القبلية، وما صاحب نظمها الدينية من وثنية وشركٍ وحيرة أيضًا بين أتباع المسيحية أو اليهودية، فأوضح القرآن الكريم أن الدعوة الإسلامية تصديق لما جاء في الكتب السماوية، ودعوة للعرب خاصة باتباع ملة أبيهم إبراهيم فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى: 13). فإذن: وحدة الرسالات دعى إليها الإسلام لأن الرسالات كلها تدور على معنى واحد وهو توحيد الله -تبارك وتعالى- والإسلام هو أساس هذه الديانات جميعًا يقول -تبارك وتعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} (آل عمران: من الآية: 19) ويقول أيضًا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) فإذن: الرسالات جميعها إنما جاءت لأمرٍ واحد وهو توحيد الله -تبارك وتعالى- هذا هو ما حث عليه الدين الجديد، وهذا كان مخالفًا لما كان معروفًا في النظم القبلية قبل بعثة
النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كانت هناك تتعدد المعتقدات، من وثنية وعبادة أصنام، وغير ذلك، فجاء الإسلام وبين لهم أن أصل الرسالات واحد، وأن الدين عند الله الإسلام. وخاطب القرآن الكريم العرب لا على أنهم من قحطان أو عدنان، يعني: ليس على أنهم قبائل عربية، وإنما تذكرهم الآيات القرآنية بملة أبيهم إبراهيم، فقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} (الحج: من الآية: 78) وصارت وحدت الرسالات هي السبيل الذي جهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أن يخرج به العرب من نطاق التشتت القبلي إلى نطاق الوحدة، التي يدعوهم إليها باعتباره خاتم النبيين، وأن الدين الإسلامي هو دين أبيهم إبراهيم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 162) ويقول تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 68). تلك كانت هي القواعد التي أرساها النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمل جاهدًا على أن يرسيها في مكة بالنسبة للتنظيمات الإسلامية، لكن هل أهل مكة وكفار مكة تركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- هكذا، ليهدم هذه النظم القبلية التي كانوا يعيشون في ظلها، والتي كانوا يستفيدون منها؟ لا وقفوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- فهناك مقاومة من النظم القبلية للتنظيمات الإسلامية التي أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرسيها في مكة كما أوضحنا قبل ذلك، فقد سلك الرسول الكريم على هدي القرآن الكريم سبيل التدرج والتطور لنشر الدعوة الإسلامية، وإقرار التنظيمات الجديدة التي جاءت بها تلك الدعوة في مواجهة المقاومة الضارية التي واجهتها من النظام القبلي في مكة.
وحدد القرآن الكريم مراحل التطور من جهاد الرسول في مكة على النحو التالي: أولًا: أمر الله -سبحانه وتعالى- الرسول بأن يبدأ بعشيرته والمقربين له، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فالعشيرة بحكم قرابتها للرسول، تكون أكثر استعدادًا في نصرته عند توسيع نطاق دعوته إلى ما عداها من العشائر والقبائل، الثاني: أمر الله -سبحانه وتعالى- النبي بعد ذلك أن يبلغ رسالته لمكة وما حولها في قوله تعالى: {لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الأنعام: من الآية: 92) وتمثل هذه المرحلة انتقال الدعوة من العشيرة إلى قبيلة قريش صاحبة السيادة في مكة، ومعها خلفائها الضاربين خارج مكة نفسها. ثالثًا: أمر الله -سبحانه وتعالى- الرسول بأن يوضح للناس أن دعوته والتدرج في نشرها لا تعني أنها محدودة بقريش والقبائل العربية وإنما هي دعوة للبشرية كافة، وأن جميع ما جاءت به تلك الدعوة من عقائد ونظم تتضح أهميتها الكبرى في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} (يوسف: من الآية: 104) وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: من الآية: 28) فالدعوة هي دعوة عالمية للناس جميعًا، ولا غرابة في ذلك لأنها آخر الدعوات والرسول -صلى الله عليه وسلم- آخر الرسل، ولذلك كانت دعوة للناس جميعًا، إنما بعثت للناس كافة، كما يبين ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- واستجاب نفر من عشيرة الرسول الأقربين للدعوة الإسلامية، ولكنها كانت استجابة فردية رائدها الإيمان الصادق بما جاء به القرآن الكريم، وليس للعصبية دخل فيها، يعني: هؤلاء النفر الذين آمنوا بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- من عشيرته، لم يؤمنوا بدعوته -صلى الله عليه وسلم- بسبب العصبية وأنه من عشيرتهم، ولكن بسبب اقتناعهم بهذه الدعوة كما وضحها القرآن الكريم.
لقد أفاد الرسول الكريم من عشيرته حين وقف عمه أبو طالب إلى جانبه في تلك الأيام الأولى من الدعوة الإسلامية، ولكن الرسول الكريم لم يشأ في نفس الوقت أن يعتمد اعتمادًا كليًا على عشيرته، أو يحد نفسه بها؛ لأن ذلك لا يتفق ودعوته التي تهدف إلى هدم العصبية القبلية بكافة أنواعها، ثم إن عصبية العشيرة نفسها تصدت للرسول تصديًا أعمى وأخذت تنزل به أشد الأذى، وذلك على نحو ما قام به عم للنبي نفسه اسمه: أبو لهب وزوجته، وقد نزل في هذا المشرك المتعصب قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} (المسد: 1: 5). هذا معناه: أن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تقم على العصبية بدليل أن أقرب الناس للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عمه وقف له بالمرصاد وحاربه، ولذلك عندما تنشط هذه الدعوة وتغزو العالم فليس معنى ذلك أنها دعوة للعصبية والقبلية، وإنما هي دعوة للناس جميعًا، والناس عندما يدخلون في هذه الدعوة لا يدخلونها من باب العصبية والقبلية، وإنما من باب ما جاءت به الدعوة من أدلة على أنها الدعوة الصحيحة، التي يجب أن يدخل فيها الناس جميعًا. واندلعت نار العصبية من العشيرة إلى قبيلة قريشٍ حين نجحت الدعوة الإسلامية في تحدي النظم القبلية، وزاد عدد المعتنقين الأول للإسلام وقاد الملأ -وهم: أرستقراطية قريش من شيوخ العشائر، والبطون- قادوا هذه الحركة ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- قادوا حركة المقاومة للرسول حينما لمسوا خطورة تنظيم أتباعه، على نظامهم القبلي وكيانهم الشخصي القائم على تقاليد هذا النظام.
إذن: عندما وجدوا أن هذه الدعوة سوف تنال من الأنظمة القبلية التي كانوا يسيرون عليها قبل الدعوة وجدوا في ذلك خطورة، ولذلك وقفوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالمرصاد، من أجل محاربته ومن أجل المحافظة على هذا النظام القبلي الذي كان يقرر مصلحة لهم، ولذلك أعلن رجال الملأ استنكارهم أولًا لما جاء به الرسول الكريم، ووصفوه بأنه غريب على تقاليدهم القبلية، وقالوا عنه على نحو ما ذكر القرآن الكريم: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} (القصص: 36) وكذلك {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} (ص: 7). ودفعت العصبية القبلية ملأ قريش -يعني: رؤساء قريش- إلى الانتقال بعد ذلك من مجرد الاستنكار إلى مقاومة الرسول ماديًا ومعنويًا، حين تبين لهم أن دعوته برغم أنها بدأت دينية إلا أن تعاليمها أخذت تخلط بين أتباعها نظمًا جديدة تهدد وحدة النظام القبلي، وتقاليده، فأتباع الدين الجديد انفصلوا عن عشائرهم وقبائلهم، وتخلوا عن عصبيتهم القبلية وروابطها، وكونوا مجموعة لها روابط جديدة، ومثلًا وقيمًا جديدة وأشار القرآن الكريم إلى طبائع هذا الصراع داخل الأسرة الواحدة التي أسلم نفر منها دون الآخر فقال تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أَخْرُجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأحقاف: 17). ثم رسم القرآن الكريم معالم التنظيم الخاص لهذه الظاهرة المبكرة في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8) ورأى الملأ من قريش أن مجتمع مكة انقسم شقين: مجتمع تهيأ له نظمه الاتساع والنشاط ويضم المؤمنين بالإسلام، ومجتمع جامد آخذ في الانهيار وهو المجتمع القبلي الذي
يتولى الملأ رئاسته في مكة، وبات الموقف يتطلب من الملأ سرعة العمل ضد الرسول، الذي هددت تعاليمه ومقاييسه الجديدة هددت سلطان الملأ نفسه، ومكانة قبيلة قريش ليس في داخل مكة بل وفي خارجها كذلك، فالدعوة الإسلامية وما نادت به من نظمٍ جديدة قائمة على التقوى كأساسٍ للتفاضل الاجتماعي بدلًا من النظم القبلية القائمة على العصبية والثراء، أخذت تكون طلائع جديدة للرئاسة العامة، ليس للملأ وشيوخ العشائر فيها نصيب، وزاد في خوف الملأ من طلائع هذه الرئاسة الجديدة أن شئونها العليا آلت بحكم النظم الإسلامية للرسول نفسه، حيث نادت الآيات القرآن بطاعة الله وطاعة الرسول. وعبر الملأ عن خوفه من طلائع هذا النظام الإسلامي الجديد؛ لاختلافه عن القواعد التي قررها النظام القبلي للرئاسة على نحو ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف: 31) وأشار القرآن الكريم أيضًا إلى حقيقة الأسباب التي خاف من أجلها الملأ على مكانته في مكة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ: 34 - 37) وأخيرًا وجد الملأ ذريعة لتعبئة صفوف عامة قريش وعشائرها تحت لوائه، حين هاجمت التعاليم الإسلامية وثنية قريش وآلهة المشركين، إذ رأى الملك أن سيادة الدعوة الإسلامية الجديدة تعني: زوال سيادة قريش القائمة على صيانة أصنام
القبائل في الكعبة، وصرف تجار تلك القبائل وأهلها عن بيتهم العتيق، وأشار القرآن الكريم إلى الصراع الذي دار بين الملأ وبين الرسول حول هذا الأمر في قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 57 - 58) ودار الصراع بين الملأ والرسول الكريم على مراحل كشفت نتائج كلٍ منها عن أن النظام القبلي قد فقد سطوته وأن ما أظهره من مقاومةٍ إن هي إلا صحوة الموت، على حين أن النظم الإسلامية تحمل من الفتوة من السمو ما يبشر بطلائع مجتمع عالميٍ جديد، ولذلك كتب الله -تبارك وتعالى- النصر لهذه الدعوة، وهكذا استطاعت التعاليم الإسلامية أن تحقق لصمود أتباعها أمام ملأ قريش مبدءًا جديدًا وهو أن واجب الفرد لم يعد يقتصر على قبيلته، وإنما صار يشمل المؤمنين بالدعوة الإسلامية على اختلاف الأصول القبلية التي ينتمون إليها، وبدأ هذا المفهوم الجديد يهز الحياة القبلية كلها برغم صلف قريش وضراوة الملأ فيها للدفاع عن بقاء تلك الحياة القبلية، ولم يعد أمام الرسول الكريم في نفس الوقت من سبيل سوى نقل هذا المفهوم والدعوة التي استند إليها هذا المفهوم إلى ميدان جديد، أشبه بالشكل من النبات الذي لا بد من غرسه في أرض جديدة تكون أكثر ملائمة لنموه وازدهاره، إذ اتضح للرسول الكريم أن بيئة مكة قد أصبحت بعناد ملأ قريش له معقلًا للنظم القبلية وعصبيتها الجاهلية، وأنه لا بد من البحث عن تربة جديدة غير تربة قريش، ولذلك اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة المنورة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة.
2 - نشأة النظم الإسلامية في المدنية أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد: قد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن نشأة النظام الإسلامي، أو النظم الإسلامية، وبينا التنظيمات الإسلامية التي وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، ونشرع الآن في بيان التنظيمات الإسلامية التي وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول -وبالله التوفيق-: اتضح للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن بيئة مكة قد أصبحت -بعناد ملأِ قريش له- أصبحت معقلًا للنظم القبلية، وعصبيتِها الجاهلية، وأنه لا بد من البحث عن تربة جديدة غير تربة قريش، واختار الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- سوق عكاظٍ باعتباره أهم مؤسسة في الحياة القبلية، وبدأ يعرض الدعوة الإسلامية على القبائل العربية الوافدة إلى هذا السوق من خارج مكة، وحلفائها. والتقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنفرٍ من قبيلة الأوس من أهل يثرب -التي أصبحت المدينة فيما بعد- كانوا قد وفدوا إلى مكة لعقد تحالف مع قبيلته قريش ضد الخزرج -وهي القبيلة الكبرى الثانية في يثرب- وشرح النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا النفر من الأوس مغبة الصراع القبلي الغارقين فيه، وخطورة تأجيج نيرانه بالتحالف مع قريش، ثم دعاهم -صلى الله عليه وسلم- إلى خيرٍ من ذلك، وهو اعتناق الإٍسلام، وعلى الرغم من أن هذا النفر لم يؤمن، إلا أنه -حين عاد إلى يثرب- نشر بين أهلها خبر الدعوة الإسلامية الجديدة وجهاد رسولها -صلى الله عليه وسلم- في مكة، واهتزت قبيلة الخزرج للأنباء التي ذكرها رجال الأوس عن النبي الجديد في مكة، ورأوا أن أحوالهم في يثرب تدفعهم إلى معرفة دعوته -صلى الله عليه وسلم- ذلك أن سكان يثرب من الأوس، والخزرج قد سمعوا من جيرانهم اليهود بقرب ظهور نبيٍ، وأن اليهود يستغلون هذه النبوءة لفرض سيادتهم على يثرب كلها. ولذا حين خرج إلى سوق عكاظ نفر من بني عبد الأشهل من الخزرج، والتقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا أسبق أهل يثرب إلى قبول الدعوة الإسلامية؛ حتى لا ينال الأوس، أو اليهود قصب السبق عليهم في هذا السبيل، وتجلت في مناقشة هذا
الوفد الخزرجي مع الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- مدى استجابة قبيلة الخزرج لمبدأ اتساعٍ واجب الفرد إلى خارج نطاق القبيلة على نحو ما تدعوا إليه تعاليم الإسلام، وصلاحية هذا المبدأ لأن يكون طليعة التنظيم السياسي للمسلمين في يثرب يعتز به الرسول شخصيًا؛ فقالوا للرسول -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة، والشر ما بينهم؛ فعسى أن يجمعهم الله بك؛ فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليه؛ فلا رجل أعز منك. وبدأت الدعوة الإسلامية، ومفاهيمها تلقى استجابة بين أهل يثرب، حتى إذا ما وافى موسم الحج التالي حضر وفد من أهل يثرب يضم اثني عشر شخصًًا؛ تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وقابلوا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بين منى، ومكة، وبايعوه على الإسلام، وجاء تكوين هذا الوفد من الخزرج، والأوس دلالة على اتساع مفهوم واجب الفرد، وأنه لم يعد يقتصر على القبيلة. ثم إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- خطى خطوة تنظيمية أخرى كان لها أثرها في النظام السياسي لجماعة المسلمين؛ إذ بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الوفد -عند عودته إلى يثرب- أحد الصحابة السابقين في الإسلام، وهو مصعب بن عمير من بني عبد الدار؛ ليقرئهم القرآن، ويفقهم في الدين، واشتهر هذا الصحابي في يثرب باسم المقرئ، وهو لقب يدل على اتجاهٍ جديدٍ في الرئاسة من أجل تنظيم الدعوة الإسلامية على أسسٍ بعيدة عن العصبية القبلية؛ إذ تولى هذا المقرأ إمامة الناس في الصلاة من أوس وخزرج؛ تفاديًا لإثارة النعرات القبلية، كما استطاع بأمانته في السير على نهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من حيث التدرج، والأناة أن يكسب إلى جماعة المسلمين في يثرب أكبر زعيمين في قبيلة الأوس، وهما: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير.
وغدت يثرب بفضل هذا الرئيس المقرئ تشهد طلائع تنظيمٍ سياسيٍ جديد يقوم على أساس الدين بدلًا من العصبية القبلية، ورابطة الدم، وظهرت قوة هذه الطليعة بالتنظيم السياسي الجديد للمسلمين حين وفد مصعب على مكة في العام التالي للحج، ومعه وفد من ثلاثةٍ وسبعين رجلًا، وامرأتين، وقابلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة؛ حيث بايعوه بيعة العقبة الثانية الشهيرة، إذ تجلت في هذه البيعة قيام الالتزام المتبادل بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين مسلمي يثرب، وفق التنظيمات الجديدة التي دعت إليها التعاليم الإسلامية؛ إذ بدأ الانتقال من النظام القبلي إلى النظم الإسلامية يدخل مرحلة التنفيذ العملي، والاختبار في نفس الوقت حين تبادل الرسول، ومسلمي يثرب العهود والمواثيق على النصرة والتأزر. وكان العباس بن عبد المطلب قد حضر مع النبي اجتماع العقبة الثانية، واستهل الحديث إذ ذاك رغم أنه لم يكن قد أسلم بعد؛ ليأخذ المواثيق من أهل يثرب للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمت، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه؛ فهو في عزٍ من قومه، ومنعةٍ في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم موافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه؛ فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم؛ فمن الآن فدعوه؛ فإنه في عزة، ومنعة من قومه، وبلده" وأجاب رئيس وفد الخزرج على قول العباس بقوله: "قد سمعنا ما قلت: فتكلم يا رسول الله" فخذ لنفسك وربك ما أحببت" وتلا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بعض آيات من القرآن. ثم قال: ((أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم)) وأخذ سيد القوم، وهو البراء بن معرور بيد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وقال له: نعم، والذي
بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به نساءنا، وأبناءنا، فبايعنا يا رسول الله؛ فإنا والله، أهل الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر. وهنا تدخل أحد رجال يثرب، وطلب من الرسول مزيدًا من المواثيق؛ لأن قبولهم للدعوة الإسلامية يعني: قطع علاقة قبائل يثرب باليهود المجاورين لهم، وقال: يا رسول الله، إنا بيننا وبين الرجال -يعني: يهود المدينة- حبالا، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك، وتدعنا فتبسم الرسول الكريم، وقال: ((الدم الدم، والهدم الهدم؛ أنا منكم، وأنتم مني أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)). ثم قال لهم: ((أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم)) فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا؛ تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، فقال لهم الرسول: ((وأنتم على قومكم بما فيهم كُفَلَاء كَكَفَالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل عن قومي)) وصارت هذه البيعة -التي اشتهرت باسم بيعة العقبة الثانية، أو بيعة الحرب، أو ما عبروا عنه بحرب الأسود، والأحمر- صارت هذه البيعة إعلانًًا رسميًا بانتقال حق الدفاع عن الدعوة الإسلامية، وصاحبها إلى أعضاء هذا المجتمع الإسلامي الوليد، وجاءت هذه الاتفاقية بذلك حدثًًا هامًًا هز النظام القبلي هزًّا عنيفًا، وآذن بتقويضه من أساسه، ذلك أن النظام السياسي السائد -إذ ذاك- لم يكن يعرف حماية للفرد إلا في حماية القبيلة له، أما أن يتولى هذا الحق قوة خارج نطاق القبيلة -على نحو ما حددته بيعة العقبة الثانية- فهو تنظيم جديد لا يمكن أن تسكت عليه قريش، والملأ من شيوخها. وتخبط الملأ فعلًا حين بلغته أنباء بيعة العقبة الثانية، ولم يجد منفذًا له من بين نظمه القبلية غير التآمر على قتل الرسول الكريم للحيلولة بينه، وبين الذهاب إلى يثرب،
وأسفر اجتماع الملأ الذي انعقد في دار الندوة عن أن يكون قتلهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- قتلًا جماعيًا يشترك فيه فتًى من كل بطنٍ من بطون قريش حتى يتفرق دمه بين القبائل، وتعجز عشيرة الرسول عن حربها جميعًا، وتقبل الدية، ولكن هذا التفكير القبلي ثبت أنه عاجز عن ملاحقة التطورات التي صاحبة التنظيمات السياسية التي، وضعها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إذ استطاع النبي هدم هذا المخطط القبلي الشامل، ونجح في الهجرة إلى يثرب حيث بدأ صفحة أوسع، وأروع في ميدان النظم الإسلامية، وتطوير منجزاتها، وأهدافها، وسوف نتكلم الآن عن نظام جماعة المؤمنين في المدينة، أو التنظيمات التي وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة لدولة الإسلام. النظم الانتقالية: سار الرسول الكريم بعد الهجرة إلى يثرب على نفس أسلوب التدرج، والتطور في نشر الدعوة الإسلامية برغم ما تطلبته تلك المرحلة من تنظيمات أوسع، وأكثر مما قام به في مكة، واتضح في هذا الدور الجديد ما تحلى به الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من مواهب سياسية، وخبرة عميقة بالتطور الثقافي لأهل يثرب، وذلك بصورة لا تقل روعة عما أظهره في مكة من مثالية كاملة في الجهر بالدعوة، ومن شجاعة نادرة في التعاليم، أو في الدفاع عن تعاليم تلك الدعوة، ونظمها التي اختلفت تمام الإتلاف عن النظم القبلية الراسخة الأوتاد. واتسمت تنظيمات الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في يثرب بالقدرة الفائقة على الجمع بين التخطيط، والتنفيذ، سواء في الحالات التي فرضها عليه الأمر الواقع، أو تلك التي جاء بها القرآن الكريم تنزيلًا من عند الله العزيز الحكيم.
واشتملت تنظيمات الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الأيام الأولى من هجرته إلى يثرب على نظمٍ انتقاليةٍ، وأخرى أساسية جاءت كل منها، وليدة المجتمع الإسلامي الجديد، وكانت أهم معالم هذه النظم الانتقالية: أولًا: نظام المؤاخاة، وهو أمر اقتضاه تيسير سبل المعيشة على أهل مكة المسلمين الذين تركوا بلدهم، وديارهم، وثرواتهم، وهاجروا إلى يثرب حفاظًًا على عقيدتهم الإسلامية، وإيمانهم الراسخ المتين؛ فعمد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى توفير أسباب العيش الكريم لهذا النفر من المسلمين لوضع نظام المؤاخاة، ونظام المؤاخاة هو البديل الإسلامي لنظام الحلف في القبيلة إذ كان الدين هو أساس المؤاخاة، وليست العصبية القبلية على نحو ما ساد نظام الحلف؛ فوزع الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- جماعة المهاجرين بمكة بمقتضى نظام المؤاخًاة، وزعهم على مسلمي يثرب بأن دعاهم إلى أن يتآخوا في الله أخوين أخوين، وعاش كل مهاجر من مكة مع أخٍ له من مسلمي يثرب، ويرث كل منهما الآخر عند الوفاة، وأظهر أهالي يثرب من المسلمين إخلاصًًا مثاليًا في تطبيق نظام المؤاخاة، وهو الأمر الذي امتدحه القرآن الكريم في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9). فسمح كل مسلمٍ من أهل يثرب لأخيه من المهاجرين بالمشاركة في الأعمال التجارية، وغيرها من شئونه الاقتصادية، وتقديمه كل ما يخفف متاعب الحياة عن هذا المهاجر، وعندما استقرت أحوال المهاجرين باتساع سلطان الدين الإسلامي، وكثرة أتباعه؛ لم يعد هناك حاجة إلى الاستمرار في نظام المؤاخاة، ونزل التشريع الإسلامي بإلغائه، وإبطال أحكامه الانتقالية، وذلك في قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: من الآية: 75)،
ومن النظم الانتقالية أيضًًا، أو من أهم هذه المعالم للنظم الانتقالية أيضًًا في المدينة هو استخدام المصطلح الإسلامي: المهاجرين والأنصار للدلالة على الطلائع التنظيم الجديد في يثرب، واعتبار العقيدة، والدين سبيلًا للوحدة بدلًا من العصبية القبلية، ونظمها؛ فكان يقصد بالمهاجرين جميع المسلمين الذين هاجروا من مكة، دون نظرٍ إلى قبائلهم، أو عشيرتهم، كما صار هذا المصطلح الجديد وحدة تميزهم من دون القبائل التي كانوا ينتمون إليها من قبل. وكذلك أصبح مصطلح: الأنصار علمًًا على مسلمي يثرب من الأوس، والخزرج دون نظرٍ إلى القبائل التي كانوا ينتمون إليها عن طريق العصبية، فالوحدة في العقيدة، والدين صارت هي القاعدة لنظام المهاجرين، والأنصار، وصارت هي السبيل إلى نبذ العصبية القبلية الضيقة الأفق، والإطاحة بكافة أسباب الفرقة التي اقترنت بالعصبية القبلية، وأصبح نظام المهاجرين، والأنصار -وما ارتبط به من نظام المؤاخاة- أصبح السبيل نحو بناء نظامٍ سياسي جديد، شملت آفاقه الواسعة هاتين المجموعتين، ثم صهرهما في وحدةٍ واحدة صارت تعرف باسم جماعة المؤمنين. وجعلت تلك الجماعة الجديدة، ونظمها من يثرب بلدة جديرة أن تدعى باسم مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- دلالة على الدور الهام الذي قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بناء هذا نظام الإسلامي الجديد، ودعم أوتاده في تلك البلدة؛ فودعت يثرب الحياة القبلية، واستقبلت عهد الإسلام بنظمه، وتعاليمه السامية، وصارت -في ظل هذا العهد الجديد- محط أنظار الجميع، يلتمسون في قيادة نبيها الكريم ما يهديهم سواء السبيل، وغدا الجميع يطلقون عليها -في هذا العهد الجديد-: مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الاسم الذي تذكر به اليوم، ويردده الجميع تكريمًا باسم المدينة المنورة.
النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة.
هذا عن النظم الانتقالية التي أرساها النبي -صلى الله عليه وسلم- عند مجيئه إلى يثرب أي: المدينة، وقلنا: أن هذه النظم الانتقالية كانت تتمثل في نظام المؤاخاة. ثم أيضًًا في نظام المهاجرين، والأنصار. النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة لكن أيضًًا هناك نظم أساسية كونها النبي -صلى الله عليه وسلم- تكونت هذه التنظيمات الأساسية التي وضعها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لجماعة المؤمنين في المدينة تكون هذه التنظيمات الينابيع الدافقة التي استمدت منها النظم الإسلامية ما اتسمت به من أصالة، وقدرة في نفس الوقت على التأقلم مع متطلبات التطور والنمو؛ إذ استهدف الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من هذه التنظيمات جعل جماعة المؤمنين نواةً طيبةً لمجتمعٍ جديد، رسالته الجهاد في سبيل نشر الإسلام، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، واستطاع الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن يحقق تلك الأهداف في أعقاب هجرته إلى المدينة؛ نتيجة إقرار النظم الأساسية التالية: أولًا: إقرار نظام الدولة والقانون بدلًا من القبيلة والعرف؛ إذ هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ومعه تجربة عملية عما ساد مكة من نظامٍ قبليٍّ فاسد، وعصبية عمياء حالت بين القبائل، وبين الوحدة، والتعاون؛ ولذلك جهد -عليه الصلاة والسلام- على أن يحول بين هذه الآفات القبلية، وبين امتدادها إلى جماعته الجديدة في المدينة، وهي ما زالت في فجر حياتهًا؛ ومن ثم اتخذ الدين والعقيدة أساسًًا لجمع المسلمين من مهاجرين وأنصار، في دولة يرى أفرادها في دينهم الجديد رباطًًا وثيق العرى، وأشد قوة من الروابط القبلية. ودعم الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا النظام على أساسٍ جديدٍ أيضًًا، وهو القانون القائم على الشريعة بدلًا من العرف القبلي، وما التزم به ذلك العرف من عصبية مهلكة،
وحفلت صور القرآن الكريم التي نزلت على الرسول في المدينة بالتشريعات التي شدت من أزر الدولة الإسلامية الوليدة، وخلقت منها قوةً متحركة حيوية، قادرةً على أن تتفوق على ما حاط بها من مجتمعٍ قبليٍ جامدٍ راكدٍ. ومن النظم الأساسية أيضًًا التي، وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتبار نظام المواطنة، وحقوقها أساسه الهجرة لمقاومة الباطل بدلًا من العصبية القبلية، فالولاء للدولة الإسلامية الجديد، والتمتع بحقوق المواطنة فيها أساسه الهجرة إليها، والاقتداء بما قام الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة من مواطن الشرك، والضلالة القبلية إلى وطن الهدى، ونصرة الدين، وكرامة الإنسان، ونزلت الآيات القرآنية التي تؤكد هذا النظام الجديد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: من الآية: 97) وقال -سبحانه وتعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلًايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (الأنفال: من الآية: 72)، وبدأت فكرة المواطنة بمعناها المثالي ترتبط بالدولة الإسلامية الوليدة، وتدعم الروابط بين أبنائها على أسس راسخة متينة. ومن النظم الأساسية التي وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة أيضًًا إقرار نظام الشورى؛ لتقوية روح الجماعة الجديدة، وتدريبها على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الفردية؛ فالتشريع السماوي الذي جاء به القرآن الكريم لا يعني حرمان الناس من المشاركة في تنظيم أمورهم، وإنما يفتح هذا التشريع كافة السبل أمام أعضاء الدولة الجديدة لإبداء الرأي في جميع المسائل -وبخاصةٍ ذات الأهمية العامة. وأوضحت الآيات القرآنية ضرورة الشورى يقول -تبارك وتعالى-: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: من الآية: 159)، وفي قوله تعالى مؤكدًا أهمية
هذا النظام في حياة أفراد الدولة الجديدة يقول تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: من الآية: 38)، وأتاح نظام الشورى في الدولة الجديدة أن يكون نموذجًا للارتباط الوثيق بين الحاكم -مهما كانت وظيفته- وبين المحكوم مهما كان دوره في الدولة، فالجميع -وفق نظام الشورى- شركاء في بناء حياتهم، وتكييف أمورهم حسب المصلحة العامة، وبما يتفق وتطور الزمان والمكان. وصار نظام الشورى أهم مقياسٍ حرص المسلمون طوال تطور دولتهم على الاعتماد عليه لمعرفة مدى سلامة هذا التطور، وبعده عن الانحراف والأخطاء، وحقق نظام الشورى الانطلاق السليم للدولة الإسلامية الفتية؛ حيث أتاح لأبنائها على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ممارسة حقوقهم، وواجباتهم، والتعبير عن الروح الديمقراطية التي سبق أن فطر عليها العربي بأسلوبٍ أوسع، وأكثر دقةٍ، ونظام. ومن المبادئ الأساسية أيضًًا التي أرساها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة: إقرار نظام المسجد؛ ليكون مركزًا لاجتماع أبناء الدولة الجديدة، لا من أجل شئونهم الدينية فحسب، ولكن ليكون مقرًًا لتصريف شئونهم العامة والخاصة، ومقرًا أيضًًا للسلطان الجديد، وما يرتبط به من مظاهر، وما يصدر عنه من أفعالٍ، وكان نظام المسجد الذي وضعه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- نظامًًا مبسطًا في مبناه ومعناه، ولكن صار بتطور الدولة الإسلامية نموذجًا احتذاه المسلمون سواء في فن عمارة المساجد، أو في ميدان الحياة العامة. واجتهد المسلمون على تقليد هذا المسجد طوال تطور دولتهم حريصين على الإبقاء على قواعده الأساسية، وغدت التشريعات التي أعلنها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من هذا المسجد ينبوعًا حرص المسلمون على أن ينهلوا منه مع تلمس الهداية،
والإرشاد مما صاحبه من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ استقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الوفود، ورسم لجماعة المسلمين كل ما يهديهم سواء السبيل. ومن التنظيمات -المهمة للغاية- في المدينة، والتي قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الدستور الدائم، أو الصحيفة -كما يطلق أو كما يطلق عليه عند البعض- التي كتب فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- كيفية سير التنظيم الجديد في الدولة في المدينة، وبين -صلى الله عليه وسلم- في هذه الوثيقة، أو في هذا الدستور حقوق، وواجبات كل من في هذه الدولة، نقول: وتبلورت النظم الأساسية والتزاماتها في الدستور الدائم الذي وضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإقرار العلاقات ليس بين جماعة المؤمنين بعضهم البعض، ولكن بينهم، وبين جيرانهم من أهل المدينة أيضًًا، وصار هذا الدستور -الذي اشتهر باسم الصحيفة- صار أساس الدولة الإسلامية الوليدة، وأهم ينبوعٍ من ينابيع النظم الإسلامية التي صاحبت تطور هذه الدولة، واتساعها على مر العصور. وأقر هذا الدستور النظم، والمبادئ الهامة التالية: أولًا: بالنسبة لمفهوم الأمة، وحقوق المواطنة: 1 - عرف الدستور الأمة تعريفًا لا يستند إلى الأسس والنظم القبلية، وما اقترن بها من العصبية والنسب، وإنما قرر أن الأمة تضم كل من اعتنق الدين الجديد، دون نظرٍ إلى أصله، أو قبيلته، وجاء هذا المبدأ عنصرًا هامًًا جعل الأمة الجديدة أمة مرنة قابلةً للاتساع، وضم شعوبًا كثيرة إلى رحابهًا، وتجلى هذا المفهوم الجديد للأمة في مقدمة الدستور، حيث قررت أن المؤمنين، والمسلمين من قريش، ويثرب، ومن تبعهم فلحقهم بهم، وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس.
2 - أكد الدستور أن هذه الأمة لا تعترف بتمايز طبقي، أو استغلالٍ فردي على نحو ما ساد النظم القبلية، وإنما مهد السبيل لإذابة الفوارق بأن جعل القبائل تشكيلًا اجتماعيًا لخدمة الأمة الجديدة؛ فظلت الأفخاذ، والقبائل أعضاء في الأمة، ولكن وفق المفهوم الجديد للدولة الإسلامية حيث اعتبر المهاجرون مثلًا فخذًًا واحدا شأنهم شأن الأفخاذ الأخرى، واقتصرت مهمة تلك الأفخاذ، والبطون على تسهيل مهمة الفرد في دفع الديات، وفداء الأسرى، أي: حدد الدستور العلاقة بين الأمة، والقبائل تحديدًا جديدًا قوامه خدمة مطالب هذه الأمة، وتقديم مصلحتها على أي مصلحة فردية، وأوضح الدستور بكل فخذٍ على حدة نوعَ الالتزامات المفروضة عليه، حسب وضعه في الأمة الجديدة، ودون تمييز بينها. 3 - حدد الدستور حقوق وواجبات الأمة الفتية لتشكيلها الجديد على الأسس التالية: التراحم والتعاون بين أبنائها في شتى النواحي، وبخاصة أولئك الذين أثقلتهم الديون، وضرورة مساعدتهم على التخلص من أعباء تلك الديون. أيضًًا تحديد مسئولية الفرد، وتنظيم روابطه مع أهله وجيرانه من حيث الولاء، وذلك بما يتفق وأوضاع الدولة ونظامها الجديد. سيادة القانون والإجراءات التنفيذية: ونظمت الصحيفة حياة الناس داخل الدولة الجديدة على أساس سيادة القانون، وما يرتبط بذلك من إجراءات تنفيذية؛ فإذا أخل أحد بالأمن، أو ارتكب عملًا فاحشًا؛ فإن الأمة بأجمعها تتولى توقيع العقوبة المطلوبة، وأن الجميع مطالبون بالتضامن في تنفيذ تلك العقوبة -ولو كان ولد أحدهم.
وارتبط بسيادة القانون تحويل الثأر إلى عقوبة، بمعنى أنه عمل يقع على عاتق الأمة، بعد أن كانت الأفخاذ والعشائر تقوم به طبقًًا للنظام القبلي الباطل، واحتفظ القانون للفرد في نفس الوقت بالحق في تقرير نوع العقوبة بالاتفاق مع المعتدى عليه من حيث توقيع العقوبة، أو قبول الفدية مثلًا، ومما جاء بهذه الصحيفة تقرير حرية الأديان، وتحديد علاقة الدولة بأتباعها. أوضحت الصحيفة مبدءًا هامًّا من مبادئ الدولة الجديدة، وهو إقرار حرية الأديان السماوية، وأن أتباعها يعتبرون مواطنين، لهم حق التمتع بحماية الدولة، وفق الشروط التي تضمنها الدستور الجديد، ولما كانت القبائل اليهودية وبطونها أهم عنصرٍ من عناصر السكان في الدولة الإسلامية الجديدة بيثرب؛ فإن الصحيفة نصت في جلاءٍ على ما له من حقوق، وواجبات، سواء بالنسبة لجيرانهم من المواطنين المسلمين، أو بالنسبة للدولة وسلطانها، وذلك على النحو التالي: قررت الصحيفة حرية الدين لليهود، ولقبائلهم، ولبطونهم التي سبق أن تحالفت معها بطون الأوس، والخزرج، ولكن مع ضرورة مراعاة حقوق المواطنة بالابتعاد عن الإخلال بالنظام، أو استغلال حماية الدولة لارتكاب جرائم، وآثام، وأكدت الصحيفة أن العقاب سيكون من جنس العمل، وأنه يقع على الفرد، أو آل بيته حسب التكييف القانوني للجريمة. ونظمت الصحيفة أيضًًا حقوق اليهود، وواجباتهم في الاشتراك مع المسلمين في الحروب، والدفاع عن الدولة الجديدة ضد أي خطرٍ خارجي، فإذا كانت الحرب
دفاعية فإن كل طرفٍ يتحمل نفقته، أما في الحرب الهجومية؛ فلا ينتظر طرف مساعدة الطرف الآخر. وأيضًا حددت الصحيفة موقف اليهود باعتبارهم من سكان يثرب مع قريش العدو الرئيسي للدولة الإسلامية الجديدة؛ فقررت ضرورة اشتراك اليهود في الدفاع عن يثرب إذا هاجمتها قريش، وأن عقد الصلح مع قريش، أو عقد أي اتفاقٍ معها يتطلب الموافقة أولًا من السلطة المركزية متمثلة في الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم. أيضًًا أتاحت الصحيفة تطبيق نفس الشروط، ليس على اليهود المخالفين للأوس، والخزرج فحسب، بل على القبائل اليهودية الكبرى إذا رغبت في ذلك، وأكدت الصحيفة عدالتها في معاملة اليهود بأنها لن تأخذهم جميعًا بجريرةٍ فردية، وإنما ستعامل كل جماعة منهم حسب ما يبدر منهم. وتحدثت الصحيفة عن سيادة الدولة، وإقرار مظاهر تلك السياسة، وتوجت الصحيفة شروطها بإقرار النظم الخاصة بسيادة الدولة، وبيان حقوق رأس تلك الدولة، وهو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وتمثلت قواعد سيادة الدولة فيما يلي: 1 - اتحاد السكان جميعًا لدفع أي عدوان يمس سيادة الدولة سواء أصاب هذا العدوان فردًًا، أو مجموعة تتصل أعمالها، أو مهامها بشئون الدولة، وأمنها، وكان هذا النظام أهم قواعد الدولة الجديدة، وأسباب تفوقها على أعدائها المحيطين بها من أتباع النظم القبلية؛ إذ غدت سيادة الدولة سياجًًا يحمي المواطنين جميعًا، ولزامًًا يجعلهم صفًا واحدا في معالجة الأخطار التي تواجههم.
تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة.
2 - اعتبار الحرب والسلام أمرًًا من أمور سيادة الدولة، فلا يصح لفردٍ، أو مجموعة أن تنفرد بإعلان حربٍ، أو عقد صلحٍ من دون الدولة. 3 - حرمة الوطن، وأرضه، وهي تمثل إذ ذاك منطقة يثرب، وتعني تلك الحرمة مراعاة أرض الوطن من أي ضررٍ، سواء من الداخل، أو من الخارج. 4 - وأخيرًا دعمت الصحيفة النظم الخاصة بمباشرة رئيس الدولة لمهامه بأن جعلته المرجع في كل خلافٍ يحدث، سواء بين المؤمنين، أو بينهم وبين جيرانهم، فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يشرف على الميادين التطبيقية لجميع ما قررته الصحيفة من نظمٍ، وهو الفيصل في جميع ما يتعلق بتلك النظم من تفسيرٍ، أو إيضاحٍ، أو إصدار أحكام، ونذكر بعضًًا من نصوص هذه الوثيقة: قد جاء: وأن لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأنه من فتك؛ فبنفسه، ولا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثِم، وأن الله جارٌ لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وجاء فيها: وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدثٍ، أو اشتجارٍ يخاف فساده؛ فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - النظام المالي في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد كنا نتحدث -في المحاضرة السابقة- عن نشأة النظم الإسلامية في الدولة الإسلامية، وتبين لنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له تنظيمات إسلامية في مكة، وتنظيمات إسلامية في المدينة المنورة، فأما التنظيمات الإسلامية التي وضعها في مكة؛ فإنها تتمثل في إرساء القواعد الآتية: أولا الدعوة إلى وحدانية الله تعالى، واتخاذ هذه العقيدة أساسًا لمجتمع جديد له نظمه ومثله العليا. ثانيًا: تقرير فكرة البعث والحساب بعد الموت، والتي تقرر المسئولية الفردية، وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، هذه الفكرة هي التي هزمت دعوى الجاهلية القائمة على العصبية القبلية. ثالثًا: اتخاذ التقوى بدلًا من العصبية القبلية أساسًا لبناء قيم أخلاقية سامية. رابعًا: التأكيد على وحدة الرسالات، وأن مصدرها واحد -وهو الله سبحانه وتعالى- وذلك للقضاء على تعدد المعتقدات في الحياة القبلية. وأما التنظيمات التي كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة فإنها تتمثل في ما يلي: أولًا: نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. ثانيًا: استخدام المصطلح الإسلامي المهاجرين والأنصار للدلالة على طلائع التنظيم الجديد للدولة الإسلامية في يثرب. ثالثًا: إقرار نظام الدولة، والقانون بدلا من القبلية، والعرف. رابعًا: اعتبار نظام المواطنة أساسه الهجرة لمقاومة الباطل. خامسًا: إقرار نظام الشورى لتقوية روح الجماعة الجديدة، وحث أفرادها على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الفردية. سادسًا: إقرار نظام المسجد ليكون مركز إشعاع للدين والدنيا معًا؛ حيث مارس النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه من بعده مارسوا السياسة من داخل المسجد، وتبين لنا أنه قد تبلورت النظم الأساسية، والتزاماتها في الدستور الدائم الذي وضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإقرار العلاقات، ليس بين جماعة المؤمنين بعضهم البعض، ولكن بينهم وبين جيرانهم من أهل المدينة أيضًا، وصار هذا الدستور الذي اشتهر باسم الصحيفة صار أساس الدولة الإسلامية الوليدة، وأهم ينبوع من ينابيع النظم الإسلامية التي صاحبت تطور هذه الدولة، واتساعها على مر العصور، وهذا الدستور -أو هذه الصحيفة- قد أقر النظم والمبادئ الهامة التالية: المبدأ الأول: وهو مفهوم الأمة، وحقوق المواطنة، وهذا المبدأ يندرج تحته بنود: البند الأول: عرف الدستور الأمة تعريفًا لا يستند إلى الأسس والنظم القبيلة، وما اقترن بها من العصبية والنسب، وإنما قرر أن الأمة تضم كل من اعتنق الدين الجديد دون نظر إلى أصله أو قبيلته، وجاء هذا المبدأ عنصرًا هامًّا جعل الأمة الجديدة أمة مرنة، قابلة للاتساع، وضم شعوب كثيرة إلى رحابها، وتجلى هذا المفهوم الجديد للأمة في مقدمة الدستور، حيث قررت أن المؤمنين، والمسلمين من قريش، ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس. البند الثاني: أكد الدستور أن هذه الأمة لا تعترف بتمايز طبقي، أو استغلال فردي على نحو ما ساد النظم القبلية، وإنما مهد السبيل لإذابة الفوارق بأن جعل القبائل تشكيلًا اجتماعيًّا لخدمة الأمة الجديدة. وأما البند الثالث: فقد حدد الدستور فيه حقوق وواجبات الأمة الفتية بتشكيلها الجديد على الأسس التالية: التراحم، والتعاون بين أبنائها في شتى النواحي -وبخاصة أولئك الذين أثقلتهم الديون، وضرورة مساعدتهم على التخلص من أعباء تلك الديون. وأيضًا تحديد مسئولية الفرد، وتنظيم روابطه مع أهله وجيرانه من حيث الولاء، وذلك بما يتفق وأوضاعَ الدولة، ونظامها الجديد. أما المبدأ الثاني الذي اشتمل عليه هذا الدستور، أو تلك الصحيفة فهو: سيادة القانون، والإجراءات التنفيذية؛ فقد نظمت الصحيفة حياة الناس داخل الدولة الجديدة على أساس سيادة القانون، وما يرتبط بذلك من إجراءات تنفيذية، فإذا أخل أحد بالأمن، أو ارتكب عملًا فاحشًا؛ فإن الأمة بأجمعها تتولى توقيع العقوبة المطلوبة، وأن الجميع مطالبون بالتضامن في تنفيذ تلك العقوبة، ولو كان ولد أحدهم، وارتبط بسيادة القانون تحويل الثأر إلى عقوبة، بمعنى: أنه عمل يقع على عاتق الأمة، بعد أن كانت الأفخاذ، والعشائر تقوم به طبقًا للنظام القبلي الباطل. أما المبدأ الثالث الذي اشتمل عليه هذا الدستور، أو تلك الصحيفة فهو: حرية الأديان، وتحديد علاقة أتباعها بالدولة؛ فقد أصبحت الصحيفة مبدأً هامًّا من مبادئ الدولة الجديدة، وهو إقرار حرية الأديان السماوية، وأن أتباعها يعتبرون مواطنين لهم حق التمتع بحماية الدولة، وفق الشروط التي تضمنها الدستور الجديد، ولما كانت القبائل اليهودية وبطونها أهم عنصر من عناصر السكان في الدولة الإٍسلامية الجديدة بيثرب؛ فإن الصحيفة نصت في جلاء على ما لهم من حقوق وواجبات، سواء بالنسبة لجيرانهم من المواطنين المسلمين، أو بالنسبة للدولة وسلطاتها. وأما المبدأ الرابع: فقد تكلم عن إتاحة الصحيفة تطبيق نفس الشروط، ليس على اليهود المخالفين للأوس والخزرج فحسب، بل على القبائل اليهودية الكبرى -إذا رغبت في ذلك- وأكدت الصحيفة عدالتها في معاملة اليهود بأنها لن تأخذهم جميعًا بجريرة فردية، وإنما ستعامل كل جماعة منهم حسب ما يبدر منهم. وأما المبدأ الخامس: فقد تحدث عن سيادة الدولة، وإقرار مظاهر تلك السيادة فقد توّجت الصحيفة شروطها بإقرار النظم الخاصة بسيادة الدولة، وبيان حقوق رأس تلك الدولة، وهو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وتمثلت قواعد سيادة الدولة فيما يلي: البند الأول: اتحاد السكان جميعًا لدفع أي عدوان يمَس سيادة الدولة، سواء أصاب هذا العدوان فردًا، أو مجموعة تتصل أعمالها أو مهامها بشئون الدولة وأمنها. والبند الثاني: اعتبار الحرب والسلام أمرا من أمور سيادة الدولة؛ فلا يصح لفرد، أو مجموعة أن تنفرد بإعلان حرب، أو عقد صلح من دون الدولة. وأما البند الثالث: فهو حرمة الوطن وأرضه، وهي تمثل -إذا ذاك- منطقة يثرب، وتعني تلك الحرمة مراعاة سلامة أرض الوطن من أي ضرر، سواء من الداخل أو الخارج. وأما البند الرابع: فإن الصحيفة دعمت النظم الخاصة بمباشرة رئيس الدولة لمهامه؛ بأن جعلته المرجع في كل خلاف يحدث، سواء بين المؤمنين، أو بينهم وبين جيرانهم؛ فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يشرف على الميادين التطبيقية لجميع ما قررته الصحيفة من نظم، وهو الفيصل في جميع ما يتعلق بتلك النظم من تفسير، أو إيضاح، أو إصدار أحكام. ونصت الصحيفة على ذلك فيما يلي: "وإنكم مهما اختلفتهم فيه من شيء فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده؛ فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. تلك هي الصحيفة أو الدستور الذي وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما ذهب إلى المدينة، وهاجر إليها، وقد نظمت الحقوق والواجبات في هذا الدستور،
وحكمت العلاقة بين المسلمين وغيرهم من غير المسلمين، وفق هذا الدستور، إلا أنه يلاحظ أن النظام السياسي لهذا الدستور، أو الصحيفة قد اجتاز ثلاثة أدوار كبرى، وصل في نهايتها إلى مرتبة النظام الإسلامي الكامل ما سنوضحه في ما يلي: نقول: شهدت الفترة التي تقع بين عقد الصحيفة مع أهل يثرب ووفاة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- تطويرًا للنظم الجديدة، بما يتفق ونمو الدولة الإسلامية، وتنسيقًا بين مؤسساتها أيضًا، حتى صارت تشكل جميعها النظام الإسلامي الكامل، وغدا هذا الجانب التطبيقي الينبوع الذي نهل منه المسلمون خلفًا عن سلفٍ، وهم يرفعون قواعد الدولة التي خلفها لهم الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ويضعون لها في نفس الوقت النظم التي تتلاءم مع كل مرحلة من مراحل امتداد الدولة الإسلامية في شتى أرجاء العالم، ذلك أن الصحيفة أو الدستور الذي تحدثنا عنه كانت فكرة خلاقة، جسدت التعاليم التي جاءت بها الدولة الإسلامية في نظام سياسي استطاع أن يواجه النظم السياسية المعادية له، وأن يتغلب عليها الواحدة بعد الأخرى في يثرب أولًا، ثم في سائر أرجاء شبه الجزيرة العربية، وما جاورها من بلاد ثانية، واجتاز النظام السياسي للصحيفة ثلاثة أدوار كبرى -كما قلنا- وصل في نهايتها إلى مرتبة النظام الإسلامي الكامل عن جدارة مثالية، وتجربة فريدة. واشتمل الدور الأول على السنوات الخمس الأولى للهجرة النبوية الشريفة، واستطاع فيها نظام الصحيفة أن يكفل للدعوة الإسلامية الوليدة في يثرب الحماية من كل أعدائها في الخارج -وعلى رأسهم قريش- ومن أعدائها في الداخل -وعلى رأسهم اليهود في المدينة- وانتهى هذا الدور في السنة الخامسة باندحار الخطر الخارجي في غزوة الخندق، ثم طرد قبيلة بني قريظة آخر قبائل
اليهود من يثرب؛ جزاء خيانتها لما سبق أن التزمت به من شروط الصحيفة، أو الدستور الذي سبق وأن تحدثنا عنه. فقد أثبت النظام الجديد في يثرب قوته في الميدان الخارجي والداخلي على التوالي، وذلك في ما يلي: - الانتصار قريش في غزوة بدر، وحماية يثرب من أول خطر خارجي على حرمتها. - طرد بني قينقاع اليهود من يثرب عقب غزوة بدر؛ لخروجهم على النظام الإسلامي الجديد. - التصدي لقريش مرةً أخرى في غزوة أحد. - طرد بني النضير اليهود من يثرب؛ لإخلالهم بشروط التعاقد مع النظام الإسلامي الجديد في يثرب. - صد الزحف الكبير الذي قامت به قريش، وحلفاؤها من البدو، واليهود، على يثرب، وذلك في وقعة الخندق سنة 5 هجرية. هذه هي الفترة الأولى، أو الدور الأول من أدوار الصحيفة أو الدستور. ثم انتقل النظام السياسي للصحيفة من مرحلة الصمود بعد وقعة الخندق إلى مرحلة الدعم والانطلاق، وهي المرحلة التي شغلت سنوات الدور الثاني، وانتهت بصلح الحديبية في السنة السابعة للهجرة؛ إذ استطاع هذا النظام أن ينتزع من قريش في صلح الحديبية الاعتراف بوجوده وسلطانه، واستطاع أيضًا أن يحمل النظم القبلية على أن تتحول من مرحلة الاعتداء والهجوم إلى مرحلة الانطواء والاستعداد للاستسلام، وتجلى هذا التطور الهام في قبول قريش -
باعتبارها رأس النظم القبلية- السماح للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن يعقد ما شاء من الأحلاف مع القبائل الأخرى، وأن يضمها إلى نظامه السياسي، ووفق شروطه، والتزاماته. لقد كانت شروط صلح الحديبية نصرًا عظيمًا للنظام الإسلامي في يثرب، برغم عدم إدراك الكثيرين -إذ ذاك- لهذه الحقيقة، وكانت تلك الشروط التي وردت في صلح الحديبية ما يلي: أولًا: أن يرجع محمد في عامه هذا عن مكة، على أن يدخلها في العام التالي، وتخليها له قريش ثلاثة أيام يطوف فيها بالبيت العتيق. ثانيًا: عقد هدنة بين قريش والمسلمين مدتها عشر سنوات، يأمن فيها كل من الطرفين من صاحبه. ثالثًا: السماح للقبائل بالدخول في حلف محمد إذا أرادت، وأن يدخل في حلف قريش من يريد أيضًا، ويعتبر هذا الشرط أهم مكاسب النظام الإسلامي، وقدرته على منازعة سيادة مكة وحدها على بلاد العرب. رابعًا: جاء في ضمن شروط هذا الصلح من جاء إلى محمد من أهل مكة دون إذن وليه رده إليهم، ومن جاء من أصحاب محمد لا يردوه، وقد أغضب هذا الشرط المسلمين، وجادلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي أصر على إبرام الصلح لما فيه من مكاسب مقبلة هائلة على ما اتضح لنا بعد ذلك. واتسم الدور الثالث والأخير من أدوار النظام السياسي بالمرونة، وقدرة مؤسساته على العمل خارج يثرب، بنفس الكفاءة التي قامت بها داخل يثرب نفسها، فبسط هذا النظام شروطه، ومعاهداته، والتزاماته بعد صلح الحديبية، بسط هذا النظام إلى القبائل
التي اهتزت ثقتها بقريش، واهتزت ثقتها بزعامة قريش للنظم القبلية، كما طور النظام هذه الشروط في نفس الوقت بما يهيء لتلك القبائل المناخ السليم لفهم الدين الإسلامي، واعتناقه عن عقيدة وإيمان؛ فقد كان من أهم مظاهر التطور الجديد دخول خزاعة -قبيلة خزاعة- في حلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكانت هذه القبيلة حليفة لعبد المطلب جد النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الإسلام، ورغبت في تجديد ميثاقها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجاء في محالفتها مع عبد المطلب ما يلي: "وأن عبد المطلب وولده ورجال خزاعة متضافرون متعاونون، وعلى عبد المطلب النصرة لهم، وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده على جميع العرب، وأقر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المحالفة، بعد أن زاد عليها شرطين يتفقان والنظام الإسلامي الجديد، وهما: أولًا: ألا يعين خزاعة إذا كانوا ظالمين. ثانيًا: أن ينصر خزاعة إذ وقع عليهم ظلم، ذلك أن خزاعة لم تكن قد أسلمت بعد، وأبى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يكون أساس التحالف هو أساس النظام الإسلامي الذي لا يقر التحالف القبلي، وقاعدته البالية التي تقول: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. وانتهى هذا الدور الثالث بفتح مكة سنة 8 هجريًا، وإدخال هذا المعقل العتيد -وهو مكة- للحياة القبلية، كان معقلًا عتيدًا للحياة القبلية، ونظمها بفضل فتح مكة. دخل هذا المعقل في دائرة النظام السياسي لجماعة المسلمين في يثرب، وأعقب هذا النصر المبين للنظام السياسي للصحيفة تغيير جذري في الحياة القبلية في شتى أرجاء شبه الجزيرة العربية؛ إذ رأت القبائل العربية -في فتح مكة- في ذلك دليلًا على انهيار عهد النظم القبلية بما استندت إليه من جهالة حمقاء، وعصبية عمياء.
وبدأت تلك القبائل تدخل في دين الله أفواجًا، وترسل وفودها في العام الثامن من الهجرة، وطوال العام التاسع الهجري أيضًا، تعلن للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في يثرب ارتباطها بنظامه السياسي، وتحصل على ما تريد أيضًا من العهود والمواثيق. ووجد الرسول الكريم أن هذا التطور الهائل يقتضي تعديلًا واسعًا في النظام السياسي الذي سبق أن أقامه بمقتضى الصحيفة -أو الدستور الذي تحدثنا عنه- مع حتمية العمل على إعطاء هذا النظام الشكل النهائي، الذي يتفق والسيادة العليا التي آلت إليه على سائر أرجاء شبه الجزيرة العربية. وتركزت معالم التعديل الأخير في تنظيم حقوق المواطنة للدولة الإسلامية بما يزيل أي مظهر من مظاهر التباين بين أبنائها، وما يؤدي إلى جمعهم في وحدة واحدة؛ من أجل حمل رسالة تلك الدولة، وهي نشر الإسلام في جميع أرجاء العالم؛ لأن الإسلام إنما هو دعوة عالمية للناس جميعًا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: من الآية: 28) {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} (الأنبياء: من الآية: 107). وكان أول شطر من هذا التعديل الأخير هو السماح لليهود، وغيرهم من أهل الكتاب بالحصول على حقوق المواطنة لا عن طريق العهود -كما تقرر في الصحيفة من قبل- ولكن عن طريق دفع الجزية، يقول: -تبارك وتعالى- {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29).
جاء إقرار هذا النظام -الذي هو نظام الجزية- على القادرين فقط من الذكور من دون المسنين، والنساء، والأطفال، وهو شرط إسلامي يبيح لأهل الكتاب التمتع بحقوق المواطنة في الدولة الجديدة مقابل حمايتهم، وإعفائهم من الخدمة العسكرية؛ إذ لما كان الهدف الأول للدولة هو نشر الدين الإسلامي، ولما كان الدين الجديد يعترف بالأديان السماوية من اليهودية، والمسيحية، فلم يكن من العدل إلزامهم بالانخراط في سلك الجيش الخاص بالدولة الجديدة، وصارت الجزية الشرط الجديد الذي حل محل العهود والمواثيق من أجل الحصول رسميًا على حقوق المواطنة لأهل الكتاب من سكان الدولة الإسلامية الفتية. وجاء الشطر الثاني من التعديل الأخير في النظام السياسي خاصًّا بغير أهل الكتاب من القبائل العربية؛ إذ تقرر اعتبار الدخول في الدين الإسلامي هو الشرط الأول، والأساسي للحصول على حقوق المواطنة في الدولة الجديدة، وعلى هذا لم يعد للوثنية مجال للبقاء، بعد أن ثبت ضررها وفسادها، وبعد أن تم تطهير الكعبة من الأصنام -رمز الشرك، وعنون الاستغلال للنظم القبلية، ومفاهيمها العمياء. وتقرر في نفس الوقت عدم السماح للمشركين بالحج إلى مكة؛ لأن هذه الفريضة صارت عنوانًا على علو كلمة الدين الجديد، وأنه صار الأساس المتين للدولة الناهضة وسيادتها، يقول -تبارك وتعالى-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج: 27، 28، 29).
وجاء الشطر الثالث والأخير -من هذا التعديل- خاصًّا بالإجراءات التي تطلبتها مظاهر التوسع في حقوق المواطنة، ذلك أن نفرًا من الناس دخل في الإسلام، وما زال قلبه معلق بتراث العصبية، أو مشبع بالمفاهيم القبلية، وما ارتبط بها من التفاخر، والجري وراء زخرف الحياة الدنيا، وكان هذا اللون من النفاق، أو الكفر الباطن من أخطر الأمور على حقوق المواطنة في الدولة الجديدة، لماذا لصعوبة معرفة أصحابه؛ ولذلك قررت التعديلات الأخيرة على الصحيفة: إلقاء مهمة الكشف عن هذا الفريق المنافق، أو ما يسمى في العصر الحديث بالطابور الخامس، الذي يريد أن يفسد على الدولة نظامها، أقول: قررت التعديلات الأخيرة إلقاء مهمة الكشف عن هذا الفريق المنافق، أي: المتلاعب بحقوق المواطنة على أفراد الأمة أنفسهم. فأفراد الأمة هم الذين يبحثون عن هذا الصنف من الناس -المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطون- لأن أفراد الأمة أجدر بتعاملهم اليومي على تبين شتى مظاهر الانحراف وأهله، وهذا الشرط الخلقي لا يمكن أن تتولاه أجهزة الدولة، وإنما يمكن أن يقوم به أبناء الأمة، ولهم وحدهم حق عزل أي فريق يتلاعب بحقوق المواطنة، أو الإساءة إليها، يقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (التوبة: 73، 74).
وصدرت هذه التعديلات الجديدة في العام التاسع للهجرة، وأذاعها علي بن أبي طالب باعتباره نائبًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقرب الناس إليه، وذلك في يوم الحج الأكبر بمكة، واشتهر هذا الإعلان باسم "بيان براءة" لأن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعلن للقبائل العربية براءته من العود التي لم تعد تمت للإسلام بصلة، وأن النظام الإسلامي الكامل يستند إلى تشريع سماوي نزلت به "سورة التوبة" فجاء في نص الإعلان تلاوة لقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُو خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ ًالَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ ًالَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمًَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 1: 7). هذه هي الأحكام التي تضمنتها سورة براءة من الآيات رقم واحد، إلى الآية السادية.
وهكذا نكون قد انتهينا من إلقاء الضوء على مفهوم النظم الإسلامية، ونشأتها، والمراحل التي مرت بها تلك النشأة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتنظيمات التي وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، وكذلك التنظيمات التي وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة، ثم هذه الصحيفة، أو هذا الدستور الذي كان -بحق- دستورًا متقدمًا في كل المجالات، سواء من ناحية الحكم، أو من ناحية الإدارة، أو من ناحية بيان الحقوق، والواجبات سواء بالنسبة للدولة، أو بالنسبة للأفراد بعضهم مع بعض، أو مع علاقتهم مع الدولة الإسلامية، أو علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول الأخرى. وهكذا تبين لنا أنه في هذه الفترة -وقبل أن يموت النبي -صلى الله عليه وسلم- ويلحق بالرفيق الأعلى- كان هناك نظام إسلامي متكامل، وبذلك نكتفي بهذا القدر في هذا الأمر.
الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية.
الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية.
الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (النظام المالي للدولة الإسلامية) 1 - النظام المالي في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي ثم نتحدث عن موضوع آخر، وهو بيان أنواع، أو أقسام النظم الإسلامية: أقسام النظم الإسلامية: النظم في أي دولة تتكون من مجموعات القوانين، والمبادئ، والتقاليد التي تقوم عليها الحياة في هذه الدولة، ومن مظاهر هذه النظم: النظام السياسي، والنظام الإداري، والنظام المالي، والنظام القضائي، والنظم الاجتماعية، وسوف نقوم بإلقاء الضوء على أهم تلك النظم فيما يلي: أولًا: النظام المالي: تعمل السياسة المالية لكل دولة على تحقيق التوازن بين مواردها، ومصارفها؛ فهناك إيرادات، وهناك مصروفات، وقد صارت الدولة الإسلامية على هذه السياسة منذ ظهورها؛ فأنشأت بيتا للمال يقوم على صيانته، وحفظه، والتصرف فيه لصالح الجماعة الإسلامية، وهو بهذا يشبه وزارة المالية في العصر الحاضر، وصاحبه يقوم بمهمة وزير المالية، وكان يطلق عليه لقب "صاحب بيت المال" وتدور النظم المالية عادةً على محور قطباه -كما قلنا- الموارد والمصروفات، وصارت النظم المالية في الدولة الإسلامية حسب هذه القاعدة، ووفق السوابق التي تقررت على عهد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من حيث مراعاة مصالح المسلمين، ودون إغفال -في نفس الوقت- لسنة التطور، والملابسات الزمنية ومقتضياتها. وغدا النظام المالي للدولة الإسلامية بدوره مرآةً انعكس عليها الفكر الإسلامي بما اتسم به من مرونة، وواقعة، وذلك على نحو ما اتصف به النظامين السياسي، والإداري لتلك الدولة.
وفي حديثنا عن النظام المالي في الدولة الإسلامية يجدر بنا أن نتحدث عن أمرين أساسيين في هذا الأمر، أو في هذا الموضوع: الأمر الأول: وهو إلقاء الضوء على النظام المالي في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين، ثم بعد ذلك نتحدث عن موارد بيت المال، أو الموارد المالية للدولة الإسلامية، ونشرع الآن في إلقاء الضوء على النظام المالي الذي كان معمولًا به في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي زمن الخلفاء الراشدين فنقول -وبالله التوفيق-: أولًا: في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-: لم يكن للدولة الإسلامية في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم حينما كان في مكة- لم يكن هناك نظام مالي محددة أبوابه من إيرادات، ومصروفات، بل كانت إيرادات الدولة في هذه الفترة تتمثل في الأموال التي يجود بها الصحابة للصرف منها على فقراء المسلمين، أو لسد بعض الحاجات الضرورية، فلما هاجر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وأخذ شكل الدولة الإسلامية يظهر بوضوح وجلاء؛ نزلت الآيات التي أوجبت على المسلمين الزكاة في أموالهم، يقول تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُم} (التوبة: -من الآية- 103). ويقول: النبي -صلى الله عليه وسلم- ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا)) ففي هذا الحديث يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الزكاة إنما هي ركن من أركان الإسلام الخمسة. وبينت الآيات القرآنية أيضا الفئات المستحقة لتلك الزكاة، ويقول -تبارك وتعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية.
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّه} (التوبة: -من الآية- 60). وتولت السنة النبوية بيان الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقدار النصاب، والواجب في هذا النصاب، ثم بيان الشروط التي يجب توافرها في المزكي، وفي المال نفسه؛ فكانت الزكاة هي المورد الأول من موارد الدولة الإسلامية. أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية ثم يأتي المورد الثاني من الموارد المالية للدولة الإسلامية في عهد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهو الغنائم فقد جاء في "سورة الأنفال" في قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنفال: 41) فهذه آية الغنائم -كما يطلق عليها الفقهاء-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فهذه الآية تبين كيفية توزيع الغنائم؛ فخمس الغنائم إنما يكون للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولذي القربى أي أنه ينفق في مصالح المسلمين، وسكت القرآن الكريم في هذه الآية عن الأربعة الأخماس؛ ففهمنا من ذلك أن الأربعة الأخماس الباقية إنما تكون للغانمين. ثم يجيء المورد الثالث من الموارد المالية للدولة الإسلامية، وهو الفيء في قول الله تعالى: {وَمًَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 6 7). ثم يرد المورد الرابع من موارد الدولة الإسلامية، وهو الجزية التي فرضت على غير المسلمين في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ؛ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29) ومن هذا العرض الموجز يستبين لنا أن الموارد المالية للدولة الإسلامية في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت الزكاة، والغنائم، والفيء، والجزية. وقد عين الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمالًا لجمع هذه الأموال؛ فكان عامل الصدقات، وهو الذي يتولى جمع الصدقات من المسلمين، ويعطيها لشخص آخر يسمى: المستوفي الذي يقدمها للرسول -صلى الله عليه وسلم- وكذلك صاحب الغنائم الذي يعين في كل غزوة؛ ليتولى جمع الغنائم وحفظها؛ حتى تصرف في مصارفها الشرعية، وعامل الجزية الذي يقدر قيمتها، ويحصلها من الملتزمين بها، ويلاحظ أنه لم يكن هناك بيت للمال في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكي تودع فيه هذه الأموال؛ إذ كانت الأموال تجمع وتصرف في الحال على مستحقيها؛ فلم يكن هناك داعيًا لإنشاء بيت المال. سهم المؤلفة قلوبهم: كان للمؤلفة قلوبهم نصيب في الصدقات -كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} (التوبة: 60). وقد عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- على تأليف قلوب الكثيرين بالمال؛ نظرًا لما كان لهم من مراكز مرموقة تدعو الحاجة إلى تأليف قلوب الكثيرين بالمال؛ نظرًا لما كان لهم من مراكز مرموقة، تدعو الحاجة إلى تأليفهم لمصلحة الإسلام والمسلمين، نذكر منهم صفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وولده معاوية، والحرث بن هشام، وغيره. وكان المؤلفة قلوبهم على ثلاث فئات: الفئة الأولى: كان يعطى لهم؛ لتأليفهم على الإسلام كصفوان بن أمية؛ فقد روي عنه أنه قال: لقد كان يعطيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه أبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى أنه لأحب الناس إلي. الفئة الثانية: كان يعطي لهم لدفع شرهم عن الإسلام، والمسلمين كعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس. الفئة الثالثة: كان يعطي لهم؛ لتثبيت إسلامهم؛ نظرا لضعف عقيدتهم كأبي سفيان بن حرب الذي أعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أربعين أوقية من الذهب، ومائة من الإبل، وأعطى ولديه معاوية، ويزيد؛ فقال له أبو سفيان: -بأبي أنت وأمي- "لأنت كريم في السلم وفي الحرب". وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعطي لهذه الفئات من العرب عامة، ومن قريش خاصة، ويجزل لهم في العطاء؛ حتى لم يبق شيء للأنصار، مما دفع بعض الأنصار إلى أن يقولوا: "إن هذا لهو العجب؛ يعطي قريشًا، ويتركنا، وسيوفنا تقطر دما". فلما علم الرسول بذلك أمر بجمعهم، وقام يخطب فيهم قائلًا: ((ما مقالة بلغتني عنكم، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء
النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق.
فألف بين قلوبكم بي، إن قريشًا حديثوا عهد بكفر، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أغضبتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لشيء قليل من الدنيا ألفت به قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم)) -الثابت الذي لا يتزلزل- فهنا بكى القوم، وقالوا: "يا رسول الله رضينا برسول الله قسما وحظا" ورضوا بذلك. وهكذا كانت معاملة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المؤلفة قلوبهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - النظام المالي في عهدي أبي بكر وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن النظام المالي في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونتحدث الآن عن النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- فنقول: لم يختلف النظام المالي في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- عن عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث كانت الموارد المالية للدولة في عهده هي نفس الموارد التي كانت موجودة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من زكاة وغنائم وفيء وجزية, وقد سار أبو بكر على نفس السياسة المالية التي سار عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسوى -رضي الله عنه- في العطاء بين الناس, يروى عنه أنه قال: من كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة فليأتِ, يعني: من كان قد وعده النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من المال فليأت إلينا, من كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة فليأت, فجاء جابر بن عبد الله فقال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا, فقال له أبو بكر: خذ فأخذ ما يكفيه, ثم عده فوجد خمسمائة, فقال: خذ إليها ألفًا, فأخذ ألفًا, ثم أعطى كل إنسان كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعده شيئًا, وبقيت بقية من المال فقسمها بين الناس بالسوية على الصغير والكبير, والحر والمملوك, والذكر والأنثى, فخرج على سبعة دراهم وثلث لكل إنسان. فلما كان العالم المقبل جاء مال كثير هو أكثر من ذلك فقسمه -رضي الله عنه- بين الناس فكان نصيب كل إنسان عشرين درهمًا, فجاء ناس من المسلمين, فقالوا: يا
خليفة رسول الله، أنت قسمت هذا المال فسويت بين الناس, ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم في الإسلام, فلو فضلت أهل الثوابت والقدم والفضل بفضلهم, يعني: كأنهم يطلبون من أبي بكر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- ألا يسوي بين الناس في العطاء, يعني: شيء شبيه بالرواتب التي تعطيها الدولة للموظفين, يطلبون منه ألا يسوي بين الناس في العطاء, لكن يفاضل بينهم بحسب منزلة الإسلام في كونه سبق غيره في الإسلام أو كانت له منزلة في الإسلام فقال: أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل, فما أعرفني بذلك -يعني: أنا أعرف ذلك معرفة جيدة- وإنما ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه, وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة. لأن سيدنا أبو بكر لم يوافقهم على ذلك, وهو التفاضل بين الناس في العطاء, وإنما قال لهم أعرف هؤلاء الناس الذين كان لهم منزلة في الإسلام وسبق في الإسلام, وهكذا, فهذا ثوابه على الله سبحانه وتعالى, لكن المال إنما هو معاش للناس يتعيشون منه فالأسوة فيه والمساواة فيه خير من الأثرة, يعني خير من أن أفضل بعض الناس على بعض في ذلك. ويستبين لنا من هذا أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان يسوي في العطاء بين الناس, ولم يجامل أصحاب الفضل في نصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا من كان له سبق اعتناق الإسلام؛ لأن ما كان يعطيه للناس هو معاش لهم. التأليف على الإسلام: سار أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- على سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تأليف قلوب بعض الناس على الإسلام أو دفع شرهم عنه أو تثبيتًا لإسلامهم لضعف عقيدتهم, فكما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي لثلاث فئات من الناس, كما قلنا, فإن سيدنا أبو بكر أيضًا حرص على أن يعطي هذه الفئات الثلاث من الناس, فهو
يريد أن يؤلف قلوبهم أو يدفع شرهم أو يثبت إسلامهم, كما فعل سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه حدث أن جاء عيينة بن حصن, والأقرع بن حابس, يطلبان أرضا من أبي بكر فوافق على ذلك, وكتب لهما بهما خطابًا وكان عمر بن الخطاب موجودًا فتناول الخطاب ومزقه. كأن سيدنا عمر بن الخطاب لم يعجبه هذا الصنيع من أبي بكر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- ولم يوافق سيدنا أبا بكر على أن يعطيهم شيئًا من أراضي الدولة الإسلامية, ومزق هذا الخطاب وقال لهم: هذا شيء كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيكموه ليتألفكم على الإسلام والآن وقد أعز الله الإسلام, وأغنى عنكم, فإن تبتم إلى الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف, ثم تلا قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: من الآية: 29) فقالا لأبي بكر: يعني: عيينة بن حصن والأقرع بن حابس, قالا: لأبي بكر الخليفة أنت أم عمر, يا أبا بكر؟!!. فهم يكلمون أبا بكر ويقولون له: منِ الخليفة؟ وكلام منْ يسري؟ أنت تريد أن تعطينا الأرض تأليفًا للقلوب وهو يمنعنا من ذلك فمن الخليفة أنت أم عمر؟!! فقال سيدنا أبو بكر الحكيم: هو إن شاء الله, وأقر عمر على رأيه. يعني سيدنا أبو بكر رضوان الله تبارك وتعالى عليه وافق عمر على ما فعله, ولم يعط لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس ما طلباه منه من أرض. وقد حاول بعض الناس الامتناع عن دفع الزكاة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- واستندوا في ذلك إلى قوله -تبارك وتعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَ} (التوبة: من الآية: 103) وبعد ما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنعوا عن دفع الزكاة, لماذا تمتنعون عن دفع الزكاة؟ قالوا: لأن الله تبارك وتعالى أمر رسوله بأن يأخذ الزكاة عندما قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (التوبة: من الآية: 103) وقد مات النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ندفع تلك الصدقة أو لا ندفع تلك الزكاة. فهموا من الآية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يأخذ منهم الزكاة, فإذا مات -صلى الله عليه وسلم- فلا يدفعون تلك الزكاة, ولذلك وقف سيدنا أبو بكر موقفًا حازمًا حيال هذا التأويل الخاطئ للآية. فثار أبو بكر, ولم
يعجبه ذلك, رغم لين طبعه ووافر حلمه, واتخذ موقف الشدة والحزم معهم, وقرر مقاتلة من يمتنعوا عن دفع الزكاة وجبايتها منهم بالقوة المسلحة, وهنا بادره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قائلا: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس, وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه, وحسابه على الله)). سيدنا أبو بكر عندما أراد أن يقاتل هؤلاء الذين امتنعوا عن أداء الزكاة بسبب هذا التأويل الخاطئ للآية, اعترض على ذلك سيدنا عمر بن الخطاب, وقال له: يا أبا بكر! الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين في الحديث أن الإنسان إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فلا يقاتل, عندما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه, وحسابه على الله)) فكأنه يعترض على سيدنا أبي بكر, يعني: لماذا تريد أن تقاتلهم وهؤلاء يشهدون أن لا إله الله وأن محمدًا رسول الله, وكل ما حدث منهم, أنهم امتنعوا عن دفع الزكاة, فرد أبو بكر على عمر وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة, فإن الزكاة حق, والله لو منعوني عناقًا -وهي الشاة الصغيرة- كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها" كان موقفًا حازمًا من سيدنا أبي بكر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- لأنه نظر إلى أن الزكاة هي شبيهة بالصلاة, بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر ذلك في أركان الإسلام, عندما قال: ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا)) فكانت الزكاة في مرتبة واحدة مع الصلاة, هي ركن من أركان الإسلام, كما أن الصلاة هي ركن من أركان الإسلام, ولذلك سيدنا أبو بكر رد على سيدنا عمر عندما قال له: النبي -صلى الله عليه وسلم-
تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب.
يقول: ((من قال: لا إله الله. عصم مني ماله ودمه إلا بحقها)) وهذا حق الإسلام وهي الزكاة, ولذلك قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر -رضي الله عنه- فعرفت أنه الحق. إذن سيدنا عمر الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم, وكان الحق يجري على لسانه كما أخبرنا -صلى الله عليه وسلم- وافق أبا بكر على ما فعل, وهو أنه أراد محاربة هؤلاء الذين يمتنعون عن الزكاة -هذا المورد الإسلامي- وبين له سيدنا أبو بكر السبب، فاقتنع ووافقه على ذلك. تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب ثم ننتقل الآن إلى تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب: كشفت الموارد الجديدة التي تدفقت على الدولة الإسلامية زمن الخلفاء الراشدين عن طلائع التجاوب الحضاري بين العهد الإسلامي الجديد وحضارات البلاد المفتوحة في ميدان التنظيم المالي, ووضع أسس هذا التجاوب, كذلك الخليفة عمر بن الخطاب الذي سارت أعماله في تلك السبيل تمثل بدورها قاعدةً أساسيةً إلى جانب القواعد المالية للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- والتي التزم به من بعدها كافة الخلفاء المسلمين؛ إذ استهدف هذا الخليفة -عمر بن الخطاب -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- إنقاذ أهالي البلاد المفتوحة مما سبق أن تردوا فيه من مظالم ومتاعب مالية باهظة، والعمل في نفس الوقت على أن يهيئ للدولة الناشئة الموارد التي تحقق مطالبها السياسية، والاقتصادية، والحربية كذلك, واعتمد الخليفة عمر بن الخطاب في حل هذه المعادلة الجديدة, المعادلة في ماذا؟. المعادلة تكمن في أن الدولة الإسلامية تريد الأموال من أجل الإنفاق على متطلباتها الكثيرة، وفي نفس الوقت عدم ظلم هؤلاء الناس الذين تؤخذ منهم هذه الموارد المالية.
سيدنا عمر بن الخطاب هو الذي فكر في المواءمة والموازنة بين هذين الأمرين: كيف نحصل للدولة على الأموال, وفي نفس الوقت لا نظلم هؤلاء الناس الذين نأخذ منهم هذه الأموال؟ أقول: اعتمد الخليفة عمر بن الخطاب في حل هذه المعادلة الجديدة التي واجهت دولته على نفس القاعدة التي اتبعها في التنظيم الإداري, وذلك بالإبقاء على النظم المالية التي سبق اتباعها في البلاد المفتوحة مع تجديد ماء حياتها بعدالة الإسلام, وتشريعاته المالية السامية, وأظهر في تلك السبيل جرأةً نادرةً المثال, وأفقًا واسعًا وحنكةً عاليةً جعلته حريًّا أن يدعى المؤسس الثاني للدولة الإسلامية, ذلك أن مشكلةً خطيرةً ثارت عقب فتح الشام والعراق ومصر مباشرةً, حين طالب الجند الفاتحون بتقسيم الأراضي في تلك البلاد بينهم وفق القاعدة الخاصة بغنائم الحروب التي تقضي بأن يتم التقسيم وفق خمسة أقسام, أحدها يوزع طبقًا للآية الكريمة عن الغنائم, والأربعة الأخماس الأخرى تكون ملكًا للفاتحين. فهؤلاء الذين غنموا هذه الأرض من سواد العراق كان من ضمن هذه الغنائم التي استولوا عليها الأراضي, أخذوا هذه الأراضي بما عليها من ناس, فقالوا: هذه غنيمة وطالبوا سيدنا عمر بأن يطبق نظام الغنيمة وتقسيم الغنيمة الذي ورد في "سورة الأنفال" في قول الله -تبارك وتعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين} (الأنفال: من الآية: 41) فكأن الآية -كما قلنا- آية الغنيمة تبين أن هناك خمسًا لله وللرسول، والخمس الآخر إنما يعطى للغانمين والفاتحين, وهذا ما طبقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في عهده,
فالغنائم كانت توزع على هذا, تقسم خمسة أقسام, قسم في سبيل الله، ثم الأربعة الأخماس الباقية إنما توزع على الغانمين. كما قلنا هذا ما طبقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في عهده وطبقه أيضًا أبو بكر الصديق -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- فكانت الغنائم توزع على هذا المنوال: خمس لله ولرسوله، والأربعة الأخماس الباقية إنما توزع على الغانمين, وهذا ما طلبه الغانمون, ونقصد بالغانمين هنا الذين قاتلوا الكفار, واستولوا منهم على هذه الأرض -أي المقاتلين- فالآية تبين أن لهم الأربعة الأخماس؛ ولذلك تمسكوا بالآية, وطالبوا من سيدنا عمر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- أن يوزع عليهم هذه الأرض, وكانت أرضًا كثيرة, وأرضًا خصبة للغاية, وطالبوا منه أن يوزع عليهم هذه الأرض. أقول كتب قادة الجند في الأمصار إلى الخليفة عمر بن الخطاب يسألونه الرأي, إزاء طلب الجند بتقسيم الأراضي المفتوحة فيما بينهم, ومنهم سعد بن أبي وقاص الذي كان أول من تلقى هذه المشكلة في سواد العراق, يعني: أرض العراق, ثم تلى ذلك كتاب من أبي عبيدة عامر بن الجراح إلى عمر بقسمة المدن وأهلها والأرض بالشام, وما فيها من شجر وزرع. أقول: سيدنا عمر عندما بلغه هذا الأمر, وبلغه أن الجند الذين غنموا هذه الأرض, يطالبون بتقسيم هذه الأرض, أربعة الأخماس بينهم، سيدنا عمر بن الخطاب لم يرض بذلك, وكان له رأي مخالف لذلك. وكما قلنا فإن سيدنا عمر بن الخطاب ينظر دائمًا إلى مصلحة المسلمين العليا؛ ولذلك ماذا فعل سيدنا عمر بن الخطاب, إزاء هذه المشكلة التي تعرض لها؟ المشكلة أنه يريد أن تبقى هذه الأرض في يد أصحابها ويفرض عليها الخراج, وهذا الخراج يكون للمسلمين الموجودين الآن والذين يأتون بعد ذلك, لكن المقاتلين أو الغانمين لا يريدون ذلك, ويريدون أن توزع عليهم الغنائم كما كان متبعًا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد أبي بكر الصديق -رضوان الله تبارك وتعالى عليه.
أقول: سيدنا عمر بن الخطاب -كما كان دائما- عندما يعرض له أمر من هذه الأمور الخطيرة والأمور الكبيرة, كان لا يستأثر بالرأي, وإنما كان يستشير, وكيف لا وهو الذي قرأ قول الله -تبارك وتعالى-: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: من الآية: 159) وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} (الشورى: من الآية: 38)؟ كان سيدنا عمر من أكثر الناس تطبيقًا لآيات القرآن الكريم, ولذلك كانت عادته في أي أمر من الأمور التي تعرض له أن يعرض هذا الأمر على المسلمين يشاروهم فيه, ويأخذ الرأي الذي يتفقون عليه. رأى الخليفة عمر أن يستشير الصحابة وعلماءهم في هذا الموضوع الجديد الخطير؛ إذ لم يسبق للمسلمين الاستيلاء على مثل تلك الأراضي الشاسعة, الحافلة بالخصب العامر, بالسكان والمدن والثروات, ووقع الخلاف بين عمر وبين مستشاريه من الصحابة من المهاجرين؛ إذ كانت وجهة نظر الخليفة عمر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- أن تقسيم الأرض بين الجند, يحرم الدولة من مصدر هام من المصادر المطلوبة للإنفاق على المرافق العامة, وحماية البلاد وغيرها من متطلبات التطور الاجتماعي والاقتصادي. وخالف هذا الرأي نفر من كبار المهاجرين, يعني: بعض المهاجرين خالفوا سيدنا عمر في هذا الرأي, على رأس هؤلاء الذين عارضوا سيدنا عمر في هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف, الذي شدد القول على الخليفة عمر, قائلًا: إن عدم تقسيم الأرض يحرم الفاتحين حقًّا من حقوقهم الأساسية, ويقصد بذلك عبد الرحمن بن عوف بهذه الحقوق الأساسية, الحقوق التي قررتها لهم آية الغنيمة {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين} (الأنفال: من الآية: 41) إلى آخر ما جاء في الآية, فالآية تقرر أن الغنيمة أربعة أخماسها إنما يكون للغانمين؛ ولذلك سيدنا عمر عبد الرحمن بن عوف يبين للخليفة عمر أن تقسيم الأرض بين الغانمين, إنما هو حق من
حقوقهم؛ لأنهم يستندون في ذلك إلى آية صريحة, وهي آية الغنيمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} (الأنفال: من الآية: 41). وعندئذ رأى الخليفة أن يشكل لجنة من عشرة من كبار الأنصار, يحتكم إليها المسلمون, وتألفت من خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج -كما قلنا- وجد سيدنا عمر بن الخطاب من يعارضه في رأيه, سيدنا عمر بن الخطاب يريد إبقاء الأرض في يد أصحابها, ويفرض عليها الخراج, أو ضريبة, وهذا الخراج أو الضريبة إنما توضع في بيت المال وينفق منها على مصالح المسلمين الكثيرة, لكن الذين خالفوه وعلى رأسهم الجند, يقولون بأن هذه الأرض تقسم على الغانمين, ولا تبقى في يد أصحابها من أجل أن يوضع عليها الخراج أو الضريبة, كما قلنا سيدنا بن عمر الخطاب اختار عشرة من أكابر الصحابة خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج, أراد أن يعرض عليهم المشكلة, ويعرض عليهم هذا الخلاف الذي نشب بينه وبين الغانمين وبعض الصحابة, فيريد أن يعرض الرأي عليهم ثم بعد ذلك يأخذ رأيهم في هذه المشكلة. شرح الخليفة عمر بن الخطاب وجهة نظره إزاء المشكلة المطروحة أمام لجنة العشرة الكبار, فقال: أرأيتم هذه الثغور, هذه الثغور يقصد الأماكن التي من الممكن أن يأتي منها العدو إلى الدولة الإسلامية, ويعتدي عليها, يعني الأماكن التي ينبغي أن يكون فيها جند لحراسة الدولة الإسلامية من جيرانها الأعداء, أرأيتم هذه الثغور, لا بد لها من رجال يلزمونها, يلزمونها مثل ما هو معلوم هؤلاء الذي يدافعون عن حدود الدولة من الأماكن المختلفة, يلزمونها يعني لا بد وأن يكون هناك جند منقطعون للحفاظ على أمن الدولة الإسلامية في هذه الثغور, أي الأماكن التي يتوقع أن يأتي منها الخطر من الأعداء على الدولة الإسلامية, أرأيتم هذه الثغور, لا بد لها من رجال يلزمونها يعني يجلسون فيها, يجلسون في هذه الثغور ويحافظون على أمن الدولة الإسلامية, أو رأيتم هذه المدن العظام لا بد لها من أن تشحن بالجيوش, ويدرى عليها العطاء. بعد أن وجه نظرهم إلى هذه الثغور التي تحتاج إلى جنود يقيمون فيها وهؤلاء الجنود يحتاجون إلى مرتبات وإلى نفقات عليهم, وإلى أسلحة يتسلحون بها, يقول لهم: كل الأشياء المقاتلين الذين في حاجة إلى مرتبات, الذين هم في حاجة إلى وسائل يحاربون بها أو أسلحة يحاربون بها الأعداء، إذا أرادوا الاعتداء على الدولة الإسلامية, كل هذه الأشياء تحتاج إلى نفقات فمن أي نأتي بهذه النفقات, وكذلك يقول لهم: هذه المدن العظيمة التي افتتحها المسلمون, لا بد
لها أيضًا من جيوش إسلامية تحافظ على الأمن, والنظام فيها, وهذه الجيوش الإسلامية أيضًا في حاجة إلى نفقات, لا بد من مرتبات للجند, لا بد من الإنفاق عليهم في المأكل والمشرب, لا بد من أسلحة, كل هذه الأمور تحتاج إلى نفقات كبيرة, فمن أي يعطى هؤلاء, يعني لا بد ما دام نحن في حاجة أو الدولة الإسلامية في حاجة إلى موارد من أجل الإنفاق على هذه الجيوش التي تحمي المدن التي فتحها المسلمون أو تحمي ثغور الدولة الإسلامية من الأعداء تحتاج إلى نفقات كثيرة, فمن أي يعطى هؤلاء, أي: فمن أين توجد الأموال التي تنفق على هؤلاء الجند الذين يقومون بمهمة الدفاع عن الدولة الإسلامية, من أي يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون ومن عليها, يعني: يقول إذا قسمنا هذه الأرض بين المقاتلين كما هو كان متبعًا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأيام الخليفة أبو بكر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- فإذا قسمنا عليهم هذه الأرض فمن أي نأتي بهذه النفقات. لكن إذا أبقينا هذه الأرض تحت يد أصحابها ثم فرضنا عليها الضرائب أو الخراج, معنى ذلك أنه سوف يكون هناك مورد لبيت المال من هذه الضرائب أو من هذا الخراج نستطيع منه أن ننفق على مصروفات الدولة الإسلامية, والتي في مقدمتها الجيوش الإسلامية التي تحتاج إلى مرتبات وتحتاج إلى مأكل ومشرب وتحتاج إلى أسلحة, يقول لهم: من أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرض ومن عليها, ثم استشهد الخليفة بآيات من القرآن الكريم في أن الأرض المفتوحة يجب ألا تقسم بين الفاتحين, وإنما يجب اعتبارها ملكًا عامًا للدولة وأهلها في الحاضر والمستقبل على حد سوء, قائلا: وقد صار هذا الفيء بين هؤلاء جميعًا, فكيف نقسمه لهؤلاء وندع من يجيء بعده؟. يعني كأن سيدنا عمر بن الخطاب يبين أن الآيات القرآنية تبين أنه هناك يأتي أو بعض المسلمين يأتي بعد ذلك فإذا قسما هذه الأرض الغنية الخصبة على هؤلاء المقاتلين
فكأنهم أخذوا الجزء الأكبر من الثروة في الدولة الإسلامية فماذا يتبقى لمن يأتي بعدهم: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} (الحشر: من الآية: 6) ثم يقول -تبارك وتعالى-: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (الحشر: من الآية: 7) فسيدنا عمر: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} فسيدنا عمر يبين أننا لو أعطينا هذه الأرض الخصبة الواسعة الكبيرة لو أعطيناها لهؤلاء الفاتحين أو الغانمين أو المقاتلين لأصبحوا طائفة تحوز كل الثروة وبقية المسلمين لا يحوزون شيئًا وهذا هو الذي منعه الله -تبارك وتعالى- بقوله: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} ولهذا قال لهم: أعطيكم أنتم, وماذا تبقى للمسلمين الذين يأتون من بعدكم, عندما قالوا له: يعني تعطي ما غنمناه لأناس لم يحضروا القتال, ولأبناء أناس لم يحضروا القتال, فكيف ذلك فقال لهم كيف أعطيكم أنتم هذه الأرض تفوزون بها وتصبحون الأغنياء وبقية المسلمين فقراء, إذا أعطيتكم هذه الأرض ماذا يتبقى للمسلمين الذين يأتون بعدكم. أقول جاء بهذه الآيات واستدل بها, وفي خضم هذا كان سيدنا عمر يحكي هذا ويدلل على رأيه وسط اللجنة أو أمام اللجنة التي شكلها للاستشارة، وهي -كما قلنا- العشرة: خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج، من أكابر الصحابة الخبراء بأمور المسلمين, عندئذٍ وافقت اللجنة أو هيئة الشورى إن صح لنا التعبير, على وجهة عمر الخليفة عمر التي حددت مفهوم الغنيمة, والفيء بعد أن كان الخلط بين مدلوليهما سببًا في إثارة قضية تقسيم البلاد المفتوحة, إذ جعل الخليفة معنى الغنيمة منحصر في المال المنقول الذي يأتي نتيجة الحرب, أما معنى الفيء فقد وسع الخليفة مدلوله ليشمل ما يؤخذ عنوة وما يؤخذ عن طريق الصلح وأن الأرض المفتوحة وما ارتبط بها من فرض الجزية على أهلها إنما يدخل في مدلول الفيء, وصار من حق الأمة أن تجتهد ممثلة في مجلس الشورى.
كما قلنا اللجنة التي شكلها وافقت على ذلك, وهذه اللجنة بينت أنه ليس هناك تعارض, الرأي الذي به سيدنا عمر وهو إبقاء الأرض وعدم توزيعها على الغانمين وإبقائها في يد أصحابها الذين سيطر وانتصر عليهم المسلمون, هذا ليس مخالف لآية الغنيمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} يعني: ممكن الجمع بين هذه الآية آية الغنيمة وآية الفيء, والجمع بينهم يكون: أن الغنيمة التي تقسم خمسة أخماس, خمس لله ورسوله وأربعة أخماس للمقاتلين, إنما تكون في الأموال المنقولة أما بالنسبة للعقارات, مثل الأرض, فهذه لا تشملها الغنيمة وأن هذه الأرض إنما تبقى في يد أصحابها من أجل أن يفرض عليها أو تفرض عليها الضريبة أو يفرض عليها الخراج, ويصبح هذا الخراج أو تلك الضريبة موردًا ماليًا للدولة الإسلامية يوضع في بيت المال وينفق في مصالح المسلمين. هكذا فهم سيدنا عمر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- والذي دفع سيدنا عمر إلى هذا الموقف وإلى التمسك بهذا الرأي على الرغم من هذه المعارضة الكبيرة التي رآها سيدنا عمر من المقاتلين ومن كثير من الصحابة خالفوه في هذا الرأي لكنه تمسك به تمسك به لماذا هذه سياسة مالية نظر إليها سيدنا عمر بن الخطاب ووجد أن هذه السياسة المالية إنما تحقق مصلحة المسلمين, الآن وفي المستقبل, ولذلك صار من حق الأم أن تجتهد ممثلة في مجلس الشورى, مثل مجلس الشورى الذي شكله سيدنا عمر بن الخطاب في هذه المشكلة التي حدثت بينه وبين المقاتلين أو الغانمين شكل مجلسًا للشورى, وهذا معناه أن الشورى أمر يجب أن يأخذ به المسلمون في جميع شئونهم خصوصًا الشئون العامة التي تخص الدولة الإسلامية.
نقول: يصير من حق الأمة أن تجتهد في مجلس الشورى في إقرار تشريع مالي جديد ينص على اعتبار الأرض المفتوحة وقفًا على المسلمين, وذلك بعد أن اقتنع أصحاب الشورى بوجهة نظر الخليفة عمر بن الخطاب, وقالوا له: الرأي رأيك يا عمر, فنعم ما قلت وما رأيت. وهكذا وافق هذا المجلس -مجلس الشورى الذي شكله عمر بن الخطاب- على رأي عمر بن الخطاب بعد أن ذكر لهم الحجج والأدلة التي استند إليها، ولما وافقوا على ما رآه عمر عندئذٍ كتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى قادة الجيوش في الولايات بهذا القرار, أبلغهم بهذا القرار الذي اتخذ بناء على مجلس الشورى الذي كونه, والقرار -كما قلنا- إبقاء الأرض وقفًا على المسلمين, أي: أن الأرض تستمر في يد أصحابها يفرض عليها الخراج أو ضريبة الخراج, وتفرض طبعا الجزية على سكانها, كتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى قادة الجيوش في الولايات بهذا القرار, ومن بينهم سعد بن أبي وقاص الذي كان أول من أثار جنده بالعراق تلك القضية, فقال له أن ينظر ما أجلب به الناس من كراع أو مال -الكراع يقصد بها الأسلحة هنا- فيقسمه بين من حضر من المسلمين, ويترك الأرض والأنهار لعمالها وأصحابها, ليكون ذلك في أعطيات المسلمين, أي ليكون ذلك مصدرًا من مصادر أو موردًا من موارد الدولة الإسلامية أو يدفع منها أعطيات المسلمين ويتحقق بها مصلحة المسلمين, وصارت الأرض المفتوحة تكون موردًا ماليًا ثابتًا ووقفًا على الأمة بتعاقب أجيالها. وإذا نظرنا إلى نظام العطاء في زمن الخليفة عمر بن الخطاب نقول: استلزم تطبيق التشريع المالي الجديد الخاص بالأراضي المفتوحة خلق أداة تنفيذية تشرف على متطلباته, ذلك أن هذا التشريع نص على تعويض الجند بمنحهم أعطيات مقابل الأرض التي كانوا يتطلعون إلى قسمتها فيما بينهم, يعني سيدنا عمر بن الخطاب وإن كان لم يقسم الأرض على الغانمين وعلى المقاتلين إلا أنه عوضهم عن ذلك, ببعض الأموال الأخرى, وجاء الإحصاء الخاص بمساحة تلك الأراضي المفتوحة
ومن عليها من السكان مليئًا بأرقام هائلة وخيالية؛ لأنها كانت أرضٍ كثيرةً للغاية، وكانت السلطات الساسانية والبيزنطية -وهي السلطات التي كانت تحكم تلك البلاد قبل أن يسيطر المسلمون على تلك البلاد- صاحبة السيادة على تلك الأراضي قبل الفتح الإسلامي، كانت تفرض على الأرض خراجًا -وهي ضريبة عينية فادحة ظالمة كثيرة- وكانت تفرض على السكان جزية -وهي أيضًا ضريبة مالية جائرة- ولذلك رأى الخليفة عمر بن الخطاب أن يبقى على كل من الخراج والجزية، ولكن بصورة تتفق مع عدالة الإسلام ومراعاة الصالح أو مراعاة لصالح الرعايا الجدد للدول للدولة الإسلامية, فصار تقدير الخراج يراعى فيه واقع الأرض وإنتاجها وما يحفظ لها الازدهار والنماء, أما الجزية التي قررها الإسلام فلم تكن تحمل المعنى القديم الدال على القهر والذلة والاستغلال, وإنما كانت تؤدى في ظل الإسلام مقابل حماية الدولة لدافعيها ولحريتهم ومعابدهم, أي أشبه بضريبة الدفاع وسبيلًا لخلق توازن بين دافعي الجزية من رعايا الدولة، الذين صاروا يعرفون باسم أهل الذمة، وبين المسلمين من رعايا الدولة الذي يؤدون الزكاة على أموالهم. خلاصة القول في هذا أن سيدنا عمر بن الخطاب بعد أن اتخذ القرار مع مجلس الشورى الذي كونه من عشرة من كبار الصحابة، واتخذ القرار بأن توقف هذه الأرض على المسلمين، يستفيد بها الأجيال الحاضرة والأجيال القادمة, واتخذ هذا القرار، وأن تبقى الأرض مع أصحابها تفرض عليها، أو يفرض عليها الخراج، ويفرض على سكانها الجزية، سيدنا عمر بن الخطاب وجد أن نظام الجزية ونظام الخراج -نظام الجزية على الرءوس يعني: على الناس أصحاب هذه الأرض. ونظام الخراج الذي كان يوضع على الأرض في حد ذاتها- وجد أن هذا النظام كان موجودًا في هذه البلاد, كان يطبقه حكام هذه البلاد قبل أن
يسيطر المسلمون ويفتحون هذه البلاد, سيدنا عمر بن الخطاب استبقى هذا النظام، وهو أن الأرض يفرض عليها الخراج، والخارج إنما هو ضريبة مالية تفرض على الأرض أو ما يسمى في الوقت الحاضر إيجار الأرض الزراعية. لكن سيدنا عمر خالف الحكام الذي كانوا يسيطرون على هذه البلاد في أمر مهم للغاية, وهو أن الحكام الذين كانوا يحكمون هذه البلاد كانوا يفرضون ضريبة على الأرض جائرة وظالمة, لا تتناسب مع ما تأتي به الأرض من زرع, وكذلك كانوا يفرضون قدرًا من الجزية ظالمًا لا يتناسب مع مقدرة الناس الذين تفرض عليهم هذه الجزية, سيدنا عمر بن الخطاب لم يأخذ بذلك؛ لأن الإسلام هو دين العدالة؛ ولذلك فرض عليهم جزية, لكنها جزية تتمشى مع مقدرتهم المالية, إذن سيدنا عمر راعى المقدرة المالية للمولين كما يقال في العصور الحاضرة, لم يأخذ من الناس بالنسبة للجزية إلا ما يقدرون عليه, ولذلك كانت تقسم على حسب الغنى وعلى حسب التوسط وعلى حسب الفقر, فالفقير كانت لا تؤخذ منه جزية المتوسط تأخذ منه جزية متوسطة, الغني تأخذ منه جزية أكبر ولذلك راعى ظروف الناس أو ظروف الممولين كما نقول. كذلك بالنسبة للأرض الرزاعية سيدنا عمر بن الخطاب فرض ضريبة الخراج لكن جعل هذه الضريبة تتمشى مع مقدرة الأرض وما تأتي به الأرض، يعني معنى ذلك راعى مقدرة الأرض وما تأتي به من زروع؛ ولذلك كانت ضريبةً عادلةً, وكذلك كانت الجزية على الرءوس عادلةً أيضًا؛ لأن الإسلام إنما راعى ذلك، والإسلام عندما يفرض الجزية لا يريد إذلال الناس إطلاقًا, فالجزية التي كان يفرضها الساسانيون والبيزنطيون قبل دخول الإسلام إلى هذه الأرض كان مقصودًا بها الاضطهاد, كان مقصودًا بها الإذلال والقهر والاستغلال، لكنّ المسلمين عندما ذهبوا إلى هذه الأماكن لم يريدوا بالجزية أبدًا الاستغلالَ, فهذه الجزية التي
فرضها المسلمون إنما هي علامة فقط على خضوع هؤلاء الناس للدولة الإسلامية, وأيضًا الجزية كان سببها أن المسلمين هم الذين سوف يدافعون عن هؤلاء الناس -أهل البلد التي افتتحها المسلمون- فكأن هذه تعتبر ضريبة دفاع وليست جزية, ولذلك كان الذي يحارب مع المسلمين من أهل هذه البلاد تسقط عنه الجزية. ولذلك بعض الفقهاء -كالشافعية- يقولون بأن الجزية إنما فرضت عليهم مقابل حمايتهم والدفاع عنهم؛ ولذلك إذا قاموا هم بهذه الحماية أو الدفاع أو اشتركوا مع المسلمين في الدفاع عن الدولة الإسلامية, فتسقط عنهم هذه الجزية. إذن الجزية التي فرضها الإسلام خلاف الجزية التي فرضها غير المسلمين من الملوك المستبدين, فالجزية كانت عادلةً، والجزية كانت ليست للقهر ولا للإذلال -كما قلنا- وإنما هي دلالة وعلامة على خضوع هؤلاء الناس للقانون الإسلامي وللحكم الإسلامي, كذلك الأمر بالنسبة لهذا الخراج الذي فُرض على هذه الأرض التي افتتحها المسلمون، أيضًا كانت ضريبةُ الخراج ضريبةً عادلةً للغاية تناسب الأرض؛ ولذلك كانت قيمة الخراج تختلف من أرضٍ إلى أرضٍ أخرى, فالأرض القوية الخصبة يزيد خراجها, والأرض الضعيفة يقل خراجها. فكما قلنا لم تكن تحمل الجزية التي قررها الإسلام المعنى القديم الدال على القهر والذلة الاستغلال, وإنما كانت تؤدى في ظل الإسلام مقابل حماية الدولة لدافعيها ولحريتهم ومعابدهم, أي أشبه بضريبة الدفاع وسبيلًا لخلق توازن بين دافعي الجزية من رعايا الدولة الذين صاروا يعرفون باسم أهل الذمة وبين المسلمين من رعايا الدولة الذين يؤدون الزكاة على أموالهم. إذن الجزية كانت من ناحية أخرى من باب المساواة بين رعايا الدولة الإسلامية, فرعايا الدولة الإسلامية يتكونون من مسلمين وغير مسلمين؛ لأن الذين يدفعون
تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب.
الجزية هم من رعايا الدولة الإسلامية, فالمسلمون يدفعون الجزية فكان العدل يقتضي أن غير المسلمين يدفعون شيئًا آخر، وهو المتمثل في الجزية، المسلمون يؤدون الزكاة, وأما أهل الذمة فإنما يؤدون الجزية, وهذا نوع من المساواة بين رعايا الدولة الإسلامية, فالمسلمون يستفيدون من المرافق العامة في الدولة الإسلامية، وغير المسلمين أيضًا يستفيدون من المرافق العامة في الدولة الإسلامية؛ لذلك كان العدل أن يتحمل كل فريق ما يناسبه من تكاليف هذه المرافق، فالمسلمون يدفعون الزكاة، فكان العدل يقتضي أن يدفع غير المسلمين -وهم أهل الذمة- الجزية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - النظام المالي في عهد عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وتحدثنا عن اتجاه عمر بالنسبة لتوزيع العطاء؛ إذ كان يفاضل بين الناس في ذلك. ورأينا أيضًا الموقف الحازم الذي اتخذه عمر بن الخطاب بالنسبة للأرض التي غنمها المسلمون من سواد العراق؛ حيث أوقفها على المسلمين، ولم يقسمها على الغانمين، وفرض عليها الخراج؛ ليكون موردًا ماليًّا من الموارد المالية في الدولة الإسلامية. ونكمل في هذه المحاضرة المعالم الرئيسية التي سار عليها عمر بن الخطاب في السياسة المالية للدولة الإسلامية فنقول: استلزم تطبيق التشريع المالي الجديد الخاص بالأراضي المفتوحة خلق أداة تنفيذية تشرف على متطلبات هذا النظام الجديد؛ وذلك أن هذا التشريع نصّ على تعويض الجند بمنحهم أعطيات مقابل الأرض التي كانوا يتطلعون إلى قسمتها فيما بينهم، وجاء الإحصاء الخاص بمساحة تلك الأراضي المفتوحة ومن عليها من السكان مليئًا بأرقام هائلة وخيالية، وكانت السلطات الساسانية والبيزنطية -صاحبة السيادة على تلك الأراضي قبل الفتح الإسلامي- تفرض على الأرض خراجًا -وهي ضريبة عينية فادحة- وكانت تفرض على السكان جزيةً -وهي ضريبة مالية جائرة- ورأى الخليفة عمر بن الخطاب أن يبقي على كلٍّ من الخراج والجزية، ولكن بصورة تتفق مع عدالة الإسلام، ومراعاة الصالح العام للرعايا الجدد للدولة الإسلامية، فصار تقدير الخراج يراعى فيه واقع الأرض، وإنتاجها، وما يحفظ لها الازدهار والنماء، أما الجزية التي قررها الإسلام فلم تكن تحمل المعنى القديم الدال على القهر والذلة والاستغلال، وإنما كانت تؤدى في ظل الإسلام مقابل حماية الدولة لدفعها، ولحريتهم ومعابدهم، أي أنها كانت أشبه بضريبة الدفاع، وسبيلًا لخلق توازن بين دافعي الجزية من رعايا الدولة -الذين
صاروا يعرفون باسم أهل الذمة- وبين المسلمين من رعايا الدولة -الذين يؤدون الزكاة على أموالهم- أي أنه يتضح لنا من هذا أن عمر بن الخطاب -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- سار على نفس النظام الذي كان يسير عليه الذين يحكمون هذه البلاد قبل أن يدخلها الإسلام، فكانوا يسيرون على نظام الخراج وعلى نظام الجزية، ووجد سيدنا عمر بن الخطاب أن هذا أمر جيد، فأبقى الخراج وأبقى الجزية، لكنه راعى في ذلك عدالة الإسلام، فإذا كان هؤلاء الحكام -الذين يحكمون هذه البلاد قبل الفتح الإسلامي- يغالون في الجزية، ويغالون في الخراج، ويظلمون الناس، فإن ذلك لم يرضَ به عمر بن الخطاب؛ لأن عمر بن الخطاب إنما يطبق تعاليم الإسلام التي تطالبنا بتحقيق العدالة بين الناس؛ ولذلك أبقى الخراج لكنه جعله عادلًا، يختلف باختلاف الأراضي جودةً وخصوبةً، وكذلك أبقى الجزية، لكنه كان عادلًا في فرض هذه الجزية؛ إذ يختلف المبلغ المقدر على الناس باختلاف غناهم وفقرهم، وتتطلب تنظيم المال المتجمع من الخراج والجزية، وكذلك إنفاقه في الأوجه المقررة له، إدارةً جديدةً، أي أن هذه الموارد الجديدة التي سوف تأتي للدولة الإسلامية بالأموال -وهي المتمثلة في الجزية والخراج- تتطلب تنظيمًا يقوم بهذا الأمر، يقوم بجباية الخراج، وجباية الجزية، ثم يقوم بعد ذلك بإنفاقها في الوجوه المقررة لها في الفقه الإسلامي. واستشار الخليفة عمر الصحابة في هذا الأمر أيضًا؛ إذ أنه -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- ما كان يتخذ أمرًا منفردًا، بل إذا كان هناك أمر من الأمور تهم المسلمين استشار الصحابة في هذا الأمر، استشارهم في هذا الأمر وقال لهم: هذا الخراج وتلك الجزية التي تأتينا كل سنة ماذا نفعل بها؟ هل نوزعها مرةً واحدةً أم على فترات؟ أم ماذا؟
فقال له علي بن أبي طالب: تقسِّم كل سنة ما اجتمع إليك من مال، ولا تمسك منه شيئًا. وقال له عثمان بن عفان: أرى مالًا كثيرًا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر. فسيدنا علي بن أبي طالب قال له: كل مال يأتيك فوزعه في الحال. لكن سيدنا عثمان كان له وجهة نظر أخرى وقال له: لا بدّ من تدبير الأمر وإحكام الأمر؛ حتى نضمن أن المال وصل إلى مستحقه فعلًا. وقال الوليد بن هشام بن المغيرة: قد جئت الشام، فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانًا، وجندوا جندًا، فدون ديوانًا وجند جندًا. الوليد بن هشام بن المغيرة أبدى رأيه في هذا الأمر وقال له: يا أمير المؤمنين، الأفضل في هذه الحالة أن يكون هناك ديوان. ومعنى ديوان أنه تثبت فيه أسماء الناس وأعطيات الناس، وهذا أمر كان معروفًا عند الملوك وعند الدول قبل أن يفتتح المسلمون هذه الأراضي. ولذلك نال هذا الرأي الأخير إعجاب الخليفة عمر بن الخطاب، وقرر إنشاء الديوان الأول في الإسلام، مستفيدًا من نظم الروم والساسانيين في تلك السبيل. غير أن القواعد التي قررها الخليفة لهذا الديوان كانت إسلاميةً خالصةً, ووفق مراتب تحفظ لكل ذي حق حقه, ولا تغمط فرضًا قدره أو جهده, وشرح الخليفة الأسس التي قررها قائلًا: "ما من أحد إلا وله في هذا المال حقه أعطيه أو منعه, وما أنا فيكم إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله, وقسمنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالرجل وتلاده في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام, والرجل وغناه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام". تلك كانت توجيهات عمر بن الخطاب عندما أراد وضع هذا الديوان الجديد, وعهد الخليفة عمر إلى عقيل بن أبي طالب، وابن نوفل، وجبير بن مطعم, عهد إليهم بتطبيق القواعد الجديدة التي قررها؛ إذ كان هذا النفر من كبار الصحابة من أوسع العرب علمًا بأنساب قريش, وقال لهم: "اكتبوا الناس على منازلهم" أي: على مقدار سابقتهم في الإسلام ومقدار قرابتهم للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وذلك
ليكون التفاضل في العطاء قائمًا على هذين الأساسين, وهو الأساس الأول منزلة الناس في الإسلام، ثم قرابتهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتم بذلك وضع أول نظام مالي إسلامي اشتهر باسم العطاء, يستند إلى العدالة من حيث التقرير والتطبيق؛ إذ حاول نفر من الناس حمل الخليفة على أن يبدأ قائمة العطاء بنفسه, ولكنه رفض وقال: "أبدأ ببني هاشم, قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبدأ ببني هاشم حسب الأقرب فالأقرب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان القوم إذا استووا في القرابة قدم أهل السابقة في الإسلام, وكان يفضل في العطاء أيضًا أهل المشاهد -وهم الذين شهدوا الغزوات والفتوحات الإسلامية. وبلغ من دقة نظام العطاء أنه قرّر لكل مولود مائة درهم, فإذا ترعرع بلغ عطاؤه مائتي درهم, ومن الطريف في هذه القاعدة أنه لم يكن يفرض للمولود في أول الأمر حتى يفطم -أي حتى ينتهي من الرضاع- فأمر عمر مناديه أن لا تعجلوا بفطام أولادكم, فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام, يعني يفرض له عطاء من بيت المال, وتجلت دقة نظام العطاء وسموه في الشريعة الإسلامية أن عمر بن الخطاب ساوى في العطاء بين العرب والموالي, وقرر للهرمزان الفارسي ألفي درهم, وكتب إلى أمراء الأجناد قائلًا: "ومن أعتقتكم من الحمراء -يعني: الموالي- فأسلموا فألحقوهم بمواليهم, لهم ما لهم وعليهم ما عليهم, وإن أحبوا أن يكونوا قبيلةً وحدهم فاجعلوهم أسوتهم في العطاء". وكتب الخليفة أيضًا إلى أحد ولاته ممن أغفل شأن الموالي في العطاء قائلا: له فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم, والسلام. فكأن سيدنا عمر بن الخطاب بلغ من دقة نظره في هذا الأمر أنه جعل الموالي يعني الذين كانوا عبيدًا ثم أعتقوا جعلهم يتساوون مع المسلمين وحتى مع الذين أعتقوهم في هذا الأمر, ونال كل فرد إلى جانب العطاء المالي رزقًا عينيًّا،
وقرر الخليفة عمر بن الخطاب لكل فرد بعد تجربة عملية رزقًا شهريًّا، قدره جريبين من الطعام, والجريب هو كيل من المكيلات التي يكال بها الحبوب, وذلك للرجل، والمرأة، والمملوك، والطفل أيضًا, وصار من الطرائف في هذا الأمر أن المرء إذا أراد أن يدعو على صاحبه قال له: "قطع الله عنك جريبيك" يعني: الكمية من الطعام التي كانت تعطى له من بيت المال. وحرص الخليفة عمر على أن يحمل بنفسه عطاء بعض القبائل ويوزعه عليهم, فلا يغيب عنه امرأة بكر ولا ثيب فيعطيهن في أيديهن, وصار العطاء خير نموذج عملي لقوة النظام المالي في الإسلام, وعدالة قواعده ودقتها في نفس الوقت. واقتضى التطور في الموارد والعطاء على عهد عمر بن الخطاب الاهتمام بالتنظيم المالي للولايات، باعتبارها المصدر الرئيسي الذي استمد منه هذا التطور مقوماته ومعالمه, وتجلى في هذا التنظيم مدى ما اتسم به النظام المالي الإسلامي من مرونة، وقدرة على النهوض بأحوال الولايات؛ حتى صارت تكون الصرح الشامخ لما سماه الفقهاء "دار الإسلام" وكان لكل ولاية إدارتها المالية بعمالها الخبيرين بمرافقها القديمة, القادرين على بعث ماء الحياة فيها, بما يتفق والنظام الإسلامي وعدالته. وتتضح تلك الحقيقة في الولايات الكبرى الثلاث للدولة الإسلامية إذ ذاك، وهي العراق، والشام، ومصر, فالنبسة لولاية العراق انقسم العراق من حيث التنظيم المالي قسمين: أحدهما: هو الشطر الجنوبي الذي اشتهر باسم السواد، واشتمل على الأراضي الخصبة.
والآخر وهو الشطر الأعلى الذي اشتهر باسم أرض الجزيرة الفراتية, واشتملت على الأراضي الممتدة بين دجلة والفرات. وبعث الخليفة عمر بن الخطاب خبيرين لمسح أرض السواد -أي: سواد العراق- وتقدير ما يجب أن تدفعه من الخراج عن الأرض الزراعية والجزية عن أهل الذمة بها، وقام بهذا العمل خبيران من خبراء المسلمين هما عثمان بن حنيف، وحذيفة بن اليمان, اللذان استعانا بأهل البلاد لمعرفة النظم التي سبق للساسانيين فرضها على تلك النواحي, وكان الساسانيون -أي الحكام السابقون لتلك البلاد قبل أن يفتحها المسلمون- يفرضون الخراج على ما يعصم الناس والبهائم، وهو الحنطة -أي: القمح, والشعير، والأرز, والكرم أي: العنب, والرطاب أي: البلح, والزيتون- وكذلك على كل نخل حديقة -أي: البساتين- وكان مقدار هذا الخراج يقدر على أساس المساحة. وتولى الدهّاقون -وهم رؤساء القرى- جمع هذا الخراج, بحيث جعلوا الغرم يقع على صغار الملاك دون الكبار, وفرض الساسانيون أيضًا جزية جعلوها على أربع درجات بحيث أعفي منها أهل البيوتات، والعظماء، والمقاتلة، والكتاب, ومن كان في خدمة الملك, ووقع غرمها على العامة أصحاب الدخل البسيط, وهذا ظلم لا يرضاه الإسلام, فقد كفل هذا النظام الإسلامي العدالة في جمع الخراج, وإزالة الاستثناءات التي سبق أن فرضها الساسانيون على صغار الملاك، وتحققت المساواة في ظل النظام الإسلامي المالي, وتدعمت المساواة في ظل النظام المالي الإسلامي في تقرير الجزية على الذكور البالغين فقط, من دون النساء، والأطفال، والمسنين, وذلك بمقدار 48 درهمًا و 24 درهمًا و 12 درهمًَا في السنة حسب دخل الفرض وثرائه, ودون استثناء.
وصار هذا المقدار لا يضر الفرض العادي على نحو ما قاله الخليفة عمر درهم في الشهر لا يعوز رجلًا, لا يؤثر في الرجل, وكان أساس التباين في دفع الجزية في ظل النظام المالي الإسلامي هو الحالة الاجتماعية, وما صاحبها من دخل, فكان على الدهاقين -أي: الذين يتختمون بالذهب- كان على الرجل ثمانية وأربعين درهمًا؛ لأنهم في فئة الأغنياء والأثرياء, وكان على أوساطهم من التجار على رأس كل رجل أربعة وعشرين درهمًا في السنة, وعلى الأكرة -وهم الفلاحون وسائر من بقي منهم- اثن عشر درهمًا, وهذا معناه أن الجزية كانت متفاوتة في مقدارها فالأثرياء جدًّ عليهم 48 درهمًا في السنة، والمتوسطون 24 درهمًا، والأقل ثراءً وتوسطً عليهم 12 درهمًا, فكان هذا يتمشى مع حالة الفرد أو حسب دخل الفرد وثرائه. وتمّ التنظيم المالي لبلاد الجزيرة الفراتية على نفس الأسس التي تقررت في أرض السواد، من حيث مراعاة العدالة الإسلامية, وكذلك الأحوال المالية لتلك النواحي. وفي ولايات الشام اتبع المسلمون في تقرير الجزية والخراج نفس الأسس التي اتبعوها في بلاد الجزيرة الفراتية؛ لتشابه الأحوال في كل منهما، من حيث تبادل سيادة الفرس والبيزنطيين عليهما. وبالنسبة لمصر أو الولاية المصرية كانت جباية الجزية في مصر تختلف من مكان إلى آخر, حسب إمكانية كل فرض؛ ذلك أن صاحب "إخنا" جاء إلى عمرو بن العاص وطلب منه تقرير حدّ ثابت للجزية -يعني تقرير حدّ معين للجزية ومبلغ معين للجزية- ليصبح كل فرد ملتزمًا بها دون نظر إلى حالته المالية, ولكن عمرو بن العاص رفض ذلك بشدة، مبينًا أن هذا التحديد أمر غير عملي, وأن
الأوضاع قد تتغير، وأن الوالي صاحب الحق في تعديل ما على الفرد من جزية حسب مقتضيات تلك الأوضاع. وكان لأبناء مصر قدر كبير من الحرية والمساهمة في الإدارة المالية لبلدهم, وذلك بما يحقق لهم العدالة، والتخلص من مساوئ الاستغلال الذي سبق أن عانوا منه الكثير زمن الروم. وصار التنظيم المالي في مصر على هدي مراعاة مصالح البلاد وأهلها, وأنه لم يرسل إلى الخلافة في المدينة الخراج المطلوب إلا بعد اقتطاع ما تحتاج إليه البلاد من حفر خلجانها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها ... وغير ذلك من الأمور التي تحتاجها الدولة, ثم إن الخراج لم يرسله عمرو بن العاص أيضًا إلا بعد أن يفرغ الناس من الزراعة وعصر كرومهم. إن هذا الذي فعله عمر بن الخطاب إنما هو تقرير جديد وتنظيم جديد للسياسة المالية الإسلامية بالنسبة للبلاد التي افتتحها المسلمون, ولو نظرنا إلى الكتب التي تتحدث عن الإدارة في ظل العصر الإسلامي الأول, نجد أن هناك كتابًا يسمى الإدارة الإسلامية في عز العرب تأليف محمد كردي علي, جاء في هذا الكتاب في صفحة 43 قول عمر بن الخطاب: "ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله جعلني له خازنًا وقاسمًا" وكتب عمر الناس على قبائلهم أي: أحصاهم, ففرض الفروض وأعطى العطايا على السابقة, أي السابقة في الإسلام, بدأ بالأقرب فالأقرب من الرسول, وفرض لأهل بدر ولمن بعدهم إلى الحديبية وبيعة رضوان, ثم لمن بعدهم, ولأهل القادسية واليرموك وأعطى نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم, ورزق الصبيان والأئمة والمؤذنين والمعلمين والقضاة, وحلف على أيمان ثلاث, فقال: "والله ما
أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد, والله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدًا مملوكًا, ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى وقسمنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته". ثم يقول عمر: "والله لئن بقيت لهم ليأتيني الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه" فكأن هذا دليلًا على تصميم عمر بن الخطاب -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- أن هذه الأموال التي تأتي لبيت المال عن طريق الجزية أو عن طريق الخراج, أنه لا بد وأن يكون لكل مسلم نصيب في هذه الأموال حتى ولو كان إنسانا عاديًّا، راعي يرعى في صنعاء، في اليمنن، فكان يقسم أنه لا بدّ وأن يصل له نصيبه من هذا العطاء؛ لأنه كما قلنا قال: "والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد" يعني: كل واحد له في هذا المال. جمع عمر المسلمين لأول عهده وقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ سألهم عمر عندما تولى الخلافة, وقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ أي المال الذي يأتي إلى بيت المال من الجزية والخراج ... وغير ذلك, فقالوا جميعًا أما لخاصته فقوته وقوت عياله لا وكس ولا شطط, وكسوتهم وكسوته للشتاء والصيف، ودابتان إلى جهاده، وحوائجه، وصلاته، وحجه، وعمره, والقسم بالسوية, وأن يعطي أهل البلاد على قدر بلائهم, ويتعاهدهم عن الشدائد والنوازل حتى تنكشف, ويبدأ بأهل الفيء. وكان عمر إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه يعني: جاء إلى صاحب بيت المال فاستقرضه يعني: طلب منه القرض, فاستقرضه فربما عثر, فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيلزمه فيحتال له عمر, أي: أن عمر كان إذا احتاج إلى أموال لينفقها في مصالح المسلمين, يأتي إلى صاحب بيت المال, وهو ما
نطلق عليه وزير الخزانة في الوقت الحاضر, ويطلب منه قرضًا كأنه يطلب القرض لنفسه هو, ويقول له: يا صاحب بيت المال، عندما يحل وفاء الأجل ائت إلي لتأخذ نصيبك, فهذا قرض خاص لي, وكان هذا حرصًّا منه -أي من سيدنا عمر بن الخطاب- على أن يذهب المال إلى المكان المحدد له, وربما خرج عطاؤه فقضاه وطلب من أحد أصحابه أن يقرضه مالًا, فقال له: يا عمر، ما يمنعك أن تقترض من بيت المال؟ فأجابه عمر: إنه إذا مات, وله مدين, ربما غفلوا عن تقاضي ما اقترض, أما صاحبه فإنه لحرصه على ماله يطالب الورثة بماله فيستوفيه وتبرأ ذمة عمر. هكذا كان حرص عمر بن الخطاب على الأموال التي كانت في بيت المال, إذا أراد المال للإنفاق على مصالح المسلمين يذهب إلى أحد أصحابه ليقترض منه, وعندما سئل لماذا لا تقترض من بيت المال؟ يقول: أخاف أن أموت. القائم على بيت المال أو صاحب المال ربما يتكاسل ولا يطالب بهذا المال؛ لأنه ليس ماله هو وإنما هو مال المسلمين فربما يتكاسل, لكن عندما أخذه من صاحبي فإذا مت فإنه حريص على أمواله وسوف يذهب إلى الورثة فيعطونه هذا المال. هذه هي سياسية سيدنا عمر بن الخطاب بالنسبة للأموال, ومما تعلقت به همة عمر إحداث أوضاع جديدة اقتضتها حالة التوسع في الفتوح, فهو أول من حمل الدرة, عصا بسيطة, وهو أول من دون الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم دونها له عقيل بن أبي طالب وابن نوفل وجبير بن مطعم -كما قلنا- وكانوا من نبهاء قريش لهم علم بالأنساب, وأيام الناس، والديوان الذي نقصده هو الدفتر أو مجتمع الصحف, والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية, وعرفوا الديوان أنه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن
يقوم بها من الجيوش والعمال, وأطلق لفظ الديوان بعد ذلك على جميع سجلات الحكومة وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات. هكذا كان عمر وضع عمر أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق، والبصرة، والكوفة، على النحو الذي كان عليه قبله. وقيل: إن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء. وداوين الشام تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية, وداوين مصر بالقبطية يتولاها النصارى والمجوس دون المسلمين. والسبب في تدوين الدواوين أن عامل عمر على البحرين أتاه يومًا بخمسمائة ألف درهم فاستعظمها, وقال: هي كثيرة جعل عليها حراسًا في المسجد. فأشار عليه بعض من عرفوا فارس والشام أن يدون الدواوين يكتبون فيها الأسماء, وما لكل واحد وجعل الأرزاق مشاهرة, يعني: كل شهر, وجعل عمر تابوتًا أي صندوقًا لجمع صكوكه ومعاهداته, وجند الأجناد أي: ألف الفيالق فكان هناك جنود في فلسطين, وفي الجزيرة والموصل وغير ذلك. ولما أرسل عبد الله بن مسعود إلى العراق وزيرًا ومعلمًا مع عمار بن ياسر الذي ولاه الإمارة كتب إلى أهل العراق, وقد جعلت على بيت مالكم عبد الله بن مسعود, وآثرتكم به على نفسي, وقد يبعث إلى بعض الأقطار عاملًا على الصلاة والحرب، ويسميه أميرًا, وعاملًا على القضاء وبيت المال، ويسميه معلمًا ووزيرًا, أو يجمع للعامل بين الصلاة والخراج كعامل مصر, وتقسيم العمالات في الشام يختلف عن اليمن، وعامل البحرين لا يكون كعامل اليمامة, وقد يبعث أناسًا لمساحة الأرض، وأناسًا لتقدير الخراج، وآخرين لإحصاء الناس, وقال لعاملين له: "توليا مساحة العراق ووضع الخراج على سوادها" قال لهما: "أخاف أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطبيقه, لئن سلمني الله لأدعنّ أرامل العراق لا
النظام المالي في عهد عثمان بن عفان.
يحتجن إلى رجل بعدي أبدًا". وقال: "اللهم إني أشهدك على أمراء الأنصار, فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم, وسنة نبيهم, ويعدلوا عليهم ويقسموا فيئهم بينهم, ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمورهم". وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده وكان أبو بكر يساوي الناس في العطاء ولا يفضل أهل السابقة في الإسلام, ويقول إنما عملوا لله فأجورهم على الله, وإنما هذا المال عرض عارض يأكله البر والفاجر وليس ثمنا لأعمالهم, وكان عمر يقول: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه, فرضوان الله تبارك وتعالى عليك يا عمر. النظام المالي في عهد عثمان بن عفان بعد سيدنا عمر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- تولى عثمان -رضي الله عنه- الخلافة, ولما تولى عثمان الخلافة لم يغير من سياسة عمر المالية، وإن كان قد سمح للمسلمين باقتناء الثروات، وتشييد القصور، وامتلاك المساحات الشاسعة من الأراضي, فقد زالت عن المسلمين شدة عمر التي كانت ترهبهم وتخيفهم، والتي كانت تحول دون الكثير مما يشتهون, وكان عهده عهد رخاء على المسلمين، وقد أدى هذا الرخاء إلى ارتفاع الأسعار, أي: عهد سيدنا عثمان -رضي الله تبارك وتعالى عليه. وفي عهد عثمان كثرت الأموال وزادت الإيرادات, فرأى -رضي الله تبارك وتعالى- في الخراج والجزية غناء له عن أن يشغل نفسه بجمع الصدقات فعهد إلى
النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب.
أصحاب الأموال في إخراج زكاتهم بأنفسهم, ودفعها إليه دون أن يجعل لها جباة مخصوصين, أي: عمالًا مخصوصين، مخالفًا في ذلك ما سبقه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه رأى أن النقود وعروض التجارة, وهي ما يعرف بالأموال الباطنة, قد تضاعف مقدارها, وأنه في تحري وجودها في أيدي أربابها حرج لهم فترك لهم الحق في إخراجها بأنفسهم وإعطائها للفقراء مباشرة, واكتفى بجباية الأموال الأخرى التي تعرف بالأموال الظاهرة, وهي السائمة, -السائمة نقصد بها النعم من الإبل والبقر والغنم- والزروع والثمار؛ لأنه لا حرج عليهم في تعقبيها بين أيديهم. النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب وإذا تحدثنا عن النظام المالي في عهد الخليفة علي بن أبي طالب نقول: كان علي بن أبي طالب أقرب إلى عمر في سياسته المالية من شدة وتقتير على نفسه, وعلى أقرب الناس إليه, رحيما مع الرعية عطوفًا عليهم, يرعى مصالحهم ويهتم بشئونهم, فقد روي أن أخاه عقيلًا طلب إليه شيئًا من بيت المال لم ير علي أن له حقًّا فيه فمنعه من ذلك وقال له ليس لك في هذا المال غير ما أعطيتك, ولكن اصبر حتى يجيء مالي فأعطيك منه, فأغضب هذا القول عقيلًا وتركه وذهب إلى معاوية في الشام. كما كتب -رضي الله عنه- إلى أحد ولاته يقول له: وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله, فإن في إصلاحه وصلاحهم صلحًا لمن سواهم, ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله, كأن سيدنا علي بن أبي طالب بفراسته يقول لأحد ولاته ويوصيه بأمر الخراج ويقول له: إذا أردت أن ينصلح حال
المستحدثات المالية في عهد الأمويين.
الناس جميعًا فعليك أن تصلح الخراج -تصلح أرض الخراج- وتهتم بأرباب هذه الأرض, وأصحاب هذه الأرض الذين يقومون بزراعتها؛ لأنك إذا أصلحت وكان هناك اهتمام بهذه الأرض التي تأتي بالزرع, فهذا معناه أن الخراج سوف يزيد, ولن يزيد هذا الخراج ولن تنصلح هذه الأرض إلا إذا صلح أمر القائمين على زراعتها, هكذا كان يقول سيدنا علي بن أبي طالب إلى ولاته. ويقول له أيضًا: وليكن لك نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج يعني اهتم أولا بعمارة الأرض, وإصلاح الأرض, قبل أن تنظر في الخراج الذي يأتي منها, نعم؛ لأنه إذا لم تكن صالحة للزراعة فلن تأتي بخراج, وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة يعني هذا الخراج الذي تريد الحصول عليه لن تحصل عليه إلا بعمارة الأرض وبالاهتمام بهذه الأرض؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة, ومن طلب الخراج من غير عمارة أخرب البلاد. يعني الذي أو الوالي الذي يضع نظره على الخراج فقط ويريد أن يأخذ الخراج فقط دون أن ينظر إلى هذه الأرض التي تأتبنا بالخراج فإن سياسته سوف تؤدي إلى خراب الديار, لماذا؟ لأنه لن يأتي الخراج -كما قلنا- وفيرًا إلا إذا قمنا بعمارة وإصلاح الأرض التي تأتينا بهذا الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج من غير عمارة أخرب البلاد, وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلًا، وإنما يأتي خراب الأرض من إعواز أهلها, يعني هذه الأرض التي تأينا بالخراج متى تكون خرابًا؟ تكون خرابًا إذا أهملنا أصحابها، إذا أهملنا القائمين عليها؛ عندئذٍ لن يقومون بإصلاح هذه الأرض ولا بزراعة هذه الأرض كما ينبغي، وبالتالي يؤدي ذلك إلى خرابها؛ وبالتالي فليس هناك خراج. ولم يستقم أمره إلا قليلًا وإنما يأتي خراب الأرض من إعواز أهلها، يعني من حاجتهم إلى المال، وإنما يعوز أهلها لإشراف الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبرة. يعني هؤلاء الذين يتولون الخراج؛ إذ لم يهتمون بهذه الأرض وبأصحاب هذه الأرض ففي هذه الحالة لن نحصل على الخراج, وسوف يترتب على ذلك خراب هذه الأرض وبالتالي فلا خراج. وهذا الكتاب الذي كتبه علي بن أبي طالب إلى أحد ولاته ينطوي على أسس ومبادئ سامية في أساس فرض الضرائب, وتنظيمها ويدعم النظام المالي للدولة بقواعد متينة تزيد من عمرانها وحفظ أموالها, ويحول دون خرابها وإفلاسها. المستحدثات المالية في عهد الأمويين ثم نتحدث الآن عن النظام المالي للأمويين: صاحب قيام الدولة الأموية تطورًا هامًّا في النظام المالي قوامه حصول الولايات على أكبر قدر من الاستقلال في شئونها المالية، ذلك أن النظام الإداري اللامركزي للأمويين تطلب منح الأمراء في الولايات سلطانًا واسعًا، ليس في شئون الإدارة فحسب، بل وفي شئون المال أيضًا. وقد حاول الأمويون في بعض الأحيان فصل الشئون الإدارية عن الشئون المالية بغية دعم سلطانهم على الولايات, غير أن متطلبات النظام الإداري اللامركزي، وما
اقترن به من تحول بعض الولايات إلى قواعد للفتح والتوسع، اقتضى ذلك ضم شئون المال -أي الخراج- في الولاية إلى الأمير أو تفويضه تعيين عمال الخراج من قبله, وصار لكل ولاية نظامها المميز لها بحسب ما أبقاه كل أمير من نظم الولاية المحلية، إلى جانب القواعد التي سبق إقرارها وفق النظام المالي للخليفة عمر بن الخطاب, واكتسب النظام المالي للأمويين بالتالي خصائص جديدة, تمثلت في وجود موارد شرعية سبق أن نظمتها الشريعة والسوابق الإسلامية، وأيضًا وجود موارد استثنائية جاءت وليدة إحياء العرف المحلي للولايات, وتجلت هذه الظاهرة الجديدة للتنظيم المالي الأموي في كل من ولاية العراق والشام ومصر. وإذا نظرنا إلى العراق مثلًا كنموذج لهذا التنظيم الجديد للأمويين، الذين أحدثوا بعد الموارد الجديدة التي لم تكن موجودة أيام الخلفاء الراشدين, فقد حافظ الأمويون على التنظيم المالي الذي سبق أن أقره الخليفة عمر بن الخطاب من حيث الجزية والخراج, ولكن بدأ الخليفة معاوية بن أبي سفيان يعمل على زيادة موارد الدولة من هذه الولاية، عن طريق إحياء بعض التقاليد المحلية التي اعتاد الناس القيام بها زمن الساسانيين, ونقصد بالساسانيين هؤلاء الحكام الذين كانوا يحكمون هذه البلاد قبل أن يدخلها الإسلام. أقول: أراد معاوية أن يأتي بموارد جديدة غير الموارد التي كان متعارفًا عليها أيام عمر بن الخطاب, وهي الجزية والخراج، تتمثل هذه الموارد الجديدة في الحصول على المال عن طريق إحياء بعض التقاليد المحلية التي اعتاد الناس القيام بها زمن الساسانيين، فطالب أهل السواد أن يهدوا له في عيد النيروز والمهرجان، يعني يعطوه هدايا، فبلغ عشرة آلاف ألف درهم، وكان النيروز من أعياد الفرس الجليلة ويقع عند دخول فصل الصيف, ويعتبر إيذانًا عندهم بافتتاح الخراج, وتولية العمال وضرب الدراهم, أما المهرجان فكان يقع عند
تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين.
دخول الشتاء وفصل البرد؛ حيث جرت العادة بتقديم الفرس الهدايا لملوكهم, وغدا إحياء هذا التقليد المالي القديم يمثل موردًا جديدًا من موارد ولاية العراق زمن الأمويين إلى جانب الجزية والخراج. معنى ذلك أن هناك نوع جديد من الموارد المالية أضيف إلى موارد الإسلامية فأضافوا إلى الجزية والخراج موردًا آخر هذا المورد الآخر هو ما يسمى بهدايا النيروز والمهرجان -عيدان عند الفرس- وكانت عادة هؤلاء القوم أنهم في هذه الأعياد يقومون بإعطاء الملوك هدايا, هذه الهدايا كانت تبلغ مبلغًا كبيرًا؛ لذلك أحيا هذه العادة الأمويون الهدايا التي كانوا يعطونها قبل ذلك لملوكهم -أي قبل أن يدخل الإسلام عندهم. هذا نوع جديد وهذا نوع من التنظيم جديد لموارد بيت المال, لم يكن موجودًا أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أيام أبي بكر، ولا أيام عمر، ولا أيام عثمان، بل ابتدع ذلك الأمويون, وعمد معاوية أيضًا إلى زيادة موارد العراق عن طريق استصلاح الأراضي في منطقة تسمى البطائح، وهي الأرض الواطئة الممتدة بين البصرة والكوفة المغمورة بالمياه, واستطاع عن طريق عمال الخراج في ولاية العراق استصلاح ضياع واسعة, بلغت غلتها خمسة آلاف درهم, بحساب هذه الأيام, وصار هذا العمل الذي قام به معاوية تقليدًا هامًّا اتبعه سائر من جاء بعده من الخلفاء، حتى صارت موارد العراق تستمد قدرًا كبيرًا من تلك الأراضي الجديدة. هذا هو المورد الثاني من الموارد التي أنشأها الأمويون زمن حكمهم, قلنا: المورد الأول هو الهدايا التي كانت تعطى لهم من سكان هذه البلاد أيام أعيادهم وهو النيروز والمهرجان. المورد الثاني الذي أنشأه الأمويون هو استصلاح الأراضي, فكانت هناك أراضٍ شاسعة ليس بها زرع, فقاموا باستصلاح هذه الأراضي، وعندما استصلحت هذه الأراضي وضعوا عليها الضريبة ... وغير ذلك؛ ولذلك أصبحت هذه الأراضي تأتي بأموال طائلة؛ ولذلك استصلاح الأراضي أصبح سنةً متبعةً منذ عهد الأمويين وأصبح يحرص عليه من يأتي بعدهم في الحكم. فهذه الأراضي التي استصلحت إنما كانت تأتي بمورد ثابت من الموارد المالية للدولة الإسلامية في عهد الأمويين. وأيضًا اهتم ولاة الأمويين في العراق بتنظيم أداتهم المالية لتحقيق أكبر قدر من الموارد، فاستخدم عبيد الله بن زياد الدهاقين -وهم رؤساء القرى- لخبرتهم بالشئون المالية عن العمال العرب, أيضًا هذا نوع من الأنواع التي لجأ إليها الأمويون من أجل زيادة الأموال التي تجيء إليهم فجعل هناك أيضًا كنوع من الموارد الجديدة أنهم غيروا العمال المسلمين بعمال آخرين يسمون الدهاقين -وهم رؤساء القرى- وذلك من أجل خبرتهم بالشئون المالية من العمال العرب, وهؤلاء إنما يراعون حاجة الدولة من الأموال، وقد لا يراعون حاجة المسلمين؛ ولذلك استخدموهم بدل المسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 4 - النظام المالي في عهد الأمويين وعمر بن عبد العزيز تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن النظام المالي في عهد الأمويين، وتبين لنا أنهم لم يقتصروا على الموارد المالية التي كانت موجودة أيام عمر بن الخطاب من: زكاة، وجزية، وخراج، بل زادوا موارد مالية أخرى، ذكرنا منها: الهدايا التي فرضوها على أهل الولايات، والتي كانوا يدفعونها قديمًا في أعيادهم لملوكهم قبل فتح الإسلام لبلادهم، ومن هذه الموارد الجديدة أيضًا: استصلاح الأراضي المعطلة عن الزراعة. ونواصل الحديث في هذه المحاضرة الجديدة عن هذه الموارد الجديدة، فنقول: واهتم ولاة الأمويين في العراق أيضًا بتنظيم أداتهم المالية؛ لتحقيق أكبر قدر من الموارد، فاستخدم عبيد الله بن زياد الدهاقين -ويقصد بهم رؤساء القرى- لخبرتهم
بالشئون المالية عن العمال العرب، وبرّر سياسته قائلًا: "إذا استعملت العربي كسر الخراج -يعني: قل الخراج- فإن أغرمت عشيرته، أو طالبته، أوغرت صدورهم، وإن تركته تركت مال الله، وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون بالمطالبة منه". فهذا نوع أنشأه الأمويون بقصد زيادة الحصيلة من الجزية والخراج؛ إذ استعملوا غير المسلمين، وهم رؤساء القرى لهذه البلاد في الجباية بدل العمال العرب والمسلمين، وبرر ذلك -كما بينا- عبيد الله بن زياد فيقول بأنه عندما يتولى العربي جباية الخراج والجزية فإنه يقل الخراج، ولا نستطيع أن نحاسبه على ذلك، لكن إن أسندنا هذه الوظيفة إلى غير المسلمين مثل: الدهاقين -وهم رؤساء القرى- فهم أقدر على تحصيل الجزية، وعلى تحصيل الخراج؛ لأنهم أعرف بذلك من العرب؛ ولذلك فضلوا هؤلاء على العرب. وحدث على عهد الخليفة عبد الملك بن مروان تعديل في نظام الضرائب في شمال العراق بأرض الجزيرة؛ ضمانًا لزيادة الموارد؛ إذ بعث الضحاك بن عبد الرحمن الأشعري إلى أهل الجزيرة، وقام بإحصاء عددهم، ثم حسب ما يكسبه العامل في سنته كلها، ثم طرح نفقته في طعامه وكسوته، فوجد أن الذي يحصل بعد ذلك في السنة كلها لكل واحد أربعة دنانير، فألزمهم ذلك جميعًا، وجعلهم طبقة واحدة، هذا نوع أيضًا من أنواع الموارد المالية الجديدة التي أنشأها وابتدعها الأمويون في زمن خلافتهم، وهذا يكمن في الإحصاء للناس، ثم فرض ضرائب عليهم وهي ما تعرف: بـ ضريبة الرءوس. ولجأ الأمويون إلى سياسة إحصاء السكان في العرق كلما تطلب الأمر تعديلًا في الموارد، وكان آخر الأعمال الأموية في تلك السبيل، ما قام به عمر بن هبيرة في خلافة يزيد الثاني سنة مائة وخمسة هجريًّا، إذ قام بمسح السواد -أي: سواد العراق- وحدد الجهات التي تؤخذ منها الضرائب، وهو المسح الذي صار قاعدة
النظام المالي في تلك الولاية، حتى بعد انتهاء العصر الأموي، وقيام العباسيين في الخلافة. ففي الشام اتبع الأمويون نفس القواعد العامة التي صاروا عليها في العراق، من حيث إجراء تعداد للسكان، كلما اقتضى الأمر تعديلًا في الموارد المالية، وظلت في نفس الوقت القواعد الأساسية للنظام المالي للخليفة عمر بن الخطاب سارية في بلاد الشام؛ حيث كانت المدن تدفع ما عليها من جزية وخراج جملة واحدة، ولكن تميزت الشام بوجود بيت المال المركزي، الذي كانت تأتي إليه الموارد الفائضة عن بيوت المال في الولايات، وكان المورد الرئيسي للخلفاء الأمويين في دمشق يأتيهم من الزيادات التي قرروها على بعض الولايات، أو من قادة الفتوح، وكذلك من الصوافي، وهي: الأراضي التي كانت ملكًا في الأصل لأكاسرة الفرس، وقياصرة الروم، أو كانت لرجل قتل في الحرب، أو رجل لحق بأهل الحرب -أي: بالعدو- فهذه الأراضي تسمى: الصوافي. وإنما كانت تسمى بالصوافي؛ لأن الخليفة استصفاها -أي: جعلها خالصة- لبيت المال، وأحيانًا كان يطلق عليها اسم: القطائع؛ لأن الخليفة كان يوزع بعضها إقطاعات على من يشاء من المقربين له، هذا أيضًا نوع جديد من أنواع الموارد المالية التي أنشأها وابتدعها الأمويون. واستطاع الخلفاء الأمويون بذلك أن ينهضوا بأعباء البلاط في دمشق، إذ كثرت عليهم الوفود، وما تطلبته من منح عالية، وكذلك لاسترضاء القبائل العديدة، وشراء ولائها بالمال، وترك الأمويون وراءهم كنوزًا فنية ومعمارية تشهد لهم بالثراء العريض، وحسن التنظيم المالي.
القواعد الجديدة في النظام المالي ومؤسساته: ونتحدث الآن عن القواعد الجديدة في النظام المالي، ومؤسساته، فنبدأ بتعريب ديوان الخراج: ونقول: اقتضى اتساع موارد الدولة، وتعدد أوجه إنفاقها ضبطًا للمؤسسات المالية، ووضع قواعد جديدة للإشراف على نشاطها، وسير العمل بها، وكان معاوية بن أبي سفيان أول من أحس تلك الحاجة، نتيجة الاستقلال المالي للولايات، إذ أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم، وسلمه كتابًا بذلك؛ ليأخذ المبلغ من والي العراق زياد بن أبي، وفتح عمرو بن الزبير الكتاب في الطريق، وجعل المائة مائتين، وعند مراجعة الخليفة لميزانية العراق ساورته الشكوك، وأنكر هذا التلاعب، وعلى الرغم من استرداد السلطات المالية لهذا المبلغ، إلا أن معاوية رأى أنه لا بد من ضبط جديد للمؤسسات المالية، وأنشأ لهذا الغرض: ديوان الخاتم. فإذن ديوان الخاتم، ونقصد بالخاتم: الختم الذي تختم به المكاتبات التي تخرج من عند الخليفة. فهذه الحادثة التي وقعت لمعاوية بن أبي سفيان مع عمرو بن الزبير الذي غش، والذي لعب في هذه الأوراق التي كانت بيده، وجعل المائة مائتين، وهذا التزوير الذي حدث جعل معاوية يفكر في هذا الأمر؛ ولذلك رأى أنه لا بد من ضبط جديد للمؤسسات المالية؛ خوفًا من هذا التزوير الذي حدث، فإذا كان هناك تزوير على الخليفة فمن باب أولى سوف يكون هناك تزوير على باقي المسئولين في الدولة، ولذلك أنشأ لهذا الغرض ديوانًا يسمى: ديوان الخاتم. وصار هذا الديوان الجديد من أهم معالم القواعد المالية الجديدة زمن الأمويين، فكانت له نظم دقيقة، وعمال يقظون، فإذا صدر توقيع من الخليفة بأمر من الأمور أُحضر التوقيع إلى ذلك الديوان، وأُثبتت نسخته فيه، وحُزم بخيط، وختم بشمع، وختم بخاتم صاحب الديوان.
وتولى رئاسة هذا الديوان على عهد معاوية أحد القضاة العدول، وهو عبد الله بن محصن الحميري، رغبة في توفير الأمانة للمسائل المالية، واتضح على عهد الخليفة عبد الملك بن مروان وابنه الوليد أن ديوان الخاتم وحده لم يعد كافيًا، وأن التنظيم المالي للدولة بات يتطلب تعريب ديوان الخراج في كل ولاية، باعتباره المؤسسة المالية الرئيسية المشرفة على الموارد، وكافة الشئون المتعلقة بها. فكانت لغة دواوين الخراج في الولايات هي نفس اللغة التي اتبعتها قبل الفتح الإسلامي؛ إذ كانت لغة ديوان الخراج في العراق هي الفارسية، وفي الشام هي اليونانية، وفي مصر كانت اليونانية والقبطية، ولم يعد هذا الوضع يتفق مع اتساع سلطان الولاة العرب، وتعدد موارد الدولة، وصار الدافع على تعريب دواوين الخراج تمكين الولاة العرب من الإشراف إشرافًا تامًّا على شئون ولاياتهم المالية؛ إذ كان تدوين السجلات باللغات الأجنبية حافزًا شجع صغار العمال على التزوير، والتلاعب في السجلات، دون أن يُكتشف أمرهم. وكان سليمان بن سعد الخُشني -كاتب الخليفة عبد الملك بن مروان على الرسائل- هو الذي تولى تعريب ديوان خراج الشام وذلك سنة 81 هجريًّة، وجاءت هذه الخطوة عملًا هامًّا في التنظيم المالي للدولة الإسلامية، حيث كان المشرف على هذا الديوان وأسراره منذ عهد معاوية هو منصور بن سرجون الرومي، ومنح الخليفة سليمان بن سعد مقابل هذا العمل الجليل خراج الأردن مكافئة له، وقدره مائة وثمانون ألف دينار. وكان أبلغ تقدير لنجاح تعريب ديوان الخراج قول منصور بن سرجون لكتاب الدواوين القدامى من أصحاب اللغة اليونانية: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة، وهذا دليل على أنهم لم يكونوا أمناء في هذا الشأن؛ إذ أنه عندما اتجه
العرب في زمن الأمويين على تعريب الدواوين، وجعلها باللغة العربية، فإن هؤلاء الأعاجم -غير المسلمين الذين كانوا يقومون بالعمل في هذه الدواوين- وجدوا الخطورة عليهم من ذلك، واتضح أمرهم، واتضح أنهم كانوا مزورين، ويأكلون أموال الدولة بالباطل، ولذلك قال واحد منهم -وهو منصور بن سرجون لكتاب الديوان القدامى من أصحاب اللغة اليونانية-: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة، يعني: لم يعد لكم مكان في هذا الأمر، لم تعودوا تستطيعون الحصول على الأموال عن طريق التزوير، وغير ذلك، بعدما عربت هذه الدواوين، وتمكن الولاة العرب من الإشراف إشرافًا تامًّا على شئون ولاياتهم المالية. وكان يشرف على ديوان الخراج بالعراق في ذلك الوقت رجل يسمى "زادان فروخ" من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي، وتصادف أن قتل هذا العامل أثناء فتنة عبد الرحمن بن الأشعث بين سنتي 82 و 83 هجريًّة، وهو الأمر الذي سهل على الحجاج تحقيق سياسة الدولة المالية الجديدة، الساعية إلى تعريب الدواوين، إذ كلف الحجاج رجلًا يسمى صالح بن عبد الرحمن ممن كان يجيد اللغة الفارسية والعربية بتعريب ديوان خراج العراق، وقد حاول "مردان شاه" ابن "زادان فروخ" الذي قتل أن يدفع رِشوة لصالح بن عبد الرحمن حتى يثنيه، ويمنعه عن عمله من تعريب الدواوين، وأبى هذا العامل العربي، وأتم عمله بنجاح باهر، وتخرج على يديه نفر من كبار موظفي المالية العرب في العراق. هذه الواقعة تدلنا على أن هؤلاء العمال غير المسلمين كانوا متمسكين بهذه المهمة، وهذا العمل، وهو العمل بالدواوين باللغة التي يعرفونها هم، ولم يعرفها المسلمون، ولم يكونوا يريدون تعريب الدواوين؛ لأنه بتعريب الدواوين سوف يفهم العرب الأعمال بدقة، وفي ذلك خطورة عليهم؛ ولذلك وجدنا هذا الرجل الذي يسمى "مردان شاه" يحاول أن يقدم رشوة لصالح بن عبد الرحمن من أجل ألا يقوم بتعريب الدواوين، ويستمر هو مكان أبيه في هذا العمل الذي كان يُدر عليه أموالًا طائلةً عن طريق التزوير.
وتم تعريب ديوان خراج مصر على عهد الوليد بن عبد الملك، وذلك تحت إشراف أخيه والي مصر عبد الله بن عبد الملك سنة 78 هجرية 707 ميلاديًّة، إذ عزل صاحب هذا الديوان وهو "أتناش" وعين مكانه أحد رجال العرب واسمه بن يربوع الفرزي، وتبع ذلك تعريب باقي الدواوين في بلاد المغرب على يد موسى بن نصير، وكان آخرها ديوان خراج خراسان الذي تولى تعريبه سنة 124 هجريًّة إسحاق بن طليق، بتكليف من الوالي نصر بن سيار. وصارت جميع دواوين الخراج في الدولة الإسلامية تستخدم لغة واحدة هي اللغة العربية، وهي خطوة هامة مهدت السبيل لنشر العروبة بين سائر أرجاء تلك الدولة، إذ اضطر الناس إلى تعلم اللغة العربية من أجل تسهيل التعامل مع رجال إدارتها الجدد من العرب، وضمانًا للحصول على حقوقهم، وصيانة مستحقاتهم أيضًا، وكانت هذه الظاهرة الخاصة بتعريب دواوين الخراج هي التي جعلت الذهن ينصرف عن أهميتها في النواحي المالية، إلى تتبع آثارها في ميدان الحضارة العربية الإسلامية. وتنهض هذه الظاهرة دليلًا رائعًا في نفس الوقت على أن النظام المالي ليس نظامًا جافًّا، على نحو ما حاولت الدراسات النظرية الحديثة بتر معالمه، وإنما هو عضو فعال في بناء الدولة العربية الإسلامية، يتداعى مع سائر الأعضاء الأخرى للنظم الإسلامية، من أجل السهر على سلامة المجتمع الإسلامي وحمايته. العملة العربية الجديدة: واقترن بتعريب دواوين الخراج سك عملة جديدة من أجل دعم النظام المالي للدولة، وضبط المعاملات المالية بين الولايات، وتحقيق العدالة في
جباية الضرائب من أهلها، إذ كان بعض تلك الولايات مثل الشام ومصر تتعامل بالدينار من الذهب، وهو الوحدة الأساسية للنقد الذي ساد كل منهما منذ أيام تبعيتهما لدولة الروم قبل الإسلام؛ وتعاملت العراق وفارس بالدرهم من الفضة، الذي ساد نشاطهما الاقتصادي منذ أيام الساسانيين قبل الإسلام، وعرف العرب هذين النوعين من العملات منذ العصر الجاهلي، حيث كانت تَرد عليهم الدنانير من الروم، والدراهم من بلاد فارس، وكان سعر التبادل عندهم هو كل عشرة دراهم تساوي سبعة دنانير، فأقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وأقره أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فكان معاوية فأقر ذلك على حاله. وسرعان ما تبين صعوبة الاستمرار بهذا الازدواج النقدي، نظرًا لاتساع رقعة الدولة من ناحية، وللفساد الذي دب إلى بعض هذه العملات من ناحية أخرى، إذ دأب الناس على أداء الخراج بالعملات ذات القيمة المنخفضة، والاحتفاظ بالعملات العالية القيمة، مما أضر بالخراج، وأساء إلى العدالة في جبايته، وواجهت هذه الأوضاع السيئة الخليفة عبد الملك بن مروان عند مطالبة الناس بالكسور وهي: بقايا الأموال المتخلفة، ومبادرة دافعي الضرائب إلى تسديد تلك الكسور بالعملات المنخفضة القيمة. وشرح الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) هذه الظاهرة قائلًا: ثم فسد الناس، فصار أرباب الخراج يؤدون الطبرية -وهو: نوع من العملة- التي هي أربعة دوانق، وتمسكوا بالوافي الذي وزنه وزن المثقال، فلما ولي زياد العراق طالب بأداء الوافي، وألزمهم الكسور، وجارى فيه عمال بني أمية، إلى أن ولي عبد الملك بن مروان فنظر بين الوزنين، وقدر وزن الدراهم على نصف وخُمس المثقال، وترك المثقال على حاله، هذا هو كلام الماوردي.
وزاد في اضطراب العملة الفارسية المستخدمة في الولايات الشرقية بالعراق، وفارس، وخراسان، سوء وزن الفضة فيها، وكثرة المغشوش منها، وأشار إلى ذلك الماوردي في قوله: وقد كان الفرس عند فساد أمورهم فسدت نقودهم، فجاء الإسلام ونقودهم من العين والورِق -أي: الفضة غير خالصة- إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة، وأدت هذه الظاهرة بدورها إلى سوء جباية الخراج، وقلة مقاديره الحقيقية، لما ورد على ديوان الخراج من عملات زائفة، أو غير جيدة الضرب، وصار الموقف يتطلب سرعة إصدار نقد جديد يقضي على تلك المفاسد، ويزيل آثارها السيئة. وكانت ولايات الدولة -وبخاصة في مصر والشام- تعاني متاعب من نوع آخر، نتيجة احتكار الروم -البيزنطيين- للدينار، وتحكمها في سعره، وسرعان ما انفجرت أزمة بين الدولة الأموية وإمبراطورية الروم، عجلت بالسلطات الأموية نحو وضع نقد جديد لولاياتهم، وذلك على عهد الخليفة عبد الملك بن مروان نفسه، ذلك أن مصر كانت تصدر القراطيس -وهي: ورق الكتابة إذ ذاك- لامبراطورية الروم، منذ تبعيتها لها قبل الفتح الإسلامي، وجرت عادت أقباط مصر على كتابة اسم السيد المسيح، وعبارة التثليث في رءوس الطوامير -وهي قطع الورق الكبيرة. ولكن الخليفة عبد الملك رأى أن هذه الصيغة لا تتفق ومظهر الدولة الإسلامية الجديدة؛ فأمر أن يُستبدل بهذه الصيغة عبارة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} (الصمد: 1) ووصلت هذه القراطيس الجديدة إلى امبراطورية الروم، وأحدثت ضجة كبرى في البلاط، إذ غضِب الإمبراطور "جستنيان الثاني" واستكبر قيام الدولة الإسلامية بممارسة حق من حقوقها في السيادة، وكتب إلى الخليفة عبد الملك:
إنكم أحدثتم في قراطيسكم كتابًا نكرهه -ويقصد بذلك الكلمة التي كتبت على هذه العملة وهي كلمة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} - فإن تركتموه، وإلا أتاكم في الدنانير من ذِكر نبيكم ما تكرهونه" كأن "جُستنيان الإمبراطور" يهدد عبد الملك بن مروان، ويقول له: إما أن تزيلوا ما كتبتموه على هذه العملة، وهو عبارة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وإلا كتبنا لكم عليها أشياء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تكرهونها. وأغضب هذا الخطاب الخليفة عبد الملك بن مروان كثيرًا، وخشي اضطراب أحوال العملة بسبب تهديد إمبراطور الروم، وما قد يحدثه ذلك من أثر سيء في نفوس عامة المسلمين؛ لأن دنانير الروم كانت العملة الرسمية للتجارة في الأسواق الإسلامية الداخلية، ومع الدول الخارجية أيضًا، وظهر أثناء هذه الأزمة قوة البيت الأموي، وما ساد تفكيرهم إذ ذاك من رغبة في التخلص من هذه التبعية النقدية، وإصدار عملة جديدة خاصة بالدولة الإسلامية، إذ أشار خالد بن يزيد على الخليفة عبد الملك بالتمسك بالقراطيس الجديدة -أي: القراطيس التي كتبت عليها صيغة: لا إله إلا الله- دون أن يخشى تهديد البيزنطيين. فقال: يا أمير المؤمنين، حرِّم دنانيرهم، فلا يتعامل بها، واضرب للناس سِككًا -يعني: سك عملة جديدة- ولا تعفي هؤلاء الكفرة مما كرهوه في الطوامير يعني: لا تزيل هذه الكلمة التي أغاظتهم، وهي كلمة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. وصادف هذا الاقتراح هوًى في نفس الخليفة، ورأى أنه يصلح خطوة أساسية لدعم النظام المالي للدولة، وخلق وحدة اقتصادية عن طريق عملة خاصة بها، وأقبل عبد الملك على سك دنانير إسلامية جديدة، عليها آيات من القرآن
موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين.
الكريم، وعرفت باسم: الدنانير الدمشقية، كما أصدر أوامره للحجاج بن يوسف الثقفي في العراق بضرب دراهم إسلامية بدلًا من الدراهم الفارسية؛ وقد حدد الخليفة عيارًا ثابتًا لهذين النوعين من النقود، وذلك وفق الشرع. ولقيت هذه العملة الإسلامية الجديدة احترام الناس في كل مكان؛ لسلامة أوزانها، وأقبلوا سريعًا على التعامل بها، دون أن يحدث خلل في النظام المالي للدولة الإسلامية، ودعم هذا التعامل النقدي الجديد أن الخليفة أصدر أوامره باعتبار دور الضرب التابعة للدولة هي الجهة المعتمدة لسك النقود؛ وتحريم أي نقد يضرب خارجها، وسَحَبَ النقود القديمة المتداولة من الأسواق. واستفاد النظام المالي للدولة الأموية من هذا الاستقرار النقدي، حيث كفلت النقود الجديدة العدالة لكل من الرعية، والخراج الخاص بالدولة، وأجمع المؤرخون على أن الوزن الذي صُكت عليه تلك النقود كان هو الوزن الشرعي الذي ساد عهد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من العملات السليمة إذ ذاك، وهي: الدرهم الفارسي، ودينار الروم. وروى ابن خلدون في وصف المعاصرين لهذه الجملة الجديدة قائلًا: وقد طلعت عملة عبد الملك مطابقة لهذه الأوزان، واستقر الإجماع أيضًا على أنها هي النقود الشرعية، وأطبق الكل على العمل بها، ووافق الفقهاء عليها، وعلى أنها هي التي تؤخذ بها الزكاة، وتؤدَّى بها كل الحقوق التي أوجبها الشرع، أو ندبها، وصار العمل بهذه الأوزان في العصور الإسلامية. موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين ولا يفوتنا في هذا المقام أن نتكلم عن التنظيمات المالية للخليفة عمر بن عبد العزيز. فنقول:
صاحب النظام المالي للأمويين وقوع عدد من المفارقات الشاذة، جاء بعضها نتيجة مشاكل التطبيق عند عمال الخراج في الولايات، وجاء بعضها الآخر نتيجة مشاكل التطور الذي شهدته الدولة الإسلامية واتساعها، وتمثلت مفارقات النوع الأول في شطط عمال الخراج في جباة الضرائب، ومعنى شططهم في جباية الضرائب: أنهم كانوا يأخذون أكثر من المقرر، ذلك فيه ظلم شديد للممولين، أو دافعي هذه الضرائب. على حين حدثت مفارقات النوع الثاني بسبب سياسة الأمويين في إغداق الامتيازات المالية على أنصارهم، وآل بيتهم، ثم بسبب تخبط السلطات الأموية في مواجهة التطور الذي اقترن بدخول أهالي الولايات أفواجًا في الدين الإسلامي؛ وبلغت هذه المفارقات الشاذة أوجها عندما تربع الخليفة عمر بن العزيز على عرش الخلافة، وغدت إذ ذاك خطرًا يهدد الكيان المالي للدولة بالتقويض، والانهيار، وبادر الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى وضع تنظيمات مالية تعالج تلك المفارقات؛ لأنه كان على علم سابق بهذه الأمور وبأسبابها قبل توليه الخلافة، إذ عرف سوء أعمال نفر من ولاة الأمويين، وقال عنهم: الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرة بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة، اللهم قد امتلأت الدنيا ظلمًا وجورًا، فأرح الناس. وحاول -رضي الله عنه- قبل خلافته إسداء النصح إلى بعض أولئك الولاة، وعمال الخراج، ومنهم أسامة بن زيد صاحب خراج مصر، ولم يقبل عمر العذر الذي تعلل به الوالي وهو تنفيذ سياسة الخليفة سليمان، وقال له: إنه لا يغني عنك من الله شيئًا، وقال عمر بن عبد العزيز أيضًا عن يزيد بن المهلب وآل بيته: هؤلاء جبابرة، ولا أحب مثلهم.
واستهل عمر بن عبد العزيز خلافته بعزل أسامة بن زيد عن مصر، ويزيد بن المهلب عن خراسان، وعين بدلهم عمالًا أكثر عدلًا ورفقًا، ثم عمد إلى إزالة المفارقات الشاذة التي سبق أن وقعت في كل ولاية، وكانت مصر قد شهدت ضرائب إضافية مجحفة على الرهبان، الذين سبق أن أعفتهم السلطات من دفع أية ضرائب، وكانت بلاد اليمن تدفع ضرائب لم يسبق لها بها عهد؛ أما العراق فقد بلغت فيها المفارقات الشاذة عددًا كبيرًا تمثل في ما يلي: 1 - فرض ضرائب موحدة على الأراضي المزروعة وغير المزروعة على حد سواء. 2 - تحصيل ضرائب إضافية بعضها كان إحياء لرسوم تقليدية ساسانية اشتهرت باسم "الآبين" والأخرى اشتملت على أجور تدفع للعمال المشتغلين في دور ضرب النقود. 3 - تحصيل ثمن الورق المستخدم في الطلبات الرسمية من الناس. 4 - فرض ضرائب على البغايا. 5 - فرض ضرائب على بعض البيوت. 6 - اشتراط العمال تحصيل الضرائب بعملات ذات وزن معين، بدلًا من العملات المتوفرة لدى الأهالي، والاستيلاء على فروق النقد لأنفسهم. وأخيرًا: زيادة الضرائب النوعية على نجرانية الكوفة؛ لاتهامهم بممالئة بعض الثائرين على الدولة. وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على الكوفة يأمره بإبطال تلك الإجراءات الشاذة قائلًا: أما بعد، فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة استنها عليهم عمال سوء، وإن قوام الدين العدل
والإحسان، ثم قال له: لا تحملوا خرابًا على عامر، ولا عامرًا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما طاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض؛ ولا تأخذ في الخراج: ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض. وقرر الخليفة انقاص المقدار المفروض على نجرانية الكوفة من ألف وثلاثمائة حُلة على عهد الحجاج إلى مائتي حلة فقط، والحلة هي: نوع من الثياب، وهو يبلغ عشر ما كانوا يدفعونه قبلًا -يعني: قبل أن يتولى الخلافة. وأمر في نفس الوقت بألا يؤخذ من أهل اليمن إلا المقدار الشرعي للخراج، وهو العشر أو النصف، قائلًا: والله لئلا تأتيني من اليمن غير حفنة كتم -وهو نوع من الحِناء- أحب إلي من إقرار هذه الوظيفة، وأسقط -أخيرًا- الضرائب المفروضة على رهبان مصر. وواجه الخليفة عمر بن عبد العزيز أيضًا المفارقات الشاذة التي اقترنت بمشاكل التطور في الدولة الإسلامية؛ مواجهة كشفت عن إيمانه الصادق بالعدالة الإسلامية، وخبرته الواسعة بشئون الفقه الإسلامي، وكانت أولى المسائل التي عمد إلى حلها هي مشكلة الصوافي، التي نال أبناء البيت الأموي نصيب الأسد منها، دون مراعاة للنظام المالي الخاص بتلك الأراضي العامة للدولة، فقد كان هؤلاء الأمويون يأخذون ريع هذه الصوافي، لكنه كان يرى أنها تخضع للنظام العام للدولة الإسلامية، وينبغي أن تنفق في مصالح المسلمين. فأطلق على تلك الأراضي المنتصبة لدى الأمويين اسم: المظالم، اعتبرها مظالم، ومعنى ذلك أن المظالم لا بد وأن ترد إلى أصحابها، وبدأ بما عنده، وبما عند آل بيته
وردها إلى الدولة، بدأ يطبق ذلك على نفسه أولًا، فهذه الأشياء أو الأموال التي كانت تأتي من هذه الأرض التي يطلق عليها الصوافي، كانت توزع على بني أمية؛ ولذلك اعتبر أن ذلك نوع من المظالم، والمظالم ينبغي أن ترد إلى أصحابها. وغضب بنو أمية من تلك السياسة، وما ترتب عليها من قلة دخولهم، وبعثوا إليه عمته فاطمة بنت مروان؛ لتثنيه عن ذلك، يعني: تثنيه وتمنعه من رد هذه المظالم، فقال لها: "إن الله تعالى بعث محمدًا رحمة، لم يبعثه عذابًا، إن الله تعالى بعث محمدًا رحمة إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده، فترك لهم نهرًا، شُربهم فيه سواء، ثم ولي أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل على عمل صاحبه، فلما ولي عثمان اشتق من ذلك النهر نهرًا، ثم ولي معاوية فشق منه الأنهار، ثم لم يزل ذلك النهر يشق منه يزيد، ومروان، وعبد الملك، وسليمان، حتى أُفضي الأمر إلي، وقد يبس النهر الأعظم، ولن يُروى أصحاب النهر حتى يعود إليه من نهره الأعظم إلى ما كان عليه". ولعله يريد بذلك النهر: هذه الأموال، الموارد الإسلامية التي كانت تأتي عن طريق الزكاة، الجزية، العشور، الخراج، هذا هو نهر، كان الكل يستفيد منه، وكان نهرًا واحدًا، لكن بعد ذلك أصبح له روافد، ولذلك هو لم يرض بذلك. ولن يروى أصحاب النهر يعني: يقصد المسلمين جميعًا، ويأخذون حقوقهم من هذا النهر، ومعنى ذلك أن هذا النهر يقصد به -كما قلنا- الأموال التي تمتلكها الدولة الإسلامية؛ ولن يروى أصحاب النهر حتى يعود إليه من نهره الأعظم إلى ما كان عليه يعني: إلى ما كان عليه أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأيام أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. ولم يخش في رد تلك المظالم قول قائل، أو رد فعل من جانب أهله، قائلًا: كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وََقَيتُه، يعني: كان لا يخاف من رد الفعل من
الأمويين، الذين أراد أن يأخذ منهم هذه الأموال التي أخذوها بدون وجه حق، ويردها إلى أصحابها، لم يخف منهم في يوم من الأيام، قال: اليوم الذي أخاف منه فعلًا إنما هو يوم القيامة؛ أما إذا خفت من يوم آخر غير يوم القيامة فأنا لا حق لي في ذلك. واستطاع أن يحفظ للدولة بذلك موردًا هامًّا سبق أن ضاع منها؛ لأن الصوافي -كانت طبقًا للنظام المالي- تدفع الخراج. أما في يد بني أمية فكانت لا تدفع إلا العشر فقط، يعني: أرض الصوافي هذه الأصل فيها أنه يًفرض عليها الخراج، لكن في أيام بني أمية لم يفرضوا عليها الخراج، وإنما لم يدفعوا عليها إلا العشر فقط. هذا ما حاول سيدنا عمر بن عبد العزيز أن يتفاداه، ونجح في ذلك. وأظهر الخليفة أيضًا إزاء مشاكل التطور المالي قدرة هائلة في حلها، ساعدته عليها سعة علمه بشئون الدين، وحرصه على احترام المبادئ الإسلامية، وكان أخطر تلك المشاكل كثرة دخول أهل الذمة في الولايات في الدين الإسلامي، مما ترتب عليه طبقًا للتشريع الإسلامي إسقاط الجزية عنهم، ونقص هائل بالتالي في موارد الدولة، هذه بعض المشكلات التي قد يراها البعض مشكلة، فموارد الدولة كانت تأتي من الخراج، وكانت تأتي من الجزية، لكن الجزية إنما كانت توضع على غير المسلمين، فإذا أسلم غير المسلم فتسقط عنه الجزية حينئذٍ، ومعنى إسقاط الجزية عنه أن هذا المورد الذي كان يأتي منه المال للدولة الإسلامية -وهو الجزية- قد يقل كثيرًا عما كان عليه. أقول هذه مشكلة من المشاكل التي قابلت الخليفة عمر بن العزيز، واستطاع عمر بن عبد العزيز أن يحل هذه المفارقة حلًّا يحفظ للنظام المالي مقوماته؛ وللمبادئ الإسلامية قدسيتها في نفس الوقت. والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة.
الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة.
المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (العمومية المعنوية والمادية للزكاة) 1 - الشخص الطبيعي في الزكاة المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد كنا نتحدث في المحاضرة السابقة عن النظام المالي في عهد الأمويين، ونريد أن ننتقل الآن إلى الحديث عن الموارد المالية للدولة الإسلامية من زكاة، وجزية، وخراج ... إلى آخره، إلا أنه مما تجب ملاحظته أن حديثنا عن هذه الموارد هو حديث من وجهة نظر علم السياسة الشرعية، وليس من وجهة النظر الفقهية البحتة. وبيان ذلك أن الإسلام يطالب الدولة الإسلامية بتحقيق المساواة بين رعايا تلك الدولة، وتحقيق العدل بينهم، ومما لا شك فيه أن المساواة والعدل إنما هما من المبادئ العامة التي تُرك بيان تطبيقهما، وكيفية هذا التطبيق إلى السياسة الشرعية التي تراعي دائمًا ظروف الزمان، وظروف المكان. وعلى هذا سنتحدث عن هذه الموارد فيما يتعلق بتحقيق المساواة والعدل بين رعايا الدولة الإسلامية؛ وهذا يتطلب أن نتحدث عن العمومية في الزكاة وغيرها من باقي الموارد المالية، ثم نتحدث عن مراعاة التشريعات المالية لظروف الممول؛ لأن مراعاة تلك الظروف تدخل ضمن تحقيق العدالة في المجتمع المسلم. ونبدأ الآن في أُولى تلك الموارد وهي الزكاة: والزكاة في اللغة مأخوذة من: الزكاء، والنماء، والزيادة، سميت بذلك؛ لأنها تثمر المال وتنميه، يقال: زكى الزرع إذا كثر ريعه، ويقال: زكت النفقة إذا بورك فيها، وهذا موجود في (المصباح المنير) في مادة: زكى، وسُمي القَدْرُ المخرج من المال: زكاة؛ لأنه سبب يُرجى به الزكاة.
والزكاة تعني: الطهارة أيضًا، فهي تطهر النفس من دنس البخل والمخالفة، وتطهر المال بإخراج حق الغير منه إلى مستحقيه، هذا هو تعريف الزكاة في اللغة. أما تعريف الزكاة في اصطلاح الفقهاء فهي: تمليك مال مخصوص لمستحقه بشرائط مخصوصة، وهذا معناه: أن الذين يملكون نصاب الزكاة يفترض عليهم أن يعطوا الفقراء ومن على شاكلتهم من مستحق الزكاة قدرًا معينًا من أموالهم بطريق التمليك؛ ولذلك قيل في التعريف هي: تمليك مال مخصوص، فالمقصود بكلمة "لمستحقه" في التعريف: إنما هو الأصناف الثمانية المستحقة للزكاة، والتي نص عليها القرآن الكريم في قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (التوبة: من الآية: 60) هذه هي الأصناف الثمانية. فهذا هو التعريف -كما قلنا- تمليك مال مخصوص لمستحقه بشرائط مخصوصة، يعني: الزكاة لكي تجب على المسلم فلا بد من تحقق شروط معينة، ذكرها الفقهاء بالتفصيل في كتب الفقه. حكم الزكاة، ودليل هذا الحكم: الزكاة من القواعد الأساسية للإسلام؛ لأنها أحد أركان الإسلام الخمس، وهي فرض عين بالنسبة لمن توافرت فيه شروط وجوبها، وفرضيتها معلومة من الدين بالضرورة، دل على ذلك الكتاب في قول الله- تبارك وتعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} (البقرة: من الآية: 43) وقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: من الآية 103) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: 24، 25).
ودليل فرضية الزكاة من السنة: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)). وأيضًا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له: إنك تأتي قومًا أهل كتاب ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأَعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوك لذلك فأَعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)). وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون في جميع العصور على وجوب الزكاة، واتفق الصحابة على قتل مانعيها، وفي ذلك يقول أبو بكر -رضي الله عنه-: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها". ولهذا الإجماع قال الفقهاء: إن من اعتقد عدم وجوب الزكاة فقد كفر؛ لأنه أنكر شيئًا معلومًا من الدين بالضرورة؛ أما من منعها فقط مع الإيمان بوجوبها فلا يكفر، وإنما يكون عاصيًا، ويؤمر بأدائها، فإن امتنع أخذت منه قهرًا ولو بقتال، كما فعل أبو بكر -رضي الله عنه- مع مانعي الزكاة. فإن كان المنكر مع الإنكار جاحدًا لوجوبها فقد كفر، وقتل بكفره، هذا إن لم يتب ويؤديها كما يقتل المرتد؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من الدين بالضرورة، فمن جحد وجوبها فقد كذب الله -عز وجل- وكذب رسوله- صلى الله عليه وسلم- ولذلك يحكم بكفره. وهذا في الزكاة المجمع على وجوبها وإخراجها.
أما الزكاة المختلف فيها كزكاة التجارة، والركاز، وزكاة الثمار في غير النخل والكرم، والزرع في الأرض الخراجية، والزكاة في مال غير المكلف، وحلي المرأة، ومال الدين بالنسبة للدائن أو للمدين، فلا يكفر جاحدها؛ لاختلاف العلماء فيها. العمومية في الزكاة: وبعد تعريفنا للزكاة، وبيان حكمها، والدليل على هذا الحكم، سوف نتحدث عن العمومية في الزكاة: إن العمومية في الزكاة تعني: أن يؤدي الزكاة جميع من توافرت بالنسبة له شروط وجوبها، فلا يُعفى أحد من أدائها دون مبرر، وأيضًا تعني هذه العمومية: أن تفرض الزكاة على جميع الأموال متى تحققت فيها شروط وجوب الزكاة، ومعنى ذلك: أن العمومية في الزكاة تجمع بين الشخصية والمادية، فهي شخصية في تتبعها للفرد أينما حل، وهي مادية في فرضها على الأموال أيًّا كان نوعها. ولذلك سوف نتكلم أولًا عن العمومية الشخصية في الزكاة: إن العمومية الشخصية في الزكاة تعني -كما قلنا-: أن تفرض الزكاة على جميع من يتوفر بالنسبة له شروط وجوبها، فلا يُعفى شخص من أدائها دون وجود ما يبرر هذا الإعفاء، والشخص المكلف بأداء الزكاة في حالة توافر شروط وجوبها قد يكون شخصًا طبيعيًا، وقد يكون شخصًا معنويًّا وسوف نوضح ذلك. فبالنسبة للشخص الطبيعي نقول: أوجب التشريع الإسلامي على الأشخاص القادرين -ماليًّا- المساهمة في تحمل بعض التكاليف المالية العامة المقررة في الدولة، عن طريق فرض الزكاة على كل مسلم مالك لنصاب الزكاة، دون نظر إلى جنسه، أو لونه، أو سنه، أو طبقته الاجتماعية، فالذكر والأنثى، والأبيض
والأسود، والشريف والضعيف، والحاكم والمحكوم، كلهم سواء أمام هذه الفريضة، وهذا موجود في كتاب (فقه الزكاة) دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة، الجزء الثاني صـ1039 وما بعدها د. يوسف القرضاوي، الطبعة السادسة، 1981. وبالنسبة لهذا الأمر نجد أن الفقهاء قد اتفقوا على أن الزكاة تجب على كل مسلم حر، بالغ، عاقل، مالك للنصاب ملكًا تامًّا، وذلك بعد توافر الشروط الموجبة للزكاة عليه في ماله، بينما يختلفون بالنسبة للمرتد، والصبي، والمجنون، وإذا كان الفقهاء قد أجمعوا على وجوب الزكاة على المسلم، فهم بالتالي مجمعون على عدم وجوبها على الكافر الأصلي حربيًّا كان، أو ذِميًّا، فلا يطالب بها -كما قال الشافعي- في كفره، وإن أسلم لم يطالب بها في مدة الكفر؛ لأنها فرع عن الإسلام، وهو مفقود، فلا يطالب بها وهو كافر، كما لا تكون دينًا في ذمته يؤديها إذا أسلم. واستدل العلماء على عدم وجوب الزكاة على الكافر بأدلة نذكر منها: ما روي: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: ((إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأَعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوك لذلك فأَعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) فالحديث يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام؛ فالإسلام إذًا شرط لوجوب الزكاة، وهذا قدر متفق عليه. ينظر في ذلك (المغني) لابن قدامة الجزء الثاني صـ437 وما بعدها.
ومن الأدلة أيضًا على أن الزكاة لا تجب على الكافر: أن الزكاة عبادة، والكافر ليس من أهل العبادة؛ لانعدام شرط الأهلية وهو الإسلام، وأيضًا الزكاة أحد أركان الإسلام فلا تجب على الكافر كالصلاة والصيام، فكما أن الصلاة لا تجب عليه، والصيام لا يجب عليه، فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن الزكاة ركن، كما أن الصيام ركن من أركان الإسلام. ومما يدل على ذلك أيضًا قول أبي بكر الصديق في كتاب الصدقة: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين" وهذا موجود في (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج) للرملي الشافعي الجزء الثالث صـ 125 وما بعدها. هذا بالنسبة للكافر، وقد تبين لنا بالأدلة أن الفقهاء متفقون على عدم صحة الزكاة من الكافر. الحكم بالنسبة للمرتد: ونتحدث الآن عن المرتد، فما هو الحكم بالنسبة للمرتد؟ المرتد قد اختلف الفقهاء فيه من ناحيتين: الأولى: ما ثبت قبل ارتداده، والثانية: ما ثبت عليه بعد ارتداده أي: حال ردته. فالنسبة للناحية الأولى -وهي ما ثبت عليه من زكاة قبل ارتداده-: فقد قال الحنفية بسقوط ما ثبت عليه قبل ارتداده، بناء على أن الأصل عندهم: أن المرتد يصير كالكافر الأصلي، وهذا وارد في (حاشية ابن عابدين الحنفي) الجزء الثاني صـ5 وما بعدها. وقال الشافعية: إن ما ثبت على المرتد قبل ارتداده من زكاة لا يسقط بالردة؛ وذلك لأنه قد ثبت وجوبه، فلم يسقط بردته كغرامة المتلفات، وهذا موجود في (المجموع شرح المهذب) للنووي الجزء الخامس صـ295 وما بعدها.
موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون.
ورأي الشافعية هو المختار؛ لأن الزكاة هنا ليست مأخوذة من الكافر، ولكن من مسلم، حيث أنها قد وجبت عليه، إلا أنه قبل أدائها قد ارتد، فبقيت متعلقة بذمته دينًا عليه حتى تؤخذ منه. ونحن نرى أن ما ذهب إليه الشافعية هو الراجح؛ لأنه يحقق المساواة بين المواطنين في تحمل عبء الزكاة، وحتى لا يستفيد المرتد من ردته بسقوط الزكاة عنه، وبذلك يتخلص من تكليف عام المفروض أن يتساوى فيه الجميع، ما دامت توافرت الشروط اللازمة لذلك. وبالنسبة للناحية الثانية -وهي ما ثبت عليه من زكاة حال ارتداده-: فإن ما ثبت عليه في حال ردته يرى بعض الشافعية، وبعض الحنابلة: وجوب الزكاة فيه قياس على النفقات والغرامات؛ ولأنه حق التزمه بالإسلام، فلم يسقط بالردة كحقوق الآدميين؛ ولأن الزكاة حق مال، فلا يسقط بالردة، ويأخذها الإمام من مال المرتد، كما يأخذها من المسلم الممتنع قهرًا، فإن أسلم بعد أدائها لم يلزمه أداؤها؛ لأنها سقطت عنه بأخذها، كما تسقط بأخذها من المسلم الممتنع. ونحن نختار هذا الرأي نظرا؛ لأنه يحقق المساواة في أداء الزكاة بين المواطنين، وحتى لا يستفيد المرتد -كما قلنا- من ردته بسقوط الزكاة عنه، وبذلك تتحقق العمومية الشخصية في الزكاة. موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون وبالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون: نقول: إذا كان العلماء قد أجمعوا على وجوب الزكاة في مال المسلم البالغ العاقل؛ فإنهم قد اختلفوا في مال الصبي والمجنون، هل تجب فيه الزكاة؟ أم أنها لا تجب حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون؟
هنا اختلف الفقهاء اختلافًا كبيرًا نستطيع أن نردهم فيه إلى فريقين رئيسيين: الفريق الأول: يرى عدم وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون إما مطلقًا، وإما في بعض الأموال. الفريق الثاني: ويرى وجوب الزكاة في أموالهما جميعًا. وسنوضح آراء الفريقين، ثم نبين الرأي الراجح فيما يلي: أولًا: القائلين بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون إما مطلقًا، وإما في بعض الأموال، هؤلاء قالوا: ليس في مالهم زكاة، ينظر في ذلك لـ (المحلى) لابن حزم الجزء الخامس صـ303 وما بعدها، طبعة 1968. ويرى الأحناف: أنه لا زكاة في مالهما إلا في الزروع والثمار، فتجب فيها الزكاة، واستدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه من أنه لا تؤخذ الزكاة من مال الصبي والمجنون بالآتي قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: من الآية: 103). وجه الدلالة من الآية: أن التطهر إنما يكون من أرجاس الذنوب، ولا ذنب على الصبي والمجنون حتى يحتاج إلى تطهير وتزكية، فهما إذًا خارجان عمن تؤخذ منهم الزكاة، ينظر في ذلك الدكتور يوسف القرضاوي (فقه الزكاة) الجزء الأول صـ107 وما بعدها. ومن أدلتهم أيضًا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق)). وجه الدلالة من الحديث: أن رفع القلم كناية عن رفع التكليف، فهما إذًا ليسا مكلفين بالزكاة. ومن القياس: استدلوا بقولهم: إن الزكاة عبادة محضة كالصلاة، والعبادة تحتاج إلى نية، والصبي والمجنون لا تتحقق منهما النية، فلا تجب عليهما الزكاة، كما لا تجب عليهما الصلاة.
