السواك وسنن الفطرة - المقدم

محمد إسماعيل المقدم

السواك وسنن الفطرة [1]

السواك وسنن الفطرة [1] لقد جمعت الشريعة الإسلامية من كل شيء أحسنه، وحوت من الآداب والشمائل ما لم يجتمع في غيرها من الشرائع، وإن من محاسن الشريعة الإسلامية: اعتناؤها بنظافة الفرد المسلم باطناً وظاهراً، والتأكيد على كل ما يجعل مظهره مثالياً، ومن هذا الأمر بسنن الفطرة، كالسواك، حيث أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالمداومة عليه.

السنن والآداب مظهر من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان

السنن والآداب مظهر من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب)، رواه البخاري ومسلم، والإمام مالك في موطئه، والترمذي، وأبو داود، والنسائي. وفي رواية: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب). وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن ابن الزبير عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء)، وانتقاص الماء: هو الاستنجاء. قال زكريا: قال: مصعب: ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة. وبعض العلماء قالوا: لعل هذه التي نسيها هي الختان؛ لأنها أولى، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس من الفطرة) يوضح معنى قوله: (الفطرة خمس). وهذا يعني أن الفطرة لا تنحصر في خمس أو عشر، فهذه هي بعض خصال الفطرة، وحديثنا على خصال الفطرة لا يقتصر على مجرد أبواب من الفقه، وإنما هي إطلالة على مظاهر تكريم الإسلام لهذا الإنسان. وإذا تأملت نظرة الإسلام إلى الإنسان وتكريمه واحترامه، تجد فيها مصداق قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، فما هو في الحقيقة إلا مظهر من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان، وتعظيم حرمته، ورفع شأنه ومكانته. وهذه الآداب والسنن كانت تنتشر مع الإسلام حيثما انتشر وسطع نوره في آفاق الدنيا، كما هو الحال في أوروبا؛ حيث إن الأوروبيين لم يكونوا يعرفون عادة الاستحمام الذي يعتبر شيئاً طبيعياً جداً عند المسلمين، ولم يكن الأوربيون يظنون أن الإنسان يمكن أن يستحم في بيته. فتزامن انتشار عادة الاستحمام في الغربيين مع الوجود الإسلامي في الأندلس -تلك الجنة المفقودة- لما كان الطلاب الأوربيون يفدون إلى الأندلس ليتعلموا من المسلمين، كانوا يقتبسون منهم من الفضائل هذه العادات وهذه النظافة، فهم يعترفون بهذا، وكثيراً ما يتحدثون، بل حتى هذا الزمان الذي نعيش فيه أجريت عدة إحصائيات ودراسات في فرنسا، فوجدوا أن أغلب الفرنسيين لا يستحمّون مرة واحدة في العام، ثم قال الباحث -وهو كافر مشرك-: إن هذا هو سر تفوق الفرنسيين في صناعة العطور، حتى يكتموا بها رائحتهم الخبيثة؛ التي تتراكم خلال سنة كاملة. حتى أنك إذا نظرت في الأحواض عندهم في كثير من البلاد -كألمانياً مثلاً أو غيرها- تجد أن الحوض عبارة عن خلاط ماء لا يختلط فيه الماء الساخن بالبارد، لكن الحوض يكون فيه سدادة، ثم ماسورة مستقلة للماء البارد، وماسورة مستقلة للماء الساخن. وقد تستغرب كيف تستعمل هذا الماء؟ حتى إن الإنسان أحياناً يحار كيف يتوضأ؟ لأنك إذا استعملت الماء البارد يكون بارداً جداً، وإذا استعملت الماء الساخن يكون ساخناً جداً، وكلاهما لا تستطيع أن تستعمله، فهم يفعلون ذلك؛ لأن النظافة عندهم هي أن أحدهم في الصباح إذا أراد أن يغسل وجهه يملأ الحوض بالماء، ويخلطه في نفس الحوض، ثم يغسل وجهه فيه، وانتهى كل شيء!! هذه هي النظافة عندهم، بل يسخرون أحياناً من المسلمين لما هم عليه من آداب التخلي والاستنجاء والتنظف التي لا يعرفون لها معنى. وهذا من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان، وهذا السلوك الذي عليه الأوروبيون أو الغربيون الكفار ربما يكون صدىً لكلام أسلافهم الذين مضوا من قبل، وقد تكرر تصادم الديانة النصرانية المحرفة مع الفطرة، وكيف أنهم حمّلوا أنفسهم ما لا يحتملون، حتى أنهم صاروا يتعبدون بأن يأتي أحدهم إلى بئر ماؤه مالح ويمكث فيه ستة أشهر أو سنة، وهو يظن أن هذه عبادة، أو يحمل أحدهم ثقلاً كبيراً جداً من الحديد ويقف على رجل واحدة، وإذا أراد أن ينام يسند ظهره إلى حائط! كل هذا من تعذيب النفس الذي كان عندهم، وهذه صورة من صور التعبد التي كانت عندهم، كما اقتبسه منهم بعض الصوفية الجهلاء، فيقول أحدهم متحدثاً عن واحد من أشهر رهبانهم: إنه لم يقترف إثم غسل رجليه طول عمره! وكان بعض هؤلاء الرهبان يتحسر على عدم اتباع سيرة أسلافه الذين مضوا، فيقول: لقد أتى علينا زمان كنا نتأثم أن يغسل أحدنا ثوبه أو رجليه -ثم يقول متحسراً متأسفاً- وها نحن الآن ندخل الحمامات. فهو يندم على هذا، ويعتبره من مظاهر الانحراف عن الجادة! الشاهد: أن هذه السنن والآداب من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان. إذا تأملت الإسلام من أي زاوية فإنك تجد عظمة لا مثيل لها، وتجد الأدلة قاطعة على أن هذا دين الله، ولا يمكن أن يأتي دين بأفضل مما جاء به هذا الدين، فضلاً عن أدلة صدق النبوة الكثيرة، وأدلة إعجاز القرآن وغير ذلك، لكن حتى هذه الأحكام الجزئية تجد أنها متفقة تماماً مع الفطرة، ولو تُرك الإنسان لفطرته التي فطره الله عليها فإنه سيهتدي بهذه الفطرة إلى هذه السنن، ولو لم يتعرض الإنسان لمؤثرات البيئة من حوله كتقليد الآباء والأجداد وغيرهم ممن حوله لو خُلّى عن هذه المؤثرات البيئية المنحرفة، وبقي على فطرته التي فطره الله عليها حتى لو لم يطلع على هذه الشرائع يجد بمقتضى هذه الفطرة أنه ينبغي أن يقص أظافره، ويعفي لحيته، فإن استقرت فطرته اهتدى لهذه الأشياء حتى لو لم يدله عليها أحد، إلا أن تغير هذه الفطرة السوية سببه مؤثرات البيئة الفاسدة من حوله. إذا تأملت الإسلام من أي النواحي فإنك تجد فيه هذه العظمة، وتجد هذه النظافة وهذا التكريم للإنسان، وهذا هو معنى التكريم؛ لأن الإنسان له قيمة وحرمة عظيمة في الإسلام، فالهيئة البشرية الكاملة هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فكل ما خلقه الله تبارك وتعالى في جسد الإنسان هو فطرة الله تبارك وتعالى، ما عدا ما أمر الشرع بإزالته فإن إزالته هو الفطرة، وما شرع إلا لحكم عظيمة يعلمها الله تبارك وتعالى، فحينئذٍ الأصل أن كل هيئة خلق عليها الإنسان هي فطرة الله التي فطره عليها، فينبغي أن يحافظ عليها ولا يغيرها. هذه الفطرة تشمل جانبين: الجانب الحسي البدني، والجانب القلبي الذي يشتمل على: العقيدة والتوحيد. فإن الإنسان إذا خلا عن مؤثرات البيئة الفاسدة فإنه يهتدي بقلبه إلى توحيد الله تبارك وتعالى؛ لأنه مفطور على التوحيد والإقرار بالله عز وجل؛ ولذلك فإن أقوى وأسهل دليل نستطيع أن نقيمه على وجود الله تبارك وتعالى هو الفطرة؛ بحيث أن الإنسان سوي الفطرة لا يحتاج أبداً لهذا السؤال، ويجد أن قلبه يقرّ بذلك ويسلم به ويوقن به دون أن يخوض في المباحث الكلامية أو الفلسفية، فالإنسان بفطرته يهتدي إلى التوحيد، وبفطرته يهتدي إلى هذه الصورة السوية للكمال البشري، وهي الصورة التي خلقه الله عليها، إلا ما أمر الشرع بإزالته فإن إزالته هو من الفطرة.

معنى الفطرة

معنى الفطرة ذكر العلماء أن أصل الفطر: الشَّقّ طولاً. ويطلق أيضاً على الاختراع. قال أبو أسامة: أصل الفطرة: الخلقة المبتدئة، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:14]، أي: الذي ابتدأ خلقهن. وقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفي هذا إشارة إلى قول الله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]. فالمعنى: أن كل أحد لو تُرك كما كان وقت ولادته لأداه نظره إلى الدين الحق وهو التوحيد، ويؤيده أيضاً قوله تبارك وتعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ)). وإليه الإشارة أيضاً في حديث عقبة الذي ختنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)، فدل على أن الإسلام هو دين الفطرة؛ لأنه لم يقل: أو يسلّمانه، وهذا يعني أن الأصل في الإنسان أنه يولد مسلماً مهيئاً لقبول دعوة التوحيد. قال بعض العلماء: إن الفطرة تعني أحياناً: السنّة، أي: سُنّة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، والتي أمرنا أن نقتدي بهم فيها.

حكم سنن الفطرة

حكم سنن الفطرة يقول الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى في شرحه على الموطأ: عندي أن الخصال المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة؛ فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين؟! فهذا مذهب الإمام أبو بكر العربي، وهو حق؛ فلو تخيلت إنساناً مكث سنوات طويلة دون أن يقلم أظفاره، تخيل إنساناً أو امرأة بمثل هذه المخالب! ولا تسمى أظافر في هذه الحالة، بل هذه كمخالب الوحوش والأسود الجارحة أو الحيوانات المفترسة! ثم تأتي أحياناً المرأة فوق ذلك وتخضبها أيضاً بالأحمر، فكأنها لوثت بدماء الفريسة! وهذا شيء تنفر منه الفطرة، فكيف ترى النساء مثل هذه القبائح على أنها أموراً جميلة؟! يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ تخيل إنساناً ترك شاربه حتى يطول وينسدل إلى كتفيه كما ترى في المناظر القبيحة لبعض أئمة الكفر، ونحو هذه الأشياء لو تخيل الإنسان أنه لم يتناوله بهذا التنظيم الإسلامي لما بقيت صورته على صورة الآدميين، فكيف يكون من جملة المسلمين أهل النظافة والعفاف والتقى؟! لكن بعض العلماء تعقبوا قول القاضي أبو بكر بن العربي، فقالوا: ليست كل هذه الخصال واجبة لكن المطلوب من هذه الأشياء تحسين الخلقة والنظافة. فما كان من الفطرة ومن باب تحسين الخلقة فلا يحتاج إلى أن يأمر به الشارع ويوجبه على الإنسان، فمجرد الندب والإرشاد إليها كافٍ؛ لأن الإنسان بمقتضى فطرته يؤدي هذه الأشياء. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: ذهب أكثر العلماء إلى أنها -أي: الفطرة-: السنّة. ومعناه: أنها من سنن الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقيل: هي الدين. وقال السيوطي رحمه الله تعالى: وأحسن ما قيل في تفسير الفطرة: أنها السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه. وهذا أحسن ما قيل في تفسير الفطرة. وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى في معنى الفطرة: هي ما جبل الله الخلق عليه، وجَبَلَ طباعهم على فعله، وهي كراهة ما في جسده مما هو ليس من زينته، يعني: أن الإنسان يكره أشياء في جسده تنافي الزينة، وتنافي النظافة والتطيب.

أقسام الفطرة

أقسام الفطرة يقول الإمام المحقّق شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله، ومحبته وإيثاره على ما سواه. وفطرة عملية، وهي هذه الخصال؛ فالفطرة الأولى تزكي الروح، وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن، وكل منهما تمد الأخرى وتقويها، وكان رأس فطرة البدن الختان. ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: فيتعلق بخصال الفطرة مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع، منها: تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلاً والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعُبّاد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64]، لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل: قد حُسّنت صوركم -أي: أن الله خلقنا وحسّن صورنا- فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر من حسنها. وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب؛ لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة كان ذلك أدعى لانبساط النفس إليه، فيقبل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس.

السواك

السواك قال في منار السبيل: (باب السواك). الباب لغة: المدخل إلى الشيء والطريق الموصل إليه، واصطلاحاً: اسم لجملة من العلم، تحته فصول ومسائل متفرعة. قوله: (باب السواك) أي: باب السواك وما ألحق به من الادهان والتطيب وخصال الفطرة، وكلمة (السواك) تطلق على معنيين: الأول: تطلق على الفعل نفسه، فيقال: التسوك، أو الاستياك، أو الاستنان. الثاني: تطلق على الآلة نفسها، فيقال: سواك أو مسواك.

حكم السواك

حكم السواك قال: (يسن بعود رطب لا يتفتت) قوله: (يسن) فيها حكم السواك وأنه سنة مؤكدة مطلقاً. وقوله: (بعود رطب). الرطب: ضد اليابس، وهو العود الأخضر، فهو يكون أبلغ وأجود في الإنقاء، قال العلماء: وأجود ما يستعمل إذا كان مبلولاً بماء الورد، ثم بالماء من أراك أو زيتون أو عرجون أو غيرها. وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك بعود أراك). أراك: واحدته: أراكه، بالهاء. يقول الألباني عن هذا الحديث: لم أجده بهذا اللفظ، لكنه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (كنت أجتني لرسول صلى الله عليه وسلم سواكاً من الأراك)، وحديث ابن مسعود هنا يغني عن الحديث المذكور قبله. وهو مسنون مطلقاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب). لك أن تقول: مَطهرة أو مِطهرة، بفتح الميم أو بكسرها، وهذا الحديث صحيح، رواه الإمام أحمد. قال في الشرح: ولا نعلم في استحبابه خلافاً، ولا نعلم أحداً قال بوجوبه إلا إسحاق، وداود والإمام النووي رحمه الله يقول: هذا النقل عن إسحاق غير معروف، ولا يصح عنه. فلا يصح عن إسحاق أنه قال بوجوب السواك، واستدل داود بأنه مأمور به أي: أن داود الظاهري رحمه الله يرى أن السواك واجب؛ لأنه مأمور به، وظاهر الأمر الوجوب. وأدلّة الأمر بالسواك مصروفة عن ظاهرها الذي يقتضي الوجوب إلى الاستحباب، والدليل الصارف عن الظاهر هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). متفق عليه، وفي الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة)، وهذا الحديث حسنه الألباني، وهذا الحديث مصروف عن ظاهره وهو الوجوب إلى الاستحباب بدليل قوله في الحديث الآخر: (لولا أن أشق على أمتي)؛ لأنه لو كان واجباً لأمرهم به، فلما لم يأمرهم دلّ على أنه مستحب فقط. يكره التسوك للصائم من بعد الزوال حتى تغرب الشمس، وينبغي أن نفهم معنى قوله: (حتى تغرب الشمس) حيث قيدها بهذه العبارة؛ وذلك إبقاءً على رائحة خلوف فم الصائم التي هي أطيب عند الله من ريح المسك، وأنه أثر عبادة مستطاب، فلم تستحب إزالته كدم الشهداء. لكن هذا القول مرجوح، والراجح خلافه؛ لأن السواك مرضاة للرب، وهي أطيب من ريح المسك، وعموم النصوص الآمرة بالسواك لم تخص وقتاً دون وقت؛ لأن مصدر خلوف فم الصائم هو المعدة وليس الأسنان، فسواء تسوّك أم لم يتسوك، فإن الخلوف لا يزيله التسوك، بل يبقى ما دام الإنسان جائعاً. وقد وقع الخلاف في حصول السواك بغير العود، فكل ما يحصل به الإنقاء يُعدّ سواكاً وأفضله عود الأراك المشهور، لكن من استاك بغير عود وحصل الإنقاء فإنه يعتبر سواكاً، سواء كان التسوك بفرشاة أو بغيرها مما يمكن به الإنقاء. ويتأكد السواك عند الوضوء، أي: في حالة المضمضة، وحتى لو تيمم فينبغي له أن يستاك، وحتى لو كان فاقداً الطهرين -التيمم وبالماء- فإنه أيضاً يستاك. وينبغي التسوك عند أي صلاة فرضاً كانت أو نفلاً، وإن لم يتغير الفم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). وفي رواية: (لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء). فقوله: (مع كل وضوء)، فيه دليل على أن الاستياك سنة من سنن الوضوء، لا أنه سنة مستقلة عن الوضوء، كما هو واضح من قوله: (مع كل وضوء)، لكنه في غير الوضوء يعتبر سنة مستقلة بذاتها.

الأحاديث الواردة في فضل السواك

الأحاديث الواردة في فضل السواك قبل أن نمضي في دراسة هذا المتن أو النص الذي ذكره الشارح نمر سريعاً على بعض الفضائل والتنبيهات التي تتعلق بالسواك. السواك سنة من السنن المؤكدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وإن كان بعض العلماء قال بوجوبه- ومما ثبت من فضيلة السواك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء). والسواك: يطلق على الآلة نفسها وهي العود الذي يستعمل، أو على الفعل، فيقول عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة). قوله: (لأمرتهم) يدل على أنه لو أمر به لوجب، فيؤخذ من هذا دليل على صحة القاعدة: أن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب. فالأصل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم -على الأرجح- أنه يجب التزامه. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع الوضوء عند كل صلاة)، رواه ابن حبان. وفي حديث ابن حبيب بلفظ: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضأون). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً: (أنه بات عند نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل، فخرج فنظر في السماء، ثم تلى هذه الآية في آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] حتى بلغ: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]، ثم رجع إلى البيت فتسوك، فتوضأ، ثم قام فصلى، ثم اضطجع، ثم قام فخرج، فنظر إلى السماء، فتلى هذه الآية، ثم رجع فتسوك فتوضأ، ثم قام فصلى) رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أكثرت عليكم في السواك). رواه البخاري. وعن أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة)، فكأن هذا كان أولاً للوجوب، ثم صار للاستحباب. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفاً). وهذا الحديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العِشاء، والسواك عند كل صلاة). وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك)، رواه مسلم. وعن المقداد بن شريح عن أبيه قال: قلت لـ عائشة: بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل البيت؟ قالت: بالسواك. فينبغي للإنسان متى اتضح وثبت له شيء من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستحضر النية حالاً ويمتثل هذا الحكم ما استطاع إليه سبيلاً. وعن زيد بن خالد الجهني قال: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك). وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه حينما يدخل بيته يبدأ بالسواك، وحينما يخرج للصلاة أيضاً يبدأ بالسواك. وعن عمران رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان لا ينام إلا والسواك عنده، فإذا استيقظ بدأ بالسواك). هذه الأحاديث كلها تشير إلى مواضع استحباب السواك، وهي: إذا دخل البيت، وإذا انصرف من البيت -خاصة إلى الصلاة- وإذا نهض من نومه، وإذا أراد أن يصلي، وأيضاً مع الوضوء، وهكذا. وفي حديث عائشة: (كان لا يستيقظ من ليل أو نهار إلا تسوّك قبل أن يتوضأ). وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم)، قال الحافظ ابن حجر: رواه أصحاب السنن، وابن خزيمة، وعلقه البخاري وقال: إسناده حسن. وقوله: (ما لا أحصي) أي: مرات كثيرة أحصيها، وهذا الحديث مهم جداً أن نحفظه.

حكم التسوك بعد الزوال

حكم التسوك بعد الزوال عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) متفق عليه. والخلوف هو: تغير رائحة فم الصائم. وهذا الحديث يستدل به بعض العلماء على كراهة السواك بعد الزوال، واستدلوا أيضاً بحديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي)، وهذا هو أول دليل يُستدل به على كراهة السواك للصائم بعد الزوال، والحديث أخرجه البيهقي، وهو ضعيف، وذكر الألباني أن بعض علماء الحديث له تتمة: (فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانت نوراً بين عينيه يوم القيامة)، وهذه الرواية أيضاً ضعيفة. أيضاً: استدل الشافعية والحنابلة بدليل آخر ذكرناه آنفاً، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، فقالوا: إن الاستياك بعد الزوال يزيل خلوف فم الصائم، (وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، لأنه أثر عبادة مستطاب فلم تستحب إزالته، كما هو الحال في دم الشهداء، حيث أن الشهيد لا يُغسّل حتى لا يُزال عنه هذا الدم؛ لأنه يبعث يوم القيامة: اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فهذا أثر من آثار العبادة، وهو أثر مستطاب، فينبغي أن يحافظ عليه؛ لأن الله عز وجل يحب هذا الأثر من آثار العبادة. أما الحنابلة فذكروا في بعض المواضع أن السواك إنما استحب لإزالة رائحة الفم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من رائحة المسك)، رواه الترمذي وحسّنه. قال الحنابلة والشافعية: وإزالة المستطاب مكروه، فشعث الإحرام من المستحب أن يفرق، وأن يأتي الحجاج إلى الله عز وجل في يوم عرفة شُعثاً غُبراً، قد تغبروا بالتراب، وانشغلوا عن تحسين هيئتهم بذكر الله تبارك وتعالى وعبادته، فالإنسان يكون في هيئة المسكنة والتواضع، ويأتي التراب الشديد فيعلو عليه من أثر السفر، ومن أثر مشقة التزام الإحرام وغير ذلك. يتكلم العلماء أحياناً على هذه الآثار، ويذكروا أن آثار العبادة إنما يكون مشهوداً لها بالفضل أو مشهوداً لها بالطيب، فمما يشهد له بالفضل: بلل الوضوء الذي على الإنسان، وأثر التيمم، وشعث المحرم، ويذكرون أحياناً ما يصيب العالم عندما يكتب الكتب والمصنفات من الحبر، فيكون لهذا المداد فضل، كما في بعض الأحاديث الضعيفة: (مداد العلماء خير من دماء الشهداء)، فهذه كلها آثار عبادة، لكن هذا مشهود له بالفضل لا بالطيب كما هو الحال في دم الشهيد وخلوف فم الصائم. يقول الشافعي: ثبت أن دم الشهيد لا يُزال، بل يُترك للمحافظة عليه، مع أن غسل الميت والصلاة عليه واجبة، وهي فرض كفاية، فإذا ترك من أجله واجبان دل على رجحانه عليهما؛ لكونه مشهوداً له بالطيب، فيترك السواك أيضاً الذي هو سنة من أجل الإبقاء على المستطاب من خلوف فم الصائم فيكون أولى ألا يزال بعد الزوال حتى تبقى هذه الرائحة عند الغروب. أيضاً في حديث علي: (إذا صُمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي)، قال الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف. وهذه المسألة -والله أعلم- من المسائل الحنبلية المرجوحة، قال الشيخ عبد الرحمن بن القاسم النجدي - أحد علماء الحنابلة وهو الذي جمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - يقول عن الحديث السابق: ولا يعارض به ما تواتر من الأحاديث المطلقة، وعن أحمد: يُسنّ مطلقاً -أي: هناك رواية عن الإمام أحمد أن السواك يُسنّ مطلقاً- اختاره الشيخ وتلميذه وغيرهما -أي: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - واستظهره في الفروع، وقال الزركشي: هو أظهر دليلاً. وهو قول أكثر العلماء، وهو المختار. ولحديث عامر: (رأيته ما لا أحصي يستاك وهو صائم)، فهو مذهب جمهور الأئمة، وأكثر الأحاديث الواردة فيه تدل على استحبابه للصائم بعد الزوال كما يستحب قبله، والإطلاق في سائرها يدل عليه، ولم يثبت في كراهته شيء، والخلوف ليس في محل السواك، إنما هو من أبخرة المعدة، ومرضاة الرب أطيب من ريح المسك، والقياس يقول بموجبه. حكاه الشيخ وغيره. يعني: أن الحديث فيه: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب)، وفي حديث أبي هريرة: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، مرضاة الرب أطيب من ريح المسك. هذا ما ذكره بعض علماء الحنابلة، وحديث عامر بن ربيعة: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم)، حسنه الترمذي، لكن ضعفه الألباني، وإن كان قد حسّنه الحافظ ابن حجر في التلخيص وضعّفه في موضع آخر، وقال الإمام الترمذي عقب هذا الحديث: إن الشافعي لم ير في السواك بأساً للصائم أول النهار وآخره، وكرهه أحمد وإسحاق آخر النهار. والذي يظهر في هذه المسألة أن الراجح هو: استحباب السواك للصائم عند كل صلاة، وعند كل وضوء، وفي كل وقت ولو بعد الزوال؛ لعموم هذه الأحاديث التي لم تخص وقتاً من الأوقات.

