السنة ومكانتها من التشريع لعبد الحليم محمود

عبد الحليم محمود

السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي تأليف الدكتور عبد الحليم محمود منشورات المكتبة العصرية: صيدا - بيروت. عدد الأجزاء: 1. أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، - غفر الله له ولوالديه -. [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].

السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي تأليف الدكتور عبد الحليم محمود منشورات المكتبة العصرَيَّةَ: صيدا - بيروت.

من مراجع الكتاب: 1 - " صحيح البخاري ". 2 - " صحيح مسلم ". 3 - " سيرة ابن هشام ". 4 - " رياض الصالحين ". 5 - " الأنوار المحمدية " للنبهاني. 6 - " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للمرحوم الأستاذ مصطفى السباعي. 7 - " السنة قبل التدوين " للأستاذ محمد عجاج الخطيب. 8 - " الرسالة " للإمام الشافعي. 9 - " رجال الفكر والدعوة " لأبي الحسن الندوي. 10 - " الرسالة المحمدية " للسيد سليمان الندوي. 11 - " الحديث والمحدثون " للشيخ محمد أبو زهو.

مقدمة:

مُقَدِّمَةٌ: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬1). ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2). ويقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3). وفي حديث صحيح يقول المقدام بن معدي كرب: «حَرَّمَ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء يوم خيبر، منها الحمار الأهلي وغيره، فقال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِى فَيَقُولُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلاَلاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ». وبعد: فيحب القراء عادة أن يعرفوا شيئاً عن ظروف تأليف الكتب التي يقرءونها، لأنَّ ذلك يضعهم في جو يمهد لهم ¬

_ (¬1) [سورة النساء، الآية: 80]. (¬2) [سورة الحشر، الآية: 7]. (¬3) [سورة النساء، الآية: 65].

تقدير الكتاب في صورة أعمق: حيث عرفوا الظروف والملابسات، ولأن ذلك يقرِّبُهُم من جو الكاتب النفسي، ويدخلهم، نوعاً ما، في محيطه الخاص، فتكون بينهم وبينه - على البعد - بعض أسباب الألفة. ومن أجل توضيح ذلك أكتب هذه المقدمة: إنَّ السُنَّة: دعوة بالحسنى إلى الرقي الأخلاقي الذي تجري وراءه الإنسانية المهذبة، إنها دعوة إلى التاجر أنْ يكون صادقاً، فيحشر مع النَبِيِّينَ والصِدِّيقِينَ والشهداء، وإلى العامل أنْ يتقن عمله، لأنَّ الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه. وإلى الصانع أن يؤدي العمل كما يجب، حيث أخذ الأجر، ومن أخذ الأجر حاسبه الله على العمل. وهي دعوة إلى الأب، باعتباره أباً، وإلى الأم في وضعها كأم، وإلى الأخ في مهمته كأخ، وإلى غيرهم من أفراد المجتمع: أن يرعى كل منهم ما وكل إليه من أمر رعيته وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. وهي دعوة للناس إلى الأمانة، حيث أنه لا إيمان لمن لا أمانة له. وإلى الصديق، وإنَّ الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقاً. وإلى الرحمة: الرحمة العامة الشاملة، وصلوات الله وسلامه على من قال:

«إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». ومن قال: «ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ». وخذ أي خلق كريم تتمنى أن يسير عليه المجتمع: فستجد في السُنَّة دعوة إليه، بوسيلة أو بأخرى، وبثالثة. وهي في هذه الدعوة تنبه دائماً إلى دور الأمَّة الإسلامية في الأخلاق العالمية: أنَّ دورها: إنما هو الرائدة الراعية وعلى الرائد دائماً أن يكون المثل الأعلى، والأسوة الكريمة، والقدوة الصالحة. ولقد كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصورة الحية الناطقة التي طبقت كمبادئ إنسانية ممكنة الخلق الذي رسمه الله وأحبه للإنسانية جمعاء، والذي عبرت عنه السُنَّة أجمل تعبير وأبلغه. ومن أجل هذا التقدير الكريم للسنة الشريفة كان العلماء المستنيرون في كل عصر: يجاهدون من أجلها، ومن أجل مكارم الأخلاق التي تعبر عنها، وكان هؤلاء العلماء - علماء السُنَّة - يعرفون بسيماهم: فقد كانوا من الزهد في حطام الدنيا: بحيث لا ينازعون الناس في دنياهم: لقد كانوا مشغولين عن الجاه بغرس الخلق الصالح الكريم، وكانوا مشغولين عن السلطان بمن بيده السلطان يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء: مالك الملك ذي الجلال والإكرام.

وكانوا صادقين، لقد كان الصدق دينهم وفطرتهم. وكانوا صابرين على الحياة، وصابرين على العمل: لقد أقاموا نهارهم، وأسهروا ليلهم عملاً على مرضاة الله ورسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمثل الذي نحب أنْ نسُوقه - كصورة لهؤلاء القوم - هو: الإمام أحمد بن حنبل - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أنه المُحَدِّثُ الذي حاول أنْ يكون صورة صادقة لما كان عليه الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الزاوية الأخلاقية. وسيرة الإمام - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ -: مَثَلٌ أعلى في التمسك بما يراه حقاً، وفي الصبر على ما يناله في سبيل التمسك بالحق. على أنَّ كل من تشبع بالسُنَّة حقاً: إنما هو صورة، قريبة بقدر المستطاع، من الإمام أحمد. لقد كان الإمام البخاري وغيره ممن أشربت نفوسهم حُبَّ السُنَّة: أمثلة كريمة للخلق الكريم. والأمثلة الكريمة للخلق الكريم هدف دائماً لسهام النماذج الأثيمة التي استهواها الشيطان في قليل أو كثير: إنه النزاع الدائم بين الفضيلة واصحابها، وبين المُمَثِّلين لنزعات الهوى والضلال. ولولا وجود هذه المثل العليا لمكارم الأخلاق في كل عصر لفقدت الإنسانية الثقة بنفسها، ولما اطمأن إنسان لإنسان، ولما وثق شخص آخر.

لقد ربت السُنَّة رجالاً، وخصائصها التي ربت بها الرجال موجودة فيها، لأنها من طبيعتها ومن ذاتها. ولقد شاهدت الإنسانية واعترفت بسمو هؤلاء الرجال، وأولتهم ثقتها وتقديرها. إنَّ الإمام أحمد بن حنبل، وإنَّ الإمام البخاري، وإنَّ أمير المؤمنين في الحديث: الإمام سفيان الثوري، وأمثال هؤلاء - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -: منارات يَهتَدِي بهم عشاق المثل العليا. لا بد إذن من العمل على نشر السُنَّة وإذاعتها، ومحاولة الإكثار من النفوس التي تتشربها وتحققها وتتمثلها وتحياها. لا بد من نشرها وطنية. ولا بد من نشرها إنسانية، لأنها تعبِّرُُ عن أرقى مستوى إنساني. ولا بد من نشرها ديناً. ولا بد من نشرها ذوقاً أدبياً. ولا بد من نشرها للثروة اللغوية .. وما من شك في أنَّ للسُنَّة جواً فكرياً: فالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يتحدَّثُ عن عوامل الهدم، التي تعمل على تقويضه، وعن عوامل البناء التي تعمل على إقامته على قواعد سليمة، ويتحدَّثُ عن

النظم التي ينبغي أنْ تسود المجتمع الإنساني، وعن الأوضاع التي يجب أنْ تستقيم. وللسُنَّة جو لغوي: فالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أوتي جوامع الكلم، وكلامه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبلغ الكلام البشري، ونشر السُنَّة عامل من أهل العوامل على ترقية اللغة التي يكتب بها الكتاب، وعلى وضع الناشئين والمُثقَّفين في وضع أدبي ممتاز، من حيث اللغة، ومن حيث الأسلوب. وَلِلْسُنَّةِ جَوٌّ رُوحِيٌّ: إنها تهذيب للنفس، وتربية للروح وسمو بالأخلاق إلى درجة لا تجارى، - وصَلََّى اللهُ على من قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ». ورحم الله شوقي إذ يقول: إِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاَقُ مَا بَقِيَتْ * ... * ... * فَإِنْ [هُمُ] ذَهَبَتْ أَخْلاَقُهُمْ ذَهَبُوا ومن أجلِ ذلك كله كان نشر السُنَّةِ واجباً دينياً، وعملاً اجتماعياً كريماً، وواجباً وطنياً حتمياً، وإصلاحاً أخلاقياً سامياً. وهو على كل حال ضرورة وطنية مُلِحَّةٌ في عصر تحاول الرذيلة فيه أنْ تعمِّم الانحلال الخلقي في كل أسرة وفي كل بيت، ويحاول الفساد أنْ يأتي على مقدسات الأُمَّة ومقوماتها من عرض وشرف وكرامة.

لقد أحب الله للإنسانية مثالاً أخلاقياً كريماً رسمه سبحانه في القرآن الكريم قولاً، فكان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصورة التطبيقية الكاملة للرسم الإلهي، وكان بذلك الإنسان الكامل. لقد كان المثل الأعلى في الرحمة، والمثل الأعلى في الكفاح والمثل الأعلى في الصبر المجاهد المتفائل، والمثل الأعلى في الصدق، في الإخلاص، في الوفاء، في البر، في الكرم. لقد وصفه الله سبحانه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬1). ولا ريب في أنَّ الأُمَّة الإسلامية حينما تقتدي بالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما تقتدي بأعظم البشر رجولة وإنسانية. وتقتدي بمن أحب الله سبحانه أن تقتدي به. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬2). وإنَّ العمل على نشر السُنَّة إنما هو توجيه للاقتداء بالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. واللهَ أرجو أنْ يجعله عام النفع. وأنْ يهدي به. وأنْ يجعله ذخيرة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم. ¬

_ (¬1) [سورة القلم، الآية: 4]. (¬2) [سورة الأحزاب، الآية: 21].

الفصل الأول: الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنته الشريفة:

الفَصْلُ الأَوَّلُ: الرَّسُولُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّتُهُ الشَّرِيفَةُ: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين. {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (¬1)، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (¬2). خاتم الأنبياء: يقول الله تعالى لرسوله الكريم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬3)، وما كانت هذه الرسالة العامة لأحد من الرسل من قبله، فموسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أرسل لبني إسرائيل خاصة، لقد اقتصرت دعوته على بني إسرائيل، لدرجة أنه حينما ذهب هو وهارون، - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ -، إلى فرعون، قالا له: {إِنَّا رَسُولاً رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬4). فموسى ذهب إلى فرعون ليرسل معه بني إسرائيل. ولم يكافح سيدنا موسى الشعوب، أو الأمم في سبيل دعوته. وعيسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، إنما أرسل إلى .. «خراف بني إسرائيل الضالة»، على حد تعبيرهم القديم، ولم ¬

_ (¬1) [سورة الكهف، الآية: 10]. (¬2) [سورة آل عمران، الآية: 8]. (¬3) [سورة سبأ، الآية: 28]. (¬4) [سورة طه، الآية: 47].

يحاول سيدنا عيسى أن يُبشِّر بدعوته خارج فلسطين، ولم يحاول أنْ يجاهد من أجلها. أما رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه أرسل إلى الناس جميعاً، أنه أرسل إلى الناس جميعاً من حيث المكان، وأرسل إليهم جميعاً من حيث الزمان، فهو الرسول الدائم زماناً ومكاناً. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬1). وقد تكفل الله تعالى بحفظ الكتاب الذي أنزله على رسوله، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضماناً لهذا العموم في الزمان وفي المكان، وتحقيقاً له. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2). ومن أجل هذا الوعد بحفظ الوحي كاملاً غير منقوص، صحيحاً غير مزيف، كانت الحكمة الإلهية في أنَّ الإنسانية لا تحتاج إلى رسول بعد الرسول، ولا إلى نبي بعد النبي، إنه - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -: خاتم الرسل، وخاتم الأنبياء. ولقد امتزج رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، برسالته الخالدة، فكان هو هي شرحاً وتفصيلاً. وكانت هي هو بياناً لمعدنه وجوهره، وخلافة له، ونيابة عنه. تقول السيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: «لَقَدْ كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنُ» وهذه الكلمة من السيدة عائشة، - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا - تحتاج إلى تحديد وبيان. ذلك أنَّ القرآن يُحَدِّدُ ¬

_ (¬1) [سورة الأعراف، الآية: 158]. (¬2) [سورة الحجر، الآية: 9].

الخلق الكريم في حده الأدنى، ثم لا يقتصر على ذلك، إنما يرسم القمم من مكارم الأخلاق، ويوجِّهُ إلى السنام منها، ويقود إلى المشارف العليا من درجات المقرَّبين. فهل تريد السيدة عائشة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا -، حينما تصفه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ خُلُقُهُ القُرْآنُ: هل تريد الخلق الكريم في حده الأدنى، أم تريد في حده الأوسط، أم تريده في حده الأسمى؟ إنَّ القرآن الكريم يُحَدِّدُ الدرجة التي وصل إليها الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الخُلُق القرآني فيقول سبحانه لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬1). هذه الآية القرآنية الكريمة تُحَدِّدُ درجة الأخلاق القرآنية التي وصل إليها الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنها ذروتها وسنامها. أول المسلمين ولقد قال - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ». إنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعث لِيُتَمِّمَ المكارم الأخلاقية لِيُتَمِّمَهَا بذاته، بسلوكه، وَلِيُتَمِّمَهَا بقوله: برسالته. إنه لم يبعث لينشر الأخلاق الكريمة فحسب، وإنما بعث ليتمم مكارمها. ومكارم الأخلاق لم تكن - قبل الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - قد تمت. إنَّ أول المسلمين لم يكن قد ¬

_ (¬1) [سورة القلم، الآية: 4].

وجد بعد، وكانت بذلك مكارم الأخلاق ناقصة، كان ينقصها أكمل صفة لمكارم الأخلاق وهي إسلام الوجه لله إسلاماً تاماً. إنَّ الكائنات لم تكن قد وصلت - لا في نبي مرسل، ولا في ملك مقرب - إلى الذروة من إسلام الوجه لله، والذروة من إسلام الوجه لله، أو أول المسلمين - والتعبيران سواء - إنما هو الذروة من مكارم الأخلاق. إنه الكائن الرباني: إنه أول المسلمين، أولهم بإطلاق، أولهم بالنسبة للملائكة، وأولهم بالنسبة لبني آدم، أولهم قديماً، وأولهم إلى الأبد .. إنَّ أول المسلمين لم يكن قد وجد بعد. وكانت الإنسانية بذلك ناقصة، وكانت الكائنات كلها بذلك ناقصة. كان الكون ناقصاً مادة ومعنى، كان ينقصه أنْ تتعطَّر أرضه بأزكى الأجساد، وأنْ يتعطَّرَ جوه بأزكى الأرواح، وكان لا بد من وجود كائن بهذه المثابة يكمل الله به الدين، ويتمُّ به النعمة، ويرضى رسالته ديناً عاماً خالداً للإنسانية جمعاء: هو إسلام الوجه لله. وينزل القرآن مُحدِّداً إسلام الوجه لله وسائل، ومُحدِّداً إسلام الوجه لله غايات، مُحدِّداً إسلام الوجه طرقاً وأساليب، ومُحدِّداً له بواعث وأهدافاً. ومن هنا كان من يبتغي غير الإسلام ديناً لا يقبل منه. يقول الله تعالى:

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬1). وكيف يقبل منه ما يتنافى مع إسلام الوجه لله؟ إنَّ إسلام الوجه لله هو الذروة من مكارم الأخلاق، وهو جوهر التدين، إنه الدين القويم، إنه الدين الخالد. والنص الوحيد، النص الإلهي الفريد في العالم كله الذي يُبيِّنُ كيفية إسلام الوجه لله، إنما هو القرآن. وإذا ما وصل الإنسان إلى إسلام الوجه كان بذلك في ذروة الإنسانية. وفي الذروة من مكارم الأخلاق. ويتفاوت الناس في إسلام وجوههم لله، ولا بد من أنْ يكون أحدهم أول المسلمين، فكان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أولهم بإطلاق مطلق. {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). ولم يصف القرآن بأول المسلمين شخصاً آخر غير الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومكارم الأخلاق لا يَحُدُّهَا - من حيث التبشير بها - مكان ولا يَحُدُّهَا زمان، بل ولا يَحُدُّهَا عالم من عوالم الله في الأرض أو السماء، ومن ذلك كانت رسالته، - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ -، رحمة للعالمين. ¬

_ (¬1) [سورة آل عمران، الآية: 85]. (¬2) [سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163].

