السنة في مواجهة الأباطيل

محمد طاهر حكيم

المقدمة:

المقدمة: الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنزل عليه كتابه تبياناً لكل شيء وهدى إلى صراط مستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المنزل عليه الكتاب، فبيَّن أحكامه، ورفع إبهامه، وخصص إطلاقه وشرح أهدافه، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وذريته وعلينا معهم أجمعين، آمين. وبعد: فلا يخفى على من له أدنى إلمام بشرائع الإسلام أنَّ السُنَّة هي المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، بل هي قُطْبُ رحاها، ومصدر إشعاعها، وشمس الحقيقة ومنبع الهداية، وهي السراج الوهاج في ليل داج، فقد كانت البشرية في الجاهلية تتخبط خبط عشواء، وكانت منغمسة في شهواتها، ومنتهية في جهالاتها، ومرتطمة في نزواتها، في خبط وحيرة، وظلمات مدلهمَّة لا تهتدي سبيلاً، ولا تجد طريقاً. حتى منّ الله عليها ببعث نبيه الكريم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنزل كتابه العظيم. ولما كان القرآن الكريم محتوياً للأصول، غير مستقص لجميع التفاصيل، فيه من الإجمال شيء غير قليل، فوض الله بيانه إلى الرسول الكريم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) [النحل: 44].

فكان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو المُبَيِّنُ عن الله والكتاب الناطق، والرحمة المهداة والنعمة المسداة. ومن هنا يظهر جلياً، أنه لا يمكن فهم كتاب الله تعالى على وجهه، والعمل به على مراد الله تعالى، إلاَّ ببيان رسوله النيّر وأسوته الحسنة، وبيانه النيّر وأسوته الحسنة هما السُنَّة. فمن رام الهداية من غيرهما، أو من كتاب الله وحده، فقد رام المُحال. ولما كانت للسُنَّة هذه المنزلة، وكان كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا مطمع في تغييره بالتصحيف والتحريف، أو الزيادة والنقص، قام أعداء الإسلام بالتشكيك في السُنَّة وحُجِيَّتها وزعزعة الثقة بها، وأثاروا الشُبُهَات المختلفة حولها، حتى - لا قَدَّرَ اللهُ - إذا تم لهم ذلك، إنهار صرح الإسلام من أساسه، وبعد تقويض بنيانه، ما أسهل نقل المسلمين إلى أي نحلة من النحل الباطلة. وإذا كان مُنكرو السُنَّة قديماً قد انقرضوا وصاروا في ذمة التاريخ، فإنَّ المستشرقين وتلامذتهم من المستسلمين قد حَلُّوا محلهم وقاموا بالهجوم على الإسلام، أنهم كشفوا عن سرائرهم، فليس يرضيهم شيء إلاَّ أن يفضوا أهله من حوله، وأنْ يملأوا الدنيا أراجيف بأن الإسلام دعوة باطلة، ورسالة زائفة، وأنه لا يجوز لها البقاء أكثر مِمَّا بقيت .. ألا ساء ما يصفون. وقد تتابعت جهود المستشرقين وتلامذتهم لإشاعة هذا الإفك، وكثرت مؤلفاتهم التي تغمز الإسلام، وتنال من نبيه ورسالته، وتشريعاته، وبعض هذه المؤلفات قد تبدو عليها - في الظاهر - مسحة البحث العلمي المزعوم، وقد يكون صاحبه قد طالع -بالفعل - عدداً ضخماً من المؤلفات الإسلامية القديمة والحديثة، ومن ثم يعرض أفكاره السامة في ألبسة من الاستنتاج الهادئ، وبين يدي نقول محرفة عن مواضعها.