مواضع استحباب السواك

مواضع استحباب السواك من مواضع استحباب السواك: قبل قراءة القرآن؛ للحديث الذي صححه الألباني عن علي رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: (أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك، فقام خلفه يستمع القرآن، ويدنو فلا يزال يسمع ويدنو حتى يضع فاه على فيه، فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك). وأيضاً عن علي رضي الله عنه قال: إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك. يعني: أنه يجري في أفواهكم كلام الله عز وجل، حينما تتلونه. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك بسواك رطب. قال: وطرف السواك على لسانه). لأنه يحب الاستياك على اللسان أيضاً، (وهو يقول: أُع أُع والسواك في فيه كأنه يتهوع)، وهذا التهوع يكون إذا أدخل الإنسان السواك إلى داخل فمه لتنظيف أسنانه أو لسانه. وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة على كل محتلم وسواك). المحتلم: هو البالغ، (وسواك): مقصوده: ما قدر عليه؛ لأن من آداب يوم الجمعة أن يستاك ويتطيب. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أراني في المنام أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر)، أي: أتم من الآخر، (فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبّر فدفعته إلى الأكبر منهما). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري) -وهذا كان في مرض النبي عليه الصلاة والسلام الذي توفي فيه- (ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به). أي: يستاك به. (فأبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره). أي: نظر إلى السواك (ففهمت أنه يريد السواك، فأخذت السواك فقضمته ورطّبته، ثم رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستن به، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن أحسن منه، فما غدا أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: مجرد أن فرغ من الاستياك رفع يده -أي: إصبعه- ثم قال: (إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى، ثم قضى صلى الله عليه وآله وسلم). فهذا كان من آخر الأشياء التي حافظ عليها الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، وقوله: (إلى الرفيق الأعلى) معناه: أنه خُيّر في هذه اللحظة كما هي سنة الله عز وجل مع الأنبياء أنهم يخيرون قبل موتهم بين الموت وبين البقاء في الدنيا، أو بين الانتقال إلى جوار الله وبين البقاء، فعندما خُيّر عليه الصلاة والسلام كان ينطق بالجواب ويقول: (إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى). أي: اختار الرفيق الأعلى، والرفيق الأعلى إما أنه الله، وإما أنه هو المقصود بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] والله أعلم! وفي الرواية الأخرى تقول: (مات بين حاقنتي وذاقنتي) الذاقنة: رأس الحلقوم أو طرفه الناتئ. وفي لفظ: (فرأيته ينظر إليه)، أي: إلى السواك، (وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فأخذت السواك) إلى آخر الحديث. إذا أراد الإنسان أن يصلي صلاة ذات تسليمات كالتراويح والضحى، أو أربع ركعات كسنّة الظهر أو العصر، والتهجد ونحو ذلك، استحب له أن يستاك لكل ركعتين، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) أو (مع كل صلاة). صححه النووي، وهذا يعم جميع الصلوات، سواءً كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً.

حكم الاستياك بالأصبع ونحوها

حكم الاستياك بالأصبع ونحوها يقول الإمام النووي رحمه الله في حكم الاستياك بالإصبع -وهذا يكون عند فقد السواك-: وأما الإصبع فإن كانت لينة لم يحصل بها السواك بلا خلاف، وإن كانت خشنة ففيها أَوجه: الصحيح المشهور لا يحصل؛ لأنها لا تسمى سواكاً، ولا هي في معناه بخلاف الأشنان -وهو شجر ينبت في الأرض الرملية، يستعمل هو أو رماده في غسل الثياب والأيدي -فإنه وإن لم يسم سواكاً فهو في معناه، وبهذا قطع المصنف والجمهور. قال النووي: والثاني يحصل بحصول المقصود. يعني: أن الاستياك يحصل بالإصبع إذا كانت الإصبع خشنة، فيحصل بها أجر الاستياك، والثالث: إن لم يقدر على عود ونحوه حصل وإلا فلا. أحياناً يتكلم العلماء على استعمال الإصبع كسواك، وإنما يكون ذلك بالإصبع الخشن، وليست الناعمة. ثم الإصبع الخشن فيه خلاف على ثلاثة أقوال: أنه لا يحصل به ثواب السواك؛ لأنه الإصبع لا يسمى سواكاً، ولا هو في معنى السواك. القوال الثاني: أنه يحصل به. القول الثالث: بأنه إن عجز عن غيره حصل له ثواب السواك، وإلا فلا.

كيفية التسوك

كيفية التسوك يستدل العلماء ببعض الأحاديث على كيفية الاستياك، وهو حديث: (استاكوا عرضاً، وادهنوا غباً، واكتحلوا وتراً). يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: هذا الحديث غير معروف. وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: بحثت عنه فلم أجد له أصلاً -يعني: سنداً- ولا ذكراً في شيء من كتب الحديث. ومع هذا فإن هذا الحديث مع ضعفه يرشد إلى طريقة معينة في استعمال السواك توافق ما يرشد إليه أطباء الأسنان، وهو أن الاستياك يكون عرضاً، أي: إلى أعلى وإلى أسفل، ومعنى: (عرضاً)، أي: العرض بالنسبة للفم، وليس العرض بالنسبة للأسنان. والاستياك يكون على أسنانه ولثته، واللثة: هي ما حول الأسنان من اللحم. وقال بعضهم: إن اللثة هي اللحم الذي تنبت فيه الأسنان، فأما اللحم الذي يتخلل الأسنان فهو عمر، جمعه عمور، يقول الشاعر: زال الشباب وأخلف العمرُ وتغير الإخوان والدهرُ يعني: سقطت أسنانه وظهر العمر. واستعمال السواك بهذه الطريقة لا يعرض اللثة إلى الإدماء، أي: لا يحصل نزيف دم، بعكس ما إذا استاك بغير تلك الصفة، حيث أنه قد تجرح اللثة، لكن هذا الاستعمال هو الذي يكون على الأسنان فقط، وسواء استعمل السواك أو الفرشة فإنها تكون على الأسنان واللثة؛ لأنها لما تدلك اللثة نفسها، وهذا نوع من المساج ينشط الدورة الدموية في اللثة، فلذلك الإنسان يستاك على اللثة، وعلى الأسنان. الشاهد من هذا الكلام: أن الحديث فيه أدب حتى وإن لم يصح، لكنه يوافق ما يوصي به أطباء الأسنان، من أن الإنسان يستاك عرضاً، أي: باتجاه عمودي من أعلى إلى أسفل والعكس. أيضاً: ينبغي للمسلم أن يستاك على لسانه؛ لأنه قد ورد في بعض الأحاديث كحديث أبي موسى حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك على لسانه، حيث قال أبو موسى: (فرأيته يستاك على لسانه). بعض الشافعية يقولون بأن الإنسان عند الاستياك ينوي به الإتيان بالسنة؛ لأن السواك مما يُتعبد به، ويبدأ بجانب فمه الأيمن من الثنايا إلى الأضراس، وليس من الأضراس إلى الثنايا كما يصنع بعض الناس حينما يريدون أن يكوّنوا صفاً أو صفوفاً خلف الإمام، فيمشي البعض حتى يصل إلى طرف اليمين في أقصى الصف ويصلي هناك، وتأتي أحياناً مجموعة أخرى فتصلي خلف الإمام، فاليمين يبدأ من خلف الإمام، وإنما اختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا المكان لأولي الأحلام والنهى بقوله: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى)؛ لأن هذا يكون أقرب إلى متابعة الإمام وسماع القرآن، خصوصاً إذا كان المسجد واسعاً، فاليمين يبدأ من خلف الإمام، وينبغي أن يكون هناك اتزان، فيأتي واحد يميناً وواحد شمالاً وهكذا. الشاهد: أن في السواك تيمناً، وأنك تبدأ من الثنايا ثم تتجه يميناً جهة الأضراس، ثم أيضاً الجنب الأيسر من الوسط إلى جهة الأضراس، والله أعلم!

الاستياك باليد اليسرى

الاستياك باليد اليسرى مذهب الحنابلة: يصححون أن الاستياك يكون باليسرى، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ما علمت إماماً خالف في الاستياك باليسرى؛ لأن الاستياك شُرع لإزالة ما في داخل الفم، وهذه العلة متفق عليها. وبعض الناس قد ينتقدون شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة، ولكنه قالها عن علم، فهم يستدلون بعموم الحديث في استحباب التيمن في كل شيء، ففي الحديث (كان صلى الله عليه وسلم يجعل يده اليمنى لترجله وتنعله وطهوره)، وهذا من الطهور، وأما استعمال اليد الشمال فلأن الاستياك إزالة للأذى أو لخلوف الفم ونحوه، فمن أجل ذلك قالوا: يستحب أن يستاك بيده اليسرى، لكن -والله أعلم- الأقرب أن الإنسان يستاك باليمنى. ومن الآداب أن السواك يغسل بالماء إذا أراد الإنسان أن يستعمله؛ لأن وجود الماء على السواك يحلل المواد النافعة التي يحتويها عود الأراك، فيترتب عليها الفوائد التي سنذكرها إن شاء الله. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني السواك أغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله ثم أدفعه إليه)، رواه أبو داود.

آكدية سنة السواك

آكدية سنة السواك مما ينبغي الحرص عليه: أن يُعوّد الصبيان والأطفال على استعمال السواك، فيستحب أن يعود الصبي السواك؛ ليألفه كسائر العبادات، فرشة الأسنان تعتبر سواكاً، لكن السواك أفضل منها، وسنذكر وجوه هذه الأفضلية -إن شاء الله- وأي آلة تزيل رائحة الفم وتنظف الأسنان فهي سواك، مثل قطعة الليف، حتى أنهم يختلفون في الإصبع كما ذكرنا، فلا شك حينها في أن فرشاة الأسنان نوع من أنواع السواك، لكن أفضل السواك هو عود الأراك، وبالمقارنة ستجد أن السواك أفضل بكثير جداً من فرشاة الأسنان. والحقيقة أن قضية الاستياك وآكدية سنته انعكست في سلوك الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم، حتى روي كما في لفظ الإمام الزيلعي، وعزاه إلى أبي داود والترمذي وصححه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يروحون والسواك على آذانهم، أي: كموضع القلم من أذن الخطاط، قال أبو سلمة: رأيت زيداً يجلس في المسجد، وإن السواك من أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، وكلما قام إلى الصلاة استاك. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (السواك يزيد في الحفظ ويذهب البلغم) وفي حديث ابن مسعود أيضاً: (كنت أجتني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكاً من أراك). وقال أبو هريرة بعدما سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السواك قال: (لقد كنت أستن قبل أن أنام، وبعدما أستيقظ، وقبلما آكل، وبعدما آكل حين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قال)، (أستن). يعني: أستاك.

السواك بين الحديث والدراسات الطبية

السواك بين الحديث والدراسات الطبية يوجد بعض الدراسات نذكرها ولا نقول: إنها تدعم اعتقادنا في السواك، فيكفينا ما ثبت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم للسواك، وحثه عليه، لكن لا بأس بالاستئناس بالعقول البشرية، وما وصلت إليه البحوث الحديثة في هذا الباب. فهذا أحد الأساتذة في بعض الرسائل الجامعية عن السواك في كلية طب الأسنان يقول: توصي بعض الجامعات بإجراء مساج بالإصبع للثة، لتحريك الدم في النسج اللثوية، وهذا واضح جداً في حالة استخدام السواك، فالسواك يستعمل كمساج للّثة. وباقر العطار دكتور في جامعة دمشق يقول: لقد بلغني من الدكتور الأيوبي أن الأستاذ حلباوي وكيل شركة معاجين الأسنان تفكر شركته في إنتاج معجون سوف يسمونه المسواكين، وبالفعل هذا مشهور جداً وموجود في أوروبا وأمريكا، واعتقد أن اسمه كوالي مسواك. وهناك نوع آخر من معجون الأسنان اسمه (مسواك)، وهو مشهور جداً، وموجود في كل مكان. وفي مجلة (طبيبك) مقال فيه توصية من مجمع معالجة الأسنان التابع لجمعية أطباء الأسنان الأمريكية باستعمال مادة بيكربونات الصوديوم لمعالجة الأسنان، وهذه من مكونات السواك. وكتب أحد الدكاترة في السواك قائلاً: لو نظرنا إلى السواك لوجدنا أنه يتركب كيميائياً من ألياف السليلوز وعد أنواعاً كثيرة من المكونات ليس هناك داعٍ للتفصيل فيها الآن. وهناك مقال في إحدى المجلات تحت عنوان: سواك الأراك يغزو أسواق الإنجليز. وشجرة الأراك يسميها الغربيون شجرة محمد عليه الصلاة والسلام. تقول المجلة: سواك الأراك يغزو أسواق الإنجليز، وأتبعت ذلك بثلاثة عناوين: العنوان الأول: أطباء الأسنان في لندن يعترفون بالسواك؛ لأثره الفعال في نظافة الأسنان، وبأثره السحري في تفادي كثيراً من العلل والأمراض. العنوان الثاني: عود الأراك يباع بجنيه إسترليني في محلات النباتات المجففة في إنجلترا. العنوان الثالث: معهد علم الجراثيم والأوبئة في ألمانيا الديمقراطية يقول: إن مادة السواك لها تأثير فعال مثل تأثير بعض المضادات الحيوية سواءً بسواء. ويقول اسمه روادت وهو من علماء الغرب، وهو عالم بعلومه هو، فكلمة (عالم) عند الإطلاق تنصرف إلى علماء الشرع الشريف؛ حتى لا يلتبس الأمر، أما هذا فهو مدير علم الجراثيم والأوبئة في جامعة رستك بألمانيا الشرقية، يقول في مجلة (المجلة) الألمانية: إن هناك حِكَماً كثيرة في استخدام العرب للمسواك بعد بلّه بالماء؛ لأن استعماله جافاً لا ينجح؛ لما يحويه من مادة مضادة للجراثيم، ولو استعمل جافاً فهناك اللعاب الذي يمكنه حل هذه المادة الموجودة فيه. وآخر أيضاً اسمه الدكتور مني يقول: إن تآكل أنسجة الأسنان الصلبة يكون جسيماً إذا كانت الفرشاة جافة، أما إذا كانت مبللة فيكون الضرر بسيطاً. لذلك يستحب تبليل السواك. والدكتور كلك كيزين يقول: إن السواك يحتوي على مادة تمنع تسوس الأسنان، قال هذا أمام مؤتمر (52) للجمعية الدولية لأبحاث الأسنان في أطلنطا الأمريكية، ويقول: إنه لاحظ أن الذين يستعملون السواك يتمتعون بأسنان سليمة، وإن بعض الشركات في بريطانيا والهند تصنع معاجين أسنان تدخل بها مواد مأخوذة من السواك. أيضاً أجرت جمعية طب الأسنان الأمريكية (إي بي إيه) لجيش الولايات المتحدة الأمريكية تجارب أثبتت فيها فاعلية وتفوق الشعيرات المكونة لمادة السواك، وأعلنت مجلة أطباء الأسنان الأمريكية سنة (1960م) أن أغلبية المعاجين المستعملة في الولايات المتحدة غير طبية، وبالمسواك كميات من البلورات الصلبة التي تعتبر كمادة منظفة تحك القلح -وهي الصفرة التي تتكون على الأسنان- وهي موجودة في السواك بنسبة عالية تبلغ 4% وكذلك في السواك أملاح أخرى لها فعاليتها. ووجدت جامعة مينيسوتا في أمريكا في أبحاثها أن المسلمين الزنوج الذين يستعملون المسواك سليمو الأسنان واللثة إذا ما قورنوا بمن يستعملون الفرشاة. ومن مميزات السواك: أنه يرضي الرب، وهو سنة من سنن الفطرة، وسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يطهر مجاري الكلام عند تلاوة القرآن، وكذلك تحبه الملائكة.

مقارنة بين السواك وفرشاة الأسنان

مقارنة بين السواك وفرشاة الأسنان لن نطيل بذكر مكونات السواك؛ لأنها كثيرة جداً، لكن سنعقد هذه المقارنة بين السواك وفرشاة الأسنان، لإثبات أفضلية السواك على فرشاة الأسنان. السواك يعتبر الفرشاة الطبيعية المثالية المزودة طبيعياً بمواد مطهرة ومنظفة، ولا تحتاج أن تضع عليه معجوناً. السواك يعتبر منظفاً آلياً يقوم بطرح الفضلات من بين الأسنان، فهو أيضاً منظف مكنيكي من حيث الحركة نفسها، فهي تساعد على تنظيف ما بين الأسنان. السواك مزود بألياف طبيعية غزيرة وقوية لا تنكسر تحت الضغط بل لينة، فتتخذ الشكل المناسب لتدخل بين الأسنان وفي الشقوق، فتزيح منها الفضلات دون أن تؤذي اللثة. السواك منظف كيماوي مستمر؛ لأن الفرشاة بعد عشرين دقيقة فقط من استعمال معجون الأسنان يعود مقوي الجراثيم إلى الفم بحالته الأولى بمفرده بالوظيفة الميكانيكية والكيميائية، والفرشاة تحتاج في كل مرة إلى معجون. ومعظم معاجين الأسنان عبارة عن مواد صابونية فقط، وإنما السواك به مادة تستعمل لعلاج الالتهابات اللثوية؛ لأن أطباء الأسنان يصفون لبعض الناس الذين يشكون من التهابات في اللثة وصفة عبارة عن هذه المادة بصورة حمض وهي بنسبة مقدارها 20% ونسبة 80% مواد أخرى ثم يدلك به اللثة، ويكون طعمه لاذعاً غير مقبول، وهذه المادة موجودة في السواك بنسبة أعلى بكثير من نسبة عشرين في المائة، وطعم هذه المادة في السواك مقبول، ينفرد بها السواك بميزة رائعة. يتعذر استعمال الفرشاة والمعجون في كل وقت، بالمقارنة بإمكانية حمل السواك في كل مكان، فالسواك يحمله الإنسان في جيبه في أي مكان، في الصلاة عند الوضوء عند النوم في أي مكان تستطيع أن تحمل السواك وتستعمله، بخلاف الفرشاة فإنك لا تستعملها في غير البيت، وحتى يكون هناك ماء ومعجون فإنك تنظف بها. الفرشاة قد تستعمل لعدة شهور، أما المسواك ففي كل أسبوع تستعمل سواكاً جديداً، حتى على الأقل تقطع الجزء المستعمل وتستعمل الجزء الجديد، بحيث تكون فيه مواد جديدة لم تتحلل وتستعمل. تستطيع التحكم في قُطْر المسواك، فمن الممكن أن يكون قطر المسواك رفيعاً أو سميكاً، وكذا الطول والقصر، والصلابة والليونة، كل هذا حسب رغبتك وإرادتك. للسواك طعم مميز يسبب زيادة في إفراز اللعاب، مما يساعد على زيادة الدفاع العضوي للفم ولثته. توجد في السواك مادة عطرية زيتية يطيب بها فم المتسوكين، وتغطي على رائحة الفم الكريهة إن وجدت، وتكسب الأفواه رائحة زكية عطرة. أيضاً: عدم الاعتناء بالفرشاة بعد الاستعمال يسبب معظم أمراض الأسنان.

الأوقات التي يستحب فيها استخدام السواك

الأوقات التي يستحب فيها استخدام السواك الأوقات هي: عند الوضوء، وعند الصلاة، سواء كان التطهر بماء يتوضأ أو تيمم فإنه يستاك، وكذا عند قراءة القرآن، وعند الاستيقاظ من النوم، وعند تغير الفم. وتغيير الفم يكون بأشياء إذا مكث ساعات لا يأكل فيها ولا يشرب، فقد تتغير رائحة فمه، وأيضاً إذا أكل شيئاً له رائحة كريهة، وكذا طول السكوت، وكثرة الصمت. ومن الأوقات التي يستحب فيها السواك: عند دخول المنزل والخروج منه، وعند الاحتضار كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعند اصفرار الأسنان، وأيضاً للمفطر والصائم على السواء، وكذلك يوم الجمعة. هذا ما توفر من التنبيهات التي تتعلق بحكم السواك. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علّمنا أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

السواك وسنن الفطرة [2]

السواك وسنن الفطرة [2] من الأمور التي اعتنى بها الشارع الحكيم: بيان سنن الفطرة، وأحكام حلق الشعر وتقصيره، وحثه على الاحتفاظ بالشيب وعدم نتفه، بل وخضابه بغير السواد، وخص الشعر بمزيد أحكام لأنه أكثر السنن ظهوراً للعيان.

الاستحداد وتقليم الأظافر وسننهما المهجورة

الاستحداد وتقليم الأظافر وسننهما المهجورة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: الاستحداد: استفعال، من استعمال الحديدة، وهو مستحب؛ لأنه من الفطرة، ويفحش بتركه، فاستُحبّت إزالته، وبأي شيء أزاله صاحبه فلا بأس؛ لأن المقصود إزالته. وقال أيضاً: ونتف الإبط سنة؛ لأنه من الفطرة ويفحش بتركه، وإن أزال الشعر بالحلق والنورة جاز، ونتفه أفضل؛ لموافقته الخبر. يستحب تقليم الأظفار؛ لأنه من الفطرة، ويتفاحش بتركه، وربما حكّ به الوسخ فيجتمع تحتها من المواضع المنتنة، فتصير رائحة ذلك في رءوس الأصابع، وربما منع وصول الطهارة إلى ما تحته. أيضاً: يستحب غسل رءوس الأصابع بعد قص الأظافر، كما في حديث عائشة: (إن غسل البراجم من الفطرة)، ويحتمل أن البراجم يدخل فيها رءوس الأصابع بعد إزالة الأظافر، أو العُقَد التي تكون في ظهور الأصابع. ومن الآداب المهجورة: دفن ما قلّم من أظفاره أو أزال من شعره؛ فإنه مستحب، والإنسان المسلم له حرمة عظيمة في الإسلام، فكل ما انفصل عن الآدمي تكون له هذه الحرمة، حتى إن العلماء ليذكرون أن من بُترت ساقه فإن هذه الساق لا ينبغي أن تُحرق أو تُرمى في أي مكان، بل لابد لهذا العضو أن يغسل، ويُصلى عليه، ويُدفن في المقابر. فكذلك ما انفصل عن الإنسان وهو حيّ -سواء كان من شعره أو أظفاره- فينبغي له أن يدفنه أيضاً في التراب، وهذا أفضل ما يفعله بأجزاء بدنه إذا انفصلت عنه وهو حي، فهو من الآداب المستحبة لأجل تكريم الإنسان. وبعض العلماء يستدل بقوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] * {أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:26] والكفت: هو الضم. أي: فالأرض تضمّكم، {أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:26]، فكأن من استدل بهذا الاستدلال يشير إلى أن الأرض تضم الأجزاء المنفصلة عن أبدانكم حتى وأنتم أحياء، والله أعلم. يقول الإمام ابن قدامة: يستحب دفن ما قلّم من أظفاره أو أزال من شعره؛ لما روى الخلال بإسناده عن ميل بنت مشرح الأشعرية قالت: (رأيت أبي يقلّم أظفاره ويدفنها، ويقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك). وقد نستغرب لهذا الحكم أو نستصعبه، ولكن يتأكد كل واحد منا أنه إذا حاول تنفيذ ذلك، فسيشعر بهذا النوع من العبودية، ويشعر بمعنى تكريم الإسلام لهذا الإنسان، فإذا جربت بأن تدفن ما ينفصل عن جسدك من الشعر أو من الأظفار فسوف تدرك معنى هذا الأدب الشرعي. وعن ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان يعجبه دفن الدم)، ولم يحقق الحديث كما هو غالب أحاديث المغني، وقال مهنأ سألت أحمد -أي: الإمام أحمد - عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه، قلت: بلغك فيه شيء -أي: هل عندك فيه حديث أو أثر-؟ قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يدفنه، وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أمر بدفن الشعر والأظفار، وقال: لا يتلاعب به سحرة بني آدم). وهذا أيضاً لم يحققه، ولا أحسبه صحيحاً.