من مكانة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ربه: ورسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه يمثِّل الأخلاق القرآنية في ذروتها وسِنامها - جعل الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، له مكانة خاصة بين المسلمين، فهو، - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - لأنه تمثَّل القرآن وحقَّقه، وأصبح قرآناً، أصبح بذلك يمثِّل الحق بقوله، ويمثِّل الحق بعمله، فلا ينطق عن الهوى، ولا يعمل بالهوى. ويقول الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - له، مُعبِّراً عن هذه الحقيقة أروع تعبير: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ ... } (¬1). ويقول تعالى لرسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا ... } (¬2). بل إنَّ طريق الدعوة نفسه، كان، - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -، يسير فيه معصوماً، وكل من يسير في الدعوة على نسقه، إنما يسير بعصمة الرسول، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، التي منحها الله إياه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (¬3). ودعوته إذن وطريق دعوته: يسير فيهما على هُدى، ¬

_ (¬1) [سورة الشورى، الآيتان: 52، 53]. (¬2) [سورة الأنعام، الآية: 161]. (¬3) [سورة يوسف، الآية: 108].

وعلى نور من ربه، ولذلك فإنَّ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬1). فيقول، سبحانه: ويُعَمِّمُ الله، سبحانه، الحكم تعميماً، ويطلقه إطلاقاً، فيقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2). ويقول تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬3). {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... } (¬4). إنَّ حب العبد لله لا يفيد ما لم يتَّخذ العبد الوسيلة الناجعة لذلك، وهذه الوسيلة هي: اتِّباع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولقد قال الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - في حديث قُدْسيٍّ، رواهُ الإمام البخاري: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ». وهذه النوافل التي ذكرت في الحديث الشريف، والتي إذا أكثر الإنسان منها، بعد أداء الفرائض، أحبه الله: إنما هي سلوك رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنها طريق رسمه، - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ - بقوله وبعمله. إنها ¬

_ (¬1) [سورة النساء، الآية: 80]. (¬2) [سورة الحشر، الآية: 7]. (¬3) [سورة النور، الآية: 54]. (¬4) [سورة آل عمران، الآية: 31].

سننه - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - التي سنَّها، لينال الإنسان بها محبَّةَ الله، سبحانه. (من مكانة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ربه أيضاً:) وأحب الله، سبحانه، رسوله، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان هذا الرسول بعبوديته لله سبحانه، حبيب الله وبلغ الرسول، - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ - بعُبوديته التامة درجة أول المسلمين، كما سبق أنْ ذكرنا. ولما كان أول المسلمين. وكان حبيب الله، ونبيُّهُ، ورسوله: ميَّزهُ الله، - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - على بقية البشر بكونه خيرهم، وهذا تمييز لا يخرجه، - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ - عن البشرَيَّةَ: فهو بشر وهو خير البشر: ومنتهى القول فيه أنه بشر، وأنه خير خلق الله كلهم، ولأنه خير البشر: يقول الله تعالى مُخاطباً المؤمنين: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (¬1). إنَّ الإنسان الذي خصَّهُ الله بالوحي، واجتباه لرسالته، واصطفاه ليكون - باسمه، سبحانه - بشيراً ونذيراً، إنّض هذا الإنسان الذي فضَّلهُ الله على العالمين: يجب أنْ نعرف له مكانته وننزله في الشرف الذي أنزله الله فيه. إنَّ هذا السراج المنير، إنَّ هذا الرؤوف الرحيم: ينبغي ألاَّ يدعى كما يدعى زيد وعمرو: «بمعنى لا تنادوه باسمه: ¬

_ (¬1) [سورة النور، الآية: 63].

فتقولوا: يا محمد، ولا بكنيته فتقولوا: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم والتكريم، والتوقير بأنْ تقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، يا إمام المرسلين، يا رسول رب العالمين، يا خاتم النبيِّين وغير ذلك ... واستفيد من هذه الآية - كما يقول الشيخ الصاوي في " حاشيته على تفسير الجلالين " - إنه لا يجوز نداء النبي بغير ما يفيد التعظيم، لا في حياته، ولا بعد وفاته، فبهذا يعلم أنَّ من استخف بجنابه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة» اهـ. ويقول الله سبحانه في أوائل سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1). أي لا تتقدموا بأمر من الأمور، قولاً كان أو فعلاً، إلاَّ إذا أذن الله ورسوله، وكل أمر: قولاً كان أو فعلاً: أتاه الإنسان بدون إذن الله ورسوله: فإنه لا يقع على السُنن المستقيم. يقول الضحاك عن ذلك: «هو عام في القتال وشرائع الدين، أي لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله» {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (¬3). واحذروا إنْ فعلتم ذلك: {نْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) و (¬2) [الحجرات: 1]. (¬3) و (¬4) [الحجرات: 2].

{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬1). أما هؤلاء الذين أساءوا الأدب دون أنْ يقصدوا فأخذوا ينادونك من وراء الحجرات مناداة الأعراب الأجلاف، فإنَّ عقولهم - في الأغلب الأعم - ناقصة: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). على أنَّ مُجَرَّد الرغبة في الحديث، إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحتاج تنفيذها إلى تقديم صدقة، يقول الله تعالى في سورة المجادلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). وتدل الآية الكريمة على أنَّ ترك تقديم الصدقة إثم، لأنَّ من لم يجد الصدقة فإنَّ موقف الله سبحانه منه - لعدم قدرته - المغفرة والرحمة، ولا تكون المغفرة والرحمة إلاَّ على إثم أتاه الإنسان. وعدم توفر الاستطاعة سبب في مغفرة الله سبحانه: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} (¬4). وإذا حملكم خوف الفقر على ألاَّ تفعلوا، وإذا قادكم الضعف الإنساني إلى ألاَّ تنفذوا ذلك، ثم ندمتم واستغفروا ¬

_ (¬1) [الحجرات: 3]. (¬2) [الحجرات: 4، 5]. (¬3) [المجادلة: 12]. (¬4) [المجادلة: 13].

فتداركوه حتى يتوب الله عليكم، وأثبتوا حسن نيَّتكم، وصفاء سريرتكم، بأنْ تقيموا الصلاة على الوجه الأكمل، وتؤتوا الزكاة طيبة بها نفوسكم، وتطيعوا الله ورسوله في الصغير والكبير، وما من ريب في أنَّ الله، سبحانه: خبير بكل ما تعملون. يقول الله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬1). وبعد: فيقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ». ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} (¬2). هذا جانب من مكانة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي أحبها الله له، والتي نَبَّهَ عليها سبحانه وتعالى، قد فرض طاعة رسوله، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مقرونة بطاعته، بل لقد ذكرها الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وحدها، باعتبارها فرضاً. ويقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا ¬

_ (¬1) [سورة المجادلة، الآية: 13]. (¬2) [سورة الأحزاب، الآيات: 45، 46، 47].

قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} (¬1). ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (¬2). ويقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (¬3). وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أنَّ الإعراض عن طاعة الله أو عن طاعة الرسول: كفر. وما من شك في أنه كفر، ذلك أنَّ الإيمان من أركانه: الإيمان برسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبأنَّ كل ما أتى به صدق، فالتولي عنه: استخفافاً، أو جُحُوداً وإنكاراً، أو عناداً ومُمَارَاةً. ذلك كله: كفر يخرج به المعرض عن دائرة الإسلام. يقول الله تعالى في طاعة الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -، حينما يفرده بالحديث: {فَلاَ وَرَبِّكَ لا َيُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬4). ويقول تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬5). ويجعل الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، طاعة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاعته فيقول سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬6). ¬

_ (¬1) [سورة الأحزاب، الآية: 36]. (¬2) [سورة الأنفال، الآية: 24]. (¬3) [سورة آل عمران، الآية: 32]. (¬4) [سورة النساء، الآية: 65]. (¬5) [سورة النور، الآية: 63]. (¬6) [سورة النساء، الآية: 80].

ويجعل بيعته - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - بيعة لله، فيقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). وطاعة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هي فيما افترضه الله، سبحانه أو سُنَّة، وفيما افترضه رسوله - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - أو سُنَّةٌ. وقد تابع الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، القرآن الكريم في بيانه لمنزلة السُنَّة. ووجوب اتِّباعه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيما سَنَّهُ، فلقد حَثَّ فيما رواه أبو داود والترمذي عن زيد بن ثابت: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرُءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ». وروي في معناه من طريق آخر: «رَحِمَ اللَّهُ امْرُءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ». وكان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر الصحابة أَنْ يُبَلِّغَ الشاهد منهم الغائب فيقول فيما رواه أبو بكر: «أَلاَ فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ». «اَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ». ولقد روى الحاكم والبيهقي أَنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ¬

_ (¬1) [سورة الفتح، الآية: 10]

مكانة السنة من القرآن:

«تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي». ويقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبة الوداع: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ [أَمْرِكُمْ] فَاحْذَرُوا، إِنِّي تَرَكْتُ مَا إِنِْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي». وَيُبَيِّنُ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيما رواه البخاري عن أبي هريرة أَنَّ المسلمين سيدخلون الجنة إلاَّ من لا يرغب منهم في ذلك. يقول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى»، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى». مَكَانَةُ السُنَّةِ مِنَ القُرْآنِ: وَسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لها مكانتها بالنسبة إلى القرآن ولها مكانتها بالنسبة إلى التشريع. إنها المصدر الثاني للإسلام باعتباره عقيدة، والمصدر الثاني

للإسلام باعتباره تشريعًا، والمصدر الثاني للإسلام باعتباره أخلاقًا. أما منزلتها بالنسبة إلى القرآن فإنها، حسبما يقول الإمام الشافعي: «وَسُنَنُ رَسُولِ اللََّهِ - صَلَّىَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَسَلََّمَ - وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: نَصُّ كِتَابٍ فَاتَّبَعَهُ رَسُولُ اللََّهِ - صَلَّىَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَسَلََّمَ - كَمَا أَنْزَلَ اللََّهُ، - وَالآخَرُ جُمْلَةً، بَيَّنَ رَسُولُ اللََّهِ فِيهِ عَنْ اللََّهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ بِالجُمْلَةِ، وَأَوْضَحَ كَيْفَ فَرْضُهَا عَامًّا أَوْ خَاصًّا، وَكَيْفَ أَرَادَ أَنْ يَأْتِي بِهِ العِبَادُ وَكِلاَهُمَا اتَّبَعَ فِيهِ كِتَابَ اللِه». وفي كلمة أخرى يُبَيِّنُ الإمام الشافعي الوجهين فيقول: «أَحَدُهُمَا: مَا أَنْزَلَ اللََّهُ فِيهِ نَصَّ كِتَابٍ، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللََّهِ مِثْلَ مَا نَصَّ الكِتَابُ، وَالآخَرُ: مِمَّا أَنْزَلَ اللََّهُ فِيهِ جُمْلَةَ كِتَابٍ، فَبَيَّنَ عَنِ اللََّهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ؛ وَهَذَانِ الوَجْهَانِ اللَّذَانِ لَمْ [يَخْتَلِفُوا] فِيهِمَا». والوجه الأول بَيَّنَهُ بنفسه. إنه من الواضح أَنَّ رسول الله - صَلَّىَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَسَلََّمَ - كان يُبَيِّنُ القرآن عقيدة وشريعة وأخلاقًا على وجوه شتى، وعلى أنحاء مختلفة، وعلى أساليب تختلف في الإيجاز والإسهاب، بحسب حالة المخاطب، يقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1). ¬

_ (¬1) [سورة النحل، الآية: 44].

والرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبين للناس ما نزل إليهم بسلوكه، وبقوله، وبإقراراته، يقول - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -: «مَا تَرَكْتُ شَيْئاً مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئًا - مِمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ - إِلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ». ولكن بيان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشتمل على بيان ما أجمل في كتاب الله، وهذا الوجه كثير في السُنَّة. يقول الإمام الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬1). وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬2). وقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬3). ثم بَيَّنَ على لسان رسوله عدد ما فرض من الصلوات، ومواقيتها، وَسُنَنِهَا، وعدد ركعاتها، والزكاة ومواقيتها، وكيف عمل الحج والعمرة، وحيث يزول هذا ويثبت، وتختلف سُنَّتُهُ وتتفق، ولهذا أشباه كثيرة في القرآن والسُنَّةِ». اهـ. وقد كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يُبَيِّنُ كيفية الصلاة بقوله وعمله، كان يُبَيِّنُ أوقاتها، وأركانها، وعدد ركعاتها، وافتتاحها وترتيب حركتها بعد الافتتاح، ويقول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ¬

_ (¬1) [سورة النساء، الآية: 103]. (¬2) [سورة البقرة، الآيات: 43، 83، 110]، [سورة النساء، الآية: 77]، [سورة النور، الآية: 56]، [سورة المزمل، الآية: 20]. (¬3) [سورة البقرة، الآية: 196].

ويبين رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مناسك الحج: أركانه، وواجباته، وَسُنَّتَهُ. يقول: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ». وفرض الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الزكاة ولم يبين مقادير لها، لم يذكر بالتفصيل الزروع والثمار والأموال التي تجب فيها الزكاة فَبَيَّنَ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك كله وطبقه. ولقد بَيَّنَتْ السُنَّةُ أن القاتل لا يرث، وأن الوصية لا تكون في أكثر من الثلث، وأن الدين يقدم على الوصية، هذا وكثير غيره مِمَّا بَيَّنَتْهُ السُنَّةُ. عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ يريد أن يقتصر على القرآن دُونَ السُنَّةِ: «إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ!! أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، لاَ يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ؟» ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِ الصَّلاَةَ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوِ هَذَا. ثُمَّ قَالَ: «أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا وَإِنَّ السُنَّةَ تُفَسِّرُ ذَلِكَ» (¬1). وَلَقَدْ قِيلَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: لاَ تُحَدِّثُونَا إِلاَّ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ مُطَرِّفٌ: «وَاللَّهِ مَا [نُرِيدُ] بِالْقُرْآنِ بَدَلاً، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنَّا» (¬2). ويقول الإمام الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «وَمَنْ قَبِلَ عَنْ رَسُولِ اللهِ فَعَنْ اللهِ قَبِلَ، لِمَا افْتَرَضَ اللهُ مِنْ طَاعَتِهِ». ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" -كما في "مفتاح الجنة" "241" للسيوطي- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 65، 66، 67"، والآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1192/ رقم 2348". "استدراك 4". [نقلا عن " الموافقات " للشاطبي، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان: 4/ 344، الطبعة الأولى: 1417هـ/ 1997م، نشر دار ابن عفان]. (¬2) [" الموافقات ": 4/ 26، و" جامع بيان العلم ": 2/ 191. نقلا عن " السنة " للسباعي: ص 387].

مكانة السنة من التشريع:

مَكَانَةُ السُنَّةِ مِنَ التَشْرِيعِ: ورسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَرِّعُ عن الله تعالى فيما لا نص فيه من كتاب الله. روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وغيرهم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إِلَى اليَمَنِ فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟». قَالَ: «أَقْضِي بِكِتَابِ اللهِ». قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟». قَالَ: «فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ». قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ؟». قَالَ: «أَجْتَهِدُ رَأْيِيِ وَلاَ آلُو». فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَىَ صَدْرِهِ، وَقَالَ: «الحَمْدُ للهِ الذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ». وسيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - والتي بدأها بقوله: «سَلاَمٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ القَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ». يقول سيدنا عمر في هذه الرسالة: «الفَهْمَ الفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلاَ سُنَّةٍ».

فجعل سيدنا عمر السُنَّةَ مصدرًا من مصادر التشريع. ولقد سئل سيدنا أبو بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عن ميراث الجدة فقال: «مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ أَسْأَلُ النَّاسَ»، فسألهم، فقام الْمُغِيرَةُ بْنُ شُُعْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَشَهِدَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا السُّدُسَ. ولم يكن سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يعلم سُنَّةَ الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (¬1). ولم يكن يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان، أمير رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، على بعض البوادي يخبره أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَّةِ زَوْجِهَا». ولم يكن يعلم حُكْمَ المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ». وَلَمَّا قَدِمَ «سَرْغَ» وَبَلَغَهُ أَنَّ الطَّاعُونَ بِالشَّأْمِ، اسْتَشَارَ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ الذِينَ مَعَهُ، ثُمَّ الأَنْصَارَ، ثُمَّ مُسْلِمَةَ الفَتْحِ فَشَارَ عَلَيْهِ كُلٌّ بِمَا رَأَى، وَلَمْ يُخْبِرْهُ أَحَدٌ بِسُنَّةٍ، حَتَّى قَدِمَ ¬

_ (¬1) فبين له أن الاستئذان ثلاث، فإذا لم يُؤْذَنْ له انصرف.