وقالوا أيضًا: إن المصلحة تستدعي عدم وجوب الزكاة في مال الصبي، قالوا: إن مصلحتهما تدعو إلى إبقاء مالهما، وعدم فرض الزكاة فيه؛ لأن ذلك يؤدي إلى استهلاكه؛ لعدم قدرتهما على تنمية أموالهما، والنماء هو علة وجوب الزكاة، وفرض الزكاة في مالهما يعرضهما لذل الحاجة، وهوان الفقر، يراجع في ذلك الدكتور القرضاوي (فقه الزكاة) الجزء الأول صـ107 وما بعدها، و (حاشية ابن عابدين) للحنفي الجزء الثاني صـ4 وما بعدها. هذه هي أدلة أصحاب الرأي الأول القائلون بأنه لا زكاة في مال الصبي والمجنون. وإذا رجعنا إلى الرأي الآخر المقابل وهو رأي جمهور الفقهاء القائل بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون؛ فنقول: ذهب إلى وجوب الزكاة في سائر أموال الصبي والمجنون الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول الثوري، وإسحاق، وأبو ثور، وعبد الله بن عمر، وعلي، وعائشة، وجابر بن عبد الله -رضي الله عن الجميع- يراجع في ذلك (المغني) لابن قدامة الجزء الثاني 493 وما بعدها. واستدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه بالآتي: عموم النصوص الدالة على وجوب الزكاة في مال الأغنياء وجوبًا مطلقًا بلا استثناء للصبي والمجنون؛ كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (التوبة: من الآية 103) فالآية هنا جاءت عامة، لم تفرق بين ما إذا كان المأخوذ من ماله صبيًّا، أو مجنونًا، أو عاقلاً، أو بالغًا؛ ولذلك الآية بعمومها تشمل الصبي والمجنون، وما دامت تطالب المسلم بإخراج الزكاة فهي تنطبق على الصبي والمجنون أيضًا.
وكقوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((فأَعلِِمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم)) فكلمة: ((تؤخذ من أغنيائهم)) جاءت عامة، لم تفرق بين ما إذا كان هذا الغني بالغًا عاقلًا، وبين ما إذا كان صبيًّا أو مجنونًا. فإذن: هذا الحديث يدل على أن الزكاة تجب في مال الصبي، نظرًا للعموم الوارد في الحديث. فالآية -كما قال ابن حزم- عامة لكل صغير، وكبير، وعاقل، ومجنون؛ لأنهم كلهم محتاجون إلى طُهرة الله تعالى لهم، وتزكيته إياهم، وكلهم من الذين آمنوا. وقال في الحديث: فهذا عموم لكل غني من المسلمين، وهذا يدخل فيه الصغير، والكبير، والمجنون، إذا كانوا أغنياء، يراجع في ذلك (المحلى) لابن حزم الجزء الخامس صـ298 وما بعدها. ومنها أيضًا حديث خاص ورد في الأمر بتزكية مال اليتيم، فقد روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ابتغوا في مال اليتيم أو في أموال اليتامى، لا تذهبها أو لا تستهلكها الصدقة)) وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: ((اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة)). وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالعمل على تنمية أموال اليتامى، وكذلك المجانين بالتجارة وابتغاء الربح، وحذر من تركها دون تنمية، فتأكلها الصدقات، ولا شك أن الصدقة إنما تأكلها لإخراجها، وإخراجها لا يجوز إلا إذا كانت واجبة، حيث لا يجوز للولي أن يتبرع بمال الصغير في غير واجب. فهذان الحديثان يدلان إذن على وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون.
ومن الأدلة أيضًا التي استدل بها القائلون على وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون: ما صح عن الصحابة من القول بوجوب الزكاة في مال اليتيم والمجنون، فقد صح ذلك عن عمر، وعبد الله بن عمر، وعائشة- رضي الله عنها- وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم أجمعين- ولا يعرف لهم مخالف إلا بعض الروايات التي لا يحتج بها، ينظر في ذلك (المحلى) لابن حزم الجزء الخامس صـ302 وما بعدها. واستدلوا أيضًا بالقياس فقالوا: إن كل من وجب العشر في زرعه وجبت الزكاة في سائر أمواله كالبالغ العاقل، فإن أبا حنيفة وافقنا على إيجاب العشر في مال الصبي والمجنون، إذا كان زروع وثمار، وإيجاب زكاة الفطر في مالهما، وإذا ثبت وجوب ذلك في مالهما فكذلك تجب الزكاة في سائر أموالهما؛ أي: أن أصحاب هذا الرأي -وهم جمهور الفقهاء الذين يقولون بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون- يقيسون على ما قاله أبو حنيفة من أن: الزكاة لا تجب على الصبي إلا في الزروع والثمار المملوكة لهم، فهم يقولون أو جمهور الفقهاء يقولون: نحن نقيس على الزروع والثمار، فكما أن الزكاة تجب على زروع وثمار الصبي والمجنون، تجب أيضًا الزكاة في بقية الأموال بجامع أن هذه كلها أموال مملوكة للصبي. ومما يعتمد عليه الجمهور هو الغرض الذي من أجله شرعت الزكاة، حيث قالوا: إن الزكاة تراد لثواب المزكي، ومواساة الفقير، أي: أن الغرض منها: مواساة الفقير، والثواب الذي يكون للمزكي، والصبي والمجنون من أهل الثواب، وأيضًا من أهل المواساة؛ ولذلك يجب عليهما نفقة الأقارب، ويُعتق عليهما الأب إذا
ملكاه فوجبت الزكاة في مالهما، أيضًا هذا نوع من القياس، أي: أنه كما يجب عليهما نفقة الأقارب فكذلك -ونفقة الأقارب إنما هي مواساة- تجب عليهم الزكاة؛ لأن الزكاة إنما هي أيضًا مواساة للفقراء. وقالوا أيضًا: إن مقصود الزكاة سد خُلة الفقراء من مال الأغنياء؛ شكرًا لله تعالى، وتطهيرًا للمال، ومال الصبي والمجنون قابل لأداء النفقات والغرامات، فلا يضيق عن الزكاة، يعني: ما دام الغرض من الزكاة هو سد خلة الفقراء والمحتاجين، والوقوف بجانبهم من مال الأغنياء، فهذا يشترك فيه الصبي وغير الصبي، والمجنون وغير المجنون؛ ولذلك تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون. وأصحاب الرأي الثاني -وهم جمهور الفقهاء الذين يقولون بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون- لم يكتفوا بهذه الأدلة التي جاءوا بها من الكتاب ومن السنة تدل على ما ذهبوا إليه؛ بل إنهم أيضًا ردوا على الأدلة التي استدل بها أصحاب الرأي الأول الذين يقولون بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون. فبالنسبة للآية وهو قول الله -تبارك وتعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: من الآية: 103) التي استدل بها أصحاب الرأي الأول القائلون بعدم وجوب الزكاة على الصبي والمجنون، فهم يقولون: إن التطهر ليس خاصًّا بإزالة الذنوب بل يشمل تربية الخُلق، وتنمية النفس على الفضائل، وتدريبها على المعونة والرحمة، كما يشمل تطهير المال أيضًا. إذن: هذه الآية إنما هي عامة، ليست قاصرة على التطهير من الذنوب، كما قال بذلك أصحاب الرأي الأول، وإنما هي معنى واسع أيضًا، تشمل تطهير
الذنوب، وتشمل أيضًا التطهير، أو تربية الخلق، وتنمية النفس على الفضائل، وتدريبها على المعونة والرحمة هذا يدخل فيه الصبي، ولذلك الآية لا تدل لأصحاب الرأي الأول على ما ذهبوا إليه من عدم وجوب الزكاة على الصبي والمجنون. وبالنسبة للحديث وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((رفع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق)) فقد أجاب عنه أصحاب الرأي الثاني -وهم جمهور الفقهاء- بأن المراد: رفع الإثم والوجوب، ونحن نقول: لا إثم عليهما، ولا تجب الزكاة عليهما، بل تجب الزكاة في مالهما، ويخاطب وليهما بإخراجها، كما يجب في مالهما قيمة ما أتلفاه، ويجب على الولي دفعها. فهم أيضًا بالنسبة لهذا الحديث -وهو: ((رفع القلم)) - الجمهور يقولون: إن معنى الحديث أنه لا إثم عليه، ولا وجوب عليه، نقول: نعم، لكن الوجوب إنما يتعلق بالمال، والوجوب عندما يتعلق بالمال يتساوى فيه الصبي وغير الصبي، والمجنون وغير المجنون، ويقيسون ذلك على الأشياء التي أتلفها الصبي للغير، فإذا قام الصبي بإتلاف مال الغير في هذه الحالة نقول: هو مسئول، وعلى الولي أن يدفع قيمة هذه المتلفات من مال الصبي، فهنا الوجوب إنما متوجه إلى المال، والوجوب إنما يكون بالنسبة للزكاة، وهذا يتساوى فيه -كما قلنا- البالغ وغير البالغ، والعاقل، والمجنون. وأجابوا على قياسهم: الزكاة على الصلاة، بجامع أن الكل عبادة، يقولون: نحن لا ننكر كونها عبادة -التي هي الزكاة- إلا أنها عبادة متميزة بطابعها المالي الاجتماعي، فهي عبادة مالية، تجري
فيها النيابة حتى تتأدى بأداء الوكيل، حتى لو كان الوكيل ذميًّا- كما قال الحنفية- مع أنه ليس من أهل العبادة؛ لأنهم يقولون: إن قياس الزكاة على الصلاة إنما هو قياس مع الفارق؛ لأن الصلاة إنما هي عبادة بدنية محضة، لا تصح إلا من المسلم، ومن صاحبه. أما الزكاة فهي أيضًا فوق أنها عبادة بدنية، هي أيضًا عبادة مالية، جمعت بين العبادة وبين المالية؛ ولذلك هي متميزة بطابعها المالي الاجتماعي، فكما قلنا هي: عبادة مالية تجري فيها النيابة، لكن الصلاة لا تجري فيها النيابة؛ ولذلك كان قياس الزكاة على الصلاة قياس مع الفارق، ولذلك لا يصح الاستدلال بذلك؛ فالزكاة بهذا تخالف الصلاة والصوم، فهما عبادة مختصة بالبدن، بينما الزكاة حق يتعلق بالمالك، فأشبهت نفقة الأقارب، والزوجات، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات. وعن اشتراط النية لصحة إخراج الزكاة قال ابن حزم: نعم، وإنما أمر بأخذها الإمام، والمسلمون؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فإذا أخذها من أمر بأخذها بنية أنها الصدقة أجزأت عن الغائب، والمغمى عليه، والمجنون، والصغير، ومن لا نية له، ينظر في ذلك (المحلى) لابن حزم الجزء الخامس صـ305 وما بعدها. فكأن ابن حزم يقول هنا: ليس بلازم النية من الصبي والمجنون حتى تصح منه الزكاة؛ إنما نقول: النية تكون موجودة إذا أخذ الإمام هذه الزكاة من الصبي أو المجنون؛ لأن الإمام ومن ينيبه إنما هم مطالبون بأخذ هذه الزكاة في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.
وفي تأييد رأي القائلين بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون، يقول علماء حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية كتاب الدورة الثالثة دمشق 1952 صـ237 جامعة الدول العربية، الأمانة العامة، إدارة الشئون الاجتماعية مطبعة مصر 1955 بحث بعنوان: "الزكاة والوقف" للشيخ عبد الرحمن حسن، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ عبد الوهاب خلاف،: إن الزكاة حق المال، وهي تكليف اجتماعي سببه امتلاك المال، لا فرق في ذلك بين بالغ عاقل وغيره، كالشأن في كل تكليف اجتماعي، كما نرى في نفقة الأقارب، فإنها تجب في مال المكلف، وغير المكلف، لقريبه المحتاج العاجز عن الكسب، وإذ كانت حق المال فإنها تؤخذ منه أيًّا كان مالكه، كالعقوبات المالية الجنائية في الإسلام، وكقيم المتلفات، وكل هذا يؤخذ من مال المكلف، وغير المكلف تكليفًا دينيًّا، ينظر في ذلك إلى (حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية) التي نبهنا إليه قبل ذلك. وقد أوصى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية في صـ 402، 403 لسنة 1965 بأنه تجب الزكاة على المكلف في ماله، وتجب أيضًا في مال غير المكلف، ويؤديها عنه من ماله من له الولاية على هذا المال. والرأي الراجح من خلال الأدلة التي ذكرناها للفريقين، والمناقشات التي وردت على بعض هذه الأدلة، وما نقلناه عن علماء حلقة الدراسات الاجتماعية، ومجمع البحوث الإسلامية يتضح لنا جليًّا: إن ما ذهب إليه الجمهور من الفقهاء من وجوب الزكاة في جميع أموال الصبي والمجنون هو الرأي الراجح؛ وذلك لما يلي: لقوة أدلته، وتفنيد أدلة الفريق الآخر، كما ذكرنا سابقًا.
أن مقدرة المكلف على أداء الزكاة لا تتأثر بكونه صبيًّا، أو بالغًا، مجنونًا، أو عاقلًا، وأن عدم العقل أو عدم البلوغ لا يمسان طاقة المكلف الزكائية، ومركزه المالي، كما أن إسقاط الزكاة في مال الصبي والمجنون فيه إخلال صارخ بمبدأ العمومية الشخصية في الزكاة؛ لعدم إخضاع الصبي والمجنون للزكاة، الأمر الذي يؤدي إلى انعدام المساواة بين المسلمين في تحمل التكاليف العامة المالية؛ التي من أهمها الزكاة، والتي قررتها الشريعة الإسلامية على المسلمين. أيضًا: أن الصبي والمجنون يستفيدان بالمنافع العامة التي تقدمها الدولة للمواطنين، فهما يتمتعان بالانتفاع بالمرافق العامة في الدولة الإسلامية من مواصلات، ومياه، وكهرباء، إلى آخره، كبقية المواطنين الذين يلتزمون بأداء الزكاة من أموالهم. وأيضًا: فإنهما يتمتعان بالحماية التي توفرها الدولة للمواطنين، سواء حمايتها من أي اعتداء خارجي أو داخلي؛ ليكونا آمنين في المكان الذي يعيشان فيه، أو حماية أموالهما من اللصوص، وقطاع الطرق، ووفقًا لقاعدة الغُنم بالغرم: فإنه يكون من الواجب الذي تفرضه العدالة أن يتساويا -أي: الصبي والمجنون- مع غيرهما من المواطنين في تحمل التكاليف العامة المالية بإخراج الزكاة من أموالهما؛ وبذلك تتحقق المساواة بين الموطنين في تحمل الأعباء العامة المالية، والتي من أهمها الزكاة المقررة في الدولة الإسلامية. ونخلص مما تقدم إلى أن: المكلفين بأداء الزكاة من الأشخاص الطبيعيين هم: جميع المسلمين الذين يملكون مالًا توافرت فيه شروط وجوب الزكاة، دون نظر إلى جنس من وجبت عليه، أو لونه، أو نسبه، أو طبقته الاجتماعية، فالذكر والأنثى، والصغير والكبير، والعاقل والمجنون، والشريف والوضيع، والحاكم والمحكوم أمام التكليف بأداء الزكاة سواء، أيًّا كان المكان الذي يقيمون فيه.
الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة.
فالزكاة تجب على المسلم، أيًّا كان محل إقامته، ولو كان مقيمًا في بلد غير إسلامي ففي هذه الحالة يجب عليه إرسال الزكاة المستحقة عليه إلى بلده الإسلامي؛ فإن لم يستطع أصبحت دينًا في ذمته إلى أن يعود إلى بلده المسلم، وبهذا تتحقق المساواة الكاملة بين المسلمين في تحمل العبء الزكوي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - الشخص المعنوي في الزكاة الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن العمومية الشخصية بالنسبة للشخص الطبيعي في الزكاة وتحدثنا عن الزكاة بالنسبة للكافر والمرتد وذكرنا آراء الفقهاء وأدلتهم بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون واتضح لنا رجحان رأي القائلين لوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون. ونتحدث الآن عن العمومية الشخصية بالنسبة للشخص المعنوي، فنقول: لمعرفة وجود الأشخاص المعنوية -كنوع ثاني للمكلفين بالزكاة إلى جانب الأشخاص الطبيعية- لا بد من البحث حول موقف الفقهاء بالنسبة لتأثير الخلطة في زكاة الأنعام، على أنه بداية من المفيد أن نشير هنا إلى أن الخلطة في الأنعام على نوعين: النوع الأول: خلطة اشتراك، وقد يعبر عنها بخلطة الأعيان، وخلطة الشيوع، وهي تعني: عدم تمييز نصيب أحد المالكين أو الملاك عن نصيب غيره، كماشية ورثها قوم، أو ابتاعوها فهي شائعة بينهم، وهم شركاء فيها، ليس لأحدهم عدد متميز. النوع الثاني: من الخلطة في الأنعام هو خلطة جَوار -من الجوار- وقد يعبر عنها بخلطة الأوصاف، وهي تعني: أن يكون مال كل واحد من المالكين أو الملاك متعينًا متميزًا عن مال غيره، كأن يكون لمالك ستين شاة معلومة مميزة، وللآخر مثلها، أو أقل، أو أكثر، معلومة مميزة أيضًا، ولكنها كلها متجاورة مخلوطة كالمال الواحد، وينظر في تفصيل ذلك في كتاب (الأموال) للإمام أبو عبيد القاسم بن سلام طبعة 1975 المحققة الناشر دار الفكر العربي صـ491 وما بعدها، وكذلك الدكتور يوسف القرضاوي في (فقه الزكاة) الجزء الأول صـ217 وما
بعدها، وكذلك (المجموع شرح المهذب) للنووي الجزء الخامس صـ406 وما بعدها. ومن الجدير بالذكر أن هناك شروطًا ينبغي توافرها في الخلطة؛ لكي يكون لها تأثير في الزكاة، بعض هذه الشروط مشترك بين الخلطتين معًا -أي: خلطة الاشتراك وخلطة الجواري- والبعض الآخر يختص بخلطة الجوار. فبالنسبة للشروط المشتركة بين الخلطتين فإنها تمكن في الشروط الآتية: 1 - أن يكون المخالطين أو الخلطاء من أهل الزكاة أي: من تجب عليهما الزكاة. 2 - أن يكون المال المختلط نصابًا. 3 - دوام الخلطة سنة كاملة، يعني: إذا أردنا أن نتحدث عن تأثير الخلطة بالنسبة للزكاة لا بد من توافر هذه الشروط أولًا. وبالنسبة للشروط الخاصة بخلطة الجَوار فإنها تكمن في الشروط الآتية: 1 - اتحاد المُراحي أي: المكان الذي تبيت فيه ليلًا الأغنام مثلًا، أو الأبقار مثلًا، أن يكون هذا المكان متحدًا يعني: تبيت فيه أغنام هذا، وأغنام هذا. 2 - اتحاد المشرب، بأن تسقى الغنم من ماء واحد، وأيضًا اتحاد المسرح أي: الموضع الذي تجتمع فيه، ثم تساق إلى المرعى، وأيضًا اتحاد المرعى أي: المرتع الذي ترعى فيه. هذه الشروط لا بد من وجودها حتى نتحدث عن تأثير هذه الخلطة في الزكاة من عدمه؛ فإذا لم توجد هذه الشروط أو انعدم شرط منها فلا نكون في هذه الحالة بشأن خلطة، ولا بشأن شيء منها.
موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة.
ومن الشروط المختلف فيها: اتحاد الراعي أي: عدم اختصاص أحدهما براع، يعني: أن يكون الراعي واحدًا، يرعى غنم هذا، وغنم هذا. وأيضًا: اتحاد الفحل أي: أن تكون الفحول مرسلة في ماشيتهما، لا تختص إحداهما بفحل معين. وأيضًا: اتحاد الموضع الذي تحلب فيه الماشية، وهو شرط كاتحاد المراح. وأيضًا: اتحاد الحالب وهو الشخص الذي يقوم بحلب الماشية أي: لا ينفرد أحدهما بحالب يمنع عن حلب ماشية الآخر. وأيضًا: اتحاد الإناء الذي يحلب فيها أي: أن تكون المحالب شائعة بينهم، فلا ينفرد أحدهما بمحلب أو محالب، تمنع عن الآخر. ثم بعد ذلك توافر نية الخلطة لدى الخالطين أو الخلطاء. إذن: هناك شروط متفق عليها، وهناك شروط مختلف فيها. أي: إن البعض قال بها، أو قال بأنها شروط لازمة، والبعض قال بعدم لزومها. موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة نذهب إلى الفقهاء، ونعرف موقف الفقهاء بالنسبة لتأثير هذه الخلطة في الزكاة: ولو ضربنا مثالًا لهذا: نفترض أن إنسانًا عنده عشرون شاة، ورجلًا آخر عنده عشرون شاة، ثم حدثت بينهم خلطة جَوار -على سبيل المثال- وكان هناك راع واحد لهم، فإذًا مجموع هذه الأغنام هو: أربعون، ونحن نعرف أن نِصاب الغنم يبدأ من أربعين، ففي هذه الحالة: هل تجب الزكاة في هذه الأغنام؟ على اعتبار أننا جمعنا نصيب أحدهما إلى الآخر وبالتالي نظرنا إلى المال كله أو إلى الخلطة في
مجملها؟ ففي هذه الحالة نقول: تجب الزكاة؛ أم أننا لا ننظر إلى ذلك؟ وأن كل مالك على ملكه وبالتالي فلا تجب الزكاة؟ لو نظرنا إليهما بدون خلطة فصاحب العشرين لا تجب عليه الزكاة، والآخر لا تجب عليه الزكاة، لماذا؟ لأن كلًا منهما لم يصل إلى النصاب؛ لأن نصاب الغنم التي تجب فيه الزكاة أن تصل إلى أربعين شاة فأعلى، وكل واحد منهم على انفراد، لم يصل إلى هذا النصاب. فلو قلنا: هناك تأثير للخلطة، في هذه الحالة يجب عليهم إخراج الزكاة؛ لأننا سوف نجمع عشرين مع العشرين الأخرى، وبالتالي يحدث عندنا نصاب، وهن تجب الزكاة. وعلى ذلك فالذين قالوا بأن للخلطة تأثير في الزكاة يقولون: يجب على هذين المالكين إخراج الزكاة؛ لأن اجتماع مالهما وجد النصاب. وأما الذين يقولون بأنه: لا تأثير للخلطة في الزكاة، يقولون بأنه: لا زكاة على واحد منهما؛ لأن مال كل واحد منهما لم يصل إلى نصاب الزكاة. هذا تصور عام لموضوع الخلطة في الأنعام حتى تتضح؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والمثال هو بمثابة تصوير للموضوع. موقف الفقهاء حول تأثير الخلطة في الزكاة: هناك مواقف عديدة للفقهاء حول هذه المسألة، وهي كما يلي: 1 - موقفهم من ثبوت التأثير للخلطة. 2 - موقفهم من أنواع الخلطة التي لها تأثير، وهذا على القول بثبوت هذا التأثير. 3 - موقفهم من المحل الذي تؤثر فيه الخلطة على القول بثبوت هذا التأثير أيضًا؛ أهو قدر الواجب فقط؟ أم هو قدر الواجب والنصاب معًا. 4 - موقفهم من أنواع الأموال التي تؤثر فيها الخلطة على القول بثبوت هذا التأثير أيضًا؛ هل له تأثير في جميع أنواع المال؟ أم في الأنعام فقط؟ هذه صور معينة اختلف فيها الفقهاء، سوف نرى -إن شاء الله- ونحاول أن نوضح موقف الفقهاء في هذه الصور: أولًا: موقف الفقهاء من ثبوت التأثير للخلطة: اختلف الفقهاء حول هذه المسألة إلى رأيين: الرأي الأول ويقول: إن الخلطة لها تأثير في الزكاة بمعنى: أنه يجعل مال للرجلين أو أكثر كمال الرجل الواحد في الزكاة، وهذا هو مذهب الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد ابن حنبل.
فبناء على رأي جمهور الفقهاء: لو أن إنسانًا عنده عشرون شاة، والآخر عشرون شاة، وحدثت بينهم خلطة -بالشروط التي ذكرناها- ففي هذه الحالة يجب عليهم إخراج الزكاة، لماذا؟ لأن للخلطة تأثير، وبالخلطة وصل مال الرجلين إلى نصاب الزكاة وهو أربعون شاة، وبذلك تُخرج الزكاة من هذا النصاب، ومعنى ذلك: أن كل واحد منهم سوف يتحمل نصف شاة، هذا هو أثر التأثير في الزكاة. الرأي الثاني: وهو للأحناف، يقولون بأن: الخلطة ليس لها تأثير في الزكاة بحال -يعني: مطلقًا- لا في قدر الواجب، ولا في النصاب، سواء ملك كل واحد من الخلطاء نصابًا، أم دون النصاب، وإن كان مجموع مال الخلطاء أكثر من نصاب، فإذا ملك كل واحد منهم ما دون النصاب لم تجب عليه زكاة، وإن كان مجموع مالهم أكثر من نصاب، كأن يكون مال الخالطين ستين شاة لكل منهم ثلاثون، وذلك لأن ملك كل واحد دون النصاب، فلم تجب عليه زكاة، كما لو لم يختلط بغيره. خلاصة القول في هذا بأنه لا تأثير للخلطة مطلقًا لا في قدر الوجب ولا في النصاب بمعنى: لو قلنا بأن شخصين كل واحد منهما عنده عشرون شاة، وحدثت بينهم خلطة بشروطها، بناء على رأي الأحناف: لا تجب الزكاة في هذا المال -على الرغم من أن مجموع المالين يصل إلى النصاب وهو: أربعون شاة، ونصاب الغنم -كما قلنا- يبدأ من الأربعين -بناء على رأي الأحناف يقولون لا زكاة في هذا المال- لماذا؟ قالوا: لأن مال كل واحد منهم على انفراد لم يصل نصابه، وهذا إذًا بعكس ما رآه جمهور الفقهاء. فجمهور الفقهاء يقولون تجب الزكاة في هذا المال لماذا لأنهم يجعلون للخلطة تأثيرًا في الزكاة أما الأحناف فيقولون لا زكاة في هذا المال لماذا قالوا لأنهم لا يجعلون للخلطة تأثيرا في الزكاة.
هذا هو موقف الفقهاء من ثبوت التأثير للخلطة. إذن: الجماعة -الأحناف- الذين منعوا تأثير الخلطة في الزكاة، لا يتحدثون بعد ذلك في مقدار النصاب، أو غيره، فهم منعوا الأمر منعًا باتًّا، وانتهى الأمر، وقالوا: لا ينظر إلى هذه الخلطة إطلاقًا، وإنما ينظر إلى مال كل واحد على حدة. هذا بالنسبة لموقفهم من ثبوت التأثير للخلطة على وجه العموم. ويقول الأحناف: وأما إذا اختلط في نصابين بحيث يملك كل واحد منهما نصابًا، فإن الزكاة تجب فيه، كأن يكون مال الخَلِطين ثمانين، لكل منهما أربعون، فوجبت فيها شاة؛ لأن في كل أربعين شاة شاة. هذا -كما قلنا- رأي الجمهور، ورأي الأحناف بالنسبة لتأثير الخلطة بالنسبة للزكاة. جمهور الفقهاء استدلوا على ما ذهبوا إليه وهو أن للخلطة تأثير في الزكاة؟ استند أصحاب هذا الرأي إلى النصوص الواردة في هذه المسألة، ودلت دلالة واضحة على ثبوت التأثير للخلطة في الزكاة، منها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يُجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع؛ خشية الصدقة، وما كان من خلِطِين فإنهما يتراجعان بالسوية)) فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن: مِلك الخلطين كملك رجل واحد، وهذا حديث مخصص لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)). وبناء على ذلك في المثال الذي ذكرناه: لو كان لكل واحد منهما عشرون شاة، ثم حدثت بينهم خلطة، فبناء على رأي جمهور الفقهاء: عليهم أن يخرجوا شاة؛ لأن باجتماع المالين وجد النصاب، لكن عندما يخرجون شاة: كل واحد يرجع على صاحبه، فكل واحد منهم إذًا سوف يتحمل نصف شاة كما ذكرنا. واعترض أصحاب الرأي الثاني -وهم الأحناف- على ما استدل به أصحاب الرأي الأول -وهم الجمهور- بقولهم: إن الشريكين قد يقال لهما: خالطان،
ويحتمل أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع)) إنما هو نُهي للسعاة أن يقسموا ملك الرجل الواحد قسمة توجب عليه كثرة الصدقة مثل: أن يكون لرجل مائة وعشرون شاة، فيقسموه عليه إلى أربعين ثلاثة مرات، أو يُجمع مِلك رجل إلى رجل آخر حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة، قالوا: وإذا ثبت هذا الاحتمال في هذا الحديث وجب ألا يخصص به حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)) ومعنى هذا: أنهم يرون أن الجمع بين المتفرق، والتفريق بين المجتمع إنما يكون على الملك فقط، وبالتالي لا دليل في ذلك على ثبوت التأثير للخلط. وأيضًا في اعتراضهم على الدليل يقولون: يحتمل أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع)) إنما هو نهي للسعاة يعني: احتمال أن النبي -صلى الله عليهم وسلم- يريد بكلامه السعاة، ويوجه هذا الحديث إلى السعاة؛ ونقصد بهم: عمال الزكاة الذين كانوا يقومون بجمع الزكاة من الناس، فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: لا تجمعوا بين متفرق، ولا تفرقوا بين مجتمع؛ حتى لا تضروا بأصحاب هذه الأموال. فإذن: الحديث ليس خاصًّا بالملاك، وبالتالي فلا يكون دليلًا على ثبوت تأثير الخلطة في الزكاة. فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: لا تفعلوا هذا، خذوا شاة واحدة عن المائة والعشرين، ولا تفرقوا هذا المال؛ لا تجعلوه: أربعين، وأربعين، وأربعين؛ لأنهم لو جعلوه: أربعين، وأربعين، وأربعين، سوف يأخذون ثلاث شياهٍ بدل شاة واحدة، فهذا نهي من النبي -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء العمال، أو السعاة أن يفرقوا بين مجتمع، يعني: بين شيء في الجملة المائة والعشرين، لا يصح أن يجعلوها أو
يوزعوها على ثلاث، بحيث يصير المجموع ثلاث شياهٍ يُخْرجها الرجل، بدل شاة واحدة. مثل: أن يكون لرجل مائة وعشرون شاة فيقسموها عليه إلى أربعين ثلاث مرات، أو يُجمع ملك رجل إلى رجل آخر، حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة، أيضًا نهي للسعاة، لا يصح لهم أن يقولوا بأن: فلان هذا الذي يسكن بجوار فلان عنده عشرون من الإبل، وجاره الآخر عنده عشرون من الإبل فنجمع الاثنين معًا، ونجعلهم أربعين، وبالتالي نأخذ زكاة من هذه الأربعين؛ لأن بالجمع هذا حدث النصاب، وبالتالي نأخذ زكاة، هذا ممنوع منه السعاة. هذا، وقالوا: هذا هو معنى الحديث: لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة يعني: من أجل الصدقة، كأن السعاة يريدون أن يأخذوا الزكاة من الناس بأي وسيلة؛ ولهذا كان نهي من النبي -صلى الله عليه وسلم. إذن: مادام الأمر كذلك فالحديث مقصود به السعاة، وهو موجه إلى السعاة، وبالتالي فليس موجهًا إلى الملاك، وبالتالي فلا شأن له بتأثير الخلطة في الزكاة. هذا الرد جاء من الجماعة الأحناف؛ ولذلك يقولون: وإذا ثبت هذا الاحتمال في الحديث فلا يعمل به؛ لأن هناك قاعدة تقول: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال صدق به الاستدلال؛ ولذلك يقولون: مادام هذا الاحتمال في الحديث وجب ألا يخصص به حديث رسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)) ومعنى هذا أنهم يرون: أن الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع إنما يكون على الملك فقط، وبالتالي لا دليل في ذلك على ثبوت التأثير للخلطة، يرجع في ذلك إلى (بداية المجتهد ونهاية المتصل) لابن رشد الجزء الأول صـ238 وما بعدها.
وقد أجاب أصحاب الرأي الأول على هذا الاعتراض، أو تلك المناقشة التي حدثت من الأحناف بأن: لفظ الخلطة أظهر في الخلطة نفسها منه في الشركة، وإذا كان الأمر كذلك فإن قوله- صلى الله عليه وسلم-: ((فإنهما يتراجعان بالسوية)) مما يدل على أن الحق الواجب عليهما حكمه حكم رجل واحد، وأنه يدل أيضًا على أن الخلطين ليس بشريكين؛ لأن الشريكين لا يتصور بينهما تراجع، إذ المأخوذ هو من مال الشركة؛ لأن الشركة تعتبر شخصًا معنويًّا له ذمة مستقلة عن المساهمين، وهنا تجب الزكاة في مال الشركة ككل، وبالتالي لا يتصور رجوع أحد الشركاء على باقي الشركاء بشيء. وهذا التفسير للحديث هو ما رآه كثير من العلماء، واختاره أبو عبيد حيث قال: والوجه عندي في ذلك ما اجتمع عليه هؤلاء الذين يرون أن الحديث نهي للملاك والسعاة معًا؛ لأن العدوان لا يؤمن من المصدق -المالك- كما أن الفرار من الصدقة لا يؤمن من رب المالك. والمصدق المقصود به هنا: هو عامل الزكاة، أو الذي يقوم بجباية الزكاة، كما أن الفرار من الصدقة لا يؤْمن من رب المال فأوعز النبي- صلى الله عليه وسلم- إليهما جميعًا. ثم يقول أبو عبيد: وهو بيِّن في الحديث الذي ذكرناه عن سويد بن غفلة، حين حدث عن مصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن في عهدي ألاَّ أفرق بين مجتمع، ولا أجمع بين متفرق)) فقد أوضح لك هذا أن النهي للمصدق. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((حذار الصدقة)) أي: خشية الصدقة، كما في رواية البخاري بين لك أن النهي لأرباب الأموال. إذن: هذا نوع أيضًا من الجمع بين الحديث هل المقصود أنه نهي للسعاة فقط ولا شأن له بالملاك؟ أم أنه نهي للملاك فقط؟ ولا شأن له بالسعاة؟ فإن قلنا بأنه نهي
للسعاة فقط فهذا يدل -كما قال الأحناف- على أنه لا تأثير للخلطة في الزكاة، وإن قلنا بأنه موجه للملاك، فيدل ذلك على أن للخلطة تأثير في الزكاة كما يرى جمهور الفقهاء. لكن هناك أيضًا من جمع بين الاثنين وقال بأن: قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع)) من الممكن أن يكون موجهًا إلى السعاة، وموجه إلى الملاك أيضًا. موجه إلى السعاة حتى لا يريدون أخذ أكثر مما هو مطلوب، وموجه إلى الملاك -أرباب الأموال- حتى لا يتهربون من الزكاة عن طريق جمعها مع بعضها البعض، أو تفريقها حتى تسقط الزكاة، أو تقل الزكاة، وهذا التفسير هو الذي ارتضاه أبو عبيد في كتابه (الأموال) صـ 484 486 وقال: إن هذا يصلح أن يكون حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- موجه إلى أرباب الأموال، كما هو موجه إلى السعاة، أي: الذين يقومون بالجبايا. وبالتالي بناء على هذا التفسير الذي اختاره أبو عبيد يكون الحديث متمشيًّا مع ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وهو أن: للخلطة تأثيرًا في الزكاة أي: أنها تجعل مال الرجلين كمال رجل واحد في الزكاة -كما بينا ذلك. وخلاصة هذا كله أن الجمهور يرون أن هذا الحديث يفيد نهي الملاك والسعاة معًا عن ذلك كله، كما يرون أن ذلك يكون على المخالطة وعلى الملك أيضًا، وليس على الملك فقط، كما رآه أصحاب الرأي الثاني، فهو بهذا يريد ثبوت تأثير للخلطة. ونحن نرجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من ثبوت تأثير الخلطة في الزكاة، أي: أنه إذا اختلط شخصان أو أكثر فإنهم يجمعون مالهم في الزكاة، ويزكون زكاة مال
الرجل الواحد، وذلك لقوة أدلة الجمهور فيما ذهبوا إليه، وتفيندهم لأدلة الرأي المخالف لرأيهم، وإذا ثبت أن للخلطة تأثيرًا في الزكاة -كما يرى جمهور الفقهاء كما أوضحنا- فأي نوع من أنواع الخلطة ثبت له هذا التأثير؟ وسنجيب على ذلك فيما يلي: موقف الفقهاء من أنواع الخلطة التي لها تأثير: ذكرنا فيما سبق أن الخلطة على نوعين خلطة اشتراك، وخلطة جوار، وذكرنا أيضًا أن جمهور الفقهاء يرون أن للخلطة تأثيرًا في الزكاة أي: جعل مال الرجلين كمال رجل واحد يعني: يجمعون مالهم في الزكاة ويزكون زكاة مال الرجل الواحد كما رأينا؛ والفقهاء القائلون بهذا لا يختلفون في ثبوت هذا التأثير لنوعي الخلطة، سواء كانت خلطة أعيان، أو خلطة أوصاف، بل إننا نجد أن الشيخ أبي حامد الإسفراييني قد نقل في تعليقه إجماع المسلمين على أنه لا فرق بين الخلطتين في الإيجاب. إلا أن بعضهم يشترط لثبوت هذا التأثير: أن يكون مال كل واحد من الخلطاء نصابًا فصاعدًا، بينما لم يشترط ذلك البعض الآخر وهم جمهور القائلين بثبوت تأثير الخلطة؛ فللخلطة تأثيرها، سواء كانت خلطة أعيان، أو خلطة أوصاف، وسواء كان يملك كل واحد من الخلطاء نصابًا، أو لا، واستندوا إلى الأحاديث المطلقة في هذا الشأن -والتي ذكرناها فيما سبق- حيث أنها لا تفرق بين نوعي الخلطة، كما أنها لا تفرق بين ما إذا كان مال كل واحد من الخلطاء نصابًا، وبين ما لم يكن نصابًا، ويرجع في ذلك إلى (المجموع شرح المهذب) للنووي الجزء الخامس صـ406 وما بعدها وأيضا (المغني) لابن قدامة الجزء الثاني صـ481 وما بعدها.
ثالثًا: موقف الفقهاء من المحل الذي تؤثر فيه الخلطة: ويقصد بذلك: هل تؤثر الخلطة في قدر الواجب فقط؟ أم تؤثر في قدر الواجب والنصاب معًا؟ بالنسبة لهذه المسألة نجد أن الفقهاء قد اختلفوا إلى فريقين: الفريق الأول: يرى أن الخلطة إنما تؤثر في قدر الواجب فقط. الفريق الثاني: يرى إنما تؤثر في قدر الواجب والنصاب معًا. فأصحاب الرأي الأول بعد أن ثبت لديهم تأثير الخلطة في قدر الواجب بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما يتراجعان بالسوية)) وقفوا عنده، ولم يقيسوا عليه النصاب، ورأوا أن الخالطين إنما يزكيان زكاة الرجل الواحد، إذا كان لكل واحد منهما نصاب، بينما لم يقتصر على ذلك أصحاب الرأي الثاني، وإنما راحوا يقيسون النصاب على قدر الواجب، ورأوا أن الخلطين أو أكثر نصاب الرجل الواحد، كما أن زكاتهما زكاة الرجل الواحد، وتبعًا لهذا الاختلاف اختلف المعنى المفهوم من قوله- صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع)) وحمل كل من الرأيين هذا الحديث على ما ذهب إليه. خلاصة القول في هذا أن الرأي الراجح في المسالة أنه: لا يشترط أن يكون مال كل واحد من الخلطين على حدة قد بلغ نصابًا، حتى نقول بتأثير الخلطة في الزكاة، وإنما يكفي -كما قلنا- أن يوجد النصاب من مجموع المالين فقط. ونحن نختار ما عليه أصحاب الرأي الثاني، عملًا بالقياس حيث إن القياس معتبر شرعًا، طالما ليس هناك نص يخالفه، ومسألتنا هذه قد دل النص كما تقدم على ثبوت تأثير الخلطة في قدر الواجب، فيقاس عليه النصاب، وبذلك يكون المحل الذي تؤثر فيه الخلطة هو قدر الواجب والنصاب معًا.
حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة.
حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة موقف الفقهاء من أنواع الأموال التي تؤثر فيها الخلطة: الذين قالوا: إن للخلطة تأثيرًا في الزكاة، اختلفوا بالنسبة للأموال التي تؤثر فيها الخلطة، ويمكن إرجاع هذا الاختلاف إلى رأيين: الرأي الأول: ويرى أصحابه أن للخلطة تأثيرًا في الماشية فقط، وأما في غير المواشي فلا تأثير للخلطة فيها. الرأي الثاني: ويرى أصحابه أن للخلطة تأثيرًا في جميع أنواع الأموال، سواء أكانت مواشي، أو أثمان، أو عروضًا تجارية، أو حبوبًا، أو ثمارًا، يرجع في تفصيل هذه الآراء لـ (المغني) لابن قدامة الجزء الثاني صـ490 وما بعدها، و (المجموع شرح المهذب) للنووي الجزء الخامس صـ430 وما بعدها. أدلة الرأي الأول: استدل أصحاب هذا الرأي القائلون بأن: للخلطة تأثيرًا في الماشية فقط، وأما في غير المواشي فلا تأثير للخلطة فيها، أقول: استندوا إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((والخليطان ما اجتمع على الحوض، والفحل، والراعي)) ((والخليطان ما اجتمع على الحوض ... )) والمقصود بـ ((الحوض)): هو المكان الذي تشرب منه الماشية، و ((الفحل)): وهذا شيء خاص بالماشية، و ((الراعي)) أيضًا هذا شيء خاص بالماشية، قالوا: فإنه يدل على أن ما لم يوجد فيه ذلك -يعني: ما لم يوجد فيه الحوض والفحل والراعي- لا يكون هناك خلطة مؤثرة. واستندوا أيضًا إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة)) حيث قالوا: إنه إنما هو خاص بالماشية فقط؛ لأن الزكاة تقل بجمعها تارة، وتكثر أخرى، وسائر الأموال تجب فيها فيما زاد على النصاب بحسابه، فلا أثر لجمعها.
يعني: هذا الجمع بين المتفرق، والتفرق بين المجتمع، قالوا: هذا يؤثر في الصدقة فعلًا، لكنه في الماشية فقط، لكن ذلك لا يتصور بالنسبة للأموال الأخرى مثل النقود على سبيل المثال؛ لأن النقود على سبيل المثال عندما تصل إلى النصاب تجب فيها الزكاة أيًّا كان المبلغ الذي وصلت إليه، وبذلك لا يتصور فيها تفريق بين مجتمع، أو جمع بين متفرق؛ ولذلك قالوا: هذا الحديث أيضًا لا ينطبق إلا على الماشية فقط. ولذلك إن هؤلاء يقولون: تأثير الخلطة في الزكاة إنما هو خاص بالماشية فقط، فإذا كانت هناك خلطة في غير الماشية فلا تأثير لهذه الخلطة في الزكاة، أي: أنه لا يجعل مال للرجلين كمال رجل واحد؛ مال الرجلين يجعل كمال رجل واحد إنما هو في حالة الماشية فقط؛ أما في عداها فلا يجعل مال الرجلين كمال رجل واحد. وبالتالي في هذه الحالة كل إنسان مستقل تمامًا بأشيائه، وبأمواله، فإذا بلغت نصابًا على انفراد زكَّاها، وإذا لم تبلغ فلم يزكها. هذا هو مجمل الرأي الأول، والأدلة التي استند إليها أصحاب الرأي القائلون بأن تأثير الخلطة بالنسبة للزكاة إنما يكون في الماشية فقط، ولا يكون في غيرها من العموم. أما الرأي الثاني الذي يقول بأن: للخلطة تأثيرًا في جميع أنواع الأموال، سواء كانت مواشي، أو أثمان، أو عروضًا تجارية، أو حبوبًا، أو ثمارًا، هؤلاء استدلوا على ما ذهبوا إليه بقولهم: إن المئونة تخف إذا كان الملقح واحدًا، والنضور والجرين، وكذلك أموال التجارة، وتختلف أيضًا إذا كان الدكان واحدًا والميزان والبائع فأشبه الماشية. وقال النووي: والأصح ثبوتها -أي: الخلطة- جميعًا في الجميع أي: جميع الأموال لعموم الحديث: ((لا يفرق بين مجتمع)) وأضاف تعليلًا آخر لذلك هو: أن الخلطة إنما تثبت في الماشية للارتفاق، والارتفاق هنا موجود باتحاد
تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة.
الجرين؛ واتحاد الجرين هذا بالنسبة للحبوب والماء وجزاز النخل أيضًا بالنسبة للحبوب، والدكان إنما هو خاص بالنسبة للتجارة، والميزان خاص بالتجارة، والكيال والوزان والمتعهد، كل ذلك خاص بالحبوب وبين والتجارة. وقد اختار القول بتأثير الخلطة في جميع الأموال كثير من العلماء المعاصرين؛ ثم جعلوه أساسًا لمعاملة الشركات المساهمة ونحوها في حكم الزكاة وجبايتها، منها معاملة شخصية واحدة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - الزكاة في الحيوان تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن العمومية الشخصية في الزكاة، وبينا الفرق بين الشخص الطبيعي والشخص المعنوي. وقد رأينا الاختلافات الفقهية حول مسألة الخلطة، وهل لها تأثير في الزكاة أم لا؟ وقلنا إن الرأي الراجح في هذا هو الذي يقول بتأثير الخلطة في الزكاة، لكننا قد وجدنا رأيًا آخر وهو للأحناف. وأيضا كان من ضمن المسائل التي اختلف الفقهاء: هل تؤثر الخلطة في النصاب وقدر الواجب معًا، أما أنها تؤثر في قدر الواجب فقط؟ أقول ذكرنا آراء الفقهاء في هذه المسائل والأدلة التي استندوا إليها في تأييد أقوالهم، ورجحنا القول بأن للخلطة تأثير في الزكاة وتأثيرها يشمل خلطة الشركة وخلطة الجوار معًا، وأن الخلطة تؤثر في النصاب وقدر الواجب معًا، وأيضًا فإن للخلطة تأثير في جميع الأموال وليس الماشية فقط أي أنها لها تأثير في الزروع والثمار والدراهم والدنانير، وعلى هذا ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى تطبيق نظام الخلطة على الشركات المساهمة، حيث يرون معاملة الشركات المساهمة مثل معاملة رجل واحد فتربط الزكاة على مال الشركة المساهمة المجتمع مباشرة قياسًا على ثبوت الشركة في الماشية. فالزكاة تجب في مال الشركة لا في مال كل شريك على حدة، وبذلك لا يُعفى من الزكاة المساهم الذي يمتلك عددًا من الأسهم قيمتها أقل من نصاب الزكاة، بمعنى أن هذه الشركة لو كانت أسهمها تزيد على النصاب لكن المشتركين فيها لكل منهم أسهم لا تصل إلى النصاب بناءً على هذا التأثير في الخلطة فإن الزكاة تجب في مال الشركة على الرغم من أن كل واحد من المساهمين فيها لم يمتلك النصاب حتى تجب عليه الزكاة. ويذهب القول بتطبيق الزكاة أيضًا على أشخاص القانون العام ذات النشاط التجاري، فقلنا الشركات المساهمة إنما هي شركات ضمن أفراد القانون الخاص، ينظمها القانون الخاص بعض الفقهاء قال: ينبغي ألا يقتصر تأثير الخلطة في الزكاة على الشركات الخاصة فقط التي يمونها الأفراد، وإنما يذهب هذا البعض إلى القول بتطبيق الزكاة أيضًا على أشخاص القانون العام ذات النشاط التجاري، فكما تستطيع الدولة القيام بالأعمال التجارية فإنه يصح التزامها بالضرائب، وعلى هذا فالقول بوجوب الزكاة على الشركات المساهمة لا يقتصر على
الشركات باعتبارها من أشخاص القانون الخاص، بل يشمل بطريق القياس أشخاص القانون العام ذات النشاط التجاري، ويمكن أن يُرجع في ذلك إلى كتاب (محاسبة زكاة المال علمًا وعملًا) من ص 91 وما بعدها للدكتور شوقي إسماعيل شحاته الطبعة الأولى 1970 الناشر مكتبة الأنجلو المصرية. كذلك يمكن الرجوع أيضًا إلى كتاب (نظام الضرائب في الإسلام، ومدى تطبيقه في المملكة العربية السعودية) للدكتور عبد العزيز العلي الصالح ص 28 وما بعدها. والخلاصة: يتضح لنا لما سبق أن الخلطة لها تأثير في الزكاة بمعنى أن يُجعل مال الرجلين كمال رجل واحد، وأن تأثيرها لا يقتصر على المواشي فقط، ولكن يشمل جميع الأموال الخاضعة للزكاة، وهذا ما نختاره ونرجحه، ومن ثبوته هذا التأثير للخلطة في جميع الأموال للزكاة يظهر لنا وجود المكلف المعنوي في الزكاة إلى جانب المكلف الطبيعي فيها، وإذا عرفنا أن المكلف الطبيعي بالزكاة يتكون من المسلمين المالكين للمال الذين توافرت فيهم شروط وجوب الزكاة بلا تفرقة بين صغير وكبير، ولا بين عاقل ومجنون، فإن المكلف المعنوي يتكون من: 1 - أشخاص القانون الخاص الذين هم الخلطاء المشتركون في الخلطة في الأنعام وغيرها من سائر الأموال الزكوية، والذين يُعاملون في الإسلام طبقًا للرأي الراجح معاملة شخص واحد في الزكاة متى توافرت في أموالهم مجتمعة شروط وجوب الزكاة، وكذلك الشركات المساهمة التي استحدثت في التجارة والصناعة في العصر الحديث أيضًا تطبق عليها أو يطبق عليها نظام الخلطة، والتي تشكل أهم وأبرز صور الاستثمار، وتتميز بكثرة عدد المساهمين فيها، وبأن لها شخصية معنوية مستقلة.
2 - أشخاص القانون العام ذات النشاط التجاري كالمؤسسات التجارية التي تقيمها الدولة لتتولى الأعمال التجارية في الداخل والخارج، وبذلك نصل إلى أن المكلفين بالزكاة على نوعين: النوع الأول الأشخاص الطبيعية، النوع الثاني الأشخاص المعنوية، ونحن نرى أن إيجاب الزكاة على الشخص المعنوي أمر لازم، وذلك تماشيًا مع قاعدة "الغُنْم بالغُرْم" فهذا الشخص يتمتع بالانتفاع ببعض المرافق العامة في الدولة، والتي تتفق مع طبيعته وذلك كحماية الدولة له من أي اعتداء قد يقع عليه أو يتعرض له، ولا شك أن العدالة تقتضي أن كل تمتع بحق يقابله التزام بواجب وفقًا لقاعدة "الغُنْم بالغُرْم"، ومن ثم تجب على هذا الشخص الزكاة. وبالإضافة إلى ذلك فإن إيجاب الزكاة على الشخص المعنوي من شأنه أن يحقق العمومية الشخصية في الزكاة إلى أبعد الحدود، ففي هذا الإيجاب قد تصل الزكاة إلى أموال كانت لا تستطيع الوصول إليها في بعض الأحوال، لو لم تفرض على هذا الشخص المعنوي، وذلك كما إذا كان سهم كل واحد من المساهمين المكونين في الشخص المعنوي لا يبلغ على حدة النصاب الموجب للزكاة إلا أن السهم بانضمامه مع الأسهم الأخرى بلغ النصاب الموجب للزكاة، فتجب فيه الزكاة حينئذ. خلاصة القول في هذا أنه لولا العمل بالخلطة في هذه الشركات، بمعنى أنه يعامل أو أن تكون أموال الرجلين كأموال رجل واحد ما تمكنت الزكاة أن تصل إلى هذه الأموال؛ لأن هذه الأموال لو نظرنا إلى كل واحد نجد أنه لم يمتلك نصابًا، وبالتالي لا تجب عليه الزكاة، لكن عندما قمنا بضم هذه الأموال بعضها إلى البعض الآخر في شركات تمكنا في هذه الحالة من الوصول إلى الزكاة؛ لأنه بانضمام هذه الأسهم بعضها إلى بعض نصل إلى النصاب، وبالتالي تجب فيه الزكاة.
إذن معنى ذلك أننا عندما نفرض الزكاة على الأشخاص المعنوية أو الأشخاص الاعتبارية فهذا قد يؤدي بنا إلى أن نصل إلى فرض الزكاة في أموال لم تكن لتفرض عليها لو لم نأخذ بهذا النظام، وبإيجاب الزكاة على الأشخاص المعنوية سواء كانت عامة أم خاص، ومعنى كلمة عامة أن الدولة هي التي تدير هذه الشركات ومعنى خاصة يعني الأفراد هم الذين يديرون هذه الشركات، نقول وبإيجاب الزكاة على الأشخاص المعنوية سواء كانت عامة أم خاصة بجانب الأشخاص الطبيعيين نجد أن الزكاة قد امتدت لتشمل كل الأموال التي تصلح لأن تكون محلًا لها سواء كان مالكها شخصًا طبيعيًّا أم كان شخصًا معنويًا، ومعنى هذا أن العمومية الشخصية في الزكاة تكون قد تحققت إلى أقصى درجة ممكنة، وبهذا تتحقق المساواة الكاملة بين الأشخاص جميعًا طبيعيين ومعنويين في تحمل التكاليف العامة المالية التي من أهمها الزكاة والتي هي مقررة في الدولة على راعاياها. وبعد انتهائنا من الحديث عن العمومية الشخصية في الزكاة سواء كانت هذه العمومية تتعلق بالأشخاص الطبيعيين أو الأشخاص المعنويين أو الاعتباريين فإننا نقول إذا كانت العمومية الشخصية قد شملت كل الأشخاص طبيعيين ومعنويين القادرين إلا أنها قد تناولتهم باعتبار ما يملكون من أموال على اختلاف مصادرها، حيث أن التكليف متعلق بالمال نفسه، ومعنى ذلك أننا بعد ما تكلمنا عن العمومية الشخصية في الزكاة نتكلم الآن عن العمومية المادية في الزكاة. فإذن عندنا عمومية شخصية وقد تحدثنا عنها، وعندنا عمومية مادية، ونبدأ الآن في الحديث عنها: والعمومية المادية في الزكاة تعني أن تُفرض الزكاة على جميع الأموال التي تحققت فيها شروط وجوب الزكاة، لقد وردت فريضة الزكاة عامة في جميع الأموال كما يتضح من قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: من الآية: 103) ودلّ ذلك على أن الأصل في الزكاة أنها تجب في كل مال إلا إذا بينت السنة الشريفة غير ذلك أو يرد دليل شرعي على أن لا مال بعينه، أو أن مالًا بعينه لا تجب فيه الزكاة. ومصدر المال إما الكسب، أو ما يخرج من الأرض، ونتبين ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} (البقرة: من الآية: 267) وإذا كان القرآن الكريم قد أوجب الزكاة في كل مال إلا أن السنة الشريفة قد بينت أن هذه الفريضة تجب في الأموال الآتية: الأول أو النوع الأول: النعم، وهي الإبل والبقر والغنم. والنوع الثاني: هي المعشّرات وهي القوت الذي يجب فيه العشر أو نصف العشر. والنوع الثالث: هو النقض ويقصد به الذهب والفضة ولو غير مضروب. والنوع الرابع: عروض التجارة، ونوع الخامس زكاة الفطر. وهذه الأنواع الخامسة من المال عبارة عن ثمانية أصناف من أجناس المال هي "الذهب، والفضة، والإبل، والبقر، والغنم، والزروع، والنخل، والكرم" أي العنب، ولذلك وجبت الزكاة لثمانية أصناف من طبقات الناس، وقد دل على ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (التوبة: من الآية: 60) فهذه ثمانية أصناف تصرف إليهم أموال الزكاة كما أن الأموال التي تجب فيها الزكاة ثمانية كما ذكرنا.
الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته.
الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته ونبدأ بالنوع الأول وهو زكاة الحيوان: وزكاة الحيوان تجب في النعم أي الإبل، والبقر، والغنم الإنسية بالنص والإجماع، ومن هذه النصوص حديث أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما من صاحب إبل، ولا بقر، ولا غنم، لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأثمن، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأخفافها، فكلما تعدت أخراها عادت إليه أولها حتى يقضي بين الناس). وشروط زكاة الحيوان -أي المواشي- ستة: هي الإسلام، والحرية، والملك التام، والنصاب، والحول، والسوم، ويشترط في الحيوان الذي تجب في جنسه الزكاة أن يكون مملوكًا لمسلم بالإجماع، ومعنى ذلك أنه إذا كان مملوكًا لكافر فلا تجب فيه الزكاة؛ لأن من شروط صحة الزكاة الإسلام، وأيضًا أن يكون سائمًا، والسوم معناه أن يرعي لوحده أي بدون أن يكلف صاحبه مئونة المرعى، وأن يكون سائما مدة الحول عند جمهور الفقهاء، وذلك لأن الزكاة عبادة، وهي لا تصح من الكافر حالة كفره، ولأن السائمة لا مئونة فيها؛ لأنها ترعي في كلأ مباح، بخلاف المعلوفة في غير هذا الكلأ المباح؛ لأنها تحتاج إلى مئونة لطعامها وشرابها من مال صاحبها، وكذا الماشية العاملة. أي أنه من الشروط اللازمة حتى تجب الزكاة في الحيوان أن يكون سائمًا بمعنى أن يرعى بنفسه في كلأ مباح، فإذا كان صاحبه هو الذي يقوم بعلفه، فإنه في هذه الحالة لا تجب في الزكاة، وكذلك بالنسبة للماشية يعتبر ألا تكون عاملة يعني يستعملها الإنسان الذي يزرع الحقل أو المزارع في العمل في الزراعة، فإذا كانت عاملة يعني يستعملها في عمل الزراعة فلا تجب فيها الزكاة، وهذا عند جمهور الفقهاء لكنها حكي عن مالك في الماشية العاملة والمعلوفة الزكاة إذا بلغت نصابًا
استنادًا لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: في زكاة الإبل ((في كل خمس شاة)) وبهذا عمل أهل المدينة وليس عندهم أصل في ذلك. إذن معنى ذلك أنه لا يشترط حتى تجب الزكاة في الماشية أن تكون سائمة، ولا أن تكون غير معلوفة، فعنده في هذا القول -أي عند مالك- أن الزكاة تجب في الماشية حتى ولو كانت معلوفة، يعني يقوم صاحبها بعلفها، وحتى ولو كانت عاملة يعني يستعملها صاحبها في عمل الزراعة، والإمام مالك عندما أوجب الزكاة في العاملة والمعلوفة استند في ذلك -كما قلنا- إلى عموم الحديث الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة للإبل: ((في كل خمس شاة)) وعندما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((في كل خمسة شاة)) يعني في كل خمس من الإبل شاة، جاء الحديث عامًّا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفرق بين ما إذا كانت هذه معلوفة أو غير معلوفة، ولم يفرق بين ما إذا كانت هذه تعمل أو لا تعمل؛ لذلك الإمام مالك نظر إلى هذا العموم الوارد في الحديث، وأوجب الزكاة في الماشية حتى ولو كانت عاملة، حتى ولو كانت معلوفة. لكن للجمهور أدلة في اشتراط السوم لوجوب الزكاة، فالجمهور استدلوا على أنه يشترط السوم لوجوب الزكاة، والسوم -كما قلنا- أن ترعى الماشية في كلأ مباح، استدلوا على ذلك بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون)) فدل ذلك على أنه لا زكاة في غيره، فهم يقولون بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نص في هذا الحديث على السوم، فقال: ((في كل سائمة)) وبمفهوم المخالفة أن غير السائمة وهي المعلوفة لا تجب فيها الزكاة، فإذن استدل الجمهور على أنه يشترط السوم لوجوب الزكاة في الماشية استدلوا بهذا الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون)) فهذا حديث -كما قلنا- يدل بمفهوم المخالفة على أن التي تُعلف لا زكاة فيها.
واستدلوا أيضًا بما روي أن أبا بكر -رضي الله عنه- لما كتب كتاب الصدقة الواجبة إلى عماله كتبه وفيه: "صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها صدقة" يعني كأن سيدنا أبا بكر يبين أن الزكاة في الغنم إنما تجب إذا بلغت أربعين، لكن اشترط أن تكون سائمة عندما قال: "صدقة الغنم في سائمتها" فهنا نص سيدنا أبو بكر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- نص على السوم أيضًا، بالمفهوم أيضًا لا تجب الزكاة في المعلوفة. وقالوا أيضًا أن العوامل -يعني الماشية التي تعمل- والمعلوفة من المواشي لا تُقتنى للنماء، وإنما لمصلحة الإنسان وضرورته، فصارت كثياب البدن وآساس الدار التي لا زكاة فيها بلا خلاف بين الفقهاء، أيضًا جمهور الفقهاء يقولون لابد وأن يُشترط السوم استدلوا على ذلك بأن العوامل والمعلوفة من المواشي لا تقتنى للنماء يعني الذي يقتنيها في الغالب أنه يقتنيها من أجل مصلحته وحاجته الضرورية، والزكاة إنما تجب في الأصل في المال النامي، لكن هذه لا تتخذ بالنماء، وبالتالي أصبحت شبه ثياب البدن يعني الثوب الذي يلبسه الإنسان هذا من ضرورياته، وبالتالي فلا يجب فيه الزكاة. ولا تجب الزكاة فيما سوى ذلك من المواشي، نحن قلنا المواشي التي تجب فيها هي الإبل والبقر والغنم، هل تجب في أنواع أخرى غير هذه الأنواع الثلاثة؟ لا تجب الزكاة فيما سوى ذلك من المواشي كالخيل والبغال والحمير لحديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) فهذا نص على أن الزكاة لا تجب في العبد ولا في الفرس، معنى ذلك أنها لا تجب إلا في هذه الأنواع التي نص عليها في الحديث، وهي الإبل، والبقر، والغنم. كما لا تجب فيما تولد بين حيوان أهلي وحيوان وحشي، ولا فيما لا يملكه المسلم ملكًا تامًّا، ولا فيما يحول عليه الحول، لما رُوي عن أبي بكر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-
وهو مذهب علماء المدينة، وأهل الأمصار، ولأنه لا يتكامل نماء هذا غالبًا قول الحول، فإذن لابد من مرور الحول، لماذا اشترطوا الحول حتى تجب الزكاة في هذه الحيوانات؟ قالوا لأن مرور الحول هذا دليل على النماء، يعني الغالب أنه يحصل النماء في أثناء سنة كاملة، أما قبل السنة فالغالب أنه لا يحدث نماء؛ لذلك جعلوا الحول واشترطوا الحول، والبقر يتناول البقر الوحشي، والغنم يشمل الضأن والمعز أيضًا. وقد اشترط الحنفية السوم كالجمهور، ولكنهم لم يشترطوا السوم كل الحول، وإنما أغلب الحول فقط، وهو ما يزيد على النصف، ولهذا لو علفها نصف الحول لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها لا تعد سائمة. وفي اشتراط الحول -أي تمام الحول- حديث أبي داود بسنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)) المال لا يتكامل نماؤه غالبًا -كما قلنا- إلا بعد تمام الحول، وفي اشتراط السوم كل الحول للجمهور عموم خبر أنس -رضي الله عنه-: "وفي صدقة الغنم في سائمتها الزكاة" وخبر أبي داود وغيره: "في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون" وهو صحيح الإسناد كما قال الحاكم وحكاه الخطيب. إذن السوم -كما قلنا- اشتراطه جمهور الفقهاء ماعدا المالكية في قوله، وإن كان جمهور الفقهاء قد اتفقوا على أنه يُشترط في الحيوان حتى تجب فيه الزكاة أن يكون سائمًا يعني في كلأ مباح لا يكلف صاحبه مئونة الأكل والشرب، إذا كانوا قد اتفقوا على ذلك إلا أنهم اختلفوا: هل يشترط أن يكون السوم طوال العام، أم أنه يكفي أكثر العام؟ الأحناف قالوا يكفي أكثر من النصف يعني معظم العام النصف فأكثر، ففي هذه الحالة يشترطون أو لا يشترطون أن يكون السوم في كل الحول، لكن جمهور الفقهاء قالوا لابد وأن يكون السوم في كل الحول.
ونأتي الآن إلى نصاب الزكاة في الإبل، أول نصاب الإبل خمس بالإجماع، فلا تجب الزكاة فيها إلا إذا بلغت خمسة سائمة لمدة عام كامل عند جمهور الفقهاء، وذلك لحديث الصحيحين: ((ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)) الذود نوع من الإبل، فهذا الحديث يقول إنه إذا لم تصل إلى خمس من الإبل فلا صدقة فيها، ليس فيما دون خمس زود من الإبل صدقة، فِإذا بلغت الإبل خمسًا هنا يبلغ النصاب، لكن هل نُخرج الزكاة من جنس الإبل أو لا؟ هنا نقول: إذا بلغت الإبل خمسًا وجب فيها الزكاة، والواجب شاة من الضأن، وهو من غير جنس المال، وذلك على خلاف الأصل. الأصل أن الزكاة تخرج من جنس المال، لكن جاء هنا بين الفقهاء أن الإبل إذا بلغت خمسًا فهنا بلغت نصابًا أي أنه تجب فيه الزكاة، لكن المقدار الواجب إخراجه ليس من جنسها، وإنما نخرج شاة عن هذه الخمس من الإبل، وهذا كما قلنا خلاف الأصل، لماذا إنما كان على خلاف الأصل للرفق بصاحب المال والفقير معًا؛ لأن الأصل أن زكاة المال تخرج المال أي تخرج من المال ولو خرج الواجب هنا من جنس المال فإن كان بعيرًا كاملًا تضرر المالك؛ لأنه كثير، وإن أوجبنا جزء البعير فقط تضرر به الفقراء، بل وصاحب المال أيضًا لعجزه عن تسليمه الجزء لهم بدون الكل إلا بذبحه، وهذا ضرر بالنسبة له، وقد ينقص هذا من قيمته، وقد يكون الفقراء في غير حاجة إلى اللحم، بل هم في حاجة إلى الخبز أو اللبس مثلًا، ولا يجدون من يشتري اللحم منهم، فلذلك أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أي أمر بأن نخرج شاة بدل أن نخرج واحدة من الإبل؛ لأن قيمة الشاة كما قلنا أقل بكثير من قيمة الواحدة من الإبل، ولذلك -كما قلنا- إن وجب فيها شاة؛ لأن في ذلك تحقيق لمصلحة الطرفين. مصلحة الفقير حتى لا يحرم من الزكاة في هذا المقدار من المال، وأيضًا مصلحة صاحب المال؛ لأننا لو أوجبنا عليه واحدة من الأربعة من الإبل، لو أوجبنا عليه
واحدة من الإبل من هذه الخمسة فإن ذلك سوف يترتب عليه ضرر بالنسبة له؛ لذلك -كما قلنا- كانت هناك موازنة بين الفقير من ناحية أو بين الفقراء من ناحية وبين صاحب المال من ناحية أخرى، كما قلنا أمر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- أي أمر أن نخرج عن الخمسة من الإبل شاة، وصار عليه الخلفاء الراشدون والمسلمون من بعده. فقد روى البخاري بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن أبا بكر -رضي الله عنه- كتب لما وجهه إلى البحرين عاملًا على الزكاة قائلًا: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتي أمر بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم، في كل خمسة شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض -وبنت المخاض من الإبل هي التي لها سنة، ودخلت في الثانية، وسميت بذلك؛ لأن أمها بعد سنة من ولدتها آن لها أن تحمل مرة أخرى، فتصير بذلك الحمل من ذوات المخاض أو الحوامل- ففيها بنت مخاض أنثى فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى -وابن اللبون هو من له سنتان من الإبل، ودخل في الثالثة؛ لأن أمه آن لها أن تلد فتصير لبونًا أي ذات لبن- فإذا بلغت وستًّا وأربعين إلى ستين ففيها حقة -والحقة من الإبل هي من لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، وسميت بذلك؛ لأنها استحقت أن يتركها الفحل، وفي الذكر استحق أن يكون طروقًا، أو لأنها استحقت أن تركب ويحمل عليها- فإذا بلغت ستًّا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة -والجذعة من الإبل من لها أربع سنين وطعنت أي دخلت في الخامسة، سميت بذلك؛ لأنها أجذعت مقدم أسنانها أي أسقطتها، وقيل لتكامل أسنانها- فإذا بلغت ستًّا وسبعين إلى تسعين
ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقة الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة أو حِقة". والشاه الواجبة فيما دون خمس وعشرين من الإبل إما جذعة ضأن، وهي التي أجذعت مقدم أسناها أي أتمتها أو أسقطتها، سواء بلغت سنة أو أقل منها، وإن كان الصحيح أنها التي بلغت سنة أو أقل منها بما لا يصل إلى ستة أشهر، ويُجزِئ عن جذعة الضأن أو عن جذعة الضأن ثنية المعز وهي التي لها سنتان على الصحيح وقيل سنة. والمخرج أي الذي يخرج الزكاة مخير في الإخراج من الشياه بين جذعة الضأن أو ثنية المعز على الأصح؛ لأن الشاة تطلق عليهما معًا، ويُشترط في المخرج -يعني الشاة- أو غيرها من الأشياء التي نخرجها كزكاة يشترط فيها أو يشترط في المخرج كونه صحيحًا، وإن كان المخرج عنه مريضًا إذا تمكن من الحصول على هذا الصحيح، يعني إذا كانت الأموال حتى ولو كانت مريضة ينبغي عليه أن يخرج الصحيح إذا تمكن من ذلك، فإن عجز عن الصحيح وجب إخراج قيمة الصحيح من النقود الصحيحة الغالبة في تعامل أهل الصدقات أو أصحاب الأموال المزكّى عنها مع مراعاة الأغبط لهما معًا، ومن لزمه في الزكاة إخراج بنت مخاض من الإبل فعدمها وعنده بنت لبون دفعها للزكاة وأخذ شاتين أو عشرين درهمًا من الفضة، أو قيمة أحدهما إن تساويًا مع مراعاة أن يكون الخيار للدافع، سواء كان المالك أو عامل الزكاة. أما نصاب زكاة البقر فأول نصاب زكاة البقر ثلاثون بقرة، قلنا أول نصاب زكاة الإبل خمس من الإبل، لكن زكاة البقر أول نصاب زكاة البقر ثلاثون بقرة، وفيه
تبيع من البقر وهو من له سنة ودخل في الثانية، وفي كل أربعين مسنة من البقر، وهي التي لها سنتان ودخلت في الثالثة، وهكذا تحسب الزيادة على هذا الأساس، ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة مهما بلغ العدد، وذلك لحديث معاذ: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يأخذ من أهل اليمن من كل حالم دينارًا، ومن البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة)). وأول نصاب الغنم أربعون وفيه شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة ثلاثة شياة، ثم في كل مائة شاة، وذلك لما روي عن أنس -رضي الله عنه- في كتاب أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- له في الصدقة الواجبة في الغنم: "إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة ومائة شاة يعني إذا كانت أربعين إلى مائة وعشرين ومائة- شاة -أي فيها شاة- فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة". وكنا تحدثنا عن الخُلطة أو زكاة الخلطة ومدى تأثيرها في الزكاة قبل ذلك عندما كنا نتحدث عن العمومية الشخصية بالنسبة للزكاة، وهنا يأتي الكلام في زكاة الشركة والخلطة في المشي، فالمال المشترك من الماشية يعني المشترك بين اثنين، المال المشترك من الماشية يجب فيه الزكاة إذا بلغ نصابًا، سواء كانت الشركة على الشيوع أو كانت على الاختلاط عند جمهور الفقهاء، وبشرط وحدة المسرح، والمراح، والمشرب، والمحلب، والفحل، والراعي، ومرور عام كامل على الشركة، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين، وإن اختلف فقهاء المذاهب فيما بينهم في بعض هذه الشروط فبينما قال بعض أصحاب مالك: لا يعتبر في الخلطة إلا شرطان: الراعي والمرعى، يقول الشافعية والحنابلة: يشترط فيها المسرح والمراح والمشرب والفحل والراعي والمحلب حولًا كاملًا، فيزكى عنه زكاة رجل واحد.
وقال أبو حنيفة: لا تأثير للخلطة في الزكاة، حيث يراعى النصاب لكل واحد من الشركاء منفردًا، فإن بلغ النصاب في ماله وحده وجب فيه الزكاة، وإن لم يبلغ نصابًا لا يجب فيه الزكاة، وعليه لو اشترك -يعني بناء على ذلك- لو اشترك اثنان شركة خلطة في الغنم مثلًا، عددها بلغ النصاب أربعين لكل واحد منهم عشرين أو أقل أو أزيد فلا زكاة على واحدة منهم؛ لأنه لم يملك نصابًا كاملًا وحده، وإن ملك معًا ثمانين لكل واحد منهم أربعين وجب على كل واحد منهم شاة؛ لأنه ملك نصاب مستقلًا، وعليه يجب في الثمانين شاتين. هذا مذهب من؟ هذا على مذهب أبي حنيفة؛ لأننا ذكرنا قبل ذلك أن الإمام أبي حنيفة يرى أنه لا تأثير للخلطة في الزكاة، ولذلك -كما قلنا- هو يرى أنه لو كانت خلطة بين شخصين في الغنم مثلا على سبيل المثال، وكان لكل واحد منهم عشرون شاة، وكان المجموع أربعين فعنده لا تجب الزكاة في هذا المعز، لماذا؟ لأن مال كل واحد على انفراد لم يصل إلى نصاب الزكاة، وبالتالي لا تجب فيه الزكاة، ولذلك كما قلنا يعني الإمام أبي حنيفة يرى أنه لا تأثير للخلطة في الزكاة، لا في قدر الواجب ولا في النصاب، وكل واحد منهم -أي من الخليطين- يزكي ماله على حدة إن بلغ نصابا، فإن لم يبلغ نصابًا فلا زكاة فيه حتى ولو بلغ نصابا بضمه إلى مال الآخر، لكن -كما قلنا- مذهب جمهور الفقهاء يجيبون الزكاة في حالة ما إذا كان لكل واحد منهم عشرون، وأضيف كل منهما للآخر بحيث بلغت أربعين لماذا؟ لأنهم -كما قلنا- يرون أن للخلطة تأثيرًا في الزكاة، والراجح هو مذهب جمهور الفقهاء. فحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يُجمع بين متفرق، ولا يُفرق بين مجتمع خشية صدقة)) ويُشترط في الخلطة عند الجمهور أن يكون الخليطان من أهل الزكاة مع تحقق الشروط السابق ذكرها من قبل بالنسبة للمسرح، والمرعى، والمشرب، والراعي
وغير ذلك، فإن كان أحد الخليطين غير مسلم لم يعتدّ بخلطته، ولا تأثير لها في النصاب حيث يُراعى ما يملكه المسلم فقط، فإن بلغ نصابًا زكّي حسبما سبق بيانه في نصاب كل نوع وإلا فلا. النصاب وحولان الحول في زكاة النعم: ثبت من المروي من الأحاديث أن للنعم نصابًا كما قلنا، فلا زكاة فيها دون الخمس من الإبل، ولا زكاة فيها دون أربعين من الغنم، ولا فيما دون ثلاثين من البقر والجاموس وغيرها سواء، وأن ما بين الحدود عفو لا تحتسب فيه زكاة، فما بين الثلاثين والأربعين من البقر عفو، يعني لا تجب فيه زكاة، معنى ذلك أنه إذا امتلك مثلًا من البقر ثلاثين -كما قلنا- وجبت عليه الزكاة يخرج تَبِيعًا، فإذا كان بدلا من الثلاثين تسعة وثلاثين أيضًا يخرج تبيعا أيضًا. فإذن ما زاد من الثلاثين حتى قبل الأربعين عفو، يعني لا تكون عليه زكاة، فما بين الثلاثين والأربعين من البقر عفو، وما بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين عفو، وقد ورد النص بذلك. ولا شك أن هذه التقديرات إذا قدرت في عصرنا بالنقود تكون مقاديرها كبيرة، وأن الأحاديث تشير إلى أن قيمتها دون ذلك في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدر بدل الشاتين بعشرين درهمًا، وهذا يقتضي أن تكون قيمة الشاة عشرة دراهم، وبذلك تكون قيمة الأربعين شاة في الجملة نحو أربعمائة درهم، فإذا أردنا تطبيق الزكاة في عصرنا ننظر إلى المقادير التي حددها النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير خروج عليه، ثم ننظر إلى قيمتها في عصرنا، يعني ننظر إلى أربعمائة درهم كما تساوي بالجنية المصري أو بالريال السعودي أو كذا؟ فإذا وصلت قيمة هذه الأشياء نصابًا ففي هذه الحالة تخرج الزكاة. وأبو حنيفة من بين فقهاء الجمهور أجاز دفع الزكاة بقيمتها، يعني عندما نقول: نقدر أو ننظر إلى هذه القيمة التي حددها النبي -صلى الله عليه وسلم- والتي بينت أن قيمة الأربعين
شاة في الجملة نحو أربعمائة درهم، ثم ننظر كم تساوي هذه الأربعمائة درهم بالأموال التي نستعملها الآن بالجنية المصري أو الريال السعودي على سبيل المثال، فإذا بلغت قيمة الشياه هذه وصلت إلى النصاب خرجت الزكاة. هذا طبعًا على رأي الإمام أبي حنيفة، الإمام أبو حنيفة يقول: يجوز إخراج القيمة في الزكاة، لكن طبعًا جمهور الفقهاء منعوا ذلك، وقالوا لابد وأن تخرج الزكاة من جنس المال الذي وجبت فيه، نقول وأبو حنيفة من بين فقهاء الجمهور أجاز دفع الزكاة بقيمتها، ونكون منفذّين بتقدير النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن قيمة المال تحل محله، إنه بلا ريب يكون أخذ القيمة متفقًا مع روح العصر، ومقربًا بين أرباب الأموال، وقد كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم. فإذا كان قد فات دفع الأموال بأعيانها فإنه لا يفوتنا إعطاء الفقير مقاديرها، ولا يفوتنا أيضًا التقريب بين رءوس الأموال، وهو الأمر الذي كان ملاحظًا في تقديرات النبي -صلى الله عليه وسلم- وهنا نلاحظ عدة أمور: أولها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدَّر قيمة الشاة بعشرة دراهم، وبذلك يكون نصاب الزكاة يصل قيمته في الجملة إلى أربعمائة درهم، وأن في كل أربعين شاة شاة واحدة، أي أن مقدار الزكاة يساوي ربع العشر، أي اثنين ونصف في المائة. ثانيا- أنه يجب ان نفرض أن قيمة خمس من الإبل هو أربعمائة درهم، إلا أن زكاتها هي شاة، أي أن مقدارها عشرة دراهم، فيكون مقدارها أيضًا 2.5%. ثالثها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدر نصاب الفضة بمائتي درهم، وبذلك يكون ثمة تفاوت من حيث القيمة بين نصاب الغنم ونصاب النقود، وفوق ذلك فإنه لا يوجد ما يوجب تساوي النصاب أو قيمته في كل الأشياء، قلنا ثمة تفاوت من حيث القيمة بين نصاب الغنم ونصاب النقود، إلا أنه في نصاب الغنم -كما قلنا- أربعمائة درهم، وفي
تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته.
نصاب النقود مائتي درهم، نقول: هناك تفاوت إذن في القيمة، لكن لا يوجد ما يوجب تساوي النصاب أو قيمته في كل الأشياء. ولعل الحكمة في تقليل النصاب وهو الحد الأدنى للغنى بالنسبة للنقود أنها في أكثر أحوالها ثمرة ونماء لموارد أخرى، وإن كانت هي ذاتها صالحة لأن تكون طريقًا لموارد وراءها، أما الغنم فإنها ذاتها هي المورد وفيها النماء، وعروض التجارة فيها نماء أوضح من نماء النعم. ونكتفي بهذا القدر من المحاضرة، ونكمل -إن شاء الله- في المحاضرة القادمة، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 4 - الزكاة في النقدين والحلي تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن الزكاة في الحيوان، ونقصد به الإبل والبقر والغنم، وبينّا نصاب الزكاة في كل نوع منها، ومقدار ما يخرج من هذا النصاب، وما زلنا نتحدث عن الزكاة في الحيوان، فنقول: كان هناك ثمة تفاوت من حيث القيمة بين نصاب الغنم ونصاب النقود، فقد تبين لنا أن نصاب الغنم بعدما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قيمة الشاة هي عشرة دراهم، أصبح قيمة النصاب من الغنم وهي أربعون تساوي أربعمائة درهم، هذا نصاب الغنم. أما نصاب النقود فقلنا بالفضة مائتي درهم، إذن نصاب الغنم أكبر من نصاب النقود، نصاب الغنم أربعمائة درهم، ونصاب النقود إنما هو مائة درهم، وهنا يُثار التساؤل: لماذا هذه التفرقة؟ نقول: لا يوجد ما يوجِب تساوي النصاب أو قيمته في كل الأشياء، ولعل الحكمة في تقليل النصاب وهو الحد الأدنى للغنى بالنسبة للنقود أنها في أكثر أحوالها ثمرة ونماء لموارد أخرى، وإن كانت هي ذاتها صالحة لأن تكون طريقًا لموارد وراءها. أما النعم فإنها ذاتها هي المورد وفيها النماء، وعروض التجارة فيها نماء أوضح من نماء النعم، ومن نماء النعم ما يدخل في الحاجات الأصلية كلبنها وبعض لحومها، ولذلك كان النصاب فيها أكبر من غيرها، أي الصنف من النقود، وكان ما بين الحدود في المقادير موضع عفو. خلاصة القول في هذا التفرقة بين نصاب النقود ونصاب الغنم على سبيل المثال أن النعم هذه ومنها الغنم هي نماء يدخل في الحاجات الأصلية كأن الإنسان في حاجة إلى بعض منافعها، ولذلك روعي أو رعيت حالة المكلف في هذه الحالة، لكن النقود الحقيقة هي نماء لموارد أخرى، ولذلك ليس هناك ما يمنع أن تفرض عليها الزكاة عند مائتي درهم. وحولان الحول شرط لوجوب زكاة النعم كما قلنا، فإذا حال الحول وقد نقص النصاب فإن الزكاة لا تجب، بمعنى أن الإنسان لو امتلك في أول السنة أربعين من الغنم، نقول اكتمل النصاب، هل يجب عليه أن يخرج الزكاة الآن عندما ملك الأربعين من الغنم أي النصاب؟ نقول: لا، بل لابد من مرور حول كامل على ملكه لهذا النصاب، فإذا لم يمر هذا الحول الكامل، وبعد ستة أشهر على سبيل المثال من ملكه لهذا النصاب لم يوجد أو قل هذا النصاب واستمر قليلًا إلى نهاية العام، هل تؤخذ منه زكاة؟ لا تأخذ منه زكاة؛ لأن الشرط أن يمتلك النصاب، وأن يحول الحول على ملكه لهذا النصاب، فإذا حال الحول وقد نقص النصاب فإن الزكاة لا تجب، وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)).
وإذا نقص مال الزكاة في أثناء الحول عن النصاب، وقد يبلغه في أوله ويبلغه في آخره، يعني أن النصاب كان موجودًا في بداية الحول، لكن لم يبلغ النصاب في وسط الحول، لكنه بلغه في نهاية الحول ماذا نفعل في هذه الحالة؟ نقول: إذا نقص مال الزكاة في أثناء الحول عن النصاب وقد يبلغه في أوله ويبلغه في آخره، نقول عند أبي حنيفة والشافعية لا زكاة، وعند المالكية العبرة بكماله في أول الحول وآخره، ولا عبرة في نقصه في أثنائه، ولكنه إذا فُقد كله ابتدأ النصاب من جديد. نقول: خلاصة القول في هذا أنه إذا وجد المال أو النصاب في أول الحول، لكنه نقص في وسط الحول، ثم اكتمل في نهاية الحول، ماذا نفعل؟ رأي الفقهاء في هذا: الإمام أبا حنيفة والشافعية يقولون لا زكاة، وكأنهم يشترطون أن يستمر النصاب طوال الحول كاملًا، فإذا نقص في أثناء الحول قالوا لا تجب الزكاة؛ لأنهم يشترطون أن يستمر النصاب كاملًا مدة الحول، فإذا نقص في أي جزء من أجزاء الحول لا تجب فيه الزكاة، لكن عند المالكية لم يأخذوا بهذا، وقالوا الذي يهمنا في هذا إنما هو كمال النصاب في أول الحول وفي آخر الحول، ولا عبرة بنقصه في أثنائه، كأن المالكية خالفوا الأحناف والشافعية في هذا. قلنا إن الأحناف والشافعية يقولون بأنه إذا نقص النصاب في أثناء الحول، لكنه اكتمل في آخره يقولون لا تجب الزكاة، لماذا؟ قالوا: لأنه يشترط عندهم أن يستمر النصاب كاملًا في مدة الحول كلها، لكن المالكية قالوا بأن الذي يهمنا هو وجود النصاب في أول الحول وفي آخر الحول، ولا يهمنا النقص الذي حدث في أثناء الحول، وبناءً على ذلك فإن الزكاة تجب عند المالكية، ولكن إذا نمت النعم في أثناء الحول، يعني زادت في أثناء الحول بأن ولدت أتؤخذ منها الزكاة بمعنى أن تؤخذ الزكاة من أصل النصاب ونمائه من غير نظر إلى كون النماء قد حال عليه الحول أو لم يحل
عليه الحول، أم أن الزكاة تؤخذ مما حال عليه الحول ولا يؤخذ شيء من النماء حتى يحول عليه الحول؟ افتراض افترضه الفقهاء في هذه المسألة، وهو أنه نفترض على سبيل المثال أنه في أول الحول امتلك الإنسان أربعين من الغنم، فهنا امتلك النصاب، وفي أثناء الحول زاد نماؤه أو نمت هذه الأغنام حتى زاد النصاب عن ذلك، فالفقهاء يقولون الزيادة هذه التي حدثت، ولنفترض في نصف سنة هل النماء هذا، أو الزيادة التي حدثت على النصاب يكون حولها حول الأصل أم أنه يكون لها حول مستقل من وقت وجودها، هذه الزيادة التي حدثت في أثناء الحول على النصاب، هل تكون لها بداية سنة مستقلة أم أنها تضاف إلى سنة الأصل وتكون زكاتها زكاة الأصل؟ هذه مسألة اختلف فيها الفقهاء. أولًا- اتفق الفقهاء على أن النماء إذا لم يبْقَ في ملك من وجبت عليه الزكاة إلى نهاية الحول بأن باعه أو ذبحه قبل أن يحول عليه الحول -فإنه لا زكاة فيه، وإذا لم يكن ذلك فقد اختلف الفقهاء على ثلاثة أقوال، يعني إذا لم يكن قد تخلص منه لكنه موجود، فهل -كما قلنا- هذا النماء، وهذه الزيادة هل تأخذ حكم حول الأصل، وزكاتها تكون زكاة الأصل بالنسبة للحول، أم أننا نبتدئ بهذه الزيادة حولًا مستقلًّا ويكون لها حول مستقل عن حول الأصل؟ أقول: اختلف الفقهاء في ذلك: فذهب الشافعية إلى أنه لا تؤخذ زكاة إلا على ما حال عليه الحول منها، وما زاد في أثناء العام يُنتظر حتى يحول الحول بالنسبة له؛ لأن شرط الزكاة حولان الحول وهو لم يتحقق فيها، وأَخْذ زكاتها فيها تكون فيه مخالفة للنص؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفى وجوب الزكاة حتى يحول الحول، فإذا أخذت منها كان ذلك فرضًا من غير دليل، بل إنه منافٍ لنص الحديث.
خلاصة قول الشافعية في هذا أنهم يقولون أن للأصل حوله، وأن للزيادة أو النماء حوله المستقل، بمعنى أننا عندما ينتهي الحول بالنسبة للأصل نأخذ منه الزكاة ونوزعها، لكننا لا نأخذ من هذا النماء حتى يحول حول على هذا النماء، كأنهم يجعلون للأصل حول، وللنماء حول مستقل؛ لأننا لو أخذنا من هذا النماء زكاة عند حلول الأصل معنى ذلك أن هذا النماء لم يمر عليه سنة كاملة، وبذلك نكون قد خالفنا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يفيد أنه لا تؤخذ الزكاة إلا إذا مر الحول الكامل. أقول: الشافعية يقولون أنه لا تؤخذ الزكاة إلا على ما حال عليه الحول منها، أي من هذه الأغنام أو النعم، وما زاد في أثناء العام يُنتظر أي أنه لا يُزكّى مع أصله، وإنما يُنتظر حتى يحول الحول بالنسبة له، ووجهة نظرهم في هذا أو دليلهم في هذا أن شرط الزكاة حولان الحول، وهو لم يتحقق بالنسبة لهذا النماء أو هذه الزيادة، ولذلك أخذ زكاة من هذه الزيادة تكون فيه مخالفة للنص، يعني إذا أخذنا منها الزكاة عند تمام حول الأصل فكأننا أخذنا منها قبل أن يمر عليها الحول، وفي ذلك مخالفة للنص؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفى وجوب الزكاة حتى يحول الحول. الثاني: ذهب البعض مثل الحنابلة والمالكية إلى أنه تجب فيه الزكاة لماذا؟ إذن المالكية والحنابلة يقولون بأن الزكاة تجب في هذا النماء أو هذه الزيادة، وكأنهم يجعلون حول هذه الزيادة هو حول الأصل، فإذا أخذنا أو إذا حال الحول على الأصل أخذنا منه الزكاة، وأخذنا أيضًا من النماء الذي حدث في أثناء الحول أو الزيادة التي حدثت في أثناء الحول، ووجهة نظرهم في هذا أنه من جنسه، يعني الزيادة من جنس الأصل، فتكون تابعة للأصل، ويضم إلى عقده، ويعتبر حوله بحول
الأصل، ولأنه يشبه النماء المتصل كالسمن ونحوه، وعلى ذلك تكون الزكاة في الزيادة والأصل معًا هذا عند المالكية وعند الحنابلة، عندهم تضاف الزيادة والنماء للأصل، ويُزكى أو تُزكى هذا النماء أو هذه الزيادة تزكي مع حول الأصل، وكما قلنا أنهم استندوا في ذلك إلى أن في هذه الزيادة إنما هي من جنس الأصل، فتكون تابعة له، وتأخذ حكمه، ويعتبر حول الزيادة بحول الأصل. قول ثالث وهو لأبي حنيفة وبعض فقهاء العراق، فرّقوا في هذا، قالوا: إن بقي الكبار أو بعضهن ولو واحدة وجبت الزكاة فيها، وإن لم يبق من الكبار التي حال عليها الحول واحدة لا تجب فيه الزكاة، يعني إذن الرأي الثالث وهو رأي الإمام أبي حنيفة يقول: ننظر إلى الأصل، إن بقي الأصل أو بقي منه حتى واحدة ففي هذه الحالة يُزكى النماء مع الأصل، لكن نفرض أن هذا الأصل لم يعد موجودًا عند حلول الحول، أو لم يعد منه شيء ففي هذه الحالة قال: نبتدئ حولًا جديدًا بالنسبة لهذا النماء. والأصل الذي قام عليه ذلك الرأي أنه إذا خرج من ملكيته الكبار جميعًا، يعني الأصول التي ولدت هذه الزيادة أنه إذا خرج من ملكيته الكبار جميعًا فمعنى أن النصاب الأصلي قد فقد في أثناء العام، وإذا فقد الأصل فلا عبرة بالتابع، وما وجبت الزكاة في النِّتاج إلا بالتبعية للأصل، وما دام المتبوع موجودًا بأي صورة من الصور فإن الزكاة تجب في الجميع، وإذا ذهب المتبوع مُحي معنى التبعية ووجب وجود الزكاة في النتاج على أساس أنه أصل قائم بذاته، يعني معنى ذلك يكون لها حول جديد، هذا مما قاله الفقهاء بالنسبة لهذه المسألة، وهي مسألة النتاج الذي يحدث في أثناء الحول هل يُزكى زكاة الأصل، ويأخذ حكم الأصل في زكاته، ويكون حوله حول الأصل؟ قلنا: اختلف في ذلك جمهور الفقهاء، فبعضهم قال مثل الشافعية أن للأصل حوله مستقلًا، وللتبع أو الناتج أو النماء حول مستقل بذاته حتى لا نخالف بذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أما الحنابلة والمالكية فيقولون بأن النماء أو الزيادة التي حدثت في أثناء الحول إنما تُضاف إلى الأصل، وتُزكّى بحول الأصل، لماذا؟ قالوا: لأنه أو هذه الزيادة إنما هي من جنس الأصل، فتكون تابعة له، وتكون زكاتها بحوله تمامًا، يعني حول الأصل يكون حول النتاج. أما بالنسبة للرأي الثالث وهو رأي الإمام أبي حنيفة فله رأي في هذا يقول: إذا وجدنا أو إذا بقي الأصل أي الأمهات التي ولدت هذا النتاج، إذا بقيت إلى الحول أي إلى حولها ولو واحدة منها فقط في هذه الحالة يضم النتاج إلى الأصل، ويكون حول الأصل هو حول النتاج، وتخرج الزكاة عن الأصل وعن النماء أي عن الزيادة، أما إذا لم يوجد منه حتى ولو واحدة، قال: في هذا لا تكون هناك صلة بين النماء وبين الأصل، وبالتالي لا تُزكى الزيادة بحول الأصل، وإنما يكون لها حولًا مستقلًا.
ومما له صلة بهذا الموضوع صورة يذكرها الفقهاء وهي الحال التي لا يكون فيها العدد مكملًا للنصاب في أول الحول، ثم يكمل بالإنتاج في أثنائه، أفيحتسب الحول من أول العام، أو من وقت تمام النصاب بالنتاج؟ يعني نفرض أن إنسانًا كان عنده في أول السنة ثلاثين من الغنم، ثم بعد فترة في أثناء الحول وصل العدد إلى النصاب، هو امتلك في أول الحول ثلاثين من الغنم، يعني لم يمتلك النصاب كاملا، لكن بعد فترة امتلك النصاب كاملا، هل النصاب يحسب من أول ما ملك الثلاثين، أم أنه يُحسب أم أنه يحسب من الوقت الذي تم فيه النصاب؟ أقول: قال الجمهور الفقهاء: إن ابتداء الحول يكون من ابتداء كمال النصاب ولذلك لأن الحول لم يحل على نصاب كامل، ولأن حولان الحول في التجارة والنقود يبتدئ من وقت كمال النصاب، ولا عبرة بالوقت قبله، ولأن حولان الحول من أجل إثبات الغنى، ولأجل وجود النماء الذي هو شرط الزكاة؛ ولأن السبب في الوجوب هو النصاب، فإذا فُرضت الزكاة قبل كماله فمؤدى ذلك وجود المسبب قبل وجود السبب، وعلى ذلك يكون ابتداء الحول من وقت كمال النصاب. هذا ما قاله الفقهاء بالنسبة لموضوع هل يحسب الحول من عند اكتمال النصاب أو من عند ملكه لأصل المال؟ كما قلنا يقول في هذا جمهور الفقهاء يقولون: بأن النصاب أو أن الحول لا يُحتسب إلا من وقت النصاب، وقد ذكر عن الأدلة التي تدل على ذلك.
الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها.
الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها.
الزكاة في الذهب والفضة.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها) 1 - الزكاة في النقدين والحلي الزكاة في الذهب والفضة ننتقل بعد ذلك إلى زكاة أو الحديث عن زكاة الذهب والفضة، رُوي عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرّقة -أي الفضة- من كل أربعين درهمًا درهمًا، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) وروى أبو داود أيضًا عن علي بن أبي طالب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون دينارًا، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار)) وإن هذين الحديثين يدلان على ثلاثة أمور: أولها- أن نصاب الزكاة في النقدين -ونقصد بالنقدين الذهب والفضة- أن نصاب الزكاة في النقدين هو مائتا درهم للفضة، وعشرون مثقالًا للذهب، أي أن الفضة إذا بلغت مائة درهم فأعلى فهنا تجب فيها الزكاة؛ لأن نصابها مائتا درهم، وكذلك الذهب إذا بلغ عشرين مثقالًا فأكثر فهنا تجب فيه الزكاة؛ لأن النصاب يكون موجودًا عند عشرين مثقالًا من للذهب. ثاني الأمور أنه لابد أن يحول الحول ليمكن أن ينمو المال في هذه المدة، ولكي يصل به إلى درجة الغنى الذي يكون له فائض يعود به على من لا مال له، وعلى ذلك يتحقق سبب الوجوب وهو النصاب، وشرطه حولان الحول. إذن معنى ذلك الحديث يبين أولًا نصاب الذهب ونصاب الفضة، فنصاب الذهب مائة درهم، ونصاب الفضة عشرون مثقالا، وأيضًا الحديث يبين لنا أنه لا تجب الزكاة إلا إذا مر الحول، وحال حول على ملكه لهذا النصاب؛ لأن حولان الحول هو الذي يترتب عليه النماء أنه لابد وأن يحول الحول ليمكن أن ينمو المال في هذه المدة؛
لأن الغالب أنه لا يحصل نماء إلا بمرور الحول، فلابد إذن من مرور هذا الحول، فمرور الحول إنما هو شرط من الشروط اللازم توافرها حتى تجب الزكاة في الذهب والفضة. ثالث الأمور التي أرشدنا إليها الحديث: أنه لابد أن تكون في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- قيمة مائتي درهم هي قيمة عشرين مثقالًا من الذهب؛ لأنهما نوع واحد من الزكاة مقابل للنعم وللثمار وللزروع، أي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مادام قد بين لنا أن نصاب الفضة هو مائة درهم، ونصاب الذهب هو عشرون مثقالًا، معنى ذلك أن القيمة متساوية أو أن عشرين مثقالًا تساوي مائتي درهم أنه لابد أن تكون في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- قيمة مائتي درهم هي قيمة عشرين مثقالا من الذهب؛ لأنهما نوع واحد من الزكاة، وهو زكاة النقدين معنى ذلك أن عشرين مثقالًا تساوي مائتي درهم، ومائتي درهم تساوي عشرين مثقالًا. وإذا كانت قيمتها واحدة في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه قد ثبت في الاقتصاد العالمي أن الذهب وحده هو الذي يصلح مقياسًا لتقدير قيم الأشياء؛ ولذا لا تتغير قيمته في مختلف العصور غالبًا، لأنه الميزان الثابت لتقدير ما في الأشياء من قيم، وثبت أن الفضة ليست كذلك، وإذا كانت قد التقت مع الذهب في كونهما معًا كانا نقدًا رئيسيًا في صدر الإسلام فإن قيمة الفضة اختلفت بمضي العصور، ولذلك نعد الذهب في الزكاة وحدة التقدير، يعني مادامت أن الفضة تتغير قيمتها، والذهب ثابت ففي هذه الحالة ينبغي علينا أن نعتبر أن الذهب هو وحدة التقدير. ولذلك عندما لم يعد الذهب موجودًا ولا الفضة موجودة، ولم يعد الذهب والفضة أثمانًا للأشياء وقيمًا للمتلفات لم يعودا نقدين في هذه الأيام، وأصبحت النقود الورقية هي الموجودة في هذه الأيام، فمعنى ذلك بالنسبة للجنيهات
المصرية أو الريالات السعودية على سبيل المثال الإنسان الذي يمتلك كمية من هذه النقود الجنيهات المصرية أو الريالات السعودية يريد أن يخرج الزكاة زكاة النقد، ففي هذه الحالة نقول له قدر ما معك من أموال بالذهب أم بالفضة؟ نقول: الأوفق في هذه الحالة أن يكون التقدير بالذهب لماذا؟ لأن الذهب هو متماسك القيمة، أما الفضة فهي متغيرة القيمة، ولذلك كما قلنا ينبغي أن نعتبر أن الذهب هو وحدة التقدير في هذه الأيام. ولكن ما وزن الدراهم التي اعتبرت المائتان فيها هي النصاب؟ نستطيع أن نفهم ذلك من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر عن نصاب الزكاة في الفضة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس فيما دون الخمس أواق من الورق صدقة)) والأواقي هي جمع أقية ((ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورِق صدقة)) والورِق المقصود بها هي الفضة، وإذا كانت الأحاديث كلها متلاقية حول معنى واحد في هذا الباب فإنه يجب أن نقول: إن خمس الأواقي هي مائة درهم، أي أن الأوقية وزنها أربعون درهم، وتقدير النصاب بالوزن لا بالعدد، ذلك لأنه في صدر الإسلام لم يكن هناك نقد مستقل للعرب، بل يستعملون الدراهم والدنانير، ويأخذون بعملة البلاد المجاورة، وكان هناك أنواع ثلاثة من الدراهم بعضها يزن كل عشرة دراهم عشرة دنانير، وبعضها يزن كل عشرة دراهم خمسة دنانير أي مثاقيل، وبعضها يزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، فاختار الإمام عمر -رضي الله عنه- في الخراج والزكاة ما يكون وزن العشرة منها سبعة مثاقيل، ولعله لاحظ أنها هي التي تكون وزن الأربعين منها أوقية، فيكون عمله تطبيقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم. والمثاقيل العشرون التي لنصاب الذهب تختلف -كما قلنا- من الممكن في هذه الأيام أن نقول إنها تصل في المتوسط أو في الغالب إلى خمسة وثمانين جرام من
الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء.
الذهب، وعلى ذلك الذي عنده هذه النقود الورقية في هذه الأيام، سواء جنيهات مصرية أو ريالات سعودية إنما -كما قلنا- النصاب هو 85 جرام من الذهب، فإذا كان معه ما يساوي 85 جرام من الذهب قيمة العملة فهنا تجب عليه الزكاة، إذا كان ما معه أقل من 85 جرام من الذهب فلا زكاة عليه. الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء ونتحدث الآن عن نوع آخر من الزكاة متصل بزكاة النقدين الذهب والفضة، وهو زكاة الحلي، نقول: اتفق الفقهاء سلفًا وخلفًا على أن الحلي المحرم وهي ما كانت من الذهب أو الفضة للرجل في غير ضرورة كالسن، وكذا الأواني المحرمة عليهما، أو الزينة بالنسبة للرجل والمرأة، نقول: تجب فيها الزكاة إن بلغت النصاب، الحلي المحرمة اتفق الفقهاء على أنه تجب فيها الزكاة، لكنهم اختلفوا في زكاة الحلي المباح هل تجب فيه زكاة أم لا؟ فقال الليث، والمالكية، والشافعية على الأظهر عندهم، والحنابلة في ظاهر المذهب: لا زكاة في حلي المرأة المباح لها مهما بلغ مقداره. وقال الحنفية وهو قول عند الشافعية: تجب الزكاة إن بلغ نصابه. إذن الخلاف بين الفقهاء في الحلي المباح، الحلي من الذهب المباح، هل تجب فيه الزكاة أم لا تجب؟ جمهور الفقهاء يقولون بأنه لا تجب فيه الزكاة. أما الأحناف وبعض الفقهاء فيقولون تجب فيه الزكاة، والسبب في اختلاف الفقهاء في هذه المسألة هو تردد شبه الحلي بين العروض المقصود منها المنفعة المباحة، والتي لا زكاة فيها بلا خلاف، وبين التبر والذهب والفضة المقصود منها المعاملة في جميع الأشياء، والتي يجب في نصابها الزكاة بلا خلاف، فمن شبّه الحلي بالعروض
التي المقصود منها المنفعة قال: ليس فيه زكاة، ومن شبهه بالتبر والفضة المقصود منها المعاملة بها قال فيه الزكاة، وكذا اختلافهم في الآثار والنصوص الشرعية الواردة في ذلك. والذين قالوا بوجوب الزكاة في الحلي المباح استدل هؤلاء ومن وافقهم على مذهبهم بالنصوص والآثار التي تؤيدهم فيما ذهبوا إليه، ومنها ما رواه الترمذي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ((أن امرأة أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب -مسكتان يعني ما تلبسه المرأة في يدها لتتزين بها، ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب- فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما صورين من النار يوم القيامة؟ قال فخلعتهما، فألقتهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: هما لله عز وجل ولرسوله)) وقد روي هذا الحديث بعدة روايات مختلفة عند الترمذي، وأبي داود، والنسائي، وفيها قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((فأديا زكاته)). فهذا الحديث واضح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين للمرأة أن الزكاة واجبة على هذا الذهب الذي في يد ابنتها، على الرغم من أن البنته كانت تلبسه تتحلى به، فهذا واضح في أن الزكاة تجب -بناء على هذا الحديث- تجب في هذا الحلي المباح بدليل تصريح النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك عندما قال: ((فأديا زكاته)) يعني أخرجي الزكاة عن هذا الذهب، الذي هو في يد ابنتك. وأيضا استدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأى في يدي فتخات من ورِق -الورِق الذي هو الفضة- فقال: ما هذا يا عائشة؟
فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله؟ قال: أتؤدينَ زكاتهن؟ قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: هو حسبك من النار)) يعني كأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر السيدة عائشة -رضوان الله تبارك وتعالى عليها- من أنها إذا لم تؤدي الزكاة فقد عرضت نفسها لنار جنهم والعياذ بالله، وهذا إن دل فإنما يدل على أن الزكاة إنما تجب فيه، وهذا أيضا يدل على أن الزكاة تجب في الحلي المباح. ومن الآثار التي استدل بها من قال بالوجوب ما روي عن عمر -رضي الله عنه- في خلافته: أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- يقول: "إن من مرَّ من قِبَلِك من نساء المسلمين أن يزكين حليهن، ولا يجعلن الإعارة بينهم تعاوضًا" وهذا واضح أيضًا وصريح في أن الخليفة عمر بن الخطاب -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- أمر أبا موسى الأشعري بأن يأخذ من نساء المسلمين الذين يمرون عليه زكاة الحلي التي يلبسونها، وهذا دليل الوجوب. ومنها قول عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته" وممن روي عنهم من التابعين القول بالوجوب: النخعي، وطاوس، ومجاهد، وعطاء، وجابر بن زيد، وابن سيرين، والحسن البصري، وغيرهم. هذه هي أدلة الذين قالوا بأن الزكاة تجب في الحلي المباح. نأتي الآن إلى أدلة من قال بأنه لا زكاة في الحلي المباح، استدل أصحاب هذا المذهب وهم أهل المدينة، ومالك ومن وافقهم بحديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ليس في الحلي زكاة)) وهذا نص في الموضوع، وأن هذا الحلي المباح لا زكاة فيه، كما استدل أصحاب هذا المذهب بما رواه مالك -رحمه الله- في (الموطأ) عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: "أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تحلي بنات أخيها، وكان يتامى في حجرها، كانت تحلي لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة" أيضا من الأدلة التي استدلوا بها أن السيدة
عائشة -رضوان الله تبارك وتعالى عليها- كانت تلبس بنات أخيها الحلي، ومع ذلك لا تخرج عن هذا الحلي زكاة، وهذا دليل على أن الزكاة ليست بواجبة في الحلي المباح؛ إذ أنها لو كانت واجبة لما غاب ذلك عن السيدة عائشة -رضوان الله تبارك وتعالى عليها- ولا أخرجت الزكاة عن هذا الحلي الذي كانت تلبسه بنات أخيه. استدلوا أيضا بما رواه مالك، عن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب -يعني يلبسهم الذهب- ثم لا يخرج من حليهن الزكاة" وهذا عبد الله بن عمر هو أعلم بالشريعة ولذلك لو كان هناك زكاة في هذا الحلي الذي كان يُلبسه بناته لأخرج الزكاة. وأيضا استدلوا بما روه أبو عبيد عن ابن عمر أنه كان يزوّج المرأة من بناته على عشرة آلاف، فيجعل حليها من ذلك أربعة آلاف، فكانوا لا يعطون عنه الزكاة. وأيضا استدلوا بما روي أن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- كانت تحلي بناتها الذهب والفضة، ولا تزكيه نحوًا من خمسين ألفا. وأيضا بما روي عن جابر وأنس -رضي الله عنهما- أنهما سئلا عن الحلي: أفيه زكاة؟ فقال: لا. وأيضًا استدلوا بما رواه أبو عبيد عن القسام بن محمد أنه سئل عن صدقة الحُلي، فقال: "ما رأيت أحدًا يفعله، وقد سألت عمتي أي عائشة -رضي الله عنها- فقالت: ما رأيت أحدًا يفعله، وقد كان لي عقد فيه ثنتا عشرة مائة فما كنت أصدقه". يعني ما كنت أخرج زكاته. إذن كل هذه الآثار يعني هم استدلوا بالآثار، واستدلوا بالأحاديث، كل هذه الآثار التي ذكروها عن الصحابة -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم- تدل على أن الزكاة ليست بواجبة في الحلي المباح إذ لو كانت واجبة ما تخلف صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم أعلم الناس بأحكام الشريعة، أقول: ما تخلفوا عن إخراج هذه الزكاة، ولذلك بعد ذكر المذاهب وأدلتها في زكاة الحلي يتضح لنا تعارضها بعد الاعتراضات والمآخذ التي
قال بها أصحاب كل مذهب بالنسبة لأدلة المخالفين لهم والرد عليها وتضعيفها، وعند التعارض بين الأدلة يكون الترجيح بينها بالجمع بينها إن أمكن، فإذا لم يمكن الجمع فيرجّح بين الأدلة، ويؤخذ بالقوي منها دون الضعيف، ويرجح الأقوى على القوي وهكذا. والجمع بين المذهبين معًا أي الذين يقولون بوجوب الزكاة في الحلي، والذين يقولون بعدم وجوب الزكاة فيه، أقول: الجمع بين المذهبين معًا لا يمكن العمل به؛ لتعارضهما في الحكم، وكذلك لتعادل الأدلة عند الفريقين في مجموعها قوة وضعفًا، فلم يبقَ إلا ترجيح أحد القولين أو المذهبين على الآخر، ولما كان الترجيح بمعناه الدقيق بالنسبة لنا في هذا المقام يصعب الوصول إليه لصحة أدلة كل مذهب في الجملة، والعمل بها في زمن الصحابة والتابعين، وأئمة المذاهب الفقهية فسوف نكتفي بما ذكره الفقهاء والعلماء في هذا المجال. يقول الإمام الشيرازي الشافعي: في الحلي وإن كان لاستعمال مباح كحلي النساء وما أعد لهن، وخاتم الفضة للرجال ففيه قولان: أحدهما لا تجب فيه الزكاة، لما روي عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس في الحلي زكاة)) ولأنه معد لاستعمال المباح، فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من الإبل والبقر، يعني الإبل والبقر التي يستعملها الإنسان في الزراعة هذه لا زكاة فيها، والثاني تجب فيه الزكاة، واستخار الله فيه الشافعي واختاره، يعني اختار أنه تجب فيه الزكاة لما روي: ((أن امرأة من اليمن جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معها ابنتها في يدها مسكتان غليظتان من الذهب، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتعطين زكاة هذا؟ فقالت: لا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار يوم القيامة؟ فخلعتهما فألقتهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: هما لله ولرسوله)) وأيضا الحلي من جنس الأثمان، فأشبه الدراهم والدنانير.
وقال ابن رشد بعد أن ذكر أثر جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ((ليس في الحلي زكاة)) كدليل لمن لا يوجب الزكاة في الحلي، وأُثر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في المرأة التي جاءت مع ابنتها، وفي يد ابنتها مسك من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذا؟ والذي سبق ذكره بتمامه، والأثران ضعيفان بخاصة حديث جابر. وقال الموصلي في باب زكاة الذهب والفضة: وتجب فيما مضروبهما وتبرهما وحليهما وآنيتهما نوى التجارة أو لم ينوِِ إذا كان ذلك لصبر+42:5 قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: من الآية: 34) علق الوجوب باسم الذهب والفضة، وأنه موجود في جميع ما ذكرنا؛ لأن المراد بالكنز عدم إخراج الزكاة، فحديث جابر وابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: "كل ما لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا، وما أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونًا، وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: ((كنت ألبس أوضاحًا من الذهب، فقلت: يا رسول الله، أكنز هي؟ فقال: إن أديتِ زكاته فليس بكنز)) فيسير تقدير الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهما سوارين من ذهب، فقال: ((أتحبان أن يسوركما الله بسوارين من نار؟ قالتا: لا. فقال: فأدّيا زكاتهما)). هذا وللمكلف اختيار ما تطمئن إليه النفس من المذهبين بعد ذكرنا لهذه النصوص ولهذه الأدلة بتمامها؛ لأن هذا الموضوع يشغل بال المسلمين كثيرا، نقول للمكلف بعد ذكرنا لهذه الأدلة أدلة القائلين بالوجوب، وأدلة القائلين بعدم الوجوب، وذكرنا لنصوص الفقهاء في هذا الأمر، نقول للمكلف اختيار ما تطمئن إليه النفس من المذهبين للعمل به بعد استخارة الله -سبحانه وتعالى- كما فعل الإمام الشافعي -رضي الله عنه- ومن مال إلى العمل بما قال به الشافعي بعد استخارته فهو أولى وأفضل، والله -تبارك وتعالى- أعلم.
ما تجب فيه الزكاة من الحرث.
ما تجب فيه الزكاة من الحرث ثم ننتقل بعد ذلك إلى ما تجب فيه الزكاة من الحرث، أي ما تنبته الأرض من زراعات، نقول ما تنبته الأرض ثلاثة أنواع: الحبوب، والخضروات، والثمار. وهذه الأنواع الثلاثة قد تناولها الفقهاء بالبحث والدراسة من حيث وجوب الزكاة فيها، وقد اتفقوا على وجوب الزكاة في بعضها، واختلفوا في البعض الآخر، ودافع كل فريق على ما ذهب إليه، وسوف نلقي الضوء على هذه الزكاة، فنتكلم الأول عن وجوب الزكاة في الحبوب، نقول: اتفق الفقهاء قاطبة على وجوب الزكاة في الحنطة، والشعير، والمقصود بالحنطة هنا هو القمح، هذا باتفاق يعني أنهم أوجبوا الزكاة في الحنطة والشعير هذا باتفاق. ثم بعد ذلك تفاوتت وجهات نظرهم، وتباينت آراؤهم فيما سوى ذلك من الحبوب، ففي حين يرى بعضهم أنه تجب الزكاة فيما جميع ما يُقتاد ويدخر يرى البعض الآخر وجوبها في كل ما تنبته الأرض، ولذلك سوف نذكر أدلة الفقهاء في هذا -كما قلنا- يعني اختلفوا في هذا بعد اتفاقهم على وجوب الزكاة في الحنطة والشعير اختلفوا بعد ذلك في الحبوب التي تجب فيها الزكاة، بعض الفقهاء قال بأن الزكاة تجب في الحبوب في كل ما يُقتات ويدّخر من الحبوب. بعض الفقهاء أن الزكاة إنما فيما يقتات ويدخر من الحبوب، يعني لابد أن توجد صفتان في الحب أو الزرع حتى نقول بأنه تجب فيه الزكاة، أولًا أن يكون مقتاتًا يعني يستطيع الإنسان أن يأكله، ويعيش عليه، وأيضًا أن يمكن ادخاره، من الممكن أن يدخره الإنسان ويستفيد به في مدة عامه، هؤلاء استدلوا على ما ذهبوا إليه بقول الله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الأنعام: من الآية: 141).
وجه الإسناد من هذه الآية قال القرافي من المالكية: قال العلماء هذا حكم عام في هذه الأشياء، والحكم المشترك يجب أن يكون معللًا بعلة مشتركة، وهي عند مالك الادخار للقوت غالبًا؛ لأنه وصف مناسب في الاقتيات من حفظ الأجساد التي هي سبب مصالح الدنيا والآخرة، وإذا عظمت النعمة وجب الشكر بدفع الزكاة، فكأن الإمام القرافي من المالكية يبين أنه يؤخذ من قول الله -تبارك وتعالى-: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يقول: إن ذلك ينبغي أن يكون للزراعات أو الحبوب التي تقتات غالبًا؛ لأن في هذه الأشياء فيها حفظ للأجساد التي هي سبب مصالح الدنيا والآخرة، وإذا عظمت النعمة وجب الشكر بدفع الزكاة. فهذا إذن دليل على أن الزكاة لا تجب إلا في ما يقتات ويدخر. ومن السنة استدل هؤلاء الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن الزكاة إنما تجب فيما يُقتات ويدخر فقط، استدلوا بما روي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أواقٍ صدقة)) وفي رواية محمد بن رافع عن عبد الرزاق: ((ليس في حب ولا ثمر)) بفتح مثلثة. أقول: استدلوا بهذا الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق)) وجه الاستدلال أن قوله -عليه السلام-: ((ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق)) عام في جملة الحبوب والثمار، وهذا إنما يطلق على ما يُقتات ويدخر، وأيضا مما استدلوا به إنما هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس في الخضراوات صدقة)) ومعنى ((ليس في الخضراوات صدقة)) لأن الخضروات لا تُقتات ولا تدخر، وهذا يفهم منه أنها تجب فيما يقابل الخضروات، وهي ما يُقتات ويدخر، وبالتالي يكون الحديث دالًّا على أن الزكاة إنما تجب فيما يقتات ويدخر فقط.
زكاة عروض التجارة، والركاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر.
يرى البعض الآخر من الفقهاء أن الزكاة تأخذ من كل ما أخرجته الأرض، لا فرق في ذلك بين صنف وصنف ولا بين مطعوم وغير مطعوم ففي كل ما أخرجت الأرض زكاة ما عدا الحشيش والحطب، ولكن إذا زرع الحشيش والحطب من أجل التجارة تجب فيهما الزكاة إذا بلغ نصابًا وهذا هو رأي الحنيفة. وبعد عرضنا لآراء الفقهاء بالنسبة للحبوب وما تفرض عليه الزكاة من هذه الحبوب وما لا تفرض -نرى أن ما ذهب إليه الأحناف من وجوب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض هو الرأي الذي نختاره؛ لأن عموم النصوص من القرآن والسنة تؤيده، وهو الموافق لحكمة تشريع الزكاة، فليس من العدل أن تؤخذ الزكاة من زارع الشعير والقمح ويعفى منها صاحب البساتين من البرتقال أو المانجو أو التفاح، وقد أصبحت هذه الأصناف الأخيرة في وقتنا الحاضر تدرّ على صاحبها ثروات طائلة أهم وأعظم بكثير من ثروة الشعير والقمح، فمن العدالة إيجاب الزكاة في تلك الأنواع من الثمار للتحقق المساواة بين الجميع في تحمل التكاليف العامة المالية في الدولة والتي من أهمها الزكاة. نكون بهذا قد انتهينا من هذه المحاضرة، استودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - بقية الأموال الزكوية والأموال المستحدثة زكاة عُرُوض التجارة، والرِّكاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن العمومية المادية في الزكاة، ونواصل الحديث الآن في هذا الموضوع فنقول: من الأموال التي تجب فيها الزكاة زكاةُ عُرُوض التجارة، فيرى جمهور الفقهاء أنه تجب الزكاة في عُرُوض التجارة، سواء كانت الأموال ثابتة أو منقولة -أي: التي تشترى بنية التجارة- ودلّ على هذا الوجوب الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم} (البقرة: من الآية: 267) يقول الإمام الطبري في معنى هذا الآية: أي زكّوا من طيبات
ما كسبتم بتصرفكم إما بتجارة وإما بصناعة، وذهب مجاهد إلى أن المقصود بالكسب في الآية هو التجارة. ومن السنة ما روي عن سمرة بن جندب قوله: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع)) يعني: للتجارة. وأيضًا دلّ القياس على وجوب الزكاة في عُرُوض التجارة؛ إذ أن عُرُوض التجارة مال مقصودٌ به التنميةَ، فأشبه الأجناس الثلاثة التي وجبت فيها الزكاة باتفاق، كالزروع، والماشية، والذهب، والفضة، فهو يشبه الزرع في تضاعف المحصول، ويشبه الأنعام في الزيادة عن طريق التواجد؛ ولذلك هذا هو ما نرجحه، وهو رأي جمهور الفقهاء، وهو وجوب الزكاة في عُرُوض التجارة. وأيضًا من الأموال التي تجب فيها الزكاة الرِّكاز والمعدِن، والركاز هو ما دفنه القدماء من الجاهلية في الأرض من المال على اختلاف أنواعه، ويرى الفقهاء أن فيه الخمس، يعني: إذا وجده مسلم فيرى بعض الفقهاء أن فيه الخمس، يعني: يخرج خمسه كزكاة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((في الركاز الخمس)) والمدفون في الأرض ركاز بالإجماع؛ لأنه مركوز فيه. وبالنسبة للمعدن عرفه البعض بأنه كل ما خرج من الأرض مما يُخلق فيها من غيرها مما له قيمه، واختلف الفقهاء في مقدار الواجب في المعدن: فيرى بعضهم أن الواجب فيه الخمس، ويرى البعض الآخر أن الواجب فيه ربع العشر. واختلف الفقهاء أيضًا في تحديد المعدن الذي تؤخذ منه الزكاة على النحو التالي: فالشافعية يقصرونه على الذهب والفضة، وأما غيرهما كالحديد والنحاس والرصاص فلا زكاة فيه.
ويرى أبو حنيفة أن كل المعادن المستخرجة من الأرض مما ينطبع بالنار فيها حقّ واجب، وأما المعادن السائلة أو الجامدة التي لا تنطبع فلا شيء فيها عندهم. ويرى الحنابلة أنه لا فرق بين ما ينطبع وما لا ينطبع من المعادن، فالمعدن الذي يتعلق به الوجوب هو كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة، سواء كان جامدًا كالحديد والنحاس والرصاص أما كان من المعادن السائلة كالنفط أي: البترول. ونحن نرى أن ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب الزكاة في كل ما خرج من معادن من الأرض دون فرق بين نوع وآخر -نرى أنه هو الأولى بالقبول وهو ما نختاره؛ وذلك أنه لا يفرق بين المعدن الجامد والمعدن السائل، ولا بين ما ينطبع بالنار وما لا ينطبع بها، فهو لا يفرق بين الحديد والرصاص وبين النفط فكلها أموال ذات قيمة عند الناس، فكان من غير المعقول ومما يخالف العدالة إعفاء معدن كالنفط -البترول- من الزكاة وقد أصبح في عصرنا هذا من أهم الثروات التي يمتلكها الأشخاص، فهي تدر عليهم دخلًا يفوق بكثير الدخول التي يدرها معدن كالرصاص، فالمعادن السائلة إذن يجب فرض الزكاة عليها من باب أولى. فرأي الحنابلة إذن يؤدي إلى تحقيق العمومية المادية في الزكاة على الوجه الأكمل، وبالتالي يحقق المساواة الكاملة بين من يمتلكون أي نوع من المعادن متى توافرت شروط وجوب الزكاة. وأيضا من الأموال التي اختلف فيها الفقهاء هل تجب فيها الزكاة أم لا -زكاة ما يستخرج من البحر: اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة فيما يستخرج من البحر من الجواهر الكريمة، كاللؤلؤ، والمرجان، ومن الطيب العنبر، فيرى البعض منهم أنه لا شيء فيه ما لم يكن معدًّا للتجارة، فإن أعدّ للتجارة وجبت فيه زكاة، ويرى البعض الآخر أن
ما يستخرج من البحر فيه حق واجب، واختلف في مقدار هذا الواجب: هل هو الخمس كما يعامل الركاز؟ أو هو العشر كما يعامل الزرع؟ أو هو ربع العشر كما تعامل الدراهم والدنانير؟ أقوال ثلاثة للعلماء ذكرها أبو عبيد في كتابه (الأموال) صـ433 وما بعدها، ونحن نرجح ما يراه البعض من أن قدر هذا الواجب ينبغي أن يخضع تحديده لمشورة أهل الرأي؛ لأن التشريع قد فاوت بين المقادير الواجبة في الحبوب والثمار تبعًا لتفاوت الألفة والجهد في سقي الزرع، فجعلها نصف العشر إن سقي الزرع بآلة، وجعلها العشر إن سقي بغير آلة، فكذلك الأمر بالنسبة لما يستخرج من البحر ينبغي أن يتفاوت مقدار الواجب تبعًا لتفاوت الكلفة والجهد في سبيل الحصول عليه، فيكون الخمس إذا قلّت الكلفة والجهد، ويكون العشر إذا زادت الكلفة والجهد. ونحن نرى أن الرأي الراجح هو الذي يفرض حقًّا في كل ما يستخرج من البحر وهو ما نختاره؛ لأنه كيف يعفى من هذا الحق الواجب من استخرج لؤلؤة ذات قيمة مرتفعة جدًّا وتفرض الزكاة في نفس الوقت في الحاصلات الزراعية ضعيفة القيمة إلى حد ما إذا ما قرنت بالجواهر الكريمة التي تستخرج من البحر، فهذا الرأي إذن يؤدي إلى تحقيق العدالة وتحقيق العمومية المادية في الزكاة على الوجه الأكمل وبالتالي يحقق المساواة بين المواطنين في تحمل الأعباء العامة المالية المقررة في الدولة. وأيضًا من ضمن الأشياء التي اختلفوا فيها، اختلفوا في وجوب الزكاة فيما يستخرج من البحر من الأسماك على الوجه التالي: يرى بعض الفقهاء أنه ليس في هذه الأسماك زكاة، ويرى البعض الآخر أن ما يستخرج من البحر من الأسماك فيه حق واجب إذا بلغ النصاب مستدلًّا على
زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور.
ذلك بما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله ألا يأخذ من السمك شيئًا حتى يبلغ مائتي درهم، فإذا بلغ مائتي درهم فليأخذ منه الزكاة، وهذه الأقوال موجودة في كتاب الأموال لأبي عبيد صـ434 وما بعدها. الرأي الراجح: ونحن نرى أن الرأي الراجح هو الذي يفرض الزكاة في الأسماك وهو ما نختاره؛ لأن ما يصطاد من الأسماك قد يبلغ كميات كبيرة تقدر بأموال طائلة، فقد أصبح صيد الأسماك في عصرنا الحاضر تقوم به شركات كبيرة مجهزة بأحدث الأجهزة اللازمة لذلك، فمن العدل ألا يعفى ما يستخرج من البحر من السمك متى بلغ النصاب ينبغي ألا يعفى من حق يفرض عليه، وبهذا تتحقق المساواة بين المواطنين في تحمل التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة. زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور ومما يتصل بموضوع العمومية المادية في الزكاة الأموال النامية التي جدت في هذه العصور: هل تفرض عليها الزكاة أم لا تفرض عليها الزكاة؟ لقد جدّت صور من الأنشطة وألوان من الاستثمار لم تكن موجودة في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا في زمن الخلفاء الراشدين، فقد ظهرت إلى الوجود شركات المساهمة والبنوك، وتطور النشاط التجاري والمالي وازداد الدخل من كسب العمل فضلًا عن ازدياد الاستثمارات التي تدر دخولًا عالية في مجال الإسكان، ومن ثمّ لم تعد بعض الأموال تعدّ من الحاجات الأصلية المعفاة من الزكاة كأدوات الصناعة الأولية والدور المخصصة للسكنى، حيث أصبحت المصانع وأدوات الصناعة نفسها رأس مالها النامي مما يقتضي إخضاعها للزكاة، وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد
أبو زهرة: إن العلة في فرضية الزكاة التي يناط بها الحكم بوجوبها هو المال النامي بالفعل أو بالقوة، أي: القدرة على تنميته وإن لم يعمل على تنميته بالفعل، وأن هذه العلة تؤخذ من تعليلات الفقهاء في مواضع مختلفة، وبتتبع الأموال التي تجب فيها الزكاة. ثم يقول: فهل إذا جدّ في هذه العصور أموال نامية، بعضها لم يكن ناميا في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا في عصر الصحابة، ولا الأئمة المجتهدين، فهل يسوغ لنا أن نفرض فيها الزكاة تطبيقًا للعلة التي استنبطها الفقهاء لحكم وجوب الزكاة، وإذا فعلنا ذلك لا نكون قد أتينا ببدع من الأحكام الشرعية، والجواب عن ذلك أن هذا سائغ لنا ونحن فيه لا ننشئ اجتهادًا، ولكن نطبق علة القياس. وهذا مقال للشيخ أبي زهرة ضمن أبحاث المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية لعام 1385 هجرية 1965م بحث بعنوان (الزكاة) صـ179 وما بعدها. ثم يقول الشيخ: إن تعميم الأحكام الخاصة بالزكاة في كل ما يتحقق فيه العلة يؤدي إلى أمر حق، ويمنع أمرًا ظالمًا؛ لأنه يؤدي إلى المساواة العادلة بين الناس، فلا تجب الزكاة في زرع من يملك فدادين، ويُعفى منها من يملك عمارات فخمة، تدر عليه درًّا كثيرًا يساوي عشرات الأفدنة، ويُعفى من كان له رأس مال وضعه في مصنع يُدِرّ عليه ربحًا فائضًا كبيرًا، والأمر الظالم الباطل الذي يمنع فرض الزكوات على الأموال التي تدر مالًا كثيرًا، ولم تكن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أن يفر الناس مما تجب فيه الزكاة إلى ما لا تجب فيه الزكاة، فتكون الكثرة الكاثرة في جانب من أبواب الكسب، والقلة في باب آخر، وربما كانت حاجة الأمة إليه أمس وأشد. على ضوء هذه الحقائق المقررة نقول: إن كل مالك يتحقق فيه النماء، والشروط التي ذكرها الفقهاء تجب فيه الزكاة، ولو لم يكن جاء به النص عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فإن القياس ثابت في الفقه الإسلامي، وتطبيق موجب القياس ثابت في كل العصور والأزمان، وهو نوع من الاجتهاد لا يصح أن يخلو منه عصر من العصور، ليمكن تحقيق علة النصوص تحقيقًا علميًّا سليمًا. والآن نتكلم عن بعض هذه الأموال التي جدت في هذه العصور: أولًا- النقود الورقية: لم تُعرف النقود الورقية إلا في العصور المتأخرة، حيث أصبحت أساس التعامل بين الناس، وقد اختفت العملة الذهبية والفضية من حياة الناس، وأصبحت النقود الورقية هي عماد الثروات والمبدلات وأثمان للأشياء، ومنها تصرف الرواتب والأجور، وعلى قدر ما يملك منها المرء يعتبر غناه، ولها في المبادلات وقضاء الحاجات قوة الذهب والفضة، فهي بهذا الاعتبار أموال نامية أو قابلة للنماء، شأنها شأن الذهب والفضة. وخلاصة ذلك أن النقود الورقية تجب فيها الزكاة، ويُرجع في هذا الأمر إلى (فقه الزكاة) للشيخ القرضاوي الجزء الأول صـ273 وما بعدها، واحتساب نصاب الزكاة فيها -أي في هذه النقود الورقية- يكون بمقدار قيمتها ذهبًا؛ لأن ذلك هو تقدير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى أساسه كان جمع الزكاة من بعده، وبإيجاب الزكاة في النقود الورقية تتحقق العمومية المادية في الزكاة على الوجه الأكمل، وبالتالي تتحقق المساواة بين المواطنين في تحمل الأعباء العامة المالية المقررة في الدولة. أيضًا من الأموال التي أصبحت نامية في هذه العصور الحيوانات السائمة غير الإبل والبقر والغنم والخيل، لو حدث واكتشف الناس نوعًا أو أنواعًا من الحيوانات يسمنونها ويتخذونها للنماء والكسب من ورائها، فهل من الممكن أن تخضع للزكاة مثل الإبل والبقر والغنم أم لا؟ فهناك حيوانات لم تكن متخذة للنماء، بل كانت للحاجات الشخصية كالبغال مثلًا، ثم اتخذت بعد ذلك للنماء.
لقد بحث علماء حلقة الدراسات الاجتماعية هذا الموضوع، وحلقة الدراسات الاجتماعية هي كانت نابعة عن جامعة الدول العربية، نقول: بحث علماء حلقة الدراسات الاجتماعية هذا الموضوع، فاستنبطوا من الخبر الذي ثبت عن عمر وهو قياس الخيل على الغنم حيث قال: أفنأخذ من كل أربعين شاة شاةً، ولا نأخذ من الخيل شيئًا؟ فضرب على الخيل دينارًا. أقول: استنبطوا من هذا الخبر أنه يسوغ لنا القياس في أمر الزكاة، فقد قالوا إن الخبر الذي ثبت عن عمر لا يسوّغ لنا القياس في أمر الزكاة، فليست نصوصها غير معللة بل هي نصوص لها علة تقبل التعدية، وقد عدها الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأوجب في الخيل الزكاة؛ لتحقق العلة وهي النماء، وتبعه في قياسه شيخ فقهاء القياس أبو حنيفة -رضي الله عنه- ثم يقولون: وإذا كان الإمام عمر قد اعتبر النماء هو العلة، وتبعه أبو حنيفة فيصح بالتخريج على هذا المنهاج أن نقول: إن الزكاة تجب في كل الحيوانات التي تتخذ للنماء وترعى في كلأ مباح وبلغت النصاب وهو ما قيمته عشرة مثقالًا من الذهب، فإنه تكون فيها الزكاة بمقدار ربع العشر. حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية صـ246وما بعدها. ونرى أنه بإيجاب الزكاة في كل الحيوانات التي تُتخذ للنماء والكسب من روائها، إيجاب الزكاة في هذه الحيوانات تحقق العمومية المادية في الزكاة على الوجه الأكمل، وبالتالي لا يكون هناك مجال للتفرقة بين مال نامٍ وآخر، وبهذا تتحقق المساواة الكاملة بين من يمتلكون تلك الحيوانات التي تتخذ للنماء والكسب، وذلك في تحمل التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة كل حسب مقدرته المالية. ثالثًا- المصانع وحكم زكاتها: أعفى الفقهاء القدماء أدوات الصناعة الأولية مثل آلة النجّار الذي يعمل بيده، وآلة الحداد؛ لأن هذه الأموال تعد من الحاجات الأصلية، ولأنها لا تعد نامية
بذاتها ولا بالقوة، وفي العصر الحاضر ظهرت أموال نامية بالفعل لم تكن معروفة بالنماء والاستغلال في عصر الاستنباط الفقهي، وهي أدوات الصناعة التي تعتبر رأس مال للاستغلال وهي وسيلة الاستغلال بالنسبة لصاحبها، مثل صاحب مصنع كبير يستأجر العمال لإداراتها، فإن رأس ماله للاستغلال هي تلك الأدوات الصناعية، فهي بهذا الاعتبار تعد مالًا ناميًا؛ إذ الغلة تجيء إليه من هذه الآلات فلا تعد كأدوات الحداد الذي يعمل بيده، ولا أدوات النجار الذي يعمل بيده، وهكذا؛ ولهذا رأى العلماء المحدثون أن الزكاة تجب في هذه الأموال باعتبارها مالًا ناميًا، وليست من الحاجات التي تعد بإشباع الحاجات الشخصية بذاتها، فيقول فقهاء حلقة الدراسات الاجتماعية في هذا الشأن: وإذا كان الفقهاء لم يفرضوا الزكاة في أدوات الصناعة في عصورهم، فلأنها كانت أدوات أولية لا تتجاوز الحاجة الأصلية للصناعة والإنتاج لمهارته، فلم تعتبر مالًا ناميًا منتجًا، إنما الإنتاج فيها للعامل، أما الآن فإن المصانع تعد أدوات للصناعة نفسها رأس مالها النامي؛ ولذلك نقول: إن أدوات الصناعة التي يملكها صانع يعمل كأدوات الحلاق الذي يعمل بيده ونحوه تعفى من الزكاة؛ لأنها تعد بالنسبة إليه من الحاجات الأصلية، أما المصانع فإن الزكاة تفرض فيها، ولا نستطيع أن نقول: إن تلك مخالفة لأقوال الفقهاء؛ لأنهم لم يحكموا عليها إذ لم يروها، ولو رأوها لقالوا مثل مقالتنا، فنحن في الحقيقة لم نخرج على أقوالهم، أو نطبق المناط التي استنبطوه في فقههم -رضي الله عنه- يراجع في ذلك حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية صـ241 وما بعدها. وتنصّ التوصية الثلاثة من توصيات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية في شأن زكاة المصانع على أنه:
1 - لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية، والمصانع، والسفن، والطائرات وما شبهها، بل تجب الزكاة في صافي غلتها عند توافر النصاب وحولان الحول. 2 - مقدار النسبة الواجب إخراجها هو ربع العشر من صافي الغلة في نهاية الحول. المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية صـ403 الدار القومية للطباعة والنشر 1965. ونحن نرى أن إيجاب الزكاة في الأموال التي تديرها المصانع يحقق العمومية المادية في الزكاة على الوجه الأكمل؛ لأن مما يخالف العدالة أن تبقى تلك الأموال بعيدة عن وعاء الزكاة وهي تدر لأصحاب المصانع بكثرة طائلة في الوقت الذي يخضع فيه للزكاة من يمتلك نصابًا من الحاصلات الزراعية ذات القيمة المالية المنخفضة إذا ما قورنت بالأموال التي تديرها المصانع، فهذا الإيجاب للزكاة إذن يحقق المساواة بين المواطنين في تحمل التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة. رابعًا: أيضًا من الأمور التي صار بشأنها التساؤل: العمارات، وحكم زكاتها لم يتعرض الفقهاء القدامى إلى موضوع فرض الزكاة على الدور؛ لأن الدور في عهدهم لم تكن مستغلة بل كانت مخصصة للسكنى الشخصية، فاعتبرها من الحاجات الأصلية، وكان ذلك عدلًا اجتماعيًا في هذا الوقت، أما الآن فقد شيدت الدور والمباني لطلب النماء، وهي تدر الربح الوفير فيجب أن تخضع إرادتها للزكاة؛ لأن السبب الذي من أجله فرضت الزكاة في المال وهو النماء قد تحقق، خاصة وأنه في عصرنا الحاضر أصبح استثمار الأموال في قطاع الإسكان بهدف الاستغلال من أهم أنواع الاستثمار المجزية، والتي تدر عائدًا كبيرًا
لصاحبها، والقول بإخضاع الدور المستغلة أي العمارات للزكاة لا يخالف أقوال الفقهاء القدامى عندما قرروا أن الدور لا زكاة فيها؛ لأن الدور في عصورهم لم تكن مستغلة إلى في القليل النادر بل كانت للحاجة الأصلية، لذلك لم يلتفتوا إلى النادر؛ لأن الحكم للأغلب الشائع، والنادر لا حكم له في الشرائع، بل إن الإمام أحمد كانت له غلة تجيئه من حوانيت يؤجرها، فكان يخرج زكاتها مع أنه لا مورد لعيشه سواها، ولما قيل له في ذلك قال: أن أذهب في ذلك إلى قول عمر بن الخطاب في أرض السواد، إذ كان يخرج منها الزكاة. قد رأت حلقة الدراسات الاجتماعية قياس زكاة العقارات المبنية على زكاة الزروع والثمار حيث أن كلًا منهما يعتبر أصلًا ثابتًا يدر إيرادًا فتجب الزكاة في إيراده بنسبة تتراوح بين 10% و 5% حسب عنصر التكليف، ينظر في ذلك إلى حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية صـ241 وما بعدها. وقد ورد في التوصية الثلاثة من التوصيات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية أنه: 1 - لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية، بل تجب الزكاة في صافي غلتها عند توافر النصاب وحولان الحول، وبإيجاب الزكاة في العمارات المتخذة للنماء تتحقق العمومية المادية في الزكاة على الوجه الأكمل، إذ ليس من العدالة أن يخضع للزكاة من يستثمر أمواله في الأراضي، ويُعفى منها من يستثمر أمواله في العمارات، فهذا يُعتبر بمثابة حكمين مختلفين لشيئين متماثلين وهما الاستثمار في الأرض والاستثمار في العمارة، ولا شك أن ذلك يؤدي إلى انعدام المساواة بين المكلفين في هذا الشأن، أما إيجاب الزكاة في العمارات الاستغلالية فإنه يحقق تلك المساواة المجهولة.
خامسًا: أما بالنسبة أيضًا للأشياء التي فيها كلام الأوراق المالية وحكم زكاتها نقول: عرف التطور الصناعي والتجاري لونًا جديدًا من رأس المال عُرف باسم الأسهم والسندات، وهما من الأوراق المالية التي تقوم عليها المعاملات التجارية في أسواق خاصة بها، وهذه الأوراق يطلق عليها في علم المالية "القيم المنقولة" ويفرض على إيرادها المتجدد ضريبة تسمى الضريبة على إيراد القيم المنقولة، وهذه الصورة من صور نماء الأموال لم يكن لها وجود في عصر الفقهاء القدامى، ولكن بعض الفقهاء المحدثين تناول بالكتابة تلك الأموال باعتبارها أموالًا مستحدثة تحقق فيها وصف النماء في زماننا، ومن ثم تجب فيها الزكاة، وسنبين ذلك فيما يلي: أولًا- الأسهم: وهذه الصورة تتلخص في أن يمتلك شخص جزءًا من رأس مال شركة مقسم رأس مالها إلى أسهم، ويتحدد عائد أسهمه في نهاية السنة وفقًا لنتيجة عمليات المشروع من ربح أو خسارة، وتلك صورة مشروعة في نظر التشريع الإسلامي. رأي العلماء في ذلك: وقد رأى علماء حلقة الدراسات الاجتماعية أن الأسهم إذا كانت متخذة للاتجار والكسب من تجارتها تعتبر من عُرُوض التجارة، وبذلك تُزكي بالكيفية التي تُزكي بها عُرُوض التجارة، أما إن اتخذت أو اتخذت الأسهم للاقتناء والكسب من غلاتها لا من الاتجار فيها، فإن من يؤخذ من الشركة نفسها سواء كانت صناعية أم كانت غير ذلك فيه الكفاية، فهذا الرأي يفرق بين حالتين: الأولى أن تتخذ الأسهم موضوعًا للتجارة، فتُشترى في غرض إعادة بيعها والمضاربة عليها في سوق الأوراق المالية، ففي هذه الحالة تجب الزكاة فيها وفقًا لقيمتها في نهاية السنة متى كانت نصابًا وحال عليها الحول.
الحالة الثانية: أن تُمتلك هذه الأسهم بغرض الاستثمار، فتدر ربحًا سنويا وفي هذه الحالة فإن الزكاة الواجبة على الشركة تكفي عن الزكاة عن حملة الأسهم. ثانيًا- السندات: وهذه الصورة تتلخص في أن يُقرض شخص طبيعي أو معنوي شخصًا آخر طبعيًّا كان أو معنويًّا مبلغًا معينًا بموجب سند كتابي على أن يتقاضي المقرض من المقترِض فائدة محددة سنوية بصرف النظر عن نتيجة استغلال المقترض لهذا المبلغ ربحًا كان أو خسارة، وتلك هي صورة الربا في نظر الشريعة الإسلامية حيث تحدد الفائدة دون نظر إلى الربح أو الخسارة، ومع ذلك نجد أن العديد من العلماء يوجبون الزكاة في تلك السندات، وفي هذا الشأن يقول الشيخ محمد أبو زهرة وذلك في بحثه بعنوان (الزكاة) في المؤتمر الثاني بمجمع البحوث الإسلامية صـ184 وما بعدها يقول الشيخ أبو زهرة: وقد يقول قائل: إن الفائدة التي تؤخذ عن السندات مال خبيث؛ لأنه ربا، فكيف تؤخذ منه الزكاة؟ ونقول في ذلك إننا لو أعفيناها من الزكاة لأدى ذلك إلى أن يقتنيها الناس بدل الأسهم، وذلك تتأدى بالناس إلى أن يتركوا الحلال إلى الحرام، ولأن المال الخبيث إذا لم يُعلم صاحبه إنما سبيله إلى الصدقة، فخبث الكسب داعٍ إلى فرض الصدقة لا إلى إعفائه منها. ويقول الشيخ محمود شلتوت في هذه الصدد: وحتى فيما هو حرام شرعًا فعندي أن الشريعة الإسلامية تقر خضوعه للضريبة، فالمال المكتسب من حرام مآله الصدقة، ذلك أن الأصل ألا يفيد المخالف من مخالفته، فيصبح بإعفائه من الضريبة في وضع أفضل من ذلك الذي التزم الحلال، والشريعة لا تقر دفع الضرر بضرر مثله، والضرر الثاني هو عدم مساهمته في التكاليف اللازمة للمصالح العامة حين يُعفى من الضريبة. وهذا في كتاب (الفتاوي) للشيخ محمد شلتوت صفحة 620 وما بعدها.
ورد في تقرير حلقات الدراسات الاجتماعية ما يلي: إن هذه السندات صارت سلعة فعلًا، فلو أعفيناها من الزكاة لما يلابسها من محرم لأقبل الناس على شرائها، ولأدى ذلك إلى الإمعان في التعامل بها، فيكون ذلك مشجعًا على المحرم، ولا يكون قطعًا له، ولأن صرف الكسب الخبيث في الصدقات غير ممنوع. (حلقة الدراسات الاجتماعية لجامعة الدول العربية صـ373 وما بعدها). والدكتور يوسف القرضاوي يرى في السندات أنها تُنمى وتجلب للدائن فائدة وإن كانت محظورة، فإن حظر هذه الفائدة لا يكون سببا لإعفاء صاحب السند من الزكاة؛ لأن ارتكاب الحرام لا يُعطي صاحبه مزية عن غيره، ثم يقول: ولهذا أجمع الفقهاء على وجوب الزكاة في الحُلي المحرم على حين اختلفوا في المباح. (فقه الزكاة) للشيخ القرضاوي الجزء الأول صـ527 وما بعدها. تلك هي أقوال الفقهاء الذين ذهبوا إلى وجوب الزكاة في السندات وما توصل إليه العلماء في هذا الصدد شبيه بما تسير التشريعات الضريبية الوضعية التي تقضي بأنه لا عبرة لمشروعية الإيراد، فلو تحقق للمموّل إيرادًا غير مشروع خضع للضريبة، فلو أن شخصًا اتّجر في المخدرات مثلًا وحقق من جراء ذلك إيرادًا خضع لضريبة الأرباح التجارية والصناعية دون نظر لمشروعية الإيراد من عدمه. وفي كيفية زكاة هذه السندات يرى البعض أنها إن اتخذت للتجارة فهي عُرُوض التجارة، يجب فيها ما يجب في عُرُوض التجارة متى بلغت النصاب وحال عليها الحول، وتجب الزكاة في كامل قيمتها في نهاية العام -أي رأس المال مضاف إليه الفوائد- وذلك بمعدل 2.5% سنويًّا أي ربع العشر، أما إذا اقتنيت السندات بغرض الحصول على فائدتها فتؤخذ الزكاة في هذه الحالة من الفائدة فقط باعتبار أن السندات والحالة هذه بمثابة الأموال الثابتة، ويكون المعدل الواجب هو 10% من صافي غلتها حيث لا تكاليف تذكر لتحقيق الإيراد في هذه الحالة.
ونحن نختار ما ذهب إليه الفقهاء بوجوب الزكاة في السندات، وذلك للتبريرات التي ذكروها. سادسًا- كسب العمل وحكم زكاته: إذا كانت السنة النبوية الشريفة قد سكتت عن بيان حكم كسب العمل بالنسبة للزكاة فإن ذلك يرجع إلى أن معظم المسلمين في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما كان يشغلهم سوى الجهاد، وإيجار العمل كان محدودًا كان الأرقاء ومن في حكمهم يقومون بالعمل مما لم يستدعِ الأمر بحث مدى وجوب الزكاة في شأن كسب العمل، ينظر في ذلك إلى كتاب (الخراج) للقاضي أبي يوسف صـ45 الناشر المطبعة السلفية ومكتبتها القاهرة. لكن لنا في العطاء سند في بحث هذا الأمر، لذلك سوف نحاول في هذا الصدد استعراض بعض النصوص الإسلامية التي تلقي الضوء على مفهوم العطاء، ثم نعلق على هذه النصوص. أولًا- العطاء في زمن الخليفة الأول أبي بكر الصديق: قال أبو يوسف -رحمه الله-: وهذا وارد في كتاب (الخراج) صـ45 قال أبو يوسف -رحمه الله-: وحدثني ابن أبي نجيح قال: قدم على أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- مال، فقال: "من كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة فليأتِ يعني من كان قد وعده النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من المال فليأتِ، فجاءه جابر بن عبد الله، فقال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا)) يشير بكفيه. فقال له أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-: "خذ" فأخذ بكفيه، ثم عده فوجده خمسمائة، فقال: "خذ إليها ألفًا" فأخذ ألفًا، ثم أعطى كل إنسان كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعده شيئًَا، وبقيت بقية من المال، فقسمها بين الناس بالسوية على الصغير والكبير، والحر والمملوك، والذكر والأنثى، فخرج على سبعة دراهم وثلث لكل إنسان، فلما
كان العام المقبل جاء مال كثير هو أكثر من ذلك، فقسمه بين الناس، وأصاب كل إنسان عشرين درهمًا، قال: فجاء ناس من المسلمين، فقالوا: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنك قسمت هذا المال، فسويت بين الناس، ومن الناس أناس له فضل وسوابق وقدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل بفضلهم، فقال: أما ما ذكرت من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك، وإنما ذلك شيء ثوابه على الله -جل ثناؤه- وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأفضل". ثانيًا- العطاء في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: يتابع أبو يوسف حديثه في هذا الصدد، فيقول: فلما كان عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- وجاءت الفتوح، فضل وقال: لا أجعل من قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كمن قاتل معه، ففرض لأهل السوابق والقدم من المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرًا خمسة آلاف خمسة آلاف، ولمن لم يشهد بدرًا أربعة آلاف أربعة آلاف، وفرض لمن كان له إسلام كإسلام أهل بدر دون ذلك أنزلهم على قدر منازلهم من السوابق. ومن النصوص التي ذكرناها من الممكن أن نستخلص منها الآتي: العطاء عند أبي بكر: اعتبر أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- العطاء بمثابة معاش للناس ثابت في دوريته كلما كان هناك مال، ولكنه غير ثابت في قدره، فقد بلغ نصيب الفرد -كما ذكرنا- في السنة الأولى سبعة وثلث درهمًا، ارتفع في السنة الثانية إلى عشرين درهمًا. رأى أبو بكر التسوية بين في هذا المعاش، فسوى بين الصغير والكبير، والحر والمملوك، والذكر والأنثى. أيضًا اشتمل العطاء بجانب المعاش الثابت للناس على الهبات التي كان وعدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبعضهم.
وأما بالنسبة للعطاء عند عمر، فقد رأى عمر -رضي الله عنه- عدم التسوية بين الناس في العطاء -كما رأينا- وجعل عمر -رضي الله عنه- العطاء كل سنة أي ثابتًا في دورته أيضًا، فهو يقول: فإني أرى أن أجعل العطاء كل سنة، وأجمع المال فإنه أعظم للبركة. أيضًا كانت العوامل الموجبة لتفضيل بعض الناس على بعض في العطاء في نظر عمر عوامل مختلفة، من بينها ما يقوم به من الأمور، وما يؤديه من عمل، وعلى ما يُصلح معيشته، وعلى قدر فضله أو سبقه أو قدمه في الإسلام، فالرجل وجهاده في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناه في الإسلام، والرجل وحاجاته في الإسلام. كان عمر -رضي الله عنه- يميل أيضًا إلى المساواة في العطاء إذا وفّر المال وكفى لذلك، يقول أبو عبيد: وقد كان رأي عمر الأول التفضيل على السوابق، والغناء عن الإسلام، وهذا هو المشهور من رأيه، وكان رأي أبي بكر التسوية، ثم قد جاء عن عمر شيء شبيه بالرجوع إلى رأي أبي بكر. ومن هنا نرى أن الخليفة أبا بكر -رضي الله عنه- رأى في العطاء معاشًا ثابتًا، بينما رآه عمر بن الخطاب جزاء عمل أو فضل في الإسلام، ولكنه في النهاية رجع إلى رأي أبي بكر. أخذ الزكاة في العطاء: قد ثبت أن الزكاة كانت تُستحق على العطاء في زمن الخلفاء الراشدين، رُوي عن هبيرةَ ابن مريم، قال: كان عبد الله بن مسعود يعطينا العطاء في زِبْلِس فصغار -ومعناه القفة- ثم يأخذ منه الزكاة. وأيضًا روي أنه كان عمر بن الخطاب إذا خرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد.
أيضًا كان عمر بن عبد العزيز إذا أعطى الرجل عملته يعني أجره أخذ منها الزكاة، وكان يأخذ الزكاة من الأعطية إذا خرجت لأصحابها. ونحن نرى أن ما ذكرناها من خضوع العطاء للزكاة له شبيه فيما تسير عليه التشريعات الضريبية في هذا الشأن، فلو نظرنا إلى التشريع الضريبي المصري مثلًا لوجدنا أنه يفرض الضريبة على الإيرادات المعتبرة في حكم المرتبات، حيث تقضي المادة (55) من القانون (157) لسنة 1981م الخاص بالضرائب على الدخل بسريان التشريعات الضريبية على الإيرادات المعتبرة في حكم المرتبات حيث تقضي المادة (55) من القانون (157) لسنة 1981 الخاص بالضرائب على الداخل بسريان الضريبة على المرتبات وما في حكمها مما يعني سريان الضريبة على الإيرادات التي تُدفع بشكل دوري منتظم حتى ولو لم تكن مقابل عمل أو خدمة في الحاضر أو الماضي. ولو طبقنا ذلك على العطاء لوجدنا أنه يأخذ حكم المرتب في فرض الضريبة عليه، حتى ولو لم يكن مقابل عمل أو خدمة في حالة ما إذا اعتبرناه معاشًا ثابتًا كما ذهب إلى ذلك الخليفة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه. ومن باب أولى يأخذ العطاء حكم المرتب في فرض الضريبة عليه إذا اعتبرناه جزاء عمل أو فضل في الإسلام كما ذهب إلى ذلك الخليفة عمر بن الخطاب، وعلى ضوء ما تقدم لا يمكن القول بإعفاء كسب العمل من الزكاة، خاصة وأن هذا الإيراد أصبح يمثل القسط الأكبر من الدخل القومي في الوقت الحاضر، ولمجافاة إعفائه من الزكاة لمبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل عبء الزكاة. لذلك نادى بعض الفقهاء المعاصرين بإيجاب الزكاة في كسب العمل، فيقول علماء حلقة الدراسات الاجتماعية في هذا الشأن: ولا شك أنه إذا جُمع منه أي من المرتب ما يساوي نصاب الزكاة، واستمر حولًا كاملًا، ولو نقص في أثناء العام، فإنه تجب في الزكاة مادام كاملًا في طرفي العام أوله وآخره، ولو نقص ولم
يفقد كله في أثناء العام -كما هو مذهب الحنفية- وذلك لأنه إن استمر طول العام من غير أن يُنفق كله يكون ذلك دليلًا على أنه لم يكن من حاجاته الأصلية، وهو نامٍ بالقوة باعتبار أن النقود يعتبرها الإسلام من المال النامي؛ لأنها خلقت للاستعمال أو للاستغلال لا للاكتناز، وبالتخريج على ذلك يمكن فرض الزكاة على كسب العمل كل عام؛ لأنه يندر أن يقطع طوال العام والكثير أن يبلغه في طرفيه، وبهذا التخريج يصح أن نعتبر كسب العمل وعاء للزكاة مع هذا التقييد لتتحقق العلة التي استنبطها الفقهاء، ونعتبرها تابعا للنصاب الذي يعد أساسا للزكاة. وقد تساهل الحنفية فاكتفوا بإكمال الرصيد في أول العام وآخره من غير أن يذهب كله في أثناء العام، فيجب أن نلاحظ ذلك عند فرض الزكاة على كسب العمل وعلى المهن الحرة لتحقيق الحد الفاصل بين الغنى والفقير. يراجع في ذلك حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية صـ243 وما بعدها. ويستخلص من هذا الرأي ما يلي: خضوع كسب العمل لمعدل زكاة النقدين 2.5% أي ربع العشر، لابد للخضوع للزكاة من وجود النصاب في أول العام وفي آخره وحولان الحول عليه. يشترط أن يكون هذا النصاب فاضلًا عن حاجة الممول الأصلية، فإن أنفق الدخل من كسب العمل كله فلا زكاة عليه، والخلاصة أنه بإيجاب الزكاة في الأموال المستحدثة، والتي تكلمنا عنها فيما سبق تتحقق العمومية المادية في الزكاة إلى أقصى حد ممكن، وبالتالي تتحقق المساواة الكاملة بين أفراد المجتمع الذين يملكون نصاب الزكاة من أي نوع من أنواع الأموال التي يتحقق فيها وصف النماء متى
تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة.
تحققت بقية الشروط الأخرى اللازمة لوجوب الزكاة، وذلك في تحمل عبء الزكاة. وإذا كنا قد تكلمنا عن العمومية المادية في الزكاة، وذكرنا الأموال التي كانت معروفة أيام فقهائن القدامى، ثم تكلمنا عن الأموال المستحدثة أو الأموال النامية في هذه العصور المتأخرة، مثل المصانع ومثل العمارات والمرتبات وغير ذلك، فلابد من وجود عوامل تحقق هذه العمومية، ولذلك سوف نتحدث عن العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الزكاة. نقول: وإذا قلنا بأننا قد تحدثنا عن العمومية المادية في الزكاة، وذكرنا الأموال التي تجب فيها الزكاة من الأموال التي كانت معروفة أيام فقهائنا القدامى، والأموال التي استجدت في هذه العصور وأصبحت من الأموال النامية التي تجب فيها الزكاة، نقول: لابد أيضًا من وجود عوامل تؤدي إلى تحقيق هذه العمومية في الزكاة، وتؤدي إلى أن تخرج الزكاة من كل الأموال التي توافرت فيها شروط الزكاة حتى يتحقق العدل بين أبناء الأمة. ونكتفي بهذا القدر من المحاضرة، وإن شاء الله نكمل في المحاضرة القادمة، استودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الزكاة تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن الأموال النامية التي حدثت في هذه العصور، وسوف نتحدث في هذه المحاضرة عن العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الزكاة فنقول: رأينا من خلال دراستنا لفكرة العمومية في الزكاة أن تلك العمومية قد تأكدت على الوجه الأكمل, إلا أن الأحكام الخاصة بالزكاة لم تكتف بتلك العمومية, بل عملت على ضمان تحققها, فقد تكون العمومية متوفرة, ولكن قد يأتي العمل ليخل بها, وبالتالي نجد أن تلك الأحكام في نفس الوقت الذي تهتم فيه بإظهار الجوانب المختلفة لهذه العمومية, تعمل على إبعاد كل ما من شأنه
الإخلال بها, وهنا نجد أن هناك عدة عوامل تساعد على ضمان تحقق العمومية في الزكاة, ومن أهل هذه العوامل: تجنب الازدواج في أداء الزكاة, تجنب الراجعية في الزكاة, محاربة التهرب من أداء الزكاة, وسوف نلقي الضوء على كل عامل من هذه العوامل. أ- تجنب الازدواج في أداء الزكاة: من أهم ما جاء في تجنب الازدواج في أداء الزكاة القانون الذي أعلنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((لا ثني في الصدقة)) قال أبو عبيد: يعني ألا تؤخذ من عام مرتين, فعلى ذلك تتحقق ظاهرة الازدواج الزكوي عندما تُفرض نفس الزكاة, أو زكاة من نفس النوع مرتين على نفس الشخص, وبالنسبة لنفس المادة, وفي حول واحد, قرر ابن قدامة وغيره أخذًا من هذا الحديث أنه لا يجوز إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد, وقد استنتج الفقهاء عدة أحكام, ومبادئ في هذا الشأن: من ذلك أن أبا حنيفة يرى أن مالك الإبل, أو البقر, أو الغنم, إذا أخرج زكاتها إبلًا, أو بقرًا, أو غنمًا, ثم باعها بعد ذلك, فالثمن الذي باعها به لا يضمه إلى ما عنده من نقود بلغت نصابًا, يريد إخراج زكاتها؛ لأن هذا الثمن قد خرجت زكاته عن طريق الإبل, أو البقر, أو الغنم, فضمه إلى النقود التي لم تزك, وزكاته معها, يعتبر ثنيًا, معنى ذلك فيه أخذ الزكاة عن المال الواحد مرتين, يعتبر ثنيًا في الزكاة؛ لأنه في هذه الحالة تكون قد خرجت عنه الزكاة مرتين,
والثني منفي بالحديث, من أدى زكاة نقوده, ثم اشترى بها إبلًا, أو غيرها من السوائم وعنده سائمة من جنس السائمة التي اشترها بذلك النقد المزكي, فلا يضمها إليها, أي لا يزكيها عند تمام حول السائمة الأصلية؛ لأنها بدل مال أديت عنه الزكاة فل تجب مرة ثانية في الحول نفسه. قال جمهور الفقهاء: في الإبل, والبقر, والعوامل, وهي التي تعمل في الحرث, والسقي, وخدمة الزرع, أنها لا تجب فيها زكاة, وعللوا ذلك بأن في القمح صدقة, وإنما القمح بالبقر, وأكد هذا المعنى أبو عبيد بقوله: إنها إذا كانت تسقي وتحرث فإن الحب الذي تجب فيه الصدقة إنما يكون حرثه, وسقيه, ودياسه بها, فإذا صدقت هي أيضًا, أي أخرجت الزكاة عنها مع الحب صارت الصدقة مضاعفة على الناس, وهذا معناه الازدواج في الزكاة. أيضًا فإن فقهاء الحنفية تجنبًا للازدواج في الزكاة يقولون: لا يؤخذ العشر من الأرض الخراجية, أي المفروض على رقبتها ضريبة سنوية محددة, حتى لا يجتمع العشر, والخراج, في أرض واحدة. وبهذه الأحكام وبغيرها استُبعد الازدواج في وجوب الزكاة بشكل يساعد على ألا يؤدي المكلف أكثر من الواجب عليه, وبالتالي يتساوي مع غيره في عدم دفعه الزكاة على أمواله إلا مرة واحدة, وبالتالي تتحقق المساواة بين المواطنين في تحمل التكاليف المالية المقررة في الدولة. كيفية تجنب الازدواج في تحصيل الزكاة: من أهم الطرق التي تمنع الازدواج في الزكاة, والتي سلكها التشريع المالي الإسلامي, محلية الجباية, فقد كان لدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من حكام
المسلمين, أجهزة مركزية للدولة الإسلامية, فقد جاء في كتابه -صلى الله عليه وسلم-- إلى زرعة بن ذي يزن ((إذا أتاكم رسلي فإني آمركم بهم خيرًا: معاذ بن جبل, وعبد الله بن رواحة, ومالك بن عبادة, وعتبة بن نيار, ومالك بن مرارة, وأصحابهم, فأجمعوا ما كان عندكم للصدقة والجزية, فأبلغوه رسلي, فإن أميرهم معاذ بن جبل)). الأموال لأبي عبيد صـ 259 وما بعدها. ومعنى هذا أن زرعة كان لديه جهاز إقليمي للجباية, وكان لدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جهاز مركزي للجباية, كان من أعضائه معاذ بن جبل, فوجود جهاز محلي مختص بالجباية, دون تدخل من الأجهزة المركزية, يمنع من أخذ الزكاة مرتين على المال نفسه, وفي نفس المدة, وبذلك لا يحدث ازدواج في تحصيل الزكاة. منع الازدواج في الزكاة يحقق المساواة بين المكلفين، الأصل أن توزع الأعباء المالية بين أفراد المجتمع توزيعًا عادلًا, يتفق وقدرة المكلف المالية, وبحيث لا يؤدى المقدار الواجب عليه مرتين عن نفس المال الخاضع للزكاة, فإذا حصل ازدواج في الزكاة فإن الشخص الذي لحقه هذا الازدواج يتحمل عبأًُ ماليًّا أكبر من العبء الذي يتحمله مكلف آخر, له نفس المقدرة المالية التي للمكلف الأول, وبهذا تنتفي المساواة بين المتماثلين, وفي هذا إخفاق لمبدأ المساواة الذي يجب أن يسود بين المواطنين في تحمل التكاليف المالية المقررة. ومن ناحية أخرى فإن الشخص الذي لحقه الازدواج سيفقد الثقة في الجهاز القائم على تحصيل الزكاة؛ نتيجة لشعوره بظلم وقع عليه, وهذا قد يؤدي به إلى التهرب من أداء ما يجب عليه من زكاة, والتهرب يهدر مبدأ المساواة بين الناس في تحمل التكاليف المالية المقررة, أما في حالة العمل على منع هذا الازدواج فإن كل إنسان سيتحمل من التكاليف المالية المقدار الذي يتناسب مع قدرته المالية فحسب, وبالتالي سيتحقق مبدأ المساواة المشار إليه.
ب- تجنب الراجعية في الزكاة: أيضًا تجنب الراجعية في الزكاة, قد يحدث في بعض الأحيان أن بعض المكلفين عندما تفرض عليه الضريبة يحاول أن يتخلص منها أو من بعضها عن طريق نقلها إلى غيره, وقد يساعده على ذلك ظروف المجتمع الاقتصادية, وعلاقته بأفراد مجتمعه, وبذلك يتخلص من بعض التكاليف المالية المفروضة عليه. وفي الواقع تعتبر راجعية الضريبة في النظم الوضعية إحدى العقبات الأساسية في تحقيق المساواة بين المواطنين في تحمل التكاليف المالية المقررة في الدولة. ومن أمثلة الراجعية في الضريبة: المنتج أو التاجر الذي يحسب الضريبة التي يدفعها ضمن نفقات إنتاجه, أو ثمن سلعته, ويضفيها بالتالي إلى ثمن مبيعاته, وكذلك المالك الذي يزيد الأجرة بما يُفرض عليه من ضريبة عقارية, وإذا كان ذلك وضع الضرائب وموقف كثير من المكلفين ممن لم يقدروا المصلحة العامة حق قدرها, فإن وضع الزكاة يختلف عن الضريبة في هذا الشأن, ونظرة الناس إليها غير نظرتهم إلى الضريبة, فالمسلم يشعر أن الزكاة ليست علاقة بينه وبين حكومة أو إدارة تحصيل, بل هي علاقة بينه وبين ربه -سبحانه وتعالى- قبل كل اعتبار, وهذا هو معنى العبادة في الزكاة التي بأدائها يتقرب المسلم إلى الله, ويشعر حين يؤديها أنه يحقق ركنًا من أركان الإسلام, ومن هنا كان إيتاؤها طاعة وصلاحًا. وبالإضافة إلى ما سبق فإن المسلم يعلم جيدًا أن الزكاة حق من حقوق الله واجب الأداء, ومن الطبيعي أن ما ذكرناه يولد في نفس المكلف الشعور بعدم إمكانية التحلل منها بطريق أو بآخر, وهذا الشعور في الواقع هو الشرط الأساسي لتجنب الراجعية في الزكاة.
يقصد من التهرب في المجال الضريبي التخلص من الالتزام بدفع الضريبة, ولكي تتحقق المساواة بين الأفراد في تحمل عبء الضريبة لابد وأن تكون الضريبة عامة, ويقصد بالعمومية أن تلحق الضريبة بكل مال, وبكل شخص, وهذا ما يعرف بالعمومية المادية, والعمومية الشخصية للضريبة, ويرى علماء المالية العامة أن انعدام المساواة في المجال الضريبي بين الممولين, إنما يرجع إلى عدة عوامل, من أهمها التهرب الضريبي, حيث في وجوده تتحطم قاعدة العمومية والمساواة؛ لأن التهريب يؤدي إلى تخلص المتهربين من نصيبهم في الأعباء العامة المالية, في الوقت الذي يلتزم فيه غير المتهربين بذلك النصيب, وهذا يؤدي إلى الإضرار بالمكلفين الذين يتحملون بصدق وإخلاص العبء الضريبي, وهكذا تنعدم المساواة بين المواطنين في تحمل التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة. وبالنسبة للزكاة نجد أن التشريع الإسلامي أوجد الوسائل التي من شأنها مكافحة التهرب من أداء الزكاة, وهذه الوسائل يمكن إجمالها في ثلاثة وسائل: - معرفة الأسباب التي تؤدي إلى التهرب من أداء الزكاة. - معرفة الصور أو الأساليب التي يلجأ المكلفون فرارًا من أداء الزكاة. - اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع التهرب من أداء الزكاة. أولًا: الأسباب التي تؤدي إلى التهرب من الزكاة: إن أسباب التهرب من أداء الزكاة يمكن إجماله في سببين رئيسين: أولًا: ظلم الإدارة أو القائمين بأمور جباية الزكاة وتوزيعها. ثانيًا: ضعف الوعي الإسلامي بصفة عامة, والوعي الزكوي بصفة خاصة. السبب الأول: ظلم الإدارة جبايةً وتوزيعًا: إن ظلم العاملين على جباية الزكاة لأصحاب الأموال من شأنه أن يشجع أصحاب هذه الأموال على التهرب من دفعها إلى الإدارة والعاملين عليها, كما
يشجع ضعاف الإيمان على التهرب من دفع الزكاة كلية بأي وسيلة من الوسائل, وهذا السبب يشمل الظلم في الجباية, والتوزيع. فبالنسبة لظلم الجباية قرر الفقهاء أن ظلم العامل أو الإدارة المسئولة عن جباية الزكاة يشكل عذرًا في إخفاء الزكاة, أو التهرب منها, فلا يحق لهذه الجهات في هذه الحالة اتخاذ أي إجراء لعقاب, أو تعزير مخفيها أو مانعها, وإنما أخذ الزكاة المهربة أو المخفاة فقط. وعلى كل حال فإن ظلم الإدارة أو القائمين على جباية الزكاة تمثل أهم الأسباب للتهرب منها, ويكفي أن نشير إلى أن من أهم الأسباب التي اضطرت الدولة في عهد السلطان قالون بمصر إلى إلغاء نظام جباية الزكاة بواسطة الدولة, وهذا من شأنه إهمال جباية الزكاة, هو ظلم العاملين عليها. وبالنسبة لظلم التوزيع, ويقصد بذلك أن حصيلة الزكاة تبدد, أو تنفق في غير مواضعها الشرعية, وهنا تثور مشكلة استخدام الحصيلة فيما يقتنع به المكلف, وهذه المشكلة في الواقع لها من الأهمية ما جعل النظرية الحديثة للضريبة تجعلها العامل الأساسي في نجاح أو فشل أية ضريبة؛ إذ إن سلوك الممول تجاه التزامه الضريبي يتوقف إلى حد كبير على الطريقة التي تستخدم الدولة بها حصيلتها, فإذا كانت سياسة الإنفاق غير رشيدة, أو غير واضحة, أو غير مقنعة للممول, بحيث يلمس آثارها بالنسبة لما يقدم له من خدمات, أو قيام مشروعات ناجحة, فإنه يعمل جاهدًا على التخلص من التزامه الضريبي. السبب الثاني: ضعف الوعي الإسلامي بصفة عامة, والزكوي بصفة خاصة: إن ضعف الوعي الإسلامي بصفة عامة, والوعي الزكوي بصفة خاصة, لا يخفي أمره على أحد في تأثيره على إهمال أمر الزكاة وعدم الاهتمام بشأنها, ويماثل
محاربة التهرب من أداء الزكاة.
هذا ما ذكره علماء المالية من أنه كلما زاد الوعي المالي, ضعف الباعث على التهرب, وبالعكس كلما ضعف الوعي المالي كلما كان الباعث على التهرب من الضرائب قويًّا وملموسًا. وعلى هذا فكلما كان الوعي الإسلامي قويًّا خاصة بالنسبة للزكاة كلما قل التهرب منها, وهذا وهناك أسباب أخرى يمكن أن تلاحظها الإدارة, والقائمون على شئون الزكاة, من حين لآخر, تبعًا للأحوال السائدة في المجتمع. محاربة التهرب من أداء الزكاة ولذلك نتكلم الآن عن الإجراءات الكفيلة بمنع التهرب من الزكاة: هناك إجراءات عديدة من شانها أن تمنع التهرب من الزكاة, ومن أهم تلك الإجراءات عدل الإدارة, أو القائمين على جباية الزكاة, وهذا العدل يشمل العدل في الجباية, والعدل في التوزيع. فالعدل في الجباية, هذا الموضوع يستلزم منا أن نوضح علاقة عمال الجباية بالممولين, هذه العلاقة نجد أنها تخضع لأمور, من أهمها: مدى احترام الممول للعامل, ومدى شعوره بأنه يؤدي له خدمة أكثر من أنه جابٍ لما يجب عليه من زكاة, وبالتالي كان منطقيًّا أن يكون أساس هذه العلاقة هو اختيار العامل نفسه, وقد ذكر الماوردي الشروط المعتبرة لعمال الزكاة, التي من أهمها: أن يكون العامل حرًّا, مسلمًا, عادلًا, عالمًا بأحكام الزكاة. فمن العدل في السياسية المالية التي يملكها ولي الأمر على من ولاه شيئًا من أمور الزكاة, أن يراقبه, ويحاسبه, وأن يأخذ على يده, ويعزله, ويصادر ما يملكه, كله, أو بعضه, إذا علم أنه قد أثرى من جباية المال على غير الوجه الحق. ولم يكتف الفقه الإسلامي بتحديد شروط اختيار العامل على الزكاة, بل ركز على مسئولية المصدق أمام الله -عز وجل- عن كل ظلم يقترفه في حق المكلفين, فقد
روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((العامل على الصدقة بالحق, كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)) وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحاسب عماله على ما في أيديهم محاسبة دقيقة. بالنسبة لتوزيع الزكاة: إذا كان سوء توزيع حصيلة الضرائب في النظم الوضعية من شأنه أن يؤدي بالممول إلى التهرب من أداء الضريبة كما ذكرنا, فإننا نجد أن الزكاة قد أُحسن توزيعها, فقد خصص القرآن الكريم استخدام حصيلة الزكاة لثمانية مصارف, حددها على سبيل الحصر, استهدف بها المساعدة على تحقيق أهداف معينة, حاول التشريع الإسلامي بكل مصادره إقناع المكلفين بضرورتها, وهذه المصارف ذكرها الله -تبارك وتعالى- بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (التوبة: من الآية: 60). ومن تخصيص الآية الكريمة بعض حصيلة الزكاة للعاملين عليها, دل ذلك على أن حصيلة الزكاة لها حساب مستقل, ولها ميزانية مستقلة, تسدد من حصيلتها ما ينفق عليها, وهذا ما يبرر الوجود المادي لحصيلة الزكاة في نظر المكلفين, ويجعل من استخدامها أمرًا ملموسًا. ومن الإجراءات أيضا التي تمنع التهرب من أداء الزكاة: تحريم الاحتيال لإسقاط الزكاة: وهذا الإجراء يعتبر من أهم الوسائل الفاعلة لمكافحة التهرب من أداء الزكاة, وقد رأينا من خلال كلامنا عن صور التهرب من أداء الزكاة أن الفقهاء أجمعوا
على تحريم التصرف بكافة أنواعه في المال بعد وجوب الزكاة فيه؛ احتيالًا لإسقاط الزكاة, وعدم الاعتداد بهذا التصرف, وأيضًا رأينا جمهورهم يرى تحريم التصرف في المال قبل وجوب الزكاة فيه بمدة قليلة كشهر مثلًا؛ احتيالًا لإسقاط الزكاة, وعدم الاعتداد بهذا التصرف. وفي هذا المعنى يقول أبو يوسف في كتابه (الخراج): لا يحل لرجل يؤمن بالله, واليوم الآخر, منع الصدقة, ولا إخراجها عن ملكه إلى ملك جماعة غيره؛ ليفرقها بذلك, فتبطل الصدقة عنها, بأن يصير لكل واحد من الإبل, والبقر, والغنم, ما لا يجب فيه الصدقة, ولا يحتال في إبطال الصدقة بوجه ولا سبب. أيضًا من الأمور التي تمنع التهرب من الزكاة: تقرير عقوبات دنيوية مالية وجنائية, وأخروية على المتهرب: فمن العقوبات المالية التي توقع على المتهرب من أداء الزكاة ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((في كل ابن سائمة في كل أربعين ابنة لبون, لا تفرق إبل عن حسابها, ومن أعطاها مؤتجرًا فله أجرها, ومن منعها فإن آخذيها, وشطر إبله, عزيمة من عزامات ربنا -تبارك وتعالى)) فهذا الحديث حجة في أخذ الزكاة من الممتنع, ووقوعها موقعها, وأخذ نصف إبل الممتنع, وبعبارة أخرى مصادرة نصف ماله, يعتبر نوعًا من العقوبة المالية, التي يلجأ إليها ولي الأمر عند الحاجة؛ ليؤدب بها المتهربين, وهو من العقوبات التعزيرية التي تخضع لولي الأمر طبقًا لما يراه محققًا للمصلحة العامة. ولم يقف الأمر في عقوبة المتهرب من أداء الزكاة عند العقوبة المالية فحسب, بل إن هناك عقوبات جنائية تقع على المتهرب, إن لم تجد معه العقوبات المالية, وفي هذا يقول الإمام الماوردي:
وأما إذا ترك الزكاة فلا يقتل بها, وتؤخذ إجبارًا من ماله, ويعذر إن كتمها بغير شبهة, وإن تعذر أخذها لامتناعه, حورب عليها, وإن أفضى الحرب إلى قتله حتى تؤخذ منه كما حارب أبو بكر الصديق مانعي الزكاة. ينظر في ذلك الأحكام السلطانية للماوردي ص 192 وما بعدها. وفي هذا الأمر أيضًا يقول ابن حزم: وحكم مانع الزكاة إنما هو أن تؤخذ منه, أحب أم كره, فإن مانع دونها فهو محارب, وإن كذب بها فهو مرتد, فإن غيبها ولم يمانع دونها فهو آت منكرًا فواجب تأديبه أو ضربه حتى يحضرها, أو يموت قتيل الله تعالى إلى لعنة الله, كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكرا فليغيره بيده إن استطاع)) وهذا منكر, ففرض على من استطاع أن يغيره كما ذكرنا. فعقوبة المتهرب إذن كما يظهر من تلك النصوص لا تقتصر على الغرامة المالية فحسب, بل قد تتعدى ذلك إلى العقوبات البدينة المناسبة. على أنه يلاحظ أن التشريع الإسلامي لم يقصر الأمر في عقوبة المتهرب من دفع الزكاة على العقوبات الدنيوية المالية والبدنية, بل إنه قرر أيضًا عقوبة أخروية للمتهرب, فقد رُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته مُثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع, له ذبيبتان, يطوقه يوم القيامة, ثم يأخذ بلهزمتيه, (يعني بشقيه) ثم يقول: أنا مالك, أنا كنزك, ثم تلا -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ})) (آل عمران: من الآية: 180) وروي أيضًا عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها, إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من
نار, فأحمي عليها في نار جهنم, فيكوي بها جنبه, وجبينه, وظهره, كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, حتى يقضي بين العباد, فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)). وهذه العقوبات التي ذكرناها الدنيوية والأخروية, هي لا شك عقوبات رادعة من شأنها أن تمنع كل من تسول له نفسه التهرب من دفع الزكاة من الإقدام على هذا التهرب, فهي إذن مانعة من هذا الخلق الرديء, وهو التهرب من دفع الزكاة, وفي ذلك القضاء على أخطر ما يهدد المبدأ الذي يجب أن يقوم عليه توزيع الأعباء المالية التي يلتزم بها الأفراد في الدولة, وهو المساواة بينهم في تحمل الأعباء, فبالقضاء على خطر التهرب سيتحقق هذا المبدأ العام, وسيساهم كل مواطن في التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة الإسلامية. أيضًا عرف في الفقه الإسلامي: الحجز عند المنبع: يعني نأخذ الضريبة قبل أن يأخذ المسلم المال, فاتبعت طريقة الحجز عند المنبع, كإجراء يمنع المكلف من التهرب من أداء الزكاة, فقد روي عن القاسم بن محمد أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان إذا أعطي الناس أعطياتهم -يعني رواتبهم- يسأل الرجل: هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة؟ فإذا قال: نعم, أخذ من عطائه ذلك المال, وإن قال: لا, أسلم إليه عطاءه, ولم يأخذ منه شيئًا. وكذلك كان عمر بن الخطاب إذا خرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب, والشاهد. أيضًا كان عمر بن عبد العزيز إذا أعطى الرجل عملته, أي أجره أخذ منها الزكاة, وإذا رد المظالم أخذ منها الزكاة, وكان يأخذ الزكاة من الأعطية إذا خرجت لأصحابها, ينظر في ذلك إلى الأموال لأبي عقيل ص526 وما بعدها.
إقرار الثروة: أوجب التشريع الإسلامي على المكلفين أن يقروا بما لديهم من أموال, بصورة أمينة, إلى عمال الزكاة, ولا يخفوها عنهم, ويدل على ذلك عن جرير بن عبد الله أنه كان يقول لبنيه: يا بني إذا جاءكم المصدق فلا تكتموه من نعمكم شيئًا, فإنه إن عدل عليكم فهو خير لكم وله, وإن جار عليكم فهو شر له وخير لكم, وروي عن زاهر بن يربوع أن رجلًا جاء إلى أبي هريرة فقال: أأخبئ منهم -أي عمال الزكاة- كريمة مالي, يعني الشاه الطيبة, قال: فقال لا, إذا أتوكم فلا تعصوهم, وإذا أدبروا فلا تسبوهم, فتكون عاصيًا خفف عن ظالم, ولكن قل: هذا مالي, وهذا الحق, فخذ الحق وذر الباطل, فإن أخذه فزاد, وإن تعده إلى غيره جمع لك في الميزان يوم القيامة. عن أبي هريرة, وأبي أسيد صاحبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهما قالا: إن حقًّا على الناس إذا قدم عليهم المصدق أن يرحبوا به, ويخبروه بأموالهم كلها, ولا يخفوا عنه شيئًا فإن عدل فسبيل ذلك, وإن كان غير ذلك واعتدى لم يضر إلا نفسه, وسيخلف الله له, أي يعوضهم عما أخذ منهم. ولا شك أن التشريع الإسلامي بهذا, أي بإقرار الثروة, يكون قد سبق علماء المالية العامة المعاصرين, الذين ينادون بضرورة العمل على إزالة أسباب التوتر بين الممولين, ورجال مصلحة الضرائب, حتى تزيد الثقة, ويتحقق التعاون بينهم؛ لأن العلاقة بين الممول, وبين عمال الجباية, يجب أن تكون بعيدة عن أي لون من ألوان العداوة, لذلك أنه في الوقت الحاضر تعمل الإدارات المالية جاهدة على تحسين علاقتها مع الممولين, وإزالة أسباب عدم الثقة والتوتر بينها وبينهم, ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى مكافحة التهرب الضريبي.
أيضًا: على المسلم أن يعلم أن الزكاة تظل دينًا في عنق المسلم, لا تبرأ ذمته منه, ولا يصح إسلام إلا بأدائها, وإن تكاثرت الأعوام, وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن حزم: من اجتمع في ماله زكاتان فصاعدًا, وهو حي, تؤدي كلها لكل سنة على عدد ما وجب عليه في كل عام, وسواء كان ذلك لهروبه بماله, أو لتأخير الساعي, أو لجهله, أو لغير ذلك, وسواء في ذلك العين, والحرث, والماشية, وسواء أتت الزكاة على جميع ماله, أو لم تأت, وسواء رجع ماله بعد أخذ الزكاة منه إلى ما لا زكاة فيه, أو لم يرجع, ولا يأخذ الغرماء شيئًا حتى تستوفى الزكاة. وبهذا نرى أن مسلك التشريع الإسلامي يختلف عن مسلك التشريعات المالية الحديثة التي تأخذ بمبدأ سقوط الضرائب بالتقادم بمرور مدة معينة دون المطالبة بها, فمعنى ذلك أن الزكاة لا تسقط بالتقادم. هذه هي أهم الإجراءات الكفيلة بمنع التهرب من أداء الزكاة, والأخذ بها -لا شك- من شأنه أن يكون حائلًا بين من تسول له نفسه التهرب من أداء الزكاة, وبين هذا التهرب, ونحن نعرف أن القضاء على التهرب من أداء الزكاة معناه أن يساهم الجميع في التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة دون استثناء, وبالتالي تتحقق المساواة الكاملة بين المكلفين في تحمل التكاليف العامة المالية في الدولة, والتي من أهمها الزكاة. ومن الأمور التي ينبغي أن نلفت إليها النظر مراعاة ظروف المكلف؛ لأنا -كما قلنا- ندرس هذه الزكاة, أو غيرها من موارد بيت المال, ندرسها من ناحية المساواة, ومن ناحية العدالة, والعدالة تقتضي أيضًا أن تفرض الزكاة بمقدار معين يتناسب مع المكلف, وهذا ما يسمى بمراعاة ظروف المكلف بأداء الزكاة.