أحكام الشعر

أحكام الشعر

استحباب اتخاذ الجمة

استحباب اتخاذ الجمة إن اتخاذ الشعر أفضل من إزالته وقد سئل الإمام أحمد عن الرجل يتخذ الشعر؟ أي: ينمي شعره، فقال: سنّة حسنة، لو أمكننا اتخذناه. لا للرجل من لحية، وإلا كانت صورته صورة النساء، خاصة في المجتمعات التي تنتشر فيها النساء المتبرجات. ولا بأس أن يرسل شعره، وإن قصر فإلى شحمة الأذن أو إلى المنكبين إذا أطاله، بل يشير هنا الإمام أحمد إلى أنه سنّة حسنة، لكن يُشترط أن ينوي بذلك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا الاقتداء بالخنافس وغيرهم! وقال الإمام أحمد: كان للنبي صلى الله عليه وسلم جمة، والجمة: هي الشعر الذي يصل إلى شحمة الأذن، وقال: تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم شعر. وقال: عشرة لهم جمم. وجاء في بعض الأحاديث: (إن شعر النبي صلى الله عليه وسلم كان إلى شحمة أذنيه)، وفي بعض الأحاديث: (إلى منكبيه). وروى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (ما رأيت ذا لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، له شعر يضرب منكبيه)، متفق عليه. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ابن مريم له لمة)، اللمة: شعر يضرب المنكبين يصل إلى الكتف. قال الخلال: سألت ثعلب -يعني: ثعلباً - عن اللمّة؟ قال: ما ألمّت بالأذن، والجمّة ما طالت. لكنه قد جاءت في حديث البراء بن عازب صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يدل ذلك على أن اللمة تضرب المنكبين. قال ابن قدامة: ويستحب أن يكون شعر الإنسان على صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم إذا طال فإلى منكبيه، وإن قصر فإلى شحمة أذنيه، وإن طوله فلا بأس، وقد نص عليه الإمام أحمد. وقال: أبو عبيدة كانت له عقيصتان، وعثمان كانت له عقيصتان، وقال وائل بن حجر رضي الله عنه: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل، فلما رآني قال: ذباب ذباب. فرجعت فجزرته -أي: قطعته- ثم أتيته من الغد، فقال: لم أعْنِك)، أي: لم أقصدك، هذا حديث حسن رواه ابن ماجة.

استحباب ترجيل الشعر ودهنه وتطييبه

استحباب ترجيل الشعر ودهنه وتطييبه يستحب ترجيل الشعر وإكرامه، وترجيل الشعر تسريحه وإكرامه، فالإنسان حين يتخذ شعراً يكرم هذا الشعر ولا يشوه منظره بكثرة الشعر وهو لا يعتني به، وربما دبّت فيه الحشرات والهوام، فهذا من الآداب الشرعية. قال عليه الصلاة والسلام: (من كان له شعر فليكرمه). وقد يشكل على بعض الناس بعض الأحاديث في هذا الباب، كحديث (نهى عن الترجّل إلا غبّاً)، وحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإرفاه، قيل: وما الإرفاه؟ قال: كثرة التدهن والتنعم)، وفي بعض الأحاديث: (إياي والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين) فيحمل ذلك على من جعل الشعر شغله الشاغل، فليس له مشغلة سوى النظر في المرآة ودهن شعره وتسريحه كما هي عادة النساء، فلا يليق بالرجل أن يكون هذا هو شغله الشاغل، فالإنسان مأمور بإكرام شعره إن كان له شعر، وإن كان لا يعتني بشعره فالأفضل أن يقصره. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تحت كل شعرة جنابة) فإذا تطهر المسلم فلابد أن يروي أصول الشعر؛ ليصل الماء إلى أصل كل شعرة في بدنه، يقول علي بن أبي طالب بعدما روى هذا الحديث: فمن ثمّ عاديت شعري. فكان يزيل شعر رأسه حتى يحتاط لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تحت كل شعرة جنابة). والغبّ كما في الحديث -وهو ضعيف-: (ادّهنوا غباً) أي: أن تدهن شعرك ببعض الزيوت، ثم تتركه حتى يجف، ثم بعد يوم أو يومين تدهنه مرة ثانية. ومن التنبيهات التي تتعلق بهذا الباب: أن من السنّة تطييب الشعر بالطيب كما في الحديث: (حُبّب إلي من دنياكم النساء والطيب)، لكن الرجل يتطيب في شعره ولحيته فقط، ولا يضع الطيب على جبهته ولا على خده، فهذا طيب النساء لحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها (أنها كانت تطيب الرسول صلى الله عليه وسلم في شعره ولحيته)، فالذي يليق بالرجل أن يتطيب في شعره ولحيته، ولا يضع الطيب على جبهته أو خده. ويستحب فرق الشعر من وسط الرأس؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه فرق شعره مخالفةً لأهل الكتاب، وكان من شروط أمير المؤمنين عمر على أهل الذمة: ألّا يفرقوا شعورهم؛ حتى لا يتشبهوا بالمسلمين.

استحباب خضاب الشيب بغير السواد

استحباب خضاب الشيب بغير السواد يُسنّ خضاب الشيب بالصفرة أو الحمرة، وليس بالسواد، وخضاب الشعر يعتبر من السنن المهجورة بسبب ضغط المجتمع؛ لأن المجتمع غالباً يكون منحرفاً عن الشرع، يستنكر على الإنسان إذا خضب لحيته مثلاً بالحناء، ويظن كثير من الناس أن من خضب شعره قد ارتكب شيئاً من شأن النساء، أو أنه يتصابى، إلى غير ذلك من الحجج السقيمة الواهية، وهم بهذا يهجرون سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل ويحذرون منها، وقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام في أن يغيّر الشيب بأي لون ما عدا اللون الأسود فإنه نهى عنه وأمر باجتنابه، لكن ما عدا ذلك يستحب للإنسان أن يغير الشيب في رأسه ولحيته بأي لون، وأفضله الكتم، والكتم هو نوع من الحناء. فمن السنن المؤكدة تغيير الشيب بالصفرة أو الحمرة، لا بالسواد. يقول الإمام ابن قدامة: ويستحب خضاب الشيب بغير السواد، قال أحمد: إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به. وذاكر -أي: ناقش- الإمام أحمد رجلاً لم يكن يخضب الشيب، فقال: لم لا تختضب؟ قال: أستحيي، قال: سبحان الله! سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: هل تستحي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -قال المروزي: قلت: يحكى عن بشر بن الحارث أنه قال: قال لي ابن داود: خضبت؟ قلت: أنا لا أتفرغ لغسلها فكيف أتفرغ لخضابها؟ فقال أحمد: أنا أُنكر أن يكون بشر كشف عمله. ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غيروا الشيب)، وأبو بكر وعمر خضبا، والمهاجرون كذلك، فهؤلاء لم يتفرغوا لغسلها؟! والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالخضاب، فمن لم يكن على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين في شيء. يقول: يستحب الخضاب بالحناء والكتم، لما روى الخلال وابن ماجة بإسنادهما عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فأخرجت إلينا شعراً من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوباً بالحناء والكَتَم. الكتم يقال: هو نبات يخرج باليمن، والصبغ به يجعل الشعر أسود ضارباً إلى الحمرة، والصبغ به وبالحناء معاً يخرج بين السواد والحمرة. يقول: وخضب أبو بكر بالحناء والكَتَم ولا بأس بالورفة والزعفران؛ لأن أبا مالك الأشجعي قال: كان خضابنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الورفة والزعفران. وعن الحكم بن عمرو الهتاري قال: دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر وأنا مخضوب بالحناء وأخي مخضوب بالصفرة، فقال لي عمر بن الخطاب: هذا خضاب الإسلام، وقال لأخي رافع: هذا خضاب الإيمان؛ أي: لأنه خضب بالصفرة، والصفرة أفضل من الحناء. والخضاب يكون في الشعر فقط؛ لأن الرجل إذا خضب يقصد الشيب في شعره ولحيته، لكن ليس بالسواد إلا في حالة واحدة فقط، حيث اجتهد بعض العلماء فقالوا: يستحب لمن شابَ شعر رأسه ولحيته في حالة الجهاد -أي: في قتال الأعداء- أن يخضب بالسواد؛ لإرهاب الأعداء، وإظهار أن في المسلمين الفتوّة والشباب، وأنهم ليسوا كباراً في السن، والله أعلم. ولا يجوز للرجل بحال من الأحوال أن يخضب اليدين والرجلين، كما جاء في بعض الأحاديث: (هذا فعل المخنثين)، وإن كان الحديث ضعيفاً، لكن هذا من شأن النساء، وقد استثنى بعض العلماء حالة التداوي، لكن الأصل أن هذا من التشبه بالنساء، وقد (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال). ويُكره الخضاب بالسواد، قيل لـ أبي عبد الله: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله. قال: وجاء أبو بكر بأبيه رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً -الثغامة نبات شديد البياض- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غيّروهما، وجنبوه السواد)، أي: غيروا لون رأسه ولحيته. وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة). ورخص فيه إسحاق: للمرأة أن تتزين به لزوجها، لكن يتضح هنا بإطلاق الأدلة أنه لم يستثنِ المرأة في شيء من ذلك، فيجوز للمرأة أن تغير الشيب، لكن ليس بالسواد.

أحكام حلق شعر الرأس

أحكام حلق شعر الرأس اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في حكم حلق الرأس، فجاء عنه: أنه مكروه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الخوارج: (سيماهم التحليق) أي أن الإمام أحمد كره حلق الرأس إطلاقاً، قال: إنه يكون في هذه الحالة تشبه بالخوارج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله علامة للخوارج حينما قال فيهم: (سيماهم التحليق)، وهذا يحتمل أنهم يتعبدون بحلق الرأس. وقال عمر لـ صبيغ: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف. قوله: (الذي فيه عيناك) أي: وجهك، وصبيغ بن عسل هو رجل من أهل العراق، كان يكثر السؤال عن المتشابهات، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتاه يوماً فسأله عن بعض الآيات المتشابهات في القرآن، فقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله: صبيغ، قال: وأنا عبد الله: عمر، فقام بالدَّرّة، وظل يضربه حتى أوجعه، ثم حبسه إلى أن برئ، ثم أتى به مرة ثانية وعاقبه، ثم تركه حتى برئ، ثم أتى به بعد ذلك أيضاً ليعاقبه، فقال له صبيغ: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد شفائي فقد والله برئتُ، وإن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً. فتركه أمير المؤمنين رضي الله عنه، وأمر الناس بمقاطعته، وألّا يكلمه أحد، فشقّ ذلك عليه، وأُرسل إلى أمير المؤمنين فيه: أنه قد حسنت توبته، فأذن له حينئذٍ في مخاطبة الناس. هذا خبره مختصراً. وقد قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عندما قابل صبيغاً: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف. لأنه لو كان محلوقاً إذاً لكانت هذه قرينة تدل على أنه من الخوارج الأشرار الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال فيهم: (طوبى لمن قتلهم أو قتلوه). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة) رواه الدارقطني في الأفراد. وفي بعض الأحاديث: (ليس منا من حلق)، وقال ابن عباس: الذي يحلق رأسه في المصر -يعني: في حالة الإقامة في بلده- شيطان. أما في حجة أو عمرة فهذا مستحب. وقال أحمد: كانوا يكرهون ذلك. فكل هذه الأدلة استدل بها الإمام أحمد على كراهة حلق واستئصال شعر الرأس. وفي رواية عن الإمام أحمد: لا يكره حلق الرأس، لكن تركه أفضل. قال: حنبل بن إسحاق: كنت أنا وأبي نحلق رءوسنا في حياة أبي عبد الله، فيرانا ونحن نحلق، فلا ينهانا، وكان هو يأخذ رأسه بالجلمين، ولا يحفيه، ويأخذه وسطاً. أي: كما نفعله نحن الآن بأن يأخذه بالوسط، فلا يستئصله ولا يكثره. وروى ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى غلاماً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاه عن ذلك) رواه مسلم. وهذا الفعل اسمه: القزع، وفي لفظ قال: (احلقه كله أو دعه كله). وروي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر أمهل آل جعفر ثلاثة أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ادعو بني أخي، فجيء بنا، قال: ادعو لي الحالق، فأمر بنا فحلق رءوسنا). ولأنه لا يكره استئصال الشعر بالمقراض. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من حلق)، يعني: أن يحلق الإنسان شعره بسبب نزول المصيبة، وأحياناً قد يكون الأمر بالعكس، فعندما تأتي المصيبة يترك بعض الناس شعره لنزول المصيبة به. وبعض الناس قد يموت قريب له أو عزيز عليه، فتجده يعفي لحيته، فهذا يدخل فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من نشر الشعر لحزن أو جزع من قضاء الله؛ لأن هذا الذي أعفى لحيته في المصيبة ما فعل ذلك لوجه الله، ولا امتثالاً لأمره، بل جزعاً فقط، والجزع محرم، ثم إن هذا الذي يترك لحيته ينبغي عليه أن يعفيها، لكن ليس في المصيبة فقط، بل في كل حال من الأحوال؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر ببقائها وإعفائها، والشرع حرم حلقها. ولا ينبغي أن يجمع بين هذين الأمرين: أولاً: أنه ينشر شعره في حال المصيبة فإذا مضت عاد إلى معصية حلق شعره، وفي الحديث: (ليس منا من حلق أو صلق أو خرق). قوله: (حلق) أي: يحلق شعره عند المصيبة جزعاً، (أو صلق) والصالقة: هي التي تصوت صوتاً عالياً عند وقوع المعصية، (أو خرق)، يعني: مزّق -والعياذ بالله- ثيابه؛ جزعاً لقضاء الله عز وجل! قال ابن عبد البر: وقد أجمع العلماء على إباحة الحلق، وكفى بهذا حجة -أي: حلق شعر الرأس للرجل فقط- وأما استئصال الشعر بالمقراض فغير مكروه رواية واحدة، قال أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموس، وأما بالمقراض فليس فيه بأس؛ لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق.

أحوال حلق شعر الرأس

أحوال حلق شعر الرأس أما الكلام في حكم حلق شعر الرأس فله أحوال نوردها باختصار: الحالة الأولى: إن كان في حج أو عمرة فهو مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: دعا للمحلقين فقال: (اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: وللمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: وللمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: وللمقصرين؟ فقال: وللمقصرين)، فلم يدعُ للمقصرين إلا بعدما دعا للمحلقين ثلاثاً، وفي هذا فضيلة عظيمة للتحليق على التقصير، والحلق والتقصير عبادة، والعبادة لا تنبغي إلا لله، فلا ينبغي أن يحلق الإنسان شعر رأسه أو شاربه أو عانته تعبداً إلا لله تبارك وتعالى. فمن الناس من يحجون إلى قبر البدوي والدسوقي ويفعلون الموالد الشركية ويحلقون رءوس أولادهم كما يفعل في الحج والعمرة والعياذ بالله! وهذا الحلق نوع من أنواع الضلالات والشركيات التي يرتكبونها في شركياتهم، حيث أن الحلق فيه تذلل لله تبارك وتعالى، ولذلك فإن بعض القادة العسكريين الظَلَمة حينما يريدون أن يعاقبوا جندياً أو يذلوه يقومون بحلق شعر رأسه، وفي السجون كذلك، وهذا لا ينبغي أن يكون إلا لله تبارك وتعالى. فإن كان الحلق في حج أو عمرة فهو مستحب، أو كان لحاجة كالتداوي من مرض ما، فإنه يكون جائزاً ومباحاً. أما إذا لم يحلق الإنسان شعر رأسه في الحج أو العمرة، أو لحاجة كالتداوي، وإنما حلق رأسه لغير هذه الأسباب بنية التعبد والتزهد والتزين والتقرب به إلى الله، فهذه بدعة وضلالة، وهذه ظاهرة في الخوارج لعنهم الله. وحلق شعر الرأس في غير النسك، ولغير حاجة فيه قولان للعلماء: القول الأول: أنه مكروه. القول الثاني: أنه مباح. فالذين قالوا: مباح. هم أصحاب أبي حنيفة والشافعي، والذين قالوا: مكروه. مالك وغيره، وعلّلو ذلك بقولهم: لأنه شعار المبتدعة؛ ولأن الخوارج كانوا يفعلونه، صحيح أنه تشبه بالخوارج ولا ينوي التعبد بذلك، لكنه في الظاهر يتشبه بهم، فهذا شعار معروف لهم، وإذا اشتهر شعار معين يدل على فرقة معينة من الفرق الضالّة، فينبغي للإنسان ألا يتلبس بهذا الشعار. مثال: فرقة الفرماوية: وهي فرقة ضالة، وهم يتعبدون بارتداء اللون الأخضر، ولعل من ابتلي بهم وعايشهم فإنه يعرف منهم هذا، فإن اللون الأخضر يعتبر عندهم لون مقدس، فتجد عندهم لون القميص أخضر، والعمامة خضراء، وسبحان الله- كثير منهم عيونهم خضراء!! أما حلق بعض الرأس فمكروه، كما يفعل كثير من الناس في الصعيد مثلاً، أو في بعض الأرياف، أو كما يفعل بعض المسلمين الأفغان للأسف حينما يحجون أو يعتمرون، وإذا مكث أحدهم في مكة مدة، فإنه يحلق بعض رأسه، ولا يحلق رأسه كله في الحج أو العمرة، بل كلما اعتمر عُمرة فإنه يحلق جزءاً من شعر رأسه ويترك الجزء الآخر، وفي العمرة التي بعدها يحلق جزءاً آخر، وهكذا يتابع بين العمرات بحيث يحلق في كل مرة جزءاً من شعر رأسه، وهذا هو عين القزع الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى غلاماً قد حلق رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك)، وفي لفظ: (احلقه كله أو دعه كله). ورواه أيضاً أبو داود، ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع، وقال: احلقه كله أو دعه كله)، وأيضاً في شروط عمر رضي الله عنه على أهل الذمة: أن يحلقوا مقدم رءوسهم ليتميزوا بذلك عن المسلمين، فمن فعله من المسلمين كان متشبهاً بهم.

حكم حلق شعر رأس المرأة

حكم حلق شعر رأس المرأة لا تختلف الرواية عن الإمام أحمد في كراهة حلق المرأة رأسها من غير ضرورة، فمن المعروف أن شعر المرأة من الزينة، حتى عند العرب في الجاهلية، وأشعارهم في ذلك مشهورة، فليس من التزين بالنسبة للمرأة أن تكفّ شعرها من غير ضرورة. قال أبو موسى: (برئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصالقة والحالقة) متفق عليه. والصالقة: هي المرأة التي تصوّت صوتاً عالياً إذا مات لها ميت. والحالقة: التي تحلق رأسها جزعاً عند المصيبة. وهذا موجود في بعض بلاد الجنوب، فإنهم للأسف يفعلون كثيراً من هذه الكبائر والمخالفات عند المصائب والمآثم. وروى الخلال بإسناده عن قتادة عن عكرمة قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها)، وقال الحسن: هي مُثلة. أي: تشويه لخلقة المرأة. وقد جاء عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها أنها اجتهدت فأخطأت، حيث حلقت رأسها في الحج، وهذا مخالف للسنة كما ذكرنا. وذهب بعض العلماء إلى أن هذا حكم عام، وذهب بعض العلماء إلى أن هذا خاص بزوجات الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن أمهات المؤمنين يحرم عليهن النكاح بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]. فلأجل ذلك رُخّص لهن في الحلق، أما غيرهن فيحتمل أن تتزوج وبالتالي فلا يجوز لها أن تزيل الشعر الذي يعتبر من الزينة اللازمة في المرأة. يقول الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن المرأة تعجز عن شعرها وعن معالجته -أي: تعجز عن أن تعالج شعر رأسها وتسرحه وتهتم به- أتأخذه على حديث ميمونة؟ قال: لأي شيء تأخذه؟ قيل له: لا تقدر على الدهن وما يصلحه وتقع فيه الدواب. قال: إذا كان لضرورة فأرجو ألا يكون به بأس. والمرأة المسلمة التي تترخص وتأخذ باجتهاد بعض العلماء الذين يبيحون لها أن تأخذ من شعر رأسها، فإن كان للتداوي فهذا شيء ليس فيه كلام، لكن إن كان للزينة فأولاً: لا ينبغي لها أن تأخذه أخذاً قريباً من أخذ الرجل لشعر رأسه، لأنها حينئذ تصبح متشبهة بالرجال. ثانياً: لا تنوي بذلك الفعل أن تتشبه بالكافرات أو الفاجرات.

حكم نتف أو حلق الشيب وحلق القفا

حكم نتف أو حلق الشيب وحلق القفا يكره مس الشيب، وإذا كان الشيب يكره أن ينتفه الإنسان من رأسه أو لحيته، فكيف بمن يستأصل لحيته بسائرها؟ وقد جاء في نتف الشيب عن عمرو بن سعيد قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مس الشيب وقال: إنه نور الإسلام). وعن طارق بن حبيب: (أن حجاماً أخذ من شارب النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى شيبة في لحيته فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم يده، وقال: من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة)، رواه الخلال في جامِعِه. قال ابن قدامة: ويكره حلق القفا لمن لم يحلق رأسه ولم يحتج إليه، قال المروزي: سألت أبا عبد الله عن حلق القفا؟ فقال: هو من فعل المجوس: (ومن تشبه بقوم فهو منهم)، وقال: لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة. وكلمة (الحلق) تطلق على إزالة الشعر تماماً بالموس. وقال المروزي: سألت أبا عبد الله عن الحلق؟ فقال: ليس به بأس للنساء وأكرهه للرجال. والحلق في الوجه يعني: إزالة الشعر من الوجه في غير اللحية ولا الشارب ولا الحاجبين، فلا يكون على الخد أو الذقن، فهذا كرهه الإمام أحمد للرجال. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

السواك وسنن الفطرة [3]

السواك وسنن الفطرة [3] من الآداب الشرعية التي ينبغي للمسلم أن يمتثلها ويعتني بها: قص الأظفار، وعليه أن يراعي مدة القص، وعدم الاستقصاء في الحضر، مع العلم أن بعض أهل العلم استثنى الغزو للاستفادة منها. ومن الآداب أيضاً استحباب التنظف والتطيب والتجمل، وكذلك الاكتحال، دون الخروج عن حد الاقتصاد في ذلك إلى حد المغالاة والترفه والتنعم الزائدين؛ فإن خير الأمور أوسطها، والميزان في ذلك هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمه لأمته.