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَأَخْبَرَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّاعُونِ وَأَنَّهُ قَالَ: «إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ». وهذا عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، لم يكن عنده علم بأن المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ في بيت زوجها، حتى حَدَّثَتْهُ الفُرَيْعَةُ بِنْتِ مَالِكٍ، أخت أبي سعيد الخُدري بقضيتها لما توفي زوجها، وأن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»، فأخذ به عثمان. ولقد روى الحاكم ما يلي: «حَرَّمَ [النَّبِيُّ] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْهَا الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ وَغَيْرُهُ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلاَلاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَمْنَاهُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ». ويقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيما رواه أبو داود عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ ُ

بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لاَ [نَدْرِي]، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ». روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. أَلاَ وَأَنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ». وَعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: «كَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، وَيُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ». وَعَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «[آتَانِيَ] اللَّهُ الْقُرْآنَ، وَمِنَ الْحِكْمَةِ مِثْلَيْهِ» أخرجهما أبو داود في " مراسيله ". وَقِيلَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: لاَ تُحَدِّثُونَا إِلاَّ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ [مُطَرِّفٌ]: «وَاللَّهِ مَا [نُرِيدُ] بِالْقُرْآنِ بَدَلاً، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنَّا» (¬1). عن عبد الله بن مسعود قال: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ، وَالمُوسْتَشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ»، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ فقالت: ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (¬1) [انظر ص 29 من هذا الكتاب].

«يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ». فَقَالَ: «وَمَا لِي لا َأَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ» فَقَالَتْ المَرْأَةُ: «لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ المُصْحَفِ، فَمَا وَجَدْتُهُ»، فقال: «لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ (¬1) قَالَتْ: «بَلَى»، قَالَ: «فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وبعد أن يذكر الإمام الشافعي الوجوه الثلاثة: 1 - بيان السُنَّةِ للكتاب على ما في الكتاب. 2 - بيان السُنَّةِ لمجمل الكتاب. 3 - ما بَيَّنَ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب. يقول: «وَذَلِكَ مَا نُرِيدُ أَنْ نَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي وُضُوحٍ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا، وَأَيُّ هَذَا كَانَ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ فَرَضَ فِيهِ طَاعَةَ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ عُذْرًا بِخِلاَفِ أَمْرٍ عَرَفَهُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنْ قَدْ جَعَلَ اللهُ بِالنَّاسِ الحَاجَةََ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ مَعَانِي مَا أَرَادَ اللهُ بِفَرَائِضِهِ فِي كِتَابِهِ، لِيَعْلَمَ مَنْ عَرَفَ مِنْهَا مَا وَصَفْنَا أَنَّ سُنَّتَهُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ - إِذَا كَانَتْ سُنَّةً مُبَيِّنَةً عَنْ اللهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ مِنْ [مَفْرُوضِهِ] فِيمَا فِيهِ كِتَابٌ يَتْلُونَهُ، وَفِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ [أُخْرَى]، فَهِيَ كَذَلِكَ أَيْنَ كَانَتْ، لاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ اللهِ ثُمَّ حُكْمُ رَسُولِهِ، بَلْ هُوَ لاَزِمٌ بِكُلِّ حَالٍ» (*). ¬

_ (¬1) [سورة الحشر، الآية: 7]. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [" الرسالة " للإمام الشافعي، تحقيق: أحمد شاكر، 1/ 90، الطبعة الأولى: 1358 هـ - 1940 م، نشر مكتبة البابي الحلبي. مصر].

الفصل الثاني: تدوين السنة:

الفَصْلُ الثَّانِي: تَدْوِينُ السُنَّةِ: بدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في العهد المكي يُبَشِّرُ بالقرآن الكريم، ورسالة التوحيد سِرًّا، ثم جهرًا، وكان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلتقي بالأضواء كلها على القرآن. 1 - ذلك أن القرآن كلام الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وهو بأسلوبه معجز، وهو بمعناه يأخذ بالأفئدة، وهو بعظاته يملك القلوب، وهو بمنطقه يسيطر على العقول. 2 - ثم إن موضوع القرآن في هذه الفترة كان موضوعًا محددًا: لقد كان جملة من القضايا تتصل بالغيب، الغيب الإلهي، أو - بتعبير آخر - توضح العقيدة. توحيدًا، ورسالة، وبعثًا. وكان أسلوب القرآن في ذلك واضحًا لا لبس فيه، مُبَيِّنًا بَيَانًا سَافِرًا. 3 - وخشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن يضيف بعض الناس شيئًا من كلامه إلى القرآن ويخلطوه به، وربما أسرفوا في هذه الإضافة: فلا يستبين الناس الفواصل والفروق بين الأسلوب القرآني الإلهي، والأسلوب

النبوي، حينما يتلونهما، في أول العهد بالإسلام، ممتزجين لا تمييز بينهما. إن معالم الأسلوب القرآني واضحة، وكلام الله، سبحانه أينما كان يتميز بصفات تجعله يسمو بمعزل من غيره، ولكن لا بد من إيجاد الفرصة الكافية لترتسم هذه المعالم في النفوس: أي لا بد من تقديم القرآن خالصًا صافيًا لا يمتزج به غيره. لا بُدَّ من تقديمه كما أنزل في ثوبه الآلي البحت حتى تصبح المعالم معالم الإعجاز المعجز، بينة سافرة. من أجل ذلك نهى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كتابة حديثه، - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -. 4 - على أن هذه الآيات القرآنية، في العهد المكي، وهي تشرح التوحيد: توحيد الله في الذات وتوحيد الله في الصفات، إنها وهي تشرح الهيمنة الإلهية على الكون، على العوالم: جميع العوالم، ليست: في حاجة إلى بيان أوضح أو إلى تعبير أقوى. بل إنه لا يتأتى أن يكون هناك بيان أوضح أو تعبير أقوى. إنها وهي تهدم الشرك، وتدك حصونه، فتقول مثلاً: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ

تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1). إنها، حينما تقول ذلك، لا تحتاج إلى شرح أو تفسير وهي، حينما تتحدث عن البعث فتقول: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} (¬2). ليست بحاجة إلى شرح أو تفسير. وهي: حينما تتحدث عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونزول القرآن عليه فتقول: ¬

_ (¬1) [سورة النمل، الآيات: 59 - 64]. (¬2) [سورة الزمر، الآيات: 68 - 70].

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬1). ليست بحاجة إلى شرح أو تفسير. ثم هي، حينما تقول ترغيبًا وتبشيرًا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}. {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}. {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}. {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (¬2). ليست بحاجة إلى شرح أو تفسير. وحينما تقول موعظة وإنذار: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}. {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}. {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} (¬3). ليست بحاجة إلى شرح أو تفسير. 5 - ثم إن الموضوعات التي تتحدث فيها هذه الآيات ¬

_ (¬1) [سورة الشعراء، الآيات: 193 - 195]. (¬2) [سورة يس، الآيات: 55 - 58]. (¬3) [سورة فصلت، الآيات: 19 - 24].

المكية: موضوعات غيبية، والموضوعات الغيبية دقيقة وغاية في الدقة، فهل إذا تحدث الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. في هذه الموضوعات، ونقل عنه هؤلاء شفهيًا - وهم حديثو عهد بالإسلام وقريبو عهد بالجاهلية الوثنية ... هل سَيُحْسِنُونَ التعبير عنها أو سيقولونها كما تحدث بها الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في دقته الدقيقة، وفهمه الواعي عن الله، سبحانه وتعالى؟ من أجل كل ذلك، أمر رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا يكتب عنه غير القرآن. وحكمة هذا الأمر وتعليله: واضح كل الوضوح مما ذكرنا. ولكن في فترة العهد المدني تغير الوضع: ها هو ذا الإسلام ينتشر انتشارًا واسعًا وسريعًا: وها هي ذي الأُمَّةُ الإسلامية الناشئة المؤمنة القوية: تبعث الأمل واسعًا في أن دين الله سينتشر في الآفاق، وسيعم نوره الأقطار، وستحطم كلمة الحق صروح الباطل، وَسَيُتِمُّ اللهُ نُورَهُ ولو كره المشركون، وسيعم لألاؤه رغم ألوف الكافرين. ومن أجل هذه الأُمَّةِ بدأ الوحي ينزل إرسالاً، أرسالاً بالتشريع في جميع ألوانه: تشريع دولي، وتشريع جنائي، وتشريع مدني، وتشريع للعبادة، وتشريع للأحوال الشخصية.

لقد بدأ التشريع الإلهي ينظم حياة الفرد: عبادة ومعاملة: حياته مع نفسه، وحياته مع أُمَّتِهِ، وحياته مع الله تعالى. لقد أخذ ينظم حياة الإنسان منذ أن يستيقظ في الصباح إلى أن ينتهي به الأمر إلى الصحو من جديد في صباح تال. وينظم حياته في أسبوع إلى أسبوع، ومن شهر إلى شهر، ومن عام إلى عام. وينظم حياته في ذاته، وينظم حياته في أسرته، وينظم حياته في مجتمعه. وينظم حياة المجتمع الإسلامي كله في الكون كله. وما كان يتأتى أن يتعرض الوحي في ذلك للتفصيلات المفصلة، ولا للجزئيات الجزئية التي لا تحد ولا تحصى، ولكنه كان يفصل تفصيلاً يشبه أن يكون تامًا في الأمور التي تكون عادة مثار النزاع، وخصوصًا الماليات: كالميراث وكتابة الدَّيْنِ مثلاً. ويضع قواعد عامة شاملة تتضمن الجزئيات المتعددة في موضوعات أخرى، وكان لاَ بُدَّ من أن يستفيض الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البيان والشرح والتفسير. وكان المسلمون قد ألفوا الجو الإسلامي، وألفوا الأسلوب القرآني، عرفوا مفهوم الشرك ومفهوم التوحيد، وتبينت لهم الفروق الفاصلة بين العلم والجهل، وبين الإسلام

والجاهلية، وبين توجيه الوجه للذي فطر السموات والأرض وتوجيهه للأصنام أو الشهوات أو اللهو، ولم يكن هناك من خوف على خلط أسلوب القرآن الكريم بغيره. وكان لاَ بُدَّ من تقييد شروح الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفسيراته. لم يكن هناك ظروف توجب عدم كتابة الحديث، وكانت هناك ظروف توجب كتابته. ومن أجل ذلك أباح الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابته بعد أن كان قد نهى عنها. وبدأ الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -، يكتبون. روى الإمام البخاري، في كتاب العلم، باب كتابة العلم قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: " لاَ، إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ " (*). ويروي الإمام البخاري: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: الفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ - عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ - ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [البخاري: " الجامع الصحيح " ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: (3) كتاب العلم (39) باب كتابة العلم، حديث رقم 111 (" فتح الباري ": 1/ 204، طبعة سَنَة 1379 هـ، نشر دار المعرفة بيروت - لبنان)].

بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ القَتْلَ، أَوِ الفِيلَ» - شَكَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُؤْمِنِينَ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، أَلاَ وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلاَ وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ القَتِيلِ ". فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «اكْتُبُوا لأَبِي فُلاَنٍ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إِلاَّ الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلاَّ الإِذْخِرَ، إِلاَّ الإِذْخِرَ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يُقَالُ: يُقَادُ، بِالقَافِ. فَقِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَتَبَ لَهُ؟ قَالَ: كَتَبَ لَهُ هَذِهِ الخُطْبَةَ (*). ويقول البخاري: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ، قَالَ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [البخاري: " الجامع الصحيح " ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: (3) كتاب العلم (39) باب كتابة العلم، حديث رقم 112 (" فتح الباري ": 1/ 205، طبعة سَنَة 1379 هـ، نشر دار المعرفة بيروت - لبنان)].

: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ» تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (*). انتهى عن " البخاري ". ولقد اشتهرت كتابة عبد الله بن عمرو لكل ما يصدر عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى لقد نوقش في ذلك من بعض القُرَشِيِّينَ: يقول - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حسبما يروي في " سنن الدارمي " وغيره: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، وَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ». وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - كما يذكر الترمذي -، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْهَدُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلاَ يَحْفَظُهُ، فَيَسْأَلُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيُحَدِّثُهُ، ثُمَّ شَكَى قِلَّةَ حِفْظِهِ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ» (**)، أي بالكتابة. وَرُوِيَ عَنْ رَافِعٍ بْنِ خَدِيجٍ، كما يذكر في كتاب " تقييد العلم " أنه قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْمَعُ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [البخاري: " الجامع الصحيح " ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: (3) كتاب العلم (39) باب كتابة العلم، حديث رقم 113 (" فتح الباري ": 1/ 206، طبعة سَنَة 1379 هـ، نشر دار المعرفة بيروت - لبنان)]. (**) [انظر الترمذي: " السُنَنْ " تحقيق أحمد شاكر ومن معه (إبراهيم عطوة عوض): (42) كِتَابُ العِلْمِ (12) بَابُ مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِيهِ، حديث رقم 2666، 5/ 39. نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان].

مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَنَكْتُبُهَا؟ قَالَ: «اكْتُبُوا وَلاَ حَرَجَ» (*). على أنه قد روي عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كتب كتاب الصدقات والديات، والفرائض، والسنن، لعمرو بن حزم وغيره، كما يروي ذلك صاحب كتاب " جامع بيان العلم وفضله ". هذا بعض ما كان من الصحابة في عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وتكثر الروايات فيما كان من كتابة الصحابة بعد انتقاله - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - إلى الرفيق الأعلى. ففي " مسند الإمام أحمد " عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بِأَشْيَاءَ يُحَدِّثُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ هَكَذَا» وَقَالَ: بإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: فَرَأَيْتُ أَنَّهَا أَزْرَارُ الطَّيَالِسَةِ حِينَ رَأَيْنَا الطَّيَالِسَةَ (**). ولقد كان الصحابة ينقل بعضهم عن بعض، فعروة بن الزبير - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ينقل عن خالته، السيدة عائشة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا -، فتقول له: «يَا بُنَيَّ [إِنَّهُ يَبْلُغُنِي] أَنَّكَ تَكْتُبُ عَنِّي الْحَدِيثَ ثُمَّ تَعُودُ فَتَكْتُبُهُ» ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [" تقييد العلم " للخطيب البغدادي، ص 72، إحياء السنة النبوية - بيروت]. (**) [" المسند " لأحمد بن حنبل، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى: 1421 هـ - 2001 م، حديث رقم 243، 1/ 360، نشر مؤسسة الرسالة].

فَقُلْتُ لَهَا: «أَسْمَعُهُ مِنْكِ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَسْمَعُهُ عَلَى غَيْرِهِ». فَقَالَتْ: «هَلْ تَسْمَعُ فِي الْمَعْنَى خِلاَفًا؟». قُلْتُ: «لاَ». قَالَتْ: «لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ» (*). وَبَشِيرٌ بْنِ نَهِيكٍ يكتب عن أبي هريرة: ويجيزه أبو هريرة بالرواية عنه. يقول بشير: كما يذكر كتاب " السنة قبل التدوين " (**) نقلا عن كتاب " المحدث الفاصل " وغيره: أَتَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ بِكِتَابِي الَّذِي كَتَبْتُهُ عَنْهُ فَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: «هَذَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ؟» قَالَ: «نَعَمْ». وكان لابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ألواح يكتب فيها عن الصحابة: مثل أبي رافع صاحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( ... ). بل لقد وصل الأمر بأنس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الذي لازم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ملازمة تكاد تكون تامة طيلة عشر سنوات أنه كان يملي الحديث على جموع من الطالبين، فإذا كثر عليه الناس، واحتاجوا إلى صحف يكتبون فيها، جاء إليهم بها من عنده فألقاها إليهم، ثم قال: «هَذِهِ أَحَادِيثُ سَمِعْتُهَا وَكَتَبْتُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ» (****) ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [" الكفاية في علم الرواية " للخطيب البغدادي، تحقيق أبي عبد الله السورقي، إبراهيم حمدي المدني، ص 205، نشر المكتبة العلمية - المدينة المنورة. (**) [انظر " السنة قبل التدوين " للدكتور محمد عجاج لخطيب: ص 318، الطبعة الخامسة: 1401 هـ - 1981 م، نشر دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت - لبنان]. ( ... ) [المرجع السابق: ص 319]. (****) [" تقييد العلم " للخطيب البغدادي، ص 95، إحياء السنة النبوية - بيروت، وانظر: " السنة قبل التدوين ": ص 320].