نقول: لما كان الهدف من فرض الزكاة هو تعميم النفع, فليس من مقتضيات ذلك أن تفرض الزكاة على المكلفين بطريقة جامدة, لا تراعي ظروفهم, ولا تهتم بتوفير العدل الذي يتطلبه الإسلام في كل شئون الحياة في المجتمع, فالعدالة تقتضي أن يشترك المكلف في المساهمة في نفقات الدولة تبعًا لمقدرته المالية, أي أن توزع التكاليف العامة المالية على الممولين حسب يسارهم. إن العمومية في الزكاة وإن كان لها أهميتها الكبرى, إلا أنها ولابد وأن تقترن بفكرة أخرى هي شخصية العبء الزكوي نفسه, فلا يكفي أن يتحمل كل فرد عبئً زكويًّا, ولكن لابد وأن يتفق هذا العبء مع مقدرة الممول المالية, وظروفه الشخصية, ولقد كان الإسلام سباقًا إلى تبني فكرة المقدرة التكلفية للممول, فالتكاليف المالية الإسلامية تفرض على أساس الطاقة المالية, أي المقدرة التكلفية, فالأصل في الإسلام أن يكون التكليف بما في الوسع والطاقة, وفي ذلك يقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية: 285) وقد حدد القرآن الكريم هذه الطاقة المالية بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} (البقرة: من الآية: 219) والعفو هو الفائض المتيسر مما زاد عن الكفاية, والحاجة, وقد وردت الآية القرآنية تؤكد وجوب الإنفاق من الفضل الزائد عن الحاجة, فيقول الله تعالى: {وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُم} (البقرة: من الآية: 236). وإذا كنا نقول بضرورة المساواة بين المسلمين في التكاليف بالزكاة, متى تحققت الشروط اللازمة لوجوب الزكاة, فإن ذلك لا يعني أن يتساوي مقدار ما يؤديه كل فرد من الزكاة, مهما اختلفت مقدرتهم المالية على الأداء؛ لأن المساواة في هذه الحالة ظلم؛ لأنها مساواة بين غير متماثلين, أما إذا تعادلت المقدرة المالية,
والظروف الاجتماعية, لطائفة من الممولين, فإنه يجب أن يتساوي المقدار المأخوذ من كل فرد من أفراد هذه الطائفة في الزكاة, فالمقصود بالمساواة إذن في هذا المجال أن يتحمل كل فرد قدرًا من الأعباء المالية, يتفق ويتناسب مع مقدرته المالية على الأداء, فيؤدي الجميع الزكاة وفق مقدار ثروتهم, وبعد مراعاة ظروفهم الشخصية, والعائلية. ونستخلص مما تقدم أنه لا يتعارض مع المساواة في هذا المجال إعفاء من لم يملك النصاب من وجوب الزكاة عليه, أو من ملك نصابًا ليس فائضًا عن حاجته الأصلية, أو من عليه دينًا يستغرق نصاب لزكاة كله أو بعضه, أو طرح النفقات والتكاليف التي أنفقت على المال الخارج للزكاة, وسنتكلم عن ذلك بالتفصيل المناسب فيما يلي. إعفاء ما دون النصاب من الزكاة: من عدالة الإسلام في فرض الزكاة أنه أعفى المال اليسير من فرض الزكاة فيه, ولم يفرضها إلا على المال الذي يبلغ نصابًا كاملًا, وذلك ليكون أخذ الزكاة من العفو الذي يسهل على النفوس, ولا يشق عليها, قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} وقد فسر العفو بأنه ما زاد على الكفاية والحاجة, وأساس هذا الإعفاء أن الإسلام إنما افترض الزكاة على الأغنياء من الأمة؛ لترد على فقرائها, والنصاب هو الحد الأدنى للغنى في نظر الشارع, فمن لم يملك هذا النصاب لم يملك الغنى الموجب للزكاة, ومن ثم لا معنى لأن تؤخذ منه زكاة؛ لأنه في حاجة إلى أن يعان, لا أن يعين, ولذلك قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ((خير الصدقة من كان عن ظهر غنى, وابدأ بمن تعول)).
والحكمة من اشتراط نصاب معين لوجوب الزكاة أنه لما كان الأغنياء هم المكلفون بأداء الزكاة, لزم تحديد القدر الذي يعتبر به الشخص غنيًّا, فإذا كان غير مالك لهذا القدر اعتبر فقيرًا, لا يعفى فقط من أداء الزكاة, وإنما يمكن أيضًا صرفها إليه؛ إذ ما نقص عن النصاب يعتبر حدّا أدنى لازمًا للمعيشة, بحيث إذا لم يبلغ الشخص النصاب أصبح مستحقًا للزكاة. والإسلام جعل لكل نوع من الأموال نصابًا معينًا لا تجب الزكاة فيما نقص عنه؛ وذلك مراعاة لظروف المكلف, وقد ذكرنا ذلك فيما مضى, ذكرنا نصاب الزروع, والثمار, وغير ذلك, فنكتفي بما ذكرناه هناك. إعفاء الحد الأدنى اللازم للمعيشة: اشترط بعض الفقهاء أن يكون النصاب فاضلًا عن حاجات مالكه الأصلية؛ لأنه به يتحقق معنى الغنى, ومعنى النعمة, وهو الذي يحصل به الأداء عن طيب نفس؛ إذ المال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون صاحبه غنيًّا عنه, ولا يكون نعمة؛ إذ التنعم لا يحصل إلا بالقدر المحتاج إليه حاجة أصلية؛ لأنه من ضرورات البقاء, وقوائم البدن, والحاجة الأصلية هي ما لا غنى عنه للإنسان في بقائه, كمأكله, ومشربه, وملبسه, ومسكنه, وما يعينه على ذلك من كتب علمه, وأدوات حرفته, ونحو ذلك, وقد فسر بعض علماء الحنفية الحاجة الأصلية بقوله: هي ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقًا كالنفقة, ودور السكنى, وآلات الحرب, والثياب المحتاج إليها لدفع الحر, أو البرد, أو تقديرًا كالدين, فإن المدين يحتاج إلى قضائه بما في يده من النصاب؛ ليدفع عن نفسه الحبس الذي هو كالهلاك, وكآلات الحرفة, وأثاث المنزل, ودواب الركوب, وكتب العلم
لأهلها, فإن الجهل عنده كالهلاك, فإذا كان له دراهم مستحقة يصرفها إلى تلك الحوائج صارت كالمعدومة, والمعتبر هنا الحاجات الأصلية للمكلف بالزكاة, ومن يعوله من الزوجة, والأولاد, مهما بلغ عددهم, والوالدين, والأقارب الذين تلزمه نفقتهم, فإن حاجتهم من حاجته. والحاجة الأصلية يعبر عنها بعض العلماء المحدثين بحد الكفاية, الذي يجب أن يتوافر للإنسان؛ لأنه مما يتعلق بمتطلبات الحياة الكريمة, بمعنى أن الفرد يعد فقيرًا متى لم تتوفر له متطلباته بالقدر الذي يجعله في بحبوحة من العيش, وغني عن غيره, وضمان حد كفايه هو في الإسلام أمر مقدس باعتباره حق الله الذي يعلو فوق كل الحقوق, وأن في إنكاره, أو في إغفاله إنكار للدين نفسه, ويدل على هذا الإعفاء قوله -صلى الله عليه وسلم: ((خير الصدقة من كان على ظهر غنى, وابدأ بمن تعول)) فهذا الحديث يدل على أن شرط المتصدق ألا يكون محتاجًا لنفسه, أو لمن تلزمه نفقته, ويدل على ذلك أيضًا ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((دينار أنفقته في سبيل الله, ودينار أنفقته في رقبة, ودينار تصدقت به على مسكين, ودينار أنفقته على أهلك, أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)) فهذا الحديث يدل على أن حاجة الإنسان, وحاجة أهله الذين تلزمه نفقتهم, مقدمة على حاجة غيره. وهذا الإعفاء في الواقع لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل عبء الزكاة, وذلك لأن حاجة الإنسان مقدمة على حاجة غيره, وكذا حاجة أهله, وولده, ومن يعوله بمنزلة حاجة نفسه, فكيف نطلب منه الزكاة مما يحتاج إليه, ويتعلق قلبه به لمسيس حاجته إليه, وقد رأينا فيما سبق أن المقصود بالمساواة في هذا المجال أن يتحمل كل فرد قدرًا من الأعباء المالية يتفق مع مقدرته المالية على
الأداء, ولا شك أن الشخص الذي يكون في حاجة ماسة إلى المال الذي معه, ليست لديه مقدرة مالية على الأداء, وبالتالي فإن إعفاءه من الزكاة لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين, في تحمل التكاليف العامة المقررة في الدولة. ومن الأمور التي يراعى فيها حال المكلف بالزكاة خصم الديون: تختلف مقدرة الممول المالية بحسب ما إذا كان مدينًا, أو غير مدين؛ ولذا فإن مراعاة المقدرة على الأداء تتطلب وجوب خصم أعباء الديون من المال محل الزكاة, قبل فرض الزكاة عليه, وهذا ما قال به بعض الفقهاء, إذ يرون أنه لا تجب الزكاة على من عليه دين يستغرق النصاب كله أو بعضه, ولو كان الدين من غير جنس المال المزكي, فالدين عندهم يمنع وجوب الزكاة في سائر الأموال, فمن كان عنده مال وجبت زكاته, وعليه دين, فليخرج منه قدر ما يفي منه أولًا, ثم يزكي الباقي إن بلغ نصابه, ومعنى كلام هؤلاء الفقهاء أنه ينبغي عليه أولًا أن يخصم الديون التي عليه, ثم بعد ذلك ما بقي بعد هذه الديون إن بلغ نصابًا زكاه, وإن لم يبلغ نصابًا فلا زكاة عليه. ويقول بعض العلماء في هذا الشأن: من كان عليه دين يحيط بماله, وله مطالب من جهة العباد, سواء كان لله -عز وجل- كالزكاة, أو للناس كالقرض, وثمن المبيع, وضمان المتلفات, وأرش الجراحة, ومهر المرأة, وسواء كان من النقود, أو من غيرها, وسواء كان حالًا أو مؤجلًا, فلا زكاة عليه؛ وذلك لأن النصاب مشغول بحاجة المدين الأصلية, أي أنه معد لما يدفع عنه الهلاك حقيقة أو تقديرًا؛ لأنه محتاج إليه لقضاء دينه. وهناك آثار كثيرة تؤيد خصم الديون: منها ما روي عن عثمان بن عفان أنه قال: هذا شهر زكاتكم, فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم. وهذه
الآثار موجودة في كتاب الأموال لأبي عبيد ص 534 وما بعدها، حتى يعرف ما بقي من المال بعد أداء الدين, فيخرج زكاته, إن كان يبلغ نصابًا. أيضًا ما روي عن ميمون بن مهران أنه قال: إذا حلت عليك الزكاة, فانظر كل مالك, ثم اطرح منه ما عليك من الدين, ثم زك ما بقي. وما روي عن سليمان بن يسار أنه سئل عن رجل له مال, وعليه دين, أعليه زكاة؟ قال: لا, هذا إذا كان ما بقي من المال بعد أداء الدين لا يبلغ نصابًا. وخصم الديون من المال المعد للزكاة يتمشى مع روح الشريعة الإسلامية, فالزكاة لا تشرع إلا عن ظهر غنى, كما أخبرنا بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا غنى عند المدين, وهو محتاج إلى قضاء دينه, كحاجة الفقير أو أشد, وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك, لدفع حاجة غيره. ومما سبق نرى أن الدين الذي يستغرق النصاب كله أو بعضه, يمنع وجوب الزكاة في سائر الأموال؛ لأن الزكاة تفرض على أساس الطاقة, والسعة للمكلفين بها, وتحدد هذه المقدرة على أساس خلو ذمة المكلف من الديون, فضلًا عن أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء لترد إلى الفقراء, والمدين لا يمكن أن تؤخذ منه الزكاة؛ لأنه يعد من الغارمين الذين يستحقون الزكاة, وهذا ما قرره أبو عبيد بقوله: إذا كان الدين صحيحًا قد عُلم أنه على رب الأرض, فإنه لا صدقة عليه فيها, ولكنها تسقط عنه لدينه, كما قال ابن عمر, وطاوس, وعطاء, ومكحول, ومع قولهم أيضًا أنه موافق لاتباع السنة, ألا ترى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما سن أن تؤخذ الصدقة من الأغنياء فترد في الفقراء, وهذا الذي عليه دين يحيط بماله, ولا مال له, وهو من أهل الصدقة, فكيف تؤخذ منه الصدقة وهو من أهلها, أم كيف يجوز أن يكون غنيًا فقيرًا في حال واحدة؟ ومع هذا إنه من الغارمين أحد الأصناف
الثمانية, فقد استوجبها من جهتين. ينظر في ذلك الأموال لأبي عبيد ص 612 وما بعدها. وإعفاء من عليه دين يستغرق النصاب كله, أو بعضه, من أداء الزكاة, لا يتعارض -في اعتقادنا- مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل عبء الزكاة؛ لأن المدين قد تأثرت مقدرته المالية على أداء الزكاة, والزكاة لا تفرض إلا على أساس الطاقة, والسعي -كما رأينا, وأيضًا فإن المدين أصبح بوجوب الدين عليه أصبح مستحقًّا للزكاة بوصف الغارمين الذين هم من الأصناف المستحقة للزكاة كما ذكرنا, وأيضًا يستحقها بوصف الفقر؛ لأن المدين ليس بغني, ونخرج من ذلك بأن إعفاء المدين من أداء الزكاة لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة, ومنها الزكاة. ومن الأمور التي نراعي بها ظروف المكلف بالزكاة, خصم النفقات, والتكاليف: أخذ المشرع الإسلامي بفرض الزكاة على الدخل الصافي, ففي زكاة الزروع والثمار يرى بعض الفقهاء خصم الدين الذي يكون قد اقترضه رب الزرع والثمر, من أجل الإنفاق على الزرع, ويدل على ذلك الآثار الآتية: ما روي عن جابر بن زيد أنه قال في الرجل يستدين فينفق على أهله, وأرضه, قال: قال ابن عباس: يقضي ما أنفق على أرضه, وقال ابن عمر: يقضي ما أنفق على أرضه, وأهله, أي أنه يخصم هذه النفقات من الأموال أولًا, وإن بقي مال بلغ نصابًا تجب زكاته, وإن لم يبلغ نصابً فلا زكاة عليه, ورواه يحيي بن آدم بقوله: قال ابن عمر: يبدأ بما استقرض فيقضيه, ويزكي ما بقي, وقال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة, ثم يزكي ما بقي. وهذا موجود في الخراج
ليحيي بن آدم القرشي ص 162 وما بعدها. روي أن شريكًا سئل عن الرجل يستأجر أرضًا من أرض العشر بطعام مسمى فيزرعها طعامًا, قال: يعزل ما عليه من الطعام, ثم يزكي ما بقي. ومن هذا يتبين أن ابن عباس, وابن عمر, وشريكًا, قد اتفقوا على أن الدين الذي أُنفق على الأرض والثمار, يخصم قبل أداء الزكاة. رُوي عن مكحول أنه قال في صاحب الزرع المدين: لا تؤخذ منه الزكاة حتى يقضي دينه, وما فضل بعد ذلك زكاه إذا كان مم تجبه فيه الزكاة. وهذه الآثار موجودة أيضا في الأموال لأبي عبيد ص 611 وما بعدها. ونرى مما سبق أن الزكاة إنما تكون في صافي الدخل أو الثروة, وللزارع أن يخصم ما أنفقه على زرعه ثم يزكي ما بقي إن بلغ نصابًا, أي أن صاحب الزرع إذا استدان لأجل النفقة على الزرع والثمر, كأن اشترى سمادًا, أو اشترى ما يحارب به الآفات الزراعية, فإن ذلك يخصم ولا يحتسب ما يجب فيه الزكاة, إلا بعد إسقاط ما أنفقه لنماء الزرع من سماد, وما أنفقه لحمايته من الآفات, ويقاس على الزرع غيره كإيراد المصانع, والعمارات, ونحوها, أما بالنسبة لعروض التجارة فإن النفقات ترفع فعلًا؛ لأن الزكاة إنما تؤخذ مما بقي من الأصل, والربح, إلى نهاية الحول, فما كان من نفقة فقد انقرض ما لم يكن منها دينار, كإيجار المحل الذي لم يُدفع فيطرح, ويزكي الباقي. وأما بالنسبة للماشية فإن ما أُنفق عليها يُخصم من نصاب الزكاة, كالزروع, وعروض التجارة. وبهذا نكون قد انتهينا من هذه المحاضرة استودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور.
الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور.
العمومية في الجزية.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (الجزية والخراج والعشور) 1 - من الموارد المالية "الجزية" العمومية في الجزية الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: نواصل حديثنا في هذه المحاضرة عن الموارد المالية في الإسلام, فنقول: فرضت الشريعة الإسلامية على غير المسلمين المقيمين في الإسلامية بعض التكاليف المالية المتمثلة في الجزية, والخراج, والعشور, ولم يكن ذلك -كما يقول بعض المستشرقين- لم يكن ذلك عقابًا لهم على عدم اعتناقهم الإسلام, بل كانت تلك الأعباء المالية ضرائب عادلة تمامً في كل صورها, فالحياة في كل مجتمع, في كل عصر تقوم على أساس الحقوق والواجبات, وقد تمتع غير المسلمين في الدولة الإسلامية بكثير من الحقوق, ولابد لكل حق من واجب يقابله, فغير المسلمين المقيمين في المجتمع الإسلامي, لهم ما لنا من حريات, وتجارة, وتعامل, ففي المقابل يجب عليهم أن يؤدوا للخزانة العامة -أي بيت المال- شيئًا من أموالهم, كما يتحمل المسلمون أعباء مالية كثيرة, كالزكاة وغيره, إنه لا بد أن يتحملوا قسطهم من التكاليف العامة, وذلك في صورة جزية, وخراج, وعشور؛ ليساهموا في بناء الدولة, ونفقاتها العامة, ومن الممكن الرجوع في هذا الموضوع إلى كتاب (الإسلام وأهل الذمة) دكتور علي حسن الخربطلي, لجنة التعريف بالإسلام, يصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية, كتاب رقم 49 لسنة 1969 صـ 67. هذا بالإضافة إلى أن تلك التكاليف العامة المالية هي جزء قليل على ما تلتزمه الحكومة الإسلامية من الدفاع عن غير المسلمين المقيمين في الدولة الإسلامية, وإعانة للجند الذين يحمونهم ممن يعتدي عليهم, وسنتكلم عن التكاليف العامة المالية التي يلتزم بها غير المسلمين المقيمين بالدولة الإسلامية. ونبدأ بالجزية: والجزية في اللغة: هي فِعلة من الجزاء, جمعها جِزي, مثل لحية, ولحي, وهي ما يؤخذ من أهل الذمة, أي أنها عبارة عن المال الذي يعقد الكتابي عليه الذمة.
والجزية شرعًا: هي الوظيفة المأخوذة من الكافر؛ لإقامته بدار الإسلام في كل عام. تاريخ الجزية: إن الجزية ليس من محدثات الإسلام, بل هي قديمة من أول عهد التمدن القديم, وقد وضعها يونان أثينا على سكان سواحل آسيا الصغرى, حوالي القرن الخامس قبل الميلاد, مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين, وفينيقيا يومئذ كانت تابعة لبلاد الفرس, فهان على سكان تلك السواحل دفع المال في مقابل تلك الحماية, والرومان وضعوا الجزية على الأمم التي أخضعوها لحكمهم, وكان الفرس أيضًا يجبون الجزية من رعاياهم, ومن الممكن الرجوع في هذا إلى كتاب (تاريخ التمدن الإسلامي) الجزء الأول صفحة 169 وما بعدها, للأستاذ جورجي زيدان, طبعة 1902 مطبعة الهلال مصر. أسباب وضع الجزية: إن السبب الذي من أجله شُرعت الجزية كان مثار خلاف بين الفقهاء كما يلي: أولًا: البعض يقول الجزية بدل الحماية: يرى البعض أن الجزية فرضت على أهل الذمة بدل الحماية, وأنهم يعفون منها عند عدم الحماية, واستدلوا على ذلك بما جاء في كتاب (خالد بن الوليد) لصلوبة بن نصتونة, حينما دخل الفرات, والذي جاء فيه: إني عاهدتكم على الجزية, والمنعة, فلك الذمة, والمنعة, وما منعناكم فلنا الجزية, وإلا فلا, أي أنه في هذا يبين أنه يأخذ منهم الجزية مقابل حمايته من أي اعتداء. ويقول الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية):
ويلزم لهم ببذلها -أي الجزية- حقان: أحدهما الكف عنهم, والثاني الحماية لهم؛ ليكونوا بالكف آمنين, وبالحماية محروسين. الجزية بدل النصرة: ويرى البعض أن الجزية تجب على أهل الذمة بدلًا من النصرة التي فاتت بإصرارهم على الكفر؛ لأن من هو من أهل دار الإسلام تجب عليه نصرة الدار, وأبدانهم لا تصلح لهذه النصرة؛ لأنهم يميلون إلى أهل الدار المعادية, فيؤخذ منهم المال؛ ليصرف إلى الغزاة الذين يقومون بنصرة الدار. الجزية بدل الأمان, وحقن الدم: ويرى البعض أن الجزية إنما تجب على أهل الذمة؛ جزاءً على أمان المسلمين لهم, وحقن دمائهم. الجزية بدل الإقامة: يرى البعض أيضًا أن الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام, أي أنها مقابل تمكينهم من الاستقرار بدار الإسلام. الجزية وسيلة لتحقيق المساواة بين المواطنين في الدولة الإسلامية: الأصل أن كل من يتمتع بالمرافق العامة التي توفرها الدولة, عليه أن يتحمل قدرًا من الأعباء العامة المقررة في الدولة, بما يتناسب مع مقدرته المالية, وفقًا لقاعدة الغنم بالغرم؛ إذ ليس من المقبول أن يتمتع الشخص بالحقوق العامة والخاصة, ويتمتع بالمرافق العامة في الدولة, ويفلت في نفس الوقت من أداء نصيبه من
الالتزامات, والأعباء العامة في الدولة, الذي ينعم بخيراتها, ومن هذا المنطلق نرى أن الأصل في فرض الجزية أنها وسيلة للمساواة بين رعايا الدولة الإسلامية, فيجب أن يساهم كل فرد قائم من هذه الرعايا في الأعباء العامة المالية في الدولة؛ ليكون له في مقابل ذلك التمتع بالحقوق العامة والخاصة, والتمتع بالمرافق العامة في الدولة, فإذا كان هذا الفرد مسلمًا فالواجب عليه دفع الزكاة -على ما رأينا- من أمواله, وإذا كان من غير المسلمين, أي أهل الذمة, فالواجب عليه دفع الجزية, ومن ثم تتحقق المساواة بين هؤلاء الرعايا في التمتع بالحقوق, والالتزام بالواجبات, فالجزية إذن هي نصيب غير المسلم من التكاليف المالية العامة, التي تصرف في منفعة جماعة في المرافق العامة, ومعاونة فقراء غير المسلمين. العمومية في الجزية: إن العمومية في الجزية تعني أن يؤدي الجزية جميع من توافرت بالنسبة له شروط وجوبها, فلا يعفى أحد من أدائها دون مبرر, وأيضًا تعني العمومية أن تُفرض الجزية على جميع الأموال التي تحققت فيها شروط وجوب الجزية, ومعنى ذلك أن العمومية في الجزية تجمع بين الشخصية, والمادية, وعلى هذا سنتكلم عن كل من العمومية الشخصية, والعمومية المادية في الجزية. بالنسبة للعمومية الشخصية نقول: إن الشخص الخاضع للجزية يجب أن تتوافر فيه عدة شروط, من أهمها أولًا: أن يكون ذكرًا, فهي لا تجب إلا على الرجل؛ لأنه من أهل القتال, أما المرأة فلا جزية عليها؛ لأنها ليست من أهل القتال.
الشرط الثاني: أن يكون بالغًا, فالجزية لا تجب على الصبيان؛ لأنهم لا يُقتلون إذا ظفر بهم المسلمون. الشرط الثالث: أن يكون عاقلًا, فالجزية لا تجب على المجنون؛ لأنه ليس أهلًا للالتزام. الشرط الرابع: القدرة على أدائها, فالجزية لا تجب على الفقير العاجز عن أدائها. وأيضًا يشترط أن يكون دافع الجزية صحيحًا, فهي لا تجب على مريض لا يرجى برؤه, ولا شيخ فان, ولا زمِن, ولا أعمى؛ لعدم استطاعتهم القتال. هذه هي أهم شروط وجوب الجزية, ذكرناها على سبيل الإجمال, وفي عجالة سريعة, على الرغم من أن الفقهاء مختلفون في بعض هذه الشروط, ولهم فيها تفصيلات مختلفة لا داعي لذكرها هنا؛ لأنها ليست من جوهر البحث. وإذا كان التشريع الإسلامي قد جعل فريضة الزكاة عامة, وشاملة لكل أغنياء المسلمين -على ما رأينا- فإننا نجد أن ذات التشريع يوجب الجزية على الرجال القادرين الأصحاء, فهي عامة بالنسبة لهؤلاء, ولا يعفى منها أحد لمركزه الاجتماعي, أو انتمائه لطبقة معينة, فمبدأ المساواة في أداء الجزية متحقق بالنسبة للمكلفين بأدائها, والتطبيقات العملية من أكبر الأدلة على ذلك, فمن الأدلة القاطعة على تحقيق المساواة بين دافعي الجزية ما ورد في كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل نجران, وسائر النصارى, جاء في هذا الكتاب: ((ولا خراج ولا جزية إلا على من يكون في يده ميراث من ميراث الأرض, ممن يجب عليه فيه للسلطان حق, فيؤدي ذلك على ما يؤديه مثله. ولا يجار عليه, ولا يحصل منه إلا قدر طاقته, وقوته على عمل الأرض وعمارتها, وإقبال ثمرتها, ولا يكلف شططًا, ولا يتجاوز حتى أصحاب الخراج من نظرائه)) فالرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا
الكتاب يأمر بالمساواة بين المكلفين, ولا يفرق بين شخص وآخر في جزية, أو خراج, مادامت ظروفهم متماثلة, ولا يكلف الممول فوق طاقته. ومن الأدلة على ذلك أيضًا أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يعف من الجزية نصارى بني تغلب, وهم عرب لهم قوة وسلطان, وصالحهم على أن يأخذ منهم ضعفي الزكاة, يراجع في ذلك (الأموال) لأبي عبيد صفحة 36 وما بعدها, فهذا دليل -أي ما فرضه عمر على نصارى بني تغلب- قوي على أن من وجبت عليه الجزية لا يعفى منها, مهما كان مركزه الاجتماعي. ومن الأدلة أيضًا أنه عندما تم الصلح بين عمرو بن العاص, وبين المقوقس في مصر, اصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها, وأسفلها, من القبط دينارين عن كل نفس, شريفهم, ووضعيهم, ممن بلغ الحلم, فقد فُرضت الجزية على جميع القادرين في مصر, خلافًا لما كان سائدًا فيها في عصر الروم, حيث كان يعفي من الضريبة أصحاب الجاه والسلطان, لكننا وجدنا أن عمرو بن العاص لم يفرق في أخذ الجزية بين شريف, ووضيع, أخذها أو ساوى بين الناس في أخذها منهم. ولتحقيق المساواة بين المواطنين في تحمل عبء الجزية أُلغيت امتيازات أهل الإسكندرية, وطبقات الأشراف, التي تمتعوا بها في ظل الحكم البيزنطي, وطُبقت عليهم الجزية الإسلامية, ومن أجل تفصيل ذلك يرجع إلى كتاب (النظام المالي المقارن في الإسلام) للدكتور بدوي عبد اللطيف, طبعة 1962 صـ 88 وما بعدها. ومن الأدلة أيضًا أنه يُروى أن جبلة بن الأيهم لما انهزمت الروم من اليرموك, صار إلى موضعه في جماعة قومه, فأرسل إليه يزيد بن أبي سفيان يطلبه خراج أرضه, وخراج رأسه -يعني الجزية, فلم يرفض جبلة أن يؤدي ضريبة الأرض, لكنه أنف, ولم يرض بجزية الرأس قائلًا: إنما يؤدي الجزية العلوج, يعني أفراد, أو عامة الناس, وأنا رجل من العرب, فقد كان معفيًا من الجزية
في عهد الروم, ولما رأى إصرار المسلمين على أخذ الجزية منه؛ مساواة له بغيره في هذا الشأن, ترك البلاد, ورحل إلى بلاد الروم, من أجل ألا يؤدي الجزية للمسلمين, وهكذا نرى أن ديننا الذي ينادي بالمساواة بين الناس لم يحاب ملك غسان, وهو جبلة بن الأيهم, ولم يعفه من الجزية, رغم أنه عزيز في قومه, وعزيز لدى الروم, فكانوا يعفونه منها, فقد كان منطق الروم جائرًا في فرض الجزية, حيث كانوا يأخذونها من الفلاح, ويعفون منها القادرين؛ لقربهم من الإمبراطور, ولما لهم من مراكز في المجتمع, هذا المنطق لا يقره الإسلام, فالجزية تجب على كل شخص توافرت فيه شروطها, مهما كان مركزه الاجتماعي, ولذا طلب حكام المسلمين الجزية من ملك غسان كما رأينا, وفي هذا المعنى يقول أبو يوسف في كتابه (الخراج): ولا يحل للوالي أن يدع أحدًا من النصارى, واليهود, والمجوس, والصابئين, والسامرة, إلا أخذ منهم الجزية, ولا يرخص لأحد منهم في ترك شيء من ذلك, ولا يحل أن يدع واحدًا ويأخذ من واحد, ولا يسع ذلك؛ لأن دمائهم, وأموالهم, إنما أُحرزت بأداء الجزية. ومن هذا نرى أن مبدأ المساواة بين المكلفين بالجزية متحقق على الوجه الأكمل, ومعنى هذا أن العمومية الشخصية بالنسبة للجزية قد تحققت إلى أقصى درجة ممكنة. أما بالنسبة للعمومية المادية في الجزية فنقول: إذا كانت الجزية واجبة على الذكر البالغ العاقل القادر على أدائها -كما ذكرنا- إلا أنه يشترط أن يكون له مال يدفع منه ما فرض عليه من جزية, فالجزية تجب في
العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية.
المال, ولهذا أُعفي منها الأعمى, والمقعد, والفقير, والمسكين, وهذا يُفهم من قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: من الآية: 29) والإعطاء يكون بالضرورة من المال الذي يكون في حوزة الأفراد, سواء بالدفع, أو بالضمان, ولذلك فاوت عمر بن الخطاب في مقدار الجزية؛ تبعًا لمقدار المال الذي يملكه الممول, فإذا كثر ماله زيد عليه مقدارها, وإن قل ماله نقص مقدراها, فقد أقر الزيادة فيها على أهل الشام, والعراق؛ لغناهم, وخفضها على أهل اليمن؛ لقلة مواردهم المالية. وإذا كانت الجزية أصلها الدراهم, والدنانير, والطعام, إلا أنه يجوز أخذ العروض, والحيوان, بدلًا من النقدين, فقد كان عمر بن الخطاب يأخذ فيها الإبل, وكانت تأتيه من الشام نعم كثير من الجزية, وكان علي بن أبي طالب يأخذها من كل ذي صنع من صاحب الإبر إبرًا, ومن صاحب المسان مسان, ومن صاحب الحبال حبالًا, أي أنهم كانوا يراعون ظروف المكلف, ولا يضيقون عليه. العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية ونتحدث الآن عن العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية: رأينا كيف اهتم التشريع الإسلامي بتحقيق العمومية في الجزية, سواء كانت العمومية الشخصية, أو العمومية المادية, إلا أنه لم يكتف بتأكيد هذا, بل عمل على ضمان تحققها, فقد تكون العمومية متوفرة, ولكن قد يأتي العمل ليخل بها, وبالتالي نجد التشريع الإسلامي في نفس الوقت الذي يهتم فيه بإظهار الجوانب المختلفة لهذه العمومية, يعمل جاهدًا على إبعاد كل ما من شأنه الإخلال بها.
وهناك عدة عوامل تساعد على ضمان تحقيق العمومية في الجزية, ومن أهمها: منع الازدواج في الجزية, وتجنب الراجعية في الجزية, ومحاربة التهرب من الجزية. فبالنسبة لمنع الازدواج في الجزية: ورد في الآثار التي رويت في صلح نجران, أن عليهم ألفي حلة من حلل الأواقي, في كل رجب ألف حلة, وفي كل صفر ألف حلة, مع كل حلة أوقية من الفضة, فما زادت على الخراج, أو نقصت عن الأواقي فبالحساب, وبذلك تكون السنة المطهرة قد أرشدت إلى أن الازدواج في الجزية ظلم, ومن ثم فلا ازدواج فيها, ودل على ذلك أن ما زاد على الخراج من صلح النصارى نجران كان بالحساب, فيرد إليهم الفرق, أو يحسب من جزاء السنة القادمة, وأرشد إلى ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: ((ألا من ظلم معاهدًا, أو كلفه فوق طاقته, أو انتقصه, أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه, فأنا حجيجه يوم القيامة)). وتطبيقًا لعدم الازدواج في الجزية كانت تختم رقاب المكلفين بالجزية وقت الجباية, حتى يفرغ من عرضهم, ثم تكسر الخواتيم, كما فعل بهم عثمان بن حنيف, إن سألوا كسرها, وكذلك ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عماله أن يختموا رقاب أهل الذمة؛ وذلك إحكامًا للدقة في الجباية, حتى لا يفلت من الضريبة من فرضت عليه, وحتى لا تكون هناك ثنية في الجزية, يعني ازدواج في الجزية. هذا وقد نظمت طريقة أداء الضريبة, حيث أمر ولاة الأمور جباةَ الضريبة أن يعطوا الممولين ما يثبت أنهم دفعوا المستحق عليهم؛ ليكون ذلك حجة لهم تمنع المطالبة به مرة أخرى في نفس السنة عن المال نفسه. وبالنسبة لمنع الازدواج في الجزية نقول: الأصل أن توزع الأعباء, أي أعباء الجزية على المكلفين بها توزيعًا عادلًا, يتفق وقدرة المكلفين المالية, وبحيث لا
يؤدي المكلف القدر الواجب عليه مرتين في نفس السنة, فإذا حدث ازدواج في أداء الجزية, فإن الشخص الذي لحقه هذا الازدواج يكون قد تحمل عبئًا ماليًّا, أكبر من العبء الذي يتحمله مكلف آخر له نفس المقدرة المالية التي للمكلف الأول, وبهذا تنتفي المساواة بين المتماثلين, وفي هذا إهدار لمبدأ المساواة الذي يجب أن يسود بين المكلفين بأداء الجزية, ومن ناحية أخرى فإن الشخص الذي لحقه الازدواج سيفقد الثقة في الجهاز القائم على تحصيل الجزية؛ نتيجة شعوره بظلم وقع عليه, وهذا ما قد يؤدي إلى التهرب ما يجب عليه من جزية, والتهرب -كما ذكرنا سابقًا- يهدر مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل التكاليف المالية المقررة, أما في حالة العمل على منع هذا الازدواج فإن كل مكلف سيتحمل قدرًا من التكاليف المالية, يتناسب مع مقدرته المالية, وبالتالي سيتحقق مبدأ المساواة بين المواطنين في تحمل التكليف بالجزية. وبالنسبة لموضوع تجنب الراجعية في الجزية نقول: فُرضت الجزية على أهل الذمة, وحُدد مقدراها, والخاضعون لها, فقد بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل إلى اليمن, وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا, أو عدله من المعافر, كما حدد عمر بن الخطاب مقدار الجزية, وجعلها متدرجة, ففرضت على الغني جزية مقدارها 48 درهمًا في السنة, وفرضت على المتوسط بمقدار 24 درهمًا في السنة, وفرضت على العامل اليدوي 12 درهمًا في السنة, وحُدد ميعاد أداء الجزية بما يتفق ومصلحة المكلفين, وكان ذلك يختلف باختلاف الجهات, والأقطار, وهي عادة تؤخذ عند نهاية الموسم الزراعي, وعند بيع الغلة؛ تيسيرًا على دافعيها, وهذه الجزية محددة المقدار ولا يجوز تعديلها من أي من الأطراف المتعاقدة,
أما في حالة عدم النص على مقدار الجزية في عقد الصلح, فلولي الأمر أن يضع عليهم الجزية حسب مقدرتهم التكليفية, فقد رَوي ابن شهاب أن عمر بن الخطاب كان يأخذ ممن صالحه من أهل العهد ما صالحهم عليه, لا يضع عنهم شيئًا, ولا يزيد عليهم, ومن نزل منهم على الجزية ولم يسم شيئًا نظر عمر في أمورهم, فإن احتاجوا خفف عنهم, وإن استغنوا زاد عليهم بقدر استغنائهم. ويتبين لنا من خلال ما تقدم أن التشريع الإسلامي راعى في تنظيمه للقوانين المنظمة للجزية عدم كثرة تلك القوانين, وجعلها واضحة محددة, لا تثير أي تحايل, ومن ثم سد الباب أمام التفسيرات والاجتهادات المختلفة بالنسبة لهذه القوانين, وبالتالي قضى على الثغرات التي بواسطتها قد يتمكن المكلف بالجزية من نقل عبء الجزية الذي يتحمله إلى غيره من المكلفين بها, وهذا معناه تجنب الراجعية في الجزية, وبتجنب تلك الرجعية تتحقق المساواة بين المكلفين في تحمل التكليف بالجزية, كل حسب مقدرته المالية. وبالنسبة لمحاربة التهرب من أداء الجزية نقول: عمل المسلمون على محاربة التهرب من أداء الجزية, فقد جاءت في المعاهدة التي تمت بين حبيب بن مسلمة, وبعض البلاد التي افتتحها: بالأمان لكم, ولأولادكم, ولأهاليكم, وأموالكم, وصوامعكم, وبيعكم, ودينكم, وصلواتكم, على إقرار بصغار بالجزية, على أهل كل بيت دينار واف, ليس لكم أن تجمعوا بين متفرق من الأهلات -أي البيوتات- استصغارًا منكم للجزية, ولا لنا أن نفرق بين مجتمع؛ استكثارًا منا للجزية.
معنى ذلك أنه فرض عليهم, على كل بيت دينارًا, لكن طلب منهم أن لا يضموا البيوت إلى بعضها, وبالتالي يدفعوا دينارًا واحدًا, وأيضًا بين لهم أننا لن نظلمهم, ولن نأخذ إلا من كل بيت دينارًا واحدًا, فهذا يدل على أنه لا يجوز الجمع بين المتفرق من العائلات, بقصد التحايل لإنقاص الجزية؛ لأن كل بيت مطالب بدينار, فلو جمعوا عائلتين أو أكثر في عائلة واحدة, لنقص المقدار الواجب عليه. وأيضًا فإن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله على الجزية أن يختموا رقاب أهل الذمة؛ وذلك إحكامًا للدقة في الجباية, حتى لا يفلت من الضريبة -أي يتهرب منها- من فرضت عليه. وسائل مكافحة التهرب من الجزية: هناك العديد من الوسائل التي من شأنها العمل على منع التهرب من أداء الجزية, نذكر من أهمها: أولًا: عدل عمال الجباية: إن من أهم الأسباب التي تدعو الممولين إلى التهرب من الالتزام المالي الواجب عليهم, هو ظلم عمال الجباية, فالرفق بالممولين -كما يقول ابن خلدون- يزيد من حصيلة الضريبة, والظلم ينقصها, بل قد يؤدي إلى خراب البلاد, وأيضًا فإن محاباة بعض المتكلفين بالمعاملة الحسنة من جانب عمال الجباية من شأنه أن يدعو غير المحابين من المكلفين بالتهرب من أداء ما يجب عليهم من الجزية, وذلك بسبب التفرقة بينهم وبين غيرهم في المعاملة من جانب عمال الجباية, ولذلك نجد
أن تعاليم الإسلام دعت إلى أن يكون عمال الجباية عادلين في معاملتهم للممولين, رفقاء بهم, فلا يفرق الجابي بين مسلم وغير مسلم, ولا يكلفه ما لا يطيق, ولا يضربه, ولا يحبسه, ولا يجعل في أبدان المكلفين شيئًا يكرهونه, ولكن يكون رفيقًا بهم, فقد روي عن هشام بن حكيم بن حزام أنه مر على قوم يعذبون في الجزية بفلسطين, فقال هشام: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا)). وكثيرًا ما أوصى الخلفاء عمالَ الجزية بمراعاة العدالة في تحصيلها, وحسن معاملة المكلفين بها, وعدم تكليفهم ما لا يطيقون, ومن الأدلة على ذلك ما رواه أبو عبيد من أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتاه مال كثير من الجزية, فقال لعمال الجزية: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس, قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوًا, قال: فلا صوت, ولا نوط؟ يعني: لم تضربوا الناس؟ قالوا: نعم, قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي, ولا في سلطاني, فقد خشي عمر بن الخطاب -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- عندما رأى هذا المال الكثير الذي جاءوا به, خشي أن يكون ذلك بسبب أنهم أخذوا ما لا يستحقون من أهل الذمة, وتأكد من أنهم لم يظلموا أهل الذمة, وبالتالي حمد الله -تبارك وتعالى- أنه لم يكن هناك ظلم لأهل الذمة في عهده. ومن الأدلة الدالة لى أن التشريع الإسلامي لا يسمح لعمال الجزية بظلم المكلفين بها, بل يأمرهم بالرفق بهؤلاء المكلفين, وبتحقيق المساواة التامة بينهم, ما جاء في الأمر الذي وُجد بين أوراق البردي اليونانية المحفوظة في المتحف البريطاني, والتي نقلها إلينا الدكتور "تِرْتُن" في كتابه (أهل الذمة في الإسلام) فقد نقل إلينا كلامًا من هذا الأمر موجهًا من حكام المسلمين إلى من يتولى أمر الجزية جاء فيه:
ولا تجعلنا نعرفك أنك قد ختمت أهل كورتك -يعني بلدتك- بأي صورة من الصور في مسألة الضريبة التي كلفت بها, أو أنك حابيت, وظلمت أحدًا في جمعها؛ لأننا نعرف أن الأشخاص المكلفين بدفعها لا بد وألا يطيعوا بعض أوامرك, فإذا وجدت أنهم -أي عمال الجزية- قد عاملوا أحدًا ما بلين زائد, نتيجة محابتهم إياه, أو أثقلوا عليه غاية الإثقال؛ لكراهيتهم إياه, فإننا سنقتص منهم في أشخاصهم, وأملاكهم؛ تنفيذًا للشرع, ومن ثم أنذرهم, وحذرهم, وأخبرهم ألا يرهقوا عاملًا, وألا يحملوه ما لا يطيق, حتى ولو كان بعيدًا عنهم, أو ليس من زمرتهم, في جمع الضريبة, ولكن تجب معاملة الجميع بالعدل, وأخذ الشيء من كل منهم بقدر طاقته, هذا كلام منقول عن غير المسلمين يشهدون للمسلمين بالعدل, وقد ورد هذا الكلام في كتاب (أهل الذمة في الإسلام) تأليف الدكتور "تِرْتُن" ترجمة حسن حبش, الطبعة الثانية 1967 الناشر دار المعارف بمصر, صفحة 163 وما بعدها. وهذا النقل عن كتاب "تِرْتُن" في كتابه (أهل الذمة) يبين أن الولاة كانوا يأمرون الذين يتولون أمر جباية الجزية والخراج بأن يراقبوا عمال الجباية, ويطلبوا منهم ألا يظلموا أحدًا, حتى ولو كان بعيدًا عنهم, ليس في زمرتهم, ولا يمشي معهم, ولا غير ذلك, وهذه شهادة من غير المسلمين على عدل المسلمين في جبايتهم للجزية. وهكذا نجد أن الإسلام يأمر عمال الجزية بتحقيق العدالة الكاملة بالنسبة للمكلفين بالجزية, ولا شك أنه سيكون لذلك أثر طيب في نفوس هؤلاء المكلفين, حيث يجعلهم لا يفكرون مطلقًا في التهرب من أداء المقدار الواجب عليهم من هذه الضريبة, الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تحقيق المساواة الكاملة بين المكلفين بأداء الجزية, كل حسب مقدرته المالية.
وبالنسبة لحصر الممولين, والذي يساعد على منع التهرب من دفع الجزية نقول: إن حصر الممولين, وأموالهم, من شأنه أن يؤدي إلى إمكان تقدير الجزية, وجبايتها بكل دقة, وبالتالي يمنع التهرب من أداء الجزية, ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب أمر بإحصاء أهل السواد, فأحصوا, ووضعت عليهم الجزية, كذلك فعل عبد الملك بن مروان, حيث بعث إلى عامله على الجزيرة الضحاك بن عبد الرحمن الأشعري, وأمره أن يحصي الجماجم -أي الناس- وجعل الناس كلهم عمالًا بأيديهم, وحسب ما يكسب العامل في سنته كلها, ثم طرح من ذلك نفقته في طعامه, وأدمه, وكسوته, وطرح أيام الأعياد في السنة كلها, فوجد الذي يحصل بعد ذلك في السنة لكل واحد أربعة دنانير, فألزمهم دفعها, أي أنه راعى مصالحهم الشخصية, راعى ما يحتاجون إليه, ولم يفرض الجزية إلا على القدر الزائد عن حوائجهم, وهذا يدل على مراعاة العدالة التي التزم بها المسلمون مع أهل الذمة. التنفيذ على أموال المتخلفين عن أداء الجزية: ومن الوسائل التي من شأنها أن تؤدي إلى منع التهرب من أداء الجزية التنفيذ جبرًا على أموال المتخلفين عن أداء الجزية, فإذا امتنع أهل الذمة من أداء الجزية, فيعتبر بعض الفقهاء أن ذلك يعد نقضًا لعهدهم, وتؤخذ منهم الجزية جبرًا كالديون, نقول ومن الوسائل التي من شأنها أن تؤدي إلى منع التهرب من أداء الجزية حبس المتهرب من أدائها حتى يؤديها, وفي هذا المعنى يقول أبو يوسف: ويحبسون أهل الذمة حتى يؤدوا ما عليهم, ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى منهم الجزية. هذه هي أهم الوسائل الكفيلة بمنع التهرب من أداء الجزية, والأخذ بها -ولا شك- من شأنه أن يكون حائلًا بين من تسول نفسه التهرب من أداء الجزية, وبين
مراعاة ظروف المكلفين بالجزية.
هذا التهرب, ونحن نعرف أن القضاء على التهرب من أداء الجزية معناه أن يساهم جميع أهل الذمة, الذين توافرت بالنسبة لهم شروط وجوب الجزية, أن يساهموا في الأعباء المالية المقررة عليهم في الدولة دون استثناء, وبالتالي تتحقق المساواة الكاملة بين المكلفين بأداء الجزية في تحمل عبئها. مراعاة ظروف المكلفين بالجزية ونريد أن نتحدث عن مراعاة ظروف المكلفين بالجزية فنقول: الذكور البالغون العاقلون القادرون من أهل الذمة, والمكلفون بأداء الجزية, إنما يساهمون في الأعباء المالية عن طريق دفع الجزية, كل حسب مقدرته المالية, فالتكليف يكون بما في الوسع والطاقة؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها, ولذلك لا يجوز ظلمه ذلك في ذلك؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: ((ألا من ظلم معاهدًا, أو انتقصه, أو كلفه فوق طاقته, أو أخذه منه شيئًا بغير طيب نفس منه, فأنا حجيجه يوم القيامة)) فالمقدار الذي يؤخذ منهم في الجزية يجب أن يراعي فيه مقدرتهم المالية, وكافة ظروفهم العائلية, وهذا المقدار يختلف من فرد لآخر, بل يختلف من الفرد الواحد من زمن إلى زمن آخر, كما يختلف تبعًا للبيئة, لذلك ينبغي ألا يحدد مقدار بعينه, فإذا كثر مال ممول زيد عليه مقدار الجزية, وإن قل ماله نقص مقدارها, ونجد ذلك واضحًا فيما أشار به معاذ بن جبل على أبي عبيدة بن الجراح, في صلح "الرها" إذ يقول: إنك إن أعطيتهم الصلح على شيء مسمى فعجزوا عنه, لم يكن لك أن تقتلهم, ولم نجد بدًّا من إبطال ما اشترط عليهم من التسمية, وإن أيسروا أدوه على غير الصغار الذي أمر الله به فيه, فاقبل منهم الصلح, وأعطهم إياه على أن يؤدوا الطاقة, يعني بمقدار ما يستطيعون, وحسب مقدرة المكلف المالية, فإن
أيسروا أو أعسروا لم يكن لك عليهم إلا ما يطيقون, وتم لك شرطك, ولم يبطل, فقبل ذلك أبو عبيدة. فهذا يدل على أنه الأفضل ألا تحدد الجزية مبلغًا معينًا كل سنة على الجميع، وإنما ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف كل شخص, تبعًا لمقدرته المالية. وأيضًا نجد أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فاوت في مقدار الجزية, تبعًا لمقدار المال الذي يملكه الممول, فإذا كثر ماله زيد عليه مقدارها, وإن قل ماله نقص مقدارها, فقد زاد هذا المقدار على أهل الشام, وأهل العراق؛ لغناهم, وخفض هذا المقدار على أهل اليمن؛ لقلة مقدرتهم المالية. والتفاوت في مقدار الجزية تبعًا للمقدرة التكلفية للممول, يعتبر من أرقى المبادئ التي تحاول أن تصل إليها النظم المالية الحديثة, بالنسبة للضرائب, وهو العدالة في الضرائب, فالتفاوت في المقدار الواجب إنما يؤدي إلى مراعاة المقدرة التكلفية للممولين, ويعتبر أساس فكرة المساواة التي روعيت فيها العدالة؛ لأن المساواة بين غير المتماثلين ظلم. وقد روعيت ظروف المكلف بالجزية في نواح عدة, نتناول أهمها فيما يلي: إعفاء غير القادرين من أداء الجزية: إذا كنا قد رأينا من خلال الكلام عن المساواة في الزكاة أن ما دون النصاب يعفى من الزكاة, فإن الأمر لا يختلف بالنسبة للجزية, فهي لا تؤخذ من كل مال, بل أعفي منها المال اليسير الذي لا ينفي عن صاحبه صفة الفقر, ولا يثبت له وصف الغنى, فالجزية تؤخذ من عفو مال الذمي, وفي هذا يقول عبد الله بن عباس: ليس في أموال أهل الذمة إلإ العفو, يعني ما يزيد على ما يحتاجون إليه.
تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية.
وإذا كان المأخوذ هو العفو, أي ما زاد عن الحاجات الأصلية, فإنه يترتب على ذلك إعفاء غير القادرين ممن لا تحتمل طاقتهم التكليف بالجزية, ويدل على ذلك ما روي في كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل نجران, وجميع النصارى, من أنه ولا خراج ولا جزية إلا على من يكون في يديه ميراث من ميراث الأرض, ممن يجب عليه فيه للسلطان حق, فيؤدي ذلك على ما يؤديه مثله, ولا يجار عليه, ولا يحصل منه إلا قدر طاقته, وقوته على عمل الأرض وعمارتها, وإقبال ثمرتها, ولا يكلف شططًا, ولا يتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا يأمر بالمساواة بين المكلفين, متى كانت ظروفهم متماثلة, ولا يكلف الممول فوق طاقته, وأن من ليس عنده مقدرة على دفع الجزية يعفى منها, يدل على ذلك ما ورد في الكتاب: لا خراج, ولا جزية, إلا على من يقوم في يده ميراث من ميراث الأرض, وهذا معناه إعفاء غير القادرين من أداء الجزية. ومما يدل على ذلك أيضًا أن عمر بن الخطاب أسقط الجزية أربعة وعشرين شهرًا عن نصارى نجران, حين أجلاهم إلى العراق, حتى يستقروا, ويبدءوا الإنتاج. ويتضح من ذلك أن الفترة ما بين الإجلاء, وبدأ الإنتاج, وهي أربعة وعشرون شهرًا, لم يكن فيها لدى أهل نجران أموال تكفي لأن تكون وعاء للجزية, وبالتالي لم يتحقق بالنسبة لهم وصف الغنى الذي هو شرط لوجوب الجزية, ولذلك أعفاهم عمر بن الخطاب من الجزية في تلك الفترة. ونكتفي بهذا القدر من المحاضرة استودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - تابع: الجزية، ثم الحديث عن الخراج تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: نواصل الحديث عن الأدلة التي تدل على أن الشريعة راعت ظروف هؤلاء المكلفين بالجزية وأعفت غير القادرين منها، فنقول: من الأدلة على ذلك ما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- أسقط الجزية عن المسكين الذي يتصدق عليه، فقد روي أن عمر بن الخطاب -رضوان الله عليه- مر بباب قوم
وعليه سائل يسأل شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، فقال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل -يعني: أعطاه شيئا- ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال له: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، أي: عند الكبر، ثم قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: من الآية: 60) والفقراء هم: المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن أمثاله، يرجع في ذلك إلى (الخراج) لأبي يوسف. ومن الأدلة أيضًا أنه قد جاء في كتاب صلح الحيرة أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غينًا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته يعني: لن تؤخذ منه الجزية، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام في دار الإسلام أي: أنه إذا أصابته آفة الفقر لا تؤخذ منه الجزية، وأيضًا يعطى من بيت مال المسلمين ما يكفيه هو وأولاده. أيضًا أنه قد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله عدي بن أرطأة كتاب جاء فيه: ثم انظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنة وولت عنه المكاسب، فأجري عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، انظر إلى من كان عندك أصبح كبيرًا من أهل الذمة ولم يستطع أن يتكسب الأموال فأعطه من بيت مال المسلمين، فلو أن رجلًا من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق، يرجع في ذلك إلى (أحكام أهل الذمة) لابن قيم الجوزية، القسم الأول: صـ37 وما بعدها الطبعة الأولى المحققة 1961. وأيضًا ما روي أن عثمان بن حنيف قد قسّم الممولين إلى طبقات حسب المقدرة المالية لكل منهم، وأخضع كل طبقة لمقدار معين على النحو التالي:
الفئات غير القادرة ولا دخل لها معفاة من الجزية. العامل بيده مثل الخياط عليه اثني عشر درهمًا سنويًّا. المتوسط من أهل التجارة والصناعة عليه أربعة وعشرين درهمًا. الموسرون من أهل التجارة والصناعة على كل واحد ثمانية وأربعين درهمًا سنويًّا. ومن ذلك نرى أن الطبقات غير القادرة أي: الفقراء معفون من الجزية؛ لأنهم عاجزون عن دفعها، ولا واجب مع عجز، وإعفاء غير القادرين من أداء الجزية من الممكن أن نعتبره مقابلًا لإعفاء ما دون النصاب في الزكاة، كما سبق توضيح ذلك وهذا الإعفاء فيما نعتقد لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل الأعباء المالية المقررة في الدولة؛ وذلك لأن التكليف إنما يكون بما في الوسع والطاقة، والفقير لا طاقة مالية له، فإعفاؤه من أداء الجزية لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل التكليف بالجزية. ومن الأمور التي تراعى بالنسبة لظروف الممول، إعفاء الحد الأدنى اللازم للمعيشة من الجزية، إن ضمان حد الكفاية والذي سبق ذكره حين الكلام عن المساواة في الزكاة يجب توافره لكل مواطن يعيش في مجتمع إسلامي أيًّا كانت ديانته وأيًّا كان جنسه، وهذا قد تعرض له بالتفصيل دكتور/ محمد شوقي الفنجري في كتابه (الإسلام والمشكلة الاقتصادية) صـ67 وما بعدها. وتطبيقًا لذلك نجد أن حكام المسلمين كانوا يقدرون الجزية باعتبار ما يبقى في أيدي الناس من دخلهم بعد نفقاتهم كما حدث في بلاد العراق والجزيرة، فقد حدد الفاتحون دينارًا على كل رأس، فلما تولى الحكم الخليفة عبد الحكم بن مروان
استقل ذلك فبعث إلى عامله هناك فأحصى الناس وحسب ما يكسب العامل في سنته كلها وطرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه وكسوته وطرح أيام الأعياد في السنة كلها فوجد الذي يحصل بعد ذلك أربعة دنانير لكل واحد، فألزمهم دفعها، فطرح النفقة في الطعام والكسوة من الممكن أن نعتبره من الحاجات الأصلية للمكلف، وهذا معناه أن ما يجب على المكلف بالجزية ينبغي أن يكون فيما زاد عن حوائجه الأصلية هو، ومن تلزمه نفقتهم كما هو الأمر بالنسبة للزكاة كما رأينا سابقًا، وهذا الإعفاء فيما نعتقد لا يتعارض مع مبدأ المساواة في هذا الشأن؛ لأن حاجة الإنسان مقدمة على حاجة غيره، وكذلك حاجة أهله وولده ومن يعولهم بمنزلة حاجة نفسه فكيف نطلب الجزية من المكلف الذي يحتاج إلى ما معه ويتعلق قلبه به لمسيس الحاجة إليه، وقد رأينا فيما سبق أن المقصود بالمساواة في هذا الصدد أن يتحمل كل فرد قدرًا من الأعباء المالية يتفق مع مقدرته المالية على الأداء، ولا شك أن الشخص الذي يكون في حاجة ماسة إلى المال الذي معه ليست لديه مقدرة مالية على أداء الجزية، وبالتالي فإعفاؤه منها لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين بالجزية في تحمل أدائها كل حسب مقدرته المالية، لكن مما تجب ملاحظته هنا أن الجزية لم تعد موجودة في العصر الحديث، يرى بعض الفقهاء أن الجزية تجب على أهل الذمة بدلًا عن عدم قيامهم بالدفاع عن الدولة الإسلامية حيث إنهم لا يصلحون للدفاع عنها بسبب كفرهم؛ لأنهم قد يميلون إلى من يحارب المسلمين لاتحادهم معهم في الدين، فالجزية تؤخذ منهم للإنفاق على الجنود الذين يدافعون عن الدولة الإسلامية، لكن إذا ظهرت صلاحية أهل الذمة للدفاع عن الوطن مع المسلمين، وذلك بإخلاصهم
تاريخ الخراج، والعمومية فيه.
للمسلمين واستعدادهم معهم للدفاع عن الدولة الإسلامية وانضموا بالفعل إلى الجيش الإسلامي، فهنا تسقط عنهم الجزية، ولذلك نجد أنه في العصر الحاضر نجد أن معظم البلاد الإسلامية يوجد بها ذميون وهم لا يدفعون الجزية، ويمكن تعليل ذلك بأنهم ينخرطون في الجيش المدافع عن دار الإسلام، والاشتراك في هذا الواجب أي الدفاع عن الوطن الإسلامي يسقط الجزية عنهم كما ذكرنا. وبهذا نكون قد انتهينا من التكليف بالجزية كمورد من الموارد المالية في الدولة الإسلامية. تاريخ الخراج، والعمومية فيه نتحدث الآن عن الخراج، والخراج هو الإتاوة تؤخذ من أموال الناس وهو شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم، والخراج شرعًا هو ما يفرض على الأرض التي فتحها المسلمون عنوة أو صلحًا، فهو: ما يأخذه ولي الأمر من وظيفة الأرض، وعرف أيضًا بأنه ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها. تاريخ الخراج: الخراج ليس من محدثات الإسلام، بل كان موجودًا قبل الإسلام فهو من أقدم أنواع الضرائب التي عرفها التاريخ، حيث وجد عند الفراعنة والبطالسة والرومان والفرس، ولكن نظامه لم يكن واحد في تلك الأمم، بل كان يختلف في المقدار وكيفية الجباية.
العمومية في الخراج: إن العمومية في الخراج تعني أن يؤدي جميع من توافرت بالنسبة له شروط وجوب الخراج يؤدي المقدار المحدد والمفروض عليه من هذا الخراج، فلا يعفى أحد من أدائه دون مبرر، وأيضًا تعني تلك العمومية أن يفرض الخراج على جميع الأراضي التي توافرت بالنسبة لها شروط وجوب الخراج، ومعنى ذلك أن العمومية في الخراج تجمع بين الشخصية والمادية، ولذلك سوف نتحدث عن العمومية الشخصية والمادية في الخراج. فبالنسبة للعمومية الشخصية نقول: يعتبر الخراج ضريبة على إيراد العقار، وهو من الموارد المالية المستحدثة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولقد أوجبه باعتباره ولي أمر المسلمين ورفض ما طلبه بعض أصحابه من قسمة أرض السواد كما تقسم غنيمة الجيش، وتلا عليهم آيات الفيء من قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} (الحشر: من الآية: 6) إلى قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: من الآية: 10) ثم قال: فقد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولقد ذهب أبو عبيد في تأويله لما فعله سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما وضع نظام الخراج ووظفه على أهله أن جعله شاملًا عامًا على كل من صارت الأرض في يده، سواء كان رجلًا أو امرأة أو صبيًا أو مكاتبًا أو عبدًا، فصاروا متساوين فيها، فهو لم يستثن أحدا دون أحد، ومما يدل على ذلك أن عمر قال في دهقانة نهر الملك حين أسلمت: دعوها في أرضها تؤدى عنها الخراج فأوجب عليها ما أوجب على الرجال.
إذن بالنسبة للعمومية الشخصية تتسع بالنسبة للخراج أكثر منها بالنسبة للجزية كما ذكرنا، وعلى ذلك فكل الأشخاص الذين صارت أرض الخراج في أيديهم مكلفون بأداء الخراج، ومن هذا نرى أن مبدأ المساواة بين المكلفين بالخراج في تحمل عبئه قد تحقق على الوجه الأكمل، ومعنى هذا أيضًا أن العمومية الشخصية بالنسبة لضريبة الخراج قد تحققت إلى أقصى درجة ممكنة. وهنا يرد سؤال، هل يجب الخراج على المسلم؟ مادمنا نتكلم عن العمومية الشخصية في الخراج فإنه يجدر بنا أن نبين مسألة، هل يجب الخراج على المسلم؟ تتميمًا للفائدة في هذا الموضوع، وبالنسبة لهذا الأمر نجد أن الفقهاء اختلفوا فيه على رأيين: يرى جمهور الفقهاء وجوب الخراج على المسلم، سواء كان ذميًّا ثم أسلم وأرض الخراج معه، أو اشترى مسلم أرضًا خراجية من ذمي، واستدلوا على ذلك بما روي عن ابن شهاب أنه قال: كتب إليّ عمر بن الخطاب في دهقانة نهر الملك بعد ما أسلمت: أن ادفعوا إليها أرضها تؤدي عنها الخراج، ومعنى ذلك أنها أسلمت ومع ذلك فرض عليها الخراج، فمعنى ذلك أن الخراج يجب على المسلم أيضًا. ويرى بعض الفقهاء أن الخراج لا يجب على المسلم، وهو بذلك يقيس خراج الأرض على خراج الرأس أي: الجزية فكما لا تجب الجزية على المسلم بعد إسلامه فكذلك لا يجب عليه الخراج بعد إسلامه، وبالنسبة للعمومية المادية في الخراج نقول: يجب الخراج في كل أرض فتحت عنوة أو صولح أهلها على أن يقروا فيها ويؤدوا خراجها وفي كل أرض يصل إليها ماء الخراج، ينظر ذلك في (الأموال) لأبي عبيد: صـ92 وما بعدها، فالأرض التي يضرب عليها الخراج
العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج.
ابتداء إذا كانت تحت يد ذمي هي الأرض المفتوحة عنوة وقهرًا إذا أمن الإمام على أصحابها وتركها في أيديهم كما فعل عمر بن الخطاب بأرض مصر وأرض السواد وغيرها، الأرض التي صولح أهلها على وظيفة معلومة يؤدونها لما روي عن عمر أنه كان إذا صالح قومًا اشترطت عليهم أن يؤدوا من الخراج كذا وكذا، الأرض العشرية إذا تملكها ذمي فعند أبي حنيفة تصير أرضا خراجية؛ إذ لا يجب عليه العشر؛ لأنه ليس من أهل وجوبه، ولا بد من العشر أو الخراج فوجب الخراج. يرى بعض العلماء أن الأرض التي تسقى بماء الخراج حتى ولو كانت أرضًا عشرية فيها الخراج؛ لأن السقي بماء الخراج دليل على التزامه، وقد شملت ضريبة الخراج الأرض الزراعية والأرض القابلة للزراعة، وكل أرض بلغها الماء فهي صالحة للزراعة، ويجب عليها الخراج، وكل أرض أمكن زراعتها عليها الخراج وإن لم يتمكن صاحبها بتقصير منه من زراعتها، ومما سبق يتضح أن الخراج يوضع على كل أرض خراجية المزروعة بالفعل أو التي تصلح للزراعة، وإن لم تزرع بالفعل وفي هذا تحقيق للعمومية المادية في الخراج إلى أبعد الحدود الأمر الذي يترتب عليه تحقيق المساواة بين المكلفين بالخراج في تحمل عبئه. العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج ونتحدث الآن عن العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج فنقول: رأينا كيف اهتم التشريع الإسلامي بتحقيق العمومية في الخراج، سواء كانت عمومية شخصية أو كانت عمومية مادية، إلا أنه لم يكتفِ بذلك، بل عمل جاهدًا على ضمان تحققها؛ لأن العمومية قد تكون متوافرة، ولكن العمل قد يأتي ليخل بها، لذا نجد التشريع الإسلامي أنه في نفس الوقت الذي يهتم فيه بإظهار الجوانب المختلفة لهذه العمومية، يعمل أيضًا على إبعاد كل ما من شأنه الإخلال بها،
وهناك عدة عوامل من شأنها أن تساعد على ضمان تحقق العمومية في الخراج ومن أهم تلك العوامل: منع الازدواج في الخراج، في سبيل العمل على منع الازدواج في الخراج ذهب الأحناف إلى أن المسلم الذي بيده أرض خراجية لم يلزمه إلا الخراج، ويسقط عنه العشر؛ لأنه لا يجتمع العشر والخراج معًا، وعللوا ذلك بأن سببهما أي: العشر والخراج، بأن سببهما واحد وهو مئونة الأرض الخراجية، وبذلك لا يجتمع في الأرض حقان وهما العشر والخراج، واستدلوا على ما ذهبوا إليه أيضًا بما جرى عليه الولاة والأئمة من عدم الجمع بين العشر والخراج، ولم ينقل عن أحد منهم الجمع بينهما مع كثرة امتلاك المسلمين للأرض الخراجية، فصار هذا بمثابة الإجماع الذي لا تصح مخالفته. وعلى رأي الحنفية يكون أخذ العشر مع الخراج ازدواجا في الحق الواجب. أما جمهور الفقهاء فيرون وجوب الجمع بين العشر والخراج في هذه الحالة؛ وذلك لأن السبب الموجب لأحدهما مختلف، فالزكاة أو العشر تجب في الأرض الخراجية؛ لأن السبب هو المال النامي وقد تحقق النماء، وإذا تحقق السبب وجد المسبب، والخراج يجب في الأرض الخراجية؛ لأنه أجرة الأرض، وإذا اختلف سببهما انتفى الازدواج، هذا وقد نظمت الشريعة الإسلامية طريقة إثبات الضريبة التي منها الخراج، فأمر ولاة الأمور جباة الضريبة أن يعطوا الممولين ما يثبت أنهم دفعوا الضريبة؛ ليكون ذلك حجة لهم تمنع عنهم المطالبة بها مرة أخرى في نفس السنة عن المال نفسه، ويمكن الاستزادة في هذا الأمر في كتاب (الأموال) لأبي عبيد صـ641 وما بعدها، ونقول إن منع الازدواج في الخراج يحقق المساواة بين المكلفين بأدائه، فالأصل أن توزع أعباء ضريبة الخراج على المكلفين بها توزيعًا عادلًا يتفق وقدرة المكلفين
المالية وبحيث لا يؤدي المكلف القدر الواجب عليه مرتين في نفس السنة، فإذا حدث ازدواج في أداء الخراج فإن الشخص الذي لحقه هذا الازدواج يكون قد تحمل عبئًا ماليًا أكبر من العبء الذي يتحمله مكلف آخر له نفس المقدرة المالية التي للمكلف الأول وبهذا تنتفي المساواة بين المتماثلين، وفي هذا إهدار لمبدأ المساواة الذي يجب أن يسود بين المكلفين بأداء الخراج. ومن ناحية أخرى فإن الشخص الذي لحقه الازدواج سيفقد الثقة في عمال جباية الخراج نتيجة شعوره بظلم وقع عليه وهذا ما قد يؤدي به إلى التهرب من أداء ما يجب عليه من خراج، والتهرب كما نعلم يهدر مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل التكاليف المالية المقررة في الدولة. أما في حالة العمل على منع هذا الازدواج فإن كل مكلف سيتحمل قدرًا من التكاليف المالية يتناسب مع مقدرته المالية فحسب، وبالتالي سيتحقق مبدأ المساواة بين الممولين في تحمل التكليف بالخراج. وبالنسبة لتجنب الراجعية في الخراج نقول: إن مقدار الخراج معلوم إما على أساس مساحة الأرض إذا كان الخراج خراج وظيفة، وإما بنسبة معينة من إنتاج الأرض إذا كان الخراج خراج مقاسمة، وفي كلا النوعين يكون مقدار الخراج واضحًا، ودفع الخراج يكون مرة في السنة إذا كان خراج وظيفة ويكون كلما جني المحصول في حالة خراج المقاسمة، ويطمئن عمر بن الخطاب في خطبة له الناس على أنه لن يأخذ منهم الخراج إلا ما يستحق عليهم، ولن يفاجئهم بمقادير من المال وهي ليست مفروضة عليهم فهو يقول: ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها، لكم عليّ ألا أجتبي شيئًا من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، يراجع في ذلك (الخراج) لأبي يوسف صـ127 وما بعدها،
وعلى أية حال فثبات الضريبة النسبي نراه واضحًا في ضريبة الخراج، فبعض الشافعية يرون أنه متى استقر وضع الخراج على أرض فإن ذلك يصير مؤبدًا، ولا يجوز أن يزاد فيه ولا ينقص طالمًا كانت الأرض على أحوالها في سقيها وإصلاحها، ويتبين لنا من خلال ما تقدم أن التشريع الإسلامي قد راعى في تنظيمه للقوانين المنظمة للخراج عدم كثرة تلك القوانين وجعلها واضحة محددة لا تثير أي تحايل، ومن ثم سد الباب أمام التفسيرات والاجتهادات المختلفة بالنسبة لتلك القوانين، وبالتالي قضى على الثغرات التي بواسطتها قد يتمكن المكلف بالخراج من نقل عبء الخراج الذي يفرض عليه إلى غيره من المكلفين، وهذا معناه تجتب الراجعية في الخراج وبتجنب تلك الراجعية تتحقق المساواة الكاملة بين المكلفين بضريبة الخراج في تحمل عبء تلك الضريبة كل حسب مقدرته المالية. التهرب من أداء الخراج: والتشريع الإسلامي أيضًا عمل على محاربة التهرب من أداء الخراج، فقد عمل المسلمون على محاربة التهرب من أداء الخراج وذلك لتتحقق المساواة بين المكلفين بأداء الخراج، فقد رأينا فيما سبق أن التهرب من أداء المقدار الواجب من الأعباء المالية يؤدي إلى انعدام المساواة بين المكلفين في هذا الشأن، وهناك عدة وسائل من شأنها العمل على مكافحة التهرب من أداء الخراج نذكر من أهمها: أولًا: عدل عمال الجباية، من أهم الأسباب التي من شأنها أن تدعوا الممولين إلى التهرب من الالتزام الواجب عليهم هو ظلم عمال الجباية، فالظلم إذا وقع من هؤلاء العمال على الممولين نقصت حصيلة الضريبة بل قد يؤدي ذلك إلى خراب البلاد.
وأيضًا فإن عدم المساواة بين المكلفين في المعاملة من جانب عمال الجباية كأن يحابى بعض المكلفين دون البعض من شأن ذلك أن يدعوا غير المحابين إلى التهرب من المقدار الواجب عليهم من الخراج، ومن أجل تفادي ما سبق نجد أن تعاليم الإسلام دعت إلى أن يكون عمال الجباية عادلين مع الممولين رفقاء بهم، وقد طبق عمر بن الخطاب تلك التعاليم بكل دقة، حيث كان لا يكتفي باختيار أفاضل الصحابة لتولي الخراج بل كان يرجع إلى الممولين أنفسهم؛ ليطمئنوه بأنهم لم يظلموا في أداء الخراج، فيروى أنه كان يجبى من العراق كل سنة مائة ألف ألف أوقية، ثم يخرج إليه عشرة من أهل الكوفة، وعشرة من أهل البصرة، يشهدون أربع شهادات بالله أنه من طيب ليس فيه ظلم مسلم ولا معاهد، فعشرون رجلًا يمثلون الممولين يشهدون بالله أربع شهادات أن هذا المال قد أخذ بالحق ولم يظلم فيه مسلم ولا معاهد من الممولين وهم لن يحلفوا إلا إذا كانوا متأكدين مما يحلفون عليه، ومن مصلحتهم ومصلحة من يمثلونهم أن يقولوا الحق، فتلك لا شك طريقة ناجحة لمراقبة ولاة الخراج بواسطة الممولين أنفسهم. وقد ذكر أبو يوسف شروط من يقوم بجباية الخراج في قوله لأمير المؤمنين هارون الرشيد: ورأيت -أبقى الله أمير المؤمنين- أن تتخذ قومًا من أهل الصلاح والدين والأمانة فتولهم الخراج، ثم يقول: وتقدم إلى من وليت ألا يكون عسوفًا لأهل عمله ولا محتقرًا لهم ولا مستخفًا بهم، ولكن يلبس لهم جلبابًا من اللين يشوبه بطرف من الشدة، والاستقصاء من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم، واللين للمسلم والغلظة للفاجر والعدل على أهل الذمة وإنصاف المظلوم، والشدة على الظالم والعفو عن الناس، فإن ذلك يدعوهم إلى الطاعة، وأن تكون جبايته للخراج كما يرسم له، وترك الابتداع فيما يعاملهم به، والمساواة بينهم في مجلسه ووجهه، حتى يكون القريب والبعيد والشريف والوضيع عنده في الحق سواء.
ذكر ذلك في كتاب (الخراج) لأبي يوسف: صـ115 وما بعدها. ولم يكتف الفقهاء باشتراط شروط معينة في عمال الخراج حتى تتحقق العدالة في التطبيق بل أضافوا إلى ذلك ضرورة رقابة هؤلاء العمال، ضمانًا لعدم خروجهم عن الحدود المرسومة لهم، وفي هذا المعنى يوصي أبو يوسف هارون الرشيد بضرورة مراقبة عمال الخراج، وذلك بأن يرسل خلف عماله قومًا من أهل الصلاح والعفاف ممن يوثق بدينه وأمانته، يسألون عن سيرة العمال وما عملوا به في البلاد، وكيف جبوا الخراج على ما أمروا به وعلى ما وظف على أهل الخراج واستقر؟ فإذا ثبت ذلك عندك وصح أخذوا بما استفضلوا من ذلك أشد الأخذ حتى يؤدوه بعد العقوبة الموجعة والنكال، حتى لا يتعدوا ما أمروا به وما عهد إليهم فيه، فإن كان ما عمل به والي الخراج من الظلم والعسف فإنما يحمل أنه قد أمر به، وقد أمر بغيره وإن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتقى وخاف، وإن لم تفعل هذا بهم تعدوا على أهل الخراج واجترءوا على ظلمهم وتعسفهم وأخذهم بما لا يجب عليهم. (الخراج) لأبي يوسف: صـ120 وما بعدها. ويوضح أبو يوسف النتائج العظيمة المترتبة على تحقيق العدالة في التطبيق فيقول: إن العدل وإنصاف المظلوم وتجنب الظلم مع ما في ذلك من الأجر يزيد به الخراج، وتكثر به عمارة البلاد، والبركة مع العدل تكون، وهي تفقد مع الجور، والخراج المأخوذ مع الجور تنقص البلاد به وتخرب، وهكذا نجد أن التشريع الإسلامي يأمر عمال الخراج بالعمل على تحقيق العدالة الكاملة في معاملتهم للمكلفين بالخراج، ولا شك أن المعاملة الطيبة لهؤلاء المكلفين من شأنها أن تترك في نفوسهم أثرًا طيبًا، من شأنه أن يجعلهم لا يفكرون على الإطلاق في التهرب من أداء المقدار الواجب عليهم من هذه الضريبة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تحقيق المساواة الكاملة بين هؤلاء المكلفين في تحمل التكليف بالخراج.
ثانيا: ومن وسائل مكافحة التهرب من أداء الخراج، أن رب الأرض إذا ماطل في أداء الخراج الواجب عليه مع قدرته المالية حبس فيه وفاء له، إلا أن يوجد له مال فيباع عليه في خراجه كالمديون وإن كان لا يملك غير أرض الخراج فللسلطان الخيار في جواز بيعها فيبيع منها بقدر خراجها، أو يقوم بتأجيرها ويستوفي الخراج من مستأجرها، فإن زادت الأجرة فله زيادتها وإن نقصت كان عليه نقصانها. يراجع في ذلك (الأحكام السلطانية) للماوردي صـ132 وما بعدها، وهذه العقوبة المالية والبدينة من شأنها أن تردع من تسول له نفسه التهرب من أداء المقدار الواجب عليه من الخراج، فلا يتهرب من ذلك وبالتالي تتحقق المساواة الكاملة بين المكلفين في تحمل التكليف بالخراج كل حسب مقدرته المالية. ثالثا: ومن الوسائل أيضًا التي تمنع التهرب من أداء الخراج، حصر الممولين وأموالهم لمعرفة مقدار الضريبة وجبايتها كاملة، فقد أمر عمر بن الخطاب بمسح السواد فبلغ ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع عليها الخراج، يراجع في ذلك (الخراج) لأبي يوسف صـ38 وما بعدها. رابعا: ومن الوسائل أيضًا التي تمنع التهرب من الخراج، أن صاحب الأرض إذا ادعى أنه دفع الخراج لم يقبل منه قوله إلا ببينة، فالخراج حق بمثابة الديون، وهذا تطبيق للأصل العام في الإثبات وهو البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وقد ادعى دفع الخراج فلزمته البينة للتأكد من أدائه لضريبة الخراج وفي هذه الحالة يجوز الرجوع إلى سجلات الدولة التي يثبت فيها أداء الخراج حتى لا يطالب به مرة أخرى.
مراعات ظروف الممول في الخراج.
خامسا: ومن الوسائل التي تمنع التهرب من أداء الخراج أيضًا، طريقة إنفاق الخراج، فإن الخراج ينفق في مصالح الأمة في مكان جبايته، فإن بقي منه شيء أرسل إلى بيت المال لإنفاقه في المرافق العامة للدولة، ومما يؤكد ذلك أن عمرو بن العاص اتبع في مصر طريقة مثلى في جباية الخراج وإنفاقه، فكان ينفق الخراج في حفر خلجان مصر وإقامة جسورها وبناء قناطرها، ثم يرسل الباقي بعد ذلك إلى أمير المؤمنين في المدينة، وعلى الجملة فالأصل هو استخدام حصيلة الخراج في البلد الذي جمعت فيه؛ إظهارًا لهذا الاستخدام، وإعلانًا له ولا شك أن ذلك سيكون له أثر طيب على نفس المكلفين بالخراج يساعدهم على إخراج الواجب عليهم بنفس راضية، ولا يفكرون على الإطلاق في التهرب من أدائه؛ لتيقنهم أن ما يدفعونه يعود عليهم بالنفع وكل هذا يؤدي في النهاية إلى تحقيق المساواة بين المكلفين في تحمل التكاليف بالخراج، كل حسب مقدرته المالية. هذه هي أهم الوسائل الكفيلة بمنع التهرب من أداء الخراج، والأخذ بها لا شك من شأنه أن يكون حائلًا بين من تسول له نفسه التهرب من أداء الخراج وبين هذا التهرب، ونحن نعلم أن القضاء على التهرب من أداء الخراج معناه أن يساهم جميع المكلفين بالخراج في الأعباء المالية المقررة عليه في الدولة دون استثناء وبالتالي تتحقق المساواة بينهم في هذا الشأن. مراعات ظروف الممول في الخراج وينبغي علينا أن نتحدث عن مراعاة ظروف الممول في الخراج فنقول:
لما كان الهدف من فرض الخراج هو تحقيق المساواة بين المواطنين جميعًا في تحمل التكاليف المالية المقررة في الدولة، فإن ذلك ليس معناه أن يفرض الخراج على المكلفين بطريقة جامدة لا تراعي ظروفهم، فالعدالة تقتضي أن يساهم المكلف في النفقات العامة للدولة تبعًا لمقدرته المالية، فتوزع الأعباء المالية على المكلفين حسب يسارهم، إن تحقيق العمومية في الخراج، وإن كان لها أهميتها الكبيرة إلا أنها لا بد وأن تقترن بفكرة أخرى هي أن العبء الخراجي الذي يتحمله المكلف، ينبغي أن يتفق مع مقدرته المالية وظروفه، والتشريع الإسلامي في فرضه للخراج لم يسلك طريق جامدة بل إنه راعى في ذلك المقدرة التكليفية للمكلف، يدل على ذلك أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- راعى أن تقوم ضريبة الخراج على أساس طاقة الأرض، وأن يؤخذ في الاعتبار اختلاف الأراضين من حيث جودة يذكوا بها زرعها أو رداءة يقل بها ريعها، واختلاف الزرع من حيث النوع إذ منها ما يكثر ثمنه واختلاف السقي؛ لأن ما سقي بالنواضح والدوالي لا يحتمل من الخراج ما يحتمله ما سقي بالسيح والأمطار على أن يوضع الخراج من غير حيف بمالك، ولا إجحاف بزارع. ومما يدل على ذلك أن عمر بن الخطاب سأل عامليه على الخراج حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف؛ ليطمئن إلى أنهما لم يكلفا الممولين فوق طاقتهم فأجاباه بأنهما حملا الأرض ما تطيق، ولو زاد لأطاقت ولكنهما تركا الفضل للناس، وقال عثمان: لقد تركت الضعف ولو شئت لأخذته، ومناقشة عمر لعامليه في مقدار الخراج الذي وضعه على الأرض يدل على عدالة عمر المستمدة من عدالة الإسلام وسماحته بالنسبة لغير المسلمين. فالخراج إذن يتحدد مقداره بقدر طاقة الأرض ولهذا جاءت الروايات المختلفة عن عمر في مقادير الخراج، وهي تختلف باختلاف الأرض من حيث الجودة
ومقدار الغلة فهو لم يجعل على كل الأرض مقدارًا واحدًا لا يختلف، وإنما راعى في كل أرض ما تحتمله، وهذا يحقق العدل بين الناس فقد وضع عمر على بعض نواحي السواد على كل جريب قفيزًا ودرهمًا، وضرب على ناحية أخرى غير هذا القدر. إن العدل في السياسة المالية يقضتي من ولي الأمر ألا يفرض من الضرائب ما يثقل كاهل الناس ويرهقهم، أو لا يتناسب مع درجات الغنى وتفاوت الناس في اليسار، وبمعنى آخر عليه أن يراعي حالة الناس واستعدادهم لأداء ما فرض عليهم، فإذا أصبح الناس غير قادرين على أداء ما فرض عليهم كان من الواجب على ولي الأمر التخفيف عنهم إلى ما يستطيعون، يدل على ذلك أن أحد الخلفاء العباسيين عدل عن خراج الوظيفة الذي كان مقررًا على سواد العراق منذ عهد عمر، إلى خراج المقاسمة حينما رأى أن الأرض لم تعد تفي بما كان موظفًا عليها من قبل، فكان من غير العدل أن يستمر أهل السواد مكلفين بأداء ما وظف على أراضيهم على حين أنها لا تغل لهم ما يتمكنون به من أداء ما فرض عليهم، يراجع في ذلك (السياسة الشرعية والفقه الإسلامي) للشيخ عبد الرحمن تاج صـ40 وما بعدها الطبعة الأولى 1953، مطبعة دار التأليف بمصر. وهذا الحرص على توزيع أعباء الخراج على الجميع عن طريق مراعاة ما سبق كان أمنية الفرنسيين التي لم تتحقق لهم إلا في منتصف القرن التاسع عشر، وهذه الطريقة في تحديد مقدار الخراج والسابق بيانها هي الطريقة الحديثة في فرض الضرائب العقارية، والتفاوت في المقدار الواجب في الخراج حسب طاقة الأرض يعتبر أساس فكرة المساواة التي روعيت فيها العدالة؛ لأن المساواة بين غير المتماثلين في المقدرة المالية ظلم كما أوضحنا فيما يرى، وقد روعي ظروف المكلف بالخراج في عدة أمور نذكر من أهمها: أولًا: إعفاء غير القادرين من ضريبة الخراج، كما يجب الخراج على المكلفين به إذا أطاقت الأرض ذلك، فإن هذا الخراج يسقط في حالات كثيرة من أهمها، إذا
أصاب الزرع آفة من الآفات سقط الخراج عن المكلف؛ لأنه مصاب يستحق المعونة، ولو أخذ منه الخراج لكان فيه استئصال لماله، إذا حدث نقص في الخارج من الأرض لم يتسبب فيه الممول كأن ينفجر سد أو يتعطل نهر سقط الخراج، أنه إذا كانت الأرض لا يمكن زراعتها في كل عام حتى تراح في عام وتزرع في آخر، روعي حالها في ابتداء وضع الخراج عليها بمسح كل جريبين بجريب فيكون أحدهما للمزروع والآخر للمتروك، ومعنى هذا إسقاط الخراج عن الأرض في السنة التي لم تزرع فيها، وهذا الإعفاء من أداء الخراج من الممكن أن نعتبره مقابلًا لإعفاء ما دون النصاب من الزكاة كما سبق القول، وهذا الإعفاء في رأينا لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل التكليف بتلك الضريبة، إذ أن هذا التكليف مرتبط بالطاقة المالية للمكلف، وطالما انعدمت تلك الطاقة فلا محل للتكليف، ومعنى ذلك أن هذا الإعفاء لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل التكاليف العامة المقررة في الدولة. ومن المراعاة أيضًا إعفاء الحد الأدنى اللازم للمعيشة إن ضمان حد الكفاية والذي سبق ذكره حين الكلام عن التكليف بالزكاة والجزية يجب توافره لكل مواطن يعيش في مجتمع إسلامي أيًّا كانت ديانته وأيًّا كان جنسه، وإعفاء الحد الأدنى اللازم للمعيشة أو حد الكفاية كما يسميه البعض متفق أو متحقق في ضريبة الخراج، يدل على ذلك ما يلي: يعفى من الخراج المساكن والدور التي هي منازل للمكلفين حيث لم يجعل فيها شيء فما لا يستغنى عن بنيانه لإقامة المكلف في أرض الخراج لزراعتها يسقط عنه الخراج؛ لأنه لا يستقر إلا بمسكن يستوطنه، والسكن من الحاجات الأصلية اللازمة لمعيشة المكلف، وما كان من الحاجات الأصلية معفي من الخراج، يدل
على ذلك قول الماوردي: وما جاوز قدر الحاجة مأخوذ بخراجه، ومفهوم ذلك أن ما لا يجاوز قدر الحاجة معفي من الخراج. أيضًا فإن التشريع الإسلامي يعفي من الخراج الملبس والمأكل ودواب الركوب باعتبار هذه الأشياء من الحاجات الأصلية يدل على ذلك قول علي بن أبي طالب لعامله على الخراج: إذا قدمت عليهم أي: المكلفين بالخراج، فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيف، ولا رزقا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تبع لأحد منهم عرضًا في شيء من الخراج. يرجع في ذلك إلى (الأموال) لأبي عبيد صـ55 وما بعدها، وهذا الإعفاء المقرر للحد الأدنى اللازم للمعيشة لا يتعارض فيما نرى مع مبدأ المساواة بين المكلفين بضريبة الخراج في تحمل تلك الضريبة، وذلك لأن حاجة الإنسان وحاجة أهله وولده ومن تلزمه نفقتهم مقدمة على حاجة غيره، فكيف يطلب الخراج من المكلف الذي يكون في مسيس الحاجة إلى ما معه من مال، وقد رأينا آنفًا أن المساواة في هذا المجال يقصد بها أن يتحمل كل فرد قدرًا من الأعباء المالية المقررة في الدولة يتفق مع طاقته ومقدرته المالية، ومن غير شك فإن المكلف الذي يكون في حاجة ماسة إلى ما معه من مال ليست عنده طاقة على أداء الخراج، وبالتالي فإعفاؤه من أداء الخراج لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل التكليف بالخراج كل حسب مقدرته المالية. ومما يراعى أيضًا اختلاف المقدار الواجب من الخراج باختلاف الجهد المبذول، ميز الفقه الإسلامي بين الخارج من أرض الخراج حيث فاوت بين المقدار الواجب بتفاوت الجهد المبذول، فما بذل في إنتاجه جهد ومشقة كبيرة قل المقدار الواجب فيه، وما بذل في إنتاجه جهد ومشقة أقل أو لم يبذل أصلًا زاد المقدار الواجب فيه. وبهذا نكون قد انتهينا من هذه المحاضرة نكتفي بهذا القدر أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور.
3 - العشور، ومفهوم السياسة ومرتكزاتها في الإسلام ومصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد كنا نتحدث في المحاضرات السابقة عن النظام المالي في الإسلام، وتحدثنا عن أهم الموارد المالية في الإسلام، وهي: الزكاة، والجزية، والخراج، وكان حديثنا في هذه الموارد عن كيفية تحقيق المساواة، والعدالة بين المكلفين بهذه الموارد، إلا أنه ينبغي أن نضيف إلى هذه الموارد موردًا آخر، وهو العشور. فنقول: مضى عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه- ولم تكن الدولة الإسلامية في حاجة إلى المال؛ لقلة المرافق، وعدم الحاجة؛ حتى كان عهد عمر -رضي الله عنه- فاتسعت الدولة الإسلامية -بما فتح الله على المسلمين من البلاد- فكانت الحاجة داعية إلى فرض الضرائب؛ لسد الحاجة؛ لذا فرض عمر العشور، فنظام العشور يرجع إلى عهد عمر بن الخطاب؛ فقد روي أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن تجارًا من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب؛ فيأخذون منهم نصف العشر؛ فكتب إليه عمر قائلًا: خذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين، وخذ من أهل الذمة نصف العشر، ومن المسلمين من كل أربعين درهمًا درهمًا -أي: ربع العشر- وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم، فما زاد فبحسابه. ومن هذا يتضح أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جعل الناس في العشور على ثلاث درجات: مسلمين، ويؤخذ منهم ربع العشر، وذميين، ويؤخذ منهم نصف العشر، وحربيين، ويؤخذ منهم كما يأخذون من المسلمين؛ لأن الأمر فيما بينهم وبين المسلمين مبني على المعاملة بالمثل، وعلى الإمام أن يزيد عن العشر، أو أن ينقص عنه إلى نصف العشر، أو أن يرفع ذلك عنهم إذا رأى في ذلك مصلحة، ولا يزيد ما يؤخذ على مرة من كل قادم بالتجارة كل سنة، ولو تكرر قدومه، وكانت هذه الضريبة لا تؤخذ من التاجر إلا إذا انتقل من بلاده إلى بلاد أخرى، وهذا ما نسميه في الوقت الحاضر: بالضرائب الجمركية. وبالنسبة لضريبة العشور يمكن الرجوع إلى كتاب (النظام المالي) في الإسلام دكتور عبد الخالق النوواي صفحة 117، وما بعدها، وكتاب (النظم الإسلامية) للدكتور حسن إبراهيم ص 239، وما بعدها.
الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي.
الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي.
مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (النظام السياسي الإسلامي) 1 - العشور، ومفهوم السياسة ومرتكزاتها في الإسلام ومصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية نبدأ الآن في الحديث عن النظام السياسي في الإسلام، فنقول -وبالله التوفيق-: هناك من يرتاب في وجود ما يسمى بالسياسة كعلم عند المسلمين؛ ظنًا منه أن ذلك العلم من مستحدثات العصر، أو هو من المصطلحات التي لم تجر إلا على ألسنة غير المسلمين؛ إذ كيف يعرفه المسلمون، أو يقحموا أنفسهم في غماره، فما لهم والسياسة، وقد كانوا أقرب إلى الفطرة، وقاب قوسين أو أدنى من البداوة التي تورد صاحبها موار التهلكة؛ بسبب كلمة عارضة، أو سلوك عفوي؛ لبعده عن التقية، والمداراة، وإصراره على مسلك الجفاء والغلظة، بغض النظر عما يترتب على ذلك من عواقب، وهذا وغيره أبعد عن مدارك السياسة، ومفهوما. أي أن هناك من يشكك في أن المسلمين كانوا يعرفون السياسة بالمعنى الحديث قديمًا، ويقول بأن العرب كانوا أهل بداوة، وعصبية، فكيف يصلون إلى نوع السياسة التي هي نوع من المدارة؟ لكن نقول لهم: إن هذا القول على إطلاقه يجافي الحقيقة؛ فإن القائلين به -وما أكثرهم- أقوام لهم مأرب معروفة، وغايات شائعة مألوفة، لعل أهمها تنحية الإسلام عن حكم الناس، وتوجيه مسار حياتهم؛ ليبتعدوا عن الالتزام بأحكامه؛ فيتحقق لهم إشباع رغبات، ونزوات لا تقرها الشرعية، فضلًا عن نهيها عنها، والتحذير من التورط فيها، أو الاقتراب منها.
فإن هؤلاء الذين يدعون أن المسلمين لم يعرفوا السياسة في أيامهم إنما لهم أغراض خبيثة في هذا الادعاء يريدون أن يبعدوا الإسلام عن ساحة الحكم، وهذا ظلم فإن أردت أن تميط اللثام عن وجه الحق في الموضوع؛ فاعلم أنه كان للرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه؛ كان لهم سياسة ساسوا بها عرب الجزيرة، وغيرهم من الشعوب التي خضعت للإسلام، وهيمن عليها حكم المسلمين، وهي الشعوب التي كانت تشكل غالبية العالم القائم آنذاك، وكيف يقال غير ذلك، وقد اعتنقت الأجناس المختلفة -الرومية، والفارسية، والحبشية، والعربية- اعتنقت الإسلام، وتعايشت في ظل دولة موحدة يدين لها الجميع بالولاء والطاعة، فهل كان من المستساغ، والمقبول أن تعتنق كل هذه الأجناس للإسلام، وأن تتعايش هذه الأخلاط المتباينة في جذورها، وعاداتها، وثقافاتها، ولغاتها، وفلسفتها بغير سياسة توجه حياتها؟ إن ذلك -لو صح- يضاد أبسط أصول الاجتماع الإنساني؛ ومن ثم يصبح القول بأن الجميع قد عاش في ظل السياسة المنبثقة عن الشريعة -التي حققت مصالحهم- أقرب إلى العقل والمنطق يشهد له قيام الدولة الإسلامية بقوتها، وترامي أطرافها عبر العصور الطويلة في العهد النبوي، وعهد الراشدين، والأمويين، والعباسيين. ويوجب القول السابق استجلاء الحقيقة حول المقصود بالسياسة، وما ترمي إليه، والسياسة مأخوذة من سَوَسَ، يقال: ساس الرعية يسوسها سياسة، ويقال: ساس الأمر يسوسه سياسة -بمعنى: قام به. وقد أورد ابن القيم تعريفًا للسياسة بقوله: السياسة ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد -وإن لم يضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي.
مرتكزات السياسة في الإسلام.
ومقتضى هذا: أن السياسة هي تجسيد للقاعدة الإسلامية المعروفة: بجلب المصالح ودرء المفاسد، دون التقيد بالنصوص في الكتاب والسنة، وإنما تلمس ما ينفع الناس، وينأى بهم عن المفاسد في ضوء الكتاب والسنة، وروح الشريعة، وأهدافها. والسياسة -في رأي بعض المحدثين- تعني: تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح، ورفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة، وأصولها الكلية -وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين. مرتكزات السياسة في الإسلام إن المغزى الذي يتعين على الدولة الإسلامية أن تلتزم به فيما يختص بتصريف شئونها السياسة: هو عدم القابلية للتجزئة بين توجيه سياستها، وبين هُويتها الإسلامية، فالسياسة فيها تنتمي للدين، وتستظل في كنفه، ولعل هذه الحقيقة تتضح في العديد من الآيات القرآنية يقول تعالى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (يوسف: من الآية: 40) وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: من الآية: 50). وهذا المغزى هو الذي ظل مهيمنًا على توجيه السياسة في الدولة الإسلامية طوال الفترة التي كان فيها للمسلمين المجد والعظمة، ولو أننا تأملنا مرتكزات السياسة الدينية الإسلامية؛ لاستبانت لنا فيما يأتي: أولًا: الإيمان بالفكرة، والولاء للوحدة: إن هذا المرتكز -ولو أنه يتضمن عنصرين، وهما الإيمان بالفكرة، ثم الولاء للوحدة- إلا أن كل منهما وثيق الارتباط بالآخر.
فنقول أولًا: الإيمان بالفكرة: مضمون ذلك أن الدولة عليها أن تعتنق فكرة واحدة تتلخص في الالتفاف حول الإسلام عقيدة وشريعة، واعتبار الإسلامية هي الجنسية التي تثمل الرابطة السياسة، والقانونية بين المسلم، والدولة في الإسلام، وفي إطارها يكون الولاء للمسلم يضحي بكل ما يملك في سبيل إسلامه ودينه، ويسموا به فوق كل رابطة، وبذلك يكون المسلم كما أراده الله تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: الآية: 162) وقوله -عز وجل-: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا} (الأنعام: 79). ويترتب على ذلك أنه لا مجال في ظل الإيمان بالفكرة لدولة تتقاتل فيها العصبيات، أو تبرز فيها القوميات، أو يتعالى فيها الأجناس؛ فإن السياسة الدينية قد صهرت كل هذه النعرات في عقيدتها، وجعلت جميع المسلمين يرفعون راية التوحيد في معتقداتهم، ويؤمنون بالأنبياء جميعًا، وبأن محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الرسل، وأن رسالة الإسلام هي الرسالة العامة للكافة، وأن يوجهوا سياستهم مع الغير وفق هذه الحقيقة. ولا يعني ذلك أن المسلم لا يشعر بالمودة، والرحمة نحو أبناء قومه، أو جنسه، وإنما يعني: أن يكون ذلك بحيث لا يطغى على ولاءه لإسلامه، واعتبار الأخوة هي المعيار الذي يربط بينه، وبين كل المسلمين، سواء كانوا من أبناء جنسه، أو من غيره، كما لا يعني: توجيه سياسة الدولة بالإسلام مع غير المسلمين أن تفرض عقيدة الإسلام عليهم، فهذا ما يأباه الإسلام بمقتضى نص محكم في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} (البقرة: من الآية: 256) وقوله -سبحانه وتعالى-: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: من الآية: 99). وبالنسبة للولاء للوحدة نجد أن الوحدة مرتكز من مرتكزات السياسة الإسلامية تجمع المسلمين على المبدأ والغاية، وتنأى بهم عن التفرق، وكل سياسة لا تجعل
من مقرراتها ذلك هي سياسة تحيد عن الطريق الإسلام؛ فالمسلمون على ما بينهم من اختلاف في المشارب، والعادات، والأجناس هم أخوة في الدين، وهذا مطلب إسلامي، أمرت به النصوص، وحثت عليه، وهو يتجاوز الفكر النظري إلى الجانب العملي؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: من الآية: 103) وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92). وفي الحديث يقول: -صلى الله عليه وسلم-: ((من أتاكم وأمرك جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) وفي هذه الدلائل إشعار بوجوب الوحدة، والاتحاد بين المسلمين؛ لأنها مصدر القوة والمنعة، وأساسها، وهي وسيلة من أهم الوسائل التي تحفظ لها كيانها، وهيبتها، وينطلق بها نحو تحقيق أهدافها الدينية، والدنيوية. ولهذا اعتبر الإمام الحاكم واحدًا؛ لأن المقصود حصول ذي رأي مطاع يجمع شتات الأراء، ويحول بين المسلمين، وبين دروب المنازعة والشقاق، ويحملهم على مصالح المعاش، والمعاد؛ فلو انتهض لهذا الأمر أكثر من إمام واحد، واتخذ كل منهم الأعوان، ولجأ إلى القوة للغلبة؛ لتهددت بذلك مصالح المسلمين، وعمت الفوضى؛ لذلك ذهب العلماء إلى النص على أن يكون الإمام واحدًا. والملاحظ على الواقع السياسي للمسلمين أنه يخالف هذه النظرة، وهو الوحدة، وإذا كان يقف وراء هذا الواقع العديد من الأسباب التي أدت إليه من بروز النزاعات العصبية، والإقليمية، وحب السلطة، والنزوع نحو الفردية، والتسلط الأوربي، والغزو الفكري الذي تعرض له المسلمون، وغير ذلك من الأسباب؛ فإن هناك مبدأ عامًا -يجب أن يهمن على السياسة عند المسلمين في مشارق
الأرض، ومغاربها- وهو أن تكون جارية في النطاق الإسلامي، ومستمدة منه في أصولها، والقول بذلك لا يغل التفكير الإسلامي؛ فإن المسلمين مطالبون بالبحث والنظر، وابتكار الوسائل التي تتلاءم مع أوضاعهم المتغيرة فيما لا يخالف الشرع، كما أن عليهم أن يفيدوا الآخرين، ويستفيدوا منهم؛ فإن معضلات السياسة مما تتباين فيها الأنظار، وتتعدد فيها الأقوال، وهو من وسائل إثراء الفكر السياسي؛ لأنه مما يؤثر، ويتأثر بتطور الوقائع والأحداث. ومن نتائج ذلك أن تختلف الأساليب التي تعالج متطلبات الواقع الخاص بكل إقليم من الأقاليم الإسلامية، ولا غضاضة في هذا، ولا مصادمة فيه للنصوص، أو القواعد الإسلامية؛ إذ من الطبيعي أن يختلف كل قطر في عاداته، وأحواله الاجتماعية، والاقتصادية، والعمرانية، والثقافية، ويهيمن على ذلك كله السياسة المرسومة للإقليم، أو القطر، التي تستهدف التعرف على أفضل الوسائل التي تتحقق بها النهضة، والتقدم للإقليم في إطار من الشورى، وتبادل الرأي، والتعاون بين أبناء الدين والوطن الواحد. إن في تلمس الأسباب، أو الأساليب التي تحقق الغاية في رفعة الإقليم ونهضته ما يوجب إتاحة الفرصة لكل الآراء، ولكافة الاتجاهات، واعتبار ذلك مقياسًا صحيحًا للإحاطة بوجهات النظر المختلفة، والمتعارضة أحيانًا للأخذ منها بأفضلها، وإلزام الجميع بما انتهى إليه الرأي، دون انتقاص، أو تسفيه لرأي المخالف. لكن حرية الفكر، ووجوب الشورى، وإجازة استقلال كل إقليم بسياسة خاصة به؛ إنما تشكل بعض مظاهر لسياسة عامة موحدة تحكم المسلمين جميعًا، مضمونها: وحدة المقومات التي تتغيا مصلحة الجميع، وأن يكونوا صفًا واحدًا،
ويفرض هذا أن توجد الوسائل التي تحتكم إليها هذه الأقاليم عند الاختلاف؛ لتكفل معاونة كل إقليم على إدارة شئونه، ولئلا تطغى المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، أو تتعارض معها، ولكي يتحقق الالتزام بالخط الإسلامي. ومن المرتكزات أيضًا التي ينبغي أن تبنى عليها السياسة في الدولة الإسلامية، يتعين أن تكون ممارسة السياسة الدينية -في ظل القانون الإسلامي- لأنه هو المحك وفق له توصف السياسة بأنها على الصواب، أم على الخطأ، وعليه فإن السياسة في الإسلام ليست من قبيل السياسة المطلقة، إذ يعني ذلك: ألا تتقيد الدولة حكامًا، وأفرادًا بنصوص الشريعة، وان تتبع ما يترائى لها أنه المصلحة من منطق بشري بحت، وأن يكون رائدها في ذلك مشيئة شعبها، وحاكمها، دون نظر إلى الدين والحق، وهذا لا يجوز في الإسلام. ولإيضاح ذلك يمكن التفرقة بين أمرين: الأمر الأول: أن مبادئ السياسة -التي وردت بها النصوص الدينية في الكتاب، والسنة، أو حدث بشأنها إجماع- هذه المبادئ يتعين الالتزام بها ولا مجال للتحلل منها، أو الخروج عليه، وذلك مثل الحكم بالعدل، وأداء الحقوق لأصحابها قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: من الآية: 58) ومثل أيضًا منهج المشاورة، وتبادل الرأي، هذه مبادئ سياسة يقول تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: 159). ومثل طاعة الحاكم ما لم يأمر بمعصية لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) ومثل المساواة بين الناس؛ فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((الناس سواسية كأسنان المشط)).
أو فيما ثبت بالإجماع كبيعة الإمام؛ فهذه المبادئ، وأمثالها -المبادئ التي ذكرناها مثل الحكم بالعدل، ومثل المشاورة، ومثل طاعة الإمام في غير معصية، ومثل تحقيق العدل، والمساواة بين الناس. نقول: هذه المبادئ وأمثالها تمثل ركائز للسياسة الإسلامية لا مجال للتردد في الأخذ به، ولا يعتد برأي الأمة، أو الحاكم إذا خالفها، وسبب التقيد بمثل هذه الركائز أنه لا سبيل إلى إقامة حكم صالح، وانتهاج سياسة قوية دون الاعتماد عليه أو الاستناد إليها؛ فإن كنت في شك من ذلك؛ فانظر في آثار الأمم العظيمة في الماضي والحاضر؛ تجد أن من أسباب بلغوها ذروة المجد هو التمسك بهذه المبادئ، وغيرها مما لا مجال للتقدم بدونها. من أجل ذلك جاءت الشريعة حاسمة في وجوب التقيد بهذه القواعد قال تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: 49) وقوله: تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18). فإذا كان الأمر كذلك فإن قضية التقيد بالنصوص تصبح من القضايا التي ليست محلًا لخلاف، أو إثارة الجدل حولها، وكل ما يمكن للأمة، أو الحاكم في هذا المجال هو التفسير، ومراعاة أحوال الأمم، وتغير الأزمان في نطاق التفصيلات المتعلقة بالمبدأ، وإبداء التصورات التي يكون على أساسها التطبيق دون أن يمس ذلك المبدأ في ذاته. الأمر الثاني: أن قواعد السياسة، والأنظمة المتعلقة بالحكم التي لم ترد في الكتاب، أو السنة تخضع للقواعد العامة في الشريعة مثل: تنصيب الحاكم عن طريق الاستفتاء، وأن تكون مدة الحاكم مؤقتة بزمن معين، والأخذ بالمجالس النيابية؛ فإن هذه الأمور وأشباهها يمكن الرجوع بشأنها إلى القواعد لتقرير الأخذ
بها من عدمه، وننبه في هذا الشأن إلى أن الاحتكام إلى القواعد يكون بعرض هذه الأحكام على قواعد الشريعة، وعلى السوابق السياسية الإسلامية؛ فإن كان تطبيقًا لقاعدة من القواعد، أو اقتداء بسابقة من السوابق؛ أخذ بها، كذلك إذا كانت الأحكام، والأنظمة السياسة في إطار القواعد الإسلامية، أو لا تتعارض مع أي منها؛ أخذ بها أيضًا. ومن ذلك يتبين أن مجال الالتزام بالقواعد العامة للشريعة لا ترقى إلى مرتبة النظم والأحكام التي نطقت بها نصوص القرآن، والسنة، أو كانت محلًا للإجماع، لكن عنصر الالتزام بها قائم؛ ومن ثم يجب التقيد بها خاصة إذا كانت تحقق مصلحة حيوية للدولة الإسلامية. إن مناط الالتزام بالقواعد العامة في الشرعية ينبع من كونها تلبي حاجة من الحاجات الإسلامية التي يمكن التعرف عليها مع تطور الأزمان، وابتداع نظم جديدة للارتقاء بالأنظمة السياسية، وتكمن أهمية ذلك في عدم تفصيل أشكال الحكم، وحصر كل المبادئ التي يتعين على الدولة الإسلامية الالتزام بها في مجال الحكم والسياسة في القرآن، أو السنة، أو الإجماع، وهي مصادر الإلزام في النظام الإسلامي التي لا محل للحيدة عنها. وفي هذا الجانب فإن للأمة الإسلامية دور تقوم به للارتقاء بنظم الحكم فيها، وجعله أكثر مواتاة لتلبية حاجات الأمة؛ كي يتحقق الاستقرار السياسي فيها، وأن تسود العلاقة الطيبة بين الحاكم، والمحكوم؛ حيث يمكن الإقلال -إن لم يكن وضع حد- للصراعات السياسية حول السلطة. إذا ثبت ذلك فإنه لا صحة لما ذكره مونتسكيو في كتابه (روح القوانين) نعت، ووصف الدولة الإسلامية بأنها دولة مطلقة؛ إذ يقول: إن هذه الممالك -يريد
المطلقة- نجد للدين فيها تأثيرًا أشد من تأثيره في سائر الممالك الأخرى، وهو فيها خوف على خوف؛ ففي المالك الإسلامية تجد أن التوقير العجيب للملك من الرعية أساس الدين. ثم يأتي بمثال على ذلك لما حدث في تركيا، ويقول: بأن الناس إنما كانوا يعظمون الملك كثيرًا، وذلك سببه الدين؛ إذن معنى ذلك أنه يبين أن الدولة الإسلامية كانت دولة لا تعرف الشورى، ومبنية على الخوف من الدين، وأن الدين كان يخوف الناس، ويمنعهم من التعرض للحاكم؛ حتى ولو كان ظالمًا، وهذا وهم -كبير نرد على مونتسكيو ونقول له: ما قلته هذ وهم كبير- ذلك أن وصف الدولة الإسلامية بأنها مطلقة هو أبعد ما يكون عن طبيعة هذه الدولة؛ فهي دولة المنهج الإلهي الذي ارتضاه الله -عز وجل- لتحقيق خلافة الإنسان على الأرض؛ ومن ثم فإن عليها أن تتقيد بحدود هذا المنهج، ذلك المنهج الذي يعتمد على العدل، وأداء الحقوق إلى أصحابها وحرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان؛ امتثالًا لعبودية الجميع لله -سبحانه وتعالى. وليس صحيحًا نعت مونتسكيو أو وصفه للدين الإسلامي بأنه يزيد الأمة الإسلامية خوفًا على خوف؛ فإن الإسلام دين العقل والإقناع، وليس دين الجبر والقهر، والمسلمون يعبدون الله، ويلتزمون بشريعته طبقًا لهذه الحقيقة، وبمعنى أدق فإن هذا يكون رغبًا، ورهبًا؛ فليس الترغيب وحده أو الترهيب وحده كافٍ في ذلك، وإن كانت الرغبة تسبق الرهبة، وتتقدمها، وهذا يبطل زعمه عن فكرة الخوف الناشئة عن الدين، والتي اعتبرها السبب في كون الدولة الإسلامية من الممالك المطلقة. وأخيرًا فإنه لا محل لذلك التوقير العجيب الذي ادعاه للإمام، والذي سنده الدين، أين هذا من حق النقد الذي أرساه أبو بكر في قوله: إن أحسنت
مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم.
فأعينوني، وإن أسأت فقوموني وجاهرت به الرعية في وجه عمر في قول أحد المسلمين له: والله لو وجدنا فيك اعوجاج لقومناه بسيوفن أليس الأحرى بمونتسكيو -وهو الباحث المدقق- ألا يقحم الدين في وهم بدا له، أو إن احتجاجه بصنيع الأتراك لا قيمة له، وليس بشيء؛ لأنهم ليسوا حجة على الإسلام -وإن كانوا من مسلمين- لأنهم أخذوا من الإسلام شكل الخلافة، وطرحوا مضمونها جانبًا؛ لأسباب سياسية، وضعية بحتة، لا صلة لها بالدين. نخلص من ذلك إلى أن سياسة الدولة الإسلامية سياسة مقيدة بحكم الشريعة الإسلامية ذلك التقييد الذي لا يؤدي إلى تعطيل نص، أو الخروج عليه أو مجافاة قاعدة من القواعد الإسلامية. مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم نتحدث الآن عن مصادر النظام السياسي في الإسلام النظام السياسي، والدستوري في الإسلام هو جزء من مجموعة الأحكام الشرعية التي تشكل في مجموعها ما يعرف بالفقه الإسلامي؛ ولذا كان على من يريد بيان مصادر النظام السياسي في الإسلام أن يتحدث عن مصادر الفقه بصفة عامة؛ لأن مصادر التشريع الإسلامي، واحدة، سواء كان ذلك في مجال التشريع المدني، أو التشريع الدولي، أو التشريع الاقتصادي، أو التشريع السياسي، أو حتى في مجال العبادات؛ فجميع هذه التنظيمات تستقي أحكامها من معين واحد هو: مصادر الفقه الإسلامي، أو أدلة الأحكام التي بحثها علماء أصول الفقه بشكل لا مزيد عليه. ولكن هذا لا يمنعنا بطبيعة الحال من أن نتعرف على هذه المصادر؛ لنرى كيف يمكن أن نستنبط منها الأحكام السياسية، والدستورية في النظام الإسلامي،
ومعلوم أن مصادر الفقه الإسلامي تنقسم إلى: مصادر نقلية تتمثل في الكتاب، والسنة؛ لكونها نقلت إليها عن طريق الوحي، ولم يكن للعقل مجال في وضعها، وإن كان لا بد من إعمال العقل في فهمها، واستنباط الأحكام منها. وتقسم كذلك إلى مصادر أخرى عقلية، وتشمل جميع تلك المصادر التي تتم عن طريق الاجتهاد -بمعناه الواسع- ومن الأصوليين من يقسم هذه المصادر إلى: مصادر أصلية هي القرآن والسنة، وأخرى تبعية أرشدت إليها النصوص، واعتبرتها في استنباط، أو تأسيس الأحكام عليها -عند عدم، وجود النص- وذلك كالإجماع، والقياس، والمصالح المرسلة، ونحوه. ولذلك فسوف نجعل دراستنا في هذا متضمنة لمصادر النظام السياسي الإسلامي، سواء منها الأصلية، أو التبعية؛ فنتحدث أولًا عن القرآن الكريم كمصدر للأحكام السياسية، والدستورية. القرآن الكريم: هو كلام الله -سبحانه وتعالى- الذي نزل به جبريل الأمين -عليه السلام- على نبينا -صلى الله عليه وسلم- وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا، وقد اهتم الصحابة -رضوان الله عليهم- بنقله وتجريده عما سواه، وبالغوا في ذلك؛ حتى أنهم كرهوا التشكيل، والنقط؛ كي لا يختلط بالقرآن غيره، فالمكتوب بين دفتي المصحف هو القرآن كاملًا غير منقوص؛ إذ يستحيل في العرف، والعادة -مع توفر الدواعي على حفظ القرآن ونقله- أن يهمل بعضه؛ فلا ينقل، أو يخلط به ما ليس منه. وقد ابتدئ نزول القرآن على النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في مكة المكرمة عام 610 ميلاديا، وذلك في اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده -صلى الله عليه وسلم-
واستمر نزول القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تاسع ذي الحجة يوم الحج الأكبر للسنة العاشرة من الهجرة، والثالثة والستين من ميلاده -صلى الله عليه وسلم- وكان القرآن الكريم ينزل منجمًا مفرقًا؛ ليتثبت به فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وليكون مواكبًا للأحداث التي كانت تمر بالمجتمع الإسلامي من بداية البعثة، إلى واخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة. وقد مر القرآن الكريم -في نزوله- بفترتين متميزتين: هما الفترة المكية -وفيها نزل معظم القرآن- ويطلق على الآيات والسور التي نزلت بمكة: القرآن المكي، وتمتاز هذه الآيات والسور بكونها تهدف إلى تكوين العقيدة الصحيحة، وتنقيتها من الخرافات، والضلالات القديمة عن طريق الحجة، والمنطق. ثم الفترة المدنية، وتمتد من الهجرة، وحتى وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيها اكتمل التشريع، ويطلق على الآيات والسور التي نزلت في هذه الفترة: القرآن المدني. ويمتاز التشريع في هذه الفترة ببيان الأحكام، والتكاليف الشرعية بعد أن أصبح المكلفون مهيئين لذلك بتصحيح عقيدتهم في الفترة المكية. ولم يجمع القرآن الكريم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما كان مكتوبًا في الصحائف، ومحفوظًا في صدور الصحابة، وأول من قام بجمعه أبو بكر -رضي الله عنه- لما تولى خلافة المسلمين، وقُتل عدد كبير من الحفظة لكتاب الله تعالى في موقعة اليمامة. ثم لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وتفرق الصحابة في الأمصار المفتوحة؛ خشي عثمان -رضي الله عنه- أن يختلف المسلمون في القرآن؛ فقام بعد استشارة الصحابة بجمعه للمرة الثانية، معتمدًا في ذلك على جهود أبي بكر السابقة، وكتب نسخًا متعددة من المصحف، ووزعها على الأمصار الإسلامية المختلفة، وأحرق ما عداه؛ حتى لا يختلف المسلمون في القرآن.
ويبلغ مجموع سور القرآن 114 سورة، ومجموع آياته: 6341، وهذه الآيات، والسور مرتبة، والأكثر من أهل العلم على أنها ترتيبها توقيفي، لا رأي للصحابة فيها، ثم توالت جهود المسلمين بعد ذلك -وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها- على العناية بالمصحف الشريف كتابة، وطباعة، وحفظًا، وشرحًا، وصدق الله العظيم الذي يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9). وتنقسم الأحكام الواردة في القرآن الكريم إلى: أحكام اعتقاديه تهدف إلى تصحيح عقيدة الإنسان من حيث إيمانه بالله تعالى، وبما جاء من عنده مما أخبر به الرسل -عليهم الصلاة والسلام. وأيضًا أحكام خلقية تتعلق بفضائل الأعمال، ومحاسن الأخلاق. وهناك أيضًا -ثالثًا- أحكام عملية تتعلق ببيان حكم الله تعالى فيما يصدر عن المكلف من الأقوال، والأفعال، والتصرفات، وهو ما يطلق عليها اسم: الفقه، أو التشريع الإسلامي. خلاصة هذا أن الأحكام التي تضمنها القرآن الكريم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحكام اعتقاديه، وأحكام خلقية، وأحكام عملية. وآيات الأحكام في القرآن لا تزيد عن خمسمائة آية، وتنقسم إلى أحكام العبادات، ويقصد بها تنظيم العلاقة بين الإنسان، وربه، وتشمل 140 آية، وأحكام المعاملات، وهي التي تعني ببيان التنظيم التشريعي لكافة علاقات الأفراد -فيما بينهم، أو فيما بينهم، وبين الحاكم، أو فيما بينهم، وبين الدول الأخرى- وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب خلاف أن هذا النوع من الأحكام ينقسم إلى عدة أقسام:
1 - أحكام الأحوال الشخصية، أو أحكام الأسرة، وتشمل أحكام الزواج، والطلاق، والإرث، والوصية، والحجر، وتشمل نحو سبعين آية. 2 - الأحكام المدنية، وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد، ومبادلاتهم من بيع، وإجارة، ورهن، وكفالة، وشركة، وما إلى ذلك، وتشمل نحو سبعين آية. 3 - الأحكام الجناية، وهي التي تتعلق ببيان ما يرتكبه المكلف من الجرائم، وما يستحقه عليها من عقوبات، وتشتمل على نحو ثلاثين آية. 4 - أحكام المرافعات، وهي التي تتعلق بتنظيم الإجراءات التي تتخذها المحاكم للنظر في حقوق الناس، وبيان أحكام الدعاوى، والبينات، وتشمل نحو 13 آية. 5 - الأحكام الدستورية، وهي التي تتعلق بنظام الحكم، وأصوله -أي: تحديد العلاقة بين الحاكم، والرعية، وبيان ما لكل منهما من الحقوق، وما عليه من الواجبات، وتشمل نحو عشرة آيات. 6 - الأحكام الدولية، وتتعلق ببيان علاقة الدولة الإسلامية بغيرها في حالة السلم، وفي حالة الحرب، وتشمل آياتها نحو 25 آية. 7 - وأخيرًا الأحكام الاقتصادية، والمالية، وهي التي تقوم بتنظيم العلاقات المالية من موارد، وطرق إنفاق، وغير ذلك، وتشمل نحو عشرة آيات. والذي يهمنا في هذا الصدد أن نقرر أن القرآن الكريم -باعتباره مصدر الشريعة الأول- قد عني بتقرير كثير من الأحكام الدستورية، والسياسية؛ فتكلمت آياته الكريمة عن الحكم، والإمارة، والملك، والسلطان، والولاية، والسيادة، والقضاء، والحرب، والسلم، والمعاهدة، وحقوق الأفراد، وحرياتهم، وحقوق
الحاكم، وحقوق أهل الذمة من المواطنين، أو ما يعرف بمركز الأجانب والأقليات في القانون الدولي الحديث، وتحدث أيضًا عن الشورى كنظام للحكم، وغير ذلك من أمهات المسائل الدستورية، والسياسية، التي أشار إليها القرآن الكريم، وحفظت، ودونت قبل أن تعرف الدول الحديثة فكرة الدساتير المدونة التي تؤصل بها أحكامها السياسة، والدستورية؛ مما يجعل من الشريعة الغراء رائدة في هذا المجال. ولكن يجب أن يلاحظ أن بيان القرآن الكريم للأحكام السياسية، والدستورية إنما يقتصر على القواعد العامة، والأفكار الإجمالية؛ فهو لا يتصدى للجزئيات، وتفصيل الكيفيات إلا قليلًا؛ لأن هذا مما يخل ببلاغة القرآن، وبكونه كتابًا هو كالدستور لكافة الأحكام الشرعية؛ فينطوي هذا المسلك من البيان -إذن- على حفز الهمم، وحثها على فهم تلك القواعد الكلية، وتطبيقها بصورة مختلفة يحتملها النص، ولا يأباها، وذلك كما ورد في القرآن الكريم من النص على الشورى السياسية دون تعيين شكل خاص لها؛ فكانت بذلك شاملة لكل نظام حكومي يحقق العدل، ويجتنب الظلم، والاستبداد، ورأي الفرد، بغض النظر بعد ذلك عن كون هذا النظام جمهوريًا، أو ملكيا، أو خلافة، أو غير ذلك مما لا استئثار فيه لفرد، أو لفئة بحسب ما تمليه المصالح العامة للمجتمع. خلاصة القول -في هذا-: أن القرآن الكريم -بالنسبة لمسائل الحكم، والنظم الدستورية- إنما اقتصر على الأحكام العامة، أما التفصيلات؛ فقد تركها، ولم يفصلها، لماذا؟ لأن شريعة الإسلام إنما هي الشرعية الخاتمة -خاتمة الشرائع- ولذلك هي باقية إلى أن تقوم الساعة، ويرث الله الأرض، ومن عليها؛ ولذلك حرص القرآن الكريم على أن يترك للناس مساحة من التفكير -خصوصًا مع تطور المجتمعات، وكثرة الوقائع والأحداث- ولذلك ترك لهم التفصيل، ووضع
السنة.
لهم الضوابط لنظام الحكم سواء من الناحية الدستورية، أو غيرها، أو بعد ذلك ترك لهم التفصيل؛ فلهم أن يفصلوا هذه الأمور التي استجدت، وفق الضوابط الشرعية، ووفق الأحكام الكلية التي ذكرها القرآن الكريم. نضرب مثالا لذلك بالشورى؛ الله -تبارك وتعالى- يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: من الآية: 38) ويقول: أيضًا: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} (آل عمران: من الآية: 159) فقد نص القرآن الكريم على قاعدة الشورى، لكنه لم يبين لنا كيفية ممارسة هذه الشورى؛ ولذلك ترك هذا التفصيل للأفراد، وهذا التفصيل سوف يختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، المهم أن يتم ذلك، وفق الضوابط العامة التي رسمها القرآن الكريم. وفي ضوء ما تقدم- يمكننا أن نقرر أن القرآن الكريم هو مصدر النظام السياسي الإسلامي الأول، وأن قلة الآيات التي تتعرض لبيان أحكام هذه المسائل فيه -إنما كان- لأن القرآن الكريم اقتصر على بيان القواعد الكلية فقط، وترك ما وراء ذلك من التفصيلات، والجزئيات لظروف كل مجتمع بحسب ما يستجد من المستحدثات، والوقائع بما لا يخرج عن أسس الشرعية، ومقاصدها، ولم يكن هذا عن قلة عناية من الشارع بهذه الأحكام -كما حاول البعض من المؤلفين المحدثين أن يفهمه خطأ، أو عن حسن قصد منه؛ لتأثره بالمنهج الوضعي من ناحية، وقلة دربته وأنسته بقواعد الشرع الإسلامي وخصائصه من ناحية أخرى- وصدق الله العظيم إذ يقول: في وصف كتابه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: من الآية: 89). هذا وبالله التوفيق، نكتفي بهذا القدر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - تابع: مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي السنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن مفهوم السياسة في الإسلام وعن القرآن الكريم كمصدر من مصادر الأحكام الدستورية في الإسلام ونواصل الآن الحديث عن المصدر الثاني، وهو السنة النبوية الشريفة، فنقول: السنة في اللغة: هي الطريقة والسيرة، وقيل: هي مأخوذة من سن بمعنى بيّن، وسميت السنة كذلك؛ لأنها مبينة للقرآن الكريم،
وأما السنة في الاصطلاح فيقصد بها أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريراته. فالسنة القولية هي ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأقوال، وهي أكثر السنة، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ضرر ولا ضرار)) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)). والسنة الفعلية هي أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- المنقولة عنه، كصلاته -صلى الله عليه وسلم- وحجه، فقد صلى عليه السلام وقال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وحج -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((خذوا عني مناسككم)) ومن ذلك أيضًا ما كان يفعله -صلى الله عليه وسلم- كقضائه باليمين والشاهد، وما كان يفعله في الحروب -صلى الله عليه وسلم- فهو يعتبر سنة بسبب فعله -صلى الله عليه وسلم- له. والسنة التقريرية: فهي أن يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلًا أو يسمع قولًا فيقره، فقد يقع من الصحابة في حضرته -صلى الله عليه وسلم- أقوال، وأفعال، فلا ينكرها، وفي ذلك إقرار لها، ومثالها: ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، قال له بما تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي، ولا آلو، فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)) ومن ذلك أيضًا: إقراره -صلى الله عليه وسلم- لعلي رضي الله عنه في كثير من أقضيته، وإقراره -صلى الله عليه وسلم- لمن تيمم من الصحابة للصلاة إذا لم يجد الماء، ثم وجوده بعد الصلاة فلم يتوضأوا، ولم يعيدوا الصلاة، كل ذلك تقريرات من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذه تعتبر سنة. فالسنة هي -إذن- سنة قولية، وسنة فعلية، وسنة تقريرية.
وتعتبر السنة المطهرة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى قد أمر بطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وقرن هذه الطاعة بطاعته -سبحانه وتعالى- فقال عز من قائل: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) وقال سبحانه وتعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: من الآية: 80) قال الشوكاني: فيه أن طاعة الرسول طاعة لله، وفي هذا من النداء بشرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلو شأنه وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، ووجه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهي إلا عما نهى الله عنه، وعلى هذا أجمع المسلمون منذ صدر الإسلام وحتى يومنا هذا على وجوب الأخذ بالسنة واعتبارها مصدرًا رئيسيًا من مصادر التشريع الإسلامي، وخصوصًا أن بعض الأحكام قد أجملت في القرآن، كوجوب الصلاة والزكاة والحج، ولا يمكن أن نفهم هذه الأحكام إلا بالرجوع إلى بيان السنة لها، فلو لم تكن السنة مصدرًا تشريعيًّا لما أمكننا العلم بمقتضى القرآن والسنة. وتنقسم السنة المطهرة من حيث الثبوت إلى: سنة متواترة، وسنة مشهورة، وسنة آحاد، فالسنة المتواترة هي ما رواها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى آخر السند جمع تحيل العادة تواطئهم على الكذب، على أن يكون هذا الجمع موجودًا في كل طبقة من طبقات السند، لأن العادة تحيل أن يجتمع هذا العدد في كل طبقة من طبقات السند من أوله إلى آخره. نقول: تحيل العادة توطئ هذا العدد على الكذب لكثرتهم واختلاف بيئاتهم ومشاربهم، ويمثل لهذا النوع من السنة المتواترة بما نقل عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- من كيفية أداء الصلاة ومناسك الحج ومقادير الزكاة، وكيفية الأذان، وغير ذلك مما نقل إلينا نقلًا متواترًا منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وحتى عصرنا هذا. هذا بالنسبة المتواترة. أما السنة المشهورة: فهي ما رواها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جمع لا يبلغ حد التواتر، ثم تواتر هذا الجمع بعد ذلك، فالتواتر في السنة المشهورة لم يكن في الحلقة الأولى من السنة، وهذا هو ما يميزها عن السنة المتواترة التي يتوافر فيها التواتر من أول السند إلى منتهاه كما ذكرنا. والسنة والمشهورة تفيد عند أبي حنيفة وأصحابه العلم اليقيني، ولكنه دون العلم الحاصل من سنة التواتر، ويسمونه أحيانًا بعلم الطمأنينة الذي لا يصل إلى مستوى اليقين وإن كان يشبهه، ولذلك نجد أن الحنفية يوجبون العمل بهذا النوع من السنة، ويقيدون بها الأحكام المطلقة في القرآن ويخصصون بها الأحكام العامة ونحو ذلك. ونأتي إلى النوع الثالث: وهو سنة الآحاد: وسنة الآحاد هي كل خبر يرويه الواحد أو الاثنان أو الأكثر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يتوافر فيه شروط التواتر أو الشهرة على مصطلح الحنفية، وسنة الآحاد تفيد غلبة الظن، ولا تفيد العلم القطعي، لكون اتصال السند فيها بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مشتبهًا فيه. يقول بعض العلماء الاتصال فيه شبهة صورة ومعنى، أما ثبوت الشبهة ففيه صورة، فلأن الاتصال بالرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت قطعًا، وأما معنى: فلأن الأمة تلقته في القبول، أي: في الطبقة التي تلي التابعين، ولهذه الشبهة في إسناد سنة الآحاد قرر العلماء أنه يجب العمل بها، إن لم يعارضها معارض، ولكن لا يؤخذ بها في الاعتقادات؛ لأن معناها الجزم واليقين، أي: الاعتقادات تعتمد على الجزم واليقين، لكن سنة الآحاد تقوم أو تفيد غلبة الظن، ولذلك لا يؤخذ بها في
الاعتقادات، لأن الاعتقادات -كما قلنا-: مبنية على الجزم واليقين، ولا يكفي فيها غلبة الظن التي تفيدها سنة الآحاد، لأن الظن في الاعتقادات لا يغني عن الحق شيئًا. ويشترط للعمل بخبر الواحد عند أبي حنيفة -زيادة على الثقة بالراوي وعدالته-: ألا يخالف عمله ما يرويه، يعني: ألا يخالف الراوي الحديث الذي رواه، ومن ذلك ما روي أن أبا هريرة كان يروي خبر: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب الطهور فإن أبا حنيفة لم يأخذ به يعني: لم يشترط السبع مرات؛ لماذا؟ قالوا: لأن أبا هريرة نفسه -وهو راوي الخبر- كان يأخذ به، فكان يكتفي بالغسل ثلاثًا، فيكون هذا أمارة الضعف في الرواية في صدق نسبتها إلى نفس الراوي. ويشترط مالك رضي الله عنه للعمل بسنة الآحاد: ألا تخالف ما عليه أهل المدينة؛ لأنه من مذهبه أن ما عليه أهل المدينة في الأمور الدينية اشتهرت روايته واستفاضت فلا يخفى على أحد. يقول الشيخ أبو زهر في هذا المقام: فمالك في هذا كشيخه ربيعة الرأي، يرى: أن عمل أهل المدينة في أمر ديني هو رواية ألف عن ألف حتى يصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا خالفها خبر آحاد كان ضعيف النسبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- فتقدم عليه. فتقديم عمل أهل المدينة على سنة الآحاد عند مالك هو تقديم مشهور مستفيض متواتر على خبر الواحد، وليس ردًا مجردًا لخبر الآحاد، أي: أن الإمام مالك لا يرد خبر الآحاد، لكن خبر الآحاد إذا تعارض مع عمل أهل المدينة عند الإمام مالك فإنه يقدم عمل أهل المدينة، لكن هذا ليس معناه أنه يرفض العمل بخبر الآحاد. نعود بعد هذه المقدمة إلى موضوعنا الأصلي وهو: كون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مصدرًا من مصادر الأحكام الدستورية والسياسية في النظام الإسلامي.
حجيه السنة بجميع أنواعها.
حجيه السنة بجميع أنواعها وإذ قد قررنا أن السنة مصدر تشريعي معتبر في جميع الأحكام الشرعية وأن الأحكام السياسية والدستورية في النظام الإسلامي هي جانب من الأحكام الشرعية العملية فإننا نقرر في هذا الصدد وبارتياح تام أن السنة تعتبر مصدرًا لهذه الأحكام كغيرها تمامًا، بلا فرق في هذا بين السنة المتواترة، والسنة المشهورة، وسنة الآحاد، ويظهر هذا في تلك الوثيقة المكتوبة التي عرفت باسم دستور المدينة، أو ما يطلق عليها الصحيفة وهي الأساس في المرحلة الأولى لنشأة الدولة الإسلامية في حقوق الحاكم وحقوق الرعية وتنظيم المجتمع والدولة، وكذلك تتردد في نصوص السنة المطهرة كلمات: الراعي، والرعية، والبيعة، والإمارة، والطاعة للأمير، وفيها تشريعات في حقوق الحاكم ومسئوليته، وحقوق الأفراد، وحرياتهم، والسيادة، والسلم، والحرب، والمعاهدة، والقضاء والشورى، ومركز الأقليات الدينية، وغير ذلك مما يدخل في صميم الأحكام الدستورية، والسياسية بالمصطلح المعاصر. ومعنى ذلك: أن السنة إنما أيضًا مثل القرآن الكريم تعتبر مصدرًا من مصادر الأحكام الدستورية والسياسية في الدولة الإسلامية؛ لأنه كما قلنا: ذكرت أمور هي من صميم النواحي الدستورية والسياسية -كما قلنا- مثل: الإمارة والطاعة للأمير وغير ذلك وحقوق الأفراد وحرياتهم وعلاقة المسلمين بغيرهم في السلم والحرب وغير ذلك. لذا فإنا نعجب غاية العجب مما ذهب إليه أحد الكاتبين المحدثين من عدم الاحتجاج بسنة الآحاد في ميدان الأحكام السياسية والدستورية.
قلنا: إن السنة سواء كانت سنة متواترة أو سنة مشهورة أو سنة آحاد إنما هي مصدر للأحكام الدستورية والسياسية في الدولة الإسلامية، لكن بعض الكتاب المحدثين في العصر الحالي بدأ يعني: يعارض في هذا ويرى أن سنة الآحاد لا تكون، أو لا تصلح أن تكون مصدرًا للأحكام الدستورية والسياسية في الدولة الإسلامية. نقول: نعجب غاية العجب مما ذهب إليه هذا البعض من عدم الاحتجاج بسنة الآحاد في ميدان الأحكام السياسية والدستورية، ولكنا إذا التمسنا عذرًا لهذا الكاتب بكونه من غير المختصين بعلوم الحديث والسنة أو المتمرسين في الدراسات الإسلامية، ولذلك فكلامه لا يعدو أن يكون مجرد رأي لصاحبه، فقد ينتهي الأمر عند هذا، إنما هذا لا يمنعنا على كل حال من طرح بعض أفكار هذا المؤلف القانوني المعروف باسم الدكتور/ عبد الحميد متولي، وهو دكتور في القوانين الدستورية في كليات الحقوق، نقول: ينبغي علينا أن نعرض لبعض أفكاره لنتبين ما في هذه الأفكار من الاشتباه ونصحح ما يجب تصحيحه منها. وخلاصة رأي الدكتور في هذا والدكتور كتب ذلك الدكتور عبد الحميد متولي في كتاب أسماه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) صفحة 188 وما بعدها. خلاصة رأي الدكتور عبد الحميد متولي ومناقشة فيه: يرى الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولي أنه في مقام القانون الدستوري لا يجوز أن نأخذ بسنة الآحاد حين تكون مستقلة، أي: حين تأتي بأحكام أو مبادئ جديدة لم ينص عليها في القرآن وذلك للاعتبارين التاليين: 1 - أهمية الأحكام الدستورية وخطورتها. 2 - أن سنة الآحاد غير يقينية. الدكتور عبد الحميد متولي لا يأخذ بسنة الآحاد بالنسبة للأحكام الدستورية، ويبرر عدم أخذه بسنة الآحاد بالنسبة لهذه الأحكام الدستورية بقوله: أهمية
الأحكام الدستورية وخطورتها، يعني: بسبب هذه الأهمية والخطورة، فلا يصلح أن تثبت بسنة الآحاد، وأيضًا يقول: بأن سنة الآحاد غير يقينية. ثم يتابع الأستاذ حديثه فيوضح الأمر، فيقول: إن الأحكام المتعلقة بالقانون الدستوري هي على قسط كبير من الأهمية والخطورة؛ لأنها تتعلق بالنظام السياسي للدولة، أي: ينظام الحكم فيها، وبيان حريات الأفراد وحقوقهم الأساسية إزاء الدولة، لذلك لم يكن من المقبول أن نأخذ بالسنة في هذا المقام إلا إذا كانت يقينية، أي: متواترة أو على الأقل سنة مشهورة. ففي مثل هذه الشجون التي تنطوي على مثل تلك الأهمية والخطورة يعد عدم شهرة السنن قرينة قوية على عدم صحتها، أي: على عدم صدورها حقًا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم. هذا هو نص كلام الدكتور/ عبد الحميد متولي، والذي نود أن نناقش به الأستاذ الفاضل هو: هل تخرج الأحكام الدستورية والسياسية عن كونها أحكامًا شرعية يحتج في صددها بما يحتج بها في بقية الأحكام؟ ومن بين ذلك -بطبيعة الحال- سنة الآحاد متى صحت نسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن رواها العدل الضابط عن مثله إلى منتهاها، ولم يكن الحديث شاذًا ولا معللًا بعلة تقدح فيه. يعني: ما دمنا نستدل بسنة الآحاد في الأحكام الأخرى غير الدستورية ينبغي علينا أن نحتج بها في الأحكام الدستورية أيضًا، وتكون مصدرًا للأحكام الدستورية أيضًا، مادام الذي رواها يتصف بالعدل والضبط، وما ذهب إليه الأستاذ الفاضل لا يصح في مقام الشريعة الإسلامية التي لا تعتبر أي ميزة لأحكام القانون العام على أحكام القانون الخاص، فكل حكم شرعي قام الدليل على طلبه -على أي نحو- كان وجب الوقوف عنده.
والفقهاء الذين تطلبوا في سنة الآحاد شروطًا خاصة للعمل بها كالمالكية والحنفية على ما ذكرنا، فليس يترتب على تخلف هذه الشروط في نظرهم رد سنة الآحاد جملة وتفصيلًا، وإنما هم يحتجون في سنة الآحاد في كثير من الأحكام باستثناء بعض الأحاديث القليلة النادرة التي تخالف ما اشترطوه في العمل بهذه السنة. وهل تصل أحكام القانون السياسي والدستوري في خطورتها إلى مستوى العقائد التي ارتأى علماء الأصول والفقه: أنه لا يكفي إثباتها غلبة الظن الذي تفيده سنة الآحاد، وإنما يلزم أن يكون دليل إثبات العقائد يقينيًا؛ لأن الظن في هذا الصدد لا يغني من الحق شيئًا؟ أعتقد أن أحكام القانون السياسي والدستوري لا تصل إلى مرتبة العقائد حتى نشترط لها أحاديث تفيد اليقين، مثل: الأحاديث المتواترة. على أنا نلاحظ: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو صاحب الشرع ومؤسس دولة المسلمين قد تواتر عنه إرساله الرسل والقضاة والأمراء إلى الأفاق وإلى الدول المجاورة، وكانوا مع ذلك آحادًا، ولم يقل أحد بأن هذا الإرسال غير صحيح، بل كان أهل البلدان المختلفة يلتزمون بتلك الأحكام التي يبلغهم إياها الرسل والأمراء والقضاة من قبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو لم يكن خبر الواحد حجة ملزمة لما التزموا بذلك. وأيضًا فقد ذكر الشافعي في (الرسالة) ما يفيد الاحتجاج بخبر الواحد من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد قال عليه السلام: ((نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى منه أفقه منه)) قال الشافعي فلما ندب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها من عبد واحد دل على أنه -عليه السلام- لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه.
إذن: معنى ذلك أن هذه الأحاديث -أحاديث الآحاد- يبين لنا الإمام الشافعي أنه يحتج بها، أليست هذه الأعمال كإرسال الرسل، والأمراء والقضاة، ونحو ذلك من صميم المسائل الدستورية والسياسية التي يدعي الدكتور/ عبد الحميد متولي أنها على درجة كبيرة من الخطورة والأهمية، ومن ثم ينتهي إلى أنه لا يكتفي في إثباتها بسنة الآحاد لأنها غير يقينية؟ نقول: إرسال الرسل والأمراء والقضاة التي تعتبر من المسائل الدستورية والسياسية تخالف ما ذهب إليه الدكتور عبد الحميد متولي، وبذلك لم يكن على صواب فيما ذهب إليه من عدم الاعتماد -أو عدم الأخذ- بسنة الآحاد في الأحكام الدستورية. إننا نذكر هنا أو نذكّر هنا بما سبق أن أشرنا إليه من أن الأحكام الشرعية التي لا تتصل بالعقيدة يكفي في شأنها غلبة الظن فقط، ومن ثم يجب العمل بهذه الأحكام عند ذلك؛ لئلا تتعطل الأحكام لندرة القواطع وقلة مدارك اليقين، وإنما تطلب العلماء في مجال العقيدة أن يكون دليل الإثبات يقينًا؛ لأن الظن لا يغني في هذا المجال كما ذكرنا. ولكي يكون دليل إثبات العقائد معلومًا من الدين بالضرورة، حتى يترتب الكفر عند رده أو عدم العمل به، ولذلك قرر العلماء: أن من أنكر سنة متواترة قطيعة في دلالاتها فقد أنكر معلوم من الدين بالضرورة، ومن ثم يحكم بكفره؛ لأنها تفيد القطع واليقين في صحة نسبتها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن أنكر سنة آحاد أو جحدها يكون عاصيًا وليس كافرًا؛ لأنها تفيد الظن الراجح في نسبتها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل أحد -على الإطلاق- من أهل العلم المعتبرين: بأن سنة الآحاد لا تصلح لابتناء أي نوع من الأحكام الشرعية عليها فيما عدا العقائد كما ذكرنا.
وهذا هو الذي قرره الإمام أبو حامد الغزالي حين ذكر في (المستصفى) أن خبر الواحد لا تثبت به الأصول، أي: أصول الدين وعقائده، فهذه لا تثبت إلا بالدليل القطعي من القرآن أو السنة المتواترة. وأما ما عدا ذلك فسنة الآحاد تعتبر مصدرًا تشريعيًا في جميع المعاملات بلا استثناء ومنها مسائل السياسة الشرعية أو الأحكام السياسية والدستورية. وبناء على ذلك: فليس بصحيح ما ذهب إليه الدكتور/ عبد الحميد متولي من الفهم الخطأ لعبارة الغزالي على أنها تعني: أن خبر الواحد لا تثبت به الأصول، أي: أصول الأحكام الشرعية مطلقًا، أي: مصادرها، فليست سنة الآحاد -إذن- في منطق الدكتور متولي من بين مصادر الأحكام الشرعية، ولا يسعفه في ذلك ما نقله عن الغزالي الذي فهم عبارته خطأ، أولًا، وثانيًا: لأن الغزالي في كتبه المختلفة إنما يحتج كثيرًا بسنة الآحاد، وأحيانًا يحتج بأحاديث ضعيفة من هذه السنة، ويقدمها على الأخذ بالرأي. وليس بصحيح -أيضًا- ما ذهب إليه الدكتور متولي من: أنه لا يجوز العمل بسنة الآحاد في مقام القانون الدستوري؛ لأن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كانا لا يأخذان بالحديث في مقام التشريع، ولو كان تشريعًا عاديًا أي غير دستوري، إذا كان راوي الحديث صحابيًا واحدًا، بل كان كل منهما يطلب على سبيل التيقن من صحة الحديث من يشهد مع الراوي؛ لذلك كان من الطبيعي والضروري أن نتخذ بصدد التشريعات الدستورية من أسباب الحيطة والتيقن ما يفوق كثيرًا ما نتخذه بصدد التشريعات العادية، لاسيما بعد أن انقضى على عهد الرسول العديد من القرون، ودخل على رواية الحديث الكثير من دروب الكذب والتحريف.
هذا هو كلام الدكتور/ عبد الحميد في كتابه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) صـ190 وما بعدها. هو يستند في ذلك إلى أن سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر -رضوان الله تبارك وتعالى عنهما- كانوا لا يأخذون بالحديث إذا كان يقول به صحابي واحد، بل يسألون عن أشخاص آخرين، ربما سمعوا هذا الحديث، فهو يقول: مادام أبو بكر وعمر كانوا لا يعتمدون ولا يأخذون بهذا الحديث إلا بالرجوع والسؤال عن مدى صحة الحديث عند غير الذي قال به، يقول: بالقياس على ما فعله أبو بكر وما فعله عمر ينبغي علينا ألا نأخذ بسنة الآحاد في أمور مهمة، مثل الأحكام الدستورية في الحكم. ويرد على ذلك ونقول ما ذهب إليه المؤلف الفاضل غير صحيح؛ لأن المعروف عن صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا: إذا ثبت عندهم الحديث فإنهم يحتجون به، وقد كانوا يعملون بخبر الواحد، وتواتر عندهم ذلك، وما ردوه من الأخبار أو توقفوا فيه فإنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط، لا لأنهم يرفضون العمل بسنة الآحاد أصلًا كما فهمه خطأ ذلك المؤلف الذي يتصور أن حديث الآحاد هو ما رواه واحد فقط، وهذا بطبيعة الحال ينم عن جهل فاضح بسنة الآحاد التي لم تتوافر لها شروط التواتر أو الشهرة على مصطلح الحنفية. على كل حال: يتضح من هذا أن الدكتور ما فهم معنى سنة الآحاد؛ ولذلك هو نظر إلى أنه بعض الأحيان كان سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر عندما يخبرهم أحد الصحابة بالحديث إنما كانوا لا يقتنعون بذلك ويسألون الصحابة الآخرين: هل سمعتم هذا الحديث أم لم تسمعوه؟ إنما فعل ذلك الإمامان الجليلان من أجل وجود معارض لما يؤدي إليه هذا الحديث فهم فقط
يريدون أن يتأكدوا من ذلك، ويريدون أن يزيلوا هذا التعارض، لكن عندما يتأكدون من صحة هذا الحديث ليس معناه: أنهم لا يأخذون بسنة الآحاد، فقد كانوا يأخذون بسنة الآحاد، وسنة الآحاد ليس بلازم أن يرويها واحد كما فهم ذلك الدكتور عبد الحميد متولي، ولكن قد يكون واحد أو اثنين أو ثلاثة، المهم: لم يبلغوا درجة التواتر الذي تستحيل أو تستحيل العادة أو تحيل العادة تواطئهم على الكذب. وليس بصحيح كذلك ما ذهب إليه الدكتور متولي من عدم الاحتجاج بسنة الآحاد في مقام القانون الدستوري؛ لأن أبا حنيفة -رضي الله عنه- كان لا يقبل أحاديث الآحاد، إذ كان لا يقبل سوى الأحاديث المشهورة، وكان ذلك راجعًا لانتشار الوضع في الحديث، يعني: الإمام أو الدكتور متولي يقول: لا نأخذ بسنة الآحاد ويستدل على ذلك بأن الإمام أبو حنيفة كان لا يقبل أحاديث الآحاد، فما دام الإمام أبو حنيفة كان لا يأخذ بأحاديث الآحاد -الدكتور متولي يقول هذا- يقول: مادام الإمام أبو حنيفة كان لا يقبل أحاديث الآحاد. فأيضًا نقول: قياسًا على ما ذهب إليه لا نأخذ أيضًا بهذه الأحاديث نقول: أولًا: هذا النقل عن الإمام أبي حنيفة، وهو: أنه لا يقبل أحاديث الآحاد هو في الواقع نقل غريب عن أبي حنيفة لم يقل به أحد من العلماء، إذ المقرر عند العلماء في مجال الاحتجاج بخبر الواحد هو ما يلي: ذهب الخوارج والمعتزلة إلى عدم الاحتجاج بخبر الواحد؛ لأنه لا يفيد العلم المقطوع به، وذهب داود الظاهري إلى الأخذ بأحاديث الآحاد وأنه يفيد العلم والعمل جميعًا، وقد اختار هذا الرأي ابن حزم وانتصر له كثيرًا في كتابه (الأحكام) وحكي هذا أيضًا: عن مالك وأحمد، وهو رأي كثير من علماء الحديث؛ لأن الحكم الذي يوجب العمل به يوجب العلم اليقيني.
وذهب جمهور الفقهاء من العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى: وجوب العمل بخبر الواحد مع كونه لا يفيد إلا الظن الراجح فقط، لأنه لا تلازم بين وجوب العمل وإفادة العلم، ولأن الظن الراجح كافٍ في الأمور العملية. فإذن: وجدنا -إذن- الجماعة الأحناف مع جمهور الفقهاء الذين يقولون بوجوب العمل بخبر الواحد، معنى ذلك: أن نقل الدكتور عبد الحميد متولي عن الإمام أبي حنيفة، وأنه كان لا يأخذ بسنة الآحاد هذا النقل مشكوك فيه وغير سليم. وكذلك فالمنقول عن الحنفية في كتبهم: أنهم يجعلون السنة في المرتبة الثانية بعد القرآن فهي المصدر الثاني للتشريع، سواء كانت متواترة أو مشهورة أو أحادية إذا جاءت على شروطهم، ولا يلجأون إلى الرأي والقياس إلا إذا لم يجدوا في المسألة حديثًا، بل المعروف عن الحنفية أنهم يقدمون الحديث الضعيف على الرأي والقياس، وكذلك يقدمون قول الصحابي على الرأي والقياس أيضًا، فهل يظن بمن كانت هذه أصوله في استنباط الأحكام: أنه يرد سنة الآحاد جملة كما فهمه خطأ الدكتور متولي؟ هذا أمر غير صحيح. وهناك شبهة ألأخيرة ذكرها الدكتور عبد الحميد متولي، وهي: أن صحيح البخاري قد تعرض للنقض من بعض علماء الحديث، كالإمام أحمد الذي لم يشهد بالصحة لأربعة أحاديث مما جمعه البخاري، وكذلك قد انتقد العلماء الآخرون مائة وعشرة من أحاديث البخاري، والإمام مسلم لم يوافق البخاري على جميع ما جمعه من الأحاديث، بل اختلف معه فيها، والعلماء يرون: أن صحيح البخاري لا يفيد إلا الظن فقط. وهذا كلام فيه من التعميم ما لا يناسب طبيعة البحث العلمي، فضلًا عن أن بعضه غير صحيح مطلقًا، وبيان ذلك من ناحيتين:
أولًا: من المسلم به أن أحاديث البخاري صحيحة، ومنها ما هو متواتر وما هو مشهور وما هو سنة آحاد، وإذا كان بعض العلماء قد انتقد البخاري فيما جمعه من بعض الأحاديث، فهذا لا يعني الطعن في صحة هذه الأحاديث، وإنما معناه: أنهم كانوا يختلفون في مدى حكمهم على السنة ومدى رأيهم في رجال هذا السند، فهذا أمر راجع لاختلاف معايير الضبط والصحة التي تتفاوت عند علماء الحديث، فالشروط التي وضعها البخاري مثلًا: تختلف عن تلك التي وضعها مسلم، وهذه أمور لا تقلل من قيمة صحيح البخاري أو صحيح مسلم، بل قد قرر العلماء أن أعلى درجات الصحة في الحديث تكون فيما اتفق عليه البخاري ومسلم. وقد جمع الأستاذ/ محمد فؤاد عبد الباقي من هذه الأحاديث ما أسماه بكتاب (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) فالأحاديث التي وردت في هذا الكتاب هي عبارة عن ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ولذلك فيه في أقصى درجات الصحة، ويليها في ذلك ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطيهما، ولم يخرجاه. ثانيًا: بالنسبة لمسألة الظن والقطع في صحيح البخاري فليس هذا حكمًا يلقى على عواهنه كيفهما اتفق؛ لأن المقرر لدى أهل العلم أن الذي يفيد القطع من السنة هو الحديث المتواتر، سواء كان في صحيح البخاري أو في غيره، وأما الحديث المشهور فهو يفيد ظنًا يقرب من الطمأنينة ولا يرقى إلى مستوى اليقين الذي يفيده الحديث المتواتر، وأما الذي يفيد الظن فهو سنة الآحاد، سواء كانت في (صحيح البخاري) أو في غيره، وهي على كل حال تكفي لوجوب العمل في غير مجال الاعتقاد؛ لأنه لا تلازم كما ذكرنا بين وجوب العمل ووجوب العمل، بل يكفي
الإجماع.
الظن بصدق الراوي حتى يترجح وجود أمر الله تعالى وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فيكون من قبيل الاحتياط العمل بالراجح. الإجماع وننتقل الآن إلى مصدر آخر من مصادر الأحكام الدستورية في النظام الإسلامي، وهو الإجماع: والإجماع في اللغة هو: الاتفاق، يقال: أجمعت الجماعة على كذا إذا اتفقوا عليه، ويطلق بإزاء تصميم العزم، يقول: أجمع فلان رأيه على كذا إذا صمم عزمه، قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} (يونس: من الآية: 71). ومعنى الإجماع في الشرع: اتفاق المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على حكم شرعي، والعلماء الذين يعتبر اتفاقهم في الإجماع هم المجتهدون الذين يملكون القدرة على استنباط الأحكام من مصادرها. وعلى ذلك: فلا يدخل في هذا الصدد اتفاق عامة الناس؛ لأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد، وأهل الاجتهاد معروفون مشتهرون في كل عصر، فيمكن تعرف أقوالهم من الأفاق، ولا يمكن أن ينعقد الإجماع في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنهم إن وافقوا الرسول -صلى الله عليه وسلم. فالحجة في قوله وفعله -عليه الصلاة والسلام- ويكون ذلك من قبيل السنة، وإن خالفوه فلا عبرة بخلافهم مادام -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم يبين عن الله تعالى ما يوحى به إليه، ولا بد وأن يكون اتفاق المجتهدين على حكم من الأحكام الشرعية ليخرج الأحكام العقلية أو اللغوية أو العادية فلا يسمى الاتفاق بشأنها إجماعًا. وهنا يرد سؤال: هل يمكن وقوع الإجماع في هذا الزمان؟ ذهب بعض العلماء إلى استحالة وقوع الإجماع، بمعنى: اتفاق جميع المجتهدين في عصر من العصور على حكم من الأحكام؛ نظرًا لتفرق المجتهدين في
الأمصار، وعدم التقاء الفقهاء مما يجعل من الصعب الوقوف على آرائهم، وعدم معرفة المجتهد من غير المجتهد؛ نظرًا لحصول الاختلاف بين فقهاء أهل كل بلد من الحواضر الإسلامية، وعلى ذلك فيستحيل أن يتفق جميع المجتهدين على حكم شرعي مختلف فيه، ولكن جماهير العلماء يرون: أن الإجماع ممكن عقلًا، ووجوده متصور؛ لأن الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس، وسائر أركان الإسلام، وكيف نمنع تصور الإجماع، والأمة كلها متعبدة بالنصوص، والأدلة القواطع معرضون للعقاب بمخالفتها، وكما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب لا يمتنع اتفاقهم على أمر من أمور الدين. وإذا جاز اتفاق اليهود مع كثرتهم على باطل، فلمَ لا يجوز اتفاق أهل الحق عليه؟ أي: على الحق، وقد وقع الإجماع بالفعل، وتحقق في عصر الصحابة كإجماعهم على: أن الجدة تأخذ السدس تنفرد به الواحدة وتشترك فيه الأكثر من واحدة، وإجماعهم على عدم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وإجماعهم على أن الأخوة والأخوات لأب يقومون مقام الأشقاء إن لم يكن أشقاء، وإجماعهم على بطلان زواج المسلمة بغير المسلم وغير ذلك مما يطول حصره واستقصاؤه يراجع في ذلك الشيخ أبو زهر في (أصول الفقه) ص 159 وما بعدها. والذي نراه في هذا المقام: أن انعقاد الإجماع بالمنظور الأصولي أمر يكاد لا يتحقق في الواقع، إنه إن أمكن تحقق هذا الإجماع في عصر الصحابة لقلة عددهم، وتجمعهم في المدينة، ومعرفتهم، وشهرتهم، مما يسهل الوقوف على آرائهم، وقد كان عمر -رضي الله عنه- يحرّم على كبار الصحابة وأهل الرأي مغادرة المدينة إلى البلاد المفتوحة إلا عند الضرورة. نقول: إن أمكن هذا في عصر الصحابة، فهو غير ممكن في عصر التابعين ومن بعدهم بعد تفرق العلماء والمجتهدين في الأمصار والبلدان المفتوحة وإقامتهم بها،
وكثرة عددهم، واستقلال كل منهم باجتهاده في بلده، وهو ما جعل الاجتهاد يتسم بالصورة الفردية. ومن هنا تعثر انعقاد الإجماع، ولم يكن ميسورًا ولا سهلًا وقوعه، وهو ما جعل ابن حنبل والشافعي أيضًا يؤثرون على تعبير الإجماع، أن يقال: لا نعلم في المسألة خلافًا يعني: الإمام الشافعي وابن حنبل كانوا يعني يفضلون أن يعبروا عن الإجماع بقولهم: لا نعلم في المسألة خلافًا، لكن لا يعبرون بالإجماع، لماذا؟ كأنهم يرون: عدم تحقق الإجماع. وأن من ادعى الإجماع يرون ذلك، فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، وقد يكون من المفيد أن ننادي مع البعض في هذا الصدد بضرورة الاعتناء بالمجامع الفقهية في هذه الأيام التي تضم جميع الفقهاء في العالم الإسلامي، حيث يكون لهذه المجامع أماكنها المعروفة، وتتهيأ لهذه الفرص المناسبة والإمكانيات اللازمة، ويسهل الاتصال فيما بينها، وتجتمع في أوقات معينة دورية ثم تعرض عليها المسائل والوقائع الجديدة لدراستها، وإظهار حكم الشرع فيها، ثم تنشر هذه الأحكام بواسطة الإذاعات أو المجلات أو الكتب الدورية؛ ليطلع الناس عليها ويبدي أهل العلم منهم رأيهم فيها؛ لاحتمال ألا يتيسر انضمام جميع الفقهاء إلى هذه المجامع، ثم تلاحظ المجامع الفقهية هذه الآراء المختلفة من أعضائها النظاميين، وممن هم خارجها، وإذا اتفقت أراء هذه المجامع على حكم -فيما بعد- كان من الممكن أن يكون هذا مثالًا لما يمكن تسميته بالاجتهاد الجماعي الذي يقرب من الإجماع الذي تحدث عنه الأصوليون، وإننا لنجد في هيئة كبار العلماء في مصر قبل إلغائها وفي مجمع البحوث الإسلامية الآن ما يمثل النواة لتحقيق هذه الفكرة التي ندعو إليها.
حجية الإجماع: يستدل على حجية الإجماع بنحو قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115) فهذا يوجب إتباع سبيل المؤمنين، ويحرّم مخالفتهم، ولا يقال في هذا الصدد: بأنه إنما توعد على مشاقة الرسول، وترك إتباع سبيل المؤمنين معه، فالتارك لأحدهما بمفرده لا يلحق به الوعيد، لا يقال: مثل ذلك؛ لأن التوعد على شيئين يقتضي أن يكون الوعيد على كل واحد منهما منفردًا أو بهما معًا، ولا يجوز أن يختص الوعيد بأحدهما دون الآخر. وفي السنة ما يشهد لحجية الإجماع كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) وفي رواية: ((لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على خطأ)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح)) وقال أيضًا: ((من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) وقال أيضًا: ((من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية)). فهذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة في الصحيحة والتابعين لم يدفعها أحد من السلف والخلف وهي وإن لم يتواتر آحادها حصل لنا بمجموعها العلم الضروري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عظّم شأن هذه الأمة وبين عصمتها من الخطأ، ومن وجه آخر أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع، ولا يظهر فيه أحد خلافًا. قد يرد سؤال هنا، وهو: هل يكون الإجماع مصدرًا للأحكام الدستورية والسياسية؟
إن الإجابة على هذا السؤال تكاد تبدو بدهية لا صعوبة فيها، إذا ما عرفنا -كما قلنا غير مرة-: أن هذه الأحكام هي جزء من الأحكام الشرعية بصفة عامة، ومصادر الشريعة التي من بينها الإجماع تستقى منها الأحكام الشرعية مطلقًا، سواء كانت هذه الأحكام من قبيل التشريعات العادية بلغة أهل القانون أم كانت من قبيل التشريعات السياسية والدستورية، فليس في الشريعة مجال لتصنيف الأحكام على النحو المقرر في القانون إلى: أحكام القانون الخاص التي تكون منظمة لعلاقات الأفراد فيهما بينهم، وأحكام القانون العام التي تنظم علاقة الأفراد بالدولة التي تحكمهم، وبطبيعة الحال يكون للنوع الأخير بعض الأهمية من حيث خطورة المسائل التي يعالجها، وهو ما أوقع البعض على أن يقول بأن الإجماع لا يكون مصدرًا من المصادر التي تستقى منها الأحكام الدستورية والسياسية. لكن الإجماع باعتباره مصدرًا شرعيًا يصلح لإثبات كافة الأحكام الشرعية به، وقد أجمع الصحابة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على وجوب الإمامة، وتلك مسألة من أخص خصائص القانون الدستوري والسياسي، فقد ذكر ابن خلدون في (المقدمة) أن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بادروا إلى بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعًا على وجوب نصب الإمام. وحتى ولو سلمنا بصعوبة انعقاد الإجماع بعد عصر الصحابة -كما ذكرنا سلفًا- فقد ذكر العلماء أن الإمامة مادامت تحصل بالاختيار والبيعة؛ فإنها لا تفتقر إلى إجماع من جميع أهل الحل والعقد، بل يأتي أو يكفي في ذلك رأي واحد أو
القياس.
اثنين منهم، كعقد عمر لأبي بكر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، كما أجمع الصحابة على البيعة كوسيلة لإسناد السلطة إلى رئيس الدولة، كما حصل في مبايعتهم لأبي بكر، وأجمعوا كذلك على محاربة المرتدين في عهد أبي بكر، وكل هذه مسائل سياسية ودستورية بلغة أهل القانون، أو من مسائل السياسة الشرعية بلغة فقهاء المسلمين، كل هذا دليل على أن الإجماع مصدر من مصادر الأحكام السياسية في الدولة الإسلامية. هذا وبالله التوفيق، نكتفي بهذا القدر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - تابع: مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي وقواعد النظام السياسي في الإسلام (1) القياس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد بدأنا في المحاضرة السابقة الحديث عن مصادر الأحكام السياسية في الدولة الإسلامية وذكرنا منها: القرآن الكريم كمصدر من هذه المصادر، والسنة النبوية الشريفة كمصدر من هذه المصادر، وتحدثنا عن الإجماع. ثم نتحدث بعد ذلك عن: مصدر آخر من المصادر التي تستقى منها الأحكام السياسية في الدولة الإسلامية، فنتحدث عن الاجتهاد بالرأي كمصدر للأحكام الدستورية والسياسية. ونقصد بعبارة الاجتهاد بالرأي في هذا الصدد: ما هو أعم من القياس، بحيث يشمله ويشمل غيره كالإستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف، ولذلك سوف نعرف بكل من هذه المصادر ثم نبين هل تصلح أن تكون مصدرًا للأحكام السياسية أم لا؟ أولًا القياس: القياس في اللغة هو التقدير، وأما القياس في الشرع: فهو حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما، وقيل: هو حكمك على الفرع بمثل ما حكمت به في الأصل؛ لاشتراكهما في العلة التي اقتضت ذلك في الأصل، وقيل: هو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بجامع بينهما من إثبات حكم أو صفة لهما أو نفيهما عنهما. ومعاني هذه الحدود وتلك التعريفات متقاربة، فهي كلها عبارة عن بيان حكم أمر غير منصوص على حكمه، بإلحاقه بأمر معلوم حكمه بالنص عليه في الكتاب
أو السنة، فهو عبارة عن إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر آخر منصوص على حكمه للاشتراك بينهما في علة الحكم. وأركان القياس أربعة، هي: المقيس وهو: الفرع الذي لم ينص على حكمه، والمقيس عليه وهو: الأصل الذي نص على حكمه، وحكم الأصل الذي ورد به النص. وقد نضرب مثالًا يوضح ذلك: فعندنا الخمر -على سبيل المثال- ورد النص في القرآن الكريم على حرمتها، في قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: من الآية: 90) فهذه الآية نصت على حرمة الخمر، فلو كان معنا نبيذ اتخذ من التمر -على سبيل المثال- حتى أصبح مسكرًا، يعني: إذا شربه الإنسان أسكر، فما حكم هذا النبيذ؟ هذا النبيذ لم يرد حكمه في القرآن أو في السنة صراحة، إنما الذي ورد صراحة هو حكم الخمر. ففي هذه الحالة عن طريق القياس نقيس النبيذ على الخمر، وحكم الخمر إنما هو الحرمة، فنعطي للنبيذ الحرمة إذا أصبح مسكرًا، والعلة بينهما هي الإسكار، فكأن عندنا الأصل وهو الخمر، والفرع وهو النبيذ، وحكم الأصل وهو الحرمة، والعلة وهي الإسكار الذي تحقق في المقيس، والمقيس عليه أو في الأصل والفرع. هذا هو معنى القياس، ولذلك -كما قلنا-: له أركان أربعة المقيس، والمقيس عليه وهو الأصل الذي نص على حكمه، وحكم الأصل الذي ورد به النص، والعلة. والعلة هي ما بني عليه الحكم في الأصل وتحقق في الفرع.
وهو دليل شرعي، أي: أن القياس هو دليل شرعي معتبر لدى جماهير علماء الفقه الإسلامي؛ لأن النصوص متناهية، والوقائع لا تتناهى، وحوادث الناس متجددة، فلذلك لا يمكن الاستغناء عن القياس كمصدر شرعي يعطي للأحكام الجديدة حكمها الشرعي، وينزلها المنزلة التي تستحقها عن طريق الاجتهاد بالرأي الذي يلحق الفرعيات بأصولها الكلية. ولذلك قال عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري: الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق. والقياس هو المصدر الرابع من مصادر الشريعة الغراء، المصدر الأول الكتاب والسنة والإجماع، ثم يأتي بعد ذلك القياس. ولكون القياس مصدرًا اجتهاديًا كما ذكرنا فإنه لا يعتبر ملزمًا على وجه التحديد عند بقية المجتهدين؛ لأن العلة التي هي مناط القياس وعليها مداره ليست واحدة في نظر جميع المجتهدين؛ ولذلك كان الاختلاف في العلة هو السبب دائمًا في اختلاف المجتهدين في الآراء الفقهية التي تصدر عنهم. فالقياس على ذلك مصدر تفسيري يختلف بحسب المجتهدين. ولكن هل يعتبر القياس مصدرًا للأحكام السياسية والدستورية في الشرعية الإسلامية؟ نقول القياس -باعتباره مصدرًا شرعيًا يلجأ إليه المجتهد عند إرادة إلحاق فرع لم ينص على حكمه بأصل منصوص عليه أو على حكمه لاشتراكهما في علة
الاستحسان.
الحكم عند المجتهد- فإنه بذلك يصلح أن يكون مصدرًا لكافة الأحكام الشرعية، سواء كانت دستورية أم غير دستورية. الاستحسان ثانيًا: الاستحسان: والاستحسان كمصدر للأحكام السياسة والدستورية في النظام الإسلامي هو من المصادر التبعية للتشريع الإسلامي، وهو نوع من القياس، وأحيانًا يطلق عليه القياس الخفي. وقد عرفه أبو الحسن الكرخي -من الحنفية- فقال: هو أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم بها في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول. فالحكم في الاستحسان يجيء مخالفًا لقاعدة مضطردة لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع من الاستمساك بالقاعدة، فيكون الاعتماد عليه أقوى استدلالًا في المسألة من القياس. والاستحسان قد أنكره بعض العلماء كالإمام الشافعي، وقال: من استحسن فقد شرّع، أي: جعل نفسه مشرع دون الله، فالشافعي يعتبره نوعًا من التشريع بالهوى والرأي بدون دليل، ولا شك أن ما هو كذلك مذموم عند الكل، أما ما ليس كذلك -وإنما كان وجه العدول عن القاعدة أقوى من التمسك بها- فهو اجتهاد ممدوح لا حرمة فيه. وينقسم الاستحسان إلى قسمين: الاستحسان القياسي، بمعنى: أن يعدل المجتهد عن مقتضى القياس الظاهر إلى قياس خفي تقتضي المصلحة.
وأيضًا: استحسان الضرورة، بمعنى: مخالفة حكم القياس لضرورة أو مصلحة دفعًا للحرج وسدًا للحاجة، ويكون ذلك عندما يؤدي تطبيق القواعد القياسية العامة إلى الوقوع في الحرج والمشقة. ومثال ذلك أن الأمين أو الوديع لا يضمن ما تلف بيده من غير تقصير، ومثله في ذلك المستعير والمستأجر والأجير، ولكن الحنفية فرقوا بين الأجير الخاص والأجير المشترك، الأجير الخاص: هو الذي يعمل عند فرد بعينه، أما الأجير المشترك: فيعمل عند عدد من الأفراد. نقول الحنفية فرقوا بين الأجير الخاص والأجير المشترك وجعلوا الأجير المشترك كالصباغ والخباز والترزي ونحوهم جعلوه ضامنًا لما بيده، لماذا؟ على الرغم من أن ذلك يعارض القاعدة التي تقول: بأن المستأجر والأجير إنما هو أمين، خالفوا هذه القاعدة استحسانًا؛ حتى لا يهمل هذا الأجير عمله ويؤدي ذلك إلى إتلاف السلعة، ما لم يكن الهلاك أو التلف لأمر لا دخل له فيه، ولا يمكنه التحرز عنه كالحريق ونحوه. وإذا تقرر لنا أن الاستحسان مصدر شرعي معتبر على المعنى الذي قدمناه فهو ينطوي على نوع من المصلحة؛ لأنه كثيرًا ما يؤدي إعمال القواعد القياسية العامة إلى إهدار بعض المصالح أو مخالفة بعض المبادئ الشرعية المقررة، فعندئذ يكون الاستحسان من ألزم اللزوميات للخروج من هذا المأزق؛ تحقيقًا للمقاصد الشرعية، واحترامًا للمصالح المرعية، بلا فرق في هذا الصدد بين أن يكون الحكم المأخوذ فيه بالاستحسان من قبيل الأحكام الدستورية والسياسية أو من غيرها؛ لأن الشريعة كما ذكرنا سابقًا لا تعرف فارقًا كهذا بين حكم شرعي وحكم شرعي آخر، ومادام المصدر يصلح كدليل يحتج ويستنبط منه الحكم فيستوي في
المصالح المرسلة.
ذلك جميع الأحكام، بل إننا نلاحظ: أن الاعتماد على الاستحسان في المجالات السياسية قد يكون أكثر مناسبة مراعاة للمصالح المتغيرة التي تختلف باختلاف الأزمان، وقد يؤدي إعمال القواعد القياسية أحيانًا إلى إهدار بعض هذه المصالح المعتبرة، كما ذكر. المصالح المرسلة ومن هذه المصادر -أيضًا التي تعتمد على الرأي- من هذه المصادر المصالح المرسلة. والمصالح المرسلة كمصدر للأحكام السياسية والدستورية في النظام الإسلامي. أولًا: المصلحة هي عبارة عن جلب المنفعة أو درء المفسدة، وهي على ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره، ويعرف بالمصالح المعتبرة، وهي عبارة عن اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع، وقسم شهد الشرع ببطلانه، وهو ما يعرف بالمصالح الملغاة، كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على الملوك والحكام؛ لكون العتق سهلًا بالنسبة لهم، فلا ينزجرون به، والكفارة إنما وضعت للزجر، فهذه مصلحة باطلة؛ لمخالفتها الصريح المنصوص، بمعنى: أن هذه المصلحة -الذين قالوا بذلك أو بعض الذين قالوا بذلك- رأوا أن الإنسان إذا كان غينًا وجامع زوجته في نهار رمضان، قالوا: عليه القضاء والكفارة، والكفارة هنا: إنما هي مرتبة، فالكفارة تبدأ بعتق رقبة، فبعض الفقهاء قالوا: لو ألزمنا هذا الغني بعتق رقبة، وهو عنده الرقاب كثيرة، فلن ينزجر من هذا، ولذلك قالوا: المصلحة تقتضي أن نلزمه بالصيام ليحس بالعقوبة أكثر من إلزامه بالعتق الذي لا يكلفه كثيرًا- هذه المصلحة التي نظروا إليها هي مصالح ملغاة لا يعتبرها الشارع، لماذا لا يعتبرها الشارع؟ لأنها تتعارض النص، النص يبين أن أولى هذه الكفارات هي عتق رقبة، ولم ينظر إلى ما إذا كان الذي ارتكب هذا الشيء الذي أوجب الكفارة -وهو جماع الزوجة- لم ينظر الشارع إلى: ما إذا كان غنيًا أو فقيرًا، ولذلك هذه المصلحة التي تغياها هؤلاء الفقهاء تعتبر مصلحة ملغاة، لا اعتداد بها في الشارع؛ لأنها تخالف النص.
وأما القسم الثالث فهو ما لم يشهد له الشارع باعتبار أو بإبطال، وهو ما يعرف بالمصالح المرسلة، فهو نوع من المصالح يلائم مقاصد الشارع، وإن كان لم يشهد له أصل خاص بالاعتبار أو الإلغاء. وقد حمل لواء هذا النوع من المصالح الإمام مالك -رحمه الله تبارك وتعالى- وفق شروط معينة. والمصالح المرسلة على هذا: إنما تعتبر مصدرًا أساسيًا من مصادر القواعد الدستورية بصفة خاصة؛ لأن أكثر هذه القواعد لم يرد بها نص شرعي؛ فيكون باب المصلحة مفتوحًا أمام المجتهد؛ ليأخذ بما تقتضيه هذه المصلحة، وهو ما يقارب ما يعرف عن القانونين بفكرة القانون الطبيعي، وقواعد العدالة التي يعتمد عليها شراح القوانين الوضعية بصدد الموضوعات التي لم ينص على حكمها. ومما يدل على جواز الأخذ بهذه المصالح في الأحكام الدستورية والسياسية ما ذكره ابن خلدون في (المقدمة) من أن الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان أول من فصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية اعتمادًا على المصلحة، على الرغم من أنه لم يكن هناك فصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أيام أبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه-. فعل ذلك عمر بن الخطاب أي: أنه فصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، لماذا؟ اعتمادًا على المصلحة؛ لكثرة شواغل الإمام التنفيذية التي لا يستطيع معها القضاء والفصل في الخصومات. يقول ابن خلدون: وأما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة؛ لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسمًا للتداعي وقطعًا للتنازع، إلا أنه بالأحكام الفرعية المتلقاة من الكتاب والسنة، فكان لذلك من وظائف الخلافة
العرف.
ومندرجًا في عمومها، وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم، ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم، وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فولى أبا الدرداء معه بالمدينة، وولى شريحًا بالبصرة، وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة، وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاء. ثم يقول ابن خلدون في موضع آخر: إن الخلفاء كانوا يقلدون القضاء لغيرهم، وإن كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسد الثغور وحماية البيضة، واستخلفوا فيه من يقوم به تخفيفًا عن أنفسهم، وهذا معنى هذا الكلام الذي نقلناه عن ابن خلدون في مقدمته إنما يبين لنا: أنه بعدما سن عمر بن الخطاب الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية استمر هذا الفصل بعده -رضي الله عنه- في الدولة الإسلامية، وأصبح هناك فصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وفعل ذلك عمر بن الخطاب -كما قلنا- لأن المصلحة تقتضي ذلك. ففصل الخصومات بين الناس يحتاج إلى أناس متفرغين، أما الخليفة فقد أصبح لا يستطيع القيام بمهام الخلافة ومهام القضاء، ولذلك وجد سيدنا عمر أن المصلحة تقتضي الفصل بين الخلافة وبين تولي أعمال القضاء، وهذا ما نأخذه من المصالح المرسلة. فالأخذ -إذن- بالمصالح المرسلة فيه تحقيق لمصلحة المجتمع الإسلامي، وهذا إنما يدخل في نطاق الأحكام السياسية. العرف أيضًا من الأمور التي تعتبر من المصادر للأحكام السياسية والدستورية العرف، والعرف عبارة عن: ما يعتاده الناس في أمر ما، وتستقيم عليه أمورهم، وهو يختلف عن العادة، فهي أعم من العرف، إذ هي تطلق على كل أمر متكرر صادر
من الأفراد أو من الجماعة، بينما العرف هو عادة جماهير الناس في قول أو عمل، فهي عادة غالبة على كثير من الناس، وهو أصل من أصول الفقه الإسلامي عند عدم وجود نص شرعي. فالمقرر عند العلماء ولاسيما المالكية والحنفية: أن الثابت بالعرف كالثابت بالنص. ويقول الشيخ أبو زهرة: ولعل معناه: أن الثابت بالعرف ثابت بدليل يعتمد عليه كالنص، حيث لا نص يعني: مادام لا يوجد النص ولا اعتبار بالعرف إذا خالف نصًا من كتاب أو سنة، كما لو تعارف الناس في بعض الأوقات تناول بعض المحرمات كالخمر والزنا وأكل الربا وأشباه ذلك، فهذا عرف فاسد، يؤدي اعتباره إلى إهمال نصوص الشريعة وإتباع الشهوات، وتلك مفاسد ما جاءت الشرائع لمثلها أبدًا. فعلى هذا يكون العرف قسمين: عرف صحيح: لا يصادم نصًا شرعيًا، فيؤخذ به ما دام لا يوجد نص. وعرف فاسد: فلا يصار إليه، وهو الذي يخالف نصًا قطعيًا من نصوص الشريعة الإسلامية. ويشترط للعمل بالعرف كأصل شرعي عند عدم وجود نص ما يلي: أن يكون العرف مضطردًا وغالبًا، بمعنى: أن الناس يعملون به في أكثر الأحوال، فلو لم يكن العرف كذلك فإنه لا يكون مضطردًا، ويكفي أن يكون معمولًا به من أكثرية الناس سواء كان عرفًا عامًا أو خاصًا. الشرط الثاني من شروط العمل بالعرف: أن يكون العرف موجودًا وقت نشأة التصرفات التي يراد تحكيمه بشأنها، فيكون سابقًا عليها أو موازيًا لها، أما لو كان العرف ناشئًا بعد العقد أو التصرف ففي هذه الحالة لا يجوز الأخذ به.
ومن الشروط أيضًا: ألا يعارض العرف تصريح بخلافه، فإذا كشف المتعاقدان عن رغبتهما في التعامل على نحو معين فإن رغبتهما في ذلك تحترم، وتكون مقدمة على العرف؛ لأن العقد شريعة المتعاقدين، وقد صرحا برغبتهما على نحو معين كما ذكرنا، فلا يكون للدلالة اعتبار في مقابلة التصريح. ومن الشروط أيضًا: ألا يترتب على العمل بالعرف مخالفة نص قطعي في الشرع؛ لأنه لا مجال لمعارضة نصوص الشريعة بالعرف؛ لأنه عند ذلك يكون فاسدًا لا يعتبر. تلخص لنا إذن مما تقدم: أنه عندما عدم وجود نص في المسألة يمكن أن يحكم بشأنها العرف على الشروط المتقدمة، ولذلك يجب على كل فقيه يتصدر للفتيا: أن يكون عالمًا بالأعراف ليفتي وفقًا لها إذا احتاج إلى ذلك.
الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي.
الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي.
قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (قواعد النظام السياسي الإسلامي) 1 - تابع: مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي وقواعد النظام السياسي في الإسلام (1) قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله وبعد أن انتهينا من الحديث عن مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي، أو في النظام السياسي الإسلامي نتحدث الآن عن قواعد النظام السياسي الإسلامي. فالنظام السياسي الإسلامي له قواعد معينة ينبغي أن يقوم عليها، وقاعدة الشيء لا يوجد الشيء إلا بها؛ لذلك كل قاعدة من هذه القواعد لا بد من وجودها وتحققها. ومن أولى هذه القواعد التي يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام: قاعدة الحاكمية لله. من المسلمات في النظام الإسلامي أن الكون كله -بمن عليه وما عليه- ملك لله تعالى، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: الآية: 17) فسبحانه وتعالى: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} (الإسراء: من الآية: 111). وإذا كان الله -سبحانه وتعالى- هو المالك ولا شريك له، فهو وحده المستحق للعبادة بما شرع لنا من الدين؛ لأنه من التناقض: ألا يتصرف المالك في ملكه، فالتشريع الذي هو تصرف في الخلق ابتلاءً واختبارًا هو من لوازم الألوهية والمالكية، فالله وحده في ملكه هو الذي يحلل ويحرم، وقد قررت هذه الحقيقة دعوة التوحيد التي وردت على ألسنة الرسل -عليهم السلام- منذ آدم -عليه السلام- وحتى محمد -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25). وكما هو معلوم: فإن ركن العقيدة في الإسلام هو شهادة ألا إله إلا الله، وهي تعني -كما ذكرنا-: أنه لا خالق لهذا الكون -بكل ما فيه ومن فيه ما أحاط به علمنا وما لم يحط به علمنا لا خالق له- إلا الله سبحانه وتعالى.
وتفريعًا على ذلك: فلا يكون في الكون من تجب عبادته والخضوع إليه بحق إلا الله سبحانه وتعالى، والتسليم بمالكية الله للكون دون أن ينفرد بسلطة الحكم فيه ينطوي كما ذكرنا على نوع من التناقض. ولقد حاول الأستاذ المرحوم سيد قطب أن يصور ذلك فقال: فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها، ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس، وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع والأفراد، حيث يسنون لهم السنن، ويضعون لهم التقاليد، ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي، والإسلام يعتبر هذا شركًا، ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم، وجعلهم أندادًا من دون الله، والله تعالى ينهي عن ذلك نهيه عن السجود للأصنام والأوثان، فكلاهما في عرف الإسلام سواء، شرك بالله ودعوة أنداد من دون الله. ولقد نعى القرآن الكريم على الأمم السابقة أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله فقال -عز وجل-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31). وقد ذكر المفسرون أن معناه: اتخذوهم أربابًا فأطاعوهم في أمرهم لهم بالمعاصي وتحليل ما حرم الله وتحريم ما أحله، كما تطاع الأرباب في أوامرهم. وفي العصور الحديثة نجد أن القوانين الوضعية تحتل لدى أنصارها والمدافعين عنها منزلة شبيهة بتلك التي كانت للأصنام والآلهة التي عبدت من دون الله تعالى، فهي عندهم بمنزلة النصوص الدينية، بل ربما كانت في مرتبة أعلى منها أحيانًا،
وهذا ينطوي على إقرار بالحق في التشريع لغير الله تعالى، يجب ألا يكون في مجتمعاتنا الإسلامية أو الشرقية إلا بمقدار ما تمليه ضرورات الحياة فيما لم يتعرض له الشارع باعتبار أو بإلغاء، أما ما اعتبره الشارع فهو الحق الذي يجب إتباعه، ولا نستبدل به غيره، وكذلك ما ألغاه يجب أن نجتنبه، ولو فعله أهل الأرض جميعًا. وإذا كان الناس يدافعون عن باطلهم ويعجبون به أفلا يجب علينا أن نستمسك بالحق الذي هو تشريع الله تعالى وندافع عنه؟! وفي القرآن الكريم تنصيص صريح على تفرد الله تعالى بالحاكمية في المجتمع الإسلامي، بل في الكون كله ففي سورة المائدة اختتمت الآيات الكريمة من الآية: (44) إلى الآية (47) بقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} ثم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} ثم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} أن من جحد الحكم بما أنزل الله تعالى فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق، وليس بالكفر الذي ينقل عن الملة، ولكنه دونه، فهو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. يظهر لنا -إذن-: أن النظام الإسلامي يقوم على الإقرار بحق الحاكمية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد، وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى استقرار المجتمعات وخضوعها راضية لحكم الله تعالى فيما ينص عليه، ومستلهمة قواعد الوحي ومقاصده فيما لم ينص عليه.
أما حين تتجزأ هذه القاعدة، وتتوزع سلطة التشريع في المجتمع، فحينئذ يكون السلطان لله تعالى في الضمائر، والشعائر بينما تكون السلطة لغيره في القوانين والشرائع، وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا -حينئذٍ- تتمزق النفوس والمجتمعات بين سلطتين مختلفتين، وبين منهجين مختلفين، وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي يشير إليه قول الحق تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) وقوله سبحانه: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} (المؤمنون: الآية: 71) وقوله -عز وجل-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18) ولو أن المسلمين في مجتمعاتهم يؤسسون دولهم على قاعدة الحاكمية لله تعالى إذن: لترتب على ذلك احترام قواعد الشريعة أو القانون في الدول التي ترتكز على هذا المبدأ، سواء من قبل الحاكم أو المحكومين، لأن الكل سواء أمام حكم الله تعالى، يمتثل ويطلب الثواب ويخشى العقاب، ويراقب ضميره دائمًا؛ لأن الله ناظر إليه، ومطلع عليه، وهو -سبحانه وتعالى- يعلم المفسد من المصلح. وهذا -بطبيعة الحال- يبرز سلطان القانون وهيبته في الدولة؛ لأن قيمة أية شريعة إنما تقاس بمقدار ما لها في نفوس الأفراد من طاعة واحترام، وهذا أمر لم تصل إلى مستوى الشريعة الإسلامية فيه أي شريعة وضعية. وأيضًا فإن انفراد الله -سبحانه وتعالى- بحق الحاكمية في المجتمعات الإسلامية يؤدي إلى ثبات الأنظمة واستقرارها كما أشرنا إلى ذلك سابقًا؛ لأن الأشكال المختلفة للحكومات كالجمهوريات أو الملكية ستكون مرتبطة دائمًا بالدين الذي لا يتغير ولا يتبدل، والذي يؤمن به كل حاكم، ويستخدم له كل نظام.
قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى.