أحكام قص الأظفار

أحكام قص الأظفار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن من الآداب التي نبّه عليها الشارع الحكيم: استحباب الاستقصاء في إزالة الأظفار إلى حد لا يدخل منه ضرر عليها، فيجتهد الإنسان في تقليم الأظفار، ويستقصي في ذلك، لكن بشرط ألا يؤذي الأصبع أو يدميه.

وقت وحد قص الأظفار

وقت وحدّ قص الأظفار قص الأظافر سنة مستحبة؛ لأنه من الفطرة، ويتفاحش بتركه، وربما حك به الوسخ فيجتمع تحتها من المواضع المنتنة فتصير رائحة ذلك في رءوس الأصابع، وهناك بعض الروايات في كيفية قص الأظفار، ويكون ذلك في يوم الخميس أو الجمعة أو غيرها، ولم يثبت توقيت تقليم الأظفار بيوم معين، فغالب العلماء يفضلون أن يكون ذلك يوم الجمعة؛ باعتباره يوم العيد الأسبوعي، وكذلك غيره من سنن الفطرة، لكن لا دليل يخصص لفعل هذه الأشياء وقتاً معيناً أو محدداً، فمتى استحقت الأظافر القص فعلى الإنسان أن يفعل. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط هو الحاجة في هذا وفي جميع خصال الفطرة المذكورة، لكن الحد الأقصى أربعون يوماً. يقول الترمذي الحكيم: فأما قص الأظفار؛ فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر، وهو مجتمع الوسخ، وربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ، فلا يزال جنباً، ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعمّ الغسل جسده كله؛ فلذلك ندبهم إلى قص الأظفار. وبعدما يقص الإنسان أظفاره، يستحب له حينئذٍ أن يغسل رءوس الأصابع تكميلاً لنظافتها، وحمل بعض العلماء حديث عائشة رضي الله عنها في غسل البراجم أن المراد به: غسل رءوس الأصابع، ويحتمل أن البراجم هي هذه العقد التي في الأصبع. كما قال الإمام الخطابي رحمه الله: البراجم: العقد التي في رءوس الأصابع، والرواجب: ما بين البراجم؛ لأنه ربما تجتمع الفضلات فيها أحياناً، وغسل البراجم سنة مستقلة وليست بواجبة. والحديث الذي جاء في غسل البراجم وأنه من خصال الفطرة، أخذ منه بعض العلماء استحباب غسل التعرجات التي تظهر عند فرد الأصابع، وألحقوا بذلك ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ، فيزيله بالمسح ونحوه.

استحباب ترك الأظفار في حال السفر والغزو

استحباب ترك الأظفار في حال السفر والغزو يسنّ ألا يحيف على الأظفار في التقليم عند الغزو والسفر، فقد ذكر العلماء أن من كان في حالة سفر أو غزو وجهاد، فلا ينبغي له أن يستقصي في قص الأظافر؛ لأنه ربما احتاج إلى فك حبل مثلاً أو شيء معين، فتكون أظافره طويلة طولاً يسيراً بحيث يستطيع أن يمسك بها ويفك به ما يحتاج إليه، وذكر بعض العلماء أنه قد يستخدم الأظافر في قتال العدو عند فقد السلاح، وعن عمر رضي الله عنه قال: وفّروا الأظفار في أرض العدو؛ فإنه سلاح. قالوا: والسفر في معناه.

حكم تطويل المرأة لأظفارها وصبغها بالمناكير

حكم تطويل المرأة لأظفارها وصبغها بالمناكير أما ما تفعله بعض النساء الفاسقات من تدميم أظفارهن بالصبغ الأحمر، الذي يسمى: المانوكير، وإطالة أظفارهن إلى حدّ يشبه الوحش، فهذا كله من المنكرات التي تدل على فساد في الذوق وفساد في الفطرة، ولا أدري كيف يرون هذا جمالاً؟! إذ كيف يصبح شكل امرأة تطيل أظافرها كالوحوش، وتصبغها أيضاً بلون الدم كأنها تلطّخت بدم الفريسة؟! فسبحان الله! هذا انتكاس في الذوق والفطرة، فضلاً عن مخالفته للآداب الشرعية، فضلاً عن أنه لا يصح أن تعلن عن نفسها أنها لا دين لها ولا خلق ولا تقوى ولا خوف ولا استحياء من الله، فهي لا تصلي؛ لأن هذا الطلاء يكون حائلاً وحاجزاً بين الماء وبين البشرة على أظافرها، فهل يعقل أن تظل كل يوم تستعمل المزيلات المعروفة مثل الأسيتون أو غيره؟! وغالب هؤلاء النساء لا دين لهن، ولا خوف لديهن من عقاب الله تبارك وتعالى، ويظهرن هذه الزينة القبيحة الدميمة، ويرين هذه الأشياء جمالاً، فهذا منكر مذموم؛ لأن فيه تغييراً لخلق الله تبارك وتعالى، وهذا الفعل يستلزم اللعن كما جاء في الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لعن الله الواشمات والمستوشمات) إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: (المتفلّجات بالحُسْن المغيرات لخلق الله). أيضاً: لأن في هذا الفعل السيئ القبيح تشبهاً بالكافرات الفاجرات، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من تشبه بقوم فهو منه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منّا من عمل بسنة غيرنا). وأيضاً: لأن هذه منافاة للفطرة السليمة، التي هي: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الفطرة خمس) وذكر منها: (وتقليم الأظفار)، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: (وقّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة) رواه مسلم وغيره. ولذلك يقول بعض الشعراء مخاطباً مثل هذه النساء الفاسقات: قل للجميلة؛ وأنا أغيّر هذا اللفظ وأقول: قل للجهولة أرسلت أظفارها إني لخوفٍ كدتُ أمضي هارباً إن المخالب للوحوش نخالها فمتى رأينا للظباء مخالباً؟!! بالأمس أنتِ قصصتِ شعركِ غيْلةً وأزحتِ عن وضع الطبيعة حاجباً وغداً نراكِ نقلتِ ثغركِ للقفا وأزحتِ أنفكِ رغم أنفكِ جانباً مَن علّم الحسناء أن جمالها في أن تخالف خلقها وتجانبا؟! إن الجمال من الطبيعة رسمُه إن شذّ خطٌّ منه لم يك صائباً فهذا شيء يستقبح، ومن الانتكاس في الذوق والفطرة أن يرى الناس هذا الخبث والدمامة جمالاً، فهو جمالٌ عند من لا دين له ولا خلق.

استحباب دفن الأظافر بعد تقليمها

استحباب دفن الأظافر بعد تقليمها هذا أدب شرعي مهجور، ومن تمكن من أداء هذا الأدب فسوف يذوق حلاوته ويجد له طعماً عظيماً، ويتملكه الإحساس بتكريم الإنسان، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، هذا الأدب الذي قد يستغربه كثير من الناس في هذا الزمان، وهو: أنه يستحب للإنسان دفن ما قلّم من أظفاره أو أزال من شعره، وكل ما ينفصل عن بدن الإنسان في حياته فمن الأدب أن يدفنه في التراب. يقول مهنأ: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه، قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه. وقال القرطبي رحمه الله: جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه وزال عنه فيحق عليه أن يدفنه. لأن الإنسان لو مات فإنه يدفن، فإذا مات بعضه فكذلك أيضاً تقام حرمته بدفنه، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة، وبالذات المسلم الذي كرمه الله عز وجل بصفة الإسلام إلى جانب صفة الإنسانية، فينبغي له ألا يلقي هذه الأشياء التي انفصلت عن جسده في الأماكن القذرة أو المهينة، وإنما يدفنها كما يُدفن بدنه عند موته. وحكى السفاريني عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26] قال: يلقون فيها الدم والشعر والأظافر وهم أحياء، وتدفنون فيها موتاكم. وإذا راجعت تفسير هذه الآية فإنك تجد أن هذا القول مشهور في تفسيرها، ويذكره المفسرون ضمن عدة أوجه في تفسير هذه الآية: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] والكفت: الضم والجمع، أي: تضمكم وتجمعكم، وفي الحديث: (نهى عن الكفت في الصلاة)، والكفت: الضم، أي: يضم ثيابه، وهذا الفعل مكروه في الصلاة. ولا أدري لماذا يقوم كثير من الإخوة بارك الله فيهم أحياناً باختراع عمل ليس له أصل؟ ثم نجد كثيراً من الناس يقلدونه تقليداً تلقائياً، حتى ينتشر هذا الفعل ويشيع، مع أنه لا يعرف لهذا الفعل دليل ولا أصل، فما ندري من أين أتت لبعض المصلين فكرة أنه إذا كان يرتدي سروالاً طويلاً يتجاوز الكعبين، فإذا أراد أن يصلي أخذ يشمر ويكفت السروال؛ لأنه يخاف من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبل صلاة المسبل) أو (لا ينظر الله إلى مسبل)، فهو يريد ألا يقع في هذا الوعيد، فيصبح حاله كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ لأنه فرّ من وعيد الإسبال فوقع في الكفت، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الكفت، فلا يصح لك أن تصلي وأنت مشمّر أكمامك، بل إنك إذا شرعت في الصلاة عليك أن تفك هذا التشمير، كما قال عليه الصلاة والسلام للرجل الذي سجد وشعره معقود: (دعه يسجد معك) فكذلك من صور كفت الثياب في الصلاة ما يفعله هؤلاء الإخوة الذين يتناقلون هذه العادة بعضهم عن بعض، ولا يُعرف لها أصل، والذي قادنا إلى هذا الاستطراد هو معنى كلمة: الكفت، أي: الضم، ومنها التشمير في الصلاة. قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] أي: ضامّة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها، وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه، يقال: كفتُّ الشيء أكفته: إذا جمعُته وضممْتُه، والكفت: الضم والجمع، وقال أبو عبيد: ((كِفَاتًا)) أوعية. ثم قال القرطبي: وقيل: هي كِفات للأحياء، يعني: دفن ما يخرج من الإنسان من الفضلات في الأرض، إذ لا ضمّ في كون الناس عليها، والضمّ يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه. الاحتفاف: أي أنها تحف بالشيء وتضمه، وكان بعض السلف يأتي المقابر فيقول: هذه كفات الأموات. ويأتي المنازل والبيوت فيقول: هذه كفات الأحياء. والإمام القرطبي رحمه الله يعرض قول من قال: إنها لا تسمى كفاتاً إلا إذا احتفت بالشيء وضمّته ضمّاً كاملاً، وهذا لا يكون إلا في الدفن. وهنا مسألة تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي تتعلق بحكم إزالة الإنسان لشيء من جسده وهو جنب، فقد سُئل رحمه الله تعالى عن الرجل إذا كان جُنُباً وقصّ ظفره أو شاربه، أو مشط رأسه، هل عليه شيء في ذلك؟ فأجاب: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث حذيفة ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما أنه لما ذكر له الجنب قال: (إن المؤمن لا ينجس)، وفي صحيح الحاكم زيادة: (حياً ولا ميتاً)، وما أعلم على كراهية إزالة شعر الجنب وظفره دليلاً شرعياً، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أسلم: (ألق عنك شعر الكفر واختتن)، فأمر الذي أسلم أن يغتسل، ولم يأمره بتأخير الاختتان وإزالة الشعر عن الاغتسال، فإطلاق كلامه يقتضي جواز الأمرين، حيث قال له: (ألق عنك شعر الكفر واختتن)، وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط في غسلها، مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر، والله أعلم. اهـ.

من سنن الفطرة

من سنن الفطرة

استحباب الترجل والنظر في المرآة

استحباب الترجل والنظر في المرآة من الآداب: أنه عند النظر في المرآة ينبغي قول: (اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي) وفي زيادة: (وحرم وجهي على النار)، وهذا الدعاء من الأدعية المسبقة وليس من الأدعية الموظفة، إذ أنه غير مرتبط بوظيفة المرآة، فمن الممكن أن يقوله الإنسان إذا نظر إلى المرأة، أو قد يقوله في أي وقت آخر؛ لأنه ينبغي له في أي وقت أن يدعو الله تبارك وتعالى بهذا الدعاء، حيث أنه دعاء مطلق كسائر الأدعية، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله، وذكر أنه يقال مطلقاً دون قيد النظر في المرآة، وأما الزيادة: (وحرَّم وجهي على النار) فهي ضعيفة. ولا ينبغي النظر في المرآة كما يفعل ذلك أصحاب رياضة النيوزا، لكن يكون النظر في المرآة بقصد تحسين الهيئة، كإصلاح الشعر أو اللحية أو نحو ذلك، ويستحب تسريح الشعر وترجيله وإكرامه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود: وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له شعر فليكرمه)، سواء في ذلك شعر اللحية أم شعر الرأس. وجاء عن عطاء بن يسار حديث مرسل، وهو مشتهر على ألسنة الناس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار صلى الله عليه وسلم بيده كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته، ففعل ثم رجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم وهو ثائر الرأس كأنه شيطان) رواه الإمام مالك في الموطأ مرسلاً؛ لأن عطاء بن يسار من التابعين، فهو بهذا الإسناد ضعيف، لكن قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى: جاء موصولاً بمعناه عن جابر وغيره. ونص الحديث الذي جاء بنفس المعنى عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره، فقال: أما كان هذا يجد ما يسكّن به شعره. ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ماء يغسل ثوبه)، قال الإمام النووي: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. وعن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا -أراه قال:- أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود. قال الراوي الذي سمع من سعيد بن المسيب: فذكرت ذلك لـ مهاجر بن مسمار، فقال: حدثنيه عامر بن سعد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه قال: (نظفوا أفنيتكم) أخرجه الترمذي وقال: غريب. وحسّنه الألباني بشواهده. والشاهد فيه قوله: (نظيف يحب النظافة)، فإكرام الشعر يكون بالتسريح أو بصونه من الوسخ والقذر، فعلى الإنسان أن يتعاهد شعره بالتنظيف والإدّهان بالزيوت، وأحياناً يعبّر بالدهن عن الطيب، لكن ينبغي أن نتذكر أدباً مهماً، وهو أن الإنسان لا ينبغي له أن يواظب على دهن شعر رأسه وتسريحه حتى يكون شغله الشاغل، أو يكثر ويبالغ في ذلك، (فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإرفاه، قيل: وما الإرفاه؟ قال: كثرة التدهن والتنعم) والإرفاه أيضاً كما في الحديث الآخر: (هو الترجل كل يوم) وفي الحديث الآخر: (نهى صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غِبّاً)، وأصل الغبّ في اللغة كما في الحديث: (زر غباً تزدد حباً) أي: أن الإنسان لا ينبغي له أن يواظب كل يوم أو كل وقت على زيارة إخوانه، بل يغيب ثم يزور، وكذلك هنا: (نهى عن الترجل إلا غباً) يعني: أن يفعل يوماً ويترك يوماً، لكن قال العلماء: ليس المراد خصوصية الفعل يوماً والترك يوماً، وإنما المقصود: أن الإنسان لا يواظب على ذلك بحيث يكون شغله الشاغل ووظيفته الدائمة.

استحباب التوسيع على النفس في اللباس

استحباب التوسيع على النفس في اللباس قال صلى الله عليه وآله وسلم: (البذاذة من الإيمان) رواه أبو داود، وهو حديث صحيح. (البذاذة): هي رثاثة الهيئة، وليس معنى ذلك أن الإنسان يتكلف حتى يجعل هيئته رثة، لكن الإنسان ينبغي له أن يتواضع في لباسه، وأنواع العبودية تختلف وتتفاوت، فمثلاً: من وسّع الله عليه في الرزق، فلبس من محاسن الثياب بنيّة أن يتحدث بنعمة الله عليه، أو لبس ثياب الأغنياء وهو غني لا يتشبع ولا يكون كلابس ثوبي زور، وإنما هو غني يظهر الغنى حتى إذا رآه الفقراء يعرفون أن هذا غني فيسألونه، ويكون ذلك سبيلاً لتيسير تصدقه على الفقراء، فيعرف بمظهره حتى يأوي إليه الفقراء ويأخذون منه الصدقات، فهذه كلها نوايا حسنة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لرجل رآه رث الهيئة: (هل آتاك الله مالاً؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال أعطاني الله. فقال له: من كان له مالاً فليُرَ عليه أثر نعمة الله وكرامته)، فمن شكر النعم أن يظهر الإنسان نعمة الله عليه بإظهار الثياب الحسنة، وهذه نية حسنة صالحة. ومن الممكن أن يتعبد الإنسان بصورة أخرى؛ لأن العبودية أنواع، وقد يُفتح لإنسان من العبادة ما لا يفتح لغيره، ولا يكون معنى ذلك هو التعارض والتضارب، فمثلاً: إنسان يقدر على شراء الثياب الحسنة، لكنه يتعمد ألا يلبسها؛ لأنه يستحضر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك اللباس تواضعاً لله عز وجل وهو يقدر عليه خيّره الله يوم القيامة من حلل الإيمان يلبس من أيها شاء) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فهذا يفعل عبودية بالنية من نوع آخر؛ لأنه ينوي بذلك التواضع لله عز وجل، أو ينوي ألا يكسر قلوب الفقراء إذا رأوه بهذه الثياب، فالأمر يتفاوت، ولا يُفهم دائماً من مثل هذه الآداب أن فيها تضارب أو تعارض، بل يمكن للإنسان أن يجمع بين هذا وذاك على اختلاف الأحوال والأشخاص.

استحباب التيمن في سنن الفطرة

استحباب التيمن في سنن الفطرة وهذه الآداب التي ذكرناها سواء كان ذلك في قص الأظفار أو تسريح الشعر وترجيله، أو غير ذلك فنستصحب دائماً الأدب الشريف وهو أن يبدأ الإنسان بالميامن، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن ما استطاع في ترجّله ووضوئه) رواه البخاري.

استحباب الاكتحال والادهان

استحباب الاكتحال والادّهان قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: يستحب أن يكتحل وتراً، ويدهن غباً، فينظر في المرآة ويتطيب، قال حنبل: رأيت أبا عبد الله وكانت له صينية فيها مرآة ومكحلة ومشط، فإذا فرغ من حزبه -أي: إذا فرغ من قراءة ورده من القرآن أو الأذكار- نظر في المرآة، واكتحل، وامتشط. والمقصود بقوله: رأيت أبا عبد الله: هو أحمد بن حنبل؛ لأنه إذا جاء ذكر أبا عبد الله في كتاب فقه حنبلي فالمقصود به: أحمد بن حنبل، وإذا كان في كتاب فقه شافعي ذكر هذه الكنية فالمقصود: الشافعي، وإذا كان في كتاب فقه مالكي فالمقصود: الإمام مالك؛ لأن أبا عبد الله هي كنية الأئمة الثلاثة، فالإمام مالك كنيته أبو عبد الله، والإمام الشافعي كذلك، والإمام أحمد كذلك، أما الإمام النعمان بن ثابت فكنيته: أبو حنيفة، رحمهم الله أجمعين، وأحياناً يأتي في بعض كتب الفقه عبارة: وذهب إلى هذا آباء عبد الله. يعني: الأئمة الثلاثة اختصاراً. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالإثمد؛ فإنه يجلو البصر؛ وينبت الشعر)، والإثمد: نوع من الأحجار التي يصنع منها الكحل، حيث يُدَقّ ويضاف إليه بعض الأشياء ويكتحل به. وقد عثرت على عبارة للإمام القرطبي في تفسيره وهو يتكلم عن بعض هذه الآداب فيقول: وكذلك الكحل للرجال: منهم من يليق به، ومنهم من لا يليق به. وحكم هذه الأشياء شرعاً: أنها سنة مستحبة بلا شك. ما زلنا نبحث عن كلام لبعض أهل العلم في هذا، وما وقفت على غير عبارة الإمام القرطبي السابقة، ونحن نُقّر أن الاكتحال سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك اتخاذ الشعر سنة، والمهم في هذا الأمر هو النية، أي: أن ينوي الإنسان بذلك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والآن يُستنكر إسدال الشعر غالباً؛ لأن الناس الآن تعوّدوا أن يروا إسدال الشعر من عادة النساء؛ بسبب تبرج كثير منهن، فيظهر من كان موفراً لشعره وفق السنة كأنه متشبهاً بالنساء، فلو لم يوفر شعره خشية التشبه بالنساء، مع كونه يريد أن يفعل هذه السنة، فهو يثاب عليها ولو لم يفعلها. وكذلك في الاكتحال، فإنه نظراً للبعد عن الآداب الشرعية، فقد أصبح الكحل في مجتمعاتنا كأنه خاص بالنساء، وربما لو اكتحل الإنسان في وسط هذه المجتمعات وهو يريد الأجر باتباعه لسنّة مستحبة، فقد يوصف بأنه متشبه بالنساء كما يفهم كثير من الجهال، فيمكن أن يؤجر الإنسان إذا ترك الكحل بنيّة أن يكف ألسنة المغتابين؛ لأنهم إذا رأوه فعل ذلك، فبالتالي اغتابوه ووقعوا في معصية لله؛ لجهلهم بأن هذا من الآداب الشرعية، ويرون مثل هذا الفعل مُزرياً به، فإذا ترك ذلك ليكفّهم عن الوقوع في النميمة فهو مأجور، وينبغي للإنسان أن يراعي أيضاً حال المجتمع الذي يعيش فيه. وفي بعض البلاد كالحجاز مثلاً تجد أن النساء عموماً محتجبات، والاكتحال عندهم شيء عادي، أما إذا وجد الإنسان أنه في مجتمع ربما يجلب عليه تطبيق السنة أشياء من المنكرات والفضائح التي تؤذيه أو تزري به، فإنه إن لم يفعل ذلك بنيّة كفّ الناس عن الوقوع فيه وغيبته، فلعله يؤجر في ذلك أيضاً كما سبق، ومع ذلك لا ننكر على من اكتحل بنية إحياء السنة أو تذكير الناس بها، فكلٌ بحسب نيته.