ومن المؤسف حقاً أنَّ المستشرقين ليسوا وحدهم الخائضين في تاريخ الإسلام وتشريعه ورسالته، كذباً وزوراً، عن سوء قصد أو سوء فهم، بل يشترك معهم فريق كبير من المستغربين - من العرب والمسلمين - في هذا الحوض الظالم الأليم. والأغلب من هؤلاء الذين ينخدعون من المسلمين بالمستشرقين يكونون قد تأثروا بأفكار المستشرقين، إما بدراستهم في جامعات الغرب، أو جهلهم بحقائق التراث الإسلامي، وانخداعهم بالأسلوب العلمي المزعوم الذي يدَّعيه أولئك الخصوم. ونظراً لما أثير حول السُنَّة من اعتراضات وشُبُهات في ثبوتها وحجيتها ورُواتها، ولما فشا الجهل وضعف الوازع الديني في النفوس غالباً، كان لا بد من دحض مفترياتهم وكشف شُبُهاتهم حتى لا يتأثر بها ضعفاء المؤمنين من العامة الذين ليس لهم كبير إلمام بالعلم ولاسيما بالسُنَّة وعلومها. وهذا ما حفزني على الإدلاء بدلوي بين الدلاء والكتابة فيه، إسهاماً متواضعاً في الذود عن رياض السُنَّة وعلومها، وقد جعلت الموضوع في ستة أبواب كالآتي: الباب الأول: (السُنَّة وما إليها). وفيه أربعة فصول: 1ـ تعريف السُنَّة. 2ـ مكانة السُنَّة التشريعية. 3ـ حُجِيَّة السُنَّة. 4ـ جهود العلماء لحفظ السُنَّة. الباب الثاني: (نظرة سريعة عن مُنْكِرِي السُنَّة قديماً). وفيه ثلاثة فصول:

1 - السُنَّة والخوارج. 2 - السُنَّة والشيعة. 3 - السُنَّة والمعتزلة. الباب الثالث: (السُنَّة ومُنْكروها حديثاً) عرض - وتحليل. وفيه ستة فصول: 1 - السُنَّة والمستشرقون. 2 - السُنَّة والدكتور توفيق صدقي. 3 - السُنَّة والأستاذ أحمد أمين. 4 - السُنَّة ومحمود أبي رية. 5 - السُنَّة والدكتور أحمد زكي أبو شادي. 6 - السُنَّة ومنكروها في القارة الهندية. الباب الرابع: (شُبُهات مُنكري السُنَّة). وفيه فصلان: 1 - شُبُهَات مُنْكِرِي السُنَّة عموماً. 2 - شُبُهَات أهل القرآن في القارة الهندية. الباب الخامس: اعتراضات من مُنْكِرِي السُنَّة. الباب السادس: أمثلة من الأحاديث الصحيحة تعرضت لنقد مُنْكِرِي السُنَّة. هذا وقد راعيت الجانب العلمي في البحث، فخرَّجت الأحاديث، وشرحت معاني الجمل - إذ رأيت المقام يقتضي ذلك - وناقشت الشُبُهَات بأسلوب علمي هادئ رصين، ومقارعة الحُجَّة بالحُجَّةِ، من غير إسفاف بحث فيه مقتنع لكل ذي لب وإنصاف. والله المسؤول أنْ يوفِّقني لخدمة السُنَّة المطهرة والعمل بها، وهو المرجو أنْ يتقبل عملي ويجزل أجري ويعفو عن سيئاتي، ويستر عوراتي وعيوبي، فإنه هو الغفور الرحيم.

وأختم كلمتي بدعوة الإمام ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللهُ - إذ يقول: اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشي إلى خدمتك، ولا يداً تكتب حديث رسولك، فبعزتك لا تدخلني النار، فقد علم أهلها أني كنت أذب عن دينك، اللهم آمين. وصل الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .. طيبة الطيبة في 29/ 9 / 1401 هـ خادم الكتاب والسُنَّة محمد طاهر حكيم وفَّقه الله

الباب الأول: (السنة وما إليها):

الباب الأول: (السُنَّة وما إليها): وفيه أربعة فصول 1 - تعريف السُنَّة. 2 - مكانة السُنَّة التشريعية. 3 - حُجيَّة السُنَّة. 4 - جهود العلماء لحفظ السُنَّة. يشتمل هذا الباب على بيان حقيقة السُنَّة ومعناها ومنزلتها في التشريع الإسلامي وحُجيَّتها في كافة الشؤون الدينية والاجتماعية والأخلاقية .. ونبذة من جهود العلماء التي بذلوها لحفظ السُنَّة في كلمات مختصرة. وكان لا بد منه إذ كيف يمكن الدفاع عن شيء قبل بيان حقيقته ومكانته والجهود التي بذلت في سبيل الحفاظ عليه.