وكان يقول - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لِبَنِيهِ: «يَا بَنِيَّ قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» (*). وكان الصحابة يتراسلون في الأحاديث: يستفسرون ويتذاكرون، فمعاوية بن أبي سفيان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، يكتب للمغيرة بن شعبة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ -، عدة مرات، يستفسر عن بعض ما يرويه المغيرةُ عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فيجيبه المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مَرَّةً عما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مثلاً يقول في ختام كل صلاة: «اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» (**). ويجيبه مرة أخرى بأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «[كَانَ يَنْهَى] عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ» ( ... ). ويكتب زياد بن أبي سفيان إلى السيدة عائشة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا -، يسألها عن مسائل تتعلق بالحج، ويذكر لها فتوى ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. فتكتب له بما كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله في الحج. ويصف المرحوم الأستاذ السباعي بعض الجهود التي قام بها االصحابة لجمع الحديث فيقول في نهاية حديثه عن تلك الجهود: «فلما كان عهد عثمان سمح للصحابة أن يتفرقوا في الأمصار، واحتاج الناس إلى الصحابة وخاصة صغارهم، ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [" جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: ص 316، " تقييد العلم " للخطيب البغدادي: ص 96]. (**) [البخاري: " الجامع الصحيح " ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: (10) كتاب الأذان (155) بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، حديث رقم 844 (" فتح الباري ": 2/ 325، طبعة سَنَة 1379 هـ، نشر دار المعرفة بيروت - لبنان). وانظر " المسند الجامع " تأليف محمود محمد خليل: 15/ 397 حديث رقم 11746. الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م، دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الشركة المتحدة لتوزيع الصحف والمطبوعات، الكويت]. ( ... ) انظر: [البخاري: " الجامع الصحيح " ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: (81) كتاب الرقاق (22) بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ، حديث رقم 6473 (" فتح الباري ": 11/ 306، طبعة سَنَة 1379 هـ، نشر دار المعرفة بيروت - لبنان)].

بعد أن أخذ الكبار يتناقصون يَوْماً بعد يوم، فاجتهد صغار الصحابة بجمع الحديث من كبارهم فكانوا يأخذونه عنهم، كما كان يرحل بعضهم إلى بعض من أجل طلب الحديث. فقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " وأحمد والطبراني والبيهقي واللفظ له عن جابر بن عبد الله قال: «بَلَغَنِيَ حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي، ثُمَّ سِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: " حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي المَظَالِمِ لَمْ أَسْمَعْهُ فَخَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ "، فَقَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " يُحُشَرُ النَّاسُ غُرْلاً بُهْمًا "، قُلْنَا: " وَمَا [بُهْمٍ؟] " قَالَ: " لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، فَيُنَادِيْهِمْ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الدَّيَّانُ لاَ يَنْبَغِيِ لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهَا مِنْهُ، وَلاَ يَنْبَغِيْ لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَحَدٌ

مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ "، قُلْنَا: " كَيْفَ؟ وَإِنَّمَا نَأْتِيَ اللهَ عُرَاةً غُرْلاً بُهْمَا؟ " قَالَ: " بِالحَسَنَاتِ وَالسَيِِّئَاتِ». وأخرج البيهقي وابن عبد البر عن عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ رَحَلَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ أَتَى مَنْزِلَ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ الأَنْصَارِيِّ - وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرَ - فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ؟ " فَقَالَ: " حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَتْرِ المُؤْمِنِ "، قَالَ: " نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى كُرْبَتِهِ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا أَدْرَكَتْهُ جَائِزَةُ مَسْلَمَةَ إِلاَّ بَعَرِيشِ مِصْرَ (*). اهـ. ولقد وقر في أذهان الناس، بصورة راسخة أن السُنَّةَ لم تُدَوَّنْ إلا في القرن الثاني، ومن أجل اقتلاع هذه الفكرة الخاطئة أطلنا في نقل بعض النصوص التي تثبت الحقيقة، وهي أن السُنَّةَ دُوِّنَتْ في القرن الأول: في عهد ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [" السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 72، 73، الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م، نشر المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان. (وانظر أيضًا طبعة دار الوارق: ص 90، 91)].

الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي عهد الصحابة الأَجِلاَّءِ. ومن أجل زيادة الأمر وضوحًا، ومن أجل تأكيد الحقيقة في الأذهان: ننقل أيضًا رأي الأستاذ الجليل سليمان الندوي، كبير علماء مسلمي القارة الهندية هذا العصر: ننقله من كتابه النفيس " الرسالة المحمدي " وهو محاضرات ألقاها في جامعة مدراس. يقول: «وإني أكشف القناع، لأول مرة في ناديكم هذا بأن من زعم أن الأحاديث النبوية لم تُدَوَّنْ إلى مائة سَنَةٍ أو تسعين سَنَةٍ قد أخطأ، والتاريخ يعارضه». والسبب في هذا الخطأ ظنهم أن أول كتاب في الحديث النبوي، كتاب " الموطأ " لمالك بن أنس، وأول كتاب في السيرة كتاب " المغازي " لابن إسحاق، وهذان الإمامان الجليلان كانا معاصرين، توفي الأول سَنَةَ 179 هـ. والثاني سَنَةَ 151 هـ. فاعتبروا العقود الأولى من القرن الثاني بداية تدوين الأخبار والسير. والأمر ليس كذلك، فإن بواكير التدوين ابتدأت قبل ذلك بكثير، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز المتوفى سَنَةَ 101 عالمًا جليلاً، ولي إمارة المدينة ثم استخلف سَنَةَ 99 وقد عهد إلى القاضي أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - الذي كان إمامًا في الحديث والخبر - أن يبدأ في تدوين سُنَنِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخباره، لأنه خاف على العلم أن يرفع شيئًا فشيئًا.

وخاف دَرْسَ العلم وعفاءه، وقد ذكر هذا في تعليقات " البخاري "، و " الموطأ " لمالك، و " المسند " للدارمي. فقام بذك أبو بكر بن حزم، وكتبت الأحاديث والأخبار والسنن في القراطيس، وأرسلت إلى دار الخلافة بدمشق، ونسخت في الصحف والكتب، وبعث بها إلى البلاد الإسلامية وكبريات المدن يومئذٍ (¬1). فأبو بكر هذا الذي علمتم مكانته من العلم والفضل. وكان قاضيًا بالمدينة المنورة، هو الذي اختاره عمر بن عبد العزيز لهذا العمل الجليل، لعلمه وفضله، ولأن خالته عَمْرَةُ كانت من كبريات تلميذات أم المؤمنين عائشة محفوظًا عنده، فأوعز إليه عمر بن عبد العزيز بتدوين مرويات خالته، وقد اختصها بالذكر في كتابه إليه. ويتابع السيد الندوي حديثه فيقول: وأمر - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكتبت أحكام الزكاة وما تجب فيه، ومقادير ذلك، فكتبت مشروحة مفصلة في صفحتين، وبعث بصورة ذلك إلى أمراء البلاد وَوُلاَّتِهَا، وبقيت محفوظة في بيت أبي بكر الصديق، وأبي بكر بن عمرو بن حزم (¬2). وكان عند عمال الزكاة رسائل فيها أحكام الزكاة. وكان لمرويات عبد الله بن عباس كراريس عدة. ¬

_ (¬1) مختصر " جامع بيان العلم وفضله " للحافظ ابن عبد البر: ص 138. طبع بمصر. (¬2) الدارقطني: " السنن " في كتاب الزكاة 209.

وجاءه قوم من أهل الطائف بكراسة منها لِيَرْوُوهَا عنه (¬1). وكان سعيد بن جبير يكتب روايات عبد الله بن عباس (¬2). وبقيت صحيفة عبد الله بن عمرو (الصادقة) موجودة عند حفيده: عمرو بن شعيب (¬3). كانوا يضعفون عمرو بن شعيب، لأنه يروي من الصحيفة، وكان ينبغي له أن يروي من حفظه. وجمع وهب التابعي روايات جابر بن عبد الله، وكانت عند إسماعيل بن عبد الكريم، وضعفوه لأجل ذلك (¬4). وروى سليمان بن سمرة بن جندب أنه كان عند أبيه صحيفة فيها أحاديث. وكذلك روى ابنه حبيب بن سليمان (¬5). وجمع همام بن منبه روايات أبي هريرة، وهو أكثر الصحابة رواية، وأوعاهم حفظًا لأحاديث الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصارت تعرف صحيفته بين المحدثين بـ " صحيفة همام "، وقد أوردها الإمام أحمد بن حنبل في الجزء الثاني من " مسنده " (¬6). وكذلك بشير بن نهيك: كتب مروياته عن أبي هريرة في كتاب وقرأه عليه (¬7). ¬

_ (¬1) " العلل " للترمذي: ص 691. (¬2) " الدرامي ": 69. (¬3) " سنن الترمذي ": ص 61، 113. (¬4) " تهذيب التهذيب " لابن حجر: ص 316. (¬5) " تهذيب التهذيب ": 4/ 198. (¬6) " مسند الإمام أحمد بن حنبل ": 2/ 312 - 318، الطبعة الأولى. (¬7) كتاب " العلل " للترمذي: ص 691. و " الدارمي ": ص 68، و " السنن الكبرى " للبيهقي: 10/ 280.

وذكر ابن حجر في كتابه " فتح الباري ": أن أبا هريرة جاء برجل إلى بيته وأراه أوراقًا وقال: هذه رواياتي. وقال الذي روى ذلك: «إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكْتُوبَةً بِيَدِهِ» (¬1). وكان أنس بن مالك - وهو معروف بكثرة الرواية - يقول لأولاده: «يَا بَنِيَّ اكْتُبُوا العِلْمَ وَقَيِّدُوهُ بِالكِتَابَةِ» (¬2). وكان تلميذه «أبان» يكتب رواياته بين يديه (¬3). وروي عن سلمى قالت: «رأيت عبد الله بن عباس يستملي أبا رافع خادم رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما كان - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يفعل أو يقول» (¬4). والواقدي وهو من متقدمي المُصَنِّفِينَ في السيرة النبوية يقول: «رأيت عند عبد الله بن عباس الكتاب الذي أرسله رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلى المنذر بن ساوى سيد عمان مع كتب أخرى» (¬5). وفي " تاريخ الطبري ": إن عروة بن الزبير كتب جمع ما كان في غزوة بدر مُفَصَّلاً إلى عبد الملك الخليفة الأموي (¬6). ويقول سعيد بن جُبير التابعي: «كنت أكتب على الأقتاب ¬

_ (¬1) " فتح الباري ": 1/ 184، 185. (¬2) " الدارمي ": ص 68. (¬3) " الدارمي ": ص 68. (¬4) " طبقات " ابن سعد: 2/ 2 / 123. (¬5) " زاد المعاد ": 2/ 57. (¬6) " تاريخ الطبري ": 1285.

ما أسمعه في الليل من عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، فإذا أصبحت كتبته واضحًا» (¬1). وكان أصحار البراء بن عازب يكتبون عنده وراياته (¬2). وكان نافع - وقد صحب ابن عمر ثلاثين سَنَةً - يُمْلِي على الناس (¬3). وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود أنه أخرج كتابًا وقال: «وأيم الله، هذا ما كتبته يد ابن مسعود» (¬4). ونتابع الحديث في الموضوع على الرغم من أن الأمر أصبح واضحًا فنضيف إلى ما سبق، أَنَّ مَرْوَانَ قَدْ خَطَبَ فِي النَّاسِ فَذَكَرَ مَكَّةَ وَحُرْمَتَهَا، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ النَّاسُ: «وَالمَدِينَةَ حَرَمٌ حَرَّمَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَنَا فِي أَدِيمٍ [خَوْلاَنِيٍّ]، إِنْ شِئْتَ أَنْ نُقْرِئَكَهُ فَعَلْنَا، فَنَادَاهُ مَرْوَانُ: أَجَلْ قَدْ بَلَغَنَا ذَلِكَ» (¬5). وأرسل الضحاك بن قيس كتابًا إلى النعمان بن بشير يسأله فيه عن السورة التي كان رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرؤها في صلاة الجمعة غير سورة الجمعة، ¬

_ (¬1) " الدارمي ": ص 69. (¬2) " الدارمي ": ص 69. (¬3) " الدارمي ": ص 69. (¬4) " جامع بيان العلم " لابن عبد البر: ص 17. (¬5) " مسند الإمام أحمد بن حنبل ": 4/ 141.

فكتب إليه يقول: «كان يقرأ {هَلْ أَتَاكَ} [الغاشية: 1]» (¬1). وكتب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن فرقد كتابًا ذكر فيه «أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ» (¬2). وَيَقُولُ مُجَاهِدٌ: «رَأَيْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو كِتَابًا، فََسَأَلْتُهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: " هَذِهِ الصَّادِقَةُ " فِيهَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ». ولما وَلَّى رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمرو بن حزم اليمن بعثه إليها وأعطاه أحكامًا مكتوبة في الفرائض والصدقات والديات (¬3). وتلقى عبد الله بن حكيم كتابًا من رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه أحكام الحيوانات الميتة (¬4). ولما أراد وائل بن حجر أن يرجع إلى بلاده حضرموت ناول رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابًا فيه أحكام الصلاة والصوم والربا والخمر وغير ذلك (¬5). وَلَمَّا وَجَّهَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنِ لْخَطَّابِ السُّؤَالَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ كَانَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَصِيبِ المَرْأَةِ ¬

_ (¬1) " صحيح مسلم ". (¬2) " صحيح مسلم ". (¬3) " كنز العمال ": 3/ 186. (¬4) " المعجم الصغير " للطبراني: ص 217. (¬5) " الطبراني ": ص 242.

من دية زوجها قام الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ فقال: «نعم عندنا كتاب من رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبين فيه ذلك» (¬1). وقد بلغ عدد الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - في آخر حياة النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما حج حجة الوداع - مائة ألف، ومن هؤلاء عشرة آلاف صحابي مذكورة أسماؤهم وأحوالهم في كتب التاريخ التي أفردت لتدوين أحوالهم الخاص. وإن التاريخ لم يهتم بتدوين أحوالهم ولم يحفظ لنا شؤونهم إلا لأن كل واحد منهم حفظ شيئًا من أقوال النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأفعاله وتصرفاته وهديه وسيرته. لقد توفي رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ 11 من الهجرة النبوية، وبقي فريق من كبار الصحابة بعده إلى سَنَةِ أربعين، وبقي بعد ذلك من الصحابة، الذين كانوا أحداثًا في حياة النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدد غير قليل. فلما انقرض ذلك الجيل لم يبق من الصحابة أحد، وانطفأ كل سراج أوقد بنور النبوة. وإليكم أسماء آخر من مات من الصحابة، والبلاد التي ماتوا فيها، وسنوات وفاتهم. ¬

_ (¬1) " سنن الدارقطني ": 2/ 485، انظر " السنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب و" السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور السباعي، و" رجال الفكر والدعوة " لأبي الحسن الندوي.

أخر الصحابة موتًا ---------------------- المدن التي توفوا فيها ----------- سَنَة الوفاة. 1 - أبو أمامة ---------------------------------- الشام ---------------------- 86 2 - عبد الله بن الحارث بن جزء ----------------- مصر --------------------- 86 3 - عبد الله بن أبي أوفى ----------------------- الكوفة --------------------- 87 4 - السائب بن يزيد --------------------------- المدينة --------------------- 91 5 - أنس بن مالك ----------------------------- البصرة --------------------- 93 وأنس بن مالك هذا الذي كان آخر من بقي من الصحابة كان الخادم لِرَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، استمر في خدمته عشر سنوات متوالية. ومعظم هذه الثروة الحديثية - كما يقول الأستاذ الجليل أبو الحسن الندوي - قد كتب وَدُوِّنَ بأقلام رواة العصر الأول، وقد يزيد ما حفظ في الكتب والدفاتر كتابة وتحريرًا في العصر النبوي وفي عصر الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، على عشرة آلاف حديث، إذا جمعت صحف ومجاميع أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وَعَلِيٍّ وابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، فيمكن أن يقال: إن ما ثبت من الأحاديث الصحاح واحتوت عليه مجاميعها ومسانيدها قد كتب وَدُوِّنَ في عصر النبوة وفي عصر الصحابة قبل أن يُدَوَّنَ " الموطأ و " الصحاح " بكثير.