استحباب استعمال الطيب

استحباب استعمال الطيب من الآداب الشرعية: التطيب، والطيب مندوب إليه شرعاً، بل يتأكد التعطر للمسلم في يوم الجمعة والعيدين، وعند الإحرام، وعند حضور صلاة الجماعة، وفي المحافل العامة، وأيضاً عند قراءة القرآن وحضور مجالس العلم والذكر، يقول أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكّة يتطيب منها)، والسكّة: طيب أسود يُخلط ويُعرك ويُترك، وتظهر رائحته كلما مضى عليه الزمن، والظاهر أن المراد بالسكّة هنا: وعاء الطيب. وعن ثمامة بن عبد الله قال: كان أنس بن مالك رضي الله عنه لا يردّ الطيب. وقال أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان لا يرد الطيب)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا تُردّ: الوسائد، والدهن، واللبن)، والمقصود بالدهن هنا: الطيب والروائح العطرة. فإذا كان الإنسان ضيفاً وقدّمت له وسادة فلا ينبغي له أن يرفضها، وكذلك إذا قُدّم له لبناً أو طيباً وأراد بعض العلماء أن ينظم معنى هذا الحديث في أبيات شعر، فنظمه وزاد عليه زيادة مشهورة بين الإخوة، وهي أن مما لا يرد أيضاً: اللحم، ويبدو أنهم اقتبسوها من أحاديث ضعيفة، فقال الناظم: قد جاء في سنة خير الورى صلى عليه الله طول الزمن ألا نرد الطيب والمتكى واللحم أيضاً يا أخي واللبن ومما ينبغي أن يراعى في التطيب: أن من الأدب التودد بين الزوجين بالتطيب، أو بين الإخوان، لكن من كان يعرف أن بعض أنواع الطيب قد تُحدث حساسية لبعض الناس أو تؤذيهم، فلا ينبغي له أن يتطيب بمثل هذه الأنواع؛ مراعاة لمشاعر الآخرين، المقصود من الطيب هو أن يتودد المسلم إلى إخوانه بأن تكون ريحه طيبة، كما في الحديث: (مثل الجليس الصالح كحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة)، فإذا كانت هذه الرائحة تؤذي الجليس، فينبغي تجنبها. وعن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن المسك، فقال: هو أطيب طيبكم) وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه، وإن لم يجد طيباً فيأخذ من طيب أهله)، فهذه من الآداب المؤكدة يوم الجمعة، كالسواك والغسل والطيب، والمقصود بالمحتلم: هو كل بالغ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه)، ولعل الإشارة في طيب النساء إلى الحناء أو الخضاب ونحوه. وعن أبي موسى رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عين زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرّت في المجلس فهي كذا وكذا) يعني: زاينة. فلا يجوز للمرأة أن تتطيب إلا أمام محارمها أو زوجها، أما أن تتطيب وتخرج، وترسل هذا الرسول الشيطاني وهو الطيب، فقد وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف الشديد: (فهي كذا وكذا) يعني: زانية، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً) والطيب يشمل البخور، ويعبّر عنه بالاستجمار، أي: من الجمرات التي تستعمل كطيب العود أو شيء من هذا. وعلى الرجل أن يجتنب الطيب في الإحرام كما هو معروف، والمرأة من باب أولى. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حُبّب إلي الطيب والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة)، فممّا حُبّب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: الطيب والنساء، فهذه الصفة ليست مذمومة مادامت تصادف حلالاً، بل هي تُحمد في الرجل، وقوله: (وجُعلت قرة عيني في الصلاة) هذه هي الرواية الصحيحة خلافاً لما يشيع على ألسنة كثير من الناس: (حُبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة)، فهل الصلاة من أمور الدنيا؟ ليست الصلاة من الدنيا، فهي من أكبر وظائف الدين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حُبّب إلي من دنياكم: النساء والطيب، ثم يقول: وجعلت قرة عيني في الصلاة) ولم يقل: (حبب إلي من دنياكم ثلاث) كما يرفعه بعض الناس، بل هكذا رواه الإمام أحمد والنسائي: أن المحبب إليه من الدنيا: النساء والطيب، وأما قرة العين فتحصل بحصول المطلوب، وذلك في الصلاة. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد، حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته) رواه البخاري، والوبيص هو: البريق واللمعان، وترجم الإمام ابن حجر رحمه الله: باب الطيب في اللحية والرأس -بالنسبة للرجل- ثم نقل عن الإمام ابن بطال قوله: يؤخذ منه: أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه، بخلاف طيب النساء؛ لأنهن يطيبن وجوههن، ويتزينّ بذلك بخلاف الرجال، فإن تطيب الرجل في وجهه لا يشرع؛ لمنعه من التشبه بالنساء. انتهى كلام الإمام ابن بطال. فمفهوم هذا الحديث: أن طيب الرجل يكون في اللحية والرأس، ولا يكون في الوجه؛ فإن هذا من شأن النساء.

استحباب اتخاذ الشعر

استحباب اتخاذ الشعر وقد أشرنا إليه، لكن نمرّ عليه مراً سريعاً، وسبق أن قلنا: إن سلخ الإنسان لشعره أفضل من إزالته، يقول أبو إسحاق سُئل أبو عبد الله عن الرجل يتخذ الشعر- يمكن أن تقول: الشَّعْر أو الشَّعَر بتسكين العين وفتحها- فقال: سنّة حسنة، لو أمكننا اتخذناه. فهو يشير إلى أن الإنسان عندما يتخذ شعراً فينبغي له أن يعتني به ولا يهمله. وقال الإمام أحمد: كان للنبي صلى الله عليه وسلم جمّة. وقال: تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم شعر. وقال: عشرة لهم جُمم. وقال: في بعض الحديث: أن شعر النبي صلى الله عليه وسلم كان إلى شحمة أذنيه، وفي بعض الحديث: إلى منكبيه. وروى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (ما رأيت ذا لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، له شعر يضرب منكبيه) متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه قال (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نصف أذنيه) وفي رواية: (إلى أنصاف أذنيه). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمّة ودون الوفرة)، والجمة: الشعر النازل إلى المنكبين, والوفرة: ما بلغ شحمة الأذن، فالمقصود: أن الشعر يكون فوق الجمة وأقل من الوفرة، ويستحب أن يكون شعر الإنسان على صفة شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا طال يكون إلى منكبيه، وإن قصر فإلى شحمة أذنيه، وإن طوّله فلا بأس، وعثمان رضي الله عنه كان له عقيصتان. قال الإمام ابن مفلح رحمه الله: ولا بأس أن يجعله ذؤابة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

السواك وسنن الفطرة [4]

السواك وسنن الفطرة [4] من محاسن ديننا الإسلامي أن شرع الله لنا فيه أحكاماً تعتني ببدن الإنسان، كما شرع الأحكام التي تعتني بروحه، ورتب على ذلك الأجر العظيم، والثواب الجزيل. وإن مما يستحب للإنسان أن يفعله: اتخاذ الشعر وإكرامه وترجيله غبّاً، والحلق أو التقصير لشعر الرأس عند الحج والعمرة، والختان للذكر، والخفض للأنثى، وغير ذلك من سنن الفطرة التي تقوِّم شخصية المسلم، وتجعلها شخصية مثالية صالحة أن يحتذى بها، وهذا يدلنا على أهمية هذه الشعائر، وعظم ثوابها عند الله سبحانه وتعالى.

استحباب اتخاذ الشعر وإكرامه وفرقه

استحباب اتخاذ الشعر وإكرامه وفرقه الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: من الآداب المستحبة: تطويل الشعر شيئاً يسيراً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. ومن الأشياء المستحبة أيضاً لمن اتخذ شعراً: أن يفرق شعر رأسه نصفين من جانبي اليمين واليسار. وهذا التفريق -أو الفرق- هو ضد السدل، والسدل هو: الإرسال من سائر الجوانب، ويشمل فيما يشمل الإرسال على الجبين واتخاذه كالقصة، هذا من حيث اللغة. والفرق مستحب، والدليل هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فرق بعد). متفق عليه. أي: أنه سَدَل أولاً، ثم كان آخر أمره أنه فرق شعره صلى الله عليه وسلم. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم) رواه البخاري، والوبيص: اللمعان وهذا الطيب باق من أثر التطيب عند الغسل قبل الإحرام، لكن بعد أن يحرم ويلبي فلا شك أنه لا يجوز له أن يمس الطيب. وكان النبي صلى الله عليه وآله سلم -كما جاء في حديث ابن عباس - قد أحب موافقة أهل الكتاب؛ لأن المشركين عَبَدة الأوثان وهم أبعد عن الحق من أهل الكتاب، فأهل الكتاب يؤمنون بالنبوة وبالألوهية وبالرسالات، فهناك فرق في الأحكام بين أهل الكتاب -وهم اليهود والنصارى- وبين المشركين الوثنيين، فأهل الكتاب مع كفرهم دينهم سماوي، وهم أقرب إلى أن يسلموا من المشركين الوثنيين الملاحدة، ولذلك يجوز نكاح نسائهم بشرط الإحصان، ويجوز أكل ذبائحهم أيضاً بشروط. وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقتهم أيضاً ليتألفهم، فلما أسلم أهل الأوثان واستمر أهل الكتاب على كفرهم محصت المخالفة لأهل الكتاب، فكان فرق الرأس هو آخر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. هناك أيضاً عدة أمور وافق فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل الكتاب في بداية الأمر، ثم أمر بمخالفتهم كما في صيام يوم عاشوراء، وكما في استقبال بيت المقدس في الصلاة قبل التوجّه إلى الكعبة، وغير ذلك. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما يدل على جواز الأمرين: السدل أو الفرق، لكن الأفضل هو الفرق؛ لأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء في حديث ابن عباس (فرق الشعر من الفطرة)، وكان من شروط أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على أهل الذمة: ألا يفرقوا شعورهم؛ لئلا يتشبهوا بالمسلمين. قال العلماء: ولأن الفرق أنظف، وأبعد عن مشابهة النساء.

فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في أنواع حلق الرأس وأحكامه

فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في أنواع حلق الرأس وأحكامه ننقل ههنا فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كما جاء في مجموع الفتاوى الجزء (21) صفحة (115)، حيث سأله سائل عن بدعة من بدع الصوفية، وهي أنهم إذا أتاهم الرجل وتوّبوه فإنهم يأتون بحلاق -وهو حلاق مخصوص لمثل هذا- فيحلق له رأسه كشيء من مقدمات التوبة عندهم، وهذا من البدع التي ابتدعوها في التوبة. هذا السائل يسأل شيخ الإسلام عن هذا العمل، فيقول: ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم أجمعين، في أقوام يحلقون رءوسهم على أيدي الأشياخ وعند القبور التي يعظمونها، ويعدون ذلك قربة وعبادة، فهل هذا سنة أو بدعة؟ وهل حلق الرأس مطلقاً سنة أو بدعة؟ أفتونا مأجورين؟ فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين. حلق الرأس على أربعة أنواع: أحدها: حلقه في الحج والعمرة، فهذا مما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مشروع ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27]، وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه حلق رأسه في حجّه وفي عُمَرِه، وكذلك أصحابه: منهم من حلق، ومنهم من قصر. والحلق أفضل من التقصير، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: والمقصرين). قلت: فهذا دليل على أفضلية الحلق لوجه الله عز وجل، وهو من أنواع العبودية والمناسك التي لا ينبغي أن تصرف إلا لله عز وجل، ومن صدق إيمانه ويقينه في ثواب الله عز وجل وفَعَل ذلك، فينبغي له ألا يبالي باستنكار الجَهَلة لحلاقة شعر رأسه. يقول شيخ الإسلام: وقد أمر الصحابة الذين لم يسوقوا الهدي في حجة الوداع أن يقصروا رءوسهم للعمرة إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلقوا إذا قضوا الحج، فجمع لهم بين التقصير أولاً، وبين الحلق ثانياً. والنوع الثاني: حلق الرأس للحاجة، مثل أن يحلقه للتداوي، فهذا أيضاً جائز بالكتاب والسنة والإجماع، فإن الله عز وجل رخص للمحرم الذي لا يجوز له حلق رأسه أن يحلقه إذا كان به أذى، كما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]. وقد ثبت باتفاق المسلمين حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه لما مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، والقمل ينهال من رأسه، فقال: (أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم، فقال: احلق رأسك، وانسك شاة أو صُم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقاً بين ستة مساكين)، وهذا الحديث متفق على صحته، متلقى بالقبول من جميع المسلمين. قلت: فمن كان في حالة النسك، وأصابه المرض، فقد أباح له الله سبحانه أن يحلق رأسه ويفتدي بما جاء في سورة البقرة (آية: 196). فهذا هو النوع الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام، وهو حلق الرأس للحاجة كالتداوي، فهذا يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله)، وهذا من التداوي، فلا بأس به. يقول شيخ الإسلام: النوع الثالث: حلقه على وجه التعبد والتدين والزهد في غير حج ولا عمرة، مثلما يأمر بعضُ الناس التائب إذا تاب بحلق رأسه، ومثل أن يجعل حلق الرأس شعار أهل النسك والدين، أو من تمام الزهد والعبادة، أو أن يجعل من يحلق رأسه أفضل ممن لم يحلقه، أو أَدْينَ أو أَزْهدَ، أو أن يقصّر من شعر التائب، كما يفعل بعض المنتسبين إلى المشيخة إذا توب أحداً أن يقص بعض شعره، ويعين الشيخ صاحب مقص وسجادة، فيجعل صلاته على السجادة، وقصَّهِ رءوس الناس من تمام المشيخة التي يصلح بها أن يكون قدوة يتوب التائبين، فهذا بدعة لم يأمر الله بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست واجبة ولا مستحبة عند أحد من أئمة الدين، ولا فَعَلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا شيوخ المسلمين المشهورين بالزهد والعبادة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا تابعيهم ومن بعدهم، مثل الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأحمد بن أبي الحواري والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء، لم يكن هؤلاء يقصون شعر أحد إذا تاب، ولا يأمرون التائب أن يحلق رأسه. وقد أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جميع أهل الأرض -حيث أن أعظم التوبة هي التوبة من الكفر والدخول في الإسلام- ولم يكن يأمرهم بحلق رءوسهم إذا أسلموا، ولا قص النبي صلى الله عليه وسلم رأس أحد، ولا كان يصلي على سجادة، بل كان يصلي إماماً بجميع المسلمين، يصلي على ما يصلون عليه، ويقعد على ما يقعدون عليه، لم يكن متميزاً عنهم بشيء يقعد عليه، لا سجادة ولا غيره، ولكن يسجد أحياناً على الخميرة، وهو شيء يصنع من الخوص الصغير، يسجد عليها أحياناً؛ لأن المسجد لم يكن مفروشاً، بل كانوا يصلون على الرمل والحصى. قلت: والآن يخصون الإمام بسجادة مليئة بأنواع الألوان والزخارف التي تشغل قلبه، هذه بدعة من البدع؛ لأنها مما لم يكن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم. يقول شيخ الإسلام: بل كانوا يُصلّون على الرمل والحصى، وكان أكثر الأوقات يسجد على الأرض، حتى يبين الطين في جبهته صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً. ومن اعتقد البدع التي ليست واجبة ولا مستحبة قربة وطاعة وطريقاً إلى الله، وجعلها من تمام الدين، ومما يؤمر به التائب والزاهد والعابد، فهو ضال خارج عن سبيل الرحمن، متّبع لخطوات الشيطان. قلت: فهذا فيما يتعلق بالنوع الثالث، وهو حلقه على وجه التعبد والتدين والزهد من غير حج ولا عمرة، فهذه بدعة وضلالة. يقول شيخ الإسلام: النوع الرابع: أن يحلق رأسه في غير النسك -يعني: لا في حج ولا عمرة- لغير حاجة ولا على وجه التقرب والتدين، فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه مكروه، وهو مذهب مالك وغيره. قلت: بالنسبة للرواية الأولى عن الإمام أحمد -أي: أن هذا مكروه- فقد استدل لهذه الرواية بما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في شأن الخوارج: (سيماهم التحليق)، فجعل التحليق علامة للخوارج، وكما في أثر عمر رضي الله عنه حينما قال لـ صبيغ بن عسل: (لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف)؛ لأنه لو كان محلوق الرأس، فهذا يدل على أنه من الخوارج، وكانت هذه عادتهم. ومن أدلّة من قالوا بالكراهة: ما جاء في حديث: (ليس منا من حلق)، إلى آخر الحديث. وقد أجاب بعض العلماء على الاستدلال بهذا الحديث بقولهم: سياق الحديث جاء في النهي عن الحلق عند المصيبة، سواء من الرجال أو النساء؛ لأن فيه إظهار للجزع. والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه يباح حلق شعر الرأس في غير النسك من غير حاجة ولا على وجه التقرب والتدين. وهذا -والله أعلم- أقرب وأصح؛ لقول حافظ المغرب الإمام أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على إباحة حلق الرأس في غير حاجة. وكفى بهذا حجة. يقول شيخ الإسلام: والثاني: أنه مباح. وهو المعروف عند أصحاب أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى غلاماً قد حلق بعض رأسه، فقال: (احلقوه كله، أو دعوه كله). قلت: فقوله: (احلقوه كله)، يدل على إباحة هذا الحلق. وأُتي -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- بأولاد صغار بعد ثلاث، فحلق رءوسهم. قلت: يشير شيخ الإسلام هنا إلى ما صح عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر، أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم. ثم قال: ادعوا بني أخي. فجيء بنا، قال: ادعوا لي الحالق. فأمر بنا، فحلق رءوسنا). وهذا أيضاً من الأدلة على إباحة الحلق في مثل هذه الحالة. وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: ذباب ذباب)، والذباب في مثل هذا السياق يراد به: الشؤم، يقال: رجل ذبابي. قال: (فرجعت فجزرته، ثم أتيته من الغد فقال: إني لم أعْنِك، وهذا أحسن)، أي: لم أكن أقصدك بقولي: ذباب ذباب. وقوله: (وهذا أحسن) أي: ما دام أنك قد حلقته فهذا أحسن مما كنت عليه. وهذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد والبغوي في شرح السنة، وذكر محققه أن إسناده يقبل التحسين. وهناك فرق بين الحلق والقص، فإن الحلق يكون بالموس، وأما القصّ فيكون بالمقص أو بما دون ذلك مثل ماكنة الحلاقة المعروفة، والأفصح في لفظ المقص أن تقول: مقصّين؛ لأن المقص مكون من حدّين. يقول ابن قدامة: وأما استئصال الشعر بالمقراض فغير مكروه، رواية واحدة عن الإمام أحمد، قال أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموس، وأما بالمقراض فليس به بأس؛ لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق. فهذا خلاصة الكلام فيما يتعلق بأدلة هذا القول. يقول شيخ الإسلام مضيفاً إلى هذه الأدلة: ولأنه نهى عن القزع، والقزع: حلق

حكم حلق رأس المرأة وتقصيره

حكم حلق رأس المرأة وتقصيره من الأحكام التي تتعلق بزينة المرأة، ومما تمس الحاجة إلى معرفته: حكم حلق النساء لرءوسهن، أو قصّ شعورهن.

طول شعر المرأة من علامات جمالها

طول شعر المرأة من علامات جمالها من المعروف أن العرب كانوا يعدون طول شعر النساء من علامات الحسن والجمال، والشواهد اللغوية على ذلك كثيرة جداً، ونبتدئ منها بشاهدين: الأول قول الأعشى ميمون بن قيس: غرّاء فرعاء مصقولٌ عوارضها تمشي الهوينى كما يمشي القطا الوجل فقوله: فرعاء. يعني: إن فرعها وهو شعر رأسها تام في الطول والسواد. وقال آخر: بيضاء تسحر من قيام فرعها وتغيب فيه وهو وصف أسحم يعني: أن شعرها أسود طويل، فكأنها فيه نهار ساطع، وكأنه ليل عليها مُظلم. وهذه الشواهد تفيد أن نقص شعر المرأة بالقص -فضلاً عن الحلق- يُعتبر نقصاً في جمالها، وتشويهاً لها، وهو مثلة. نحتاج إلى التفريق بين القص والتقصير والحلق. فالقص يعني: أخذ الشعر بالمقص. وأصل القص: القطع. والتقصير: حلق شيء من الشعر دون أن يستأصله كله. أي: أنه يجعله قصيراً. أما الحلق فهو: إزالة الشعر تماماً بالموس. الوفرة: ما وصل من الشعر إلى شحمة الأذن. والجمّة: ما نزل عن شحمة الأذن، لكن لم يبلغ المنكبين. أما اللمة: فهي ما ألمّ بالمنكبين.

أقوال العلماء في حكم حلق المرأة لشعرها

أقوال العلماء في حكم حلق المرأة لشعرها العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يجوز أن تحلق المرأة شعر رأسها. واستدلوا بحديث يزيد بن الأصم في قصة زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـ ميمونة رضي الله عنها، يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً وبنى بها، وماتت بَسَرِف، فحضرت جنازتها، فدفناها في الظلة التي بنا بها فيها، فنزلنا قبرها أنا وابن عباس، فلما وضعناها في اللحد مال رأسها، فأخذت ردائي فوضعته تحت رأسها، فاجتذبه ابن عباس فألقاه، وكانت قد حلقت رأسها في الحج، فكان رأسها محجماً)، ففي هذه الرواية أن رأسها كان محجّماً -يعني: من الحجامة- وفي رواية أخرى عن يزيد بن الأصم (أن ميمونة حلقت رأسها في إحرامها فماتت ورأسها محمم) رواه ابن سعد وإسناده صحيح. ومعنى (رأسها محمم) يعني: مسوّد؛ بسبب نبات الشعر بعد الحلق. وجاء من حديث أنس رضي الله عنه (أنه كان إذا حمم رأسه بمكة خرج واعتمر) يعني: كان يعتمر ويحلق، ثم ينتظر حتى ينبت شعره من جديد، ويصبح لونه مائلاً إلى السواد، فيعتمر مرة أخرى. وقد ردّ بعض العلماء على من استدل بحديث ميمونة رضي الله عنها، وقالو: لعلها لم يبلغها الحديث بأن المرأة لا تحلق رأسها في الحج، بل تقصّر فقط عند التحلل من الإحرام، وليس عليها أن تحلق، بل تجمع شعرها أو ضفائرها وتأخذ منها قدر الأُنملة، فهذا يكفيها في التحلل. فأصحاب القول الأول استدلوا بحديث ميمونة أنها حلقت رأسها في الإحرام، وهذا القول مرجوح بلا شك، ويؤول حديث ميمونة -إذا صح عنها- إما بأن هذا اجتهاد منها أخطأت فيه، وهذا احتمال بعيد، وإما أنها حلقت من أجل الحجامة؛ وذلك حتى تتمكن آلة الحجامة من الوصول إلى الموضع الذي احتجمت فيه، فيكون حلقها للتداوي. وهذا الاحتمال هو الأقرب. قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله على صحة الحديث: فإن الحلق المذكور كان لضرورة المرض؛ لتتمكن آلة الحجم من الرأس، فالضرورة يباح لها ما لا يباح لدونها، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]. أما القول الثاني: أنه لا يجوز أن تحلق المرأة رأسها. واستدلوا بجملة أدلة: الدليل الأول: إجماع العلماء على عدم حلقهن في الحج، ولو كان الحلق جائزاً، فأولى المواضع التي يجوز فيها هو التحلل، أو قضاء التفث في الحج؛ لأن هذا نسك. قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمعوا على أنه لا حلق على النساء، وإنما عليهن التقصير، فيكره لهن الحلق؛ لأنه بدعة في حقهن، ولأنه مُثلة. أي: تشويه للهيئة. الدليل الثاني: هناك أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق، وإن كانت آحاد هذه الأحاديث ضعيفة، لكن هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً كما ذكر بعض العلماء. منها حديث علي رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها). وهناك أيضاً في نفس هذا الباب أحاديث عن عائشة وعثمان رضي الله عنهما. وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير) رواه أبو داود وحسّنه الحافظ ابن حجر في الفتح، وأيضاً حسّنه النووي. الدليل الثالث: أن هذا الفعل ليس من عمل المسلمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). الدليل الرابع: أنه تشبه بالرجال، وهذا حرام، وقد ورد فيه اللعن. الدليل الخامس: أن الحلق مُثْلة، والمثلة لا تجوز، ولا يجوز أن يشوه الإنسان هيئته. القول الثالث: أن حلق رأس المرأة مكروه. وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى كراهة حلق المرأة رأسها من غير ضرورة، واستدل بحديث أبي موسى رضي الله عنه: (برئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصالقة والحالقة)، والصالقة: هي المصوّتة التي تصوت صوتاً عالياً عند موت قريب لها. والحالقة: هي التي تحلق شعرها حزناً على الميت. يقول الحسن: هي مُثْلة، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن المرأة تعجز عن شعرها وعن معالجته، أتأخذه على حديث ميمونة؟ قال: لأي شيء تأخذه؟ قيل له: لا تقدر على الدهن وما يصلحه، فتقع فيه الدواب؟ قال: إذا كان لضرورة فأرجو ألا يكون به بأس. فالذين قالوا بالكراهة صرفوا النهي الذي يقتضي التحريم إلى الكراهة، وعلّلوا ذلك بأن أحاديث النهي عن الحلق فيها اضطراب أو إرسال. وحديث: (بريء رسول الله عليه الصلاة والسلام من الصالقة والحالقة)، ليس على إطلاقه، بل لكونها فعلت ذلك جزعاً واعتراضاً على حكم الله في موتِ عزيزٍ عليها، فلذلك لم يحمل هذا الحديث على النهي المطلق. وخلاصة الكلام: أنه يحرم على المرأة أن تحلق رأسها من غير ضرورة؛ لأنه مُثْلة، وتغيير لخلق الله، وتشبه بالرجال، فهذه كلها متحققة في الحلق, بجانب الأدلة التي سردناها.