الفصل الأول: تعريف السنة:

الفصل الأول: تعريف السُنَّة: السُنَّة لغة: الطريقة، كذا في " القاموس " (¬1) و " اللسان " (¬2). ومنه قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (¬3). وقوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (¬4). قال ابن كثير: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا}: أي هكذا عادتنا في الدين كفروا برسلنا (¬5). ومنه قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» (¬6) ومنه قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَتَرْغَبُونَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» (¬7). أي عن طريقة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) " القاموس المحيط ": مادة (سنن). (¬2) " لسان العرب ": مادة (سنن). (¬3) [الفتح: 23]. (¬4) [الإسراء: 77]. (¬5) " تفسير ابن كثير ": (4/ 332). (¬6) رواه ابن ماجه: (2/ 1322) قال في " الزوائد ": إسناده صحيح ورجاله ثقات والإمام أحمد في " المسند ": (1/ 400، 409). (¬7) أخرجه " البخاري " في كتاب النكاح - انظر " فتح الباري ": (9/ 104) و " مسلم ": (2/ 1020) و " الدرامي ": (1/ 343) بلفظ (أرغبت) والإمام أحمد: (2/ 158، 165، 188، 210) و (3/ 341، 259، 285) و (6/ 7، 268، 332، 398).

السنة عند المستشرقين:

وقوله: «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ» (¬1) أي من طريقتهم. ويستخلص من النصوص السابقة أنَّ الكلمة استعملت بمعنى الطريقة والمادة. والسُنَّة في اصطلاح المحدثين: «ما أثر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية أو سيرة سواء كان قبل البعثة أو بعدها» (¬2). وأما الأصوليون فالسنة عندهم: «ما صدر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قول أو فعل أو تقرير (¬3) من غير القرآن الكريم». وثمة إطلاق آخر في الفقه وهو ما يقابل الفرض فيقال: هذه سُنَّة وليس بواجب وليس بفرض. السُنَّة عند المستشرقين: قال شاخت: «إنَّ النظرة الكلاسيكية للفقه الإسلامي تُعَرِّف السُنَّةَ بأفعال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المثالية، وفي هذا المفهوم يستعمل الشافعي كلمة السُنَّة وعنده أنَّ " السُنَّة " أو " سُنَّة الرسول " - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمتان مترادفتان لكن معنى السُنَّة - على وجه الدقة - إنما هو النظائر السابقة ( Precedent) ومنهج للحياة». ويقول: «إنَّ مفهوم السُنَّة في المجتمع الإسلامي في العصر الأول كان: الأمر العرفي أو الأمر المجتمع عليه». ولقد وضَّح جولدتسيهر «إنها مصطلح وثني في أصله وإنما تبنَّاهُ واقتبسه الإسلام». ¬

_ (¬1) رواه الترمذي: (4/ 196) والإمام أحمد: (5/ 421). (¬2) " توجيه النظر " للشيخ طاهر الجزائري: ص 2 و " السُنَّة ومكانتها " للسباعي: ص 47. (¬3) " إرشاد الفحول " للشوكاني: ص 31.