جمعت السُنَّةُ إذن - جميعها تقريبًا - في عهد الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعهد الصحابة. جمعت دون ترتيب ولا تنسيق. جمعت متفرقة متناثرة، يكتب هذا الحديث والحديثين، ويكتب الآخر المائة والمائتين، ويزيد الثالث عن ذلك، ويملي الرابع من حفظه على الآخرين، وهكذا، وفي ذلك لم يكن لأحد اهتمام بالتنضيد أو التنسيق. يقول الأستاذ العالم الورع المتثبت أبو الحسن الندوي في كتابه " رجال الفكر والدعوة " ما يلي: وإذا اجتمعت هذه الصحف والمجاميع، وما احتوت عليه من الأحاديث، كونت العدد الأكبر من الأحاديث التي جمعت في الجوامع والمسانيد والسنن في القرن الثالث. وهكذا يتحقق أن المجموع الكبير الأكبر من الأحاديث سبق تدوينه وتسجيله - من غير نظام وترتيب - في عهد الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي عصر الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. ويتحدث الأستاذ أبو الحسن الندوي عن الوهم الشائع بين الناس من أن السُنَّةَ لم تُدَوَّنْ إلا في القرن الثالث، ويعلل هذا الوهم تعليلاً منطقيًّا فيقول: وقد شاع في الناس - حتى المثقفين والمؤلفين - أن الحديث لم يكتب ولم يسجل إلا في القرن الثالث الهجري،

وأحسنهم حالاً من يرى أنه قد كتب ودوّن في القرن الثاني. وما نشأ ذلك الغلط إلاَّ عن طريقتين: الأولى: أنَّ عامة المؤرِّخين يقتصرون على ذكر مدوِّني الحديث في القرن الثاني، ولا يعنون بذكر هذه الصحف والمجاميع التي كتبت في القرن الأول، لأنَّ عامتها فقدت وضاعت مع أنها اندمجت وذابت في المؤلفات المتأخرة. الثانية: أنَّ المحدثين يذكرون عدد الأحاديث الضخم الهائل الذي لا يتصوَّر أنْ يكون قد جاء في هذه المجاميع الصغيرة التي كتبت من القرن الأول، مع أنَّ عدد الأحاديث الصحاح غير المتكررة المتجردة من المتابعات والشواهد لا يزال قليلاً. وقد نبَّه على ذلك العلاَّمة، مناظر أحسن الكيلاني رئيس القسم الديني سابقاً في الجامعة العثمانية بحيدر آباد في كتابه العظيم " تدوين الحديث " يقول - رَحِمَهُ اللهُ -: «وقد يتعجَّب الإنسان من ضخامة عدد الأحاديث المروية فيقال: إنَّ أحمد بن حنبل كان يحفظ أكثر من سبعمائة ألف حديث. وكذلك يقال عن أبي زُرعة. ويروى عن الإمام البخاري أنه كان يحفظ مائتي ألف من الأحاديث الصحيحة. ويُروى عن مسلم أنه قال: " جمعت كتابي من ثلاثمائة ألف حديث ". ولا يعرف كثير من المتعلمين - فضلاً عن

العامة - إن الذي يكون هذا العدد الضخم هو كثرة المتابعات والشواهد التي عني بها المحدثون. فحديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مثلاً يروى من سبعمائة طريق. فلو جردنا مجاميع الحديث من هذه المتابعات والشواهد لبقي عدد قليل من الأحاديث. فـ " الجامع الصحيح " للبخاري لا تزيد الأحاديث التي رويت بالسند الصحيح فيه على ألفين وستمائة وحديثين. وأحاديث " مسلم " يبلغ عددها إلى أربعة آلاف حديث. وهكذا لا يبلغ عدد الأحاديث المروية في كتب الصحاح الستة، و " مسند أحمد "، وكتب أخرى، خمسين ألف حديث، منها الصحيح ومنها السقيم، ومنها المتفق عليه، ومنها المتكلم فيه. وقد صرح الحاكم أبو عبد الله الذي يُعَدُّ من المتسامحين المتوسعين أن الأحاديث التي في الدرجة الأولى لا تبلغ عشرة آلاف (¬1). ويقول الأستاذ: ولم ينتصف القرن الثاني حتى كانت حركة الجمع والتدوين أنشط وأقوى. وكان ممن سبق إليها من الرجال هذا القرن: ابن شهاب الزهري - مات عام 134 هـ. وابن جُريج المكي - مات عام 150 هـ. ¬

_ (¬1) " توجيه النظر " للشيخ طاهر الجزائري: ص 93.

وابن إسحاق - مات عام 151 هـ. ومعمر اليمني - مات عام 153 هـ. وسعيد بن أبي عروبة المدني - مات عام 156 هـ. وربيع بن صُبيح - مات عام 160 هـ. وسفيان الثوري - مات عام 161 هـ. ومالك بن أنس - مات عام 179 هـ. والليث بن سعد - مات عام 175 هـ. وابن المبارك - مات عام 181 هـ. ثم تتابع الناس (¬1). ليس من همنا في هذا الفصل أن نتابع السُنَّةَ في تدوينها، وإنما أردنا أن نوضح في هذا الفصل توضيحًا شافيًا فكرة أن السُنَّةَ دُوِّنَتْ في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعهد الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -، وأظن أنه قد استبان الآن الأمر بما لا يحتاج إلى مزيد، وشكر الله للباحثين الأعلام المتبصرين الذين استندنا إليهم في هذا الحديث. ¬

_ (¬1) انظر كتاب " رجال الفكر والدعوة " لأبي الحسن الندوي.

الفصل الثالث: المحدثون في جهادهم:

الفَصْلُ الثَّالِثُ: المُحَدِّثُونَ فِي جِهَادِهِمْ: في ضوء ما سبق قد يتساءل بعض الناس؟ هل معنى ذلك أنه لم تحدث محاولات للوضع، أو حدث الوضع بالفعل وتزييف، واختراع في السُنَّةِ؟ والواقع أن من يزعم أن السُنَّةَ على مجرى التاريخ قد خلت من الوضع إنما ينكر الحقائق الثابتة. لقد حاول الكثيرون وضع أحاديث على لسان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحاولوا ذلك لأسباب مختلفة منها: 1 - أن بعض الناس كذابون بطبيعتهم، اتخذواالكذب هواية لا يستقيم أمرهم إلا على الكذب، فكذبوا على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإذا كان من المعروف في جميع الأديان أن بعض الناس يكذب على الله، فإن من الأمور التي تحدث أن يكذب بعض الناس على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2 - وبعض الناس يسيطر عليه مذهب من المذاهب أو نزعة من النزعات، ويتشبع بذلك حتى يملأ عليه أقطاره فيكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تأييدًا لمذهبه وتأكيدًا لنزعته، وإرضاء لهواه.

3 - وبعض الناس دخل في الإسلام كرهًا للإسلام: دخله ليتآمر عليه، دخله ليكون في ظروف أكثر ملاءمة للتآمر عليه: فكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إفسادًا للمبادئ الإسلامية الصحيحة، وتزييفًا لها. 4 - وبعض الناس استباح الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في سبيل موعظة الآخرين وهدايتهم، ورأى أن غايته التهذيبية تبيح له ركوب هذا المركب الفاسد. هذه هي كل أو أكثر الأسباب التي دعت إلى وضع الأحاديث والكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولكن ذلك لم يكن في السُنَّةِ بدعًا من الأمر. فهذه الأسباب في الجملة كانت ولا تزال الأسباب لتزييف التاريخ. إن التاريخ - منذ عرف - لم يخل من العوامل التي تحاول وضعه على غير ما كان عليه بالفعل، وتلوينه على الصورة التي يريد بعض الناس - ملوكًا أو أمراء أو زعماء على أي وضع كانوا - أن يكون عليها. ولكن تزييفهم للتاريخ لم يمنع من ظهور الحقائق، وكذبهم على التاريخ لم يمنع من بيان الحق ومعرفة الناس له. ولقد وضع المؤرخون المحدثون أصولاً للنقد، وعلامات للحوادث المزيفة وقواعد لمعرفة الحقيقة.

ولقد استعانوا في سبيل المعرفة الصحيحة باللغة، وبالحوادث اليقينية المتواترة، وبالشهود العدول، وبالمقارنات. لقد استعانوا بالنقد الداخلي، والنقد الخارجي ووصلوا بذلك إلى الحقائق التي يطمئنون إليها، برغم ما يفصل بينهم وبين مكان الأحداث من آلاف الأميال، وبرغم ما يفصل بينهم وبين أزمنة الحوادث من عشرات القرون. ومع كل ما حاوله المؤرخون من جهد، ومع كل ما وضعوه من قواعد للوصول إلى اليقين فإنهم - والحق يقال - لم يصلوا في كل ذلك إلى ما وصل إليه سادتنا المحدثون - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -. وذلك للأسباب التالية: 1 - لقد بدأ تسجيل السُنَّةِ في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتم تسجيلها - كلها تقريبًا - في عهد الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -. فكان قرب الزمن، إذن، من عوامل صحة السنة. 2 - وسجل أكثرها في المكان نفسه الذي كان فيه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو في أمكنة قريبة، نسبيًا، منه. 3 - ولقد رُوِيَ عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحاديث كانت تحد من الوضع، في المبدأ على الأقل، مثل حديث: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مِقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». وهذه ملاحظات نذكرها لا لنقول أنها حاسمة فيما

يتعلق بأمر صحة ما روي - ولقد قدمنا: أن الوضع وجد بالفعل - ولكننا نذكرها في مقابلة ما يحاول بعض الناس التهويل به من أمر التزييف والوضع. أما الأمور الحاسمة التي تجعلنا نثق بالنتائج والثمار التي وصل إليها سلفنا الصالح فيما يتعلق بأمر السنة، فإن في أساسها: 1 - إيمان هؤلاء السلف بأنهم في عنايتهم بالسنة: - بما صح منها، وبما وضع فيها - إنما يجاهدون في سبيل الله. لقد كانوا مؤمنين إيمانًا عميقًا ثابتًا بأن في عنقهم واجبًا دينيًا هو أن يُخَلِّصُوا سُنَّةَ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من كل زيف، وأن يُنَقُّوهَا من الكدورات في إخلاص مخلص، وفي صورة من اليقين لا يفترون في الوصول إليه. ولقد كانوا يعدون بالآلاف، ويمتازون - كما يقول أبو الحسن الندوي - بعلو نشاطهم، وقوة احتمالهم وصبرهم وقوة ذاكرتهم وحفظهم، وقد تدفق سيلهم من بلاد العجم، وقد ملكت قلوبهم وعقولهم الرغبة الشديدة في جمع الحديث، وشغفوا به شغفًا حال بينهم وبين الشهوات، فطاروا في الآفاق، ونقبوا في البلاد في البحث عن الروايات المختلفة، والأسانيد الصحيحة. وكان لهم في ذلك هيام وغرام لم يعرفا عن أمة من الأمم في التاريخ كله، يدل على ذلك بعض الدلالة ما يروى عن

المحدثين من التجول في البلاد، والسفر في العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه. فقد روي: أن البخاري صاحب الصحيح، بدأ رحلته العلمية وهو لا يزال في الرابعة عشر من سنه، وقد زار البلدان الإسلامية: ما بين بخارى ومصر وشيوخها. وروي عن أبي حاتم الرازي (م 277 هـ) قال: «أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر، ثم إلى الرملة ماشيًا ثم إلى طرطوس ولي عشرون سنة». وقد سمع محدث الأندلس ابن حيون (م 374 هـ) الحديث في الأندلس والعراق، والحجاز واليمن، وهكذا قطع قارة إفريقيا من طنجة إلى مصر، وعبر البحر الأحمر. ومن المحدثين من سافر في قارة إفريقيا وآسيا وأوروبا في طلب الحديث وهكذا انتظمت رحلته العلمية ثلاث قارات كبرى. وكان كثير من المحدثين يخرج من الأندلس أقصى الغرب في العالم المتمدن المعروف يومئذً ويبلغ أقصاه في الشرق إلى خراسان أو بالعكس، والمطالع في " تذكرة الحفاظ " للذهبي يدهش لطموح هؤلاء الرجال واحتمالهم المشاق في طلب العلم. 2 - ولقد استعمل أئمتنا النقد الداخلي والنقد

الخارجي، بل لقد استعملوا ما يمكن أن نسميه المشاركة الوجدانية، أو بعبارة أدق، استرواح رائحة النبوة، أو استلهام طابع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الحديث، أو استبصار القلب، وإلهام الروح، وإشراق البصيرة، في المعرفة: يقول الربيع بن خثيم: «إِنَّ مِنَ الْحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ضَوْءٌ كَضَوْءِ النَّهَارِ نَعْرِفُهُ بِهِ، وَإِنَّ مِنَ الْحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ظُلْمَةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ نَعْرِفُهُ بِهَا» (¬1). وهذه الطريقة تعتبر في العصر الحاضر الأوروبي من ابتداعات القرن العشرين. لقد استعملها أئمتنا ووضعوا لها الأصول، وبينوا كيفيتها، ولم يتركوها للأهواء والمشارب، ومن أدق التعبيرات عنها ما يقوله ابن القيم: «وَسُئِلْتُ: هَلْ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ بِضَابِطٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْظَرَ فِي سَنَدِهِ؟ فَهَذَا سُؤَالٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ. وَإِنَّمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ تَضَلَّعَ فِي مَعْرِفَةِ السَّنَنِ الصَّحِيحَةِ، وَاخْتَلَطَتْ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ وَصَارَ لَهُ فِيهَا مَلَكَةٌ وَصَارَ لَهُ اخْتِصَاصٌ شَدِيدٌ بِمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالآثَارِ، وَمَعْرِفَةِ [سِيرَةِ] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَيُخْبِرُ ¬

_ (¬1) الحاكم، " معرفة علوم الحديث ": ص 26.

عَنْهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، وَيُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ، وَيُشَرِّعُهُ لِلأُمَّةِ، بحيث كَأَنَّهُ مُخَالِطٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوَاحِدٍ مِنَ أَصَحَابِهِ. فَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْ أَحْوَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَدْيِهِ وَكَلامِهِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ [بِهِ]، وَمَا لا يَجُوزُ مَا لا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُتَّبِعٍ مَعَ مَتْبُوعِهِ، فَإِنَّ لِلأَخَصِّ بِهِ، الْحَرِيصِ عَلَى تَتَبُّعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ وَمَا لا يَصِحُّ مَا لَيْسَ لِمَنْ لا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَهَذَا شَأْنُ الْمُقَلِّدِينَ مَعَ أَئِمَّتِهِمْ: يَعْرِفُونَ أَقْوَالَهُمْ وَنُصُوصَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وفي هذه الطريقة أيضًًا يقول ابن دقيق العيد: «وَكثيرا ما يحكمون بذلك (أي بالوضع) باعتبار يرجع إلى المروي وألفاظ الحديث، وحاصله أنها حصلت لهم بكثرة محاولة ألفاظ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هيئة نفسانية وملكة يعرفون بها ما يجوز أن يكون من ألفاظه». ويقول ابن الجوزي: «الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب». 3 - وأنه لمن المعروف أن عناية سلفنا الصالح لم تكن موجهة إلى جمع الحديث وتدوينه فحسب، وإنما تعدت

ذلك - كما يقول الأستاذ الجليل أبو الحسن الندوي - إلى الوسائط التي وقعت في رواية الحديث، وهم الرواة الذين رووا هذه الأحاديث ز فعنوا بمعرفتهم ومعرفة أسمائهم وأسماء آبائهم، وحوادث حياتهم وأخلاقهم، ومكانتهم في الأمانة، والصدق، والحفظ. وهكذا أصبح الذين اتصلوا بالشخصية الكريمة التي وعد الله لها بالخلود وبقاء الذكر وانتشار الاسم {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (¬1) أصبح الذين اتصلوا بها موضوع الدارسين، والباحثين، وخرجوا من زوايا الخمول واستحقوا الحياة والاشتهار، وأصابعهم فيض من حياة هذه الشخصية الخالدة فحيوا وظهروا واحتفظ التاريخ بأسمائهم وأحوالهم، ورآه حَقًّا على نفسه، وهكذا ظهر علم أسماء الرجال في عالم الوجود، وكان من مفاخر هذه الأمة التي لا تشاركها فيها أمة من الأمم، قال الدكتور «اسبرنجر» (*) في مقدمته الإنجليزية على كتاب " الإصابة في [تمييز] الصحابة " للحافظ ابن حجر العسقلاني ما ترجمته: «لم تعرف أمة في التاريخ، ولا توجد الآن على ظهر الأرض، وفقت لاختراع فن من أسماء الرجال الذي نستطيع بفضله أن نقف على ترجمة خمسمائة الف (نصف مليون) من الرجال». ولم يعن المحدثون بتعريف رجال الحديث فحسب، ¬

_ (¬1) [سورة الشرح، الآية: 4]. ----------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) شبرنجر Sprenger 1813 - 1893 انظر " الأعلام "، خير الدين الزركلي: 2/ 8، الطبعة: الخامسة عشر - أيار / مايو 2002 م، نشر دار العلم للملايين. بيروت - لبنان. وانظر " الرسالة المحمدية "، السيد سليمان الندوي، ص 62 هامش، الطبعة الأولى: 1415 هـ - 1995 م، نشر دار الأمان للنشر والتوزيع - القاهرة.