فحين تعرف الأمة أن تغيير شكل الحكومة لن يؤثر على قوانينها ونظمها؛ لأن هذه القوانين، وتلك النظم هي فوق الحكومات، وفوق الأفراد، وعلى الجميع أن يحترموها، حين تعرف الأمة ذلك فإنها تنطلق في معترك الحياة واثقة الخطى، ثابتة العزيمة مطمئنة لمستقبلها، أما الأمة التي تقوم أمورها على غير ذلك فإنها تعيش القلق والاضطراب والحيرة والحذر والترقب من تغير الحكومات التي تختلف نظرتها إلى العدل والحق باختلاف انتماءاتها وأهوائها. هذه هي القاعدة الأولى من قواعد النظام أو النظام السياسي في الإسلام، وهي قاعدة الحاكمية لله سبحانه وتعالى. قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى أما القاعدة الثانية التي يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام فهي قاعدة الشورى، وتعتبر الشورى من القواعد الأساسية التي ينبني عليها النظام السياسي الإسلامي، وهي أصل من أصول الشريعة، ومن عزائم الأحكام فيها، وهي بهذا المعنى لا تقتصر على كونها من القواعد الأساسية للنظام السياسي الإسلامي فحسب، وإنما تمثل الإطار العام والنطاق الذي يجب أن تعمل في حدوده كافة السلطات الحاكمة في الدولة الإسلامية، سواء كانت هذه السلطات تشريعية أو تنفيذية أو قضائية. وهي بذلك تحول دون الاستبداد بالرأي، أو الانفراد به، الأمر الذي يؤدي إلى الوصول إلى الرأي الصواب، وتحقيق وحدة الأمة وتأليف القلوب بين أفرادها. والشورى باعتبارها ركيزة من الركائز الأساسية للنظام الدستوري الإسلامي تعطي للأمة الحق في إدارة شئونها العامة، وتمثل ضمانة من الضمانات الأساسية
التي تحول دون مخالفة القانون، أو الانحراف في استعمال السلطة؛ لأن القرار الذي ستقدم عليه السلطات الحاكمة لن يخرج إلى حيز التنفيذ إلا بعد بحث واستقصاء وتحري المصلحة العامة ومشاورة المختصين في هذا الأمر. وهي بهذا المعنى تعتبر من الحقوق الأساسية التي كفلها المشرع الإسلامي للمسلمين جميعًا، بحيث تمثل حجر الأساس بين الحريات السياسية التي يتمتع بها المسلمون في الدولة الإسلامية، فوق أن الشورى تكفل للأمة دورًا أساسيًا وفعالًا في إدارة شئونها العامة حسبما يقضي به الشرع الإسلامي. وسوف نتكلم عن عدة نقاط في موضوع الشورى: النقطة الأولى: أساس مشروعية واجب الشورى: أساس وجوب قاعدة الشورى مستمد من مصادر المشروعية الإسلامية، فقد حث عليها القرآن الكريم، كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حث عليها، وجعلها شرعة ومنهاجًا له في كثير من الأمور، إلى جانب أن الصحابة -رضوان الله عليهم- والخلفاء الراشدين عملوا بها واتبعوها في كثير من الأمور. وسوف نتناول كل دليل من أدلة المشروعية الإسلامية التي حثت على الشورى، وأوجبتها على الأمة الإسلامية فيما يلي: القرآن الكريم: يقول الله -عز وجل-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) ويقول -سبحانه وتعالى-: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: 38)
ويقرر بعض الفقهاء: أن وجود سورة في كتاب الله تعالى، وهي سورة الشورى تسمى باسم هذا المبدأ، وجعل الشورى من أوصاف المؤمنين، ثم الأمر بها صراحة في سورة أخرى إنما هو دليل على اهتمام الشارع بالشورى وجعلها من الأسس التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام وما يتعلق بتدبير الشئون الإسلامية. كما يذهب هذا الرأي إلى أن دلالة الآية الأولى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} أقوى في دلالتها على الشورى والدعوة لاستخدامها من الآية الثانية وهي التي تقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} لأن الآية الأولى أمر للرسول -صلى الله عليه وسلم- في حين أن الثانية لا تفيد سوى أن الشورى تعتبر من أوصاف المؤمنين الحميدة. ويقرر الشيخ رشيد رضا أن الإمام محمد عبده يرى: أن في سورة آل عمران آية أخرى أقوى في دلالتها على وجوب الشورى وقيام الحكم عليها من آية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} من السورة نفسها، وهذه الآية هي قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104). وترجع قوة دلالة هذه الآية كما يذهب الإمام محمد عبده من دلالة الآية الواردة في سورة الشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} لأن دلالة الآية الأخيرة، وهي قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} إنما تعني: أن الشورى وصف خبري لحال طائفة مخصوصة أكثر مما يدل عيه أن هذا الشيء ممدوح في نفسه، ومحمود عند الله -تبارك وتعالى- كما أن دلالتها أقوى من دلالة قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} لأن دلالة الأخيرة، وهي قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} إنما تعني: وجوب المشاورة على الرئيس، ولكن إذا لم يكن هناك ضامن يضمن امتثاله لهذا الوجوب، فبماذا يكون إذا تركه ولم يمتثل إلى ما أمر به الشارع؟ في حين أن هذه الآية، وهي
قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} نقول: في حين أن هذه الآية تفرض أن يكون في الناس جماعة مجدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا الفرض عام ملزم للحكام والمحكومين على وجه اليقين. السنة النبوية وموقفها من الشورى: حتى يتسنى لنا الوقوف على مسلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بخصوص تطبيق هذه القاعدة أي قاعدة الشورى، ومدى التزامه بالأمر الوارد في الآية الكريمة {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} فإن الأمر يقتضي أن نحدد مدى التزام الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مشاورة أصحابه فيما يريد أن يقدم عليه من الأمور. وإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان من المحتم عليه أن يشاور فإن الأمر يقتضي أن نوضح نقاط أو نطاق هذا الالتزام. وترجع أهمية بيان ذلك إلى: أنه إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان من المحتم عليه أن يشاور فإن هذا الالتزام يقع من باب أولى كواجب حتمي على من بعده من الخلفاء والحكام. ولتوضيح هذه الأمور فإن ذلك يقتضي أن نذكر بعض السوابق التي حدثت في عهد النبوة، وعلى ضوءها يمكن أن يتحد نطاق هذا الواجب ومداه، وسوف نرى: أن هذه السوابق تدل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يعمل بالشورى في كل ما لم يجئ به نص في القرآن الكريم. وسوف نوضح -أولًا- بعض السوابق في عهد النبوية، ثم نتعرض لمدى التزام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمشاورة ونطاق هذا الالتزام، وفي النهاية نوضح مدى التزام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإتباع ما ينتهي إليه أهل الشورى.
أولًا: سوابق الشورى في عهد النبوة شاور الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس عندما بلغه خروج قريش ليمنعوا عيرهم، وأخبرهم عما تزمع قريش الإقدام عليه، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، وتلاه عمر بن الخطاب، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله!! أمض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: من الآية: 24) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إن معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجلدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا ودعا له به، ثم استوثق الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أمر الأنصار، فقال: ((أشيروا علي أيها الناس)) فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أنما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. وهكذا فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يقدم على هذا الأمر شاور الصحابة -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم- ولما وجدهم قد وافقوه على ما يريد فعله وافقهم على ذلك ومضى على بركة الله -تبارك وتعالى-. وفي غزوة بدر -أيضًا- نزل جيش قريش بالعدوة القصوى من الوادي وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به، فجاء الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((بل هو الرأي
تابع: أدلة الشورى.
والحرب والمكيدة)) فقال الحباب: يا رسول الله!! فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالمنزل حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ماءً، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لقد أشرت بالرأي)) وفعل -صلى الله عليه وسلم- ما أشار به الحباب. ويضيف ابن سعد على هذه الرواية بأن الوحي نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر، ومن هذه الرواية نتبين: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تشاور وعمل برأي من شاروه. وفي غزوة أحد شاور الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسلمين، وبعد أن قص عليهم رؤيا رآها تنبئ بوقائع حدثت فيما بعد، فقال: ((فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا المدينة قاتلناهم فيها)) فانقسم المسلمون إلى فريقين، الأول ويحبذ الخروج إلى قريش حبًا في الشهادة؛ لأن بعضهم كان قد فاته ملاقاة العدو ببدر، وفريق آخر يرى عدم الخروج والبقاء في المدينة كما كان يرى -صلى الله عليه وسلم- ولما رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الأغلبية ترى الخروج لملاقاة العدو نزل على رأي الأغلبية. وحين حاولوا بعد ذلك أن يثنوه عن الخروج عندما تبين لهم أنهم قد أكرهوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، قال لهم: ((ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل)). أيها الأخوة ونكتفي بهذا القدر ونكمل في المحاضرة القادمة -إن شاء الله- استودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - قواعد النظام السياسي في الإسلام (2) تابع: أدلة الشورى الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد: تحدثنا في المحاضرة السابقة عن بقية مصادر الأحكام السياسية في الإسلام، ثم انتقلنا إلى الحديث عن قواعد النظام السياسي في الإسلام، فتحدثنا عن القاعدة الأولى وهي الحاكمية لله وحده, ثم بدأنا الحديث عن القاعدة الثانية التي تتمثل في الشورى في الإسلام، وذكرنا دليلها من الكتاب, وها نحن نواصل الآن الحديث عن دليلها من السنة, فنقول: وفي غزوة أحد شاور الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسلمين وبعد أن قص عليهم رؤيا رآها تنبئ بوقائع حدثت فيما بعد, فقال: فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا, فإن أقاموا أقاموا بشر مقام, وإن هم دخلوا علينا المدينة قاتلناهم فيها. فانقسم المسلمون إلى فريقين الأول: ويحبذ الخروج إلى قريش حبًّا في الشهادة؛ لأن بعدهم قد فاته ملاقاة العدو ببدر, وفريق آخر يرى عدم الخروج والبقاء في المدينة, كما كان يرى -صلى الله عليه وسلم- ولما رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الأغلبية ترى الخروج لملاقاة العدو نزل على رأي الأغلبية, وحين حاولوا بعد ذلك أن يثنوه عن الخروج عندما تبين لهم أنهم قد أكرهوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ذلك, قال لهم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لَأْمَتَه أن يضعها حتى يقاتل. ويعقب البعض على ذلك فيقول على ما حدث في غزوة أحد: بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن كان يرى أنه من الخير للمسلمين كما دلت الوقائع بعد ذلك عدم خروجهم لملاقاة قريش الذين كانوا يفوقونهم في العدد والعدة في ساحة المعركة المكشوفة, وأن يعسكروا في المدينة, ويدافعوا عنها إذا هوجمت, ولكن لما كانت
الأغلبية ترى خلاف ما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأقلية التي رأت رأيه فقد نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأي الأغلبية, ومن هذه الواقعة نتبين أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- التزم بما انتهى إليه المتشاورون مع أن رأيه الشخصي كان خلاف رأيهم, حيث كان يرى أنه من الأفضل البقاء في المدينة والتحصن بها, فهذا أخذ بمبدأ الشورى في الإسلام إلى أقصى درجة. وهناك سابقة حدثت في عهد النبوة تعطي تأكيدًا قاطعًا لمسلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدد الشورى, وقد رواها البخاري وغيره من الفقهاء ومجمل القصة أن وفدًا من هوازن قدم إليه أي: إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب منه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد غزاهم وأخذ منهم الأموال والسبايا, وهم يردون أن يستردوا هذه الأشياء, فلما جاءوا إليه -صلى الله عليه وسلم- وطلبوا منه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم, قال لهم: معي من ترون. يعني: كأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: معي الصحابة سوف آخذ رأيهم في هذا الموضوع, ولن أستطيع أن أبدي رأيًا دون الرجوع إليهم, قال لهم: معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه, فاختاروا إحدى الطائفتين, إما السبي وإما المال. النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: لن تأخذوا السبي والمال معًا, لكن اختاروا إما السبي وإما المال, وقال لهم: كنت قد استأنيت بكم, وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أنذرهم بضعة عشرة ليلة حين قفل ورجع من الطائف, ولما تبين لهم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لن يرد إليهم إلا إحدى الطائفتين اختاروا السبي فقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال أما بعد: فإن إخوانكم قد جاءوا تائبين, وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك, فليفعل. أي: من أحب منكم أن يرد إليهم السبي الذي أخذه فليفعل -يعني يرده إليهم, وله الثواب من الله تبارك وتعالى, ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل.
أي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للصحابة من كان عنده شيء من السبايا فإن اختار أن يرد ذلك إلى هؤلاء القوم, أي إلى اليهود بدون مقابل فليفعل, أما من كان عنده شيء من السبايا ولا يريد أن يرده بدون مقابل فليرده وسوف نعطيه ما يقابل ذلك عندما يفيء الله علينا يعني عندما يمن الله علينا بالمال, فقال الناس: قد طبنا ذلك يا رسول الله. يعني: وافقنا يا رسول الله على ما تقول وسوف نرد هذه السبايا بدون مقابل, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن, يعني: كأنه -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: أنا لم أتأكد من الذي أذن ورضي, ومن الذي لم يأذن ولم يرض, فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فهذه الواقعة تبين من ناحية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يشاور المسلمين فيما يعرض عليه من حوادث ووقائع, ومن ناحية أخرى فإنها تدل على الأخذ بنظام التمثيل والنيابة وهو ما يستدل من قوله -صلى الله عليه وسلم- حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم يعني إناس تختارونهم يوصلون إلينا أمركم. ولم يقتصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المشاورة في الأمور العامة والخطيرة التي تهم المسلمين جميعًا, وإنما شاورهم في أخص أموره الشخصية, كما حدث عندما أخذ يشاور كبار الصحابة فيما يتخذه مع أم المؤمنين عائشة, عندما رماها أهل الإفك من المنافقين بتهمة باطلة وكان القصد من ذلك الإساءة إلى الإسلام والمسلمين على النحو المعروف في القصة الشهيرة بقصة الإفك, ولما كان البت في مثل هذه المسألة له تأثير كبير على نفوس المسلمين, فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يستقل فيها برأي, وإنما طرح المسألة على المؤمنين, ليأخذ رأيهم وقد نزل القرآن بعد ذلك يثبت براءة عائشة رضوان الله تبارك وتعالى عليها.
أيضًا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يمدح الشورى ويحث المسلمين على تحقيقها ويشاور المسلمين في معظم الأمور التي تعرض له كما بينا, وقد أكد أبو هريرة -رضي الله عنه- ذلك بقوله: لم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقد روى الفقهاء أحاديث كثيرة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الشورى منها: ((المستشار مؤتمن)) ومنها: إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم؛ فظهر الأرض خير لكم من بطنه قال أيضًا: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم وقال: ما ندم من استشار, ولا خاب من استخار وقال: ما شقي قط عبد بمشورة وقال أيضًا: المشورة حصن من الندامة, وأمان من الملامة وقال أيضًا: من أراد أمرًا فشاور فيه امرءا مسلمًا وفقه الله لأرشد أموره وقال: رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس وقال: وما استغنى مستبد برأيه, وما هلك أحد عن مشورة وفي رواية: وما يستغني رجل عن مشورة وقال: أما إن الله ورسوله لغنيان عنها -أي: المشاورة- ولكن جعلها الله رحمة لأمتي, فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا, ومن تركها لم يعدم غيًّ ويعقب الشيخ/ رشيد رضا على ذلك بقوله: أي: شرعها الله -سبحانه وتعالى- لتحقق الرشد في المصالح ومنع المفاسد؛ فإن الغي هو الفساد والضلال, وقال -صلى الله عليه وسلم-: استعينوا على أموركم بالمشاورة. وفي كثير من الأمور الدنيوية كان -صلى الله عليه وسلم- يرجع إلى المسلمين, وفي هذا النطاق يروى عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) وقوله: ((ما كان من أمر دينكم فإليّ, وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به)) ومن هنا فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان ينزل على آرائهم في أمور الدنيا.
وبعد عرض هذه السوابق التي حدثت إبان عصر النبوة, فنأتي إلى الإجابة على السؤال الذي طرحناه في بداية حديثنا عن الشورى, وهو هل كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ملتزمًا بمشاورة الصحابة, فيما يريد أن يقدم عليه من الأمور. مدى التزام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالشورى: اختلف الفقهاء في الإجابة على هذا التساؤل فذهب رأي إلى أن هذا الأمر ليس ملزِمًا للرسول -صلى الله عليه وسلم- أي: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس ملزمًا بأن يستشير الصحابة في الأمور التي تحدث له, ذهب رأي إلى أن هذا الأمر ليس ملزمًا للرسول -صلى الله عليه وسلم- على سبيل الإيجاب وإنما هو من قبيل الاستحباب؛ لتطييب خاطر المسلمين وتألفًا لقلوبهم, ولأن ذلك أعطف لهم وأذهب لأضغانهم كما أن ذلك من باب التكريم والاعتبار لهم وتألفًا لهم على دينهم, وإن كان الله سبحانه وتعالى قد أغناه عن هذه المشاورة بتدبير أموره وسياسته إياه. والاتجاه الثاني يرى أن الأمر الوارد في الآية الكريمة هو على سبيل الوجوب, فيما لم يرد فيه وحي فقد يكون لدى المسلمين ما ينتفع به, ومن ثم فيجب الرجوع إليهم. ووفقًا لهذا الرأي فالمشورة إنما هنا تكون على سبيل الوجوب, كما أننا من خلال السوابق النبوية التي أشرنا إلى بعضها أكدنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يخرج عما انتهى عليه المتشاورون. وإذا رجعنا إلى نطاق هذا الواجب فما هو نطاق هذا الواجب يعني إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشاورهم في الأمر هل يشاورهم في كل الأمور سواء أمور دينية أو أمور دنوية أو أمور حربية أو اقتصادية أم ماذا؟ هذا هو ما يعرف بنطاق هذا الواجب.
نقول: وأما نطاق هذا الواجب, وهو واجب المشاورة, فهو ما لم تتفق عليه الآراء, فرأي يذهب إلى أن ذلك قاصر على المسائل الدنيوية كأمور الحرب وغيرها, أما المسائل الدينية فهي تخرج عن نطاق المشاورة, وليس الرسول ملزمًا بمشاورة المسلمين فيها, حتى في الأمور التي لم ينزل عليه -صلى الله عليه وسلم- فيها وحي؛ لأن هذه الأمور مرجعها إلى الله عز وجل ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بجميع أقسامها وجوبًا وندبًا وإباحة وكراهة وتحريمًا, ولم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ملتزمًا بالمشاورة في هذه الأحكام الدينية؛ لأن الرأي فيها لله عز وجل وحده عن طريق الوحي؛ لذلك فإن بعض الفقهاء يفسر اللفظ الوارد في آية الشورى, وهي قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: من الآية: 38) واللفظ الوارد في سورة آل عمران: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: من الآية: 159) بأن المراد هو الأمر الدنيوي الذي يقوم به الحكام عادة, لا أمر الدين المحض, الذي مداره الوحي دون الرأي. إذ لو كانت المسائل الدينية كالعقائد والعبادات والحلال والحرام مما يقرر بالمشاورة لكان الدين من صنع البشر, وهذا محال وباطل, وإنما هو صنع إلهي, ليس لأحد فيه رأي لا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا بعد عهده -صلى الله عليه وسلم- ولهذا فإننا نرى الصحابة رضوان الله عليهم كانوا لا يعرضون رأيهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن يتأكدوا بأن ما يعرضون إليه من رأي إنما هو من الأمور التي لم ينزل فيها وحي, وهذا واضح من المناقشة التي جرت بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين الحباب بن المنذر يوم بدر, إذ أن الحباب قال له عندما نزل في مكان: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فمعنى كلام الحباب بن المنذر أن هذا الرأي لو كان الله هو الذي جعلك تقف فيه فليس لنا أن نبدي برأي, أما إذا كان أمور دنيوية وأمور حرب وكذا فنبدي
رأينا, هذا معناه أن الصحابة كانت الأمور الدينية لا يبدون فيها رأيًا ويسألون أولًا النبي -صلى الله عليه وسلم- هل هذا الأمر يتصل بالدين أو يتصل بأمور الدنيا فإن كان يتصل بأمور الدين لا يبدون رأيًا, أما إذا كان يتصل بأمور الدنيا كالحرب مثلًا فكانوا يبدون رأيهم في ذلك, ومن بين من قالوا بذلك يذهب إلى أن استشارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المسائل الدينية, وإن لم يكن على سبيل الحكم والإلزام إلا إنها كانت تطييبًا لنفوس المسلمين, وهذا لا ينافي أن مرجع الأمور الدينية هو الوحي. يعني: وإن قلنا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشيرهم في أمور الدنيا فقط, لكن إنه -صلى الله عليه وسلم- يشيرهم في بعض الأمر أو يستشيرهم في بعض الأمور الدنيوية فهذا ليس واجبًا عليه, وإنما هو من باب تطييب النفوس فقط. هذا هو الرأي الأول والذي يقول بأن المشاورة إنما لا تكون في الأمور الدينية وإنما تكون في الأمور الدنيوية فقط. ويذهب البعض الآخر إلى أن نطاق المشاورة يشمل المسائل الدنيوية كما يشمل أيضًا المسائل الدينية, فيما لم ينزل فيه وحي, والوحي يصوب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحالة الأخيرة, إذا ما أخطأ المتشاورن إلا أن هذا الأمر ليس معناه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان في حاجة إلى المشاورة, وإنما هو تنبيه من الشارع الحكيم لما في الشورى من فضل وحتى تقتضي به الأمة من بعده, هذا هو الرأي الثاني, ونحن نرى أن الاتجاه الذي يرى بأن الشورى ملزمة ويحدد نطاقها في المسائل الدنيوية التي لم يرد فيها نص هو الرأي الأدعى للقبول والراجح في نظرنا ذلك أن المسائل الدينية تخرج عن نطاق المشاورة؛ لأن أساسها والمرجع فيها إلى الوحي سواء أكان بطريق مباشر, وهو ما ينزل به الوحي من نصوص الكتاب أو بطريق
غير مباشر فيما سنه لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أحكام؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- طاعته واجبة على كافة الخلق فيما أحبوا أو كرهوا ولا يجوز أن يعطى الحق للمسلمين في مشاورة تخرج عن نطاق هذه المسائل, لهذا نجد بعض المفسرين يذكرون عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه كان يقرأ الآية الواردة في سورة آل عمران: وشاروهم في بعض الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله أما الجمهور فإنهم لا يأخذون بهذه الزيادة, إلا أنه يرى أن الأمر هنا ليس واردًا على سبيل العموم إذا لا يشاور في التحليل والتحريم, وهذا الاتجاه يتفق مع المنطق والعقل وأساس التشريع الإسلامي. ويؤيده أن المسائل التي وقعت فيها المشاورة في عهد الني -صلى الله عليه وسلم- كانت تتعلق بمسائل دنيوية كمسائل الحرب, وما يتعلق بالمعاملات الجارية بين الناس, ثم نتحدث عن موضوع آخر وهو مدى التزام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإتباع ما انتهى إليه المتشاورون إذا قلنا بان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرجع إلى الصحابة ويستشيرهم في الأمور فإذا اتفقوا على رأي معين فهل يأخذ بهذا الرأي أم أن من حقه أن يخالف هذا الرأي ويأخذ برأي يراه هو نقول: يبقى سؤال أخير فيما يتعلق بالأمر الوارد للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمشاورة ومؤداه, هل كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن كان ملزمًا بالمشاورة على التفصيل الذي بيناه؟ هل كان عليه أن يعمل بما ينتهي إليه أغلبية المتشاورين؟ أي: هل كان ملزمًا بأن يعمل بما انتهى إليه رأي الأغلبية أم لا؟ نقول لم يتفق الفقهاء على إجابة محددة حول هذا السؤال والسبب الذي أدى إلى عدم الجزم بإجابة محددة هو عدم اتفاقهم على تفسير قوله عز وجل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: من الآية: 159) فيذهب رأي إلى أن الأمر الوارد في الآية ينصرف إلى وجوب المشاورة فإذا انتهت وعزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمر من الأمور فله أن يمضي فيه ويتوكل على الله تعالى لا على مشاورتهم, أي: أن الشورى واجبة ابتداء لا انتهاء. أي: أنه كان يشاورهم في الابتداء الأمر لكن نتيجة المشاورة لم يكن ملزمًا بها النبي -صلى الله عليه وسلم.
في حين يرى رأي آخر إلى أن الشورى ملزمة ابتداء وانتهاءً بمعنى أن الشورى واجبة عندما يراد البت في أي أمر من الأمور الدنيوية, ولا يجوز الإقدام على أمر من الأمور فيما لم ينزل فيه وحي إلا بإتباع المشاورة, فإذا انتهى المتشاورون إلى رأي فإن هذا الرأي يكون واجب العمل به, وهو ما يستدل من قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما وما روي عن علي قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العزم قال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم. وفي نطاق المفاضلة بين هذين الاتجاهين وهذين الرأيين نرى أن ما رواه الذين يقولون بأن المشاورة ملزمة ابتداء وانتهاء. أي أنه يجب العمل بالرأي الذي انتهى إليه المتشاورون هو الأولى بالقبول والراجح, وإذا كان الاتجاه الأول يتلاءم مع عصر النبوية باعتبار أنه -صلى الله عليه وسلم- معصومًا عن الخطأ ومنزهًا عن الهوى, ومن ثم فإنه إذا أقدم على رأي حتى ولو كان يخالف ما انتهى إليه المتشاورون فإنه سيكون الرأي الصواب, وإن لم يكن كذلك فإن الوحي كفيل بأن يوجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أما بعد عصر النبوة وانتهاء الوحي فإن القول بأن المشاورة إن كانت واجبة في البداية فهي ليست واجبة انتهاء بحيث يكون للحاكم أن يعزم على رأي حتى ولو كان مخالفًا لما انتهى إليه المتشاورون, نقول هو قول لا نقبله؛ لأنه من ناحية يجعل الشورى أمرًا صوريًّا ووهميًّا بحيث يكون الحاكم قد امتثل إلى هذا الواجب بمجرد المشاورة, حتى ولو كان قد عزم مسبقًا على رأي محدد يخالف رأي الأغلبية من الأمة. ومن ناحية أخرى فإن هذا القول من شأنه أن يؤدي إلى الاستبداد, والتسلط حيث ينتهي في النهاية إلى عدم إعطاء أي قيمة أو وزن لآراء أهل الشورى, وهم
علماء الأمة وأهل الحل والعقد فيها, ومن المؤكد أن الشريعة الإسلامية لا تسمح مطلقًا بالتسلط والاستبداد ومن المنهي عنه أن يكون الحاكم طاغوتًا يريد علوًا على الناس, بل يجب أن يخضع لما ينتهي إليه أهل الاجتهاد وينزل على رأيهم, وهذا الرأي يتفق مع ما رواه علي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: يا رسول الله! الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة, قال: اجمعوا له العالمين أو قال: العابدين من المؤمنين, فاجعلوه شورى بينكم, ولا تقضوا فيه برأي واحد لأن القرار الناتج عن الشورى غير ملزم, فإن ذلك سيؤدي إلى الحد من تطبيق الشورى والعمل بها وهو ما يؤدي إلى ضياع هذا الواجب كلية. ونتحدث الآن عن تطبيقات الشورى في عصر الخلفاء الراشدين: وإذا ما نحن ألقينا بعض النظر على هذا المبدأ بعد عصر النبوة فإننا نجد بعض الفقهاء يوسع من نطاق الشورى ويجعلها واجبة في كل المسائل التي لم ينزل فيها وحي, بعد أن يخرج أو أن يخرج المسائل الدينية المتعلقة بالعقيدة؛ لأن النصوص قد بينتها على سبيل الحصر, ولا مجال فهيا للمشاورة. أما عدا هذه المسائل سواء تعلقت بمسائل الحرب أو غيرها من المسائل التي تدخل في نطاق السلطات السياسية إن كانت متعلقة بالأحكام فالشورى فيها واجبة ابتداء على رأي وابتداء وانتهاء على رأي آخر على التفصيل الذي بيناه في الشورى في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا الرأي يجد سنده في السوابق التي حدثت في عصر الصحابة, فقد تشاورا في الخلافة, وفيما يجب إتباعه مع أهل الردة وتشاورا في الجد وميراثه, وفي حد الخمر وعدده وتشاورا في مسائل الحروب وغيرها.
تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها.
وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ما عرضت عليه مسألة من المسائل فإنه يبحث عن حكمها أولًا في القرآن الكريم, فإن وجد ما يقضي به فإنه يحكم به, وإن لم يكن في القرآن حكم لهذه المسألة رجع إلى السنة, فإن وجد حلًّا لها فيها كان به, فإن أعياه الوصول إلى حكم المسألة من القرآن أو السنة, سأل الناس هل علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بقضاء, فإذا أرشده واحد منهم إلى حكم من النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المسألة قضى به, وإلا جمع الناس فاستشارهم فإذا اجتمعوا على رأي قضى به. ونفس الطريقة كان يلتزم بها عمر بن الخطاب, إلا أنه كان يضيف إلى القرآن والسنة ما كان يسلكه أبو بكر رضي الله عنه, فإن لم يجد حكمًا للمسألة في هذه المصادر استشار الناس واتبع ما ينتهي إليه المتشاورون, وكان يأبى أن ينفرد بالرأي في أي مسألة تعرض له, وإنما كان يجمع لها كبار الصحابة من أهل بدر, ويشاورهم فيها. وقد سار عثمان رضي الله عنه على هذا المنهج فكانت الشورى لها مكانتها خلال ست سنين من خلافته إلى أن تم لبني أمية الاستيلاء على مقادير الأمور في عهده, الأمر الذي أدى إلى عدم مراعاة هذا الواجب, وظل الأمر كذلك حتى قتل عثمان رضي الله عنه, وبعد استشهاده وتولي علي الخلافة بمقتضى البيعة العامة للمسلمين عادت للشورى مكانتها, فعمل على كفالة هذا الواجب. تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها ثم نتحدث الآن عن تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها, نقول أهل الشورى يجب أن تتوفر فيهم مجموعة من الشروط, وقد بين الفقهاء هذه الشروط وذلك حينما تكلموا عن أهل والعقد, وما يجب أن تتوفر فيهم من شروط, وأهم هذه الشروط ما يلي:
الإسلام وهو شرط حتمي وذلك؛ لأن الدولة الإسلامية مؤسسة على وحدة العقيدة ولا يجوز أن يشارك في تسيير دفة أمورها أو في كفالة تحقيق مقاصد الشارع من الخلق من لم يؤمن بالإسلام, وهذا الشرط مجمع عليه ويعد من الشروط المتعلقة بالنظام العام في الدولة الإسلامية. الشرط الثاني: العقل وهو شرط بدهي في كافة التكاليف الشرعية كما أنه شرط لكافة الولايات العامة أو الخاصة على السواء. الجنس: ويرى جمهور الفقهاء أنه تشترط الذكورة في أهل الحل والعقد, ومنهم أهل الشورى, غير أننا لا نرى ذلك؛ لأن المنع قاصر على منصب الخلافة, ولا يجوز أن يكون في سائر الولايات. العلم: بمعنى أن يتوفر في أهل الشورى درجة معينة من العلم تؤهلهم لأن يكونوا أهلا للشورى, وتوفر لديهم القدرة على التمييز الآراء المختلفة في نطاق الأمر المتشاور فيه. الرأي والحكمة: وفضلًا عن العلم, فإنه يجب أن يتوفر في أهل الشورى الرأي والحكمة لكي يتوصل برأيه وحكمته إلى أنسب القرارات التي تحقق مقصود الشارع, ومصلحة المجتمع الإسلامي. العدالة: وهي تعني التقوى والورع وتحقق بالاستقامة والأمانة والمحافظة على شعائر الإسلام والتمسك بأهدافه؛ لذلك ينقل القرطبي عن سفيان الثوري ضرورة توفر التقوى, والأمان في أهل الشورى, إلا أنه يلاحظ أنه ليس معنى تقرير وجوب الشورى أنه يجب إعمالها في كل مسألة من المسائل أيًّا كانت طبيعتها بحيث يتحتم أن يستشار جميع أهل الحل والعقد, وإنما الوجوب ينصرف إلى مشاورة المختصين في المسألة المعروضة, وهو ما وضحه القرطبي
حيث يذكر رأيًا مؤداه: بأن الولاة يجب عليهم مشاورة العلماء فيما لا يعلمون, وما أشكل عليهم من أمور الدين, والمختصون بأمور الجيش والحرب في المسائل العسكرية, والمختصين بالنواحي الإدارية في المسائل المتعلقة بها. يقول القرطبي: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون, وما أشكل عليهم من أمور الدين ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب, ووجهوه الناس فيما يتعلق بالمصالح, ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها, كما يقرر القرطبي, بأن صفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلًا مجربًا وادًّا في المستشير, كما يجب أن يكون من أهل الفتوى والأمانة وكان الفقهاء يستعينون بمجالس تضم العلماء في الفقه والفلسفة والعلوم والتاريخ وأهل الخبرة في المجالات المختلفة. أما إذا كانت المسألة محل الشورى تتعلق بالمسلمين جميعًا ولا تحتاج إلى نوع من الخبرة والتخصص في ناحية من النواحي فلا مناص من الرجوع إلى المسلمين جميعًا, فدائرة من يستشارون يتسع نطاقها كلما تعلق موضوع الشورى بأمر يتعلق بمصلحة أساسية من مصالح المسلمين, وهذا الرأي يجد سنده فيما سلكه عمر -رضي الله عنه- حينما استشار المهاجرين والأنصار في قسمة ما أفاء الله به على المسلمين من أرض العراق والشام. والسؤال الآن هل يشترط الإسلام في أهل الشورى؟ أجملنا فيما سبق الشروط التي يجب أن تتوفر في أهل الشورى وقلنا: إن من المسلم به أن شرط الإسلام من الشروط الضرورية التي يجب توفرها في أهل الحل والعقد, كما أنه أيضًا من الشروط الحتمية المطلوبة في كل من يمارس الولاة العامة
كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى.
في الدولة الإسلامية غير أنه قد يقتضي الأمر الاستعانة بخبرة أجنبية, فهل يعد ذلك خرقًا لقواعد القانون الإسلامي يجب هنا أن نميز بين أمرين: الأمر الأول: في مجال التشريع, فإن شرط الإسلام من الشروط الضرورية والحتمية التي يجب توفرها في أهل الشورى لتعلق هذا الشرط بالنظام الأساسي للدولة الإسلامية, ومن ثم لا يجوز أن يشترك غير المسلمين في نطاق الشورى التي يكون الهدف من إعمالها وضع قواعد قانونية, وذلك في الأحوال التي لا يوجد فيها نص؛ لأنه لا اجتهاد مع النص, ومن ثم يستبعد غير المسلم من نطاق الشورى في المسائل التشريعية. الأمر الثاني: أما في مجال التنفيذ ولاسيما في نطاق المسائل الفنية البحتة, فقد يتطلب الأمر الاستعانة بغير المسلمين وهذا فيما نرى لا يتعارض مع قواعد الإسلام, طالما ظلت سلطة التقدير وموائمة القرار مع مصلحة المجتمع الإسلامي في يد السلطة العامة في الدولة الإسلامية, فاستشارة غير المسلمين, وإن كنا نرى أنها من الأمور الجائزة, إلا أنها لا تأخذ الصفة الإلزامية, بحيث يكون من المحتم العمل بها؛ لأن هذا القول يعطي لغير المسلمين حق الولاية العامة على المسلمين وهو ممنوع بنص الشارع؛ لكونه يمس النظام العام في الدولة الإسلامية, بل تكون من الأمور التقديرية التي تخضع لاعتبارات الملائمة, وما يتفق مع المصلحة العامة للأمة الإسلامية. كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى ثم نتحدث الآن عن كيفية إعمال واجب الشورى: أما كيف يطبق واجب الشورى الذي حتمه الشارع الإسلامي فإنه لكي نوضح ذلك فيجب علينا أن نميز بين وجوب هذا المبدأ وحتمية كفالته وبين أسلوب
تنفيذه, فيجب أن نميز بين المبدأ وأسلوب تنفيذه, فإذا كان الإسلام قد أوجب الشورى وكفل بمقضى إيجابها حق الأمة في المشاركة في الحكم وفي البت في أمورها العامة وأمر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن ثم يلتزم بها خلفاءه من بعده إلى جانب أنه جعلها صفة من صفات المؤمنين بشرعته الملتزمين بأحكامها, فإن هذا لا يؤدي مطلقًا إلى أن نخلط بين هذه القاعدة التي تقرر المبدأ الواضح والصريح والتي تمثل ركيزة أساسية من الركائز التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي, وبين أسلوب التنفيذ وصورة التطبيق التي نتجت عن إعمال هذا المبدأ, فالشريعة الإسلامية قد تجنبت التفصيلات التي يقتضيها تنفيذ مبدأ الشورى, وهذا مسلك يقتضيه سمو الشريعة وصلاحيتها لكي تجابه كافة التطورات التي تقتضيها ظروف الزمان والمكان. إذ إن صور التطبيق ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتغيرات التي تجد على المجتمع, ولو أن الشرعية الإسلامية قد نهجت إلى التفصيل في صور التطبيق لبدت أمام الباحثين جامدة لا تقوى على الوقوف في مواجهة ما يجد على المجتمع من تطور, إلى جانب أن القاعدة التي تتواءم مع زمن معين لا يجوز القول بأنها صالحة لكل زمان, والتي تصلح للمسلمين الأول مع بساطة البيئة وسذاجتها, لا يكن أن تكون صالحة للتطبيق بعد أن نما الإسلام, وتطور وواجه ظروفًا وأوضاعًا تختلف كلية عن الظروف التي واجهها المسلمون في البداية, ومن هنا اكتفى القرآن الكريم بالنص على وجوب المبدأ, وحتميته, أي: مبدأ الشورى, كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لو وضع قواعد للشورى, بحسب ما يتلاءم مع البيئة وظروف عصره لاتخذها المسلمون دينًا وحالوا العمل بها في كل زمان ومكان, وما هي من أمر الدين, فكان الأحكم والأصلح أن يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- وضع التفصيلات الخاصة بمبدأ الشورى للأمة, تضع منها في كل حال ما يليق بها, ويصلح لها.
والسبيل إلى ذلك لا يكون أيضًا إلا بإعمال مبدأ الشورى, فالوسيلة التي تتمسك في صورة وتفصيلات الشورى يمكن أن يعاد فيها النظر دائمًا, حسب ما يتفق مع ظروف العصر ومقتضيات الزمان, دون أن يكون ذلك ماسًا بأصل الشورى؛ لأن القواعد التي أتى بها القرآن والسنة في هذا النطاق غير قابلة للتعديل؛ لأنها تمثل المبدأ العام والقاعدة العريضة التي لا تختلف باختلاف الزمان أو المكان. لهذا فإن محاولة النيل من الشريعة الإسلامية لأنها لم تضع قواعد محددة ونماذج تفصيلية لصيغ وتطبيقات الشورى, تكشف عن جهل فاضح بطبيعة النظام الإسلامي, وحقيقته؛ لأنه يتعين أن نميز بين المبدأ وأسلوب وصيغ إعمال هذا المبدأ وتطبيقه, فالله -عز وجل- أراد أن يجعل من الإسلام الدعوة الخالدة والرسالة الأزلية إلى البشر جميعًا, فكان من المطلوب بل ومن المحتم أن تقتصر الشريعة في نطاق المعاملات, وما يتعلق بتنظيم المجتمع على وضع قواعد كلية ومبادئ شاملة ثابتة, لا تتعدل ولا تتبدل, ولكنها في مجال التنفيذ وصيغ التطبيق تسمح بأن تتواءم مع كل ما يجد على المجتمع من تطور, فهي لا تقتصر على أسلوب واحد في التنفيذ لا تتعداه إلى غيره دائمًا, وإنما تضع القاعدة العامة والمبدأ العريض الذي يسمح دومًا وأبدًا بالوفاء بحاجة المجتمع, وهو ما نلاحظه بالنسبة للتعاليم التي قررها الشارع بالنسبة لتنظيم المجتمع في أوضاعه السياسية والاقتصادية والدولية. فقد اكتفى المشرع بوضع توجيهات عامة جاءت في شكل قواعد كلية غير مفصلة حتى لا تتقيد الأجيال بهذه التفصيلات والتطبيقات, بل تركها المشرع للأمة كي تكون حرة تضع ما يلائمها بحسب حاجة الزمان والمكان ما دامت في نطاق ما رسمته الشرعية من قواعد وأحكام.
ويترتب على منحى الشريعة في هذا النطاق أمران: الأمر الأول: أن التعاليم التي جاء بها الشارع في نطاق تنظيم المجتمع, ومنها ما يتعلق بتنظيم الحكم في الدولة الإسلامية, ليست تعاليم منصبة في قوالب جامدة, لا تقبل التطبيق, إلا على أسلوب واحد, بل الأمر على خلاف ذلك فالهدف واضح ومحدد, ولا مجال لتغييره وتبديله إلا إن أسلوب التنفيذ وصيغ التطبيق قابلة لهذا التغير والتطور, وواجب كل جيل أن يستبين الهدف, ثم يتخير الأسلوب الذي يتواءم معه على ضوء ظروف البيئة, وما يقتضيه العصر, مستفيدًا في ذلك بكل ما استحدثه العلم الذي أمرنا الله -عز وجل- باجتلاء أفاقه مع مراعاة الظروف التي تحيط بالدولة الإسلامية, وأي جيل في أي زمن سيجد دائمًا النصوص تتسع لتنظيم المجتمع, وفقًا لحاجاته المستجدة, وما انتهى إليه التطور. الأمر الثاني: أن القواعد الكلية والأصول الشاملة التي جاءت بها الشريعة تبقى بعد ذلك كفرائض إلزامية, وواجبات محددة, يجب العمل بها ولا يجوز الخروج عنها بأي حال من الأحوال؛ لأنها تمثل الإطار العام للنظام العام الإسلامي, والتي لا تقبل تغييرًا ولا تبديلًا. إذن فالمبدأ ثابت ولا رأي لأحد فيه ولا تملك الأمة تغييره, أما أساليب التنفيذ وصور التطبيق فمتغيرة ومتطورة دون أن يكون في ذلك ما يغاير المضمون أو يضيف إليه, ويكون للأمة في أي وقت حسبما يقتضي ذلك مصلحتها أن تعيد النظر في التطبيق طبقًا لما تحتمه الظروف والأوضاع التي تواجهها. يبقى أمامنا أن نحدد طريقة اختيار أهل الشورى على ضوء ما أوضحنا من ضرورة التفرقة بين المبدأ وأسلوب التنفيذ, فالشورى قد أكدت حق الأمة في
المشاركة في الحكم, وفي إدارة شئونها العامة وإقامة الصلة الوثيقة بين طرفي المجتمع الحكام من ناحية والمحكومين من ناحية أخرى بتقرير ذلك المبدأ, فكان من الطبيعي أن يشترك الشعب كله في إدارة شئونه العامة, إلا أن ذلك لا يمكن تحقيقه لسببين: الأول: أن الإسلام لا يهتم بالكثرة, إلا قدرة إيمانها وتقواها وعلمها وثقافتها وإحاطتها, بالقانون الإسلامي, ومن ثم فقد يكون رأي قلة من العلماء, أفضل من رأي أكثرية جاهلة, وهو ما يستدل من قوله عز وجل: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (المائدة: من الآية: 100) والسرخسي يقرر أن محمد بن الحسن يرى أن الترجيح يكون على قدر أكثر الآراء اتفاقًا ويخالف السرخسي ما ذهب إليه محمد بن الحسن بقوله: وهذا خلاف ما هو المذهب الظاهر لأصحابنا في الترجيح, أنه لا يكون بكثرة العدد, وعليه دل ظاهر قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (هود: من الآية: 11) وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: من الآية: 21) وقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) الثاني أنه يستحيل في الواقع أن يشترك في المشاورة جميع المسلمين في كل أمر من الأمور حتى, ولو صرفنا النظر عن السبب الأول؛ لأنه من ناحية يستحيل ماديًّا اجتماع الشعب كله في مكان واحد للمشاورة والوصول إلى قرار, وهذا ما عناه ابن حزم, عندما اعترض على الرأي الذي اشترط لصحة اختيار الخليفة, أن يعقدها فضلاء الأمة في أقطار البلاد الإسلامية كلية؛ لأنه كما يرى تكليف بما لا يطاق, وما ليس في الوسع, ولا بد من ضياع أمور المسلمين, قبل أن يجمع جزء من مائة من فضلاء أهل هذه البلاد, ومن ناحية أخرى أنه حتى ولو سلمنا
بعد استحالة جمع الشعب كله في صعيد واحد, فإنه لو تحقق ذلك لأدى إلى استحالة الوصول إلى قرار نتيجة لتشعب الآراء واختلاف المنازع لمجموع أفراج الشعب, فوق أن الأمر قد يتعلق بمسألة فنية بحتة قد تخفى على معظم الناس, ومن ثم فمن العبث الرجوع إليهم جميعًا لكل ذلك, فإن الإنابة في تشكيل أهل الشورى تعد أسلم الطرق لاختيارهم. وقد سبق أن أشرنا عند تعرضنا للسوابق التي حدثت في عهد النبوة كيف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشار على القوم بالرجوع إلى عرفائهم, يعني المعروفين لديهم حتى يرفعوا إليه الأمر كما وضع ذلك فيما نقلناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, ويتحتم أن يشترك الشعب كله في اختيار أهل الشورى؛ لأن لفظ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} تشير إلى المجتمع كله ولم يخص الشارع فئة من القوم دون سواهم بأداء مقتضيات الشورى فالأمر المعروف هنا هو أمر المسلمين المضاف إليهم, ومن ثم فإن كل مسلم بالغ عاقل ذكرًا كان أو أنثى يجب أن يشترك في عملية اختيار أهل الشورى الذين توافرت فيهم الشروط فالمسلمون سواسية في حق التصويت وإبداء الرأي. ووجب المشاورة ككل الواجبات التي فرضها الشارع لا مدخل فيه للعصبية أو التعصب لرأي اللهم إلا إذا اعتقد أنه هو الرأي الصواب, ولا بد أن ينزل على حكم الأغلبية, ويقف حيث تقف الجماعة وفي مجلس الشورى, لا مدخل للحزبية, والطائفية فيه؛ لأن الإسلام يأبى أن يتحزم أهل الشورى, ويكون مع أحزابهم في التمسك بالرأي الباطل, وإنما الذي يقتضيه النظام الإسلام هو أن يدوروا مع الحق حيث دار ولا يحيد عنه, ولا بد أن ينزل الواحد عن رأيه إذا تبين له أنه غير صواب وأنه مخالف ولا تثريب على مجلس الشورى إذا ما توصل إلى
مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك.
قرار أن يعدل عنه إذا تبين بعد ذلك أن هذا الرأي كان خطأ, إلا أن النزول على رأي الأغلبية, لا يكون واجبًا إذا خالف نصًا أو قاعدة كلية من قواعد الشرعية أو أي دليل من أدلة المشروعية إلا وفقًا لما تضعه قواعد المشروعية الإسلامية في هذا الصدد. نكتفي بهذا القدر, أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - قواعد النظام السياسي في الإسلام (3) مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن قواعد النظام السياسي في الإسلام، وبدأنا الحديث عن القاعدة الأولى: وهي الحاكمية لله سبحانه وتعالى، ثم بدأنا الحديث عن القاعدة الثانية: وهي الشورى في الإسلام وبينا دليلها من الكتاب، ومن السنة النبوية الشريفة، ومن السوابق التاريخية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون من بعده. ونواصل الحديث عن الشورى في الإسلام، فنتحدث الآن عن نطاق واجب الأمة في الشورى، فنقول: الشورى في الشريعة الإسلامية من الواجبات الحتمية على الحاكم، والمحكوم على حد سواء، ومن ثم فإنها تعطي لعلماء الأمة كما أشرنا الحق في المساهمة في إدارة شئون الدولة، فيما لم يكن فيه دليل من أدلة الشرع، وهي بهذا المعنى تؤدي إلى رفع مسئولية السلطة العامة، وفيما يلي تفصيل ذلك: أولا: الشورى واجبة على الحكام والمحكومين على حد سواء، فلا يقتصر الالتزام بالمشاورة على الخليفة وغيره من الولاة، والحكام وحدهم، وإنما يلتزم بها المسلمون، فهي من ناحية تعتبر حقا من الحقوق الأساسية لهم، ومن ناحية أخرى تعتبر من الالتزامات التي تقع على كاهلهم، وقد روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الصدد: ((إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه)) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من حق المسلم على المسلم إذا استنصحه أن ينصحه)). إلى جانب أن الشارع اعتبرها من الأوصاف اللازمة للمؤمنين برسالته هؤلاء المؤمنون الذين استجابوا له، وأقاموا أركان دينه، وأمرهم شورى فيما بينهم، فأثنى عليهم الشارع لكونهم لا ينفردون برأي، بل ما لم يجمعوا عليه لا يقدمون عليه، وقد بين الشارع بمقتضى ذلك ما يجب أن يكون عليه أهل هذا الدين، كما
يقع هذا الواجب من ناحية أخرى على عاتق الخليفة وغيره من الحكام والولاة، وقد دلت على ذلك الآية الكريمة {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} (آل عمران: من الآية: 159) لأنه إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو النبي المعصوم من الهوى، والمنزه عن الخطأ إذا كان مأمورا من الله -عز وجل- بالمشاورة، فإنه من باب أولى أن يلتزم الحكام من بعده بهذا الواجب، والتزامهم به أقوى وأشد؛ لانتفاء العصمة فيهم، واحتمال وقوعهم في الخطأ، ولهذا يقرر الفقهاء أن أمر الله -عز وجل- للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمشاورة لم يكن لحاجة منه لرأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم -عز وجل- ما في المشاورة من الفضل ولتقتدي به أمته من بعده، على أن هذا الالتزام المتبادل بالشورى بين الحكام والمحكومين يجب ألا ينتهي إلى مخالفة قاعدة من القواعد المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية، أو قاعدة من قواعدها الكلية، والقرار في هذه الحالة يكون باطلا أي: في حالة ما إذا كانت هناك مخالفة لقاعدة من القواعد المنصوص عليها في الشريعة، ولا يترتب عليه أي أثر قانوني، فحيث يوجد نص قطعي أو قاعدة كلية، فلا يجوز أن يترتب على أعمال الرأي والمشاورة مخالفتهما. ثم نتحدث الآن عن دورة الأمة الإسلامية في تحقيق واجب الشورى، سبق أن أشرنا إلى أن الشورى واجبة على الحاكم والمحكوم على حد سواء، وانتهينا إلى أن الشورى بهذا المعنى تعطي لعلماء الأمة ومجتهديها من أهل الحل والعقد في شتى مناحي الحياة، تعطيهم الإسهام في تدبير كافة شئون الأمة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومن ثم فإن الأمة الإسلامية في قيامها بهذا الدور عن طريق مجتهديها وعلمائها من أهل الحل والعقد، لا تقتصر في مجال التشريع على إعطاء المشاورة للخليفة، وإنما تقوم بالدور الرئيسي، والفعال عن طريق هؤلاء الذين إذا أجمعوا على حكم من الأحكام العملية، فإنه يكون واجب
تطبيق وملزمًا للسلطات العامة، ولا يستطيع أي شخص ممن يمارسون سلطة من سلطات الدولة أن يشترك مع الأمة في إصدار هذا التشريع إلا إذا كان مجتهدا، وذلك بتوفر الشروط الخاصة بالاجتهاد فيه. أما في مجال التنفيذ، فإن الأمة الإسلامية لها الحق أيضا، وعليها الالتزام في أن تقدم للسلطات الحاكمة المشورة اللازمة فيما تريد أن تقدم عليه من الأمور؛ لذلك فإن الشارع -عز وجل- جعل الشورى من صفات المؤمنين برسالته الذين لا يستبدون بالرأي، ومن ثم فإن الشارع الحكيم مدح فيهم هذه الصفة، ومدح الشارع لها يعني: أنها من الأمور الواجبة التي يجب كفالتها في الدولة الإسلامية، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: 38) والسلطة التنفيذية تلتزم التزاما حتميا قبل أن تتخذ أي قرار في المسائل الهامة والخطيرة المتعلقة باختصاصاتها، وسلطانها الموكولة إليها، وذلك بمقتضى خلافتها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نقول: هي ملزمة هذه السلطة التنفيذية تلتزم التزاما حتميا بأن تأخذ المشورة من الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد في الأمر المراد البت فيه، وهؤلاء لهم الحق وعليهم الالتزام بإبداء الرأي، وبيان وجهة نظرهم على ضوء ما تقتضي به قواعد الشريعة في كل مسألة من المسائل الهامة التي تتعلق بالأمة الإسلامية، أي: أن هؤلاء الذين يمارسون الشورى يجب عليهم أن يؤدوا هذه الشورى، فهذا التزام يقع على عاتقهم. ولكون الشورى تعتبر واجبا ملزما للخليفة، وسائر الحكام في الدولة الإسلامية، فإن بعض الفقهاء ذهب إلى القول بأن الوالي الذي يستبد برأيه، ويعزف عن المشورة، فإن مثل هذا الوالي يكون واجب العزل، بل لقد ذهب هذا الرأي إلى
أن القول بالعزل في هذه الحالة من الأمور المجمع عليها، وعندما نتحدث عن الشورى، ومسئولية السلطات العامة نقول: سبق أن نبهنا إلى أنه في نطاق الدور الذي تمارسه الأمة في التشريع يتحتم أن تلتزم السلطات العامة بما توصل إليه مجتهدو الأمة من أحكام، بحيث لا يكون لأي عضو من أعضاء السلطة العامة المشاركة في هذا الحق إلا إذا كان مجتهدا، وأجمع هو وغيره من مجتهدي الأمة على حكم شرعي. ومن ثم فإن دور الأمة في التشريع في الفقه الإسلامي ليس للحاكم وحده، ولا يكون له أن يستبد أو ينفرد به، وإنما هو للأمة، وفقا للحدود والأوضاع التي بيناها فيما سبق. أما في مجال التنفيذ، فإن التزام السلطة العامة بهذا الواجب حتمي سواء في مرحلة اتخاذ القرار، أو في مرحل التزام تطبيق ما ينتهي إليه المتشاورون، ذلك أنه في غالب الأمر يكون هذا القرار صوابًا، وقد نسب القرطبي إلى الحسن أنه قال: ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضر بهم، فإذا ما التزمت الأمة بالشورى، وأخلصت النية بهدف الوصول إلى الحق والصواب، وكان ذلك هو الهدف الأساسي لأهل الشورى من غير ميل إلى هوى، ولا حيدة عن الحق، فإن الله سوف يسدد خطاهم ويهديهم إلى الصواب، ويوفقهم في الوصول إليه، وذلك لأن مشاورة الفقهاء والعلماء أبعد عن الخطر. والخطر الواقع على الأمة إذا لم تعطِ هذا الحق، وانفرد به أحد أعضاء السلطة العامة مؤكدا كما أنه يؤدي إلى التسلط والاستبداد؛ لذلك فإننا نرى أن الرأي الذي يرى بأن الحاكم الذي يحرم الأمة من هذا الحق -أي: حق الشورى- ولا يلتزم به، ويستبد برأيه فإنه يكون واجب العزل، هذا هو الرأي الصواب.
أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم.
ومن ثم فإن الشورى تعد ضمانة من الضمانات الأساسية التي قررتها الشريعة للحيلولة دون مخالفة قواعدها الشرعية، أو الاستبداد بالسلطة والانحراف بها عن المصالح الأساسية التي ابتغتها، وهدفت إليها. أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم والسوابق التي توضح إعمال هذا المبدأ في عهد النبوة من ناحية، وفي عهد الخلفاء الراشدين الأول من ناحية أخرى، أوضحت بما لا يثير أدنى شك أن العمل بنتيجة الشورى حتمي لا يجوز مخالفته، وفي الحالات النادرة التي يعمل فيها برأي الأقلية كان يوجد سبب خطير وقوي، يبرر ذلك، كما حدث في عهد الخليفة الأول أبي بكر في محاربته لأهل الردة، فقد شاور الصحابة فيما يجب أن يتخذ، وكان رأي الأغلبية هو عدم محاربتهم، وكان رأيه -رضي الله عنه- على خلاف ذلك؛ لأنهم فقدوا صفة أساسية من الصفات التي لا يتوفر شرط الإسلام إلا بها، وهو إنكارهم للزكاة وعدم أدائهم لها، ولقد أدت الحوادث اللاحقة إلى تأييد وجهة نظره، وأكدت صحة قراره، وقد اعترف عمر بن الخطاب الذي كان من بين المعارضين لأبي بكر في محاربة هؤلاء أهل الردة، بخطأ الرأي المعارض. فالخليفة وسائر أعضاء السلطة العامة يلتزمون كمبدأ عام باتباع نتيجة المشاورة التي يقدمها المسلمون طالما لا يوجد سبب خطير، وقوي يؤدي إلى العدول عن نتيجة هذه المشاورة، والخليفة هو الذي يقرر وجود سبب يؤدي إلى هذا العدول، كما أنه وحده الذي يتحمل نتيجة هذا القرار المخالف لرأي الأغلبية، كما أنه ليس ملزما من ناحية أخرى باتباع رأي الأقلية، إلا إذا توفرت لديه مبررات قوية بأن رأي الأقلية هو الرأي الذي يتفق مع المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي.
وإذا ما عمل الخليفة برأي الأقلية، فهو أيضا الذي يتحمل وحده مسئولية مخالفة رِأي الأغلبية، إذا تبين بعد ذلك أنه كان مخطئا في إتباع هذا الرأي، وإذا ما أقدم الخليفة على رأي الأغلبية، فإنه لا يكون مسئولا إذا تبين بعد ذلك أن هذا الرأي لم يكن صوابا؛ لأن الخطأ هنا لا يتحمله الخليفة، وإنما تتحمله الأمة كلها، فإذا أخطأ فهم -أي: أهل الشورى- المخطئون، وإذا أصاب فهم المصيبون، ولا يجوز من باب المنطق أن يتحمل الخليفة أو أي شخص ممن يمارسون السلطة العامة خطأ أغلبية أهل الشورى، وهم بطبيعة الشروط التي يجب أن تتوفر فيهم علماء الأمة وأخيارها. ويرى القرطبي رأيًّا ينسبه لأحد العقلاء يقول فيه: قال: بعض العقلاء ما أخطأت قط إذا جذبني أمر شاورت قومي، ففعلت الذين يرون، فإن أصبت فهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون، ويروي القرطبي في موقع آخر، وقال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي، قيل: وكيف ذلك؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم؛ ولذلك قيل: بأن الخطأ مع المشورة أصلح من الصواب من الانفراد، والاستبداد إلى جانب أن التزام الخليفة بنتيجة الشورى، فإن ذلك إلى جانب أنه يرفع مسئولية الخليفة إلا أنه في ذات الوقت يؤدي إلى تربية الأمة التربية السياسية الصحيحة، ويجعلها تتدارك هذا الخطأ في المستقبل، وهو أفضل بكثير من العمل برأي الحاكم، وإن كان صوابا؛ لأن جعل الرأي للحاكم وحده مسوغ للاستبداد، والتسلط لا يعترف به الفقه الإسلامي، فوق أن خطأ الأمة في هذه الحالة من الأمور النادرة التي قلما أن يتحقق؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((اتبعوا السواد الأعظم)) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بالجماعة والعامة)). ومن ثم فإن الالتزام برأي علماء الأمة وفقهائها يؤدي دوما، وأبدًا إلى الرأي الصحيح في معظم الأمور.
ونتحدث الآن عن الشورى، ومبدأ سيادة الأمة، فنقول: يرى بعض العلماء من المحدثين أن مبدأ الشورى في الإسلام ينطوي على الأخذ بمبدأ سيادة الأمة، وهم يستندون في رأيهم هذا إلى بعض الأسانيد كما يستندون إلى آيات من القرآن الكريم، يعتقدون أنه يمكن أن يستنبط من معناها ما يؤيد رأيهم، وسوف نورد فيما يلي الأسانيد المختلفة التي يعتمدون عليها، ثم نعقب ذلك بالرد عليها، ومناقشتها: أولا: يقول أولئك العلماء أن الأمة في الإسلام تعد صاحبة الحق في تولية رئيس الدولة، ولها كذلك الحق في عزله عن منصبه إذا رأت المصلحة العامة في ذلك، وهذا يعني: أن رئيس الدولة إنما يستمد سلطته من الأمة، والأمة على هذا تعتبر مصدر السلطات، وصاحبة السيادة والعلاقة بين الأمة، وبين رئيس الدولة الذي تختاره هي علاقة تعاقدية أي: تقوم على أساس فكرة العقد الاجتماعي، وتبدو العلاقة التعاقدية هنا في نيابة أهل الحل، والعقد عن الأمة في مبايعة رئيس الدولة، فأهل الحل والعقد في الواقع إنما يمثلون الأمة صاحبة السيادة. ثانيا: ويستدل هؤلاء العلماء ببعض آيات من القرآن الكريم، وببعض الأحاديث النبوية الشريفة يرون أنه يمكن أن يستنبط منها الدليل على أن الإسلام يأخذ بمبدأ سيادة الأمة، فمن تلك الآيات قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: من الآية: 135) فكأن الله تبارك وتعالى يخاطب الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَا شُهَدَاءَ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: من الآية: 2) فهم يستنبطون من هذه الآيات أن الله -تبارك وتعالى- يخاطب جميع المسلمين، وهم يستنبطون من ذلك أن الأمة إنما هي أساس السلطات كما هم يقولون. وبجانب هاتين الآيتين ففي القرآن الكريم آيات أخرى عديدة، نجدها كذلك يتجه الخطاب فيها مثلهما إلى الأمة الإسلامية، مما يمكن أن نستدل منه على أن تلك الأمة هي التي تحمل مسئولية إقامة شريعة الله تعالى، ورعاية المصالح العامة، وهي تعد بهذا مصدر السيادة وأساس السلطات من وجهة نظر الإسلام. ويربط الأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودي بين مبدأ الشورى في الإسلام، وبين مبدأ سيادة الأمة ربطا تاما، فنراه يقول: ومبدأ سيادة الأمة الذي نص عليه الإسلام في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وفي قوله سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} هو المبدأ الذي وصلت الإنسانية إلى إقراره بعد كفاح طويل؛ ولذلك يجب أن يستمر هذا المبدأ في ظل الدولة الإسلامية، ويقول الأستاذ المودودي أيضا: ووجود البرلمان كسلطة للرقابة إلى جانب أن الحاكم نفسه يتم انتخابه عن طريق الشعب في الدولة المسلمة، يكفلان سيادة الأمة. وأما الأحاديث النبوية الشريفة، فيذكرون منها أي: هؤلاء الذين يربطون بين الشورى وبين مبدأ سيادة الأمة، نقول يذكرون من الأحاديث في هذا الصدد قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) فإن هذا الحديث الشريف يفيد فيما يرون أن الأمة الإسلامية متى اجتمعت على رأي معين، كان هو الصواب ويجب أن يؤخذ به؛ لأنه صدر من صاحب الحق في السيادة أي: من الأمة،
الرد على هذا الرأي الذي يربط الشورى بمبدأ سيادة الأمة، فنقول: إن تلك المحاولة للرد بين مبدأ الشورى كما جاء به الإسلام، وبين مبدأ أو نظرية سيادة الأمة بمفهومها المعروف في الفقه الدستوري الحديث، ليست إلا محاولة لخلق مشكلة فقهية بالغة التعقيد، وإنه ليبدو لنا أن الذي دعا أولئك العلماء إلى محاولة الربط بين المبدأين المذكورين، وهو الشورى وسيادة الأمة، هو محاولة التقليد، ونزعة التأثر بآراء العلماء والفقهاء الغربيين، وكذلك خشية أولئك العلماء أن يعاب على التفكير الفقهي الإسلامي أنه لا يوجد به مكان لكل نظرية سياسية أو دستورية قديمة أو حديثة، فكأنهم بذلك يجارون المصطلحات التي تأتي لنا من فقهاء القانون الغربيون. بيد أن تلك المحاولة للربط بين المبدأين، وإيجاد علاقة بينهما هي في الحقيقة محاولة لا تستند إلى أساس علمي سليم، ويمكن الرد على تلك الأسانيد التي سبقت لتبريرها بما يأتي: أولا: أن مبدأ سيادة الأمة هو ثمرة نظرية حديثة المنشأ، فرنسية المنبت فقد كان فيلبو الفرنسي هو أول مفكر تكلم عن فكرة سيادة الأمة، وذلك في عام 1414 ميلادية، حين قرر أمام الهيئة النيابية التي كانت تمثل الطبقات في فترة ما قبل الثورة الفرنسية، وذلك عند بحث موضوع الوصاية على الملك القاصر شارل الثامن، يقرر أن الشعب الفرنسي هو وحده صاحب السيادة، وهو الذي يهب الملك هذا الحق، فطالما أن الملك قاصر، فإنه يكون للشعب الفرنسي أو الجمعية النيابية التي تمثله الحق في الوصاية عليه هذا مع ملاحظة أن الأمراء الفرنسيين كانوا يرون في ذلك الحين أنهم هم وحدهم أصحاب الحق في تنظيم الوصاية على
الملك القاصر، دون الشعب الفرنسي، ولما جاءت الثورة الفرنسية، قررت أن السيادة للأمة وحدها، فليس من صواب الرأي إذا أن نحاول إرجاع جذور تلك النظرية إلى أحكام الإسلام، وإلى التفكير الإسلامي القديم، فنحن لا نجد في كتابات الفقهاء، والمفكرين المسلمين القدامى أية إشارة إلى نظرية سيادة الأمة، أو الاعتماد على مفهومها أو نتائجها كما أننا لا نجد عندهم هذه المحاولة للربط بين مبدأ الشورى، وبين مبدأ سيادة الأمة، كما فعل ذلك أولئك العلماء المحدثون في عصرنا الحاضر. والواقع أننا نجد أن المفهوم الحديث لمبدأ سيادة الأمة لم يتضح إلا في إعلان حقوق الإنسان الفرنسي، وهو الإعلان الذي أصدرته الجمعية الوطنية في 26 أغسطس 1789 ونصت المادة الثالثة منه على أن الأمة هي صاحبة السيادة، ومستقرها، وقد تكرر النص على مبدأ سيادة الأمة في دستور 1791 ثم نص عليه بعد ذلك في دستور السنة الثالثة عام 1795 وهكذا جعلت الثورة الفرنسية من نظرية سيادة الأمة قاعدة دستورية عامة أخذت في الذيوع والانتشار في معظم الدول. ثانيا: أن مفهوم الأمة في الإسلام يختلف كثيرًا عن مفهوم الأمة في الفقه الدستوري الحديث، فبينما يعرفها هذا الفقه بأنها جماعة من الناس مستقرة على بقعة معينة من الأرض، وتجمع بين أفرادها الرغبة المشتركة في العيش معا، إذ بنا نجد أن الأمة في الإسلام لها مدلول آخر يختلف عن ذلك المفهوم، فأحيانا قد يقصد بلفظ الأمة بعض أفرادها فحسب، وليس كل الأفراد، وذلك يتضح من قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) فهنا نجد أن قول الله تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} يستفاد منه أن المقصود بالأمة ليس كل أفراد المسلمين، وإنما يتجه الخطاب إلى قسم منهم، فحسب بدليل وجود لفظ {مِنْكُمْ}. والراجح لدى علماء التفسير أن تلك الجماعة من الأمة التي يريدها الله أن تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، هي جماعة المؤمنين، وظاهر أن الأمة بهذا المعنى أي: باعتبارها جزءا فحسب من جماعة الناس هو أمر لا يتفق مع مفهوم الأمة الذي تعرفه نظرية سيادة الأمة في القانون الوضعي بمعناها الفقهي الحديث، وحتى بالنسبة للآية التي استند إليها نفر من العلماء كدليل على أن الإسلام يأخذ طبقا لمبدأ الشورى بمبدأ سيادة الأمة، وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: من الآية: 135) فإننا نجد أن الخطاب في هذه الآية موجه إلى الذين آمنوا، وهم قليل من المسلمين وليس كل أفراد الأمة بمعناها المعروف. ومن الردود أيضا على هذه النظرية التي تربط بين الشورى، وبين مبدأ سيادة الأمة، نقول: وحتى بالنسبة للنتائج التي تترتب على مبدأ سيادة الأمة، فإننا نجد اختلافا كبيرا بين الفكر الإسلامي، والفكر الدستوري حول هذا الموضوع، فإحدى نتائج هذا المبدأ أن يكون لإرادة الأمة السلطة العامة أو السيادة التي لا توجد سلطة عليا أخرى أعلى منها، ومظهر تلك السلطة هو القانون الذي يعبر عن سيادة الأمة، ولكن كيف نطبق ذلك بالنسبة للإسلام، وهل يمكن أن يكون التشريع في الإسلام هو التعبير عن إرادة الأمة التي نجد غالبية أفرادها مسلمين اسما فحسب، أم أن التشريع على عكس ذلك؟ إنما يعبر أولا بالنسبة للإسلام عن أحكام الشريعة الإسلامية، وأن هذه الأحكام هي التي يجب أن يكون لها السيادة أو السلطة العليا؛
ولذلك نجد أنه يبدو غريبا حقا أن بعض علمائنا ومفكرينا يحاولون أن يدخلوا أو أن يدخلوا تحت راية الإسلام نظرية غريبة عليه في الوقت الذي نجد فيه بعض كبار الفقهاء الدستوريين هنا، وفي الغرب يهاجمون تلك النظرية أي: نظرية سيادة الأمة، ويرون أن تلك الظروف التاريخية التي أدت إلى استنباطها قد أصبحت في ذمة التاريخ أي: أنه لم تعد بنا حاجة إليها في عصرنا الحاضر ذلك فضلا عن أنها تعد خلافا لما يعتقده الكثيرون خطرًا على الحريات. والخلاصة إذا أنه لا يصح الربط بين مبدأ الشورى في الإسلام، وبين مبدأ أو نظرية سيادة الأمة، فإن الإسلام ليس بحاجة إلى إثارة تلك المسألة أو المشكلة التي لا تؤدي إثارتها إلى حل مشكلة من المشكلات في التفكير الإسلامي، وإنما تؤدي إلى خلق مشكلة جديدة ما أغنى ذلك التفكير عنها. ونتحدث الآن أيضا عن مبدأ الشورى ونظام الانتخاب، هناك رأي يقول بأن مبدأ الشورى في الإسلام ينطوي على الأخذ بنظام الانتخاب العام، أي: أن هذا الرأي يرى أن مبدأ الشورى يترتب عليه وجوب الأخذ بنظام الانتخاب العام، ويذهب بعض العلماء إلى القول بأن مبدأ الشورى في الإسلام ينطوي على الأخذ بنظام الانتخاب العام، وهم في هذا يستندون إلى بعض الحجج والأسانيد، وإلى آيات من القرآن الكريم، وأحاديث من السنة الشريفة، وسوف نرد على هذا الرأي بعد أن نعرضه أولا بأدلته وأسانيده. فالأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودي يفرق بين حق الانتخاب، وبين الحق في الترشيح.
أما الأهلية لممارسة حق الانتخاب، فيرى أنه يحوزها كل واحد من أهالي البلاد البالغ عددهم إلى الملايين، ومئات الملايين، وهو لا يشترط لهذه الأهلية ما يحول دون تطبيق مبدأ الانتخاب العام، ويذكر أن بعض مواد الدستور العملية تكفي لبيان مقاييس وشروط تلك الأهلية. ويرى بعض العلماء أن أمر الله تعالى بالشورى في القرآن الكريم في آيتي {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} (الشورى: من الآية: 38) وكذلك ما أمر الله به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية: 110) ثم في قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) يرون أن هذه الآيات كلها يمكن أن يؤخذ منها الدليل على أن الإسلام حين قرر مبدأ الشورى، فقد رتب على هذا المبدأ الأخذ بنظام الانتخاب العام، فإن خطاب الله تعالى في هذه الآيات الأخرى التي تماثلها إنما هو موجه إلى الأمة كلها، فالشورى بين كل أفرادها؛ لقوله -سبحانه وتعالى-: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تختص به الأمة بكل أفرادها، ولكن نرد على هذا الرأي، ونقول وفي رأينا أن ذلك رأي قد جانبه التوفيق، وذلك لأسباب: أولا: لقد سبق أن ذكرنا أن أمر الله تعالى بالشورى لا يؤدي بالضرورة إلى أن تكون المشاورة لكل أفراد الأمة، أو لكافة المسلمين، وقد رأينا كيف كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون من بعده يستشيرون عناصر، وفئات معينة، فإن المرء لا يستشير عادة إلا من كان أهلًا لإبداء رأي سليم، والقرآن الكريم نجد أنه قد تكررت فيه الآيات التي تنص على أن الرأي، والفضل والعلم ليست من صفات أكثر الناس
على التعميم، فليس من الصواب إذا أن تكون المشورة لأكثرية الناس، وإنما يجب أن نرجع في الشورى إلى أهل الرأي والحكمة بدليل قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: من الآية: 83) ويقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر: من الآية: 9). ثانيا: ومن الرد عليهم أيضا نقول لهم: وأما عن استدلال الأستاذ المودودي، وغيره بقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} على أنها توجب الأخذ بنظام الانتخاب العام، فإنه استدلال قد جانبه التوفيق والحكم في ذلك هو تفسير هذه الآية، وما ترمي إليه كما ذكره المفسرون؛ ولذلك نقول لأصحاب ذلك الاستدلال إن مذهب المعتزلة قد قام على خمسة مبادئ أساسية معروفة أحدها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورغم ذلك فإننا لا نجد أولئك المعتزلة يفسرون هذه الآية بما يجعل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبا على كل الناس، بدليل أننا نجد عالما كبيرا من علمائهم المفسرين، وهو الإمام الزمخشري يفسر هذه الآية تفسيرا يبعد تماما عن المعنى الذي يستند إليه من يستدل بها على إيجاب الإسلام لنظام الانتخاب العام، فهو يقول: إن النهي عن المنكر من فروض الكفايات لا فرض عين؛ لأنه لا يصلح له إلا من علم كيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشره، ثم إن النظر في هذه الآية لا يعطي دلالة على العموم، والإطلاق فمن يقومون بالمعروف والنهي عن المنكر فهي تقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} ومنكم تعني البعض، وليس كل الأمة، أو كل الناس، ولو أراد الله تعالى أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا على كل الناس لذكره.
وإذا كان الكل سوف يأمرون بالمعروف، وسوف ينهون عن المنكر، فمن إذا سيأمرون، ومن إذا سينتهون، ونجد مثل هذا الرأي كذلك عند ابن كثير الدمشقي، فهو يقول في تفسير نفس هذه الآية: إن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعد واجبا على كل فرد بحسبه أي: بحسب مقدرته، إلا أن من يقصدون بهذه الآية هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة أي: المجتهدين والعلماء. ومما تقدم نرى خطأ ما يراه بعض رجال العلم من أن الإسلام يفرض الأخذ بنظام الانتخاب العام، باعتباره من مقتضيات أو نتائج مبدأ الشورى الذي فرضه الإسلام على أنه مما تجدر ملاحظته أنه، إذا لم يكن في القرآن ولا في السنة ما يفرض الأخذ بنظام الانتخاب العام، فإنه ليس ثمة ما يحول في بلد إسلامي دون الأخذ بهذا النظام إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ لأن تفصيل النظم الدستورية، والطرق التي تكون بها الشورى، هو من الأمور التي تختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية فمن الحكمة، واليسر بالناس أن نجد الإسلام بعد أن قرر الشورى قد ترك لكل أمة أن تضع نظمها التفصيلية بما يلائم حالها، ويتوافق مع مصلحتها. ففرق كبير إذا بين الرأي الذي نعارضه، وهو القائل بفرض نظام الانتخاب العام في كل زمان، ومكان وبين هذا الرأي الذي ذكرناه من أنه ليس ثمة ما يحول بين المسلمين، وبين الأخذ بنظام الانتخاب العام، إذا رأوا مصلحتهم فيه. فإن الرأي الذي عرضناه يجعل من نظام الانتخاب العام مسألة دينية واجبة، أما ما نؤيده فهو اعتبار هذا النظام مسألة اجتماعية سياسية وبذلك تنتفي عن الشريعة الإسلامية صفة الجمود، ويستبين جوهرها الذي يتسم فيما يتعلق بالمعاملات بسمات المرونة، ومسايرة التطور ومراعاة المصلحة.
وأخيرا فإننا إذا توخينا الحقيقة والصواب، فإننا سوف نجد أن النظام الأقرب إلى مبدأ الشورى في الإسلام هو نظام الانتخاب الذي يطلق عليه اسم الانتخاب المقيد، وليس نظام الانتخاب العام، وهذا الاتجاه يؤيده عدد من العلماء والباحثين في المسائل الدستورية والإسلامية، فالأستاذ الكبير بارت لملي يرى أن إسناد الأمر في الأمة للنخبة الممتازة من أبنائها لا ينافي مبدأ المساواة بين المواطنين بل إن ذلك يتفق مع التعريف المأثور عن أرسطو فهو يقول: المساواة هي: ألا نضع على قدم المساواة شيئين غير متساويين. وقد رأينا في كلامنا عن الشورى في الإسلام أن العبرة في تحديد أهل الشورى، كانت بصفاتهم لا بعددهم، وأن الكثرة والأغلبية لا تعني الأفضلية تماما، وكما يقول الأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودي: إن الإسلام لا يجعل كثرة العدد ميزانا للحق وللباطل، يقول تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (المائدة: من الآية: 100) بل إننا على العكس نجد أن القرآن الكريم يحذرنا دائما من رأي الكثرة، فإنه ليس صوابا دائما بل إنه قد يؤدي إلى الضلال والبوار، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (المائدة: 116). بيد أنه يلاحظ أن القيد الوحيد الذي يقره الإسلام فيما يتعلق بممارسة الحقوق السياسية كالانتخاب هو قيد الكفاءة وحدها، بغض النظر تماما عن أي قيد آخر كالأصل أو المهنة أو المال. نكتفي بهذا القدر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام.
الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام.
العدالة.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام) 1 - قواعد النظام السياسي في الإسلام (4) العدالة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن الشورى في الإسلام كقاعدة من قواعد النظام السياسي في الإسلام، وبينا مدى ارتباطها بنظرية سيادة الأمة، ومدى ارتباطها بمبدأ وجوب الانتخاب العام لكل الناس. وبعد انتهائنا من الحديث عن الشورى، نتحدث عن قاعدة أخرى من قواعد النظام السياسي في الإسلام، وهي العدالة، والعدالة هي نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخر من خلاق، ومتى لم تقم بالعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة؛ ولذلك كان تنبيه الله -سبحانه وتعالى- في قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: من الآية: 58) ورد هذا النص في مجال وجوب طاعة الله تعالى، وطاعة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- وأولي الأمر من ولاة وحكام المسلمين، فهو نص في الموضوع يتعين الالتزام به، وتمثله في كل أوجه الحكم والسياسة الإسلامية، بحيث لا يجوز التخلي عنه أو الإخلال به. لذلك كان الحث عليه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: من الآية: 90) وقوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: من الآية: 8) فإن مقتضاها أن الحاكم مأمور أن يحكم بين الناس جميعا بالعدل سواء في ذلك القوي والضعيف والغني والفقير والمسلم، وغير المسلم والصديق والعدو، ونظرا لما له من أهمية في استقامة حياة الأمم والمجتمعات، وأنظمة الحكم والسياسة أيا كان نوعها، قيل: إن الله يقيم للدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. إذا فقهت ذلك أيقنت أن كثيرًا من المساوئ التي تحل بالدول ناتج عن آفة الظلم بما يؤدي إليه من ضياع الحقوق، وفقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، ومن تفشي مظاهر السلبية والأمراض الاجتماعية المقترنة بالسلطة الفاسدة، مثل الرشوة
وخيانة الأمانة، والاتجار بمصالح الرعية وسيطرة الإحباط واليأس على النفوس، وقد يمهد هذا إلى أن يصبح المجتمع على حافة الانهيار، ويكون المجال مهيأ لحدوث الفتن واندلاع الاقتتال بين أبناء الدين والوطن الواحد. لعل من أبرز مظاهر العدالة هو تطبيق العدل في علاقة الحاكم بالمحكوم، فهو من أقوى الدلائل على الالتزام بالعدالة، وإذا كانت الدولة تطبق ذلك، وتقره في سياستها، فلا شك أن من اليسير أن تستنتج أن هذه الدولة دولة عادلة في جوانب سياستها كلها؛ لأن الالتزام بجريان العدالة بين الإمام، وأحد أفراد الشعب دليل ناطق على جريانه في المستويات الدنيا على مستوى الدولة. وقد كانت العدالة تحتل جانبا هاما من جوانب المنهج الإسلامي على المستويات العليا، والدنيا، وليس أدل على ذلك من تطبيق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك على نفسه، إذ يروى عنه: ((أنه خرج أثناء مرضه الذي توفى فيه، خرج بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب حتى جلس على المنبر، ثم قال: أيها الناس، من كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهري فليستقد منه -أي: فليقتص منه- ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخشى الشحناء من قبلي؛ فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقًّا إن كان له، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس، ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع إلى المنبر، فعاد لمقالته الأولى)) إن تحليل هذا القول من النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيان ما فيه من جوانب العدالة، يريك أن العدالة شاملة، وليست خاصة بجانب معين في علاقة الحاكم بأحد أفراد شعبه، فقد شملت العدالة النواحي الآتية:
1 - العقوبات البدنية، وهذا ظاهر في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهري فليستقد منه)). 2 - العقوبات المتعلقة بالشرف والعرض، وهذا يستفاد من قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضي فليستقد منه)). 3 - العقوبات المالية، وذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ومن أخذت له مالا، فهذا مالي فليأخذ منه)). ثم إنك تدرك من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- قمة الامتثال في أداء واجب العدالة، يتجلى ذلك في قوله: ((إلا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له، أو حللني فلقيت ربي، وأنا طيب النفس)) وهذا يجعل المرء يستيقن من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يؤكد واجب المسلمين في اقتضاء حقوقهم أو العفو عنها إن كانت نفوسهم تسمح بذلك. ونظرا لهذه القيم العالية التي يغرسها العدل في الراعي والرعية، فإن خلفاء المسلمين كانوا أحرص الناس على تطبيق العدل بين من ولوا أمرهم، وكانوا يتحرون ذلك مخالفين لداعي الهوى، واتباع ما توسوس به النفس البشرية للإنسان من ظلم من يبغضه، ومن الإفراط في التودد إلى من يحب، وكلاهما مجانب للعدل، والتمس ذلك في سيرتهم تجده واضحا جليا لا خفاء فيه، وأن رصيدهم في تحري العدل، والتمسك به فاق أرصدة الدول الأخرى مجتمعة. يروى في ذلك أن عمر بن الخطاب قال لأبي مريم السلولي، وكان هو الذي قتل أخاه زيد بن الخطاب: والله إني لا أحبك فقال له هذا الرجل: أفيمنعني ذلك حقا؟ يعني: عدم حبك لي هل يكون سببا في أنك تمنع عني حقا من الحقوق التي قررها لي الإسلام، أفيمنعني ذلك حقا؟ فقال: لا يعني: بغضي لك، وعدم حبي لك، لا
يؤثر إطلاقا في الحقوق التي قررها لك الإسلام، فقال له الرجل: فلا ضير إذا إنما يأسى على الحب النساء, ففي هذه القصة نجد أن الحاكم رغم أنه موتور، ومتضايق بسبب قتل أخيه، ورغم حفيظة صدره عليه، فإن الرجل لم يعبأ بكل ذلك، فقد اطمأن إلى العدل كإحدى خصال المنهج الإسلامي، ولا يفتأ الحاكم إلا أن يقف أمامه موقف المتعبد في محرابه، الممتثل لأوامره، ولا يلبث الآخر إلا أن يجيب على الخليفة الذي بيده السلطة عندما صارحه بأنه يبغضه يرد عليه بلهجة الواثق إلى أن قضاء العدل أضمن له من قوة وسلطة الخليفة؛ ولذلك كانت إجابته ببساطة "لا ضير" يعني: لا خوف من ذلك، وأي ضرر من رعية تعرف منهج الحق، وراع من أحرص الناس على تطبيقه، والالتزام به. تعتبر العدالة مقصدا عاما لكافة التشريعات التي يضعها الإنسان لحكم العلاقات الاجتماعية، وحكمة رئيسية تدور حولها مختلف القوانين؛ لذا يقال: بأن أي قانون لا بد، وأن يعتمد على شيء من العدالة. ونجد أن أجهزة تطبيق القانون تسمى بأجهزة العدالة، فيقال عن المحاكم أنها دور العدالة، ويقال وزير العدل، ولا يقال وزير القانون، وإذا كانت المحاكم تطبق القانون إلا أن هدفها هو تحقيق العدالة، ومن هنا فإن القانون ليس في النهاية إلا وسيلة لتحقيق العدالة، وإذا حدث أن التطبيق القانوني قد تجافى مع العدالة لسبب أو لآخر، فيجب أن يقوم القاضي بالتدخل لتخفيف وطأة الحكم القانوني أو لتكملة النقص فيه أو لطرحه في بعض الأحيان، ووضع الحل الذي يتفق مع العدالة. ويختلف الأمر في الشريعة الإسلامية عنه في التشريعات الوضعية، فيما يتصل بوضع العدالة كهدف لا تؤثر فيه السياسة، ولا تؤثر فيه المنافع ولا تؤثر فيه
الأهواء الشخصية للحكام؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- ألزم نفسه بالعدالة مع خلقه، وألزمهم بها في تعاملهم بعضهم مع بعض؛ لذا يتجلى الإعجاز القرآني في الآيات الكريمة التي تحدثت عن العدالة، فجعلتها قيمة مقدسة يجب دائما الوصول إليها أيا كان الضرر الذي يظن تحققه منها. ويقول الشيخ أبو زهرة في هذا المعنى: إن سمة الإسلام العدالة، يعني: من الأشياء التي يتصف بها الإسلام العدالة، وكل تنسيق اجتماعي لا يقوم على العدالة هو منهار، مهما تكن قوة التنظيم فيه؛ لأن العدالة هي الدعامة، وهي النظام، وهي التنسيق السليم لكل بناء، فالله -سبحانه وتعالى- سيعامل الناس يوم القيامة بعدالة كاملة، ولن يترك شيئا لا يحاسب عليه، فيجازي المحسن، ويعاقب المسيء بالقسط؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: 47) ويقول سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} (الزلزلة: 8،7) وأوصى الله سبحانه وتعالى رسله وعباده بأن يقيموا العدالة في الأرض فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) كما يقول سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: 112).
صور العدالة في القرآن.
وهكذا تظهر الآيات السابقة العدل كقيمة أخلاقية سامية، يجب اتباعها في الحياة وفي المعاملات وفي استنباط الأحكام بشكل عام، وينبهنا الحق -تبارك وتعالى- إلى ضرورة الحكم بالعدل في الخصومات، والأقضية في العديد من الآيات الأخرى مثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) ويقول أيضا: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: 42). وفي مجال العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى يقول -سبحانه وتعالى-: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 42). صور العدالة في القرآن والواقع أن حصر ما ورد في القرآن الكريم بشأن العدالة، وضرورة الوصول إليها في أي نظام تشريعي، إنما هو من الأمور الصعبة، إذ لا أكون مبالغا إن قلت: إن كافة الآيات الكريمة التي رسمت أسلوب الحياة للناس، ووضعت مناهج للسعي في الأرض ترتبط بالعدالة، وتجعلها مقصدًا رئيسيًّا لها؛ لذلك نكتفي بذكر أمثلة من هذه الآيات، وردت بالنسبة لبعض صور المعاملات. فنتحدث عن العدالة الاجتماعية، فنقول: يعتبر تقسيم العدالة إلى عدالة التوزيع، وإلى عدالة التعويض أو التبادل، هذا التقسيم هو أهم التقسيمات المقررة للعدالة، عندنا عدالة التوزيع، وعندنا عدالة التعويض أو التبادل، وتنجلي الصورة الأولى في توزيع الجاه والمال، وكل ما
يمكن قسمته بين هؤلاء الذين يعترف بهم الدستور، فيجب أن يقوم نوع من التوزيع النسبي للمزايا الاجتماعية، وللأعباء كذلك على كافة المواطنين بحسب قدرتهم، وإمكانياتهم، ودرجة مساهمتهم في تحمل أعباء المجتمع. ونجد القرآن الكريم يعبر عن هذه الصورة من صور العدالة في العديد من الآيات الكريمة من ذلك قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (الحشر: من الآية: 7) وعلى أساس هذه الآية قام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بمنع توزيع الأراضي المفتوحة على الفاتحين. وتفصيل ذلك أنه عندما توسعت الدولة الإسلامية، وانضم إليها العديد من الأقاليم الجديدة بالفتح اختلف عمر -رضي الله عنه- مع الصحابة في طريقة التصرف في الأرض أي: الأرض التي غنمها المسلمون، وبينما مال الغالبية إلى قسمتها بين الفاتحين وفقا لآية الغنائم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (الأنفال: من الآية: 41) فآية الغنائم إنما تعني: أن يكون الخمس لله وللرسول، والأربعة أخماس للغانمين هذه هي آية الغنائم، نقول: مال الغالبية إلى قسمة هذه الأراضي بين الفاتحين وفقا لآية الغنائم التي ذكرناها لكنه اعتمد هو أي: عمر بن الخطاب، وهو الذي كان يرى ألا توزع الأرض على الفاتحين أو المقاتلين، وإنما تبقى في يد أصحابه ويدفعوا عنها الخراج؛ ليكون موردا ماليا للدولة الإسلامية تستطيع أن تنفق منه على المصروفات العامة في الدولة الإسلامية. نقول: اعتمد هو على الآيات الكريمة التي ذكرناها، ورفض التقسيم ووضع قاعدة مؤداها ترك الأرض لأهلها، وفرض خراج عليها حتى يمكن الاستفادة منه في الصرف على المرافق العامة للمسلمين كافة،
فقد فهم -رضي الله عنه- هذا النص على أنه يعني: ترجيح مصلحة الأمة الإسلامية التي تقتضي بعدم استئثار فئة من الناس بتملك الأراضي؛ لأن ذلك مخالف للعدالة، وللنص القرآني: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وللنص القرآني الذي أكمل الآية التي ذكرها عندما عدد فئات من يستحقون، وذكر في آخرهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} وأخذ عمر بن الخطاب يدافع عن وجهة نظره، وهو أن تبقى الأرض بيد أصحابها، ويفرض عليها الخراج كما قلنا، أخذ يدافع عن وجه نظره بقوله: "أرأيتم هذه الثغور لا بد من رجال يلزمونها ثغور يعني: الأماكن التي يكون فيها الجنود يدافعون عن الدولة الإسلامية، أرأيتم هذه الثغور لا بد من رجال يلزمونها أرأيتم هذه المدن العظام كالشام ومصر والكوفة لا بد لها أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إن قسمت الأرضين؟ يعني إن قسمت بين الغانمين، وهكذا أعمل عمر بن الخطاب قاعدة العدالة التوزيعية، أو ما يطلق عليها حديثا العدالة الاجتماعية، فقد رأى ضرورة حصول جماعة المسلمين على موارد تنفق على المحتاج منهم، وعلى رعاية المصالح العامة، وإدارة المرافق في الدولة الإسلامية، ورجح هذه المصلحة على مصلحة قلة من الغزاة والفاتحين وأبناءهم كان ريع هذه الأرض كلها سيذهب إليهم دون بقية المسلمين، ومن ذلك يمكن القول أننا أمام نص محكم، يحدد ضرورة استفادة كل الناس بالأموال العامة، لا الذين يوجدون منهم وقت تكوينها فحسب بل الذين يأتون من بعدهم، هل يمكن تصور نص وضعي يعنيه ذلك الآن؟ صراحة لا أظن ذلك، ونرى أيضا تطبيقا يدل على عبقرية مبكرة وقدرة على النفاذ إلى حكمة من حكم التشريع الإسلامي في وقت ما كانت فيه مدارس، ولا معاهد ولا جامعات، ولكنها جامعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومدرسة القرآن الكريم.
وبالنسبة للصورة الأخرى من صور العدالة أي: العدالة التعويضية أو التبادلية، فهي تلعب دورًا تصحيحيًّا في العلاقات التي تتم بين الأفراد وتتطلب ألا يأخذ أحد في العقود والمعاوضات أكثر مما يستحق، وعليها تم بلورة ضرورة قيام توازن مالي واقتصادي في العقود، والصفقات ونرى هذا المقصد واضحا أيضا بشكل معجز في القرآن الكريم، والسنة الشريفة. فالقرآن الكريم يمنع أي استغلال في التعامل، ويوجب أن تقوم العقود على أسس متوازنة، ولا شك أن حرص القرآن الكريم على سلامة التعامل والتوازن بين أطرافه لا يواتيه أي حرص لأي مشروع آخر في أي قانون، ولن ننظر طويلا في التشريعات الإسلامية في هذا الشأن، وإنما سأكتفي بما ورد بشأن الربا في القرآن يقول -سبحانه وتعالى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 275) ويشدد الله -سبحانه وتعالى- النكير على من يأكلون الربا، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 278، 279). ويصل القرآن الكريم بالناس إلى قمة المسئولية في هذا المجال، فلا يجعل المال ينتج مالا في حالة التأخر في السداد لعذر فيقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (البقرة: 280، 281).
مسئولية الحكام.
وهذا معناه أن العدالة التي ينشدها الإسلام هي عدالة في كل المجالات، عدالة من ناحية الحكم، عدالة من ناحية الاقتصاد في كل المجالات، فحرص الإسلام على أن تكون هناك عدالة بين المتعاملين، على ذلك فالذين يتعاملون بالربا ليس هناك عدالة، فالمرابي يأكل أموال الناس بالباطل، وليس هناك عدالة فيما يأخذه، وفيما يعطيه؛ ولذلك وجدنا موقف الإسلام حازمًا من أجل توجد تلك العدالة في كل صورها سواء في الاقتصاد، أو في الحكم. مسئولية الحكام ثم ننتقل الآن إلى الحديث عن قاعدة أخرى من القواعد التي يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام، وهي مسئولية الحاكم، فنقول: يتميز النظام السياسي الإسلامي عن غيره من النظم السياسية كافة بتقرير مبدأ "المسئولية" حيث لا يوجد في الإسلام من يمكن أن يكون بمنأى عنها ذلك؛ لأن عدم المسئولية يعني: أن غير المسئول يحتل مكانا مقدسا، أو كونه معصوما، وليس في الإسلام من يحتل هذه المكانة سوى الأنبياء، والرسل. وكل مسلم مسئول عن تصرفاته وأفعاله سواء أكانت هذه التصرفات والأفعال متعلقة بالواجبات الفرضية التي خاطب بها المشرع الإسلامي كل مكلف، وحتم عليه القيام بها، أو كانت متعلقة مع نفسه، أو مع الغير، ففي كل هذه الأحوال يكون المسلم مسئولا أمام الله -عز وجل- في الآخرة إلى جانب أنه مسئول في الدنيا أمام ضميره من ناحية، ومن ناحية أخرى أمام المجتمع الإسلامي. ونحن إذا كنا نسلم مع فضيلة الشيخ/ أحمد هريدي بهذا المبدأ؛ لأنه من القواعد القطعية في الفقه الإسلامي، إلا أننا لا نسلم له القول، وتبدو مسئولية الفرد تارة أمام نفسه، وضميره، وتارة أمام ربه -سبحانه وتعالى- وتارة أمام الناس والمجتمع؛ لأن هذا القول يومئ أنه في بعض الحالات يمكن أن يكون الفرد مسئولًا أمام نفسه
وضميره، أو مسئولا أمام المجتمع، ولا يكون مسئولا أمام الله -عز وجل- وهذا ما لا نقبله، ونعتقد أن الشيخ لا يعارض في ذلك؛ لأن المسئولية تتحدد أولا وقبل كل شيء أمام الله -عز وجل- وفي كل الحالات. ولذلك سوف نتحدث الآن عن أساس مشروعية المسئولية نقول: دلت مصادر المشروعية الإسلامية على تقرير قاعدة المسئولية، وعمومها؛ لتشمل جميع التصرفات، وكافة المخاطبين بأحكام الشريعة سواء الحاكم أو المحكوم على حد سواء، وهو ما يتضح من القرآن الكريم والسنة النبوية، والتطبيق العملي في عهد الخلافة الراشدة. أساس مشروعية المسئولية في الإسلام دلت مصادر المشروعية في الإسلام على قاعدة الشورى، كصرح متين يقوم عليه ليس فحسب النظام السياسي الإسلامي، وإنما النظام الإسلامي كله، ويتضح ذلك من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، والتطبيق العملي في عهد الخلافة الراشدة، وما أجمع عليه علماء الأمة. ففي القرآن الكريم يقول الله -سبحانه وتعالى-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} (الزلزلة: 7،6) ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: من الآية: 47) ويقول سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38) ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال: 27) ويقول سبحانه وتعالى أيضا: {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الجاثية: 22) ويقول سبحانه وتعالى: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) ويقول سبحانه وتعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور: من الآية: 21) ويقول -سبحانه وتعالى-: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (آل عمران: من الآية: 30). فهذه الآيات جميعها تقرر بنصوص قطعية قاعدة المسئولية بحيث تشمل المسئولية في الدنيا، والمسئولية في الآخرة. ومن السنة النبوية الشريفة نذكر ما روي عن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها، وولده وهي مسئولة عنه، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) وعلى ذلك فليس في الإسلام من يمكن أن يكون بمنأى عن المسئولية بحيث تتدرج المسئولية لتتوازى مع السلطة ابتداء من رئيس الدولة حتى العبد في مال سيده. وأيضا ما جاء في خطبة الوداع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت فمن كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ائتمنه عليها)) وأيضا ما رواه المؤرخون من: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: خرج في مرضه الأخير من حجرة السيدة عائشة بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم صلى على أصحاب أحد، فأكثر واستغفر لهم، وقال: أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخشى
الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له، أو حللني)). ولم يكن مبدأ المسئولية مبدأ نظريا في الفقه الإسلامي في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو في عهد الخلفاء الراشدين، وإنما أخذ مكانه في التطبيق مثل سائر النصوص القانونية، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو النبي المرسل المعصوم المنزه عن الخطأ، والهوى يقبل القصاص، والقصة كما يرويها ابن سعد: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طعن سواد بن غزية بعود من سواك، فماد في بطنه -يعني: أثر في بطنه- فطلب سواد القصاص -يعني: الذي طعنه النبي صلى الله عليه وسلم طلب القصاص من النبي صلى الله عليه وسلم- ولما استنكر الأنصار ذلك من سواد بادرهم بقوله: ما لبشر على بشر من فضل، ولما كشف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن جسده الطاهر؛ ليقتص منه قال سواد: أتركها لتشفع لي بها يوم القيامة يا رسول الله)). وإذا أردنا أن نذكر السوابق لهذه المسئولية في عهد الخلفاء الراشدين فنقول تدل السوابق بصفة قاطعة أن الخلفاء الأول رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، كانوا يعملون هذا المبدأ ويقررون مسئوليتهم عن كل ما يترتب على ممارسة السلطة العامة. وسنوجز مسلك الخلفاء الأول في هذا الصدد؛ لنتبين كيف كفلوا تطبيق هذا المبدأ، وهو مسئولية الحاكم؟ فأبو بكر -رضي الله عنه- يقول في أول خطبة له بعد توليته الخلافة: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، وكأنه يشير بذلك إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) ويقول أيضًا: فإن رأيتموني استقمت، فاتبعوني، وإن زغت، فقوموني وتقويم الخليفة لا يكون معترفا به كقاعدة مقررة إلا إذا كان مبدأ المسئولية يأخذ مكانه في النظام الإسلامي ذلك
أن التقويم لا يتحقق إلا لكون الخليفة مسئولا، ويجب أن يخضع لحكم القانون، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يرى أنه مسئول ليس فقط عن تصرفاته الشخصية، وإنما عن تصرفات عماله، وولاته، وإعمالا لما كان يراه عمر في مسئولية الحاكم، فإن نطاق المسئولية يمتد في منهجه في الحكم ليشمل مختلف الأنشطة والأماكن والميادين في المجتمع. ولا نرى حاكما في الشرق أو الغرب صور المسئولية كما صورها عمر، ومما يروى عنه -رضي الله عنه- أنه قال: أيما عامل لي ظلم أحدا، فبلغتني مظلمته فلم أغيرها، فأنا الذي ظلمته ولكونه كان يعتبر أنه مسئولا عن عماله، وولاته فإنه كان يشتدد في اختيار الولاة، ولا يختار أحدهم لأي عمل من الأعمال، إلا إذا كانت قد توافرت فيه الشروط التي يتطلبها ذلك العمل في من يقوم به، وكان موثوقا في أمانته، وورعه لذلك فإنه كان يتولى البت في الأمور بنفسه، وما لا يستطع أن يرفع إليه من مشاكل الأقاليم والولايات المختلفة، فإنه يختار لها أهل القوة والأمانة، ومما يؤثر عنه -رضي الله عنه- قوله: فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا هو يتحدث عن العمال، ومن غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فألو فيه الجزء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم، يتكلم عن عماله وكأنه يقسم ويقول: ولئن أحسنوا يعني: أحسنوا إلى الرعية، وعاملوهم برفق وبإحسان وبعدالة لئن لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم، ولكونه مسئولا عن عماله، فإنه كان يتشدد في رقابتهم ومحاسبتهم على تصرفاتهم، وكان يؤكد في مراسلته العديدة لهم، أو في الاجتماعات السنوية التي كان يعقدها في مواسم الحج، ألا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحرموهم
فتكفروهم، ولا تجبروهم فتفتنوهم، وكل من يخالف هذا المبدأ، فإنه يعاقب بالعقوبة المناسبة التي تتلاءم مع الضرر الذي وقع بالمسلمين يروي ابن سعد عن عمرو بن العاص قال لعمر -رضي الله عنه- يا أمير المؤمنين: أرأيت إن أدب أمير رجلًا من رعيته أتقتص منه؟ فقال: عمر وما لي لا أقتص منه! وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه، وما يفهم من هذه الرواية أن المسئولية لا تكون عن التأديب الذي يكون نتيجة لمخالفة الشخص لقواعد الشريعة، وإنما تنصرف المسئولية إلى حالة ما لو أدب الوالي رجلا من الرعية بدون مقتض -يعني: بدون سبب- أو كان هذا التأديب قد تجاوز فيه الأمير السلطة، بأن تحقق عدم التناسب بين الفعل المخالف للقانون، وبين وسيلة التأديب، ففي هاتين الحالتين لا يكون تأديبا، وإنما يكون ظلما لا يقره الشرع، ويجب القصاص مقابلة له، وهو ما يفهم من بقية القصة كما يرويها ابن سعد. كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، يعني: موسم الحج، يعني: يأتوا إليه في موسم الحج، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم؛ ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، وإنما بعثتهم؛ ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيأكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك، فليقم فما قام أحد إلا رجل واحد، قال: فقال يا أمير المؤمنين: إن عاملك فلانا يقصد عمرو بن العاص ضربني مائة سوط، قال: فبم ضربته يا عمرو؟ ولما أيقن عمر أنه ضربه بلا مبرر، قال للرجل قم فاقتص منه أي: اقتص من عمرو بن العاص، فقال عمرو بن العاص يا أمير المؤمنين: إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، ويكون سنة يأخذ بها من بعدك فقال: ما لي لا أقيد، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقيد من نفسه، قال عمرو بن العاص: فدعنا فلنرضه قال: دونكم فارضوه، فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين.
وهكذا كان عمر يتشدد في معاملة أو في محاسبة عماله حتى أنه أراد أن يكون رجل من عامة الناس، ومن الرعية قال: له اقتص من الوالي عمرو بن العاص، وهذا إن دل فإنما يدل على مدى العدالة التي كان يراعيها عمر بن الخطاب مع الرعية، ولقد كان عمر يتشدد في مسئولية الولاة عن تصرفاتهم، ويرى أنه مسئول عن تصرفاتهم طوال مدة حكمه. وكان يرى أنه مسئول عن كل شيء في الدولة الإسلامية؛ لذلك كان يتحسس البعير، ويقول: إني لخائف أن أسأل عما بك، وقال -رضي الله عنه-: لو ند جمل ضياعا على شط الفرات، لخشيت أن يسألني الله عنه؛ لأن الدولة لم تمهد له الطريق، فهو يخاف أن يضيع جمل، فيكون مسئول عنه أمام الله -تبارك وتعالى. وإذا كان هذا موقف عمر، فإن هناك موقفا مقابلا له، وهو موقف المحكومين، فقد كانوا يرون أن الخليفة مسئول عن أفعاله وتصرفاته إلى جانب مسئوليته عنهم. يروي ابن الجوزي: أن عمر بن الخطاب قال في أول خطبة له: إن رأيتم فيًّ اعوجاجًا، فقوموني ويرد أحد المسلمين على عمر بقوله: والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد السيف، ويرد عمر بقوله: الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم عمر بحد السيف. وترسم مواطنة مسلمة الفهم الإسلامي لحدود، ونطاق مسئولية الخليفة بطريقة لم يعرفها في الماضي، والحاضر أي: تشريع وضعي يروى أن عمر بن الخطاب مر ليلا بأعرابية، وهي تعلل صغارها بالموقد وضعت عليه قدرًا بماء خالص لا شيء فيه؛ لأنها ليس عندها طعام تطعمه أولادها، وهي تعلل صغارها بالموقد، ولما دنا منها سيدنا عمر وسألها ماذا تصنعي يا امرأة؟ وما بال الصبية يتضاعفون -يعني: يبكون- أجابته بأنهم يتضورون جوعًا -يعني:
تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام".
يبكون من كثرة الجوع- وهي تعللهم -يعني: كأنها تضحك عليهم حتى يناموا، يعتقدون أنها تطبخ لهم شيئا، وليس في القدر إلا الماء فقط- فيناموا على ذلك، فقال لها لم لا تذهبين إلى عمر -وكانت تجهل أنه المتحدث، كانت لا تعرف أنه عمر- ليساعد على إطعامهم؟ فقالت: الله بيننا وبينه، فجزع عمر جزعًا شديدًا، خاف خوفًا شديدًا، وقال لها -وقد استبد به الجزع والحزن-: وما يدري عمر بكم؟ -يعني: وما الذي يعلم عمر بما أنتم فيه، هو لا يعلم ذلك- فقالت: يتولى أمرنا، ويغفل عنا. وهذه القصة على بساطتها ترسم ما كان عليه المسلمون الأُول، حكاما ومحكومين، وكان عمر يرى أنه ولكونه مسئولا أعظم شأنا، وأكثر خطورة عما سواه من الولاة والحكام، كان من المحتم من منطق عدل عمر أن يكون هو وأسرته قمة قدوة لأفراد المجتمع الإسلامي؛ لذلك ضاعف العقوبة على أهل بيته إذا ارتكبوا ما يخالف أوامر الشرع ونواهيه، وما أمر به عمر الرعية، وفي هذا الصدد يقول عمر: قد سمعتم ما نهيت، وإني لا أعرف أن أحدا منكم يأتي شيئا مما نهيت عنه إلا ضاعفت له العذاب ضعفين. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - الحقوق والحريات في النظام الإسلامي تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام" الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: بدأنا الحديث في القاعدة الرابعة وهي مسئولية الحكام، وذكرنا دليل هذه المسئولية من الكتاب، ثم دليلها من السنة، ثم دليلها من السوابق التاريخية في عهد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ونواصل الحديث فنذكر التطبيق في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه وأرضاه- فنقول: أما في عهد عثمان بن عفان فإنه -رضي الله عنه- وإن كان مسلكه الشخصي، وصدقه، وأمانته، وورعه، وتضحياته من أجل رفعة الإسلام والمسلمين، لا شك فيها، إلا أنه -رضي الله عنه- قتل شهيدًا لكون جمهور الثائرين يرون مسئوليته عن تسلّط بني أمية على رقاب المسلمين؛ ولأنه توانى في حقهم، واستعمل أقرباءه على الولايات المختلفة ... إلى غير ذلك من المآخذ التي أخذها السائرون عليه، والتي كانت سببًا لاستشهاده، وهذه الأسباب وإن كانت لا تطعن في ورع عثمان -رضي الله عنه- وتقواه وأمانته،
وليس من شأنها أن تقلل من الدور العظيم الذي أدّاه عثمان، إلا أنها بلا شك تؤدّي إلى نتيجة هامة، مؤداها أن الخليفة مسئول عن تصرفات ولاته، وعماله، وممثليه في الولايات المختلفة، إلى جانب أنه -رضي الله عنه- لم ينكر حق المسلمين في مساءلته؛ فيروى عنه -رضي الله عنه- قوله: "إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في قيود فضعوها". وعليّ -رضي الله عنه- كان يرى مسئولية الخليفة عن كل ما يترتب على إعمال السلطة العامة، يروي ابن حزم عن الحسن -رضي الله عنه- أن عمر أرسل إلى امرأة معينة كان يدخل عليها -أي كان يدخل عليها بعض الناس- فأنكرت ذلك، فقيل لها: أجيبي عمر. فقالت: يا ويلها! مالها ولعمر؟ فبينما هي في الطريق فزعت، فضمها الطلق دارًا، فدخلت فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحةً فمات. أي أنها فزعت لما علمت أنها سوف تذهب وتمثل أمام عمر بن الخطاب، وهذا الفزع كان سببًا في أن طلق الولادة جاءها في غير موعده؛ وترتب على ذلك أن ولدت الولد ومات هذا الولد، فاستشار عمر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- استشارهم كما هي عادته -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- أي استشارهم عن موقفه من هذا الصبي الذي مات بسبب الفزع الذي كانت فيه المرأة، فأشاروا عليه بعضهم أن ليس عليك شيءٌ، يعني بعضهم قال: ليس عليك شيء يا أمير المؤمنين بسبب ذلك، إنما أنت والٍ ومؤدّب. قال: وصمت علي -أي علي بن أبي طالب- فأقبل عليه عمر فقال: ما تقول؟ أي ما هو الرأي عندك يا عليّ بالنسبة لهذه الواقعة؟ وهل أنا مسئول عن موت هذا الصبي أم لا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانوا قالوا برأيهم -يعني هؤلاء الذين أشاروا إليك بأنك ليس عليك شيء- فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك، أرى أن دِيّته عليك؛ لأنك أنت أفزعتها وولدها في سبيلك، فأمر
عليًّا أن يقسم عقلَه على قريش -يعني الدية أي دية هذا الولد على قريش- وهم العاقلة عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه. وبصرف النظر عن رأينا في مسئولية الخليفة عن هذه الواقعة، فهي تكشف بطريقة قاطعة عن أن عليًّا -رضي الله عنه- كان يرى أن الخليفة مسئول عن كل ما يتعلق بممارسة السلطة العامة. ومن استعراض النصوص في القرآن، والسنة، والتطبيق العملي في عهد الخلفاء الراشدين؛ نتبيّن أن الخليفة مسئول: أولًا: باعتباره من آحاد المسلمين، ومسئوليته في هذا الصدد كمسئوليتهم تمامًا سواء بسواء. وثانيًا: مسئول عن ممارسته الشخصية لمقتضيات السلطة العامة. وثالثًا: هو مسئول باعتباره هو المهيمن على السلطة التنفيذية والحائز عليها، وكل الولايات الأخرى تتفرع من ولايته العامة، فإن هذا يقتضي أن يكون مسئولًا عن كل أعمال ولاته ووزرائه وممثليه، في جميع الأصقاع والبلاد الإسلامية. فسلطة الخليفة وغيره من الحكام محددة تحديدًا دقيقًا في الفقه الإسلامي، وإذا ما أقدم أيّ شخص ممن يقبضون على زمام السلطة العامة على مخالفة القانون الإسلامي، أو أساء استخدام السلطة، أو انحرف بها عن المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي؛ فإنه يكون مسئولًا عمّا أقدم عليه أمام الله من ناحية، ومن ناحية أخرى أمام القانون وأمام الرأي العام الإسلامي، ومن هنا فإن قواعد المسئولية تنطبق على الخليفة، وسائر الحكام مثلهم في ذلك مثل سائر المسلمين،
ذلك أن الولاية أمانة في الإسلام، وكل مؤتمن مسئول عما ائتمن عليه؛ لذلك فالخليفة مسئول عما اؤتمن عليه من حقوق الأمة، إلا أن مسئولية الخليفة أوسع نطاقًا وأوسع مدى من مسئولية الأفراد جميعًا؛ لأنها ثقيلة، بقدر ثقل الواجبات الملقاة على عاتقه وتنوعها، فإنها أيضًا تشمل مسئوليته عن كفالة كل ما هو أساسي وحيويّ بالنسبة لكل المسلمين؛ ولهذا فإن النصوص أكدت بأن أشد الناس عذابًا يوم القيامة إمام جائر؛ ولهذا نجد أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يضاعف مسئولية أهله عن مخالفة ما يسنّ للمسلمين من الأوامر. وفي هذا الصدد يروي ابن سعد عن عبد الله بن عمر: كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: لا أعلمنّ أحدًا وقع في شيء مما نهيت إلا أضعفت له العقوبة. ولم يكن ذلك إلا لأن عمر كان يعتبر الخليفة هو القدوة الحسنة لكل المسلمين، وإذا لم يكن الخليفة وأهل بيته هم أول من يحترم القانون وينصاع إليه؛ فإن ذلك سيؤدي إلى استهانة كل المسلمين بقواعد القانون، وذلك يتفق مع قوله -رضي الله عنه-: "إن الناس لم يزالوا مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم" قوله: "الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإذا رتع الإمام رتعوا" أي أنه إذا أطاع الله -تبارك وتعالى- أطاعته الرعية، وإذا عصى الله -تبارك وتعالى- عصته الرعية، فعلى قدر صلاح الإمام، واحترامه لنصوص القانون وخضوعه له، تكون الرعية؛ لذلك فإن الشريعة الإسلامية تشددت في تقرير مسئولية الحكام؛ لأنه في حالة عدم احترام القانون، والإقدام على مخالفته من قبل الحاكم؛ فإن هذا يؤدي إلى خلل جميع الأجهزة في الدولة، وإلى أن يستشري الفساد في البلاد، وإلى عدم امتثال الرعية لحكم القانون.
مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي.
مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي وننتقل الآن -أبنائي وبناتي طلاب الدراسات العليا- إلى ركن آخر، أو إلى قاعدة أخرى من القواعد التي قام عليها النظام السياسي في الإسلام، وهذه القاعدة هي الحقوق والحريات في النظام الإسلامي: تسعى الدول الحديثة إلى حماية الأفراد من عسف السلطة واعتدائها على حقوقهم، وذلك بتقرير مجموعة من الحقوق والحريات الفردية، التي تعتبر بمثابة حواجز منيعة أمام سلطان الدولة، لا يجوز لها أن تقتحمها أو أن تتخطاها، وإلا كانت دولةً موصومةً بالاستبداد وعدم الشرعية أو الدستورية. والجدير بالذكر أن الحديث عن الحقوق والحريات الفردية في الدول الحديثة، لم يعرف إلا منذ قامت الثورة الفرنسية، وأصدرت ما يسمى بوثيقة إعلان حقوق الإنسان، وأعلنت فيها اعترافها بالحقوق الطبيعية للإنسان، التي تثبت له بصفته إنسانًا، والتي وجدت معه قبل وجود الدولة؛ ومن ثمّ فلا يجوز للدول تخطي أو تجاوز هذه الحقوق -كما ذكرنا. ولقد اختلف مفهوم الحقوق والحريات الفردية في الدول الحديثة، بحسب ما تدين به من أنظمة فردية أو جماعية؛ ولذلك تنقسم هذه الحقوق إلى: - حقوق فردية تقليدية تتقرر للإنسان بوصفه كائنًا مجردًا. - وحقوق أخرى اجتماعية واقتصادية تتقرر للأفراد بوصفهم أعضاء في جماعة منظمة، وعلى الدولة أن تلتزم إيجابيًّا في مواجهة الأفراد، بالحفاظ على هذه الحقوق، ولا تكتفي بالالتزام السلبي الذي يحصر نشاطها في مجرد حفظ الأمة، والدفاع عن الوطن، وحماية مصالح الأفراد من الاعتداء عليها.
ومفهوم الحرية في الفكر الفردي الذي نادى به مجموعة من الفلاسفة، مثل "جان جاك روسو" و"جون لوك" و"فولتير" ... وغيرهم، هذا المفهوم يختلف عنه تمامًا في الفكر الاشتراكي، الذي رفع لواءه "كارل ماركس" ومن سار على دربه؛ لأن الحريات في نظر أصحاب الفكر الاشتراكي لا يمكن كفالتها إلا في ظل بيئة معينة، ومجتمع اشتراكي تقوم الدولة بتحقيقه؛ ومن هنا جاءت التجربة الشيوعية في روسيا لتطبيق تلك النظريات التي جاء بها رواد الفكر الاشتراكي. وأما في النظام الإسلامي فالحقوق الفردية تتقرر على أساس رُوحي، قوامه: أن الآدميين جميعًا مكرمون من قبل الخالق -سبحانه وتعالى- يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70) وهم جميعًا حكامًا ومحكومين مخلوقون لعبادة الله -سبحانه وتعالى- يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) والعبادة تعني الخضوع الاختياري لسلطان الله المطلق، وتعريف شئون الفرد أو الجماعة على حسب ما فصل -سبحانه- في شرعه، فالحقوق والحريات الفردية أو الجماعية بالنظام الإسلامي أساسها العقيدة، ونظامها الشريعة، وهي منح إلهية من الخالق -سبحانه وتعالى- الذي كرّم الجنس، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلًا؛ وبهذا وحّد الإسلامُ الغايةَ بالنسبة لكل من الفرد والدولة، فهي عبادة الله والخضوع لسلطانه، بتنفيذ شرعه في الحقوق والحريات؛ ومن ثم لا نجد في النظام الإسلامي عدوانًا على حقٍّ مهما كانت طبيعته، فحقوق الأفراد وحرياتهم محميةٌ ومرعيةٌ، ولكن ليس على حساب الجماعة، وكذلك العكس، ولكن مع عدم الاستبداد أو الطغيان الذي يؤدي إلى وأد مصالح الأفراد، فهناك إذن توازنٌ بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، بحيث لا تطغى مصلحة على الأخرى.
والذي يجب التنبيه عليه في هذا الصدد أن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي ليست مطلقةً عن كل قيد، فبالإضافة إلى ما ذكرنا من الموازنة بين المصلحتين الخاصة والعامة، يجب دائمًا أن يتحمل الضرر الأخف في سبيل رفع الضرر الأعلى -كما تقول بذلك القواعد الفقهية- فمثلًا إذا كان الشارع يقرر للأفراد الحق في التملك، فهو يقيده بضرورة أن يكون ناشئًا عن سبب شرعي، كالاستيلاء على المباحات، أو العقود والتصرفات: كالبيع، والهبة، والوصية، والإجارة، والشركة ... ونحو ذلك، بشرط أن تكون هذه العقود مستوفيةً لأركانها وشرائطها على النحو الذي رسمه الشارع، وقد ينشأ الملك عن الإرث، وهو في هذه الحالة ملك قهري بحكم الشارع وليس بإرادة كل من الوارث أو المورث، كما رسم الإسلام سبل استثمار المال وتنميته، بطريقة تنفي عن المجتمع أن يكون متلطخًا بأدران الربا، أو منغمسًا في مباءة الكسب غير المشروع عن طريق الاتجار في المحرمات، كالمخدرات، والخمور ... وأشباه ذلك، مما تعج به المجتمعات الحديثة التي تتشدق بالحرية بملء أفواهها وهي لا تمتّ لها بصلة. وكذلك أذن الشارع في الانتفاع بالمال من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ، وأن يكون الإنفاق في الوجوه الشرعية المعتبرة. ويجوز في النظام الإسلامي نزع الملكية الخاصة؛ لتوسعة طريق عام، أو شق مجرى نهر ... ونحو ذلك من المنافع العامة. كما يجوز بيع الملك جبرًا على صاحبه في تسديد ديونه، فتلك إذن كلّها قيود وردت على حق الفرد في التملك؛ ليكون الحق في نطاقه الفردي والجماعي الذي رسمه له الشارع، ولا يكون وسيلةً للاستبداد، أو الطغيان، أو الإضرار بالآخرين.
الحريات الشخصية.
وبعد هذا التقسيم نرى أنه من المناسب أن نشير إلى أن نسير على التقسيم الذي يسلكه القانونيون، في تقرير قائمة الحقوق وتقسيمها إلى فردية واجتماعية؛ وذلك لظروف تسهيل المقارنة؛ ولذلك فسوف ندرس في هذا الصدد أمورًا: أولها: القائمة الخاصة بالحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي. وثانيهما: الحقوق والحريات الاجتماعية في هذا النظام. أولًا: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: تشمل هذه المجموعة من الحقوق والحريات بالفقه الدستوري الحديث: الحريات الشخصية، وحريات الفكر، ثم حريات التجمع، والحريات الاقتصادية. الحريات الشخصية أولًا: الحريات الشخصية: ويعتبر هذا النوع من الحريات من أهم ما يجب أن يتمتع به الفرد؛ لكونه يتصل بكرامته الإنسانية التي كفلها له الخالق -سبحانه وتعالى- وتشمل هذه الحريات في الفقه الدستوري ما يلي: 1 - حرية التنقل: بمعنى أن يكون الفرد حرًّا في الانتقال من مكان إلى آخر، والخروج من البلاد والعودة إليها بدون تقييد لحريته في ذلك، إلا بما يقتضيه النظام والقانون، وهذا حق للأفراد، قد أقره النظام الإسلامي الذي يدعو الإنسان إلى السعي في الأرض، والمشي في مناكبها؛ طلبا للرزق، واعتبارًا بمصير الأمم السابقة. وروي عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان يمنع بعض كبار الصحابة عن الخروج من المدينة؛ حتى يتيسر له الرجوع إليهم ومشاورتهم في شئون الدولة، ويعتبر هذا نوعًا من تقييد حرية التنقل للمصلحة العامة إذا رأى الإمام ذلك، وعلى كل حال فحرية السعي في الأرض باعتبارها حقًّا فرديًّا لا يسوغ ولا يجب
أن تتقيد إلا لمصلحة أعلى منها، أما تقييدها لمجرد الرغبة في الانتقام من الفرد، كما يحصل في عالم اليوم، فهو عمل لا يقره النظام الإسلامي، الذي تقدر فيه الضرورة بقدرها دائما. 2 - حق الأمن: ويقصد بهذا الحق في الفقه الدستوري: عدم جواز القبض على أحد الأشخاص، أو اعتقاله، أو حبسه، إلا في الحالات المنصوص عليها في القانون، وبعد اتخاذ جميع الإجراءات والضمانات التي حددها القانون، كما يعني حصانة شخصه -أي حماية الشخص من أي اعتداء عليه- وفي النظام الإسلامي لا يجوز بطبيعة الحال القبض على أي إنسان وترويعه وحبسه، ما لم يكن ذلك بسبب شرعي يستوجب ذلك، والعقوبات في الإسلام بطبيعة الحال مضيق بابها، فلا جريمة ولا عقوبة بغير نصٍّ، ولا تثبت العقوبات بمجرد الرأي والاجتهاد؛ لأن الحدود تُدرأ بالشبهات كما هو معلوم، والأصل البراءة حتى يثبت العكس؛ ولهذا فإن النظام الإسلامي يعتبر الاعتداء على حقّ الأمن للإنسان، سواء في جسده، أو في حياته العامة، يعتبر ذلك نوعًا من الظلم، ويتوعد عليه بأشد العقوبات، فالله تعالى يعتبر من يقتل نفس بغير حق كأنه قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، ويتوعد القاتل عمدًا بالخلود في النار، والرسول -صلى الله عليه وسلم- جعل كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه. وفي حجة الوداع قال -عليه الصلاة والسلام-: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا قد بلغت، اللهم فاشهد)). 3 - حرمة المسكن: بمعنى أنه لا يجوز اقتحام مسكن أحد الأفراد أو تفتيشه إلا في الحالات، ووفقًا للإجراءات التي نصّ عليها القانون، ويطلق اسم المسكن على المكان الذي
يسكن فيه الفرد بشكل دائم أو مؤقت، فللمَساكن الخاصّة حرمتها التي لا يجوز انتهاكها إلا عند الضرورة، وغنيّ عن البيان أن هذا الحقّ مقررٌ بنصوص صريحة في كتاب الله -تبارك وتعالى- في "سورة النور" حيث تذكر الآيتان "27و 28" من تلك السورة قول الحق -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (النور: من الآية: 27). فقد تقرّرت حرمة المساكن بهذا النص الكريم؛ بحيث لا يجوز للشخص أن يدخل بيتًا غير بيته إلا بعد أن يستأذن، بل يستأنس، ويسلم على أهله، ولا يجوز دخول مسكن شخص في غيابه إلا بإذنه، وعند عدم الإذن في الدخول يجب الرجوع؛ وذلك أزكى وأطهر عند الله تعالى، وهو يعلم ما تخفيه الصدور من الحفاظ على حرمة المساجد، أو الرغبة في انتهاكها والاطلاع على عورات الناس. 4 - سرية المراسلات: بمعنى عدم جواز مصادرة أو اغتيال سرية المراسلات بين الأفراد؛ لما يتضمنه ذلك من الاعتداء على حق ملكية الخطابات المشتملة على هذه المراسلات؛ ولما في ذلك انتهاكٍ لحرية الفكر، وفي النظام الإسلامي لا يجوز الاعتداء على سرية المراسلات؛ لكونها مملوكةً لصاحبها، فيكون في الاعتداء عليها اعتداء على حق الغير، وهو لا يجوز شرعًا إلا بإذن صاحب الحق ورضاه، وأيضا فالرسالة تعتبر بمثابة الوديعة حتى تصل إلى المرسلة إليه. ومن المعلوم أن الوديعة أمانة، وقد أمر الله تعالى بأدائها إلى أهلها؛ ومن ثم فلا يجوز المساس بها، أو التصرف فيها من قبل المودع لديه؛ لأن ذلك ينطوي على تجسس، وتتبع للعورات، قد نهانا الشرع عنه وحذرنا منه.
الحرية الفكرية.
وعلى كل حال فيجب أن نلاحظ دائمًا أن هذه الحريات لا يجوز بحال أن تمس المصالح العامة للمجتمع؛ ولذلك فمن الطبيعي أن الدولة تملك تقييد هذه الحريات الشخصية ببعض القيود لصالح الجماعة، وبخاصة عندما تطغى الأنانية الفردية، ويعم الفساد، وتفسد الذمم، وتضعف الضمائر، ففي هذه الحالة تملك السلطة الشرعية العادلة أن تتّخذ من الإجراءات والقيود ما يدفع الأخطار، ويوفر الأمن، ويحقق مصلحة المجتمع. الحرية الفكرية ثانيًا: الحرية الفكرية: ويقصد بهذه الحرية في الفكر الدستوري الحديث: - حرية العقيدة. - وحرية الرأي والتفكير. - وحرية التعليم والتعلم. وفي النظام الإسلامي تُعتبر الحرية الفكرية بمشتملاتها المختلفة، من أهم الحريات التي تتوقف عليها حياة الإنسان كما أرادها له الخالق -سبحانه وتعالى- وإذا كانت الحريات الشخصية -التي أسلفت الحديث عنها- تحمي جانب المادي في الإنسان، فإن الحريات الفكرية تحمي الجوانب المعنوية، وهي أهم بالنسبة للإنسان من الجوانب المادية؛ ولذلك وردت الآيات صريحةً في كتاب الله تعالى تقرِّر حرية الإنسان الفكرية، وتحثّه على استعمال عقله الذي ميزه الله به عن سائر خلقه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (سبأ: من الآية: 46). وقال -سبحانه وتعالى-: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: الآية: 13). وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: الآية: 50).
وغير ذلك كثير في آيات الكتاب العزيز يحض على التفكير في خلق الله، وينعي على تعطيل العقل عن وظائفه، واتباع الآباء، والتقليد الأعمى، وقد مارس سلفنا -معشر المسلمين- الحرية الفكرية كأعظم ما تكون؛ ولذلك أُثِرَ عنهم نتاج تفكيرهم في تلك العلوم النافعة المفيدة، ولعل أبرز مثال على ذلك تلك المدارس الفقهية المختلفة، التي تقرّرت في الفقه الإسلامي وفقًا للقواعد والأصول المسلَّمة لدى أئمة المذاهب في الاستنباط، وسوف نذكر مشتملات هذه الحرية الفكرية على التقسيم المعمول به في الفقه الدستوري الحديث؛ لنعرف ما جاء في النظام الإسلامي بهذا الشأن: 1 - حرية العقيدة: ويقصد بها في الفقه الدستوري الوضعي حرية الشخص في أن يعتنق الدين، أو المبدأ الذي يريده، وحريته في ألا يعتنق الدين أو المبدأ الذي يريده، وحريته في أن يمارس شعائر ذلك الدين، سواء في الخفاء أو علانية، وحريته في ألا يعتقد بأيّ دين، وحريته في ألا يفرض عليه دين معين، أو أن يجبر على مباشرة المظاهر الخارجية، أو الاشتراك في الطقوس المختلفة للدين، وحريته في تغيير دينه. كل هذا في حدود النظام العام والآداب، هذا بالنسبة للقوانين الوضعية وتفسيرها لحرية العقيدة. وفي الواقع لم تصل الإنسانية إلى تقرير هذه الحرية إلا منذ عهد قريب؛ فكثيرًا ما كان الأفراد يجبرون على اعتناق عقائد معينة، ولا نزال نجد إلى اليوم أن حريّة العقيدة غير متوافرة في كثير من الدول المعاصرة؛ إذ يجبَر كثيرٌ من الأفراد على ترك دينهم، أو لا يسمح لهم بإقامة شعائرهم الدينية، ويلاقون كثيرًا من العنف والاضطهاد؛ بسبب حفاظهم على عقائدهم التي يؤمنون بها.
أما النظام السياسي الإسلامي فهو يعلن منذ نشأته عن الحرية الدينية أو حرية العقيدة، كما قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} (البقرة: من الآية: 256). وقال تعالى مخاطبًا رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: الآية 99). قال الشوكاني في تفسيره: أي ليس ذلك في وسعك يا محمد، ولا داخل تحت قدرتك، وفي هذا تسلية له -صلى الله عليه وسلم- ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل، الذي لو كان لم يكن صلاحًا محققًا، بل يكون إلى الفساد أقرب لحكمة يعلمها الحق -تبارك وتعالى- فليس في الإسلام إكراه لأحد على تبديل عقيدته واعتناق الإسلام بدلا عنها، حقًّا في الإسلام دعوة إلى الدين كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: الآية: 125). ولكن الدعوة شيء والإكراه على الدخول في الدين شيء آخر، فالمقرر في الإسلام أن نتركهم وما يدينون، فلا تتعرض الدولة الإسلامية لغير المسلم في عقيدته وعبادته، ومن المقرر في النظام الإسلامي مشروعية القتال للدفاع عن حرية العقيدة؛ نظرًا لأن المشركين كانوا يقفون للمسلمين بالمرصاد، فيمنعونهم من ممارسة شعائرهم، ويضطهدونهم بسبب ذلك، كما قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 39، 40). وإذا رجعنا إلى تاريخ أهل الذمة الذين كانوا يعيشون في كنف الدولة الإسلامية؛ لوجدنا أنهم كانوا يعامَلون معاملةً كريمةً لا اضطهاد فيها ولا إكراه، وكثيرًا ما
كان الخلفاء المسلمون يقرّبونهم إليهم في كثير من الأمور، ويحسنون معاملتهم، ويسندون إليهم مناصب هامّةً في الدولة، حتى إن الخليفة هارون بن الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة "يوحنا بن ماسويه" وهذا دليل على أنهم كانوا يعامَلون معاملةً طيبةً؛ وبناء على ذلك فما يوجد أحيانا من اضطهاد لغير المسلمين، أو معاملتهم بغير كرم، يعتبر تجاوزًا لأحكام الإسلام وخروجًا عليها، وهو يرجع في المقام الأول لأسباب سياسية لا دينية؛ لأن أوربا المسيحية نفسها هي التي بدأت واستثارت حفيظة المسلمين منذ تلك الحروب المدمرة، التي نظمتها تحت راية الصليب، وانتهكت بها حرمة المسلمين ومقدساتهم. تبقى مسألة مهمة يجب أن نعالجها في هذا المقام، وهي تجريم الردة عن الإسلام، وتقرير عقوبة بشأنها؛ مما حمل بعض أعداء الإسلام على اتهامه بالتعصب: وفي الواقع إن حرية العقيدة كمبدأ مقرّر في الإسلام منذ نشأته -كما سبق أن ذكرنا- ولا إكراه على الدخول في الدين بنص القرآن، ولكن حينما يدخل بعض الناس في الدين خداعًا ويخرجون منه ضرارًا، فماذا ينتظر من الإسلام؟ ماذا ينتظر منه أن يفعل مع هؤلاء إلا أن يضرب على أيديهم؟ وإلا فقد رأينا أن الإسلام يكفل للذميين وغيرهم في دولته ممن يختارون الإقامة في كنف المسلمين، يكفلونهم مستوًى رائعًا من الحقوق؛ بحيث يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فلماذا إذن يتركون دينهم ويدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه بعد ذلك؟! إن المنطق يفرض بطبيعة الحال أن يكون الغرض من وراء ذلك هو إحداث الفتنة بين المسلمين، والإساءة إلى دولتهم ودينهم، كما قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران: الآية: 72).
قال ابن عباس في معناها: كانوا يكونون معهم في أول النار، ويجالسونهم، ويكلمونهم، فإذا أمسوا وحضرت الصلاة كفروا به وتركوه. فهل يقف الإسلام مغلول اليدين ويسمح لأعدائه باسم حرية العقيدة التي أرساها هو وأساءوا هم استعمالها؟ هل يسمح لهم بذلك: أن يسيئوا إليه، ويهينوا عقيدته، ويحتالوا على شريعته، ويوقع الفتنة بين أتباعه؟! لذلك تقرر في النظام الإسلامي عقوبة الردة، وأنها القتل بعد الاستتابة؛ دفعًا لما يلحق الجماعة الإسلامية من الضرر بسببها، ولقد تأسست هذه العقوبة في النظام الإسلامي على أساس أن المرتدّ بخروجه عن الإسلام يخل بالتزام كان قد رتبه على نفسه، مختارًا مريدًا، ويسيء إلى الدولة في عقيدتها ونظامها؛ ولذلك يستوجب القتل جزاء الإخلال بهذا الالتزام، كما هو مقرّر في الشرائع السماوية والوضعية على حد سواء، وإذا كان أعداء الإسلام يتهمون المسلمين بالتعصب الديني، فإن التاريخ المدون والثابت يؤكد لنا بشكل قاطع أن غير المسلمين كانوا يعامَلون في الدولة الإسلامية أكرم معاملة، ويعترف لهم بحقوقهم، فتصان حرياتهم الدينية والفكرية، في الوقت الذي كانت فيه أوربا المسيحية في الأندلس تذيق المسلمين ألوان العذاب، وتضطهدهم بأبشع أنواع الاضطهاد، وتحملهم على ترك دينهم والدخول في النصرانية، وتعذّب بأقصى ألوان التعذيب مَن يتأبّى عليها فيبقى على إسلامه؛ حتى استحالت بلاد -أي تحولت- بلاد الأندلس في فترة وجيزة تحت سياط التعذيب والبطش المسيحي، تحولت بلادًا مسيحيةً لم يبقَ فيها من المسلمين أحد ولم، يحدث إطلاقًا أن أكره المسلمون أحدًا على ترك دينه، أو اضطهدوه بسبب عقيدته، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ} قال ابن كثير في تفسيره: أي لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بين، واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونوّر بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرهًا مقصورًا. وقال بعض المفسرين: أي لم يجد الله تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقصر، ولكن على التمكين والاختيار ونحوه، يقول تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي لو شاء لقصرهم على الإيمان، ولكن لم يفعل وبنى الأمر على الاختيار. 2 - حرية الرأي والتفكير: من المقرر في النظام الإسلامي أن أعظم ما يتميّز به الإنسان عن سائر المخلوقات هو العقل؛ ولذلك نجد القرآن الكريم يشجّع الناس على إعمال العقل باستمرار؛ ليقودهم إلى الحق والصواب، ففي آيات القرآن كثيرًا ما ترد عبارات: {يَعْقِلُونَ} (العنكبوت: من الآية: 35) {يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: من الآية: 21) {يَعْلَمُونَ} (البقرة: من الآية: 230) {يَتَدَبَّرُونَ} (النساء: من الآية: 82) {يَفْقَهُونَ} (الأنعام: من الآية: 65) {لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَاب} (الزمر: من الآية: 21). والقرآن الكريم بذلك إنما يريد أن يقيم حياة الإنسان دائمًا على أساس من العلم والمعرفة، القائمة على النظر والاستنباط، والتفكير في مخلوقات الله في السماوات والأرض؛ ولذا فحرية التفكير للإنسان مكفولة في الإسلام منذ نشأته، ما دام يعتصم بسياج الدين والشرع دائمًا، وصحيح أن هذا الحق كان مكفولًا دائمًا للإنسان في القرنين الأول والثاني من الهجرة، وهو إن كان قد تعرض بعد ذلك
لبعض أنواع الاضطهاد، وخصوصًا في عصر العباسيين؛ حيث اضطهد الإمام أحمد بن حنبل بسبب مخالفته المأمون في مسألة خلق القرآن، واضطهد الإمام مالك في عهد أبي جعفر المنصور؛ بسبب فتواه بعدم صحة بيع المكره، واضطهد الإمام أبو حنيفة؛ لعدم توليه القضاء، واضطهد ابن رشد وابن حزم ... وغيرهما، ولكن على كل حال لم يكن هذا الاضطهاد الفكري معبّرًا عن رأي الإسلام، فهو واقع مغلوط، أملته بعض الأهواء، ولا يصح أن يكون حجةً على الإسلام. ومن الأمور التي مُنِيَتْ بها حرية التفكير في النظام الإسلامي، وبخاصة في المجال الفقهي: إغلاق باب الاجتهاد، ومنع العلماء من ممارسته، وكان هذا كالمقدّمة لفترة الجمود التي عانى منها الفكر الإسلامي بعد القرن السادس الهجري؛ حيث اقتَصر عمل العلماء والفقهاء على مجرد ترديد أقوال السابقين، أو تخريجها، ووضع الحواشي عليها، دون أن يكلف الفقهاء أنفسهم معونة البحث والنظر لاستنباط أحكام الوقائع المستحدثة؛ ولذا فمن اللّائق أن تمارس الحرية الفكرية، ولاسيما في المجال الفقهي، لكل من يقدر على ذلك؛ ليستطيع الفكر الإسلامي أن يواكب الأحداث المتطورة، لكن يجب دائمًا ألا يتصدّى للاجتهاد إلا من توافرت فيه الشروط الشرعية المعروفة في الوصول؛ لئلا ينفتح المجال أمام الجهلة للعبث بأحكام الشريعة. ولكن حرية الرأي في النظام الإسلامي يجب أن تكون مقيدةً بما يلي: أ- أن يكون القصد من ذلك النصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، كما صحت بذلك السنة؛ ففي الحديث الشريف: ((الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)). أما أن يكون إبداء الرأي لمجرد التشهير بالحكام، والإساءة إليهم، والانتقام منهم، وحمل الناس على التجرؤ عليهم ... ونحو ذلك من الأغراض غير الصحيحة، التي
لا يراد بها وجه الله تعالى، ولا الخير للمنصوح، ولا تحقيق المصلحة العامة، فذلك شيء ليس من الدين، بل هو وقوع في أعراض الناس قد حرّمه الدين وحذر منه. أيضًا يجب باستمرار أن نلتمس العذر للمخالف فيما هو مجال للاختلاف؛ لأن رأينا ليس أولى من رأيه، ما دامت المسألة اجتهادية؛ وبناء عليه فليس من الإسلام أيضًا حمل الناس وقصرهم على اتباع بعض الآراء والمعتقدات الشخصية، فلا إلزام إلا بحكم الشرع، ولا يستطيع أي فرد كائنًا من كان أن يلزم برأيه إذا كان على خلاف حكم الشرع. فلينتبه لهذا؛ فإنه من المزالق التي يقع فيها بعض الناس أحيانًا بحسن النية. أيضًا يجب أن يكون المرء وهو يبدي رأيه دائما متخلقًا بأخلاق الإسلام وآدابه، فلا يخوض في أعراض الناس، ولا يسبهم، أو يلصق النقائص بهم، بحجة حريته في إبداء رأيه، فالإنسان حرّ دائمًا ما لم تتحول حريته إلى فساد وإضرار؛ لتكون الحرية بنّاءة؛ ليترتب عليها أثرها، ولا تنقلب الأمور إلى فوق. 3 - حرية التعليم والتعلم: يقصد بهذه الحرية في الفقه الدستوري والسياسي الحديث: حق الفرد في أن يلقِّن العلم للآخرين، وحقّه في أن يتلقى قدرًا من التعليم، وحقه في أن يختار من المعلمين من يشاء، وفي النظام الإسلامي حثّ الإسلام على العلم، ورغّب فيه، ودعا إليه، فقال -سبحانه وتعالى-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر: من الآية: 9). قال المفسرون: أي الذين يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حقّ، والذين لا يعلمون ذلك، أو الذين يعلمون من أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك. أو المراد العلماء والجهّال. ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل، ولا بين العالم والجاهل.
تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع.
ويقول -سبحانه وتعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية: 28) ومعناه: إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، فالعلماء هم أهل خشيته -سبحانه وتعالى- وتعظيم قدرته. وفي السنة ما يؤكد ذلك أيضًا؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما سلك رجل طريقًا يبتغي فيه العلم إلا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)). وقد جعل الإسلام من العلم أحيانًا مطلوبًا شرعيًّا، وليس مجرد حق يصح للإنسان أن يتركه، فقال -عز وجل-: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: من الآية: 122). ولقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، وإنما هي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم، والتفقه في الدين، جعله الله تعالى متّصلًا بما دلّ على إيجاب الخروج للجهاد، فيكون السفر نوعين: الأول: سفر الجهاد. والثاني: السفر لطلب العلم. ولا شك أن وجود الخروج لطلب العلم، إنما يكون إذا لم يجد الطالب مَن يتعلم منه في الحضر من غير سفر، والفقه إنما هو العلم بالأحكام الشرعية. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - تابع الحقوق والحريات في النظام الإسلامي وبعض قواعد النظام السياسي في الإسلام تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: نتحدث الآن عن حرية التجمع فنقول: تشمل هذه الحريات في الفقه السياسي والدستوري الوضعي: - حرية الاجتماعات.
الحريات الاقتصادية.
- وحرية تأليف الجمعيات. ويقصد بحرية الاجتماعات: حق الأفراد في أن يتجمعوا في مكان ما فترة من الوقت؛ ليعبروا عن آرائهم سواء في صورة خطب، أو ندوات، أو محاضرات، أو مناقشات جدلية ... إلى آخره. أما حريّة تكوين الجمعيات فيقصد بها: تشكيل جماعاتٍ منظمةٍ لها وجود مستمر، تستهدف غاياتٍ محددةً، ويكون لها نشاط مرسوم مقدمًا، وتتضمن هذه الحرية أن يكون للشخص حرية الانضمام إلى ما يشاء من الجمعيات، ما دامت أغراضُها سليمةً، وعدم جواز إكراهه على الانضمام إلى جمعية بعينها، ولا مانع في النظام الإسلامي بطبيعة الحال من تقرير هذه الحريات للأفراد، ما دام هدفها لا يتعارض مع النظام العام؛ لكونه يصطدم بنصٍّ شرعيٍّ، أو قاعدة كلية في الشريعة، فإن كان التجمع لغرضٍ دينيٍّ، كأداء الجمعة، أو العيد، أو الصلاة في جماعة ... ونحو ذلك؛ فإنه يأخذ الغرض الذي يحصل من أجله، وإن كان التجمع لغرض غير معتبر شرعًا، كلعب القمار، أو التواطؤ على الشر ... ونحو ذلك، فإنه يكون حرامًا؛ لكونه يتعارض مع النظام العام الإسلامي -كما ذكرنا. الحريات الاقتصادية رابعًا: الحريات الاقتصادية: وهذا في النظام الدستوري يقصد بها: حرية العمل والكسب، وحرية التملك، وإنما تقرّرت هذه الحريات للإنسان؛ لينطلق بكل جهده وطاقته للعمل البنّاء المثمر، الذي يعود نفعه عليه وعلى مجتمعه الذي يعيش فيه:
1 - حرية العمل والتكسب: الإسلام دين العمل، دعا الناس إليه، وحثهم عليه، ولم يفرِّق بين عمل وآخر ما دام في إطار المشروعية، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (المُلك: 15). فقد امتن -سبحانه وتعالى- على عباده بأن جعل لهم الأرض سهلة لينة يستقرون عليها، ولم يجعلها خشنة، بحيث يمتنع عليهم السكون فيها والمشي عليها، ثم رتّب على ذلك الأمر بالمشي في الأرض، على وجه الإباحة؛ ليأكل الإنسان مما رزقه الله وخلقه له في الأرض. روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله يحب العبد المؤمن المحترف)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أكل ابن آدم طعامًا خيرًا من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) وقوله -عليه السلام-: ((من بات كالًّا في طلب الحلال بات مغفورًا له)) قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)). وإذا كان الإسلام قد دعا الناس إلى العمل على هذا النحو، فإنه قد ترك لكل فرد مطلق الحرية في اختيار العمل الذي يناسبه؛ لأن الناس متفاوتون في ذلك، وما يصلح لفردٍ لا يصلح لآخر، ويجوز لأي فرد أن يختار لنفسه العمل الذي يعود نفعه عليه. ويجوز للدولة بطبيعة الحال أن تفرض من القيود على حرية الأفراد في اختيار أعمالهم ما تضمن به الحفاظ على المصلحة العامة في المجتمع، فتنظم الزراعة بغرض زراعة بعض المحاصيل التي تحقق الربح، فينتعش اقتصاد الدولة، أو تحتاج إليها الأمة في غذائها ... ونحو ذلك، ولها أن تمنع زراعة المحصولات المضرة بالمصلحة العامة، كزراعة الحشيش، والقات ... ونحو ذلك، ولها أن تنظم الصناعة على هذا النحو، وكذلك التجارة، وليس هذا فقط، بل على الدولة
للأفراد أن توفر لهم فرص العمل المناسبة، وتسهل لهم أسباب العيش الكريم، وتقضي على البطالة، وتقي المجتمع من شرورهم. 2 - حرية التملك: بينما نجد المذهب الفردي يطلق العنان للملكية الفردية، ويسمح للمالك بأن يتصرف في ملكه كيفما يشاء بغير قيد أو حد، ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالآخرين، اعتمادًا على السلطة المطلقة التي يخولها حق الملكية لصاحبه، فإننا نجد في الطرف الآخر المقابل ذلك المذهب الجماعي الذي يلغي الملكية الفرية إلغاءً مطلقًا، ويعتبر القائم عليها مجرد موظف لدى الدولة يتصرف فيها تصرف الوكيل عن موكله. أما في النظام الإسلامي فالموازنة حاصلة بين الملكية الفردية والملكية الجماعية؛ لأن الإسلام الذي أقرّ الملكية الفردية، واعترف بها بصريح نصوصه، قد وضع عليها من القيود والتحديدات لمصلحة الجماعة، فلا يجوز للملكية الفردية أن تنمو بشكل يلحق الضرر بالمصالح الجماعية، كالاحتكار، والغشّ، والاستغلال ... ونحو ذلك مما حرمه الإسلام، وجعله كالقيود التي يمكن أن تحد من حرية إطلاق المالك في ملكه، بالإضافة إلى الحقوق الأخرى التي جعلها للفقراء في مال الأغنياء. أما فيما يتّصل بإقرار الإسلام للملكية الفردية، فهو أمر يكاد أن يكون معلومًا من الدين بالضرورة، ويتجلى ذلك في آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، التي تنسب الملك إلى الإنسان، كقول الله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} (محمد: الآية: 36) وقوله -سبحانه وتعالى-: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: الآية: 24 - 25).
في السنة قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: ((ألا إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، حتى تلقوا ربكم ليسألكم عن أعمالكم، ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم)). وأما إقرار الشريعة الإسلامية للملكية الجماعة، فإننا نجد أبرز مظاهره في المساجد، فهي ملك لله تعالى بنص القرآن الكريم: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} (الجن: من الآية: 18). وإضافة الملك إلى الله -سبحانه وتعالى- تعني أنها ملك لجماعة المسلمين، يؤدون فيها عبادتهم وشعائرهم. وكذلك يظهر معنى الملكية الجماعية في نظام الوقف، الذي هو قربة خاصة بالمسلمين، حيث تحتبس العين على ملك الله تعالى -أي لجماعة المسلمين- ويقتصر حق الموقوف عليهم على اجتناء الغلة أو الثمر فقط، دون التصرف في العين الموقوفة. ويظهر معنى الملكية الجماعية أيضًا فيما حماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأرض لخيل المسلمين الذين يحملون عليها حين يغزون في سبيل الله تعالى، وهذا هو شأن الفيء والغنائم قبل قسمتها في الناس. وأما تقييد الشريعة في حق الملكية الفردية، بما يضمن لها أداء وظيفتها الاجتماعية، في نفع صاحبها وعدم الإضرار بالآخرين، فقد تكلفت الشريعة الإسلامية بهذه القيود، فإذا كانت الشريعة تقر حق الملكية إلا أن هذا الحق ليس مطلقًا، وإنما هو مقيد بقيود، هذه القيود تهدف ألا يخرج صاحب الملكية عن الحدود الشرعية، وأن يكون تصرفه وفق الحدود الشرعية.
الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي.
الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي ثم نتكلم الآن عن الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي فنقول: بعد أن قامت الثورة الصناعية في أوربا في نهاية القرن الثامن عشر، وظهرت الرأسماليات الضخمة، وقامت المشروعات الكبرى، وبرز التفاوت بين طبقة الملاك وطبقة الأجراء، كان من اللازم أن تتدخل الدولة الحديثة؛ لتحمي العمال والضعفاء اقتصاديًّا تجاه الملاك وأرباب العمل، بما يضمن تحقيق مستوى معيشي كريم لهؤلاء العمال، وخصوصًا في فترات مرضهم، وعجزهم، وبطالتهم، وتطلق الدساتير الحديثة على هذه المجموعة من الحقوق اسم "الحقوق الاجتماعية" وقد حظيت هذه المجموعة من الحقوق بعناية الشارع الإسلامي منذ نشأة الإسلام، وقبل أن تعرفها الدساتير الحديثة بمئات السنين؛ وذلك لأن التشريع الإسلامي تشريعٌ متكاملٌ، يواكب الأحداث والمستجدات، فهو يشرع منذ ما يقرب من قرن ونصف من الزمان ما تهتدي إليه البشرية اليوم، وتتأسس قائمة الحقوق الاجتماعية في النظام الإسلامي على اعتبار أن المؤمنين جميعًا كالجسد الواحد، فيجب لذلك أن يكون مجتمعهم متآخيًا، متعاطفًا، متحابًّا، متراحمًا، تسوده العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويتعامل بالأخلاق والمثل، ويسوده الرباط الإيماني بين أفراده، ويكون مسئولًا أفرادًا ودولةً عن كل فرد فيه: يمرض، أو يجوع، أو يعرى، أو يعجز عن العمل، أو يقع عليه أي شيء من ظلم اقتصادي أو اجتماعي، سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، ما دام آدميًّا يقيم في دولة المسلمين. وسوف نذكر فيما يلي بعض النماذج التي تحقق مجالات العدالة الاجتماعية في لنظام الإسلامي:
1 - كفالة الدولة للأفراد: بمعنى أن يجد الفرد ضمانًا عامًّا من الدولة عند الفقر أو المرض، فلا يهلك فرد في دولة المسلمين، وهم ينظرون إليه ويعرفون حاجته وعوزه؛ لأن ذلك يتنافى مع غرض الشارع الذي يجعل المؤمنين كالجسد الواحد -كما ذكرنا- والذي يحث على التعاون على البر والتقوى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: من الآية: 2). وقد ذكر الله تعالى في "سورة البقرة" تفسيرًا لمعنى البر فقال -عز من قائل-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} (البقرة: الآية: 77). وفي ذكر الله -سبحانه وتعالى- للزكاة بعد ما سبقها؛ ما يدل على أن الإيتاء الذي قبلها هو من باب التطوع؛ لأنه من المعلوم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وفيها ما فيها من سد حاجة المحتاجين، وعوز المعوزين، فلو أن الناس جميعًا أدوا ما عليهم من الزكاة؛ فإنه لا يكون في مجتمع المسلمين من يتضرر من الجوع، أو يكتوي بنيران العوز والحاجة، فما بالك لو تطوعوا وعملوا في تحقيق البر؟!. وفي السنة أيضًا نصوص كثيرة تؤكد على هذا المعنى، وتحث المسلمين على التعاطف والتراحم فيما بينهم، كقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار)) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)).
وإذا كان هذا هو قصد الشارع الإسلامي في مجتمع المسلمين، فإن الأمة أفرادًا ودولةً مسئولة أمام الله عن تحقيق هذا القصد؛ إذ أن الدولة في الإسلام إنما تمثّل الأمة وتنوب عنها؛ فيجب عليها القيام بما أرشدت إليه الشريعة، من وجوب التراحم والتعاطف بين أبناء المجتمع، الذي يجب أن يكون كالجسد الواحد. غير أنه تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الدولة وهي تكفل هذا الحق للأفراد، يجب دائمًا ألا تشجع على التسكع، أو البطالة، أو التسول، بل يجب عليها دائمًا أن توفّر فرص العمل للقادرين عليه؛ فذلك أفضل من إعاشتهم، وجعلهم عالةً على بيت المال إذا كانوا قادرين على العمل، ولكن إذا تعذّر على الفرد سدّ حاجاته بنفسه، بسبب من الشيخوخة، أو العجز، أو المرض؛ فإنه في هذه الحالة تجب إعانته والإنفاق عليه، سواء من أقاربه الذين تلزمهم نفقته شرعًا، أو من بيت مال المسلمين، ويجوز الإنفاق على الفقراء من مال الزكاة، فإذا لم يفِ كل ذلك بحاجات الفقراء، فقد نصّ بعض الفقهاء على أنه يجب على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن لباس للشتاء والصيف في مثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر، والصيف، والشمس، وعيون المرض. فمن كل ما تقدم يمكننا أن نرى: كيف أن الإسلام عمل على تمكين الأفراد من التمتع بحقهم الاجتماعي في كفالة الدولة لهم، ولاسيما في حالات العجز والعوز؛ وبذلك يسمو هذا الحق في النظام الإسلامي على ما هو مقرّر في القوانين الوضعية، من مجرد كفالة الدولة لحق العمل، الذي يشكل قمّة الحقوق الاجتماعية في فقه القانون الدستوري.
سلطة الأمة في الرقابة على الحكام.
سلطة الأمة في الرقابة على الحكام ننتقل الآن إلى قاعدة أخرى من قواعد النظام السياسي في الإسلام، وهي سلطة الأمة في الرقابة على الحكام، فنقول: لم تكتفِ الشريعة الإسلامية بنصوص أو بتقرير قاعدة الشورى كضمانة من الضمانات الأساسية، التي تتمتع بها وتلتزم بها أيضًا الأمة في الدولة الإسلامية؛ للحيلولة دون استبداد الهيئات الحاكمة للسلطة، أو انحرافها عن المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي، أو إساءة استخدامها، وإنما قررت قاعدةً أخرى لا تقل في أهميتها، وخطورتها، وضرورة كفالتها، عن قاعدة الشورى، وتتمثل هذه القاعدة في حق الأمة الإسلامية في ممارسة الرقابة على أعمال وتصرفات حكّامها، وقد سبق أن رأينا في نطاق السلطات التي تتمتع بها السلطة العامة، أنها تملك سلطاتٍ تقديريةً واسعةً، ومن شأن ممارستها لهذه السلطات أن تعدم كل تأثير وفاعلية لأي قاعدة قانونية موجودة سلفًا، يكون القصد من تقريرها الحد من استبدادها بالسلطة، أو منعها من مخالفة القانون الإسلامي إذا لم يصاحب هذه القاعدة رقابةٌ دائمةٌ ومستمرةٌ على السلطات المختلفة التي تمارسها الهيئات الحاكمة، وعلى الخليفة في الدولة الإسلامية. والرقابة الهدف منها هو تحقيق وكفالة الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، وآدابها العامة، أي تحقيق تسيد الشريعة الإسلامية، والعمل على التمسك بأهدافها، سواء كان ذلك من الحكام أو المحكومين؛ لأن هذا الواجب من الواجبات المتبادلة بين الأمة من ناحية، والسلطات المختلفة من ناحية أخرى، وقد بحث الفقهاء الرقابة تحت اصطلاح "الحِسْبَة" وسمي من يمارس هذه الرقابة بـ"المُحْتَسِب" سواء كان ممثلًا للسلطة العامة، أو واحدًا من آحاد المسلمين، أو كانت الجماعة الإسلامية.
الدرس: 10 الإمامة.
الدرس: 10 الإمامة.
مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية مشروعية المسئولية.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (الإمامة) 1 - تابع الحقوق والحريات في النظام الإسلامي وبعض قواعد النظام السياسي في الإسلام مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية" ونتحدث الآن عن أساس مشروعية واجب الأمة في الرقابة، فنقول: قد تضافرت النصوص في الفقه الإسلامي على تأكيد واجب الأمة، وسلطتها في الرقابة على الحكام، كما أن الإجماع انعقد على وجوب هذا الإلزام، فوق أن التطبيق العملي في عهد الخلفاء الراشدين الأول قد كفل هذا الحق، ومن هذه النصوص وتلك التطبيقات يستبين لنا بجلاء ووضوح: أن حق الأمة في الرقابة على الحكام ليس حقًّا للأمة الإسلامية، تملك الحرية في أن تمارسه أو لا تمارسه، كما أنه ليس مندوبًا يحسن إتيانه وعدم تركه، وإنما هو من الفروض الحتمية، أي أن الرقابة على السلطات إنما هو من الفروض الحتمية التي تتعلق بأصول الإيمان، وليس للأمة الإسلامية أن تتخلّى عنه أو تتهاون فيه، وهذا نجد أثره أو نجد سنده في القرآن الكريم، فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: الآية: 104). ويقول الله -تبارك وتعالى- على لسان لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: الآية: 17). ويقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} (آل عمران: من الآية: 110). ويقول سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 113 - 115). وأيضًا لو رجعنا إلى السنة النبوية، فسنجد أن الفقهاء ذكروا أحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؛ فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه)). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أيها الناس، إن الله يقول: لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، قبل أن تدعو فلا يستجاب لكم)). ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)). ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة، حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه)). وقد أجمع الفقهاء على وجوب كفالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يخالف في ذلك أحد. وإلى جانب النصوص التي أوجبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي ذكرناها من الكتاب ومن السنة، والتي نستدل منها على تقرير الشريعة الإسلامية لسلطة الأمة في الرقابة على أعمال السلطات الحاكمة، فإن التطبيق العملي في عهد الخلافة الراشدة قد كفل هذا الوجه: فهذا أبو بكر -رضي الله عنه- يؤكّد حق الأمة في الرقابة عليه، ومساءلته بصورة قاطعة وواضحة، فيقول رضي الله عنه: "أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم،
فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". ويقول -رضي الله عنه-: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني". وكما نهج أبو بكر في الاعتراف للأمة بسلطة الرقابة على الخليفة إذا حاد عن الحق، أو خالف القانون الإسلامي، كذلك نهج عمر -رضي الله عنه- فقد اعترف بحق الأمة في ممارسة الرقابة عليه، وفي هذا النطاق يروى عنه -رضي الله عنه-: "ألا إن رأيتم في اعوجاجًا فقوموني" وقد ردّ عليه أحد المسلمين قائلا له: "والله، لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا" ويعقب عمر على ذلك بقوله: "الحمد لله الذي وجد في المسلمين من يقوم عمر بحد السيف". كما أن عمر يشجع الأمة في ممارسة الرقابة على الحكام، فيقرر أن أحب الناس إليه من رفع إليه عيوبه، وقد قال له أحد المسلمين: "اتق الله يا أمير المؤمنين" وحينما اعترض أحد الجالسين على ما يقوله ذلك الرجل لأعظم وأعدل خليفة معترضًا عليه قائلا: "أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟! " عندئذٍ نهر عمر هذا الرجل، وقال له: "نَعَم، نِعم ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها" وكان عمر يعتبر نفسه كأي واحد من الرعية، إلا أنه يختلف عنهم في عظم مسئوليته، وأنه أكثرهم عبئًا، وإذا تكلم أحد الرعية معه في مسألة من المسائل، أو سلك العمر مسلكًا، توهم البعض مخالفته للشريعة، فإنه يفسح صدره لأي نقد أو محاسبة له من آحاد المسلمين. ويروى أن عمر بن الخطاب جاءته برود -نوع من الملابس- من اليمن، فوزعها بالتساوي على المسلمين، وحصل كل واحد من المسلمين على بردية منها، وأخذ
عمر بنصيبه أيضًا من هذه البرود كأي واحد من المسلمين، ولما لبس عمر قميصَه وصعد على المنبر يدعو الناس إلى الجهاد، ويطلب منهم السمع والطاعة، فقام إليه أحد المسلمين وقال: "لا سمع ولا طاعة" قال عمر: لم ذلك؟ قال: "لأنك استأثرت علينا" قال عمر: بأي شيء استأثرت؟ قال: "إن الأبراد اليمنية -يعني الملابس التي جاءتنا ووزعتها- لمّا فرّقتها حصل كل واحد من المسلمين على برد منها، وكذلك حصل لك -يعني أنت أخذت أيضًا مثلنا- لكن البرد الواحد لا يكفيك ثوبًا، ونراك قد فصلته قميصًا تامًّا، وأنت رجل طويل، فلو لم تكن قد أخذت أكثر منه لما جاءك منه قميص. فكأن هذا الرجل يعترض على عمر بن الخطاب ويقول له: أنت أخذت مثلنا قميص، كل واحد وزعت عليه قميص، والمفروض أنك أخذت قميص مثلنا، لكن القميص الذي أخذته لا يكفيك: فكيف لبسته الآن؟ معنى ذلك أنك أخذت أكثر منا، يتهم عمر بن الخطاب بذلك، وهو فرد من آحاد المسلمين، وهنا التفت عمر إلى ابنه عبد الله، وقال: يا عبد الله، أجبه عن كلامه. يعني رد على هذا الذي يتهمني أنني أخذت من الأقمشة أكثر منه وأكثر من المسلمين. يا عبد الله، أجبه عن كلامه. فقام عبد الله وقال: إن أمير المؤمنين عمر لمّا أراد تفصيل بردٍ لم يكفِه فناولته من بردي ما تممه به. يعني أنا أعطيت والدي عمر جزءًا من البرد الذي يخصني؛ ولذلك أصبح قميصًا كاملًا له. وهنا قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة. فالمسلمون قد مارسوا كل مظاهر الرقابة، ولقد اعترف عثمان بنفسه بحق المسلمين في ذلك -كما رأينا قبل ذلك- ولقد كان من نتيجة إعمال هذه الرقابة من علماء الأمة؛ أن تعرض الكثير منهم للقتل والتعذيب، ولم يكن القتل إلا نتيجة ممارستهم لواجب الرقابة، وما يقومون به من أقوال، وما يمارسونه من واجبات حتمها عليهم الشارع، يعني هذا العمل -وهو الرقابة على السلطات الحاكمة-
نقول: لم يتوانَ المسلمون عن القيام بها، على الرغم من أن قيامهم بواجب الرقابة كان يعود عليهم بالضرر، فقد قتل بعضهم بسبب هذه الرقابة، وبسبب اعتراضه على أفعال الحاكمين المخالفة للشرع، وحبس بعضهم، وضرب بعضهم، لكن مع ذلك لم يمتنعوا عن ممارسة هذه الرقابة؛ على أساس أن هذه الرقابة إنما هي من الأمور الواجبة عليهم. وهنا نريد أن نتحدث عن -يعني- شروط من يمارس الرقابة، يعني إذن قلنا بأن الرقابة إنما هي من الأمور الواجبة على المسلمين، لكن: هل هناك من شروط في الذي يمارس هذه الرقابة؟ نعم؛ لابد من شروط في الذي يمارس هذه الرقابة، فاشترط الفقهاء في المحتسب، أو الذي يقوم بالرقابة، عدة شروط، منها: - الإسلام: يعني لا بد وأن يكون مسلمًا، هذا الفرض إنما هو من الفروض الدينية التي أوجبها الشارع على المسلم؛ بهدف إعلاء شعائر الإسلام، وتطبيق أحكامه، وتجنب ما نهى عنه؛ ومن ثم فلا يجوز لغير المسلم ممارسته. يعني واجب الرقابة إنما هو شعار من شعار الإسلام، وما دام هو من شعار الإسلام فالمعلوم أنه لا يقوم بذلك ولا يحافظ على هذه الشعائر إلا مسلم؛ ولذلك يشترط في المحتسب أو الذي يقوم بالرقابة أن يكون مسلمًا. الشرط الثاني: البلوغ والعقل: يتحتم أن يتوفر فيمن يقوم بواجب الرقابة أن يكون بالغًا عاقلًا، وهذا شرط بدهي؛ لأن غير البالغ أو العاقل لا يلزمهما أمرٌ ولا نهيٌ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((رفع
القلم عن ثلاثة (ذكر منهم): الصبي حتى يبلغ أو يحتلم، والمجنون حتى يفيق)) فهؤلاء غير مسئولين؛ ولذلك لا يتوجه إليهم واجب الأمر بالرقابة. - الشرط الآخر من شروط من يمارس الرقابة: العدالة: وشرط العدالة هو مما اختلفت حوله وجهات نظر الفقهاء: فالبعض يرى ضرورة أن يتوفر فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هذا الشرط، يعني بعض الفقهاء يقولون أنه لا بد وأن تتوفر العدالة فيمن يمارس الرقابة؛ ومن ثم يجب أن يكون المحتسب أو الذي يقوم بالرقابة متنزهًا عمّا نهى عنه الشارع غير متلطخ به، وهو ما تدل عليه النصوص في القرآن والسنة، أما من حيث النصوص التي توجب ذلك في القرآن كقوله -عز وجل-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44) وقوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2 - 3). هذه هي الآيات التي تدل على أن الذي يمارس الرقابة أو المحتسب، يجب عليه أن يكون عدلًا، بمعنى ألا يكون قد أتى هذا المنكر الذي يريد أن ينهى عنه. أما الاتجاه الثاني من العلماء فيرى عدم اشتراط هذا الشرط، يعني بعض الفقهاء لا يشترطون في المحتسب أن يكون عدلًا، ويقرر الشيخ الغزالي بأن كل ما ذكروه خيالات، فالفاسق له الحق في ممارسة هذا الواجب؛ لأن حرمانه من هذا الحق، وعدم تسويغ ممارسته من الفاسق، يعني أن من يمارسه لا بد وأن يكون معصومًا من المعاصي، ولو قيل ذلك؛ فإن هذا القول مخالف للإجماع الذي انعقد على عدم العصمة؛ فالصحابة غير معصومين، كما أن الأنبياء قد اختلف في عصمتهم، إلى جانب أن النصوص عامّة توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الفاسق والعدل.
إذن المسألة خلافية -كما قلنا- بعض الفقهاء يقولون بأنه يشترط في المحتسب أو الذي يقوم بالرقابة أن يكون عدلًا، واستدلوا بالآيات التي ذكرناها ومنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وهذا ينطبق على غير العدل إذا أراد أن ينهي غيره عن ذنبه. ووجدنا الرأي الثاني، ومن أنصار هذا الرأي الإمام الغزالي، وقد ذكر ذلك بالتفصيل في كتابه (إحياء علوم الدين) وهو يبين أن واجب الرقابة أو أن المحتسب لا يشترط فيه العدالة ... لماذا؟ قال بأن النصوص جاءت عامةً، النصوص التي تطلب من المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إنما هي جاءت عامة، لم تميز بين فاسق وغير فاسق، لم تميز بين عدل وغير عدل، هذا بالإضافة إلى أننا لو اشترطنا فيه العدالة فمعنى ذلك أننا نشترط عصمته من الزلل ومن الخطأ، وهذا لم يقل به أحد. نقول: يقرر الغزالي بأن الإجماع انعقد على وجوب الحسبة على كل مسلم، وقد ذهب إلى هذا الرأي أيضًا بعض الفقهاء؛ حيث يرون أنه لا يشترط في المحتسب أن يكون كامل الحال، ممتثلًا لما يأمر، مجتنبًا عما ينهي، بل عليه الأمر، وإن كان مخلًّا بما يأمر به، وفي هذه الحالة يجب على المحتسب أمران: الأول: أن يأمر نفسه ابتداءً بالمعروف وينهاها عن إتيان المنكر. الثاني: أن يأمر غيره وينهاه عن ذلك أيضًا. إذا أخل بأحدهما فلا يستساغ القول بإهدار الواجب لآخر. ويرى البعض أن الاتجاه الثاني، وهو القائل بأنه لا تشترط العدالة، يرى البعض أن هذا الاتجاه هو الصحيح؛ وذلك لقوة أدلته، وضعف أدلة الرأي الذي يشترط العدالة، كما يذهب هذا الرأي إلى أن الأدلة التي استدل بها أصحاب الاتجاه الأول لا تصلح حجة في عدم جواز قيام الفاسق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك لكون الآية الأولى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} تنكر عليهم تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنها لا تحول دون قيامهم به، يعني كأنهم يقولون: هذه الآية ليست صريحةً في منع الفاسق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الآية الثانية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا
تَفْعَلُونَ} يقول: فالمراد به الوعد الكاذب، وليس المراد به أمر الغير وترك الفعل. ونحن لا نسلم بالرأي الذي لا يشترط العدالة فيمن يقوم بالحسبة والرقابة، ووجهة نظرنا في الأخذ بالرأي الذي يشترط العدالة في من يقوم بهذا الواجب ما يأتي: - أن الإمام الغزالي اعترض على عدم منح هذا الحق للفاسق؛ لأن المنع منه يؤدي إلى اشتراط العصمة فيمن يقوم بهذا الوجه. يعني الإمام الغزالي عندما قال: "لا تشترط العدالة" استدل على ذلك بأننا لو اشترطنا العدالة، فمعنى ذلك أننا نشترط فيه أن يكون معصومًا، وهذا لم يقل به أحد. ونرى أن ذلك غير صحيح؛ فاشتراط العدالة لا يعني مطلقًا أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر معصومًا عن الخطأ، فالعصمة من الخطأ شيء واشتراط العدالة شيء آخر، ولم يقل أحد من أصحاب الرأي الذي يشترط العدالة بضرورة أن يكون من يقوم بهذا الواجب معصومًا من الخطأ. ثانيًا: أننا لو أجزنا منح هذا الحق -أي الرقابة على الناس وعلى السلطة الحاكمة- للفاسق، ليأمر غيره ممن هو كذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن هذا -فيما نرى- يؤدي إلى ضياع هذا الواجب كليةً، فإذا قام هذا الشخص بالأمر بمعروف هو لا يؤديه، أو بالنهي عن منكر هو متلطخ بفعله غير متنزه عنه؛ فإن كلًّا منهما -المحتسِب والمحتسَب عليه- يكون له الحق -لو سلمنا بهذا الرأي- في ممارسة تلك السلطة على الآخر، وكل منهما يكون محتسِبًا ومحتسَبًا عليه في آنٍ واحدٍ، والواجب قبل أن يمارس كل منهما هذه السلطة على الغير أن يكفّ هو أولًا عمّا نهى عنها الشارع، وأن يمتثل لأوامره؛ حتى يكون محلًّا للاقتداء
به. ليس معنى ذلك أننا نقول بأن المحتسب يجب أن يسلم من الخطأ كليةً؛ لأنه من المحال أن يكون كذلك؛ فالناس بشر، وكل بشر معرض للخطأ، إلا أننا نقول -كما قرر البعض- أنه يجب أن يكون المحتسب متجنبًا لما يُنتهى عنه، متنزهًا عن فعله؛ حتى لا يكون للغير الحق في ممارسة هذه السلطة عليه. خلاصة هذا الرد على الغزالي الذي لا يشترط العدالة: أننا لو أبحنا للفاسق أن يمارس هذه المهمة -وهي الرقابة- فمعنى ذلك إذا كان هو في حد ذاته إلى من يراقبه وينهاه عن الفعل الذي يرتكبه، فكيف يكون محتسِبًا ومحتسَبًا عليه في ذات الوقت؟ وكيف يقتدي به الغير؟ والشاعر يقول: لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ فما دام هو لا يلتزم بأحكام الدين، ما دام هو غير عدل ... فكيف تكون لدعوته أي أثر بالنسبة لمن يدعوه إلى الخير؟ لا شك أنه لا يُقتدى به، ولا شك أن ذلك يكون عبثًا عندما نقرر له أن يمارس هذه الرقابة. ثالثًا: أن الاحتجاج بعموم النصوص لمنح الفاسق هذا الحق أو تلك السلطة على الغير، لا ينهض دليلًا كافيًا لتقرير ذلك؛ ذلك أن هذا الواجب ككل الواجبات التي فرضتها الشريعة له شروط وله أركان، ومن شروطه فيما نرى أن يكون الشخص عدلًا، فإذا توفرت في القاعدة شروطها وأركانها فإنها تنطبق على كل من توفرت فيه، بحيث يخرج من نطاق تطبيقها من لم تتوفر فيه هذه الشروط والأركان، دون أن يكون ذلك مؤثِّرًا على كون القاعدة عامةً. رابعا: أن هذا الواجب فيه معنى الولاية على الغير، الواجب -ونقصد به الرقابة- فيه معنى الولاية على الغير، وكأي ولاية يشترط فيمن يقوم عليها أن يكون عدلًا، والفاسق في رأي فقهاء الشافعية ومن تابعهم لا ولاية له ... فكيف يتسنى لنا منحه سلطة الولاية على الغير وهو نفسه محل لأن يمارِس الغيرُ عليه هذه السلطة؟!.
خامسًا: كما أننا لا نقبل تفسير النصوص التي استدل بها المشترطون للعدالة على أنها تعني أن العقاب كان نتيجة ترك المعروف وإتيان المنكر، دون أن تحول من قيامهم به؛ لأنه -كما سبق أن أكدنا- لا نسلم مطلقًا بأن يُعطى الحق لمن لا يكفله، والسلطة لمن هو واجب أن تمارَس السلطة عليه، وأن نجيز لشخص كفالة تطبيق القانون وهو الذي يخالف القانون وينتهكه. سادسًا: وأن هذا الواجب، وقد ربطه الشارع بالإيمان، بل إنه ميزه بالتقديم على الإيمان لأهميته وضرورة كفالته في الأمة، فلهذا الواجب -وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قدّمه الله -تبارك وتعالى- على الإيمان، وجعله من أوصاف المؤمنين الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، كما الصفة المميزة لهذه الأمة عن غيرها من الأمم غير الإسلامية؛ ومن ثم يحتِّم ذلك كله أن يكون من يمارس هذا الحق ممتثلًا لما يأمر به الشارع، متنزهًا عمّا ينهى عنه؛ فالإسلام كلٌّ لا يتجزأ، ولمن ينهي عن فعل فأولى به أن ينهي نفسه أولًا، ويكف عنه، وقبل أن يأمر الغير فأولى أن يبدأ بأمر نفسه. الشرط الرابع من الشروط الواجب توافرها في الذي يمارس الحسبة أو يمارس الرقابة: القدرة: يشترط فيمن يقوم بالرقابة الحسبة أن تتحقق لديه الاستطاعة والقدرة لممارسة هذا الواجب، على وجه لا يؤدي إلى فساد عظيم في نفسه، أو ماله، أو أهله، وقد بيّن الحديث الشريف نطاق القدرة البشرية على نحو يؤدّي إلى كفالة هذا الواجب واستحالة خروجه عن نطاق القدرة البشرية، عندما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)). فمن لا يستطيع الإنكار باليد فأمامه وسيلة تحقيق هذا الواجب بالإنكار بالقول، ومن لا يكون له في استطاعته الإنكار بالوسيلة الأخيرة فلا حسبة عليه باليد أو
اللسان؛ إذ يكون عاجزًا عن تحقيقها بهما، والعاجز غير مكلف بكفالة ما عجز عن تحقيقه، إلا أنه تبقى أمامه وسيلة أخرى هي الإنكار بالقلب، وهي دائمًا وأبدًا تدخل في نطاق الاستطاعة والقدرة البشرية؛ لارتباطها بشعور ووجدان المكلَّف، ولا مدخل لأي سلطة كانت على خلجات النفس وما يجول بالوجدان والضمير. الشرط الخامس من الشروط التي يشترط توافرها فيمن يمارس الرقابة: العلم: وشرط العلم يختلف وجوبه بحسب ما إذا كان الفعل مخالف للقانون ظاهرًا وواضحًا، فلا يحتاج الوقوف على مدى مخالفته للقانون إلى ضرورة توفر صفة المجتهد فيمن يقوم بأداء هذا الواجب، أو كان من دقائق الأفعال، ومما يتعلق بالاجتهاد؛ فيحتاج الوقوف على مخالفته للقانون إلى توفّر شروط الاجتهاد فيمن يقوم به. أي معنى الكلام: هل يشترط أن يكون الذي يمارس الرقابة عالمًا مجتهدًا أم لا؟ نقول: هذا يتوقف على نوع المخالفة، فإذا كانت هذه المخالفة واضحة تمامًا ففي هذه الحالة معنى ذلك أنه لا يشترط ذلك -أي لا يشترط الاجتهاد- أما إذا كانت تحتاج إلى فقه، وهي من الأمور المختلف فيها، ففي هذه الحالة تحتاج إلى العلم. فإذا كان الفعل من النوع الأول -وهو الواضح- فإن حق إنكاره ومقاومته يكون لآحاد المسلمين، كل واحد من الناس، يكون لآحاد المسلمين وخواصهم، ولا تتوقف ممارسته على أي شرط آخر، سوى شرط الإسلام، والبلوغ، والعقل، والعدالة، والقدرة، سواء كان هذا الشخص إمامًا، أو قاضيًا، أو فقيهًا، أو واحدًا من آحاد المسلمين.
أما إذا كان الفعل يقتضي الوقوف على مخالفته للقانون إلى توفّر شرط الاجتهاد لكونه من دقائق الأفعال والأقوال، فلا يكون للعامة الحق في الرقابة والإنكار على هذه الأعمال؛ لأنهم قد ينكرون فعلًا والأمر على خلاف ذلك، بل هذا الحق يُعطى فقط للفقهاء الذين يحيطون بالنصوص ومقاصد الشارع، وهؤلاء أيضًا سلطتهم في الإنكار تتوقف بحسب ما إذا كان الفعل قد أجمع على حكم محدد له، أو كان هذا الفعل من المسائل الخلافية بين الفقهاء. الشرط السادس: الحصول على إذن سابق من السلطة العامة: هذا الشرط من الشروط التي لم تتّفق حولها الآراء في الفقه الإسلامي، فيذهب رأي إلى أنه لا يجوز ممارسة هذا الواجب -أي سلطة الرقابة- إلا إذا أذنت السلطات العامة بممارسته، وحجة من قال بذلك أن إعمال هذا الحق يقتضي تقرير سلطة وولاية على المحكوم عليه؛ ومن ثم لا يجوز أن يُعطى هذا الحق أو يتقرر قيام المسلم بأداء هذا الالتزام، إلا إذا فوّضته السلطات العامة بذلك، ومما يقتضي الحصول على إذن مسبق من السلطات العامة عدم جواز القيام بهذا الواجب من الكافر على المسلم، مع كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقًّا. وقد ردّ الغزالي على من اشترط هذا الشرط، فهو بعد أن قرر أنه من الشروط الفاسدة؛ فإن النصوص في القرآن أو السنة دلّت على أن كل من رأى منكرًا أو سكت عن إنكاره، فإنه يخلّ بواجب حتّمت عليه النصوص إنكاره أينما رآه وكيفما رآه؛ لذلك فإن القول بهذا الشرط -ونقصد به الحصول على إذن من السلطات العامة- تحكّم لا أصل له من الشرع، ومن ناحية فإن عدم جواز منح غير المسلم هذا الحق أو القيام بهذا الالتزام، ترجع إلى أن غير المسلم لا يجوز له أن يمارس أي سلطة أو ولاية على المسلم، إلى
الحكم عند العرب قبل الإسلام.
جانب أن المسلم يتمتّع بهذا الحق، ويجب عليه القيام بهذا الالتزام بصفته مسلمًا، فاستحقّ هذا الإعزاز من الشارع ومن الدين؛ لأنه من الواجبات الدينية، وكأي واجب ديني يقتصر أدائه على المؤمنين بالرسالة دون غيرهم؛ لأن فيه تسلطًا على المسلمين. نكتفي بهذا القدر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - الحكم عند العرب قبل الإسلام وبيان أن الإمامة مبحث فقهي الحكم عند العرب قبل الإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد انتهينا في المحاضرات السابقة من الحديث عن القواعد التي يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام وهي: قاعدة الحاكمية لله سبحانه وتعالى، وقاعدة الشورى في الإسلام، وقاعدة الحقوق والحريات العامة في النظام الإسلامي، وقاعدة مسئولية الحاكم أمام مجموع الأمة، وقاعدة رقابة الأمة للحاكم، ونبدأ في هذه المحاضرة في الحديث عن نظام الحكم في الإسلام. والحديث عن نظام الحكم في الإسلام يستدعي أن نلقي أولًا نظرة عن نظام الحكم عند العرب قبل الإسلام فنقول -وبالله التوفيق-: لم يكن للعرب قبل الإسلام حكومة بالمعنى الذي نعرفه للحكومات الآن، فلم تكن لهم إدارة منظمة لها السلطان الذي يخضع له الناس وتعمل على إيصال الحقوق إلى أربابها ومنع تعدي الناس بعضهم على بعض، وإنما كانوا بدوًا أو شبه بدو يعيشون في قبائل متعددة متفرقة، يجمع أفراد كل قبيلة رابطة الدم التي كانت هي موضع التقديس من كل عربي يعيش في شبه الجزيرة العربية، هذه الرابطة -وهي رابطة الدم- التي إن وجدت سواء كانت في الواقع أم في زعمهم عُدّوا كتلة واحدة تُوجب لأفراد القبيلة الحماية التامة تحت ظلها، وتعطي لكل فرد فيها حق الاستصراخ بها، وهي ملزمة بالزود عنه كما أن عليه الخضوع المطلق لعرفها ودينها، وكانت القبيلة تعيش غالب حياتها في نزاع مع القبائل الأخرى، فتضطر إلى عقد حلف مع غيرها لصدّ غارة أو للإغارة على أحلاف أخرى أو لغير ذلك من الأغراض، وإذا ما تحالفت القبائل استعدادًا لحرب واحتاجوا إلى من يرأسهم جميعًا اقترعوا بين أهل الرياسة، يعني: عملوا قرعة بين من يصلحون أن يكونوا رؤساء فمن خرجت له القرعة فهو رئيسهم.
وإذا نظرنا إلى الأنظمة السياسية التي عاشت مع العرب قبل الإسلام نجد بعضها عاش مع البدو في الجهات الصحراوية مثل نجد وأطراف الحجاز، حيث كانت القبيلة على صغرها هي الوحدة السياسية، يرتبط أفرادها برباط الدم والعصبية، ولا يخضعون لسلطة ما حتى ولا سلطة رئيس القبيلة الذي كان يمكن أن يرفض حكمه أي فرد في القبيلة وما كان عليه إلا أن يعتمد على قوته إن كانت لديه القوة، أو يهجر القبيلة كلها إن استشعر الخوف منها ويلجأ إلى قبيلة أخرى، فقد كان الواحد منهم لا يعتبر زعامة شيخ قبيلته أو سلطته إلا رمزًا لفكرة عامة شاءت الظروف أن يأخذ هو منها بنصيب، بل كان هو مطلق الحرية في أن يرفض ما اجتمع عليه رأي الأغلبية من أبناء قبيلته، إلا أن هذا لا يمنعنا من القول بأن بعض القبائل كان حكم رؤساءهم فيهم نوعًا من الجبروت والظلم، حتى أذلوا الناس إذلالًا لم يقض عليه إلا ظهور الدين السماوي الجديد الذي بشر به محمد -صلى الله عليه وسلم. ونظرًا إلى أن القبائل تعتبر وحدات مستقلة كانت البلاد مقسمة إلى مناطق نفوذ متعددة، كل منطقة تسيطر عليها القبيلة التي كانت لها الغلبة على تلك المنطقة، وكان يرأس القبيلة واحد من أبنائها تعتمد عليه في قيادته في معاركها المتعددة التي تخوضها ضدّ القبيلة الأخرى نهبًا لما لديها أو استردادًا لحق انتزعته الأخرى منها، وكان رئيس القبيلة يُختار ممن تتوافر فيهم شروط الخاصة من كثرة المال وعِظَم النفوذ والتمتع بالحظوة بالاحترام من أفراد القبيلة؛ لشجاعته وسداد رأيه وكمال تجربته مع كِبر سنه وعصبيته، ولم يكن اختيار رئيس القبيلة أو شيخها يتمّ بالطرق التي نعهدها الآن في اختيار رؤساء الدول، وإنما كان يختار اختيارًا تلقائيًّا إذا توافرت فيه الشروط التي يطلبونها دائمّا في رئيسهم،
ولم يكن لهم نظام معين لنقل سلطة شيخ القبيلة وإذا ما تضخمت القبيلة وتشعبت فروعًا كثيرة يتمتع كل منها بحياة منفصلة ووجود مستقلّ ولا تتحد إلا في ظروف غير عادية اشتراكًا في الدفاع عن القبيلة أو قيامًا بغارات بالغة الخطورة، وقد تتعدد الرياسات في بيت واحد متى توافرت له أسباب الغلبة والعصبية، فيتناقلها قوي عن قوي يسود أفراد قبيلته، فقد يكون لرئيس القبيلة ابن الابن يعدله في الشرف والمكانة والسطوة وحينئذ يستطيع أن يتبوأ مكان الرياسة من أبيه، إلا أنه نادرًا ما كان يتعاقب السيادة والرياسة ثلاثة أفراد من قبيلة واحدة. وكان يعاون شيخ القبيلة مجلس يسمى مشيخة القبيلة الذي يمثل الرأي العام في القبيلة والذي يختار أفراده ممن برزوا في الرأي والمواهب التي تعتز بها القبائل، فكان من بين أفراده شاعر القبيلة التي تعتمد عليه في إظهار مناقبها والتغني ببطولاتها، ويضمّ حكام القبيلة من أهل الشرف الذين اشتهروا بين الناس بالصدق والأمانة والتجربة وسداد الرأي وكبر السن الذين لهم الشهرة بين الناس بالقدرة على الفصل في خصوماتهم في مسائل النسب والفصل والتركة والدماء، وهؤلاء الحكام لم يكونوا يحكمون بقانون مدون ولا قواعد معروفة، وإنما يرجعون إلى عرفهم وتقاليدهم التي كوّنتها تجاربهم أحيانًا، وما وصل إليهم عن طريق اليهود أحيانًا أخرى، ولم يكن لهذا القانون الجاهلي المؤسس على العرف والتقاليد جزاء، ولا كان المتخاصمون ملزمين بالتحاكم إليه والخضوع إلى حكمه، فإن تحاكموا إليه فبها وإلا فلا، وإن صدر الحكم أطاعه إن شاء. ويضم المجلس أيضًا من بين رجاله الشجعان الذين اشتهروا بالفروسية، وبعض الأفراد من ذوي المكانات الخاصة كالعراف والكاهن، هذا بالإضافة إلى شيوخ العشائر والذين اكتسبوا التجارب من الحياة لكبر سنهم، فهؤلاء كلهم يمثلون
مشيخة القبيلة التي يعتمد عليها رئيس القبيلة في تسيير دفتها، ولا يستطيع أن يشنّ حربًا أو يعقد صلحًا أو يتخذ غير ذلك من القرارات التي تؤثر في حياة القبيلة إلا بعد أخذ رأي هذا المجلس، فلم يكن حكم القبيلة جاريًا بنصوص قانونية تحكمها وتنظم علاقات الناس بعضهم ببعض كما نعهده في القوانين التي تحكمنا اليوم، وإنما كان الحكم فيها جاريًا بتوجيه من الغريزة والفطرة، يرتضون نظامًا يتفق مع مفاهيمهم الساذجة فيصير بمرور السنين عرفًا لا يستطيع فرد أن يغير منه شيئًا بسهولة، وسواء في هذا العرب الذين يعيشون في الصحراء مثل نجد وأطراف الحجاز والعرب الذين أخذوا بشيء من الحضارة الذين يقطنون المدن كمكة والمدينة أو في أطراف شبه الجزيرة كممالك اليمن في الجنوب ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي ودولة الغساسنة في الشمال الغربي. وكان لكل قبيلة عرف وتقاليد خاصة قد تخالف ما للقبائل الأخرى من أعراف وقد تتفق معها في كثير أو قليل، وفي أواسط الجزيرة العربية وبين الحكم القبلي وجدت مملكة وحيدة لم تستطع أن تعمّر إلا مدة تقارب الخمسين عامًا وهي مملكة كندة التي قضى عليها ملوك الحيرة والتي ينسب إليها امرؤ القيس أحد شعراء المعلقات المشهور. وإذا ما تركنا أواسط شبه الجزيرة العربية وانتقلنا إلى الحجاز نجد مدنًا ذات حياة سياسية خاصة، فكل مدينة من مدن الحجاز تحكم نفسها وتستقل عن الأخرى تمام الاستقلال، وهكذا كان الأمر في مكة وفي المدينة وفي الطائف، ونجد كل مدينة تتحكم فيها أيضًا الروح القبلية وتسيطر عليها سيطرة تامة، بل نجد العربي مع وجوده في المدن لا يعرف الانتساب إليها بل لا ينتسب إلا إلى قبيلته، فلم يعرف العرب الانتساب إلى المدن إلا في القرن الثاني الهجري.