حكم قص وتقصير شعر المرأة

حكم قص وتقصير شعر المرأة أما حكم قص المرأة لشعرها فهو من البلايا التي شاعت في هذا الزمان، بل من النساء من تبالغ في قصّ شعورهن حتى لا يفترقن عن الرجال! لكن في المسألة تفصيل: فذهب بعض العلماء إلى تحريم قص أو تقصير المرأة لشعرها، يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: إن العرف الذي صار جارياً في كثير من البلاد بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله، بدعة إفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين، ونساء العرب من قبل. والكلام هنا في القص إذا لم يصل إلى حدّ اللمّة، واللمّة: ما ألمّ بالمنكبين من الشعر. أما القص إلى حد الوفرة فهذا غير جائز قطعاً. واستدل بعض العلماء على إباحة ذلك -أي: القصّ فوق اللمة- بما رواه مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها أنا وأخوها من الرضاعة، فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة، فذكرت له ذلك، ثم قال الرواي: وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة. قال النووي في شرح مسلم: يدل هذا الحديث على جواز تخفيف الشعر للنساء. وهذا المذهب ينتصر له الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى. وبعض الناس استأنسوا لحكم التقصير في جواز ذلك في النسك، وأن المرأة ما دامت يجوز لها أن تقصر في النسك، فيجوز لها خارج النسك، وهذا استئناس وليس استدلالاً. وقد ردّ الشيخ الشنقيطي رحمه الله عن استدلال بعض العلماء بهذا الحديث الذي فيه: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كُنّ يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة. حيث قال: إن هذا لا يحتمل أبداً أن يكون وَقَع في حياة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لضرورة التزين للزوج، أما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهنّ كُنّ تجملن له في حياته، ومن أجمل زينتهن شعرهن، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلهن حكمٌ خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض، وهي انقطاع أملهن انقطاعاً كلياً من التزويج، ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع، فهنّ كالمعتدات المحبوسات بسببه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الموت؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]. ثم قال: فمن قاس سائر النساء على أمهات المؤمنين في هذه المسألة فهذا قياس مع الفارق؛ لأن هذا حكم خاص بأمهات المؤمنين لا يدخل فيه غيرهن، فهذا اليأس قد يكون سبباً للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة لا تحل لغير ذلك السبب. ونفس التعليل ذكره أيضاً القاضي عياض رحمه الله في هذا الحديث الذي رواه مسلم في أنّهن تركن التزيّن بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا ترخصت المرأة، وأخذت بقول الفريق الذي يبيح القص، فلا تبالغ في القص حتى تقص مادون المنكبين، إلا إذا كان هناك عذر من مرض أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.

الختان

الختان

حكم الختان للرجل والمرأة

حكم الختان للرجل والمرأة يقول في منار السبيل: والختان واجب على الذكر والأنثى. فهذا أحد المذاهب في حكم الختان، وهو هنا يوجبه على الذكر والأنثى، وهذه هي الرواية المعتمدة في المذهب الحنبلي. وعلّل الوجوب بقوله: لأنه من ملة إبراهيم عليه السلام، وفي الحديث (اختتن إبراهيم بعدما أتت عليه ثمانين سنة)، وهناك زيادة في الحديث: (بالقدّوم) أو (بالقدوم) بالتخفيف والتشديد للدّال، والأكثرون رووه بالتشديد -يعني: بالقدُّوم- فإما أن يكون اسم مكان بالشام أخذاً بالتخفيف، أو يكون بآلة النجار على القول بالتشديد، وقد قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123]، فنحن مأمورون باتباع إبراهيم عليه السلام في ذلك، ولو لم يكن الختان واجباً عليه لما اختتن بعد أن بلغ عمره ثمانين سنة؛ لما في ذلك من المشقة. وقد صح في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] أن هذه الكلمات هي عشر، خمس في الرأس وخمس في الجسد، وذكر منها بعض خصال الفطرة. فهذا من جملة ملّة إبراهيم عليه السلام وسنته التي أُمرنا باتباعه فيها، فلا يغتر الإنسان بما صدر من بعض المعاصرين كالشيخ محمد عبده في كلامه عند تفسير هذه الآية، حيث قال: كيف يكون ابتلاء إبراهيم بمثل هذه الأحكام؟! فكأنه استنقصها ولم يعلم أن هذا من جملة ما ابتلاه الله عز وجل وكلّفه به، ولا ينبغي أن يتعامل مع النصوص الشرعية بهذه الطريقة، وهذه المدرسة -كما تعلمون- ليست هذه أولى الزلات لها في التعامل مع النصوص الشرعية. وتكليف إبراهيم عليه السلام بالختان وهو على رأس ثمانين سنة، أليس في هذا ابتلاء شديد من جملة ما ابتلاه الله عز وجل به من الأحكام؟! وقال عليه الصلاة والسلام لرجل أسلم: (ألق عنك شعر الكفر واختتن)، حسّنه الألباني وغيره، فهذا أمر وخطاب للواحد يشمل غيره، إلا إذا قام دليل على الخصوصية، وهنا لم يقم دليل على الخصوصية، فهو يشمل بعمومه جميع المكلفين. ومن الأدلة: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا التقى الختانان وجب الغسل)، حديث صحيح، فقالوا: هذا دليل على أن النساء كُنّ يختتن. وقال أحمد: كان ابن عباس رضي الله عنهما يشدّد في أمره، حتى قد روي عنه أنه لا حج له ولا صلاة. والأدلة التي أوردها القائلون بوجوب الختان يصح الاستدلال بها على وجوبه بالنسبة للرجل، أما في حق المرأة ففيه تفصيل. ومن أوضح الأدلة على جواز الختان في حق النساء على الأقل: قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل). وقول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123]، هذا بالنسبة لختان الرجال، والآية فيها أمر باتباع إبراهيم عليه السلام فيما فعل، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فهذا يقتضي إيجاب كل فعل فَعَله إلا أذا أتى دليل يدل على أنه سنة في حقّنا كالسواك ونحوه. وكذلك حديث: (الفطرة خمس) وذكر منها (الختان). وقد تقدم قول القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين؟! أيضاً مما يستدل به على الختان في حق المرأة حديث أم عطية رضي الله عنها، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (لا تُنهكي؛ فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل) وفي رواية: (أشمي ولا تنهكي). والحملة التي تُثار بين وقت وآخر ضد ختان النساء هي حملة غير منطقية وغير مقبولة؛ لأن القوم يغضّون الطرف عن هذه الضوابط التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر. فقوله: (أشمي) وقوله: (ولا تنهكي) هو عبارة عن وضع للضوابط؛ لتفادي الأخطاء التي قد تحدث وتسبب بعض المضار، فكلامهم في هذه القضية هو تحصيل حاصل، وكذلك كلامهم فيما يتعلق بالأضرار التي تحصل عن هذا الأمر، وهي أضرار توجد في أي عميلة جراحية، حتى ختان الذكور قد يترتب عليه الكثير من الأضرار إذا حصل خطأ ممن يمارس هذه العميلة؛ لأن الناس يكلوا هذا الأمر إلى من ليس لديهم علم بأمور الجراحة أو الطب، فيحصل تلوث في الجرح، أو نزيف، أو أي خطأ نتيجة الاعتماد على الجهال أو الجاهلات في القيام بهذه الأعمال. لكن هذا يُضبط بأن يشرف على هذا أهل الاختصاص وأهل الطب، ولا يقوم بهذا العمل إلا من شُهد له بالخبرة، سواء من الرجال أو النساء. وهذه الحملة يأتون بها إلينا من الغرب لأسباب معلومة، وإلا فليس الخطأ ناتج من تطبيق هذه السنة، وإنما من بعض من يتصدرون للقيام بهذه الأشياء دون علم. فقد يقال: إن الختان في حق الرجل واجب، أما في حق المرأة فهو مكرمة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الفطرة خمس) وذكر منها: (الختان والفطرة). وهناك حديث رواه الإمام أحمد والبيهقي وفيه نظر من حيث الإسناد: (الختان سنّة للرجال، ومكرمة للنساء). والمرأة تختلف عن الرجل في أمر الختان، فيصعب القول بالوجوب على الفريقين؛ لأن مصلحتها في أمر الختان حالية، وليست ضرورية. وقد ثبت ختان الرجل كما جاء عن إبراهيم، ولم يثبت أن إبراهيم عليه السلام أمر المرأة بالخفض، ولكن قد ثبت في السنة استحباب الخفض. والخلاصة: أنه واجب للذكور، ومكرمة للنساء.

وقت الختان

وقت الختان يستحب الختان عند البلوغ، وقبله أفضل، فلو أن إنساناً أخر الختان إلى البلوغ، فهذا يكون هو وقت الوجوب، والأفضل أن يكون في وقت الاستحباب، أي: من اليوم السابع حتى البلوغ، فهذا وقت الاستحباب؛ لأنه كلما كان الطفل صغيراً، كلما كان التئام الجرح سريعاً، وأيضاً الإنسان قبل ذلك لا يكون مكلفاً. سئل ابن عباس رضي الله عنهما: مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا يومئذ مختون، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك. رواه البخاري. ونقل في الفروع عن الشيخ تقي الدين أنه قال: يجب إذا وجبت الطهارة والصلاة. لكن يستحب للولي أن يختن الصغير في صغره؛ فإنه أرفق به، كما ذكرنا أرفق به، وأسرع إلى شفاءه. الختان مستحب قبل البلوغ، ومع ذلك فالمستحب هنا أفضل من الفرض، وهناك أحكام قليلة يكون فيها المستحب أفضل من الواجب، وقد نظم الإمام السيوطي رحمه الله تعالى هذه الأشياء التي يكون فيها ثواب النافلة أعظم من ثواب الفرض، فقال رحمه الله: الفرض أفضل من تطوع عابدٍ حتى ولو قد جاء منه بأكثر إلا التطهر قبل وقت وابتداء بالسلام كذاك إبرا المعسر وكذا ختان المرء قبل بلوغه تمّم به عقد الإمام المكثرِ فأول شيء: التطهر قبل دخول الوقت؛ لأنه إذا دخل الوقت حينئذ يجب عليه أن يتطهر، لكن الوضوء قبل دخول الوقت هو الأفضل. الثاني: الابتداء بالسلام، فالذي يبدأ السلام له فضل على المسَّلم عليه؛ ويكون المسلَّم أولى بالله؛ لأن السلام اسم من أسماء الله عز وجل، وردّ السلام واجب: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، والبداءة بالسلام مستحبة، ومع ذلك فهي أفضل من الردّ. الثالث: إبرا المعسر، يعني: إبراء المعسر، والعفو عنه في الدَّين، فهذا أفضل من إنظاره حتى يتيسر له القضاء. الرابع: هو الختان قبل البلوغ، والذي سبق بيانه.

السواك وسنن الفطرة [5]

السواك وسنن الفطرة [5] علق الله سبحانه وتعالى الفلاح في الدنيا والآخرة بالتقوى، ومن تقوى الله تعظيم شعائره، وإن من الشعائر التي لازمها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بها، وحث عليها: خصال الفطرة، وقد أكد على شيئين هما: حفّ الشارب، وإعفاء اللحية.

الأمر بإعفاء اللحية وحف الشارب

الأمر بإعفاء اللحية وحفّ الشارب عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (خالفوا المشركين، احفوا الشوارب وأوفروا اللحى) هذا أمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعفاء اللحية.

تقرير القاعدة الأصولية: ظاهر الأمر يفيد الوجوب

تقرير القاعدة الأصولية: ظاهر الأمر يفيد الوجوب هناك قاعدة أصولية معروفة، وهي: ظاهر الأمر الوجوب. والظاهر: أن تكون الصيغة محتملة احتمالاً راجحاً، واحتمالاً مرجوحاً. فالظاهر هو الاحتمال الراجح، والاحتمال المرجوح هو الذي إذا صِيْر إليه يسمى تأويلاً. فالتأويل: أن تصرف اللفظ عن الظاهر. لكن لا بد أن تكون هناك قرينة دلّت على ذلك، فظاهر الأمر الوجوب، كما قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] هذا نص في دلالته على التحريم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإعفاء اللحية، هذا أمر ظاهره الوجوب؛ لأن المعنى الراجح من الأمر هو الوجوب، والمرجوح هو الاستحباب، فلا يصرف اللفظ عن الظاهر -الذي هو الاحتمال الراجح- إلا بدليل يصرف إلى هذا التأويل. وهذه القاعدة يُحتاج إليها كثيراً، وعليها أدلة من العقل والنقل. أما من العقل: فمعلوم أن السيد إذا أمر عبده بأمر فلم يمتثل هذا العبد أمر سيده فإنه يُذَمّ، ويوصف بالعصيان. وأما النقل: فيقول الله عز وجل لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، كان الأمر ليس دالاً على الوجوب لقال له إبليس: الأمر ظاهره لا يدل على الوجوب! وأيضاً: ليس المراد هنا هو الاستفهام، لكن المراد هو الذم والعيب، وأنه لا عذر له بإخلاله بأمر الله عز وجل بالسجود الذي جاء في قوله: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) ولو لم يكن الأمر للوجوب لكان من الممكن له أن يعتذر قائلاً: إنك لم تلزمني بالسجود بهذه الصيغة. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48]، فهذا أمر، وقد أتى في سياق ذمّهم على ترك هذا الفعل لما قيل لهم: افعلوه. بصيغة الأمر، فلو كان الأمر يفيد الندب لما حصل هذا لهم الذم. أيضاً: يقول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] فقوله: ((يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)) يعني: يعرضون عن أمره بترك مقتضاه. وفي قصة موسى عليه السلام مع أخيه هارون عليه السلام: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93]، يعني: تركت مقتضى أمري. ويقول عز وجل: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) [الجن:23]. والأمر الذي أمره به موسى هو قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف:142]، وهذا أمر مجرد عن القرائن، فكان ظاهره الوجوب، ولذلك وصف عدم فعله بالعصيان بقوله: ((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)). وقد استدل الأصوليون على هذه القاعدة بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ} [الأحزاب:36] أي: حكم {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. وأيضاً: يستدل بقول النبي عليه الصلاة السلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، و (لولا): تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره، وهي هنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة، فهذا يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة، والإجماع قائم على أن السواك مندوب؛ فلو لم يكن الأمر كذلك لأَمَر به النبي عليه الصلاة والسلام سواء شقّ عليهم أو لم يشق. وكما في قصة بريرة لما أُعتقت وزوجها مغيث لا زال عبداً، فكان يتبعها في سكك المدينة وهو يبكي من شدة تعلّقه بها، وهي تأبى الرجوع إليه، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم منها أن تعود إلى زوجها قالت: (يا رسول الله! تأمرني؟ قال: إنما أشفع) فيفهم من هذا أن قولها للنبي عليه الصلاة والسلام: (أتأمرني؟) أي: إن كان أمراً فلا مناص من التزامه، وإن لم يكن أمراً فسوف تختار ما تريده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما أشفع) أي: إنما أنا مجرد شافع، ولا آمرك أمراً شرعياً. قالت: (فلا حاجة لي فيه)، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا تعجبون من حب مغيث بريرة، وبغض بريرة مغيثاً؟!) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه المقدمة -في معنى الأمر ومقتضاه- نحتاجها دائماً قبل أن نذكر أي أَمْر أَمَر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثر الناس في هذا الزمان ربما لا يبالون بأوامر النبي عليه الصلاة السلام، فإذا أردنا إخبار الناس بأي حكم شرعي من السنّة -سواء في أي قضية تخص المسلمين أو المسلمات- فينبغي أن نصدرها بالقول: إن الدليل على وجود هذا الحكم هو كل آية في القرآن فيها الحث على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

أدلة وجوب إعفاء اللحية

أدلة وجوب إعفاء اللحية الدليل الأول على الترهيب من عدم امتثال إعفاء اللحية: هو كل آية في القرآن تُرهّب من معصية أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا هو أعظم الأدلة على وجوب امتثال أوامره. ثم تأتي أدلة خاصة في المسألة تتعلق بالمسائل التي نحن بصددها: روى ابن عمر رضي الله عنهما -كما في الصحيح-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية). وقال عليه الصلاة والسلام: (أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى)، وفي الحديث الآخر: (جزوا الشوارب، وأعفوا اللحى، وخالفوا اليهود). فهذه كلها صيغ أمر ووردت بصيغ مختلفة جمعها الإمام النووي رحمه الله تعالى، فحصل منها خمس صيغ: (أعفوا)، (أوفوا)، (أرخوا)، (وفّروا)، وهذا كله للوجوب يفيد وجوب امتثال المأمور به؛ لأنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وليست هناك قرينة تصرفه إلى الندب، ويجب القول: بأن حلق اللحية معصية صريحة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وبعض الناس يفتشون في كتب الفقه عن أي شيء يسند موقفهم بعدما يكون موقفهم في النهاية هو الحاكم على اختياراتهم، فإذا ظفروا بشيء يضعف الحكم المشهور مالوا إليه، واعتصموا بأن خلاف الأمة رحمة، وأن لا إنكار في المسائل الخلافية، وأن هناك علماء قالوا كذا، وعلماء قالوا كذا، ويكون الهوى هو الحاكم في مثل هذه القضية!! والذي استطاعوا أن يظفروا به: هو خلاف الأصوليين في صيغة الأمر، هل هي تقتضي الوجوب؟ أم أنها تقتضي الندب؟ فاعتبروا هذا الخلاف بين العلماء في كتب الأصول مسوّغاً للفرار من الالتزام بإعفاء اللحية، وقالوا: هو سنة وليس واجباً. ولو سلّمنا لهم بأنها سنّة فلماذا يواظبون على تركها؟! هذا إذا لم يشنعوا على القائمين بفعلها والممتثلين لها! فهم يقولون بأفواههم: هي سنة. ومع ذلك ترى عامتهم معرضون عن هذه السنة! فيقولون: الأمر الغالب في قوله: (جزوا الشوارب وأعفوا اللحى) هذا أمر للندب، وطالما كان الحال كذلك فإن إباحة الحلق تؤخذ من جهة كون المندوب غير ممكن. فعلى هذا الكلام -وهو قولهم: الأمر للندب- يكون إعفاء اللحية وتقصيرها وتنميتها وتركها على حالها، هذا هو مقتضى كل هذه الروايات؛ لأن الأمر هو أمر بالإطالة لا بمطلق وجود اللحية، فمطلق وجود اللحية هو شيء مفروغ منه، كما سيأتي في الأدلة أن الذين كانوا يقصون اللحى ويقصرونها هم المجوس، كما يفعل كثير من الناس في هذا الزمان، فالمنهي عنه هو مخالفة المجوس بتوفير اللحية، لا مجرد وجود عينة رمزية تشير إلى وجود لحية في وجه الرجل. فحتى لو قالوا: إن الأمر على الندب، فيجب أن نبحث: ما هو الشيء المندوب والمستحب في الحديث؟ المستحب: هو الإطالة والتوفير فقط، أما أصل وجود اللحية فغير داخل في مثل هذا الاستدلال. فالإعفاء والإرخاء والإسدال والتوفير وترك اللحى على إطلاقها، الذي يقابل هذا كله: هو التقصير، لا الحلق والاستئصال. والعلماء يقولون: قد يأتي النهي أحياناً بصيغة الأمر؛ لأن النهي هو طلب الكف عن الفعل. وقد يرد النهي بصيغة الأمر، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أعفوا)، يعني: اتركوها وأعفوها ولا تقصوها. فالنهي يستلزم اجتناب الحلق: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، فالشيء المعين إذا أمر به، كان ذلك الأمر نهياً عن الشيء المعين المضاد له، فإذا أُمرت بالحركة، فالأمر بالحركة يتضمن النهي عن السكون، وهذا حينما يكون المحل واحداً كذلك إذا كان المحل متعدداً، مثل الأمر بالقيام، فإنه يتضمن النهي عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك من الهيئات. فالكف عن المحل لازم للأمر لزوماً لا ينفك عنه، فلا يحصل الأمر إلا بالكف عما يضاده، لاستحالة اجتماع الضدين. وقد أتى ما يشعر بالنهي الصريح في حديث أبي ريحانة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر: عن الوشر والوشم والنتف). يقول القاري في مرقاة المفاتيح: والنتف. أي: عن نتف النساء لشعورهن من وجوههن، أو نتف اللحية بأن ينتف البياض منهما، أو نتف الشعر عند المصيبة. فالعلماء لم يكونوا يتخيلون أن الناس سوف يتعدّون المخالفة إلى الإزالة الكاملة كما يحصل الآن، لكن حملوها على أنه نتف الشعر الأبيض من اللحية، حتى لا يظهر الشيب.

حلق اللحية مثلة

حلق اللحية مُثْلة إذا قلنا: إن حلق اللحية مُثلة -كما ذهب إلى ذلك الإمام مالك رحمه الله تعالى وغيره- فنستطيع أن نجزم بأن هناك نهياً صريحاً عن حلق اللحية باعتبارها مُثْلة، كما في حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة). وفي حديث سمرة بن جندب وعمران بن حصين رضي الله عنهما قالا: (ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة). والمُثلة: التشويه بأي أسلوب، سواء كان بحلق الإنسان للحيته، أو بغير ذلك، ويشمل التمثيل بجثث القتلى في الحروب. وروى ابن عساكر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: إن حلق اللحية مثلة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة. فالأمر والنهي جاء في الأحاديث التي فيها أمر النبي عليه الصلاة والسلام بإعفائها، ثم النهي كما في المثلة والنهي عن النتف، والنهي بصيغة الالتزام، فيلزم من الأمر بالشيء الكف عما يضاده.

الأمر بإعفاء اللحية مخالفة للكفار

الأمر بإعفاء اللحية مخالفة للكفار هناك قاعدة معروفة في الشريعة، وهي قاعدة مقررة وراسخة لم يتم التفصيل فيها، وهي: ترغيب الشرع في مخالفة الكفار، والتأكيد على ذلك في أبواب كثيرة جداً من العبادات أو العادات. والمقصود: النهي عن التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم، لكن الكفار يأكلون ونحن نأكل، وهم يركبون السيارات ونحن نركب، أليس هذا تشبهاً بالكفار؟! نقول: لا، إلا فيما يختص بلباس الكفار، مثل القسيس الذي يلبس الثياب المعروفة التي تختص بالكفار، فإذا لبسها المسلم ففي هذه الحالة يقع في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا). فهذه القاعدة لها أدلة عظيمة وكثيرة أيضاً، لكن الدليل المباشر في هذه القضية هو ربط قضية تشبه الكفار بحلق اللحية، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خالفوا المشركين: حفوا الشوارب وأوفوا اللحى). وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس، فقال: (إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحالهم فخالفوهم). يقول الحافظ ابن حجر: فإنهم كانوا يقصون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها. معنى ذلك: أن المجوس الذين أُمرنا بمخالفتهم كانوا طرفين: منهم من يحلقها، ومنهم من يقصرها ويقصها، فكيف تكون مخالفتهم؟ تكون بالإعفاء والتوفير، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي حديث أبو أمامة، أن بعض مشيخة الأنصار قالوا: (يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم) والعثانين: اللحى، والسبال: الشوارب، وهو لم يقل: يحلقون. بل قال: يقصون. (يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: كفوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب). وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إن أهل الشرك يعفون سبائلهم ويحفون لحاهم، فخالفوهم: اعفوا اللحى، واحفوا الشوارب). والتشبه في الظاهر يعكس ما في القلب والباطن من والمحبة، ولذلك نرى من أحب قوماً أُولع بالتشبه بهم في مظهرهم وملبسهم، فإنك ترى بعض الفنانين -ولو كان من أفسق الفساق أو من لاعبي الكرة أو شيء من هذا- يخترع تخليعة معينة في ملابسه أو هيئته أو شعره، فتجد من ينقادون وراءه انقياداً كلياً، وينظرون إلى هذا بعين الاستحسان والإقرار، ويغفلون عن أن الأولى بالمسلم أن يربط نفسه بمن جعله الله عز وجل مثله الأعلى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. فمن تشبه بالكفار في حلق اللحى، فهذا يعني أنه استحسن بقلبه ما عليه هؤلاء الناس، وأنه لا يستحسن -بل يستقبح- ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وجميع أئمة المسلمين وعامتهم في كل العصور، حتى أتى علينا هذا الزمان الذي فُتح علينا فيه باب الفتن، ولا سيما من اليهود والنصارى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يعد المسلمون يحسّون بصدى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم). فإن رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام كانت له لحية عظيمة وجميلة، وكذلك الصحابة والسلف، والأئمة، ولم يوجد منهم من حلق لحيته في حياته مرة واحدة، بل إن بعض الأمراء ممن لم يكونوا متفقهين في الدين كانوا إذا أرادوا أن يؤدبوا أحداً من الرعية لخطأ ارتكبه، عاقبوه بحلق لحيته، ثم يركبونه على دابة؛ ليشهروا به بين الناس؛ فإن من الإهانة ومن العقوبة أن تُحلق لحيته، ويركب على دابة، ويطوفون به بين الناس وفي الأسواق، تعييراً له بهذا الهيئة المزرية. فالشاهد: أن هذا كان تعييراً عند الناس. وقال بعض العلماء: لا يجوز التعزير بحلق اللحية. ونهى العلماء عن أن يعزر الإمام أحداً من الرعية بحلق لحيته؛ لأن هذا حرام. وهناك طوائف من اليهود يتميزون جداً بزيهم الباطل، فلا يمكن أن تجد بينهم رجلاً حالقاً للحيته أو ليس في وجهه لحية، إلا الأمرد الصغير الذي لم تنبت لحيته، لكنك لا ترى أبداً يهودياً من هذه الطوائف يحلق لحيته وإن كانوا يوفرون سبالهم! فالمخالفة ليست في مجمل الأمر نفسه، بل في تفصيل هذا الأمر، فالقساوسة -مثلاً- يعفون لحاهم، واليهود يعفون لحاهم، والمسلمون يعفون لحاهم، لكن المخالفة تأتي في بعض الجزئيات والتفاصيل، وهو فيما يتعلق بقص الشارب، فهذا وجه المخالفة، وليست المخالفة في حلق اللحية كما قد يفهمه البعض.