بل التزموا الصدق والصراحة في تعريفهم، وجمعوا كل ما يتصل بأخلاقهم وعاداتهم، وما يدل على قوتهم وضعفهم واحتياطهم وتساهلهم، وتقواهم وعلمهم وذاكرتهم، وجمعوا كل ما قاله معاصروهم فيهم، ولم يداروا ولم يجاملوا في ذلك، ولم يهابوا أحدًا، ولو كان بعضهم أميرًا مهابًا أو شيخًا وقورًا. وقد روى التاريخ في ذلك طرائف تدل على شدة هؤلاء الناقدين وعلمهم بقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (¬1) وتدقيقهم. قال أبو داود: «كَانَ أَبُو وَكِيعٍ عَلَى بَيْتِ المَالِ، فَكَانَ وَكِيعٌ (م 197) إِذَا رَوَى عَنْهُ قَرَنَهُ بِآخَرَ» (*). وقد ترك معاذ بن معاذ العنبري (م 196 هـ) رواية [المسعودي]، لأنه رآه يطالع الكتاب، يعني قد تغير حفظه. (**). وقد قدم إليه عشرة آلاف دينار، وطلب منه أن يسكت عن فلان فلا يتكلم فيه بجرح ولا تعديل، فأبى ورفض هذا الحال العظيم، وقال: «لاَ أَكْتُمُ الحَقَّ». وهذا قليل من كثير جِدًّا يدل على أمانة علماء الحديث والرجال، وتدقيقهم في موضوعهم، وتحريهم الحق والعدل في شهاداتهم، فهل يوجد في تاريخ العلم نظير لهذه الأمانة والتدقيق؟ ¬

_ (¬1) [سورة النساء، الآية: 135]. ----------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) «وَكَانَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ لِكَوْنِ وَالِدِهِ كَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، يُقْرِنُ مَعَهُ آخَرَ إِذَا رَوَى عَنْهُ»، انظر " فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي " للسخاوي، تحقيق علي حسين علي: 4/ 356، الطبعة الأولى: 1424 هـ - 2003 م، نشر مكتبة السنة - مصر. (**) انظر: " الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط "، سبط ابن العجمي (المتوفى: 841هـ)، تحقيق علاء الدين علي رضا، (" نهاية الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط ") [دراسة وتحقيق وزيادات في التراجم على الكتاب]، 1/ 205، الطبعة الأولى: 1988 م، نشر دار الحديث القاهرة. " التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح " زين الدين العراقي، تحقيق عبد الرحمن محمد الخشت، 1/ 454، الطبعة الأولى: 1389 هـ- 1969 م، الناشر: محمد عبد المحسن الكتبي صاحب المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. " الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح " إبراهيم بن موسى الأبناسي (المتوفى: 802هـ)، تحقيق صلاح فتحي هلل، 2/ 759، الطبعة الأولى: 1418 هـ - 1998 م، نشر مكتبة الرشد. المملكة العربية السعودية.

وما من شك في أن سلفنا الصالح بدأ بالاهتمام بالإسناد: أي بالاهتمام بهؤلاء الذين رَوَوْا الحديث واحدًا عن واحدٍ حتى وصلوا به إلى رسول الله رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو إلى أحد الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -. ولقد اهتموا بالإسناد إلى درجة أن يجعلوه من الدين، يقول الإمام الزُّهْرِي: «الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ». لقد بحثوا عن هؤلاء الذين جاء حديث رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن طريقهم: لقد بحثوا عن ميلادهم، وعن وفاتهم، وعن أخلاقهم، وعن غفلتهم وسهوهم، أو يقظتهم وصحوهم وعن ذاكرتهم وضبطهم، لقد بحثوا عن كل ما يتصل بهم في ألفاظهم التي ينطقون بها، وفي سلوكهم الذي يسيرون عليه، وفي سمتهم من ناحية الوقار والخفة، وفي أهوائهم ومشاربهم، وفي نزعاتهم، وفي ميولهم على وجه العموم. لقد اخترع المسلمون علم تشريح كامل، وضعوا به على مائدة المعرفة ما يقرب من نصف مليون من البشر. لقد اخترعوا عِلْمًا لم يخترعه سابقوهم، حتى بالنسبة لكتبهم المقدسة ولم يصل إليه لاحقوهم حتى في العصر الحديث.

علما يقول عنه المستشرق الألماني «اسبرنجر» في تصديره لكتاب " الإصابة " لابن حجر حينما كان في كلكتا 1853 - 1864: الكلمة التي سبق أن ذكرناها، والتي تعبر عن الحقيقة الواقعة. لَقَدْ قِيلَ مَرَّةً لابْنِ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ الأَحَادِيثُ [المَوْضُوعَةُ] المَصْنُوعَةُ؟ فقال: «يَعِيشُ لَهَا الجَهَابِذَةُ» (*). هؤلاء الجهابذة قاموا بما عليهم خير قيام. يتحدث صاحب كتاب " تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل " (**) عن بعض ما قام به هؤلاء الجهابذة فيقول: [التمييز بين الرواة] قال أبو محمد: فلما لم نجد سبيلا إلى معرفه شئ من معاني كتاب الله، ولا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة النقل والرواية: وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ [والثبت] والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة [والوهم] وسوء الحفظ والكذب، واختراع الأحاديث الكاذبة. ولما كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عزوجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بنقل الرواة، حق علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة [والثبت] في الرواية مما [يقتضيه] حكم العدالة في نقل الحديث [وروايته]، بأن يكونوا أمناء ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " شرح علل الترمذي " لابن رجب الحنبلي (المتوفى سنة 795 هـ)، تحقيق الدكتور همام عبد الرحيم سعيد، 1/ 477، الطبعة الأولى: 1407هـ - 1987م، نشر مكتبة المنار - الزرقاء - الأردن. انظر أيضا: " تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي " للإمام السيوطي، تحقيق الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف: 1/ 287، الطبعة الثانية: 1399 هـ - 1979 م، نشر دار إحياء السُنَّةِ النبوية]. (**) " تقدمة الجرح والتعديل ": 1/ 5، الطبعة الأولى: سنة 1271 هـ - 1952، دار الكتب العلمية، مصورة عن دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن. الهند.

في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث وإتقان به وتثبت فيه. وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل، لا يشوبهم كثير من الغفلات، ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه ووعوه، ولا يشبه عليهم بالأغلوطات. وأن يعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة وكشفوا لنا عن عوراتهم في كذبهم وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه، ليعرف به أدلة هذا الدين (وأعلامه - 1) وأمناء الله في أرضه على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم هؤلاء أهل العدالة، فيتمسك بالذي رووه، ويعتمد عليه، [ويحكم به، وتجري أمور الدين عليه]، وليعرف أهل الكذب تَخَرُّصًا، وأهل الكذب وَهْمًا، وأهل الغفلة والنسيان والغلط ورداءة الحفظ، فيكشف عن حالهم وينبئ عن الوجوه التي كان مجرى روايتهم عليها، إن كذب فكذب، وإن وهم فوهم، وان غلط فغلط ... [طبقات الرواة] ثم احتيج إلى تبيين طبقاتهم ومقادير حالاتهم، وتباين درجاتهم، ليعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والجهبذة والتنقير والبحث عن الرجال والمعرفة بهم - وهؤلاء هم أهل التزكية والتعديل والجرح. ويعرف من كان منهم عدلا في نفسه من أهل الثبت في الحديث والحفظ له والاتقان فيه - هؤلاء هم أهل العدالة.

ومنهم الصدوق في روايته، الورع في دينه، [الثبت] الذي يهم أحيانًا وقد قبله الجهابذة النقاد - فهذا يحتج بحديثه أيضًا. ومنهم الصدوق الورع المغفل الغالب عليه الوهم والخطأ والسهو والغلط - فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب. ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام. ومنهم من قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم - ممن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال منهم الكذب، فهذا يترك حديثه ويطرح روايته ويسقط ولا يشتغل به». اهـ. لقد كان هؤلاء الجهابذة في سبيل الدين يبدون آراءهم في أمس الناس بهم، نصيحة للمسلمين، وتقوى منهم، فَزَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ كَمَا فِي مُقَدِّمَةِ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ": «لاَ تَأْخُذُوا عَنْ أَخِي» (*). وَيَسْأَلُ عَلِي بْنُ الْمَدِينِيِّ سُئِلَ عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: «سَلُوا عَنْهُ غَيْرِي» (**). فيعيدون السؤال من جديد، فَيُطْرِقُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: «هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ» ( ... ). وكان أمر وكيع بن الجراح طريفًا، فقد كان أبوه رجلاً صالحًا، لا مأخذ عليه، غير أنه كان على بيت المال، ومن ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي " للسخاوي، تحقيق علي حسين علي: 4/ 356، الطبعة الأولى: 1424 هـ - 2003 م، نشر مكتبة السنة - مصر. (**) المصدر السابق: 4/ 356. ( ... ) المصدر السابق: 4/ 356.

أجل وظيفته هذه كان ابنه - إذا روى عنه - يقرن معه آخر. لقد كان سلفنا - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - يعنون بالإسناد عناية فائقة، حتى لقد وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «الإِسْنَادُ سِلاَحُ الْمُؤْمِنِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلاَحٌ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُقَاتِلُ» (¬1). ويفسر الدكتور ناصر الدين الأسد العناية بالإسناد تفسيرًا صادقًا فيقول ص 226 من كتابه النفيس " مصادر الشعر الجاهلي ": ويبدو لنا أن مرد التزام الإسناد المتصل في رواية الحديث إلى أمرين: أمر داخلي، وآخر خارجي. أما الداخلي فمبعثه من نفس الراوي، ومصدره شعوره بالتحرج الديني، وذلك أنه ينقل كلامًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال في حديثه المشهور: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». في الإسناد المتصل ما يجعل المحدث يطمئن إلى أن غيره من شيوخه وشيوخ شيوخه ثم التابعين والصحابة، يشتركون معه في تحمل تبعة هذا الحديث ونقله، وأنه لا ¬

_ (¬1) انظر كتاب " السنة قبل التدوين " [للدكتور محمد عجاج الخطيب]: ص 223.

لا يستقل وحده بحمل هذا العبء، وأن تبعته لا تعدو النقل الأمين لما سمعه عن شيخ ثقة ثبت. وأما الأمر الخارجي فمرجعه إلى سامعي الحديث من المحدث، وذلك أن الحديث يتضمن جزءًا كبيرًا من السنة، أو هو السنة كلها، وهو من أجل ذلك مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، بل إنه هو المصدر الثاني الذي يتلو في القيمة كتاب الله، ولذلك كان من التدقيق والتحقيق، ومما يبعث الطمأنينة في نفوس السامعين ويوحي إليهم بالثقة في حديث المحدث أن يصل بين عصره وعصر الرسول الكريم بسلسلة متصلة من الرواة المحدثين كلهم يشهد أنه سمعه ممن قبله حتى يصل الإسناد إلى [الصحابي] فالرسول. (" مصادر الشعر الجاهلي ": ص 258، 259. اهـ. (*). ودخل في هذا الباب - باب الإسناد - نقد الرواة، وتصنيفهم إلى فئات يأخذون من بعضها ويتوقفون عن البعض، ويعلنون على ملأ من الناس كذب البعض، وكان لهم في هذا المجال شعور مرهف، أو شعور مترف إذا أمكن هذا التعبير. يقول الإمام مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «لاَ يُؤْخَذُ العِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ: رَجُلٌ مُعْلِنٌ [بِالسَّفَهِ] وَإِنْ كَانَ أَرْوَى النَّاسِ، وَرَجُلٌ يَكْذِبُ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " مصادر الشعر الجاهلي " الدكتور ناصر الدين الأسد، ص 258، 259، الطبعة الخامسة 1978، نشر دار المعارف بمصر.

أَتَّهِمُهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَىَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَصَاحِبُ هَوَىً يَدْعُو النَّاسَ إِلَىَ هَوَاهُ، وَشَيْخٌ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ إِذَا كَانَ لاَ يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ» (*). ولقد كان يحيى بن سعيد القطان - رَحِمَهُ اللهُ - يترك حديث الكثير ممن يظهر بعض الناس بهم الخير، فقيل له: «أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلاَءِ الذِينَ تَرَكْتَ حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَكَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟» فَقَالَ: «لأَنْ يَكُونَ هَؤُلاَءِ خَصْمِي أَحَبَّ إِليَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمِي رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لِمَ لَمْ تَذُبَّ الكَذِبَ عَنْ حَدِيثِي؟». لقد اتفق المحدثون على أَلاَّ يأخذوا الحديث عن: 1 - الكذابين على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل لقد اختلفوا في كفر هؤلاء، بل لقد اختلفوا في قبول الله لتوبتهم، ويكفي أن يعرف الكذب من أحدهم مرة واحدة على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيسقط ذلك جميع أحاديثه. على أن الكذب على الناس كان في ترك حديث الكذاب حتى ولو كان يتحرج من الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ذكر ذلك الإمام مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فيما سبق. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قال الإمام مالك: «لاَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ، وَيُؤْخَذُ مِمَّنْ سِوَى ذَلِكَ: لاَ يُؤْخَذُ مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَوَاهُ، وَلاَ مِنْ سَفِيهٍ مُعْلِنٌ بِالسَّفَهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَرْوَى النَّاسِ، وَلاَ مِنْ رَجُلٍ يَكْذِبُ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ لاَ تَتَّهِمُهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ مِنْ رَجُلٍ لَهُ فَضْلٌ وَصَلاَحٌ وَعِبَادَةٌ إِذَا كَانَ لاَ يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ». انظر " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي " للرامهرمزي، تحقيق الدكتور محمد عجاج الخطيب، ص 403، الطبعة الثالثة: 1404 هـ، نشر دار الفكر - بيروت. قارن بما ورد في كتاب " أبو هريرة راوية الإسلام " للدكتور محمد عجاج الخطيب ص 45، نقلاً عن " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ": ص 79: أ - ب. و " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم: ص 32، جـ 1.