وكانت مكة ولها المكانة العظمى بين مدن الحجاز لا يحكمها ملك، وإنما الحكم فيها كان مسندًا إلى عدة رجال من الأسر الكبيرة، قسموا الأعمال العامة فيما بينهم، وقد استقر الرأي على أن يكون أكبرهم سنًّا هو الذي يتولى الرياسة ويلقبونه بسيد القوم، وكان أسنهم -يعني: أكبرهم سنًّا- في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- هو العباس بن عبد المطلب. وكان يتنازع الزعامة في يثرب جماعتان هما الأوس والخزرج، قامت الحروب بينهما واستمر الجدل طويلًا حتى استقروا على أن يكون الحكم بينهما بالتناوب، فيحكم المدينة زعيم من زعماء الحي الواحد على أن يكون الحاكم في العام القادم من زعماء الحي الآخر. وقد ظهر بأطراف شبه الجزيرة العربية ممالك صغيرة متفرقة، فنرى ممالك اليمن في الجنوب كمملكة سبأ والتي كان لها شهرة واسعة وبخاصة بعد أن تكلم عنها القرآن الكريم وحكى قصة ملكتها بلقيس مع النبي سليمان -عليه السلام- ويلاحظ أن اليمن قام بها نظام سياسي يخالف النظام الذي ساد مدن الحجاز، فبينما نجد هذه المدن لم يقم بها نظام ملكي نرى أن النظام الملكي قد قام باليمن لأسباب اقتصادية وتاريخية واضحة الأثر، فلم تكن بين مدن الحجاز روابط اقتصادية تقتضي خضوعها لنظام واحد كما حدث في اليمن، فقد قامت في اليمن تلك الروابط الاقتصادية التي تستلزم وجود قواعد عامة يحترمها الجميع ويطبقونها في الحكم فيما بينهم، زيادة على ذلك فإن اليمن قد بليت بالاستعمار الحبشي والفارسي، والاستعمار يهمه أن يكون استيلاءه عل البلاد كاملًا، فأقام الأحباش والفرس حاكمًا للبلاد تكون كلها خاضعة لسلطانه بالقوة إن لم يخضعوا له بالرضا والاختيار، ولم يُبتلَ الحجاز كاليمن بالاستعمار.
ومن كل ذلك نرى أن الفكرة القبلية كانت هي المسيطرة على شبه الجزيرة العربية، وهي عماد الحياة سياسيًّا واجتماعيًّا، وأنه لم تكن هناك حكومة مركزية تسيطر على بلاد العرب قبل الإسلام وتعزز جانب القانون وتعمل على إقرار النظام في البلاد، فلم يهيأ للقانون أية قوة تحميه وتصونه بل كان على صاحب الحق أن يعمل على نزعه بعصبيته وقوته. وكان ظهور دين محمد -صلى الله عليه وسلم- إيذانًا بانتهاء عصر التحكم والسيطرة والفوضى الذي عاشت فيه الجزيرة العربية، فقد كان للإسلام الفضل الأسمى على جماهير الناس الذين انتشلهم من حياة العسف والاستبداد ونهاية التحكم من الحكام للمحكومين، فقد عرفت الجزيرة العربية قبل الإسلام ضروبًا من الطغيان والاستبداد لا تقل عن ضروبه المشهورة التي عرفت في الشعوب الأخرى، فبعض قبائل البادية والحاضرة قد سادها زعماء يقيسون عزتهم بمبلغ اقتدارهم على إذلال غيرهم، ولعل كتب التاريخ والأمثال تعطي وصفًا لما كان عليه بعض الجبارين من حكام العرب في الجاهلية، فقد قيل في أسباب المثل القائل: لا حُرّ بوادي عوف: أنه كان يقهر من حلّ بواديه، فكل من فيه كالعبد له لطاعتهم إياه، وبلغ من جبروت أحدهم أنه أمر ألا تزفّ فتاة إلى زوجها قبل أن تزف إليه. ففضل الإسلام ظاهر في رفع هؤلاء الناس من حضيض الانحطاط إلى نوع من الحياة سام، وأفق من العزة رحب لم يكونوا بالغيه إلا بظهور الدين الجديد الذي بشّر به محمد -صلى الله عليه وسلم.
الإمامة مبحث فقهي.
الإمامة مبحث فقهي وننتقل الآن إلى الحديث عن الإمامة العظمى ونبحث: هل هي مبحث فقهي، أم أنها من مباحث علم الكلام؟ وبمعنى آخر: هل تُبحث في العقائد، أم أنها تُبحث في الأحكام العملية كعلم الفقه؟ هذه مسألة من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء، فالإمامة العظمى أو رياسة الدولة من المسائل التي أوجدت في جماهير الأمة الإسلامية الاهتمام البالغ، والخلاف الذي وصل في بعض الأحيان إلى حد لقاءات السيوف تحملها على الجانبين أيدي مسلمين، ولعل هذا هو ما حدا بأحد كبار مؤرخي الفرق الإسلامية على أن يقول: وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان وهذا رأي الشهرستاني في (الملل والنحل) في الجزء الأول صـ21. الشهرستاني يقول: أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، ويبين أن السيوف لم ترفع ويقتتل المسلمون إلا على قاعدة دينية مثل الإمامة، يعني: كأن الإمامة من أكثر الأمور التي سلّت السيوف من أجلها، لكن الملاحظ أن عبارة الشهرستاني هذه فيها شيء من المبالغة، إذ أنه عمم حكمه على كل زمان فهو يقول: إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان، فهو عمّم حكمه على كل زمان قاطعًا بأن الخلاف الناشئ عن الإمامة كان أعظم خلاف بالسلاح. نرد عليه ونقول: لم يكن بين أفراد الأمة خلاف في الإمامة أيام أبي بكر وعمر وعثمان، لا بسيف أو بغير سيف، ولم تسلّ السيوف أيامهم على شيء من الدين سوى ما كان زمن أبي بكر من لقاء بالسيوف بين المسلمين وبين المرتدين ومانعي الزكاة، وما حدث في يوم السقيفة قبل مبايعة أبي بكر خليفة للمسلمين لا يعدّ نزاعًا بين طائفتين من المسلمين مسلحًا أو غير مسلح، وإنما هو نقاش وحوار بين مجموعتين كل منهما ترى رأيًا تؤمن بوجوب إبدائه، فلما رأت
إحداهما أن الحق في الجانب المقابل لها رضيت طواعية بذلك، ويحدث مثل هذا في كل موقف مشابه في كل أمة تعتريها ريح التغيير، ولم يرفع سلاح أيضًا في خلافة عمر، والسلاح الذي رفع على عثمان وأدى إلى مصرعه لم يكن محركه نزاعًا على الخلافة وإنما كانوا من أناس اعتقدوا خطأه -رضي الله عنه- في أمور نسبوها إليه، بل إن القتال الذي دار بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبين الذين شهروا السلاح عليه لم يكن كما يتوهم البعض، لم يكن خلافا مسلحًا على الإمامة، فلم يدّع الذين قاتلوه في معركة الجمل وصفين والنهروان أنهم يقاتلون لأنهم يعتقدون بإمامة غيره، وإننا لنجد كثيرًا ممن عاصروا هذه المعارك من الصحابة وكثيرًا من العلماء يعدّون ما حدث فتنة نزلت بالمسلمين، حتى أن بعض من عاصرها اعتزل الناس فلم يقاتل لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فالقتال بين علي وغيره كان قتالًا بين أهل العدل والبغي، ولم يكن قتالًا على قاعدة دينية، وإنما كان أول سيف سلّ على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج وقتالهم من أعظم القتال وهم الذين ابتدعوا أقوالًا خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها، فلم يحدث قتال بين علي -رضي الله عنه- وبين من يدعون عدم إمامته، ولم يثبت أنّ أحدًا قال أيام خلافة علي إنه أحق بالخلافة منه، بل كانت الأمة معترفة بفضل عليّ وأحقيته في تولي الأمر بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه وأرضاه- وبينما نجد أن كثيرًا من المسلمين في المدينة قد بايع عليًّا -رضي الله عنه- نجد أن كلًّا من طلحة والزبير لم يبايعهما أحد ولم يطلبا المبايعة من أحد، يعني: إذا كان طلحة والزبير كانوا ضدّ عليّ فالحدث أو الخلاف الذي حدث بينهم وبين علي لم يكن بسبب
أنهم يدّعون أنهم أولى بالخلافة منه، بل كان لأمور أخرى، وهذه الأشياء التي سردناها إنما تدل على أن الإمامة لم تكن سببًا في أن اقتتل المسلمون، ولذلك هي لا تعتبر من العقائد، وإنما تعتبر من الأمور العملية التي يبحثها علم الفقه. وعلى الرغم من المبالغة في عبارة الشهرستاني كما بيّنا إلا أن هذا لا يمنع القول بأن رياسة الدولة أو الإمامة العظمى أخذت من اهتمام جماهير الأمة قدرًا لا يتوافر مثله إلا للقليل من المسائل؛ اهتمامًا بلغ درجة الخلاف الواصل في بعض الأحيان كما قلنا إلى حدّ لقاءات السيوف بين المسلمين، وأحدثت نزاعًا سياسيًّا وفكريًّا بين طوائف الأمة أدى فيه السيف دوره في بعض الأحيان، وأدى فيه كل من اللسان والقلم دوره في كثير من الأحيان، وقد أصبحت الإمامة العظمى أو رياسة الدولة أعظم مشكلة تدور حولها البحوث السياسية الإسلامية خلال العصور المختلفة، وصارت هي المحور الذي لا تفترق عنه أفكار الباحثين في هذا المجال الخطير. الشيعة هم أول من كتب في الإمامة العظمى، لقد صار للإمامة العظمى دور خطير في ميدان البحوث العلمية وضع أساسه شيعة عليّ -رضي الله عنه- وأضاف له غيرهم نتائج بحوثهم وأفكارهم، وكانت الآراء الخاصة بالإمامة العظمى تروى بطريق المشافهة التي تأخذ شكل مناظرات أو تكتب في الرسائل التي تتبادل بين المهتمين بها، أو تأخذ شكل الدرس أحيانًا، ولكن لم يظهر التأليف والكتابة المنظمة إلا في العصر العباسي الأول. ولقد كانت الشيعة أول من كتب في الإمامة العظمى كتابات علمية منظمة نشأت نتيجة الخلاف الذي كان بينهم وبين مخالفيهم من الخوارج والمعتزلة وأهل السنة، ولما كان هذا العصر عصر الازدهار العلمي فقد راجت فيه العلوم وانتشرت
المناظرات والمجادلات، فقد بدأت الفرق الأخرى من المعتزلة والخوارج تشتبك مع الشيعة في جدل علمي يردّون به على القضايا التي يثيرها الشيعة، فنتج عن ذلك نتاج فكري خصب أضيف إلى ما لدى المسلمين من علوم، وبينما كان الجدل يجري بين الشيعة وغيرهم من الخوارج والمعتزلة كانت هناك جماعة أخرى بعيدة عن الجدال الدائر حول مسائل علم الكلام، وهي جماعة المحدثين أو أهل السنة الذين كانوا ينفرون من الخوض في مسائل علم الكلام ويشغلون أنفسهم باستنباط الأحكام الفقهية من الكتاب والسنة، ولهذا فإن بحوث أهل السنة المتصلة بموضوع الإمامة العظمى جاءت متأخرة عن بحوث غيرهم من من الفرق الأخرى، ولقد كان المتصدون للشيعة أولًا هم المعتزلة الذين مهدوا الطريق لأهل السنة الذين بدورهم أخذوا يدلون بدلوهم في هذا المجال الجديد، ولما كان الشيعة كما قدمنا هم أول من تكلم في الإمامة العظمى فقد أدرجوا بحوثهم المتصلة بها في علم الكلام؛ لأنهم يدّعون أن الإيمان بالأئمة جزء من الإيمان ولا يكون المرء مؤمنًا حتى يؤمن بالإمام، هذه الفكرة المسيطرة عليهم، هذه الفكرة هي التي جعلتهم يتكلمون عن الإمامة ويبحثوها في علم الكلام الذي هو علم التوحيد إذا صحّ التعبير، فإذن جعلوها من العقائد، وبحثوها على أنها من العقائد وليست من أحكام الفروع، بل يعتقد بعضهم أن الله لم يخلق خلقه إلا لأجل أئمتهم فيقول بعضهم: ونعتقد أن الله -تبارك وتعالى- خلق جميع ما خلق لأهل بيته -عليهم السلام- وأنهم لولاهم لما خلق الله السماء والأرض ولا الجنة ولا النار ولا آدم ولا حواء ولا الملائكة ولا أشياء مما خلق صلوات الله عليهم أجمعين، ويقول بعضهم: لا يكون العبد مؤمنًا حتى يعرف الله ورسوله والأئمة -عليهم السلام- وإمام زمانه،
إلى غير ذلك من الأقوال التي تدل على أنهم جعلوا الإيمان بالإمام جزء من الإيمان بالله تبارك وتعالى، كل ذلك يدلنا على المدى الذي وصل إليه الشيعة في إيمانهم بالإمامة والأئمة. وقد ترتب على هذا -كما قلنا- أن الشيعة أدمجوا المباحث المتصلة بالإمامة بمباحث علم الكلام، وعلم الكلام هو الذي يبحث فيه الأشياء التي لا يكون الإنسان مؤمنًا إلا بها مثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى غير ذلك، أو ما نطلق عليه علم التوحيد، فعلم الكلام يبحث في العقائد، الشيعة بحثوا الإمامة في علم الكلام باعتباره العلم الذي يتعرض للعقيدة، ولا عقيدة لمؤمن حتى يؤمن بالأئمة كما يذهبون. وعلى الرغم مما في ادعاء الشيعة أن الإمامة أصل من أصول الإيمان من شذوذ ظاهر عن إجماع الأمة، إذ المعروف في دين الإسلام أن الكافر إذا اعتقد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأدى حقوق هذه الكلمة صار بذلك مؤمنًا، يؤيد ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام)) ففي الحديث لم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بالأئمة، ويقول -سبحانه وتعالى-: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (التوبة: من الآية: 5) ولم يذكر أيضًا في هذا الإيمان بالأئمة، وقال -سبحانه وتعالى-: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: من الآية: 11) ولم يذكر في كل ذلك الإمامة لا من قريب أو من بعيد. ولم تُذكر الإمامة في أركان الإيمان، في الحديث المتفق عليه المبين للإسلام وللإيمان وللإحسان، فقد أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- جبريل في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال له: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)) ولم يذكر في ذلك الإمام ((والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) ولم يذكر الإمام، قال: ((والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) وهو حديث متفق عليه أجمع العلماء على صحته.
والآيات القرآنية كثيرة تشرح حقيقة المؤمنين وتصفهم بالهداية من غير أدنى إشارة إلى الإمامة، معنى ذلك أن الإمامة ليست جزءًا من الإيمان كما ذهب إلى ذلك الشيعة، انظر إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 2 - 4) ففي هذه الآيات لم يذكر الله -تبارك وتعالى- الإيمان بالإمامة، وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) ويقول سبحانه وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177) قوله سبحانه وتعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 1 - 5). ففي كل هذه الآيات التي ذكرناها والتي يبين فيها الحق تبارك وتعالى صفات المؤمنين، لم يذكر من ضمن هذه الصفات أنهم يؤمنون بالإمامة وبأن الإمامة ركن من الإيمان،
وأما يمكن أن يكون شبهة لهم في دعواهم أي: للشيعة القائلين بأن الإيمان بالإمامة شرط، لا نجد لهم شبهة في دعواهم إلا الحديث الذي ينسبونه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية فقد ردّ العلماء على هذا الحديث، فيقول بعضهم في الرد: من روى هذا الحديث بهذا اللفظ؟ يعني: أين الراوي؟ والحديث لا يقبل إلا براوٍ، وأين إسناد الحديث؟ وكيف يجوز أن يحتجّ بنقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله؟ يعني: لا يقبل حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إذا بينّا السند، بينا الطريق الذي أوصل إلينا هذا الحديث، فإذا لم يبين هذا السند فلا يعتد بهذا الحديث، هذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يعرف؟ لأن العلماء وعلى رأسهم ابن تيمية ينكر هذا الحديث كلية، أولًا يقول بأنه ليس له سند، وأين رواة هذا الحديث وما دام ليس له رواة فلا يقبل هذا الحديث، بل يقول بأن الحديث لم يعرف إطلاقًا عند أهل العلم بالحديث، لكن هناك ربما يكون قريب من هذا، وهو الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) فهذا الحديث لا يدلّ على أن الإمامة ركن من أركان الإسلام، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوضح بهذا الحديث أنه يجب على المسلم أن يطيع الإمام أو يطيع الحاكم ما دام هذا الحاكم لم يأمر بمعصية؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) ثم إذا حدث وأن أصبح هذا الحاكم ظالمًا فأيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهانا عن الخروج عليه إذا كان في الخروج عليه مفسدة أكبر من وجوده في الحكم، هذا هو معنى الحديث
ولا علاقة للحديث إطلاقًا بالإمامة وكونها من مباحث علم التوحيد والكلام أو من مباحث الفروع، فإذن هذا الحديث لا يدل من قريب أو من بعيد على أن الإمامة أو الإيمان بالإمامة جزء من الإيمان. نقول: على الرغم من شذوذهم عن إجماع الأمة الإسلامية في ادعائهم أن الإمامة العظمى جزء من الإيمان والذي ثبت بطلانه بما تقدم -فإنهم لم يكتفوا بذلك، بل زادوا على ذلك بدعًا وأظهروا من الضلال ألوانًا، فقد أبان الشيعة في كتاباتهم وبحوثهم في الإمامة عن ألوان من البدع والانحراف كقولهم بعصمة الأئمة عن الخطأ، والطعن في الخلفاء الثلاثة الأوَل: أبو بكر وعثمان وعمر، والطعن في الخلفاء الثلاثة الأول طعنًا وصل إلى درجة الاتهام بكتمان ما أنزل الله، بل والطعن في سائر الصحابة وكل من لم يوافقهم فيما ذهبوا إليه، وكان طبيعيًّا أن ترد عليهم الطوائف الأخرى من المسلمين من أهل وغيرهم في مجال بحوثهم، وهم قد بحثوا ذلك في علم الكلام، فكان الأليق والأجدى أن يردّ عليهم العلماء على ما ذهبوا إليه في علم الكلام أيضًا، يقول: كان طبيعيًّا أن تردّ عليهم الطوائف الأخرى من المسلمين من أهل السنة وغيرهم في مكان بحوثهم وتناقش قضاياهم في العلم الذي أدرجوا فيه ضلالاتهم؛ حتى يتمكن المطلعون على دعاواهم من معرفة ردود العلماء عليها وبخاصة وأنهم ادعوا أن هذه الضلالة من أركان العقيدة، والحقيقة أن مباحث الإمامة ليست من أركان العقيدة في شيء كما مر، وإنما فرع من الفروع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، فمنصب رئيس الدولة أو الإمام لا يعدو أن يكون من فروض الكفايات التي إن قام بها البعض سقط عن الباقين،
وأصول الدين ليست من هذا القبيل وإنما هي من الفروض العينية التي لا تسقط عن واحد من المكلفين، بل نرى العلماء يصرحون بأن البعيد عن الخوض في مسائل الإمامة أسلم في دينه من الخائض فيها، فهذا معناه أن الإمامة ليست من أركان العقيدة وإنما هي فرع من الفروع كما قلنا، وإننا نجد العلماء يصرحون بأن مباحث الإمامة مكانها الطبيعي ليس هو علم الكلام. وإنما المكان الطبيعي هو علم الفقه يقول بعضهم: لا نزاع أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق؛ لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، وهي أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية لا ينتظم الأمر إلا بحصولها فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كل واحد، ولا خفاء في أن ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية، ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإمامة اعتقادات فاسدة واختلافات بل اختلاقات باردة سيما من فرق الروافض والخوارج، ومالت كل فئة إلى تعصبات تكاد تفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام ونقد عقائد المسلمين والقدح في الخلفاء الراشدين، مع القطع أنه ليس للبحث عن أحوالهم واستحقاقهم وأفضليتهم كثير تعلق بأفعال المكلفين ألحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام. فهذا القول من الباحثين في موضوع الإمامة يبين أن الإمامة البحث فيها إنما يكون في علم الفروع وليس في العقائد، ليس في علم الكلام وإنما في علم الفقه، ثم يبين أنه أراد الفقهاء أن يردوا على الشيعة الذين يجعلونها من العقائد، ردوا عليهم فكان الرد المناسب أن يردوا عليهم في العقائد التي كتبوا فيها حتى يستطيع الناس أن يتبينوا الحق من الضلال. نكتفي بهذا القدر، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام.
3 - معاني الخلافة والإمامة، وحكم نصب الإمام معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام الحمد لله رب العاملين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: نتحدث الآن عن معاني الخليفة والإمامة، وغير ذلك من المسائل المتصلة بهما، فنقول -وبالله التوفيق-: قبل الكلام في المذاهب الإسلامية حيال نصب الرئيس الأعلى للدولة، سنتعرض أولًا لبيان الألقاب التي كانت تطلق على القائم بأمور المسلمين، فألقاب: الخليفة، وأمير المؤمنين، والإمام، كانت تطلق على من له السلطة التنفيذية العليا في الدولة الإسلامية، وكان لكلٍّ منها ظروف وملابسات تاريخية، أدت إلى ظهروه وإطلاقه على رئيس الدولة. الخلافة: في الأصل مصدر "خَلَفَ" يقال: خَلَفَ فُلَانٌ فُلَانًا فِي قَوْمِهِ يَخْلُفُهُ خِلَافَةً فَهُوَ خَلِيفَةٌ. قال صاحبا القاموس وشرحه: وَخَلَفَهُ فِي قَوْمِهِ خِلَافَةً. والقياس يقتضيه؛ لأنه بمعنى الإمارة. وفي كتب اللغة ما يدل على أن الفعل "خَلَفَ" يدل على قيام إنسان مقام آخر فيما كان يقوم الأول به، سواء كان الأول هو الذي استخلفه، أم جاء الثاني بعده دون أن يستخلفه الأول، ففي الصحاح ويقال: خَلَفَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا كَانَ خَلِيفَةً. يقال: خَلَفَهُ فِي قَوْمِهِ خِلَافَةً. ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} (التوبة: من الآية: 142) وخَلَفْتُهُ أيضًا: إذا جئت بعده. وفي (مختار الصحاح): وخَلَفَ فُلانٌ فُلَانًا إِذَا كَانَ خَلِيفَتَهُ. يقال: خَلَفَهُ في قومه، ومنه قوله تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} وخَلَفَهُ أَيْضًا جَاءَ بَعْدَهُ. ومن ذلك يتبين أن لفظ "الخلافة" في الأصل مصدر "خَلَفَ" ثم بعد ذلك أطلق في العرف العام على الزعامة العظمى، وهي الولاية العامة على سائر أفراد الأمة، والقيام بتيسير شئونها، والنهوض بكل ما يحقق مصالحها وفق ما أمر به الشارع -تبارك وتعالى.
مَن يُطلَق عليه اسم الخليفة؟ اختلف العلماء فيمن يستحق ممن يتقلّد رياسة الدولة أن يطلق عليه اسم الخليفة: - فذهب بعض أئمة السلف -ومنهم الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- إلى كراهة إطلاق اسم الخليفة على من جاء بعد الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- واحتج أصحاب هذا الرأي بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مِلك بعد ذلك)). - وذهب بعض آخر من السلف إلى القول بأن اسم الخليفة يطلق أيضًا على أي شخص بعد الحسن بن علي إذا تولّى رياسة الأمة، لكن يشترط في هذا الإطلاق أن يكون من تولى هذا المنصب جاريًا على منهاج العدل وطريق الحق، مستدلين بما رُوي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سأل طلحة، والزبير، وكعبًا، وسلمان، عن الفرق بين الخليفة والملك، فقال طلحة والزبير: لا ندري. وقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، والوالد على ولده، ويقضي بينهم بكتاب الله تعالى. فقال كعب: ما كنت أحسب أن في هذا المجلس من يفرق بين الخليفة والملك، ولكن الله تعالى ألهم سلمان حكمًا وعلمًا. ولكن العرف العام جرى من صدر الإسلام على أن اسم الخليفة يطلق على كل من قام بأمر المسلمين القيام العام، ويمكن أن يجاب على الاستدلال بحديث: ((الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ... )) الخلافة الكاملة لا مطلق الخلافة. من تكون عنه الخلافة؟ اختلف العلماء فيمن تكون عنه الخلافة على أربعة أقوال:
الأول: أن الخلافة تكون عن الله تعالى، فيقال في الرئيس الأعلى في الدولة: خليفة الله؛ لأن الإمام الأعظم يقوم على رعاية حقوق الله تعالى في خلقه، واحتجوا بقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: من الآية: 164). الثاني: أنه لا يجوز أن يقال على أحد أنه خليفة الله إلا آدم وداود -عليهما السلام- وذلك لقول الحق سبحانه في حق آدم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: من الآية: 30) ولقوله سبحانه في حق داود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} (ص: من الآية: 26). الثالث: ويقول أنه يجوز إطلاق اسم خليفة الله على سائر الأنبياء -عليهم السلام. الرابع -وبه قال جمهور الفقهاء -: أنه لا يجوز خليفة الله، ونسبوا قائل ذلك إلى الفجور، وإنما يقال: "الخليفة" بإطلاق، أو خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما أن يقال: خليفة الله؛ فلأنه إنما يكون الاستخلاف في حال الموت أو الغيبة، والله سبحانه باقٍ على الأبد، لا يلحقه موت، ولا يجوز عليه غيبة. وأما أنه يقال له: خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأنه قد خلفه في أمته في رياسته العامة في أمور الدين والدنيا معًا. ويؤيد هذا الرأي الذي نعتبره أرجح الآراء -وهو رأي الجمهور الذي يقول أنه لا يجوز أن يقال: خليفة الله، وإنما يقال: الخليفة بإطلاق، يعني بدون أن ننسبه إلى شيء، أو نقول أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما رواه ابن مليكة: أن رجلًا قال لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: يا خليفة الله. فأنكر عليه أبو بكر ذلك، وقال: لست بخليفة الله، ولكن خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال رجل لعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: يا خليفة الله. قال له عمر: ويلك! لقد تناولت متناولًا بعيدًا، إن أمي سمتني عمر، فلو دعوتني بهذا الاسم قبلت، ثم كبرت فكنيت أبا حفص، فلو دعوتني به قبلت، ثم وليتموني أموركم فسميتموني أمير المؤمنين، فلو دعوتني بذلك كفاك.
ومن ذلك يتبين أنه لا يصلح أن يطلق على أحد مهما كان، سواء كان رسولًا أو غير رسول، خليفة الله؛ لأننا إذا نظرنا إلى تعليل ذلك بأنه إنما يستخلف من يموت أو يغيب، والله سبحانه منزّه عن الموت والغيبة، أدركنا أن ذلك ممتنع أيضًا في حق آدم وداود وغيرهما من سائر الرسل -عليهم السلام- والآيتان اللتان استدل بهما القائلون بأنه يجوز إطلاق خليفة الله على آدم وداود -عليهما السلام- ليس فيهما إطلاق خليفة الله على كلٍّ منهما، وإنما ذكر في الآيتين إطلاق لفظ "خليفة" مجردًا عن الإضافة إلى الله -عز وجل- ولا شك أنه لا يجوز إطلاق لفظ "خليفة" على كل من يتولى الإمامة العظمى، ولو فرضنا أن الدليل قد قام على جاز إطلاق خليفة الله على كل منهما -أي آدم وداود عليهما السلام- ففي هذه الحالة لا تعدو الإضافة إلا أن تكون للتعظيم باعتباره قائمًا على تنفيذ أحكام الله في عباده. لقب أمير المؤمنين: بعد أن بويع لأبي بكر بالخلافة أصبح الناس يسمونه خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يزالوا هكذا يسمونه بذلك إلى أن توفاه الله -تبارك وتعالى- فلما بويع لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعد أن رشحه أبو بكر الخلافة، كان يسمونه خليفة خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستمروا على ذلك وقتًا، وكأنهم استثقلوا ذلك؛ إذ سيؤدي إلى التطويل وتتابع الإضافات بتابع الرؤساء، فمجرد أن لَاحَ لهم لقب آخر غير الخليفة استحسنوه وأصبح لقبًا على الإمام الأعظم أو على رئيس الدولة، هذا اللقب هو لقب أمير المؤمنين، وأول ومن سمي به من الرؤساء بالإجماع هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد كتب عمر لعامله في العرق: "أن ابعث إلي برجلين جَلَدين نبيلين أسألهما عن
العراق وأهله" فبعث إليه لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم الطائي، فلما قدِما المدينة أناخا راحلتاها بفناء المسجد، ودخلا المسجد، فإذا هما بعمرو بن العاص فقالا له: استأذن لنا على أمير المؤمنين. فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه؛ نحن المؤمنون وهو أميرنا، فدعوه بذلك، وذهب لقبًا له في الناس وتوارثه الخلفاء بعد عمر -رضي الله عنه- ثم إن الشيعة كانوا يطلقون على علي بن أبي طالب لقب الإمام، تعريضًا لما يذهبون إليه من أن علي بن أبي طالب أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر -أي أحق بالإمامة العظمة منه- فهو يزعمون أن علي بن أبي طالب كان أفضل من أبي بكر، فهو أحق منه بالإمامة -أي الخلافة- فخصوا عليًّا بلقب الإمام، وأطلقوه على كل من جاء بعده ممن يعتقدون بأحقيته في هذا المنصب، فيسمونه الإمام ما داموا يدعون له في الخفاء، فإذا ما تمكنوا من السيطرة على الدولة يحولون اللقب فيمن بعده إلى أمير المؤمنين، كما فعله شيعة بني العباس؛ فإنهم ما زاولوا يدعون أئمتهم بالإمام إلى إبراهيم الذي جهروا له بالدعاء له وعقدوا على الحرب بأمره، فلما هلك دعي أخوه السفاح بأمير المؤمنين. لفظي الإمام والإمامة: أحب أن أشير بادئ ذي بدء إلى أن المباحث المتّصلة بموضوع رياسة الدولة لم تشتهر في البحوث الكلامية أو الفقهية بمباحث الخلافة أو إمارة المؤمنين، وإنما اشتهرت بمباحث الإمامة، ومع أن الخلافة، وإمارة المؤمنتين، والإمامة، كلها تشير إلى معنى واحد هو رياسة الدولة الإسلامية، إلا أن هناك سببًا أدى إلى شيوع المباحث المتصلة بهذا الموضوع بمباحث الإمامة، هو -كما قلنا سابقًا- أن الشيعة كانوا أول
من بحث موضوع الإمامة العظمى، وكما كانوا يسمون القائم بأمر المسلمين الإمامَ، سموا المباحث المتصلة بهذا المنصب بمباحث الإمامة، فلما اشتبك معهم خصومهم في الجدل حول هذه المسالة، لم يجدوا مانعًا من استعمال نفس مصطلحاتهم، وبخاصة وأن إمامة الصلاة تعتبر أرقى الوظائف الدينية، فأصبح الحوار يدور بين الشيعة وخصومهم بنفس اللغة التي ابتدعها الشيعة، وأصبح تقليدًا صار عليه كل من تعرض لهذا الموضوع، لا يجد ما يدعوه إلى تغييره، وأيضًا فإن لفظ "الإمام" قد ورد في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة؛ إذ سمى الله إبراهيم وغيره إمامًا في قوله سبحانه: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (البقرة: من الآية: 124) وقال سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (الأنبياء: 72 - 73) المعنى اللغوي لكلمة "إمام": يقول الفيروزآبادي: والإمام ما ائتُمّ به من رئيس أو غيره، والخيط يمدّ على البناء فيبنى، والطريق، وقَيِّم الأمر: المصلِح له، والقرآن، والنبي -صلى الله عليه وسلم- والخليفة، وقائد الجند، وما يتعلمه الغلام كل يوم، وما امتثل عليه المثال والدليل والحال. وفي الصحاح: والإمام خشبة البناء التي يسوّى عليه البناء، والإمام الصقع من الأرض -أي القطعة من الأرض أو المكان من الأرض- والطريق، قال تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} (الحجر: من الآية: 79) والإمام: الذي يهتدي به. ويقول ابن منظور في مادة "أمّ": الأَمُّ بالفتح: القصد، أَمّهُ أمًّا إذا قصده، وفي حديث كعب بن مالك: ((ثم يؤمر بأمِّ الباب على أهل النار فلا يخرج منه غم
أبدا)) أي يقصد إليه فيسدّ عليهم. وتيمّنت الصعيد للصلاة، ثم يقول: فأمّ القومَ وأمّ بهم: تقدّمهم، وهي الإمامة. والإمام: كل من ائتم به، قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، والإمام من ائتم به من رئيس وغيره، والجمع أئمة، وفي التنزيل العزيز: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} (التوبة: من الآية: 12) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين ضعفاؤهم تبع لهم. ومما كل ما سبق يتبين أن كلمة "إمام" قد استعملت في اللغة لمعانٍ مختلفة، منها القدوة، ومنها التقدم، والهداية، والإرشاد، وللشيء يكون نموذجًا، وللإنسان يكون مثالًا للاقتداء به، ويكون في موقف القيام بإصلاح الأمور ورياسة الناس. والإمامة مصدر "أمّ" يقال: فلان أمّ الناس: إذا صار لهم إمامًا يتبعونه، فإذا كان الاتباع في الصلاة فهي المعروفة بالإمامة الصغرى، وإذا كان الاتباع في الأوامر والنواهي فهي الإمامة العظمى، أي رياسة الدولة، ويجب أن يلاحظ أنه إذا ما أطلقت كلمة "الإمامة" لأحد المسلمين فلا تحمل إلا على معنى الإمامة العظمى، أما إذا كان المراد أن يوصف أحد بإمامة في فرع من فروع العلم أو غيره، فلابد من الإضافة، فيقال مثلًا: البخاري إمام الحديث، وأبو حنيفة إمام الفقه، وفلان إمام بني فلان. وكما لا يجوز أن تستعمل الإمامة مطلقة إلا في الرئيس الأعلى للدولة، فكذلك الخلافة وإمارة المؤمنين. وأما ما ورد من أنه قد سمي كل من ولاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جهةً من الجهات، أو سرية أو جيشًا، كعبد الله بن جحش، وأسامة بن زيد -مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمكن أن يقال: إنهم إذا أطلقوا على هؤلاء إمارة المؤمنين فـ"أل" الموجودة في كلمة "المؤمنين" كانت للعهد، أي المؤمنين الذين كانوا مع كل منهم؛ لأن كلًّا منهم في الواقع ليس أميرًا لكل المؤمنين، بل أميرًا لبعضهم؛ ولذا
معنى الإمامة العظمى.
نجد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يخاطب أسامة بن زيد قائلًا: السلام عليك أيها الأمير. ولم يقل: السلام عليك يا أمير المؤمنين. ويرد عليه أسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين. تقول لي هذا؟ فيقول عمر: لا أزال أدعوك ما عشتُ بالأمير، مات رسول الله -صلى الله عيه سلم- وأنت عليّ أمير. معنى الإمامة العظمى وبعد فقد تبين مما سبق أن المسلمين في فترات من الزمن مختلفة، ولظروف خاصة لقّبوا رئيس الدولة بألقاب الخليفة، وأمير المؤمنين، الإمام، ولكن هل معنى هذا أن الرئيس الأعلى في الدولة في الإسلام يجب أن يلقّب بأحد هذه الألقاب حتى يصير هذا المنصب إسلاميًّا؟ لا شك أن القائل بهذا يتعسف في الحكم على الأمور؛ إذ إنّ المهم في هذا المجال أن يكون المسلمون ورئيسهم خاضعين لقانون الإسلام؛ حتى يمكن أن يوصف النظام بأنه نظام إسلامي، بغضّ النظر عن الألقاب التي يمكن أن تطلق على هذا الرئيس، سواء كان لقبه خليفة رسول الله، أو أمير المؤمنين، أو إمامهم الأعظم، فالإسلام لا يعني بالألقاب، وإنما يعني بما وراء هذا اللقب من حقيقة النظام نفسه، فلو أن المسلمين في أي عصر من العصور أطلقوا على رئيسهم، أو أطلق هو على نفسه: خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان جوهر النظام الذي يمثله بعيدًا عن الالتزام بالمبادئ والقوانين الإسلامية، كان هذا النظام في حقيقته نظامًا غير إسلامي، على الرغم من لقب "خليفة رسول الله" وإذا كان العكس هو الذي حدث، فخضع المجتمع ورئيسه خضوعًا تامًّا للقوانين الإسلامية، ولم يطلق على هذا الرئيس لقب من ألقاب الخلافة، أو إمارة المؤمنين، أو الإمامة، بل أطلق عليه
لقب آخر كرئيس الجمهورية، أو رئيس الدولة مثلًا، فإنه في هذه الحالة يكون نظام الدولة نظاماً إسلاميًّا لا يستطيع أحد أن يطعن فيه. خلاصة القول في هذا: أن الإسلام لا ينظر إلى الأسماء، سمِّه ما شئت: خليفة، أمير المؤمنين، الإمام، المهم في الأمر أن يلتزم هذا الخليفة بأحكام الإسلام والنظام الإسلامي. التعريف الاصطلاحي للإمامة العظمى: بعد أن فرغنا من توضيح المعاني اللغوية والملابسات التاريخية التي أحاطت بالخلافة، وإمارة المؤمنين، والإمامة، نعرِّف الإمامةَ العظمى: تعريف الماوردي لها: يفهم من كلام الإمام الماوردي في (الأحكام السلطانية) عن الإمامة العظمة أنها: خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا. ويلاحظ أن هذا التعريف يشير إلى عدة أمور هامة: الأول: أن رياسة الدولة الإسلامية هي في حقيقتها نيابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا يشير إلى أن رئيس الدولة أو الإمام الأعظم يجب أن يكون المثل الأعلى لأفراد الأمة في الالتزام الكامل بمبادئ الإسلام. الثاني والثالث: بيان وظيفة الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية وهي التي ناب فيها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي أولًا العمل على أن يظل الدين مصونًا من كل ما يسيء إليه، ويلي ذلك العمل على اتِّخاذ كافة الإجراءات التي تكفل المصالح الدنيوية لأفراد الأمة. تبين لنا مما سبق أن الإمامة العظمى في حقيقتها رياسة الدولة الإسلامية، التي تخضع للقانون الإسلامي، وتسير على هديه في تنظيم مصالح الأمة في الدين
والدنيا؛ إذ لا معنى لكونها نيابةً عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أنها ملومة بالخط الواضح الذي رسمها له -عليه الصلاة والسلام- مبلِّغًا عن الله -تبارك وتعالى- فهي ليست حكومةً تسير وفق قانونٍ وضعيٍّ بحسب مصالحها الدنيوية فقط، غير ناظرةٍ إلى ما بعد الحياة الدنيا، وإنما هي حكومة تنوب عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولما كانت رياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لبيان حكم الله في كل أنواع السلوك الإنساني، سواء منها ما يتعلق بالدين أو يتعلق بالدنيا، فكذلك الشأن في الحكومة النائبة عنه إنّما هي ملتزمة بالحفاظ على الدِّين، والسير في سياستها الدنيوية على الهدي الواضح الذي بيّنته الشريعة الغراء؛ وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط، فإنها كلها عبث وباطل؛ إذ غايتها الموت والفناء، والله يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} (المؤمنون: من الآية: 125) فالمقصود بهم إنه هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الشورى: من الآية: 53). فهذه إذن هي حقيقة الإمامة العظمى كما يبنها علماء المسلمين، فهي إذا ليست ملكيةً؛ لأن الملك يعتمد في تسيير أمور المملكة على أحكامٍ كثيرًا ما تكون جائرةً على الحق، وهدفه في الغالب أن تظلّ قبضته مسيطرةً على أنحاء مملكته، غير ناظرٍ إلى ما قد يشوب حكمه من قهر وتغلب، والإمامة العظمى ليس فيها هذا المعنى من قريبٍ أو بعيد، وإنما هي تسير بأحكامٍ من الشارع الحكيم، تبين ما يجب اتباعه في سلوك الأفراد بعضهم مع بعض، وفي علاقاتهم جميعًا بالحق -تبارك وتعالى- وهي كذلك ليس رياسةً اقتضتها ضرورة اجتماع الناس فقط، يخضعون في ظلها لقواعد تنظم سلوكهم، بحسب المصلحة السياسية التي تقول بالمنفعة عليهم جميعًا؛ لأن قانونًا كهذا نظر بغير نور الله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ
حكم نصب الإمام.
نُورٍ} (النور: 40) لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيّب عنهم من أمور آخرتهم، وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره؛ ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما هي أعمالكم ترد عليكم)) وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الروم: من الآية: 7). حكم نصب الإمام موقف العلماء من نصب رئيس الدولة: بيان آراء العلماء فيما إذا كان يجب أن تقام هذه الرياسة أو لا يجب، أي هل يجب عن ينصب المسلمون إمامًا لهم أم أن ذلك ليس من الأمور الواجبة؟ اختلف علماء الأمة في نصب الإمام الأعظم أو رئيس الدولة هل يجب أو لا يجب على أربعة مذاهب: المذهب الأول: يرى وجوب نصب الإمام مطلقًا، أي سواء كان ذلك في حال الأمن والاستقرار، أم في حال ظهور الفتن والاضطرابات. المذهب الثاني: يرى عدم وجوب نصبه مطلقًا. المذهب الثالث: يرى وجوب نصبه في حال الفتن والاضطرابات، ولا يرى وجوب ذلك في حال الأمن والاستقرار. المذهب الرابع: أنه يجب نصب الإمام في حال الأمن، ولا يرى وجوب ذلك في حال ظهور الفتن. القائلون بوجوب نصب الرئيس الأعلى للدولة هم الجمهور الأكثر من علماء الأمة؛ إذ هو رأي أهل السنة جميعًا، ورأي المرجئة جميعًا، وأكثر المعتزلة والخوارج عدى النجدات منهم، ورأي الشيعة جميعًا، إلا أننا يجب أن ننبه إلى عدة أمور:
الأمر الأول: أن هؤلاء مع اتفاقهم جميعًا على القول بوجوب نصب الإمام مطلقًا -أي في كل حال- سواء كانت حال أمن وعدم اضطراب وفتنة، أم حال اضطراب وفتنة، إلا أنهم اختلفوا في الطريق الذي أدى إلى الوجوب: هل هو الشرع أم العقل؟ فأهل السنة قالوا: إن الأدلة السمعية هي التي دلّت على وجوب نصب الإمام، ولا مدخل للعقل في ذلك، انطلاقا من المبدأ الذي يلتزمون به، وهو أن الأحكام إنما تؤخذ من الشرع؛ ولأن الإمام مقصود به القيام بأمور شرعية، كإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وأما الزيدية، وأكثر المعتزلة، والاثنا عشريه، فقد قالوا: إن العقل هو الذي دلّ على وجوب نصب الإمام، ثم القائلون أن العقل هو الذي دل على وجوب نصب الإمام، ينقسمون من حيث توجه الوجوب: هل يتوجه إلى الناس أم يتوجه إلى الله -سبحانه وتعالى؟ الأمر الثاني: أن الجماهير أو جمهور الفقهاء الذين قالوا: "إن معرفة وجوب نصب الإمام ليس لها طريق إلا الشرع" هؤلاء الجمهور قد بينوا أن مرادهم بالوجوب هنا هو الوجوب الكفائي لا الوجوب العيني، بمعنى أنه يجب على الأمة أن تنصب إمامًا لحراسة الدين وسياسة الدنيا، وهذا الوجوب متوجِّه إلى جميع أهل الحل والعقد متوجِّه إلى جميع أهل الحل والعقد والصالحين لتولي هذا المنصب، فإذا ما قام بعض أهل الحل والعقد بهذا الواجب سقط الوجوب عن باقيهم، أما إذا لم يقم أحدٌ بهذا الواجب فإن أهل الحل والعقد جميعًا آثمون، وليس يأثم غيرهم من أهل الأمة الذين لا تتوافر فيهم صفات أهل الحل والعقد، فليس مراد الجماهير هنا بالوجوب الواجب العيني؛ لأنهم لم يقولوا بأنه يجب على كل فرد من أفراد الأمة أن يشترك في نصب الإمام؛ ولذلك قال القاضي أبو يعلى
-يتكلم عن الإمامة-: وهي فرضٌ على الكفاية، مخاطب بها طائفتان من الناس: أحداهما: أهل الاجتهاد حتى يختاروا. والثانية: من يوجد فيه شرائط الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة. وليس على من عدى هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم. ثم بعد ذلك نتحدث عن البراهين أو الأدلة على مذهب الوجوب، يعني مذهب القائلين بأنه يجب نصب الإمام -وهم كما قلنا: جماهير العلماء- نقول: لمّا كان وجوب نصب الإمام قد قال به جمهور الأمة الإسلامية من أهل السنة وغيرهم -كما بينا - ولمّا كان أهل السنة استدلوا على دعواهم ببراهين غير البراهين التي استدلّ بها غيرهم، ولمّا كان ثمة جماعة من القائلين بوجوب نصب الإمام ترى أن الوجوب هنا ليس متوجهًا إلي الخلق بل متوجه إلى الخالق -جل وعلا- كان لزامًا علينا أن نبيّن أدلة كل جماعة من الجماعات القائلة بوجوب نصب الإمام كل على حدة؛ حتى تظهر وجهة نظر الكل واضحةً جليةً إيذاء هذا المنصب الخطير: البرهان الأول أو الدليل الأول من أدلة أهل السنة على أن نصب الإمام إنما هو من الأمور الواجبة: استدل أصحاب هذا الرأي بالإجماع، والإجماع هنا من أقوى البراهين عند أهل السنة ومن وافقهم في مذهبهم، على وجوب نصب الإمام شرعًا، بل هو أقواها على الإطلاق، وهو إجماع الأمة الإسلامية على أنه يجب نصب رئيس أعلى للدولة؛ وذلك أنه قد أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على وجوب نصب رئيس لهم ليخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رعاية أمور الأمة، في القيام بحراسة الدين وسياسة الدنيا، فقاموا باختيار أبي بكر -رضي الله عنه- خليفةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سقيفة بني ساعدة، بعد نقاشٍ وحوار حادٍّ بين المهاجرين والأنصار، انتهى هذا الأمر باقتناع الأنصار بأن الرياسة العليا يجب أن تكون في قريش، ووافقوا على اختيار أبي بكر خليفةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وفي اليوم التالي حاز هذا الإجراء الذي اتخذه المشركون في الصحيفة، حاز على موافقة الصحابة الذين لم يكونوا حاضري هذا الاجتماع، ثم إن الصحابة وإن كانوا قد اختلفوا بادئ الأمر في تعيين شخص الإمام، إلا أنّ هذا لا يقدح في اتفاقهم جميعًا على وجوب نصبه، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- قد خطب في الناس عقب موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقبل مبايعته خليفة قائلًا: "أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: من الآية: 144) ثم قال: "وإن محمدًا قد مضى لسبيله، ولا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به، فانظروا وهاتوا آراءكم -رحمكم الله- فناداه الناس من كل جانب: صدقت يا أبا بكر، ولكنا نصبح فننظر في هذا الأمر، ونختار من يقوم به، ولم يوجد من الصحابة من يقول: إن هذا الأمر يصلح من غير قائم به. البرهان الثاني أو الدليل الثاني: نصب الإمام فيه دفع الضرر المظنون، يقول أصحاب هذا الرأي: إن في نصب الإمام دفعًا للضرر المظنون بعدم نصبه، ودفع الضرر المظنون واجب إجماعًا؛ فالنتيجة أن نصب الإمام واجب. فأما بيان نصب الإمام فيه دفع ضرر مظنون، فإن الناس لا يستطيعون العيش منفردين؛ لأن الإنسان اجتماعي بالطبع، لا يستطيع الحياة الكاملة بعيدًا عن أفراد جنسه، وإذا كان الناس لا يستطيعون الحياة إلا مجتمعين، وهم -كما قال العلماء- مع اختلاف الأهواء، وتشتت الآراء، وما بينهم من الشحناء، قلما ينقاد بعضهم لبعض، فيفضي ذلك إلى التنازع، وربما أدّى إلى هلاكهم جميعًا، ويشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة إلى موضعٍ آخر، بحيث لو تمادى لعطِّلت المعايش وصار كل واحد مشغول بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه؛ وذلك يؤدي إلى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين، ففي نصب الإمام دفع مضرة لا يتصور أعظم منها.
وإما أن دفع الضرر واجبٌ؛ فهذا متفقٌ عليه بين العقلاء جميعًا، ونرى العلماء بعد أن يقرروا الدليل هكذا يجيبون على ما يمكن أن يَعترض به معترض، فيقول المعترض: إنكم تقولون: إن نصب الإمام فيه دفع الضرر المظنون، ونحن نقول: بل في نصب الإمام ضرر مظنون، وهو منفي بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ضرر ولا ضرار)) وبيان أن في نصب الإمام أضرارًا من ثلاثة أوجه، أي أنهم يبيّنون أو أن جمهور الفقهاء يقولون بأن نصب الإمام فيه دفع للضرر المظنون؛ لأن الناس لا يستطيعون العيش في مجتمع إلا إذا وُجد من يقوم على أمرهم، ويمنع الظلم -أي ظلم بعضهم لبعض- ويؤدي الحقوق إلى أصحابها. هناك اعتراض من الذين يقولون بأنه لا يجب نصب الإمام، وهذا الاعتراض ينصب على أنه قد يكون في نصب الإمام ضَرَرٌ، وبيّنوا ذلك من وجوه: - قالوا أن الإنسان إذا وُلِّيَ غيره عليه في الأمور التي يهتدي إليها، والأمور التي لا يهتدي إليها، فيه من الإضرار ما هو ظاهر، يعني أن الإنسان بطبعه لا يريد الرياسة. - أيضًا أن بعض الناس قد يستنكفون عن تولية غيرهم عليهم، كما هي عادة الناس، وهذا يؤدي إلى التنازع وحدوث الفتن بين أفراد الأمة. - وأيضًا بما أن الإمام معرض للخطر فيمكن أن يحدث الفسق، بل من الممكن أن يحدث منه الكفر، فإن لم تقم الأمة بعزله أضر بها بفسقه وكفره، وإن عزل أدى ذلك إلى تهييج الفتن والاضطرابات. نقول: هذا ما يمكن أن يعترض به المعترِض على هذا الدليل، لكنّ أصحاب الرأي الأول -وهم جمهور الفقهاء- يجيبون على هذا بأن الإضرار اللازم من ترك نصب الإمام أكثر بكثير من الإضرار الحاصل من نصبه؛ ولذلك يقال: "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان" ولا شك أن دفع الضرر الأعظم واجب؛ فنصب الإمام واجب. يقول فخر الدين الرازي مجيبًا إلى أن هذه الأضرار وأمثالها قد تحصل: لا نزاع أن هذه المحظورات فد تحصل، لكن كلّ عاقلٍ يعلم أنه إذا قوبلت المفاسد الحاصلة
من عدم الرئيس المطاع بالمفاسد الحاصلة من وجوده، فالمفاسد الحاصلة من عدمه أزيد بكثير من المفاسد الحاصلة من وجوده، وعند وقوع التعارض تكون العبرة بالرجحان، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، يعني معنى ذلك يتحمل الضرر الأقل في سبيل دفع الضرر الأعظم. ومن الأدلة أيضًا على وجوب نصب الإمام: أن نصب الإمام لا يتمّ الواجبُ إلا به، وبيان ذلك أنه من المعلوم أن الشارع -تبارك وتعالى- أمر بإقامة الحدود على مستحقّيها، وتجهيز الجيوش للجهاد، وسد الثغور، وحفظ بيضة الإسلام، وذلك لا يقوم به فرد أو الأفراد، وإنما يقوم به سلطة عليا لها من الإمكانات الواسعة، وحق الطاعة على مجموع الأمة، ولها من قدرة التوجيه، ما يعينها على تنفيذ هذه الواجبات، وهذه السلطة العليا تتمثّل في الإمامة العظمى، فبها يُستطاع القيام بكل هذه الواجبات، وما يتمّ الواجب إلا به فهو واجب، فنصب الإمام واجب؛ ولذلك يقول البعض: والمسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسد ثغورهم، تجهيز جيوشهم، وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصغار والصغائر الذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم ... كل ذلك يحتاج إلى إمام، إذا لم يوجد إمام فقد تعطّلت كل هذه الأشياء. البرهان الرابع أو الدليل الرابع: على وجوب نصب الإمام: أن الصحابة بادروا بنصب إمام قبل قيامهم بدفن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعني أصحاب هذا الرأي القائلون بوجوب نصب الإمام يقولون بأن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اهتموا بأمر الخلافة، وحتى قبل أن يُوارى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثرى -قبل أن يدفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن صحابة بادوار بنصب إمام قبل قيامهم بدفن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك أن الصحابة قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لاختيار من يخلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وانتهى اجتماعهم إلى اختيار أبي بكر -رضي الله عنه- وكان ذلك عقب موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقبل أن يقوموا بدفنه؛ مما يدل على أنهم اعتبروا نصب الإمام أهم الواجبات، وإلا لما رضوا بدفن الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- وتقديم نصب الإمامة عليه.
هذه هي أدلة أصحاب الرأي الأول، وهم جمهور الفقهاء وجمهور أهل السنة القائلون: أنه يجب نصب الإمام، واستدلوا بالأدلة الأربعة التي ذكرناها، ولكن هذه الأدلة لم تسلم من الاعتراض عليها، ولم تسلم من المناقشة، فمن هذا المنطلق نقول: على الرغم من أن الإجماع -هذا هو الإجماع الدليل الأول الذي استدل به جمهور الفقهاء على وجوب نصب الإمام -يعتبر أقوى دليل من الأدلة التي استدل بها أهل السنة ومن وافقهم فيما يرونه من وجوب نصب الرئيس الأعلى على الأمة، إلا أنّنا نجد أن البعض قد أثار الجدل حول هذا الدليل، محاولًا إيجاد احتمال أن يكون الصحابة قد بادروا بنصب الإمام عند موت كل رئيس، نظرًا إلى ظرف خاصٍّ اقتضى مبادرتهم هذه. فيقول بعض المعترضين: إن ذلك يدل -إن كان دالًّا- على حسن إقامة الإمام، وجواز نصبه، ولا يدل على وجوب ذلك في كل عصر وزمان؛ لأنه لا يُمتنع أن يكون العاقدون لأبي بكر والمجتمعون للشورى، إنما بادروا إلى ما بادروا إليه وحرصوا عليه؛ لأن الحال اقتضته -يعني هو الظروف اقتضت ذلك، وربما إذا لم توجد هذه الظروف لم يفعلوا ذلك- ولأنه غلب في ظنونهم أن إهمال العقد فيه فساد وانتشار، وليس فيمن يخالف في وجوب الإمامة على كل حال من ينفي حسنها، ويدفع أن يقتضي بعض الأحوال الفزع إليها؛ ولذلك يقول هذا المعترض: إن الإمام قد يجوز أن يُستغنى عنه في بعض الأحوال، التي تغلب في الظن أن الناس فيها يلزمون فيها الصلاح والسداد في الأكثر، هذا الاعتراض ينصب على أنّ الإجماع الذي استدل به أهل السنة، أو غالبية الفقهاء، وجمهور العلماء، على وجوب نصب الإمام، وهو الإجماع، وهو أن الصحابة قد أجمعوا على خلافة أبي بكر، المعترض يرد على ذلك ويقول: ربما الذي دفع المسلمين إلى ذلك ظروف معينة، لكن إذا لم توجد ظروف في بعض الأوقات فإن ذلك ليس معناه وجوب نصب الإمام. فهذا النوع تشكيك في الإجماع. لكن الفقهاء ردوا على ذلك، فنقول ردًّا على هذا: بأن الظاهر من فعل الصحابة من إقامتهم إمامًا جديدًا عند موت كل إمام، وتكرّر ذلك منهم في أحوالٍ عديدةٍ، أن ذلك لوجود الداعي في كل حال إلى إقامة هذا الإمام. فالرد عليه أو
القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حال أو حال دون حال.
على هذا المعترض على الإجماع إنما نقول له: هذا الداعي موجود في كل وقت؛ ولذلك يجب نصب الإمام. استودعكم الله، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته. 4 - تابع مسألة نصب الإمام، وشروط رئيس الدولة (1) القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حالٍ أو حالٍ دون حالٍ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد بدأنا في الحديث في المحاضرة السابقة عن مسألة هل يجب نصب الإمام أم لا؟ وتبين لنا أن هناك أربعة أقوال في المسألة؛ الأول -وهو رأي جمهور العلماء- ويقول: بوجوب نصب الإمام مطلقًا، أي: في حال الأمن، وفي حال الاضطراب، والثاني ويرى: عدم وجوب نصب الإمام مطلقًا، أي: في حال الأمن وفي حال الاضطراب، والثالث ويرى: عدم وجوب نصب الإمام في حال الأمن ووجوب نصبه في حال الاضطراب، والرابع ويقول: بوجوب نصب الإمام في حال الاضطراب دون حال الأمن. وقد ذكرنا أدلة أصحاب الرأي الأول وهم جمهور العلماء القائلون بوجوب نصب الإمام في كل حال، سواء كان الحال حال أمن أو حال فتن واضطراب. ونشرع الآن في بيان الآراء الأخرى، وبيان أدلتها فنقول: إنه بالنسبة للرأي الثاني القائل بعدم وجوب نصب الإمام مطلقًا، فإنهم استدلوا بما يلي: أولًا: يقولون: إن نصب الإمام مثير للفتنة، أي يترتب عليه الفتنة، وكل ما كان كذلك فهو غير واجب شرعًا، فإذن نصب الإمام غير واجب شرعًا. فأما أن فنصب الإمام مثير للفتنة، فبيانه أن أهواء الناس مختلفة، فقد تريد مجموعةٌ من الناس اختيار واحد للإمامة؛ لأنه في نظرها أصلح الناس في ذلك، وتريد مجموعةٌ أخرى تنصيبَ آخر لها، فيقع التناحر والتشاجر بين جماهير الأمة بسبب ذلك، والتجارب العددية تؤيد ما نقول. وأما أن كل كان مثير للفتنة غير واجب شرعًا فهو أمر ظاهر ولا يحتاج إلى دليل. ومن أدلتهم أيضًا: أن دين الناس وطباعهم لَمِمّا يحملهم على رعاية مصالحهم الدينية والدنيوية، فلا حاجة بهم إذن إلى نصب من يحكم عليهم فيما يستقلون به، ألا ترى انتظام أحوال العُربان والبوادي في معايشهم الدنيوية وأحوالهم الدينية، مع أنهم خارجون عن حكم السلطان، لا يتحكم فيهم إمام، هذا هو الدليل الثاني من أدلة القائلين بأنه لا يجب نصب الإمام مطلقًا، لا في حال الأمن ولا في حال الاضطراب، ومضمون هذا الدليل أن طبائع الناس تحملهم على رعاية مصالحهم الدينية والدنيوية، ومعنى ذلك أنه لا حاجة بهم إلى نصب إمامٍ يحكم عليهم في أمورٍ هم يستقلون بها، ويستندون في ذلك أو يقيسون في ذلك على أحوال العُربان والبوادي، وهم القبائل الرُّحّل الذين لم تكن لهم حكومة ينطوون تحت سلطانها.
لكن هذه الأدلة التي استدل بها أصحاب الرأي الثاني -القائلون بأنه لا يجب نصب الإمام مطلقًا- يُرد عليهم فيها: فهم يقولون -كما قلنا في الدليل الأول- أن نصب الإمام يثير الفتن بين الناس، لكن نقول لهم: إن حال الناس عند إرادة نصب إمام لا تخلو من واحدٍ من اثنين: إما الاتفاق على شخص معين يرونه راجحًا غيره؛ لصفاتٍ انفرد بها عن سائر من ينافسونه في هذا المنصب، وإما أن يقع الاختلاف بينهم. فأمّا الحال الأولى -وهي حال اتفاقهم على شخص الإمام- فلا مجال للادعاء بأن ذلك مثير للفتن بين الناس، بل هو من وسائل إخماد الفتن، وأما الحال الأخرى -وهي حال اختلافهم في تعيين شخص الإمام- فلم يترك الشارعُ الحكيمُ الأمرَ بدون ضوابط تكون هي المرجع في فض هذا الخلاف، وإنما نقول: إنه في هذه الحال يجب على أهل الحل والعقد في الأمة أن يقدِّموا للإمامة أعلم المشرحين لها، فإن تساويا في العلم فيجب تقديم الأورع، فإن تساويا فيجب تقديم الأسن -أي الأكبر في السن- وكل ذلك ممّا تندفع به الفتنة والخلافة. فهذا الرد يتبيّن لنا منه أن ما استدلّ به أصحاب الرأي الثاني القائلون بعدم وجوب نصب الإمام، لا مجال لهم في هذا الدليل، وأن دليلهم ساقط؛ فلا يعتدّ به. وأما قولهم -أي القائلون بعدم وجوب نصب الِإمام-: إن دين الناس وطباعهم مما يحثّهم على رعاية مصالحهم الدينية والدنيوية. فنقول: إن هذا وإن كان ممكنًا عقلًا إلا أنه ممتنع عادة، وليس أدلّ على ذلك من انتشار الفتنة والاختلاف بين الناس عند موت السلاطين والحكام، ودعوى انتظام أحوال البُوادي والعُربان دعوى غير مسلمة؛ إذ أننا نراهم كالذئاب الشاردة والأسود الضارية، لا يُبقي بعضهم على بعض. فهذا أيضًا دليل ساقط للذين قالوا بعدم وجوب نصب الإمام؛ لأن قولهم: أن طبائع الناس تحملهم على رعاية مصالحهم الدينية والدنيوية.
نقول: هذا أمر غير مسلّم؛ لأن الواقع يخالف ذلك؛ وهذا يظهر عندما يسقط نظامٌ من الأنظمة، أو رئيس من الرؤساء، يحدث خلافٌ بين الناس وتشاجرٌ، ولا يمكن القياس على أحوال البوادي؛ لأن حالهم يخالف ذلك. ونأتي الآن إلى القائلين بوجوب نصب الإمام في حالٍ دون حالٍ: ونبيّن دليلَهم والردَّ عليهم، فهناك رأي يقول بأنه يجب نصب الإمام عند ظهور العدل، ولا يجب نصبه عند ظهور الفتن، ونرى بعض الآراء يرى عكس ما يراه هذا الرأي -أي انه يجب نصب الإمام عند ظهور الظلم، ولا يجب نصبه عند ظهور العدل والإنصاف- إذن الرأي الثالث والرأي الرابع كلٌّ منهما يناقض الآخر. وقد احتجّ الذاهب إلى أنه يجب نصب الإمام عند ظهور الفتن، ولا يجب عند ظهور العدل وإنصاف الناس بعضهم بعضًا؛ بأن وقوع الفتن والظلم بين الناس فيه ضرر، وكل ضرر يجب إزالته، فالنتيجة أن وقوع الفتن والظلم بين الناس يجب إزالته، ثم إنه لا يتأتّي إزالة ذلك إلا بسلطة قادرة عامة، لها حق أمر الناس ونهيهم، وهي سلطة الإمامة، فيجب إقامة الإمامة عند ظهور الظلم والفتن، وأما عند ظهور العدل والتناصف بين الناس، فلا ضرر واقع بين الناس حتى نقول بوجوب رفعه. ويمكن أن نردّ على دليل من يقول بوجوب نصب الإمام عند ظهور العدل، ولا يجب نصبه عند ظهور الفتن، بأنه على العكس مما تقول؛ فإن وقوع الفتن بين الناس داعٍ من أعظم الدواعي لظهور سلطة قاهرة، تستطيع أن تعيد الحق إلى نصابه، وتمنع الفتن؛ حتى يعم العدل، وينتشر الآمان؛ لأن عدم وجود إمام في هذه الحال لَمِمّا يشجع القائمين بالفتن على التمادي في غيّهم وظلمهم، لا تخيفهم قوة، ولا يرهبهم سلطان، ولكنّ الواجب في هذه الحال هو إقامة
الرئيس، والتفاف جماهير الأمة حوله؛ حتى يستطيع بمعاونة أهل العدل من إقامة حكم الله، والقضاء على أسباب الفتن والاختلاف. هذا ردٌّ على من يقول بوجوب نصب الإمام عند ظهور العدل، ولا يجب نصبه عند ظهور الفتن. ويمكن أن نردّ أيضًا على من ادعى وجوب نصب الإمام عند ظهور الفتن، وعدم وجوب نصبه عند ظهور العدل وأنصاف الناس بعضهم بعضًا، بأن الأدلة الصحيحة قد قامت على وجوب نصب الإمام مطلقًا، ولم تفرِّق بين حالي الأمن والفتنة، فالتفريق بين حال الأمن والفتن تفريق بلا دليلٍ؛ لأن الضرر كما يقع في حال الفتن يقع أيضًا في حال الأمن، فتظالم الناس لا يمكن أن يدّعي مدّعٍ أنه مقصورٌ على حال وقوع الفتن بين الناس؛ لأن ظلم الناس بعضهم بعضًا واقع مستمرّ في كل حال، لا فارق بين حال الأمن ولا فارق بين حال عدم الأمن، هذا واقع -ظلم الناس بعضهم بعض واقع- متسمرّ في كل حال، كما يؤيّده جريان العادة منهم على مرّ العصور، وإذا ما وقع التظالمُ في حال انتشار الأمن بين الناس، احتاج إلى إمامٍ لرفعه؛ لأنه ضررٌ يجب إزالته؛ ولأن وجوه الحاجة إلى الإمام ليست قاصرةً على حال وقوع الفتن؛ إذ أن الإمام يُحتاج إليه للنظر في مصالح الناس، والحكم بينهم بالحق؛ وليقيم حدودهم، ويجهز جيوشهم، وذلك غيرُ مقصورٍ على حالٍ دون حالٍ، بل هو عامٌّ في كلّ الأحوال. ثم هل يمكن أن يدّعي مدّعٍ أنّ الحال التي أجمعَ فيها الصحابة -رضي الله عنهم- على اختيار أبي بكر خليفةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت حال وقوع فتن بين الناس؟! الجواب طبعًا بالنفي؛ فإنه لم تكن آنذاك بينهم حروب أهلية، وانتشار فتن؛ حتى يمكن أن يقال بضدِّ ذلك، وإذا ما بان أن حال الصحابة عندئذٍ لم تكن حال وقوع الفتنة، وقد اجمعوا فيها على نصب الإمام؛ دلّ ذلك على أن نصب الإمام ليس مختصًّا بحال الفتنة فقط، بل نصبه واجبٌ في كل حال، لا فارق بين حال الفتنة وحال الأمن والاستقرار.
الرأي الراجح: والآن وبعد أن عَرفنا مسألة نصب الرئيس الأعلى للدولة، والأدلة التي تستند إليها هذه الآراء، وردود أهل السنة على من خالفهم من أصحاب المذاهب الأخرى: نرى أن أحقّ الآراء بالقبول والترجيح هو رأي أهل السنة، القائل بوجوب نصب الرئيس الأعلى للدولة، وأن هذا الوجوب مصدره الشرع، لا العقل كما يدّعي البعض، لأن الكلام هنا -كما قال أهل السنة- بالوجوب، بمعنى استحقاق الثواب عند الفعل والعقاب عند الترك؛ ولأن الإمام إنما يُراد لأمورٍ سمعيةٍ، كإقامة الحدود -أي العقوبات التي حددها الشرع- كقطع يد السارق ... وغير ذلك، وتنفيذ الأحكام وما شاكلها، وإذا كان ما يراد له الإمام لا مدخل للعقل فيه؛ فبألا يكون له مدخل في إثبات الإمام يكون من باب أولى. فإذا اخترنا مذهب أهل السنة القائل بالوجوب -أي وجوب نصب الإمام في كل حال- فإنما يعني ذلك أننا نقول بالوجوب مطلقًا، أي أن حكم الوجوب قائمٌ ملزِم للمسلمين في كل حال، سواء أكان ذلك حال الأمن أم حال ظهور الفتن بين الناس.
الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى.
الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى.
شروط الإمامة العظمى.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر 1 - تابع مسألة نصب الإمام، وشروط رئيس الدولة (1) شروط الإمامة العظمى وبعد أن انتهينا من هذا الموضوع -وهو مسألة نصب الإمام، وهل هذا أمر واجب أم غير واجب، كما بينا بالتفصيل- ننتقل الآن إلى موضوع آخر، وهو الشروط التي يجب توافرها في رئيس الدولة، نقول: أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن منصب الرئيس الأعلى للدولة لا يورث، وأنه لا بدّ من وجوب صفاتٍ معينة فيمن يُرشح لتولي هذا المنصب الخطير، سوى فرقة الإمامية؛ فإنهم شذّوا على إجماع الأمة، وذهبوا إلى التوارث فيه، وهو الرأي الذي سنتعرض إليه عند الكلام عن طرق انعقاد الرئاسة، وأما من عداهم من جماهير الأمة الإسلامية فلا يُجيزون أن تكون الوارثة طريقًا إلى تولى هذا المنصب. وثمّة أمر هامّ يجب أن نلاحظه، هو أن الشروط التي اشترطها العلماء فيمن يراد توليته رياسة الدولة الإسلامية، هي شروط يجب مراعاتها في الحال، التي تكون صفة الاختيار متوافرة للأمة فيها، فيجب عليها في هذه الحال ألا تولِّي أمورَها إلا من تحقّقت فيه هذه الشروط، وأما إذا انتفت حال الاختيار، وألجئت الأمة إلى حالٍ لا اختيار لها فيها، كتغلب البعض ممن لا يصلحون للإمامة العظمة بالانقلابات العسكرية، فالعلماء في هذا الحال يبيّنون أن التمسك بالشروط الواجب هنا قد يؤدي إلى فتنٍ يجب أن تصان الأمة عن الدخول في شرورها، وحينئذٍ يجوز شرعًا إقرار هذه الحال مؤقتًا إلى أن تحين فرصة التغير لمن هو مستوفٍ للشروط المطلوبة، وسنبيّن هذه الشروط ووجهة النظر في اشتراطها فيما يلي: أول شرط من الشروط التي يجب توافرها في الإمام هو شرط: الإسلام: يقول البعض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافرٍ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر -أي بعد تولى الخلافة- انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء
إليها؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: من الآية: 141) وهل هناك من سبيل أعظم من ولاية الإمام الأعظم؟ وأيضا لأن الله -سبحانه وتعالى- أمر بقتال غير المسلمين حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فكيف يمكن لغير المسلم أن يتزعّم، ويقود الحرب التي يشنّها المسلمون على غير المسلمين؛ وعلى هذا فلا يجوز أن تعقد رياسة الدولة لكافرٍ أصليٍّ أو مرتدٍّ؛ لان معنى إقامة دولة إسلامية هو أن تلتزم بالقانون الإسلامي، تطبقه، وتعيش حياتها على وفق تعاليمه، وهذا القانون الإسلامي لا يُتَصوّر تطبيقه إلا من أناسٍ يدينون بالولاء والخضوع التام لهذا القانون، إن أيّ نظام -مهما كان نوعه- لا يمكن أن يقبل أن يسند المركز الأول فيه -أو أي مركز هام- إلّا إلى شخص يؤمن تمام الإيمان بهذا النظام ويسعى جاهدًا لنصرته. الشرط الثاني من الشروط التي يجب توافرها في الإمام أو رئيس الدولة، هو شرط أجمعت الأمة أيضًا عليه: وهو البلوغ، إلا الإمامية فإنهم شذُّوا عن هذا الإجماع، وجوّزوا أن يكون الإمام طفلًا، لكن هذا القول من الإمامية إنما هو قولٌ لا يعتدّ به، ويبقى الإجماع قائمًا على أنه لا يجوز تولية رياسة الدولة لغير البالغ. وهنا قد يرد سؤال هو: ما الحكم إذا فرض الصبي في حال ضرورةٍ فعلًا؟ يعني: إذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يتولّى رياسة الدولة أو الإمامة العظمى طفلٌ غيرُ بالغٍ، فلو فرض أن هذا الطفل قد فرض عليهم ليكون إمامًا أعظم أو ليكون خليفةً ... فما العمل في هذه الحالة؟ ما الحكم إذا فُرِض هذا الصبي في حال ضرورة؟ أي بأن لم يكن هناك رضًا من الشعب، ولكنه فرض عليهم قسرًا وقهرًا، كأن ألزم الشعب به حاشية أبيه الذين يملكون السلطة ووسائل قهر الأمة؟ والجواب: أن هذه فعلًا هي حال ضرورة، وعندئذٍ يجب على أهل الحل والعقد في الأمة إعلان أن هذا أمر غير شرعي، ويجب على الأمة أن تؤيّدهم في هذا، والمطالبة بتولي مستوفي الشروط، فإذا استمرّ فرضُ هذا الصغير على الأمّة
فعندئذٍ لا يُتصوّر تعطيلُ مصالح الأمة، فيجب نصب والٍ -كما يقول الحنفية- لهذا الصغير، ولكن يجب أن يكون مستوفيًا شروط الإمامة، فإن تمادى الذين لهم مقدرة فرض هذا الصغير ونصّبوا واليًا غير مستوفٍ للشروط، فيكون هذا أيضًا حال ضرورة تخضع لها الأمة مؤقتًا؛ حتى لا تتعطّل المصالح الدينية والدنيوية لأفراد الشعب، ولكن ليس للأمة أن ترضى بهذا الوضع باعتباره وضعًا يجب أن يستمر، بل على الأمة -وبخاصة أهل الحل والعقد- انتهاز كل فرصة يمكن أن تساعد على تغير هذا الوضع، وتوليه مستوفي الشروط، إذا لم تكن فتنة من محاولة التغيير هذه، أما أن ترضى الرعية وتتّفق على تولية ابنٍ صغيرٍ للإمام مكان والده بدون قسر ولا إكراه من السلطة، فهي ليست حال ضرورة، وهذا هو الخطأ الذي لا مبرِّر له. ثم ننتقل الآن إلى الشرط الثالث من شروط الإمام: وهو العقل: وهذا شرط بدهيٌّ، فلا تنعقد رياسة ذاهب العقل بجنون أن بغيره كالخبل؛ إذ أن ذاهب العقل يحتاج هو نفسه إلى وليٍّ ليصرف له أموره، فكيف توكل إليه أمور غيره؟! وإذا كان الصبي محروم من تولي هذا المنصب لهذا السبب فذاهب العقل من باب أولى. وقد قسّم الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) إلى سببين: الأول: ما يُرجى زواله كالإغماء. والثاني: ما لا يرجه زواله كالجنون. فأما الأول -وهو ما يرجى زواله كالإغماء-: فهذا لا يمنع انعقاد الإمامة، وكذلك لا يمنع من استدامتها؛ لأنه مرض قليل اللّبث سريع الزوال.
وأما الثاني وهو اللازم -يعني الجنون اللازم الذي لا يرجى زواله كالجنون والخبل-: فهو على قسمين: أحدهما: أن يكون مطبقًا لا تتخلله إفاقة، فهذا يمنع انعقاد الإمامة، وإذا طرأ على الإمام بعد توليه منصبه يعني إذا طرأ هذا الشيء أو هذا الجنون عليه بعد توليه منصبه، استحق العزل إذا تحققنا من وجوب هذا المرض وقطعنا به فيه. والقسم الثاني من اللازم -يعني المرض اللازم الملازم للإنسان- الذي يرجى زواله، هو ألا يكون ذلك المرض ملازمًا له في كل أوقاته، بل تتخلّله أوقات إفاقة يعود بها إلى حال سلامته، وحينئذٍ ينظر؛ فإن كان زمن المرض أكثر من زمان الإفاقة، فهذا كالمرض الدائم يمنع انعقاد الإمامة، وإذا طرأ على الإمام بعد انعقاد الإمامة له سليمًا استحق العزل به، وإن كان العكس وهو الذي يحدث، بمعنى أن يكون زمان الإفاقة أكثر من زمان المرض، فقد اتفق العلماء على انعقاد الإمامة معه، واختلفوا فيما إذا طرأ على الإمام هذا المرض بعد توليه منصبه: هل يمنع استدامتها أو لا يمنع؟ رأيان في المسألة: الأول يقول: بأنه يمنع من استدامتها -أي استدامة الإمامة- كما يمنع من ابتدائها؛ لأن من واجب الإمام النظر في مصالح الأمة، وهذا المرض مع تكرّره يخل بهذا الواجب. الرأي الثاني: يرى أنه لا يمنع من استدامة الإمامة، وإن كان يمنع انعقادها في الابتداء؛ لأن المطلوب وقت عقد الإمامة هو السلامة الكاملة، وعند الخروج منها هو النقص الكامل. ونرى أن الرأي الأول هو الأولى بالاعتبار؛ إذ أنه يجوز أن تجيء نوبة المرض في وقت تحتاج الأمة فيه إلى رأي الإمام، وبَتِّه في مسائل هامة، كأمور الحرب مثلًا، ولا يتصور أن تتعطل أمثال هذه الأمور حتى يفيق الإمام،
وقد بيّن الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) عند الكلام على الشروط التي يجب توافرها فيمن يتولّى القضاء -ومنها العقل-: أنه لا بد من توافر الفطنة فيه، ولا يُكتفى فيه بالعقل الذي يتعلّق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية؛ حتى يكون صحيح التميز، جيد الفطنة، بعيدًا عن السهو والغفلة، يتوصّل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل، وفصل ما أعضل، وإذا كان هذا هو الشرط في الاعتداد بصفة العقل في القاضي فالإمام الأعظم من باب أولى. فالإمام الماوردي يبيّن لنا أنه لا يكتفى بمجرد العقل الذي يميّز به صاحبه بين الأشياء والنافع والضار، بل لا بدّ أن يكون جيد الفطنة، يعني عقل من نوع خاص، له فطنة، وله ذكاء. إذا كان الأمام الماوردي يشترط ذلك في القاضي؛ فينبغي اشتراطه في الإمام الأعظم من باب أولى. والشرط الرابع من شروط الإمام: الحرية: فلا تنعقد إمامة العبد، سواء أكان قنًّا -يعني لا شيبة فيه من الحرية- أو مُبَعّضًا -يعني بعضه حر وبعضه عبد- أو معلّقًا عتقه بصفة؛ لأن المفروض في العبد شرعًا أن يكون كل وقته وجهده في خدمة سيده، وهو مكلّف بإطاعة الأوامر الصادرة له من هذا السيد ما دامت في طاقته، وإذا كانت أموره تسير بأوامر غيره: فكيف يمكن أن توكّل إليه أمور الأمة؟ يقول البعض: لئلّا يشغله خدمة السيد عن وظائف الإمامة، ولئلّا يحتقر فيعصى، فإنّ الأحرار يستحقرون العبيد ويستنكفون عن طاعتهم. ويقول البعض مبررًا لماذا اشترطت الحرية في الإمامة العظمى، يبين ذلك بقوله: أن العبد لا ولاية له على نفسه، فيكيف تكون له الولاية على غيره؟ والولاية المتعدية فرع للولاية القائمة؟ هذا هو الشرط اشترطه -كما قلنا- جمهور العلماء.
الشرط الخامس من الشروط التي يجب توافرها في الإمام الأعظم أو رئيس الدولة: الذكورة: وقد اشترطها العلماء بالإجماع فيمن يرشّح لتولي منصب رياسة الدولة. يقول البعض: فلا تنعقد الإمامة لامرأة، وإن اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال، وكيف تترشّح امرأة لمنصب الإمامة وليس لها منصب القضاء، ولا منصب الشهادة في أكثر الحكومات. وقد احتج العلماء على ذلك بما رواه البخاري من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أنه قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيام الجمل، بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لمّا بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أهل فارس ملّكوا بنت كسرى عليهم -أي جعلوها ملكةً- قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لن يفلح قوم ولّوْا أمرهم امرأة)) هذا حديث صحيح والمعنى في ذلك أو معنى الحديث أن الإمام لا يستغني على الاختلاط بالرجال والمشاورة معه في الأمور، يعني المعنى الذي من أجله أنه لا يجوز للمرأة أن تكون رئيسةً للدولة، المعنى في ذلك أن الإمام لا يستغني عن الاختلاط بالرجال والمشاورة في الأمور، والمرأة ممنوعة من ذلك؛ ولأن المرأة ناقصة في أمر نفسها، حتى لا تملك النكاح، فلا تُجعل إليها الولاية على غيرها. ويقول البعض مبررًا لماذا لا تصلح النساء للإمامة العظمى أو لرئاسة الدولة، يبرر ذلك بقوله: بأن النساء أمرن بالقرار في البيوت، فكان مبنى حالهن على الستر، وإليه أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: ((كيف يفلح قوم تملِكهم امرأة)) واشتراط الذكورة لبيان أن إمامة المرأة لا تصح؛ إذ النساء ناقصات عقل ودين، كما ثبت به الحديث الصحيح، ممنوعاتٌ إلى الخروج إلى مشاهد الحكم ومعارك الحرب. ومع أن العلماء قد اختلفوا في جواز تولي المرأة القضاء، فبعضهم منعها بإطلاق، وبعضهم أباح لها القضاء في الأمور التي تشهد فيها، وبعضهم أباح لها القضاء
بإطلاق، نقول: مع أن العلماء قد اختلفوا في هذا -وهو موضوع تولية المرأة القضاء- إلا أنّهم قد أجمعوا على عدم جواز توليتها منصب رياسة الدولة، وليس هذا تعصبًا من أئمة الفقه الإسلامي؛ بل لأن طبيعة المرأة وتكوينها الجسماني يتنافى مع قيامها بأعباء هذا المنصب الخطير؛ لأنه قد يُطلب من الرئيس أن يتولّى قيادةَ الجيوش بنفسه، والاشتراك في الحرب، وتحمل أهوالها ... وغير ذلك من الأعمال التي تتطلب قدرةً خاصّةً، وكفاءةً جسمانيّةً معيّنةً، وهو ما لا يتّفق مع طبيعة المرأة. والملاحظ أن هذا الرأي هو المتفق -يعني الرأي القائل بأنه لا يجوز أنه لا يجوز تولى المرأة رياسة الدولة- متفق مع طبيعة المرأة الجسمي، والنفسي، والعقلي، ولا أدلّ على ذلك من استقراء حال الناس في كافّة الأعصر قديمها وحديثها. وملاحظة أن النابغين في تولي القيادة العامّة في كافة الشعوب، كانت الغالبية العظمى منهم من الرجال، ولم يظهر نبوغ النساء في قيادة الشعوب إلا في ظروف نادرة، ولأسباب لا تتكرّر كثيرًا، ولا يصحّ إرجاع ذلك إلى أن الرّجل كان متفوِّقًا على المرأة في هذا الميدان باستعمال قوته التي يفوق المرأة فيها؛ مما أتاح له الفرص التي حُرمت المرأة منها، أو لأنه منعها من التعليم سنوات طويلة مما جعلها تقنع بدور التابع للرجل، لا يصح أن يقال هذا؛ لأن استعمال الرجل قوته في إبراز جانب التفوق، إن كان طريقًا عاديًّا متبعًا في العصور الماضية، فقد انعدم هذا الطريق -أو كاد أن ينعدم- في العصر الحديث، ومع ذلك فالقيادات ما زالت في أيدي الرجال إلا ما ندر، في الوقت الذي أتيحت للمرأة فرصة التعلم المتاحة للرجل. وكذلك لا يصحّ إرجاع قيادات أكثر للرجل إلى الكثرة العددية في لرجال دون النساء؛ إذ أنه في بعض البلاد التي تدل في إحصاءات على الكثرة العددية في
اجانب النساء، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية، فإن عدد الرجال كان قليلًا بالنسبة إلى عدد النساء؛ لأن الحرب أفنت من الرجال أكثر، ومع ذلك، ومع كون الفرصة متاحة للمرأة لإثبات تفوقها على الرجل، فالنبوغ القياديّ والفكريّ والعلميّ في جميع المجالات كان متحققًا في جانب الرجل أكثر منه في جانب المرأة، مع أن المرأة في ألمانيا بعد الحرب لم يقم أيّ مانع في سبيل تفتحها على جميع آفاق المعرفة، والتعليل الوحيد لتفوّق الرجل على المرأة في مجالات القيادة، والسياسة، والعلوم، والفنون، والآداب، إنما هو تكوين طبيعة كلٍّ من الرجل والمرأة، وليس عيبًا أن يطالب الإنسان بالأمور المتفقة مع طبيعته واستعداده، وإنما العيب أن يطالب بما يتعارض مع ذلك. الشرط السادس من الشروط الواجب توافرها في الإمام الأعظم: هو الاجتهاد: نقول: جمهور العلماء على أن هذا الشرط لا بدّ توافره فيمن يرشّح للإمامة العظمى، الجمهور على أن أهل الإمامة ومستحقها من هو مجتهد في الأصول والفروع؛ ليقوم بأمور الدين، متمكنًا من إقامة الحجج وحل الشبه في العقائد الدينية، مستقلًّا بالفتوى في النوازل وأحكام الوقائع نصًّا واستنباطًا؛ لأن أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد، وفصل الحكومات، ورفع المخاصمات، ولن يتمّ ذلك بدون هذا الشرط، وهو الاجتهاد. وقد ذهب الحنفية إلى عدم اشتراط الاجتهاد في الإمام، فنراهم عندما يبيّنون شروط الإمامة العظمى لا يعدّون منها شرط الاجتهاد، وهذا هو الرأي الذي يمثّل المذهب الحنفي، وإن كان بعض علماء الأحناف -مثل الكمال بن الهمام، وهو من أئمة الحنفية- عدّ العلم، يعني جعل العلم شرطًا من الشروط الواجبة في
الإمامة العظمى، لكنه لم يُرِدْ به علم المجتهد كما هو المراد به عند أكثر العلماء، عندما يعبرون عن شرط الاجتهاد بالعلم، فإن جمهور العلماء إذا ذكروا العلم من بين الشروط الواجب توافرها في الإمامة، يبيّنون أن مرادهم بذلك هو علم المجتهد، فسواء عبروا بالمجتهد أو عبّروا بالعلم سيان عندهم، فكلمة العلم تساوي المجتهد، وهذا بخلاف الأحناف الذين يجعلون العلم شيئًا والاجتهاد شيئًا آخر؛ ولذلك قلنا: الرأي المعمول به عندهم أنهم لا يشترطون في الإمام الأعظم أو رئيس الدولة أن يكون مجتهدًا. نقول فالعلماء الذين يعدون الاجتهاد شرطًا من شروط الإمامة، تارةً يعبّرون عن هذا الشرط بالاجتهاد، وتارةً يذكرون العلم ويريدون به علم المجتهد -كما بينا- وأما الكمال بن الهمام -وهو من أئمة الفقه الحنفي- فلم يرد به علم المجتهد، بل أراد به علم المقنت في الأصول والفروع، وهذا فرقٌ بين العلم والاجتهاد عندهم. ثم أن جمهور العلماء باشتراطهم الاجتهاد في الإمام، فإنما يعنون بذلك أن يتحقّق فيه الأمور الآتية بعد توافر شرط الإسلام، يعني لا بد من توافر الأمور الآتية حتى نقول على الإمام أنه مجتهد: أَوّلًا: أن يكون عارفًا باللغة العربية المقدار الذي يستطيع بواسطته فَهم آيات الأحكام وأحاديثها؛ وذلك لأن القرآن والسنة -وهما المصدران الأولان للأحكام الشرعية- عربيان -أي باللغة العربية- ولا يستطيع المجتهدُ أن يفهم الأدلّة إلّا إذا كان على علمٍ باللّغة العربية. ثانيًا: أن يكون على علم بآيات الأحكام، فيعرف معناها، وما يتعلق بها من عموم وخصوص، وإجمال وتفصيل، وإطلاق وتقييد، وحقيقة ومجاز، وناسخ ومنسوخ ... إلى غير ذلك، لا بدّ وأن يكونَ على علم بهذه الآيات.
وقد بيّن العلماء أن ليس المراد من علمه بآيات الأحكام أن يكون حافظًا لها عن ظهر قلب، وإنما مرادهم بذلك أن يكون على معرفة بكيفية الرجوع إليها عندما يريد أن يستنبط حكمًا من الأحكام. ثالثًا: أن يكون على علمٍ بأحاديث الأحكام، فيعرف سندها من: تواترٍ، وآحاد، ومشهور، وأن يكون على معرفة بحال راوي الحديث من الجرح والتعديل؛ حتى يمكنه من معرفة الأحاديث الصحيحة من غيرها، ولما كانت المدة الزمنية الفاصلة بيننا الآن وبين هؤلاء الرواة طويلة، فقد اكتفى العلماء بتعديل الأئمة الكبار الذين توافرت فيهم الثقة بالنسبة لعلم الحديث، كالبخاري ومسلم ... وغيرهما من علماء الحديث، يعني أنه يكفي هذا المجتهد أن يرجع إلى هذه الكتب، فإذا ذهب إلى صحيح البخاري وقال له: الراوي فلان عدل، فيكتفي بذلك، وليس مطلوبًا منه أن يبحث في تاريخ هذا الراوي، فينبغي علينا أن نقتصر؛ حتى لا تكون هناك مشقة، يعنى لو اقتصرنا على هذه الكتب الصحاح في تعديلها للرواة فهذا كافٍ ولا شيء في ذلك. وأيضًا ويجب كذلك أن يكون المجتهد على معرفةٍ بمتن أحاديث الأحكام، من النواحي التي سبقت، من عموم وخصوص، وإجمال وتفصيل ... وغير ذلك. رابعًا: نظرًا إلى أن استنباط الأحكام محتاج إلى معرفة القواعد الأصولية التي يمكن بواسطتها استنباط هذه الأحكام؛ فإنه يجب أن يكون عالمًا بقواعد أصول الفقه. خامسًا: يجب أن يكون عالمًا بالمسائل التي أجمع الفقهاء عليها؛ كي لا يخالف باجتهاده ما أجمع عليه العلماء في إحدى المسائل، فيؤدي ذلك إلى ارتكابه فعلًا محرمًا؛ لأن مخالفة إجماعه العلماء أمرٌ محرمٌ شرعًا.
ويجب أن نعلم أنه إذا ما توافرت صفة في الإمام، ثم أُصيب بعد تولّيه منصبه بمرضٍ أفقده هذه الصفة، فإنه في هذه الحال مستحقٌّ للعزل عند من يرون اشتراط صفة العلم في الإمام. استدلال الجمهور ومخالفيهم على ما ذهبوا إليه: قلنا أن جمهور الفقهاء يشترطون في الإمام أن يكون مجتهدًا، وعلمنا الأمور التي يكون بها مجتهدًا، وهو معرفته باللغة العربية، وبآيات الأحكام، وبأحاديث الأحكام، وبعلم أصول الفقه، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكرناها، لكن ما هي الأدلة التي استدلّ بها جمهور الفقهاء على أنه يجب أن يكون الإمام مجتهدًا؟ أو ما هي أدلّتهم على شرط الاجتهاد في الإمام؟ نقول: يعتمد جمهور العلماء فيما يذهبون إليه في وجوب تحقق الاجتهاد في الإمام الأعظم، على ناحيتين: الأولى: القياس، والثانية: طبيعة العمل الموكول إلى الإمام الأعظم، وما يستلزمه من أوصافٍ خاصّة حتى يؤدى على الوجه الذي أوجبه الشارع. أما فيما يختصّ بالناحية الأولى -وهو القياس- فقد قاسوا منصب الإمامة العظمى على منصب القضاء، فإذا كان القاضي يشترط فيه أن يكون مجتهدًا فكذلك الإمام من باب أولى، ليقول البعض بعد أن عدّ الاجتهاد شرطًا من الشروط الواجبة في الإمام: لأن القاضي الذي يكون من قبله يفتقر إلى ذلك فالإمام أولى. يعني كأنّ جمهور الفقهاء يقيسون الإمام على القاضي، فإذا كان يشترط في القاضي أن يكون مجتهدًا فمن باب أولى يشترط في الإمام الأعظم أن يكون مجتهدًا، لأن الإمام الأعظم هو الذي يولي القاضي، ويُشترط في القاضي أن يكون مجتهدًا، فمن باب أولى يجب في الإمام الأعظم أن يكون مجتهدًا.
العدالة.
وأما يما يختص بالناحية الثانية، فقد قال البعض: لأنه محتاج بأن يصرف الأمور على النهج القويم، ويجريها على الصراط المستقيم، ولأن يعلم الحدود، ويستوفي الحقوق، ويفصل الخصومات بين الناس، وإذا لم يكن عالمًا مجتهدًا لم يقدر على ذلك. ويقول البعض: إنما اشترط الاجتهاد في الإمام؛ ليتمكّن بذلك من إقامة الحجج وحل الشبه في العقائد الدينية، ويستقل بالفتوى في النوازل وأحكام الوقائع نصًّا واستنباطًا؛ لأن أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد، وفصل الحكومات، ورفع الخصومات. وأما الذين ذهبوا إلى عدم وجوب هذا الشرط -وهم الأحناف كما قلنا- فقد بَنَوا رأيهم على أن اجتماع هذا الشرط مع غيره من الشروط المطلوبة في واحد أمر نادر، ويمكنه أن يفوض غيره من المجتهدين في الحكم في الأمور التي تستدعي الاجتهاد، أو يحكم بعد أن يستفتي العلماء. فهؤلاء هم الأحناف الذين لا يشترطون في الإمام أن يكون مجتهدًا، إنما يقولون: يُكتفى منه بأن يَسأل أهل العلم أو أهل الاجتهاد في أي مسألة من المسائل التي تُعرض عليه، ويبنى حكمه بناءً على ذلك؛ لأنه ربّما لا يتحقّق هذا الشرط مع الشروط الأخرى، ويكون اشتراطه من الأمور المعجزة؛ ولذلك يكتفون بالقول بأنه يرجع إلى غيره من المختصين؛ وبذلك لا يشترطون في الإمام الأعظم أن يكون مجتهدًا. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - شروط رئيس الدولة (2) العدالة الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد: فقد بدأنا الحديث في المحاضرة السابقة عن الشروط الواجب توافرها في الإمام الأعظم, أو ورئيس الدولة, وذكرنا أنه يشترط في الإمام الأعظم أن يكون بالغًا, عاقلًا, مسلمًا, حرًّا, ذكرًا, مجتهدًا, وذكرنا الاختلافات التي قد تكون بين الفقهاء في هذه الشروط, وبينا الرأي الراجح منها, ونواصل الآن الحديث عن بقية هذه الشروط فنقول: الشرط السابع من شروط الإمام الأعظم أو ورئيس الدولة: هو أن يكون عدلًا, والعدالة ملكة في النفس تمنع صاحبها من ارتكاب الكبيرة, والإصرار على الصغيرة, وقد اختلف تعبير العلماء عن هذا الشرط, فالأكثرون يعبرون عنه
بالعدالة, والبعض يعبر عنه بالصلاح في الدين, وبعضهم يعبر عنه بالورع, وقد اشترط الماوردي عدة شروط حتى تتحقق العدالة المطلوبة فقال في (ولاية القضاء): والعدالة أن يكون صادق اللهجة, ظاهر الأمانة, عفيفًا عن المحارم, متوقيًا المآثم, بعيدًا من الريب, مأمونًا في الرضا والغضب, مستعملًا لمروءة مثله في دينه ودنياه. واعتبار العدالة في الإمام قال به الجمهور من علماء الأمة؛ إذ إن هذا الشرط مطلوب في الشاهد, والقاضي, أي أنه يشترط في الشاهد حتى تقبل شهادته أن يكون عدلًا, ويشترط في القاضي حتى ينفذ حكمه أن يكون عدلًا, فإذا كان ذلك مطلوبًا في الشاهد, والقاضي, فينبغي أن يكون مطلوبًا من باب أولى في من يتولى الإمامة العظمى؛ لأن الإمامة العظمى أعلى منزلة من الشهادة, والقضاء, والفسق هو نقيض العدالة, وإذا كان هذا مانعًا من تقليد القضاء, والشهادة, أي الفسق, فبأن يكون مانعًا من تولي الإمامة العظمى من باب أولى, وإذا كان مطلوبًا من الإمام أن ينظر في مصالح المسلمين, فكيف يتم ذلك وهو بفسقه لم ينظر في أمور نفسه. يقول البعض: والفاسق لا يصلح لأمر الدين, ولا يوثق بأوامره ونواهيه, والظالم يختل به أمر الدين والدنيا, وكيف يصلح للولاية, وما الوالي إلا لدفع شره. ولم يخالف أحد الجمهور في القول باشتراط العدالة في الإمام إلا الحنفية, فإنهم لم يعدوها شرطًا من الشروط الواجبة, وأجازوا أن يلي الفاسق أمر الأمة, ولكنهم يكرهون ذلك, وهم يستندون فيما ذهبوا إليه, وهو أن العدالة ليست بشرط في الإمام الأعظم, يستندون في ذلك إلى أنه قد ثبت أن الصحابة صلوا خلف أئمة الجور من بني أمية, ورضوا بتقلدهم رياسة الدولة.
والرد على ذلك أن هؤلاء كانوا ملوكًا تغلبوا على الأمة, فتولوا هذا المنصب بالقهر, لا بالرضى والاختيار, وحال التغلب حال ضرورة, فلا يصح الاستدلال بها, ولو قلنا بعدم صحة ولاية المتغلب الذي ليس بعدل لتعطلت مصالح الأمة الدينية والدنيوية, من الفصل في الخصومات, وجهاد الكفار, وغير ذلك. يقول البعض: وليس من شرط صحة الصلاة خلف الإمام عدالته, فقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برًّا كان أو فاجرًا, والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برًّا كان أو فاجرًا, وإن عمل الكبائر)) والحكمة في أن العدالة لا تشترط في إمامة الصلاة, وتشترط في الإمامة العظمى, أن الصلاة لا تتعلق بحقوق الغير, بخلاف الإمامة, فإنها تتعلق بحقوق الغير. يقول البعض: ومن حق الإمام أن يقوم بالحقوق كالحدود, والأحكام, والإنصاف, والانتصاف, وأخذ الأموال من وجوهها, وصرفها في حقها, والفاسق لا يؤتمن على ذلك, فقياس الإمامة العظمى على إمامة الصلاة إنما هو قياس مع الفارق ,ولذلك سقط ما استدل به الأحناف على أنه لا تشترط العدالة في الإمام الأعظم أو رئيس الدولة. وقد قسم الإمام الماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) الفسق الذي تزول به العدالة إلى قسمين: الأول: ما تابع فيه شهوته, الثاني: ما تعلق فيه بشبهة. فأما الأول: وهو ما تابع فيه شهوته, فيحصل باجترائه على ما نهى الله عنه, واتباعه هواه, فيرتكب المحظورات غير مبال بوعيد الله -سبحانه- فهذا فسق يمنع -في نظر الماوردي- انعقاد الإمامة له, وإذا طرأ بعد عقدها له فقد خرج -عند الماوردي عن الإمامة.
وأما الثاني من قسمي الفسق: فهو ما يتعلق بالاعتقاد المخالف للحق, بعروض شبهة, وقد اختلف العلماء في ذلك, فذهب البعض إلى أنه يمنع انعقاد الإمامة, وإذا طرأ على من عُقدت له استحق العزل به, وعللوا ذلك بأنه لما استوي حكم الكفر بتأويل وغير تأويل, وجب أن يستوي حال الفسق بتأويل وغير تأويل, وذكر الإمام الماوردي أن كثيرًا من علماء البصرة ذهبوا إلى أنه لا يمنع من انعقاد الإمامة, ولو طرأ عليه بعد توليه الإمامة لا يخرج به منها, كما لا يمنع ذلك من تولي القضاء, وقبول الشهادة. ثم إن الفسق الذي تذهب به العدالة تارة يكون ظاهرًا, بمعنى أن يعرفه الناس بالانتشار بينهم, أو بشهادة العدول عليه, وتارة يكون الشخص في الظاهر عدلًا, وفي الباطن فاسقًا, على عكس ما يعتقده الناس, فإذا كان يبطن الفسق, واختاره أهل الحل والعقد للإمامة, فهل يحل له قبول هذا المنصب, أم أن الواجب عليه أن يمتنع عن قبوله؟ قال بعض العلماء: إن الواجب عليه أن يتوب مما يعمله, ومما يعلمه من نفسه, ويقبل هذا المنصب بشرط أن يكون واثقًا من صلاحه واستقامته, وعدم عودته إلى ما يجرح عدالته, فإن لم يكن واثقًا من ذلك لزمه إظهار حاله على الجملة, ووجب على أهل الحل والعقد أن يقبلوا ذلك منه, ويرشحوا غيره للإمامة. ولكن ما الحكم لو تعذر وجود العدالة؟ تعذر العدالة في الإمام يتحقق بأحد أمرين: إما باستيلاء من هو فاقد العدالة على هذا المنصب بالقوة, فلم يكن لأهل الحل والعقد اختيار في استيلائه على الإمامة, وإما بتعذر وجود العدالة فيما يستعرضه أهل الحل والعقد أمامهم من
الذين تتوافر فيهم الشروط الأخرى, ويمكن صلوحهم لتولى هذا المنصب غير أن العدالة غير متحققة فيهم, وكلا الأمرين متحقق فيه معنى الضرورة نقصد الأمر الأول, وهو أن يستولى على الإمامة من ليس بعدل, والأمر الثاني وهو أن أهل الحل والعقد لا يجدون شرط العدالة متوفرًا فيمن يصلحون للإمامة, نقول: وكلا الأمرين متحقق فيه معنى الضرورة؛ إذ لا سبيل إلى جبر الأول الذي استولى على الحكم بالقوة, لا سبيل لجبره عن التخلي عن الرياسة إلا باستعمال القوة, وهو ما يؤدي إلى وقوع الفتنة, وانتشار الفساد, وهي حال لا يرضاها الشرع, وحينئذ فينظر إلى أخف الضررين: ضرر وجود فاقد العدالة رئيسًا أعلى للأمة, وضرر انتشار الفتنة بين الناس عند محاولة إقصائه بالقوة, فيحتمل الضرر الأخف, وهو وجود فاقدها حتى تحين الفرصة لإقصائه عند أمن الفتنة, ووقوع الضرر. يقول البعض: لو تعذر وجود العلم, والعدالة, فيمن تصدى للإمامة, بأن تغلب عليها جاهل بالأحكام, أو فاسق, وكان في صرفه عنها إثارة فتنة لا تطاق, حكمنا بانعقاد إمامته؛ كي لا يكون بصرفنا إياه, وإثارة الفتنة التي لا تطاق, كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا, وبين الفقهاء أنه ما دمنا نحكم بنفوذ القضايا التي حكم فيها قضاة أهل البغي في دارهم, التي غلبهم أهل العدل عليها؛ لحاجة الناس إلى تنفيذ هذه الأحكام, فلا بد أن نحكم بصحة إمامة من فقد الشرط, وإلا لزم وقوع الفوضى بين الناس, وعدم صحة أحكام قضاتهم بناء على أنهم يولَّون القضاء من الإمام.
وكذلك الحال الثانية: وهي الحال التي لا يكون فيها فاقد العدالة قد استولى على الإمامة بالقوة, بل إن أهل الحل والعقد بتصفحهم أحوال من يصلح للإمامة عند إرادتهم اختيار الإمام, لم يجدوا من يتوافر فيه شرط العدالة, نقول: هذه الحال أيضًا حال ضرورة, أفتى فيها الفقهاء بجواز ولاية الفاسق, إلا أنه يلاحظ وجوب تقديم الأمثل فالأمثل, بمعنى أن الأقل فسقًا مقدم على غيره وهكذا. وهنا يأتي سؤال: هل تجب عصمة الإمام عن الخطأ والذنوب؟ نقول: مما سبق علمنا أنه يشترط توافر صفة العدالة في الإمام, بمعنى أن يكون الشخص غير مرتكب للكبيرة, وليس مصرًّا على الصغيرة, فلا تؤثر الهفوات الصغيرة على عدالة الإمام, ما دام غير مصر عليها, وبناء على ذلك فلا يجب عصمته عن الخطأ والذنوب, وإنما تجب عدالته الظاهرة, فإذا ظهرت منه هذه العدالة كان إمامته صحيحة, ومتى زاغ عن ذلك وقفت له الأمة تبين له خطأه, وهذا ما يقول به الجماهير الكثيرة من الأمة الإسلامية, من أهل السنة, والمعتزلة, والزيدية, والخوارج, وشذت الاثنا عشرية, والإسماعيلية, من الشيعة فقالتا بوجوب أن يكون الإمام معصومًا عن الذنوب. معنى العصمة: قبل أن نذكر شبههم في ذلك, أي شبه الذين يقولون بأن الإمام يجب أن يكون معصومًا عن الذنوب, قبل أن نذكر هذه الشبه ورد أهل السنة, ومن معهم عليها, نوضح أولًا معنى العصمة فنقول: فسر البعض العصمة بأنها خاصية في نفس الشخص, أو في بدنه, يمتنع بسببها صدور الذنب عنه.
وفسرها البعض أيضًا بـ: أن لا يخلق الله في العبد الذنب, مع بقاء قدرته واختياره. وقد أوجب الاثنا العشرية, والإسماعيلية -كما ذكرنا- أوجبوا العصمة للأئمة على معنى أنهم مطهرون من كل دنس, وأنهم لا يذنبون ذنبًا صغيرًا, ولا كبيرًا, ولا يعصون الله ما أمرهم, ويفعلون ما يؤمرون, بل إنهم يساوون الأئمة بالأنبياء والرسل في هذه العصمة, والفرق بين الإمام, والنبي عندهم, هو أن النبي يوحى إليه, والإمام لا يوحى إليه, بل نرى بعض الشيعة يغالون في ذلك, فيجوزون الخطأ على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الوقت الذي لا يجوزون فيه الخطأ على الإمام, فعندهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- جائز عليه أن يعصي الله, وأن النبي قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر, فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم, لأن الرسول إذا عصى فالوحي يأتيه من قبل الله, والأئمة لا يوحى إليهم, ولا تهبط الملائكة عليهم, وهم معصومون, فلا يجوز عليهم أن يسهوا, ولا يغلطوا, وإن جاز على الرسول العصيان, هذه هي معتقداتهم, الاثنا عشرية, والإسماعيلية. ونذكر الشبه التي استندوا إليها في هذا, وهي شبه التي يدعون بها وجوب العصمة للأئمة: يستدلون على على وجوب العصمة للأئمة بقول الله -سبحانه وتعالى- لإبراهيم -عليه السلام-: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124) فدلت هذه الآية الكريمة على أن عهد الإمامة لا يصل إلى من كان ظالمًا, وكل من ارتكب ذنبًا فهو ظالم, انظر إلى قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} (فاطر: من الآية 32) وإذا كان الأمر كذلك فالآية صريحة في أن من ارتكب ذنبًا,
سواء أكان الذنب ظاهرًا أم باطنًا, فهو غير مستحق لأن يكون إمامًا, فثبت أن الإمام يجب أن يكون معصومًا. ويمكن أن نرد عليهم في هذا: بأن الآية الكريمة دلت على أن الإمام يجب ألا يكون مشتغلًا بالذنب, فأما كونه واجب العصمة, فلا دلالة في الآية عليه, هكذا أجاب الفقهاء عن هذه الشبهة بقولهم: لا نسلم أن الظالم من ليس بمعصوم, بل هو من ارتكب معصية مسقطة للعدالة, مع عدم التوبة, والإصلاح. ومن الشبه التي استندوا إليها يقولون: ثبت بالدليل أن العصمة واجبة للنبوة, فبالقياس عليها نقول بوجوب العصمة للأئمة بجامع أن الكل مقيم للشريعة, ومنفذ لأحكام الله تعالى, هذه هي الشبهة الأخرى التي استندوا إليها, والتي يثبتون بها العصمة للأئمة, وهم يقيسون الأئمة على النبوة, بجامع أن الكل مقيم للشريعة, ومنفذ لأحكام الله تعالى. والجواب عن هذه الشبهة: أولًا: أن الفرق واضح بين النبي والإمام, فإن النبي مبعوث من الله -سبحانه- مؤيد منه بالمعجزات الدالة على عصمته من الكذب, وسائر الأمور التي تتنافى مع النبوة, ومنصب الرسالة, والإمام ليس كذلك, فلم يولَّ الإمامة إلا بطريق العباد, الذين لا يستطيعون الاطلاع على عصمته ومعرفة استقامة سريرته, فلا وجه لاشتراطها. ثانيًا: أن النبي يأتي بالشريعة التي لا يعلم الناس عنها شيئًا إلا من جهته, فلو لم يكن معصومًا عن الكذب في تبليغها وارتكاب المعاصي, مع أننا مأمورون باتباعه في أمره ونهيه, واعتقاد أن ما يأتيه من الأفعال مباح, لكانت المعجزة التي أقامها الله -سبحانه- لتصديقه في ادعائه الرسالة, وصلاح أمر الدنيا والآخرة مفضية إلى ارتكاب المعاصى, واختلال حال العاجلة, والآخرة, يعني كأنه هناك فرق,
هم يقيسون الإمامة على النبوة, لكن الفقهاء يردون عليهم بأن هناك فرق واضح بين النبي, وبين الإمام, ولذلك هذا قياس مع الفارق, فالنبي مبعوث من الله -سبحانه وتعالى- مؤيد منه بالمعجزات الدالة على عصمته, وليس الإمام كذلك, فالذي ولَّى الإمام إنما هو الناس, أو أهل الحل والعقد, وهذا يختلف عن النبوة, وكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي بشريعة لا نعلم عنها شيئًا, فإذا لم يكن معصومًا فإن ذلك قد يؤدي إلى الوقوع في المعاصي والذنوب, ويأبى الله ذلك. من الشبه التي استندوا إليها يقولون: إن طاعة الإمام واجبة بالنص, والإجماع, قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: من الآية 60) وكل واجب الطاعة واجب العصمة, وإلا فلو لم يكن واجب العصمة لجاز أن يكذب في أوامر الله -سبحانه- ونواهيه, ويأمر بالمنكرات وينهى عن الطاعات, وبما أن طاعاته واجبة فيلزم وجوب اجتناب الطاعات وارتكاب المعاصي, واللازم باطل فبطل ما أدى إليه وهو عدم كونه واجب العصمة, فثبت نقيضه وهو كونه واجب العصمة. لكن يرد عليهم أيضًا في ذلك بأن الإمام إنما تجب طاعته فيما لا يخالف الشرع فيه, أما إذا خالف الشرع فلا تجب له الطاعة عملًا بقول الحق -سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: من الآية 59) وقد كان يمكن قبول دعوى وجوب العصمة لو كانت طاعته واجبة بمجرد قوله, ولكن الأمر غير ذلك؛ إذ تجب طاعته لأن ذلك حكم الله ورسوله, وإذا كان الأمر كذلك فيكفي عدم كذبه في بيان الأحكام اشتراط الإسلام والعدالة, فيه كالقاضي, والوالي, بالنسبة إلى الناس, والشاهد بالنسبة إلى القاضي, وكالمفتي بالنسبة للمقلد, وأمثال ذلك.
ومن الشبه الذي استندوا إليها أيضًا أن الإمام حافظٌ للشرعية, فلو جوزنا الخطأ عليه لكان ناقضًا لها لا حافظًا, فيعود على موضوعه بالنقض. ويرد عليهم في ذلك بأن الإمام ليس حافظًا للشريعة بذاته, بل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة واجتهاده الصحيح, فإذا اخطأ في اجتهاده, أو ارتكب إحدى المعاصي فالمجتهدونمن الأمة يصححون له اجتهاده, والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يصدونه عن ضلالته, وإن لم يفعلوا أيضًا على فرض ذلك فلا نقض للشريعة. وبعد فقد بان فساد ما استدل به الشيعة الاثنا العشرية, والإسماعيلية على وجوب العصمة للأئمة. ويهمنا الآن أن نشير إلى أن الباعث إليهم على إيجاب هذه الصفة على ِأئمتهم إنما هو المبالغة في إجلالهم وتقديسهم لدرجة أن وصلوا بهم إلى مرتبة فوق مراتب سائر البشر, وقربوهم من مراتب الرسل بإظهار المعجزة على أيديهم وعصمتهم من الذنوب, ولم يفرقوا بين الأئمة والرسل إلا في أن الرسول ينزل إليه الوحي, والإمام لا يوحَى إليه, وكان السبب في خلع هذه القداسية على الأئمة دخول أفواج كثيرة من الفرس في الدين الإسلامي بعد الفتح, الذين يعتقدون في قداسة ملوكهم, وصاحبهم هذا الاعتقاد بعد دخولهم إلى الدين الجديد, فأحاطوا عليًّا بهالة من القداسة والسمو كان أسلافهم قد ألفوا أن يحيطوا بها ملوكهم, وكما تعود أسلافهم أن يلقبوا كسرى يلقب الملك المقدس ابن السماء, وأن يصفوه في كتبهم بأنه السيد والمرشد, كذلك فعل هؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام فلقبوا عليًّا بالإمام,
صحة الرأي في السياسة, والإدارة, والحرب.
وعلى الرغم من بساطة اللقب فإن عظمة معناه واضحة جلية؛ إذ يفيد أن صاحبه قد جمع بين ناحيتين خطيرتين هما السلطان الدنيوي, والتوجيه العقلي, ومع أن الشيعة مبالغةً منهم في تقديس أئمتهم قد نزهوهم عن الكذب, فقالوا بعصمتهم عنه, فإننا نراهم يتناقضون مع هذا المبدأ فيبيحون للإمام إذا خاف على نفسه أن يقول: لستُ بإمام, وهو إمام, هذا هو معنى التقية, وكان الواجب إذا ما كانت العصمة عن الكذب ثابتة له ألا يكون في بعض أحواله صادقًا وفي البعض الآخر كاذبًا, بل يلازمه الصدق في كل أحواله. وبما مر من شبههم نجدهم يتعسفون أحيانًا في التدليل على ما ذهبوا إليه في العصمة. هذه هي شبه الاثنا العشرية, والإسماعيلية, من الشيعة في العصمة للأئمة, وقد بينا هذه الشبه, وقمنا بالرد عليها. صحة الرأي في السياسة, والإدارة, والحرب وننتقل الآن إلى الشرط الثامن من شروط الرئيس وهو صحة الرأي في السياسة, والإدارة, والحرب, نقول: لما كان من أهم أعمال الرئيس الأعلى للدولة هو البت في الأمور الهامة التي تمس مصالح الأمة اعتبر الفقهاء أن من ألزم الشروط أن يكون الإمام على مقدار كبير من صحة الرأي, والمعرفة بأمور السياسة والحرب, وعلى كفاءة عالية من إدارة أمور الدولة, ولذلك فإن العلماء يشترطون الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح, كما عبر الماوردي, أو كما يقول بعضهم: ذو رأي وبِصارة بتدبير الحرب والسلم, وترتيب الجيوش, وحفظ الثغور ليقوم بأمر الملك, ويعلل البعض اشتراط الرأي بقوله: ليسوس به الرعية, ويدير مصالحهم الدينية والدنيوية, وعلى هذا فإن الإمام إذا لم يكن على جانب كبير من صحة الرأي في نواحي السياسة والإدارة والحرب لا يصلح في نظر جمهور الفقهاء لتولي هذا المنصب
الخطير, ولذلك يقول البعض: فلا تنعقد إمامة ضعيف الرأي لأن الحوادث التي تكون في دار الإسلام ترفع إليه, ولا يتبين له طريق المصلحة إلا إذا كان ذا رأي صحيح وتدبير سائغ, هذا هو ما يذهب إليه جمهور العلماء من وجوب أن يكون بصيرًا بتدبير أمر الحرب والسلم, خبيرًا بتنظيم الجيوش وحماية أطراف الدولة, عارفًا كيف تساس الرعية وتدبر المصالح. إلا أن هناك من العلماء ما يشترطون هذا الشرط مجوزين الاكتفاء بأن يستشير الإمام أصحاب الآراء الصائبة في كل ما يحتاج إلى البت فيه من الأمور الهامة, معللين ذلك بأنه يندر بأن يتوافر هذا الشرط مع الشروط الأخرى المطلوبة في الإمامة من الاجتهاد وغيره. ونرى أن اشتراط أن يكون الرئيس صاحب رأي, بمعنى أن يكون ملمًّا بأحوال الحرب كقادتها, ومتخصصًا في السياسة كأحد حاذقيها فيه من المبالغة بعض الشيء؛ لأن هذا وإن كان متيسر الحصول في بعض الأفراد في العصور الماضية قبل أن تعقد العلوم شتى نواحي الحياة, فإنه الآن غير متيسر بهذه البساطة, وأصبح الالتزام بأن يكون الرئيس ذا خبرة ورأي فيما يتصل بالنواحي السياسية والنواحي الإدارية وأمور الحرب لمما يعز اجتماعه في هذا العصر في شخص واحد؛ فإن المسائل السياسة والحربية لم تعد بهذه البساطة التي كانت عليها في عصور مضت, فكل ناحية من هذه النواحي تحتاج إلى تفرغ مجموعات كثيرة من الحائزين على الثقات العالية في الفروع المختلفة من العلم, وإلى تضافر جهود المتخصصين في دراسة مشكلة من مشاكل السياسة, أو الحرب, أو الإدارة, وإعداد البحوث والدراسات المتصلة بها.
وإذا كان اشتراط الرأي بالمعنى السابق فيه من المبالغة بعض الشيء, فإننا لا نقول -كما يقول البعض- بالاستغناء عن هذا الشرط مطلقًا, والاكتفاء باستشارة أصحاب الآراء الصائبة؛ إذ إن الرئيس في كل حال مطالب بالسير على مبدأ الشورى, فالاستشارة من واجباته المفروضة عليه, بل نقول: لا بد في الرئيس من وجود صفة الرأي بمعنى أن تكون عنده مقدرة اتخاذ الحكم الصائب عند وضوح المشاكل السياسية والحرب والإدارة أمامه, وذلك بعد استشارة المتفرغين لهذه المشاكل من رجال الحرب والإدارة والسياسة, وبعد الاطلاع على كافة البحوث التي تتعلق بمشكلة ما من المشاكل التي تعترض الأمة, فمن المشاهد الآن أن أمور الدول سائرة سيرها الطبيعي مع استعانة رؤسائها بالأجهزة المختلفة في شتى نواحي الإدارة والحرب, وللرئيس الأعلى بعد ذلك الرأي النهائي بعد وضوح ما يتصل بمسألة من المسائل أمامه, وسواء في ذلك الدول التي تقف الآن على قمة الحضارة الإنسانية, والدول التي لا زالت تحبو على طريق المدنية والتقدم, ولا خروج بهذا الرأي على قاعدة شرعية, أو على حكم مقرر من الشرع؛ إذ إن شروط الإمامة ليس فيها شروط نص عليها الشرع سوى شرط واحد وهو شرط القرشية, وما عدا هذا الشرط فقد اشترطه العلماء نظرًا إلى الحاجة إليه, وتختلف وجهات النظر في كون الحاجة ماسة أم لا, ولذلك جاء الاختلاف في اشتراط بعض الشروط بين بعض أهل السنة وبعضهم الآخر. ثم إنه يجب أن ننبه إلى أن هذا ليس معناه عدم اشتراط هذا الشرط بالمعني الذي حدده الفقهاء, وهو أن يكون ذا رأي وبصيرة بتدبير الحرب والسلم, وترتيب
الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية.
الجيوش, وحفظ الثغور, بل نؤكد أنه إذا اتفق وجود من تحقق فيه هذا الشرط بهذا المعنى مع الشروط الأخرى المطلوبة في الرياسة فلا يجوز العدول عنه إلى غيره ممن لم يتوافر فيه هذا الشرط بهذا المعنى؛ سيرًا على قاعدة الأمثل فالأمثل, وأما إذا لم يوجد من تحقق فيه هذا المعنى فالذي نراه أنه لا بد فيه من توافر مقدرة البت الصائب في الأمور, بعد وضوح الآراء التي يمده بها المتخصصون في النواحي المختلفة, وأما القول بالاستغناء عن اشتراط الرأي الصائب في الرياسة, والاكتفاء باستشارة أصحاب الآراء الصائبة فلا نقول به. الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية وننتقل الآن إلى الشرط التاسع من شروط الإمامة العظمى, أو الشروط التي يجب توافرها في الخليفة, أو الإمام الأعظم, أو رئيس الدولة, وهو الكفاية الجسمية: والمقصود بهذا الشرط هو سلامة الحواس والأعضاء, مما يؤثر في الرأي والعمل, فمن ناحية سلامة الحواس اشترط العلماء أن يكون سميعًا بصيرًا ناطقًا, فلا تنعقد إمامة الأصم؛ لأن صممه يمنعه عن سماع مصالح الشعب, ولأنه إذا كان مانعًا من تولي القضاء فالإمامة من باب أولى, ولا تنعقد إمامة الأعمى يقول الماوردي: إن ذهاب البصر من عقد الإمامة واستدامتها, فإذا طرأ بطلت به الإمامة؛ لأنه لما أبطل ولاية القضاء ومنع من جواز الشهادة فأولى أن يمنع من صحة الإمامة, ثم قال الماوردي: وأما عشاء العين وهو أن لا يبصر عند دخول الليل فلا يمنع من عقد الإمامة في عقد ولا استدامة؛ لأنه مرض في زمان الدعة يرجى زواله, وكذلك الأخرس لا تنعقد إمامته؛ لأن في خرسه تعطيلًا لمصالح الأمة,
وقد اختلف العلماء في طروء الخرس أو الصمم على الإمام, يعني طرأ عليه بعد ما تولى الإمامة, فذهب طائفة إلى وجوب خروج الإمام عن الإمامة إذا طرأ عليه خرس, أو صمم, كما يخرج إذا فقد بصره؛ لأن كلًّا من الخرس, والصمم له تأثيره في التدبير والعمل, وقالت طائفة أخرى: لا يخرج بطروء الصمم أو الخرس من الإمامة؛ لقيام الإشارة مقامهما, وقالت طائفة ثالثة: إن كان يحسن الكتابة لا يخرج, وإن لم يكن محسنًا لها خرج من الإمامة؛ لأن الكتابة مفهومة, والإشارة موهومة. وقد صحح الماوردي بعد أن ذكر هذه الآراء الرأيَ الأول, وهو وجوب خروج الإمام عن الإمامة إذا طرأ عليه أحدهما. ولا يضر ثقل السمع وضعف البصر إذا لم يمنعه من تمييز الأشخاص من انعقاد الإمامة أو دوامها. وأما من ناحية سلامة الأعضاء فقد قسم الماوردي فقد الأعضاء إلي أربعة أقسام: القسم الأول: ما لا يمنع من صحة عقد الإمامة, ولا من استدامتها, وهو ما لا يؤثر فقده في رأي ولا عمل ولا نهوض, ولا يشين في المنظر, مثل قطع الذكر, أو الأنثيين, فإنهما لا مدخل لهما في الرأي, وليس لهما من تأثير إلا في التناسل, فيجري ذلك مجرى العنة والإنسان العنين هو الذي لا يستطيع إتيان النساء, وقد مدح الله -سبحانه- نبيه يحيى بن زكريا -عليهما السلام- فقال: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: من الآية: 39) وفي معنى الحصور رأيان: أحدهما: أنه العنين الذي لا يستطيع إتيان النساء, وثانيهما: أنه من لا ذكر له يغشى به النساء, أو له ذكر كالنواة.
والقسم الثاني: ما يمنع من عقد الإمامة, ومن استدامتها, وهو فقد ما له تأثير في العمل, كفقد اليدين, أو له تأثير في النهوض كفقد الرجلين, فإن ذلك يؤدي إلى عجزه عن القيام بحقوق الأمة في العمل, أو النهوض, وبذلك يكون ذلك مانعًا من عقد الإمامة ابتداء, ومن استدامتها لو حدث ذلك بعد أن تولى الإمامة. والقسم الثالث: ما يمنع بعض العمل, أو بعض النهوض, كفقد بعض اليدين, أو إحدى الرجلين, وذلك مانع من عقد الإمامة ابتداء؛ لأنه عاجز عن كمال التصرف في أمور الأمة, ولم يذكر الإمام الماوردي رأيًا يخالف ذلك. وأما إذا طرأ ذلك على الإمام بعد انعقاد الإمامة له ففيه رأيان, أحدهما: يمنع من استدامتها؛ لأنه عجز مانع من ابتدائها, فكذلك هو مانع من استدامتها. والثاني: لا يؤثر في استدامتها, وإن كان مانعًا من انعقادها ابتداء؛ لأن المعتبر في انعقادها كمال السلامة, وفي الخروج منها كمال النقص. القسم الرابع: ما لا يمنع في فقده من استدامتها -أي الإمامة- واختلف في منعها ابتداء, وهو ما شان وقبح ولا أثر له في رأي, أو نهوض, أو عمل, وذلك كجدع أنف, أو فقئ إحدى العينين, فقد اتفق العلماء على أن ذلك لا يمنع من استدامة الإمامة؛ لأنه لا أثر له في شيء من حقوقها, واختلفوا في منع ذلك من عقد الإمامة ابتداء على رأيين: أحدهما: أنه لا يؤثر في عقد الإمامة ابتداء؛ لأنه لا يخل بشيء من حقوق الإمامة. ثانيهما: أن ذلك مانع من عقد الإمامة, والسلامة فيه شرط في صحة عقد الإمامة؛ حتى يسلم الأئمة من كل عيب يخل بتمام الهيبة التي يؤدي نقصانها إلى نفور عن الطاعة, وما أدى إلى هذا فهو نقص في حقوق الأمة.
وننتقل بعد ذلك إلى الشرط العاشر من شروط الإمامة العظمى, أو الشروط التي يجب توافرها في رئيس الدولة, وهذا الشرط هو الكفاية النفسية, نقول: اختلفت تعابير العلماء في هذا الشرط, فبينما نجد البعض منهم يعبرون عن هذا الشرط بالشجاعة, نجد البعض الآخر عبر عنه بالكفاءة, وعلى كل حال فهذا الشرط سواء عُبر عنه بالشجاعة, أو جمع بينها وبين صحة الرأي وعبر عنهما بالكفاية قد اشترطه جمهور الفقهاء في الإمام, وعللوه -كما سبق- بأن من واجبات الإمام إقامة الحدود على مستحقيها, ولو كان جبانًا لأعجزه جبنه عن إقامتها, وحتى يمكنه اقتحام الحروب, وتجهيز الجيوش, إذن جمهور الفقهاء يرون شرط الشجاعة, أو الكفاية في الإمام الأعظم أو من يتولى الخلافة أو رياسة الدولة لماذا؟ قالوا: لأنه لو كان جبانًا لأصبح عاجزًا عن إقامة الحدود وإلا أصبح عاجز عن اقتحام الحروب وتجهيز الجيوش, وهذا من شأنه إلحاق الضرر بالدولة الإسلامية. وقد خالف بعض العلماء في ذلك فقالوا بعدم اشتراط صفة الشجاعة في الإمام معليين ذلك بأنه يندر اجتماع هذه الصفة مع الصفات الأخرى المطلوبة في الإمام, ويمكن تفويض مقتضيات الشجاعة -أي الأمور التي تقتضي كون الإمام شجاعًا من الاقتصاص, وإقامة الحدود, وقود الجيوش إلى العدو إلى غيره- يعني بعض الفقهاء أو بعض العلماء لم يشترط هذا الشرط, لم يشترط في الإمام أن يكون شجاعًا, بل يقولون بأنه يُكتفى بذلك بأن يفوض غيره في القيام بهذه الأمور, سواء بالنسبة لتنفيذ الأحكام, أو إقامة الحدود, أو قيادة الجيوش, وتجهيز الجيوش وغير ذلك, فهو يقولون: يُكفتى بذلك, يعني الإمام يفوض غيره في هذه الأمور التي تعتمد على الشجاعة, ولا يضر عدم وجود هذا الشرط عند الإمام, وهم يقولون بأنه قلما نجد هذا الشرط مع بقية الشروط الأخرى. والواقع أن اشتراط صفة الشجاعة في الإمام حتى يدافع عن حوزة المسلمين بالثبات في المعارك, وحتى لا يجبن عن إقامة الحدود على مستحقيها, كما علل بذلك بعض الفقهاء,
شرط القرشية, وتولية الأفضل.
نقول: هذا أمر زائد عن الحاجة؛ إذ يكفي -في رأينا- أن يكون الإمام صائب الرأي بالمعنى الذي وضحناه آنفًا عند الكلام على شرط الرأي؛ حتى يفوض عنه أمور الحرب إلى القادة الأكفاء الذين يثق في مقدرتهم على القيام بما هو موكول إليهم من التخطيط للحرب وخوض المعارك, فمصالح الأمة قد تعددت وتنوعت وكل ناحية فيها تحتاج إلى متخصصين متفرغين للقيام بالواجب في شأنها, وإذا كان الأمر كذلك فباستطاعة الإمام أن يفوض إلى القادة المشهود لهم بالكفاءة ما يتصل بأمر الحرب من تجهيز الجيوش, وخوض المعارك وغير ذلك, وأن يفوض ما يتصل بالقصاص وإقامة الحدود إلى سلطات خاصة, كما هو متبع الآن في العقوبات, إذ تقوم بها وتشرف علي كل ما يتصل بها السلطات القضائية والتنفيذية في الدولة. ولكن ليس معنى ذلك جواز تولية من يعتريه الجبن أو ينتابه الخور عندما يصبح لزامًا عليه أن يقدم على إصدار أوامر تحتاج إلى رباطة الجأش, كإعلان الحرب على عدو مثلًا مع تحمل تبعاتها, بل إن هذا الوصف لو كان فيه لكان كافيًا لإقصائه عن منصب الإمامة, حتى لو توافرت فيه الشروط الأخرى؛ إذ إنه بجبنه وضعفه يكون عاملًا من عوامل طمع الأعداء في دولة الإسلام, في حين أن من المفروض على الإمام الحفاظ على الدين وعلى أرض المسلمين. وسوف ندرس هذه المذاهب بأدلتها في المحاضرات القادمة -إن شاء الله. ونكتفي بهذا القدر من هذه المحاضرة, أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - شروط رئيس الدولة (3) شرط القرشية, وتولية الأفضل الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد, وعلى آله, وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرات السابقة عن شروط الإمام الأعظم أو رئيس الدولة, وبينا أنه يشترط فيه الإسلام, والبلوغ, والعقل, والحرية, والذكورة, والاجتهاد, والعدالة, وصحة الرأي في السياسة, والإدارة, والحرب, والكفاية الجسمية, والكفاية النفسية, وبقي شرطان نتحدث عنهما الآن, وهما شرط القرشية, وشرط تقديم الأفضل. فبالنسبة لشرط القرشية, بمعنى أن يكون الإمام من قريش, فنقول -وبالله التوفيق: هذا الشرط هو أحد الشروط الذي اختلف العلماء فيها اختلافًا كبيرًا, حتى أن فرقة مشهورة من فرق المسلمين هي فرقة الخوارج, صار أحد ما يشتهر به هو
قولها بعدم وجوب هذا الشرط, وسنبين آراء العلماء في ذلك, ثم نبين الأدلة الذي استندوا إليها. آراء العلماء في اشتراط القرشية: يرى أهل السنة, وأكثر العلماء, أنه يشترط في الإمام أنه يكون من قريش, وذهب الخوارج إلى أن الإمامة تجوز للقرشي, وغير القرشي, لا فرق في ذلك بين أحد وأحد؛ لنسبه, أو لجنسه, أو للونه, فالكل سواء في صلوحه لها, مادام ملتزمًا بكتاب الله, وسنة رسوله, ومادام يستطيع القيام بها. وبالنسبة للأدلة نقول: استدل أهل السنة على شرط النسب القرشي, بالسنة, والإجماع. فأما السنة: فقد استدلوا بأحاديث كثيرة, مذكورة في كتب السنة المتعددة, في كتب الأحكام, وأبواب الإمارة, والمناقب, وغيرها, من هذه الأحاديث ما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الناس تبع لقريش في هذا الشأن, مسلمهم لمسلمهم, وكافرهم لكافرهم)) وفي رواية أخرى: ((الناس تبع لقريش في الخير والشر)) وفي رواية ثالثة: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان)) ويقول -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: ((إن هذا الأمر في قريش, لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين)). وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل أن أبا بكر, وعمر, لما ذهبا إلى سقيفة بني ساعدة, حيث اجتمع الأنصار لاختيار خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكلم أبو بكر, ولم يترك شيئًا أُنزل في الأنصار, ولا ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شأنهم إلا وذكره, وقال: ولقد علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو سلك الناس واديًا, وسلكت الأنصار واديًا, سلكتُ وادي الأنصار)) ولقد علمت -يا سعد- أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قال -وأنت قاعد-: ((قريش ولاة هذا الأمر, فبر الناس تبع لبرهم, وفاجرهم تبع لفاجرهم, فقال له: صدقت نحن الوزراء, وأنتم الأمراء)). وبهذا يتبين أن السنة قد أوجبت هذا الشرط بروايات متعددة, هذا فضلًا عن الإجماع, فقد انعقد الإجماع في زمن الصحابة, وكذلك بعدهم على أن الأئمة من قريش. هذا هو ما استدل به أصحاب الرأي الأول, وهم جمهور العلماء القائلون بأنه يشترط في الإمام أن يكون من قريش. ولو نظرنا إلى أدلة الرأي الآخر, وهم الخوارج, القائلون بأنه لا يشترط هذا الشرط, فلهم أدلة على ما ذهبوا إليه. فقد احتجوا في عدم اشتراط القرشية بأحاديث مروية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبقولٍ منسوب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه, وبدليل عقلي. فأما الأحاديث التي تثبت أن القرشية ليست شرطًا من شروط الإمامة, فمنها ما رواه مسلم, عن أبي ذر, قال: ((إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع, وإن كان عبدًا مجدع الأطراف)) أي أن أسمع وأطيع, ولو كان عبدًا خسيسًا, قد قطعت أطرافه, فما دام هو ولي الأمر فطاعته واجبة, وروى مسلم أيضًا عن يحيى بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: ((ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)). فهذه الأحاديث تفيد أن القرشية ليست شرطًا في الإمام؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بطاعة العبد حين يكون وليًّا للمسلمين, ومعروف أن قريشًا ليس بهم رقيق يتصل نسبهم بها, بل في أحدها -أي في أحد هذه الأحاديث- وجوب السمع
والطاعة للعبد الحبشي, فدل ذلك على أن الإمام قد لا يكون قرشيًا, وهو ما يدعيه أصحاب الرأي القائلون بأنه لا يشترط أن يكون الإمام من قريش. وأما استدلالهم بالقول المنسوب إلى عمر -رضي الله عنه- فقد روي عنه أنه لما طُعن طلب المسلمون منه أن يستخلف عليهم من يرضاه لهم, حتى لا يختلفوا بعده, فقالوا له: بين لنا من يلي أمورنا, فقال -رضي الله عنه-: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا استخلفته, وروي عنه أيضًا قوله: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته, فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل. فدل هذا القول من عمر على أنه لا يرى وجوب شرط القرشية, حيث كان ينوي استخلاف سالم مولى أبي حذيفة, أو معاذ بن جبل, وكلاهما ليس قرشيًا, بل الأول ليس عربيًا, والثاني أنصاري لا نسب له في قريش. وأما الدليل العقلي على انتفاء شرط القرشية في الإمام, فيقولون فيه: إن الأنساب لا اعتبار لها عند الشارع في القيام بأمور الدين, فلا شرف ولا خسة إلا بالعمل الصالح, وحسن الصلة بالله -سبحانه- أو بعدمها, قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: من الآية: 13) فالإسلام قد جاء بمبدأ المساواة بين الناس جميعًا, أبيضهم, وأسودهم, وأحمرهم, شريفهم, وحقيرهم, لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى, واشتراط القرشية اتجاه إلى العصبية, وإلى أن تسود طائفة من الناس على سائر الأمة, وهو ما يمقته ويبغضه الشرع الحكيم. وبعد فإن المرأ ليحار حقًا في التوفيق بين الأدلة القائمة على وجوب القرشية في الإمام, ومنها الأحاديث المتعددة المروية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع المسلمين على ذلك, نقول: ليحار في التوفيق بين هذا كله, وبين قول عمر في سالم مولى أبي حذيفة, وفي معاذ بن جبل, على أنه في النهاية يجب أن يكون الميل إلى إلى الأدلة التي أثبتت شرط
القرشية؛ ذلك أنها نصوص أفادت وجوب هذا الشرط كما سبق بيانه, وقد أكدها إجماع الصحابة, فلا مفر من التسليم بما أدت إليه كل هذه الأدلة, وبخاصة وأن الحكم أصبح قطعيًا بالإجماع, لا يحتمل أدنى ريب في وجوب هذا الشرط. وأما ما قاله الخوارج الذين لا يشترطون في الإمام أن يكون قرشيًّا, نقول: ما قالوه من أن الإسلام نهى عن العصبية, وأن تسود طائفة معينة على سائر المسلمين, وأنه جاء بالمساواة بين الناس جميعًا, وهذا ما يعارض جعل الخلافة في قريش, فإننا نقول -ردًّا عليهم: إن الإسلام باشتراطه أن يكون الإمام قرشيًّا لم يكن بذلك داعيًا إلى العصبية التي نهى عنها, فإن الحاكم الأعلى في الدولة الإسلامية ليس له أي مزية على سائر أفراد الأمة, وليس لأسرته كذلك أدنى حق زائد على الحقوق التي كفلها الشارع لسائر أفراد المسلمين, فالإمام, وأفراد المسلمين, كلهم سواء أمام القانون الإسلامي, يخضعون لأحكامه, بل إن الإمام متحمل من التبعات ما يجعله من أشد الناس حملًا, وأثقلهم حسابًا يوم القيامة؛ لأنه مسئول عن رعيته, كما نص على ذلك رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن لأي من الأسر التي ينتمي إليها أبو بكر, أو عمر, لم يكن لهم أدنى امتياز على أي فرد من أفراد المسلمين في زمن خلافتهما, ونزوان بني أمية على حقوق المسلمين زمن خلافة عثمان لم يكن نتاج العصبية من عثمان, وإنما كان لضعفه -رضي الله عنه- وعدم توفيقه في اختيار من يتولون أمور الناس من قِبله, حتى كان ذلك سببًا في إيقاظ الفتنة التي اجتاحت العالم الإسلامي آنذاك, وتلاقَى الغوغاء, وذوو الأهواء, والدساسون للإسلام, تلاقوا في تجمع هائج أدى في النهاية إلى مصرع الخليفة في داره وهو يقرأ القرآن الكريم,
فالإسلام لا يسود طائفة, يعني لا يجعل لها سيادة, لا يجعل السيادة لطائفة من الناس على من عداهم من أفراد الأمة, وإذا كان الإمام من قريش فليس معنى ذلك أن تتبوأ قريش مكانة عالية دونها مكانة سائر المسلين؛ لأن الإسلام -كما قلنا- لم يفرق بين قرشي, وغير قرشي, ولم يفرق بين حاكم, ومحكوم, والأمة بالتزامها القانون الإسلامي هي صاحبة الحق في السيطرة على الخليفة, وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها, وليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة, والدعوة إلى الخير, والتنفير عن الشر, وهذه سلطة خولها الله لأدنى المسلمين. وبهذا نكون قد أجبنا عن الشبهات التي تمسك بها الخوارج, ومن معهم, في القول بعدم اشتراط القرشية في الإمام. لكن ما هي الحكمة في اشتراط القرشية؟ نبادر بأن نقول: إن القرشية شرط قد ثبت بالأحاديث الكثيرة, وبإجماع المسلمين عليه في خير القرون -كما بينا ذلك آنفًا- وعلى ذلك فإذا ما أردنا أن نلتمس الحكمة من هذا الشرط, فقد نصيب في ذلك, وقد نخطئ, وفي هذه الحال لا يؤثر ذلك في أن هذا الشرط ثابت, لا يقوى معارضوه على نفيه؛ لأن الأمر في أمثال هذا موقوف على قيام الدليل وثبوته, فإذا ما قام الدليل على أمر من الأمور وجب الامتثال, ولا يجب في كل حكم أن يكون معللًا, أو ظاهر الحكمة, كما يجب أن يعلم أن الحكمة في اشتراط القرشية ليست هي القرابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن للقرابة أحكام خاصة من ميراث, أو تحريم نكاح, إلى غير ذلك, لكن ليس للقرابة مدخل في الإمامة, كما لا مدخل لها في تولية والٍ على ناحية من النواحي, وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يولي من تربطه به صلة القرابة, ومن لا تربطه به هذه الصلة.
وقد حاول العلماء التماس الحكمة من اشتراط القرشية في الإمام, فكان غالب اجتهادهم يدور حول المكانة التي تتمتع بها قريش بين العرب عامة, مما يسهل انقياد الناس لهم؛ لما لهم من الشرف والرياسة, وأن تخصيص قريش بالإمامة عامل هام من عوامل حراسة هذا الدين؛ لأنه جاء بلغتهم, ورسوله -أي رسول هذا الدين- منهم, مما يجعلهم مدفوعين طبيعيًّا إلى صيانته وإلى نشره. وأخيرًا نقول: إن الإسلام قد اشترط في الإمام الأعظم أن يكون من قريش, وسواء أظهرت لنا الحكمة في ذلك, أم أخطأنا في فهمها, فإن ذلك لا يؤثر في كون هذا شرطًا اشترطه الشارع, كما قلنا ذلك سابقًا. ثم نتحدث الآن عن الشرط الآخر, الذي وعدنا بالحديث عنه, وهو أن يكون الإمام أفضل من غيره فنقول: نحب أن نبين في البدء أن الجميع قد اتفقوا على أن الإمامة العظمى إذا عقدت لشخص, ثم ظهر من هو أفضل منه, فلا يعدل عن الإمام إلى الأفضل, والعلة في ذلك ظاهرة؛ إذ إن ظهور الأفضل محتمل في كل آن, فلو جُوِّز العدول إلى الأفضل, لأدى ذلك إلى حال من عدم استقرار الحكم في الدولة, المؤدي إلى الفوضى, التي لا يرضى عنها الشارع الحكيم, وكذلك لا خلاف بين العلماء في جواز تولية المفضول إذا كانت كلمة الأمة قد اتفقت عليه, ولم ترض بغيره بديلًا, أو كان هناك عذر يمنع تولية الأفضل, كغيبته, أو مرضه, أو كان المفضول أطوع في الناس, وأقرب إلى قلوب الشعب. واختلف العلماء في حال وجود شخصين توافرت في كل منها الشروط المطلوبة في الإمامة العظمى, إلا أن أحدهما أفضل من الآخر, ولم يحظ المفضول باتفاق الأمة على اختياره, ولم يوجد من الأعذار ما يبرر العدول عن الأفضل إلى
المفضول, هل يجوز في هذه الحالة عقد الإمامة له, أي للمفضول حينئذ أم لا يجوز ذلك, ويجب عقد الإمامة للأفضل؟ وقبل أن نذكر الآراء في ذلك, وما استندت إليه هذه الآراء, نرى أن نبين بعض الوجوه التي يمكن أن يفاضل بين اثنين على أساس وجودها, أو عدمها. من ذلك مثلًا: أن يشترك أكثر من واحد في الصفات المطلوبة في الإمامة, إلا أن صفة من هذه الصفات المطلوبة كالعلم, أو الشجاعة -مثلًا- تظهر واضحة في أحدهم, ويتفوق على غيره فيها, فهل يجوز حينئذ ترك الأفضل في هذه الصفة, وتولية المفضول, أم لا يجوز ذلك؟ وهذا ما سنوضحه بالنسبة لآراء العلماء. آراء العلماء في انعقاد الرئاسة للمفضول: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن الإمام يجب أن يكون أفضل أهل زمانه في شروط الإمامة, ولا تنعقد الإمامة لأحد مع وجود من هو أفضل فيها, فإن عقدها قوم للمفضول كان المعقود له من الملوك دون الأئمة, يعني كأنه استولى على السلطة بدون سند من الشرع. وذهب الأكثر من الفقهاء, والمتكلمين, إلى أن الإمامة تجوز للمفضول حال وجود الأفضل, ولا يمنع وجود الأفضل انعقاد الإمامة للمفضول ما دام مستوفيًا شروط الإمامة. أدلة القائلين بعدم جواز إمامة المفضول: استدل القائلون بعدم جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل بما يلي: أولًا: أن الصحابة قد عقدوا الإمامة للأفضل فالأفضل, فالخلفاء الأربعة أفضلهم أبو بكر, ثم عمر, ثم عثمان, ثم علي, وهذا الدليل قد احتج به أبو الحسن الأشعري.
ثانيًا: أن العقل يقضي بقبح تقديم المفضول على الأفضل في إقامة قوانين الشريعة, وحفظ حوزة الإسلام. ثالثًا: أن الأفضل أقرب إلى انقياد الجماهير له, واجتماع الآراء على متابعته. هذه هي أدلة القائلين بعدم جواز إمامة المفضول. أدلة القائلين بجواز إمامة المفضول: استدل القائلون بجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل بأدلة: أولًا: قالوا: إن الستة الذين رشحهم عمر للخلافة بعده, كان فيهم -بإجماع الأمة- الفاضل, والأفضل, ومع ذلك فقد أجاز عمر أن يعقد لواحد منهم إذا اجتمعوا عليه, ورأوا مصحلتهم في توليته, وهذا يدل على أنه لا يشترط أن يكون الإمام أفضل الناس. ثانيًا: أجمع العلماء على انعقاد الإمامة بعد الخلفاء الأربعة لبعض القرشيين, كمعاوية مثلًا, مع أنه كان في بقايا الصحابة من هو أفضل منه ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل. ثالثًا: أن الأفضلية أمر خفي قد لا يتطلع عليها أهل الحل والعقد, وربما يؤدي تحري الأفضلية إلى وقوع النزاع, وتشويش الأمر. هذه هي أدلة القائلين بأنه يجوز تولية المفضول مع وجود الأفضل. وبعد فإننا نرى بعد استعراض أدلة كل من الفريقين, أنه يجب أن يصار إلى القول بأنه يجب تقديم الأفضل, وإذا كنا نقول بوجوب تقديم الأفضل فإننا نقول: إنه إذا لم يتم ذلك وقدم المفضول فبايعه أهل الحل والعقد, وهم الذين يمثلون الأمة, فإن الإمامة حينئذ منعقدة له, ولا نقول بعدم انعقادها؛ لئلا يؤدي ذلك إلى وقوع الفتن, وإلى وقوع الفساد. وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن الشروط الواجب توافرها في الإمام الأعظم أو رئيس الدولة.
الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته.
الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته.
انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته) 1 - شروط رئيس الدولة (3) انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد ونتحدث الآن عن الطرق التي تنعقد بها رياسة الدولة, آراء العلماء إجمالًا: الجمهور من الفقهاء, والمتكلمين, على أن توافر شروط الإمامة في شخص من الأشخاص ليس كافيًا بمجرده في انعقاد الإمامة له, بل لا بد من طريق يثبت به هذا المنصب, حتى على فرض أن الشروط المطلوبة في الإمامة لم تتوافر إلا في واحد فقط, تفرد بها عن سائر أفراد الأمة, فإن جمهور العلماء يقولون بعدم انعقاد الإمامة له بمجرد ذلك, بل لا بد من اختيار أهل الحل والعقد له, وإذا كان العلماء قد قالوا بأن الصلاحية وحدها ليست بكافية في انعقاد الإمامة, بل لا بد من وجود سلطة تسند إليه هذه الإمامة, إلا أنهم اختلفوا في أي الطرق يمكن أن يكون هو المبين لانعقادها. فالإمامية قالوا: إن انعقادها -أي انعقاد الإمامة- ليس له طريق إلا النص, وأهل السنة قالوا: إن طريقها البيعة من أهل الحل والعقد, أو العهد من الإمام السابق. وثمة طريقان آخران عند جماهير علماء الأمة لانعقاد الإمامة, غير اختيار أهل الحل والعقد, هما: العهد, والقهر أو الغلبة, وسنتكلم -بمشيئة الله- عن كل ما ذكرناه, وهو اختيار أهل الحل والعقد, والعهد, والقهر أو الغلبة, والنص الذي يزعمه الشيعة الإمامية, ذاكرين خلاف العلماء إن وجد في كل منها, ومرجحين ما نراه من الآراء.
الطريق الأول: هو اختيار أهل الحل والعقد: اختيار أهل الحل والعقد, أو بيعة أهل الحل والعقد, هو الطريق الأصل في انعقاد الإمامة عند جماهير العلماء من الفقهاء, والمتكلمين, فإذا خلا منصب الإمامة بموت الإمام, أو بعزله من منصبه, وجب على الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد أن تتصفح أحوال من يمكن أن يقوم بأعباء هذا المنصب, فمن رأوه مستوفيًا شروطه بايعوه إمامًا لهم, فإذا لم يكن ثمة من تتوافر فيه الشروط غيره وجب عليه قبول هذا المنصب, إذا لم يكن هناك من الأعذار ما يبرر له رفض ما يعرضون عليه, وأما إذا كان له من الأعذار ما يمنعه من القيام بأعباء هذا المنصب, كما توضحه أحكام الشريعة, فحينئذ يعدلون عنه إلى غيره, مراعين في مبايعتهم الأفضل, حتى لا يلي هذا الأمر غير المستحق له. يقول الإمام الماوردي في (الأحكام السلطانية): فإذا تعين لأهل الاختيار من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه, فإن أجاب إليها بايعوه عليها, وانعقدت ببيعتهم له الإمامة, فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته, والانقياد لطاعته, وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها؛ لأنها عقد مراضاة واختيار, لا يدخله إكراه, ولا إجبار, وعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها. ولكن نسأل سؤالًا: وهو لماذا يسند اختيار الرئيس إلى جماعة خاصة, كأهل الحل, والعقد؟ نقول: قد يكون لافتًا نظر الباحثين في نظام الحكم الإسلامي ما قرره فقهاء الإسلام من أن مهمة اختيار الإمام يجب أن توكل إلى جماعة خاصة دون باقي
أفراد الأمة, مما يوهم -في ظاهره- عدم الاعتداد بآراء جماهير الأمة, التي ما جُعل الإمام إلا للقيام برعاية مصالحها الدينية, والدنيوية, كان الواجب أن تسند مهمة اختيار الإمام إلى كل بالغ, عاقل, من أفراد الشعب, لا فرق في ذلك بين واحد, وواحد, حتى يكون الاختيار معبرًا تمام التعبير عما ترتضيه الجماهير, وسواء في ذلك أن يكون هذا الاختيار قد تم بطريق مباشر, كالاقتراع العام, أو بطريق غير مباشر, كأن يتم اختيار الإمام بوساطة هيئة خاصة ينتخبها الشعب, يسند إليها القيام بهذه المهمة الخطيرة, فقصر اختيار الإمام على جماعة خاصة مما يلفت نظر الباحثين؛ لأنه في الظاهر مخالف مبدأ إعطاء حق الاختيار لكل مواطن, حتى يكون الاختيار معبرًا عن الإرادة الشعبية تمام التعبير. صحيحًا أن الإسلام يوجب على الجميع -أي جميع أفراد الأمة- أن يبايعوا الإمام, ويدخلوا في طاعته, بعد انعقاد الإمامة له بعقد أهل الحل والعقد, ولكن ذلك الوجوب إنما قُصد به إغلاق باب التفرق, حتى لا تكون الفتنة والفوضى بين الناس, ولذلك قال العلماء: إنه إذا تمت البيعة من أهل الحل والعقد في ناحية, وجب عليهم أن يخطروا بها سائر أهل الحل والعقد في النواحي الأخرى. يقول البعض: وإن أقام بعض أهل الحل والعقد إمامًا سقط وجوب نصب الإمام عن الباقين, وصار من أقاموه إمامًا, ويلزمهم إظهار ذلك بالمكاتبة والمراسلة؛ لئلا يتشاغل غيرهم بإمام غيره وقد وقعت الكفاية, ولئلا يؤدي ذلك إلى الفتنة, فعدم مبايعة سائر أفراد الأمة لا يؤثر في انعقاد الإمام؛ لأن العقد يتم بمجرد مبايعة أهل الحل والعقد, ولا يكون العقد صحيحًا إذا لم يبايع الإمام أهل الحل والعقد, فإذا فرض بعد موت الإمام مثلًا أو عزله, أن اجتمع جماعة من غير أهل الحل والعقد, وعقدوا
البيعة لواحد من الناس, فإن هذا البيعة لا اعتداد بها, وليست لها الصفة الشرعية التي تجبر باقي أفراد الأمة على الدخول في طاعة من بايعته هذه الجماعة. وقبل أن نوضح المعنى المثالي الملاحظ في تقرير المبدأ الإسلامي القائل بوجوب أن تسند مهمة اختيار رئيس الدولة إلى جماعة خاصة, تسمَّى عرفًا بجماعة أهل الحل والعقد, يجب أن نقول بادئ ذي بدء: إننا إذا كنا حقًا نبحث عن الطريقة المثلى لاختيار رئيس الدولة, يجب علينا أن نسلم بأمرين: أولهما: أن اختيار رئيس الدولة يجب ألا يوكل إلَّا إلى من توافرت فيه مقدرة التفرقة بين من يصلح, ومن لا يصلح, لتولي هذا المنصب الخطير, وتوافر هذه المقدرة لا يتحقق إلا بأن تفرض شروط, وصفات خاصة, في من يصح قيامه بهذه المسئولية, شروط وصفات من شأنها أن توجد في القائمين بهذه المهمة الصلاحيةَ الكاملة لها؛ وذلك لأنه لما كان رئيس الدولة لا يُختار إلا ممن توافرت فيه شروط خاصة, تؤهله للقيام بأعباء هذا المنصب, وهي التي بيناها فيما سبق عند الكلام عن الشروط المطلوبة في رئيس الدولة, نقول: كان لزامًا ألا يوكل اختيار الرئيس إلا إلى أشخاص تتوافر فيهم مقدرة التفرقة بين من تحققت فيه هذه الشروط, وبين من لم تتحقق فيه. وثاني الأمرين الذَين بجب التسليم بهما: هو أنه لا يصح ادعاء أن التنظيمات البرلمانية تمثل الشعب كله تمثيلًا صحيحًا, سواء في ذلك الشعوب التي بلغت مستوًى رفيعًا من العلم, والنضج السياسي, والشعوب التي لم تبلغ بعد هذا المستوى, وذلك لعدة أسباب: السبب الأول: أن البرلمان بأجمعه قد لا يمثل سوى أقليَّة ضئيلة من الناخبين, وذلك إذا أسقطنا من حسابنا نوعين من الأصوات, أولهما أصوات الغائبين الذين لم يدلوا بآرائهم في هذه الانتخابات, وهؤلاء الغائبون يمثلون عددًا كبيرًا بالنسبة إلى باقي أفراد الناخبين في كل انتخاب, ويبلغ عددهم في أغلب البلاد نحو نصف عدد الناخبين,
وثاني النوعين الذين يجب عدم احتسابهما هو الأصوات الفاشلة, أي الأصوات التي حصل عليها المرشحون الذين لم يكتب لهم النجاح في هذه الانتخابات, ومجموع هذين النوعين يشكل عددًا كبيرًا, قد يكون هو الأغلب بالنسبة إلى باقي الأصوات, كما تفيده الإحصائيات, سواء في ذلك البلاد التي تأخذ بنظام التصويت الإجباري, والبلاد التي لا تأخذ بهذا النظام, وعلى ذلك فالبرلمان قد لا يمثل إلا أقليلة ضئيلة بالنسبة إلى عدد الناخبين, وبالتالي لا يمثل الاتجاهات الحقيقية لمجموع الأمة, وهذا فضلًا عن أنه من الملاحظ أن يحدث في كثير من البلاد خضوع الأغلبية البرلمانية لسيطرة عدد قليل من الزعماء والساسة, يوجهونها حسب أهوائهم, وميولهم, وقد تكون هذه الميول والأهواء لا تتوافر في أكثر الأحوال مع ميول الجماهير الذين ينوبون عنهم, وإن ادعوا كذبًا أنهم يعبرون عن مصالح جماهير الأمة. السبب الثاني من أسباب عدم صحة ادعاء أن التنظيمات البرلمانات تمثل الشعب كله تمثيلًا صحيحًا, فساد الانتخابات في كثير من الأحوال: فإنه مهما قيل عن حرية الانتخابات, وعدم تدخل الإرادة فيها, فإنها في الواقع لا تخلو من استعمال طرق كثيرة فيها غير مشروعة, من الغش, وخداع الجماهير, وإغرائهم بالرشوة, والتغرير بهم, بقصد كسب أصواتهم مما يؤثر في نتيجة الانتخابات تأثيرًا كبيرًا. السبب الثالث: أننا لو سلمنا جدلًا بأن الانتخابات تتم بطريقة نظيفة خالية مما يشوبها مما ذكرناه آنفًا, وفرضنا أن البرلمان يمثل فعلًا إرادة أغلبية الناخبين, فإننا لا نسلم أن يقال: إن البرلمان يمثل جماهير الأمة طوال الوقت؛ لأن اختلاف
النزاعات في الجماهير, واتجاهاتهم المتباينة, قد يجعل من المقبول الادعاء بأن البرلمان يمثلهم في بعض مسائل معينة لمدة قصيرة, وأن الادعاء بأن البرلمان يمثل جماهير الأمة طوال الوقت فإن هذا لا يعدو أن يكون نوعًا من السيادة للنائبين على المنوب عنهم. وبعد فقد تبين مما ذكرناه أن ادعاء أن التنظيمات البرلمانية تمثل إرادة الجماهير, وتعبر عن الرأي العام, ادعاء غير مُسَلم؛ للأسباب التي ذكرناها, يتبين لنا مما سبق أن تخصيص جماعة معينة في النظام الإسلامي لانتخاب رئيس الدولة هو نوع من المثالية التي ينشدها الإسلام في تشريعاته, يعني كون هناك جهة معينة, أو جماعة معينة, يطلق عليهم أهل الحل والعقد, يقومون باختيار رئيس الدولة, هذا هو الأمر المهم, وهذا أفضل بكثير مما هو موجود في القوانين الوضعية, ونظم الانتخابات الوضعية, التي تبين لنا فشلها فيما قدمنا. ولكن هل يُنتخب أفراد هذه الجماعة التي تقوم باختيار رئيس الجمهورية, أم يُكتفي باستفاضة أخبارهم, أو أخبار فضلهم, وعلمهم, وتقدمهم بين جماهير الأمة, هذا من الموضوعات الخلافية بين الفقهاء. الرياسة عقد كسائر العقود: لا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن فقهاء الإسلام, ومتكلميه, قد قرروا أن الإمامة عقد كسائر العقود التي تتم بين الطرفين, والأمة هنا هي الطرف الأول, والرئيس أو الإمام هو الطرف الثاني, فالإمامة عقد حقيقي مبني على الرضا, قائم بين الأمة والإمام, يجب بمقتضاه على الطرف الثاني, وهو الإمام أو الرئيس, السير
بحكمهم على وفق أحكام شريعة الإسلام, ويجب على الطرف الأول, وهو الأمة, بذل الطاعة والانقياد له فيما لا يخالف أوامر الشرع ونواهيه. وإذا كان مفكرو الإسلام قد بينوا أن العلاقة بين الحاكم والمحكومين مبينة على عقد بينهم وبينه, فإنهم بذلك يكونون قد سبقوا الفكر الغربي في البحوث القانونية السياسية؛ إذ إن (جان جاك روسو) الذي يعتبر في نظر أوروبا أبًا لديمقراطية الحديثة بكتابه (العقد الاجتماعي) الذي كان بمثابة الإنجيل لدى زعماء الثورة الفرنسية, والذي ضمنه نظريته القائلة: إن الحاكم يتولى سلطاته من الأمة نائبًا عنها, بناءً على تعاقد حرر بنيهما, إذ إن (روسو) هذا قد سبقته النظرية الإسلامية بقرون عديدة, وإذا كان المفكرون الإسلاميون قد سبقوه, وسبقوا غيره, وتكلموا عن العقد بين الحاكم والمحكوم, فإنهم بذلك يكونون هم الرواد في هذا الميدان الفكري الهام, وبخاصة وأن العقد الذي يتكلم عنه (روسو) عقد تخيل حدوثه في العصور الساحقة, ولم يقم من الشواهد التاريخية ما يمكن أن يكون برهانًا حقيقيًّا عليه, بخلاف العقد الذي تكلم عنه مفكرو الإسلام, فإنه عقد حقيقي ثابت, من يوم أن وُجد نظام الخلافة, وكانت بيعة الأمة صورة لتحقيقه. ومن ناحية أخرى فإن النظرية الإسلامية ليس فيها أفراد تنازلوا عن شيء من حرياتهم وسلطاتهم, وإنما لدينا أمة مكلفة وكلت عنها بعض أفرادها لرعاية صوالحها, وليس في الوكالة تمليك, ولا مظنة تمليك, والبيعة عقد يقيد الحاكم بدستور خاص, ويحدد له حدود مهمته, فإذا التزم شروط العقد فله حق الطاعة على المحكومين, فإذا جاوز ما عين له وخرج على الشرط انعزل من الوكالة, وخرج من العهدة بنفسه, أو بعزل الشعب الذي ولاه.
معنى البيعة: وضح ابن خلدون معنى البيعة فقال: البيعة: هي العهد على الطاعة, كان المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه, وأمور المسلمين, لا ينازعه في شيءٍ من ذلك, ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر, على المَنشط, والمكره, وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده؛ تأكيدًا للعهد, فأشبه ذلك فعل البائع, والمشتري, فسمي بيعة. وقد أصبح لفظ البيعة يستعمل مجازًا في الرضا بالإمام, والانقياد له, فإذا ما رضي الناس به, وانقادوا له, فحينئذ يقال مجازًا: إنهم بايعوه إمامًا لهم, ولهذا فإن الفقهاء, والمتكلمين, عندما يتكلمون عن البيعة فإنهم لا يريدون صفق اليد, وإنما يعنون بها الرضا, والانقياد, وإظهار ذلك, ويصرحون بأنه لا يشترط المصافحة باليد لتحقق البيعة. شروط صحة البيعة: لكي تكون البيعة واقعة على الوجه الصحيح لا بد وأن تتوافر فيها بعض الشروط, وسنبين هذه الشروط, ذاكرين الخلاف إن وجد في أي شرط منها, وهذه هي: الشرط الأول: أن تجتمع في المأخوذ له البيعة الشروط المطلوبة في رئيس الدولة, وهي التي بيناها فيما سبق, وعلى هذا فلا تنعقد الرياسة لواحد ممن فقد أي شرط من هذه الشروط, إلا في حال الضرورة, كحال الغلبة, والاستيلاء بالقوة على الحكم, وهو ما يعبر عنه في عصرنا الحالي بالانقلابات العسكرية,
فهذا طريق قد بين العلماء إمكان انعقاد الرياسة به, وكما إذا لم تكتمل الشروط المطلوبة في أحد ممن يصلحون لتولي هذا المنصب, فإنه يجوز حينئذ التنازل عن بعض هذه الشروط؛ نظرًا إلى حال الضرورة, فيولى الأفضل فالأفضل, حتى لا يخلو الزمان عن رئيس يقوم على حراسة الدين, وسياسة الدنيا. الشرط الثاني: أن يكون الذين عقدوا البيعة للرئيس هم أهل الحل والعقد, فإذا عقدها غيرهم فلا تنعقد. الشرط الثالث: أن يقبل الشخص الذين عقدوا الرياسة له, أن يقبل هذا المنصب, فإذا رفض فلا تنعقد رياسته, ولا يجبر عليها. الشرط الرابع: الإشهاد على البيعة, وهذا هو شرط من الشروط الذي اختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيعة لا تحتاج إلى إشهاد, والقول الثاني: وجوب الإشهاد عليها, والقول الثالث: ينظر إلى عدد العاقدين, فإن كانوا جمعًا لم يشترط الإشهاد, وإن كان العاقد واحدًا اشترط ذلك. الشرط الخامس: ألا يقارن هذا العقد عقدًا آخر, فلا يجوز أن تعقد الرياسة لأكثر من واحد. وقبل أن نفصل الخلاف في هذا الشرط نرى أن نوضح أن تعدد العقد إما أن يكون بطريق الصدفة والاتفاق, أو يكون بغير طريق الصدفة والاتفاق, فالأول يحصل بأن تبادر مجموعات متعددة من أهل الحل والعقد بعقد البيعة لرئيس, على غير اتصال وتنسيق بين هذه المجموعات, فتبايع أحدى المجموعات رئيسًا مثلًا, وتبايع أخرى رئيسًا آخر, وهكذا لعدم علم كل منها بما فعلته كل مجموعة من المجموعات الأخرى, فتحدث مبايعات لمتعددين, كل واحد منهم
صالح للرياسة, فهنا يتعدد العقد مصادفة واتفاقًا, بدون أن يتعمد أهل الحل والعقد مبايعة أكثر من واحد. والثاني: يحصل التعدد بأن يتعمد أهل الحل والعقد البيعة لأكثر من واحد. وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح أن تعقد البيعة لأكثر من إمام واحد في القطر الواحد, سواء كان التعدد حاصلًا عن طريق الصدفة والاتفاق, أم كان عن غير ذلك. وأما إذا كان التعدد في أقطار متعددة متباعدة فقد اختلف العلماء في هذا التعدد, هل يجوز, أو لا يجوز؟ فجمهور الفقهاء, والعلماء على منع التعدد, حتى ولو كانت الأقطار متباعدة, ويرى البعض -وهم قلة- جواز تعدد الأئمة في الأقطار المختلفة, ولكل واحد من هؤلاء أدلة أستند إليها. أدلة الجمهور على منع التعدد: استدل الجمهور على أنه لا يجوز تعدد الأئمة حتى ولو تباعدت الأقطار بأدلة منها: أولًا: ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)) فإن هذا الحديث صريح في عدم مشروعية التعدد, وقتل الإمام الآخر يكون بعد مطالبته بعدم التمسك بالبيعة التي حصلت له, والخضوع للإمام الأول, فإن أبى فهو باغ يجب مقاتلته, فليس المراد بالحديث قتل الإمام الآخر بمجرد عقد بيعة أخرى له؛ لأنه يجوز عدم علمه بأن ثمة إمامًا آخر قد عُقدت له البيعة قبله.
تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد.
ثانيًا: استدلوا بالإجماع, وذلك أن الصحابة قد أجمعوا على أنه لا يجوز إلا إمام واحد, حتى إن المهاجرين لم يوافقوا الأنصار عندما نادوا أولًا بأن يكون منهم أمير, ومن المهاجرين أمير, ثم رضي الأنصار بما أبداه المهاجرون فصار إجماعًا. الدليل الثالث أيضًا على منع التعدد: أن تعدد الأئمة يؤدي إلى وقوع المنازعات والمخاصمات, وهذه تؤدي إلى اختلال أمر الدين والدنيا, فتعدد الأئمة مؤد إلى اختلاف أمر الدين والدنيا, وذلك غير جائز. أما أصحاب الرأي الآخر, وهم قلة من العلماء, فيقولون بجواز التعدد, واستدلوا على ذلك بأن الإمام جُعل لتحقيق مصالح الأمة, وإذا كان في كل ناحية إمام, كان كل واحد أقوم بما في يديه؛ لقلة المصالح حينئذ, وأضبط في متابعة من يوليهم من الولاة, والقضاة, وسائر الأعمال, وأيضًا استدلوا بأنه لما جاز أن يكون أكثر من نبي في عصر واحد, ولم يؤد إلى إبطال النبوة, جاز ذلك في الإمام من باب أولى؛ لأنها فرع النبوة. لكن هؤلاء قد ناقشهم جمهور العلماء, وناقشوا هذه الأدلة, واتضح بطلان هذه الأدلة. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - انعقاد الإمامة عن طريق العهد والقهر تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن شرط القرشية، وشرط تقديم الأفضل بالنسبة لاختيار الإمام وبالنسبة للشروط التي يجب توافرها فيه، وبدأنا الحديث عن الطرق التي تنعقد بها الإمامة العظمى، وتبين لنا أن الطريق الأول: هو اختيار أهل الحل والعقد، وتحدثنا فيه عن البيعة، وعن شروط البيعة، ونكمل الآن عن الحديث عن هذا الطريق فنتكلم عن أهل الحل والعقد، ثم نبين شروطهم، فنقول: أهل الحل والعقد كما يسميهم غالب العلماء، أو أهل الاختيار كما يسميهم الإمام الماوردي، أو أهل الاجتهاد كما يسميهم البعض الآخر: هم جماعة معينة من فضلاء الأمة يُوكل إليهم النظر في مصالحها الدينية والدنيوية، ومنها اختيار رئيس الدولة أو الإمام الأعظم، فهم المسئولون عن تصفح أحوال الذين يمكن أن يكونوا صالحين لتولي هذا المنصب الخطير، والاجتهاد في ذلك، فمن رأوه صالحًا لتولي هذا المنصب بايعوه
رئيسًا للدولة على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولزوم طاعته في كلِّ أمرٍ ليس فيه معصية لله ورسوله، وقد بين العلماء الشروط التي يجب توافرها في هذه الجماعة؛ حتى تكون مميزة عن سائر أفراد الأمة، إذ أنها المكلفة -كما قلنا- باختيار الرئيس، فإذا ما قامت بهذا الغرض أو قام به بعض أفرادها سقط وجوب نصب الرئيس عنها، وعن باقي أفراد الأمة، وإذا لم تقم بهذا الواجب أثم أهل الحل والعقد كلهم كما هو الشأن في الفروض الكفائية. وهذه الجماعة لا تقوم باختيار الإمام إلا نيابة عن الأمة جميعًا، فهم بمباشرتهم هذا الاختيار لا يمثلون أنفسهم، بل يمثلون الأمة كلها؛ ولهذا فإنه عند مبايعة أهل الحل والعقد الإمام تجب مبايعته والانقياد له على سائر أفراد الأمة، وقد بين العلماء أن أهل الحل والعقد هم العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم في أي وقتٍ من الأوقات. ونتحدث الآن عن شروط أهل الحل والعقد، فنقول: يوضح الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) الصفحة السادسة وما بعدها يوضح الشروط المطلوبة فيهم -أي: في أهل الحل والعقد- فيقول: فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبر فيهم ثلاثة: أحدها: العدالة الجامعة لشروطها. والثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبر فيها. والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف.
فهذه الشروط التي يوضحها الماوردي تحدد الصورة التي يجب أن يكون عليها الواحد من جماعة أهل الحل والعقد، فأما العدالة فقد بينا المراد بها عند الكلام على شروط الرياسة، وأما الشرط الثاني فالمراد به أن يكون الشخص عالمًا بالشروط الواجبة في رئيس الدولة حتى يستطيع أن يميز بين من توافرت فيه شروط الرياسة العامة، ومن لم تتوافر فيه هذه الشروط، وأما الشرط الثالث فيقصد به توافر المقدرة على عدم الخلط بين من يستطيع القيام بأعباء الرياسة ومن لم يستطيع ذلك، وهو شرطٌ مغايرٌ للشرط الذي سبقه، إذ يمكن أن يوجد شخص توافر عنده العلم بالشروط المعتبرة في الرئيس، ولكن ليس عنده القدرة على التفريق بين من يصلح للرياسة وتدبير مصالح الأمة، وبين من لا يصلح لذلك. هل لأهل الحل والعقد الموجودين بالعاصمة -أي: بلد الرئيس- مزية على من عاداهم؟ يقول الإمام الماوردي مجيبًا على هذا السؤال: وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية يُقدم بها عليه، وإنما صار من يحضر بلد الإمام متوليًا العقد للإمام عُرفًا لا شرعًا لسبوق علمه بموته، ولأن من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في بلدهم، وإذا كان الماوردي قد وضح أن الشرع لم يعط أهل الحل والعقد الموجودين بالعاصمة أي مزية، أو أولوية في القيام باختيار رئيس الدولة، وإنما جرى العرف على أنهم يقومون بذلك، فعلى ذلك إذا بادر جماعةٌ من أهل الحل والعقد من غير العاصمة باختيار الرئيس، فهو اختيارٌ صحيحٌ لا غبار عليه شرعًا، ويجب
على جميع أهل الحل والعقد الموجودين بالعاصمة وغيرها من النواحي الأخرى يجب عليهم الانقياد ومبايعة الرئيس الذي بايعته هذه الجماعة، وإذا كان العرف قد جرى في بعض العصور على أن أهل الحل والعقد الموجودين ببلد الرئيس هم الذي يبادرون بعقد الرياسة، فإن الأعراف غير ثابتةٍ وتتغير بتغير البيئات وتعاقب الأعصر، ووسائل الاتصال السريعة في هذا العصر الحديث، والتطور الهائل فيها لم يجعلا لمن كان ببلد الرئيس مزية السبق بالعلم بموت الرئيس، بل إن تعدد أجهزة الاتصال وسرعة نقلها للحوادث مما يجعل إذاعة خبر من الأخبار بين جموع الشعب، بل بين العالم بأسره عملًا هينًا يسيرًا يعلم به القاصي والداني ساعة إذاعته ونشره، ثم إنه لا يمكن الإدعاء بأن من يصلحون لرياسة الدولة في هذا العصر موجودين غالبًا في بلد الرئيس، إذ هم متفرقون في أنحاء البلاد، وليس وجودهم فقط في بلد رئيس الدولة. عدد أهل الحل والعقد الذي تنعقد به الرياسة: اختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الإمامة من أهل الحل والعقد اختلافًا كبيرًا، وسنذكر ذلك: الرأي الأول: ويقول بأن الإمام لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم؛ ليكون الرضا عامًا والتسليم لإمامته إجماعًا. الرأي الثاني: أن الإمامة لا تنعقد إلا بمبايعة الجمهور من أهل الحل والعقد. الرأي الثالث: ويرى أن أقل عدد تنعقد به الإمامة أربعون؛ لأن عقد الإمامة أعظم خطرًا من الجمعة، والجمعة لا تنعقد بأقل من أربعين؛ فبيعة الإمام أولى.
الرأي الرابع: ويقول أن الإمام تنعقد بخمسةٍ يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، واستدل أصحاب هذا الرأي بأمرين: الأمر الأول: بأن بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- انعقدت بخمسةٍ بايعوه، ثم تابعهم الناس فيها، وهؤلاء الخمسة هم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأُسيد بن حُضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنهم أجمعين. والأمر الثاني: أن عمر -رضي الله عنه- لما أراد أن يعهد قبل موته عهد إلى ستة من الصحابة ليختاروا أحدهم برضا الخمسة. الرأي الخامس ويقول: بأنه يكفي بانعقاد البيعة أن يقوم بها أربعة؛ لأن الأربعة أكثر نُصب الشهادة. الرأي لسادس ويقول: بأن الإمامة تنعقد بمبايعة ثلاثة؛ لأنها جماعة. الرأي السابع ويقول: بأن أقل عدد تنعقد به الإمامة رجلان من أهل الورع والاجتهاد كعقد الزواج لا يصح إلا إذا شهد عليه شاهدان. الرأي الثامن ويقول: بأن الإمامة تنعقد بعلماء الأمة الذين يحضرون موضع الإمام، وليس لذلك عدد مخصوص. الرأي التاسع ويقول: يكفي في انعقاد الإمامة أن يقوم بالبيعة واحدٌ فقط، لكن بشروط: الشرط الأول: أن يكون من تولى العقد من العلماء المجتهدين. الثاني: أن يكون هذا العاقد ممن يتصفون بالورع. الشرط الثالث: أن يكون معدودًا من أهل الرأي والتدبير. الشرط الرابع: أن يكون قد حاز الشهرة عند جماهير الأمة.
الشرط الخامس: أن يكون الذي عُقدت له البيعة أفضل الناس في الصفات، والشروط المطلوب توافرها في الإمام. وبعد فهذه هي الآراء والأدلة التي اعتمد عليها الفقهاء بالنسبة للعدد الذي تنعقد به الإمامة من أهل الحل والعقد. والآن ما هو الرأي الذي نميل إليه من هذه الآراء التي ذكرناها في مسالة العدد الذي تنعقد به رياسة الدولة؟ وقبل أن نبين الرأي الذي نميل إليه نحب أن نسأل كيف يمكن تصور ثبوت عقد الإمامة بمبايعة واحدٍ فقط مع أن مبايعة الواحد للإمام تعبر عن رأي ورغبة هذا الواحد فقط، وهذه الرغبة قد لا تدل على آراء ورغبات باقي أهل الحل والعقد، وأمر رياسة الدولة أكبر من رأي الواحد مهما عظم شأنه واشتهر فضله، فهو أمرٌ يحتاج بلا شك إلى الدرس، والبحث، والمشاورة، وهي أمورٌ تحتاج إلى الاتصال بأهل الحل والعقد لأخذ رأيهم فيمن يريدون توليته؛ ولذلك عد عمر بن الخطاب مبادرته بالبيعة لأبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- قبل أخذ رأي أهل الحل والعقد، عد ذلك فلته، وقى الله المسلمين شرها، وقد رُوي عنه أنه خطب الناس، فقال: بلغني أن فلانًا قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانًا، فلا يغرن امرأً أن يقول: إن بيعة أبي بكرٍ كانت فلتة فتمت، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله وقّى شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلًا عن غير مشورةٍ من المسلمين؛ فإنه لا بيعة له، هو ولا الذي بايعه. فبان من هذا أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد التشاور مع أهل الحل والعقد، وأن عمر خالف بعمله هذا الأصل، فكان فلتة لظرفٍ خاص اقتضى ذلك هو:
خوف وقوع الفتنة بين المهاجرين والأنصار، وليس هذا العمل أصلًا شرعيًا يُعمل به دائمًا، فمن بايع واحدًا من غير مشورة من أهل الحل والعقد فلا يصح أن يكون هو ولا من بايعه أهلًا للمبايعة، وقد رأينا أبا بكر -رضي الله عنه- عندما أراد ترشيح عمر بن الخطاب ليلي أمر الناس من بعده أطال التشاور مع كبار الصحابة، وعندما أخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الترشيح للخلافة ووكل إليه أمر اختيار الخليفة بقي ثلاثًا لا تكتحل عينه بكثير نومٍ، وهو يشاور كبار المهاجرين والأنصار فيمن يصلح للإمامة، ولو كان بيعة الواحد كافية في انعقاد الإمامة لما بذل عبد الرحمن بن عوف هذا الجهد كله، ولا خلا إلى نفسه وقتًا يفكر في من يصلح في نظره لتولي هذا المنصب، ثم بايعه بعد أن يقتنع بصلاحيته للإمامة، وما على باقي أهل الحل والعقد، وسائر أفراد الأمة بعد ذلك إلا الانقياد للخليفة الجديد، والرضا ببيعة عبد الرحمن بن عوف، فعبد الرحمن بن عوف لو كان يرى أن الإمامة تنعقد بواحد من أهل الحل والعقد لفعل ذلك، لكنه يرى أن الإمامة لا تنعقد بواحدٍ من أهل الحل والعقد؛ ولذلك أتعب نفسه في المشاورة -في مشاورة المسلمين- فيمن يصلح أن يكون إمامًا، وأما الاحتجاج بأن عمر لما بايع أبا بكر -رضي الله عنهما- تبعه الصحابة ووافقوه على ذلك فلا يصح؛ لأن سبب اتباع الصحابة عمر في هذه المبايعة وموافقتهم عليها هو رضاؤهم بأن يكون أبو بكرٍ هو الخليفة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فإذن يتبين مما سبق أن القول بأن الإمامة تنعقد بالواحد غير مُسَلمٍ، ومثل ذلك القول بانعقادها بالعدد القليل كالاثنين، والثلاثية، والأربعة، والخمسة؛ لأن أمر الإمامة -كما قلنا- لا يصح فيه انفراد فردًا أو أفراد قليلين بالبت فيما هو يهم
الأمة كلها اللهم إلا إذا قل عدد أفراد جماعة أهل الحل والعقد؛ فحينئذ تكون الضرورة هي الملجئة إلى القول بانعقاد الإمامة بالعدد القليل، إلا أن هذا لا يعني أن نقول -كما قال البعض- أنه لا تصح البيعة إلا بالإجماع من فضلاء الأمة في أقطار البلاد؛ لأنه لو صح أن الإمامة لا تنعقد إلا بالإجماع من أهل الحل والعقد لما صحت إمامة أبا بكر، فإن الثابت أن سعد بن عُبادة لم يبايع أبا بكر إمامًا، وإنما ترك اجتماع السقيفة وهو حانقٌ ثائرٌ غير راضٍ عن مبايعة أي من المهاجرين، وعلي بن أبي طالب ظل ممتنعًا عن مبايعة أبي بكر ستة أشهر كما تقول بعض كتب التاريخ، ولو قلنا بذلك أيضًا لكان هذا -كما يقول ابن حزم- تكليف ما لا يطاق، وما ليس في الوسع، وما هو أعظم من الحرج والله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وإنما نقول في هذا الأمر بوجوب مبايعة الأكثرية من أهل الحل والعقد. والخلاصة في هذا: أن الرأي الراجح من هذه الآراء التي اختلفت بالنسبة للعدد الذي تنعقد به الإمامة من أهل الحل والعقد هو: الرأي الذي يقول بانعقادها بالأكثرية من أهل الحل والعقد؛ لأن أهل الحل والعقد مهما كان فيه من صفات الكمال فهم بشر غير معصومين، فلا نأمن من جانب الهوى والنفس أمارة بالسوء، فمن الجائز أن تميل القلة إلى شخصٍ غير مستحقًا للرياسة فيبايعوه، فحتى نأمن ذلك أو حتى نظن أمان ذلك يجب اشتراط الأكثرية المطلقة عند مبايعة رئيس الدولة، ولا يصح النظر إلى البلاد الذي ينتمي إليها هؤلاء الأكثرية، فالبيعة من الأغلبية المطلقة من أهل الحل والعقد صحيحة حتى ولو لم يكن فيهم واحد من أهل العاصمة؛ لأن القول بأنه لا بد في صحة عقد الإمامة من أن يكون الذين بايعوه هم أهل الحل والعقد الموجودين ببلد الإمام تحَكْمٌ لا برهان عليه.
انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي.
انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي ثم ننتقل الآن إلى الطريق الثاني من الطرق التي تنعقد بها رياسة الدولة، أو الإمامة العظمى، وهي: العهد، فنقول: عهد الإمام إلى واحد آخر ليلي الإمامة من بعده هو أحد الطرق التي اعتبرها العلماء موجبة لانعقاد الإمام، فنقول: تكلم الفقهاء والمتكلمون عن العهد باعتباره طريق من طرق انعقاد الإمامة بأن يعهد الإمام الحالي بالإمامة إلى رجل يختاره ليكون الإمام من بعده. يقول الإمام الماوردي: وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو بمن عقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكراهما: أحدهما: أن أبا بكر -رضي الله عنه- عهد بها إلى عمر -رضي الله عنه- فأثبت المسلمون إمامته بعده. والثاني: أن عمر -رضي الله عنه- عهد بها إلى أهل الشورى؛ فقبلت الجماعة دخلهم فيها وهم أعيان العصر اعتقادًا لصحة العهد بها، وخرج باقي الصحابة منها، ويقرر العلماء أن الإمام بتوليه منصبه إنما يجب عليه أن ينظر في مصالحهم الدينية والدنيوية، وإذا ما وجب عليه النظر حال حياته، فالنظر في مصالحهم بعد مماته تابعٌ لذلك. ونتكلم الآن عن شروط صحة انعقاد الرياسة بالعهد، فنقول: إما أن يعهد الإمام إلى واحدٍ فقط، وإما أن نعهد إلى أكثر من واحد، وسنتكلم عن كلِّ حالةٍ من هاتين الحالتين.