حلق اللحية تشبه بالنساء

حلق اللحية تشبه بالنساء كثير ممن يحلقون اللحى لا يلتفتون إلى هذا الأمر؛ بسبب تعودهم واستمرائهم لهذا الأمر، وربما كان هذا بسبب تضليل بعض شيوخ السوء وتشويشهم على الأحكام الشرعية في هذا الباب. وهذا الأمر هو: أن حلق اللحية فيه نوع من التشبه بالنساء، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال). وفي الحديث الآخر: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل). وتشبه الرجل بالمرأة أو العكس من الكبائر، فيحرم على الرجل أن يتشبه بالمرأة في أي شيء، سواء في الكلام في الحركة في الملابس في الهيئة، ونحو ذلك. وقد نص بعض العلماء على أن حلق اللحية فيه تشبه بالنساء، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: وبها -يعني: باللحية- يتميز الرجال من النساء. وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وأما شعر اللحية، ففيه منافع، منها: الزينة والوقار، والهيبة؛ ولهذا لا يرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يرى على ذوي اللحى، ومنها: التمييز بين الرجال والنساء. وقال الكاندهلوي: اللحية: هي المميزة بين الرجل والمرأة؛ إذ الشعور غير اللحية مشتركة بينه وبينها. فاللحية هي الفارق الأول والمميز الأكبر بين الرجل والمرأة، كما هو مشاهد ومعلوم للجميع. ولا شك أن الإنسان يستقبح ويستنكر أن المرأة تحلق شعر رأسها؛ لأن هذا شيء يستغرب ويستقبح، وهو مُثْلة. فينبغي أن يكون لديك نفس الشعور بالضبط إذا رأيت رجلاً قد حلق لحيته، لكن إنكار هذا المنكر لم يعد مصحوباً بالاستنكار المطلوب؛ لكثرة من يحلقون لحاهم، وكما قيل: كثرة المساس تُفقد الإحساس! فلم يعد في قلوبنا نفس هذا الشعور من الاستقباح لهذا المنكر. وقد جاء في قصة مصرع أبي جهل لعنه الله، قال النبي عليه السلام للصحابة: (من ينظر إلى ما صنع أبو جهل، فانطلق ابن مسعود رضي الله عنه، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، قال: أأنت أبو جهل؟ فأخذ بلحيته). متفق عليه. أي: أن ابن مسعود أخذ بلحية أبي جهل لعنه الله. فالعرب ما كانت تحلق اللحى، حتى المشركين الذين بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يعفون لحاهم، بل حتى أبو جهل وأبو لهب وغيرهم كانوا يعفون لحاهم قبل الإسلام؛ لأن اللحية من خصال الفطرة، وهي من علامات الرجولة، ولم تكن العرب تعرف حلق اللحية، وما تركت هذه الزينة لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وأتى الإسلام فأقرهم عليها، بل وأمر بها أيضاً. وهناك أثر مروي عن عائشة -ولا أظنه صحيحاً- أنها كانت تقول: (سبحان من زين الرجال باللحى، والنساء بالذوائب)، والمعنى صحيح، فزينة الرجل غير زينة المرأة. ومما يناسب الإشارة إليه: أن الرجل خلقه الله تبارك وتعالى باللحية؛ لتظهر فيه الرجولة، والرجولة: هي عبارة عن مجموعة من السمات الظاهرة والباطنة كلما اجتمعت هذه السمات، كلما كانت الرجولة والفحولة أتم. فخصال الرجولة هي أثر من آثار هرمون الذكورة، وهذا الهرمون اسمه: (التستسترون)، وهناك أمراض قد تطرأ على بعض الرجال فينشأ عنها نقص في الرجولة، وهذه الأمراض تكون مصحوبة بسقوط شعر اللحية من الوجه، وهرمون الرجولة إذا حُقنت به أنثى فإنه يؤدي إلى ظهور بعض خصال الذكورة عليها، ومنها نمو اللحية في الوجه، وهذا هو المعروف في الطب، ومما يؤثر من الناحية الطبية: أن اللحية مختصة بالرجال، وأنها الفارق الواضح بين المرأة والرجل!

اللحية من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على الرجال

اللحية من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على الرجال اللحية من نعم الله تبارك وتعالى العظيمة على الرجل، وهي مما زين الله به الرجل وأكرمه به، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]. قال بعض العلماء: من تكريمه لبني آدم: خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها. وذكر بعض العلماء اللحية في تفسير هذه الآية كنوع من أنواع هذا التكريم، كما ذكر الإمام البغوي عند قوله تعالى: ((كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)) قال: يعني: كرمنا الرجال باللحى، والنساء بالذوائب. وقال أبو حيان: وقيل: اللحية للرجل، والذؤابة للمرأة. وكذلك قال القرطبي. وتأمل هذه الآية: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، وقال عز وجل: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3]، ولهذا أحسن وأكمل صورة يظهر بها الإنسان هي التي خلقه الله عز وجل عليها. ويقول تبارك وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]. ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل خلق الله عز وجل حَسَن). وقد كان السلف رحمهم الله يعرفون هذه المعاني الواردة في مثل هذه الآيات، فلهذا كانوا يعظمون شأن اللحية، ويعتنون بها، يقول عمرو بن دينار: كان قيس بن سعد رجلاً ضخماً جسيماً، صغير الرأس، ليس له لحية، إذا ركب حماراً خطت رجلاه الأرض. قال الشيخ ابن فوزان حفظه الله: كان قيس بن سعد أشطاً، والأشط: الذي لا لحية له، وإذا كان الرجل دون البلوغ وليس له لحية فإنه يسمى أمرداً، لكن الذي بلغ وليس له لحية يسمى: أشطاً. قالت الأنصار: نعم السيد قيس، لبطولته وشهامته، ولكن لا لحية له، فو الله! لو كانت اللحية تُشترى بالدراهم لاشترينا له لحية ليكمل رجلاً. وكان الأحنف بن قيس سيد قومه، وكان أعور أحنف دميماً قصيراً كوسجاًً، والكوسج: الذي لا شعر على عارضيه، قال الأصمعي: قال عبد الملك بن عمير: قدم علينا الأحنف الكوفة مع مصعب، فما رأيت صفة تُذَمُّ إلا رأيتها فيه: كان ضئيلاً صعل الرأس -يعني: صغير الرأس- متراكب الأسنان، مائل الذقن، ناتئ الوجنة، باحق العين -أي: أعور العين- خفيف العارضين، أحنف الرجلين، فكان إذا تكلم جلّى عن نفسه. وقد وصف بعض بني تميم من رهط أو من قبيلة الأحنف بن قيس: فقال وددت أنا اشترينا للأحنف لحية بعشرين ألفاً، فلم يذكر حنفه ولا عوره، وذكر كراهية عدم اللحية؛ لأن من لا لحية له، يرى عند العقلاء ناقصاً. وقال أبو نعيم: حدثتنا أم داود الوابشية قالت: خاصمت إلى شريح وليس له لحية. ذكر عن شريح القاضي قال: وودت أن لي لحية بعشرة آلاف درهم. والمقصود من هذه الآثار كلها: أن اللحية نعمة جليلة تفضل الله عز وجل بها على الرجال، فحلق هذه النعمة كفر بها في الحقيقة عند العقلاء، وانتكاس عن سنة مَنْ هديه خير الهدي صلى الله عليه وآله وسلم، وانحطاط إلى مستوى الكفرة الغربيين وغيرهم من الذين زين لهم سوء أعمالهم، فرأوا أن التمدن والكمال في القضاء على أكبر الفوارق بين الرجل والمرأة، على حدّ قول الشاعر: يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحَسَنِ

السواك وسنن الفطرة [6]

السواك وسنن الفطرة [6] كثيراً ما يبحث الناس عن مبررات لمعاصيهم، ويحتجون لمخالفتهم بحجج واهية لا تسندها حجة، ويكفي في دحض شبه المتعلقين بسنية إعفاء اللحى الأمر باقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالأنبياء قبله والخلفاء من بعده، ولعل في الأضرار الصحية في حلقها رادعاً لأولئك.

خطاب الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ودخول الأمة معه

خطاب الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ودخول الأمة معه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد: يقول الله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وإذا أتى أمر من الله عز وجل في حق من هو قدوة فيتضمن ذلك أمر هؤلاء المقتدين بأن يستمعوا ويمتثلوا ذلك الأمر؛ فإن الله عز وجل عندما ذكر في سورة الأنعام جملة عظيمة من الأنبياء في معرض الثناء عليهم، قال لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم عقب ذلك: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فهذا أمر من الله عز وجل لنبينا عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بالأنبياء، وهو أمر لنا؛ لأنه أسوة لنا كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني طاعته في كل ما أمر به إلا ما قام فيه دليل على الخصوصية، وهذا واضح يمكن أن يستنبط من القرآن، فإنك إذا تأملت مثلاً قوله عز وجل في أول سورة الطلاق: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فالخطاب بدأ أولاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك دخل فيه الخطاب لأمَّته عليه الصلاة والسلام؛ بدليل قوله: ((إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ))، فالخطاب هنا بالجمع في قوله: ((طَلَّقْتُمُ))، فهو موجّه لعموم الأمة، وهذا يدل على دخول النبي وأمته في هذا الحكم. ويقول عز وجل في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، ثم قال بعد ذلك: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]، فدلّ هذا على عموم حكم الخطاب هنا، وأنه ليس فقط في حق النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو يشمل أمته تبعاً. وفي سورة الأحزاب يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، ثم قال بعد ذلك في الآية الثانية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب:2] فدلّ هذا على دخول الأمة كلها في خطابه صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس:61]، ثم قال عز وجل: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس:61]. أما أصرح الأدلة في ذلك فإنها آية في سورة الروم وآية في سورة الأحزاب: فأما التي في سورة الروم: فهي قوله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30]، ثم بعد ذلك قال: ((مُنِيبِينَ إِلَيْهِ))، فالخطاب أولاً للنبي عليه الصلاة السلام، ثم انتهى الكلام بقوله عز وجل: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم:31]، فدلّ هذا على دخول الأمة أيضاً في ذلك فصار المعنى: فأقم وجهك يا نبي الله للدين حنيفاً في حال كونكم منيبين إليه، فلو لم تدخل الأمة حكماً في الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم لقال: (منيباً إليه) لكنه قال: ((مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)). أما آية الأحزاب: فهي قوله عز وجل في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]، وهذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الآية تصرح بشموله لجميع المؤمنين في قوله عز وجل: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب:37]، وقال عز وجل: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فلو كان الحكم خاصاً بالنبي عليه الصلاة والسلام لما احتيج أن يقول: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، لكن أتى بهذا القيد حتى يكون الحكم خاصاً به عليه الصلاة والسلام وإلا لكان عاماً للجميع.

إعفاء اللحية اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام

إعفاء اللحية اقتداءٌ بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعض الناس يقولون: هل يوجد دليل من القرآن على وجوب إعفاء اللحية؟ الدليل هو هذه الآية التي قدمناها في سورة الأنعام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. وأيضاً يقصّ الله عز وجل في سورة طه قصة هارون عندما قال لموسى عليه السلام: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]. يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها، وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام:84]، إلى آخر الآية، ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فدلّ ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أُمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره بذلك أمر لنا؛ لأنه كما ذكرنا أمر القدوة أمر لأتباعه. وفي صحيح البخاري أن مجاهداً سأل ابن عباس رضي الله عنهما: (من أين أخذت السجدة في ص؟ قال: ما تقرأ {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24]، فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). وقال في رواية أخرى في لفظ البخاري: (فكان داود ممن أُمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به، فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم). فيفهم من هذا أن قوله: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي)) على أنها لحية كبيرة تمسك باليد، فلو كان هارون حالقاً لما أراد أخوه الأخذ بلحيته، وهذا يدل على أن إعفاء اللحية من سمت الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. يقول الشنقيطي رحمه الله: ولعله من الذين مسخت ضمائرهم واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى: وهو اللحية، وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر وأذعنت لهم مشارق الأرض ومغاربها ليس فيهم حالق.

حلق اللحية رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة لهديه وسمته

حلق اللحية رغبة عن سنّة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة لهديه وسمته إن حلق اللحية رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله عز وجل في حقه صلى الله عليه وسلم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال تبارك وتعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وقال: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)، فمن سنته صلى الله عليه وآله وسلم -سواء السنة القولية أو الفعلية- إعفاء اللحية، يقول أنس رضي الله عنه: (كانت لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمر يده على عارضيه). وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته)، معنى شمط: ابتدأ ظهور شعيرات قليلة بيضاء، (وكان إذا ادهن لم يتبين)، فكان الطيب يخفي لون الشعيرات البيضاء القليلة، (وإذا شعث رأسه تبين) أي: إذا تفرق شعر رأسه بان الشيب، (وكان كثير شعر اللحية صلى الله عليه وآله وسلم). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كث اللحية). وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم اللحية). وإذا كان المحب مولعاً أبداً باتباع حبيبه والاقتداء به، فماذا نقول لمن ظهرت عليهم آثار المعصية وشذوا عن الشرع المطهر ورفضوا إعفاء اللحية؟! نقول: حسابهم على الله، لكن ما بال هؤلاء يفرضون على كل من يحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أو يقتدي به في هذه السنة فلا يجدون علامة يؤذونه بها إلا أن يقولوا: هذا ملتحي! لأنه متمسك بسنة الرسول عليه الصلاة السلام. فتجد الإنسان يمتحن بسبب لحيته، وربما يفصل من العمل بسببها! ما الجريمة التي ارتكبها مثل هذا؟ لماذا لا تأخذونها من جانب الحرية الشخصية التي تتشدقون بها في تقليد الكفار؟ لماذا تعطى الحرية لكل فاسد وفاسق إلا المسلم المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فويل لهم مما يصنعون من الصدّ عن سبيل الله تبارك وتعالى، وامتحان الناس بسبب حرصهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا ظهرت هذه الموضة أو فعلها بعض الممثلين أو لاعبو الكرة أو غيرهم، واقتدى بهم الشباب في ذلك، فهذا شيء جيد، وهذه عصرية وتنوّر وتقدم وحضارة، أما إذا فعلوها اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام نالوا الأذى والابتلاء بسبب ذلك! عن يزيد الفارسي قال: (قلت لـ ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم. قال ابن عباس: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إن الشيطان لا يستطيع أن يتشبه بي، فمن رآني في النوم فقد رآني)، فهل تستطيع أن تنعت لنا هذا الرجل الذي رأيت؟ قال: نعم، رأيت رجلاً بين الرجلين، جسمه ولحمه أسمر إلى البياض، حسن المضحك، أكحل العينين، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه حتى كادت تملأ نحره. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا). وهذا الحديث فيه فائدة نذكرها وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي)، فمن زعم أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فلا يجزم بأن الذي رآه في المنام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا وافقت صفاته في المنام الصفةَ المحكية عنه في صفاته الخَلْقية صلى الله عليه وآله وسلم. وعن أم معبد: رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيف اللحية). وقال أبو معمر قلنا لـ خباب بن الأرت رضي الله عنه: (أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم. فقلنا له: بم كنتم تعرفون قراءته؟! -يعني هذه صلاة سرية لا يسمع فيها صوت القراءة فبم كنتم تعرفون قراءته؟! -وفي رواية قال: من أين علمت؟ قال: باضطراب لحيته)، معنى ذلك: أنك إذا رأيت الإنسان من وراء ظهره، وكانت لحيته تتحرك، فهذا يعني أنها لحية كبيرة، حيث أنها تتحرك إذا حرك شفتيه بالقراءة. وفي قصة صلح الحديبية: (أن عروة بن مسعود جعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كلّما كلّمه مدّ يده وأخذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت هذه عادة عند العرب- والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب - المغيرة - يده بنعل السيف، وقال: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يؤخذ من هذا أن لحيته صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة. وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلّل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل)، وتخليل اللحية بابٌ عَقَده الفقهاء في أبواب الوضوء، وعن عثمان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته).

إعفاء اللحية علامة على محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره

إعفاء اللحية علامة على محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره كل ما سبق من الأحاديث -وغيرها كثير- تدل على عِظَم لحيته الشريفة صلى الله عليه وسلم وطولها، فعجباً ممن يدعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يعفي لحيته؟! فكأن المحبة عندهم شيء لا يكلف، وبعضهم يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكر عليك مثلاً إذا لم تصلّ على النبي عليه الصلاة والسلام بعد الأذان، ويقول: أنت تبغض رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنت لا تحب النبي، أنا أحب النبي وأنا أصلي عليه صلى الله عليه وسلم، ففي مثل هذه الأشياء يُعتبر الإنسان مأجوراً، أما من يفعلون كثيراً من البدع ويستدلون بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشدقون بها فإنما زيّن لهم سوء أعمالهم، فمن أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أحب صورته وأبغض صورة أعدائه، ومن كان يصلي عليه مدّعياً محبته فعليه أن يعفي لحيته إن كان صادقاً في هذه المحبة. هذا كلّه بغضّ النظر عن حكم الوجوب، لكن هذه ثمرة المحبة، فالإنسان ينقاد لمن يحبه ظاهراً وباطناً، ويُرى ذلك في سلوكه، فيحب كل ما نُسب إلى محبوبه، كما يقول عنترة: وأهوى من الأسماء ما شابه اسمها أو مثله أو كان منه مقارباًً! فكل محبوب يحب ما كان منسوباً إلى حبيبه من الصورة والسيرة واللباس والهيئة، حتى يحب داره وجداره وكساءه ورداءه، كما يقول بعض الشعراء في ذلك: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا فالذي يؤمن بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، هذه المحبة لا محالة إذا كانت صادقة يجد المحب نفسه مضطراً اضطراراً مدفوعاً بهذا الحب الصادق إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شئونه كلها، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فالذي يظهر اللحية تديناً بذلك وتشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم حقه أن يُعظّم ويُحترم ويُحب، لا أن يحارب ويُضطهد ويؤذى ويسجن. فإن لم تدفع المحبة صاحبها إلى الاتباع فهي دعوى وليست محبة صادقة، وفي مثل هذا يقول الشاعر: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيعُ لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ. يقول بعض الصحابة رضي الله عنهم: (بينما أنا أمشي بالمدينة، إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك؛ فإنه أتقى وأبقى)، أي: أتقى لله؛ لأنه تواضع، وأبقى للثوب حتى لا يتلف بجرَّه على الأرض، (فالتفتُّ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إنما هي بُردة مَلْحاء)، يعني: مُبتذلة لا اعتداد بشأنها ولا توجد شبهة في مثل هذه البردة القديمة أن تكون مَدّعاة للتكبر والخيلاء، وهذا تبرير لتساهله في طول هذه البردة، (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما لك فيَّ أُسوة؟ فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه). معناها: أنه مع وجود هذا العذر الذي ذكره، وهو أن هذه البردة مبتذلة ولا يخشى أن تكون مدعاة للتكبر أو الخيلاء، لكن النبي عليه السلام بيّن له أن الصواب هو التأسي به صلى الله عليه وسلم، فهو المحبوب عند الله عز وجل في كل الشئون، وإن كان اتباعه في بعض الأمور غير واجب، ولكن المحب لا ينظر إلى الفرق بين الواجب والسنة، فيبادر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. بعض الناس يتساءل: هذا حرام أم مكروه؟ فإذا قيل له: مكروه. كان ذلك سبباً للتمادي فيه، سبحان الله! أتسأل: هل اللحية سنة حتى تجتنبها أم واجبة حتى تتبعها؟ فهل الصحابة كانوا يفعلون ذلك؟ فإذا كان الإنسان يريد أن يقتدي بمحبوبه فإن المحبة تدفعه لذلك، والمحب في شغل شاغل عن البحث في الفرض والسنة، فإذا فَعَله الرسول عليه الصلاة السلام كان الصحابة يقولون: سمعنا وأطعنا، ويقتدون به، وهنا مع ما ذكره ذلك الصحابي من العذر، وأن هذه البردة مبتذلة ورثّة، ولا يحتمل فيها الفخر ولا الخيلاء ولا التكبر، لكنه مع ذلك أرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما ينبغي أن يفكر به أهل الاتباع وأهل المحبة. فالسؤال الآن موجه لحليق اللحية: ماذا يكون جوابك إذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أما لك فيَّ أسوة؟! بل ماذا يمكن أن يكون شعورك؟! تخيل أن الرسول عليه الصلاة السلام قد رآك، وإذا رأى وجهك لا لحية فيه أبغض هذا المنظر، وكَرِهَ النظر إليه، فحوّل وجهه غضباً وكراهية إلى الجهة الأخرى، وهو يقول لك: ما حملك على هذا؟ أو وهو يقول لك: ويلك! من أمرك بهذا؟ وهذا السؤال قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله لمن حلق لحيته، فقد روى ابن أبي شيبة: (أن رجلاً من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية). وهذه الحالة التي استنكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لعلّها أهون مما يحصل الآن من بعض الناس، حيث يحلقون اللحية والشارب، وهذا تشبه واضح بالنساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجزّ لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا -يشير إلى ربه كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أوفّر لحيتي وأُحفي شاربي)، هذا واضح في أنه أمر من الله، فيضاف إلى الأدلة في قائمة الأمر بإعفاء اللحية. ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وبعث به عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، فدفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزّقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزّقوا كل مُمزّق، فما قامت للفرس بعدها قائمة، ولم يكن للدولة الكسروية مُلْك بعد ذلك. ثم كتب كسرى بعد تمزيق الكتاب إلى باذان -وهو عامله على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جَلْدين يأتيان به، فبعث باذان قهرمانه -وهو بابويه، وكان كاتباً حاسباً- مع رجل آخر من الفرس، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما كَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، وقال: (ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا)، يعنيان: كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي) رواه ابن جرير الطبري عن يزيد بن أبي حبيب مرسلاً، وحسّنه الألباني. فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر الذي جاءه من السماء: (إن ربي قتل ربكما الليلة)، حيث عاجل الله كسرى -لعنه الله- بالعقوبة، وسلّط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجع الرسولان حتى قدما على باذان إلى آخر الحديث. فالذي يظهر من هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كره النظر إلى ذينك الرجلين، وهذا الموقف يُحرّض كل مؤمن على ألا يفعل فعلاً يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان حلق اللحية أو غير ذلك مما يخالف السنة. فانظر إلى الجماعات الوطنية والأحزاب السياسية، تجد كل واحد من هؤلاء الأفراد يحرص على أن يرضي زعيم الحزب، وألا يؤذي شعوره أو يفعل شيئاً يكرهه، ويتبعه في سيرته وصورته ولباسه وهيئته، ولا يأتي بفعل يؤذيه. فالعجب من هؤلاء الذين يحلقون لحاهم؛ كيف يزعمون محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتون هذا الفعل الذي يتأذى منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجد أحدهم من ذلك حرجاً في نفسه؟! نذكر هنا قصة رجل من الشعراء يسمى: مرزا قتيل، كان يكتب شعراً في الحكمة والمعرفة، وهناك رجل إيراني كان يقرأ كتابات هذا الشاعر، فأُعجب به جداً، واعتقد في قلبه أن هذا الرجل الذي يكتب هذه الأشعار الدينية والمواعظ والحكم هو رجل عظيم جداً في دينه، فزكى روحه وجسده، فرحل إليه وسافر من بلده حتى يتشرف بلقائه، فلما وصل إلى بابه رآه يحلق لحيته، فقال مستنكراً ومتعجباً: يا سبحان الله! أتحلق لحيتك؟! فقال مرزا قتيل -تبعاً للفلسفة المنتشرة هذه الأيام-: نعم، أحلق لحيتي ولكن لا أجرح قلب أحد. يعني: أجرح وجهي بحلق اللحية، لكن لا أجرح قلب أحد!! وهذا إظهار للمعصية في ثوب مزين ومزخرف كما يفعل كثير من الناس اليوم؛ يقولون: أنتم تهتمون بالشعور ولا تهتمون بشعوري، يعني: تهتمون بالشعر وتجرحون شعور الناس. فردّ عليه هذا الرجل الإيراني العامي بالبداهة قائلاً: بلى، إنك تجرح قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلام هذا الرجل حق، كما رأينا في قصة هذين الفارسيين لما رآهما النبي صلى الله عليه وسلم كره النظر إليهما، وآذاه منظرهما، وجرح ذلك قلبه حتى إنه حوّل وجهه عنهما وصرخ فيهما: (ويلكما! من أمركما بهذا؟). فلما سمع ذلك مرزا قتيل غُشي عليه، فلما أفاق قال بالفارسية شعراً معناه: جزاك الله خيراً، فقد فتحت عيني، وأوصلتني إلى روح قلبي.