ولأئمتنا في تعقب الكذابين طرائف: يقول الأستاذ السباعي في كتابه النفيس " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " (*) مُبَيِّنًا بعض علامات الوضع في السند، ومنها: أن يروي الراوي عن شيخ لم يثبت لقياه له أو ولد بعد وفاته، أو لم يدخل المكان الذي ادَّعَى سماعه فيه، كَمَا ادَّعَى مَأْمُونُ بْنُ أَحْمَدَ الهَرَوِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ هِشَامٍ بْنِ عَمَّارٍ، فَسَأَلَهُ الحَافِظُ ابْنُ حِبَّانَ: «مَتَى دَخَلْتَ الشَّامَ؟» قَالَ: «سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ»، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: «فَإِنَّ هِشَامًا الذِي تَرْوِي عَنْهُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ» (**)، وكما حَدَّثَ عبد الله بن إسحاق الكرماني عن محمد بن أبي يعقوب، فقيل له: «مَاتَ مُحَمَّدٌ قَبْلَ أَنْ تُولَدَ بِتِسْعِ سِنِينَ» ( ... )، وكما حَدَّثَ محمد بن حاتم [الكشي] (****) عن عبد بن حميد فقال الحاكم أبو عبد الله: «هَذَا الشَّيْخُ سَمِعَ مِنْ عَبْدٍ بْنُ حُمَيْدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً». وفي " مقدمة مسلم ": أَنَّ الْمُعَلَّى بْنَ عُرْفَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا ابْنُ مَسْعُودٍ بِصِفِّينَ»، فَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ - يَعْنِي الفَضْلَ بْنَ دُكَيْنِ حَاكِيهِ عَنْ المُعَلَّى -: «أَتُرَاهُ بُعِثَ بَعْدَ الْمَوْتِ؟» وذلك لأن ابن مسعود تُوُفِّيَ سَنَةَ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " السُنَّةُ وَمَكَانَتُهَا فِي التَشْرِيعِ الإِسْلاَمِي " تَأْلِيفُ الدُكْتُور الشَّيْخ مُصْطَفَى السِّبَاعِي، ص 97، الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م، المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان. (**) انظر " لسان الميزان " لابن حجر العسقلاني، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، 6/ 447، الطبعة الأولى، 2002 م، نشر دار البشائر الإسلامية. ( ... ) انظر " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور محمود الطحان، 1/ 132، نشر مكتبة المعارف - الرياض. المملكة العربية السعودية. (****) الكشي وليس المكي، محمد بن حاتم بن خُزَيْمَة، أبو جعفر الأُساميُّ الكَشّيّ المُعَمَّر. [المتوفى: 339 هـ]، انظر: " ميزان الاعتدال " للذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، 3/ 503، الطبعة الأولى: 1382 هـ - 1963 م. وكذالك " سير أعلام النبلاء " للذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط: 15/ 380، ترجمة رقم 203، الطبعة الثالثة: 1405 هـ / 1985 م، نشر مؤسسة الرسالة].

اثنتين أو ثلاثة وثلاثين قبل انقضاء خلافة عثمان بثلاثة سنين. ولا شك أن العمدة في مثل هذه الحالة على التاريخ، تاريخ مواليد الرُّوَاة وإقامتهم ورحلاتهم وشيوخهم ووفاتهم. ولذلك كان علم الطبقات علماً قائماً بذاته لا يستغني عنه نُقَّادُ الحديث. قال حفص بن غياث القاضي: «إِذَا اتَّهَمْتُمْ الشَّيْخَ فَحَاسِبُوهُ بِالسِّنِينَ»، يعني سِنُّهُ وسِنُّ من كتب عنه. وقال سفيان الثوري: «لَمَّا اسْتَعْمَلَ الرُّوَاةُ الكَذِبَ اسْتَعْمَلْنَا لَهُمْ التَّوَارِيخَ». اهـ. ومن أعجب ما روي في ذلك، هو ما يرويه أَبُو أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ الحافظ عن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب " الجامع الصحيح " قال: «سَمِعْتُ عِدَّةَ مَشَايِخَ [يَحْكُونَ] أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ قَدِمَ بَغْدَادَ، فَسَمِعَ بِهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَاجْتَمَعُوا، وَعَمَدُوا إِلَى مِائَةِ حَدِيثٍ، فَقَلَبُوا مُتُونَهَا وَأَسَانِيدَهَا، وَجَعَلُوا مَتْنَ هَذَا الإِسْنَادِ لإِسْنَادٍ آخَرَ وَإِسْنَادَ هَذَا الْمَتْنِ لِمَتْنٍ آخَرَ، وَدَفَعُوهُ إِلَى عَشَرَةِ أَنْفُسٍ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ عَشَرَةً، وَأَمَرُوهُمْ إِذَا حَضَرُوا الْمَجْلِسَ يُلْقُونَ ذَلِكَ عَلَى الْبُخَارِيِّ، وَأَخَذُوا [الْوَعْدَ] لِلْمَجْلِسِ، فَحَضَرَ الْمَجْلِسَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنَ الْغُرَبَاءِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ.

فَلَمَّا اطْمَأَنَّ الْمَجْلِسُ بِأَهْلِهِ، انْتُدِبَ [إِلَيْهِ] رَجُلٌ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَسَأَلَهُ عَنْ آخَرَ فَقَالَ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَمَا زَالَ يُلْقِي عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْ عَشَرَتِهِ، وَالْبُخَارِيُّ يَقُولُ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَكَانَ [الْفُقَهَاءُ] مِمَّنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ يَلْتَفِتُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَقُولُونَ: «الرَّجُلُ فَهِمَ»، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ يَقْضِي عَلَى الْبُخَارِيِّ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ، وَقِلَّةِ [الْفَهْمِ]، ثُمَّ انْتُدِبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ الْمَقْلُوبَةِ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَلَمْ يَزَلْ يُلْقِي إِلَيْهِ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْ عَشَرَتِهِ، وَالْبُخَارِيُّ يَقُولُ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، ثُمَّ انْتُدِبَ إِلَيْهِ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إِلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ، حَتَّى فَرَغُوا

كُلُّهُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ الْمَقْلُوبَةِ، وَالْبُخَارِيُّ لاَ يَزِيدُهُمْ عَلَى: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَلَمَّا عَلِمَ [الْبُخَارِيُّ] أَنَّهُمْ قَدْ فَرَغُوا، الْتَفَتَ إِلَى الأَوَّلِ مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أَمَّا حَدِيثُكَ الأَوَّلُ، فَهُوَ كَذَا، وَحَدِيثُكَ الثَّانِي فَهُوَ كَذَا، وَالثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ عَلَى الوَلاَءِ»، حَتَّى أَتَى عَلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ، فَرَدَّ كُلَّ مَتْنٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَكُلَّ إِسْنَادٍ إِلَى مَتْنِهِ، وَفَعَلَ بِالآخَرِينَ مِثْلَ ذَلِكَ. [وَرَدَّ مُتُونَ الأَحَادِيثِ إِلَى أَسَانِيدِهَا، وَأَسَانِيدَهَا إِلَى مُتُونِهَا]، فَأَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالْحِفْظِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْفَضْلِ (*). قال الحافظ ابن حجر بعدما حكى هذه القصة، قلت: «هُنَا يُخْضَعُ لِلْبُخَارِيِّ، فَمَا العَجَبُ مِنْ رَدِّهِ الخَطَأَ إِلَى الصَّوَابِ، فَإِنَّهُ كَانَ حَافِظًا، بَلْ العَجَبَ مِنْ حِفْظِهِ لِلْخَطَأِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا أَلْقَوْهُ عَلَيْهِ مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ». ونختم هذا الفصل بقول الأستاذ العَلاَّمَةِ الكبير الشيخ شبلي النعماني: «لما أرادت الأمم الأخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها وروايتهم كان قد فات عليهم زمن طويل، وانقضى بينها وبينهم عهد بعيد، فحاولوا كتابة شؤون أمة قد خلت، ولم يميزوا بين غث ذلك الماضي وسمينه، وصحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار ولا أسماءهم، ولا تواريخ ولادتهم. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر: " تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي " للإمام السيوطي، تحقيق الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف: 1/ 293، الطبعة الثانية: 1399 هـ - 1979 م، نشر دار إحياء السُنَّةِ النبوية]. (**) "هدي الساري " مقدمة فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ص 486. [" فتح الباري "، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار المعرفة - بيروت، طبعة سَنَةَ 1379 هـ].

فاكتفوا بأن اصطفوا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يوافق هواهم، ويلائم بيئتهم، وينطبق على مقاييسهم. ثم لم يمض غير زمن يسير حتى صارت تلك الخرافات كالحقائق التاريخية المدونة في الكتب. وعلى هذا المنهج السقيم صنفت أكثر الكتب الأدبية مما يتعلق بالأمم الخوالي وشؤونها والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السالفة ومذاهبها ورجالها. أما المسلمون فقد جعلوا لرواية الأخبار والسير قواعد محكمة يرجعون إليها، وأصولاً متقنة يتمسكون بها. أولها: وأعلاها ألا تروى واقعة من الوقائع إلا عن الذي شهدها، وكلما بعد العهد على هذه الواقعة فمن الواجب تسمية من نقل خبرها عن الذي شهدها، ثم تسمية من نقل ذلك الخبر عن الذي نقلها عمن شهد، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة والتحدث عنها إلى زمن وقوعها والتثبت عن أمانة هؤلاء الرواة، وفقههم وعدالتهم وحسن تحاملهم للخبر الذي يروونه ز وإذا كانوا على خلاف ذلك، وجب تبنيه أيضًا. وهذه المهمة من أشق الأمور، ومع ذلك فإن مئات من المحدثين تَفَرَّغُوا لَهَا، وَوَقَّفُوا أعمارهم على تحري ذلك واستقصائه وتدوينه، وطافوا لأجله البلاد، ورحلوا بين

الأقطار، باحثين دارسين لأحوال الرواة، وكانوا يلقون المعاصرين لهم من الرواة لينقدوا أحوالهم. وإذا اطمأنوا إلى سيرة فريق منهم سألوهم عما يعرفونه من أحوال الطبقة التي كانت قبلهم. وقد اجتمع من هذا المجهود العلمي العظيم علم مستقل من العلوم الإسلامية أطلق عليه فيما بعد عنوان (أسماء الرجال) فتيسر لمن أتى بعدهم أن يقفوا على أقدار مئات الألوف من الحفاظ والعلماء والرواة وغيرهم.

الفصل الرابع: الوضاعون في العصر الحاضر:

الفَصْلُ الرَّابِعُ: الوَضَّاعُونَ فِي العَصْرِ الحَاضِرِ: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬1). والفاسق هو الذي لا تتوافر فيه شروط العدالة، ولقد وضع أئمتنا شروطاً للعدالة، نذكر منها أنَّ: من شرط العدل: أنْ يتوافر فيه الصدق بمعناه الأعم الأشمل الذي يدخل فيه: عدم تزييف النص بزيادة أو نقصان، والذي يدخل فيه أولاً، وبالذات عدم الكذب في الرواية، وعدم الكذب في الحديث العادي. ولا نريد هنا أنْ نستقصي ما قيل في العدالة، وإنما نريد أنْ ننقل بعض نصوص لنرى، فيما بعد، تطبيقها على بعض المؤلفين الحديثين. إننا نَتَبَيَّنُ دِقَّةَ أسلافنا الدقيقة مِمَّا قاله الشعبي وأقسم عليه، وله مغزاه العميق في بيان مدى ما كان عليه أسلافنا، - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - من تَحَرٍّ للصواب، يقول الشعبي: «وَاللهِ لَوْ أَصَبْتُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ مَرَّةٍ، وَأَخْطَأْتُ مَرَّةً لَعَدُّوا عَلَيَّ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ» ¬

_ (¬1) [سورة الحجرات، الآية: 6] ...

وكان أسلافنا يعتبرون الإعلان عن الكذَّابين وفضحهم والتشهير بهم من الدين، يقول عبد الرحمن بن مهدي: «سَأَلْتُ شُعْبَةَ وَابْنَ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيَّ وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنِ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، فَقَالُوا: انْشُرْهُ فَإِنَّهُ دِينٌ». وعن يحيى بن سعيد قَالَ: «سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكًا، وَابْنَ عُيَيْنَةَ، عَنِ الرَّجُلِ لاَ يَكُونُ ثَبْتًا فِي الْحَدِيثِ، فَيَأْتِينِي الرَّجُلُ، فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ»، قَالُوا: «أَخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَبْتٍ». ولقد قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». وهذا الذي يكذب على رسول الله فيتبوَّأ مقعده من النار: فاسق يجب التشهير به، وهو فاسق قد سقطت عدالته، ومن سقطت عدالته فإنه يجب التشهير به، وهو فاسق قد سقطت عدالته، ومن سقطت عدالته فإنه يجب على كل مؤمن أنْ لا يثق في حديثه ولا في رأيه، أو نتائج بحثه. ومن ثبت عليه الكذب أو الغش، أو الزيادة في النص، أو النقصان منه، لِيَثْبُتَ بالزيادة أو النقصان رأياً يتفق مع هواه، ومع نزعاته، إنَّ كل من يفعل ذلك فقد سقطت عدالته. على أنَّ من يزيد في النص أو ينقص منه، أو يُحَرِّفُ فيه: يتعمَّدُ ذلك للحط من إنسان أو للنيل منه، فإنه، من الناحية الإنسانية: قد نزل إلى مرتبة تألف الإنسانية

السليمة منها، وانحطَّ إلى درجة تنفر الفطرة الطاهرة منها. وبعد هذا نقول: إنه نشأ في زمننا هذا طائفة من الناس يزعمون أنهم من الباحثين على الأسلوب الحديث، أسلوب النقد والتمحيص، والتثبُّت فيما يزعمون. وما من شك في أنَّ أسلوب النقد والتمحيص في الحديث وفي رُواة الحديث أسلوب البحث العلميِّ بأدق ما يمكن أنْ تُعَبِّرَ عنه هذه الكلمة، إنما وجد حقاً عند أسلافنا من المحدثين، إنهم هم أصحاب المنهج العلمي الدقيق في كتابة التاريخ، إنهم المخترعون له، ولا يزالون للآن أدق من اتَّبعه، وَطَبَّقَهُ في صدق، وَالمُؤَرِّخُونَ المُحْدَثُونَ لم يصلوا بعد إلى ما وصل إليه سادتُنا المُحَدِّثُونَ القُدَمَاءُ من الدِقَّةِ العِلُمِيَّةِ. ولا نريد أنْ نتعجَّل فنقول: إنَّ هؤلاء الذين يزعمون في العصر الحاضر أنهم قد تمحضوا للبحث العلمي: ليسوا من البحث العلمي في شيء، ولنتريَّث قليلاً حتى نطبق عليهم مقاييس أسلافنا في العدالة، لنرى ما إذا كانوا أهلاً للثقة أم ليسوا بأهل لها. لقد كان أسلافنا يكتفون بثبوت الكذب مَرَّةً واحدة على شخص فيسقطونه من قائمة العدل، فإذا ثبت مثل ذلك على هؤلاء الكُتَّاب المُحْدَثِينَ فإننا نسقطهم من طبقة العدول، ونضعهم في قائمة الذين وصفهم الله بالفِسْقِ، حين قال فيهم:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬1). لقد أراد قوم - من نقلة البحث العلميِّ - التشكيك في السُنَّة، بل هَدْمِ السُنَّة رأساً، وهؤلاء تقودهم أهواء مختلفة: ولننظر الآن إلى أي مدى يصل بهم تحريف الكلم عن مواضعه وتزييفه والكذب فيه إرضاء لنزعتهم الفاسدة: يقول المرحوم الأستاذ مصطفى السباعي في كتابه النفيس " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " مُتَحَدِّثاً عن الكذب والتحريف والبُهتان الموجود في كتاب " أضواء على السُنَّة " (¬2). - يقول في الهامش رقم 3 من صحيفة 162 من كتابه عن [عبد الله بن عمرو] (*) - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «وكان قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، وكان يرويها للناس " عن النبي "» ثم نسب هذا القول إلى ابن حجر في " فتح الباري " ص 166 ج 1، وعبارته في " الفتح " ليس فيها «عن النبي» وإنما زادها أبو رَيَّةَ ونسبها إلى الحافظ ابن حجر ليؤكد للقارىء الشك في أحاديث صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين كان بعضهم يستمع إلى مسلمة أهل الكتاب يتحدثون عن أخبار الأمم الماضية، ¬

_ (¬1) [سورة الحجرات، الآية: 6]. (¬2) " أضواء على السُنَّة المحمدية " للأستاذ محمود أبو رَيَّةَ. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [خطأ في الطباعة: حيث ورد عن (عبد الملك بن عمرو) والصحيح (عبد الله بن عمرو بن العاص)].