الحالة الأولى: أن يكون العهد إلى واحدٍ فقط، ولا بد حينئذ حتى يكون العهد صحيحًا من توافر شروط ثلاثة: أولها: أن تكون الشروط المطلوبة في الإمام متحققة في المعهود إليه، من وقت أن عهد، إلى حين توليه الخلافة بعد موت الإمام العاهد، وعلى ذلك فلو لم تكن هذه الشروط متحققة فيه عند العهد إليه كأن كان صغيرًا أو فاسقًا حينئذ لم يصح العهد، وكذا لو كان صغيرًا أو فاسقًا عند العهد إليه بالغًا عدلًا عند موت الإمام العاهد لم يصر بذلك العهد إمامًا للمسلمين، بل لا بد من مبايعة أهل الحل والعقد له بالخلافة. الشرط الثاني: أن يقبل المعهود إليه العهد، فإذا لم يقبل المعهود إليه هذا العهد، وجب أن يبايع أهل الحل والعقد غيره. الشرط الثالث: أن يكون الإمام العاهد قد قام بهذا العهد والإمامة لا زالت معقودة له، فإن عهِد بالإمامة في حال طروء عارض يخرجه عن الإمامة لم يصح العقد. الحالة الثانية: أن يكون العهد إلى اثنين فأكثر، وذلك على ضربين: الضرب الأول: أن يجعل الإمام أمر الإمامة شورى بينهم لم يقدم واحدًا منهم على الآخر، فيجب في هذه الحال أن يختار أهل الحل والعقد واحدًا من هؤلاء الذين جُعِلَ أمر الإمامة شورى بينهم، أو يخرج الجميع أنفسهم إلى أمر الإمامة إلا واحدًا يتنازلون له عن حقِّهم فيها، وقد استدل العلماء على هذا بما فعله عمر -رضي الله عنه- بعد طعنه، وبما فعله الصحابة حينئذٍ، فقد رُوي أنه قيل له: أوص يا أمير المؤمنين استخلف، فقال: ما أرى
أحدًا أحق بهذا الأمر من هؤلاء الرهط الذين توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، فعد عليًا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدًا، وعبد الرحمن، فلما توفى -رضي الله عنه- اجتمع هؤلاء الرهط الذين جُعِلَ الأمر فيهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن بن عوف لعلي وعثمان: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفتجعلونه إليّ، والله عليّ ألا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد علي وقال له: لك من قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقِدم في الإسلام ما قد علمت، والله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن وتطيعن، ثم خلا بعثمان، فقال له مثل ذلك، ثم استقر رأي عبد الرحمن بن عوف على عثمان، فقال له: ارفع يدك يا عثمان فبايعه، وبايع له علي، وتتابع الناس فبايعوه. الضرب الثاني: أن يعهد الإمام بالإمامة إلى أكثر من واحدٍ يرتبها فيهم، فيقول مثلًا: إن مت ففلان هو الإمام، فإن مات فالإمام فلان وهكذا، فالإمامة حينئذٍ يجب أن تكون لمن ذكرهم على الترتيب الذي بينه، فقد استدل على هذا أو قد استُدل على هذا بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- استخلف زيد بن حارثة على جيش مؤتة، ثم قال: فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتضي المسلمون رجلًا، فتقدم زيد فقُتل فأخذ الراية جعفر، وتقدم فقُتل وأخذ الراية عبد الله بن رواحة، فتقدم فقُتل فاختار المسلمون بعده خالد بن الوليد.
ونتكلم الآن عن أنواع المعهود إليهم، وحكم كلا منهم، فنقول: المعهود إليهم على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون المعهود إليه ولدًا أو والدًا، وقد اختلف العلماء في جواز أن ينفرد الإمام بعقد البيعة له على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أنه لا يجوز أن ينفرد الإمام بعقد البيعة لواحدٍ منهما -يعني: لا لولده ولا لوالده- بل لا بد من موافقة أهل الحل والعقد على هذه البيعة؛ لأن ذلك منه تزكية له تجري مجرى الشهادة، وتقليده على الأمة يجري مجرى الحكم، وهو لا يجوز أن يشهد لوالده أو لولده، ولا يحكم لواحد منهما؛ لأنه ميالٌ بالطبع إلى كلِّ واحدٍ منهما. المذهب الثاني ويقول: أن للإمام أن يعهد إلى الوالد أو الولد بدون استشارة أهل الحل والعقد؛ لأنه حاكم الأمة، وأمره نافذٌ عليهم ولهم، فحكم المنصب غالبٌ على حكم النسب، ولم يجعل للتهمة عليه في ذلك طريقًا، وصار فيها كعهده إلى غير ولده ووالده. المذهب الثالث: ويرى أن للإمام أن ينفرد بعقد البيعة للوالد، وأما انفراده بعقدها للولد فلا يجوز؛ لأنه بالطبع يميل إلى الولد أكثر من ميله إلى الوالد؛ ولذلك كان كلُّ ما يقتنيه في الأغلب مدخرًا لولده دون والده. القسم الثاني: أن لا يكون المعهود إليه ولدًا أو والدًا كأن يكون أخًا، أو ابن اعم، أو أجنبيًا، وهنا اتفق الفقهاء على أنه يجوز أن ينفرد الإمام بعقد البيعة له من غير أن يستشير فيه أهل الحل والعقد، ولكنهم اختلفوا في أنه هل يشترط ظهور الرضا من أهل الحل والعقد حتى تنعقد البيعة أو لا يشترط ذلك خلافٌ بين الفقهاء.
القسم الثالث: أن يكون المعهود إليه غائبًا، وحينئذٍ فينظر في حاله؛ فإن كان مجهول الحياة لم يصح العهد إليه، وإن كان معلوم الحياة صح العهد إليه وكان موقوف على قدومه، فإذا مات الإمام العاهد وولي العهد لا زال غائبًا وجب أن يستقدمه أهل الحل والعقد، فإن جاء تولى إمامة المسلمين، وإن ظل غائبًا وتضرر المسلمون لطول غيبته اختار أهل الحل والعقد واحدًا آخر نائبًا عنه حتى يحضر، وتكون أحكامه فيهم كأحكام الإمام، فإذا قدم الغائب انعزل نائبه. رأينا في ولاية العهد: يتبين من تتبع كلام الفقهاء عن العهد أن جمهورهم يعتبرون عهد الخليفة إلى واحدٍ كافيًا في انعقاد الإمامة له، ولا يحتاج لتتم له البيعة إلى مبايعة أهل الحل والعقد بعد عهد الإمام، بل في استطاعته أن يعهد إلى من يراه صالحًا للإمامة بعده من غير أن يستشير في ذلك أحدًا، وكل ما عليه هو أن يجتهد ما وسعه الاجتهاد في هذا الاختيار. يقول الإمام النووي: إن الخليفة إذا أراد العهد لزمه أن يجتهد في الأصلح، فإذا ظهر له واحدٌ جاز أن ينفرد بعقد بيعته من غير حضور غيره ولا مشاورة أحد، والناظر في هذا يرى أن العلماء بقولهم بهذا الرأي إنما يعتمدون في ذلك على أمرين: أولهما: أن الإمام الذي يعطي هذا الحق إنما هو إمامٌ مثاليٌّ قد تمت مبايعته بالطريق الشرعي الصحيح، والذي بينا شروطه -فيما سبق- عند كلامنا على شروط الإمامة، فتوافر هذه الشروط فيه من شأنه أن يجعلَنا نثق فيما يقوم به من أمور الحكم ثقةً كاملةً، ونؤمن بأنه لم يزغ فيما قام به من عهدٍ عن الطريق الواجب، فلم يعهد إلى واحدٍ بعينه إلا بعد أن رآه صالحًا لرئاسة الأمة، ولم يتأثر في ذلك العمل بقرابةٍ أو صداقةٍ أو محبةٍ، بل كان فيما قام به إنما يقصد مصلحة الأمة ووجه الله -تبارك وتعالى.
يقول ابن خلدون: وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية؛ إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده، ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفًا من العبث بالمناصب الدينية، فهذا العمل الذي قد يكون خاتم ما يقوم به من نظرٍ في شئون الرعية هو مما سيحاسب عليه أمام ربه، وسيؤثر تأثيرًا عظيمًا في حياة أمةٍ بأكملها؛ ولذلك تخوف عمر لما طلبوا منه أن يستخلف، فقال: أتحملها حيًّا وميتًا، فهذا الإمام الذي يعطي عهده هذا التأثير في انعقاد البيعة لمن يخلفه، إنما هو شخصٌ اجتمعت فيه ضمانات قوية تحصنه في غالب الظن ضد الانحراف عن الجادة، فالثقة في هذا الإمام تامة، وخوفه من الله في غالب الظن متحقق، فإذا ما أعطى هذا الإمام هذا الحق، فإنه سيكون غالبًا معبرًا عن رأي الأمة فيمن تراه صالحًا لئن يلي الأمور من بعده. وأما الأمر الثاني: الذي حدا العلماء على أن يقولوا بانعقاد البيعة بمجرد أن يعهد الإمام إلى آخر، فهو ما تفيده الظواهر السابقتين اللتين يستدل بهما العلماء على اعتبار العهد طريقًا في انعقاد الإمامة، ونعني بهما: عهد أبو بكر لعمر، وعهد عمر للستة الذين اختارهم، فإن هاتين لسابقتين تفيدان في الظاهر أن كلًّا من أبي بكر وعمر -رضي الله عنها- قد عهد من غير أن يجتمع مع عهده رضا الأمة بذلك ممثلة في أهل الحق في أهل الحل والعقد من كبار الصحابة، ونحب أن نبين أن كلًّا من الأمرين لا يصح أن يُجعل مرتكزًا للقول بانعقاد الإمامة بالعهد من الإمام وحده، وذلك لأنه بالنسبة إلى الأمر الأول فإنه مهما بلغت صفات الكمال في الخليفة فإنه بشرٌ غير معصومٍ من الخطأ لا يؤمن أن يميل في ساعة ضعفٍ إلى قريبٍ أو صديقٍ فيعهد إليه بأمر الخلافة، فكل هذا يدل على أن الإمام مهما اشترطنا فيه من شروط فهو بشرٌ، ليس ثمة ما يمنعه من أن يحيد عن
الواجب ويميل مع الهوى؛ فيعهد إلى من لا يستحق؛ لأن العصمة لم تثبت إلا للرسل -صلوات الله وسلامه عليهم. وأما بالنسبة إلى الأمر الثاني وهو: أن سابقتي عهد أبي بكر لعمر، وعهد عمر إلى أهل الشورى تفيدان في الظاهر أن العهد من الخليفة كافٍ وحده بدون أن يجتمع معه رضا الأمة الممثلة في أهل الحل والعقد، فإننا نقول فيما يتعلق بالسابقة الأولى -ونعني بها عهد أبي بكر إلى عمر -رضي الله عنهما- فإنه قد ثبت أن أبا بكر خير الناس بين أمرين: إما أن يختاروا هم من سيتولى الخلافة بعده، وإما أن يتركوا له أمر هذا الاختيار، فطلبوا منهم لثقتهم فيه أن يختار لهم؛ فإن أبا بكر بعد أن أحس بقرب نزوحه عن الدنيا أمر أن تجتمع له الناس؛ فاجتمعوا فقال: أيها الناس قد حضرني من قضاء الله ما ترون، وإنه لا بد لكم من رجلٍ يلي أمركم، ويصلي بكم، ويقاتل عدوكم، فيأمركم، فإن شئتم اجتمعتم فائتمرتم ثم وليتم عليكم من أردتم، وإن شئتم أجتهد لكم رأيي، والله الذي لا إله إلا هو لا آلوكم في نفسي خيرًا؛ فبكى وبكى الناس، وقالوا: يا خليفة رسول الله أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا؟ قال: سأجتهد لكم وأختار لكم خيركم -إن شاء الله- ولقد رضي الناس عن عمل أبي بكر، وأظهروا السمع والطاعة لمن عهد إليه من غير إجبارٍ من أحدٍ؛ فإنه لما استقر رأيه على عمر أشرف على الناس وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإني والله ما آلوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا؟ فقالوا: سمعنا وأطعنا،
بل إن بعض الروايات التي وصفت ما حدث آنذاك تحكي أن الناس قبل أن يعرِفوا من هو المعهود إليه رضوا به لثقتهم التامة فيما يقوم به الصديق، وارتفع صوتٌ واحدٌ من كبار أهل الحل والعقد يطالب الخليفة بألا يعهد إلا إلى عمر. صحيحٌ أنه قد ثبت أن بعض الصحابة لِما يعلمونه من شدة عمر كانوا قد ناقشوا أبا بكر وعاتبوه عندما بلغهم اختيار عمر لهم، لكنهم رضوا بعد ذلك، فهذا معناه: أن أبا بكر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- لم يعهد لعمر بن الخطاب إلا بعد أن استشار الناس، وأخذ رأي أهل الحل والعقد، ووافقوا على ذلك. وأما بالنسبة إلى السابقة الثانية وهي: عهد عمر إلى أهل الشورى الستة، فإنه ثبت أن هؤلاء الستة كانوا حائزين رضا الأمة ولم يوجد غيرهم من يصلح للإمامة. ننتهي من هذا كله إلى أن السابقتين اللتين يستدل بهما العلماء على انعقاد الإمامة، بالعهد من الخليفة تُفيدان في الواقع أن للإمام أن يرشح من سيخلفه في رئاسة الأمة، وهو موثوقٌ في حسن اختياره ما دام قد توافرت له الصفات المطلوبة في الإمام بعيدة عن التهم حتى لو رشح لها ابنه أو أباه، إلا أن هذا -كما قلنا- مجرد ترشيح ليس كافيًا وحده في انعقاد الإمامة للمعهود إليه، وإنما لا بد من رضا أهل الحل والعقد بهذا العهد، ومبايعتهم للمعهود إليه، فالمعهود إليه إذن لا تنعقد إمامته إلا بعد أن يبايعه أهل الحل والعقد، ولهم ألا يبايعوه وأن يختاروا غيره إذا لم يكن صالحًا في نظرهم لتولي هذا المنصب، وهذا هو ما كان يفهمه خلفاء بني أمية، فإنهم كانوا إذا عهدوا إلى قريبٍ لهم لم يكتفوا بالبيعة الصادرة من الخليفة، بل كانت البيعة تؤخذ من الناس للمعهود إليه والخليفة العاهد لا زال على قيد الحياة، ثم تجدد البيعة بعد موته، ولو كانوا
انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة.
يعلمون أن مجرد العهد من الإمام كافٍ في انعقاد البيعة لما احتاجوا إلى أخذ البيعة من الناس، وإننا لنجد عمر بن عبد العزيز وهو من وهو في فقهه وعلمه بأحكام الشريعة بعد أن عهد إليه سيلمان بن عبد الملك بالخلافة، وبعد أن قرئ كتاب العهد على الناس بعد وفاة سليمان بن عبد الملك يصعد المنبر ويقول: "إني والله ما استؤمرت في هذا الأمر وأنتم بالخيار". فهذا منه دليلٌ على أن البيعة لا اعتبار لها إلا إذا كانت من أهل الحل والعقد الممثلين لرغبة الأمة، ولو كان العهد من الخليفة السابق كافيًا وحده في انعقاد الإمامة لما التقى عمر بالناس ليخبرهم بأن لهم كل الاختيار في مبايعته إمامًا عليهم أو عدم مبايعته. انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة ثم نتحدث الآن عن الطريق الثالث من طرق انعقاد الرئاسة، وهو: انعقادها بالقهروالغلبة، فنقول: الأصل في انعقاد الرئاسة -كما قلنا- أن يعقدها أهل الحل والعقد لمن يرونه صالحًا لقيادة المسلمين بتوافر الشروط المطلوبة فيه، ويكون ذلك بعد تصفح أحوال من يؤانس فيهم التهيؤ الكامل للقيام بعبء الرياسة الثقيل، فيكون مجيء الرئيس بمحض إرادة الأمة واختيارها ممثلة في أهل الحل والعقد بعد ما ظهرت صلاحيته لهذا المصب. هذا في الظروف العادية التي لا يُفرض فيها أحدٌ إرادته على الأمة، ولكنه يحدث في كثيرٍ من الأحيان أن يثب من توافرت لهم أسباب القوة والغلبة على هذا المنصب، ويفرضون أنفسهم على الناس قسرًا وقهرًا كما يحدث بما نسميه في
عصرنا بالانقلابات العسكرية والثورات المسلحة، فهل يمكن الرئاسة معقودة لهؤلاء الذين واتتهم الفرصة فتسلموا الحكم بهذا الطريق، أم لا يُعدُّ ذلك طريقًا من الطرق التي تنعقد بها الرئاسة؟ العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: يرى الخوارج والمعتزلة أن الإمامة لا تنعقد إلا لمن جاء عن طريق البيعة الخالية عن أي جبرٍ أو قهرٍ. المذهب الثاني وهو مذهب عامة أهل السُّنة والجماعة: أن الإمام يصح أن تنعقد لمن غلب الناس وقعد بالقوة في موضع الحكم، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: "من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا بارًا كان أو فاجرًا. وجمهور العلماء على انعقادها بهذا الطريق سواء أكانت شروط الإمامة متوافرة في هذا المتغلب أو لم تتوافر فيه حتى ولو كان المتغلب فاسقًا أو جاهلًا انعقدت إمامته، بل لو تغلبت امرأة على الإمامة انعقدت لها، وكذا إذا تغلب عليه عبدٌ، وذلك لأن العلماء ينظرون إلى أنه لو قيل بعدم انعقاد إمامة المتغلب لأدى ذلك إلى وقوع الفتن بالتصادم بين المتغلب ومعاونيه، وبين الإمام الموجود ومن يقف بجانبه، ولانتشر الفساد بين الناس بعدم انعقاد الأحكام التي صدرت عن هذا المتغلب، إذ يلزم عليه عدم صحة زواج من زوجها؛ لأنه لا ولي لها، وأن من يتولى إمامة المسلمين بعده عليه أن يقيم الحدود أولا ويأخذ الجزية ثانيًا، بل إن العلماء نصوا على أنه لو تغلب آخر على هذا المتغلب فقعد مكانه انعزل الأول وصار الثاني إمامًا، فالعلماء إذن يقارنون بين نوعين من الشر فيختارون أهونهما بالنسبة إلى الأمة، ولا يُفتون بتعريضها لأعظم الشرين،
إلا أنه يجب أن يُفهم أن هذه حال ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، فهذه حال إلجاء واضطرار كأكل الميتة ولحم الخنزير، وقبولها لأنها خيرٌ من الفوضى التي تعم الناس، وعلى هذا فإنه يجب ألا توطن الأمة نفسها على دوام هذا الوضع، بل يجب عليها أن تعمل على تغيير الإمامة الناقصة بإمامة كاملة مستوفاة الشروط المطلوبة في الإمام الحق بالوسائل التي لا يكون فيها فتنة بين الناس، ويجب السعي دائمًا لأن يكون الإمام آتيًا عن الطريق الصحيح، وهو طريق أهل الحل والعقد، ومع أن إمامة المتغلب تنعقد نظرًا إلى حال الضرورة -كما قلنا- إلا أن الغالبية العظمى من علماء المسلمين لم يجيزوا أن يكون القهر طريقًا لانعقاد إمامة الكافر للمسلمين إذ حال القهر يمكن أن يُتسامح فيها في بعض شروط الإمامة كالعلم، أو العدالة، أو البلوغ إلا أن شرط الإسلام لا يمكن أبدًا إسقاطه عن الإمام، وعلى هذا فلو تغلب كافرٌ على هذا المنصب فلا يجوز شرعًا السكوت على هذا الوضع، ويجب خلع هذا المتغلب بقوة السلاح؛ لأن الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (النساء: من الآية 141). وبهذا نكون قد تكلمنا عن الطرق التي تنعقد بها الإمامة عند جماهير الأمة الإسلامية. بقي أن نتكلم عن طريق انعقادها عند الشيعة، فقد ذهب الشيعة الإمامية والجارودية من الزيدية إلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نص قبل وفاته على من سيخلفه في رياسة الأمة، وهو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأرضاه، إلا أن هناك خلافًا بين هاتين الطائفتين في حقيقة النص الذي صدر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل هو نصٌّ جليٌّ واضحٌ صريح الدلالة يُعلم منه بالضرورة إمامة علي بن أبي طالب، أم هو نصٌّ
خفي لا يُعلم المراد منه بالضرورة؟ خلافٌ بينهم في هذا الأمر، وهذا معناه: أنه لا طريق لانعقاد الإمامة عند الإمامية إلا بالنصِّ؛ فإذن هم لا يعترفون بهذه الطرق التي تنعقد بها الإمامة عند جمهور الفقهاء فعندهم لا طريق لانعقاد الإمام إلا بالنصِّ على الإمام. هذا ويجدر بنا أن ننبه إلى أن كلام الشيعة الإمامية في قضية النص يدور حول إثبات دعويين كلٌّ منهما متصلة بالأخرى أوثق اتصال، وأولى هاتين الدعويين هي: أنه لا طريق إلى انعقاد الإمامة إلا النص، وثانيهما هي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحلق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن نص على إمامة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- وظاهرٌ أن الدعوى الأولى وهي: أنه لا طريق إلى انعقاد الإمامة لا بالنصِّ قد قصد الشيعة الإمامية بإثباتها خدمة الدعوى الثانية، وهي: النص على إمام علي -رضي الله عنه- أي: أن غرضهم المنشود هو الوصول إلى إثبات إمامة علي بن أبي طالب، وأنه كان أولى بها من أبي بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله عنهم. وننظر الآن إلى شبههم بالنسبة لأن النص إنما هو الطرق الوحيد إلى انعقاد الإمامة، فنقول: استدل الإمام على أنه لا طريق إلى انعقاد الإمامة إلا النص بأدلة كثيرة أجاب العلماء عليها كلها فأبطلوها، فمن ضمن هذه الأدلة التي استدلوا بها قالوا: استدلوا بها على أن النص هو الطريق الوحيد إلى انعقاد الإمامة، فقالوا: لو جاز أن يكون الإمام إمامًا بالاختيار لجاز مثل ذلك في الرسول والنبي، لكن ذلك باطل فثبت عدم جواز أن يكون الإمام بالاختيار، لكن يُرد عليهم بأن هذا قياسٌ غير صحيح، إذ أن القياس لا يصح إلا بوجود علة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه، ولا علة مشتركة بين الرسول والإمام حتى يصح القياس، وإنما كانت الرسالة لا تثبت باختيار الناس؛ لأن الرسول
انعقاد الإمامة بطريق النص.
حجة فيما يؤديه، فلا بد من طريقٍ يُعلم به أنه صادقٌ في رسالته، والاختيار ليس طريقًا يتبين منها صدقه فيما يدعيه، ولكن الحال في الإمام غير ذلك؛ لأنه منفذٌ للأحكام ولأمورٍ معروفة؛ فهو كالقاضي إذا ما توافرت فيه شروط القضاء فقد صح اختياره لتولي منصب القضاء، وهذا معناه: أن هذه الشبهة التي استندوا إليها، وأنهم يقيسون منصب الإمامة على منصب النبوة، إنما هي شبهة واهية؛ ولذلك لا يصح استدلالهم في هذا. نكتفي بهذا القدر من هذه المحاضرة، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - انعقاد الإمامة بالنص ووظائف الإمام انعقاد الإمامة بطريق النص الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرات السابقة عن طرق انعقاد الإمامة العظمى عند جمهور الفقهاء، والتي تتمثل في اختيار أهل الحلّ والعقد، وتتمثل أيضًا في العهد من الإمام السابق، وتتمثل أيضًا في الوصول إلى السلطة عن طريق القهر والغلبة أو ما يسمى بلغة العصر الانقلابات العسكرية. وقلنا بأن بعض الشيعة يقولون بأن الإمامة لا تنعقد بالاختيار وإنما تنعقد بطريق واحد فقط هو النص على الإمام، وبناء على ذلك فهم يقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على إمامة من يأتي بعده، وكذلك كل إمام يجب أن ينصص على من يأتي بعده. وسوف نواصل الآن الحديث في ذلك فنتحدث عن أدلة الشيعة في ذلك، وسوف نقوم بالردّ عليها فنقول وبالله التوفيق: حاول الشيعة الإمامية أن يثبتوا أنه لا يتصور أن يفارق الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحياة قبل أن يوصي بالإمام، ثم رتبوا على ذلك أمرًا آخر فقالوا: إنه ما دام الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أوصى بالإمامة فالذي أوصى له هو علي بن أبي طالب، واستدلوا على ذلك بعدة أمور: الأمر الأول قالوا: إنه قد جرت عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يخرج من المدينة إلا وقد استخلف عليها من يقوم بأمر المسلمين فيها، ولم تتخلف عادته في ذلك ولا مرة واحدة، وإذا كانت هذه هي عادته في الحياة فلا بد وأن يكون قد راعى ذلك بالنظر إلى الوقت الذي يتركهم فيه إلى الرفيق الأعلى؛ لأن رعاية مصالح المسلمين عند غيبته ممكنة وإن كانت شاقة إلا أنها بعد مماته غير ممكنة. والأمر الثاني الذي استدلوا به على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصّ على الإمام: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها)) وكما أنه يجب على الوالد المشفق على أولاده رعاية مصالحهم حال حياته فإنه يجب عليه أيضًا رعايتها بعد مماته لئلا يضيعوا، ومن المعلوم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لو لم ينصص على من يلي أمرهم بعده؛ لضاعوا في دنيهم ودنياهم فوجب القطع بأنه قد نصّ على الإمام بعده. والأمر الثالث الذي استدلوا به قالوا: من المعلوم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بالغ في الشفقة على أمته، وأرشدها إلى كل ما هو أصلح حتى في الصغير من الأمور لدرجة أنه علمهم في كيفية الاستنجاء ثلاثين أدبًا، وإذا كان الأمر كذلك وإذا كانت خلافة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
تتوقف عليها أعظم المصالح في الدنيا والدين أفلا تكون أولى باهتمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بها ولا يترك أمته إلا وقد أرشده إلى من سيلي أمورهم بعده. وأما الأمر الرابع الذي استدلوا به على نصّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإمام قالوا: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد كمُل الدين كما قال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (المائدة: من الآية 3) وإذا كانت الإمامة أعظم أركان الدين فلا بد وأن تكون هي الأخرى قد تمت قبل وفاته، ولا يمكن أن تكون قد تمت إلا إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نصّ على من يكون إمامًا بعده. ثم قالوا: فهذه الأمور الأربعة تدل دلالة واضحة على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نصّ في حياته على شخص معين يلي أمر الأمة بعده. هذه هي الأدلة التي استدل بها الشيعة الإمامية على أن الإمام لا يتعين إلا بالنص عليه، لكن جمهور العلماء قد ردوا عليه بالردود الآتية: أولًا: أن هناك من الأحاديث والآثار الكثيرة ما يصرّح بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم ينصّ على إمامة أحد، فقد روي عن علي -رضي الله تعالى عنه- قال: ((قيل: يا رسول الله من تؤمر؟ فقال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينًا زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه قويًّا أمينًا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليًّا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديًا مهديًّا يأخذ بكم الطريق المستقيم)) وهذا هو ابن عمر يقول: حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه وقالوا: جزاك الله خيرًا، ثم قال له: استخلف فقال: أتحمل أمركم حيًّا وميتًا لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي، فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني: أبا بكر- وأن أترككم فقد ترككم من هو خير مني -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما جُرح علي بن أبي طالب دخل عليه الناس يسألونه فقالوا: يا أمير المؤمنين أرأيت إن فقدانك أنبايع الحسن؟ قال: لا آمركم ولا أنهاكم وأنتم أبصر، فقال له رجل من القوم: ألا تعهد يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكني أتركهم كما تركهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: من الأدلة أو من الردود التي ردّ بها الجمهور على الشيعة: يقول الجمهور: إن عليًا -رضي الله عنه- أظهر موافقته على خلافة أبي بكر، ثم رضي مع الناس بالعهد الذي عهده أبو بكر إلى عمر، بل علّق رضاه على أن يكون المعهود عليه عمر بن الخطاب، فقد روي "أنه لما ثَقُل أبو بكر أشرف على الناس من قوة فقال: أيها الناس إني قد عهدت عهدًا أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام علي فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر". فلو كان هناك من نصّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إمامة علي لما رضي بخلافة أبي بكر وبخلافة عمر، ولأظهر هذا النص ولقام يدافع عنه ويمنع غيره من أن يتولى إمامة المسلمين، وها نحن قد رأينا أبا بكر يقف أمام الأنصار مدافعًا عن اختصاص قريش بالإمامة مستدلًّا بحديث: ((الأئمة من قريش)) فأطاعه الأنصار وانقادوا لخبر الواحد وتركوا ما كانوا يدافعون عنه، فكيف نتصور أن يكون هناك نصّ جليّ متواتر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إمامة علي بن أبي طالب ولا يكون هو مدافعًا عن حقه في الإمامة بين قوم ينقادون لخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو كان خبر واحد؟ وما يدعيه الإمامية من أن رضا عليّ بخلافة أبي بكر وعمر كان من قبيل التقية لا يُصدق، إذ شجاعة علي ابن أبي طالب مشهورة ومواقفه البطولية في المعارك التي خاضها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الجمل وصفين ليست محلّ جدل، فكيف يتصور منه وحاله من الشجاعة ما عرفناه كيف نتصور منه أن يجبن وأن يلزم السكوت عن إبداء حقه إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نصّ على أنه الإمام بعده؟
ثالثًا: ومن الردود التي ردّ بها الجمهور على الإمامية الشيعة: قالوا: أنه لما مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلب العباس من عليّ أن يذهبا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيسألاه فيمن أمر بالخلافة ولم يوافقه عليّ على هذا، والقصة كما رواه البخاري هي: "أن العباس أخذ بيد علي بن أبي طالب في وجعه -أي: في مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي توفى فيه- قائلًا له: اذهب بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنسأله فيمن هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا، فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمُنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". والتعقيب على ذلك: أنه لو كان هناك نصّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إمامة علي لما كان هناك داع إلى هذا الحوار الذي دار بين علي والعباس، فموقفهما يدلّ على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم ينصّ على إمامة علي -رضي الله عنه. رابعًا: ومن الردود التي ردّ بها الجمهور على الإمامية الشيعة: قالوا: أنه قد نُقل متواترًا عن الصحابة أنهم كانوا يعتقدون أنه لا نصّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إمامة أحد، فبدعة النصّ الجلي إذًا لم يعتقدها الصحابة ولم تشتهر في عصر التابعين، فلو كان هناك نصّ جليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إمامة عليّ بن أبي طالب والأمر كذلك فلا يخلو حال الصحابة من أحد أمرين: إما أن يكون هذا النص الجلي قد بلغهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم أخفوه، أو لم يبلغهم هذا الخبر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصلًا، فأما احتمال أن يكون هذا النص قد بلغهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم كتموه فهو احتمال باطل يُنبئ عن عفنٍ فكري وعن زيغ في العقيدة وهوى وغرض في المجادلة؛ وذلك لأن هذا الاحتمال هو في حقيقته اتهام لصاحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدم امتثال أوامر الله ورسوله مع أن فيهم السابقين الأولين من المهاجرين
واجبات الإمام.
والأنصار، وفيهم العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم من المثل العليا في الهداية والانقياد لله ورسوله، وشهرتهم في صفاء القلوب وخلوص العقيدة عن الضغائن والأحقاد مما لا يمكن أن يكون موضعًا لجدال، وعلى هذا فإنه يجب أن نقول: إنه لم يوجد أصلًا نصّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إمامة عليّ بن أبي طالب ولا على إمامة غيره، ولو وجد مثل هذا النص لبلغوه -رضي الله عنهم. بهذا نكون قد انتهينا من الطريق الذي قال به الإمامية من الشيعة في تقليد الإمامة أو في انعقاد الإمامة وهو النص، وقد رأينا ردود الجمهور عليهم، ونكتفي بهذا القدر من طرق انعقاد الإمامة. واجبات الإمام واجبات الإمام وحقوقه: الإمامة العظمى أو الخلافة من أخطر المناصب في الدولة الإسلامية وفي كل دولة، وهي من وجهة نظر الإسلام كما ذكرنا غير مرة تعتبر من الأمانات التي يجب إيصال مقتضياتها هي أهلها، فهي في المقام الأول تكليف وليست تشريفًا، فمن هنا كان على الخليفة للأمة واجبات يتعين عليه آدائها على أكمل وجه، وله عليها في مقابل ذلك حقوق وهذا ما سوف نتعرض لبيانه بالتفصيل فيما يأتي: أولًا: واجبات الخليفة أو وظائف الخليفة: لقد تكلم في هذه المسألة غير واحد من فقهاء المسلمين وعلمائهم، ولعل من أبرز الكتابات في هذه المسألة ما ذكره الماوردي في هذا الشأن يقول الماوردي في هذا الصدد: والذي يلزمه -أي: يلزم الإمام- والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء: أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نَجَمَ مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبيّن له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل والإمامة ممنوعة من زلل.
وكلام الماوردي هذا في غاية الروعة وفي منتهى التحقيق والدقة، إذ ينطبق على واجب الإمام في المحافظة على ما أجمع عليه السلف الصالح من الدين وإطلاق الحرية للأمة فيما وراء ذلك لتجتهد ما وسعها الاجتهاد، وعلى الإمام إذا لم يكن من أهل الاجتهاد أن يستشير أهل العلم ليبين أمره على خير وجه، فقد كان هذا دائمًا صنيع سلف هذه الأمة، حوار دائم ومشاورة بين الحكام والعلماء، وفي بعض الأحيان كان العلماء يطيعون الحكام فيما يخالف اجتهادهم من أمور إذا لم يصادم ذلك نصًّا قطعيًّا من الكتاب والسنة، أو يتعارض مع ما أجمع عليه السلف، ولذلك لم يوافق العلماء الحكام على القول بخلق القرآن، ومحنة الإمام أحمد بن حنبل في هذا الصدد معروفة مشهورة. وتقرير مسئولية الدولة في النظام الإسلامي على هذا النحو وإن كانت تتجافى مع ما تقرر في النظام البرلماني الذي يعتبر أن رئيس الدولة لا يحكم ومن ثم فهو غير مسئول، سواء في مواجهة الشعب أو في مواجهة ممثليه، وإنما تقع المسئولية على الوزارة باعتبارها سلطة التنفيذ أمام السلطة التشريعية التي تراقب تطبيق المبادئ الدستورية -إلا أن النظام الإسلامي يشبه ما هو معروف في النظام الرئاسي، الذي يعتبر رئيس الدولة هو المسئول الأول أمام الشعب أو أمام ممثليه في البرلمان، وهو الذي يقوم بتولية وزرائه وإعفائهم وهم مسئولون أمامه مسئولية تامّة. الوظيفة الثانية لرئيس الدولة أو للإمام الأعظم: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين؛ حتى تعمّ النصرة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم، وقد رأينا سلفًا أن الأئمة في صدر الإسلام كانوا يتولون القضاء بأنفسهم، وأول من جعله إلى قضاة مخصوصين الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
وعلى كل حال فقضاة الخليفة يمثلونه في القضاء بين الناس بتحقيق العدل ورفع الظلم، فهو وإن كان يرأسهم إلا أن ذلك لا يعتبر تدخلًا معيبًا من قبل السلطة التنفيذية في أعمال القضاء؛ لأن القاضي في النظام الإسلامي يخضع لحكم الشريعة، والخليفة يخضع لحكمها أيضًا، وهو بطبيعة الحال لن يعقّب على عمل القضاة إلا عند مخالفتهم لحكمها، ويعتبر ذلك من النظام الإسلامي تقريرًا للقاعدة التي تقول بأن العدل أساس الملك واستدامة الدول. الثالث من الوظائف التي يقوم بها الإمام: حماية البيضة والذبّ عن الحريم ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمانين من تغرير بنفس أو مال، وبيضة كل شيء هي حوذته، فهو يحمي حوذة الأمة أو ما يعرف اليوم بالأمن العام عن طريق فرض سيطرة الدولة على الخارجين عليها بحيث لا يكون في البلاد ما يهدد أمن الناس واستقرارهم. الوظيفة الرابعة للإمام: إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك، وهذا بطبيعة الحال من أخصّ واجبات الدولة في الدساتير الحديثة فهي التي تنفذ القانون على المخالفين الخارجين على حكمه، ورئيس الدولة في النظام الإسلامي على قمة المسئولية في حراسة الدين وسياسة الدنيا به كما تقدم. الوظيفة الخامسة: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى لا تظفر الأعداء بثغر ينتهكون فيه محرمًا أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا، فمن أهم واجبات الدول الحديثة حماية البلاد من خطر الاعتداء الخارجي عليها، وذلك يكون بإعداد الجيوش القوية المدربة القادرة على رد عدوان المعتدين،
ومن الواضح من تقرير هذه الواجبات المختلفة على الخليفة أن الإسلام ينظر إليه كما ذكرنا على أنه المسئول الأول عن كل أعمال الدولة مسئولية مباشرة، ولذلك تتطلّب العلماء في الخليفة شروط خاصة تتصل بكفايته وقدرته على تحمل أعباء الحكم كما بينا ذلك بالتفصيل في شروط الإمام الأعظم. الوظيفة السادسة: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله، ومعلوم أن الجهاد يكون عينيًّا وكفائيًّا فهو يجب وجوبًا عينيًّا على كل مكلف إذا استولى العدوّ على بعض بلاد المسلمين وتوقف دفعه على ذلك، أو إذا استنفر الإمام الناس إليه، وفيما عدا ذلك يكون واجبًا كفائيًّا إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين، والجهاد قد يكون بالمال وبالدعوة إلى الإسلام بالبرهان، وبناء على ذلك فيجب طاعة الإمام فيما يأمر به من نظام التجنيد والتعليم العسكري استعدادًا لمجابهة الأعداء كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (الأنفال: 60) والخطاب هنا لأمة المسلمين ومنهم الإمام باعتباره المسئول الأول عن جهاد المعاندين بعد دعوتهم. الوظيفة السابعة: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبها الشرع نصًّا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف، وهذا في الواقع يؤدي إلى إيصال الحقوق إلى أصحابها؛ لكون الشارع قد جعل هذه الأموال حقوقًا لبعض الناس كالفقراء والمساكين فيما يتصل بالصدقات فقد لا يستطيعون المطالبة بحقوقهم؛ ولذلك حارب الخليفة الأول من فرّق بين الصلاة والزكاة فيما يعرف بحروب الردّة في التاريخ الإسلامي،
وكذلك يجب على الخليفة جباية أموال الفيء من الخراج والجزية ونحو ذلك، وكان أول من فرض الخراج عمر بن الخطاب في أيام خلافته بعد أن فتحت أراضي الشام والعراق. الوظيفة الثامنة: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم ولا تأخير، وهذا يقرب مما يعرف في الدول الحديثة من إعداد للميزانية العامة للدولة والموازنة بين إرادتها ونفقاتها مما يحقق توازنًا للميزانية من غير سرف ولا تقتير؛ لأن السرف قد يؤدي إلى التضخم والافتقار، والتقتير قد يؤدي إلى ظلم الرعية، وذلك كله مما تحرمه الشريعة التي هو منوط بحراستها. الوظيفة التاسعة: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة، فعلى الحاكم في هذا الصدد -أي: حين يختار عماله- أن يدقق ويختار الأكفأ والأفضل والناصح والأمين، دون مراعاة لعوامل المحاباة والمحسوبية والرشوة أحيانًا، ومعلوم أن الكمال لله وحده، ولذلك فيجب بذل الوسع بقدر المستطاع عند إسناد الولايات العامة إلى بعض الناس بحيث يكون هؤلاء ممن يعرفون بالكفاءة والأمانة؛ لتكون الأعمال متقنة بالكفاءة والأموال مصونة بالأمانة. الوظيفة العاشرة: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلًا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغشّ الناصح، وقد قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: من الآية: 26) فلم
يقتصر الله سبحانه وتعالى على التفويض دون المباشرة، ولا عذره في الاتباع حتىوصفه بالضلال، وهذا وإن كان مستحقًّا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة فهو من حقوق السياسية لكل مسترع، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) ولكن ليس معنى هذا أن الخليفة لا يلجأ إلى التفويض مطلقًا، فله بطبيعة الحال أن يستعين بالولاة والأعوان والوزراء، ويخصص لكل واحد مسئولتيه، ولكن عليه أن يراقب كل هؤلاء ويتفقد أحوالهم باعتبار مسئولتيه الأولى كما ذكرنا، ولأنه قد يخون الأمين ويغشّ الناصح، كما قال الماوردي. وقد أشار أحد الباحثين إلى أن حقّ الخليفة في تفقد الرعايا ينقسم إلى قسمين: لأنه إما أن يكون بالنسبة للخاصة، أو للعوام. فالنسبة للخاصة وهم أولو المراتب والحكام ومن يتقلد الأمر عن السلطان فيجب على الملك أن يتفقد أحوال كل منهم وما يتعلق به وما يصدر عنه وما يجب عليه وما يحدث منه، فإن وجده على السداد شكره وأنعم عليه، وإن وجده بخلاف ذلك عزله. وأما ما يتعلق بأحوال العامة أو الرعايا في القرى والبوادي وأماكن الزروع والآثار فلا بد من التفقد لأحوالهم والتطلع على أخبارهم وما يصدر منهم والنظر في أمورهم وإصلاح شئونهم. ولعل من أهل الواجبات التي يجب اعتبارها في هذا الصدد وعدم إهمالها أو التنازل عنها على الإطلاق -واجب الإمام في المشاورة في كل ما لم يرد نصّ عن الله ورسوله ولم يحدث إجماع بشأنه، ولا سيما في أمور الحكم والسياسية التي تنبني على المصالح عادة؛ لأن الخليفة في النظام الإسلامي ليس حاكمًا مطلقًا وإنما هو مقيد بنصوص الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين العامة،
والأمر بالمشاورة قد ورد بالنسبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- فلمن هو دونه أولى؛ لأن مصالح الأمة كثيرة ولا يمكن تحديدها، وتختلف باختلاف الزمان والمكان فلا يمكن تقييدها، ولذلك لا بد من المشاورة. وبالجملة يمكن القول بأن واجبات الإمام أو الحاكم في الدولة الإسلامية ترجع إلى إقامة الدين وحراسته، وسياسة الدنيا بالدين، وإدارة شئون الدولة بمهارة وبراعة، ونشر العلم والمعرفة بكل السبل، واحترام العلماء وتقديرهم، فما أضيع تلك الدول التي يمتهن فيها العلماء ويقدم فيها الأدعياء، ويجب على الإمام أن يعمل على توفير الحياة الكريمة لرعيته متحليًّا في ذلك بما كان عليه سلف الأمة في عهد الخلافة الراشدة، ففي تاريخهم أمثلة يجب الاقتداء بها. وإذا حاولنا المقارنة بين ما تقرر في الفقه السياسي الإسلامي بالنسبة لواجبات الخليفة وبين ما تقرره الدساتير الحديثة من وظائف الدولة -فإننا نجد أن الفقه الدستوري الحديث يجعل من وظائف الدولة وظيفة تشريعية وأخرى تنفيذية وثالثة قضائية، وهذه السلطات بعينها يمكن أن نستنبطها مما ذكره الفقهاء المسلمون بشأن واجبات الإمام أو الخليفة، ولكن مع ملاحظة طبيعة النظام الإسلامي الذي لا يكون فيه التشريع إلا لله سبحانه وتعالى، وتكون الشريعة فيه هي المحددة للحقوق والواجبات سواء بالنسبة للحاكم أو بالنسبة للرعية، ولكن يبقى مع ذلك امتياز النظام الإسلامي الذي يجعل من وظائف الإمام واجبات عليه، يسأل أمام الأمة عن تنفيذها قبل أن تكون سلطات له يتمتع باستخدامها وممارستها، ومعلوم أن الحاكم وكيل عن الأمة فتتقرر لذلك مسئوليته عن أخطائه أمامها، والحكم لا يكسبه أية مزية ترتفع به عن مستوى المُساءلة، فالرؤساء والمرؤوسون
في خضوعهم للحساب والعقاب سواء؛ لأن أساس التفاضل بين الناس في ميزان الشريعة هو التقوى والعمل الصالح، ولقد وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه أول سابقة دستورية في هذا الصدد، فقد أورد ابن سعد في طبقاته: ((دخل الفضل بن عباس على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه فقال: يا فضل شدّ هذه العصابة على رأسي فشدها، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أرنا يدك، قال: فأخذ بيدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فانتهض حتى دخل المسجد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم وإنما أنا بشر، فأيما رجل كنت قد أصبت من عرضه شيئًا فهذا عرضي فليقتصّ، وأيما رجل كنت أصبت من بشره شيئًا فهذا بشري فليقتصّ، وأيما رجل كنت أصبت من ماله فهذا مالي فليأخذ منه، واعلموا أن أولاكم بي رجل كان له من ذلك شيء فأخذه أو حللني فلقيت ربي وأن محلل لي)) فإذا كان هذا هو شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلا يكون من هو دون ذلك بكثير جدًّا من الخلفاء والحكام والأئمة من باب أولى؟! هذا بالإضافة إلى المسئولية الأخروية أمام الله تعالى إذ ما خان الحاكم أمانته وضيع رعيته، فقد حذّر الشرع من ذلك كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال: 27) وقال تعالى في سورة القصص بعد أن ذكر قصة فرعون وعتوّه وفساده في الأرض: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} (القصص: 41، 42)
حقوق الإمام.
قال الشوكاني في تفسيرها: أي صيرناهم رؤساء متبوعين مُطاعين في الكافرين، فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه يدعون أتباعهم إلى النار لأنهم اقتدوا وسلكوا طريقتهم تقليدًا لهم، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٍ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من ولّاه الله من أمر الناس شيئًا فاحتجب عن حاجتهم احتجب الله عن حاجته يوم القيامة)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أبا ذر -حين سأله الولاية أو أن يستعمله قال له- إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذ بحقها وأدى الذي عليه فيها)). تلك كانت هي واجبات الإمام أو وظائف الإمام. حقوق الإمام نتحدث الِآن عن حقوق الإمام فهو عليه واجبات ووظائف يؤديها وفي المقابل له حقوق قِبل الرعية أو قبل المحكومين، ومن أهم هذه الحقوق: أولاً: واجب الطاعة: يترتب على التزام السلطة العامة بقواعد المشروعية الإسلامية أن تكون واجبة الطاعة فيما تأمر به أو تنهى عنه، وهذا الالتزام ليس قاصرًا على هؤلاء الذين وافقوا على اختيار القائمين على هذه السلطة بمقتضى البيعة العامة، وإنما يتعدى إلى الأقلية التي لم توافق على ذلك، وذلك يرجع إلى أن ما ارتأته الأغلبية تلتزم به الأقلية بالنصوص التي تحكّم عدم الخروج على حكم الجماعة،
فوق أن السلطة العامة في الدولة الإسلامية لا يتثنى لها كفالة حقوق الأمة ما لم يلتزم أفراد الأمة بقراراتها وتصرفاتها التي تجريها في نطاق أحكام الشريعة الإسلامية، وإذا كانت السلطة العامة لا تستطيع كفالة حقوق الله -عز وجل- وحقوق الأمة إلا إذا كانت واجبة الطاعة -إلا أن هذه الطاعة ليست مطلقة وإنما حدّد الشارع نطاقها بقيود وقواعد تحول دون خروجها عن النطاق المرسوم لها، وسوف نتعرض أولًا لمصادر مشروعية واجب الطاعة الذي تلتزم به الأمة، ثم نبين بعد ذلك نطاق هذا الواجب. مصادر مشروعية واجب الطاعة: الطاعة المفروضة للسلطة العامة تضافرت الأدلة في مصادر المشروعية على ثبوتها بنصوص قاطعة سواء في القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة أو الإجماع، ففي القرآن الكريم يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: من الآية: 59) فهذه الآية حسبما انتهى إليها المفسرون والفقهاء توجب الطاعة لأولي الأمر من الأئمة والولاة؛ وذلك لصحة الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطاعتهم فيما لله وللمسلمين مصلحة. والأدلة في السنة كثيرة وتوجب جميعها طاعة أولي الأمر من المسلمين، ومن هذه الأدلة قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره، ما لم يأمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا فمات مات
ميتة الجاهلية)) ويقول أيضًا: ((من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة الجاهلية)). وإلى جانب النصوص القاطعة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة انعقد الإجماع على وجوب طاعة أولي الأمر فيما يأمرون به أو ينهون عنه طالما كانت هذه الأوامر والنواهي في حدود ما أمر به الشارع. ثم نتحدث عن حدود الطاعة فنقول: وإذا كانت السلطة التي تمارسها السلطة العامة في حدود أحكام الشريعة -فإن وجوب طاعته في هذه الحالة حتميّ على عامة المسلمين وخاصتهم من العلماء والفقهاء؛ لأن ممارسة السلطة العامة في هذه الحالة نافعة للناس في أمور دينهم ودنياهم، وحتى في الحالات التي لا يتبين للمحكومين فيها وجه النفع من وراء ممارسة السلطة فإن الأمر الصادر منها يكون واجب الطاعة طالما أنها لم تخالف نصًّا أو قاعدة كلية من نصوص وقواعد الشريعة، ذلك أن فرضية الطاعة ثابتة بأدلة مقطوع بصحتها وما تردد للمحكومين من نفعها أو عدم نفعها لا ينهض دليلًا لمعارضة هذه النصوص، ففي نطاق الأحكام الاجتهادية التي اختلفت حولها الآراء فإن حكم الحاكم فيها واجب الطاعة، ليس من العامة فقط ولكن من الفقهاء أِيضًا، سواء هؤلاء الذين يرون من رآه الحاكم أو هؤلاء الذين لم يوافقوا على ما رآه الحاكم ابتداء، ويتحكم على المخالف في هذه الحالة ألا يفتى خلافًا لما انتهى إليه الحاكم، ذلك أن حكمه في هذه المسائل التي لم تتفق حولها آراء العلماء لا يردّ ولا ينقض فلا تسوغ الفُتيا المخالفة، ذلك أن الفتيا المخالفة في هذه الحالة تؤدي إلى اضطراب الأحكام وتناقضها وتزعزع الثقة في حكم الحاكم، وهو خلاف المصلحة التي نصّب الحكم من أجلها.
وإذا كانت الطاعة واجبة وكفلها الشارع بنصوص قاطعة على جميع الأمة فإن المقصد الأساسي من وراء هذا الوجوب هو أن تتمكن السلطة العامة من تحقيق مقاصد الشرع من حقوقه، يتحتم عليها كفالتها ومراسم يتحتم المحافظة عليها، فممارسة السلطة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما حتمه الشارع من قواعد وأحكام وما ابتغاه من وراء إيجاب الطاعة على كل الأمة بحيث إذا خرجت السلطة العامة عن نطاقها الذي رسمه الشارع لا تكون الطاعة عندئذ لازمة، وبمعنى أدق فهي غير جائزة، وهو ما انتهى إليه المفسرون من تفسيرهم لقول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} حيث قرروا أن الطاعة المفروضة للحكام ليست طاعة أصلية واجبة ابتداءً، وإنما هي طاعة تبعية ترتبط أساسًا بطاعة الحكام لله وللرسول، وهو ما يستفاد من تكرار الأمر في وجوب طاعة الله وطاعة الرسول، ولم يتكرر عندما أمر بطاعة أولي الأمر، وهو ما يوضح أن هذه الطاعة مستمدة أساسًا من طاعة الحاكم لله وللرسول، بالتزام أوامرهما والكف عن نواهيهما والعمل على تحقيق وكفالة غايات الشارع وأهدافه، وكقاعدة حاسمة لا يجوز التردد في قبولها فإن ذلك يعني أن الطاعة ليست واجبة إلا في حالة التزام السلطات العامة بقواعد المشروعية في الفقه الإسلامي، ولا تكون واجبة فيما وراء ذلك وإنما يكون الواجب على المسلمين في هذه الحالة هو الردّ والإنكار، ويتحقق ذلك في حالة ما إذا كان الأمر الصادر من السلطات العامة وقع مخالفًا بدليل قطعي من نصّ أو إجماع أو قياس جليّ، أو كان مخالفًا بدليل ظنيوالحاكم غير مجتهد ولم يجر المشاورة فيما أصدره من قرارات مخالفة بذلك واجب الشورى، وما ارتأته غالبية علماء الأمة وفقهائها في هذه المسألة،
كما تتحقق المخالفة إذا كانت القرارات الصادرة من السلطة العامة مخالفة لنصوص مشروعية التي لا تخفى على أحد من العوام أو الخواص، وفي هذه الحالة لا تجب الطاعة من الجميع لما يترتب عليها من مضار، كما تتحقق المخالفة في كل الحالات التي يكون الأمر الصادر من السلطة العامة مستهدفة مصلحة غير المصلحة العامة للمسلمين كما هو الأمر في حالة الانحراف في استعمال السلطة، أو التجاوز بها عن الحدود التي رسمها الشارع، فإن الطاعة لا تكون لازمة حينئذ، فالطاعة لا تكون لازمة إذا كان الحاكم المسلم جائرًا ظالمًا في أحكامه يعسف بحقوق الرعية، وهو ما قرره البعض بتقريره أن الطاعة لا تكون إلا للحاكم العادل؛ لأن الحاكم الظالم الله ورسوله بريئان منه، ويروى عن الإمام علي -رضي الله عنه- قوله: "حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا". وإذا كانت الطاعة مقيدة بقيود وحدود حددها القانون الإسلامي إلا أنه في بعض الحالات قد تكون هذه الطاعة مطلقة ولا يسع المسلمون إلا قبولها، حتى مع خروجها عن القاعدة العامة التي وضعها الشارع للظروف العادية كما لو حتمت الضرورة ذلك، كما قد تكون الطاعة واجبة في حالة انصراف حالة الضرورة إلى المحكومين وحدهم وذلك في كل الحالات التي يترتب على عدم الطاعة الهلاك أو يُخشى تفتيت وحدة الأمة، فالضرورة في هذه الحالة أو تلك هي التي تستوجب طاعة أوامر وقرارات السلطة العامة،
تابع حقوق الإمام.
ومعيار الطاعة في الحالة الثانية هو اختيار أخفّ الضررين وأيسرهما، فإذا كان الضرر الناجم عن عدم الطاعة يفوق الضرر المترتب على الامتثال لأوامر السلطة العامة فلا مفر من قبول هذه الأوامر، ويكون من الواجب الطاعة دفعًا للضرر الأشد، وعلى العكس من ذلك إذا كان الضرر الناجم من الطاعة يفوق الضرر المترتب على مخالفة هذه القرارات فلا مفرّ من عدم الطاعة؛ اتقاء للضرر الناتج عن طاعة الأوامر المخالفة للقانون كما لو كانت تؤدي إلى ضياع الأمة وهلاكها، وعلى ذلك فإن حدّ القانون الإسلامي الذي وضع للظروف العادية لا يكون لازمًا في كل الحالات التي يكون فيها عدم الطاعة مرتبًا لأضرار جسيمة على الأمة، أما في حالة السعة والاختيار فلا مناص من تطبيق القاعدة العامة وهي ضرورة أن تكون الطاعة في حدود القواعد العادية بمصادر المشروعية في الفقه الإسلامي. وننتهي بهذا القدر من هذه المحاضرة، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 4 - تابع حقوق الإمام، وانتهاء ولايته تابع حقوق الإمام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد بدأنا الحديث في المحاضرة السابقة عن حقوق الحاكم اتجاه الأمة، وقلنا بأن الحق الأول يتمثل في طاعته في غير معصية، ونواصل الآن الحديث عن الحق الثاني وهو واجب النصرة له فنقول: إلى جانب حق الطاعة تلتزم الأمة الإسلامية بنصرة السلطة العامة والوقوف ورائها ضد أي تمرد يقصد منه تفتيت وحدة الأمة الإسلامية، فإذا كان واجب الطاعة يستهدف أساسًا أن تحقق الاختصاصات والسلطات الممنوحة للسلطة العامة في الدولة الإسلامية أهدافها وغاياتها -فإن واجب النصرة يستهدف حفظ وحدة الجماعة والقضاء على أي محاولة تستهدف النيل من نظام الحكم القائم، سواء كانت هذه المحاولة خارجية وذلك في الحالات التي يستهدف فيها العدو المساس بكيان الدول الإسلامية، أم كانت داخلية بأن قام متمرد أو باغ بمحاولة الاستيلاء على مقاليد الأمور في
الدولة أو الاستقلال بمنطقة من المناطق، ففي كل هذه الحالات يقرر الفقهاء أن الأمة الإسلامية تلتزم بنصرة السلطة العامة وتقديم العون لها. ويخلط بعض الفقهاء بين واجب النصرة وواجب الطاعة ويرون أن واجب الطاعة يندرج في واجب النصرة، وهذا الرأي لا نسلم به وذلك لاختلافهما من ناحيتين: الناحية الأولى: أن واجب الطاعة قد لا يترتب عليه في معظم الحالات التي تستوجب الطاعة إلا مجرد التزام سلبي يقع على عاتق المحكومين، ويتمثل في وجوب التزام الجماعة الإسلامية بما تصدر السلطة العامة من قرارات وعدم مخالفتها، في حين أن الواجب الثاني -وهو النصرة- هو في كل الحالات يفرض على الجماعة الإسلامية التزامًا إيجابيًّا محددًا، يقتضي منها أن تبذل ما في وسعها لمناصرة السلطة العامة والدفاع عن النظام القائم ضدّ أي اعتداء أو مساس من الداخل أو الخارج على السلطة الشرعية في الدولة الإسلامية. الناحية الثانية: أن واجب النصرة يستهدف إلى جانب الدفاع عن نظام الحكم الموجود، فإنه يستهدف أيضًا صون الجماعة الإسلامية من التفتت والانهيار، وذلك بالدفاع عنها ضدّ أي محاولة تستهدف تفتيت وحدة الأمة الإسلامية، وهو ما يستبين من أمره -صلى الله عليه وسلم- حينما سأله أحد الصحابة: ماذا يفعل في حالة الفتنة؟ فقال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)). نطاق واجب النصرة: واجب النصرة مثل واجب الطاعة ليس واجبًا مطلقًا تلتزم به الأمة الإسلامية في كل الحالات، وإنما يختلف بحسب ما إذا كان الخطأ الذي يحدق بالسلطة العامة في
الدولة الإسلامية خطرًا خارجيًّا أو داخليًّا، كما يختلف باختلاف ما إذا كانت هذه السلطة تحوز على موافقة الأمة وارتضائها الاختياري وملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية أم كانت مغتصبة للسلطة غير ملتزمة بما حتّمه الشارع من قواعد وأحكام. فإذا كان الخطر خارجيًّا فإن واجب النصرة يكون واجبًا مطلقًا، لا يجوز لأي مسلم أن يتعاقد عنه أو يتهاون في أدائه، سواء كانت السلطة العامة في الدولة الإسلامية عادلة أو جائرة؛ لأن الخطر هنا يتعلق بكيان المجتمع الإسلامي ذاته، ويقصد منه النيل من استقلاله ووقوعه في يد الأعداء؛ لذلك فإنه مع تحقق الظلم والجور في السلطة العامة فلا يجوز أن يتخلى أحد عن تقديم النصرة لها، ذلك أن المقصود بالنصرة في هذه الحالة ليس هو السلطة العامة بذاتها، وإنما المقصود حفظ الدولة الإسلامية من الوقوع في يد الأعداء؛ ولأن دفع الأعداء فرض من الفروض الدينية بمقتضى واجب الجهاد ويجد ذلك أساس مشروعيته في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برًّا كان أو فاجرًا وإن عمل الكبائر)). أما إذا كان الاعتداء داخليًّا، وهو الذي يتحقق بتمرد جماعة وخروجهم على السلطة -فيختلف الأمر بحسب ما إذا كانت السلطة مغتصبة لها أم تولت عن طريق الأمة ملتزمة بأحكام الشريعة، ففي حالة اغتصاب السلطة عن طريق القهر والقوة فلا يجب أن يقدّم المسلمون لها واجب النصرة بل على العكس من ذلك، إذا ما وجد ثائر واستهدف الإطاحة بها للعودة بها إلى حكم القانون الإسلامي فإن الواجب أن يساعده المسلمون؛ وذلك لأن الهدف في هذه الحالة هو تحقق السلطة العامّة المطابقة لقواعد القانون العام الإسلامي،
أما إذا كان هذا الثائر لا يستهدف العودة إلى حكم القانون وإنما يبغي أيضًا الاستيلاء على السلطة -فلا تكون النصرة واجبة؛ لأن كل منهما ينازع الآخر فيما لا يحلّ له، ولا يجب مساعدة أي منهما أو نصرته، أما إذا كانت السلطة العامة تولت بالطرق المطابقة لأحكام الشرع والتزمت بأحكام الشريعة الإسلامية -فيجب على المسلمين نصرتها ضدّ أي تمرد يقع على هذه السلطة، كما يجب ضرب أي محاولة تستهدف الاعتداء على نظام الحكم الموجود، وإذا كان سبب الخروج عليها وقوع بعض الظلم عن طريقها فيجب حتى تنال نصرة المسلمين أن تقلع عن الظلم الواقع منها فورًا؛ لأن الخروج بسبب الظلم لا يعدّ بغيًا وتمردًا على السلطة. الثالث من حقوق الإمام: ومن حقوق الإمام أيضًا أن يكون له أموال في مال المسلمين بما يكفيه ويكفي أهله، يعني: عمل راتب له يكفيه ويكفي أهله من غير سرف ولا تقتير؛ لأنه قد اشتغل بمصالح المسلمين العامة ليله ونهاره، ولم يعد لديه من الوقت ما يتكسب فيه لأهله ونفسه، وقد روى ابن سعد في (الطبقات) أنه لما استخلف أبو بكر -رضي الله عنه- أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر به فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهما- فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق، قال: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟! قال: من أين أطعم عيالي؟ قال له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة -أي: نصف شاة- ولما وجد أبو بكر أن ما خصص له لا يكفيه طلب من المسلمين أن يزيدوه فزادوه بخمسمائة درهم.
ولما تولى عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا لا يأخذ شيئا من مال المسلمين حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة -يعني: شدة- فاستشار الصحابة فيما يصلح له من هذا المال بعد أن اشتغل بمصالح المسلمين عن مصالح نفسه، فقال عثمان: كُل وأطعم، وقال علي: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وكان يستنفق كل يوم درهمين له ولعياله، وأنه أنفق في حجته مائة وثمانين درهمًا فقال: قد أسرفنا في هذا المال. وفي هذا نرى أنه من حق الخليفة أن يأخذ راتبًا من بيت المال ولو كان موسرا؛ وذلك لكونه قد احتبس نفسه لمصلحة المسلمين وأصبح مشغولًا بمصالحهم عن شئونه الخاصة، وهو في هذا كأي موظف آخر في الدولة ولو كان موسرًا، وأما امتناع علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز عن الأخذ من بيت المال فهو لا يدل على المنع؛ لأن معناه أنهم تنازلوا عن حقوقهم، ولو أنهما أخذا من بيت المال ما كان عليهما من حرج؛ لأن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- قد أخذا مخصصاتهما من بيت مال المسلمين وكانا مع ذلك من مياسير المسلمين؛ لأنه لا حرج في أن يأخذ الإنسان مقابل عمله، والخليفة كما ذكرنا ينشغل بأمور المسلمين عن شئونه الخاصة. الرابع من حقوق الإمام: من حقوق الإمام على الأمة أن تنصحه وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وتدعو له بالخير، فإن الدين النصيحة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((الدين النصيحة قالها ثلاثًا قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ولقد امتن على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنها خير أمة لكونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية: 110).
انتهاء ولاية الإمام.
والجدير بالذكر في هذا الصدد أن واجبات الإمام وحقوقه التي ذكرها العلماء المسلمون تقرب مما يذكره القانونيون تحت مسمى "وظائف الدولة" فقد كان الخليفة أو الإمام في عصر الماوردي وغيره ممن كتبوا في الأحكام السلطانية كان الإمام هو الدولة أو يكاد أن يكون كذلك، أما الآن فإن وظائف الدولة هي من المرونة بحيث تتأثر بالزمان والمكان وأنواع النظم وفلسفة الحكم وظروف الناس. وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن واجبات الإمام أو وظائف الإمام وعن حقوق الإمام. انتهاء ولاية الإمام عزل الإمام أو ورئيس الدولة عن منصبه: فنقول: بقاء الإمام أو رئيس الدولة في منصبه منوط باستمرار صلاحيته لقيادة دولة مسلمة، وهذه الصلاحية متوافرة فيه ما دامت الشروط المطلوبة فيمن يصلح أن يشغل هذا المنصب موجودة فيه، وفقدان هذه الصلاحية موجب لترك منصب القيادة حتى يشغلها من هو صالح لها، وسنتناول في هذا مسألتين هما: عزل الإمام نفسه، وانعزاله لا عن طريق نفسه. المسألة الأولى: عزل رئيس الدولة عن طريق نفسه: نقول: بيّن الفقهاء المسلمون أن عزل الإمام نفسه إما أن يكون لعجز أو ضعف كمرض وهرم، وإما أن يكون لا لعجز ولا ضعف بل لإيثاره ترك هذا المنصب طلبًا لتخفيف العبء عنه في الدنيا والآخرة، وإما أن يكون لا لهذا ولا لذاك، ولكل من هذه الأحوال حكم خاصّ بها. فأما الحال الأولى وهي: أن يعزل الإمام نفسه لعجزه عن القيام بما هو موكول إليه من أمور الناس لهرم أو مرض أو نحوهما -فإنه ينعزل إذا عزل نفسه لذلك؛ لأن العجز إذا تحقق وجب زوال ولايته لفوات المقصود منها، بل يجب عليه إذا أحس بذلك أن
يعزل نفسه حرصًا على مصلحة المسلمين، فسواء أكان هذا العجز ظاهرًا للناس أم استشعره هو من نفسه فهو موجب لتركه هذا المنصب. وأما الحال الثانية وهي: أن يعزل نفسه لا لعجز ولا ضعف بل آثر الترك طلبًا لتخفيف العبء عنه في الدنيا حتى لا يشغل بالمهام العظام الموكولة إلى رئيس المسلمين، أو طلبًا لتخفيف العبء عنه في الآخرة حتى لا يتسع حسابه -فإن للفقهاء في ذلك رأيين: أولهما: أنه ينعزل بذلك؛ لأنه كما لم تلزمه الإجابة إلى المبايعة لا يلزمه الاستمرار في منصبه. ثانيهما: لا ينعزل؛ لأن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- طلب من المسلمين أن يقيلوه من منصب الخلافة، ولو كان عزل نفسه مؤثرًا لما طلب منهم الإقالة. وأما الحالة الثلاثة وهي: أن يعزل الإمام نفسه من غير عذر من عجزه عن القيام بأمور المسلمين، أو إيثاره ترك هذا المنصب طلبًا للتخفيف في الدنيا والآخرة -فقد اختلف الفقهاء فيه إلى ثلاثة آراء: الرأي الأول: لا ينعزل حينئذ، وحجة هذا الرأي أن الحق في ذلك للمسلمين لا له. الرأي الثاني: أنه ينعزل؛ لأن إلزامه الاستمرار قد يلحق الضرر به في آخرته ودنياه. الرأي الثالث: يُنظر، فإن لم يول الإمام غيره أو ولى من هو دونه لم ينعزل قطعًا، وإن ولى من هو أفضل منه أو من هو مثله فعلى رأيين: رأي يقول بالانعزال، ورأي يقول بعدم الانعزال.
المسألة الثانية: انعزال رئيس الدولة لا عن طريق نفسه: أجمع المسلمون على أن رئيس الدولة إذا لم يحدث أمرًا يخل بعدالته أو يتغير حاله فلا يجوز للأمة أن تعزله، يقول البعض: ولا يجوز خلع الإمام من غير حدث ولا تغير أمر، وهذا مجمع عليه؛ وذلك لان المسلمين أيام الفتنة التي اشتعلت في عهد الخليفة الثالث عثمان -رضي الله عنه- قد اختلفوا على قولين لا ثالث لهما، فمنهم من قال: إنه أحدث أمورًا أخلت بواجبات منصبه فيجب عزله، ومنهم من قال: إنه لم يحدث حدثًا يخلّ بواجباته فلا يجوز عزله، فما خرج عن هذين القولين فهو باطل بالاتفاق؛ وأيضًا لأن الإمام لم يكلف هذا المنصب إلا بعد أن توافرت فيه شروط خاصة، فإذا ما فقد هذه الشروط بعد توليته كان هناك سبب مقتض لعزله، وأما إذا ظلّ سليم الحال لا يأخذ عليه من ينكر من إخلال بأمور الدين أو بسياسة الشعب -فإن الإقدام على عزله آن ذاك ما هو إلا اتباع للأهواء وتلاعب بمنصب هو أخطر مناصب القيادة وهو ما يؤدي إلى الفساد، وأما إذا تغير حاله فوُجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين أو انتكاس أمور الدين فقد خرج حينئذ عن سمت الإمامة وأصبح مستحق الإقصاء عن هذا المنصب. هذا وقد بين العلماء الأمور التي بها يتغير حاله، فمنها ما هو راجع إلى خلقه وتصرفاته، ومنها ما هو راجع إلى بدنه، وسنتكلم عن هذه الأمور مبينين خلاف العلماء إن وجد عند الكلام عن كل أمر منها فنقول: أول الأمور التي تخل بعقد الإمامة فينعزل الإمام بسببها هو: الردة، فإذا ما ارتد رئيس الدولة عن الإسلام فقد انعزل في نفس اللحظة عن الرياسة، يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (النساء: من الآية 141)
وأي سبيل أعظم من سبيل الإمام، وأيضا لأن الإمام لم يكلف هذا المنصب إلا لحراسة الدين وسياسة الدنيا، فإذا ما ارتد عن الإسلام فكيف تتحقق منه حراسة الدين، إن ارتداده عن الدين يزول به مقصود الإمامة، وكل ما يزول به مقصود الإمامة مؤد إلى انحلال عقدها، فالردة مؤدية إلى انحلال عقد الإمامة وهذا أمر واضح لم يخالف فيه أحد من المسلمين. وثاني الأمور التي ينعزل بها رئيس الدولة: زوال العقل، وقد بيّن العلماء أحوال زوال العقل، وبيّنوا لكل حال حكمها الخاص بها فقالوا: إن زوال العقل إما أن يكون عارضًا يُرجى زواله كالإغماء، أو لازمًا لا يرجى زواله كالجنون والخبل، فإن كان عارضًا مرجوًّا زواله كالإغماء فهذا لا يُبطل الرياسة، فلا يجوز لهم عزله؛ لأنه مرض قليل اللبث، وإن كان لازمًا لا يرجى زواله كالجنون والخبل فإما أن يكون مهبطًا لا يتخلله إفاقة أو يتخلله إفاقة، فإن كان مهبطًا لا يتخلله إفاقة فهذا يبطل عقد الإمامة؛ لأنه يمنع المقصود من الإمامة، وهو إقامة الحقوق واستيفاء الحقوق وحماية المسلمين؛ ولأن المجنون يجب إقامة الولاية عليه فكيف يتصور أن يكون هو واليًا على الأمة، وأما إن كان يتخلله إفاقة يعود فيها إلى حال السلامة فإما أن يكون أكثر زمانه الخبل أو أن يكون أكثر زمانه الإفاقة، فإن كان أكثر زمانه الخبل فالحكم فيه كما لو كان مهبطًا فيبطل به عقد الإمامة، وإن كان أكثر زمانه الإفاقة فقد اختلف فيه العلماء على رأيين: رأي يقول بأن ذلك يبطل عقد الإمامة كما يمنع ذلك من عقده له في الابتداء؛ لأن في ذلك إخلال بالنظر المستحق فيه، ورأي يقول لا يبطل عقد الإمامة وإن كان ذلك يمنع من عقدها له ابتداء؛ لأنه يراعى في ابتداء عقدها سلامة كاملة وفي الخروج منها نقص كامل.
الأمر الثالث الذي ينعزل به رئيس الدولة أو الإمام الأعظم: ذهاب الحواس المؤثرة في الرأي أو العمل، والكلام في هذه الناحية يتناول ثلاثة نقائص هي: العمى، والصمم، والخرس. فأما العمى: فإنه إذا أصيب به الرئيس بعد توليته أبطل رياسته كما يبطل ولاية القضاء وتردّ به الشهادة، وأما إذا ضعف بصره فينظر، فإن كان يستطيع معه معرفة الأشخاص التي يراها لم يقبح ذلك في رياسته، وإلا فتبطل رياسته، وأما العشاء وهو عدم الإبصار ليلًا فكما أنه لا يكون مانعًا عن عقد الرياسة له ابتداء لا يكون ذلك قادحًا في استدامة الرياسة من باب أولى. وأما الصمم: فقد اخْتَلَف العلماء في طروئه على رئيس الدولة: هل يكون ذلك قادحًا في رياسته أم لا على ثلاثة مذاهب: الأول وهو أصحّها: أنه ينعزل بذلك كانعزاله بالعمى لتأثيره في التدبير والعمل. والثاني: لا ينعزل؛ لأن الإشارة تقوم مقام السمع والخروج من الرياسة لا يكون إلا بنقص كامل. والرأي الثالث: يفرق بينما إذا كان يحسن الكتابة وما إذا لم يكن يحسنها فقال: إن كان يحسن الكتابة لم تبطل رياسته بالصمم، وإن كان لا يحسنها بطلت رياسته به؛ لأن الكتابة مفهومة والإشارة موهومة، وأما إذا ثقل سمعه بأن كان لا يسمع إلا الصوت العالي فإن ذلك بالاتفاق لا يقدح في رياسته، وأما الخرس فقد اختلف في طروئه على الرئيس كالخلاف السابق في الصمم والأصحّ كما سبق في الصمم أنه ينعزل به. هذا ما يتصل بذهاب الحواس المؤثرة في الرأي أو العمل، وأما ما لا يؤثر ذهابه في الرأي والعمل كذهاب حاسة الشم وفقدان الذوق الذي يدرك به الطعام فباتفاق العلماء لا ينعزل الرئيس به.
الأمر الرابع الذي يؤدي إلى انعزال رئيس الدولة: فقد الأعضاء التي يخلّ فقدها بالعمل أو النهوض كانقطاع اليدين جميعًا أو الرجلين جميعًا، فإذا حدث للرئيس شيء من ذلك انعزل به لعجزه عن كمال القيام بحقوق الأمة، وأما إذا حدث له ما يؤثر في بعض العمل أو في بعض النهوض دون بعض كبتر إحدى اليدين أو إحدى الرجلين فقد اختلف العلماء في ذلك على رأيين: أولهما وهو الأصح: أنه لا ينعزل به وإن كان ذلك يمنع انعقاده له ابتداء؛ لأن المعتبر في عقدها كمال السلامة فيعتبر في الخروج منها كمال النقص. والرأي الثاني: أنه ينعزل بذلك؛ لأن الرئيس أصبح به ناقص الحركة، وأما إذا فقد الرئيس ما لا يؤثر فقده في عمل ولا نهوض كقطع الذكر والأنثيين وجدع الأنف وثمل إحدى العينين فلا يخلّ ذلك برياسته. الأمر الخامس الذي ينعزل به رئيس الدولة: بطلان تصرف رئيس الدولة، ويندرج تحت هذا عدة صور: الصورة الأولى: أن يحجر عليه ويقهره من يستبد من أعوانه بالتصرف في أمور الأمة من غير تظاهر بمعصية ولا خروج عن طاعة، فإذا حدث هذا فإن العلماء ينظرون في مقام بيان الحكم فيه إلى ناحيتين: الناحية الأولى: هل صلاحيته للرياسة لا زالت موجودة أم أنه بوقوعه تحت قهر هذا المستبد قد فقد صلاحيته لهذا المنصب. والناحية الثانية: هل يجوز إقرار هذا المستبد على أفعاله وتصرفاته التي سلبها من رئيس الدولة أم أنه لا يجوز إقراره عليها،
أما فيما يختص بالناحية الأولى وهي: هل صلاحيته للرئاسة مازالت موجودة أم لا -فالعلماء يقولون: إن هذا لا يقدح في رياسته فلا ينعزل بهذا القهر عن منصبه، وأما فيما يختصّ بالناحية الثانية وهي: هل يجوز إقرار هذا المستبد على أفعاله أم لا -فينظر في تصرفات من استولى على أموره، فإما أن تكون جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل أو لا، فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل جاز إقراره عليها؛ لأن في عدم إقرارها إيقافًا لبعض المصالح، وهذا يعود بالفساد على الأمة فأصبح الحال حينئذ كما لو استولى على نفس منصب الرياسة بالقهر، وأما إن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل فإنه لا يجوز إقراره عليها ويجب على الرئيس أن يستنصر بالشعب حتى يزول تغلّب هذا المتغلب وتسلطه. الصورة الثانية من صور بطلان تصرف رئيس الدولة: أن يقع رئيس الدولة في الأسر، وذلك الأسر إما أن يكون من المشركين أو من بغاة المسلمين، فإن أسره المشركون فإما أن يكون مرجوّ الخلاص أو ميئوسًا منه، فإن كان مرجوّ الخلاص بقتال أو بفداء فهو على رياسته ويجب على كافة الأمة استنقاذه من أيديهم، أما إن كان ميئوسًا من خلاصه بأن غلب على الظن عدم خلاصه إلى موته فقد خرج بهذا الأمر عن الرياسة وعلى أهل الحلّ والعقد أن يختاروا غيره من الصالحين لرياسة الأمة فيبايعوه رئيسًا عليها، وأما إن أسره بغاة المسلمين فينظر أيضًا في ذلك فإما أن يكون مرجوًّا خلاصه من أيديهم أو من ميئوسًا منهم، فإن كان مرجوّ الخلاص فهو باق على رياسته ويجب أيضًا على كافة الأمة استنقاذه من هذا الأسر، وإن كان ميئوسًا من خلاصه فينظر في حال البغاة، فإن لم يكونوا قد اختاروا رئيسًا للدولة غيره فالرئيس المأسور في
أيديهم على رياسته؛ لأن بيعته لازمة لهم وطاعته عليهم واجبة فصار معهم كما لو كان مع أهل العدل حال وقوعه تحت الحجر ممن استبد به من أعوان وحينئذ يجب استنابة آخر مكانه ليقوم بتصريف أمور الدولة بصفته نائبًا عن الرئيس لا بصفته رئيسًا؛ حتى لا تتعرض مصالح الأمة للتعطيل، والرئيس المأسور أحقّ باختيار من ينوب عنه ما دام قادرًا على الاستنابة، فإن لم يقدر عليها فعلى الأمة ممثلة في أهل الحلّ والعقد أن تختار هي النائب الذي سيقوم بتصريف الأمة حتى يفعل الله ما يشاء من خلاص الرئيس من الأسر أو وفاته، فإذا تحقق الميئوس منه فخلص الرئيس من الأسر انعزل نائبه وأصبحت أمور الدولة راجعة إلى يد الرئيس، وأما إذا عزل الرئيس المأمور نفسه أو مات في الأسر فإن نائبه لا يصير رئيسًا للدولة إلا بمبايعة أهل الحلّ والعقد؛ لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده، وإن كان البغاة قد نصبوا عليهم رئيسًا للدولة يخضعون له فالرئيس المأسور في أيديهم خارج عن رياسة الدولة؛ لأنهم قد انحازوا بدار انعزل حكمها عن الجماعة وخرجوا بها عن الطاعة فلم يبق لأهل العدل بهم نصرة، ويجب على الأمة ممثلة في أهل الحلّ والعقد أن تختار لنفسها رئيسًا غيره، فإن استطاع الرئيس المأسور أن يتخلص من أسره لم يعد إلى الرياسة؛ لأنه قد خرج عنها. الصورة الثالثة من صور بطلان تصرف رئيس الدولة: أن يخرج عليه من يستولى على منصب الرياسة بالقوة وهو ما يعرف في عصرنا بالانقلاب في الحكم، وهو أحد الطرق التي تنعقد بها الرياسة كما بيّنا ذلك، وقد بينا أن العلماء قالوا بانعزال الرئيس وانعقاد الرياسة للمتغلب حتى لا يقع الناس في فوضى الحرب الأهلية ويعمّ الفساد،
وصفوة القول: أن الرئيس ينعزل عن منصبه إذا بطل تصرفه باستيلاء آخر على هذا المنصب بالقوة، سواء أكان الرئيس المقهور قد جاء إلى الحكم عن طريق اختيار أهل الحلّ والعقد أم كان هو الآخر قد قهره من سبقه. الأمر السادس من الأمور التي ينعزل بها رئيس الدولة: جور الرئيس أي: ظلمه عباد الله تعالى، وفسقه أي: خروجه عن طاعته سبحانه وتعالى، فنقول: اختلف العلماء في جور رئيس الدولة وفسقه يعني: إذا أصبح ظالما وغير عادل: هل ينعزل بسببهما؟ أي: هل ينعزل بسبب الظلم وبسبب الفسق الذي طرأ عليه بعد أن تولى الرئاسة أم لا؟ نقول: فأما الخوارج فإنهم لما كانوا يقولون بأن الفسق يُخرج مرتكبه عن الإمام قالوا بانعزال الإمام إذا فسق؛ لأنه حينئذ ليس مؤمنًا وغير المؤمن لا يصلح أن يكون إمامًا، وكذلك يرى المعتزلة انعزاله بالجور والفسق؛ لأنه إذا وجب انعزال القاضي وأمير الإقليم بظهور الفسق عليهما فإنه يجب انعزال الإمام من باب أولى إذا ارتكب ذلك، ويرى البعض أيضًا أنه لا ينعزل بذلك؛ لأن في انعزال الإمام ووجوب نصب غيره إثارة الفتنة لما له من الشوكة. ولو رجعنا إلى الجماعة الأحناف فإنهم لما كانوا لا يرون العدالة شرطًا في صحة الولاية حيث يصحّ عندهم تقليد الفاسق رياسة الدولة لكن مع الكراهة كما بينا ذلك عند كلامنا على شروط رئيس الدولة -نقول: لما كانت العدالة ليست شرطًا عندهم في صحة رياسة الدولة فإنهم قالوا: إذا اختارت الأمة إمامًا توافرت فيه صفات العدالة ثم جار أو فسق فإنه لا ينعزل عن منصب الإمامة ولكنه يستحق أن يعزله أهل الحلّ والعقد إذا أمنوا وقوع الفتنة، وإن لم يؤمن وقوعها فلا ينعزل.
أي أن الأحناف يقولون بأنه إذا فسق ففي هذه الحالة لا يكون واجب العزل أو لا ينعزل بمجرد هذا الفسق، وإنما الأمر يكون متروكًا لأهل الحلّ والعقد، فإن رأوا عزله عزلوه وإن رأوا إبقائه أبقوه، لكن في حالة ما إذا رأوا عزله عليهم أن يلاحظوا ما يترتب على عزله من فتن، فإن ترتب على عزله فتن فعليهم ألا يعزلوه في هذه الحالة. وقد استند الحنفية في رأيهم هذا إلى أن الصحابة -رضي الله عنهم- صلوا خلف بعض بني أمية وقبلوا ولايتهم، فقد صلى غير واحد منهم خلف مروان بن الحكم قالوا: وروى البخاري في تاريخه "أدركت عشرة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يصلي خلف أئمة الجور". وعدم انعزال الرئيس بالفسق هو ما يراه أكثر العلماء؛ لأن السلف كانوا يرون الفسق ظاهرًا والجور واقعًا من الأئمة بعد الخلفاء الراشدين، وكانوا مع ذلك ينقادون لهم، وكان الصحابة والتابعون ومن بعدهم يرون خلافة بني أمية وبني العباس مع أن أكثر بني أمية وأكثر بني العباس كانوا فساقًا. وبعد فهذه هي آراء العلماء في انعزال رئيس الدولة بالفسق والجور، وأننا نرى أن الرأي القائل بوجوب عزل رئيس الدولة بالجور والفسق إذا لم تكن فتنة هو الأولى بالقبول، فيجب على أهل الحلّ والعقد في الدولة إذا رأوا جور رئيس الدولة أو فسقه أن يعلنوا عزله عن منصبه إذا أمنوا وقوع الفتن وأن يقوموا باختيار من هو أهل للرياسة بعد ذلك، وأما إذا لم يأمنوا وقوع الفتن فلا يجوز لهم عزله، وإنما قلنا بوجوب عزله إذا جار أو فسق بشرط عدم الفتنة؛ لأنه إذا كنا شرطنا العدالة فيمن يولى رئيسًا على
المسلمين فإن فقدان هذا الشرط إذا كان قادحًا في استحقاق تولي منصب الإمامة ابتداء، فإنه يجب أن يكون قادحًا في استمرار الإمامة أيضًا؛ لأن علة اشتراط هذا الشرط لا تزول بمجرد تولية هذا المنصب والإمامة قيادة لأمة مسلمة، وكما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة الحسنة لكل المسلمين حكّامًا ومحكومين في جميع الأعصر فإن رئيسهم يجب أن يكون مثلهم في الاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم- والخضوع لأحكام الدين الذي اختير لحراسته؛ لأن الناس على دين ملوكهم فإذا فسق الرئيس أو جار وهو القائم على قمة السلطة التنفيذية في الدولة -فإن إيمان الناس بالفضيلة والعدل قد يهن، وقد يتخذه من لم يتمكن الإسلام من نفوسهم في سلوكهم مثلًا وقدوة، وفي هذا أعظم الضرر على الدين وعلى الأمة. وأما ما استند إليه القائلون بعدم الانعزال من أن الصحابة كانوا يصلّون خلف بعض بني أمية مع ظهور فسقهم، وأن التابعين كانوا يعترفون بخلافة بني العباس مع أن أكثر هؤلاء كانوا فساقًا فلا نسلم بهذا الاستدلال؛ إذ أن هؤلاء الحكام كانوا ملوكًا تغلبوا على الأمر، والمتغلب تصحّ إمامته للضرورة؛ حتى لا تتعطل مصالح المسلمين من فصل قضاياهم، وزواج من لا ولي لها، وجهاد الكفار وغير ذلك مما سبق بيانه، وليس بشرط في صحة الصلاة خلف الإمام أن يكون عدلًا فقد روى أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برًّا كان أو فاجرًا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برًّا كان أو فاجرًا وإن عمل الكبائر)). وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن نظام الحكم في الإسلام. أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي.
الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي.
العمل فريضة إسلامية.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (توجيهات الفكر الإداري الإسلامي) 1 - توجيهات الفكر الإداري الإسلامي (1) العمل فريضة إسلامية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: نبدأ الآن في الحديث عن النظام الإداري في الإسلام فنقول: التنظيم الإداري هو الترجمة العملية والفورية للنظام السياسي، وأول الهيئات التنفيذية لجميع ما ينبثق عن السلطة السياسية من تخطيط ومشاريع، فإذا كانت المؤسسات السياسية هي التي تمثل السلطان وتعلن عن أهدافه من أجل بناء الدولة وإعلاء شأنها -فإن المؤسسات الإدارية هي التي تحقق هذه الأهداف، وتعمل على إقرار أركان الدولة على أسس راسخة الأوتاد، وصار رجال الإدارة هم واجهة أصحاب السلطان أمام الناس وشبكة المواصلات الدقيقة التي تهيأ لهذين الطرفين الهامّين من أطراف الدولة أداء أعمالها الخاصة والعامة عن رضًا واقتناع، وجاء التصاق التنظيم الإداري بالنظام السياسي دائمًا وأبدًا التصاقًا أشبه بالارتباط بين وجهي العملة، بحيث لا يقدر أحدهما دون الآخر، فالإدارة المستقرة هي عنوان السياسية السليمة، والإدارة المهتزة هي رمز التفكك والانحلال السياسي. وفي مجال حديثنا عن النظام الإداري في الإسلام، سوف نتحدث عن أربعة موضوعات رئيسية هي: أولًا: توجيهات الفكر الإداري الإسلامي. ثانيًا: المنهج الإسلامي الإداري. ثالثًا: التنظيم الإداري في مجال التطبيق العملي. رابعًا: الأجهزة الإدارية.
ونبدأ الآن في الحديث عن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي: فنقول: إن أهم مصدرين للفكر الإداري الإسلامي هما: كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- إذ أن ما جاء في هذا المصدرين لمما يؤكد ذاتية الفكر الإداري الإسلامي، الذي لا ينحاز للفرد على حساب الجماعة، كما في الفكر الرأسمالي، ولا ينحاز للجماعة على حساب الفرد كما في الفكر الاشتراكي، بل نجده بين ذلك قوامًا، إذ يحققان في توافق تام صالح الفرد وصالح الجماعة، ولا يسمح الإسلام بطغيان أحدهما على الآخر فلا فردية مطلقة، ولا جماعية مطلقة، وهو الاتجاه الرشيد الذي تنشده الإنسانية في عالم اليوم. وحسبنا أن نورد فيما يلي نماذج للهدي القرآني والنبوي في هذا الصدد وذلك في مجالين: مجال التنظيم الإداري، ومجال إدارة الأفراد العاملين. فبالنسبة للتنظيم الإداري نقول: عُني الإسلام بوضع ضوابط التنظيم السوي للعمل، باعتباره محور التنظيم الإداري للجماعة ونشاطاتها، وذلك على النحو الذي يكفل نمو المجتمع وتقدمه في شتى مجالات الحياة؛ وبما يعكس ذاتية الفكر الإداري الإسلامي في هذا الصدد، وهو ما نكشف عنه في الموضوعات التالية: أولًا: العمل فريضة إسلامية: ولذا أمرنا الله جميعًا بالعمل، إذ يقول سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) ويخاطب رسوله الكريم في هذا الخصوص بقوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَب} (الشرح: 7) وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)) ويشيد -صلوات الله وسلامه عليه- بالعاملين فيقول: ((من أمسى كالًّا من عمل يده -أي: مجهدًا- أمسى مغفورًا له)).
كما أُثر عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- شاهد رجلًا تورمت يده من العمل فابتهج قائلًا: ((هذه يد يحبها الله ورسوله)). ولقد سما الإسلام بفريضة العمل إلى مستوى الفريضة الدينية؛ إذ أنه ربط الإيمان دائمًا بالعمل الصالح أي: العمل النافع للفرد وللجماعة معًا، فما من آية وردت بالقرآن الكريم وذكر بها الإيمان إلا واقترن ذكره بالعمل الصالح؛ إذ وردت آيات الذكر الحكيم في مواطن عدة يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (البقرة: من الآية: 25) مؤكدًا بذلك أن الإسلام عقيدة عمل وعمل عقيدة، وكما أن العمل فريضة فإنه أيضًا مصدر القيمة، فالإسلام حين جعل العمل فريضة عامة على الجميع رفع من شأنه، فلم يعد أمرًا محقرًا كما كان من قبل، بل أصبح مصدر قيمة الإنسان في هذه الحياة، ومناط مسئوليته، إذ يقول -سبحانه وتعالى-: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39). كما أن التفاوت في قيم البشر أساسه أعمالهم، سواء في الدنيا أو الآخرة، وفي ذلك يقول ربنا -سبحانه وتعالى-: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) فالعمل مصدر القيمة الإنسانية أي: أنه يجعل لصاحبه قيمة في المجتمع الذي يعيش فيه، إن الإنسان بعمله هو الذي يضفي على المادة قيمتها بما يجريه بشأنها من عمليات إنتاج، وتصنيع، وتداول، وتوزيع، واستعمال، واستهلاك، فالمادة ليست لها في ذاتها قيمة أي: أنه لن تكون لها قيمة إلا بالإنسان وبعمل الإنسان. إذن: العمل الإنساني مطلوب لنفع الفرد ونفع المجتمع.
وبذلك تكشف توجيهات الفكر الإسلامي وفق مفهوم إنساني رحبَ العمل، واتساعَ العمل، وأنه مصدر للقيمة، وقد سبقت هذه التوجيهات في الاهتمام بالعمل، واعتباره مصدر القيمة في ذلك بأكثر من قرون عديدة، سبقت الاقتصاد الغربي ورائده "آدم سميث" في مصر، الذي يرى أن العمل -وفق مفهومه المادي- مصدر القيمة والثروة، فما توصل إليه "آدم سميث" في مصر- العالم الاقتصادي الغربي المعروف- إنما توصل إليه إسلامنا منذ وجود الإسلام على هذه الأرض. كما أن العمل كمصدر موضوعي محايد لتقييم الإنسان على أساس الجدارة في الإسلام، يقتضي وضع معايير عمل منضبطة، ومعدلات أداء محددة، وهو ما يسعى الفكر الإداري المعاصر في اتجاهه العلمي إلى تحقيقها، كما يقتضي وضع تقارير نشاط؛ تبين مستوى أداء العامل كأداة لتقييمه. إذن: هذه المصطلحات الإدارية الحديثة عرفها الفقه الإسلامي، وعرفتها الشريعة الإسلامية. وهكذا يهدُر الإسلام اعتبارات المحاباة الشخصية في تقييم الإنسان، سواء كانت اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية، إذ أنه جعل العمل هو الأساس في تقييم الإنسان، وإذا كان العمل مصدر القيمة فإنه أيضًا وسيلة الكسب، إذ يفرض الإنسان العمل باعتباره وسيلة الكسب، ومصدر رزق الفرد، ودخله الخاص الذي يعول عليه في معيشته، وقد هيأ الله لنا سبل العيش، وكسب الرزق، فيقول -سبحانه وتعالى-: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} (الأعراف: من الآية: 10) ولكن تحقيق ذلك منوط بالسعي والعمل؛ ولذا يقول الحق -تبارك وتعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (الملك: من الآية: 15).
وهو ما يؤكده حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده)) كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أطيب الكسب عمل الرجل بيده)) وينبهنا سبحانه وتعالى إلى أن الفرائض الدينية لا تحول دون السعي لكسب الرزق؛ فيقول -سبحانه وتعالى- بمناسبة أداء فريضة الجمعة وهي صلاة جماعية: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) وحين يأمرنا الإسلام بالعمل لكسب الرزق فإنه ينشد الكسب المشروع والحلال، فيقول- سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} (البقرة: من الآية: 168) كما يقول -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء: من الآية: 29). كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: ((طلب الحلال واجب على كل مسلم)) والإسلام يفرض العمل؛ وسيلة للكسب؛ صيانة لكرامة الإنسان، وحتى يقي نفسه مذلة السؤال والحاجة، وهو ما تفصح عنه أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ روي عنه قوله: ((لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب فيبيعها فَيَكفَّ بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)) وقد رُوي: ((أن صحابيين جاءا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهما يحملان أخًا لهما، فسألهما النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، فقالا: إنه لا ينتهي من صلاة إلا إلى صلاة، ولا ينتهي من صيام إلا إلى صيام، حتى أدركه من الجهد -أي: من التعب- ما ترى يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: من يرعى إبله؟ ويسعى على وِلده؟ فقالا: نحن، فقال: أنتما أعبد منه)). وروي أنه مَرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل نشط قوي، يقصد وِجهة معينة -يعني: يتجه إلى مكان معين- فقال له أصحابه: يا رسول الله لو كان -أي: تمنى الصحابة- هذا في سبيل الله -أي: قوته ونشاطه، يعني: الصحابة كانوا يتمنون أن يكون
هذا الرجل القوي الذي يسير أمامهم في اتجاه وجهة معينة أن يكون مسلمًا- فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((إن كان يخرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على نفسه يعطيها فهو في سبيل الله)) وهكذا يبين لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن العمل الذي يكف به الإنسان نفسه عن سؤال الناس مساوٍ للجهاد في سبيل الله، وإذا كان العمل وسيلة الكسب -كما أوضحنا- فإنه أيضًا أساس التقدم، فإن فرض العمل كوسيلة للكسب، ومصدرًا لدخل الفرد من شأنه تحقيق تقدمه اقتصاديًّا، واجتماعيًّا. وكان الإسلام حريصًا على تحقيق هذا التقدم أيضًا على صعيد المجتمع، بتشجيع أفراده على ممارسة النشاطات الاقتصادية، سواء كانت زراعية، أو صناعية، أو تجارية، وهو ما توضحه وتؤكده الأحاديث النبوية التالية: ففي مجال الزراعة: يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان، إلا كان له صدقة)) كما يقول- صلى الله عليه وسلم-: ((من نَصب شجرة، فصبر على حفظها، والقيام عليها حتى تثمر، كان له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله -عز وجل-)) فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يحفزنا على الاهتمام بالتنمية الزراعية، ليس فقط لمجرد تحقيق كسب دنيوي، ولكن طمعًا في الثواب الأخروي. وفي الصناعة: يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((خير الكسب كسب الصانع إذا نصح)) فالصناعة أفضل مصدر للكسب في الإسلام، إذ يكمن فيها التقدم الحقيقي للشعوب والدول، وهو ما نلمسه فعلًا في عالمنا المعاصر.
خصائص العمل في الإسلام.
وفي التجارة: سما الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشأن المشتغلين بها إلى مصف الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، إذا التزموا جانب الصدق في ممارستها، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: ((التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)) ويؤكد -صلوات الله وسلامه عليه- أهمية التجارة كمصدر رئيسي للربح، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((تسعة أعشار الرزق في التجارة)) فالتجارة تعني: تسويق الإنتاج، وتصريفه، أيًّا كان نوعه؛ ابتغاء الكسب المشروع الذي أحله الله دون الربا؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: من الآية: 275). ويرجع تحريم الربا -على حد قول الإمام الرازي- إلى أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدًا، كان أو ناسيًا، خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعة الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات، والحرف، والصناعات، والعمارات. فالإسلام يحرم الربا؛ لآثاره السيئة، إذ يُقعد صاحب المال عن العمل، والسعي للكسب والاستثمار، فضلًا عما فيه من استغلال لإنسان آخر، مما يؤدي إلى التخلف الاقتصادي والاجتماعي. خصائص العمل في الإسلام رأينا أن الإسلام جعل من العمل فريضة عامة؛ إعمالًا لمبدأ في المساواة بين بني آدم، كما أنه دعا انطلاقًا من ذاتيته إلى اتباع الصراط المستقيم، ومقتضاه انتهاج
السلوك السوي السليم؛ ولذا وضع مواصفات وضوابط العمل، التي تحقق هذا السلوك، وحسبنا أن نعرض هنا لبعضها -أي: لبعض هذه الخصائص للعمل-: فنقول: الإيمان والعمل الصالح؛ أول خاصية من خصائص العمل في الإسلام ارتباط الإيمان بالعمل الصالح، فالإسلام عقيدة عمل وعمل عقيدة، وهو ما يؤكده القرآن الكريم في أكثر من خمسين آية، بالربط بين الإيمان وعمل الصالحات، سواء بصيغة الفرد في قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} (الكهف: من الآية: 88) أو بصيغة الجماعة في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} (البقرة: من الآية: 25). والإيمان هو: الاعتقاد، واليقين، والتصديق بفكرة، أو سلوك معين؛ أما عمل الصالحات فيعني: مطلقًا، وعموم العمل الصالح، الذي يحقق صالح وخير ونفع الفرد والجماعة، سواء في شئون الدنيا، أو الدين، ويربط القرآن الكريم الإيمان بالعمل الصالح ارتباط الأصل بالفرع، والأساس بالبناء، وهو ارتباط يستحيل معه تواجد أحدهما دون الآخر، فالإنسان لا يعرف إيمانًا لا يثمر عملًا صالحًا، ولا يقوم عمل صالح غير مستند إلى إيمان ولا يصدر عن عقيدة، وقد خص الله -سبحانه وتعالى- المؤمنين الذي يعملون الصالحات ببالغ الرعاية، وأجزل لهم الجزاء والأجر في الدنيا والآخرة، إذ لهم جزاء الضعف، وجزاء الحسنى، وأجر كبير، وأجر غير ممنون لا ينقطع، وجنات المأوى، وجنات النعيم، وهم خير البرية، كما حدثنا القرآن الكريم عن هذه الأوصاف. وهو ما يتجلى في تأكيده سبحانه إذ يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) وفي قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (النور: من الآية: 55).
وعليه نخلص مما تقدم إلى التوجيهين التاليين في مجال الفكر الإداري الإسلامي: 1 - أن المؤمن مطالب بعمل الصالحات جميعًا، سواء ما يتعلق منها بالصالح الفردي للعامل، أو الصالح الجماعي للمنظمة، ويقتضي السلوك المعتدل المنبثق عن ذاتية الإسلام تحقيق التوازن في العمل، بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة. 2 - أن عمل الصالحات -وهي الأعمال التي تتوخى إصلاح حال الفرد والجماعة- يجب أن يصدر عن إيمان، حتى يحقق ثمرته المرجوة؛ ولذا فالإسلام عمل عقيدة وعقيدة عمل، وهذا هو المدخل العقائدي لأي عمل إصلاحي، والمتعين الأخذ به لنجاح الإصلاح الإداري في موضوع الإدارة العامة، ويتطلب ارتباط الإيمان بالعمل في أي من مجالات الإصلاح توفير الدعوة اللازمة لهذا الإصلاح؛ والتوعية الكافية به لنجاح تطبيقه. ومن خصائص العمل في الإسلام: أنه ينبغي أن يكون مخططًا، فإن تحقيق الهدف والتخطيط يمثلان الجانب الفكري للعمل، والسابق على إنجازه، فالإنسان الذي ميزه على سائر مخلوقاته بالعقل يصدر في أعماقه وتصرفاته عن تفكير مسبق؛ يتناول تحديد أهداف أعماله، ومقاصدها، والإعداد -أي: التخطيط لها، فالإنسان العاقل يُسائل نفسه ابتداء قبل الإقدام على مباشرة أي عمل: لماذا يقوم به؟ ويجيب عليه في ضوء ما يهديه إليه تفكيره وتحركه إليه؛ دافعًا في ذلك أنه يحدد بدقة وفي وضوح ما يستهدفه بعمله، وفي ضوء تحديده للهدف يبدأ في الإعداد والتحضير لهذا العمل؛ بالبحث في أفضل الأساليب والوسائل لإنجازه، وأنسب الأشخاص والأمكنة والأوقات لإنجازه، وهي عملية التخطيط للعمل -أي: الإعداد له- والتي تعني بها الإدارة باعتبارها تنظيم نشاط بشري جماعي هادف.
والإسلام إذ يُعمل العقل فإنه يعتد إلى درجة كبيرة بالنية -أي: بالقصد في إتيان الأعمال- ويجعلها مناط تقييمها؛ فالنية أساسية في تحديد الأعمال والحكم عليها؛ ولذا يقول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} (الإسراء: 84) وكذا قوله تعالى {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (البقرة: من الآية 148) ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كان هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليها)). كما أن الإسلام -في ربطه الأعمال بمقاصدها- يدعو إلى نبل هذه المقاصد، وتوخيها الخير، والتنافس على فعله؛ اكتسابًا لرضاء الله -سبحانه وتعالى- فإنه إذا كان لا بد لكل عاقل من غرض يقصد إليه بعمله فإن ذلك الغرض هو الأساس في قبول الأعمال ورفضها؛ هو الميزان الذي به تعرف درجة الأعمال عند الله، فإذا ما سما الغرض، وكان القصد نبيلًا، واتصل بالإرادة الدائمة، والتُمس به مرضاة الله كان ذلك سببًا قويًّا في تقبل الأعمال، وارتفاع الدرجات، وكان في الوقت نفسه دليلًا واضحًا على قوة إيمان العامل بالله، وشدة مراقبته لمولاه، فيتقي، ويحسن. ويدعونا الإسلام إلى تمثل الهدف عند البدء في مباشرة أي من الأعمال؛ كي يتسق العمل في أسلوبه وتوقيته وتحديد مكانه مع القصد؛ وذلك باشتراط استحضار النية عند أداء أي من الأعمال، كما في القيام بالفرائض الدينية مثل: الصلاة، والصوم، والحج، وغيرها، ويرى الإسلام في وحدة الهدف: أساس تماسك الجماعة، وترابطها، وهو ما يتجلى في قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: من الآية: 103).
ويستتبع تحديد الهدف تخطيط العمل، والإعداد لمواجهة تحديات إنجاز العمل في المستقبل، ولا يترك ذلك تحت رحمة الظروف والمفاجآت، بل نأخذ في الاعتبار توقعات المستقبل، والإمكانيات المتاحة حالًا ومستقبلًا، وهو ما يتجلى في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: من الآية: 60) وإذا كانت الآية الكريمة قد وردت في خصوص التخطيط العسكري، فإنها تضع لنا توجيهًا عامًّا لمواجهة أي تحديات واحتمالات مستقبلية في سائر مجالات العمل. ولنا في قصة يوسف -عليه السلام- نموذجًا للتخطيط المدني في حقل التموين، عندما أنبأ فرعون مصر بتأويل رؤياه، موضحًا له أن البلاد سوف تحقق إنتاجا زراعيًّا وفيرًا لمدة سبع سنوات، تواجه بعدها سبع سنوات عجاف، مما يتعين معه الاستعداد مقدمًا بالادخار من إنتاج سنوات الرخاء؛ لمواجهة سنوات الشدة، وفي ذلك يقول- سبحانه وتعالى-: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} (يوسف: من الآية: 47، 48). وقد تأكد ذلك بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا)) الذي يدعو بل يأمر بالأخذ بالتخطيط للعمل، ليس فقط للمدى القصير، أو المتوسط، أو الطويل، بل لأمد بعيد، والعمل أيضًا ينبغي أن يكون مبسطًا؛ إذ يحض الإسلام على حسن الأداء، وهو ما يؤكده العديد من آي القرآن الكريم؛ فالله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان والحياة والموت؛ لاختبار البشر في مدى إجادتهم لأعمالهم في دنياهم، فيقول -سبحانه وتعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (هود: من الآية: 7) كما يقول سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف: 7) ويقول -تبارك وتعالى-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: من الآية: 2).
كما يقرر المولى سبحانه مكافأة العاملين على حسن الأداء، فيقول -جل من قائل-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: من الآية 30) كما يقول سبحانه: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 38) ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن)) فالإسلام يعول على الوازع الديني الذاتي، والحافز العقائدي الداخل في ضمان حسن العمل، وجودة الأداء، هذا بالنسبة لمهام التنفيذ. أما بالنسبة للمهام الاستشارية، والتي تتمثل في مجرد إبداء المشورة والرأي الفني، فإنه يتعين الرجوع فيها إلى أهل الخبرة والاختصاص والعلم، وهو ما تؤكده آيات القرآن الكريم التالية؛ إذ يقول سبحانه: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: من الآية: 14) ويقول تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل: من الآية: 43) كما يقول -سبحانه وتعالى-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: من الآية: 83). ومما تقدم: يتضح أن الإسلام يوجب مراعاة الاختصاص والخبرة والرجوع إلى أصحابها في كل ما يعن لنا من أمور، لا دراية، ولا علم لنا بها، ولكن ليس لأهل الاختصاص والخبرة سلطة فرض آرائهم، أو إصدار أوامر ملزمة في هذا الصدد، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ} (الغاشية: من الآية: 21، 22) وهو ما يأخذ به الفكر الإداري المعاصر. وهكذا يحضنا الإسلام على إتقان العمل، سواء بالدعوة إلى حسن الأداء في مجال التنفيذ، أو بالرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص والعلم في مجال المشورة،
وإذا كان لكل عمل إجراءات معينة تقتضيها أصول إنجازه، ويتطلبها حسن أدائه، فإنه يتعين الآخذ في إجراءات العمل بالضروري اللازم لسلامة التنفيذ؛ فالإجراءات وسيلة وليست في ذاتها غاية، ولا شك في أن المبالغة في إجراءات العمل وخطوات إنجازه دون مقتضًى إنما هو انحراف عن القصد والاعتدال؛ الذي ينشده الإسلام في الدعوة إلى السلوك السوي، وهذه هي البيروقراطية التي حاربها الإسلام؛ والبيروقراطية تتمثل في الإجراءات الطويلة للعمل، وخطواته، ولذلك: الإسلام اعتبر هذه البيروقراطية انحرافًا عن القصد والاعتدال الذي ينشده الإسلام في الدعوة إلى السلوك السوي. هذا فضلًا عن أن الإسراف في اتخاذ الإجراءات لون من الإسراف المحظور في الإسلام، كما يعرض المسرفين في إسرافها لغضب وسخط الله -سبحانه وتعالى- إذ تقول الآية الكريمة: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام: من الآية: 141) والإسلام لا يأخذ بالشكليات والإجرائيات إلا بالقدر الضروري الذي تفرضه سلامة المعاملات؛ فإذا انتفى ذلك تعين استبعادها؛ تيسيرًا للتعامل وسرعته، وتؤكد آية المداينة هذا المعنى، إذ تشترط الكتابة في التعامل الآجلي؛ حفاظًا لحقوق المتعاملين؛ أما في التعامل الحاضر فلا تسريب في التحلل منها؛ إذ يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة: من الآية: 282) إلى قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}. ومعنى ذلك: أن الإجراءات أو الشكليات التي تسبق المعاملات الإسلام يقتصر فيها إلى أبعد الحدود؛ لأن الزيادة فيها إنما تؤدي إلى البيروقراطية التي تعاني منها الإدارات الحديثة في شتى الدول؛
ولذلك هذه الآية الكريمة -آية المداينة- تبين لنا أن إجراء الشهادة على الدين إنما يكون ذلك بالنسبة للدين المؤجل؛ أما إذا كانت التجارة حاضرة وليس هناك دين فليس هناك ما يدعو إلى هذا الإشهاد؛ وهذا دليل على أن الإسلام لا يريد ولا يرغب في المبالغة في إجراءات العمل، وخطوات إنتاجه، ولا بالشكليات والإجراءات التي لا لزوم لها. وعليه: فالإسلام يحارب الإسراف في استخدام المكاتبات الورقية في المعاملات؛ وهي تمثل أسوأ أمراض الإدارة، التي تعكس النزوع إلى التعقيدات المكتبية، سمة بَيروقراطية السائدة في الدول النامية، نجد الإسلام يدعو إلى تيسير العمل وتبسيطه، ويستنكر التشدد والتنطع في العمل، وهو ما يستفاد من حديث رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الدين يسر، ولن يُشادَّ أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة، وشيء من الدلجة)) إذ يدعو -صلوات الله وسلامه عليه- إلى القصد والاعتدال في العبادة في غير تشدد، أو إهمال، ولا شك أن الأعمال كلها إنما هي تدخل ضمن العبادات. وطبقًا للمفهوم الشامل للعبادة -الذي انتهينا إليه آنفًا- تعتبر خدمات الجماهير من قبيل العبادة الواجب عقيدة، تحديد إجراءات أدائها بما لا يؤدي إلى إنعات أو إرهاق لطالبيها؛ ولا يخل بسلامة وجودة إنجازها، أي: دون إفراط، أو تفريط. ويرتبط بإتقان العمل وتبسيطه أن يكون مقدورًا؛ إعمالًا لقاعدة الإسلام الإنسانية: لا تكليف إلا بمقدور، وفي ذلك يقول ربنا -سبحانه وتعالى- {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية: 233) وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية:286) وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (البقرة: من الآية: 286) فلا إرهاق يضر العامل بدنيًّا، أو ذِهنيًّا.
طبيعة تكوين المنظمة.
ونخلص مما تقدم أن الإسلام يشترط في العمل السوي -فكريًّا- أن يكون سمة تحديد للهدف أو الأهداف التي يتوخاها؛ والإعداد السابق- أي: التخطيط له- ويتعين سلوكيًّا أن يكون الأداء متقنًا، ومبسطًا، ومقدورًا. طبيعة تكوين المنظمة ثم نتحدث الآن عن موضوع آخر وهو: طبيعة تكوين المنظمة: ونقصد بالمنظمة: المجموعة التي تقوم بعمل معين، كأُناس موجودون في مصنع معين، فمجموع هؤلاء الناس يطلق عليهم في القوانين الإدارية وفي الإدارة العامة: المنظمة؛ فالمنظمة تشكيل يمارس فيه ومن خلاله النشاط البشري الجماعي موضوع التنظيم الإداري؛ وتعكس المنظمة -من حيث طبيعة تكوينها- اتجاهي الفكر الإداري المعاصر، وقد عرضنا -آنفًا- لمفاهيم اتجاه الفكر الإداري في هذا الصدد. ونشير فيما يلي إلى توجيهات الفكر الإداري الإسلامي السوي في تكوين المنظمة؛ يعني: كيف تنظم هذه المجموعة التي تقوم بعمل معين في مصنع معين أو في شركة معينة مجموع هؤلاء الأفراد؛ الذين يعملون في هذا المكان، أو في هذا المصنع، أو في هذه الشركة يطلق عليها -كما قلنا- في العرف الإداري: منظمة؛ الإسلام وضع توجيهات لهذه المنظمة، وكيف يتم العمل فيها. فأول شيء دعا إليه هو: التدرج الرئاسي، لقد قام الإسلام بتكوين المنظمة كتنظيم جماعي أيًّا كان شكلها، ومجال نشاطها، على أساس التدرج الرئاسي محور التنظيم الهيكلي، وتحقيقًا لصالح المنظمة وأفرادها، وابتغاء بلوغ أهداف مشتركة،
ويعتبر الإسلام هذا التدرج الرئاسي اختبارًا لنا -رؤساء كنا أم مرءوسين- إذ يكشف عن مدى استخدامه في إصدار أوامر ملزمة، تحقق صالح الجماعة وأعضائها معًا، وإطاعة المرءوسين لهم بالتزام هذه الأوامر والعمل بمقتضاها، وهذا تنظيم فطري، يتوخى مصالح الجماعة والأفراد على السواء؛ إذ يشبع حاجات الأفراد عن طريق النشاطات البشرية الجماعية، التي يحكم تنظيمها ويحكمه هذا التدرج الرئاسي؛ ولذا يقول -سبحانه وتعالى-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (الأنعام: من الآية: 165) كما يقول -تبارك وتعالى-: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (الزخرف: من الآية: 32)، هذه الآيات تدل على التدرج. ولكن إذا كانت فطرة الله تقضي برفع بعض الناس فوق بعض درجات -أي: في تدرج رئاسي- فهل يعني هذا التدرج أن هناك طبقات اجتماعية متميزة وممتازة؟ وهو ما يتنافى مع مبدأ المساواة الإسلامي الإنساني، الواقع أن هذا التدرج الرئاسي لا يستند إلى وضع طبقي تسلطي في المجتمع؛ بل يستند إلى العمل، وهو وحده مصدر القيمة الإنسانية -كما قلنا قبل ذلك- وإذ يتفاوت الأفراد -وهو أمر طبيعي- في المدارك والقدرات والقابليات، فإنهم سيتفاوتون بالتالي في مستويات العمل وأدائه؛ فالتدرج الرئاسي هنا يستند إلى تدرج الأعمال وتفاوتها، وهو ما بينه الله -تبارك تعالى- بقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) وقوله -سبحانه وتعالى-: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الأحقاف: 19). ولكن ما هو أساس تفاوتهم في أعمالهم؟ وبالتالي تدرجهم حسب هذه الأعمال؟
يوضح القرآن الحكيم ذلك بأن مرجعه: التفاوت في المعرفة، والخبرة، ومصدرها العلم؛ ولذا يقول -تبارك وتعالى-: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76) كما يقول -سبحانه وتعالى-: {يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: 11) وإذ يعتبر العمل وسيلة الكسب في الإسلام، فإن الأفراد سوف يتفاضلون تبعًا لتدرج أعمالهم في الأرزاق والدخول؛ من أجور وأرباح، ولذا يقول سبحانه في هذا الصدد: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (النحل: من الآية: 71) وعليه نخلص إلى التوجيهات في مجال الفكر الإداري: 1 - أن التكوين الفطري للجماعة -أيًّا كان شكلها وطابع نشطها، الذي يضمن استمرار وجودها بما يحقق أهدافها، وإشباع حاجات أعضائها- قوامه وأساسه التدرج الرئاسي بين أفرادها، باعتباره محور تنظيم هيكلها، وتتحدد في ضوئه وحدة القيادة والتوجيه. 2 - أن أساس التدرج الرئاسي في المنظمات هو تدرج الأعمال -أي: الوظائف والحرف- ويتطلب تحقيق هذا التدرج في الأعمال في كل جماعة دراسة شتى الأعمال فيها؛ وتحليل كل منها إلى ما ينطوي عليه من واجبات ومسئوليات، وتوصيفه في ضوء ذلك تحديد المعرفة النظرية والعملية الواجب توافرها، فيمن يمارس كل عمل من هذه الأعمال، ولما كان العمل في الإسلام وسيلة الكسب ومصدر الدخل الرسمي؛ فإن الأجور والمرتبات تُقسم إلى شرائح تقوم بمقتضاها الأعمال وتُدرج، بحيث يرتبط الأجر
تابع طبيعة تكوين المنظمة.
أو المرتب بالعمل وجودًا وعدمًا، ومستوًى ومقدارًا؛ تنفيذًا لقوله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30) وقوله -سبحانه وتعالى-: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) إنها قاعدة الأجر المساوي للعمل التي يأخذ بها الفكر الإداري الغربي المعاصر؛ وتنبثق عنها نظرياته المختلفة في ربط الأجر بالإنتاج. وما دام التدرج في الأعمال يستند إلى التفاوت في العلم بأوسع معاني كلمة العلم -أي: مطلق المعرفة- سواء كانت نظرية أو عملية، والتي تتفاوت في أنواعها ومُددها، فإنه يتعين توفير فرص العمل للجميع حسب القدرات والملكات الذاتية، سواء في المدارس، والمعاهد، أو مراكز وبرامج التدريب، على اختلاف مراحلها، وتخصصاتها، وأسلوبها. ونكتفي بهذا القدر من المحاضرة، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - توجيهات الفكر الإسلامي (2) تابع طبيعة تكوين المنظمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد. فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن طبيعة تكوين المنظمة، أو الجماعة التي تقوم بعمل ما. وتبين لنا أن من توجيهات الفكر الإداري الإسلامي للمنظمة، وأن يكون هناك تدرج رئاسي بين أفراد هذه المنظمة؛ حتى يتم العمل على أكمل وجه. ونواصل الحديث الآن عن توجيه آخر لهذه المنظمة وهو: السلطة والمسئولية: فنقول: يرتبط بالتدرج الرئاسي تحديد مدى السلطة والمسئولية في مختلف مستويات هذا التدرج؛ وعلى امتداد ما يعرف في الإدارة بـ"خط السلطة" وتعني السلطة: مُكنة، وقدرة، اتخاذ القرار أو التصرف النهائي أي: الملزم للآخرين الذين يتعين عليهم تنفيذه؛ والعمل بموجبه، إطاعة لمصدره، وأصحاب السلطة هم أولي الأمر، الذين أوجب القرآن الكريم إطاعتهم؛ تبعًا لإطاعة الله، وإطاعة رسوله، إذ يقول -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: من الآية: 59). وهو ما رددته السنة النبوية الشريفة على سبيل التأكيد، مهدرة كل تمييز عنصري، أو عِرقي، أو طبقي، قد يحتج به لتعطيل هذا الأمر الواجب، إذ يقول
الرسول الكريم: ((اسمعوا، وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه ذبيبة)) إنها المساواة في أسمى صورها الإنسانية، ولم يستخدم الإسلام في هذا الصدد لفظ السلطة؛ تجنبًا لما قد يوحي به من نزعة التحكم والتسلط، التي أخذت على الفكر الإداري العلمي، وحاول الفكر الإداري الإنساني التخفيف من وقعها السيئ. وحسب الإسلام في هذا الخصوص أنه أمر -حرصًا على انتظام الجماعة وانضباط أعضائها، حفاظًا على كيانها- بإطاعة أولي الأمر في الجماعة، وهم أصحاب السلطة المخولون صلاحية اتخاذ قرارات وتصرفات ملزمة؛ وتقترن السلطة في الإدارة بالمسئولية أي: المحاسبة على ممارستها، فلا توجد إحداهما دون الأخرى أي: أن السلطة مسئولة فلا بد من المسئولية، ليس هناك سلطة بدون مسئولية. والإسلام يأخذ بالعمل المسئول، والمسئولية هنا شخصية، فكل شخص محاسب على ما جنته يداه، ولا تتعدى مسئوليته إلى سواه، وهو ما بينته الآيات الكريمة إذ يقول -سبحانه وتعالى-: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل: من الآية: 93) ويقول تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور: من الآية: 21) ويقول -تبارك وتعالى-: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} (المدثر: 38) ويقول -تبارك وتعالى-: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: من الآية: 164) ويقول -تبارك وتعالى-: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 25). والمسئولية في الإسلام لا تقتصر على النشاط البدني، بل تشمل أيضًا النشاط الذهني فيقول -جل جلاله-: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: من الآية: 36) فالإنسان مسئول فكرًا وسلوكًا.
ويربط الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بين السلطة والمسئولية على نحو إنساني اجتماعي، وحيث تأخذ السلطة مفهومها الفطري السليم الذي عرفته البشرية ابتداء في خلية المجتمع الأولى وهي الأسرة؛ إنها رعاية شئون الآخرين وخدمتهم، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: ((ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، والخادم راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ((ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) إنها أسمى توجيهات الفكر الإسلامي في حقل الإدارة، والتي يتضاءل أمامها أي فكر آخر، مهما أضفينا عليه وعلى رواده من قداسة علمية. ثم نتحدث الآن عن الترابط الاجتماعي بين أفراد هذه المنظمة: فنقول: يدعو الإسلام إلى الترابط الأخوي بين أعضاء الجماعة؛ إنماءً لوحدة الشعور بينهم، وفي ذلك يقول -سبحانه وتعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10) ويذكر المسلمين بنعمة التآلف فيقول -تبارك وتعالى-: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: من الآية: 103) ويأمرنا -جل وعلا- بوحدة الصف، وينهى عن الفرقة فيقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: من الآية: 103) ويحذرنا -سبحانه وتعالى- من سوء مغبة التنازع فيقول -تبارك وتعالى-: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: من الآية: 46) ويشير سبحانه إلى أنه ليس من العقل تدابر الجماعة، واختلاف أعضائها فيقول: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} (الحشر: من الآية: 14).
وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة مبينة مظاهر هذا التماسك الاجتماعي وأساليبه؛ إذ يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) ويقول أيضًا: ((المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه، التقوى ها هنا -وأشار إلى قلبه- بحسب امرئ من الشر أن يحقِّر أخاه المسلم)) هكذا يبين لنا النبي -صلى الله عليه وسلم. ويشبه -صلوات الله وسلامه عليه- هذا التماسك الاجتماعي وقوته بالجسد تارة، وبالبنيان تارة أخرى، فيقول: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) كما يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا -وشبك بين أصابعه-)). ويعتبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الخروج على الجماعة ومفارقتها رِدة جاهلية؛ فيقول: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية)) كما يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى من أميره شيء يكرهه فليصبرْ، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية)). وأيضًا من الأمور أو التوجيهات التي وضعها الإسلام لأعضاء هذه المنظمة أو الجماعة التي تقوم بعمل معين هو: تبادل المشورة بين أفراد هذه الجماعة؛ فالإسلام لا يقتصر في الدعوة إلى التماسك الاجتماعي على الجانب السلوكي فقط، بل يمتد إلى الجانب الفكري، وذلك بدعوته أعضاء الجماعة إلى تبادل المشورة فيما بينهم، فيقول جل جلاله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} (الشورى: من الآية: 38) كما
يقول -سبحانه وتعالى- في أخطر شئون الأسرة وهو فصل رابطة الزوجية: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: من الآية: 223) وهو ما يحقق الترابط الفكري في العلاقات الأفقية بين أعضاء الجماعة بعضهم وبعض، وبينهم وبين أعضاء الجماعات الأخرى في سائر ما يمسهم من شئون. ويحقق الإسلام هذا الترابط الفكري في العلاقات الرأسية أيضًا، إذ يأمر بتبادل المشورة بين الرؤساء والمرءوسين في مختلف مستويات التدرج الرئاسي بالجماعة -أي: المنظمة- إذ يقول سبحانه مخاطبًا رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- وكتوجيه عام لسائر القيادات والرئاسات: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} (آل عمران: من الآية: 159). فالإسلام لو أنه بَنى الإسلام المجتمعات في إدارتها وتنظيم شئونها، مع تعيين مصدر القوامة فيها بنى هذه المجتمعات على أساس من الشورى، وتبادل الرأي، يشاور الرئيس المرءوس، والحاكم المحكوم، ويكون العزم في الفعل على ما يتم على طريق المشورة؛ قرر الإسلام هذا، وجعله شأنًا من شئون المسلمين في مجتمعاتهم، والواقع أن تبادل المشورة بين مختلف العاملين في المنظمة لا يُدعم جماعية الفكر والتفاهم المشترك بينهم فحسب؛ بل ينمي شخصية كل فرد، ويرفع معنوياته، ويزكي شعوره بالانتماء والولاء للمنظمة، إذ يشارك بالرأي فيما يجد من شئونها. ويأمرنا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بإبداء الرأي عند طلبه، وأن يكون ذلك بأمانة، وفي ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((المستشار مؤتمن)). وهكذا يضع لنا الإسلام دعائم التكوين الهيكلي للمنظمة، ويرشدنا إلى الأساليب الفعالة؛ لتحقيق تماسك أفراد الجماعة سلوكيًّا وفكريًّا، في نهج منضبط سوي، لم يرق إليه الفكر الإداري المعاصر في اتجاهيه العلمي والإنساني المتطرفين.
الرقابة ومتابعة الإنجاز.
الرقابة ومتابعة الإنجاز ومن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي أيضًا: توجيهاته في مجال الرقابة ومتابعة الإنجاز. فقد حرص الإسلام على وضع توجيهات تكفل الرقابة الذاتية والمتابعة الواعية للسلوك البشري؛ والتي تنبثق عن حاجات الجماعة إلى الحفاظ على سلامة كيانها؛ لضمان استمرارها في نموٍ وتقدم، محققة لأهدافها في إشباع الحاجات الجماعية والفردية على السواء؛ وذلك على نحو ما سنبينه في عرضنا الموجز لبعض هذه التوجيهات -أي: توجيهات الفكر الإداري الإسلامي- فيما يتصل بالرقابة ومتابعة الإنجاز: أولًا: الرقابة الذاتية: سبقت الإشارة إلى أن النهج السوي للإسلام اقتضى أن يكون دِينًا ودنيًا؛ وهو ما استتبع أن يكون للعبادة فيه مفهوم شامل متكامل، إذ تعني: اتباع أوامر الله، وتجنب نواهيه في سائر شئون الدنيا والدين، كما نص على ذلك القرآن الحكيم، وبينته سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- باعتبارهما مصادرا مشرعة، تضع لنا ضوابط السلوك، والفكر الإسلامي القويم، وإذ تستهدف هذه الضوابط خير البشرية في شئون الدنيا والدين؛ لذا حرص الإسلام على التزام المسلمين بهذه الضوابط، عن طريق نوع من الرقابة الذاتية قوامها: التناصح فيما بينهم، بالائتمار بالمعروف، والتناهي عن المنكر، وبذلك يحققون مجتمعًا فاضلًا، ويكونون بالتالي خيرَ أمة أخرجت للناس.
وتؤكد آيات القرآن المجيد هذه المعاني السامية فيقول -سبحانه وتعالى-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} (التوبة: من الآية: 71) كما يقول -سبحانه وتعالى-: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) ويقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية: 110). ويبين لنا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أهمية النصيحة كأساس تقوم عليه هذه الرقابة الذاتية؛ فيقول: ((الدين النصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)) ويحذر المولى -سبحانه وتعالى- من سوء عاقبة ترك المنكر يستشري دون نهي عنه؛ فيقول تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: الآيتان: 78، 79) كما يوضح -صلوات الله وسلامه عليه- أساليب النهي عن المنكر، وتغييره، ويجعلها حسب الاستطاعة، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) إن هذه الرقابة الذاتية هي أداة التغيير السلوكي الذي يؤمن به الإسلام؛ لتطوير المجتمع، إذ يقول -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: من الآية: 11). وقد كانت هذه الرقابة قوام نظام الحسبة الذي عرفته الإدارة العامة في الدولة الإسلامية، ويحقق الأخذ بهذه الرقابة على مستوى المنظمة والمشروع: الإصلاح الإداري المنشود تلقائيًّا، كما يحقق الأخذ بها على مستوى الدولة ما تستهدفه من تطوير اجتماعي.
ومما يتصل بالرقابة ومتابعة الإنجاز: متابعة الإنجاز أيضًا، إذ يقر الإسلام مبدأ: مسئولية الشخص عن أعماله في الحياة الدنيا، وهي مسئولية تجد أساسها العقائدي في الإيمان بيوم الحساب؛ يوم يحاسب الله البشر على أعمالهم، ويجازيهم عنها: إما بثواب الجنة، أو بعقاب النار، فهو سبحانه المحيط، والبصير، والخبير بأعمالهم، والرقيب عليهم، وهو ما يؤكده العديد من آي الذكر الحكيم، نذكر منها قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} (النساء: من الآية: 108) ويقول تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (آل عمران: من الآية: 156) ويقول -تبارك وتعالى-: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} (البقرة: من الآية: 234) ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا} (النساء: من الآية: 1). وفي ضوء هذه المتابعة الإلهية لسائر أعمال البشر، يوجهنا الله سبحانه إلى إجراء متابعة إنجاز من هذا القبيل بمعرفتنا دُنيويًّا؛ وهو ما يشير إليه صراحة قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: من الآية: 105) كما يشير إليه ضمنًا قوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: من الآيتان: 39، 40). ونخلص في ضوء ما تقدم من توجيهات إلى أنه ما دام عمل الإنسان وسعيه في هذه الحياة هو مصدر قيمته ومناط مسئوليته؛ فإنه يتعين رؤية هذا العمل بواسطة الآخرين، باتباع وسائل متابعته المختلفة، سواء عن طريق الإشراف وما يتطلبه من مهارات قيادية، أو تقييم الإنجاز بموجب تقارير نشاط دورية، وممارسة التفتيش والرقابة على اختلاف أنواعها وأجهزتها، فلا بد من أساليب متابعة نشطة؛ تحصي على العامل نشاطه، وتتابع سعيه لتقييمه أولًا بأول، في ضوء معدلات دقيقة ومعروفة، ووفق ضوابط ومعايير محددة للتكاليف والأداء.
ومما يتصل أيضًا بالرقابة ومتابعة الإنجاز: وضع الضوابط والمعايير، إذ يدعوا الإسلام -كما سبقت الإشارة- إلى التزام الفكر، والسلوك السوي القويم، الذي لا يعرف إفراطًا، أو تفريطًا، ولا انحرافًا، أو تطرفًا، مما يقتضي تنظيم وتقنين النشاطات البشرية، وفق ضوابط معينة، ومعايير محددة معلومة، يلتزمها الأفراد، وتجري مساءلتهم على مقتضاها؛ ولذلك يتعين وضع ضوابط ومعايير إنجاز توزن الأعمال، ويقوم العاملون على أساسها بموجب تقارير نشاط، وهو ما تستند إليه الرقابة والمتابعة وفق أحدث أصولها العلمية، وأساليبها الفنية. ولنا في توجيهات القرآن الحكيم خير مرشد في هذا الصدد؛ فالله خلق الكون، وأبدع صنعه، وأحكم تسييره، وفق ضوابط دقيقة قدرها، إذ يقول سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) ويقول تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: من الآية: 2) ويقول تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا} (الطلاق: من الآية: 3) ويقول تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: 21) ويقول -تبارك وتعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس: 5) ويقول -تبارك وتعالى-: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 39، 40). فالله سبحانه يرشدنًا في الآيات السابقة إلى أنه جرى في خلقه للكون وتسييره له وفق معايير محددة؛ وضوابط معينة، قدرها، وقررها، ومن ثَمَّ كان خليق بنا في ضوء هذا التوجيه الإلهي أن نسير في فكرنا وسلوكنا على نحو رشيد، وفق أصول وضوابط، يهدي إليها العقل السليم.
كما يضع تبارك وتعالى -وهو العليم بطبائع البشر، الخبير بأعمالهم- المقاييس الحق، والموازين القسط لأعمال الناس، يحاسبهم على مقتضاها يوم القيامة إن ثوابًا أو عقابًا؛ وفي هذا يقول جلت قدرته، وسمت حكمته: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: الآية: 47) {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} (الأعراف: 8، 9). وعلى ضوء هذا الهدي القرآني في وضع موازين العمل، يتعين علينا أن نضع معدلات للأداء، ومقاييس للأعمال في حياتنا الدنيا؛ لكي تكون مساءلتنا عنها ومحاسبتنا عليها موضوعية ودقيقة، وإحكامًا للرقابة والمسئولية ينبغي أن تحصى الأعمال وتسجل الإنجازات بدقة أولًا بأول؛ فتدون في تقارير وصحائف منشورة؛ ولذا يقول الحق -تبارك وتعالى-: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء:13، 14) كما يقول -سبحانه وتعالى-: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49). هذه هي المقومات الإسلامية الأساسية التي ينبغي مراعاتها في وضع وتطبيق أفضل نظم الرقابة والمتابعة؛ والذي يسعى الفكر الإداري المعاصر إلى بلوغها، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يراقب ولاته وعماله، فقد اشتكى وفد عبد القيس لعلَّاء بن الحضرمي والي النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم، وبعد أن استمع إليهم، وتحقق من صحة
العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي.
شكواهم، عزل العلاء، وولى عليهم أبان بن سعيد، وزوده بوصيته قائلًا: ((استوصي بعبد القيس خيرًا)) واستعمل مرة رجلًا على الصدقات، فلما رجع حاسبه فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إليّ، فقال النبي: ((ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليّ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فنظر أيُهدَى إليه أم لا؟ ثم قال: من استعملناه على عمل، ورزقناه رزقًا، فما أَخذ بعد ذلك فهو غلول)). ومن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي أيضًا: ما يتصل بإدارة الأفراد، ونشير هنا إلى بعض توجيهات الفكر الإسلامي في مجال إدارة الأفراد وهي تعكس قيمًا إنسانية سامية، استهدفها الإسلام تكريمًا لآدمية الإنسان، وفق منهجه السلوكي السوي. العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي نتحدث عن العلاقات الإنسانية والعمل: الإسلام دين الفضيلة، ودعوة الأخلاق الكريمة، وقد أشاد -سبحانه وتعالى- بأخلاق رسوله الكريم إذ يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} (القلم: 4) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) وحسبنا أن نورد جانبًا من توجيهات الإسلام في هذا الصدد، والتي تؤكد السلوك الإداري السوي، سواء في مجال العلاقات الإنسانية، أو العلاقات العامة: أولًا: العلاقات الإنسانية: ونعرض فيما يلي أهم الصفات الذاتية للأفراد، والتي تشكل أسمى أخلاقيات سلوكهم الاجتماعي في كافة صور النشاطات البشرية الجماعية: الأمانة، والعدالة،
من أولى الأمور التي نتحدث عنها فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية هي: الأمانة والعدالة؛ فالأفراد أمناء على ما يعهد إليهم بمباشرته من أعمال -أي: وظائف وحرف- فالموظف مؤتمن على مصالح الجمهور الذي يتعامل معه؛ مؤتمن على ما تحت يده من أموال، وما في عهدته من من أصناف السلع والمواد؛ مؤتمن على صحة ما يعرضه من بيانات ومعلومات وأراء على الرؤساء؛ مؤتمن على مرءوسيه بإسداء النصح والتوجيه السديد إليهم، وتعهدهم بما يلزمهم من مران وتدريب، وتوخي العدالة في معاملتهم، وفي تقييمهم، وتقويمهم. والعامل مؤتمن على الآلة التي يديرها، وعلى الأدوات والخامات التي يستخدمها؛ لذلك تشدد الإسلام في الأمر بأداء الأمانة، وتوخي العدالة، إذ يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء: 58) ويصف الله المؤمنين فيقول- سبحانه وتعالى-: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون: 8) ويقول -تبارك وتعالى-: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} (القصص: من الآية: 26). أما الهدي النبوي في هذا الصدد فيتمثل في قول الإمام علي: ((كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقبل علينا رجل من أهل العالية -والعالية: اسم مكان- فقال: أخبرني يا محمد، عن أشد شيء في هذا الدين وألينه، فقال: يا أخا العالية، ألين شيء في هذا الدين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأشده يا أخا العالية: الأمانة، ألا إنه لا دين لمن لا أمانة له، وإن صام وصلى)) والغش بكافة صوره وأنواعه يتنافى مع الأمانة كإخفاء عيوب المعروضات، وإظهار محاسنها، وقد مر النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع الطعام، فأعجبه ظاهره، فأدخل يده فيه، فوجد فيه بللًا فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته
السماء يا رسول الله -أي: نزل عليه المطر- فقال -صلى الله عليه وسلم-: فهل أبقيته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: من غشنا فليس منا)). كما يأمرنا الله -سبحانه وتعالى- في الآية الأسبق بالعدل في الحكم بين الناس؛ وهو ما يقتضي توخي العدالة في تصرفاتنا، وسائر معاملاتنا مع الآخرين، وفي إيصال الحقوق إلى ذويها، فلا محاباة تحركها قربى، ولا انتقام يثيره غضب؛ ولذا يقول ربنا -سبحانه وتعالى-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: الآية: 152) كما يقول- تبارك وتعالى-: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: من الآية: 8) وروي عن الرسول الكريم قوله: ((ما من أمير عشرة إلا يُؤتى به يوم القيامة مغلولًا لا يفكه إلا العدل)). ويحذرنا جل جلاله من إيثار اتباع الهوى على توخي العدالة، أيًّا كانت الصلات والاعتبارات، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: الآية: 135) ويقول البعض في تفسير هذه الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا كونوا مواظبين على العدل، مجتهدين في إقامته، تؤدون شهادتكم لوجه الله، ولو على أنفسكم، أو والديكم، أو أقاربكم، وإن يكن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا فلا تمتنعوا عن أداء الشهادة؛ ميلًا إليه لغناه، ولا رحمة به لفقره؛ فالله أولى بالنظر إلى حال الغني والفقير منكم، فلا تتعبوا أهواءكم؛ كراهة أن تعدلوا، وأن تلووا بألسنتكم لإخفاء معالم الحق أو تمتنعوا عن إقامة الشهادة فإن الله خبيرًا بما تعملون؛ يجازيكم عليه بما أنتم أهله.
ويقتضي التزام العدل في المعاملات: الوفاء في الكيل والميزان، وهو ما يأمرنا به في قوله -سبحانه وتعالى-: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (الإسراء: 35) وينذر المطففين بالويل والثبور، إذ يقول -سبحانه وتعالى-: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 1 - 3). وهكذا يدعونا الإسلام إلى التزام جانب العدل في سائر تصرفاتنا قولًا وفعلًا؛ وفي كل الأحوال أيًّا كانت الاعتبارات والظروف، وهو ما يضمن الحياد والموضوعية في أقوالنا وأفعالنا، ويجردها من النزوع إلى المحاباة أو الانتقام. ومما يتصل بالعلاقات الإنسانية في مجال العمل: التعاون والرحمة، فالعامل مطالب بتحقيق التعاون في سائر علاقاته بالمحيطين به، سواء في داخل الجماعة أو خارجها، من زملاء، ورؤساء، ومرءوسين، أو جمهور يتعامل معه، وذلك ابتغاء تحقيق الصالح، والخير المشترك للجماعة وأعضائها، وهو ما أمرنا به الإسلام، إذ يقول- سبحانه وتعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: من الآية: 2). ويقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: ((من نفسّ عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفسّ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة؛ ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة؛ ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)) كما يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه، ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرم -يعني: لم يقض هذه الحاجات- فقد عرّض تلك النعمة للزوال))
ويسمو هذا التعاون في الإسلام محققًا التكافل الاجتماعي في أجلى صوره الإنسانية؛ والتي لم يرق إليها الفكر البشري بعد في أي من مذاهبه الاجتماعية؛ عندما يأمر من عنده فائض أو وفرة في أي شيء بالمبادرة إلى تلبية حاجة الآخرين منه؛ إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان عنده فضل ظهر -أي: دابة- فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)). ويرتبط التعاون بالرحمة، بل ويستند إليها وهي أساس رسالة الإسلام، إذ يخاطب المولى -سبحانه وتعالى- رسولنا -عليه أفضل الصلاة والسلام- فيقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} (الأنبياء: من الآية: 107) ويصف الحق -تبارك وتعالى- نفسه بأنه الرحمن الرحيم، ويقول جل جلاله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} (الأعراف: من الآية: 156). ويقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) كما يقول: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) ويسبغ التعاون والرحمة سلوك الفرد بطابع إنساني يتسم بالرفق، سواء مع الإنسان أو مع الحيوان، فهما -أي: التعاون والرحمة- من أسمى القيم الإنسانية في الإسلام التي تحقق ترابطًا اجتماعيًّا فعالًا؛ وعلاقات عمل بناءة. ومما يتصل بالعلاقات الإنسانية في مجال العمل والتي وجهها الفكر الإداري الإسلامي: القصد والاعتدال: إذ يقتضي السلوك السوي الذي يدعو إليه الإسلام القصد والاتزان في العمل والانضباط؛ والرشد في التصرف، فلا تهاون، أو تعنت، ولا تقطير، أو إسراف، ولا سلبية أو جمود، ولا انطلاق بلا ضوابط أو حدود. وقد وضع لنا القرآن الكريم القاعدة السليمة في هذا الصدد، حين يصف سبحانه المؤمنين فيقول: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ
ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67) كما يقول -تبارك وتعالى-: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} الإسراء الآية: 29) ولا شك أن هذه القاعدة الرشيدة تتنافى مع الإسراف الذي يؤدي إلى كثرة الفاقد، والضائع من المال، والجهد، والوقت، والمواد، وكذا المبالغة في استخدام الإجراءات والمكاتبات دون مقتض، وتجاوز الاعتمادات المالية، وعدم القصد في استخدام المقصود منها؛ ولذلك نهى القرآن الكريم أكثر من آية عن الإسراف، إذ يقول سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: من الآية: 21)، كما ينهانا عن الاستجابة لأمر المسرفين، فيقول -تبارك وتعالى-: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} (الشعراء:151، 152). ومن توجيهات الهدي النبوي في ذلك: قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ((كل، واشرب، والبس، وتصدق في غير سرف، ولا مخيلة)) إن التزام القصد والاعتدال فكرًا وسلوكًا يؤدي إلى اتخاذ القرار الرشيد، والتصرف السديد في مختلف المواقف والظروف المتطورة، التي تواجه الفرد في سائر نشاطاته. ومن الأمور أيضًا التي رعاها الإسلام في العلاقات الإنسانية بين الذين يعملون في عمل مشترك: الصدق والإخلاص: ويعني الصدق: التزام الحقيقة وتحريها في القول والفعل، وهو ما يؤدي إلى صحة البيانات، ودقة ما يقدم من المعلومات والتقارير في شتى الشئون، ومن ثَمَّ تكون خطتنا ونشاطاتنا على أسس واقعية سليمة؛ ولذا أشاد القرآن الكريم بالصدق والصادقين، فيقول في شأن أنبيائه- صلوات الله وسلامه عليهم-: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ
مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (مريم: 50) كما يقول -تبارك وتعالى-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (مريم: 54) ويأمر سبحانه المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) والكذب يتنافى مع الإيمان إذ يقول الحق -تبارك وتعالى-: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النحل: 105). وأيضًا يتنافى النفاق مع الصدق، وقد بشّر الله الصادقين بثوابه، وأنذر المنافقين بعذابه، إذ يقول سبحانه: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 24) وعدد الرسول الكريم خصال المنافق فقال: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) كما روي عنه -صلوات الله وسلامه عليه- أنه قال للحسن بن علي -رضي الله عنهما-: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الكذب ريبة، والصدق طُمأنينة)). وينبغي ألا نخشى قول الحق إظهارًا للحقيقة، إذ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه)). كما يتنافى مع الصدق اختلاف الأقوال عن الأفعال؛ ولذا يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3) وهو أمر له أهميته البالغة، خاصة في بيانات ومعلومات تقارير الإنجاز فيما يتصل بالعمل،
وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة.
ويرتبط الإخلاص بالصدق، وهو ما يقتضي أن تتوخى الأعمال والأقوال غاياتها المشروعة، فلا يشوبها انحراف عنها، هذه الغايات التي مناطها في الإسلام الخير، إذ أمرنا بالتسابق في تحقيقه؛ ولذا يقول -سبحانه وتعالى-: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (البقرة: من الآية: 148) وهو ما له خطورته في ممارسة السلطات والصلاحيات بدون انحرافات. ويأمرنا القرآن الحكيم بالإخلاص في عبادة الله، فيقول سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (الزمر: 2) ويقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: 5). هذه هي العلاقات الإنسانية بين أفراد الجماعة الذين يقومون بعمل معين. نكتفي بهذا القدر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - توجيهات الفكر الإسلامي (3)، ومقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرات السابقة عن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي، وبينا أن من ضمن هذه التوجيهات بيان أن العمل فريضة عامة، وأن للعمل خصائص معينة ينبغي الاهتمام بها، وكيفية تكوين المنظمة أي: الجماعة التي تقوم بعمل معين، ووجود الرقابة ومتابعة الإنجاز، والاهتمام بالعلاقات الإنسانية. ونواصل في هذه المحاضرة الحديث عن بقية هذه التوجيهات، فنقول: إن من ضمن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي، وجود علاقات عامة بين أفراد المنظمة أي: الجماعة التي تقوم بعمل معين، نقول -وبالله التوفيق-: تعني العلاقات العامة بتنمية تفاهم أفضل بين الجماعة أي: المنظمة وأفرادها العاملين فيها، وبين المواطنين المتعاملين معها المستفيدين من خدماتها في إشباع حاجاتهم الاجتماعية، والاقتصادية، وتتمثل وسائل العلاقات العامة في تنمية هذا التفاهم في استطلاع الرأي العام بين المتعاملين مع الجماعة، والمنتفعين بخدماتها، وإعلامهم بما تقدمه لهم من هذه الخدمات، وتوعيتهم بكيفية حصولهم عليها، والإفادة منها على أفضل وجه مع حسن المعاملة. وتقدم لنا في توجيهات الإسلام الأساس الأخلاقي السليم لتنمية هذه العلاقات، وتحقيق تفاهم مشترك أفضل بين أية جماعة والمتعاملين معها، فمبدأ الشورى
الإسلامي وسنده قول الحكيم -سبحانه وتعالى-: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} (الشورى: من الآية: 38) هذا المبدأ من شأنه تحقيق التفاهم المشترك لا بين أعضاء الجماعة فحسب، بل بين الجماعة وغيرها من جماعات وأفراد يتعاملون معها، ويفيدون من نشاطاتها وإنجازاتها. إن تطبيق مبدأ الشورى الإسلامي يقتضي استطلاع الرأي العام بين هؤلاء المتعاملين، للوقوف على احتياجاتهم الملحة، والفعلية ليتسنى إشباعها على خير وجه، وأفضله في ضوء اتجاهات الرأي العام بين عملائها، وجمهورها. وينبغي أن يتم استطلاع رأي جمهور المتعاملين مع الجماعة بشتى طرق الاستطلاع للرأي العام المعروفة، والمتاحة كالصحافة والاستقصاءات واشتراك المنتفعين بالمرفق في لجان استشارية. أما إعلان المواطنين بخدمات الجماعة أي: المنظمة، وتوعيتهم بأفضل طرق الحصول عليها، والإفادة منها فهذا ما يأمر به الإسلام في قول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83) أي: النصيحة لهم، وليس معناه مجرد التلطف بالقول والمجاملة في الخطاب، فالحسن إنما هو النافع في الدين أو الدنيا، كما يقول سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الإسراء: 53) ويصور الحق -تبارك وتعالى- مدى الأثر النافع الذي تحققه الكلمة الطيبة فيقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (إبراهيم: الآيات: 24 - 26).
التوظيف حسب الجدارة.
ويقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: ((الكلمة الطيبة صدقة، وأفضل الصدقة صدقة اللسان)) وليس أدعى إلى تحقيق تفاهم مشترك بين الجماعة والمتعاملين معها من حسن معاملة أعضائها لهم، وهو ما يحض عليه الإسلام حين دعا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى السماحة في معاملاتنا، والألفة في علاقاتنا بالآخرين، فيقول -صلوات الله وسلامه عليه-: ((رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا قضى وإذا اقتضى)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن ألف مألوف يألف ويؤلف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف)). إن قضاء حاجات الآخرين تفضل الاعتكاف للعبادة، إذ يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ((لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته، أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين)) ويبشر -صلى الله عليه وسلم- من يبادون بقضاء حوائج الآخرين فيقول: ((إن لله عبادًا اختصهم بقضاء حوائج الناس، حببهم إلى الخير، وحبب الخير إليهم إنهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة)) وينذر -صلى الله عليه وسلم- من يحتجب عن حاجة الناس بقوله: ((من ولاه الله من أمر المسلمين شيئًا، فاحتجب عن حاجتهم، احتجب الله عن حاجته يوم القيامة)). التوظيف حسب الجدارة ومن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي أن يكون التوظيف حسب الجدارة، ونقول في هذا الشأن: تقضي توجيهات الإسلام منذ قرون عدة بالتزام مبدأ الجدارة في شغل الوظائف، وبذلك يكون الإسلام قد سبق بذلك دول الغرب المتقدمة التي اهتدت إلى هذا المبدأ في القرن الماضي، بعد أن عانت طويلًا من شرور نظام المحاباة ومفاسده، وآثاره في إضعاف كفاية الخدمة المدنية، ويتمثل التزام مبدأ الجدارة في التوظيف في الإسلام في وجوب تولية الأصلح للوظيفة، والحرص على تنمية كفاية شاغلها وهو ما نعرض له في ضوء توجيهات الإسلام الرشيدة.
أولًا: تولية الأصلح: يدعو الإسلام إلى إسناد الأعمال أي: الوظائف والحرف إلى ذوي الكفاية والنزاهة عملًا بقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين} (القصص: من الآية: 26) والقوي هنا من تتوافر فيه القدرات البدنية والذهنية التي يتطلبها العمل بحسب طبيعته، ومتطلبات أدائه، على أن يراعى دائمًا تولية الأصلح، يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ((من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلًا، وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما رجل استعمل رجلًا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل، فقد غش الله وغش رسوله، وغش جماعة المسلمين)). فالقواعد القانونية المقررة في النظام الإسلامي في مجال تولية الوظيفة العامة، تركز على اتخاذ الصلاحية أساسًا لهذه التولية بحيث لا يجوز تولية من لا صلاحية لهم، أو ترك الأصلح وتقديم الأقل صلاحية، بمعنى أنه إذا ما وقع الاختيار على أحد الأفراد المشهود لهم بالكفاية، غير أن كفايته هذه تقل عن كفاية الآخرين، فإن الاختيار في هذه الحالة يكون قد خالف أصلًا تشريعيًّا في الإسلام. وقد أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفكرة الاختبار قل الاختيار، وذلك في إسناد منصب القضاء إلى معاذ بن جبل، وهو ما يكشف عنه حديثه صلوات الله وسلامه عليه مع معاذ عند مقابلته، إذ سأله: ((بم تقضي يا معاذ؟ فأجاب: أقضي بكتاب الله، فسأله فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنة رسول الله، فسأله فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ فأجاب أجتهد رأيي ولا آلو، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينئذ: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)).
ومن ناحية أخرى رفض الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- إسناد الوظيفة لمجرد طلبها أو محاباة لصاحبي جليل، ما دامت لا تتوافر فيه الكفاية اللازمة لشغلها، فعن أبي موسى قال: ((دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله -عز وجل- وقال الآخر مثل ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم- إنا والله لا نولي هذا العمل أحدًا يسأله أو أحدًا حرص عليه)) ويقال إن أبا ذر الغفاري، قال للرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((ألا تستعملني يا رسول الله -أي: تستعملني على عمل- فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإني أحب لك ما أحبه لنفسي، وإنها أمانة، وإنها يوم القيام خزي وندامة إلا من أخذ بحقها، وأدى الذي عليه فيها)). ويقول النووي تعليقًا على هذا الحديث: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو من دخل فيها بغير أهلية، ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فسئل وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة)) وهكذا حرص الإسلام على أن تكون تولية الوظائف على أساس الصلاحية، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب. وقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في حق العمل والأجر، إذ يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 124) كما يقول تبارك وتعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران: 195).
ومما يتصل بالتوظيف حسب الجدارة، تنمية الكفاية إذ تؤكد توجيهات الإسلام ضرورة التزود بالعلم اللازم لممارسة سائر نشاطاتنا على خير وجه، كما تحرص هذه التوجيهات على تحفيز الفرد لمواصلة نشاطاته بجد، واجتهاد، وذلك بشتى أساليب التحفيز المعروفة، وهو ما نعرض له في مجالي التدريب والحوافز. فبالنسبة للتدريب نقول: يعني التدريب: بتزويدنا بالقدرات الذهنية والبدنية اللازمة لمباشرة نشاطاتنا، والعلم هو الذي يزودنا بهذه القدرات وينميها؛ ولذا يحضنا الإسلام على التزود بالعلم، وطلب المزيد منه، فيقول -سبحانه وتعالى- مخاطبًا رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما} (طه: من الآية: 114) وذلك باعتبار العلم هو المنطلق لاكتساب القدرات المختلفة، إنها دعوة إلى تنمية المعرفة الخاصة بسائر نشاطاتنا الدينية والدنيوية؛ ليتسنى أدائها بالكفاءة المطلوبة. وللعلم هنا مفهومه الرحب والواسع الذي يشمل سائر المعارف النظرية والعملية النافعة لنا في سائر نشاطاتنا، وعلى ذلك يشمل العلم هنا التدريب في سائر مجالات العمل أي: الوظائف والحرف، والذي يأخذ حكمه من تمهيد الإسلام له، ولأهله، وقد أمرنا القرآن الكريم بالتزود منه بوسائله الثلاث الرئيسية، وهي القراءة إذ يقول سبحانه لرسوله الأمين: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) وكررها في نفس سورة العلق بقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3: 5). كما يحث على طلب العلم عن طريق المشاهدة والملاحظة بالنظر، وهو ما يردده الكثير من آيات الذكر الحكيم، فمثلًا يقول ربنا سبحانه وتعالى: {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: من الآية: 101) ويطالبنا أيضًا باكتساب المعرفة النافعة
عن طريق السماع، فيقول جل علاه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: من الآية: 18). ويطالبنا الرسول الكريم بالتزود من العلم بصفة مستمرة، ومهما بعدت الشقة في سبيل تحصيل فيقول: ((اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)). وفيما يتعلق بالحوافز، فيطلق اصطلاح الحوافز على مجموعة الوسائل والخطط التي من شانها إثارة المزيد من اهتمام الفرد بعمله، كمًّا ونوعًا، وقد حرص الإسلام على توفيرها ومراعاتها بدقة، إذ يقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: من الآية: 30) وللأجر هنا مفهوم شامل لسائر المزايا التي يوفرها الله لعباده الصالحين سواء أكانت مادية أم معنوية، كما يبرز -تبارك وتعالى- الدقة البالغة في الأخذ بهذه الحوافز سواء أكانت إيجابية أي: ثواب، أو سلبية أي: عقاب؛ إذ يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} (الزلزلة: الآيتان: 7، 8). وهذا ما تقتضيه سياسة الحوافز السليمة في تطبيقها؛ لأن أي خلل في ميزان الحوافز زيادة أو نقصًا مهما كان طفيفًا من شأنه التأثير السلبي على معنويات العاملين، وعلى انتظام الجماعة وانضباط أمورها، وعلى مسيرة نشاطاتها في الاتجاه القويم نحو تحقيق أهدافها المشروعة بالكفاءة المنشودة، فالأجر كمقابل مادي للعمل يشمل سائر المزايا النقدية والعينية ذات القيمة المالية أي: الحوافز المالية، ويتميز تحديده في الإسلام بسياسة سليمة، مؤداها ارتباطه بالعمل، والإنتاج إذ يقول سبحانه: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الأحقاف: 19).
فالإسلام يربط الحوافز أساسًا بالعمل، وهو ما يقتضي أن يكون ثمة تحليلًا لسائر أنواع العمل تتحدد في ضوئه أوصاف القائم به، وكذا معدلات أدائه، ومستوياته ودرجاته وهو ما يسعى الفكر الإداري العلمي في أحدث اتجاهاته إلى الأخذ به. ومن ناحية أخرى يراعي الإسلام أن تكون الحوافز المالية محققة كفاية حاجات العامل الإنسانية، وتؤمّن نفقاته العائلية، إذ أن الأجر ليس مقابل العمل فحسب، بل هو دخل فردي يعول عليه العامل أساسًا في معيشته؛ ولذا كان الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- يعطي الآهل حظين -يعني: الذي يعول يعطي له حظين- ويعطي العزب حظًا واحدًا يعني: غير المتزوج يعطيه حظًا واحدًا. ويقول -عليه الصلاة والسلام-: ((من ولي لنا عملًا، وليس له منزل فليتخذ منزلًا، أو ليس له زوجة فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة)) وهو ما يسعى الفكر الإداري الإنساني في أحدث اتجاهاته إلى بلوغه أيضًا. وهو ما يؤكد مرة أخرى الاتجاه السوي للفكر الإداري الإسلامي الذي توصي به توجيهات الإسلام هذا، ويطالب الإسلام بأن تكون هذه الحوافز محددة، ومعلومة مقدمًا مع وجوب الوفاء الفوري بها حتى يكون لها مفعولها كحافظ للعامل على مواصلة عمله بكفاية، ومن توجيهات الهدي النبوي في هذا الصدد قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ((من استأجر أجيرًا، فليسمِ له أجرته)) أي: فليحدد له الأجرة، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((يقول الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه حقه)) وكذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)) وهذا النظام من مقومات الجماعة الإسلامية التي تقوم على الشورى، والتناصح بين أفرادها، إذ
يقول الرسول الكريم: ((الدين النصيحة؛ لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)). وهكذا ينمي الإسلام فكرة التناصح المتبادل بين أفراد الجماعة في شكل توجيهات صادرة إلى المرءوسين، ومقترحات صاعدة إلى الرؤساء على أساس إنساني قويم، ويدعو الإسلام إلى توفير الحوافز الاجتماعية والتي تتمثل في تقديم سائر الخدمات الاجتماعية إلى العاملين سواء بتوفير الراحة اللازمة للعامل، فلا إجهاد متوافر يضنيه ذهنيًا وبدنيًا؛ ولذا يقول رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: ((إن لنفسك عليك حقًا وإن لجسدك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا)) وكذا توفير الخدمات الترويحية للعاملين، إذ يقول الرسول الكريم: ((روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت)). وأيضًا التأمين الاجتماعي لأسرهم إذ يقول -صلوات الله وسلامه عليه- فيمن مات دون ثروة أي: دون أن يترك مالًا لأولاده يقول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشأن: ((من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك ضياعًا -يعني: ورثة- أو كلًا -أي ذرية ضعافًا- فليأتني فأنا مولاه)) وبذلك يقرر واجب الدولة في توفير التأمينات الاجتماعية لمواطنيها؛ تحقيقًا لمبدأ التكافل الاجتماعي الإسلامي. كما حرص الإسلام على توفير فرص العمل للقادرين عليه؛ تأمينًا لهم ضد البطالة، فقد روى البخاري: ((أن رجلًا جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب إليه أن ينظر في أمره؛ لأنه عاطل عن العمل، وخالٍ من وسائل الكسب، وليس عنده ما يستعين به على القوت، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدوم، ودعا بيد من خشب سواها بنفسه، ووضعها فيها -أي: وضع الخشبة في القدوم- ثم أعطاها للرجل، وأمره بالذهاب إلى مكان معين وكلفه بالعمل هناك؛ لكسب قوته، وطلب إليه أن يعود
وجود قيادة سوية.
بعد أيام ليخبره بحاله، فعاد الرجل يشكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فعله معه، ويذكر له ما سار إليه من يسر الحال)). وجود قيادة سوية ومن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي، وجود القيادة السوية، وفي هذا نقول: عني الإسلام سواء في توجيهاته الأساسية، أو في تراثه الفكري بإرساء مقومات القيادة السوية، وهو ما نشير إليه بإيجاز فيما يلي: أولًا: القيادة في التوجيه الإسلامي: 1 - ضرورة القيادة: يؤكد الإسلام حتمية القيادة كضرورة اجتماعية، إذ روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوله: ((لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض -أي: في صحراء مثلًا- إلا أمروا عليهم أحدهم)) كما روي قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا عليهم أحدهم)). ويقول الإمام الشوكاني تعليقًا على هذين الحديثين الشريفين: أن فيهما دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدًا، أن يؤمروا عليهم أحدهم؛ لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلف والضياع، فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه، ويفعل ما يطابق هواه، فيهلكون جميعًا، ومع التأمير يقل الاختلاف، وتجتمع الكلمة، وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض، أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار، ويحتاجون لدفع التظالم، وفصل التخاصم أولى وأحرى. وفي ذلك دليل لقول من قال: إنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام، فالقيادة يفرضها الإسلام؛ حفاظًا منه على وجود الجماعة وتماسكها واستمرارها محققة لأهدافها في إشباع الحاجات الجماعية الفردية.
2 - واجبات القيادة: تتسم القيادة وفق توجيهات الإسلام بأنها قيادة سوية لا هي متسلطة فظة، وفق الاتجاه المتطرف في الفكر الإداري العلمي، ولا هي قيادة متراخية غير مبالية، وفق الاتجاه المتطرف في الفكر الإداري الإنساني، بل نجدها بين ذلك قواما، ويتمثل هذا الاتجاه السوي في القيادة الإسلامية في قوله تعالى مخاطبًا رسوله الكريم، باعتباره قائد الأمة الإسلامية: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159). وفي ضوء هذا الاتجاه القويم للقيادة السوية، نعرض لواجبات القيادة الأساسية في الإسلام، والتي تعكس خصائصها باعتبارها تمثل مقدرة التأثير في الآخرين، فكرًا وسلوكًا. المشاورة فقد أمر الله رسوله الكريم في الآية السابقة بالمشاورة، وهو ما يقتضي مشاورة القائد أفراد مجموعته، فيما يتخذ من قرارات ويمضيه من تصرفات، وذلك باستطلاع آرائهم في مرحلة إعداد القرار للوقوف على وجهات نظرهم، فإذا ما انتهى إلى رأي مقنع أمضاه، وأصدر قراره على مقتضاه، فالقائد هنا لا ينفرد باتخاذ القرار على نحو ما تجري عليه القيادة المتسلطة، ولا يترك للجماعة أمر اتخاذ القرار بنفسها على نحو ما تأخذ به القيادة المتراخية، إنها قيادة وسط بين الفردية والجماعية، إن هذا الواجب يفرض على أفراد الجماعة بالمقابل واجب الأمانة والإخلاص في إبداء الرأي عند طلبه منهم.
وأيضًا يراعى القدوة الحسنة إذ يجب أن يكون القائد المثل الأعلى لجماعته فكرًا وسلوكًا، فهو قدوتهم الذي يحتذونه في تصرفاتهم؛ لذا ينبغي أن يكون قدوة حسنة في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل، وقد كان الرسول الكريم خير قدوة للمسلمين إذ يقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (الأحزاب: 21) وهو ما يقتضي التزام أفراد الجماعة باتباع قائدها، والاقتداء به في تصرفاته. وأيضًا الرعاية والمسئولية إذ يجب على القائد أن يكون من الجماعة أي: المنظمة التي يديرها، ويتولى رئاستها أن يكون في موقف الراعي لشئونها، الحريص على خيرها وتقدمها، فهذه مسئوليته في الإسلام، إنها قيادة مسئولة عن تحقيق صالح الجماعة، وأفرادها والحفاظ عليها عن طريق الرعاية لا التسلط، وما الإدارة في أساسها سوى رعاية شئون الآخرين. فالإسلام إذ يوجب على القائد التزام جانب الرعاية، ومسئولية تحقيقها إنما يقدم الجانب الإنساني في القيادة السوية في أسمى صورها، إنها قيادة واعية تشعر بمسئوليتها الاجتماعية، وهو المبدأ الذي قرره الرسول الكريم في الحديث المعروف: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته)). إسداء النصح للجماعة: وأيضًا ينبغي على القائد إسداء النصح لجماعته وأفرادها، وذلك بإصدار ما يلزم من تعليمات مفيدة، وإرشادهم إلى ما فيه خير الجماعة، وأفرادها وتوجيهها إلى
ما يحقق أهدافها، وتزويد أفرادها بما يلزمهم من تدريب ليتسنى لهم القيام بواجباتهم على أحسن وجه، والقيام بدورهم الفعال في بلوغ أهداف الجماعة، ومن ثم تحقيق خيرها؛ ولذا يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحته، إلا لم يجد رائحة الجنة)) وعلى القائد أن يتوخى الإخلاص في إسداء النصيحة للجماعة، فضلًا عن الإخلاص في رعايتها، إذ يقول الرسول الأمين: ((ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت، وهو غاش لها، إلا حرّم الله عليه الجنة)). الإقناع بالحسنى: وأيضًا لما كانت القيادة وفق أحدث مفاهيمها تعني التأثير في تصرفات الآخرين، كان على القائد إقناع جماعته بالتزام ما يراه من تصرفات محققة لأهدافها، وأن يلزم جانب الحكمة فيما يدعوهم إليه، وأن يحسن جدالهم ومناقشاتهم، وهو الاتجاه السوي في إقناع الآخرين، ومن ثم التأثير فيهم فكرًا وسلوكًا، وهذه إحدى المهارات القيادة الهامة التي يدعو إليها العلماء المعاصرون، ولنا في التوجيه القرآني خير مرشد في هذا الصدد، إذ يقول المولى -سبحانه وتعالى- مخاطبًا رسوله الكريم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: من الآية: 125).
الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام.
الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام.
مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (المنهج الإداري في الإسلام) 1 - توجيهات الفكر الإسلامي (3)، ومقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري وبعد ما تكلمنا عن التوجيه الإداري الإسلامي، نتكلم الآن عن المنهج الإسلامي الإداري الذي رسمه الإسلام للعاملين، وهذا المنهج الإسلامي يكون في التخطيط كما يكون في التنظيم، كما يكون في الرقابة؛ ولذلك سوف نتكلم أولًا: عن المنهج الإسلامي في التخطيط، فنقول التخطيط كوظيفة إدارية أصبح ذا أهمية كبرى عند كل مناهج الفكر الإداري، إذ أن تغير الظروف المحيطة بالتنظيمات، وظروف عدم التأكيد المحيطة بالمستقبل جعلت الاهتمام بالتخطيط ضرورة حيوية؛ لتحقيق الأهداف، وعلى هذا يمكن القول إنه في المجتمعات الديناميكية يصبح التخطيط هو الطريق الرئيسي الذي يستطيع به التنظيم أن يتكيف مع المجتمع، والظروف المحيطة به؛ لأنه يرفع درجة الرشد في القرارات الحالية التي تعتمد على التوقعات المستقبلية. والتخطيط هو نشاط أساسي لأي نظام يرغب في زيادة احتمالات نجاحه في تحقيق أهدافه، ويوجد نوعان أساسيان من الخطط: الخطط الإستراتيجية: والتي تركزت على الأهداف العامة، ووسائل تحقيقها، والخطط التكتيكية التي تستخدم للوصول إلى الأهداف الفرعية التي تخدم الأهداف العامة، ولا يتسع المجال للحديث عن نظريات التخطيط، ومفهومها، ومن ثم نكتفي بالإشارة إلى أن أدق وأوجز التعريفات لمفهوم التخطيط كما استخلصه علماء الإدارة من الدراسة المستفيضة لأفكار هذه النظريات، يتلخص فيما يلي:
البحث عن أفضل البدائل الممكنة لتحقيق هدف معين في مدة معينة، وفي ضوء الإمكانيات المتاحة تحت الظروف والملابسات القائمة، وبناء على هذا التعريف تتحدد مجالات التخطيط في الآتي: 1 - تحديد الأهداف المطلوب الوصول إليها. 2 - تحديد أبسط الوسائل لتحقيق هذه الأهداف، وهو ما يطلق عليه وضع الإستراتيجيات. 3 - تدبير الإمكانيات البشرية والمادية المتاحة، والتنسيق بينهما. 4 - مراعاة عامل الزمن عند تحديد الأهداف، أو عند تدبير الإمكانيات. 5 - مواجهة المشكلات التي قد تعترض عملية التنفيذ. ويرتبط التخطيط بالفلسفة التي يؤمن بها المجتمع، فالفلسفة الاجتماعية للدولة هي التي تحدد المجالات، والأهداف التي يتم فيها النشاط، والتي يعمل التخطيط في نطاقها، وقد كانت الفلسفة الاجتماعية في الدولة الإسلامية على اختلاف مراحلها، تتمثل في التوحيد، والقضاء على الجاهلية، ونقل الناس من ظلمات الجهالة إلى نور الإسلام والإيمان؛ ولذا كان الهدف من التخطيط بصفة عامة هو الحفاظ على الدعوة الإسلامية، وتحقيق أهدافها المحددة بالقرآن والسنة. ومن المثير للدهشة أن التخطيط الإسلامي، قد استوعب كل مقومات التخطيط العلمي السليم، ربما من الناحية النظرية كان هناك بعد عن التسميات المتعارف عليها الآن، مثل تحديد المشكلة أو الهدف، وجمع الحقائق والمعلومات، ووضع الحلول البديلة.
التخطيط لنشر الدعوة.
أما في الواقع فكان يشتمل على كل هذه العناصر، ويدخل في كافة أوجه النشاط، فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي يحدد الأهداف الرئيسية ويبلغها لرسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- ليقوم بتنفيذها، فكان عليه الصلاة والسلام يضع البرامج والسياسات، ويعهد إلى أصحابه بدراستها، ثم يشاورهم فيها، ويستمع إليهم في كل ما يبدون من ملاحظات. وتجلى هذا عبر مراحل التاريخ الإسلامي، بدءًا من نزول الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحتى التخطيط الواعي الدقيق لتنظيم الدولة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي أعطى للبشرية أمثلة عملية على عظمة التخطيط الإسلامي في كافة صور التخطيط إداريًا أم حربيًا أم اقتصاديًا أم اجتماعيًا. وسنكتفي في هذا البحث بالحديث عن التخطيط الإداري، أما المجالات الأخرى فلا يتسع المجال للحديث عنها. التخطيط الإداري يستهدف التخطيط تحقيق نتائج محددة، وكل الخطط إنما ترمي أساسًا إلى الوصول إلى الأهداف المرجوة، وبمعنى آخر فإن التخطيط هو الوسيلة التي يلجأ أو تلجأ إليها الإدارة للانتقال من الموقف السائد إلى الموقف المستهدف، ويتوقف نجاح الخطة على حسن اختيار الأهداف والقدرة على توصيفها التوصيف الدقيق، ويعد التخطيط للأهداف من أهم أنواع الخطط الإدارية، وسنرى تطبيقًا إسلاميًّا للتخطيط الإداري من خلال نماذج ثلاثة: الأول: التخطيط لنشر الدعوة الإسلامية. النموذج الثاني: التخطيط للهجرة. النموذج الثالث: تخطيط الحياة المدنية بعد الهجرة. نكتفي بهذا القدر من هذه المحاضرة، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - المنهج الإسلامي في التخطيط التخطيط لنشر الدعوة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. فقد انتهينا في المحاضرة السابقة عن الحديث عن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي، وبدأنا الحديث عن المنهج الإسلامي الإداري، وبينا أن هذا المنهج قد يكون في التخطيط، وقد يكون في التنظيم، وقد يكون في الرقابة. ونتكلم الآن عن التخطيط لنشر الدعوة الإسلامية، فنقول: إن القرآن الكريم قد حدد أهداف الدعوة في التوحيد، ونقل الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، وكان تحديد الهدف هو أول عناصر الخطة الإسلامية
التي آزرت العناية الإلهية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في استكمال مقوماتها، ووضع خطوطها، فاستخدم كل الإمكانيات المتاحة، وراعى كل الاحتمالات المستقبلية، فجاءت خطته محكمة الأغراض، واضحة المعالم على النحو التالي: من أولى هذه المعالم للتخطيط لنشر الدعوة: أن يبدأ الدعوة -صلى الله عليه وسلم- سرًّا بين أهله وعشيرته، فقد ظلت هذه المرحلة قرابة ثلاث سنوات كانت الإمكانيات المتاحة لا تسمح بغير سرية الدعوة، حيث كان الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وحده لا تؤازره غير العناية الإلهية، وسط مجتمع يموج بالظلم والظلمات، ويرزح تحت وطأة العبودية للأصنام شعاره البقاء للأقوى، وحركته تقوم على المصلحة الشخصية، ولو على حساب صالح المجتمع، وكانت محاولة الرسول -عليه الصلاة والسلام- مواجهة هذا المجتمع وحده جهرًا منذ أيام الدعوة الأولى، كان ذلك شيئًا يخرج عن حدود المنطق والعقل، ومن ثم شاءت الحكمة الإلهية أن تظل الدعوة خلال هذه الفترة سرًّا حتى يجد الرسول -عليه الصلاة والسلام- من أهله وعشيرته من يقف بجانبه، ويمد له يد العون، وكانت المعرفة بطبيعة هذا المجتمع، واختيار الوقت المناسب لمواجهته من أهم عوامل نجاح الدعوة الإسلامية، كما أن هذه السنوات الثلاث كانت كفيلة بأن يمتلئ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحب الدعوة، ويتشبع بعظمة الرسالة التي كلّف بها حتى إنه قال لعمه أبي طالب قولته المشهورة: ((والله يا عمي لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه)). ونتحدث الآن عن ثاني هذه المعالم للتخطيط لنشر الدعوة، وهو الجهر بالدعوة، فنقول: بعد ثلاث سنوات من التمهيد، والإعداد للدعوة الإسلامية جاء الإذن من الله -سبحانه وتعالى- لرسوله بالجهر بالدعوة في قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ
الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: الآية 94) وتوالت الآيات تقوي العزم، وتهدي الخطى، يقول تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعراء: 214: 216). وقد نجح الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الاستفادة من كل الإمكانيات المتاحة خلال هذه المرحلة، أموال زوجته خديجة، وحماية عمه أبو طالب، وجهود أصحابه الذين آمنوا به أمثال أبي بكر وعلي وبلال، وغيرهم، كما أنه حاول الاستفادة من وفود القبائل العربية؛ لزيارة بيت الله الحرام، فبدأ يجهر بدعوته بينهم، وكان العرب بطبيعتهم أقرب لهذه الدعوة من أهل مكة الذين سيطرت عليهم مباهج الحياة وزخارفها، فاستجاب منهم الكثير، وصاروا أنصارًا للإسلام، كما أنه عليه الصلاة والسلام، واجه الصعوبات التي كان يدرك تمامًا أنها ستعترض دعوته وخطته، مواجهة القائد الشجاع أي: أنه واجه هذه المشكلات مواجهة القائد الشجاع، وصاحب الرسالة المؤمن برسالته، وكانت آيات القرآن، تتنزل بين الحين والحين؛ لتشد أزره، وتقوي عزمه، يقول تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: الآيتان: 128،127). وثالث المعالم للتخطيط لنشر الدعوة الإسلامية: الدعوة بالإقناع والموعظة الحسنة، فلو أن رجلًا غير محمد -صلى الله عليه وسلم- ينتمي إلى قبيلة من أعرق قبائل مكة، ويدرك أنه مبعوث من قبل القوي القاهر لتبليغ رسالته إلى خلقه، كلف بهذه الدعوة ما رضي أن يتحمل كل ما تحمله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سبيلها، ما رضي أن تلقى الأشواك في طريقه، ويلقى القذى على رأسه أثناء الصلاة، ويرى أصحابه يعذبون، فلا يملك إلا أن يقول لهم: ((صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة))
ومن بين ثنايا التاريخ نسمع صوت نبي الله نوح وهو ينادي ربه: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح: الآيتان: 27،26). ونقارن هذا الصوت الغاضب بصوت الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن عاد من الطائف، وجلس في ظل بستان، وقد سالت الدموع من عينيه، والدماء من قدميه، نتيجة لما لقيه من أهل الطائف الذين خرج يدعوهم للإسلام، فلم يستجيبوا له، وسلطوا عليه أبناءهم وسفهاءهم يرمونه بالحجارة، وفي وسط هذا الإحساس بالقسوة والمرارة، يأتيه جبريل فيقول له: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فيرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)) نسمع صوت الرسول في هذا الموقف في هذا الموقف، وبذلك يتأكد لنا أن اختياره عليه الصلاة والسلام لرسالة عامة للناس جميعا، وللبشر كافة لم يكن اختيارًا عشوائيًّا، وأن ذلك المدد الإلهي الذي كان يأتيه من السماء، قد علمه كيف يعايش المجتمع الذي أرسل إليه، وكيف يؤدي كل دورًا من أدواره في الوقت المناسب، كانت طبيعة الرسالة الإسلامية في مراحلها الأولى، تتطلب اللين والحكمة وسعة الصدر حتى لا ينفض الناس عنها؛ ولذلك يقول تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: من الآية 159). ومن ثم كانت هذه المرحلة، تحتم الدعوة بالإقناع والموعظة الحسنة والوقوف عند هذا الحد: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: من الآية: 125)
واستجاب الرسول الكريم لهذه الدعوى، وظل ثلاثة عشرة سنة يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتحمل في سبيل ذلك ما لم يكن يستطيعه بشر آخر، ولا نقول ذلك مبالغة، فهاهم أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن اشتد بهم الأذى يطلبون منه أن يدعو الله على كفار قريش، كما دعا نوح على قومه لكنه بطبيعته المهيَّأة للرسالة، يرفض ذلك رفضًا شديدًا. روى البخاري عن قيس قال: سمعت خبابًا يقول: ((أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد ببردة، وهو في ظل الكعبة، ولقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله فقعد وهو محمر الوجه، وقال: قد كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحما أو عصبا، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)). وبهذا الإيمان بعظمة الرسالة، وأن الله ناصرها في النهاية ظل الرسول هذه السنوات الطوال يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وينهى عن العنف والقتال، حتى جاء الإذن من الله برد العدوان، بعد أن دخل الإسلام مرحلة جديدة. وهذا ما يدعونا إلى أن نتحدث عن رابع المعالم لتخطيط نشر الدعوة، وهو رد الاعتداء دون البدء به، قلنا: إن الخطة الناجحة هي التي تضع في اعتبارها عامل الزمن، وتلائم بين متطلباتها، وطبيعة المرحلة التي تعايشها، ولقد طبق الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذا المبدأ بحكمة ودراية خلال مراحل الدعوة، فقد أمضى عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة سنة يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ إذعانا لأمر ربه وتنفيذًا لقول الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: من الآية: 35)
وكان أصحابه كلما شكوا إليه ما يصيبهم من الأذى، ويطلبون منه الإذن لهم بالقتال، يقول: لهم صبرا فإني لا أمر بقتال، وأخيرا حانت اللحظة المناسبة، فقد استقر الإسلام في المدينة، وأصبح قوة قادرة على رد العدوان، كما أن يهود المدينة تعاونوا مع قريش، وأخذوا في الكيد للرسول، ودعوته فكان لا بد من ردعهم، وجاء الإذن من السماء واضح محددًا في قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: الآيتان 40،39). إلا أن هذا الإذن لم يكن أمرًا بالعدوان، وإنما كان إذنا برد العدوان، ولقد جاءت الآيات بعد ذلك توضح المعنى، وتحدد الهدف {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190). وبالنسبة للفتوح الإسلامية، نجد أن الإسلام وهو دين عام شامل جاء لهداية الناس جميعا في مشارق الأرض ومغاربها، مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: من الآية 28) وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: من الآية 158) ومن ثم كان على صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام أن يبلغها إلى كافة شعوب الأرض، فمن دخل فيها راضيا مرضيا فقد هدي إلى سبيل الرشاد، ومن لم يرد الله له بالهداية، فلا إكراه في الدين على ألا يعطل سيرها، ولا يعتدي على أهلها
التخطيط للهجرة.
فمن التزم بهذا المبدأ، فالإسلام يوصي بحسن معاملته، ومن خرج على هذا المنهج فالإسلام يأمرنا بالتصدي له، وقتاله وهذه فلسفة الحرب في الإسلام، حروب فاضلة لا عدوان فيها، ولا انتهاك للحرمات، ولا الاعتداء على الكرامة الإنسانية مجرد تأديب لمن يقف في طريق الدعوة حتى يعود إلى رشده، ويتنحى عن موقفه، وهذا ما شهد به الأجانب قبل الأقارب، والأعداء قبل الأصدقاء. التخطيط للهجرة وبعدما انتهينا من النموذج الأول للتخطيط الإداري في الإسلام، وهو التخطيط لنشر الدعوة الإسلامية. ننتقل الآن إلى النموذج الثاني، وهو التخطيط للهجرة، فنقول: الباحث العلمي المدقق، والمحايد لا يحتاج إلى كثير من الوقت للاقتناع بحقيقة أن كل مبادئ لتخطيط العلمي، قد تجلت بوضوح قاطع في مراحل الهجرة، وكأن الإسلام قد أراد أن يقدم من خلالها نموذج يحتذى من قبل المسلمين للتخطيط العلمي السليم. لقد تمت الهجرة في ظروف قاسية، وحصار من قبل المشركين، وتحدٍ مجنونٍ من أجل منع وقوع هذا الحدث التي كانت تدرك قريش ماله من آثار خطيرة على مستقبلها وكيانها كله، فبذلت قصارى جهدها للحيلولة دونه، ووضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- تؤيده العناية الربانية، وضع خطته لمواجهة كل الظروف، والاحتمالات بشكل يجعل العقل يقف عاجزًا أمام عظمة هذه العبقرية النبوية. لقد كان الهدف الأساسي من الهجرة هو البحث عن أرض صالحة لقيام مجتمع إسلامي بعد أن تيقن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن مكة ليست هي الأرض المهيأة لاحتضان الرسالة الإسلامية، ولتحقيق هذا الهدف بدأ الرسول -عليه الصلاة والسلام- في تجميع الحقائق، وتوصيف المجال الذي يتم العمل فيه، ووفقا للمفاهيم الإدارية الحديثة كانت الخطوة التالية هي المقارنة بين البدائل المتاحة لاختيار أفضلها، وكان أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- آنذاك بدائل ثلاثة:
البديل الأول: الهجرة للطائف. البديل الثاني: الهجرة للحبشة. البديل الثالث: الهجرة للمدينة. ونتحدث الآن عن البديل الأول، وهو الهجرة للطائف: ربما جاءت مدينة الطائف إلى فكر الرسول -عليه الصلاة والسلام- كأول البدائل المتاحة لعدة عوامل إيجابية، نذكر منها: 1 - موقع الطائف الفريد حيث تقوم على مكان مرتفع بين مدن الحجاز، مما يوفر لسكانها المناخ الملائم إلى جانب الوفرة في الإنتاج الزراعي. 2 - كانت الطائف مصيفًا لأهل مكة، ومكان تستثمر فيه أرباحها من التجارة. 3 - كانت قبيلة ثقيف الطائفية عدو لدود لقبيلة قريش، تنافسها في المجالات الدينية والتجارية، وكان من المتوقع أن تسعى ثقيف للإسلام؛ لتتفوق به على عدوتها القديمة، وكان من المنطقي أن ترحب بهؤلاء المهاجرين الذين طردتهم قريش من ديارهم؛ ليكون شوكة في ظهر قريش في المستقبل، كانت هذه العوامل الإيجابية تمثل قوى دفع للرسول، وصحبه للهجرة إلى الطائف. إلا أن هناك عوامل أخرى سلبية، كان يدركها -عليه الصلاة والسلام- وكان يرى أنها تقف عائقا في سبيل قبول أهل الطائف لدعوة الإسلام، ومن هذه العوائق: كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يدرك أن لقبيلة ثقيف زعامة دينية في الطائف تعادل تلك التي كانت لقريش في مكة، وأن لها وثنا يسمى اللات، وأنهم أقاموا حوله حرما يشبه الكعبة، ودعوا الناس إلى الحج إليه، بل إنهم شجعوا أبرهة على هدم الكعبة، حتى يكون لهم وحدهم حج الناس من كل فجاج الأرض،
كان الرسول يدرك أن الإسلام سيضع حدًّا لهذه الوثنية العمياء، التي كانت مصدر دخل ثابت لثقيف، وأن هذه القبيلة لن تقبل ذلك بسهولة. وكان -عليه الصلاة والسلام- يعلم أن لثقيف زعامة سياسية في الطائف لا تقل عن زعامة قريش في مكة، وأن قيام دولة إسلامية في الطائف سيقضي على هذه الزعامة، وهذا سيجعلها تقاوم دعوة الإسلام بعنف، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتخوف أن تنظر إليه ثقيف على أنه واحد من قبيلة قريش عدوها اللدود، ولا تنظر إليه على أنه صاحب رسالة سماوية. كل هذه العوامل بإيجابياتها وسلبياتها كانت في ذهن الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو يفكر في الطائف كأحد البدائل المتاحة لتحقيق هدف الإسلام في بيئة صالحة لقيام مجتمعه، لكن الرحلة الاستطلاعية التي قام بها مع مولاه زيد بن حارثة، والتي لا يتسع المجال للحديث عنها هنا أكدت له أن الموقف غير مناسب للهجرة إلى الطائف، كما أنها ليست الأرض التي تصلح لقيام المجتمع الإسلامي إذ ذاك. ثم ننتقل الآن للحديث عن البديل الثاني، وهو الهجرة إلى الحبشة: بناء على المعلومات التي توفرت للرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى قدرته الفذة على دراسة الموقف المحيط به، تأكد له أن الحبشة هي أنسب الأماكن المتاحة للهجرة المؤقتة للمسلمين، وذلك لعدة أسباب نذكر منها: 1 - كانت الحبشة بحكم موقعها بعيدة عن أيدي المشركين، كما أن قريش كانت لها مع الحبشة تجارة تعود عليها بالربح الوفير، مما يجعل هناك مصالح مشتركة بينهما تمنعها من الدخول في حروب أو صراعات كما أن هذه المصالح مشتركة بينهما قد تفيد الإسلام فيما بعد.