إعفاء اللحية هو اتباع لهدي الخلفاء الراشدين المهديين

إعفاء اللحية هو اتباع لهدي الخلفاء الراشدين المهديين كلنا يفتتح كلامه بهذه العبارة التي نحفظها ولا نلتفت إلى ما تتضمنه من المعاني: (إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم). هذه الكلمة نقولها ووراءها من المعاني والأحكام الشيء الكثير، فمن اعتقد أن خير الهدي هو هدي محمد عليه الصلاة والسلام؛ كيف يصور لنفسه أن يحيد عن هذا الهدي؟! أما سنة الخلفاء الراشدين المهديين فقد جمعها الشيخ أبو محمد بديع الدين شاه الراشدي السندي حفظه الله تعالى، فقال: وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين المهديين وغيرهم من الصحابة والتابعين أنهم كانوا ذوي لحى كبيرة، فكان أبو بكر الصديق كثُّ اللحية، وكان عمر كثّ اللحية، وكان عثمان كبير اللحية، وفي بعض الروايات كان كبير اللحية عظيمها، وعن السعدي: رأيت علياً رضي الله عنه، فكان عظيم اللحية، وقد أَخَذَتْ ما بين منكبيه. يقول أستاذنا الشيخ بديع الدين: فهؤلاء أعقل الأمة كلها بإجماع علمائها، ثم بعدهم الأتباع ما لا أحصي منهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة)، والنواجذ: الأضراس، وهذه صيغة مبالغة، حيث أنه تشبيه بأن تمسك الشيء لا بأسنانك القواطع بل بالأضراس، يعني: تدخلها في فمك ولا تخرجها أبداً، وهذا يدل على شدة التمسك. ونشير هنا إلى قاعدة مهمة جداً ينبغي أن نستصحبها في هذا السياق، وهي التي استنبطها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، أي: لو كان الإيمان والإسلام خيراً ما سبقونا إليه. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة؛ وأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها. وهذه العبارة تُفحم كل من يحاجّ ويجادل في أمرٍ قد ثَبَت خلافُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا سيما الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فلا نقول كما قال الكفار: لو كان خيراً ما سبقونا إليه. بل نقول: لو كان خيراً لسبقونا إليه. وإنك لتعجب من قول بعض الناس مثل صاحب كتاب الحلال والحرام، حيث يقول: صحيح أنه لم يُنقل عن أحد من السلف حلق اللحية؛ ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها، وهي عادتهم!! فلا شك أن هذا تعليل ساقط، وكان الأولى به أن يستدل بعدم حلق أحد من السلف للحيته على عدم جواز ذلك عندهم، وأنهم ما فعلوا ذلك؛ لأنهم يعتقدون تحريمه وعدم جوازه.

نقل الإجماع على تحريم حلق اللحية

نقل الإجماع على تحريم حلق اللحية يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في مراتب الإجماع: واتفقوا على أن حلق جميع اللحية مُثْلة لا تجوز. قوله: واتفقوا، يعني: العلماء المجتهدون. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة، ولم يُبحه أحد.

حكم نتف الشيب

حكم نتف الشيب روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة). قال النووي رحمه الله: يُكره نتف الشيب، ونقل عن الغزالي والبغوي وآخرين كراهته، ثم قال: ولو قيل يحرم للنهي الصريح الصحيح لم يبعد، ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس. وعن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من لحيته ورأسه) فالذي يحلق لحيته قد كره الأسود فضلاً عن الأبيض الذي هو نور المسلم.

حكم من نتف لحية أخيه المسلم

حكم من نتف لحية أخيه المسلم من الفوائد التي يناسب ذكرها أيضاً في هذا المقام: إذا تقاتل شخصان، فوصل بأحدهم الأمر إلى أن شد لحية الآخر ونزعها من الجذور ولم تعد تنبت. يقول العلماء: اللحية إذا جُني عليها فأُزيلت بالكلية ولم ينبت شعرها، فعلى الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها. قال الإمام ابن مفلح رحمه الله: واحتمل أن يلزمه كمال الدية، قدمه في الرعاية والفروع؛ لأنه أذهب المقصود، أشبه ما لو أذهب ضوء العين.

إعفاء اللحية وقص الشارب من آكد خصال الفطرة

إعفاء اللحية وقص الشارب من آكد خصال الفطرة الهيئة البشرية بكاملها هي من الفطرة، فكل ما خلقه الله عز وجل على الإنسان هو من الفطرة التي فطرك الله عز وجل عليها، إلا نوع واحد فقط: هو ما استثناه الشارع وأمر بإزالته، فحينئذٍ تصبح إزالته بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكمّلة للوضع الفطري البشري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عشر من الفطرة: قصّ الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء -يعني: الاستنجاء- قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) وبعض العلماء قالوا: لا، بل هناك شيء آكد من المضمضة! وهو الختان. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: الفطرة فطرتان: فطرة في الخلقة، وفطرة في الدين. فالفطرة في الدين: هي التوحيد، وتغيير خلق الله هو مما ينافي التوحيد، ومما يأمر به الشيطان، كما قال تعالى عنه: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، ومخالفة هذه الفطرة الخلقية بتجنب هذه الأفعال التي ذكرناها، وحلق اللحية تغيير لخلق الله سبحانه وتعالى. يقول ابن القيم: والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب: وهي معرفة الله، ومحبته، وإيثاره على ما سواه. وفطرة عملية: وهي هذه الخصال، فالأُولى تزكّي الروح وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن، وكل منهما تمدّ الأخرى وتقويها، وكان رأس فطرة البدن: الختان. فمن يحلق لحيته كأنه يقول لإبليس: سمعنا وأطعنا، ويقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام: سمعنا وعصينا. قد يقول قائل: هل من تغيير خلق الله أن يحلق الرجل رأسه عند التحلل من الإحرام؟! هذا تغيير لصورتنا الخلقية، لكنه ليس تغييراً مذموماً؛ لأن التغيير المذموم هو تغيير خلق الله بدون إذن من الشرع، واستعمال الشيء في غير ما خلقه الله له، فمادام أن الله قد شرعه دلّ هذا على أنه ليس من التغيير المنهي عنه، ولو كان كل تغيير يُعدّ تغييراً لخلق الله لقلنا: إن قطع يد السارق تعتبر تغييراً لخلق الله! لكن هذا حد من حدود الله التي أوجب علينا إقامتها، فالعبرة بما أمر به الشارع.

كيفية حف الشارب

كيفية حفِّ الشارب يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه، وكان إبراهيم خليل الرحمن يفعله)، فهذه من سنن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. يقول القاري معلقاً على هذه العبارة: فالاقتداء بالحبيب بعد الخليل يورث الأجر الجليل والثواب الجزيل، والأولى أن يقول: فالاقتداء بالخليل بعد الخليل؛ لأن الخُلّة أعلى من المحبة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً. وقد وقع الخلاف في الإحفاء، هل المقصود به: استئصال الشارب تماماً؟ وهذا ذهب إليه بعض العلماء، فمنهم من يرى أن المقصود بالجزّ والحفّ: المبالغة في القص. سُئل الإمام مالك عمن يحفي شاربه، فقال: ينبغي أن يُضرب من صنع ذلك، فليس حديث النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، ولكن يبدي حرف الشفة والفم. هذا معنى قص الشارب، وهو: أن يأخذ فقط ما كان على طرف الشفة العليا، وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس. وكان عمر رضي الله عنه إذا غضب فتل شاربه ونفخ، وهذا يدل على أنه لم يكن يحلق شاربه. وقال الحافظ: والمعروف عن عمر أنه كان يفتل شاربه، وأيضاً روي أن خمسة من الصحابة كانوا يأخذون شواربهم مع ترك الشفة. أي: يستأصلون ما زاد ونزل إلى حافة الشفة. وفي حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه -وهو حديث صحيح- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) و (من) هنا تبعيضية، ومعناها: أن المطلوب أن يأخذ من شاربه، لا أن يأخذه ويستأصله كله. وعن جابر رضي الله عنهما قال: (ما كنا نُعفي السبال إلا في حج أو عمرة) أي: ما كانوا يتركون الشوارب ويطلقونها إلا في حج أو عمرة. وقال البخاري: (كان ابن عمر يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد، ويأخذ هذين)، والمقصود بـ (هذين): مواضع اتصال الشارب باللحية. وقال الغزالي: لا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب، يترك أو يقص، وفعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره، ولا بأس أيضاً بتقصيره فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما. من قال: إن السبالين -اللذان هما جانبا الشارب- من الشارب فإنه ذهب إلى أنه يشرع قصّهما معه، وقيل: بل هما من جملة شعر اللحية، ويا ليت هذا هو الخلاف الذي نحتمي به الآن! وعن الشعبي: أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العليا وما قاربه من أعلاه، ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم، ولا يزيد على ذلك. وقال مالك: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة -وهو الإطار- ولا يجزه فيمثّل بنفسه. وقال القرطبي: القصّ: أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي عند الطعام، ولا يجتمع فيه الوسخ، وفيه حديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ من شارب المغيرة على قياسه، حيث يقول المغيرة: (وكان شاربي وفى، فقصّه لي على سواك، أو قال: أقصّه لك على سواك). واختلف العلماء في معنى: (على سواك) فبعض العلماء قالوا: يعني على أثر سواك، يعني: بعدما تسوك مباشرة قال له ذلك، والأرجح والله أعلم: أنه أخذ سواكاً فوضعه تحت الشعر، ثم قص ما جاوزه إلى السواك، وفي بعض الروايات: (فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه). وأخرج البزار من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً وشاربه طويل، فقال: ائتوني بمقص وسواك، فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوره).

إعفاء اللحية وحكم أخذ ما زاد عن القبضة

إعفاء اللحية وحكم أخذ ما زاد عن القبضة هناك خلاف في اللحية إذا طالت جداً وعرض الرجل نفسه بذلك للشهرة، فاجتهد بعض العلماء وذهب إلى أنه يأخذ منها، وهذا الأخذ مخالف لظاهر الحديث، لكن هذا قدر مختلف عليه، وقلّ ما نحتاج إليه هنا في مصر، وربما احتاج بعض الإخوة الباكستانيين أو غيرهم إلى مثل هذا؛ لأن شعورهم تطول جداً، وقد تصل اللحية إلى السرة مثلاً، فينطبق عليهم ذلك. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي رواه البخاري: (خالفوا المشركين، ووفروا اللحى، وأحفوا الشوارب) زاد البخاري بعد هذا الحديث: (وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه). فهذا عُمدة من يجيزون الأخذ من اللحية، بل يجيز بعضهم تقصيصها جداً، بحيث تكون قريبة إلى الحلق! فنقول لهم: بيننا وبينكم حديث ابن عمر، لنفرض أن فعل ابن عمر جائز أو أن فعله هذا هو الأفضل والأصح، فلماذا لا تقتدون بـ ابن عمر؟! حيث أنك تجد منهم أحياناً من يقص لحيته جداً حتى تكون قريبة إلى الحلق، ويحتج بفعل ابن عمر! وابن عمر لم يكن يأخذ إلا ما زاد عن القبضة، وما كان يفعل ذلك إلا في حج أو عمرة، فأين هذا من ابن عمر! وهناك قصة لطيفة حكاها بعض العلماء عن هشام الكلبي قال: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد؛ حفظت القرآن في ثلاثة أيام، وأردت أن أقطع من لحيتي ما زاد على القبضة، فنسيت فقطعت من أعلاها. قال الكرماني: لعل ابن عمر رضي الله عنهما أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك، فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]، فحلق رأسه وقصّر من لحيته بأن أخذ ما زاد على القبضة. وإن كان بعض العلماء قالوا: الأظهر أن ابن عمر كان لا يرى تخصيص هذا بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه، لكن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أحق وأولى بالاتباع. وهناك خلاف بين العلماء في قضية معروفة، وهي: مخالفة رواية الراوي لرأيه أو فعله، فالذي روى هذا الحديث: (أعفوا اللحى) هو ابن عمر رضي الله عنهما، وظاهر هذا الأمر أن تُترك اللحية على حالها، ولا يتعرض لها بالقص أو التقصير، وابن عمر كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما زاد أخذه، وهنا خالف رأيه روايته، فمن قال من العلماء بمرجوحية فعل ابن عمر قال: إن الحديث الصحيح المعصوم لا يترك لمخالفة راويه وهو غير معصوم، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو أنه لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على المسألة التي خالفه فيها، أو يتأول فيه تأويلاً مرجوحاً، أو يكون في غيره ما يعارضه ولا يكون معارضاً له في الواقع إلى آخر هذه المعاذير. أما حديث: (كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها) فهو حديث موضوع، والكلام فيه يطول جداً، وقد أشرنا من قبل إلى الترغيب في تغيير الشيب، فإذا ظهر الشيب في رأس الإنسان فإنه يستحب له أن يغيره، لكن عليه أن يجتنب السواد، فيخضب بأي لون، سواءً اكان أصفر أو أحمر، ويكون أفضل ما يكون بالكتم أو الحناء، فهذا أفضل ما يغير به الشيب، وهذه من السنن المهجورة، إلا الخضاب بالسواد؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (غيّروا هذا الشيب وجنبوه السواد)، وقال عليه الصلاة والسلام: (يكون في آخر الزمان قوم يسوّدون أشعارهم، لا ينظر الله إليهم). أما كلام العلماء: فالمذاهب الأربعة في الحقيقة تكاد تكون متفقة على تحريم حلق اللحية، بل جاء في بعض كتب المالكية: قال العلماء: إن من تعمّد حلقها يُؤدَّب، ونظمها بعض العلماء فقال: يُمنع للرجل حلق لحيتهْ على الذي اعتُمد معْ عنفقتهْ إلا لعذرٍ كتداوٍ ووجبْ ذاك على المرأة فيما يُنتخبْ والحكم في الشارب حُكم ما ذُكْر ذكر ذا المعنى جميعاً فادّكرْ وفي الميسر الشهادة تُردّ به وتأديب ذوي العمد وردْ وهذا من نظم الشيخ حبيب محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى أثناء تدريسه الكتاب: (الميسر على مختصر خليل حيث قام بنظم هذه الأبيات المذكورة. قوله: (يمنع للرجل حلق لحيته). يعني: يحرم على الرجل ويمنع من أن يحلق لحيته على المذهب المعتمد. (مع عنفقته): وهي هذا الشعر الدقيق الذي يكون أسفل الشفة السفلى. (إلا لعذر كتداوٍ) أي: إلا لعذر التداوي فهذا جائز. (ووجب ذاك على المرأة فيما ينتخب) أي: الذي انتخبه واختاره من القولين: أنه يجب على المرأة إذا ظهر لها لحية أو شارب أن تحلقهما، وهذا فيه خلاف ليس هذا محله. فلا نحتاج والحال كذلك إلى ذكر النقول عن المذاهب، وعن العلماء المعاصرين في تحريم حلق الرجل للحيته، وهناك فتوى في حكم إمامة الحليق، وهي فتوى نادرة لشيخ الأزهر في هذه القضية، فلتراجع.

الأضرار الصحية الناتجة عن حلق اللحية

الأضرار الصحية الناتجة عن حلق اللحية نشير إشارة سريعة إلى بعض الأضرار التي تنتج عن حلق اللحية: فمن حلق لحيته يعتبر معترض على خلق الله، ويرى أن الزينة في خلاف ما خلق الله، وأن تغيير خلق الله شيء أحسن. والإنسان حتى لو لم تظهر له الحكمة في كثير من الأشياء فينبغي أن يكون واثقاً بأن الله عز وجل حكيم في خلقه صنعه، قد أتقن كل شيء، كما قال الله تعالى في سورة النمل: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] وقال موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. أما بالنسبة للشعر الذي أُمر الإنسان بإزالته كالإبط وغيره، فإن الغدد التي تحت هذا الشعر هي غدد عَرَقية ولست غدداً دهنية، فالحلق أو النتف في هذه الحالة ضروري لنشاط ونظافة هذه الغدد العرقية، وهذه الغدد العرقية الموجودة في هذين الموضعين تختلف تماماً عن الغدد الدهنية الموجودة في الوجه، فالغدد الموجودة في الوجه هي غدد دهنية، فهناك خلاف بينهما في التركيب والوظائف والمحتويات والإفرازات، فنتف شعر الإبط وحلق العانة يمنع حصول التهابات في الغدد العرقية لاسيما الالتهابات الصديدية، والإبط يُعتبر من أكثر المواضع تعرضاً لمرض القمال. فهناك فرق من الناحية الطبية والوظيفية بين الغدد العرقية الموجودة في هذين الموضعين والغدد الدهنية الموجودة في الوجه، وشعر اللحية له دور هام، فوجوده ينشط الغدد الدهنية الموجودة في الوجه، كما أن الشعر الطويل للّحية يعمل كدرنقة لتنشيط وحيوية هذه الغدد. وأيضاً: يترتب على حلق اللحية كثير من الأمراض مثل: التهاب الجريبات الناشئ عن الحلق، ويؤثر على الخلايا الملونة الموجودة في الجلد، والتي قد تصل إلى حصول بعض الأورام. ويؤدي حلق اللحية إلى الإصابة بالمرض المعروف بـ: حَبّ الشباب، ونسبة الإصابة بهذا المرض مرتفعة فيمن يحلقون لحاهم بالنسبة لغيرهم. وحلق اللحية يسبب تهيج الجلد، ويساعد على الإصابة بالأورام والأمراض الفيروسية فضلاً عن أمراض الصدفية والحزاز. أيضاً: حلق اللحية يؤدي إلى انسداد الغدد الدهنية؛ لأن قطع الشعر يترتب عليه انسداد الغدد الدهنية بفعل بقايا الشعر المقطوع. هناك إحصائيات مأخوذة من مراجع طبية محايدة لا دين لها، وبعض هذه المراجع تقول: نسبة الإصابة بالشلل عامة وشلل أعصاب الوجه خاصة مرتفعة في حالقي لحاهم عنها في غيرهم.

حكم الصلاة خلف من يحلق اللحية

حكم الصلاة خلف من يحلق اللحية سُئلت لجنة الإفتاء في رئاسة إدارات البحوث العلمية في السعودية عن حكم الصلاة خلف الإمام حالق اللحية، بَينَّوا تؤجروا؟ فكان A حلق اللحية حرام؛ لما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خالفوا المشركين، ووفّروا اللحى وأحفوا الشوارب)، ولما رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جزّوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس)، والإصرار على حلقها من الكبائر. ولعلّي أوجه هذا الكلام الذي ذكره العلماء: وهو أن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صُقل قلبه -يعني: جُلّي عنه- وإن زاد زادت، فذلك قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت. فما في شك أن الإنسان إذا أصرّ وداوم على حلق اللحية كلما نبتت حَلَقها قد ارتكب كبيرة من الكبائر، ومن تاب واستغفر وأعفى لحيته تاب الله عليه، لكن طالما أنه يتعاهدها دائماً بالحلق والانتهاك والاستمرار في ذلك فهذا من الران، حتى أنهم في الجيش أحياناً يوقف العسكر طابور، ثم يؤتى بورقة ويضعها على اللحية، فإذا أصدرت صوتاً فمعنى ذلك أنه لم يحسن ممارسة هذه المعصية! فيعاقب الجندي على ذلك، ولذا فإن البعض يصرّ على فعلها كل يوم أو ربما مرتين في اليوم! وقد روي عن ابن عباس أنه قال: كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة. والعبارة مشهورة عن ابن عباس. وأيضاً: لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، فهذا وجه قول العلماء هنا: الإصرار على حلقها من الكبائر، ثم يقولون: فيجب نصح حالقها والإنكار عليه، ويتأكد ذلك إذا كان في مركز قيادي ديني. وسوف نقف وقفة يسيرة على الفتيا السابقة فنقول: إمامة الصلاة هي من الأمانة، فإذا جاهر الإنسان بالمعصية كحلق اللحية، ولم يكن له عذر في ذلك، فهذا يدخل في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. فالعلماء يطلقون صفة الفسق على المجاهر بالمعصية الذي لا يبالي بمن يلومه، بل ربما يستصوبها ويستحسنها، فمن لا يتأدب بآداب الشريعة ولا يهتم بأمر دينه كيف يؤتمن على أعظم شعائر الدين؟! وفي تقديمه للإمامة تعظيم له وليس هو من أهل التعظيم، وتقديمه كقدوة، فإن هذا يحمل الناس على الاستهانة بالمعصية، فالأولى بالإمامة مع الشروط المنصوص عليها في السنة: أن تكون في الخيار المتصفون بالهيئة الشرعية ظاهراً، والإمام المصر على هذه المعصية أحرى به أن يتنحى لمن هو أقوم بحدود الشريعة.

§1/1