فمنهم من كان ينقلها عنهم على أنها قصص متعلق بالماضين ولكن أبا رَيَّةَ كان يَتَّهِمُهُمْ بأنهم كانوا «يَنْسِبُونَهَا» إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!. ولم يكتف بذلك البُهْتَانِ حتى نسبه إلى الحافظ ابن حجر، وهو لم يقله قط، ولا يقوله مسلم يعرف ما كان عليه هذا الجيل الفذ في تاريخ الإنسانية من صدق اللهجة، واستقامة الدين، ووقوف عند حدود الله فيما أمر وفيما نهى وهم يعلمون أنَّ الله لعن الكاذبين ومَقَتَهُمْ، وليس أَقَرَّ لعيون أعداء الله والإسلام من أنْ يرموا بما رماهم به أبو رَيَّةَ. 2 - ونقل في [ص 115] عن ابن كثير في " البداية والنهاية ": 8/ 206 أنَّ عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال لكعب الأحبار: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ (عَنْ رَسُولِ اللهِ) أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ». وعبارة ابن كثير: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ [عَنِ الأُوَلِ]». وليس فيها «عن رسول الله» ولكن " أمانة " أَبِي رَيَّةَ أجازت له تحريف هذا النص ليثبت ما ادعاه من أنَّ كعباً كان يُحَدِّثُ عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنَّ الصحابة كانوا يأخذون عنه الحديث، وهذه الفِرَيَّةَ دَسَّهَا المستشرقون اليهود أمثال «جولدتسيهر» لِيَدَّعُوا تأثير اليهودية في الدين الإسلامي! .. فتلقفها منهم «المُحَقِّقُ العِلْمِيُّ» أَبُو رَيَّةَ، وَتَبَرَّعَ لهم بإثبات الأدلة.

3 - ونقل في [ص 163] عن " البداية والنهاية " لابن كثير: 8/ 106 أن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - هدَّدَ أبا هريرة بترك الحديث أو ليلحقنه بأرض دَوْسٍ «أَوْ بِأَرْضِ القِرَدَةِ». وهذه الزيادة «أَوْ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» من مفتريات أبي رَيَّةَ على عُمَرَ وابن كثير معاً. وإنما قالها عمر لكعب كما مَرَّ يُهَدِّدُهُ في ترك الحديث عن «الأُوَل» أي الأمم الماضية - كما نقل ذلك ابن كثير. 4 - نقل أبو رَيَّةَ في عدة مواضع من بحثه عن أبي هريرة نصوصاً في تكذيب عمر وعثمان وعليّ وعائشة وغيرهم لأبي هريرة، ثم نسبها إلى ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث ". وترجم أبو رَيَّةَ لابن قتيبة في هامش كتابه بأنه كان لأهل السُنَّة كالجاحظ للمعتزلة في قُوَّةِ البيان والحُجَّةِ، وقصده من ذلك تأكيد تضليل القارىء بِأَنَّ رجلاً كابن قتيبة له مكانته بين أهل السُنَّة يطعن في أبي هريرة هذا الطعن، دليل على صِحَّةِ ما يذهب إليه أبو رَيَّةَ من تكذيب أبي هريرة فيما يرويه عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مع أن ابن قتيبة ألَّف كتابه " تأويل مختلف الحديث " للرد على من طعن في أئمة الحديث منذْ الصحابة حتى عصره، وأخبر أنهم هم رؤساء الاعتزال كالنظَّام وأمثاله وآخرين. ثم ساق ابن قتيبة شتائم النظام لأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وأبي هريرة وغيرهم من كبار

الصحابة، ثم كرَّ بالرد عليه وتفنيد ما قال عن كل واحد من هؤلاء. فأخذ أبو رَيَّةَ ما قاله النظَّام في أبي هريرة ونسبه إلى ابن قتيبة وتعامى عن رَدِّ ابن قتيبة على النظَّام، وهكذا تكون «الأمانة العلمية» عند هذا «المحقّق العلمي»! .. 5 - ونقل في [ص 195] عن المرحوم السيد رشيد رضا كلاماً عن كعب ووهب بن منبه قال فيه: «وما يدرينا أن كل الروايات - أو الموقوفة منها - ترجع إليهما» مع أن العبارة: «وما يدرينا أن كل (تلك) الروايات الخ. فأسقط أبو رَيَّةَ كلمة «تلك»، التي أشار بها السيد رشيد - رَحِمَهُ اللهُ - إلى مرويات كعب ووهب عن أهل الكتاب، لتجيء العبارة موهمة بأن روايات الصحابة ترجع إليهما .. فانظر إلى هذا الدَسِّ والتلاعب في نقل النصوص لتتفق مع أهوائه وأغراضه. هذه أمثلة لا مجال للمناقشة فبها تدل على تلاعبه في النصوص التي ينقلها ونسبتها إلى غير قائليها وأشهد أني لا أعلم أحداً من أشد المستشرقين تعصباً ودساً، بلغت جرأته في تحريف النصوص والتلاعب فيها كما بلغت جرأة أبي رَيَّةَ فماذا تقول في هذا «العلامة المحقّق الأمين؟» إنَّ مقاييس أسلافنا، بل مقاييس البحث العلمي

الصحيح في كل عصر، تسقط عدالة أَبِي رَيَّةَ، وتنفيه عن دائرة الباحثين وتسحب الثقة منه كلية. لا ندري لماذا يحاول بعض المسلمين أنْ يكونوا أبواقاً للمستشرقين، وللمستشرقين في الشرق صبيان معروفون: إنَّ لهم صبياناً مأجورين وإنَّ لهم ملاحدة، وإنَّ لهم صبياناً تابعين ومُقَلِّدِينَ. فلنتحدَّث إذن عن المستشرقين في صورة صريحة: من المعروف أنَّ الاستشراق - في طائفة كبيرة منه - إنما هو امتداد للحروب الصليبية. إنَّ الغربيِّين يريدون بكل وسيلة القضاء على الإسلام، كقوة لها ذاتيتها، وأصالتها، ومنهجها في الحياة: وَهُمْ يستعملون من أجل ذلك كل الوسائل. إنهم يستعملون السلاح في قسوة قاسية، وفي عنف عنيف حينما يُمْكِنُهُمْْ استعمال السلاح، فإذا لم تواتهم الظروف، استعملوا أسلحة أخرى: منها الاستشراق. وكثيراً ما يرافق الاستشراق المدفع والدبابة في الأقطار المستعمرة، وهدف الاستشراق إفساد ما يمكن إفساده من الدين، وبالتالي من الخلق، وقد وَضُحَ - على مَرِّ الأيام - أنَّ من خصائص الاستشراق أنه: 1 - متأثر بالبيئة التي نشأ فيها المستشرقون: ولقد عَبَّرَ عن هذه الحقيقة أبلغ تعبير أحد الغربيِّين الذين كانوا

يريدون معرفة الحقيقة عن سَيِّدِنَا محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقرأ كُتُباً عنه بعدة لغات ثم قال: إنَّ صورة نبي الإسلام صورة فرنسية إذا كانت بقلم الفرنسيين، وهي ألمانية إذا كانت بقلم الألمانيين، وهي أمريكية إذا كانت بقلم الأمريكيين، وهي ... وهذا فيما يتعلق بالبيئة الاجتماعية. 2 - والاستشراق متأثر بالبيئة الدينية، ومن الطبيعي الواضح أنه إذا كان المستشرق مؤمناً بدينه: فإنه يكتب عن الإسلام، مؤمناً بأنه دين مُزَيَّفٌ. ولا أدري كيف يغرب ذلك - مع بداهته - عن أذهان المسلمين الذين يقرأون الإسلاميات بقلم المستشرقين، فيولونهم شيئاً من الثقة، أو يولونهم كل الثقة حسب درجة استعداد القارئ للتقليد والمتابعة. 3 - ومن المعروف اليقيني أنَّ الاستشراق - في أغلبه - يسير في ركاب الاستعمار، أو في ركاب الكنيسة. إنَّ ذلك ظاهر واضح لكل من قرأ تاريخ الاستشراق وصلته بالكنيسة والاستعمار. ومن أجل ذلك لم يكن غريباً أنْ يُزَيِّفَ الاستشراق الحقائق. وهو إنْ لم يُزَيِّفْهَا وطنية، يُزَيِّفْهَا تَدَيَّناً وإنْ لم يُزَيِّفْهَا تَدَيَّناً زَيَّفَهَا وطنية، فإن لم تقو الوطنية وحدها أو التديُّن وحده على حمل الاستشراق على التزييف، تكاتف

التديُّن والوطنية معاً فحملاه - متعاونين - على التزييف، فَزيَّف تَدَيُّناً ووطنية. إنك لا تنتظر من قِسِّيسٍ يعيش في الكنيسة مثل " أزين بلاسيوس " حينما يكتب عن الإسلام، إلاَّ مَسْخاً وتشويهاً كما فعل ذلك حينما كتب كتابه المعروف بالعنوان الذي لا يَتَّسِمُ بأدب ولا مجاملة، وهو «الإسلام المسيحي». أما القِسِّيسُ " لامنس " فقد وهب نفسه لهدم الإسلام عقيدة، ولهدم الإسلام تاريخاً، ولهدم الإسلام رجالاً، ولهدم الإسلام في كل ما يتعلق به. إنَّ المستشرقين القساوسة: عدد لا يُحصى، أما المستشرقون المستشارون في وزارات الخارجية العربية، وفي وزارات الداخلية الغربية وفي وزارات الدفاع والحربية وفي وزارات الإعلام والدعاية: فإنهم ايضاً عدد لا يكاد يحصى. ماذا تنتظر من مستشرق هو مستشار في وزارة الدعاية، أو في وزارة الحربية، أو في وزارة الخارجية؟ إنَّ السذاجة مهما وصلت درجتها لا يتأتَّى أنْ تُولِي ثقتها لمستشرق يأكل عيشه من سيره في ركاب الاستعمار، أو في ركاب الكنيسة. 4 - وطائفة من المستشرقين مستعدة أنْ تسهر في أي ركاب لأنها تسير في ركاب الشيطان. تلك هي طائفة المستشرقين اليهود.

إنَّ كتاب: " بروتوكلات حكماء صهيون "، أو كتاب " الخطر الصهيوني " يُبَيِّنُ في وضوح أنَّ اليهود قد آلوا على أنفسهم أنْ يفسدوا على الإنسانية دينها وخُلُقَهَا وثقافتها وقد مني الإسلام بطائفة من المستشرقين اليهود على درجة من الخُبْثِ والمكر والدهاء، يعجب لها الشيطان نفسه. أرأيت إلى الذكاء الحاد الخبيث حينما يستعمله صاحبه جاهداً لا يفتر في أغراض شيطانية، يريد بذلك أنْ يُفْسِدَ على المسلمين مُثُلَهُمْ العليا في الفضيلة والخير، وإيمانهم الراسخ في الله وفي رسوله؟ إنَّ هذا الذكاء الحاد الخبيث الذي أخذ يعمل لا يفتر قد تركَّز في بضعة أفراد من اليهود - كأخبث ما يكون اليهود - على رأسهم جولدتسيهر. ولقد كان جولدتسيهر حركة لا تفتر في الفساد والتشويه، وساعده مال اليهود ودعايتهم، فترجموا ونشروا أفكاره في كل مكان، حتى لقد ترجمت كتبه الخبيثة إلى اللغة العربية نفسها، ونشرت في مختلف الأقطار الإسلامية: تذيع الكذب في صورة البحث العلمي، وتنشر التشويه في صورة الحقائق الثابتة، وتدعو إلى الشك فيما لا يتأتَّى فيه الشك، واغترت به طائفة من المغرورين، وظنت أنَّ أبحاثه علمية، وأنه باحث متثبت وعالم يتحرَّى الحقائق. وإلى هؤلاء، وإلى كل من يثق بالمستشرقين نذكر

مثالين اثنين - من عشرات الأمثلة - التي تَعَمَّدَ جولدتسيهر، أنْ يكذب، وأنْ يُحَرِّفَ الكلم عن مواضعه فيها. وهذان المثالان إنما هما نموذج لأعمال كثير من المستشرقين العلميَّة، يقول المرحوم مصطفى السباعي: «زعم جولدتسيهر أن الزُّهْرِي اعترف اعترافاً خطيراً في قوله الذي رواه عنه معمر: «إِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ» وأنَّ ذلك يفهم استعداد الزُّهْرِي لأنْ يكسو رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند الأمة الإسلامية (*). قَدَّمْنَا لك عند الحديث عن صدق الزُّهْرِي وجرأته، أنه أبعد الناس عن الرضوخ لأهواء الحاكمين، وذكرنا لك من الوقائع التاريخية بينه وبين خلفاء بني أمية ما تجزم معه بأنه ليس ذلك الرجل المستعد لأن يكسو رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند المسلمين. أما هذا النص الذي نقله ففيه تحريف مُتَعَمَّدٌ يقلب المعنى رأساً علي عقب، وأصله كما في ابن عساكر وابن سعد: أن الزُّهْرِي كان يمتنع عن كتابة الأحاديث للناس - ويظهر أنه كان يفعل ذلك ليعتمدوا على ذاكرتهم، ولا يتكلوا على الكتب كما ذكرنا من قبل - فلما طلب منه هشام وأصَرَّ عليه أن يُمْلِي على ولده ليمتحن حفظه كما تقدم. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 221، الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م. المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان.

وأملى عليه أربعمائة حديث، خرج من عند هشام وقال بأعلى صوته: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا كُنَّا مَنَعْنَاكُمْ أَمْرًا قَدْ بَذَلْنَاهُ الآنَ لِهَؤُلاَءِ، وَإِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ (الأَحَادِيثِ) فَتَعَالَوْا حَتَّى أُحَدِّثَكُمْ بِهَا فَحَدَّثَهُمْ بِالأَرْبَعِمِائَةَ الحَدِيث». هذا هو النص التاريخي لقول الزُّهْرِي، وقد رواه الخطيب بلفظ آخر وهو: «كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ الْعِلْمِ - أَيْ كِتَابَتَهُ - حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءُ فَرَأَيْنَا أَنْ لاَ نَمْنَعَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ». اهـ (¬1). فانظر كم الفرق بين أن يكون قول الزُّهْرِي، كما روى جولدتسيهر: «أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ» وبين أن يكون قوله كما رواه المؤرخون: «أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ الأَحَادِيثِ» أو كما رواه الخطيب «عَلَى كِتَابَةِ العِلْمِ» ثم انظر إلي هذه الأمانة العلمية حذف «الـ» من «الأَحَادِيثِ» فقلبت الفضيلة رذيلة .. حيث كان النص الأصلي يدل على أمانة الزُّهْرِي وإخلاصه في نشر العلم، فلم يرض أن يبذل للأمراء ما منعه عن عامة الناس إلا أن يبذله للناس جميعاً، فإذا أمانة هذا المستشرق تجعله ينسب للزُّهْرِي أنه وضع للأمراء أحاديث أكرهوه عليها، فأين هذا من ذاك؟. أما ما نقله «جولدتسيهر» من قول وكيع عن زياد بن عبد الله البكَائي من أنه كان مع شرفه في الحديث -[كذوباً]. ¬

_ (¬1) " تقييد العلم ": ص 107.

فهذه إحدى تحريفات هذا المستشرق الخبيث، فأصل العبارة كما وردت في " التاريخ الكبير " للإمام البخاري: وقال ابن عقبة السَدُوسي عن وكيع: هو (أي زياد بن عبد الله) أشرف من أنْ يكذب. (¬1) اهـ. فأنت ترى أن وكيعاً ينفي عن زياد بن عبد الله الكذب مطلقاً لا في الحديث فحسب، وأنه أشرف من أن يكذب، فحَرَّفَها هذا المستشرق اليهودي إلى أنه كان - مع شرفه في الحديث - كذوباً. وهكذا تكون أمانة هذا المستشرق! إنَّ المستشرقين وأتباعهم من الملاحدة والمأجورين والمُقَلِّدِينَ هم الوَضَّاعُونَ في العصر الحاضر. ولكن الله سبحانه: قد هَيَّاَ للسُنَّة تدويناً صحيحاً وتسجيلاً مُتْقَناً، ورجالاً كَرَّسُوا حياتهم لها، يدافعون عنها عصراً بعد عصر، وينشرون أريجها جيلاً بعد جيل مذيعين وشارحين، ناشرين ومُوَضِّحِينَ. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬2). ¬

_ (¬1) من القسم الأول - الجزء 2 ص 329. (¬2) [سورة العنكبوت، الآية: 69].

فهرس الكتاب:

فَهْرَسُ الكِتَابِ: - مراجع الكتاب ....................................................................... 3 - مقدمة ................................................................................ 5 - الفصل الأول: الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسُنَّته الشريفة ............... 13 - الفصل الثاني: تدوين السُنَّة ...................................................... 35 - الفصل الثالث: المُحَدِّثُونَ في جهادهم ............................................ 61 - الفصل الرابع: الوضاعون في العصر الحاضر: ................................. 83

§1/1