2 - كان على رأس الحبشة النجاشي، وهو ملك اشتهر بعدالته، كما اشتهر بقوة شخصيته وحصافة عقله، مما يجعل له وزنا عالميًّا، ومن ثم فإن استقطابه إلى قضية الإسلام مكسب ذو قيمة؛ لأنه صاحب نحلة سماوية، وكتاب مقدس، هذا إلى جانب أن المسيحي على عهده لم تكن صافية الجوهر، وإنما دخلها التحريف والتغيير كما دخلتها الوثنية، مما يجعل رجلًا كالنجاشي بما اشتهر به من عقل يقتنع بالإسلام حين يعرض عليه كدين سماوي نظيف لم يدخله التحريف. 3 - من ناحية أخرى، فإن استقراء الأحداث ينبئ عن أنه لا خوف على المسلمين من المسيحية التي كانت سائدة في الحبشة آنذاك؛ لأنها كانت مليئة بالأطماع والوثنيات، ومن أين يجيء الخوف على رجال رباهم الرسول على التوحيد، وغرس حقائق الإيمان في نفوسهم، فتركوا من أجله ديارهم وأموالهم، إن أمثال هؤلاء ما كانوا ليستبدلوا الإسلام بمسيحية أو غيرها، مهما كان حجم الإغراءات. وبناء على هذا التقدير الدقيق للموقف، أذن الرسول لأصحابه بهجرة مؤقتة إلى الحبشة، وصدر القرار النبوي بقوله -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه: ((لو خرجتم إلى الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدقا، حتى يجعل الله لكم مخرجا)) وكان هذا الإذن يحمل في كلماته كل مواصفات القرار الجيد، فهو أولا: أوضح لهم أن هذه هجرة مؤقتة بقوله: ((حتى يجعل الله لكم مخرجا)) ومن ثم فهي ليست هجرة دائمة. وثانيًا: تضمن القرار المعلومات التي تجعل من ينفذوه على اقتناع به، جاء في كلامه، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق،
وقد اشتملت خطة الهجرة ضمان لنجاحها على ركنين وضعهما الرسول بحكمة القائد المحنك: الركن الأول: أن يتم الرحيل تسللًا في الخفاء، حتى لا تنتبه قريش للخطة، فتحبطها، وهو ما يطلق عليه عامل المفاجأة. الركن الثاني: أن تكون الهجرة في شكل أفواج قليلة، وليست على نطاق واسع، حتى لا تلفت نظر المشركين، وضمانًا لتحقيق جانبي الخطة، وضمانًا لتحقيق جانبي الخطة، وضمانا لتحقيق جانبي الخطة خرج المسلمون في شكل أسر صوب البحر، حتى استقلوا سفينتين تجاريتين، أبحرت بهم إلى الحبشة، وقد نجحت الخطة بتأييد الله نجاحا باهرا، ولقي أصحاب الرسول في الحبشة معاملة طيبة، وحماية وأمنا وأصبح للإسلام أنصار في هذا البلد الطيب، وانضم النجاشي بكل نفوذه إلى الإسلام ناصرا، وهذا النجاح المذهل الذي تحقق جعل بعض الباحثين، والكتاب يتساءل لماذا لم يستغل الرسول هذا النجاح، وينتقل بأهله وأصحابه إلى الحبشة؛ لتكون هي الأرض التي يقام عليها المجتمع الإسلامي؟ ولماذا أصر -عليه الصلاة والسلام- على جعل هجرة المسلمين إليها هجرة مؤقتة؟ وللإجابة على هذا التساؤل نقول: إن تحليل الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمعلومات المتاحة لديه، ودراسته المتأنية للموقف أكدت لديه صعوبة أن تكون الحبشة هي الهدف لدولة الإسلام، وذلك لعدة عوامل: أول هذه العوامل: أن الحبشة منطقة معزولة لا تصلح متنفسًا للدعوة الجديدة، إذ أن الإسلام كدعوة عالمية يحتاج إلى منطقة مفتوحة على العالم، والحبشة على مر تاريخها لم تكن منطقة انطلاق.
ثاني العوامل: أن الحبشة لم تكن لتسمح لهذا الدين الجديد أن ينمو إلى جوار المسيحية، ولم يكن الرومان وهم المهيمنون على المسيحية في العالم آنذاك، يسمحون للحبشة بذلك حتى لو أسلم ملكها. وثالث العوامل: أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، ولسانه، ومن ثم فإن فهمه وتعلمه وحفظه في هذه البيئة الحبشية يعد أمرًا صعبًا، وعقبة في طريق الدعوى لكل هذه الأسباب، وهذه العوامل صرف الرسول -عليه الصلاة والسلام- النظر عن الحبشة كأرض للهجرة الدائمة، وفكر في بديل آخر، ويمكن القول: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حقق بهذه الهجرة أقصى استفادة ممكنة، واتخذ قراره بالهجرة المؤقتة في ضوء أحسن معرفة ممكنة عن مستقبلية هذا القرار، وهذا ما يقوم عليه التخطيط العلمي السليم. ثم نتحدث عن البديل الثالث، وهو الهجرة إلى المدينة، فنقول: من المبادئ الإدارية المعروفة أنه كلما زادت المعرفة، كلما زادت الفرصة للتصرف السليم، وكلما ساعد ذلك على نجاح القرار. فالفرد العارف لأبعاد، ونتائج المهمة المكلف بها يكون أكثر قدرة على التصرف السليم، والقرار السليم يتوقف على مدى المعلومات التي تتوفر أمام متخذ القرار، وعلى قدرة صاحبه على تحليل هذه المعلومات للخروج منها باستنتاجات سليمة. وقد كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يعرف عن مجتمع المدينة الشيء الكثير، وكان يضع في اعتباره كثيرًا من العوامل الإيجابية التي تساعد على تحقيق هدف الدعوة الإسلامية، ونذكر من هذه العوامل:
1 - كانت ظروف المدينة السياسية، وإلا اجتماعية تسمح تماما بقيام دولة إسلامية على أرضها، ولو عدنا قليلا إلى الوراء نتعرف على تاريخ المدينة، سنجد أن سكانها الأصليين من العرب هم العمالقة نسبة إلى عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، ثم قدمت إلى يثرب قبائل يهودية مهاجرة من فلسطين، وكدأب اليهود يسعون دائما إلى السيطرة على الموارد الاقتصادية، وعلى شئون المال في البلاد التي يسكنونها. وبعد انهيار سد مأرب قدمت إلى يثرب قبيلتان يمنيتان هم قبيلتي الأوس والخزرج، وسمح اليهود لهاتين القبيلتين بالإقامة في يثرب؛ ليتخذوا منهم الأيدي العاملة في زراعاتهم، وكأنهم رقيق يعملون في ظل نظام إقطاعي، إلا أن هاتين القبيلتين نجحتا في التخلص من هذه السيطرة، وبدأتا في ممارسة نشاط اقتصادي مستقل، فحدث صراع بين عرب اليمن واليهود انتهى بانتصار قبيلتي الأوس والخزرج، ولما رأى اليهود ذلك مارسوا لعبتهم المحببة وهي إشعال نار العصبية بين القبائل العربية، فحدثت سلسلة من الحروب بين الأوس والخزرج، كادت تفني القبيلتين معا. وهنا صار مجتمع المدينة مجتمع عداوات وصراعات تأخذ أشكال متعددة، اليهود يكرهون العرب، ويحاولون أن تكون السلطة في يثرب ويعيبون عليهم عبادة الأوثان، والقبائل العربية إلى جانب كراهيتها لليهود تكره بعضها البعض، وتتصارع من أجل أن تكون لكل منها السيادة على المدينة، ومع الحروب الطاحنة أصبح مجتمع يثرب في حاجة إلى نعمة الهدوء، والاستقرار، وتطلع الناس إلى أية دعوة تحقق لهم هذا الهدف.
وكان من آثار هذه الصراعات ما يلي: راح اليهود يروجون في المدينة أن نبيًّا سيبعث في هذا الزمان، وأنهم أي: اليهود سيتبعونه، ويقتلون به العرب قتل عاد وإرم، فلما علم العرب بأنباء البعثة المحمدية، عرفوا أن هذا هو النبي الذي توعدهم به اليهود، وضمان لنصرة قريش كانت كل من الأوس والخزرج ترسل وفودا إلى مكة تتحالف مع قريش ضد بعضها، وكان من تدابير القدر وحسن تخطيط الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن التقى بهذه الوفود فعاد كثير من أصحابها إلى المدينة بالإيمان ونور الحق، وليس بأحلاف الجاهلية. 2 - كما كانت الظروف السياسية والاجتماعية عاملا هاما في تهيئة مجتمع المدينة لقبول الدعوة الإسلامية، فإن المدينة بحكم موقعها كانت منطقة انطلاق يسكنها عرب، ويتكلم أهلها العربية فتستطيع الدعوة الإسلامية أن تجد فيها منطلقا واسعا ولسانا عربيًّا يقرأ القرآن ويحفظه. 3 - كان من حسن تخطيط الرسول أن أرسل مع وفود المدينة العائدة من مكة مصعب بن عمير؛ ليعلم الناس مبادئ الإسلام، وقد نجح مصعب بتوفيق الله، وساعدته ظروف المدينة السياسية، والاجتماعية وقدراته الشخصية على تهيئة مناخ هذه المدينة لإقامة المجتمع الإسلامي. وكما كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يدرك العوامل الإيجابية التي ساعدته على اتخاذ قراره في اختيار المدينة كموطن للهجرة الدائمة للمسلمين، فإنه لم يغفل عن العوامل السلبية التي قد تعرقل هذا الهدف، أو تقف عثرة في سبيله، ومنها: أن اليهود في المدينة يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، وعلى الرغم من أنهم يعرفون الرسول -عليه الصلاة والسلام- من خلال كتبهم كما يعرفون أبناءهم إلا أن الحسد
أعمى قلوبهم، فنقموا على العرب أن يكون الرسول من بينهم؛ لأنهم كانوا يريدونه من بني إسرائيل، وكان الرسول يوقن من واقع معرفته بهم أنهم سيرفضون الدعوة، ويقاومونها ويحتالون عليها بكل الطرق. 2 - في فترة الهدنة بين قبيلتي الأوس والخزرج، والتي واكبت الهجرة النبوية، اتفقت القبيلتان على إقامة حكومة مشتركة، تحكم يثرب ويرأسها زعيم الخزرج عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان معنى قيام مجتمع إسلامي في المدينة القضاء على مثل هذه الحكومة، وهو مما يثير الحقد على الإسلام في قلب عبد الله بن أبي، وحاشيته، وبمنطق القائد المحنك، ورجل التخطيط الخبير، وازن الرسول بين العوامل الإيجابية، والعوامل السلبية، وتأكد أن الإيجابيات أكثر، وأن الفرصة مهيأة أكثر من أي وقت آخر للهجرة إلى المدينة، فبدأ في تهيئة المناخ، وإعداد الظروف الملائمة لتحقيق الهدف، فجاءت خطة الهجرة محكمة كل الإحكام، وواضحة كل الوضوح. ويرى علماء التخطيط الإداري أن من عوامل نجاح أي خطة تقسيم المهام والإعمال، وتحديدها بدقة، حتى يعرف كلٌّ دوره فلا تتنازع الاختصاصات، ولا تتداخل، وفي نفس الوقت يتحقق تكامل بين هذه الاختصاصات حتى تؤدي في النهاية إلى تحقيق الهدف المرغوب، ولقد كانت المهام المطلوبة لنجاح خطة الهجرة هي: 1 - مهام الإعداد والتجهيز. 2 - مهام الإعداد والتموين. 3 - مهام الاستطلاع والتخابر.
4 - مهام الإرشاد واقتفاء الأثر. 5 - مهام الخداع، والتمويه على الإعداء. ولو كان المخطط رجلًا غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لاحتاج إلى قوات ضخمة؛ لتغطية هذه المهام، ولو كان القائمون بالعمل رجالًا غير أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لاحتاج الأمر إلى جيش جرار، ولكن مع الرسول وأصحابه، فالأمر يختلف تكفل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وحده بمهام الإعداد، والتجهيز للهجرة، فأعد ناقتين له ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذ معه في هجرته كل ماله تاركًا أهله في ستر الله ورسوله كما قال، وتكفلت ابنته أسماء -رضي الله عنها- بمهام الإمداد والتمويل، فكانت تحمل الطعام للرسول وأبيها في الغار، وقد تحملت في سبيل ذلك الكثير من التضحيات، قطعت مرة ثوبها وجعلت منه نطاقا؛ لتحمل به الطعام إليهما، فأسماها الرسول ذات النطاقين، وتعرضت للضرب الفاحش من أبي جهل حين سألها عن مكان المهاجرين الشريفين، فلما أجابته بأنها لا تعلم لطمها على وجهها لطمة قوية وقعت على أثرها على الأرض، وساهم معها عامر بن فهيرة في عملية الإمداد، فكان يذهب إلى الغار ليلًا، ويمد الرسول وصحبه بحاجتهما من اللبن، وتكفل عبد الله بن أبي بكر بدور رجل الاستطلاع، فكان يبيت مع الرسول وصحبه في الغار، ويصبح مع قريش وكأنه بائت معهم، ثم يعود بأخبار قريش إلى الغار،
تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة.
وقام عبد الله بن أريقط خبير الصحراء البصير، ودليل الهجرة الأمين بمهام الإرشاد للمهاجرين في الطريق من مكة إلى المدينة. أما مهام الخداع والتمويه، فقد شارك فيها عامر بن فهيرة حيث كان يسير بغنمه في الطريق الذي سلكه الرسول وصحبه؛ ليزيل آثار أقدامهما، وظل بعد كل رحلة لعبد الله أو أسماء يؤدي المهمة، ويزيل آثار الأقدام، كما شارك في هذه المهام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنوم في فراش الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة؛ ليوهم قريشًا أن الرسول في فراشه لم يغادر بيته، ويعد كل من شارك في الهجرة قد قام بدوره في مهام الخداع والتمويه، وذلك بعوامل السرية المطلقة التي فرضوها على خطة الهجرة فلن تستبن قريش ملامحها. ولو تأملنا هذه التكليفات، سنجد أن الأمور قد سارت على نحو دقيق، فتم وضع كل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسدت كل الثغرات، وغطيت كل مطالب الرحلة، واقتصر الأمر على العدد اللازم دون زيادة أو إسراف، وتمت كل المهام في سرية فلم تسمح لقريش بمعرفة مكان الرسول وصحبه، كما أنها تمت في تناسق مذهل حتى أن الثلاثة الذين كانوا يرتدون الغار كانوا يذهبون إليه في أوقات مختلفة، فلم يحدث أن التقوا مرة، ألم نقل إن أحداث الهجرة تصلح قاموسًا لمبادئ التخطيط العلمي السليم. تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة وبعد ما انتهينا عن التخطيط للهجرة ننتقل للحديث عن التخطيط الحياتي في المدينة بعد الهجرة، فنقول: منذ أن وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، بدأ يخطط لإقامة مجتمعٍ إسلامي شعاره التوحيد، ومنهجه القرآن، وهدفه رفع راية الإسلام،
وكأي مخطط خبير نظر الرسول حوله؛ ليدرس الواقع وليقدر الموقف، فوجد أن مجتمع المدينة يضم جماعات متناثرة، عرب، ويهود مسلمين وغير مسلمين، أوس وخزرج أحزاب متفرقة لا روابط بينها، كان على الرسول أن يضع في اعتباره بناء المجتمع الجديد الذي يحفظ للجميع عقائدهم الدينية، وقيمهم الخلقية والقومية، وانطلاقا من فهمه عليه الصلاة والسلام لدور العلاقات الإنسانية، وأثرها في أفراد المجتمع، فقد عمل على تحقيق أهداف ثلاثة: الأول: تأمين المسلمين وغير المسلمين على حياتهم وأرزاقهم حتى يزداد المؤمنون إيمانا، ويقبل على الإسلام المتردد الخائف الضعيف، وأيضا إطلاق مبدأ حرية العقيدة، والرأي لجميع طوائف المجتمع، فلا فتنة في دين، ولا ظلم بسبب عقيدة أو رأي، وأيضا القضاء على المنازعات الطائفية بين القبائل، ولتحقيق هذه الأهداف شملت خطة الرسول عليه الصلاة والسلام جوانب ثلاثة: الجانب الأول: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ رغبة منه -صلى الله عليه وسلم- في القضاء على التنافس القبلي، وعلى حب الذات والأنانية، وتحقيقا لروح التعاون، والجماعة والحب في الله نفذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- سياسة حكيمة، وهي أن يجعل من المهاجرين والأنصار أخوة في الله لكل منهم على الآخر كل ما للأخ على أخيه من الحقوق، قال عليه الصلاة والسلام: ((تآخيا في الله أخوين أخوين)) وأخذ عليه الصلاة والسلام يؤاخي بين أنصاري ومهاجري، فاختار عمه حمزة بن عبد المطلب أخا لزيد بن حارثة، واختار أبا بكر أخا لخارجة بن زهير إلى آخره.
وفي هذا المجال ضرب الأنصار والمهاجرين أمثلة رائعة تدل على عظمة الحب في الإسلام، روى البخاري -رضي الله عنه- عن أنس قال: "قدم عبد الرحمن بن عوف إلى المدينة، فآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن ربيع الأنصاري، فعرض سعد عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك، لكن دلني على السوق". ولقد مدح القرآن الكريم هذه المؤاخاة، وهذا الحب في الله، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: من الآية: 103). الجانب الثاني: تحقيق الوحدة السياسية في مجتمع المدينة ككل، بعد أن آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار سعى بكل جهده، وما يملك إلى القضاء على جذور العداوة القديمة التي كانت تشعل نيران الحروب بين قبيلتي الأوس والخزرج؛ ولأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يعرف طباع اليهود، وغدرهم فقد حاول أن يؤمن المسلمين منهم كما سعى -عليه الصلاة والسلام- إلى أن يحقق لهم الأمان على أنفسهم، ولتحقيق ذلك جمع سكان المدينة من مهاجرين وأنصار ويهود، وتشاور معهم، وانتهوا إلى تكوين اتحاد يضم أهل المدينة جميعًا، وكتب عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار كتابا، واعد فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم شروطًا، وشرط لهم، وكان هدف الرسول من ذلك أن تصبح المدينة وحدة متكاملة تدافع عن نفسها، وترعى مصالحها، وتعد هذه الوثيقة في مبادئها من أعظم ما عرف العالم من مبادئ حقوق الإنسان على مر التاريخ.
المنهج الإسلامي في التنظيم.
والجانب الثالث: بناء المسجد، واتخاذه مقرًا للحكم، كان من أول الأعمال التي قام بها الرسول في المدينة بناء المسجد النبوي الشريف، فكان هو المكان الذي يقيم فيه المسلمون شعائرهم ويتعلمون فيه القرآن، ويتفقهون في أمور دينهم كما كان مقرًا للحكم ودارًا للشورى ومدرسة لتلقي العلم، ودارًا للقضاء. وهكذا نكون قد انتهينا من الحديث عن المنهج الإسلامي في التخطيط، والذي أخذنا تطبيقا له ثلاث حالات: هي التخطيط لنشر الدعوة الإسلامية، والتخطيط للهجرة، وتخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة. ونكتفي بهذا القدر، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - المنهج الإداري الإسلامي في التنظيم, والرقابة والإدارة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر المنهج الإسلامي في التنظيم الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد, وعلى آله, وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد: نشرع الآن في الحديث عن منهج الفكر الإداري الإسلامي في التنظيم فنقول: مما لا شك فيه أن الإسلام هو دين التنظيم بمعناه العام, والمتأمل لقول الله -تبارك وتعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: الآيات: 37 - 40) فالمتأمل لهذه الآيات العظيمة يرى التنظيم الدقيق الرائع, والترتيب المحسوس لأشياء تتحد وتتعاون في نظام دقيق؛ من أجل تحقيق هدف عظيم, هو استمرار الحياة في الكون, والجسم الإنساني كما خلقه الله فسواه فأحسن خلقه وتسويته, مثلٌ واقع, يدل على التنظيم الدقيق, يقول تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا
آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (المؤمنون: الآيات: 12 - 15). أما التنظيم بالمعنى الإداري: فيمكن القول: إن الإسلام قد وضع القواعد العامة للتنظيم الاجتماعي, والمتأمل لقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32) نقول: المتأمل لهذه الآية يدرك هذه الحقيقة بوضوح, فالآيات السابقة توضح أن الله -تعالى- قد جعل الاختلاف والتباين بين الناس سببًا لتقسيم العمل بينهم, وتحقيقًا لمبدأ التخصص, كل منهم حسب طاقته, وقدراته, وخبرته, كما أن الإسلام جعل الناس درجات؛ ليسخر الأعلى الأدنى في قضاء الأعمال التي تعود على المجتمع كله بالخير العميم, ولم يجعل الإسلام تسخير بعض البشر للبعض الآخر, لم يجعل هذا التسخير قائمًا على جنس, أو لون, أو رغبة في التحكم والعلو, وإنما ربط التسخير بطبائع البشر, وظروفهم, وإمكاناتهم, فجعلهم درجات بما اختلفوا من قوة وضعف, وعلم وجهل, وجد وخمول, وغير ذلك من أوجه الاختلاف. ومن المهم هنا أن نذكر أن هذه الدرجات التي أقرها الإسلام, ورفع بها بعض الناس على بعض, والتي يمكن أن نطلق عليها في مجال الإدارة الهيكلَ الوظيفي, إنما تتميز بالمرونة حسب ظروف كل مجتمع, وحسب طريقة العمل المؤدَّي, فليس هناك ما يمنع من كان في درجة دنيا أن يرتفع بإيمانه إلى درجة أعلى, فإن الله لا يضيع أجر العاملين, وما دام العامل قد أحسن, ووصل إلى الكفاءة التي تؤهله لنيل الدرجة, فالإسلام يفتح له الباب للتقدم وللرقي, يقول تعالى:
{أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} (آل عمران: من الآية: 195) ويقول تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30) والرقي والتقدم في الهيكل الوظيفي الإسلامي لا يفرق بين الرجل والمرأة, يقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) وهذا يؤكد ما قلناه من أن درجات الرقي والتقدم مرهونة فقط بالإيمان, والعمل, وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132). وبعد أن وضع القرآن الكرم القواعد العامة للتنظيم الاجتماعي, جاء حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فوضح هذه القاعدة في مواقف عدة, يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)) ويقول -صلى الله عليه وسلم: ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) فالرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأحاديث ينظر للمجتمع الإسلامي على أنه مجتمع متكامل, ومن ثم فإن المنظمات القائمة فيه, هي منظمات اجتماعية, تتعاون فيها جميع الطاقات من أجل الوصول إلى أعلى المعدلات, وانطلاقًا من أن أي خلل في جزء يؤثر في الأجزاء الأخرى, وأي تقصير في تخصص يؤثر على تخصصات أخرى كثيرة؛ لذا فإن المتخصص في عمل معين لا يقتصر دوره على مجرد أداء عمله بكل ما لديه من طاقة فقط, بل تقع عليه قبل ذلك, وبعده, تبعة تقديم كل ما يملك من أفكار, أو نصائح, أو خبرات في المجالات الأخرى؛ انطلاقًا من مفهوم أن الدين النصيحة لله, ولرسوله, ولأئمة المسلمين, وعامتهم.
وطبقا لمفهوم التكامل الإسلامي فإن الإدارة عندما تفوض سلطاتها للمتخصصين, لا تنتهي مسئولياتها عن الأعمال التي فوضت فيها, بل هي شريكة في المسئولية, وملزَمة بالمتابعة, حتى يتم أداء العمل بما يحقق الأهداف المطلوبة. ولقد وضع الرسول -عليه الصلاة والسلام- أسس التنظيم الاجتماعي في الدولة الإسلامية الأولى, فقسم العمل إلى إدارات, واختار من المسلمين أكفأهم لتولي مسئولية هذه الإدارات, وقد كان عبد الله بن نوفل أول من تولى القضاء في المدينة, ومصعب بن عمير أول قارئ في المدينة, كما كان زيد بن ثابت هو القائم بأعمال الترجمة, حيث كان يعرف الفارسية, والروسية, والقبطية, والحبشية, واليهودية, ولم ينس الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإعلام الديني, فاتخذ من حسان بن ثابت, وكعب بن مالك, شعراء للدعوة الإسلامية, وكان لكل من يتولى إدارة أعوان يساعدونه, ويأتمرون بأمره, وينفذون تعليماته, كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرسل الجيش للغزوات وعلى رأسه أمير, وخليفة للأمير, وخليفة للخليفة, كما أن الرسول الملهم -صلى الله عليه وسلم- لم ينس الوظائف الاستشارية التي تقوم بتقديم النصح والتوجيهات, فأنشأ مجلسًا للشورى, يتكون من أربعة عشر نقيبًا يتم اختيارهم من بين أهل الرأي والبصيرة, وأصحاب العقل والفضل, وكان هذا المجلس يشمل جميع التخصصات؛ ليكون مرجعًا للمسلمين؛ عملًا بقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: من الآية: 7). وفي عصر الخلفاء الراشدين اتسع نطاق الدولة الإسلامية, فاتسع نطاق التنظيم, إلا أنه سار على نفس القواعد التي كانت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- متمثلة في
المنهج الإسلامي في الرقابة.
الكفاءة, والخبرة, فقد أسند أبو بكر -رضي الله عنه- القضاءَ إلى عمر, كما أسند إلى أبي عبيدة أمانة بيت المال, وأسند إلى علي بن أبي طالب الإشراف على أسرى الحرب, وكذلك فعل عمر بن الخطاب, إذ احتفظ لنفسه بأعمال الخزانة, ووزع الأعمال على أصحاب الكفاءة, كل حسب خبرته, وأعلن ذلك بين الناس قائلًا: من أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل, ومن أراد أن يسأل عن القرآن فليأت زيد بن ثابت, ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني, فإن الله جعلني له خازنًا, وقاسمًا. المنهج الإسلامي في الرقابة ثم نتحدث الآن عن المنهج الإسلامي في الرقابة، فنقول: الرقابة بالمعنى العام هي متابعة ما يحدث؛ للتأكد من أنه يتم وفقًا للخطط الموضوعة. والرقابة وفقًا للمفهوم الإداري: هي العملية التي ترى بها الإدارة هل الذي حدث كان من المفروض أن يحدث؟ وإذا لم يكن كذلك فلا بد من إجراء التعديلات الضرورية. والمفهوم الإسلامي للرقابة أنها عملية مستمرة, تقع على عاتق جميع العاملين بالمنظمة, ولا تختص بها جهة واحدة, وفي هذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)). ويمكن القول أن هناك ثلاثة مصادر للرقابة في الإسلام هي: الرقابة الإلهية, الرقابة الذاتية, الرقابة العامة.
ونتحدث الآن عن الرقابة الإلهية فنقول: المصدر الرئيسي للرقابة هو الرقابة الإلهية, وتنبع هذه الرقابة من إحساس المسلم بأن تصرفاته -وإن خفيت على الأجهزة الرسمية, أو على المجتمع- فإنها لا تخفى على الله -سبحانه وتعالى- بل ستكون مصدر ثواب, أو عقاب, يوم القيامة, يقول -تبارك وتعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة: الآية 18) ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} (آل عمران: الآية 5) ويقول تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} (غافر: من الآية: 16) ويقول تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (البقرة: من الآية: 284) والمسلمون جميعًا يوقنون بهذه الحقيقة, ويعلنونها دائمًا {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} (إبراهيم: من الآية: 38). وأما بالنسبة للرقابة الذاتية فنقول: يتميز المنهج الإسلامي باهتمامه بالأشكال المختلفة للرقابة, إلا أنه يعطي اهتمامًا أكبر للرقابة الذاتية النابعة من الضمير, ويعدها أنجح الأساليب الرقابية, والضمير هو صوت الله الحي الكامن في الإنسان, ويعرفه البعض بأنه: كل نزعة خيرية كامنة في الإنسان بالفطرة, ولقد وضع الإسلام في المسلم ضميرًا حيًّا لا يموت أبدًا؛ إذ ربط المسلم بالله -سبحانه وتعالى- برباط دائم لا نهاية له, وصلة قربى لا مسافة فيها, يقول تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية: 115) ويقول تعالى: {وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المجادلة: من الآية: 7) ويقول -صلى الله عليه وسلم: ((اعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)).
وفي مجال العمل ينبهنا الضمير الإنساني دائمًا إلى قول الله تعالى: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105). والرقابة الذاتية تجعل الفرد هو الذي يقوِّم نفسه, ويصحح أخطاءه, ويحاول قدر الجهد إتقان العمل المنوط به, ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-محاولًا تنمية هذه الرقابة في النفس الإنسانية: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبو ويقول: زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ويقول: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). وأما بالنسبة للرقابة العامة فنقول: عرف الإسلام الرقابة العامة بمفهوميها المعاصرَين: الرقابة الإيجابية التي تحاول تفادي الأخطاء قبل وقوعها, والرقابة السلبية التي تعاقب على الأخطاء التي تقع وتحاسب عليها, والرقابة العامة في الإسلام تنبع من مفهوم أن النفس أمارة بالسوء, ومن ثم فهي في حاجة إلى من يراقب أعمالها, ويردعها إن لم ترتدع بالضمير الداخلي, إلا أن الإسلام كان سبَّاقًا في الأخذ بمفهوم الرقابة الإيجابية, والأثر الإسلامي المشهور الذي يقول: الوقاية خير من العلاج كان هو المرجع بمفاهيم الرقابة الإيجابية في مدارس الفكر المعاصر. والرقابة الإيجابية هي رقابة فعالة تهدف إلى اكتشاف الأخطاء في الوقت المناسب, أو تقديرها قبل وقوعها, واتخاذ ما يلزم من إجراءات لمنع وقوعها, وهذا النوع من الرقابة يعد مدخلًا تعاونيًّا بين الإدارة, والقائمين بالتنفيذ؛ إذ إنها تحاول
التعرف على نقاط الضعف في التنظيم, وترفع بذلك التقارير إلى المسئولين, حتى يمكن لهم اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة هذا الضعف, قبل أن يؤثر على أهداف التنظيم. أما الرقابة السلبية فهي التي تظهر الأخطاء التي وقعت فعلًا, وتكشفها أمام المسئولين؛ لاتخاذ إجراءات العقاب على من تسببوا فيها. والإسلام في مفهومه للرقابة السلبية يفرق بين نوعين من الأخطاء: فهناك الأخطاء المتعمدة التي قُصد بها الإساءة إلى التنظيم, وهذه يجب أن تؤخذ بالشدة الرادعة, والعقاب الشديد, وهناك الأخطاء العادية الناجمة عن كثرة العمل, أو بسبب عدم الفهم للتعليمات, أو بسبب الطبيعة الإنسانية كالسهو, والنسيان, وغيرها, وهذه تعالج بالتوجيه, والتنبيه, والتوعية, ويلخص القرآن الكريم هذه المعاني في كلمات دقيقة, وبليغة, فيقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب: من الآية: 5). والرقابة العامة في الإسلام -كما نراها- تنقسم إلى رقابة داخلية, ورقابة خارجية, فالرقابة الداخلية نعني بها رقابة جهة الإدارة, وقد عُرف هذا النوع من الرقابة منذ عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي طبق هذا الأسلوب الرقابي في شكلين: 1 - إرسال من يثق في نزاهتهم لمتابعة أعمال الرعاة, والولاة في الأقاليم. 2 - تحقيق الشكاوي التي ترسل إليه من المسلمين ضد ولاة الأمر. هذا إلى جانب أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد وضع بعض القواعد الفعالة التي تكفل له تحقيق الرقابة الكاملة على عماله, ومنها ارتياد منازل المسلمين, وتفقد أحوالهم, وتعهد أهل البؤس والفاقة منهم,
وأيضًا في موسم الحج كان يجتمع بالعمال, ويناقشهم في أعمالهم, ويحذرهم من تعدي حدود الله -تبارك وتعالى- وأيضًا كان الرسول يأمر عماله في الأقاليم عند دخول المدينة أن يدخلوها نهارًا؛ ليرى الناس جميعًا ما يحملون من أموال, أو هدايا. وأما بالنسبة للرقابة الخارجية فقد اشتملت في الإسلام على نوعين: رقابة شعبية, ورقابة قضائية. فبالنسبة للرقابة الشعبية: نعني بها رقابة الشعب على الجهاز الإداري للدولة من القمة إلى القاعدة؛ إذ إن كل مواطن له الحق في مراقبة هذه التصرفات, ونقدها نقدًا بنَّاءً بما يحقق الصالح العام, وفي النظام الإسلامي تجلت الرقابة الشعبية في المفهوم الاسمي في أسلوب الحسبة, الذي أخذ به الإسلام, وأوجب على المحتسب أن يراقب أعمال الخلفاء, والولاة, ورجال الدين, وقد جعل الإسلام الحسبة فرض كفاية على العامة؛ إذ يجب على الجميع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لكنه جعله فرض عين على أناس بحكم مناصبهم, يقول -صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فقلبه, وذلك أضعف الإيمان)). وأما بالنسبة للرقابة القضائية: فقد عرف الإسلام الرقابة القضائية, متمثلة في ناظر المظالم الذي كان يباشر أعمال الرقابة الإدارية, وكانت له في هذا الشأن عدة اختصاصات نذكر منها: 1 - النظر في تعدي الولاة على الرعية. 2 - جور العمال فيما يجبونه من أموال. 3 - محاسبة كتاب الدواوين فيما أوكل إليهم من إثبات الأموال.
الإدارة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم.
4 - النظر فيما يقع بين المواطنين, والإدارة, من منازعات. وهكذا نرى أن الرقابة بكافة صورها, وأشكالها التي تلائم المجتمعات الإسلامية, قد أخذ بها النظام الإسلامي فكرًا, وعملًا, وكانوا يعتبرونها واجبًا عليهم يحاسَبون عليه أمام الله -سبحانه وتعالى- مصداقًا لقول رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع)). ويتضح ذلك أكثر فيما قاله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين سأل الناس: أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم, ثم أمرته بالعدل, أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين, قال: لا, حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته به أم لا؟. الإدارة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم ننتقل بعد ذلك إلى موضوع آخر وهو: التنظيم الإداري في مجال التطبيق العملي. بعدما ذكرنا توجيهات الفكر الإداري الإسلامي في الإدارة, والمنهج الإسلامي في الإدارة, نريد أن ننظر إلى الواقع, ونطبق هذه الأمور النظرية التي درسناها على الواقع, فندرس الآن التنظيم الإداري في مجال التطبيق, وخير تطبيق لذلك هو ما كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وزمن خلفائه الراشدين, فنبدأ -إن شاء الله- في الحديث عن هذا الموضوع, وهو التنظيم الإداري في مجال التطبيق العملي. ونبدأ الآن في التنظيم الإداري في عهد نبينا -صلى الله عليه وسلم- فنقول: يعتبر التنظيم الإداري للدولة الإسلامية صورة صادقة للفكر السياسي, وتطوره عند المسلمين, والأداة الفعالة التي صاحبت بناء هذه الدولة منذ فجر تاريخها, ويرجع السبب في ذلك إلى أن التنظيم الإداري للدولة الإسلامية استند إلى تقاليد رفيعة, وأسس راسخة الأوتاد, وضعها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بنفسه؛ إذ أدرك
-عليه الصلاة والسلام- منذ جهر بالدعوة إلى الإسلام, أدرك أهمية التنظيم الإداري لأبناء المجتمع الإسلامي الجديد, وضرورة تنسيق العمل بينه -عليه الصلاة والسلام- وبين القائمين على هذا التنظيم الهام؛ من أجل تبليغ الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة, وظهرت طلائع هذا التنظيم الجديد منذ بيعة العقبة الثانية, التي حضر فيها وفد من أهل يثرب إلى مكة, في العام السابق من هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولمَّا كان هذا الوفد يتألف من مجموعة كبيرة عددها ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان, رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرورة وضع نظام لهم باعتبارهم نواة المجتمع الجديد, وليحافظ على سلامة هذا المجتمع وتنسيق العمل بين أفراده في سبيل نشر الدعوة الإسلامية, وشرَح الرسول الكريم لأعضاء وفد يثرب نظامه, وأهميته, حيث قال لهم قبل عودتهم إلى يثرب: ((أخرجوا إليًّ منكم اثنى عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم)) فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا, تسعة من الخزرج, وثلاثة من الأوس, وعندئذ خاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولئك النقباء, أو رجال النظام الإداري الأول في الإسلام, موضحًا لهم أسلوب العمل قائلًا: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء, ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم, وأنا كفيل على قومي. وحقق هذا التنظيم الإداري المبكر أولى ثماره الرائعة, في إعداد العدة لهجر الرسول إلى يثرب, ثم تهيئة الجو لنجاحها, برغم كيد الكفار, وسعة تدبيرهم, وبدأت بانتقال الرسول الكريم إلى يثرب مرحلة جديدة للتنظيم الإداري, من أجل التفرغ لأداء رسالته الدينية, ورفع قواعد المجتمع الإسلامي الوليد, ودولته الناشئة, وتجلت معامل هذا التنظيم الإداري في الصحيفة التي عقدها الرسول
الكريم -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار, ويهود يثرب, والتي صارت تمثل النظام السياسي لجماعة المسلمين في المدينة, والدستور الدائم للدولة الإسلامية الوليدة, إذ رسمت هذه الصحيفة إلى جانب الشروط السياسية, وما ارتبط بها من حقوق وواجبات, أقول: رسمت هذه الصحيفة أسلوب العمل بين جميع الفئات المدنية, بما يجعل التنظيم الإداري ترجمة فورية, وعملية, لما تضمنته تلك الصحيفة من نظام سياسي, ويلمس الباحث في تلك الصحيفة الارتباط الوثيق بين النظامين السياسي, والإداري, وهي الحقيقة التي غدت سمة مميزة لنظم الدولة الإسلامية كلها, وقاعدة أساسية التزم بها الخلف عن السلف طوال عصر هذه الدولة الزاهر. وتتضح القواعد الأساسية لهذا الترابط في النص على أن المؤمنين أمة من دون الناس, وأن أفراد هذه الأمة عليها تنظيم العمل فيما بينها إداريًّا؛ من أجل السهر على الأمن, والضرب على يد المفسدين, وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم, وإن أيديهم عليه جميعًا, ولو كان ولد أحدهم, واختار الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من جماعة الصحابة رجال إدارته, كل حسب مواهبه, واستعداده, وتزويدهم أيضًا بالتدريب الكافي, والإرشادات التي تتفق مع تطور الدولة, واتساع سلطانها, وكانت القدرة على نشر الدعوة هي الأساس الأول للعمل في الميدان الإداري, وجاء في مقدمة العاملين في هذا الميدان الإداري سبعة من المهاجرين, وسبعة من الأنصار, منهم حمزة, وجعفر, وأبو بكر, وعمر, وعلي, وابن مسعود, وسليمان, وعمار, وحذيفة, وأبو ذر, والمقداد, وبلال, واشتهروا جميعًا باسم النقباء؛ لأنهم ضمنوا للرسول إسلام قومهم, وأن النقيب هو الضمين لما يتولاه من أمور, واستطاع نظام النقباء أن يحافظ على
الاتصال بين النبي باعتباره رأس الدولة الجديدة, وبين جماعة المسلمين, وذلك على هدي القاعدة التي سبق أن تقررت إداريًّا في بيعة العقبة الثانية. وعرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- في رجال إدارته خصائصهم, وحث الناس بالتالي على أمثل السبل للإفادة من نشاطهم, فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر, وأشدهم في دين الله عمر, وأصدقهم حياء عثمان, وأقضاهم علي, وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل, وأفرضهم (يعني أعلمهم بالفرائض) زيد بن ثابت, وأقرؤهم أبي بن كعب, ولكل أمة أمين, وأمين هذه الأمة أبو عبيد بن الجراح)) وقال -عليه الصلاة والسلام- أيضًا: ((خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود, وأبي بن كعب, ومعاذ بن جبل, وسالم مولى حذيفة)) واشتهر بحفظ القرآن كله من الأنصار: أبي, ومعاذ, وزيد بن ثابت, وانتقى من هذا النفر من علماء الصحابة كتبةً له, يدونون القرآن عقب نزول الوحي به مباشرة, وغير ذلك مما تتطلبه شئون الإدارية في الدولة الإسلامية الوليدة, وكان أولئك الصحابة من الكتبة, وهم في الجاهلية, وصدر الإسلام, ممن اشتهروا بالمقدرة على الكتابة باللغة العربية, وإجادة صنائع كثيرة, ويبلغ عدد كتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنين وأربعين رجلًا. وبدأ بعد عام الوفود, أي منذ السنة التاسعة للهجرة ظهور طبقة العمال الإداريين؛ نظرًا لنمو الدولة الإسلامية الوليدة, واتساع سلطانها على جميع أرجاء شبه الجزيرة العربية, واقتضى الأمر تقسيم تلك البلاد إلى وحدات كبرى, تسهل تنظيم شئون أهلها, وربطها مباشرة مع العاصمة الجديدة للدولة الإسلامية في المدينة المنورة,
وكانت العاصمة, وما حولها من مناطق تخضع للإدارة المباشرة للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى حين صار لمكة وال يتلقى منه -عليه الصلاة والسلام- التوجيه, وكل ما تقتضيه شئون الإدارة الجديدة. وانقسمت بلاد العرب إلى جانب هاتين المدينتين المقدستين على مقاطعات هي: تيماء, والجند, وبني كندة, ونجران, وحضرموت, وعمان, والبحرين, وجرت عادة الرسول الكريم منذ عام الوفود على أن يختار من بين الوافدين عليه أصلحهم لتولي شئون الإمارة في المقاطعة التي ينتمي إليها ذلك الوفد, وذلك بما يتوافر لهذا الأمير من مؤهلات, دون نظر للسن, ومن ذلك أنه حين وفد عليه وفد ثقيف أمَّر عليهم الرسول عثمانَ بن أبي العاص, وكان أحدثهم سنًّا؛ وذلك لأنه كان أعلمهم, ثم زوده الرسول الكريم بتعليماته عند عودته إلى مقر إمارته قائلًا له: يا عثمان تجاوز في الصلاة, وأقدر الناس بأضعفهم؛ فإن فيهم الكبير, والصغير, والضعيف, وذا الحاجة, وقام إلى جانب كل أمير عامل آخر عيَّنه النبي من قِبله لجمع الزكاة, والصدقات, فضلًا عن تعليم الناس القرآن, وما يتصل بشئون الدين من معاملات, ودرب النبي بنفسه هذا النفر من العمال, حتى صاروا مثالًا عاليًا للشرف, والنزاهة, والإخلاص في العمل. ومن أمثلة ذلك ما فعله الرسول الكريم حين بعث معاذًا إلى اليمن, إذ قال له: ((إنك تقدم على قوم أهل كتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله, فإذا عرفوا الله تعالى, فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم, وترد على فقرائهم, فإن هم أطاعوك لذلك فخذ منهم, وتوق كرائم أموالهم, واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))
وكان الرسول الكريم يكتب إلى بعض عماله بما يقتضيه الأمر, على نحو ما كتبه لعمرو بن حريث, عامله على نجران, يشرح له الفرائض, والسنن, وما يفعله في الصدقات, والديات. واشتهر عمال الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بالنزاهة, والإخلاص في العمل, ومن أمثلة ذلك عبد الله بن رواحة الذي عهد إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- تقدير ثمار أهل خيبر من اليهود؛ إذ حاول اليهود تقديم رشوة له من حليٍّ قائلين له: هذا لك, وخفف عنا, وتجاوز في القسم, فقال لهم عبد الله: يا معشر اليهود: إنكم لمن أبغض خلق الله تعالى إلي, وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم, أما ما عرضتم علي من الرشوة, فإنها السحت, وإنا لا نأكلها, فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. ودأب الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- مع ذلك على محاسبة العمال, وبخاصة فيما يتعلق بالشئون المالية, وقد استعمل رجلًا على الصدقات, وحين حاسبه -عليه الصلاة والسلام- قال الرجل: هذا لكم, وهذا أهدي إلي, فقال الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم: ((ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولَّانا الله, فيقول: هذا لكم, وهذا أهدي إلي, أفلا قعد في بيت أبيه, وأمه, فنظر أيهدى إليه أم لا؟)) وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((من استعملناه على عمل ورزقناه رزقًا, فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) أي خيانة. واستمع الرسول أيضًا إلى كل شكوى تأتيه عن أي عامل من عماله, من ذلك أنه عزل العلاء بن الحضرمي, عامله على البحرين؛ لأن وفد عبد القيس شكاه -أي شكاه للنبي -صلى الله عليه وسلم- فعزله النبي -صلى الله عليه وسلم- وولى بدلًا منه أبان بن سعيد, وقال له: استوص بعبد القيس خيرًا.
الإدارة في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-.
وظل الرسول -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على اختيار رجال إدارته من المشهود لهم بالكفاءة, ومنهم أبو سفيان بن حرب, الذي ولاه على نجران, لشئون الصلاة, والحرب, على حين وجه معه راشد بن عبد الله أميرًا على القضاء, والمظالم, وكان عنصر الشباب هو الغالب على رجال الإدارة زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن أصحاب الهيبة في النفوس, وكان ثلاثة أرباع عماله من بني أمية, الذين كان لهم في الجاهلية نشاط واسع في شئون مكة الإدارية. وبهذا نكون قد انتهينا عن الحديث عن الإدارة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم. الإدارة في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- ونعرج الآن على الإدارة في عهد أبي بكر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- فنقول: استهل أبو بكر ولايته بخطبته المشهورة, التي يعتبرها المؤرخون, والناقدون -رغم إيجازها- دستورًا للحكم, وتمسكًا كاملًا بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والجهاد في سبيل الله, والتأليف بين قلوب المسلمين. قال أبو بكر في أول خطبة له, بعد أن حمد الله, وأثنى عليه, وصلى على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: أما بعد: أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم, فإن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوموني, الصدق أمانة, والكذب خيانة, والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له -إن شاء الله- والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه -إن شاء الله- لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل, ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء, أطيعوني ما أطعت الله ورسوله, فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم, ثم قال: قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. هذه هي الخطبة التي بدأ بها أبو بكر الصديق حكمه على المسلمين, بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم.
موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة.
لقد أعطى أبو بكر الأمة الإسلامية حقها في مراقبة أعمال الخليفة, وتبدأ أعمال أبو بكر منذ إسلامه, حين وضع جنبًا إلى جنب الحجر الثاني في دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وتأسيس دولة الإسلام, فهو أول المسلمين, وأول المهاجرين, وهو مسئول الأمن الخاص للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمين سره, ومستشاره الأول في قضايا الدين, والرعية, والمدة الطويلة التي لازم فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذ نشر الدعوة, وحتى وفاته, قد أكسبته الخبرة الإدارية الفائقة التي أهلته بحق للنجاح في إدارة الدولة الناشئة, ورعاية مصالح المسلمين في أدق مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي. لهذا فإن أبا بكر بعد توليته الحكم, صمم منذ اليوم الأول على أن ينهج نهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويترسم خطاه, ويسلك السبيل الذي سلكه في سبيل نشر الإسلام, وتوحيد العرب, دون أن يخاف وهنًا, ولا حيرة, ولا جبنًا, فكانت سياسته في الحكم إقتداء تام بسياسة وحكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاتبع سيرته في الإدارة, واحتفظ بالعمال الذين عاونوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- والأمراء الذين أمرهم, واختار أبا عبيدة بن الجراح للشئون المالية, وعمر ابن الخطاب للقضاء, وأبقى على زيد بن ثابت كاتبًا له, كما أبقى على أهل الشورى الذين اختارهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع تغيير في بعض الأشخاص, بسبب تعيينهم ولاة على بعض الأمصار, وأما قضاء الولايات فكان يعهد إلى الولاة في اختيارهم؛ لأنهم أدرى بها, ثم يعقد لهم ولاية القضاء. نكتفي بهذا القدر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 4 - الإدارة في عهد عمر بن الخطاب موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن المنهج الإسلامي في التنظيم, ثم عن المنهج الإسلامي في الرقابة, ثم بدأنا الحديث عن التنظيم الإداري في مجال التطبيق العملي, فتحدثنا عن الإدارة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم تحدثنا عن الإدارة في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه. ونتحدث الآن عن الإدارة في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- فنقول: نما النظام الإداري في الدولة الإسلامية على هدي التعاليم التي قررها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وصار قادرًا على مواجهة التطور الهائل والسريع الذي شهدته تلك
الدولة, على عهد الخليفة عمر بن الخطاب؛ ذلك أن الفتوحات الإسلامية التي تمت على عهد هذا الخليفة جعلت العرب سادة الهلال الخصيب, , وفارس, ومصر, وهي مواطن جغرافية هامة, كانت أقدم مراكز للنظم الإدارية في العالم بأسره, فورث العرب تلك النظم القديمة التي ترجع تقاليدها إلى عصور اليونان, والرومان, والفرس, والفراعنة, والآشوريين, والبابليين, واعتبروها تراث الإنسانية كلها, قد آل إليهم, وأنهم صاروا القوامة, والمسئولين عن سلامة هذا التراث, ثم الإفادة منه. وضرب الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه المثل العملي للإفادة من تلك النظم القديمة, في سبيل بناء النظام الإداري للدولة الإسلامية الناشئة, ذلك أن إدارة الممتلكات الجديدة على عهده كانت تمثل مشكلة خطيرة أمام السلطات الإسلامية؛ إذ تضم تلك الممتلكات بلادًا ذات شعوب متعددة اللسان, وتخضع لأنماط إدارية متباينة, فمصر, والشام, جرت إدارتها على النماذج البيزنطية, على حين سادت العراق, وفارس, التقاليد الفهلوية لغةً, ونظامًا, فأبقى الخليفة عمر بن الخطاب على التنظيمات الإدارية, وكذلك المؤسسات الإدارية نفسها في البلاد المفتوحة على نحو ما كانت عليه؛ حتى لا يضطرب سير الأعمال, وللإفادة من خبرة العمال بها أيضًا, وفي نفس الوقت طعم هذه الإدارات بالروح العربية الجديدة التي صقلها الإسلام, وزودها بتعاليم سامية تستهدف خير الإنسانية, ورفاهيتها, واستمدت الروح العربية مقوماتها من مفهوم السلطان في الإسلام, وهو يقوم على أن السيادة العليا لله -سبحانه وتعالى- وهو مالك كل شيء, وهو الحامي والمهيمن على المصالح العامة, فالمال في الدولة هو مال الله, والجند جند الله, أي أن كلمة الله
ترادف في مصطلح العصر الحاضر الصالح العام, بمعنى أن مال الله هو الأموال العامة اليوم, وجيش الله هو الجيش الذي ينهض بأعباء الصالح العام, غير أن الله -سبحانه وتعالى- لا يمارس الحكم, والإدارة بنفسه, أو بصورة مباشرة بين الناس, على نحو ما ساد نظم الحكم القديمة لدى الفراعنة مثلًا, وإنما السيادة العليا التي ترجع إلى الله -سبحانه وتعالى- مودعة للخليفة الذي يعتبر رأس النظام السياسي, والمهيمن على أزمَّة النظام الإداري, فالخليفة هو رجل الدنيا الذي يتولى الإشراف على المصالح العامة, التي هي لله -سبحانه وتعالى- والخليفة وحده بالتالي هو صاحب الحق في اختيار من يشاء لتصريف شئون الإدارة والحكم, وهو المسئول عن أعمال من يختارهم؛ لأنهم خاضعون له, ويعملون باسمه, ويباشرون سلطانهم بتفويض منهم. واقتضى هذا المفهوم الإسلامي عن السلطان أن يكون النظام الإداري مركزيًّا؛ لأن الخليفة هو المسئول عن تنفيذ القانون, وأن الرابطة بينه, وبين عماله, يجب أن تكون علاقة مباشرة, ومن ثم فإن أي تمرد على أولئك الولاة يعتبر تمردًا ضد الخليفة نفسه, وأن المسئولية أولًا وأخيرًا هي مسئولية الخليفة, وآمن الخليفة عمر بن الخطاب بهذا المفهوم إيمانًا عميقًا عبر عنه في قوله: والله لو عثر بعير بالعراق لكنت مسئولًا عنه, ثم أكد هذا المفهوم مرارًا, وفي مناسبات عديدة, كان آخرها قوله: لئن عشت لأسيرن في الرعية حولًا, فإني أعلم أن للناس حوائج تُقطع دوني, يعني لا يصلني خبرها, أما عمالهم -أي عمال الرعية- فلا يرفعونها, وأما هم -أي الرعية أنفسهم- فلا يصلون إليَّ, فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين, ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين, ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين, ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين, ثم أسير إلى
الكوفة فأقيم بها شهرين, ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين, والله لنعم الحول هذا. وواجه الخليفة عمر بن الخطاب بهذه الروح الإسلامية الواسعة الأفق, وبمفهومها عن السلطات, واجه مشكلة التنظيم الإداري للدولة الإسلامية النامية, واتخذ خطوات عملية في تلك السبيل شهدت له بالقدرة الفائقة على التنسيق بين جميع النظم التي تكفل للدولة الاستقرار, وتجنبها المتاعب, والهزات الهدامة؛ إذ أجاد الجمعَ بين النظم الإدارية التي سبق أن تقررت قواعدها على عهد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وبين متطلبات الوضع الجديد للدولة الإسلامية, بعد الفتوحات الشاسعة التي تمت على عهده, وشيَّد نظامًا إداريًّا مركزيًّا كَفَلَ الطمأنينة, والرفاهية, لجميع القاطنين في ظله, وقدم لهم -أيضًا- المثل العملي عن مفهوم السلطان في الإسلام. وظهرت طلائع التجاوب بين مفهوم السلطان في الإسلام وما اقترن به من نظم, وبين النظم القديمة في البلاد المفتوحة, في احتفاظ الخليفة عمر بن الخطاب بمنصب الأمير الذي سبق أن تقرر على عهد الرسول الكريم؛ إذ عين الخليفة على كل بلد من البلاد المفتوحة أميرًا, إلى جانب الإبقاء على النظم الإدارية لتلك البلاد, وعلى الموظفين من أبنائها. وانقسمت الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب إلى ثماني ولايات؛ ليسهل تنظيم إدارتها, وهي مكة, والمدينة, والشام, والجزيرة, والبصرة, والكوفة, ومصر, وفلسطين, وكان لكل ولاية أميرٌ يحمل أحيانًا لقب والٍ, ويقيم في حاضرة الولاية, أي في عاصمة الولاية, حيث يتخذ له مقرًّا خاصًّا, اشتهر باسم دار الإمارة, ويعتبر الأمير ممثلَ الخليفة, والرئيس السياسي, والمسئول الإداري عن جميع الأعمال أمام الخليفة مباشرة,
وكان الوالي يؤم المسلمين في المسجد الجامع بكل ولاية في صلاة الجمعة, والأعياد, بوصفه نائبًا عن الخليفة, ونال بذلك لقب أمير الصلاة, وهو تكريم يدل على هيبة الأمير؛ لأن إمامة الصلاة أمر كان يختص به الخلفاء, حيث تلقب الفرد منهم بلقب إمام, وتولى الأمير أيضًا رئاسة جيش الولاية, ونال في عهد التعيين لقب ولاية الحرب, وصار من واجباته الإشراف على شئون الحامية الموجودة في البلاد, وقيادتها بنفسه؛ لتأمين ولايته, وصد الأعداء عنه, وكان الأمير يجمع -أحيانًا وليس دائمًا- إلى جانب أعماله مهمةَ الإشراف على الإدارة المالية للولاية, التي أطلق عليها إذ ذاك اسم الخراج, ويعتبر مثل هذا الأمير مصدر السلطات في الولاية. ووصف فقهاء النظم الإسلامية هذا اللون من التنظيم الإداري الأول على عهد عمر بن الخطاب بأنه إمارة عامة, ذلك أن الأمير كان يقود الجيش, ويؤم الصلاة, ويقضي في الخصومات, ويُجبِي الأموال, ولكن باستقرار الأوضاع عقب الفتوح, واتساع المطالب الإدارية, اضطر عمر بن الخطاب أن يعين إلى جانب الأمير عاملًا لجباية الخراج, وكان عامل الخراج يتمتع -بدوره- بسلطات واسعة, وبخاصة في الولايات ذات الدخل الواسع, وبذلك أصبح منافسًا للأمير نفسه, وأقدم عمر بن الخطاب على هذه الخطوة في مصر, حيث جعل عمرو بن العاص على الجيش, وعين عبدَ الله بن سعد بن أبي السرح على جباية الخراج, وتخصصت بذلك إمرةُ عمرو بن العاص بعد أن كانت عامة, وصارت الإمارة الخاصة تعني في قول الفقهاء أن يكون الأمير فيها مختصًّا بتدبير الجيش, وسياسة الرعية, وحماية البيضة, والدفاع عن الحريم, ضمن حدود معينة, وليس له أن
يتعرض للقضاء, أو الأحكام, أو لجباية الخراج, أو الصدقة في شيء, حتى الإمامة في الصلاة, فربما كان القاضي أولى بها منه. وساعد الأمير في تصريف الشئون الإدارية في البلاد المفتوحة رجالات الإدارة القديمة الذين احتفظ بهم الخليفة عمر بن الخطاب, سواء ممن كانوا يعملون في الإدارة البيزنطية, أو الساسانية؛ إذ أدرك هذا الخليفة بما أوتي من عقلية إدارية فذة أن توجيه دولته لما فيه الصالح العام يقتضي أن لا تشلَّ الإدارات القديمة, أو يبطل عملها في تلك الأقاليم التي استظلت بظل الإسلام, فاستقرار أحوال الدولة الإسلامية الفتيَّة يقتضي الاستفادة من تجارب الإدارة, والحكم, سواء عن البيزنطيين, أو الساسانيين, ونال عمر بن الخطاب بذلك لقب المؤسس الثاني للدولة الإسلامية, بعد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم. وأظهر عمر بن الخطاب تقديره للنظم الإدارية التي وجدها في البلاد المفتوحة, منذ زيارته لإقليم الشام؛ إذ وضع لهذا الإقليم تقسيمًا إداريًّا, جاء نموذجًا للجمع بين النظم الإسلامية, والبيزنطية, واستمرار الإدارة لحماية البلاد, وأمنها, فاحتفظ بالتقسيم الإداري الذي كان سائدًا هناك من قبل, وهو نظام كان ذا طابع خاص, يجمع فيه حاكم الإقليم إلى جانب مهامه المدنية سلطاتٍ حربية, فأبقى على هذا الوضع, وأطلق على تلك الأقسام الاسم العربي الأجناد جمع جند, وهي مرادفة للكلمة اليونانية بنود عند البيزنطيين, فصارت الأجناد تعني الأقاليم الحربية, التي يقيم في حاضرة كل منها فيلقٌ من فيالق الجيش, على نفس الأسس الإدارية التي سادت النظام البيزنطي. وتعتبر ولاية مصر على عهد الخليفة عمر بن الخطاب نموذجًا كاملًا للنظام الإداري المركزي, من حيث قواعده, ومؤسساته, والطابع الإسلامي الجديد,
فانتقلت إلى عمرو بن العاص, وهو أول والٍ على مصر, على عهد الخليفة عمر بن الخطاب, انتقلت إليه مهام الحاكم البيزنطي العام, الذي كان يعرف باسم (سامبولوس) في البلاد, وامتد نفوذ عمر بن العاص إلى جوانب إدارية عديدة, وأخرى اقتضاها الوضع الإسلامي للبلاد, فأمَّ الناس في الصلاة نيابة عن الخليفة, وهو أمر كان ينص إذ ذاك على أنه الرئيس الأعلى للبلاد, وجمع عمرو أيضًا إلى جانب السلطان السياسي حق الإشراف على الإدارة المالية للبلاد, وهو أمر بالغ الأهمية, حيث يصبح الوالي الذي يجمع بين إمامة الناس في الصلاة, وجمع الخراج, صاحبَ سلطان مطلق, أي أن ولايته ولاية عامة, على نحو المصطلح الذي أطلقه الفقهاء من الباحثين في الشئون الإدارية للدولة الإسلامية. وقد اعتز عمرو بن العاص بهذا السلطان الإداري, حتى قال: ولاية مصر جامعةً تعدل الخلافة, يعني تساوي الخلافة, ولكن ظل عمرو بن العاص -برغم هذا السلطان الواسع- نموذجًا للأمير المسلم الخاضع للإدارة المركزية وسلطانها, الأمين على تنفيذ تعاليمها المباشرة, فقد طلب الخليفة إلى عمرو بن العاص أن يسترشد بكبار رجال مصر في إدارته, ومعرفة أمثل السبل للقضاء على رواسب الإدارة البيزنطية القديمة فيها؛ ذلك أن مصر كانت تعاني الكثير من المتاعب على يد الإدارة البيزنطية الاستعمارية, والتي كان هدفها ابتزاز ثروة البلاد, فكانت مصر تعاني في القرن السابق للفتح الإسلامي مباشرة, كانت تعاني حالة من الفوضى, سببها: أن البيزنطيين -أي الروم- اعتبروا الفلاحين من أهلها مجرد أدوات لإنتاج القمح, وأن رجال الإدارة
الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب.
فيها موكول إليهم فقط ابتزاز الأموال من الرعية, دون أن يكون من مهامهم توفير الرفاهية لها, أو تحسين أحوال الناس وتلبية مطالبهم, وامتثل عمرو بن العاص لأوامر الخليفة عمر, وسأل (بنيامين) أسقف مصر, سأله عن خير وسيلة لإدارة البلاد, وتنظيم أمورها, فأشار (بنيامين) بما يلي: قال له: يا أمير: عليك أن تأتي عمارتها -أي مصر- من وجوه خمسة: أن يُستخرج خراجها في إبَّان واحد, عند فراغ أهلها من زروعهم, يعني في وقت واحد, عندما يفرغ الأهالي من حصد الزراعات, ويرفع خراجها في إبان واحد, عند فراغ أهلها من عصر كرومهم, يعني يؤخذ منهم الخراج في وقت واحد, عندما ينتهون من عصير العنب الذي كانوا يزرعونه, وأيضًا تحفَر خلجانها, وتسَد ترعها, وجسورها, هذه كانت الوصية. وعلق (بنيامين) على اشتراط أن لا يختار عاملًا ظالمًا ليلِي أمور الناس؛ لأنه رجل الإدارة المسئول عن تنفيذ الشروط الأخرى, التي رأى ضرورة توافرها لعمران البلاد. وسار عمرو بن العاص فعلًا على هدي أقوال (بنيامين) المصري, إذ أتاح للأهالي الاشتراك معه في إدارة البلاد, وذلك بما يهيئ لهم الإفادة من عدالة الإدارة الإسلامية, مع الاحتفاظ -في الوقت نفسه- بما ألفوه من نظم إدارية في ظل الدولة البيزنطية. الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب ونحن بصدد الحديث عن الإدارة في عهد عمر بن الخطاب, من الواجب علينا أن نلقي الضوء على بعض الأنظمة التي أنشأها وابتدعها الخليفة عمر بن الخطاب,
والتي لم تكن موجودة قبله, لا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهد الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه- ومن أهم هذه الأنظمة الإدارية التي أنشأها وابتدعها عمر بن الخطاب, نظام الدواوين, ونشأة بيت المال, وتنظيم الجيش الإسلامي, وهو ما سنلقي عليه الضوء فيما يلي: أولًا: الدواوين: الديوان: هو موضع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال, ومن يقوم بها من الجيوش والعمال. وأول من وضع الديوان في الإسلام هو عمر بن الخطاب, فكان عمر أول من دون الدواوين, ومعنى أنه دون الدواوين, أي أنشأها, على مثال دواوين الفرس, والروم, وقد دونها له عقيل بن أبي طالب, ومخرمة بن نوفل, وجبير بن مطعم, وكانوا من نبهاء قريش. وأهم هذه الدواوين التي أنشأها عمر بن الخطاب: 1 - ديوان الإنشاء, أو الرسائل: يمكن القول في ضوء ما ذكرناه أن الديوان سجل تدون فيه الإحصائيات, والأسماء, والمرتبات, والتعليمات الإدارية, والرسائل المتبادلة, كما أنه يمكن القول أنه المكان الذي توضع فيه الرسائل, والمعاهدات, والصكوك, فإن صح ذلك فإننا نستطيع القول أن عمر بن الخطاب هو أول من وضع ديوان الإنشاء في الإسلام, وأن عمر قد جعل تابوتًا -أي صندوقًا- لجمع صكوكه, ومعاهداته.
يقول البعض: وأما كتابة الإنشاء, أو ما عرف فيما بعد بديوان الإنشاء, فلم يكن هناك حاجة لإنشائه في ذلك الوقت المبكر, فما كان الخليفة عمر يقبل إلا أن يكون على صلة مباشرة بولاته, وعماله, يقرأ بنفسه ما يرد منهم من رسائل, ويكتب لهم بنفسه ما يريده, وكل ما وُجد متصلًا بالإنشاء في ذلك العهد هو هؤلاء الكتاب الذين كانوا على غرار كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهم الذين يكتبون ما يمليهم عليه الخليفة, ومن أشهر كتَّاب عمر: زيد بن ثابت, وعبد الله بن الأرقم. ويقول البعض أيضًا: لم يكن ثمة ديوان رسمي لحفظ الوثائق الرسمية قبل أن ينشئه عمر, فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكتب إلى عماله, وإلى رؤساء الدول الأجنبية في بعض المناسبات, وكانت هذه الكتب, والردود عليها, تحفظ عنده بالمدينة, وقد صنع أبو بكر صنيعه, أما في عهد عمر فقد كثرت الكتب بدرجة مألوفة, فأنشأ الديوان الخاص بها في المدينة, وهو ما أُطلق عليه ديوان الإنشاء, أو ديوان الرسائل. ويمكننا أن نستخلص مما سبق أن ما يسمى بديوان الإنشاء قد أخذ شكلًا متميزًا في عهد عمر عما كان عليه في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر, وأن عمر قد وضعه قبل الدواوين الأخرى, أما الدواوين الأخرى كديوان العطاء, وديوان الجند, وديوان الجباية, فهي الدواوين التي أنشأها عمر على غرار مثيلاتها عند الفرس, والروم. 2 - نتحدث الآن عن ديوان العطاء, أو ما يسمى ديوان الأموال: وهو ديوان توزيع الأموال على الرعية, والعاملين في مختلف أجهزة الدولة, واتجه هذا الديوان إلى مسائل الأموال, وإحصائها, وإحصاء المستحقين, وطريقة
توزيع الأموال عليهم, وكان هذا السجل, أي الديوان موجودًا في المدينة, وكان أكثر من سجل, بحيث كان لكل قبيلة سجلها الخاص, كما كان عمر حريصًا أشد الحرص على أن يصل العطاء والمال إلى كل ذي حق حقه, وقيل: إن عمر كان يحمل سجل كل قبيلة من القبائل, ويذهب إليها بنفسه في موطنها, ويعطي أفرادها عطاءهم في أيديهم. وكان لهذا الديوان الذي أنشأه عمر بالمدينة فروع في العراق, والشام, ومصر, وبهذا تيسر لكل مسلم أن يقبض عطاءه من البلد الذي هو فيه, وأصبح كل والٍ مسئولًا عن إيصال العطاء إلى أصحابه في ولايته, كما كان عمر يوصل العطاء لأصحابه في المدينة, وحولها. وبجوار فروع هذا الديوان العربي كانت تقوم الدواوين المحلية التي تُركت في العراق, والشام, ومصر, كما كانت من قبل الإسلام, وقد استبقى عمر هذه الدواوين بموظفيها, ولغاتها, فكان ديوان الشام يُكتب باليونانية, وديوان فارس, والعراق, بالفارسية, وديوان مصر بالقبطية, وقد ترك عمر هذه الوظائف في يد غير المسلمين؛ لأن الفاتحين كانوا عربًا أميين, لا يحسنون الكتابة, والحساب, فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب, أو أفرادًا من الموالي العجم ممن يجيده, وكان قليلًا فيهم. وقد أمر عمر بن الخطاب كتَّابه أن يكتبوا الناس على ترتيب الأنساب, ابتداء من قرابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما بعدها, الأقرب فالأقرب, وكانت تلك سياسة عمر, يفاضل منها في العطاء بين أقارب الرسول, وسواهم, الأقرب فالأقرب, فإذا تساوى اثنان في درجة القرابة فضَّل ذا السابقة في الإسلام,
وقد عبر عمر عن سبب ذلك الاتجاه بقوله: ما أدركنا الفضل في الدنيا, ولا رجونا الثواب في الآخرة, إلا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فهو أشرفنا, وقومه أشرف العرب وفي غير أقارب الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان عمر يفضل السابقين على اللاحقين, ويؤيد ذلك بقوله: والله لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه أي في العطاء. ومما يذكر أن أبا بكر كان يعطي المسلمين عطاءً متساويًا, دون أن ينظر إلى النسب, أو للسبق في الإسلام, وحين أشير عليه بأن يفاضل بين الناس تبعًا للفضل والسبق, قال: أما ما ذكرتم من السبق والفضل فما أعرفني به؟ وإنما ذلك شيء ثوابه عند الله, وهذا معاش, يعني الأموال التي توزع على الناس هي معاش, فالأسوة فيه خير من الأثرة, يعني أن يأخذ الناس بالتساوي بدل أن نفاضل بينهم, على أن عمر في آخر أيامه مال إلى رأي أبي بكر, وأُثر عنه قوله: لئن عشت إلى هذه الليلة من قابل لألحقن آخر الناس بأولهم, حتى يكونوا في العطاء سواء, ولكنه توفى قبل ذلك. كما فرض عمر للنساء والأطفال, فرض لهم من العطاء, وكان يفرض للطفل بعد فطامه, فأدرك أن الناس يتعجلون فطام أطفالهم؛ ليحظوا بالعطاء, فأمر مناديًا أن ينادي: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام, وكتب بذلك إلى الآفاق أن يُفرض لكل مولود في الإسلام, ففرض عمر لكل مولود مائة درهم, فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم, فإذا بلغ رشده زاد له في العطاء, قال عمر: والذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أُعطيه أو مُنعه, وما أحد أحق به من أحد, إلا عبد مملوك, وما أنا فيه إلا كأحدكم, ولكنا على منازلنا من كتاب الله -عز وجل- وقسمنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالرجل وبلاؤه
في الإسلام, والرجل وقِدمه في الإسلام, والرجل وغناؤه في الإسلام, والرجل وحاجته في الإسلام, والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظَّه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه, يعني في طلبه. ولم يقتصر فرض العطاء على العرب المسلمين, بل إن هذا العطاء شمل بعض الأعاجم من مسلمين, وغيرهم, كما أن عمر فرض لأهل الكتاب من يهود, ونصارى, بعض العطاء, وأعفى الشيوخ منهم من الجزية, فقد مر عمر بسائلٍ شيخٍ كبيرٍ ضرير البصر, فضرب عضدَه من خلفه, وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي, قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية, والحاجة, والسن, فأخذ عمر بيده إلى منزله, فأعطاه شيئًا من المال, ثم أرسل إلى خازن بيت المال, فقال له: انظر هذا, وضرباءه, يعني من هم على أمثاله, فوالله ما أنصفناه, أكلنا شبيبته, ثم خذلناه عند الهرم, وتلا قول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: من الآية: 60) فالفقراء هم المسلمون, وهذا من المساكين من أهل الكتاب. كان هذا ديوان العطاء الذي أنشأه, وأقره عمر, واصفًا فيه, ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية إحصائية شاملة لرعايا المسلمين, ولبعض المستحقين من أهل الكتاب, والأعاجم, وفرض لهم الأعطيات والمرتبات الثابتة. 3 - ثم نتحدث الآن عن ديوان الجباية, أو الخراج والجزية: وهو الديوان الذي سُجلت فيه الأموال الواردة للدولة من زكاة أموال المسلمين, والخراج, والجزية, المفروضة على الأراضي المفتوحة, ورءوس الناس الذي لم يدخلوا في الإسلام,
التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال.
ففي عهد عمر فتحت سورية, وفلسطين, وسواد العراق, وأكثر أقاليم الفرس, كما فتحت مصر, وأفريقية من أقاليم الروم, فكتب أبو عبيدة من الشام, كما كتب من قبله سعد بن أبي وقاص من العراق إلى عمر بقسمة الأرض, والفيء, والمغانم بين المسلمين, إلا أن عمر -وبعد استشارة أهل الرأي في المدينة- أبقى الأرض المفتوحة بأيدي أهلها, وفرض عليهم الخراج, وهو ضريبة على الأرض, وأيضًا فرض عليهم الجزية وهي ضريبة الرءوس, وقد كان هذا سببًا أساسيًّا في إنشاء هذا الديوان, الذي أصبح موردًا رئيسيًّا من موارد بيت المال. التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال ومن أهم الأشياء التي نظمها, واهتم بأمرها عمر بن الخطاب, هو تنظيم الجيش الإسلامي, وجعْل التجنيد إجباريًّا, فلم يكن الجيش في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- منظمًا, وعندما أذن الله لرسوله, وأصحابه, بالقتال, كانت الدعوة للجهاد لمن أراد طواعية, وإنَّ وقائع سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا تشير إلى إلزامه نفرًا من أصحابه بالتجنيد, يعني كان لا يُلزم أحدًا بأن يقاتل مع المسلمين, فقد كان يكتفي بحض المؤمنين على القتال, وكان -عليه السلام- يؤثر أن يصحبه في المعركة من أقبل على القتال عن رضا وطواعية, فأما المتباطئ المتثاقل فكان يقول لصحبه إذا ذكروه: دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم, وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه, وكثيرا ما كان يقول للمؤمنين قبيل المعركة: لا يخرج معنا إلا راغب في الجهاد, ثم فتح الله لرسوله مكة فتحًا مبينًا, ودخل الناس في دين الله أفواجًا, وأمسى عدد المؤمنين كبيرًا, وبات ممكنًا إعداد جماعة تعني بأمر القتال, إلا أنه لم تشكَّل جندية إلزامية, بل تمثلت في المسلمين ملامح التطوع في أغلب الحالات.
ولعل إمارة الجيش قد أصابت من التنظيم الرسمي أكبر من حظ التجنيد, فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤمر الرجل على القوم وفيهم من هو خير منه؛ لأنه أيقظ عينًا, وأبصر بالحرب, وبهذا نفسر اختياره حمزة بن عبد المطلب, وسعد بن أبي وقاص, وخالد بن الوليد, وأمثالهم, لقيادة السرايا سرًّا من أسرار الفوز في جل المعارك التي خاضها المسلمون في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم, أما أبو بكر فقد سار على نهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ندب الناس إلى القتال عند الحاجة إليهم, وظل يستنفر الراغبين, ولا يُكره المتخلفين. لكن في ضوء هذه الحالة الاجتماعية التي سادت أطراف الجزيرة العربية, وما جاورها من دول حضارية, لم يكن بد من أن تتغير الحال في عهد عمر بن الخطاب, فنظر عمر بن الخطاب إلى نظام التجنيد نظرة جديدة, فيها ترغيب, وتشديد, أما عن نظرة الترغيب فقد ذكر الناس بجدب الجزيرة العربية, وما ينتظرهم من الفيء في إتمام فتوح العراق, فليست الحجاز لهم بدار فيها الرفاهية, والتقدم, وأما عن نظرة الشدة والترهيب, فقد أمر عمر عماله على الأقاليم بإحضار كل فارس ذي نجدة, أو رأي, أو فرَس, أو سلاح, فإن جاء طائعًا, وإلا حشروه حشرًا, وقادوه مقادًا، أي أمرهم بأن يحضروا إليه كل إنسان قادر على القتال, معه أدوات القتال, حتى ولو لم يرض, واستعجلهم في ذلك بحزمه المشهور قائلًا: لا تدَعوا أحدًا إلا وجهتموه إليَّ, والعجل العجل, يعني أسرعوا في هذا. لكن عمر كان يفكر بالتجنيد الإلزامي الموقوف للجهاد, فلم يكن ليرضيه تطوع المتطوعين, ولما دون الديوان, ورتب للمسلمين أرزاقهم السنوية, خرجت فكرته
إلى حيز الوجود, فاقترنت نشأة الديوان بنشأة التجنيد النظامي الرسمي, وحُددت للجنود النظاميين عطاياهم, ومرتباتهم من بيت مال المسلمين. ومن مظاهر التنظيم التي أضفاها عمر على الجيش انه أخذ أصول طائفة منها, عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأدخل عليها بعض التعديلات, واقتبس طائفة أخرى عن الفرس, والروم؛ لتلائم حاجات الجيش الإسلامي, فقد استعمل عمر رتبي النقيب, والعريف, فالعرافة في كتاب عمر هذا تناولت الناس, فكأنهم المدنيون, في حين تناول التأمير, والتعبئة الجندَ, وهم العسكريون, وهذه أول ميزة من ميزات التنظيم العسكري عند عمر, فالعريف في عهد عمر بات ينوب عن قبيلته, على حين كان العريف في الجند ينوب عن عشرة من الأجناد, وتشير المصادر التاريخية الموثوقة أن الجيش الإسلامي في عهد عمر قد عرف رتبة الخليفة على خمسين جنديًّا, والقائد على مائة, وأمير الكردوس على ألف, وأمير الجيش على عشرة آلاف أو تزيد, وقد أنشأ عمر في المدينة معسكرًا للتدريب قبل الإمداد, وكان يشرف بنفسه على تدريب الجند, ولا سيما الفرسان في مكان اسمه الحم القريب من المدينة, فيشهد -إن صح التعبير- عرضًا عسكريًّا, أو مناورات حربية, وكان يصحب معه في تلك التمرينات اليومية نعاة الإبل, أي الخبراء بأدوائها, وأمراضها؛ ليشرفوا على بيطرتها. وقد عين على خيل الجيش بالكوفة سلمان بن ربيعة الباهلي, فسماه الناس سلمان الخيل؛ لخدمة أمرها, وخبرته بها, وأقام عمر الحصون, والمعسكرات
الدائمة, لراحة الجنود في أثناء الطريق, بعد أن كانوا يقطعون المسافات الطويلة على ظهور الخيل والإبل, ولا يرتاحون إلا في أكواخ مصنوعة من سعف النخل, ثم أنشأ لجنده المدن يسكنونها بعيدين عن أهل الأرض المفتوحة, وأقيمت الحاميات لصد هجمات الأعداء المفاجئة, ثم دون لهم ديوان الجند, وقرر لهم الأرزاق الدائمة, وهذه ميزة الميزات, ومفخرة من مفاخر عمر, وسبب في إنشاء الجيش النظامي. ومن الأشياء التي أنشأها عمر أيضًا بيت المال: فلم تكن الحاجة ماسة لوجود بيت المال في عهد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحياة كانت بسيطة, فكانت الإيرادات من الغنائم, والزكاة, وغيرها, ترد للدولة الناشئة, وتوزع في الحال على المستحقين, الذين نزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60) وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (الأنفال: من الآية 41) وقد سار أبو بكر سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصنع صنيعه, وجرى الأمر في العهد الأول من خلافة عمر, لكن اتساع رقعة الفتح, زاد في أموال الفيء, كما فتح موردًا آخر أغزر مادة وأبقى, ذلك مورد الخراج, والجزية, وقد بلغت غزارة هذا المال والمورد قبل أن يتم فتح فارس, وقبل أن يبدأ فتح مصر مبلغًا حمل الخليفة عمر في التفكير في إقامة نظام مالي للدولة الناشئة, فكان لا بد من التطوير في نظام الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب؛
لطول عهده, ولأن الله فتح للمسلمين في خلافته بلاد فارس, والشام, ومصر, فتشعبت أمور الدولة الإسلامية, وتفرعت مطالبها, وزادت ماليتها, وفي الوقت نفسه اتصلت الدولة الناشئة بحضارات عريقة في الدول المفتوحة, مما نبه عمر إلى الاستفادة بما في هذه الدول من نظم لحل المشكلات الإدارية, والتنظيمية, التي تواجهها الدولة الإسلامية, وللرقي بها خطوات إلى الأمام. وهكذا أنشأ عمر الدواوين كما سبق, وكان لزامًا على عمر إنشاء بيت المال, وأن يضع أسسه, وينهض به, فقد وظَّف القضاة والولاة, ورتَّب الجند, وجعل الجندية عملًا دائمًا كما رأينا, وأصبح الجند يرابطون في الثغور, وكان لهم ديوان الجند, وقد حُددت لهم, ولذويهم, رواتب ونفقات منظمة, كما فرض العطاء للمسلين, وكان لهم ديوان العطاء, وأنشأ ديوان الجباية؛ لاستقبال الخراج, والجزية, فارتباط عمر بالعطاء, وصرف المرتبات على جنده وعماله, أحوجه للادخار؛ ليوفي بما ارتبط به, وبالتالي احتاج لبيت المال؛ ليضع فيه هذه المدخرات, وكشوف المستحقين, فبيت المال يشمل النظر في كل ما يتعلق بأموال الدولة من زكاة, وخراج وجزية, وفيء, وغير ذلك. ويسمَّى بيت المال الديوان السامي, أو ديوان الأموال, وهو أصل الدواوين, ومرجعها, ووظيفته أن يثبت في جرائده جميع المستحقات لبيت المال على أصنافهم, من عين, وغلال, وحيوان, كما يثبت الأموال المستحقة على بيت المال كأرزاق الجيش, والقضاة, وأثمان ما يلزم من أسلحة, وغير ذلك مما ينفق في سبيل المصلحة العامة. وقد أتاحت الشريعة الإسلامية بنظومها الفرصة لتنظيم الشئون المالية في الإسلام, فقد بيَّن الله مصارف الزكاة, وخُمس الغنائم, والفيء, وسكت عن
رقابة عمر بن الخطاب لعماله.
بيان المصارف الأخرى تاركًا ذلك لاجتهاد أولي الأمر؛ إذ إن النصيب الذي كان للرسول أصبح بعد وفاته ينفق على مصالح المسلمين. هذا بالنسبة للأشياء التي أنشأها عمر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- ورأينا كيف أن عمر أوقف العطاء عن المؤلفة قلوبهم, وذوي القربى, فأتيحت بذلك لولاة الأمور أن يتصرفوا في هذه الأشياء حسبما تقتضي الحاجة, فكان عمر يصرف الزكاة, وخُمس الغنائم, والفيء, على ما رسم الشارع الإسلامي, وكان يدخر مما عداها في بيت المال القدر الذي يفي بالنفقات الأخرى, والرواتب طوال العام, وهكذا أنشأ بيت المال الذي يعتبر أول وزارة مالية في الدولة الإسلامية. وبهذا نكون قد انتهينا من هذه المحاضرة، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 5 - رقابة عمر بن الخطاب لعماله، والإدارة عند الأمويين، والوزارة في الإسلام رقابة عمر بن الخطاب لعماله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن الإدارة في عهد عمر بن الخطاب، وبيّنا التنظيمات الإدارية التي أنشأها عمر بن الخطاب والتي تكمن في الدواوين المختلفة ثم إنشاءه لبيت المال ثم جعله التجنيد إجباريًّا في الجيش المسلم، ونريد الآن أن نتحدث عن رقابة عمر لعماله فنقول: كان لعمر طرقه الخاصة في اختيار الولاة والعمال، فهو لم يعين واليًَا أو عاملًا إلا بعد اختبارات واسعة علنية وسرية، وبعد أن يسأل عنه ويتأكد من صلاحيته، وكان يشترط عليه ألا يغلق بابه دون حوائج الناس، وأيضًا كان لا يولي عملًا لرجل يطلبه وكان يقول في ذلك: من طلب هذا الأمر لم يُعن عليه، يعني: لم يمكّن منه، وقد سار على هذا النهج اقتداء بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ قال لطالب عمل: ((إنا لا نستعين على عملنا بمن يطلبه)). وكان عمر لا يولي أحدًا لا يرحم، فقد أمر بكتابة عهد لرجل قد اختبره وأراد أن يعيّنه فبينما الكاتب يكتب جاءه صبي فجلس في حجر عمر فلاطفه فقال الرجل: يا أمير المؤمنين لي عشرة أولاد مثله ما دنا أحد منهم مني قال عمر: فما ذنبي إن كان الله -عز وجل- نزع الرحمة من قلبك، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ثم قال: مزّق الكتاب فإنه إذا لم يرحم أولاده فكيف يرحم الرعية.
وكان عمر يمنع عماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواء أكانوا بائعين أو مشترين، روي أن عاملًا لعمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب ظهر عليه الثراء فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فتَجِرت بها فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتجروا، وأخذ منه ما حصل عليه من ربحه. وكان عمر لا يولي أحدًا من أقاربه وقد أعلن هذا المبدأ في الاختيار منذ توليه الحكم إذ قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولّى رجلًا لمودة أو قرابة فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" وقد صار عمر على هذا النهج مقتديًا نهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر بعدم توليته ذي القربى مناصب هامة في الأمصار، وقد بين عمر للناس موقفه من الولاة فقال: أنا مسئول عن أمانتي وما أنا فيه ومطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء، يعني: لا أولي على عملي بعيد عني إلا الأمناء وأهل الصفح منكم للعامة. كما أكد سياسته تجاه عماله بقوله: أيها الناس إني والله ما أرسل إليكم عمالًا ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أعشاركم، ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فُعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليّ فوالذي نفس عمر بيده لأقصنّه منه، وقال لعماله أمام الناس: ألا وإني لم أبعثكم أمراء ولا جبارين ولكن بعثتكم أئمة الهدى يهتدى بكم، فأدوا للمسلمين حقوقهم ولا تضربوهم فتذلوهم، ولا تجحدوهم فتفتنوهم، ولا تغلقوا الأبواب دونهم فيأكل قويّهم ضعيفهم، ولا تستأثروا عليهم فتظلموهم ولا تجهلوا عليهم، فإذا رأيتم بهم كلالة فكفوا عن
ذلك فإن ذلك أبلغ في جهاد عدوكم، أيها الناس إني أشهدكم على أمراء الأمصار إني لم أبعثهم إلا ليفقهوا الناس في دينهم ويقسموا عليهم فيئهم ويحكموا بينهم، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إليّ. وكان عمر يفرض لعماله وأمراء الجيوش والقرى في العطاء على قدر ما يصلحهم من الطعام، وما يقومون به من الأمور؛ حتى لا يكون لأي منهم عذر فلا تمتد يده لغير حقه، لقد كان عمر يختار للولاية أصلح الناس وأقدرهم للقيام بشئون المسلمين ولم يخضع في ذلك لأي ضغط أو إغراء، ونظم لعماله طرقًا للمحاسبة جعلته كأنه معهم حيثما كانوا، ووضع عليهم الرقباء والعيون يأتون بالأخبار أولًا بأول، فمن هذه الأشياء التي كان يمارسها مع عماله أنه كان يحصي ثروات الولاة عند تعيينهم، أي: أنه كان يحصي أموال العمال والولاة قبل الولاية ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه وكان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارًا، وقد كان عمر يعتمد في محاسبة عماله إلى وسائل متفرقة دقيقة، منها أنه كان يرصد لهم الرقباء والعيون من حولهم ليبلغوه ما ظهر وما خفي من أمرهم؛ حتى كان الوالي من كبار الولاة وصغارهم يخشى من أقرب الناس إليه أن يرفع نبأه إلى الخليفة، وكان عمر يرسل من عنده رسلًا يجمعون شكايات الشاكين ويتولون التحقيق والمراجعة فيها؛ ليستوفي البحث فيما ينقله الرقباء والعيون، ومنها أنه كان يأمر الولاة والعمال أن يدخلوا بلادهم نهارًا إذا رجعوا من ولاياتهم ليظهر معهم ما حملوه في عودتهم ويتصل نبأه بالحراس والأرصاد الذين يقيمهم على ملاقي الطريق.
ولم يكن عمر يقنع بأن يهتم بحسن اختيار عماله بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولوا أعمالهم؛ ليطمئن على حسن سيرتهم ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم "خير لي أن أعزل كل يوم واليًا من أبقي ظالمًا ساعة نهار" وقال: "أيما عامل لي ظلم أحدًا فبلغني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته" وقال يومًا لمن حوله: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت ما عليّ؟ فقالوا: نعم، قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعَمِل بما أمرته أم لا، وقال: هان شيء أصلح به قومًا أن أبدلهم أميرًا مكان أمير. وكان عمر إذا استعمل عاملًا أحصى ماله وقد قاسم غير واحد منهم ماله إذا عزله، منهم سعد بن أبي العاص وأبي هريرة ولاته في العراق والبحرين، وكان يأمر عماله أن يدخلوا نهارًا ولا يدخلوا ليلًا كي لا يحجبوا شيئًا من الأموال كما ذكرنا، وأنشأ سعد بن أبي وقاص لسكناه دارًا في الكوفة وكانت الأسواق قريبة من داره، وكانت الأصوات المرتفعة بالسوق تؤذي سعدًا فوضع بابًا يحجز عنه أصوات الناس بالسوق، وبلغ ذلك أسماع عمر عن دار سعد وبابه وأن الناس يسمونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة وأرسله إلى الكوفة وقال له: اعمد إلى القصر يعني: اذهب إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك يعني: ارجع فورًا، فخرج حتى قدم الكوفة فاشترى حطبًا ثم أتى به القصر فأحرق الباب أي: الباب الذي كان يحجب الرعية عن الأمير أو عن الوالي. وكان يقيم بعض العقوبات العلنية للوالي المنحرف، فقد بلغ عمر أن والي حمص عبد الله بن قرط قد اتخذ عليّة احتجب فيها عن الناس -مكان مرتفع- فأرسل إليه بريدًا -أي: رسولًا- وأمره أن يجمع حطبًا ويحرق بابها، فلما قدم البريد حمص جمع الحطب وأحرق باب العلية، فدخل الناس على الوالي وذكروا له الخبر فقال لهم: دعوه فإنه رسول أمير المؤمنين، ثم دخل عليه فناوله
الكتاب فلم يضع الكتاب من يده حتى ركب، فلما رآه عمر قال: احبسوه عني في الشمس ثلاثة أيام، وكان هذا عقوبة علنية لهذا الوالي الذي يريد أن يتعالى عن الناس والذي يريد أن يوصد بابه أمامهم، والناس كانوا سواسية عنده، ولذلك بلغت عمر شكوى أحد رجال المسلمين بأن واليه أبا موسى الأشعري في البصرة قد أعطى الرجل بعض سهمه فأبى أن يقبله إلا جميعًا فجلده أبو موسى عشرين سوطًا وحلقه، ولذلك سيدنا عمر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- قاد هذا الشخص من أبي موسى يعني: ما فعله أبي موسى في هذا الشخص أمر عمر بن الخطاب المفعول به ذلك أن يقتصّ من أبي موسى الأشعري. وكان يعزل ولاته للشبهات، كان عمر يتبع سياسة العزل حتى للشبهات من قبيل الاحتياط، فقد شكت طائفة من العراق سعد بن أبي وقاص الصحابي الجليل بأن قالت: إنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية ولا يغزو في السرية فعزله، كما عزل للشبهة كلًّا من خالد بن الوليد وأبا موسى الأشعري والمثنى بن حارثة وغيرهم لغير سبب من أسباب الشكاية أو القصاص وإنما لشبهة عرضت، فكان من رأيه البعد عن الشبهات لسلامة الدولة، فلقد كانت سنّة عمر إذا ثبتت شبهة التصرف في مال المسلمين أن يصادر المال الذي ظفر به أو يقاسمه فيما زاد على الكسب المعقول فيترك له النصف ويضم النصف الآخر إلى بيت المال، هذا بالإضافة إلى ما يجريه عليه من عزل أو عقاب. وكان هناك له مكتب خاص يشبه جهاز المخابرات، فقد كانت طريقة عمر في الإدارة إطلاق الحرية للعامل في الشئون المحلية وتقييده في المسائل العامة ومراقبته في سلوكه وتصرفاته، وكان له جهاز سريّ مربوط به لمراقبة أحوال الولاة والرعية، وقد بينت لنا المصادر التاريخية أن ما يشبه اليوم المخابرات كان موجودًا عند عمر،
يقول البعض: إن علم عمر بمن نأى عنه -أي: بعد عنه- من عماله كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد وعلى وساد واحد، فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممسى ومصبح في ضوء ما ذكرنا ندرك أن عمر كان شديدًا وحازمًا مع عماله، وكانت هذه السياسة تعكس حرصه على ألا يفرى عمال الأقاليم من مال المسلمين، وهو حين أحسّ ذلك قاسمهم نصفها كما ذكرنا. وكان عمر يسأل الرعية إذا وفدت للحجاز في موسم الحج عن حال أمرائه وسيرتهم فيهم فيقولون خيرًا فيقول: هل يعود الأمير مرضاكم يعني: يقوم بزيارة مرضاكم؟ فيقولون: نعم، فيقول: هل يعود العبد؟ فيقولون: نعم، فيقول: كيف صنيعه بالضعيف؟ يعني: كيف يتعامل مع الضعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا: لخصلة منها: لا -عزله. يقول البعض في هذا الصدد: وإن عمر قد اتخذ موسم الحج كمؤتمر سنوي عام لمحاسبة الولاة أمام الرعية، وهنا يصل عمر في رأينا إلى قمة الفن في الحكم والإدارة، فلقد فرض الله الحج على المسلمين كركن من أركان العقيدة، يؤديه القادرون عليه ليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله في أيام معدودات، فهو موسم يلتقي فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، وإنها لعبقرية حقيقية من عمر وإلهام أصيل فيه أن يحاول الإفادة من هذه المناسبة لكي يقف بنفسه على أخبار رعاياه الذين لا يصلون إليه، وهكذا جرى طيلة خلافته على أن يجمع كل عام وأن يدعو إليه ولاة الأقاليم ليوافوه بمكة، وهناك يلتقي بالحكام والمحكومين وجهًا لوجه ويسمع من هؤلاء وأولئك ويؤدي أمانة الحكم كاملة. وكان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصيًا، كأنها نوع من الجولة التفتيشية على الأقاليم؛ لمراقبة العمال وتفقد أحوال الرعية والاطمئنان على أمور الدولة المترامية، فقد قال عمر: لئن عشت -إن شاء الله- لأسيرن في الرعية حولًا فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني -يعني: لا تصل إليّ- أما عمالهم فلا يدفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إلي فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى مكة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا. وبهذا نكتفي بهذا القدر عن الحديث عن الإدارة في عهد عمر بن الخطاب.
الإدارة عند الأمويين.
الإدارة عند الأمويين ظلت القواعد التي وضعها الخليفة عمر بن الخطاب تمثّل الأساس المتين للتنظيم الإداري طوال عهد الخلفاء الراشدين، وتمثل المقياس السليم الذي يلجأ إليه الناس لتقييم الولاة وسيرتهم، وبدأ هذا المقياس يسجل هزات عنيفة منذ أواخر خلافة عثمان بن عفان إذ انطلقت في ذلك الوقت مطامع أقرباءه من بني أمية، وعمدوا إلى استغلال صلة القربى بينهم وبين هذا الخليفة لتحقيق أمانيهم في السيطرة على أكبر مراكز الدولة، وأثار هذا العمل مشاعر الناس؛ لأنهم أحسّوا باختلال التنظيم الإداري الذي وضعه لهم عمر بن الخطاب، وكشف السخط الذي ساد ولايات الدولة الإسلامية أواخر عثمان بن عفان والذي اشتهر باسم الفتنة كشف هذا السخط عن الارتباط بين النظامين السياسي والإداري في الدولة الإسلامية ومدى تأثر كل منهما بالآخر، فعندما اضطرب حبل التنظيم الإداري انفرط عقد النظام السياسي ودفع الخليفة عثمان بن عفان حياته ثمنًا لهذا الاضطراب الإداري في الدولة، وعجز الخليفة الجديد وهو عليّ بن أبي طالب عن السيطرة على الموقف؛ لأنه لم يستطع إقرار التنظيم الإداري للدولة الإسلامية، فقد كانت وجهة نظر هذا الخليفة أن يعزل كافة عمال عثمان بن عفان ومن بينهم معاوية بن أبي سفيان باعتبارهم سبب الفتنة التي سادت الدولة الإسلامية، واختار نفرُا آخر من العمال وبعث بهم إلى حواضر الولايات الإسلامية، غير أن العامل الذي بعث به إلى إقليم الشام عجز عن دخول هذا الإقليم حيث تصدى
له جند معاوية ونشبت الخلافات بذلك بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وهو الخلاف الذي انتهى بقيام الدولة الأموية. واقتضى الوضع السياسي الجديد القائم على أساس نظام الخلافة الوراثية -اقتضى هذا الوضع تنظيمًا إداريًّا جديدًا اطلع بوضع أسسه معاوية بن أبي سفيان، وقد أثبت هذا الخليفة الأموي الأول أنه خبير بالتنسيق بين النظامين السياسي والإداري حين عمد إلى اتخاذ اللامركزية في الإدارة سبيلًا لإعادة الاستقرار في الدولة الإسلامية في ظلّ وضعها الجديد والعمل على توسيع رقعتها كذلك، ومن ثم صارت أعمال معاوية بن أبي سفيان تكوّن أسس النظام الإداري اللامركزي وما اتسم به من تقاليد سار على هديها من جاء بعده من خلفاء البيت الأموي. وأول شيء عمد إليه معاوية في وضع أسس النظام الإداري اللامركزي هو حسن انتقاء وإعداد الهيئة التي ستتولى تنفيذ السياسة الإدارية الجديدة ومؤسساتها في الدولة الإسلامية، فجعل أساس هذه الهيئة الإدارية ليست الكفاءة فحسب، ولكن ضرورة العمل أيضًا على أن يكون رجالها من شيعته المخلصين أو ممن يربطهم بالبيت الأموي روابط مادية أو منافع يتطلبها التطور الجديد للدولة، وساعد معاوية على النجاح في وضع أسس النظام الإداري المركزي ثلاثة عوامل: أولها: اشتغاله بعد إسلامه مع الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ثانيًا: البيئة التي نشأ فيها وترعرع. ثالثًا: دراسته للتطورات الجديدة التي سادت أقاليم الدولة الإسلامية منذ نهاية عصر الخلفاء الراشدين،
وكان للبيئة التي نشأ فيها معاوية أثر كبير أيضًا في اختيار رجال إدارته اللامركزية عن ثقة ودراسة وعلم راسخ، فهو ابن أبي سفيان زعيم مكة وأعظم شخصياتها حنكة وتجربة وأوسعها اتصالًا وخبرة بالبيوتات الكبرى في مدن الحجاز وخارجها كذلك، فتلقن معاوية على يد هذا الوالد الخبير أصول الحكم وإدارته كما يفهمه أهل مكة، ووفق وجهة النظر التي آمن بها أبو سفيان من حيث تكوين الأنصار والأشياع واصطناع الرجال والعمال. ووقع اختيار معاوية على أبناء ثقيف من أهل الطائف لتشكيل إدارته الجديدة، ونبغ من بني ثقيف على عهد معاوية المغيرة بن شعبة الذي تولى إمرة الكوفة، وزياد بن أبيه الذي تولى إمرة البصرة، إذ حمل هذان الرجلان في إخلاص عميق ومثالية رائعة لواء النظام الإداري اللامركزي في شرق الدولة، وأسهما مع معاوية في وضع أسس هذا النظام الجديد وإقراره، وأخيرًا عزز معاوية هذه الطبقة من رجال إدارته بمجموعة اختارها من ذوي التجارب الواسعة وكذلك ممن لهم مطامح يمكن استغلالهم عن طريقها؛ لتحقيق أهداف نظامه اللامركزي، ومن ثم ظهرت طبقة جديدة من الرجال استفاد منها معاوية لخلق توازن داخل الإدارة اللامركزية والهيئات المختلفة العاملة فيها، وتكونت هذه المجموعة من أبناء الطبقة الوسطى من قريش الذين لا يخشى الأمويون منهم بأسًا أو ضررًا، وصار من الممكن الاعتماد عليهم في إدارة المناطق النائية أو الولايات المليئة بأسباب الفتن والقلاقل.
ووضع معاوية بن أبي سفيان قاعدتين أخريين لضمان سير النظام اللامركزي سيرًا سليمًا وللحيلولة دون أي انحراف قد يطرأ على عماله، وتمثلت القاعدة الأولى في فصل الإدارة المالية للولاية عن التبعية للأمير وجعلها تابعة مباشرة للخلافة في دمشق، واشتهر رأس تلك الإدارة باسم صاحب الخراج الذي صار قوة يعمل أمير الولاية له كل حساب ولا سيما أن شئون المال كلها في يده، غير أن الالتزام بهذه القاعدة لم يكن مطلقًا إذ عهد الأمويون إلى نفر من ولاتهم المشهود لهم بالتفاني والإخلاص التام بإدارة الشئون المالية أو تعيين صاحب الخراج من قبلهم، وصار أولئك الولاية أصحاب سلطان عريض وخير نموذج لثقة الأمويين في سلامة نظامهم الإداري اللامركزي. وتمثلت القاعدة الثانية التي وضعها الأمويون في تعيين عمال لإدارة الولايات مهمتهم مراسلة الخلافة مباشرة وإحاطتها علمًا بكل ما يجري في الولاية، سواء ما يختصّ بالأمير أو بالأهالي، ولكن هذه القاعدة بدورها لم تكن قيدًا على أمراء الولايات وإنما كانت سبيلًا للمشاركة في التوجيه بما يحفظ لنظامهم الإداري الاستقرار وتجنب المزالق التي تخفى على الأمراء أنفسهم، إذ ظل الأمويون حريصون على منح أمراء الولايات كل حرية مطلقة إيمانًا منهم بأن الشاهد أقدر من الخليفة المقيم في دمشق على إدراك حقيقة الأمور وعلى البت بالتالي دون إضرار بمصالح الرعية، واحترام خلفاء بني أمية هذه الحرية التي تمتع بها أمراء الولايات ولا سيما أولئك الخلفاء الذين عُرف عنهم الحرص الشديد على الصالح العام،
ومن أمثلة ذلك ما قام به الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي اشتهر لعدالته بأنه خامس الخلفاء الراشدين الحريص على إعادة سيرة عمر بن الخطاب في إدارة الدولة الإسلامية، إذ ظل هذا الخليفة متمسكًا بالقاعدة الأساسية للنظام الإداري اللامركزي للدولة الأموية والتأكيد على حرية الأمراء، وتوجيه كل منهم إلى العمل مع حرية التصرف ودون الرجوع إليه في بعض المسائل التي قد يضرّ تأخير البت فيها بمصالح أهالي ولايته. وعرّف فقهاء المسلمين هذا اللون من الإدارة اللامركزية للولايات بأنها إمارة استكفاء، وهي التي يعقدها الخليفة لمن يختاره من رجاله الأكفاء مفوضين إليهم إمارة الإقليم على جميع أهله، ويجعله عامّ النظر في كل أموره، فصارت إمارة الاستكفاء لون من الامتياز يخصّ به الخليفة بعض الرجال ذوي القدرة العظيمة أو أصحاب الفضل الكبير على الدولة، فكان الخليفة يولي الفرد منهم ولاية كاملة على ناحية بعينها أو على بضع نواح أي: كان يستكفي بهذا النفر عمّن عداهم وبيدهم السلطات كلها على ما بأيديهم فهم مسئولون عن الأموال والقضاء وإمامة الناس. واقتضى الحكم اللامركزي إعادة التقسيم الإداري للدولة بما يحقق للأمويين السيطرة الفعلية على أزمة الأمور، وتوجيهها في نفس الوقت إلى ما يكفل لسلطانهم الهيبة والاحترام في كل مكان، وجاء هذا التقسيم استجابة لمظاهر التطور الذي ساد بلاد الدولة الإسلامية منذ الفتنة على عهد الخليفة عثمان وما صاحب هذا التطور من تباين المشارب والأهواء،
ثم إن الفتوحات التي قام بها الأمويون في المشرق والمغرب أضافت إلى الدولة الإسلامية أرجاءً شاسعة كان لا بد من تنظيمها بما يحقق لها الانسجام الإداري مع الدولة الشاسعة، وقسم الأمويون دولتهم إلى عدة ولايات هي: ولاية الشام، ثم ولاية بلاد العرب، ثم ولاية العراق، ثم ولاية الجزيرة، ثم ولاية مصر. وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن التنظيم الإداري في مجال التطبيق العملي، والذي نوهنا فيه إلى الإدارة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والإدارة في عهد أبي بكر، والإدارة في عهد عمر بن الخطاب، والإدارة في عهد الأمويين.
الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات.
الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات.
مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات) 1 - رقابة عمر بن الخطاب لعماله، والإدارة عند الأمويين، والوزارة في الإسلام مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية نتحدث الآن عن موضوع آخر وهو الأجهزة الإدارية في الدولة فنقول: قسّم الماوردي ولايات خلفاء الخليفة أربعة أقسام: الأول: أصحاب الولايات العامة في الأعمال العامة وهم الوزراء. الثاني: أصحاب الولاية العامة في أعمال خاصة وهم أمراء الأقاليم. الثالث: أهل الولاية الخاصة في الأعمال العامة مثل قاضي القضاة. الرابع: ذوو الولاية الخاصة في الأعمال الخاصة مثل قاضي بلد معين أو إقليم معين. ونتحدث عن وظائف الولاة فنقول: كانت وظائف هؤلاء الولاة على النحو التالي: أولًا: الوزارة، ثانيًا: إمارة الأقاليم، وسوف نوضح أو نلقي الضوء على الوزارة وعلى الإمارة فيما يلي. أولًا: الوزارة: تعتبر الوزارة من أبرز مظاهر السلطة التنفيذية في الدولة الحديثة؛ بل إن اسم السلطة التنفيذية حينما يطلق فإنما ينصرف إلى الوزارة التي يناط بها مهمة تنفيذ
القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، وفي العادة يقوم رئيس الدولة بتكليف رجل من ذوي الكفاءة بأن يشكّل الوزارة، وقد يقوم رئيس الدولة بنفسه بهذا التشكيل فيكون هو الوزير الأول أو رئيس مجلس الوزراء، ويتم اختيار الوزراء عادة من أولي الكفاءة والاختصاص بالنسبة لكل منهم في مجاله، فيعين لكل إدارة من إدارات الدولة أو مرفق من مرافقها وزيرًا يتولى شئون هذا المرفق ويكون مسئولًا عن ذلك أمام رئيس مجلس الوزراء، وقد تكلم علماء الفقه السياسي الشرعي عن الوزارة فتكلم في ذلك الماوردي على سبيل المثال، وسوف نعرض فيما يلي بعضًا من مباحث العلماء في ذلك. معنى الوزارة: الوزارة مأخوذة من الفعل وزر، والوزر هو الملجأ، ومنه قول الله تعالى: {كَلاَّ لا وَزَر} (القيامة: 11) والوزر قد يكون الحمل الثقيل ومنه قيل: الوزير الذي يحمل عن الملك ثقله ويعينه برأيه، ووازره على الأمر أي: أعانه عليه وقوّاه والأصل آزره، ووزير الخليفة معناه الذي يعتمد على رأيه في أموره ويلتجئ إليه، وقيل لوزير السلطان: وزير؛ لأنه يزر عن السلطان أثقال ما أسند إليه من تدبير المملكة. وقد ذكر الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) أن اسم الوزارة مختلف في اشتقاقه على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مأخوذ من الوزر وهو الثقل؛ لأنه يحمل عن الملك أثقاله. والثاني: أنه مأخوذ من الوزر وهو الملجأ ومنه قوله تعالى: {كَلاَّ لا وَزَر} أي: لا ملجأ، فسمي بذلك لأنه يلجأ إلى رأيه ومعونته.
والثالث: أنه مأخوذ من الأزر وهو الظهر؛ لأن الملك يقوى بوزيره كقوة البدن بالظهر. فالذي يفهم من كلام الماوردي أن الوزارة تعين الخليفة أو رئيس الدولة على تحمل مهامه، إذ يساعد الوزير برأيه في إدارة شئون الدولة في المجال الذي أسند إليه؛ وذلك لأن رئيس الدولة بطبيعة الحال لا يستطيع أن ينهض بأعباء الحكم في مختلف الشئون وحده من غير معاونة فكانت الضرورة قاضية باتخاذ الوزراء. وقد أرشد القرآن الكريم والسنة المطهرة إلى مشروعية الوزارة فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً} (الفرقان: 35) وقال سبحانه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29 - 32) فالوزير هو الموازر؛ لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله، قال الماوردي معلقًا على سؤال موسى ربه أن يجعل له وزيرًا من أهله: فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمارة أجوز؛ لأن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرته جميعه إلا بالاستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصحّ في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليستظهر به على نفسه وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل. وفي السنة المطهرة ما يرشد إلى مشروعية الوزارة أيضًا، ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق؛ إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه)). وقد كانت وظيفة الوزير بمعنى المعاون مألوفة ومعروفة للصحابة -رضي الله عنهم- ولذا قال أبو بكر يوم الثقيفة لما قال الأنصار -رضي الله عنهم-: منا أمير
وزارة التفويض.
ومنكم أمير قال لهم: بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء، أي: نحن الحكام وأنتم تعينوننا على تحمل أعباء الحكم وتساعدونا في تدبير الأمور. وقد تطور مفهوم الوزارة بحيث أصبح من ضرورات الدولة الإسلامية التي لا يمكن الاستغناء عنها، فدرج خلفاء بني أمية على اتخاذه، فقد استوزر معاوية -رضي الله عنه- عمرو بن العاص وزياد بن أبيه، كما درج خلفاء بني العباس على الاستعانة بالوزراء، بل إن الوزارة في العهد العباسي قد استقرت قواعدها ونظمها واتسع مفهومها بحيث أصبح دور الوزير لا يقتصر على مجرد المعاونة للحاكم، بل أصبح يشارك مشاركة فعلية في إدارة شئون البلاد، ويتدخل في جميع النواحي الهامة في الدولة كمسائل السياسة والحرب والاقتصاد وأسرار الدولة والخليفة ونحو ذلك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - أنواع الوزارة ومقدمة عن الحاجة إلى الإمارة على الأقاليم وزارة التفويض الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: أقسام الوزارة: لقد تكلم الفقهاء المسلمون في السياسة الشرعية عن نوعين من الوزارة هما: وزارة التفويض، ووزارة التنفيذ، وسوف نبين فيما يلي ما يتصل بهذين النوعين من الوزارة من حيث تحديد صلاحيات الوزير في كل منهما والشروط التي يجب أن تتوافر فيه، وعلاقة كل من هذين الوزيرين برئيس الدولة أو الإمام. أولًا: وزارة التفويض: يقصد بوزارة التفويض: أن يعهد الخليفة أو الإمام إلى رجل من أهل الخبرة والكفاءة، يعهد إليه بأن يتولى نيابة عنه تصريف شئون الدولة في مجال من المجالات التي تظهر كفاءته وخبرته فيها، فهذا الوزير المختار أو المعهود إليه يمضي الأمور برأيه وعلى اجتهاده بحسب ما يراه مناسبًا، فسلطة وزير التفويض تشبه الوكالة العامة؛ لأنه مفوض تفويضًَا كاملًا فيما عهد به إليه دون أن يرجع فيه إلى
الخليفة، قال الماوردي في هذا الشأن: فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، فالحاصل أن سلطة وزير التفويض بشأن ما فوض فيه سلطة كاملة مستقلة عن الإمام، وصلاحياته من أوسع ما تكون حتى أنه يعتبر صاحب المركز الثاني بعد الخليفة في مناصب الدولة. هذا ويشترط في وزير التفويض ما يشترط في الخليفة أو الإمام من شروط فيما عدا شرط النسب القرشي كما ذهب إلى ذلك الماوردي، بعكس مع ذهب إليه أبو يعلى الفراء الحنبلي فقد جعل شروط وزير التفويض هي نفس شروط الخليفة من غير استثناء فقال: ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمام، ونفضل في هذا الصدد الأخذ بما ذكره الماوردي الشافعي من استثناء وزير التفويض من شرط النسب القرشي؛ لورود النصوص في حق الإمام خاصّة فلا يقاس عليه غيره، وقد قال أبو بكر يوم الثقيفة للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولأنه يلزم من قصر الوزارة على القرشيين دون نصّ -الاستبداد والظلم الذي تحذر منه الشريعة الغراء وتنهى عنه، قال الماوردي بهذا الصدد: ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده؛ لأنه ممضي الآراء ومنفذ الاجتهاد فاقتضي أن يكون على صفات المجتهدين فيحتاج فيها إلى شرط زائد على شروط الإمامة وهو: أن يكون من أهل الكفاية فيما وكّل إليه من من أمري الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما، فإنه مباشر لهم تارة ومستنيب فيهما أخرى فلا يصل إلى استنابة الكفاءة إلا أن يكون منهم، كما لا يقدر على المباشرة إذا قصّر عنهم، وعلى هذا الشرط مدار الوزارة وبه تنتظم السياسة.
صفات الوزير: يجب أن تتوافر بعض الصفات السلوكية والخلقية فيمن يتولى منصب الوزارة إضافة إلى تلك الشروط التي سبق لنا تفصيلها عند الحديث عن شروط الإمام أو الخليفة، فقد ذكر البعض أن الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد كتب في مواصفات الوزير فقال: "إني التمست لأموري رجلًا جامعا لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه، واستقامة في طرائقه، قد هذبته الآداب، وحنكته الوقائع، وأحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم، وينطقه العلم، تكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء، وأناة الحكماء" إلى غير ذلك. ويظهر مما ذكر أن منصب الوزارة لخطورته يجب أن يكون المتولي له على أعلى درجات الكفاءة والاستواء في شخصيته، فلا تكون عنده نقاط ضعفه ظاهرة لئلا يؤتى من قبلها فتفوت بذلك مصالح الأمة التي فوّض بشأنها. اختصاصات وزير التفويض: القاعدة العامة أن سلطة وزير التفويض مطلقة فله ما لرئيس الدولة أو الإمام من الصلاحيات، فله أن يقلد الولاة ويعزلهم، وله أن يتولى قيادة الجيش أو ولاية الجهاد، وله أن يستنيب عنه من يشاء، وله أن يقوم بتنفيذ الأمور التي يدبرها، وله أن يقضي بين الناس وينظر في المظالم، فكل هذه الأمور تجوز من وزير التفويض كما تجوز من الإمام، غير أن هناك بعض الأمور التي يملكها الخليفة ولا يملكها وزير التفويض رغم إطلاق سلطته، وهذه الأمور قد عددها الفقهاء في ثلاثة: ولاية العهد، فهو من حق الخليفة وحده فله أن يختار ولي عهده على الشروط التي قدمنا، وليس هذا لوزير التفويض مهما كانت سلطته مطلقة؛ لئلا يفتات على حق الإمام في اختيار ولي عهده.
من ضمن الأمور التي تكون أيضًا للخليفة ولا تكون لوزير التفويض: الاستعفاء من الخلافة، فيجوز للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة -أي: يقدم استقالة- ولا يجوز ذلك لوزير التفويض. أيضا للإمام أن يعزل من قلده وزير التفويض ولكن ليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام؛ لأن الإمام هو الحاكم الأصلي وسلطته هي السلطة الأولى في الدولة، وفي هذا يقول أبو يعلى الفراء: وعلى الوزير وزارة التفويض مطالعة الإمام بما أمضاه من ولاية وتقليد؛ لئلا يصير بالاستبداد كالإمام، وعلى الإمام أن يتصفح أفعال الوزير وتدبيره الأمور ليقرّ منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه؛ لأن تدبير الأمة موكول إليه وإلى اجتهاده. ويجوز لهذا الوزير أن يحكم بنفسه وأن يقلد الحكم كما يجوز ذلك للإمام؛ لأن شروط الحكم فيه معتبرة ويجوز أن يتولى الجهاد بنفسه وأن يقلد من يتولاه؛ لأن شروط الجهاد فيه معتبرة، ويجوز أن ينظر في المظالم ويستنيب فيها؛ لأن شروط المظالم فيه معتبرة، ويجوز أن يباشر تنظيم الأمور التي دبّرها وأن يستنيب في تنفيذها؛ لأن شروط الرأي والتدبير فيه معتبرة. ويقول الماوردي بعد أن استثنى هذه الأمور الثلاثة المشار إليها من سلطة وزير التفويض، يقول: وأما ما سوى هذه الثلاثة فحكم التفويض إليه يقتضي جواز فعله وصحة نفوذه منه، فإن عارضه الإمام في ردّ ما أمضاه، فإن كان في حكم نفّذ على وجهه وفي مال وضع في حقه لم يجز نقد ما نفّذ باجتهاده من حكم، ولا استرجاع ما فرق برأيه من مال، وإن كان في تقليد وال أو تجهيز جيش وتدبير حرب جاز للإمام معارضته بعزل المولّى والعدول بالجيش إلى حيث يرى وتدبير الحروب بما هو أولى؛ لأن للإمام أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه فكان أولى أن يستدركه من أفعال وزيره.
ولعل ما ذكره الماوردي يوضح لنا العلاقة بين وزير التفويض مع إطلاق سلطته وبين الإمام باعتباره الرئيس الأعلى والحاكم الأول وسلطته هي المقدمة، وذلك أنه إذا تعارضت تصرفات وزير التفويض مع تصرفات الإمام في تدبير شئون المسلمين والفصل في منازعاتهم فإنه يجب التفريق في هذا الصدد بين حالتين: الحالة الأولى: إن كان ما أصدره وزير التفويض حكمًا يتعلق بأمر مالي أو قضائي كأن يأمر بوضع مبلغ من المال في جهة من الجهات أو يأمر برد مظلمة إلى أهلها -ففي هذه الحالة تكون أحكامه نافذة ولا يملك الإمام أن يعقّب عليها ولو كانت معارضة لرأيه؛ لأنها ما دامت أحكامًا اجتهادية صدرت عن أهل لذلك ولم تخالف نصًّا من كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله فلا يسوغ نقضها لمخالفتها لاجتهاد الإمام؛ لأنه لا يخطّأ اجتهاد باجتهاد كما هو معلوم من قواعد الأصول. الحالة الثانية: إن كان ما صدر عن وزير التفويض قرارات تتعلق بتعيين الولاة أو عزلهم أو تسيير الجيوش لمحاربة الأعداء أو عقد المعاهدات السياسية أو العسكرية مع الدول الأجنبية -ففي هذه الحالة يجوز للإمام أن يعقّب على رأي الوزير إذا كان مخالفًا لرأيه؛ لأن الإمام صاحب الحق الأول وله أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه فيستدركها من أفعال وزيره من باب أولى. التكليف بالوزارة: وزارة التفويض في النظام الإسلامي كما ذكرنا وزارة خطيرة ذات سلطات واسعة جدًّا واختصاصات مطلقة إلى حد ما كما أشرنا، وبناءً عليه فقد ذكر الفقهاء أنها تحتاج إلى تقليد أو تكليف بها من ولي الأمر بمقتضى عقد يكون بين وزير التفويض وبين الإمام، وهو يشبه إلى حد ما ما يعرف بالتشكيل الوزاري
الآن، إذ يبلغ الوزير باختياره بمقتضى كتاب أو خطاب ممن اختاره بحيث يترتب على ذلك حقوق والتزامات بين الوزير المختار وبين الجهة التي اختارته، سواء كان رئيس مجلس الوزراء أو رئيس الدولة نفسها. وقد ذكر الماوردي أنه يشترط في خطاب التكليف بالوزارة شرطان: أحدهما: عموم النظر؛ لأن هذا هو شأن التفويض، إذ تكون للوزير نفس السلطات التي يملكها الخليفة عادة. والثاني: النيابة، كأن يقول الخليفة للوزير: قلدتك ما إليّ نيابة عني ونحو ذلك؛ لأن وزير التفويض وإن كانت سلطاته مطلقة إلا أنه لا يفتات بها على حق الإمام، ولا يستبدّ بها دونه كما ذكرنا. وخطاب التكليف بالوزارة الذي هو بمثابة عقد بين الوزير وبين من استوزره هو في حقيقة الأمر عقد بين الوزير وبين الأمة؛ لأن الإمام الذي يستوزره إنما ينوب في ذلك عن الأمة فهو عقد وكالة، والوزير نائب عن الأمة وإن اختاره الإمام، ولذلك فهو باق في ولايته لا يتأثر بموت الخليفة الذي قلده ولو كان نائبًا عنه لانعزل بموته؛ لأن النائب مرتبط بالأصيل، فكل المقلدين بعقود تفويض يقفون مع الإمام إذًا على قدم المساواة في أنهم جميعًا مؤدون حقوق الأمة، وجميعهم ولاة لا تختلف ولاياتهم عن ولايته في النوع وإن كان بينهما اختلاف في الدرجة، غاية الأمر أن الإمام متصل بالأمة مباشرة أما هم فيتصلون عن طريقه، فهو الصلة بينهم وبين الأمة وهذه مسألة اضطرت إليها الحاجة إلى التنظيم ووجوب تركيز السلطة في جهة معينة وتوحيد المسئولية لتكون ممثلة في شخص الإمام، فتستطيع الأمة أن تواجهه وأن تحاسبه وتحكم في أمره بما تشاء مع أن وجوده على كل حال لا يعفي الولاة الآخرين من المسئولية أمام الله وأمام الأمة فضلًا عن مسئوليتهم أمامه بوصفه ممثل النظام.
وذكر الماوردي في (الأحكام السلطانية) قوله: ولو مات الإمام لم تنعزل قضاته، وإذا كان تقليد الأمر من قبل الخليفة لم ينعزل بموت الخليفة، وإن كان من قبل الوزير انعزل بموت الوزير؛ لأن تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين وتقليد الوزير نيابة عن نفسه، وبذلك يكون الفقهاء المسلمون قد سبقوا غيرهم في تقرير فكرة استمرارية الدولة كشخص معنوي بغضّ النظر عن أشخاص الحاكمين من حيث البقاء أو الزوال، ولكن: هل يجوز أن يتعدد وزراء التفويض في الدولة أو في الإقليم الواحد؟ لعل الذي بعث على هذا التساؤل هو تشابك سلطات وزير التفويض كقاعدة عامة مع سلطات الخليفة أو الإمام. وقد حاول أبو يعلى الفراء في كتابه (الأحكام السلطانية) أن يجيب على هذا التساؤل فذكر تفصيلًا مؤداه: أنه لا يجوز أن يقلد وزيري تفويض على اجتماع، كما لا يجوز تقليد إمامين؛ لأنهما ربما تعارضا في العقد والحل والتقليد والعزل وقد قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: من الآية: 22) فإن قلد وزيري تفويض نظرنا، فإن فوض إلى كل واحد منهما عموم النظر لم يصحّ لما ذكرنا، ثم ننظر فإن كان في وقت واحد بطل تقليدهما معًا، وإن سبق أحدهما الآخر صح تقليد السابق وبطل تقليد المسبوق، وإن أشرك بينهما في النظر على اجتماعهما فيه ولم يجعل إلى واحد منهما أن ينفرد به صحّ الأمر، وتكون الوزارة فيهما لا في واحد منهما، ولهما تنفيذ ما اجتمعا عليه وليس لهما تنفيذ ما اختلفا فيه ويكون موقوفًا على رأي الخليفة وخارجًا عن نظر هذه الوزارة، وتكون هذه الوزارة فيها تقصير عن وزارة التفويض المطلق من مرحلتين أحدهما: اجتماعهما على تنفيذ ما اتفقا عليه،
وزارة التنفيذ.
والثاني: زوال نظرهما عمّا اختلفا فيه، فإن لم يشرك بينهما في النظر بل أفرد كل واحد منهما بعمل يكون فيه عام النظر خاص العمل، مثل أن يرد إلى أحدهما وزارة بلاد المشرق وإلى الآخر وزارة بلاد المغرب، أو يخصّ كل واحد منهما بما يكون فيه عامّ العمل خاصّ النظر مثل أن يستوزر أحدهما على الحرب والآخر على الخراج صحّ تقليدهما على كلا الوجهين، غير أنهما لا يكونان وزيري تفويض ويكونان واليين على عملين مختلفين؛ لأن وزارة التفويض هي ما عمّت ونفذ أمر الوزير بها في كل عمل وكل نظر، ويكون تقليد كل واحد منهما مقصورًا على ما خصّ به وليس له معارضة الآخر في نظره أو عمله. ويلاحظ على ما ذهب إليه أبو يعلى أنه ينظر إلى إطلاق سلطة وزير التفويض، ومن ثم يعتبر من يُخصّ بعمل معين كالحرب أو الخراج ونحو ذلك يعتبره واليًا أو عاملًا ولا يعتبره وزيرًا؛ لأن وزارة التفويض شأنها العموم في كل نظر وفي كل عمل، ولذلك فلا يجوز التعدد في وزارة التفويض حتى لا يؤدي ذلك إلى الاختلاف نظرًا لحق وزير التفويض في النظر في جميع شئون الدولة دون تخصيصه بإقليم دون آخر أو بعمل دون آخر، ولكن يجوز تعيين وزيري تفويض عند الاشتراك بينهما في النظر في جميع الأمور وفي هذه الحالة يؤخذ بقولهما فيما اتفقا عليه دون ما اختلفا فيه. وزارة التنفيذ تعتبر وزارة التنفيذ هي النوع الثاني من الوزارة عند فقهاء المسلمين، وهي أقل شأنًا من وزارة التفويض إذ لا يتمتع فيها الوزير بالاستقلال الذاتي وإنما هو مكلف بتنفيذ الأمور فقط كما أمضاها الخليفة، وينقل إليه أخبار الولاة والرعية كما ينقل تعليماته إلى الولاة والأمراء والقضاة وسائر الرعية، ولذلك يتعين على
وزير التنفيذ ألّا يغيب عن موضع الإمام؛ لأنه يحتاج إلى مشورته ومراجعته في أكثر الأمور الحادثة، فهو مجرد وسيط بين الرعايا وبين الحكّام، فمنصبه كما يعبر الماوردي أشبه بالواسطة أو السفارة. يقول الماوردي في هذا الصدد: وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف وشروطها أقل؛ لأن النظر فيها متصور على رأي الإمام وتدبيره، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة، يؤدي عنه ما أمر، وينفذ عنه ما ذكر، ويمضي ما حكم، ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد من مهام وما تجدد من أحداث؛ ليعمل فيه ما يؤمر به، فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلدًا لها، فإن شورك في الرأي كان باسم الوزارة أخصّ، وإن لم يشارك فيه كان باسم الوساطة والسفارة أشبه، ونظرًا لكون وزير التنفيذ مجرد وسيط بين الإمام والرعية وأنه لا يستقلّ بالأمور وإنما هو مأمور في كل قضية لذلك فإنه لا يحتاج من يشغل هذه الوزارة إلى تقليد أو تولية كما هو الشأن في وزارة التفويض، وإنما يكتفى بإذنه في تنفيذ الأمور فقط، وعلى كل حال فنظره مقصور على أن يؤدي إلى الخليفة وأن يؤدي عنه. شروط وزير التنفيذ: لما كان وزير التنفيذ لا يستقلّ بحكم ولا ينفرد بولاية وإنما هو محض مأذون في التنفيذ فقط -فإن من الطبيعي أن تكون الشروط المعتبرة فيه أقل من تلك التي تعتبر في وزير التفويض، ولذلك ذكر الفقهاء مجموعة من الشروط في وزير التنفيذ تتفق مع طبيعة عمله نذكر منها ما يلي: 1 - الأمانة: يشترط فيه أن يكون أمينًا حتى لا يخون فيما قد اؤتمن عليه، ولا يغشّ فيما قد استنصح فيه.
2 - صدق اللهجة حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه. 3 - قلة الطمع؛ حتى لا يرتشي فيما يلي، ولا ينخدع فيتساهل. 4 - أن يسلم فيما بينه وبين الناس من عداوة وشحناء، فإن العداوة تصدّ عن التناصف وتمنع من التعاطف. 5 - أن يكون ذكورًا يعني: أن يكون متذكرًا وفاهمًا لما يؤديه إلى الخليفة وعنه؛ لأنه شاهد له وشاهد عليه. 6 - الذكاء والفطنة حتى لا تدلس عليه الأمور فتشتبه ولا تموه عليه فتلتبس. 7 - ألا يكون من أهل الأهواء فيخرجه الهوى من الحق إلى الباطل، ويتدلس عليه المحقّ من المبطل، فإن الهوى خادع الألباب وصارف عن الصواب. 8 - الحنكة والتجربة التي تؤدي إلى صحة الرأي وصواب التدبير، فإن التجارب تصقل شخصية المرء وتبصره بعواقب الأمور، ولكن هذا الشرط لا يحتاج إليه في وزير التنفيذ إلا إذا كان الخليفة أو الإمام يشاوره في الرأي، فإن كان لا يشاوره كما هو الشأن فيه فلا يحتاج إلى مثل هذا؛ لأنه لا معوّل على رأيه إذ الأمور كلها مقصورة إلى رأي الإمام وتدبيره. 9 - أن يكون ذَكرًا بحيث لا يجوز أن تتولى هذه الوزارة أو غيرها مما فيه معنى الولاية المرأة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لما أخبر أن بنت كسرى تولت -يعني: تولت الحكم في بلدها- قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)). يقول الماوردي في هذا الصدد: ولا يجوز أن تقوم به امرأة -يعني: بوزارة التنفيذ- وإن كان خبرها مقبولًا لما تضمنه من معنى الولاية المصروفة عن النساء؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة)) ولأن فيها من طلب
الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء، ومن الظهور في مباشرة الأمور مما هو عليهن محظور، وبناء على ما تقدم تقرر أنه لا يجوز أن تتولى المرأة الوزارة مطلقًا؛ لأنها ولاية وتحتاج إلى عزم وقدرة وتجربة وحنكة، وقد لا تكون المرأة مؤهلة لذلك كله بحكم طبيعة تكوينها، والأهم من كل ذلك أن عمل الوزارة يقتضي الظهور لمباشرة الأمور، وشأن المرأة أن تكون مستترة غير مختلطة بالرجال وخصوصًا في هذه الأزمنة التي قلّ فيها الحياء ولا حول ولا قوة إلا بالله. الذمي ووزارة التنفيذ: أي: هل يجوز أن يتولى الذمي وهو غير مسلم وزارة التنفيذ؟ ذكرنا سابقًا أن وزارة التنفيذ أقلّ شأنًا من وزارة التفويض، ولذلك يذهب بعض الفقهاء ومنهم الماوردي إلى جواز أن يتولى هذه الوزارة أهل الذمة من مواطني الدولة الإسلامية، فالإسلام ليس شرطًا لمن يتولى هذه الوزارة بعكس وزارة التفويض؛ لأن وزير التفويض يولي ويعزل ويباشر الحكم ويسيّر الجيوش ويتصرف في بيت المال بخلاف وزير التنفيذ، وهذا في واقع الأمر يدلّ على سماحة الإسلام كنظام، إذ لا يميز بين المواطنين في دولته على أساس من دينهم أو عقيدتهم، فالذميون لهم ما لنا وعليهم ما علينا كقاعدة عامة بعكس ما هو مقرر في أرقى دول العصر في أوربا وأمريكا، إذ يمتنع على المخالف في الدين بل المخالف في المذهب أحيانًا أن يشغل منصب الوزارة حتى يوم الناس هذا. وذهب بعض الفقهاء لعدم جواز تولية الذمي، واستدلوا على ذلك بقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (آل عمران: من الآية: 73) وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً
وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) وبطانة الرجل: خاصته الذين يستبطنون أمره، فقد نهانا الله تعالى أن نتخذ بطانة من غير المسلمين؛ لأنه قد ظهرت البغضاء في كلامهم وما تخفي صدورهم من الحقد والحسد أكبر. لكن نحبّ أن نذهب مع الماوردي إلى جواز تولية أهل الذمة لوزارة التنفيذ؛ لأن سلطان المسلمين في دولة الإسلام عاليًا بحمد الله تعالى، والممنوع هو أن يكون لغير المسلم سبيل على المسلم، هذا مع ملاحظة ضآلة منصب وزير التنفيذ؛ لأن تدبير الأمور وتصريفها يرجع إلى الإمام كما ذكرنا، وإنما هو محض منفذ أو مأذون له بذلك فقط، فهو أشبه بالسفير أو بالواسطة بين الإمام والرعية، لكن مع ذلك نقول بأنه لا ينبغي أن يستطيل غير المسلم على المسلمين في دولتهم بأي شكل من الأشكال؛ لأن ذلك يمتنع عليه وهو ما انتهى إليه الماوردي نفسه حيث قال: إلا أن يستطيلوا فيكونوا ممنوعين من الاستطالة. أنواع وزارة التنفيذ: إن القراءة المتأنية لما كتب في هذا المجال تنتهي إلى أن الفقهاء المسلمين قد ميزوا بين نوعين من وزارة التنفيذ: أحدهما: وزارة تنبسق عن رئيس الدولة نفسه، فيكون وزير التنفيذ في هذا الصدد وزير الخليفة أو الإمام فيمضي الأحكام وينفذ الأوامر في جميع أقطار الدولة الإسلامية ما لم يحدد له الخليفة اختصاصًا مكانيًّا معينًا. وثانيهما: وزارة تنفيذ تنبسق عن والي الإقليم فتكون صلاحيات الوزير في هذا الصدد متعلقة بهذا الإقليم فقط دون غيره من أقاليم الدولة، فهو يتبع والي الإقليم ومن ثم لا يكون أفضل حال منه،
مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ.
وبذلك يمكننا أن نتصور في الدولة الإسلامية وزارة عامة تتبع الخليفة ثم وزارات إقليمية تتعدد بتعدد الأقاليم وهو ما يشبه إلى حد ما ما هو معروف في النظام الأمريكي الآن، توجد حكومة مركزية عامة ثم يوجد لكل ولاية بعد ذلك جهاز إداري خاصّ بها، يقول الماوردي في هذا الشأن: وإذا فوّض الخليفة تدبير الأقاليم إلى ولاتها ووكّل النظر إلى المسئولين عليها كالذي عليه أهل زماننا جاز لمالك كل إقليم أن يستوزر -يعني: يعين وزيرًا- وكان حكم وزيره كحكم وزير الخليفة مع الخليفة في اعتبار الوزارتين وأحكام النظرين. مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ والآن نريد أن نعقد مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ، وسوف نذكر في هذه المقارنة بين الوزارتين أوجه الاتفاق ثم أوجه الاختلاف بينهما، وبذلك نتعرف على أهم ملامح كل منهما. أولًا: أوجه الاتفاق: تتفق الوزارتان في أن الوزير في كل منهما يجب أن يتوفر فيه ما يلي: 1 - أن يكون بأعباء الوزارة ناهضًا يعني: قادر على القيام بها، وأن يقدم الصالح العام على صالح نفسه. 2 - أن يكون على الكدّ والتعب قادرًا، وفي السخط والرضا صابرًا. 3 - أن يخلص نيته في طاعة الخليفة ويكون سره كعلانيته. 4 - أن يستوفي للملك ولا يستوفي عليه، ويتأول للملك ولا يتأول عليه، بمعنى: أن يكون معينًا للخليفة وللإمام في الأمور، لا أن يكون ضدّ أوامر الإمام أو يقف حجر عسرة في سبيل تنفيذ أوامر الإمام أو الخليفة. 5 - أن يجعل الوزير لله تعالى على سره رقيبًا.
6 - أن يقدم حق الله تعالى على حق غيره، إذ أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)). 7 - أن يكون الوزير خبيرًا بأحوال الرعية، وأن يشارف بنفسه الأعمال، وعليه ألا يكل إلى غيره ما يختصّ بمباشرة طلبًا للراحة وللدعة. هذه هي الأمور التي تتفق فيها الوزارتان وزارة التفويض ووزارة التنفيذ، فكل هذه الأمور التي ذكرناها يجب أن يتصف بها وزير التفويض ويتصف بها أيضًا وزير التنفيذ. ثانيا: أوجه الاختلاف بين الوزارتين: تظهر هذه الاختلافات بين الوزارتين من جهة أصل التقليد، ومن جهة الشروط المطلوبة في كل وزير، ومن جهة حقوق النظر أو الاختصاص كما يلي: فمن ناحية أصل التقليد تختلف الوزارتان، إذ يلزم لوزارة التفويض عقد وتولية وليس كذلك وزارة التنفيذ، بل يكتفى فيها بمجرد الإذن كما تقدم، ومن ناحية الشروط المعتبرة في الوزارتين نجد أن الحريّة معتبرة في وزارة التفويض دون وزارة التنفيذ وكذلك الإسلام، وأيضًا العلم بالأحكام الشرعية المفتقر لأن يكون الوزير مجتهدًا فهو معتبر في وزارة التفويض دون وزارة التنفيذ، وكذلك المعرفة بأمري الحرب والخراج معتبرة في وزارة التفويض فقط. وأما من ناحية حقوق النظر أو الاختصاصات المنوطة بالوزراء فتختلف الوزارتان فيما يلي: 1 - يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم وليس ذلك لوزير التنفيذ. 2 - يجوز لوزير التفويض أن يستقلّ بتقليد الولاة وليس ذلك لوزير التنفيذ. 3 - يجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتسيير الجيوش وتدبير الحروب وليس ذلك لوزارة التنفيذ.
4 - يجوز لوزير التفويض أن يتصرف في أموال بيت المال بقبض ما يستحق له وبدفع ما يجب فيه وليس ذلك لوزير التنفيذ. 5 - وفي وزارة التفويض لا يجوز تعدد الوزراء على اجتماع كما لا يجوز تولية إمامين، أما في وزارة التنفيذ فالأصل هو تعدد الوزراء، إذ يجوز للخليفة أن يعيّن أكثر من وزير تنفيذ ليقوموا بتنفيذ الأوامر الصادرة إليهم، إذ ليس هناك تعارض بين صلاحيات وزراء التنفيذ؛ لأن أعمالهم ليست من باب الولاية، وإنما هي من باب النيابة بعكس وزراء التفويض. 6 - في وزارة التفويض يجوز للوزير أن يعين نائبًا عنه يقوم بمساعدته في الشئون المرتبطة به إلا إذا نهاه الخليفة عن ذلك، أما في وزارة التنفيذ فليس للوزير أن يعين نائبًا له؛ لأن مهمته تقتصر على التنفيذ دون أن يكون له الحق في تولية أحد من الناس إلا إذا سمح له الخليفة بذلك. وبعد استعراضنا لأحكام الوزارة في النظام الإسلامي فإننا نلاحظ أن منصب وزير التفويض يقترب إلى حدّ ما مما تعرفه الدول الحديثة الآن بمنصب رئيس الوزراء أو الوزير الأول؛ لأن مثل هذا الوزير في الوزارات المعاصرة لا يجوز أن يتعدد، وهو مطلق التصرفات ويقوم مقام رئيس الدولة فهو عامّ الولاية والنظر، وبذلك يمكن القول بأن منصب رئيس الوزراء أو الوزير الأول أو وزير التفويض سبق بتقريره فقهاء المسلمين قبل غيرهم من رجال الفقه الدستوري المعاصر، إذ لم يعرف هذا المنصب إلا بعد زمن الماوردي بقرون عديدة في القرن السابع عشر الميلادي مما يؤكد أصالة الفقه السياسي عند المسلمين. وإذا جاز لنا أن نقارن وزير التفويض برئيس الوزراء في النظم المعاصرة فإنه يمكن اعتبار بقية الوزراء في الحكومات الحديثة وزراء تنفيذ، تقتصر مهمتهم على تنفيذ
الإمارة على الأقاليم.
قرارات مجلس الوزراء وإمضاء الأحكام واتخاذ القرارات، ويختصّ كل واحد من وزراء التنفيذ بالنظر في ناحية خاصة، فهذا للمالية وهذا للتعليم وهذا للدفاع وهذا للعدل ... إلى آخره. ويمكن القول بأن وزير التنفيذ يشابه مركزه مركز الوزير في النظام الرئاسي حيث يعتبر بمثابة السكرتير لرئيس الدولة مهمته تنفيذ إرادة الرئيس وسياسته، أما وزير التفويض فهو يشبه الوزير في النظام البرلماني حيث يشترك الوزير مع رئيس الدولة في الحكم، بل إن الوزارة في واقع الأمر هي التي ترسم سياسة الحكم في هذا النظام. الإمارة على الأقاليم ننتقل الآن إلى الحديث عن الإمارة، أي: الإمارة على البلدان أو على الولايات المختلفة، فنقول: من الصعب على الخليفة باعتباره الرئيس الأول في الدولة الإسلامية أن يباشر بمفرده أعمال الحكم والإدارة ولا سيما بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وترامت أطرافها على أثر الفتوحات الميمونة التي قام بها السلف الصالح من هذه الأمة، فلذلك كان من اللازم تقسيم البلاد إلى أقاليم متعددة، وتعيين أمير على كل إقليم ليكون بمثابة المعاون للإمام والنائب عنه في إدارة شئون هذا الإقليم، ويمكن أن تكون فكرة الإمارة شبيهة بتقسيم الدولة في العصور الحديثة إلى عدد من المحافظات، وتعيين محافظ لكل إقليم بحيث يكون هو المسئول الأول عن شئون المحافظة أمام السلطة العليا في عاصمة الدولة. والإمارة نوع من الولاية ولذلك كان الأمير يسمى بالوالي أحيانًا، وعلى الرغم من أن بذور هذا النظام قد بدأت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أسس الدولة في المدينة فكان يُرسل إلى كل قبيلة من يعلمها أمر دينها ويؤمها في الصلوات ويجمع منهم
الزكاة إلا أنه لم يعرف هذا التنظيم بشكل واضح وأساسي إلا بعد اتساع رقعة الدولة على أثر الفتوحات كما ذكرنا، فلما استخلف أبو بكر أقرّ عمال الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أعمالهم، وكان -رضي الله عنه- يستعين بكبار الصحابة في إدارة حكمه فيستشيرهم ويعمل برأيهم، وكانت البلاد الإسلامية في عهد أبي بكر مقسمة إلى عدة ولايات مثل مكة والمدينة والطائف وصنعاء وحضر موت ونجران والبحرين. ولما تولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- الخلافة بعد وفاة أبي بكر واتسعت في عهده الفتوحات وازدادت رقعة الدولة -تم على أثر ذلك تقسيم الدولة إلى ولايات كبيرة ليسهل تدبير الأمور وتصريف الشئون، وهذه الولايات من أهمها ولاية الأهواز والبحرين، وولاية سجستان وكرمان، وولاية طبرستان، وولاية خراسان، وولاية الكوفة والبصرة في بلاد العراق، ثم ولاية حمص، وولاية دمشق في بلاد الشام، وولاية فلسطين، وفي إفريقيا كانت ولاية مصر العليا ثم مصر السفلى، ثم غربي مصر وصحراء ليبيا، وبذلك أصبح في دولة المسلمين جهاز إداري منظم يصرّف شئون هذه الولايات في ضوء السياسة العليا للدولة كما يريدها الخليفة أو الإمام. وفي العهد الأموي اتسعت البلاد اتساعًا كبيرًا، وأصبح سلطان الخلافة ممتدًّا على منطقة كبيرة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؛ ولذلك قسمت البلاد في عهد الأمويين إلى خمس ولايات هي: الحجاز، واليمن، وأواسط بلاد العرب، مصر، العراقان: العربي ممثلًا في بلاد بابل وآشور، والعجمي ممثلًا في بلاد فارس، بلاد الجزيرة العربية: إفريقيا الشمالية من غرب مصر إلى بلاد المغرب والأندلس وجزر البحر المتوسط.
أنواع الإمارة على الأقاليم.
وقد اتسعت سلطة الولاة أو الأمراء في عهد الأمويين حتى أصبح شبه مطلقة في ولاياتهم، ولعل ما نقل عن الحجاج بن يوسف الثقفي في العراق أبرز مثال على ذلك، ولكن الأمر تغيّر بعد أن جاء الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز إلى الخلافة، فقد عمل على ردّ الأمور إلى نصابها الصحيح وحدّ من نفوذ كثير من هؤلاء الولاة بما يرفع مظالمهم ويردّ أذاهم عن الرعية. وفي العهد العباسي تقلص نفوذ الأمراء وضعف شأنهم في أول الأمر، حينما قويت شوكة الخلافة وازدادت سلطة الدولة مما أدّى إلى تمركز السلطة كلها في يد الخليفة، بحيث أصبح الولاة أو الأمراء مجرد عمال لا يملكون إلا سلطات محدودة جدًّا تكاد تقتصر على إمامة الصلاة وقيادة الجند؛ لأن مهمة النظر في الشئون المالية قد انتقلت إلى صاحب المال، وانتقل النظر في الشئون القضائية إلى القاضي، ولكن الحال تبدّل وتغيّر في آخر حكم العباسيين إذ ضعفت الدولة وضعف معها مركز السلطة العامة أو سلطان الخليفة مما شجع على ازدياد نفوذ الأمراء حتى أعلن بعضهم الاستقلال عن السلطة المركزية في عاصمة الخلافة، وظهرت في المجتمع الإسلامية دويلات صغيرة يحكمها أمراء يرتبطون ظاهرًا فقط بالخلافة العباسية وهم في حقيقة الأمر مستقلون عنها تمام الاستقلال. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - أنواع الإمارة على الأقاليم، وبيان الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام أنواع الإمارة على الأقاليم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن أنواع الوَزارة في النظام الإسلامي وقلنا إنها تنقسم إلى وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ، وبينا شروط الوزير في الوزارتين، وبينا أيضًا أوجه الاتفاق والاختلاف بين الوزارتين، ثم بدأنا الحديث عن الإمارة على الأقاليم. أنواع الإمارة: يقسم فقهاء السياسة الشرعية المسلمون الإمارة إلى نوعين: إمارة عامة، وإمارة خاصة. ونتحدث الآن عن الإمارة العامة فنقول: الإمارة أو الولاية العامة هي: أن تكون اختصاصات الأمير مطلقة في بلد من البلدان أو إقليم من الأقاليم، بحيث يملك الأمير النظر في جميع الأعمال بما في
ذلك النظر في تدبير الجيوش وتعيين القضاة وجباية الخراج وقبض الصدقات وإقامة الحدود واختيار عمال الدولة وما إلى ذلك، فهي على حد عبارة الماوردي بالنسبة لأهل الإقليم ولاية على جميع أهله والنظر في المعهود من سائر أعماله، فيصير عامّ النظر فيما كان محدودًا من عمل ومعهودًا من نظر. ويشترط في هذه الإمارة العامة نفس الشروط التي تشترط في وزارة التفويض؛ لأن الفرق بينهما فقط هو في خصوص الولاية في الإمارة وعمومها في الوزارة. قال الماوردي: وتعتبر في هذه الإمارة الشروط المعتبرة في وزارة التفويض؛ لأن الفرق بينهما خصوص الولاية في الإمارة وعمومها في الوزارة، وليس بين عموم الولاية وخصوصها فرق في الشروط المعتبرة فيها، فكل من الأمير والوزير في وزارة التفويض مطلق السلطة، غاية الأمر أن الأمير مختصّ بإمارته ووزير التفويض لا يختصّ بإقليم معين. أقسام الإمارة العامة: فنقول: تنقسم الإمارة العامة إلى قسمين: إمارة استكفاء، وإمارة استيلاء. فأما إمارة الاستكفاء: فهي التي تنعقد عن اختيار من الإمام، فيعقدها الشخص يكون كفئًا لتولي مهام الإمارة عند توافر الشروط فيه، فهي تشبه وزارة التفويض -كما أشرنا- ويكفي أن يقول الخليفة عندما يؤمِّرُ أحد الولاة على إقليم ما: قد أقررتك على ولايتك ناحية كذا، أو قلدتك ولاية هذه الناحية؛ لتكون عام النظر على أهلها في كل ما يتعلق بها، ونحو ذلك من صيغ التقليد، ولما كان الأمير في الإمارة العامة مطلق السلطة في إمارته فإنه يجوز له أن يتخذ لنفسه وزير تنفيذ بأمر الخليفة وبغير أمره، ولكن لا يجوز له أن يستوزر وزير تفويض إلا بإذن الخليفة وأمره.
وأما عن واجبات الأمير في الإمارة العامة فهي -كما ذكرنا- تشبه واجبات الإمام بالنسبة لعموم الدولة؛ كل ما في الأمر أن الأمير مختص بإمارته فقط، فيدير جميع شئونها من النواحي السياسية، والمالية، والحربية، والدينية، والقضائية، وما إلى ذلك. وأما إمارة الاستيلاء: فهي التي يعقدها الإمام أو الخليفة عن اضطرار، وذلك بأن يستولي الأمير بالقوة على إقليم ما، فيقلده الرئيس الأعلى للدولة على إمارته، ويفوض إليه تدبيره وسياسته، فيكون الأمير باستيلائه مستبدًّا بالسياسة والتدبير؛ وإمارة الاستيلاء إنما هي النوع الثاني من أنواع الإمارة العامة. وقد نشأت إمارة الاستيلاء عن حكم الضرورة، أو هي إقرار لسياسة الأمر الواقع، ولم تكن معروفة في أيام الخلفاء الراشدين، ولا في أيام الخلافة الأموية، ولا في العهد العباسي الأول، وإنما بدأت في الانتشار منذ النصف الثاني من القرن الثالث الهجري مع ضعف الدولة العباسية، واستقلال بعض الولاة عن سلطان الخلافة في العاصمة، فظهرت الدويلات المستقلة عن الدولة العباسية مثل الدويلات: البويهية، والسامانية، والغَزنوية، والسلجوقية، والطولونية، والإخشيدية، وغيرها من الدويلات التي حكم أمراؤها عن طريق القوة والقهر، ولم يكن الخليفة ليملك معهم إلا إِقراراهم على تلك الدويلات كأمر واقع لا مفر منه، ولا مجال لنكرانه أو إبطاله؛ لئلا يئول الأمر إلى مزيد من التفرق والتمزق، وسفك الدماء. شروط وواجبات أمير الاستيلاء: يجب على أمير الاستيلاء نظير إقرار ولايته -كأمر واقع- أن يقوم ببعض الأمور ومنها: حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة، وتدبير أمور الملة؛ ليكون ما أوجبه الشرع من إقامتها محفوظًا، وما تفرع عنها من الحقوق محروسًا.
ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد؛ اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر؛ ليكون المسلمون يدًا على من سواهم؛ أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة، والأحكام والأُقضية فيها نافذة، لا تبطل بفساد عقودها، ولا تسقط بخلل عهودها؛ أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها، ويستبيحه آخذها؛ أن تكون الحدود مستوفاة بحق، وقائمة على مستحق، فإن جنب المؤمن حمًى إلا من حق الله وحدوده؛ أن يكون الأمير قائمًا في حفظ الدين؛ وأن يكون ورعًا من محارم الله، فهذه الواجبات لا بد وأن يقوم بها أمير الاستيلاء في مقابلة الاعتراف بشرعية استيلائه، وإقراره على سلطة الإدارة. الفرق بين إمارة الاستيلاء وإمارة الاستكفاء: ذكرنًا سلفًا أن إمارة الاستيلاء تعقد عن اضطرار، بينما إمارة الاستكفاء تعقد عن اختيار، ومع ذلك يفرق العلماء بين الإمارتين من وجوه أربعة: 1 - أن إمارة الاستيلاء متعينة في المسئول أي: ليس أمام الإمام إلا تعيينه؛ أما إمارة الاستكفاء فهي مقصورة على اختيار المستكفي أي: له أن يختار أيَّ واحد من الناس صالح لتولي هذه المهمة. 2 - أن إمارة الاستيلاء مشتملة على البلاد التي غلب عليها المسئول، وإمارة الاستكفاء مقصورة على البلاد التي تضمنها عهد المستكفي. ثم ننتقل الآن إلى الإمارة الخاصة: الإمارة الخاصة وهي المقابلة للإمارة العامة، فهي: أن يكون الأمير مقصور الإمارة على بعض الشئون فقط في بلد من البلدان، أو إقليم من الأقاليم، كتدبير الجيش، وسياسة الرعية، وحماية البيضة، والذب عن الحريم، وليس له أن يتعرض للقضاء، والأحكام، أو الجباية، أو الخراج، والصدقات.
ولما كانت الإمارة الخاصة أقل نفوذًا من الإمارة العامة وهي محددة ببعض الأمور فقط -كما ذكرنا- فإنها تشبه إلى حد ما وزارة التنفيذ بالنسبة لوزارة التفويض؛ ولذلك يمكن القول بأنه: يشترط في أمير الإمارة الخاصة نفس شروط وزير التنفيذ، إلا أنه يلزم في هذا الصدد أن يكون الأمير مسلمًا؛ لما في الإمارة من معنى الولاية، وإن كانت إمارة خاصة، وكذلك يلزم أن يكون الأمير حرًّا؛ لأن الولاية على الغير تتنافى مع الرق والعبودية، ولكن ليس بشرط أن يكون الأمير إمارة خاصة من أهل العلم؛ لأنه ليس له الحكم ولا القضاء -كما ذكرنا- فلم يكن مفتقرًا إلى العلم، لكن من الأفضل أن يكون من العلماء، أو على الأقل من المثقفين، فلا يكون جاهلًا كل الجهل بالأحكام الشرعية؛ لأن هذا لا يمكنه من القدرة على ممارسة صلاحياته. واجبات الأمير في الإمارة الخاصة: يدخل في اختصاصات الأمير في الإمارة الخاصة ما يلي: 1 - إقامة الحدود التي تتعلق بحقوق الله تعالى لحد الزنا؛ لدخول ذلك في قوانين السياسة، وموجبات الحماية والذب عن الملة، وكذلك الحدود التي تتعلق بحقوق الآدميين، إذا كانت إقامتها لا تفتقر إلى نظر واجتهاد؛ أما ما كان مفتقرًا إلى ذلك؛ لاختلاف الفقهاء فيه، أو ما كان مفتقرًا إلى إقامة بينة لتناكر المتنازعين فيه، فإنه يخرج عن سلطة الأمير، وليس له أن يتعرض لذلك؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد، فضلًا عن خصوص ولايته. ومن الاختصاصات أيضًا النظر في المظالم إذا تعسف أصحاب السلطات من الحكام والقضاة ومن إليهم؛ شريطة أن تكون هذه المظالم غير قابلة للاستئناف، فإن كانت مما تستأنف فيها الأحكام ويبتدئ فيها القضاء فإنه يمتنع عن الأمير النظر فيها؛ وعليه عندئذ
الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم.
أن يرد الموضوع إلى حاكم بلده، أو لأقرب حاكم في بلده، ولكن يجوز له مساعدة الحاكم في استيفاء الحقوق؛ لأنه هو صاحب المعونة دون الحاجة. ومن اختصاصاته أيضًا: إمامة الصلاة، وتسيير الحج؛ لأن هذا يعتبر من جملة الصلاحيات المندوب إليها الأمير. ومن اختصاصاته أيضًا -أي: الأمير في الإمارة الخاصة- الجهاد، لكن ينبغي التفريق في هذا الصدد بين ابتداء القتال للأعداء المداخلين للحدود، فهو لا يجوز إلا بإذن الخليفة، وبين الاعتداء الواقع عليهم بالفعل فهو يجوز بغير إذن الخليفة؛ لأن الحق في الدفاع يدخل ضمن حقوق الحماية، ومقتضيات الذب عن الحريم، التي تدخل في اختصاصات الأمير. ونكتفي بهذا القدر من الحديث عن الإمارة بنوعيها: الإمارة الخاصة، والإمارة العامة، وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن النظام الإداري في الإسلام. الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم وننتقل الآن للحديث عن السياسة الخارجية للدولة الإسلامية، وهو إحدى الموضوعات المقررة في السياسة الشرعية، ونتحدث في موضوع السياسة الخارجية للدولة الإسلامية عن علاقة المسلمين بغيرهم، ثم نتحدث عن موضوع آخر وهو: تقسيم الدول إلى: دار حرب، ودار إسلام، وما يترتب على ذلك من نتائج، ثم نتحدث بعد ذلك عن المعاهدات في الفقه الإسلامي. ونبدأ الآن الحديث عن علاقة المسلمين بغيرهم، ويمكن تقسيم الحديث في هذا الأمر -وهو علاقة المسلمين بغيرهم- إلى قسمين: الأول: الأسس التي بنيت عليها العلاقات الدولية في الإسلام. الثاني: الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو السلم دون الحرب. فبالنسبة للقسم الأول وهو: الأسس التي بنيت عليها العلاقات الدولية في الإسلام، نقول: يتبين لنا من توجيهات الإسلام واستقراء أحكامه أن العلاقات الإسلامية تقوم عند الفقهاء على أسس؛ هي ضرورية لا بد منها في الحياة الاجتماعية، بل والدولية، وسوف نبحث هذه الأسس فيما يلي:
أولًا: الوحدة الإنسانية؛ والوحدة الإنسانية تتفرع إلى عدة فروع منها: التساوي في الأصل، وفي ذلك نقول: الناس في الأصل سواء، لا فضل لأحد على الآخر إلا بالتقوى، وأنه لا تفاضل بين البشر بسبب اللون، أو الجنس، أو اللغة، فالكل ينتمون إلى آدم، وآدم من تراب، وفي ذلك يقول الحق -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: من الآية: 1) فقد دلت الآية الكريمة على أن الخالق واحد، والنفس الإنسانية واحدة، كما وجهت أيضًا الخطاب للناس جميعًا؛ لأنه في شأن عالمي إنساني، وليس خاصًّا بمجتمع إقليمي أو زمني. ويقول الله -تبارك وتعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: من الآية: 213) فهذه الآية تبين أن الإنسانية أمة واحدة، وقد قرر الله تعالى أن الناس جميعًا أمة واحدة، وأن الاختلاف عارض ومنشأه الأهواء، وأن الله -سبحانه وتعالى- أرسل الرسل بالهداية؛ ليحكموا بأمر الله تعالى في هذا الاختلاف؛ وليبينوا لهم طريق الهداية، فيسلكه من تغلب على هواه، ويضل الآخر ويشقى. ويقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} (الروم: من الآية: 22) فهذه الآية تبين أنه لم يكن اختلاف اللغات والألوان بمانع من الوحدة الإنسانية الجامعة؛ بل إن هذا الاختلاف من سنن الله تعالى في خلق الإنسان، إذ جعل فيه قوة يتكيف بمقتضاها مع بيئته، ويتجاوب، ويقول الحق -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: من الآية: 13) أي: أنكم جميعًا منحدرين من أب واحد، ومن أم واحدة، فلا فضل لأحدكم على الآخر بحسب عنصره، وطبيعته، وإذا كان الله قد جعلكم شعوبًا وقبائل فإنه لم يجعلكم كذلك لتفضيل شعب على شعب؛ أو قبيلة على قبيلة، وإنما ليكون ذلك وسيلة للتعارف.
وبمعنى آخر: فإن هذه الآية تبين أن اختلاف الناس شعوبًا وقبائل لم يكن ليتقاتلوا، أو يختلفوا، ولكن ليتعارفوا، ويتعاونوا، وهذا التعارف يجعل كل فريق ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر، وتكون خيرات الأرض كلها لابن هذه الأرض وهو الإنسان، وهذا لا يتحقق إلا بالتعاون والتعارف الإنساني. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- مقررًا هذا الأصل: ((إن الله -عز وجل- قد أذهب عنكم حمية الجاهلية، والفخر بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب)). ثم كان هناك أيضًا وحدة التكاليف: الوحدة الإنسانية تقتضي وحدة التكاليف؛ لأنه لما كان الإسلام دعوة عالمية، فإنه بشأن التكاليف تتجه أوامر القرآن ونواهيه إلى الناس كافة، فلا تختص بها أمة دون أمة، أو جنس دون جنس، بل يطالب بهذه الأوامر جميع الأجناس والطوائف، دون نظر إلى ما بينهم من فوارق شخصية: كذكورة وأنوثة، وبياض وسواد؛ أو فروق اجتماعية: كرئاسة ومرءوسية، وحاكمية ومحكومية، وغنى وفقر، وفي هذا المعنى يقول الله -تبارك وتعالى-: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} (النساء: 123). فالجميع على مستوى من المسئولية أمام الله، وأمام المجتمع. ومما تجب ملاحظته أن الوحدة الإنسانية تقتضي وحدة التكاليف لجميع البشر؛ فالله -سبحانه وتعالى- أمر الناس جميعًا بالتقوى، والإذعان لدينه، فالتكاليف الشرعية واحدة لجميع البشر، وذلك واضح في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: من الآية: 1) والرسالة المحمدية رسالة عالمية، دعوة إلى جميع الإنسانية لهداية الناس جميعًا.
ثم نتحدث الآن عن وحدة الدين، فنقول: والوحدة الإنسانية تقتضي وحدة الدين؛ فالشريعة الإسلامية امتداد للشرائع السابقة، فكل شريعة كانت مناسبة للزمان والمكان الذي أرسلت فيه، حتى إذا بلغت البشرية حدًّا من الاستعداد والحاجة إلى شريعة خاتمة كانت الشريعة الإسلامية؛ والرسالات السماوية تلتقي جميعًا في الأسس العامة، أما التفصيلات فإنها تختلف باختلاف ظروف كل شريعة، وفقًا للزمان والمكان الذي ظهرت فيه، والإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، منذ وجد الإنسان على وجه الأرض، يقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} (آل عمران: من الآية: 19) فالأصول الكلية واحدة يقول تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13). والدين هو الإسلام لدى الأنبياء جميعًا، يقول تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67) وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132، 133) والإسلام يأمر بالإيمان بجميع الرسل والأنبياء السابقين، يقول تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136). فالشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع السماوية، جاءت لسعادة البشرية التي كانت متعطشة إليها؛ لإنقاذها مما تعانيه، وإخراجها من ظلمات الجهالة إلى نور الهداية
واليقين، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مثلي ومثل الأنبياء قبل كمثل رجل ابتنى دارًا، فأحسنها، فأكملها، إلا في موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع هذه اللبنة، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: فأنا موضع تلك اللبنة، جئت فختمت الأنبياء)). ثم نتحدث بعد ذلك عن الأمور التي يشترك فيها الناس جميعًا وهي: وحدة المصير، فنقول: وإلى جانب وحدة التكاليف، ووحدة الدين للإنسانية جميعًا، فإن المصير واحد؛ فالناس كلهم واحد في أطوار حياتهم، وفي نهايتهم، يقول -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} (الحج: من الآية: 5). وهكذا وجدنا أن الوحدة الإنسانية من الأسس التي تقوم عليها العلاقات في الإسلام؛ سواء كانت العلاقات فردية، أو جماعية، أو دولية، ولا شك أن شعور الفرد أو الجماعة أو الدول بأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا من حيث المنشأ والمصير؛ يدعوها إلى أن تكون العلاقات بينهم علاقات وطيدة الدعائم، مما يقوي الأواصر، ويدعم الروابط في شتى مجالات الحياة. ومن الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام: الصلة الإنسانية، وفي ذلك نقول: ينظر الإسلام إلى البشر على أنهم أمة واحدة، ينتمون جميعًا إلى آدم -عليه السلام- فلا يمنع من وجود صلة قائمة على الإنسانية؛ فالله- عز وجل- يأمر بالعدل والإحسان، يقول تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} (النحل: من الآية: 90). والقرآن الكريم أجاز مودة من لم يقاتلنا في الدين من غير المسلمين، ولم يخرجنا من ديارنا، ولم يظاهر على إخراجنا، فيقول -تبارك وتعالى-: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8، 9) والآية نزلت في أسماء بنت أبي بكر، فيُروى عنها -رضي الله عنها- أنها قالت: ((قدمتْ أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة -أي: راغبة في زيارتي- أفأصلها؟ قال: نعم، صِلِي أُمُّك)) على الرغم من أن هذه الأم لم تكن مسلمة، ومع ذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصلتها. وقال الجصاص في (أحكام القرآن) في تفسير قوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ}: هذا عموم في جواز دفع الصدقات إلى أهل الذمة، إذ ليس هم من أهل قتالنا، والإسلام يدعو إلى هذه الصلة الإنسانية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قام بزيارة غلام لجاره اليهودي؛ فقد روي عن أنس: ((أنَّ غلامًا -من اليهود- كان قد مرض، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يَعُوُدُه في هذا المرض، فقعد عن رأسه، فعرض عليه الإسلام، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم الولد، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)). وكان -صلى الله عليه وسلم- يجيز وفود المشركين، ويتأَلَّف كبارهم، ويلين لهم القول، وكان يقول: ((إذا جاءكم كريمُ قوم فأكرموه)). وأيضًا من ضمن المبادئ التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام: المساواة بين الناس، وفي ذلك نقول: اهتم الناس بالمساواة، وقدروا من يدعوا إليها، ويعمل بها، وكان ذلك راجعًا إلى ما رأَوه من ظلم القوي للضعيف، بما جُبلت عليه النفوس من الكبرياء، والتعالي، والأثرة، واغتصاب الحقوق، ومن ثمَّ كان من أهم ما اهتمت به الأديان هو الحد من ذلك الظلم، والحيلولة بين الناس وبين
اغتصابهم للحقوق، وتلك أيضًا كانت وظيفة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- لقد تصادمت الطبيعة البشرية الميالة للتكبر واغتصاب الحقوق مع الأديان والرسل من قديم الزمان؛ مما جعل حياة الرسل والداعين بدعوتهم سلسلة من المتاعب الكثيرة. وقبل بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- كان نظام الطبقات يسود العالم بصورة شائعة وقاسية، فقد نشأ هذا النظام في الحياة الاجتماعية والسياسية على السواء، فالرومان كانوا يقسِّمون الناس إلى أحرار وغير أحرار؛ فالأحرار يتمتعون بكل الحقوق، وغير الأحرار يحرمون من التمتع بأي حق من الحقوق، ولم تكن الجزيرة العربية أسعد حالًا، بل كان الرق أحد العوامل السائدة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ نتيجة للغارات، والحروب المتوالية، وكان الرق بابًا من أبواب التجارة الرابحة، فلما جاء الإسلام لم يقر هذه الأوضاع، فكما حرر الإنسان في فكره وعقيدته، حرره من عبوديته لسادته ولغيرهم، وهذه النزعة العادلة هي القيمة التي دافع عنها الحكام، وطبقها القضاة بين الناس. لقد جاء الإسلام بنظرية المساواة التامة، حيث قرر المساواة بين الناس جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، فهم متساوون في الحقوق والواجبات، وذلك في النظام الذي رسمه التشريع الإسلامي، وقد حرص الإسلام على تقرير هذه المساواة في أكمل صورها، وجعلها من العقائد الأساسية، التي يجب أن يدين بها كل مسلم، واستنكر الإسلام معاملة الناس معاملة متفاوتة، وندد بالتفرقة العنصرية، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 4) وهذه المساواة التي نادى بها الإسلام تشمل الناس جميعًا، دون نظر حتى إلى الدين الذي يعتنقونه.
فها هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُهدر أيَّ تفرقة بين مسلم وغير مسلم، ويتضح هذا عندما أمر أن يقتص أحد أقباط مصر من ابن عمر بن العاص -والي مصر- عندما ضربه. وقد رُوي أن محمد بن عمرو بن العاص ضرب مِصريًّا بالسوط وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، وحبس ابن العاص المصريَّ؛ مخافة أن يشكو ابنه إلى الخليفة، فلما أفلت المصري من محبسه ذهب إلى المدينة، وشكا لعمر بن الخطاب ما أصابه، فاستبقاه عمر بن الخطاب -المصري- في المدينة. واستقدمَ عمرو وابنه من مصر، أي: طلب من عمرو بن العاص وابنه أن يأتيا إليه في دار الخلافة، ودعاهما إلى مجلس القصاص، فلما مثُلا فيه، نادى عمر: أين المصري؟ دونك الدرة -وهي: عصا يَضرب بها، أي: خذ الدرة فاضرِبْ بها ابنَ الأكرمين- فضرب المصري محمدًا حتى أثخنه، وعمر يقول: اضْرِبْ ابنَ الأكرمين فلما فرغ الرجل، وأراد أن يرد الدرة إلى أمير المؤمنين قال له: ضعها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه، قال عمرو: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت، واستشفيت، وقال المصري: يا أمير المؤمنين، قد ضربتُ من ضربني، وقال عمر: إنك والله لو ضربتَه ما حُلنا -أي: ما منعناك- بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعه، والتفت إلى عمرو غاضبًا، وقال: أي يا عمرو، متى تعبَّدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا؟! وقد طبق قضاة المسلمين مبدأ المساواة في قضائهم إلى أقصى حد ممكن؛ فقد روي أن علي بن أبي طالب افتقد درعًا -وكان في ذلك الوقت خليفة للمسلمين- فوجدها عند نصراني في السوق، فذهب علي بن أبي طالب إلى قاضي المسلمين شريح، يخاصم النصراني في الدرع، ويقول: "إنها درعي، ولم أبِع، ولم أهَب" يعني: ما بعتها، ولا وهبتها، ويسأل القاضي شريح النصراني، ويقول له: ما
تقول فيما ذكر أمير المؤمنين؟ فيقول النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فيلتفت شريح إلى علي يسأله، يا أمير المؤمنين: هل عندك بينة؟ هل عندك شهود على أن هذا الدرع إنما هو لك؟ فيقول علي: "أصاب شريح، ما عندي بينة" فيقضي شريح بالدرع للنصراني، فيأخذها، وينصرف، وأمير المؤمنين ينظر إليه، ولا يستطيع أن يقول شيئًا. ومن المبادئ العامة أيضًا التي كان أساس العلاقة بين المسلمين وبين غيرهم هو: التعاون الإنساني، وفي ذلك نقول: لا يستطيع إنسان أن يقوم بكل ما يحتاجه لنفسه بنفسه، فلا بد أن يستعين بغيره، كما يستعين به غيره؛ فالإنسان جزء من البيئة والمجتمع، يؤثر ويتأثر، ويتفاعل مع غيره، كما يتفاعل غيره به؛ لأن الإنسان مدني بطبعه، ومادام الناس ينتمون إلى أصل واحد، فذلك أدعى إلى التعاون؛ واختلاف الناس شعوبًا وقبائل لم يكن من أجل أن يتصارعوا، ولكن ليتعارفوا، والتعارف لا يكون إلا بالتفاعل الإيجابي، يقول ربنا -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: من الآية: 13) والتعاون في الإسلام مبدأ عام في كل الجماعات الإنسانية، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: من الآية: 2). والتعاون قوام الأسرة، وقوام الأمة، فلقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعمل والقول إلى التعاون في علاقة الدول بعضها بالبعض؛ ومما يدلل على ذلك: أنه عندما جاء إلى المدينة عقد مع اليهود حِلفًا أساسه التعاون على البر، وحماية الفضيلة، ومنع الأذى، وكان يطلق على هذا الحلف: "الصحيفة" وقد تضمنت هذه الصحيفة الكثير من الأحكام التي تبين كيفية تحقيق التعاون بين المسلمين واليهود؛ كما عقد النبي -صلى الله عليه وسلم- مع قبائل العرب معاهدات، مبعثها التسامح، وروحها الرحمة، منها صلح الحديبية، وقد عقد تعاونًا دوليًّا في مجال الزراعة مع يهود خيبر، حيث أقرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أرضهم، ولهم نصف ما يَخرُج منها من ثمر أو زرع.
حرية العقيدة.
يدل على ذلك: ما روي عن ابن عمر: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها)) أي: من الأرض من ثمر أو زرع، وفي رواية: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها، ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها)) بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين أن الله يمد بالقوة من يعاون أخاه الإنسان في أي إقليم، وفي أي موطن، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) ففي هذا الحديث لم يعين النبي -صلى الله عليه وسلم- الأخ، بل عممه، جاءت الكلمة عامة، فيعم الأخوة الإنسانية، ولا يقتصر على الأخوة الدينية، أو الإقليمية. وهكذا نرى أن كل ما يدعو إلى التقدم والرفاهية في مجالات الحياة المختلفة، في إطار من الحق والعدل تحث الشريعة عليه؛ لأنه من فيض التعاون على البر والتقوى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 4 - بقية الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام حرية العقيدة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد. فقد بدأنا الحديث في المحاضرة السابقة عن السياسة الخارجية للدولة الإسلامية، وبدأنا الحديث عن أسس العلاقات الدولية في الإسلام، وبدأنا في تعداد هذه الأسس، وذكرنا منها: الوحدة الإنسانية، والصلة الإنسانية، والمساواة بين الناس جميعًا، والتعاون الإنساني. ومن المبادئ أيضًا التي بنيت عليها العلاقات الدولية في الإسلام: الحرية وفي ذلك نقول: إن هذه الحرية تعني: تحرر الفرد من القيود، وقدرته على التصرف باختيار؛ فالحر إذًا هو الذي يملك نفسه، ولا يخضع لرق، ولا أسر، والحرية تعني: الخلوص من الأسر والرق، وهي تلتقي في الوجود مع الإنسان الحر، الذي تتجلى فيه القيمة الإنسانية الرفيعة، ومن هنا فإن الحرية تستمد اشتقاها من الحر، ويتحلى هو بها، والحر في الحقيقة هو الذي يبتدئ بالسيادة على نفسه، وإذا تحقق له ذلك يكون حرًّا. وإذا أردنا أن نعرَّف الحرية في الاصطلاح الفقهي نقول: لم تعرف الشريعة الإسلامية معنىً اصطلاحيًّا للفظ الحرية يخرج عن المعاني اللغوية -التي أشرنا إلى بعض منها- ولم يعرَّف الفقهاء المسلمون الأوائل -أيضًا- ذلك، غير أن البعض
من المحدثين عرَّفها بأنها: خلوص الإنسان من ضيق الحجر، وتمتعه بكل حق إنساني قضى به الشرع، وهي حق طبيعي للناس، إذا حُرِموه فقد سُلبت إرادتهم، وافتقدوا إنسانيتهم، لهذا قررها الإسلام، ورفع من شأنها، ومنع من العبث بها، وقد جاء الإسلام؛ ليرفع كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، فأعلى القيم البشرية، وفضّل الإنسان على كثير من المخلوقات. وفي ذلك يقول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70). وهدم الإسلام نظام الطبقات من أساسه؛ فالناس في نظره سواسية، لا يتفاضلون إلا بالتقوى، والعمل الصالح، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: من الآية: 13) ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: من الآية: 1) وفي ذلك تقرير لوحدة الأصل، مما يقتضي عدم التمايز بالجنس، أو الطبقة؛ إن فلسفة الحرية في الإسلام تكمن في العبودية الكاملة لله تعالى، وهذه العبودية تعني أن يكون للإنسان كامل الحرية بين بني جنسه، وذلك أنه ما دام الكل عباد لله تعالى فهم أحرار فيما بينهم، فإذا وعى الإنسان هذا المعنى للحرية، أحس في الواقع بها، وعاش بين ربوعها كريم النفس، لا يَستذل لقوة، ولا مال، ولا جاه. وتلقين هذه العبودية للبشر من أهم وظائف الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- فمهمتهم -جميعًا- هي إزالة عبودية البشر للبشر؛ لتحل محلها عبودية الله للبشر جميعًا، وبالتالي الوقوف في وجه من جاوزا حدود البشرية، وادعوا
ألوهية كاذبة على بشر أمثالهم؛ وليمنعوا الظلم عن الذين ظلموهم، وادعوا هذه الألوهية، ويحرروهم من عبودية غير الله، ويجمعوهم تحت نظام للحياة عادل، ليس فيه إنسان عبد لإنسان، بل يكون الناس فيه جميعًا عبادًا لله وحده. وفي ذلك يقول الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الأنعام: 102) ويقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64) فهذا هو النداء الرباني الذي حرر العقول والأفكار؛ وحرر كل ما أوتي البشر من القوى العقلية والمادية من أغلال العبودية لغير الله؛ ووضع عنهم إصرهم الذي كان يرزحون تحته. إن الحرية في الإسلام ذات معنى واسع؛ فالإسلام حين دعا إليها لم يكن يدعو إلى حرية الأفراد فحسب، ولا حرية الجماعات فحسب، بل أراد هذه الحرية ملكًا وحقًّا لكل البشر على السواء، في شتى أنحاء الأرض؛ فالإنسان في نظر الإنسان حر في إنسانيته، وحر في عقيدته، وحر في إبداء رأيه، وعلى الجملة: فقد كَفَلَ الإسلام لكل واحد من الناس الحرية الإنسانية، والمدنية، والسياسية، والعلمية، وغير ذلك من مظاهر الحرية على تعدد أنواعها. والحرية بهذا المفهوم أقرها الإسلام في ضمائر المؤمنين، وجعلها جزءًا لا يتجزأ من عقيدتهم؛ ولذلك نجد المجتمع المسلم يُذعن لقانون العبودية لله تعالى، ويراه واجبًا عليه، وحقًّا لله الذي خلقه، وهو بذلك يتمتع بكامل حريته. وكما قلنا: فإن للحرية مظاهر متنوعة: هناك حرية دينية، وحرية سياسية، إلى غير ذلك من الحريات التي عددها القانونيون، لكن ما نريد أن نلفت النظر إليه هو: الحرية الدينية التي أقرها الإسلام لغير المسلمين، ونقول في هذا الشأن:
لقد نص الإسلام على حرية العقيدة في كتابه الكريم، حيث يقول الله تعالى في ذلك: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: من الآية: 256) ويقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: إن الله تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقصر، وإنما بناه على التمكن والاختيار؛ فالله تعالى لما بين دلائل التوحيد بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر، قال بعد ذلك: إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر، إلا أن يُقصَرَ على الإيمان ويُجبَرَ عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان. ومما يؤكد هذا القول، أن الله تعالى قال بعد ذلك: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} يعني: ظهرت الدلائل، ووضحت البينات، ولم يبق بعدها إلا طريق القصر والإلجاء والإكراه، وذلك غير جائز؛ لأنه ينافي التكليف. ومعنى هذا: أنه إذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه عليه، وكان من نتيجة هذا الإكراه إسلام المكره، فإن حكم الإسلام لا يثبت في حقه، حتى تبدر منه علامات تدل على إسلامه اختيارًا، فإذا مات من أسلم مكرهًا قبل صدور هذه العلامات منه فحكمه حكم الكفار، ولم يعامل معاملة المسلمين، وأيضًا إن رجع إلى الكفر لم يثبت في حقه حكم الردة، وبالتالي لا يجوز قتله، وهذا راجع إلى أنه أكره على شيء لا يبيح الإسلام إكراهه عليه، فلم يثبت حكمه في حقه، وهذه الحالة مشابهة لحالة المسلم إذا أكره على الكفر، حيث لا يعد كافرًا طالما قلبه مطمئن بالإيمان، يقول الله -تبارك وتعالى-: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل: من الآية: 106). فالله الذي خلق الناس أحرارًا في تفكيرهم، بل وقدس حريتهم، لم يُكرههم على أن يؤمنوا به، ويعبدوه، فهو لم يتعامل معهم بالجبر ولو على الخير، وهذا
راجع إلى أن معنى العبادة الحقة ومعنى التكليف المعقول لا يتلاءمان مع الإكراه؛ والله تعالى -من جهة أخرى- قرر مسئوليتهم، وترك بعد ذلك نواميس الكون لتعمل عملها في الفرد والمجتمع، وهذا مبني على أن روح التوحيد تقوم على الحرية، وأن الإيمان أمر أكثر من مجرد الشعور، فهو في حقيقته يشبه رضا النفس عن علم ومعرفة. والله -سبحانه وتعالى من جهة أخرى- قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر؛ إلا أن الخلف بين الناس في أديانهم واعتقاد مِللهم سيظل موجودًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يود أن يؤمن كل الناس، وكان يحزن لكفر بعضهم، وهنا قال الله تعالى منفسًا عنه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: الآية: 99) ويقول ابن عباس في تفسير هذه الآية: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على إيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى: إنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول، وبناء على ذلك أمرنا الله تعالى ألا نُكره أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي، دلائله وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله، وشرح صدره، ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقصورًا. والإسلام قرر ذلك؛ لأنه يرى أن الإيمان الصحيح المقبول عنده هو ما جاء وليد يقظة عقلية، واقتناع قلبي عن رضًا ورغبة، وقد عرض الإسلام نفسه في دائرة هذا المعنى غير متجاوز له في قليل ولا كثير؛ فهو يعتبر حرية الاعتقاد حقًّا فطريًّا لكل إنسان في كل زمان ومكان، يجب تمكينه من التمتع بها دائمًا، بل هي من أولى حقوقه التي يثبت له بها وصف إنسان، فإذا سُلبت منه فقد سلبت إنسانيته؛
فالإسلام ليس من أهدافه أن يفرض نفسه على الناس فرضًا، حتى يكون هو الديانة الوحيدة؛ لأن أية محاولة من هذا النوع هي محاولة فاشلة، بل هي مقاومة لسنة الوجود، ومعاندة لإرادة رب الوجود. وهناك حقائق غرسها الإسلام في عقول متبعيه، جعلتهم يتسامحون في معاملاتهم مع مخالفيهم في الدين، هذه الحقائق تكمن في اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان أيًّا كان دينه، أو جنسه، أو لونه، واعتقاده أن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة الله تعالى، واعتقاده أنه ليس مكلفًا بحساب الكافرين على كفرهم؛ لأن حسابهم إلى الله يوم الحساب، على أنه في النهاية يجب أن نلاحظ أن: مفهوم حرية العقيدة يختلف في الإسلام عنه في النظم المعاصرة اختلافًا كبيرًا؛ ذلك أن النظم المعاصرة تأخذ بمفهوم حرية العقيدة، بما يشمل حرية تغيير الدين، وحرية الارتداد عن الإسلام. أما النظام الإسلامي فيفرِّق في هذا الصدد بين أمرين: الأول: حرية العقيدة ابتداءً، وهنا لا يجبر أحد على الدخول في دين الإسلام، فهنا الحرية مكفولة للجميع؛ الثاني: حرية الارتداد، بمعنى: الخروج عن الدين الإسلامي بعد الدخول فيه، وهذه الحرية لا يقرِّها الإسلام، ويعاقب على ممارستها أشد العقاب؛ فحرية العقيدة ابتداءً يَكْفُلُها الإسلام لجميع البشر أيًّا كانت ديانتهم، وأيًّا كان معتنقوها، لا فرق بين جنس وجنس. ونتكلم الآن عن الخصائص التي تميزت بها الشريعة بشأن حرية العقيدة فنقول: لما كانت العقيدة في الإسلام شيئًا معنويًّا، سبيله الأوحد: الإقناع، فهي لذلك لا تقبل الإكراه، والعقل هو الذي يقرر قبوله لها، فترسخ في القلوب، وليس
للإكراه سبيل إليها كما أوضحنا، ومن خلال ذلك المفهوم تظهر بعض الخصائص التي تميزت بها الشريعة في هذا الشأن منها: 1 - أن عقيدة الإسلام بطبيعتها تتسم بالسهولة واليسر، وليس فيها متناقضات أو مشاكل معقدة، ومن طبيعة الأمور الواضحة الميسورة أن يتقبلها الناس بسهولة ويسر، كما أن من طبيعة الأمور المعقدة المناقضة أن يرتاب الناس فيها، ويعرضوا عنها، وبالتالي تحتاج لكي يقبلها الناس إلى وسيلة لفرضها عليهم فرضًا، وإلجائهم إليها إلجاءً، وليس ذلك من طبيعة عقيدة الإسلام؛ فالإسلام يقرر أن الإيمان الذي يجيء عن طريق الإكراه لا قيمة له، ولا كرامة لصاحبه، فقد قال الله تعالى لفرعون حين أدركه الغرق، وقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} (يونس: من الآية: 90) فيرد عليه الحق قائلًا: {أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس: من الآية: 90، 91) وقال سبحانه: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر: 84، 85). كما يقرر الحق سبحانه عدم الاعتداد بالتوبة التي يكون مبعثها الإكراه ومعاينة العذاب؛ قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء: 18). ومن الخصائص أيضًا: أن نصوص الشرعية الإسلامية أثبتت أن الإقناع بالعقيدة الإسلامية وسيلته الموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، شأنها في ذلك شأن رسالات السماء السابقة عليها، ولنستمع إلى نوح -عليه السلام- وهو
يحاجج قومه، ويناقض عقولهم بالدليل لا بالإكراه؛ فيقول: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود: 28) ثم استمِع إلى قوم عاد وهم يقولون لنبيهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (هود: 53) ولذا يتجه هود إلى ربه قائلًا: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} (هود: من الآية: 56). ثم استمِع إلى إبراهيم- عليه السلام- وهو يحاجج أباه في لطف ولين حيث يقول له: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (مريم: 42 - 46) ثم يرد النبي العطوف قائلًا لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} (مريم: 47، 48). هذا هو نهي الأنبياء، وهو نهي سيد المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108). ومن الخصائص أيضًا أن صاحب الدعوة الإسلام -محمد صلى الله عليه وسلم- ليس مسئولًا أمام الحق -جل وعلا- أو أمام الخلق إلا عن بيان ما نزل به الوحي، وهي مهمة التبليغ والإنذار، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ
العدل.
الْمُبِينُ} (النور: من الآية: 54 وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ} (الغاشية: 21، 22) وتأسيسًا على ذلك فالرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس مطالبًا بإيمان الناس، أو إرغامهم عليه، وفي هذا يقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (البقرة: من الآية: 272). العدل ثم ننتقل الآن إلى أساس آخر من الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام وهو العدل: فنقول: حرص الإسلام على العدل حرصًا شديدًا؛ لما له من منزلة جليلة، ومكانة سامية، فهو الأساس الذي تعتمد عليه الأمم في تقدمها وبقائها، ومن ثَمَّ ورد الأمر به في أساليب متعددة في القرآن الكريم؛ إعلاء لشأنه، وبيانًا لأهمية التمسك به، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (النساء: من الآية: 135) فقد أتى الأمر بالعدل هنا بصيغة المبالغة: {قَوَّامِينَ} ليكون الإتيان به على أكمل وجه، فهو بناء مبالغة أي: ليتكرر منكم القيام بالقسط وهو: العدل. ومعنى: {كُونُوا قَوَّامِينَ} أي: لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم، بأن تتحرَّوْهُ بالدقة التامة؛ حتى يصبح أمرًا مقررًا في نفوسكم، لا تتخلون عنه، مهما تكن الظروف المحيطة بكم، فلا تميلوا بالهوى مع الفقير لضعفه، ولا على الغني لاستغنائه، وكونوا مع الحق، فالله الذي أغنى هذا وأفقر هذا أولى بالفقير أن يغنيه بفضله بالحق، لا بالهوى، والله أولى بالغني أن يأخذ ما في يده بالعدل والحق، لا بالتحايل، والتحامل عليه. فالعدالة حق للأعداء كما هي حق للأولياء، وقد نص القرآن الكريم على أنه: لا يصح أن تُحمل العداوة على الظلم، فإن العدل مع الأعداء أقرب للتقوى،
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: الآية: 8 أي: لا يحملنكم عداوة قوم على أن لا تعدلوا في حكمكم فيهم، وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة؛ يقول الطبري: يعني -جل ثناؤه- بقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: اعتدلوا أيها المؤمنون على أحد من الناس، وليًّا كان لكم، أو عدوًّا، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم، والعدل عليهم أيها المؤمنون أقرب لكم إلى أن تكونوا باستعمالكم إياه من أهل التقوى. وإنما وصف -جل ثناؤه- العدل بما وصفه به من أنه أقرب للتقوى من الجور؛ لأن مَن كان عادلًا كان بعدله مطيعًا، ومن كان لله مطيعًا كان لا شك من أهل التقوى، ومن كان جائرًا كان لله عاصيًا، ومن كان لله عاصيًا كان بعيدًا عن تقوى الله، ويأمر الله تعالى بالعدل حتى ولو كان الخصوم كفارًا، يقول سبحانه: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) فقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل، وذلك هو الحكم بما جعله الله حكمًا في مثله على جميع خلقه من أمة نبينا -صلى الله عليه وسلم- فالله تعالى يحب المقسطين -أي: العادلين في حكمهم بين الناس- القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه. ومما تجب ملاحظته أن العدل الذي جاءت به الشريعة: إنما هو عدل مطلق؛ تسعد به البشرية في شتى مجالات الحياة، يقول ابن القيم عن الشريعة: وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن
الوفاء بالعهد.
الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظِله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، والدالة أيضًا على صدق رسوله -صلى الله عليه وسلم-. الوفاء بالعهد ومن الأسس التي قامت عليه العلاقات الإسلامية الدولية: الوفاء بالعهد، ونقول في ذلك: إن الوفاء بالعهد خلق كريم، وصفة طيبة، ومن ثَمَّ أمر الإسلام بالوفاء بالعهد، فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: من الآية: 1) يعني: أوفوا بالعقود التي عاهدتموها ربكم، والعقود التي عاهدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقًا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضًا، فأتموها بالوفاء، والكمال، والتمام منكم لله، بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منه، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنقضوها بعد توكيدها. ويقول تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء: من الآية: 34) يعني: أوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام؛ وفيما بينكم أيضًا، وفي البيوع والإيجارات، وغير ذلك من العقود، والله تعالى سيسأل ناقض العهد عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم، وبين مَن عاهدتموه أيها الناس، فتحقِّروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. والوفاء بالعهد خلق الأنبياء، يقول تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (مريم: من الآية: 54) ففي هذه الآية: يقول الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: واذكر يا محمد في هذا الكتاب إسماعيل بن إبراهيم، فاقصص خبره، إنه كان لا يكذب وعده، ولا يخلف، ولكنه كان إذا وعد ربه أو عبدًا من عباده وعدًا وفَّى به.
والوفاء بالوعد من صفات المؤمنين، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون: 8) أي: للأمانات التي اؤتمنوا عليها، وعهودهم -وهو: عقودهم- التي عاقدوا الناس فهم لها راعون -أي: حافظون- لا يضيعون، ولكنهم يوفون بذلك كله. ونبه القرآن أن من ينقض العهد يكون مذمومًا، بل هو شر الدواب عند الله، فقد نَعَى القرآن الكريم على اليهود نقضهم العهد الذي كان بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبينهم، فيقول: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} (الأنفال: 55، 56) يقول ابن عباس: "هم قريظة، فإنهم نقضوا عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: أخطأنا، فعاهدهم مرة أخرى، فنقضوه أيضًا يوم الخندق". وقوله: {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} معناه: أن عادة من حكم العقل أن يتقي نقض العهد؛ حتى يسكن الناس إلى قوله، ويثق بكلامه، وفي نقض العهد إثم كبير، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3) يعني: يا أيها الذين آمنوا، وصدقوا الله ورسوله: لم تقولون القول الذي لا تصدقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة لأقوالكم، عظم مقتًا عند ربكم أن تقولوا ما لا تفعلون. والإسلام يوصي باحترام العهد مع الضعفاء كاحترامه مع الأقوياء فلا يكون ضعف الدولة داعيًا إلى نقض العهد معها، بل لا بد من الوفاء بالعهد، فلا مخادعة، ولا خيانة؛ لأن ذلك منهي عنه، يقول تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ
كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 91 - 94). وقد تضمنت النصوص السابقة ما يلي: تضمنت أمرًا بالوفاء بالعهد، ونهيًّا عن نقضه بعد توكيده؛ لأن الله -عز وجل- شهيدًا عليه، وحافظ وضامن له، وهذا أدعى إلى الوفاء به. أيضًا: شَبهت الآية الذي يخلف، ويعاهد، ويبرم عهده، ثم ينقضه بالمرأة الحمقاء، التي تغزل غزلها، وتفتله محكمًا، ثم تحله، فنقض العهد حماقة، تؤدي إلى تفكك الصلات بين الأفراد، والدول، والجماعات، وما هذا إلا عن سوء تفكير، وفساد تدبير. وبينت الآية أنه لا تكون القلة والكثرة سببًا في نقض العهد، بل لا بد من الحفاظ على العهد والتمسك به؛ فالله تعالى ابتلى عباده بالتحديات، ومحاولة بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك؛ ليرى من يجاهد نفسه فيخالفها، ممن ينساق وراءها، ويعمل بمقتضى هواها. وتضمنت الآية أيضًا وعيدًا لمن نقض العهد، وعقد العقد بالانطواء على الخديعة، والفساد فيها بعد الثبوت، وتزل قدمه فيهوَى إلى مدارك السقوط، فنقض العهد يزري بالمكانة، ويؤدي إلى المهانة، وهكذا.
نستخلص من الآيات: أن السبيل لاستقرار السلام هو معاهدات الأمان، وعدم الاعتداء، وأن المعاهدات لا تستمد قوتها من نصوصها، بل من عزيمة عاقديها على الوفاء؛ ولذلك حث القرآن على الوفاء، واعتبر الوفاء بالعهد والميثاق قوة، والنكث فيه أخذًا في أسباب الضعف. وأن مَن يوثق عهده بيمين الله فقد اتخذ الله كفيلًا بوفائه، فإذا غدر بعهده فقد اتخذ عهد الله للغش وزيف القول، وأنه لا يصح أن يكون الباعث على الغدر بين الدول هو الرغبة في أن تكون أمة أقوى مالًا، وعُدة، وأكثر عددًا، وأوسع رقعة من أمة أخرى. ولقد بين الله أن الوفاء بالعهود هو المقصد الأساسي والأسمى الذي يتجه إليه المؤمنون؛ لتحقيق معنى الوحدة الإنسانية بإرادته واختياره، ويتحقق ما أراده الله تعالى الذي لو شاء لجعل الناس لا يختلفون أبدًا، ولكن كان الاختلاف؛ ليختبر الله الإرادات الإنسانية في تنفيذ ما يأمر به سبحانه. وإذا كان القرآن الكريم يدعو المؤمنين إلى تقوية العهود، وتنفيذها، وتحقيق الأمن بين الناس بها فإن النبي -صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ رسالة القرآن- قد حث أيضًا على الوفاء بالعهود؛ فعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الغادر ينصب له يوم القيامة لواء فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) وروي عن الحسن بن علي بن أبي رافع، أن أبا رافع أخبره قال: ((بعثتني قريش إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألقى الله -تبارك وتعالى- في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني لا أخيس بالعهد -يعني: لا أنقض العهد- ولا أخيس البرد -يعني: لا أنقض، ولا أقتل الرسل- ولكن ارجع -يعني:
الفضيلة.
ارجع إليهم- فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع، قال: فذهبت، ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت)). ونستخلص مما سبق: أن الوفاء بالعهد من الأسس التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية الدولية في الإسلام؛ لما فيه من تقوية الروابط، والإبقاء على الصلات، وتحسين العلاقات، وهذا ما تهدف إليه الشريعة الإسلامية. الفضيلة ومن الأمور أيضًا، أو الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية في الإسلام: الفضيلة ونقول في ذلك: فالإسلام يدعو إلى مراعاة الفضيلة، سواء كانت العلاقة فردية، أو جماعية، أو دولية؛ لما في هذا من محافظة على قيمه الرفيعة، ودعوة إلى إقامة مجتمع فاضل يستطيع النهوض بأعبائه. إن الإسلام ينظر إلى قانون الأخلاق على أنه قانون عام، يشمل الأبيض والأسود، والأحمر والأصفر، ويشمل الناس جميعًا في كل الأقطار والأمصار؛ فالفضيلة بمقتضى قواعد السلوك الفاضل حق لكل إنسان، يستحقها بمقتضى إنسانيته التي هي وصف مشترك بين كل أبناء آدم؛ وقد تقرر ذلك في المبادئ الإسلامية التي تطبق على كل الناس، وأشد ما كان يدعو إليه القرآن الكريم في الأمر بالفضيلة هو: ما يقترن بالجهاد؛ خشية أن تندفع النفوس في حال احتدام القتال إلى ما يخالف ذلك المبدأ الهام. فالفضيلة خلق، يطبق حتى مع الأعداء في حالة الحرب، يقول تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
التسامح.
الْمُتَّقِينَ} (البقرة: من الآية: 194) فالتقوى: فضيلة، والفضيلة تنهى عن التمثيل بالقتلى، حتى ولو مثَّل الأعداء بقتلى المسلمين؛ روي عن بريدة، عن أبيه قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أميرًا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، وقال: اغْزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تَغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا)). والفضيلة تدعونا إلى معاملة الأسارى معاملة طيبة، حتى ولو كان الأعداء يعاملون أسرانا معاملة سيئة، فيمتدح الله تعالى من يطعم الأسير بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8) والمقصود بالأسير: هو الحربي من أهل دار الحرب، يؤخذ قهرًا بالغلبة، فأثنَى الله على هؤلاء الأبرار بإطعامهم هؤلاء؛ تقربًا بذلك إلى الله، وطلبَ رضاه، ورحمة منهم له، وهكذا تكون معاملة المسلمين لغيرهم على أساس الفضيلة، لا يعدونها، فلا يقتل المسلمون المستأمنين أثناء الحرب، حتى ولو قتل الأعداء مستأمني المسلمين، فلا قتال إلا مع المحاربين، ومن يحملون السلاح، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) فالحرب لا تكون إلا على المعتدين. وعلى هذا: فالفضيلة هي الإطار الذي يدور بداخله كل ما يأتي به المسلمون من تصرفات تسهم في بناء مجتمع فاضل على المستويين المحلي والعالمي. التسامح وأيضًا من الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام مبدأ التسامح: فقد ضرب الإسلام المثل الأعلى في التسامح مع أهل الذمة، فتركهم وما يدينون، فلم يفتنوا عن دينهم، ولم يلحق بهم أي اضطهاد؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم-
أرسى قواعد التسامح الديني، ففي عهد الصلح -الذي تم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين نصارى أهل نجران- نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر لهم الحرية في عقيدتهم، فقد جاء في نص هذا العهد: "أن لهم ذمة الله وعهده، وألا يفتنوا عن دينهم، ولا يغير ما كانوا عليه، ولا يغيروا حق من حقوقهم، وأمثلتهم -يقصد: الصلبان والصور- ولا يفتن أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته". ومن هذا العهد يتبين لنا جليًّا مدى التسامح الذي منحه -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران. وأيضًا أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لليهود حريتهم، فقد كتب إلى معاذ بن جبل -وهو باليمن-: ((ألا لا يُفتن يهودي عن يهوديته)) ولو ألقينا نظرة على ما تضمنه كتاب الصلح الذي تم بين عمر بن الخطاب وأهل إيلياء، نجد أن عمر أعطاهم الأمان على أنفسهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وضَمِنَ لهم عدم سكن هذه الكنائس، أو هدمها، أو انتقاص شيء منها، وبمعنى أعم: ضمن ألا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم بسبب عقيدته. وفي كتاب الصلح الذي تم بين عياض بن غنم وبين إحدى مدن الشام نجد أنه: أقرهم على عقيدتهم، حيث أعطاهم أمانًا لأنفسهم، ولأماكن عباداتهم، وضمن ألا تخرب، ولا تسكن. وأيضًا: فإننا نجد خالد بن الوليد في الصلح الذي تم بينه وبين أهل دمشق: فقد أقرهم على عقيدتهم، حيث أمَّن أماكن هذه العبادة. وأيضًا: ما فعله عمر بن الخطاب حينما دخل بيت المقدس؛ لعقد معاهدة مع أهلها، فقد حضرته الصلاة في كنيسة القيامة، لكنه رفض الصلاة فيها؛ خشية أن يتخذها المسلمون مسجدًا من بعده، فيظلموا أهلها.
الرحمة.
وأيضًا: حينما رأى هيكلًا قد دفن في التراب، ثم علم أنه لليهود، أخذ يزيل عنه التراب بفضل ثوبه، فأتبعه جيشه فيما صنع، فلم تمض فترة حتى زال التراب عن الهيكل. وما أوردناه على سبيل المثال لا الحصر، مما يدل دلالة واضحة على التسامح الديني لدى المسلمين، وتطبيقهم له على مدى العصور المتعاقبة، ولا ريب أن ذلك أساس من الأسس التي تسهم في بناء العلاقات الدولية الإنسانية. الرحمة وأيضًا من الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام مبدأ الرحمة: فالإسلام دين الرحمة؛ ولذا كان التواصي بها بين المسلمين، يقول تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17) ورسول المسلمين هو رسول الرحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) والرحمة التي يدعو إليها الإسلام لا ينعم بوارفها المسلم فقط، فإنها تظل المسلم وغير المسلمـ يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) ويقول أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقي)). بل بين الإسلام أن الرفق بالحيوان فيه الأجر العظيم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((بينما رجل في طريق أصابه عطش، فجاء بئرًا، فنزل فيها، فشرِب، ثم خرج، فإذا كلب يأكل الثرى من العطش، فنزل الرجل إلى البئر، فملأ خفه من الماء، ثم أمسك الخف بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟! فقال -صلى الله عليه وسلم-: في كل ذات كبد رطبة أجر)).
أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم.
وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((بينما كلب يطيف ببئر قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت خفها، فاستقت له، فسقته إياه، فغفر لها به)) فإذا كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر لا شك تصنع العجائب، بل إن الإسلام شديد المؤاخذة لمن تقسوا قلوبهم على الحيوان، ويستهينون بآلامه، وقد بينا أن الإنسان -على عظم قدره- يدخل النار في إساءة يرتكبها مع دابة عجماء، يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)). والإسلام يدعو إلى الرحمة بأوسع معانيها مع المسلم وغير المسلم، مع الإنسان والحيوان كما رأينا. وفي العلاقات الدولية يضرب المثل الأعلى في حالة الحرب، واستعمال الرحمة مع الأعداء، فلا يقتل النساء في حالة الحرب ما لم يشتركن في القتال، وكذلك لا يقتل الأطفال والشيوخ؛ فقد روي أن امرأة وجدت مقتولة في بعض مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فأنكر -صلى الله عليه وسلم- قتل النساء، والصبيان)). وما أروع مظاهر الرحمة التي كانت منه -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة لما دخلها منتصرًا، وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا، ينتظرون ماذا يصنع بهم؟ ثم قال: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (يوسف: من الآية: 92) اذهبوا، فأنتم الطلقاء)). أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 5 - السلم أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وأحكام الدارين، ومقدمة عن المعاهدات في الإسلام أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تحدثنا -في المحاضرة السابقة- عن باقي الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام، وهي الحرية الدينية، والعدل، والوفاء بالعهد، والفضيلة، والتسامح، والرحمة. وننتقل الآن إلى الحديث عن أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم، وهي السلم فنقول: الأصل في العلاقات الدولية في الإسلام هو السلم -وإذ يقرر الإسلام أن السلم أصل من أصول العلاقات الإنسانية بين الدول- لا يسمح للمسلمين أن يتدخلوا
في شئون الدول إلا لحماية الحريات العامة، وعندما يستغيث بهم المظلومون، أو يعتدي على المؤمنين بالإسلام دينًا؛ ففي هذه الحالات يمكن التدخل لمنع الفتنة في الدين. إن الإسلام يحترم حق كل دولة في الوجود، وحقها في أن تكون سيدة نفسها، وحقها في الدفاع عن أراضيها، وسيادتها، لا فرق بين دولة متقدمة، وأخرى نامية، فالإسلام يريد السلامة، ولا يريد عدوانًا، ولا يريد استعلاءً في الأرض، يريد سلامًا بين العبد، وربه؛ فهو دائم الصلة دائم الخشية والمراقبة، ويريد السلام بين الشعوب، وبعضها، ويريد سلامًا بين الفرد ومجتمعه، إن القتل في الإسلام ما شرع إلا دفاعًا عن المسلمين، وأوطانهم، وأيضًا لتأمين حرية الدين، ومنع الاضطهاد فيه؛ فهو مشروع لحماية الدعوة ومنهجها في الحياة، بحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة تتعرض له، أو تمنعه، أو أن تفتنه فالقتل، إنما وجب في مقابلة الحراب، لا في مقابلة الكفر -أي: أن القتل إنما يكون لمن يقاتله. وهكذا نجد أن الإسلام يؤثر السلام على القتال، ولا يبيح القتال إلا في حالة الضرورة، وهي تعد استثناءً على فكرة الإسلام عن السلام، التي تكمن في قاعدة: السلم دائمًا، والحرب ضرورة؛ فالقتل ليس من طبيعة الإسلام، بل في طبيعته العفو والمسامحة؛ فمن لم يجب الدعوة، ولم يقاومها، ولم يبدأ المسلمين باعتداءٍ؛ لا يحل قتاله، ولا تبديل أمنه خوفًا، وما قرره الإسلام في ذلك طبقه المسلمون، وهناك الكثير من الأدلة التي تدل على أن الأصل في الإسلام في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، وليس الحرب؛ فمن القرآن الكريم -يقول تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: الآية: 190).
وجه الدلالة من الآية: أن الله -سبحانه وتعالى- أذن للمسلمين في القتال على أنه دفاع -في سبيل الله- للتمكن من عبادته، ثم أمرهم بعدم الاعتداء بالقتال، أو في القتال، أما عدم الاعتداء بالقتال؛ فيكمن في عدم مبادأة الكفار، وأما عدم الاعتداء في القتال؛ فيكمن في عدم قتل من لا يقاتل؛ كالنساء، والصبيان، والشيوخ، والمرضى، أو من ألقى إلى المسلمين السلم أو كف عن حربهم. ونهى الله المسلمين عن الاعتداء؛ لأن الاعتداء من السيئات المطلوبة؛ فقد احتوت الآية على قواعد تشريعية تدل على روح المبادئ القتالية الإسلامية، منها: واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب. عدم جواز بدئهم أحدًا غير عدوٍ، وغير معتدٍ بقتال. واجب كفهم عن القتال حال ما ينتهي بموقف العدوان الذي وقع عليهم. فالآية -وإن تضمنت الإذن الصريح بالقتال- إلا أنه مشروط بالدفاع، وعدم الاعتداء على الغير؛ لأن الاعتداء يسبب سخط الله، ومن القرآن أيضًا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (البقرة: من الآية: 208) ويقصد بالسلم -هنا- الصلح، فالآية تدل على أن الوفاء، والمصالحة ينبغي أن يسودا بين الناس، ويترك القتال. ويستخلص من الآية: أيضًا أن إيمان المؤمنين يوجب عليهم أن يدخلوا في السلام مع غيرهم، ولا يعتدوا على أحدٍ لم يعتدي عليهم، ولا يقاتلوا من لم يقاتلهم، ومن القرآن أيضًا: قول الله -تبارك وتعالى-: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (النساء: الآية: 90) وجه الدلالة: أن الله تعالى لم يأذن
للمسلمين في أخذ، وقتل الذين اعتزلوهم فلم يقاتلوهم، وألقوا إليهم السلم -أي: الصلح- وفي الآية مبالغة في عدم التعرض لهؤلاء الذين لم يقاتلوا المسلمين، وألقوا إليهم الصلح؛ حيث نفت جعل السبيل للمسلمين على هؤلاء الذين لم يقاتلوهم. ومن القرآن الكريم أيضًا قول الله -تبارك وتعالى-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: الآية: 39) وجه الدلالة أن الآية فيها إذن للذين يقاتلهم المشركين -بسبب ظلم المشركين لهم، لا بسبب كفرهم- فالآية تظهر لنا أن الظلم الذي توحي به -والذي وقع على المسلمين- إنما يكمن في مصادرة حرياتهم الدينية، والعدوان عليهم، وصدهم عن الدعوة إلى الله؛ فهم ظلموا، والمظلوم من حقه أن يدفع عن نفسه، ومن أجل هذا أذن الله لهم بالقتال دفاعًا عن أنفسهم -أي: أنه لا يثير المسلمين إلى القتال إلا ما يقع عليهم من ظلم يريدون دفعه. هذه هي الأدلة من القرآن الكريم، والتي تدل على أن العلاقة بين المسلمين، وغيرهم أساسها السلم، وليس الحرب، وإذا رجعنا إلى السنة النبوية الشريفة؛ فنجد أن هناك كثيرًا من الأحاديث التي تؤيد هذا الاتجاه، والتي تجعل أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم إنما هو السلم، وليس الحرب يقول صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم)) فالحديث يأمر المسلمين بمسالمة الحبشة والترك، وعدم التعرض لأي منهما طالما لم يتعرضا للمسلمين بقتال، أو غيره، ولا معنى لذلك إلا أن من سالم المسلمين فعليهم مسالمته، وعدم التعرض إليه بأذى. ومن الأدلة أيضًا على أن العلاقة بين المسلمين، وغيرهم إنما هي قائمة على السلم، وليس الحرب. أسباب الحروب التي خاضها المسلمون: فالمتتبع لغزوات
أحكام الدارين.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجد أن هذه الغزوات إنما كانت دفاعًا أمام اعتداءٍ واقع، أو في سبيله لأن يقع بأماراتٍ دالة على الحرب؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يشتبك في قتالٍ مع النصارى، أو اليهود إلا بعد أن وصل هؤلاء، وأولئك إلى منزلة في السلوك عَريت عن الشرف، والأمانة، والعدالة، واتسمت بالعداوة؛ فلم يكن بين المسلمين -من جانب- واليهود، والنصارى -من جانب آخر- غير حالة الحرب. والسبب في ذلك أنهم صادروا حقوق المسلمين، وحرياتهم، وصدوهم عن الدعوة إلى الله بمختلف الوسائل، وكانوا يبطشون بمن شرح الله صدورهم للإسلام، ويوقعون بهم ألوان العذاب الذي كان يصل في بعض الأحيان إلى الموت. بهذا نرى أن حالة الحرب تعتبر قائمة بين المسلمين، وبين هؤلاء، وبناءً على ذلك؛ فالمعارك التي نشبت بين الفريقين إنما خاضها المسلمون دفاعًا عن النفس، والعقيدة. ونستخلص مما سبق: أن الحرب في الإسلام إنما هي استثناء من أصلٍ عام، وهو: السلم في الإسلام. أحكام الدارين نتحدث الآن عن دار الإسلام، ودار الحرب، وأثر ذلك التقسيم. فبالنسبة لتقسيم الدار نقول: أراد أعداء الإسلام في الجزيرة العربية، والبلاد المجاورة استئصال شأفة الإسلام والمسلمين، والقضاء على دعوة الإسلام في مهدها قبل أن تنتشر، ويكتب لها النجاح، والفوز، والغلبة، وأدى ذلك إلى أن أصبحت مكة بزعامة قريش، وغيرها من بلاد الأعداء دار حربٍ، وصارت المدينة وما جاورها دارَ الإسلام، وتصالح جماعة من المسلمين وسالموهم؛ فكانت بلادهم دارَ عهدٍ. وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: الكفار إما أهل حربٍ، وإما أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمانٍ، وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابًا فقالوا: باب الهدنة، وباب الأمان، وباب عقد الذمة.
ولفظ الذمة، والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ: الصلح؛ فإن الذمة من جنس لفظ العهد، والعقد، ولكن صار في اصطلاح كثيرٍ من الفقهاء أن أهل الذمة عبارة عن من يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، بخلاف أهل الهدنة؛ فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال، أو غير مال؛ لا تجري عليهم أحكام الإسلام -كما تجري على أهل الذمة- لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد، وأهل الصلح، وأهل الود. ونستخلص من كلام ابن القيم على وجه العموم أنه يمكن تقسيم الدار إلى ثلاث: 1 - دار الإسلام. 2 - دار الحرب. 3 - دار العهد. وسنلقي الضوء على كل واحدةٍ فيما يلي: دار الإسلام: عرف البعض دار الإسلام بأنها هي الدولة التي تحكم بسلطان المسلمين، وتكون المنعة، والقوة فيها للمسلمين، وهذه الدار يجب على المسلمين القيام بالذود عنها، والجهاد دونها فرض كفاية، إذا لم يدخل العدو الديار، أو يستنفر الإمام الناس للحرب، فإن دخل العدو الديار، أو استنفر الإمام الناس؛ كان الجهاد فرض عين، وشعب دار الإسلام هم المسلمون،
وأهل الذمة، وهم الذين رضوا بالإقامة في دار الإسلام، والتزموا أحكام الإسلام مع البقاء على ديانتهم مقابل دفع الجزية، وكل دار الإسلام هي بمثابة دار واحدة؛ رغم تعدد الدول، واختلاف الحكام؛ لأن حكم الإسلام فيها هي الحكم الساري. دار الحرب: اختلف الفقهاء في تعريف دار الحرب إلى مذهبين: الأول -ويرى-: أن دار الحرب هي الدار التي لا يكون فيها السلطان، والمنعة للحاكم المسلم، ولا يكون عهد بينهم، وبين المسلمين، يرتبط به المسلمون، ويقيدهم، وهذا ما عبر عنه ابن القيم في تعريفه لدار الإسلام بقوله: هي الدار التي نزلها المسلمون، وجرت عليهم فيها أحكام الإسلام، وما لم تجر عليها أحكام الإسلام؛ لا تعد دار إسلام. فالعبرة عند أصحاب هذا الرأي: المنعة والسلطان؛ فما دامت الدار خارجة عن منعة المسلمين من غير حرب؛ فهي دار حرب، يتوقع الاعتداء منها غالبًا، ويقال لسكان دار الحرب: الحربيون، والحربي: هو من كان بيننا، وبين بلده حرب، وعداء، ولم تكن بيننا، وبين قومه معاهدات سلمية، أو ودية. الرأي الثاني -ويرى أصحابه: أن كون السلطان، والمنعة لغير المسلمين ليس كافيًا لأن يطلق على الدار دار حرب، بل لا بد من توافر شروط ثلاثة لتصير الدار دار حرب وهي: أن لا تكون المنعة والسلطان للحاكم المسلم، بحيث لا يستطيع تنفيذ الأحكام الشرعية -بمعنى: أن تظهر أحكام الكفر، وتنفذ فيه.
أن يكون الإقليم متاخمًا للديار الإسلامية، بحيث يتوقع منه الاعتداء على دار الإسلام. أن لا يبقى فيها مسلم، أو ذمي مقيمًا في هذه الديار بالأمان الإسلامي الإسلامي الأول، الذي مكن رعية المسلمين من الإقامة فيها، وهو أمان الشرع؛ بسبب الإسلام للمسلمين، وبسبب عقد الذمة بالنسبة للذميين. ونستخلص مما سبق: أن الفقهاء في معرفة المقصود بدار الإسلام، ودار الحرب لهم رأيان: الأول: ينظر إلى الأحكام، وإلى النظم، فإن كانت إسلامية؛ فالدار إسلامية، وإن كانت الأحكام، أو النظم غير إسلامية؛ فالدار ليست إسلامية، ولو وصفت بأنها إسلامية. الثاني: ينظر إلى أمن المسلم، فإن كان المسلم آمنًا في الديار التي يقيم فيها بأمن الإسلام؛ فالدار دار إسلام. النوع الثالث: دار العهد: تكلمنا عن دار الإسلام، ودار الكفر، ونتكلم الآن عن دار العهد. دار العهد: أي التي لم يفتحها المسلمون عنوة، وعقد أهلها الصلح بينهم، وبين المسلمين على شيء يؤدونه من أرضهم، وهو الخراج، دون أن تؤخذ منهم الجزية؛ لأنهم في غير دار الإسلام؛ فهذه الدار لم يستولي عليها المسلمون حربًا، ولم يصالحوهم صلحًا دائمًا -على أساس عقد الذمة؛ حتى تطبق فيها شريعتهم- ولكن أهلها دخلوا في عقد المسلمين، وعهدهم على شرائط اشترطت، وقواعد عينت. بمعنى آخر: فأهل العهد قوم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال، أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام -كما تجري على أهل الذمة- لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، ويصلح اصطلاح دار العهد أساسًا للعلاقات الدولية الحاضرة -بين المسلمين وغيرهم- للتوصل إلى تأمين جميع المصالح الاقتصادية، وحل القضايا السياسية ونحوها؛ ما دامت الدول الإسلامية قد قبلت الالتزام بميثاق الأمم المتحدة؛ فهو بمثابة عهدٍ جماعيٍ من غير المسلمين مع المسلمين. فارتباط الدول الحديثة بميثاق الأمم المتحدة؛ يجعل بلاد غير المسلمين الآن دار عهد.
وبعدما تكلمنا عن الديار منها دار الإسلام، ودار الكفر، ثم دار العهد؛ نتكلم الآن عن أثر تقسيم الدار إلى دار إسلام، ودار حرب. فنقول: اختلف الفقهاء في سريان الأحكام الشرعية على رعايا الدولة الإسلامية إذا كانوا في غير دار الإسلام، ومن أهم تلك الأحكام: الأحكام الجنائية، والقصاص في دار الحرب، والربا، والعقود الفاسدة في دار الحرب، والتزام المستأمن بأحكام الإسلام، وسنلقي الضوء على كل مسألة فيما يلي: فبالنسبة للأحكام الجنائية نقول: إذا ارتكب المسلم، أو الذمي في دار الحرب، أو العهد ما يوجب حدًّا، فهل تسري عليه الأحكام الإسلامية؟ اختلف الفقهاء في الإجابة على ذلك على رأيين: الأول: ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الأحكام الجنائية الإسلامية لا تسري على الجرائم التي يرتكبها رعايا الدولة الإسلامية في دار الحرب، ووجه ذلك أن الإمام لا يقدر على إقامة الحدود في دار الحرب؛ لعدم الولاية؛ فوجوب الحد مشروط بالقدرة، ولا قدرة للإمام عليه حال كونه في دار الحرب؛ فلا وجوب، وإلا خلت عن الفائدة؛ لأن المقصود من إقامة الحد الاستيفاء؛ ليحصل الزجر، والفرض أن لا قدرة عليه، ولو ارتكب المسلم شيئًا من ذلك، ثم رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الإسلام؛ لأن الفعل لم يقع موجبًا للحد أصلاً. ومعنى ما سبق: أن القضاء بالعقوبة يقتضي الولاية على محل الجريمة وقت ارتكاب الجريمة، ولا ولاية للدولة الإسلامية على محل ارتكاب الجريمة، ويترتب على ما سبق أنه لو دخل مكان الجريمة في ولاية الدولة الإسلامية بعد ارتكاب الجريمة؛ فلا تطبق أحكام الشريعة على الجريمة؛ لأن الولاية كانت منعدمة وقت وقوع الجريمة.
الرأي الثاني: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن الشريعة تطبق على كل جريمة ارتكبها مسلم، أو ذمي في دار الحرب، ووجه ذلك أن المسلم ملتزم بأحكام الإسلام حيثما كان، ومن أحكام الإسلام: وجوب الحد على من أتى سببه. ونرى أن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن المسلم قدوة في الفضيلة حيثما حل؛ فلا يصح أن يتحول إلى مفسدٍ في الأرض، ومن أجل ذلك تطبق العقوبة على أية جريمة يرتكبها، دون نظرٍ إلى مكان وقوع الجريمة، ويقام عليه الحد بعد رجوعه إلى دار الإسلام إذا خيف التحاق من أقيم عليه الحد بأهل الحرب، وبالنسبة للقصاص في دار الحرب. نقول: إذا ارتكب المسلم، أو الذمي جريمة قتل في دار الحرب، فهل يقتص منه؟ اختلف الفقهاء في الإجابة على هذا السؤال إلى رأيين: الأول: إلى أنه لا يؤخذ بالقصاص، وإن كان عمدًا؛ لتعذر الاستيفاء إلا بالمنعة، والمنعة منعدمة في دار الحرب، وأيضًا كونه في دار الحرب أوْرَث شبهة في وجوب القصاص، والقصاص لا يجب مع الشكر، ويضمن القاتل الدية -خطئًا كان القتل أو عمدًا- وتكون في ماله، لا على العاقلة، وإنما قالوا: عليه الدية؛ حتى لا يذهب دم مصون هدرًا، وإنما قالوا: عليه الدية؛ حتى لا يذهب دم مصون هدرًا، وحيث تعذرت العقوبة البدنية؛ فإنه يحل محلها العقوبة المالية، ولا يمنع ذلك من التعزير في كل الأحوال.
وأما الرأي الثاني: وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ فيرى أن أحكام القصاص في دار الحرب تسري على المسلم، والذمي كما في دار الإسلام تمامًا بتمام. وبالنسبة لموضوع الربا، والعقود الفاسدة في دار الحرب؛ فنقول: هل تسرى أحكام الربا في دار الحرب كما تسرى في دار الإسلام؟ اختلف الفقهاء في الإجابة على هذا السؤال إلى رأيين: الأول: ذهب جمهور الفقهاء، والإمام أبو يوسف من الحنيفة إلى أن أحكام الإسلام المتعلقة بالربا تسرى في دار الحرب -كما تسرى في دار الإسلام- ووجه ذلك: أن حرمة الربا ثابتة في حق العاقدين، أما في حق المسلمين؛ فظاهر، وأما في حق الحربي؛ فلأن الكفار مخاطبون بالحرمات قال تعالى: {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْه} (النساء: من الآية: 161) ولهذا حرم هذا التعامل مع الذمي، والحربي الذي دخل دارنا بأمان. الرأي الثاني: وذهب أبو حنيفة، ومحمد إلى أنه إذا دخل مسلم، أو ذمي دار الحرب -بأمان- فعاقد حربيًا عقد الربا، أو غيره من العقود الفاسدة في حكم الإسلام؛ فإن ذلك جائز، ووجه قول الإمام أبي حنيفة أن أخذ الربا في معنى إتلاف المال، وإتلاف مال الحربي مباح؛ إذ لا عصمة لمال الحربي، هذا وجه جوازه مع الحربي. أما مع المسلم -من أهل دار الحرب الذي لم يهاجر إلينا- أن أخذ الربا في معنى إتلاف المال، ومال الذي أسلم في دار الحرب، ولم يهاجر إلينا غير مضمون بالإتلاف، يدل عليه أن نفسه غير مضمونة بالقصاص، ولا بالدية، وحرمة المال تابعة لحرمة النفس، ولا شك في هذا أن رأي الجمهور إنما هو الراجح في هذا الأمر، وأن المسلم مطالب بأحكام الإسلام في أي مكان وجد فيه.
وأما ما يتعلق بالتزام المستأمن بأحكام الإسلام، فنقول: يرى الإمام أبو حنيفة أن من يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام؛ فلا تطبق عليه أحكام الشريعة إذا ارتكب جريمة تمس حقًا لله -أي: تمس حقًا للجماعة- وإنما يعاقب بمقتضى الشريعة إذا ارتكب جريمة تمس حقًا للأفراد. وإنما لا تقام عليه -بالنسبة لحقوق الله- لأنه لم يدخل دار الإسلام للإقامة، بل لحاجة يقضيها، وليس في الاستئمان ما يلزمه بجميع أحكام الشريعة في الجرائم، والمعاملات، بل هو ملزم فقط بما يتفق مع غرضه من دخول دار الإسلام، وبما يرجع إلى تحصيل مقصده، وهو حقوق العباد؛ فعليه أن يلتزم الإنصاف، وكف الأذى ما دمنا قد التزمنا بتأمينه بإنصافه، وكف الأذى عنه. والقصاص، وحد القذف من حقوق العباد، ولذا فإنه يؤخذ بهما كما يؤخذ بغيرهما من الجرائم التي تمس حقوق الأفراد كالغصب، والتبديد، أما ما عدا ذلك من الجرائم التي تمس حقوق الأفراد؛ فلا تلزمه عقوبتها، مثل: الزنا، فأبو حنيفة إذن يرى أن العقوبات على الحدود أساسها الولاية، وليس للحاكم المسلم ولاية كاملة على المستأمن؛ إقامته لمدة معلومة. ويرى أبو يوسف من الحنيفة، وجمهور الفقهاء: أن الشريعة تسرى على كل المقيمين في دار الإسلام، سواء كانت إقامتهم دائمة كالمسلم، والذمي، أو كانت إقامتهم مؤقتة كالمستأمن، ووجه ذلك: أن المستأمن التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات، والسياسات، ولهذا تقام عليه جميع الحدود ما عدا حد الشرب إذا ارتكب موجبه. ونستخلص مما سبق أن المستأمن تطبق عليه القوانين الإسلامية التي تتعلق بالمعاملات المالية بالاتفاق؛ فإنه يمنع من التعامل بالربا مثلاً؛ لأنه يتعامل مع المسلمين؛ فلا يطبق عليه إلا قانون المسلمين، وبالنسبة للعقوبات؛ فقد اتضح أنه إذا ارتكب أمرًا فيه اعتداء على حق مسلم، أو ذمي، أو مستأمن آخر؛ فإنه ينزل به العقاب المقرر في الشريعة؛ لأنه يجب إقامة العدل، وإنصاف المظلوم من الظالم ما دام مقيمًا في دار الإسلام. أما إذا كان الاعتداء على حق من حقوق الله تعالى كارتكاب الزنا؛ فإن جمهور الفقهاء قرروا أنه ينزل به العقاب الذي ينزل بالمسلم؛ لأن هذه الجريمة، وأشباهها تفسد المجتمع الإسلامي، وما جاء إلى ديارنا ليسعى فيها بالفساد. وخالف جمهور الفقهاء في ذلك أبو حنيفة؛ حيث قال: لا تقام العقوبات على المستأمن بالنسبة لهذه الجرائم. وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن دار الإسلام، ودار الحرب، ودار العهد، وما يترتب على ذلك التقسيم للدار من أثار بيناها -فيما سبق.
مقدمة عن المعاهدات في الإسلام.
مقدمة عن المعاهدات في الإسلام ننتقل الآن إلى موضوع آخر من الموضوعات التي هي في المقرر: في العلاقة، أو السياسة الخارجية للمسلمين بغيرهم، وهي: المعاهدات فنقول: العلاقات الدولية في الإسلام تستمد قواعدها من المبادئ الإنسانية العامة في حالتي السلم، والحرب. والعدل، والحرية، والكرامة الإنسانية، والوفاء بالعهد، والمعاهدة بالمثل عند الضرورة، والحاجة، ودون التلوث بمفاسد الدناءة، والخسة، ومن تلك المبادئ أيضًا الفضيلة، والرحمة، والتقوى، والتعاون الإنساني -كما بينا ذلك بالتفصيل- لأن الإنسان أخٌ للإنسان؛ أحب، أم كره، ونحو ذلك مما تضمنه وأعلنه القرآن الكريم، والسنة النبوية. كما تستمد قواعدها من العرف الصحيح المشروع، غير المصادم لأصول الدين الإلهي الحق، ومن المعاهدات التي تعقد بين المسلمين، وغيرهم كالعهود التي صدرت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين، والملوك العادلين، والأمراء المتقين في تقرير الأمان، وعقد الذمة، والصلح، وسوف نتناول في هذا الأمر المفاهيم الأساسية للمعاهدات، وأهميتها، ومشروعيتها، ثم قاعدة الوفاء بالعهد، ثم نبين الإطار العام الذي تبرم فيه المعاهدات. أولاً: تحديد مفاهيم المعاهدة، والميثاق، والعهد، والعقد. فنقول: المعاهدة، والميثاق، والعهد، والعقد في أصل اللغة العربية -بمعنى واحدٍ مترادف، وهو كل ارتباطٍ بين طرفين على أمرٍ معين، وأما عند فقهاءنا؛ فإن المعاهدة هي: عقد العهد بين فريقين على شروط يلتمسونها، والعهد في الشريعة الإسلامية له معنى أوسع من كلمة عهد في القانون الدولي الوضعي؛ إذ هو أساسًا اتفاق الإرادتين -بصرف النظر عن الشكل، أو الإجراء- والعهد في فقهنا
هو: ما يتفق رجلان، أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة؛ فإن أكداه، ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه، والوفاء به سمي: ميثاقًا، وإن أكداه باليمين خاصة سمي يمينًا. والعرف السائد اليوم يوحي إلينا بأن نميز العهد عن العقد بإضفاء سمة الإجلال، والسمو، والتعظيم للعهد، وتخصيصه بالعقد الموثق، بقصد الوفاء به بنحو المؤكد، سواء تم توثيقه بالكتابة، أو باليمين، أو بغيرها من وسائل التوثيق؛ فكل اتفاق هو عقد، وليس كل عقد عهد، وسمي عقد الزواج في القرآن الكريم: {مِيثَاقاً غَلِيظا} (الأحزاب: من الآية: 7). وكذلك يملي علينا العرف الدولي القائم تمييز العهد عن المعاهدة؛ فإن العهد أوسع معنًى من المعاهدة؛ فكل معاهدة هي عهد، وليس كل عهدٍ معاهدة، والعهد -كما بينا- هو كل اتفاق بين طرفين التزماه لمصلحة مشتركة، أو هو العقد الموثق بالكتابة، أو اليمين، أو بأي ضمان آخر يمنح طرفيه الثقة بتنفيذه، والوفاء بشروطه، وهو يشمل ما قد يكون بين شخصين مثل عهد الأمان الصادر من المسلم للحربي الذي يطلب الآمان، كما يشمل ما قد يحدث بين جماعة، وفرد مثل حماية القبيلة، أو شيخها الذي يمثلها لمن يستجير بها ويستغيث بنجدتها وتأييدها، وقد يكون بين جماعتين، أو دولتين كعهود الصلح المؤقت -أي: الهدنة- والصلح الدائم، أو المؤبد -أي: عقد الذمة. أما المعاهدة؛ فهي محصورة الآن بين دولتين، لا بين الأفراد، والجماعات، وموضوعها محصور في حكم علاقة دولية معينة ذات طابع قانوني -أي: أنها ذات معنى معين خاص ضيق من حيث الطرفان، والموضوع.
حينئذٍ يمكن تعريف المعاهدة -في الاصطلاح الفقهي الإسلامي الحالي- بأنها: اتفاق صادر بين دار الإسلام، أو دولة إسلامية مع دولة أخرى، أو جماعة معينة غير مسلمة بتنظيم علاقة قانونية ذات طابع دولي -فيما بينهما. أما المسائل الجزئية الجانبية ذات الأهمية المحدودة؛ فلا تنظمها المعاهدة؛ حتى يكون لها طابع العنصر الدولي المهم، ومن أمثلة ذلك: أمر الإمام الحاكم بإنهاء الحرب مع مدينة معينة، أو شعبٍ مجاور، ومثل اتفاقية تبادل الأسرى، ونحو ذلك. أما الاتفاقيات الدولية في معاملة الأسرى، وقواعد الحرب، وأحوال مشروعية القتال، أو استخدام القوة فلها صفة المعاهدة بالمعنى الشائع الآن بين الدول. أهمية المعاهدات، والمواثيق، ومشروعيتها: المعاهدات، والمواثيق تضفي على أعمال الأمم، والشعوب، والدول، والأفراد عنصر الثقة، والاطمئنان، وتعمل على تخفيف حدة التوتر في العالم، وتكفل إلى حدٍ بعيد تنفيذ الشروط، والبنود، وتحقيق المصلحة في وقت محدد يعود على الطرفين بالخير، والهدوء، والراحة، وبالمعاهدة يحل السلم محل الحرب، والأمن محل القلق، والخوف، والحب والصفاء بدل الكراهية، وينعم الناس بنعمة الحرية التي لا قيود عليها؛ فيتفرغون لشئون المعيشة، وإنعاش الزراعية، وتنمية التجارة، وفتح الأسواق، أمام الصادرات، والواردات، وتبادل المنتجات، وتقدم الصناعة وتطورها، وتوجيهها وجهة خير الإنسان، وصالحه ونفعه؛ فتكون أداة تفاهم وود، وتقدمٍ وحضارة، ورفاهية وسعادة.
لذا عظم الإنسان العهود ورغب فيها، وشرعها، وآثر فض المنازعات الجماعية عن طريقها، وتحقيق الأغراض والغايات الإنسانية النبيلة بواسطتها، بل إن نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة لا يتم إلا في ظلها، وفي ربوع الأمن والسلام المتحقق به. وما أكثر النصوص الشرعية الدالة على مبدأ مشروعية معاهدات مع الأعداء في السلم، والحرب في إطار من الشروط المتفق عليها بالتراضي، والاختيار، من تلك النصوص قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} (التوبة: آية: 1) وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 7) وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (النساء: من الآية: 90) وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: من الآية: 61) وقوله تعالى: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (الأنفال: من الآية: 72) وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: من الآية: 4). كل ذلك يدل على قدسية المعاهدات، وضرورة الوفاء بها، وجاءت السنة النبوية القولية، والفعلية مؤكدة هذه المعاني، ففي الصلح المؤقت -الهدنة أو الموادعة- روى أبو داود في سننه، عن رجل من جهينة: ((أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لعلكم تقاتلون قومًا ستظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم فيصالحونكم على صلحٍ فلا تصيبوا منهم فوق ذلك فإنه لا يصلح لكم)) وقال -صلى الله عليه وسلم- قبيل صلح الحديبية: ((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)).
وفي الصلح المؤبد، أو المطلق -ونقصد به عقد الذمة- يقول صلى الله عليه وسلم: ((ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من أذى ذميًا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)). وفي عقد الأمان الفردي من المسلم، أو الجماعي من فئة، أو من قائد، أو إمام حاكم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما رجلٍ من أقصاكم أو أدناكم، من أحراركم أو عبيدكم أعطى رجلاً منهم أمانًا، أو أشار إليه بيده فأقبل بإشارته؛ فله الأمان؛ حتى يسمع كلام الله، فإن قبل؛ فإخوانكم في الدين، وإن أبى؛ فردوه إلى مأمنه، واستعينوا بالله)). أرشدت هذه النصوص في العهد النبوي إلى أن المعاهدات مشروعة في الإسلام، بل إنها في منهجه وسيلة فعالة متعينة لضمان السلم، ودعم الأمن، وتوفير حقوق الإنسان، وكفالة الحريات التي جاء الإسلام بضمانها واحترامها. الوفاء بالعهد: لم تكن المعاهدات في الإسلام مجرد قصاصة ورق -كما هو الشأن عند الدول غير الإسلامية المعاصرة- ولا وسيلة لخداع العدو، ولا وسيلة لتنفيذ أهداف خاصة معينة، ولا شعارًا لفرض القوي سلطانه على الضعيف، أو المغلوب، ولا من أجل تقرير سلمٍ ظالم غير قائمٍ على الحق والعدل؛ حتى إذا قوي الضعيف نبذها، وقاتل للتحلل من قيودها، والتخلص من نير القوي. وهي أيضًا كانت صورة لقوة الأقوياء، وليست إجراءً لتنظيم السلم، والعدل. وإنما كانت المعاهدات في الإسلام مصونة عن أي غدر، أو خداعٍ، أو قهرٍ، أو تأمين مصلحة مادية رخيصة، أو فتح منافذ، أو أسواقٍ لتصريف السلع، والمنتجات، وفائض الزراعة، أو المواد الممتلكة.
فالقرآن الكريم لا ينظر إلى المعاهدات -التي يسوغ إبرامها- تلك النظرة المصلحية، وإنما أمر بالوفاء بالعهد وفاءً مطلقًا -من غير قيدٍ- بضعفٍ، أو قوة؛ وذلك لإقامة سلمٍ ثابت على أقوى الدعائم والأصول، والتزم المسلمون بالوفاء بالعهود شرعًا إليها عادلاً؛ لحماية الأغراض السامية، التي تهدف لها الدعوة الإٍسلامية، أو للتوصل إلى سلمٍ وطيدٍ لا ينطوي على أي عدوانٍ مبيتٍ، ولا يجوز نقضها ما دامت قائمة، كما لا يجوز نقضها ما دامت قائمة، كما لا يجوز الإخلال بشروطها، أو بنودها -ما لم ينقضها العدو؛ تنفيذًا لأمر الله المطلق للآيات القرآنية العديدة، مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة من الآية: 1)، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (النحل: 91) وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء من الآية: 34) وقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (التوبة: من الآية: 4) {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: من الآية: 7). الوفاء بالعهد ملازم لصفة الإيمان، ودستور أساسي معظم لا ينقض، ونقض العهد شأن المنافقين، لا المؤمنين، قال تعالى -واصفًا للمؤمنين-: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (الرعد: آية: 20) ويقول تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (البقرة: من الآية: 177). ولا يجوز للمسلمين أن ينصروا إخوانهم المسلمين في بلد غير إسلامي عدا المعاهدين لنا من الكفار، وتضافرت الوصايا النبوية باحترام العهود، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) وقال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا لا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة)) وجعل الغدر، والخيانة، والإخلال بالعهد من صفات النفاق، وخصائص المنافقين قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).
أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية.
وقد أكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- احترام الأحلاف العربية الإنسانية المعقودة في الجاهلية، فقال -في حلف الفضول الإنساني الذي حضره وهو شاب لنصرة المظلوم، وحماية زعيم مكة-: ((لقد شاهدت -في دار عبد الله ابن جدعان- حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو ادعي به في الإسلام لأجبت)) وقال صلى الله عليه وسلم -مؤكدًا ضرورة الوفاء بأحلاف الجاهلية الخيرة-: ((أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام)) أي أن الإسلام يقر المعاهدة على نصرة الحق والخير -أيًا كان مصدره- ويمنع التحالف على الفتن، والقتال القبلي، والعدوان الهمجي. أنواع المعاهدات أو العقود: المعاهدات بحسب مدتها؛ إما مؤقتة -كالأمان والهدنة- أو مطلقة دائمة كعقد الذمة. والمعاهدات بحسب غرضها، أو هدفها: إما ذات صفة دينية، أو سياسية داخلية، أو خارجية، أو تجارية، وهي بهذا الهدف تشمل ما يأتي: أولاً: عهود الإيمان، أو المبايعة على الإسلام أو الجهاد. ثانيًا: المعاهدات السياسية. ثالثًا: المعاهدات التجارية. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. المحاضرة الرابعة والأربعون: أنواع المعاهدات وأحكامها في الفقه الإسلامي أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد: فسنتحدث اليوم عن أنواع المعاهدات، وتنظيمها، وآثارها في الفقه في الإسلام؛ فنقول: يمكن القول بأنه يمكن تقسيم المعاهدات إلى قسمين: معاهدات سياسية، ومعاهدات اقتصادية.
فالمعاهدات الاقتصادية في مفهوم الإسلام: هي التي تتم مع غير المسلمين بقصد نشر الإسلام، وتبليغ دعوة الله، أو لإنهاء الحرب، أو من أجل السلم، والأمان بقصد دخول دار الإسلام للزيارة، أو لسماع كلام الله أو للتفاوض، أو للتجارة، ونحو ذلك من مهمات الأجانب. وأنواع المعاهدات السياسية أربعة، وهي: 1 - المعاهدة بقصد التعايش السلمي بين المسلمين، وغيرهم في بلدٍ واحد. 2 - عهود الأمان. 3 - معاهدات السلم الخارجية، أو ما نطلق عليه: الصلح، أو الهدنة. 4 - معاهدات الصلح الدائم، أو ما نطلق عليه: عقد الذمة. والكلام على هذه الأنواع فيما يلي: النوع الأول: معاهدة التعايش السلمي لى نحوٍ أهم من عقد الذمة، وهذه المعاهدة هي التي تتم بين المسلمين، وغيرهم على أساسٍ آخر غير عقد الذمة لصيانة السلم، والأمن الداخلي -في دار الإسلام- دون التزام دفع عوض مالي للمسلمين. ومضمون هذه المعاهدة هو: تأمين غير المسلمين على أنفسهم، وأموالهم، وعقد تحالف، وتناصر، وتعاون متبادل بين المسلمين، وغيرهم في دار الإسلام، دون تحديد بمدة، من أمثلة ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة- كان أول عملٍ سياسيٍ عمله هو: أنه عاهد القبائل التي سكنت ما بين المدينة، وساحل البحر الأحمر، وغير ذلك من قبائل.
وما كاد يستقر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة؛ حتى عقد صلحًا دائمًا آخر مع طوائف المدينة، وفق فيه بين الأوس، والخزرج على أساس حسن الجوار، ومع اليهود أيضًا؛ فأقرهم فيه على دينهم، وعلى أموالهم، فكانت هذه المعاهدة أولَ معاهدة سياسية -بالمعنى الصحيح- بين المسلمين وقبائل المدينة، وبين اليهود -بفرقهم المختلفة- حرم فيها الاعتداء بين أطراف المعاهدة، والتزموا بالتعاون والتضامن لدرء العدوان الخارجي، وعقدوا بما يشبه التحالف الدفاعي المشترك بين شعبين، وأوجبوا على أنفسهم المساهمة في الإنفاق المشترك في سبيل الدفاع، ونحو ذلك؛ مما ينظم صلات المسلمين مع بعضهم، وصلاتهم بغيرهم كأمم، أو شعوبٍ متجاورة، وذلك يعد نموذجًا طيبًا للمبادئ الرائعة في تنظيم حالة السلم، والأمن الدوليين. ونلاحظ على هذه المعاهدة شيوع روح الحذر فيها من اليهود الماكرين، وتقرير دعائم السلم الواجب، والاعتراف بالحرية الدينية، وإعلان مبدأ وحدة المسلمين، وتضامنهم، ومساواتهم في الدماء والأموال والحقوق، واستقلال كلٍ من المسلمين، واليهود مع بقاء حسن الجوار. وتقرر هذه المعاهدة مبدأ مناصرة اليهود حالة الاعتداء عليهم، وأن الاعتداء على فئة مسلمة؛ اعتداء على كل الأمة الإٍسلامية، وأنه لا يحل مناصرة المجرم -أي: المحدث حدثًا- وأن حل النزاع يكون بالاحتكام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن كلًا من اليهود، والمسلمين أمة مستقلة، يربطهم تحالف عسكري؛ لصد عدوان غيرهم، وأن هناك حرية دينية لكلٍ من المسلمين، واليهود، وأن أي خلافٍ يحل بالوسائط السلمية، وبالتناصح والتشاور لا بالحرب، ونصت المعاهدة صراحة على مبدأ نصرة المظلوم، ونصرة الجار، وأن المناصرة في حربٍ تكون مشروعة، وأن قريشًا عدو الطرفين
المتحالفين، وأن الطرفين ملزمان بإجابة الدعوة إلى أي صلح فيه صون السلام وتحقيق الآمان، وأن مدة المعاهدة باقية على الدوام ما لم ينقضها اليهود، وأن المدينة بلد مفتوح، وحرم آمن، ولكلٍ من الطرفين حرية البقاء، والانتقال. النوع الثاني من المعاهدات الأساسية: عقود الأمان: أوضحتُ أن المعاهدات السياسية؛ إما دائمة، أو مؤقتة، ويحدد ذلك طرفا المعاهدة، وليس موضوعه؛ فالمعاهدة المؤقتة بمدة معلومة، إن كانت مع عددٍ غير محصورٍ؛ فهو الأماني، وإن كانت مع عددٍ غير محصورٍ لغاية محددة؛ فهي الهدنة. والأمان هو عقد يفيد ترك القتل، والقتال مع الحربيين، وهذا الأمان ينقسم إلى قسمين: أمان خاص، وأمان عام، فالأمان الخاص هو ما يكون للواحد، أو لعددٍ قليل محصور كعشرة فما دون -يعني: كعشرة فأقل- وأفضل تسميته عهدًا، لا معاهدة؛ فقد أصبحت المعاهدات في وقتنا هي المعقودة ما بين الدول، أو المنظمات الدولية، وكما أبنت في بحث المصطلحات، والتعريفات عند البداية، ويصح من كل مسلم مكلف مختار -أي أن هذا الأمان الخاص يصح من كل مسلم مكلف مختارٍ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)). وأما الأمان العام هو ما يكون لجماعة كثيرة غير محدودة كأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام، ونائبه -الهدنة وعقد الذمة- لأنه من المصالح العامة التي لا يستطيع تقديرها غير أولي الأمر.
ونظام الأمان يتسع لكل أنواع الحماية والرعاية المعروفة حديثًا لشخصٍ أجنبي وماله في بلاد الإسلام، أو لعقد الصلات السلمية وغيرها، وكانت فكرة الأمان من الأسس المهمة لتدعيم السلام؛ فمثلًا: كان إعطاء الأمان لوفود المسيحية في الحروب الصليبية -نتيجة التسامح الإسلامي- كان يعتبر كأساس للمعاملات الدولية، والأصل في مشروعية الأمان قول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: من الآية: 6). قال ابن كثير -في تفسير الآية-: والغرض أن من قدم من دار الحرب في أداء رسالة، أو تجارة، أو طلب صلح، أو مهادنة، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام، أو نائبه أمانًا؛ يعطى له ما دام مترددًا في دار الإسلام؛ حتى يرجع إلى داره ومأمنه. وقد كان المشركون يطلبون لقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأجل الكلام في الصلح، وغيره من مصالح دنياهم. تأمين الرسل، والسفراء في الإٍسلام: لقد كفل الإسلام للرسل، والسفراء مختلف أنواع الحماية والرعاية والحصانة والتكريم؛ حتى وإن أرسلوا للمسلمين؛ ليتمكنوا من أداء مهمتهم، ويحققوا الخير والسلام للعالم، وذلك بنص القرآن الكريم في آية التوبة السابق ذكرها: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وأيضًا ثبت ذلك بالسنة القولية، والعملية؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل رسل مسيلمة الكذاب، وقال: ((لو كنت قاتلًا رسولًا؛ لقتلتكم)). قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: ((فمضت السنة -أي: جرت السنة- أن الرسل لا تقتل)) وقد رد النبي -صلى الله عليه وسلم- مبعوث قريش إليه، بالرغم من إعلان إسلامه بمجرد
رؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((إني لا أخيس بالعهد -يعنى: لا أنقض العقد- ولا أخيس البرود -يعني: الرسل- ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع)). وأجمع الفقهاء على مشروعية الأمان، وحماية الرسل والسفراء، وأجازوا للمبعوث السياسي أن يدخل بلاد المسلمين بدون حاجة إلى عقد أمان ولم يجيزوا الغدر برسل العدو وسفرائه؛ حتى ولو قتل الأعداء رهائن المسلمين الموجودين عندهم؛ فلا تقتل رسلهم؛ لقول بعض الصحابة: وفاء بعهد من غير غدر خير من غدر بغدر. أما النوع الثالث من أنواع المعاهدات السياسية هو: معاهدات السلام الخارجية: أو ما يطلق عليه معاهدات الصلح، أو الهدنة: الصلح المؤقت، أو الهدنة، أو الموادعة طريق من طرق إنهاء الحرب، وإقرار السلم بين المسلمين، وغيرهم، أو بين دار الإسلام، ودار الحرب، وهو مشروع لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: من الآية: 61). وقد عقد النبي -صلى الله عليه وسلم- صلحًا مشهورًا في عهد النبوة يصلح أثاثًا لعقود الصلح، ألا وهو: صلح الحديبية. وأجمع العلماء على مشروعية المهادنة، والصلح المؤقت هو مصالحة أهل الحرب على ترك القتال -مدة معينة، بعوضٍ أو غيره، سواء كان فيهم من يقر على دينه، أم لم يقر، دون أن يكونوا تحت حكم الإسلام- أو هو صلح بين زعيمين في زمن معلومٍ بشروط مخصوصة. والذي يعقد الهدنة هو الإمام، أو نائبه الذي يفوض إليه العقد، ولو تفويضًا عامًا، كولي الإقليم مثلًا؛ لأن الهدنة تحتاج إلى سعة نظر، وتقديرٍ للمصالح
العامة، وتدبيرٍ للقضايا الحربية، وما يترتب عليها من نتائج بعيدة المدى أو الأثر، ولا يتأتى ذلك لغير الإمام من آحاد الناس. فإن تولى عقد الهدنة شخص عادي، دون تفويضٍ من الإمام؛ عد ذلك افتياتًا على الإمام أو نائبه، ولم يصح العقد عند جمهور الفقهاء. كيف تم صلح الحديبية؟ وما هي أسبابه؟ أراد المسلمين بقيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أداء العمرة في البيت الحرام في آخر السنة السادسة من الهجرة؛ فصدهم المشركون عن الطواف بالبيت، ورضوا بعقد صلحٍ معهم، فيه شروط مجحفة بالمسلمين إيثارًا للسلام على الحرب، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)) وكان من شروط الصلح: أن من جاء منكم -أي: من المسلمين- لا نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه إلينا؛ فقال الصحابة: ((يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجًا، ومخرجًا)). وكان لعمر -رضي الله عنه- معارضةٌ للصلح، ومناقشة الكثير من شروطه؛ حتى إنه أنكر على الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصلح قائلًا: ((يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف، أمره، ولن يضيعني)). وقد التزم المسلمون بتنفيذ بنود المعاهدة تمامًا؛ حتى إن أبا جندل بن سهيل بن عمر جاء مسلمًا إلى المسلمين؛ فطلب سهيل بن عمر رده إلى مكة؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنا لم نقض الكتاب بعد)) ثم رده النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم.
واعترض الفاروق عمر على ذلك -كما بان سابقًا- قال: ((ألست نبي الله حقًا؟ قال: بلى، قال: عمر ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال عمر: فعلام نعط الدنية في ديننا إذن؟!)). رد النبي أيضًا رجلًا آخر من قريشٍ جاء مسلمًا؛ فأرسلوا في طلبه رجلين تنفيذًا للعهد، واتفاق الفقهاء على أن عاقد الذمة هو ولي الأمر: الإمام، أو نائبه، هذا أمر لا بد منه؛ لأنها من المصالح العامة التي تحتاج إلى نظرٍ واجتهاد. وذلك لا يتأتى لغير الإمام الذي يقدر مصلحة المسلمين العامة، وأما الصلح الخارجي؛ فيجوز عند جماعة من الفقهاء القائلين: بأن الأصل في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم: السلم لا الحرب، أي أنه يجوز عقد صلح دائمٍ مع غير المسلمين في ديارهم، لا في ديارنا التي اغتصبوها، أو احتلوها، على نحوٍ يوفر السلم والأمن والتعايش الودي، ويكفل نشر الدعوة الإسلامية بطريقٍ سلميٍ، قائم على أساس المنطق والحجة والبرهان، أو الحكمة والموعظة بتعبير القرآن الكريم. وكذلك لا مانع شرعًا من عقد معاهدات بغرض حسن الجوار، والصداقة، والتعاون، وتبادل التجارة، أو لأي غرض من أغراض التعاقد الدولي لإقرار السلم، وتثبيت دعائمه، وتبادل المنافع؛ لئلا يكون بعد العهد احتمال اعتداءٍ إلا في حالةِ نقض العهد؛ لذلك نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد صالح قريش، وأبرم معهم صلح الحديبية، وهو نموذج واضح لمعاهدات الصلح الخارجية. النوع الرابع -من المعاهدات السياسية-: المعاهدات الدائمة، أو ما يطلق عليه: الصلح الدائم، أو عقد الذمة: يترتب على المعاهدة الدائمة إنهاء الحرب بصفة دائمة بين المسلمين، وغيرهم، أو بين دار الإسلام،
ودار الحرب، ويتم ذلك بأحد طريقين: داخلي، وخارجي، أما الداخلي؛ فهو عقد الذمة، وأما الخارجي؛ فهو معاهدة السلام الدائمة. وعهد الذمة، أو عقد الذمة هو التزام تقرير غير المسلمين في ديارنا، وحمايتهم من أي عدوان، والدفاع عنهم في مقابل ضريبة بسيطة هي الجزية، بشرط التزام أحكام الإسلام، والاستلام من جهتهم؛ فيصبح الذميون مقيمين في دار الإسلام، ويكونون مواطنين مثل باقي المسلمين، ما داموا لم ينقضوا العهد ويعكروا الصفو. وأمثلته الصلح الدائم من السنة النبوية كثيرة منها صلحه -صلى الله عليه وسلم- مع أهل نجران. المعاهدات في عهد الراشدين: استمرت الحروب في عهد الصحابة بين المسلمين، ودولتي الروم، والفرس؛ فلم تعد المعاهدات لتنظيم السلم، أو المناصرة، أو التعاون، وإنما كانت إما لعقد الهدنة، أو لعقد الذمة بعد تخيير الأعداء -قبل بدء الحرب- بين أمور ثلاث: إما الإسلام، أو صلح الذمة، أو القتال، ونكتفي هنا بذكر مثالين بمعاهدتين عقدتا في عصر الراشدين: أول معاهدة: كتاب عمر بن العاص لأهل مصر الذين اختاروا البقاء على المسيحية، جاء فيه: "أعطاهم الأمان على أنفسهم، وملتهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبهم، وبرهم، وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا ينتقص، ومن دخل في صلحهم من الروم؛ فلهم مثل ما لهم، وعليه ما عليهم، هذا لمن أراد المقام في سلطاننا، وأما من أبى واختار الذهاب مع الروم؛ فهو آمن؛ حتى يبلغ مأمنه".
والنوع الثاني: وهو صلح عمر مع أهل إيلياء -أي: القدس- وهو صلح مشهور، وله أهميته الكبرى في التاريخ الإسلامي، جاء فيه: "هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم؛ أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن إيلياء معهم أحد من اليهود". والواقع أن هذه المعاهد تعد مثلًا رائعًا من أمثلة الحفاظ على غير المسلمين؛ حتى أنه لم يرض عمر بأداء الصلاة في كنيسة القيامة؛ خشية أن يقتدي به المسلمون، ويقولون: هنا صلى عمر؛ فتصبح الصلاة في داخل الكنيسة حقًا، وقد يؤدي ذلك إلى الاستيلاء على الكنيسة. وفيها أيضًا: أقر حرية التدين، والتنقل، وأيضًا تكليفهم بأداء الجزية القليلة المقدار. وحدثت في العهد الرشيدي معاهدات أخرى كثيرة تؤكد مضمون هذه المعاهدة، مثل معاهدة خالد بن الوليد لأهل دمشق المتضمنة تأمينهم على دمائهم، وأموالهم، وكنائسهم مقابل الجزية. ثم ننتقل إلى النوع الثاني من أنواع المعاهدات للإسلام، وهو المعاهدات التجارية: فنقول: يجوز شرعًا عقد المعاهدات التجارية، وتنظيم المبادلات الخارجية مع غير المسلمين تأييدًا للأصل العام في علاقة المسلمين بغيرهم، وإقرارًا لمبدأ حرية التجارة، وتوفيرًا للموارد الضرورية التي يحتاجها المسلمون في شئون الحياة المعاشية، وعملًا بالسنة النبوية التقريرية؛ إذ أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- حلف المطيبين بين
أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية.
البطون القرشية بعد موت قصي بن كلاب الذي كان يهيئ الطعام للحجاج مما تقدمه له قريش، وكان موضوع الحلف هو توزيع الخدمات للحجاج على كل قبيلة من سقاية، ورفادة، ولواء، وندوة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة)) -يعني: يريد المعاقدة على الخير، وتأمين موارد الحجيج، ونصرة الحق، وكانت هناك معاهدات تجارية متعددة بين العرب، والأوربيين منها معاهدة سنة 913 هـ بين أمير بادس في المغرب، وبين أهالي البندقية التي تسمح للبنادقة بالنزول في بادس، والاتجار مع أهلها، وتؤمنهم على أنفسهم، وأموالهم، وتسامحت السلطات الإسلامية كثيرًا مع التجار. وكانت التجارة من أسباب نشر الإسلام في شرق أسيا وأفريقيًا، لكن مع وضع بعض القيود على المبادلات التجارية لمنع إخراج الأسلحة، ووسائل الحرب من بلاد المسلمين، وحذر شراء واستيراد الخمور والخنازير، وسائر المنكرات، سواء من مسلم، أو غير مسلم، وما عدا ذلك يجوز تبادلهم؛ حتى في أثناء الحرب؛ كالأطعمة، وسائر الأقوات، والثياب، والأقمشة، والمواد الخام غير المعدنية، والمواد الكيماوية، والمنتجات الزراعية، والصناعية -غير الحربية- إلى أخره. أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية ثم نتحدث الآن عن تنظيم المعاهدة، وآثار المعاهدة، فنقول: يحتاج تنظيم المعاهدة إلى إجراءات كثيرة، ومشاورات جادة وعميقة، وتقدير أوضاع الطرفين المتعاهدين لما لها من أهمية كبرى، ولأنها تصبح بمثابة قانون، أو نظام يلزم الطرفين، ويرتب أثارًا مهمة في علاقاتهما، ومعاملاتهما، كما تؤثر المعاهدة على الأشخاص، أو الرعايا العاديين في كل بلدٍ من بلدان الجانبين.
وقد مرت المعاهدات بمراحل في العهد النبوي تشبه المراحل التي تعقد بها المعاهدات في العصر الحديث، والبحث يتناول ما يأتي من شئون المعاهدة: أولًا: كيفية إبرام المعاهدة، أو شكل المعاهدة: لم تكن المعاهدة في الإسلام تخضع لتنظيم إجرائيٍ معين -كما هو مطلوب اليوم قانونا بين الدول- لأن جوهر المعاهدة يحدد بإرادة الأطراف الحرة، ولكن لا مانع شرعًا في تقديري من اتباع المراسم الشكلية الحديثة؛ لأن المعول عليه هو المضمون الموضوعي، وقد اشترط الفقهاء المسلمون ضرورة إقرار الخليفة، أو الإمام لعقود الصلح المعقودة بواسطة قائد حربي غير مفوض لإبرام الصلح، وكان المفوض بالصلح يبلغ الخليفة بما تم فيقره على فعله إذا كانت شروط المعاهدة شرعية، كما حدث في عقود الصلح التي أبرمها أبو عبيدة بن الجراح في الشام، وغيره من القادة، وكانوا يبلغون به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فإن تولى الخليفة نفسه عقد المعاهدة -كما فعل عمر مع مصالحة أهل بيت المقدس- نفذ الصلح على المسلمين؛ لأن الخليفة ممثل الأمة، ونائبها في إبرام المعاهدة، وحرصًا على المعاهدة وتقديمها؛ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر بكتابة جميع المحالفات، والمعاهدات بإثبات الاتفاق، وتنفيذ شروط المعاهدة، كما حدث في كتابة أول معاهدة سياسية في المدينة مع اليهود، وكما حصل فعلًا في كتابة صلح الحديبية التي سبقت بمفاوضاته عن طريق الرسل، والسفراء من الجانبين. وتبتدئ حالة السلام بمجرد الانتهاء من العقد والاتفاق على شروط المعاهدة، وليس بعد إعلان المعاهدة رسميًا، وتبادل التصديقات كما يقضي القانون الدولي المعاصر. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشهد على المعاهدة، كما فعل في صلح الحديبية؛ حيث أشهد على الصلح رجالًا من المسلمين، ورجالًا من المشركين لتوثيق المعاهدة، ولا مانع
شرعًا من كتابة المعاهدة بلغتين، أو أكثر، كما هو الحاصل في الوقت الحاضر، وكانت المعاهدات الإسلامية تشمل العناصر الثلاثة التالية: 1 - الديباجة أو المقدمة، وتبدأ عادة -كما لاحظنا في نماذجها- بالبسملة وهي: "بسم الله الرحمن الرحيم" ويعين فيها أسماء الطرفين المتعاهدين ومندوبيهم أو ممثليهم في التفاوض، ويذكر أيضًا تاريخ المعاهدة. 2 - النص، ويتضمن أحكام المعاهدة، وموضوعها بعبارات موجزة، وبدون تقسيم، أو ترقيم لبنودها، كما هو شأن المعاهدات الحديثة. 3 - الخاتمة، ويذكر فيها أسماء الشهود، وتوقيعاتهم، أو أختامهم، كما تذكر أسماء أطراف المعاهدة أو ممثليهم، وأختامهم، وتختم بعبارة تفيد الحث على الوفاء، والتشدد في احترام المعاهدة، وتسبق المعاهدة عادة بمرحلة التفاوض، ثم تبدأ مرحلة الكتابة والتحرير، ثم التوقيع والتصديق. والتفاوض قد يكون بالخليفة نفسه، أو نائبه إذا كانت المعاهدات ذات أهمية؛ كأن يتصل موضوعها بمهادنة جيوش الأعداء، وقد يكون الأمير، أو الوالي، أو قائد الجيش ذاته، أو من يفوض لذلك إذا كانت المعاهدة أقل أهمية. وقد يعرض الجانب غير المسلم بنود المعاهدة وشروطها، ويرسلها الوالي المسلم -يعني: يرسلها إلى الخليفة لإقرارها أو تعديلها، ثم تتم المعاهدة، كما حدث من زعيم مدينة السوس، التي كان يحاصرها أبو موسى الأشعري؛ فإنه قدم رسالة إلى أبي موسى الأشعري يطلب فيها الأمان، ثم أرسلها أبو موسى إلى عمر؛ فقبل عمر على ذلك، وعاهدهم على ذلك.
شروط المعاهدة: تعقد المعاهدات بين المسلمين، وغيرهم بإرادة حرة من الجانبين؛ لتحقيق غرض مشروع، وممكن يتفق مع الأصل المنشود في علاقة المسلمين بغيرهم -وهو السلم- وهذا يعني: أنه لا بد للمعاهدة من توافر شروط معينة، وهي ما يأتي: 1 - أهلية التعاقد: وهي أن يكون العاقد بالغًا عاقلًا رشيدًا مختارًا مسلمًا؛ فلا يصح العهد من صبي غير مميزٍ، أو مجنون، أو سكران، أو سفيه، أو مكره، أو غير مكره، ويجوز أمان الأنثى شرعًا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)) ويصح أمان الصبي المميز عند الأئمة مالك، وأحمد، ومحمد بن الحسن، دون غيرهم من الأئمة؛ للحديث السابق: ((ويسعى بذمتهم أدناهم)). ويشترط أيضًا صحة التفويض إذا كان عاقد العهد هو غير الخليفة، أو الإمام؛ فيجب أن يفوض الخليفة تفويضًا خطيًا، أو شفهيًا بالنيابة عنه بإبرام العقد عن دار الإسلام مع دولة أخرى، أو شعبٍ آخر، والأصل أن يكون العهد العام لجماعة كثيرة، أو شعبٍ، أو ولاية، ينبغي أن يكون ذلك، أو الأصل في ذلك أن يكون هذا العهد من الخليفة، أو نائبه، لكن له تفويض قائد الجيش، أو الوالي في إبرام الصلح مع العدو. وللإمام الرقابة على التأمينات الصادرة من الأفراد بما له من الولاية العامة، ودفعا للضرر عن رعايا دار الإسلام من مسلمين، وذميين؛ إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام؛ فلا يصح أي تصرف فردي يتنافى مع المصلحة العامة، أو يتعارض مع الأصل العام في صحة الأمان؛ فإن الأمان لا يلزم الوفاء به، إلا إذا كان موافقًا مقتضى النظر الشرعي؛ لجميع الرعية من جلب المصالح، ودفع المضار.
ورقابة الإمام لدفع الضرر نوعان: رقابة خاصة، ورقابة عامة. أما الرقابة الخاصة: فتظهر فيما إذا تجاوز الشخص الصلاحيات الممنوحة له؛ كتأمين أهل حصنٍ، أو إقليم، أو بعد نهي الإمام عن التأمين؛ فيخير الإمام حينئذٍ بين إمضاء الأمان، أو رده ونقضه. وأما الرقابة العامة: فهي تبدو في كل أمانٍ يصدر من الأفراد، وعلى التخصيص، أمان المرأة، والعبد، والصبي، ونحوه. ومن شروط المعاهدة أيضًا: التراضي، أو الإرادة الحرة السالمة من العيوب: تتطلب المعاهدة -كأي عقد مدني لانعقادها وصحتها- الرضا، والاختيار من الجانبين المتعاقدين، والخلو من أي عيب من عيوب الرضا كالإكراه، والتدليس، والغرر؛ لأن التعبير عن الإرادة يجب أن يكون حرًا، واستقرار السلم لا يتحقق بدون الرضا، والاختيار، وعدم التدليس، والغلط؛ فلا تعتبر المعاهدة -الصادرة على أساس الإكراه، أو القهر، والغلبة، أو الخداع- لا تعتبر، ولا يعتد بها لمنافاة ذلك لمقتضى التعاقد. ومن شروط المعاهدة أيضًا: وضوح المعاهدة: يشترط أن تكون المعاهدة، واضحة النصوص، بينة الأهداف، تحدد الحقوق، والالتزامات، أو الواجبات تحديدًا لا يحتاج إلى التأويل والتلاعب بالألفاظ؛ فلا تستخدم العبارات التي فيها تورية، أو خداع، أو غش، أو غموض، والتواء،
كما يفعل ساسة اليوم؛ مما يوقع في الارتباك، ويحتاج إلى تفسير المعاهدة بالتحكيم، أو القضاء الدولي، وذلك يؤدي غالبًا إلى إحباط أهداف المعاهدة، وإضاعة الحقوق المشروعة، ونقض ما تم إبرامه؛ بسبب بطء القضاء، وسوء نية الدول المتحضرة. ولقد حذرنا القرآن الكريم من مكر الأعداء فقال -عز وجل-: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: من الآية: 102) وقال أيضًا: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: من الآية: 94) وكانت معاهدات النبي -صلى الله عليه وسلم كصحيفة وثيقة المدينة يعني: كالصحيفة، أو الوثيقة التي عقدها مع اليهود عندما ذهب إلى المدينة بعد الهجرة، وكصلح الحديبية، ونحوهما- في غايةِ الإبانة. أقول: كانت هذه المراجعات في غايةِ الإبانة، والوضوح، وتجنب كل ما يؤدي إلى وعورة الطريق في المستقبل، عند التنفيذ. ونتكلم عن مدة المعاهدة فنقول: يبدأ تنفيذ المعاهدة عادة في الإسلام بمجرد الاتفاق عليها، دون حاجة إلى كتابتها، أو التوقيع، أو إعلانها، والتصديق عليها إذا صدرت ممن يفوض له عقد المعاهدة نيابة عن الدولة بدليل تنفيذ معاهدة الحديبية، ورد من جاء إلى المسلمين -كما بينا قبل إتمام المعاهدة. وإذا نص -في المعاهدة- على تاريخ معين لبدء سريان مفعولها أصبحت نافذة المفعول من ذلك التاريخ، وأما انتهاء العمل بالمعاهدة شرعًا؛ فينص عليه عادة، وتنتهي المعاهدة بانتهاء المدة المتفق عليها لقوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (التوبة: من الآية: 4).
ومقدار مدة المعاهدة يختلف بحسب نوعها بدءًا، وانتهاءً؛ فبالنسبة لمدة الأمان مثلًا؛ يبدأ الأمان بعلم المستأمن بإيجاب المؤمن وتأمينه -عند جمهور الفقهاء- وبحصول القبول -عند الشافعية- وينتهي بحسب المدة المتفق عليها. وللفقهاء أراء في الحد الأقصى للأمان؛ فيقول الشافعية والمالكية: مدة الأمان -الهدنة- لا تزيد على أربعة أشهر إذا لم يكن المستأمن سفيرًا، أو رسولًا سياسيًا؛ فتنتهي مدته بانتهاء مهمته، وذلك في حالةِ توافر القوة للمسلمين. أما إن كانوا في ضعفٍ؛ فينظر الإمام في تقدير المدة، ويجوز له حينئذٍ مد أجل الأمان إلى عشر سنوات كالهدنة، وإن أطلق الأمان عن التوقيت حمل عن أربعة أشهر، وهذا كله في أمان الرجال، أما النساء؛ فلا يحتاج في أمانهن إلى تقييد مدة، وإذا انتهت مدة الأمان؛ يبلغ المستأمن مأمنه، وقال الحنفية: والشيعة الإمامية، والزيدية: إن مدة الأمان لا تبلغ سنة؛ حتى لا يصير المستأمن عينًا -أي: جاسوسًا- على المسلمين، وعونًا عليهم، ودليلهم مراعاة الضرورة أو الحاجة. ووسع الحنابلة أكثر من غيرهم؛ فأجازوا عقد الأمان بدون دفع جزية لكل من المستأمن، والرسول السياسي مطلقًا، أو مقيدًا بمدة، سواء كانت المدة طويلة أم قصيرة، بخلاف الهدنة؛ فإنها لا تجوز إلا مقيدة. وننتقل إلى مدة الهدنة، تكلمنا عن مدة الأمان، نتكلم الآن عن مدة الهدنة فنقول: اتفق الفقهاء على أن تكون الهدنة مقدرة بأجل معين، فلا تصح المهادنة مطلقًا إلى الأبد، إنما هي عقد مؤقت، كي لا يؤدي إلى تعطيل الجهاد، ولا يجوز في رأي جماعة من الفقهاء أن تزيد عن عشر سنوات كالمدة التي في صلح الحديبية، إلا
أن الشافعية نصوا على أن تأقيت الهدنة هو بالنسبة لنفوس الرجال، أما الأموال؛ فيجوز العقد عليها مؤبدًا، ويصح المهادنة مع النساء من غير تقيد بمدة. وأجاز أبو حنيفة، وأحمد أن تزيد المدة عن عشر سنوات؛ حسبما تقتضي الحاجة ذلك؛ لأنهم يقولون: أن المدة المذكورة في صلح الحديبية هي عشر سنوات ليست هي الحد الأدنى، وإنما هي حالة من الحالات لعموم قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ويمكن التوفيق بين الرأيين بناءً على فكرة المعاهدات المؤقتة القابلة للتجديد بتحديد عشر سنوات، نقول: تتجدد تلقائيًا عند الحاجة، إلا إذا أبلغ أحد الطرفين الآخر بعدم رغبته في التجديد. وبالنسبة للمدة لعهد الذمة، أو عقد الذمة نقول: إن عقد الذمة، أو الجزية هي معاهدة سلمية دائمة -يعني: هي قائمة على التأبيد هذا العقد قائم على التأبيد- فهو معاهدة سلمية دائمة مع غير المسلمين للاستيطان في أرض الإسلام؛ لأن الله تعالى غاية القتال الوصول إلى قبول المعاهدة مع المسلمين؛ فقال -سبحانه-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: من آية: 29) والمراد من الصغار التزام أحكام الإسلام، والمقصود من إعطاء الجزية -بالإجماع- هو القبول والالتزام؛ فعقد الذمة لا مدة له، وإنما هو بطبيعته عهد دائم، أو صلح دائم لا ينتقض إلا بما يخل بمقصوده، أو يتنافى مع أغراضه، أو بمحاربة الذميين للمسلمين، أو عدم الالتزام بالأحكام الإسلامية. ونتكلم الآن عن انضمام الغير للمعاهدات فنقول: هناك في عصرنا في عالم القانون الدولي نوعان من المعاهدات: معاهدات مقفلة، ومعاهدات مفتوحة.
أما الأولى: فهي التي لا تحتوي على نصٍ يبيح انضمام الدول الأخرى إليها فيما بعد؛ فيلزم لانضمام الغير حصول مفاوضات مع أطراف المعاهدة الأصليين، مثل معاهدة السوق الأوربية المشتركة. وأما الثانية: وهي المفتوحة؛ فهي التي تحوي نصًا يبيح انضمام الغير إليها مثل: ميثاق الأمم المتحدة، والنوعان معروفان في الإسلام. فالمعاهدات المقفلة مثل الأمان العام لأهل بلدٍ أو إقليم، وعقد الذمة لجماعة من غير المسلمين الذين يقبلون جنسية الدولة المسلمة، وعقد صلح مؤقت أو الهدنة قد يكون من هذا النوع، وربما يكون من النوع المفتوح، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين مشركي مكة كان من نوع المعاهدات المفتوحة؛ إذ أنه ورد نص في هذا الصلح يبيح الانضمام إليه هو: "من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده؛ دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم؛ دخل فيه، وهذا نص واضح يبيح لباقي قبائل العرب الانضمام إلى جانب أحد المتعاقدين. ثم نتكلم عن موضوع المعاهدة، وآثرها، فنقول: يشترط فقهاء القانون الدولي أن يكون موضوع المعاهدة ممكنًا، ومشروعًا، ومشروعيته إذا كان ما يبيحه القانون، وتقره مبادئ الأخلاق، واشترط فقهاء الإسلام في موضوع المعاهدة ما يأتي: أولًا: أن تكون المعاهدة متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية لا تصادم مبدءًا من مبادئها لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((كل شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل)) وقوله: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا)) وقوله: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد)).
ومن الشروط أيضًا: تحقيق المصلحة الإسلامية: يشترط أن يكون في عقد المعاهدة مصلحة للمسلمين والإسلام؛ فلا بد من توافر المصلحة المشروعة في عقد الصلح، وإلا لم يجز العقد -كما قال فقهاءنا- والمصلحة المشروعة في الهدنة -أي: الصلح المؤقت- إما احتمال اعتناق الإسلام، أو إقرار السلام، وتبادل العلاقات الاقتصادية، أو الانضمام إلى دار الإٍسلام، أو دفع الضرر عن المسلمين، وغير ذلك. ويشترط أيضًا: كون المعاهدة بتراضي الطرفين كما أوضحنا. ويشترط أيضًا: توافر النية الحسنة لدى الطرفين؛ لأن شرط النية الحسنة مطلوب لصحة المعاهدة في الإسلام، بحيث تبطل المعاهدة إذا تم عقدها بدافع الغش، وسوء النية، لقوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} (النحل: من الآية: 94) والدَّخَل هنا هو العيب الخفي الذي يدخل الشيء فيفسده. وأما آثار المعاهدة فتختلف بحسب نوعها، ومدتها؛ فهي تظل سارية المفعول طوال المدة المتفق عليها ما لم ينقضها العدو، وتختلف آثارها بحسب نوعها؛ فإن كانت أمانًا خاصًا؛ اقتصر أثرها على عصمة دم المستأمن وماله وأولاده الصغار وزوجته، وإن كانت أمانًا عامًا لإقليم أو بلد؛ شملت جميع من كان هناك، وإن كانت هدنة فتقتصر على المهادنين، وإن كانت عقد ذمة؛ فتشمل جميع الذميين. ويترتب على المعاهدة: إنهاء الحرب، وإقرار السلام، وعصمة النفوس، والدماء، والأعراض، والأموال، ويعيش الطرفان بأمان، وودٍ، وسلام، واطمئنان.
ويلتزم كل من الجانبين بتنفيذ أحكام المعاهدة، وشروطها بحسن نية؛ لأن المعاهدة تنشأ وضعًا قانونيًا يتمثل في واجبات، وحقوق للطرفين المتعاقدين. ثم نتكلم الآن عن انقضاء المعاهدة: فالمعاهدات تنقضي بالحالات الآتية: منها -على سبيل المثال- انتهاء مدة المعاهدة، ومنها الإخلال بشروط المعاهدة، ومنها الاعتداء من أحد الطرفين على الطرف الآخر، ومنها ارتكاب بعض الجرائم الخطيرة من العدو، ومنها أيضًا نقض المعاهدة من جانب الأعداء؛ فإذا وجدت هذه الأمور؛ ترتب على ذلك انقضاء المعاهدة. وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن المعاهدات، وآثارها في الفقه الإسلامي، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي.
الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي.
مشروعية القضاء وأهميته.
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي) 1 - مشروعية القضاء وأهميته وتاريخه وشروط الدعوى مشروعية القضاء وأهميته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: نبدأ الآن الحديث عن النظام القضائي في الإسلام، فنعرف القضاء، ونبين دليل مشروعيته، وبيان أهميته، وتاريخه عبر العصور الإسلامية المتلاحقة: القضاء لغة: انقضاء الشيء وإتمامه، والحكم بين الناس. وشرعًا: هو فصل الخصومات وقطع المنازعات، وعرفه الشافعية بأنه فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى أي: إظهار حكم الشرع في الواقعة، وسمي القضاء حكمًا لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشيء في محله لكونه يكف الظالم عن ظلمه، والأصل في مشروعيته الكتاب، والسُّنة، والإجماع. أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ولا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: من الآية: 26) وقوله تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّه} (المائدة: من الآية: 49) وقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْط} (المائدة: من الآية: 42) وقوله -عز وجل-: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: من الآية: 105) ونحوها من الآيات. وأما السُّنة فما روي عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه؛ فإن عدل أقاما -يعني:
استمرا- وإن جار عرجا وتركاه)) وقد حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الناس، وبعث عليًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن للقضاء في المنازعات، وبعث إليهما أيضًا معاذًا، وكان عتاب بن أُسيد أول قاضٍ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأن الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- حكموا بين الناس، وبعث عمر -رضي الله عنه- أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضيًا، وأرسل عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيًا، وتولى القضاء عمر، وعلي، ومعاذ، وأبو موسى، وغيرهم، وأجمع المسلمون على مشروعية تعيين القضاة، والحكم بين الناس لما في القضاء من إحقاق الحق، ولأن الظلم متأصلٌ في الطباع البشرية، فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم. نوع المشروعية: القضاء فريضة محكمة من فروض الكفاية باتفاق أئمة المذاهب، فيجب على الإمام تعيين قاضٍ، ودليل الفرضية: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ} (النساء: من الآية: 135) ولأنه -كما ذكر- طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق، وقل من ينصف من نفسه، وبما أن الإمام لا يقدر عادة على فصل الخصومات بنفسه لكثرة مشاغله العامة؛ فالحاجة تدعو إلى تولية القضاء، وأما كونه فرض كفاية فلأنه أمرٌ بمعروف، أو نهي عن منكرٍ، وهما واجبان كفائيان، فالقضاء أمر من أمور الدين، ومصلحة من مصالح المسلمين تجب العناية به؛ لأن بالناس إليه حاجة عظيمة، وهو من أنواع القربات إلى الله -عز وجل- ولذا تولاه الأنبياء -عليهم السلام- قال ابن مسعود: "لأن أجلس قاضيًا بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة".
تاريخ القضاء في الإسلام.
أهمية القضاء: إن أهمية الأشياء تقاس بغاياتها، والغاية في القضاء هي إقامة العدل وكبح الظلم، فحيثما وجد العدل زال الظلم، والظلم ظلمات في الدنيا والآخرة، وهو قهرٌ للنفوس، وهضمٌ للحقوق، وهتكٌ للأعراض، وهو قبيحٌ في الجليل والحقير، وقد وصف الله به أشنع الكبائر وهو الإشراك به، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} (لقمان: من الآية: 13) ولعظم شأن العدل في دحض الظلم، وأنهما ضدان لا يجتمعان وردا في آية واحدة بأمرٍ ونهي، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ويَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) وقد أدركت البشرية في مختلف العصور أهمية العدل فجعلوه هدفًا لأحكامه، وقد يختلفون في الوسائل والنتائج، ولكنهم متحدون فيما يهدفون إليه. ولما كان العدل قوة فاعلة تستأصل الظلم وتمحو آثاره جاء التعبير الكريم بأبلغ تصوير في زوال الظلم عندما يصطدم بالعدل، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ولَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) ومن هنا تبرز أهمية القضاء الذي هو وسيلة لإقامة العدل بين الناس، ولأهمية تلك الغاية وخطورتها جاء التحذير والوعيد في استعمال هذه الوسيلة؛ لكي لا يستعملها من لا يُحسن استعمالها فتنحرف به عن الصراط، وتزل به الأقدام؛ فيهوى في معاقل الظلم والبهتان. تاريخ القضاء في الإسلام أولًًا: نتحدث الآن عن المراحل التي مر بها القضاء في العصور الإسلامية الأولى،
فنذكر الآن القضاء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول: لما جاء الإسلام على يد محمد -صلى الله عليه وسلم- رفع لواء العدالة، وقرر المساواة الكاملة بين الناس جميعًا لا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا بين أمير وحقير، ولا بين مسلم وغيره، فالكل أمام عدالة الإسلام سواء، ولقد قرر الإسلام مبدأ المساواة بين الناس في أكمل صورة وأمثل أوضاع، واتخذ العدل دعامة لجميع ما سنه من نظم أو تشريعات تحكم علاقات الأفراد والمجتمع بعضهم مع بعض، وقد طبق الإسلام ذلك في جميع النواحي التي تقتضي العدالة الاجتماعية، وتقضي كرامة الإنسان الفرد أن يطبق فيها، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحفاظ على تعليم الإنسان الخاص، بالعدالة، وإقامة العدالة بين الناس، والفصل في كل ما يجد لهم من مشاكل ومنازعات؛ ولذلك كان على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعمل كل ما في وسعه ولا يدخر طاقة في ذلك، فأخذ يبين للناس دستور القضاء والتقاضي، ويوضح ما يسلكه القاضي في قضائه، وما يجب عليه أن يلتزمه في نظر الدعوى، وفي الحكم الذي يصدره في شأنها ويقره الإسلام متخذًا في ذلك منهجه العملي الذي نظمته هداية السماء داعيًا البشر إلى الاقتداء به في كل مرحلة من مراحل الحياة، فقد كان قضاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- تشريعًا واجب الاتباع سواء كان ذلك القضاء تطبيقًا لنص تشريعي نزل به الوحي، أو كان اجتهادًا منه؛ لأنه في جميع الحالات لا يقر على خطأٍ، فكان اجتهاده بمنزلة الوحي الثابت لا جدال في ذلك، ولا مراء كما استقر عليه رأي جمهور العلماء والفقهاء أخذًا من قوله -سبحانه وتعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وحْيٌ يُوحَى} (النجم: من الآية: 3، 4). أما فيما ورد فيه نص من كتاب أو سُنة، فإن قضاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- به يؤكد بقاء العمل به مع ما قد يقترن بهذا من بيان لمجمل النص التشريعي وتفصيل لخفائه، ومن هنا
وجب التزام قضائه -عليه الصلاة والسلام- فيما كان تطبيقًا لنص، ولا يجوز العدول عنه عند ثبوته لأي قاضٍ يريد تطبيق هذا النص على قضية مشابهة معروضة أمامه. أما قضاؤه -صلى الله عليه وسلم- باجتهاده فيما لم يرد فيه نص فكثير، ومن ذلك قضاؤه في فاطمة بنت قيس التي خاصمت زوجها إليه، وحكم بتطليقها البتة، ولم يجعل لها الرسول السكنى والنفقة؛ فقد جاء في صحيح مسلم عنها: ((طلقني زوجني ثلاثًا فلم يجعل لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سكنى ولا نفقة)) وفي رواية لأحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يا بنت آل قيس إنما السكنى والنفقة على من كانت له رجعة)). ومن ذلك أيضًا قضاؤه -عليه الصلاة والسلام- بتخيير الولد المميز بين أبيه وأمه إذا انفصلا، فقد جاءته امرأة فقالت: ((إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني، فقال -عليه الصلاة والسلام-: استهما عليه، فقال زوجها: ومن يحاقني في ولدي؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للولد: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت -أي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خير الولد بين أبيه وأمه- فأخذ بيد أمه؛ فانطلقت به)). وبالنسبة للسلطة القضائية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- نقول: لما استقر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة بعد الهجرة جمع بين السلطات جميعًا التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، ولم يكن للمسلمين قاضٍ سواه، أما التشريعية فباعتباره مبلغ الوحي، وحامل راية التشريع، وعليه عبء إعلامه للكافة، وأما القضائية فلأن منهج العدالة يحتاج إلى تدريبٍ، وتنظيمٍ، وقيادة عملية حكيمة يهتدي بها البشر في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وهذه القيادة إنما تقوم برعايتها والعناية بها هداية السماء، فكان لابد أن تكون السلطة القضائية في يده -عليه الصلاة والسلام- وقد جمع إلى هذه السلطة القضائية أن يتولى بنفسه القضاء والحكم في كل المشاكل والقضايا التي كانت تقع للناس في ذلك الوقت، وذلك عندما كانت الدولة الإسلامية في بادئ
عهدها، ولم تتطاول أطرافها بعد، حيث لم يكن في حاجة إلى معاونة في تطبيق التشريعات القضائية بين الناس؛ لقلة عدد القضايا التي كانت ترفع إليه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الوقت، فلما انتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية وملأ الآفاق كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في حاجة إلى أن يعهد بالقضاء إلى بعض ولاته الذين أنابهم في حكم البلاد المترامية عنه بعد أن وضح لهم معالم تشريعات السلطة القضائية، وأمرهم بالالتزام بها، وتحقيق العدالة بين الناس جميعًا لا فرق بين أمير وحقير، ولا بين مسلم وذمي، فالكل أمام عدالة الإسلام سواء طبقًا للمنهج الذي رسمه لهم في مجال القضاء، فكان القضاء إحدى وظائف الوالي الذي يتعين عليه أن يقضي بين الناس طبقًا لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. ونتكلم الآن عن القواعد، والمبادئ، والنظم التي تضمنتها تشريعات سلطته القضائية -صلى الله عليه وسلم- فالنبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بالدعوة مثلًا أوضح -عليه الصلاة والسلام- أن كل دعوة تحتاج إلى بينة تقوم بها الحجة على صدق صاحبها؛ فإن عرت عن البينة غدت كأن لم تكن، وفي هذا المعنى يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودمائهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) كما أوضح الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ضرورة سماع الخصمين أو الخصوم قبل الفصل في النزاع، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه- حينما ولاه قضاء اليمن: ((إن جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع كلام الآخر كما سمعت كلام الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)). وأوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أوضح من تنظيمات القضاء، أنه يجب على القاضي أن يسوي بين الخصمين، فقد روت أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه، وإشارته،
ومقعده)) وفي رواية: ((من ابتلي بالقضاء بين الناس فلا يرفعن صوته على أحدٍ ما لا يرفع على الآخر)) كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- القضاة بتحري الحق والحكم به، كما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن العدل في القضاء يرفع منزلة القاضي عند الله تعالى، فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أُعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وإذا حكموا للمسلمين حكموا حكمهم لأنفسهم)). وقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الظلم في القضاء، فقال: ((إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وكله الله إلى نفسه)) وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن القضاء منصبٌ خطيرٌ يجب أن يتولاه من هو أحق به وأقدر عليه؛ لأن ولاية من أعظم الولايات فقال: ((من تولي من أمر المسلمين شيئًا فاستعمل عليهم رجلًا وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك، وأعلم منه بكتاب الله وسنة رسوله؛ فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين)). كما حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقضي القاضي وهو غضبان، فقد رُوي أنه -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان)) وقال أيضًا: ((لا يقضي القاضي إلا وهو ريانٌ شبعانٌ)) كما حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قبول الرشوة؛ لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: ((لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي في الحكم)). كما أوضح الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الإسلام لا يأبى على القاضي المسلم أن يفصل بين أهل الكتب في خصوماتهم إذا احتكموا إليه، أو طلبوا القضاء بينهم أمامه، وقد فصل -عليه الصلاة والسلام- فيما عُرِض عليه من قضاياهم، وكذلك أوفد أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- مع وفد نصارى نجران من أجل أن يحكم بينهم وفي جميع الأحوال، فلم يدع النبي -صلى الله عليه وسلم- القضاة إلى أنفسهم ينشئون الأحكام كما يشاءون، بل ألزمهم
بقانون السماء، وشريعة الإسلام، وبين أن طريقهم في ذلك هو الرجوع إلى كتاب الله أولًا، فإن لم يجد فيه نصًّا يتناول الحادثة لجئوا إلى السنة ثانيًا، فإن لم يجدوا فيها حكم الحادثة عولوا على الاجتهاد في استخراج الحكم على هدي نصوص الكتاب والسنة. وبهذا النهج الذي رسمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصبح سبيل العدل واضح المعالم وفق ما قررته الشريعة الإسلامية من أصولٍ، وما جاءت به من أحكام. ثانيًا: ونتكلم الآن عن القضاء والسلطة القضائية في عهد الخليفة الأول أبو بكر -رضي الله عنه- فنقول: كانت السلطة القضائية في عهد الخليفة أبو بكر -رضي الله عنه- في يد الحاكم الأعلى، وهو الخليفة أبو بكر -رضي الله عنه- كما في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك الشأن في نظام القضاء، ولم يختلف عنه إلا من حيث أن أبا بكر -رضي الله عنه- قد خصص للقضاء رجلًا، فكانت ولاية القضاء منفصلة، والتفرغ لها عملًا لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان منصب القضاء تابعًا لمنصب الولاية -كما سبق توضيح ذلك- أما أبو بكر فقد أناب عنه عمر -رضي الله عنه- في قضاء المدينة فقط دون ولايتها، ومع عهده إلى عمر بالقضاء فإنه -رضي الله عنه- كان يباشر القضاء بنفسه أحيانًا، وذلك عندما ترفع إليه الخصومة والخلاف، ولا يعني هذا أن هناك تعارضًا بين مباشرته القضاء بنفسه والعهد به إلى عمر بن الخطاب؛ لأن الخليفة صاحب الولاية العامة، ومن حقه أن يقضي بنفسه مع وجود من ولاه لمباشرة هذا الأمر، وذلك لأن القضاء من الوظائف العامة الداخلة تحت الخلافة، وهذا يفسر لنا رواية أن عمر مكث سنة لا يأتيه رجلان في أمر القضاء، فلربما كان المتقاضيان يذهبان إلى أبي بكر ويتركان عمر، وذلك لخوف الخصوم من المثول أمامه، ولما اشتُهر عنه من الشدة والحزم بين الناس في كل أموره.
أما بالنسبة للقضاء خارج المدينة: فقد كان القضاء جانبًا من عمل الولاة ودخلًا في سلطتهم، وتبعًا لذلك فقد كان ولاة أبو بكر لهذه الولايات هم قضاته أيضًا في أماكن عملية، ولعله في هذا نهج نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كانت أسباب أخرى بجانب ذلك لم تجعله -رضي الله عنه- يتجه إلى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية والسياسية كما فعل عمر -رضي الله عنه- من بعده، وهذه الأسباب منها قصر مدته في الخلافة؛ فقد مكث سنتين وثلاثة أشهر وبعض أيام، وكان همه منصرفًا خلالها إلى القضاء على الفتنة التي أشعلت نارها بعض القبائل بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنها أن أعباء الولاة في عهده لم تكن، بالكثرة التي تحول بينهم وبين تفرغهم لمزاولة القضاء والفصل بين المتخاصمين. ثم نتكلم عن نهج أبي بكر في القضاء، فنقول: نهج أبو بكر في القضاء ما يأتي: أ- الرجوع إلى كتاب الله أولًا في القضية المعروضة عليه للفصل فيها، فإن وجد فيه نصًّا قضى به. ب- إذا لم يجد في الكتاب حُكمًا في النزاع الذي ينظره حكم بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- إن وجد فيها الحكم. جـ- إذا لم يجد الحكم في السُّنة بحث في قضاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن حادثة مماثلة، وحكم بحكم الرسول إذا تشابهت القضيتان. د- القضاء إذا لم يجد في قضاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يقضي به استشار رءوس الناس، فإذا أجمعوا على شيءٍ قضى به، فإذا لم يجتمعوا على شيء في الخصومة فكان يجتهد رأيه ويقضي باجتهاد.
ثالثًا: ثم نتحدث الآن عن السلطة القضائية ونظام القضاء في عهد عمر بن الخطاب فنقول: لما ولي عمر بن الخطاب بعد وفاة أبو بكر وجه عنايته إلى القضاء ودعمه، واهتم بشأنه خصوصًا بعد أن فتح الله على المؤمنين بلاد الشام، والفرس، والعراق، ومصر، وامتدت إلى أماكن مختلفة من العالم خارج الجزيرة العربية في عهده شملت الكوفة، والبصرة، وأمام هذا الاتساع في رقعة البلاد الإسلامية كان من الضروري أن يستعين عمر -رضي الله عنه- أن يجعل سلطة القضاء مستقلة عن عمل الوالي في بعض الولايات التي تحتاج إلى ذلك؛ ليتفرغ الوالي للأعمال الكثيرة أخرى التي كان لزامًا عليه أن يتفرغ لها، وفي مقدمتها نشر الأمن والطمأنينة في أنحاء، ولايته، وحمايتها من خصومها، والترصد لحركاتهم، ومؤامراتهم، وإيذاء ذلك فصل عمر القضاء في بعض الولايات الكبيرة عن عمل الوالي، وجعله سلطة مستقلة، ونفذ هذا في ولايات: الكوفة، والبصرة، ومصر. وقد جعل عمر -رضي الله عنه- السلطة القضائية تابعة له مباشرة، فكان هو الذي يعين القضاة، ويكتب إلي واليه في الولاية أن يولي فلانًا القضاء عنده كما كان يوجه القضاة ويراسلهم ويراسلونه فيما يُشكل عليهم في القضاء، ويسألونه أتانا كذا وكذا فما الحكم؟ وكان يجيب عليهم بما يتخذونه وما يسلكونه من طريق، وكان بهذا الوصف الرئيس الأعلى للقضاة، وصاحب الخطة التي يسيرون عليها في قضائهم لا يحيدون عنها ولا يخالفونها، ومع هذا فقد أبقى عمر بعض ولاته على القضاء أيضًا، وربما يرجع هذا إلى أن ظروفهم كانت تسمح لهم في ولاياتهم بمباشرتهم القضاء بأنفسهم مع عبء السلطة التنفيذية؛ لأن القضاء لم يشغلهم عن العناية بشئون الولاية.
وأما قضاة عمر الذين ولاهم القضاء عنه في المدينة فهم: علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، والسائب بن يزيد، فقد خصصه عمر للفصل في القضايا البسيطة، فقد روي الطبراني أن عمر قال ليزيد عند تعيينه لمنصب القضاء: "رد الناس عني في الدرهم والدرهمين" أي: في القضايا التي لها مبالغ بسيطة، ومع ذلك فقد كان الخليفة عمر مع تخصيصه قضاة للمدينة يقضي بنفسه أحيانًا، وأحيانًا أخرى كان يُحيل قضاياه على زيد أو علي، وأحيانًا كان يُشركهما معه في بحث قضية ما يراه من وجهة نظره تحتاج إلى مستشارين. ومما سبق يمكن أن نستخلص بأن عمر قسم القضاء إلى درجتين: القضاء البسيط، وهو خاص بالقضايا الصغيرة، وهذا أحاله على السائب بن يزيد عندما أمره أن يحكم بين الناس في الدرهم، والدرهمين، والقضاء الكلي، وقد خُصص لما عدا ذلك من القضايا -يعني: فيما زاد عن الدرهم والدرهمين كان هو القضاء الكلي- وهذه القضايا كان ينظرها علي بن أبي طالب، أو زيد بن ثابت في المدينة، أو عمر نفسه، أو هم جميعًا، أو اثنان منهم حسب مقتضيات الأحوال والظروف، وقد كان الأصل في نظام القضاء أن يعين القاضي الواحد للقضاء وحده في الدائرة المخصص لها، وهو يقوم على أساس نظام القاضي الفرد الذي يستقل وحده بإصدار الحكم في القضايا المعروضة عليه، وهذا النظام الذي عمل به عمر نظامٌ معمولٌ به في بعض الدول الآن ومنها مصر، وذلك بالنسبة لقضاة المحاكم الجزئية وقضاة الأمور المستعجلة، ومع أن هذا هو الأصل أي: أن يستقل القاضي وحده بالحكم، نقول: ومع أن هذا هو الأصل فقد صار عمر أيضًا في سلطته القضائية على تخويل القاضي الواحد أن يستعين بغيره معه في بعض القضايا المهمة، أو قد يحدد هو شروطًا معينة لبعض القضايا المهمة سلفًا بحيث إذا انطبقت هذه الشروط عليها تعين للنظر فيها أكثر من قاضٍ قبل الحكم فيها، وقد يدعوهم الخليفة بنفسه للنظر معهم في القضية، وذلك بحسب الأحوال كما سبق القول. ومن ذلك نستخلص بأن القضية الواحدة كان ينظرها أحيانًا قاضيان معًا أو أكثر في أيام عمر، وأن قضاء الإسلام لم يجر فيه نظام القضاء على نظام القاضي الواحد دائمًا أبدًا كما زعم بعض المستشرقين، بل في نصوص الإسلام وتعاليمه وأعمال الخلفاء ما يجيزوا لأكثر من قاضٍ الاشتراك في قضية واحدة، وليس هذا النظام حديثًا ووليد المدنية -كما زعم من زعم- بل هو من نظام القضاء في الإسلام. نهج عمر في القضاء ودستور التقاضي في عهده: كان عمر -رضي الله عنه- في قضائه يتبع ما جاء في الكتاب والسنة، فإن لم يجد فيهما ما يقضي به نظر في قضاء أبي بكر، فإن وجد له قضاء قضى به، وإلا استشار في ذلك فقهاء الصحابة وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت قاضياه، فقد جاء في (المبسوط) للسرخسي: أن عمر -رضي الله عنه- كان يستشر الصحابة مع فقهه، حتى كان إذا رُفعت إليه الحادثة قال: ادعوا إلي عليًا وادعوا إلي زيدًا، فكان يستشرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه، كانت القضية تُرفع إلى عمر فربما يتأمل في ذلك شهرًا ويستشير أصحابه، وقد سن عمر بن الخطاب لقضاة دستورًا يسيرون عليه في التقاضي وفي الحكم، وهو النهي الذي صار عليه بنفسه بالقضاء، إلا أنه رأى أن يدون ذلك وكل ما يتعلق بالقضاء وتنظيمه، وطريقة التقاضي، والحكم، وشروط الدعوى التي يصح النظر فيها، وغير ذلك، دون ذلك في كتاب خاص يعتبر هذا الكتاب هو أساس علم المرافعات في عالم القضاء، وهو الكتاب الذي بعث به إلى أبي موسى الأشعري وإلى غيره من القضاة، وهذا نص الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس سلامٌ عليك، أما بعد: فإن القضاء فريضةٌ محكمةٌ، وسنةٌ متبعةٌ، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلمٌ بحقٍّ لا نفاذ له، آسي بين الناس في مجلسك، وفي وجهك، وقضائك؛ حتى لا يطعم شريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيفٌ من عدلك، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ومن ادعى حقًّا أو بينةً فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن بينه أُعطيته، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر، ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فرجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض. هذا ضمن ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب، وهو دستور القضاء إلى الآن، وسوف يستمر في المستقبل -إن شاء الله. ثالثًا: ثم نتكلم الآن عن السلطة القضائية والقضاء في عهد عثمان فنقول: لما تولى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الخلافة وبُيع عليها في سنة 17 هجرية سلك في شأن القضاء مسلكًا غير الذي سلكه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خلافته، فقد عزل عثمان عن قضاء المدينة علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، والسائب بن يزيد، واستقل هو بالسلطة القضائية وبالقضاء، فكان ينظر الخصومات بنفسه في جميع القضايا المهمة ذات الأمور قضائية، وكان يستدعي هؤلاء القضاة الذين عزلهم من منصب القضاة وغيرهم من الصحابة للتشاور معهم فيما يحكم به عند الحاجة إلى ذلك، فإن وافق رأيهم رأيه أمضاه، وإن لم يوافق رأيهم رأيه نظر في
الأمور فيما بعد، ويبدو أن الخليفة عثمان -رضي الله عنه- آثر أن يترك أمر القضاء في الأمصار للولاة أنفسهم. رابعًا: وإذا نظرنا إلى القضاء في عهد علي -أي: أننا ننتقل الآن إلى النظر في القضاء في عهد علي -رضي الله عنه- فنقول: مع علم علي وغزارته من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بقوله: ((اللهم علمه القضاء)) ومع إجماع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن عليًا أقضاهم، فإن القضاء في خلافته لم يحظ بالكثير من عنايته ورعايته بسبب الأحوال السياسة المضطربة، والفتن التي ظهرت في عهد آنذاك مما كان سببًا في انصراف علي -رضي الله عنه- عن العناية بالأحوال التنظيمية للأمصار والتوفر على العناية الكاملة بأمر القضاء بصفة خاصة، ومع ذلك لم تمنعه هذه الظروف القاسية من الاهتمام بأمر القضاء والاشتغال به، فقد كان يجلس بنفسه للحكم والقضاء بين الناس كما كان يعهد به إلى الممتازين من ذوي الكفاءات، وقد ترك علي -رضي الله عنه- أمر اختيار القضاة للولاة أنفسهم الذين عينهم على الأمصار بعد خلافته، فقد عزل معظم الولاة الذين كانوا في عهد عثمان وولى غيرهم، وقد فصل علي -رضي الله عنه- القضاء عن الولاية كما فعل عمر -رضي الله عنه- وإن فوض الولاة في تعيين القضاة، واختيارهم من أفضل العناصر التي تصلح للقضاء دون أن يحكمهم بأنفسهم في قضايا الناس لضمان العدالة في القضاء بين الناس. خامسًا: ثم نتكلم الآن عن القضاء في عهد الأموي فنقول: في عهد خلافة بني أمية لم يختلف القضاء كثيرًا في هذه المرحلة عن المراحل السابقة له، وبخاصة عصر عمر من ناحية السلطة القضائية، وتنظم القضاء، واختيار أفضل العناصر لتولي مناصب القضاء، كما أن السلطة القضائية كانت منفصلة عن السلطة السياسية والسلطة التنفيذية، وكان القاضي في حكمه يتبع
الأسلوب المطلق من حيث الاجتهاد كما يفعل القضاة في عصر الخلفاء الراشدين، ويمكن أن نلخص مميزات أو معالم القضاء في ذلك العصر بما يأتي: أ- أن القضاء لم يكن متأثرًا بالسياسة، إذ كان القضاة مستقلين في أحكامهم لا يتأثرون بميول الدولة الحاكمة، بل كانوا مطلقي التصرف، وكلمتهم نافذة حتى على الولاة وعمال الخراج. ب- كان القاضي يحكم بما يوحيه إليه اجتهاده، فكان يستنبط الحكم بنفسه من الكتاب والسنة، أو الإجماع، أو أن يجتهد في الحكم اجتهادًا حسب قواعد الشريعة وأصولها. جـ- كانت السلطة القضائية في يد الخليفة الحاكم العام مع استقلال القضاة، فقد ثبتت تاريخيًا أن الخليفة كان يراقب أحكام القضاء، ويعزل من شذ من القضاة عن الطريق السوي. د- تدوين الأحكام القضائية في ذلك العهد، ظهرت الحاجة إلى وجود سجلات تدون فيها الأحكام التي يصدرها القضاة، وذلك لكثرة المشاكل والمنازعات المختلفة على عكس ما سبق في عهد الخلفاء الراشدين، فقد أدى تناكر الخصوم في بعض الأحيان لأحكام القضاة إلى إدخال نظام السجلات. سادسًا: ثم نتكلم الآن عن النظام القضائي في العصر العباسي فنقول: تطور القضاء في العصر العباسي الثاني متأثرًا بالسياسة، وأصبح الخلفاء يتدخلون في القضاء حتى حملوا القضاة في كثيرٍ من الأحيان على السير وفق رغباتهم؛ ولهذا السبب فكثيرًا ما كان يعتذر القضاة عن قبول التعيين في المناصب القضائية مع علمهم بشرفه وفضله بين الناس، وذلك خشية تدخل الخلفاء في أحكامهم القضائية،
وقد ضعف روح الاجتهاد في هذا العصر بسبب ظهور المذاهب الأربعة، وأصبح لزامًا على القاضي أن يُصدر أحكامه، وفق أحد هذه المذاهب، كما اختلف القضاة في الولايات باختلاف هذه المذاهب، وأصبح المذهب الشارع في العراق مذهب أبي حنيفة النعمان، وفي الشام، والمغرب، والأندلس كان القضاة يصدرون أحكامهم وفق مذهب الإمام مالك، وفي مصر وفق مذهب الإمام الشافعي، فإذا حدث تنازعٌ بين متقاضيين على غير المذهب السائد في بلد من البلاد أناب القاضي عنه من القضاة من يدين بعقائد مذهب المتخاصمين، واستمرت هذه المذاهب الأربعة إلى وقت طويل مصدر القضاء والأحكام، ومن ثم أُطلق على العصر العباسي عصر أئمة المذاهب، وهناك مذاهب أخرى غير المذاهب الأربعة لها قضاؤها الخاص، فكان القاضي يتبع المذهب، ومنها الزيدية في اليمن، والإمامية والاثنا عشرية في فارس والعراق، والإمامية السبعية أو الإسماعيلية في غير ذلك على أن رغبة الناس في التقليد والحكم بما يوافق المذهب الذي يتبعه القاضي أو المفتي إنما ظهرت بظهور أبي الحسن الأشعري وتفكيره في الرجوع إلى مذهب أهل السنة، ويجب ألا يعزب عن أذهاننا في هذا المُقام أن مذاهب أهل السُّنة الأربعة -الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي- كانت مصدر التشريع في هذا العصر، وأنه لم يتقلد القضاة إلا السنيون، وكان القضاة في الدولة العباسية ينيبون عن قاضي القضاة، وهو أشبه بوزير العدل الآن، ويقيم في حاضرة الدولة، وقد كان القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة أول من تلقب هذا اللقب في عهد هارون الرشيد، واستمر هذا العصر العباسي الثاني، وقد اتسعت سلطة القاضي حتى أصبح ينظر في القضايا المدنية، وفي الدعوى والأوقاف، وتنصيب الأولياء، وكثيرًا ما تضاف إليه الشروط، والمظالم، والقصاص، والحسبة، ودار الضرب -أي: ضرب النقود- وبيت المال.
وقد كان لكل ولاية من الولايات الإسلامية في بادئ الأمر قاضٍ واحد لجميع التخصصات القضائية، ولكن باتساع الدولة العباسية أصبح لكلٍّ من هذه الولايات قضاة يمثلون المذاهب الأربعة، وينظر كل منهم فيما يقوم من النزاع بين من يدنون بعقائد مذهبه، وكان مكان القاضي في بادئ الأمر في المسجد، ثم وجد المسلمون أن هذا لا يتفق وحرمة بيوت الله؛ فمنع الخليفة المعتضد القضاة من الجلوس في المسجد، وفي بعض الأحيان كان القاضي يقضي بين الناس في داره، وكان لقاضي قضاة بغداد ديوان يُعرف بديوان قاضي القضاة، ومن أشهر موظفي هذا الديوان الكاتب، والحاجب، وعارض الأحكام، وخازن ديوان الحكم، وأعوانه، كما اقتضى تطور نظام القضاة في هذا العصر التحري عن الشهود، فإن كان الشاهد معروفًا بالسلامة ولم يُعرف عنه ما يجرحه قبل القاضي شهادته، وإن كان غير معروفٍ بها لم تُقبل شهادته، وإن كان مجهولًا سئل عنه جيرانه، ومن ثم وجدت جماعة من الشهود عرفوا بالشهود الدائمين، أو المعدلين، أو المزكين. سابعًا: ونتكلم الآن عن السلطة القضائية ونظام القضاء في الأندلس فنقول: كان للقضاء في الأندلس مركز ممتاز كما كان في غيرها من البلاد الإسلامية، وكان الأمير أو الخليفة هو الرئيس الأعلى للقضاء لتعلق الوظيفة بالدين، وقد كان قاضي القضاة في الأندلس يسمى قاضي الجماعة؛ لأنه يكون في حاضرة الدولة، وكان يُشترط في تعيين القاضي أن يكون متعمقًا في الفقه مشهودًا له بالنزاهة والاستقامة، ولا يُشترط فيه أن يكون عربيًا خالصًا، وطالما تقلد هذا المنصب الموالي والبربر كما هو الحال بالنسبة ليحيي بن يحيي الليثي الذي كان من أصل بربري، وكان قاضي القضاة غالبًا ما يُختار من بين قضاة الأقاليم المشهود لهم بالتفوق في القضاء، أو ممن تولوا بعض مناصب الدولة الهامة،
أركان القضاء.
وكان قاضي الجماعة يقيم بقرطبة حاضرة الدولة الأموية في الأندلس، ويعين من قِبل الأمير أو الخليفة، وينوب عنه في الأقاليم قضاة، ويحكمون طبقًا لمذهب الإمام مالك، وبما يتفق مع القرآن والسُّنة، وكان الحكام والولاة يقومون بتنفيذ أحكامهم القضائية، وقد صار الأمويون في الأندلس على نهي خلفاء الأمويين والعباسيين في الشرق في تولية قضاتهم قيادة الجيوش نيابة عنهم، وكان من ضمن اختصاصات القاضي الإشراف على موارد الأحباس وسجلات الفتوى الفقهية، والإشراف على الصلاة في أيام الجمعة، والأعياد بالمسجد الكبير بقرطبة، أو بمسجد الزهراء الذي أسسه الخليفة عبد الرحمن الناصر بمدينة الزهراء، كما كان من اختصاصه صلاة الاستقاء؛ ولذلك فكثيرًا ما كان القاضي يسمى صاحب الصلاة، وقد ظل الأمر هكذا حتى أفرض عبد الرحمن الناصر شخصًا للصلاة، وشخصًا آخر للقضاء، وكان قضاة الأندلس يعرفون الأسبانية القديمة، ويناقشون المتقاضين بها في مجالس الحكم والقضاء. وبهذا نكون قد انتهينا من إلقاء الضوء على التاريخ القضائي منذ بدايات الدعوة الإسلامية إلى قضاة في الأندلس. أركان القضاء ننتقل الآن إلى موضوع آخر وهو: أركان القضاء فنقول: يعتمد القضاء على أركان خمسة هي في مجملها ما يأتي: الأول: الحاكم -أول ركن هو الحاكم- وهو القاضي الذي عينته السلطة أو الحكومة للفصل في الدعوى والخصومات، وبهذا يختلف الحاكم عن المحكم، وهو الذي يتفق عليه الخصمان للتحكيم في النزاع الدائر بينهم. الركن الثاني: الحكم، وهو ما يصدر عن القاضي من قرارٍ لحسم النزاع وإنهاء الخصومة، وله صفة الإلزام، فيختلف الحكم عن الفتوى، فإنها غير ملزمة
الدعوى وشروطها.
والحكم يكون إما بإلزام المحكوم عليه بأمرٍ ما كتنفيذ شيء أو إعطاء شيء، وهذا يسمى قضاء إلزام، وإما يمنع الحاكم المنازعة بقوله للمدعي: ليس لك حق عند خصمك بسبب عجزك عن الإثبات، وهذا يسمى قضاء الترك. الركن الثالث من أركان القضاء: المحكوم به، وهو في قضاء الإلزام ما ألزم به القاضي المحكوم عليه من إيفاء المدعي حقه، وهو في قضاء الترك ترك المدعي المنازعة، وعلى كلٍّ فالمحكوم به هو الحق إما لله أو للعبد أو مشترك بينهما. الركن الرابع من أركان القضاء: المحكوم عليه، وهو من يصدر الحكم ضده، أو من يستوفى منه الحق سواء أكان مدعى عليه أم لا. الركن الخامس من أركان القضاء: المحكوم له، وهو المدعي بحقٍّ له سواء أكان خالصًا له كالحق في الدين، أو الالتزام المالي أم خالصًا لله كالحدود الشرعية، أم مشتركًا بين الحقين وكان حق الله هو الغالب، وهو حد القذف في رأي الحنفية، أو حق العبد هو الغالب، وهو الحق في القصاص، فإن كان الحق خالصًا لله أو حق الله فيه غالب فإن المحكوم له هو الشرع، وهنا لا تشترط الدعوى من شخص معين، ويحق لكل شخص حتى القاضي التقدم بالأمر، وهي دعوى الحسبة، وهو الذي تمثله في عصرنا النيابة العامة. الدعوى وشروطها ثم ننتقل الآن إلى موضوع آخر وهو الدعوى والبينات فنقول: الدعوى في اللغة: قولٌ يقصد به الإنسان إيجاب حق على غيره، أو هي الطلب والتمني قال تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُون} (يس: من الآية: 57) وتجمع على دعاوى ودعاوي. والدعوى شرعًا: إخبار بحق للإنسان على غيره عند الحاكم.
وركنها هو قول الرجل لي علي فلانٍ، أو قِبل فلان كذا، أو قضيت حق فلان، أو أبرأني عن حقه، ونحوها. شروط الدعوى: أول شرط من شروط الدعوى: أهلية العقل أو التمييز، يشترط أن يكون المدعي والمدعى عليه عاقلين، فلا تصح دعوى المجنون والصبي غير المميز كما لا تصح الدعوى عليهما، فلا يلزمان بالإجابة على دعوى الغير عليهما ولا تسمع البينة عليهما. ثاني شروط الدعوى: أن تكون في مجلس القضاء؛ لأن الدعوى لا تصح في غير هذا المجلس. ثالث هذه الشروط: أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى الحاكم عند سماع الدعوى والبينة والقضاء، فلا تقبل الدعوى على غائبٍ كما لا يقضى على غائبٍ عند الحنفية سواء أكان غائبًا وقت الشهادة أم بعدها، وسواء أكان غائبًا عن مجلس القاضي أم عن البلد التي فيها القاضي، ولا يشترط هذا الشرط في المذاهب الأخرى. ومن الشرط الرابع: أن يكون المدعى به شيئًا معلومًا، وعلمه إما بالإشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من المنقولات، أو ببيان حدوده إذا كان قابلًا للتحديد كالأراضي والدور وسائر العقارات، أو بكشف يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلًا للتحديد كحجر الرحى، أو ببيان جنسه ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به دَينًا كالنقود، والبُر، والشعير، وغير ذلك؛ لأن الدين لا يصير معلومًا إلا ببيان هذه الأمور، والسبب في اشتراط العلم بالمدعى به هو أن المدعى عليه لا يُلزم بإجابة دعوى المدعي إلا بعد معرفة المدعى به، وكذلك الشهود لا يمكنهم الشهادة على مجهول، ثم إن القاضي لا يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إلا إذا كان المدعى به شيئًا معلومًا.
الدعوى.
الشرط الخامس في الدعوى: أن يكون موضوع الدعوى أمرًا يمكن إلزام المدعى عليه به -أي: أن يكون الطلب مشروعًا ملزمًا في مفهومنا الحاضر- فإذا لم يكن بالإمكان إلزام المدعى عليه بشيءٍ فلا تقبل الدعوى كأن يدعي إنسان أنه وكيل هذا الخصم عند القاضي في أمرٍ من أموره، أو يدعى على شخصٍ بطلب صدقة، أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل، فإن القاضي لا يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛ لأن الوكالة عقد غير لازم فيمكنه عزل مدعي الوكالة في الحال. سادسًا: أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت؛ لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة تكون دعوى كاذبة، فلو قال شخصٌ لمن هو أكبر سنًا منه: هذا ابني لا تسمع دعواه لاستحالة أن يكون الأكبر سنًا ابنا لمن هو أصغر منه سنًا، وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير هذا ابني لا تُسمع دعواه. هذه هي شروط صحة الدعوى حتى تُسمع عند القاضي، نكتفي بهذا القدر، وأستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - الدعوى وتعارضها ووسائل الإثبات الدعوى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فسوف نبدأ الحديث في هذه المحاضرة عن أنواع الدعوى القضائية، فنقول: الدعوى نوعان: صحيحة، وفاسدة. فالدعوى الصحيحة هي التي استكملت شرائط الصحة، ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها، وهي إحضار الخصم إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي، ومطالبته بالجواب على دعوى المدعي، واليمين إذا أنكر المدعى به، ويثبت فيها حق المدعي إما بالبينة أو بنكول المدعى عليه عن اليمين. والدعوى الفاسدة أو الباطلة هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط الصحة، ولا تترتب عليها الأحكام السابقة المقصودة منها؛ كأن تكون الدعوى على
غائب، أو كان المدعى به مجهولًا؛ لأن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة، فلا يمكن للشهود أن يشهدوا به، ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول لا بالبينة، ولا بالنكول عن اليمين. ونبحث الآن عن: من هو المدعي والمدعى عليه؟ فنقول: لما كانت مسائل الدعوى متوقفة على معرفة المدعي والمدعى عليه، وهي من أهم ما تبتنى عليه الدعاوى، لاسيما فيما يتعلق بما يلزم به أحدهما من البينة أو اليمين ونحوهما، كان من الضروري تعيين المتصف بصفة المدعي وتعيين المتصف بصفة المدعى عليه. وفي تعيينه تعريفات شتى، منها: أن المدعي هو من لا يجبر على الخصومة إذا تركها؛ لأنه مطالب، أو هو من خالف قوله الظاهر -أي: ظاهر الحال- والمدعى عليه هو من يجبر على الخصومة؛ لأنه مطلوب، أو هو من وافق قوله ظاهر الحال، والظاهر هو البراءة. وقيل: المدعي من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته، والمدعى عليه: هو من ينكر ذلك، وقيل: المدعى عليه هو المنكر والآخر هو المدعي. ونتكلم الآن عن حكم الدعوى، أو ما يجب على المدعى عليه بعد الإدعاء، فنقول: للقاضي الدور المهم في الدعوى، فإذا جاء المدعي إلى المحكمة مع خصمه سأله القاضي عن موضوع الدعوى، فإذا كانت الدعوى صحيحة بأن كانت على خصم حاضر، واستوفت شروطها طلب
القاضي من المدعى عليه جوابه عن الدعوى؛ لأن قطع دابر الخصومة أمر واجب، فحكم الدعوى -إذن- وجوب الجواب على المدعي عليه بقوله لا أو نعم، حتى إنه لو سكت كان سكوته إنكارًا، فتقبل بينة المدعي، ويحكم بها على المدعى عليه، فإن أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى حكم القاضي عليه؛ لأنه غير متهم في إقراره على نفسه، ويؤمر بأداء الحق لصاحبه، وإن أنكر طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة، فإن أقام البينة قضى بها لترجح جانب الصدق على الكذب بالبينة، وإن عجز المدعي عن تقديم البينة، وطلب يمين خصمه المدعى عليه، استحلفه القاضي، ودليل ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمدعي في قصة الحضرمي والكندي: ((ألك بينة؟ قال: لا. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فلك يمينه)) أي: يمين المدعى عليه، فإن قال المدعي: لي بينة حاضرة في البلد، وطلب اليمين من المدعى عليه لم يستحلف عند أبي حنيفة؛ لأن حق المدعي في طلب اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة كما في الحديث المذكور قريبًا. وقال أبو يوسف: يستحلف لأن طلب اليمين حق المدعي لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)). ثم نتكلم الآن عن حجج المتداعيين أو طرق إثبات الحق، فنقول: طرق الإثبات التي يعتمد عليها في القضاء هي: الشهادة، واليمين، والنكول، والإقرار، أو الشهادة مع اليمين، أو القرائن في بعض الأحوال. أما الشهادة: فهي حجة المدعي؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((البينة على المدعي)) ولأن المدعي يدعي أمرًا خفيًا؛ فيحتاج إلى إظهاره، وللبينة قوة الإظهار، والسبب في تكليف المدعي البينة أو الشهادة أن جانبه ضعيف؛ لكون دعواه خلاف الأصل، فكلف
الحجة القوية وهي البينة، وأن جانب المدعى عليه قوي؛ لأنه متمسك بالأصل، وهو البراءة؛ فاكتفي منه بالحجة الضعيفة، وهي اليمين. والبينة: إما شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، أو شاهد ويمين، أو أربعة رجال، أو أربعة نسوة. وأما اليمين: فهي حجة المدعى عليه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((واليمين على المدعى عليه)) فإن حلف المدعى عليه قضى القاضي بفصل الدعوى، وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من إقامة البينة، وإن نكل عن اليمين، أي إن نكل المدعى عليه عن اليمين، فهل ترد اليمين إلى المدعي أو يقضي عليه بمجرد النكول؟ فيه رأيان للفقهاء، أذكرهما فيما يلي: فنقول: إذا أبى المدعى عليه أن يحلف، هل يحلف المدعي؟ أو يقضى بنكول صاحبه عن اليمين؟ كما قلنا اختلف العلماء في الموضوع: قال المالكية: ترد اليمين على المدعي بعد النكول في الأموال، وما يؤول إليها فقط، وقال الشافعية: ترد اليمين على المدعي في جميع الحقوق ماعدا جنايات الدماء والحدود ويقضى له بما ادعاه، ولا يقضى بمجرد نكول المدعى عليه. ويعتبر اليمين المقرورة إقرارًا حكمًا، وهذا هو الذي صوبه الإمام أحمد. وعلى هذا: يكون رأي الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، هو القول برد اليمين على المدعي؛ لكن المحتار عند الحنابلة القول بعدم رد اليمين. واستدل الجمهور القائلون برد اليمين على المدعي في حالة نقول المدعى عليه، استدلوا بما روى ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد اليمين على طالب الحق، ولأن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين بعد أن طُلِبت منه ظهر صدق المدعي وقوي جانبه فتشرع اليمين في حقه كالمدعى عليه قبل نكوله، وكالمدعي إذا شهد له شاهد واحد، وقال تعالى: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} (المائدة: من الآية 108) أي: بعد
الامتناع من الأيمان الواجبة، فدل ذلك على نقل الأيمان من جهة إلى أخرى، ولا يقضى عند الجمهور بمجرد النكول لأن النكول كما يحتمل أن يكون امتناعًا وتحرزًا عن اليمين الكاذبة يحتمل أن يكون تورعًا عن اليمين الصادقة، فلا يقضي للمدعى مع تردد المدعى عليه، إذ لا يتعين بنكوله صدق المدعي، فلا يجوز الحكم له من غير دليل، فإذا حلف المدعي كانت يمينه دليلًا عند عدم ما هو أقوى منها. وقال الحنفية والحنابلة -في المشهور عندهم-: لا ترد اليمين على المدعي، وإنما يقضي على المدعى عليه بمجرد النكول عن اليمين، ويلزم بما ادعي عليه به. والنكول إما أن يكون حقيقة، كقوله: لا أحلف، أو حكمًا، كأن يسكت، وتعرض اليمين على المدعى عليه مرة واحدة، ولكن لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبداء العذر، ينبغي للقاضي تكرار عرض اليمين عليه ثلاث مرات، بأن يقول له: إني أعرض عليك اليمين ثلاثًا، فإن حلفت فبها، وإلا قضيت عليك بما ادعاه خصمك، واستدلوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((البنية على المدعي واليمين على من أنكر)) فقد جعل جنس الأيمان على المنكرين كما جعل جنس البينة على المدعين، واستدل الحنفية أيضا بأن النكول دليل على كون المدعى عليه مقر بهذا الحق المدعى به عليه، ولولا ذلك لأقدم على اليمين دفعًا لضرر الدعوى عن نفسه، وقيامًا بالواجب؛ لأن اليمين واجبة عليه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((واليمين على من أنكر)) وكلمة على تدل على الوجوب. وينبغي للقاضي أن يقول للمدعى عليه: إني أعرض عليك اليمين ثلاث مرات، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بما ادعاه المدعي، فإن كرر العرض عليه ثلاث مرات قضى عليه بمجرد نكوله.
كيفية اليمين، وأثرها في الدعوى: لليمين كيفية معينة، سواء كانت يمينًا مردودة أم مع الشاهد أم يمينًا من المدعى عليه، فقد اتفق العلماء على: أن اليمين تكون بالله -عز وجل- دون غيره، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)) ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حلف بغير الله فقد كفر)). واتفقوا أيضًا على: أن اليمين المشروعة في الحقوق التي هي براء بها المدين هي اليمين بالله. وقال الشافعية: يندب تغليظ اليمين، وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس بمال، ولا يقصد به مال، كنكاح وطلاق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة وفي مال يبلغ نصاب زكاة لا فيما دونه، والتغليظ يكون مثلًا: بزيادة أسماء وصفات الله -عز وجل- كأن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم السر والعلانية، أو بالله الطالب الغالب المدرك المهلك الذي يعلم السر وأخفى. وقال الحنابلة: اليمين التي هي براء بها المدين هي اليمين بالله، وإن كان الحالف كافرًا، لقوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (المائدة: من الآية: 107) وقوله سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (النور: من الآية: 53). قال بعض المفسرين: من أقسم بالله فقد أقسم جهد اليمين. وقال الحنفية: للقاضي أن يحلف المسلم من غير تغليظ مثل: بالله أو والله، وله أن يغلظ أن يؤكد اليمين بذكر أوصاف الله تعالى، مثل قوله قل: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما
يعلم من العلانية ما لفلان هذا علي، ولا قبل هذا المال الذي ادعاه، وهو كذا وكذا، ولا شيء منه، وله أن يزيد على هذه الصيغة وله أن ينقص منها. والحلف ينبغي أن تكون على البت أو على نفي العلم، فيحلف الشخص باتفاق أئمة المذاهب الأربعة على البت، وهو القطع والجزم في فعله إثباتًا كان أو نفيًا؛ لأنه يعلم حال نفسه، ويطلع عليها؛ فيكون في البيع والشراء حالة الإثبات،: والله لقد بعت بكذا، أو اشتريت بكذا، وفي حالة النفي يقول: والله ما بعت بكذا، ولا اشتريت بكذا. وكذلك يحلف الشخص على البت على فعل غيره إن كان الأمر إثباتًا كبيع وإتلاف وغصب؛ لأنه يسهل معرفة الواقع والشهادة به، وإن كان نفيًا فيحلف على نفي العلم أي: لا يعلم أنه كذلك لعدم علمه بما فعل غيره فيقول: والله ما علمت أنه فعل كذا. والعبرة في اليمين بنية القاضي المستحلف، فيلاحظ أن: النية في الحلف بنية القاضي المستحلف للخصم، أي: الذي يقوم بتحليف الخصم لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((اليمين على نية المستحلف)) وقد حمل هذا الحديث على الحاكم؛ لأنه الذي له ولاية الاستحلاف، فلو أخذ بنية الحالف لبطلت فائدة الأيمان، وضاعت الحقوق، إذ كل أحد يحلف على ما يقصد، فلو ورى الحالف في يمينه بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليف القاضي، أو تأول، أي: اعتقد خلاف نية القاضي أو استثنى الحالف كقوله عقب يمينه -إن شاء الله-، أو وصل باللفظ شرطًا مثل: إن دخلت الدار، بحيث لا يسمع القاضي كلامه، لم يدفع ما ذكر اسم اليمين الفاجرة، أي: أنه لا تنفعه هذه الأمور، ولا هذه التأويلات؛ لأنه لو فعلنا ذلك لضاع المقصود من اليمين، وهو حصول الهيبة من الإقدام عليها.
تعارض الدعويين مع تعارض البينتين.
أما أثر اليمين في الدعوى: فهو يترتب عليها قطع الخصومة والمنازعة وعدم المطالبة بالحق في الحال لا مطلقًا، وإنما مؤقتًا إلا وقت إقامة البينة، فلا تفيد اليمين براءة ذمة المدعى عليه عند جمهور الفقهاء. تعارض الدعويين مع تعارض البينتين ونتحدث الآن عن حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في الملك، فنقول: لذلك احتمالات ثلاثة، أي: حال التعارض الدعويين مع تعارض البينتين في الملك في هذا الأمر احتمالات ثلاثة، وهي: التعارض في الدعويين بين الخارج عن ذي اليد وذي اليد، بمعنى: أن يكون التعارض بين الدعويين بين إنسان يضع يده على شيء مدعى به، وإنسان آخر لا يضع يده عليه، والذي لا يضع يده عليه نسميه الخارج، التعارض في الدعويين بين الخارج عن ذي اليد وذي اليد، هذا احتمال. وأيضا التعارض في الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد، بمعنى: أن يكون الشيء المدعى به في يد طرف ثالث، أما الخصوم فهم لا يضعون أيديهم أو أيديهما على هذا الشيء، ويأتي كل منهما بدعوى تعارض الأخرى، وهذا هو الاحتمال الثاني. الاحتمال الثالث: هو التعارض في الدعويين بين ذوي اليد، بمعنى: أن يكون الشيء في يد الإنسان الاثنين معًا، ويدعي كل منهما أن الشيء ملك له وحده دون صاحبه. وسوف نبحث هذه الاحتمالات الثلاثة: الأول: تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد، يعني: تعارض الدعويين بين من يضع يده على الشيء وبين إنسان آخر لا يضع يده على شيء، وفي هذه الحالة: اختلف الفقهاء.
فذهب الحنفية والحنابلة إلى التفصيل الآتي: 1 - إذا كانت الدعوى من الخارج على ذي اليد بدون تاريخ، ففي هذه الحالة بينة المدعي، وتسمى بينة الخارج أولى بالقبول؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)) فجعل جنس البينة على المدعي فلا يأبه لبينة ذي اليد، يعني: الحائز؛ لأنه ليس بمدعٍ فلا تكون البينة حجته، والدليل على أنه ليس بمدعٍ عدم انطباق وصف المدعى عليه؛ لأن المدعي هو من يخبر عما في يد غيره لنفسه والموصوف بهذه الصفة هو الخارج وليس ذو اليد؛ لأنه يخبر عما في يد نفسه لنفسه، فلم يكن مدعيًا وإنما هو مدعى عليه، فلا تكون البينة حجة له، فتعد بينته لاغية، ولا يعتد بها، وأيضًا لأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل، ودليل كثيرة فائدتها أنها تثبت شيئًا لم يكن، وبينة المنكر إنما تثبت أمرًا ظاهرًا تدل اليد عليه، فلم تكن مفيدة، أي: أن بينته لا تفيد أكثر مما تفيد اليد أي الحيازة فقط. 2 - إذا كانت البنيتان مؤرختين وتاريخهما سواء، يعني: اتفقتا في التاريخ، ففي هذه الحالة يقضي للمدعي الخارج، يعني: غير الحائز؛ لأنه لم يثبت صدق ملك أحدهما، إذ أنه بطل اعتبار الوقتين للتعارض، فبقي الحال حال دعوى ملك المطلق كالصورة الأولى. 3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، أي: إذا كان تاريخ أحد الدعويين أسبق من الآخر، ففي هذه الحالة يقضي للأسبق، يقضى للأسبق وقتًا أيهما كان عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد؛ لأن بينة صاحب الوقت الأسبق أظهرت الملك له في وقت لا ينازعه فيه أحد؛ فيثبت له الحق في موضوع النزاع، إلا أن يثبت الآخر سببًا لنقل الملكية له.
4 - إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، أي: إذا أرخ أحدهما دعوته، ولم يؤرخ الآخر دعوته، ففي هذه الحالة يقضى للخارج، يعني: غير الحائز عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الملك المطلق يحتمل التأخير والسبق؛ لجواز أن صاحب البينة المطلقة لو وقت بينته كان وقتها أسبق فوقع الاحتمال في سبق الملك المؤقت، وإذا حصل الاحتمال في شيء سقط اعتباره فيسقط اعتبار الوقت، وتبقى الدعوى دعوى ملك المطلق فيقضي للخارج. وقال أبو يوسف يقضى لصاحب البينة المؤرخة؛ لأن بينة صاحب الوقت أظهرت الملك له في وقت معين خاص به، لا يعارضها فيه بينة مدعي الملك المطلق بيقين، بل تحتمل بينته المعارضة وعدمها، والمعارضة لا تثبت بالشك، فبقيت بينة صاحب التاريخ سالمة عن المعارضة، فيقضى له. هذا هو التفصيل الذي ذهب إليه الأحناف والحنابلة. وننظر الآن إلى ما ذهب إليه المالكية والشافعية في هذا الموضوع، فنقول: ذهب المالكية والشافعية في هذه الصور المتعددة إلى: أنه تقدم بينة صاحب اليد -أي: الحائز- وتسمى بينة الداخل، قال: تقدم بينته على الإطلاق دون نظر إلى ما إذا كانت هذه الدعوى مؤرخة أو غير مؤرخة، وما إذا كانت مؤرخة، وأحدها سبق الآخر أم لا، قالوا: تقدم بينة صاحب اليد، وتسمى بينة الداخل على الإطلاق؛ لأنهما استويا في إقامة البينة، فتعارضت البينتان، وترجحت بينة صاحب اليد بيده، أي: بحيازته، كترجيح أحد الحديثين المتعارضين بالقياس، فيقضى بالشيء لصاحب اليد، وأيضًا: لأن بينة المدعى عليه تفيد معنًى زائدًا على كون الشيء المدعي فيه موجودًا بيده، ولأن جانب المدعى عليه أقوى استصحابًا للأصل، فالأصل معه، وهو بقاء ما كان على ما كان، ويمينه تقدم على يمين المدعي، فإذا تعارضت البينتان وجب إيفاء أو إبقاء يد صاحب اليد على ما كانت عليه، ويقدم هو كما لو لم تكن بينة لأحد المتنازعين، ويؤيد هذا
حديث جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختصم إليه الرجلين في دابة أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة بأنها له، فقضى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للذي هي في يده. وننتقل الآن إلى الحديث عن الاحتمال الثاني في التعارض بين البينتين، وهو حال التعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد في ملك المطلق، يعني: أن الشيء في يد إنسان، ويأتي اثنان آخران يتنازعان في ملكيته، وأيديهما بعيدة عن هذا الشيء، تعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد في ملك المطلق، فنقول: إذا تنازع اثنان عينًا وهي في يد شخص ثالث، وهو منكر لها، وأقام كل منهما بينة يريد بها إثبات حقه فيها، فاختلف الفقهاء في: من يقضى له بهذه العين؟ فقال الشافعية في الأرجح تهاترت البينتان، أي: تساقطتا وبطلتا لتناقضهما، سواء أكانت البينتان مطلقتي التاريخ أم متفقتين في التاريخ أم إحداهما مطلقة عن التاريخ، والأخرى مؤرخة، فأشبه ذلك تعارض الدليلين ولا مرجح بينهما، فكأنه لا بينة ويصار إلى الحكم في القضية كما لو تداعيا، ولا بينة لواحد منهما، فيحلف كل واحد منهما يمينًا ويقضى بالشيء بينهما نصفين. وكذلك قال المالكية: تسقط البينتان، ويقضى كأنه لا بينة، فيحلف كل منهما يمينًا، ويقسم الشيء بينهما، فإن حلف أحدهما دون الآخر قضي له. والراجح عند الحنابلة: أن البينتان تسقطتان ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة فمن خرجت له قرعة حلف وأخذ العين. أما بالنسبة للأحناف فقد كان لهم تفصيل في هذه الصورة: قالوا: إذا كانت الدعوى من الخارجيين، وقامت البينتان على ملك المطلق بلا تاريخ أو كان تاريخهما متفق، والشيء في يد ثالث، ففي هذه الحالة يقضى به بينهما نصفين،
عملًا بالبينتين بقدر الإمكان صيانة لهما عن الإلغاء؛ لأن العمل بالدليل واجب بالقدر الممكن، ويؤيد ذلك: أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعير، وأقام كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به بينهما نصفين. وقالوا أيضًا: إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، فالأسبق أولى؛ لأن كلا من الخارجين ينطبق عليه وصف المدعي، فكانت بينتهما مسموعتين مقبولتين قضاءً، فترجح إحداهما بأسبقية التاريخ؛ لأنها أثبتت الملك في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى، فيؤمر صاحب اليد بتسليم الشيء المتنازع عليه إلى المقضي له، إلى أن يثبت الآخر انتقال الملكية إليه بطريق ما. وقالوا أيضًا: إن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، ففي هذه الحالة يقضى بينهما نصفين، كما ذهب إلى ذلك أبو حنيفة، ولا عبرة للتاريخ. ثم ننتقل الآن إلى الاحتمال الثالث: وهو تعارض الدعويين في ملك المطلق بين ذوي اليد، يعني: الشيء في يد شخصين معًا، وأقام كل منهما بينة أنه حق خالص له، وتعارضت البينتان، نقول: إذا كانت هناك دار يحوزها اثنان، أي: تحت يدهما، فادعاها كل منهما، وأقام كل منهما بينة على ملكيته لها منفردًا. اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعية على الصحيح عندهم: تهاترت البينتان، أي: تساقطتا وبطلتا؛ لتعارضهما، كتعارض الدليلين دون مرجح لأحدهما، فيقضى ببقاء الدار في يدهما كما كانت، إذ ليس أحدهما أولى بها من الآخر. وقال الحنابلة: إذا تنازع رجلان في عين في أيديهما، وأقام كل واحد منهما بينة، وتساوت البينتان، تعارضتا، وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى -رضي الله عنه-: ((أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبعير بينهما نصفين)).
وبالنسبة للأحناف، ومسلكهم في هذا الطريق فهو كمسلكهم في الاحتمالين السابقين وهو التفصيل، فقالوا: إن أقام كل واحد من صاحبي اليد بينة أن الشيء له بدون تاريخ، فإنه يقضى بالشيء بينهما نصفين، أما إن أرخ كل واحد منهما بينته، وكان التاريخ واحدًا ففي هذه الحالة -أيضًا- يقضى بالشيء بينهما نصفين كما في الصورة الأولى، أما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق، فالأسبق الأولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا عبرة للتاريخ بالنسبة لصاحب اليد، فيكون الشيء بينهما نصفين. وأيضًا إن أرخ أحدهما دون الآخر فإنه يقضي بالشيء بينهما نصفين عند أبي حنيفة ومحمد، ولا عبرة للوقت؛ لأنه ساقط الاعتبار لوجود الاحتمال في تقدمه عن تاريخ بينة الآخر وتأخره. وقال أبو يوسف: هو لصاحب التاريخ، أي: للأسبق تاريخًا، أو للذي أرخ دون الذي لم يؤرخ. وهنا نتساءل: هل ترجح بينة أحد المتداعيين بكثرة عدد الشهود أو اشتهار العدالة؟ نقول: في الصور السابقة الذكر وغيرها من حالات تعارض البينات قرر جمهور الفقهاء: أنه لا ترجح إحدى البينتين بكثرة عدد الشهود، ولا اشتهار العدالة؛ لأن كلًا من البينتين حجة كاملة من الطرفين بالتقدير الشرع، فلا تتقوى بالزيادة، كما هو الشأن في الديات لا يختلف مقدارها باختلاف الأشخاص. قال الإمام مالك: يرجح بزيادة العدالة. وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن تعارض الدعويين والبينتين، وكيف يحل هذا التعارض عند فقهاء المذاهب كما بينا.
وسائل الإثبات.
وسائل الإثبات وننتقل الآن إلى الحديث عن القرائن، ودورها في الإثبات: فنقول: القضاء بالقرائن أصل من أصول الشرع، وذلك سواء في حال وجود البينة أو الإقرار أم في حال فقد أي دليل من دلائل الإثبات. قد تمنع القرينة سماع الدعوى، كإدعاء فقير معسر إقراض غني موسر، وقد ترد البينة أو الإقرار حال وجود التهمة مثل قرابة الشاهد للمشهود له، أو كون الإقرار في مرض الموت، وقد تستخدم القرينة دليلًا مرجحًا أثناء تعارض البينات، مثل: وضع اليد ونحوه كما عرفنا، وقد تعتبر القرينة دليلًا وحيدًا مستقلًا إذا لم يوجد دليل سواها، مثل رد دعوى الزوجة القاطنة مع زوجها بعدم الإنفاق عليها في رأي المالكية والحنابلة، قال ابن القيم: ومن أهدر الأمارات والعلامات في الشرع بالكلية فقد عطل كثيرًا من الأحكام، ووضع كثيرًا من الحقوق. تعريف القرينة: القرينة لغة: هي العلامة الدالة على شيء مطلوب، واصطلاحًا: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئًا خفيًا، فتدل عليه. ويفهم من هذا التعريف: أنه لا بد في القرينة من أمرين، الأول: أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساسًا للاعتماد عليه، الثاني: أن توجد صلة مؤثرة بين الأمر الظاهر، والأمر الخفي، وبمقدار قوة هذه الصلة تنقسم القرائن قسمين، قرائن قوية، وقرائن ضعيفة، وللفقهاء والقضاء دور ملحوظ في استنباط نتائج معينة من القرائن.
ومن القرائن الفقهية: اعتبار ما يصلح للرجال من متاع البيت عند اختلاف الزوجين في ملكيته هو للرجل، كالعمامة والسيف، وما يصلح للنساء فقط، كالحلي للمرأة بشهادة الظاهر، وملاحظة العرف، والعدل. ومن القرائن القضائية: الحكم بالشيء لمن كان في يده، باعتبار أن وضع اليد قرينة على الملك بحسب الظاهر، وإذا كانت القرينة قطعية تبلغ درجة اليقين، مثل الحكم على الشخص بأنه قاتل إذا رئي مدهوشًا ملطخًا بالدم، ومعه سكين بجوار مدرج بدمائه في مكان، فإنها تعد وحدها بينة نهائية كافية للقضاء. أما إذا كانت القرينة غير قطعية، ولكنها ظنية أغلبية، كالقرائن العرفية أو المستنبطة من وقائع الدعوى وتصرفات الأطراف المتخاصمين، فإنها تعد دليلًا مرجحًا لجانب أحد الخصوم متى اقتنع بها القاضي ولم يوجد دليل سواها، أو لم يثبت خلافها بطريق أقوى. ولا يحكم عند جمهور الفقهاء بهذه القرائن في الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا يحكم بها أيضًا في القصاص إلا في القسامة؛ للاحتياط في موضوع الدماء وإزهاق النفوس، ويحكم بها في نطاق المعاملات المالية والأحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة عنها. إلا أن المالكية أثبتوا شرب الخمر بالرائحة، وأثبتوا الزنا بالحمل لغير المتزوجة، ووافقهم ابن القيم في إثبات الزنا بالحمل، وفصل الحنابلة فقالوا: تحد الحامل بالزنا وزوجها بعيد عنها، إذا لم تدعِ شبهة، ولا يثبت الزنا بحمل المرأة وهي خلية لا زوج لها.
قال ابن القيم: نظر جمهور الفقهاء -كمالك وأحمد وأبي حنيفة - إلى القرائن الظاهرة، والظن الغالب الملتحق بالقطع في اختصاص كل واحد منهما بما يصلح له، ورأوا أن الدعوى تترجح بما هو دون ذلك بكثير، كاليد، أي: وضع اليد والبراءة، والنكول، واليمين المردودة، والشاهد واليمين، والرجل والمرأتين فيثير ذلك ظنًا تترجح به الدعوى، ومعلوم أن الظن الحاصل ها هنا، يعني الحاصل من القرائن، أقوى بمراتب كثيرة من الظن الحاصل بتلك الأشياء، وهذا مما لا يمكن جحده ودفعه. وقد نصب الله سبحانه على الحق الموجود والمشروع علامات وأمارات تدل عليه، وتبينه، ونصب على الإيمان والنفاق علامات وأدلة، واعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -من بعده- اعتبروا العلامات في الأحكام، أي: القرائن في الأحكام وأخذوا بها، وجعلوها مبينة لهذه الأحكام، كما اعتبر العلامات في اللقطة وجعلوا صفة الواصف لها آية وعلامة على صدقه، وأنها له، وجعل الصحابة الحبل علامة ودليلًا على الزنا فحدوا به المرأة، وإن لم تقر، ولم يشهد عليها أربعة، بل جعلوا الحبل أصدق من الشهادة، وجعلوا رائحة الخمر وقيئه لها آية وعلامة على شربها بمنزلة الإقرار والشاهدين. واعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- إنبات الشعر حول القبل في البلوغ وجعله آية وعلامة له، فكان يقتل من الأسري يوم قريظة من وجدت فيه تلك العلامة، ويستبقى من لم تكن فيه، وأيضًا جعل الحيض علامة على براءة الرحم من الحمل. وهكذا يبين لنا ابن القيم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- أخذوا بالقرائن، ولذلك لا مانع من الأخذ بها؛ حتى لا تضيع الحقوق.
التثبت من وسائل الإثبات.
ونكتفي بهذا القدر استودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - التثبت من وسائل الإثبات والحكم والقضاء في المملكة العربية السعودية التثبت من وسائل الإثبات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: نتحدث في هذه المحاضرة عن: مهمة القاضي في التثبت من وسائل الإثبات، فنقول: قد تكون الوسيلة لإثبات الدعوى هي الشهادة، وقد يكون غيرها من طرق الإثبات الأخرى، وكما هو مطلوب من القاضي فهم الدعوى والإجابة، واستيعاب أقوال المدعي والمدعى عليه، فكذا حالة النظر في وسيلة إثبات الدعوى، يجب عليه أن يتحرى فيها جيدًا، بل في هذه الحالة يتأكد على القاضي دقة الفهم، وصفاء الذهن. ولم كان الغالب في إثبات الدعوى يتم عن طريق الشهادة، سواء كانت مكتوبة -كالصكوك- أو ملفوظة فقد رأيت أن أقصر الحديث على استماع الشهادة، وما ينبغي للقاضي نحو الشهود عند الإدلاء بها. إذ يستحب للقاضي إذا حضر لديه الشهود أن يأذن لهم في أداء الشهادة، ولا ينبغي لهم الإدلاء بها قبل ذلك، لما ثبت في الصحيح من قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن بعدكم قومًا يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون)) أي: أنهم يؤدون الشهادة قبل أن تطلب منهم. فهذا الحديث يدل على ذم التسرع في أداء الشهادة، وذلك لخطورتها، ولأن بذلها من غير طلب يؤدي إلى الحط من مكانتها في نفوس الناس، فكان لا بد من المحافظة عليها لفظًا ومعنى، وهذا لا يتعارض مع ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن خالد الجهني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟!! الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)). فقد قال العلماء: إن هذا الحديث محمول على من عنده شهادة لإنسان بحق، ولا يعلم ذلك الإنسان: أنه شاهد، فيأتي إليه فيخبره بأنه شاهد له.
وأما كيفية إذن القاضي للشهود في أداء الشهادة فيكون ذلك بصيغة الاستفهام، كأن يقول لهم: بِمَ تشهد؟ أو يقول: من كانت عنده شهادة فليذكرها إن شاء، ولا يقول لهم: اشهدوا؛ لأنه أمر يدل على ميل القاضي لأحد الخصمين، والمطلوب من القاضي التمسك بمبدأ الحياد في المحاكمة ما أمكن. فإذا شرع الشاهد في أداء الشهادة، فعلى القاضي توجيه الأسئلة إليه التي يريد استجوابه عليها، والتي ليس لها مساس بإقامة الشهادة على وجهها: لتطابق الدعوى، والأولى: أن يترك للشاهد الفرصة الكافية للإدلاء بكل ما لديه مما يتعلق بالشهادة من غير تدخل من القاضي في ذلك بما يفيد تصحيح كلام الشاهد أو لفت انتباهه إلى تلافي ثغرات في شهادته أو تدارك فلتات لسانه، حتى إذا انتهى سأل الشاهد الآخر كما سأل الأول؛ ليعرف بذلك مواطن الائتلاف من الاختلاف. وإذا ارتاب القاضي في كلام الشهود فرقهم، وناقش كل واحد على حدة، كأن يسأل عما يتعلق بالمشهود به، ومتى تحمل الشهادة؟ وفي أي موضع؟ ومن حضر آنذاك؟ وماذا جرى عند ذلك؟ وهكذا، وبهذه الطريقة يمكن تمييز الشهادة، وإدراك مواطن الضعف عند الشهود في شهادتهم، فإن اتفقت قبل القاضي الشهادة، ثم سأل عن عدالتهم. وإن اختلفت أقوالهم رد القاضي شهادتهم، وطلب من المدعي إحضار غيرهم إن شاء. ومما ينبغي للقاضي حال أداء الشهادة أن يلتزم الحشمة والوقار، فلا يتعنت بالشهداء، بأن يقول لهم: لِمَ شهدتم؟ وما هذه الشهادة؟ أو يستقصي منهم أمورًا تشق عليهم، وتوقعهم في الحرج والمشقة، مما ليس له أهمية خاصة بالإثبات،
وكذا لا يجوز انتهار الشاهد، كأن يصرخ عليه أو يزجره، فقد يؤدي ذلك إلى تلجلجه وتلعثمه في كلامه، والتنفير من الشهادة، وكل هذا يؤدي إلى التنفير من القاضي، وعدم الإقدام على أداء الشهادة، مما يؤدي بالتالي إلى ضياع الحقوق، وكثرة المفاسد. وقد لا يستطيع الشاهد الإدلاء بما يريد أن يشهد به حفظًا عن ظهر قلب؛ لكون الشهادة طويلة أو متشعبة، وحينئذٍ: أجاز العلماء أن يكتبها الشاهد أو تكتب له ثم تتلى عليه، ويشهد بما هو مكتوب؛ لأن في استصغارها بالحفظ مشقة عليه، وفي تركه الشهادة ضياع للحق، فكان ذلك مباحًا دفعًا للحرج. وقد ذكر الفقهاء: أن مما يلزم عند ضبط الشهادة تمييز الشهود، فقالوا: إن على القاضي أن يكتب اسم الشاهد، واسم أبيه، وجده، وكنيته إن عرفت، وكذا اسم قبليته، وحرفته، ومحلته التي يسكن فيها، فإن لم يكن في هذا ما يميزه عن غيره، كأن يقع الاشتباه والتوافق بما ذكر، فلا بد من البحث عن ميزة خاصة لرفع احتمال الاشتباه، وكذا قال، أي: قال الفقهاء: إن علي القاضي أن يثبت تاريخ الشهادة، كأن يقول: في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا، ثم يحفظ هذا الضبط؛ لئلا تتعرض الشهادة إلى التزوير بالزيادة فيها أو النقصان. وما ذكره الفقهاء من تمييز الشهود يدلنا على أهمية إثبات الشخصية، وأن له أصلًا في الفقه الإسلامي، ولأهميته فقد وجد من الوسائل ما يكفل تمييز كل فرد عن غيره. ومما يدعو للعجب: ما ذكره ابن قدامة مما هو معتمد في إثبات الشخصية في هذا العصر من الصفات الخِلقية، حيث قال: فيكتب -أي أن القاضي يكتب- عن الشاهد صفات معينة، ومنها: أنه يكتب أسود أو أبيض، أو رقيق الشفتين أو غليظ الشفتين؛ ليتميز، ولا يقع اسم على اسمه.
الإعذار في وسيلة الإثبات: المراد من الإعذار قطع العذر والتلوم عمن توجه إليه. والإعذار -في اصطلاح علماء المالكية-: هو سؤال الحاكم: لمن توجه عليه أو لمن توجه عليه موجب الحكم؟ هل له ما يسقطه بقوله: أبقيت لك حاجة؟ أي أن: الإعذار المقصود به: أنه إذا حكم على إنسان أو على الخصم أو إذا وجدت هذه الأدلة أدلة الإثبات كاملة، فعلى الحاكم قبل أن يحكم عليه أن يوجه له هذا الإعذار، ويقول له: هل عندك حجة مخالفة لهذه الحجة التي أقامها هذا الخصم؟ هل عندك ما تجرح به هذه الشهادة؟ ... إلى غير ذلك. وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على أن إيقاع العقوبة لا يكون إلا بعد قطع الحجة بانتفاء العذر عمن استحق العقوبة، فمن ذلك قوله تعالى في قصة الهدهد: {لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (النمل: من الآية: 21) وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: من الآية: 15) وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (طه: من الآية: 134) وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: الآية: 165). فهذه الآيات تدل على أن من أصول العدل عدم إيقاع العقوبة ممن استحقها إلا بعد إعذاره ليأتي بما فيه خلاصه، فإن لم يأتِ به كان في ذلك تبرير لإنزال العقوبة به، وكذا الحكم فإنه لا يصح إلا بعد الإعذار فيه لما فيه من نوع العقوبة باعتبار المحكوم عليه.
محل الإعذار: يظهر من كلام العلماء: أن الإعذار إنما يكون في الشهادة، حيث قالوا: والإعذار إنما هو على الظنون، والتهمة للشهود، وهذا ما يشير إلى: أن محل الإعذار إنما هو في الشهادة، ولعل ذلك من حيث الواقع العملي، فإن الشهادة هي أوسع الطرق في الإثبات. ولكن: إذا نظرنا إلى علة الإعذار في الشهادة نجد أنها لا تختلف عنها في غيرها من طرق الإثبات، فكما أن الطعن في الشهادة بالتزوير محتمل فكذا يحتمل الطعن في غيرها بالتزوير، كالمستندات والقرائن وما أشبهها؛ لذا كان من حق المحكوم عليه -كما يراه البعض- الإعذار إليه في كل ما قدمه الطرف الآخر من الحجج الشرعية ووسائل الإثبات وله الطعن المقتول في ذلك. ثم إن العلماء استثنوا بعض الأحوال التي لا يجدي فيها الإعذار، والتي قد يكون الإعذار فيها طريقًا إلى استفحال الشر، وانتشار الفساد، فمن تلك الأحوال: 1 - كل من قامت عليه بينة بفساد أو غصب أو تعدٍ، إذا كان من أهل الفساد الظاهر أو من الزنادقة المشهورين بما ينسب إليهم، وذلك لأن الإعذار إليهم سبيل إلى نشر الفساد من غير فائدة مرجوة؛ ولذا لا يعذر إليهم. 2 - كل من قامت عليه الشهادة بما وقع فيه من الإقرار أو الإنكار في مجلس القاضي، وذلك لمشاركة القاضي للشهود الحاضرين، فإنه يلزم من الإعذار فيهم إعذار القاضي في نفسه. 3 - وكذا: من استفاضت عليه الشهادات بسبب شرعي أو بإضرار أحد الزوجين للآخر؛ لأن الإعذار لا يفيد مع استفاضة الشهادات، فلا يمكن تجريح الجميع كما لا يمكنه الإتيان بما يسقط به شهادته.
وقت الإعذار: والإعذار لا يكون إلا بعد استيفاء الشهود وتمام النظر؛ لأن الإعذار في شيء ناقص لا يفيد شيئًا، وأما وقت الإعذار ففيه قولان -كما ذكره علماء المالكية-: القول الأول: أنه قبل الحكم، وهذا يعني: أن القاضي إذا نظر في الدعوى والحجج أعذر فيه إلى من يراد الحكم عليه وعلى هذا القول العمل عند المالكية. القول الثاني: أن الإعذار يكون بعد صدور الحكم. والظاهر: أن القول الأول هو الصواب؛ لأن الهدف من الإعذار هو فيما إذا كان للمحكوم عليه ما يبطل به حجة المحكوم له، فكان الأولى في ذلك أن يكون الإعذار من أقرب الطرق دفعًا للضرر عن الطرفين، وأما على القول الثاني -القائل بأن الإعذار يكون بعد صدور الحكم- فيكون ضرره أكبر من نفعه؛ لأن الإعذار بعد الحكم يؤدي إلى ضياع الفرصة على المحكوم عليه في إدراك حقه، ثم إن فيه احتمال التصرف بالمحكوم به إذا كان قابلًا للتصرف. لذا أرى: أنه لا مانع من كونه بعد سماع الشهادة وقبل التعديل؛ لأنه مع احتمال تجريح الشهادة، فلا فائدة من تعديلهم؛ حيث يقدم الجرح على التعديل عند العلماء؛ لأن الجرح يفيد زيادة الإطلاع ما لم يتضمن التعديل نفي تلك الزيادة، كأن يكون الشاهد تاب مما جرح به، فحينئذٍ يقدم التعديل. والحاصل من هذا: أن يراعى بما هو أولى في وقت الإعذار لجلب المصلحة للطرفين. نتيجة الإعذار والتأجيل فيه: الإعذار قد يكون من حق المدعى عليه لإبطال الدعوى الأصلية، وقد يكون من حق المدعي لإبطال دعوى الدفع، كما قد يكون من حق المدعي عليه -أيضًا-
الحكم.
لإبطال الدفع، فليس الإعذار مخصوصًا بالمدعى عليه. ولا يخلو المعذور إليه من إحدى حالتين: الحالة الأولى: أن ينفي وجود العذر فيما قام ضده من حجة أو شهادة، وفي هذه الحالة يحكم عليه القاضي بعد نفي العذر مباشرة. الحالة الثانية: أن يدعي العذر فيما قام ضده، وفي هذه الحالة قد لا تكون بينة العذر قائمة، فله طلب التأجيل لإحضارها، فقد ورد في رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- قوله: ومن ادعى غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا، أي: أجلًا ينتهي إليه، فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر. وأما مدة التأجيل: فإنها تختلف باختلاف القضايا والأحوال والظروف؛ ولذلك ذهب العلماء إلى أن ضرب الأجل مصروف إلى اجتهاد الحاكم بحسب حسن النظر في أمر الخصمين وليس فيه حد محدود لا يتجاوزه، إنما هو للاجتهاد. الحكم ونتكلم الآن عن الحكم في القضايا، فنقول: إن النتيجة الأخيرة في عملية القضاء والمحاكمة بعد إجراء الدعوى على أصولها الشرعية هي إظهار الحكم الشرعي على حسب ما يتبين للقاضي، وهذا إذا لم تنتهِ بعارض كالصلح أو التنازل أو نحو ذلك، ولكي يحكم القاضي في القضية يقتضي الحال أن يحيط بأمور ثلاثة: الأول: معرفته بالدليل الشرعي الثابت بالكتاب أو السنة أو المستنبط منهما. الثاني: معرفته البينات التي يتضح بها طريق الحكم عند التنازع.
الثالث: معرفته بسبب الحكم، وشروطه، وموانعه، وهذا يعلم بالحس أو الخبر أو العادة، ومعرفة هذا الأمر يؤدي إلى بيان صلاحية الحكم في المحل المعين، أو انتفائه عنه، ومتى أخطأ في واحد من هذه الأمور أخطأ في الحكم. ويقصد بالحكم في اللغة: القضاء في الشيء بأنه كذا أو ليس بكذا، أما في الاصطلاح فعرفه بعض العلماء بأنه: أمر نفساني يعبر عنه تارة بالقول، وتارة بالفعل، وتارة بالإشارة. وهذا يعني أن الحكم غير القول والفعل والإشارة، وإنما هذه الأمور دالة عليه. أنواع الحكم: للحكم أنواع كثيرة من وجوه عدة، ولكن أهمها نوعان: النوع الأول: الحكم بالصحة، وهو الحكم بصحة التصرف في المحكوم به، وهذا النوع يرد على التصرفات من عقود وغيرها، وهو أعلى درجات الحكم لاستكمال شروطه، وهي: ثبوت ملك المالك، وحيازته للشيء المتصرف فيه، وأهلية المتصرف، وصحة التصرف. النوع الثاني: الحكم بالموجب، وهو الحكم بالآثار المترتبة على التصرف على من صدر منه التصرف بموجب ذلك التصرف، وهذا النوع لا يشترط فيه ثبوت الملك للمتصرف، وإنما يكتفى بشرطين: أهلية التصرف، وصحة صيغته، وإنما جاز الحكم بالموجب مع عدم ثبوت الملك لأنه قد يعسر إثبات الملك، فإن تبين بعد ذلك عدم الملك وجب نقض الحكم.
شروط الحكم: لكي يكون الحكم صحيحًا ومعتبرًا للتنفيذ اشترط الفقهاء لذلك شروطًا نذكر منها ما يلي: أولًا: أن تتقدمه دعوى صحيحة، ويشترط هذا لصحة الحكم في حقوق العباد، إذا الحكم في حقوق العباد لا يجوز إلا بمطالبة ممن يدعي الحق، وهذا بخلاف الحكم في حقوق الله تعالى، فلا يتوقف على هذا الشرط، وذلك لصحة الحكم فيها من غير مطالبة؛ لأن تحصيلها واجب على الكل من حاكم وغيره. ثانيًا: يشترط أن يكون الحكم بلفظ يفيد الإلزام، كأن يقول: حكمت أو قضيت أو أنفذت عليك القضاء، وهكذا. وقد اختلف الفقهاء في بعض الصيغ: هل تفيد الإلزام أم لا؟ كقول القاضي: ثبت عندي أن لهذا على هذا كذا، أو قوله: ظهر عندي أو صح عندي أو علمت ونحو ذلك، فذهب بعض الأحناف والمالكية والشافعية إلى: أن هذه الصيغ لا تدل على الإلزام، فلا تكون حكمًا، ولذا قال بعض علماء الأحناف: لا بد أن يقول القاضي في حكمه: حكمت أو قضيت أو أنفذت عليك القضاء. وذهب بعض الأحناف إلى أن الصيغ المتقدمة المختلف فيها تفيد الحكم كالصيغ المتفق عليها، ولكن الأولى: أن يبين أن الثبوت بالبينة أو الإقرار؛ لأن حكم القاضي بالبينة يخالف الحكم بالإقرار، والذي يظهر أن الأولى ما ذهب إليه الجمهور لوجاهته، أي: أنه لا بد من صيغ معينة، كقوله: قضيت أو حكمت، وذلك لوجاهة هذا الرأي، ووجاهة تعليلهم لذلك، ولأن الصيغ المختلف فيها لا تدل على الإلزام بطريق يرفع الاحتمال والإيهام بعدم الانتهاء بالحكم، فكان الأولى التمييز بما يفيد القطع والإلزام، كقوله: حكمت أو قضيت ونحو ذلك.
ثالثًا: يشترط أن يكون الحكم واضحًا، فلا بد من تعيين المحكوم به، وكذا تعيين المحكوم له، والمحكوم عليه بصورة واضحة ترفع أي احتمال أو اشتباه؛ لأن الحكم إذا كان مبهمًا أو فيه إيهام لم يمكن تنفيذه، وبالتالي لم يكن قاطعًا للنزاع بين الخصوم. رابعًا: يشترط في الحكم أن يتقدمه إعذار لقطع حجة المحكوم عليه، وهذا شرط لصحة الحكم كما هو منصوص عليه عند المالكية. خامسًا: يشترط حضور الخصمين مجلس الحكم عند صدور حكم القاضي، إلا أن يقوم على المحكوم عليه موجب الحكم، ثم يغيب فيكون حضوره وغيابه سواء، كما إذا أقر بالمدعى به، ثم غاب قبل الحكم فإنه يحكم عليه، وإذا كان هذا الشرط على ما ذهب إليه الأحناف في عدم الحكم إلا بحضور الخصم، وذلك لمنعهم القضاء على الغائب أو له إلا في بعض الحالات. إلا أن هذا الشرط يجب اعتباره إذا لم تتوفر شروط الحكم في القضاء على الغائب، والتي اشترطها المجيزون غير الأحناف. سادسًا: أن يكون الحكم القضائي الصادر طبقًا لحكم الدليل المقتضى شرعًا في الواقعة المحكوم فيها، وهذا يقتضي ألا يكون الحكم الصادر مخالفًا للكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي، وهو ما قطع فيه بإلحاق الفرع بالأصل. وهذا الشرط من أهم شروط الحكم، بل أهمها؛ لأن الخطأ فيه يوقع في الظلم قطعًا. وتطبيق هذا الشرط يستوجب من القاضي معرفة وجه الحكم، من حيث تصوره لكلام الخصمين، وأحوال الواقعة المطروحة، فإن لم يعرف الوجه لعدم فهم
الواقعة لزمه إعادة النظر حتى يتبين له ذلك صراحة، فإن اشتبه عليه الأمر والتبس عليه حكمه، كأن لم يقف على أصل النازلة في كتاب ولا سنة ولا غير ذلك، أو شك: هل هي من أصل كذا أو أصل كذا؟ أو تجاذبها أصلان؟ ولم يترجح أحدهما؟ شاور أهل العلم، فإن بقي الإشكال فالأولى في ذلك الصلح، وهذا فيما يمكن فيه الصلح لا فيما يمكن فيه الصلح كالطلاق. أسباب الحكم: لا شك أن العلم بأسباب الحكم أمر أساسي لنظر أية دعوى تستوجب الحكم فيها، غير أن الفقهاء لم يذكروا أسباب الحكم كشرط من شروطه، ولعل ذلك لأهميتها، ولكونها أمرًا بدهيًّا، تعتبر قاعدة وأصلًا للحكم، وهذا فيما يخص القاضي عند الحكم. وأما من حيث دعم الحكم بأسبابه عند البيان أو إحاطة المحكوم عليه به: فقد استحسن الفقهاء فعل ذلك. يقول الإمام الشافعي: وأحب للقاضي إذا أراد القضاء على غيره أن يجلسه ويبين له، ويقول له: احتججت عندي بكذا، وجاءت البينة عليك بكذا، واحتج خصمك بكذا، فرأيت الحكم عليك من قبل كذا، ليكون أطيب لنفس المحكوم عليه، وأبعد عن التهمة، وأحرى: إن كان القاضي غفل عن ذلك عن موضع فيه حجة أن يبينه، فإن رأى فيها شيئًا يبين له أن يرجع، أو يشكل عليه، أن يقف حتى يتبين له، فإن لم ير فيها شيئًا أخبره أنه لا شيء له فيها، وأخبره بالوجه الذي رأى: أنه لا شيء فيها وإن لم يفعل جاز حكمه، غير أنه قد ترك موضع الإعذار إلى المقضي عليه عند القضاء.
ونقل عن بعض فقهاء الشافعية تصريحهم بأن قاضي الضرورة، وهو من ولي القضاء دون أن تتوفر فيه الشروط المطلوبة لصحة تولية القضاء، يلزمه بيان مستنده في سائر أحكامه، ولا يقبل قوله حكمت بكذا من غير بيان مستنده فيه، وإذا كان هذا مستحسنًا عند الفقهاء، وقد يكون لازمًا في بعض الأحوال، فإنه مما تدعو الضرورة في عصرنا الحاضر لأهميته في مراقبة أعمال القضاة، وتصديق الصحيح منها، ونقد الباطل، وهذا بالإضافة إلى ما تقدم من إدخال الطمأنينة على قلب المحكوم عليه، وإشرافه على الأمر الواقع؛ لقطع عذره، ورفع احتمال التهمة للقاضي. ومما تجدر الإشارة إليه: أن تسبيب الحكم شرط لصحته في النظم الوضعية، وأن إغفال ذلك يترتب عليه نقض الحكم وإبطاله. حجية الحكم ونفوذه: من المعلوم أن إصدار الحكم في واقعة يستلزم معرفة أسبابه، وتوفر شروطه، كما سبق، إضافة إلى الإمام بأحوال القضية وملابستها، وهذا يعني أن للظروف المحيطة بالواقعة أثرًا كبيرًا في تقدير صلاحية الحكم في الدعوى المطلوب الحكم فيها. ولا يتأتى ذلك إلا بنظر القاضي واجتهاده، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن من مرمى الحكم وإحداثه أن يكون موافقًا للحق والحقيقة، فإذا صدر الحكم قضائي وكان مقرون بأسبابه وحيثيته ومستوفيًا بشروطه السابقة كان حجة لازم التنفيذ. نقض الحكم: إذا صدر الحكم مستكملًا لوصوله الشرعية، وموافقًا ظاهره لباطنه كان حجة في الواقعة التي صدر فيها، ووجب لزومه وتنفيذه، ولا يجوز نقضه بأي حال.
ولكن الحكم قد يصدر أحيانًا مخالفًا للأصول الشرعية في الظاهر والباطن معًا، فعندئذٍ يتعين نقض الحكم. ومن الحالات التي ينقض فيها الحكم ما يلي: أولًا: إذا صدر الحكم، وكان مخالفًا لنص في الكتاب أو السنة أو مخالفًا للإجماع فإنه يجب نقضه، ويحرم تنفيذه؛ لأن الحكم في هذه الحالة يكون ظلمًا بالقطع واليقين فيما خالف الكتاب والسنة والإجماع، وما كان بهذه الصفة كان حكمًا بغير ما أنزل الله تعالى، فيجب رده، يقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} (المائدة: من الآية: 45) وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) فعلى هذا: يكون النقض لما بان مخالفته للحق، ولم يكن موضع خلاف أو محل اجتهاد، فإن كان محل اجتهاد لم ينقض، كما إذا صدر الحكم بالاجتهاد، ثم ظهر حكم يخالفه حدث باجتهاد آخر فلا يكون هذا مع قبل الأول لنقل الإجماع على ذلك. ثانيًا -أي من الحالات التي ينتقض بها الحكم-: إذا جرى الحكم على غير الأصول المشروعة المعتبرة لصحة الحكم، ولصدور الحكم على غير الأصول المطلوبة صور منها: 1 - ما يتعلق بذات الحكم، كعدم استكمال أسبابه وشروطه؛ كأن يصدر الحكم في حقوق العباد من غير سبق دعوى، فهذا الحكم ينقض لتخلف ما هو شرط في صحته، وهو الدعوى. وكذا لو صدر الحكم قبل الإعذار فإنه ينقض؛ لأن الإعذار شرط لصحته وعدم الإعذار حجة لنقضه، وكذا لو حكم القاضي قبل التعديل والتزكية للشهود، فإنه يكون حكمه منقوضًا لأن التعديل للشهود شرطًا لقبول الشهادة واعتبارها حجة.
2 - إذا صدر الحكم في دعوى لا يجوز للقاضي الحكم فيها، لتعلقها بالقاضي أو لمن له علاقة بالقاضي مما يكون سببًا في جر التهم، وسوء الظنون، كحكم القاضي على عدوه، وحكمه لنفسه أو شريكه أو أصوله كآبائه أو فروعه كأبنائه. 3 - الأحكام التي تصدر عن قضاة لم تتوفر فيهم أهلية القضاء لنقص في بعض الشروط المطلوبة لتولي القضاء، كالقاضي الجائر، والقاضي الجائر، وفيما يلي إيضاح ذلك: القاضي الجائر: إذا عرف القاضي بالجور في أحكامه، وكان غير عدل في حاله وسيرته، فإنه تنقض أحكامه جميعًا، سواء كان عالمًا أو جاهلًا ظهر جوره أو خفي؛ لأنه لا يؤمن جانبه، ولو فيما ظاهره الصواب؛ فقد يكون باطنه في الحيف والجور. القاضي الجاهل: أما القاضي الجاهل إذا كان عدلًا، فإن أحكامه تكشف بتعقبها، فما كان منها صوابًا أنفذ وأمضي، وما كان منها خطأ بينًا نقض، وقال بعض العلماء: ينقض حكمه، وإن كان خطأ مختلف فيه إذا لم يعرف بمشورته لأهل العلم؛ لأن حكمه من غير مشاورة أهل العلم حدس وتخمين، وهذا يعني: أن لمشاورة أهل العلم أثرًا في حجية الحكم، لاسيما إذا كان القاضي تنقصه أهلية العلم. وإذا صح تعقب الأحكام، ونقض ما هو محل للنقض، فهل يجب ذلك على القاضي في أحكام من سبقه؟ نقول: الظاهر من كلام بعض الفقهاء: أنه لا يجب على القاضي تعقب أحكام من كان قبله، إلا أن يتظلم إليه محكوم عليه قبله، فينظر فيما تظلم فيه، فإن كان الحكم مخالفًا للشرع أو محلًا للنقض نقضه، وإن كان مجتهدًا فيه أبقاه ولم ينقضه.
القضاء في المملكة العربية السعودية.
ثالثًا: ينقض الحكم إذا بين المحكوم عليه دفعًا صحيحًا ظهر بعد الحكم الأول، ولو كان الحكم الأول مستكملًا لأصوله الشرعية، وذلك لوجوب مراجعة الحق، مثاله: إذا ادعى أحد على الدار التي في تصرف الآخر بأنها مورثة له من والده، وأثبت ذلك، ثم بعد الحكم لو ظهر سند معمول به يبين أن والد المدعي كان قد باع الدار المذكورة إلى والد ذي اليد، فإنها تصبح دعوى ذي اليد، وإذا أثبت ذلك انتقض الحكم الأول، واندفعت دعوى المدعي. القضاء في المملكة العربية السعودية ثم نتحدث الآن عن القضاء في المملكة العربية السعودية، فنتحدث عن بعض النقاط. من أولى هذه النقاط: حالة القضاء ومنهجه، نقول: إن التنظيم القضائي في السعودية هو النظام الوحيد في البلاد العربية المستمد من الشريعة الإسلامية؛ بل إن هذا التنظيم قد سبق في كثير من جوانبه التشريعات الوضعية التي صدرت في البلاد العربية بعد استمدادها من القوانين الأجنبية بدون مراعاة الأعراف والتقاليد والتراث والشريعة والعقيدة، بينما بادرت المملكة -وبوقت مبكر- إلى إصدار نظام القضاء، ونظام المرافعات، واستمدته من الفقه الإسلامي الزاخر لتكون رائدة في ذلك. أما منهج الدولة السعودية في أخذ الأحكام الشرعية فقد صدر بذلك قرار الهيئة القضائية عدد 3 في 7/ 1/ 1347 هجرية المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24/ 3/ 1347 هجرية، ونص على ما يلي: فقرة واحد: أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقًا على المفتي به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ نظرًا لسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
فقرة (ب): إذا سار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتي به من المذهب المذكور، ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم، يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة، ويقرر السير على ذلك المذهب مراعاة لما ذكر. ونص قرار الهيئة القضائية السابق على تحديد الكتب المعتمدة في المملكة من المذهب الحنبلي، فجاء فيه: أن يكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد على الكتب التالية: (شرح المنتهى) أي: (منتهى الإرادات) لمنصور بن يوسف البهوتي ثم (شرح الإقناع). النقطة الثانية: أنواع المحاكم: تتكون المحاكم الشرعية من أربعة أنواع، هي: النوع الأول: مجلس القضاء الأعلى، ويتألف من أحد عشرة عضوًا، خمسة متفرغين بدرجة رئيس محكمة تمييز، ويختص مجلس القضاء الأعلى بالإشراف على المحاكم، وتقرير المبادئ العامة الشرعية في المسائل التي يراها وزير العدل. النوع الثاني: محكمة التمييز، وتتألف محكمة التمييز من: رئيس وعدد كاف من القضاة، وتتكون محكمة التمييز من ثلاثة دوائر، يرأس كل منها الرئيس، أو أحد نوابه.
النوع الثالث: المحاكم العامة: وتؤلف من قاضٍ أو أكثر، ويتم تأليفها وتعيين مقرها وتحديد اختصاصها بقرار من وزير العدل. النوع الرابع: المحاكم الجزئية: وتتكون من قاضٍ أو أكثر، ويكون تأليفها وتعيين مقرها وتحديد اختصاصها بقرار من وزير العدل. وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن النظام القضائي في الإسلام، وبانتهاء الحديث عن النظام القضائي في الإسلام نكون قد انتهينا من مادة السياسة الشرعية. هذا وبالله التوفيق.