وقال مارغوليوث: «إنَّ معنى السُنَّة في صدر الإسلام: ما كان عُرفاً مألوفاً» (¬1). إنَّ قوله هذا لا يستند إلى دليل وهو واهي في غاية الوهاء لأنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مُشَرِّعاً بالوحي الإلهي لا مُقلداً للأعراف الجاهلية لأنه لم يكن ثم أي عرف قبل تشريع النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأحكام بالوحي الإلهي إلاَّ الأعراف الجاهلية، ومحال أنْ يتَّبع النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعراف الجاهلية بَدَلَ الوحي الإلهي، وفساد كلامه ظاهر مستغن من الإطالة في ردِّه. وأما قول شاخت أنَّ السُنَّة: «إنما هي النظائر السابقة» فلم تكن ثم قبل زمان النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ الجاهلية البحتة لأنَّ شريعة - موسى وعيسى - عَلَيْهِمَا الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - كانتا حُرِّفَتَا ومُسِخَتَا ولم يبق أي عمل من شرائع الأنبياء السابقة إلاَّ بعض أفعال الحج وتوحيد الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. وخلاصة القول: إنَّ السُنَّة معناها في اللغة - الطريقة والعادة حسنة كانت أم سيئة، وقد استعملها الإسلام في معناها اللغوي ثم خصَّصها بطريق النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن ناحية أخرى فإنَّ هذه الكلمة لم تكن مصطلحاً وثنياً قط ولم يكن يقصد بها عند المسلمين عُرف المجتمع. اهـ. ¬

_ (¬1) انظر " دراسات في الحديث النبوي " للأعظمي: ص 5 - 6.

الفصل الثاني: مكانة السنة التشريعية:

الفصل الثاني: مكانة السُنَّة التشريعية: القرآن الكريم هو المصدر التشريعي الأول في الإسلام، والسُنَّة هي المصدر الثاني لأنها مُبيِّنة لأحكامه موضحة لإبهامه ومُخصِّصة لإطلاقه ومشرحة لأحكامه وأهدافه. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). وقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬2). والرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما خُصَّ بالوحي المتلو وهو القرآن الكريم كذلك خُصَّ بالوحي غير المتلو وهو السُنَّة، لا مندوحة عن اتباعها، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬3). وقال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» (¬4). وهو السُنَّة. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬5). ¬

_ (¬1) [النحل: 44]. (¬2) [النحل: 64]. (¬3) [النجم: 3، 4]. (¬4) رواه أبو داود عن المقداد: (5/ 10). (¬5) [الحشر: 7].

وقد قرن الله طاعة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطاعته في آيات كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1). وألزم اتباعه عن طيب القلب تسليماً وانقياداً - فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (¬2). واعتبر طاعته طاعة لله واتباعه حُباً لله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬3) وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4). وحذَّرَ من مخالفة أمره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬5). ولم يسوِّغ للمؤمنين مطلقاً أنْ يخالفوه في شيء كائناً ما كان فقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬6). وقد بيَّنتْ السُنَّة القرآن من وجوه فبيَّنت ما أجمل من عبادات وأحكام فقد فرض الله الصلاة على المؤمنين من غير أنْ يُبيِّنَ أوقاتها وأركانها وعدد ركعاتها فبَيَّنَ الرسول الكريم هذا بصلاته وتعليم المسلمين كيفية الصلاة فقال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬7). ¬

_ (¬1) [آل عمران: 132]. (¬2) [الأنفال: 24]. (¬3) [النساء: 80]. (¬4) [آل عمران: 31]. (¬5) [النور: 63]. (¬6) [الأحزاب: 36]. (¬7) رواه الإمام البخاري: (1/ 125 - 126) بحاشية السندي.

وفرض الله الحج من غير أنْ يُبيِّن جميع مناسكه وجملة أحكامه، وقد بيَّنَ الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - تلك المناسك المُجملة وكيفيتها وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬1). وفرض الزكاة من غير أنْ يُبيِّنَ ما تجب فيها من أموال وعروض وزُرُوع كما لم يُبَيِّنْ النصاب الذي تجب فيه، فبَيَّنَتْ ذلك كله. «وفي السُنَّةِ أحكام لم يَنُصَّ عليها الكتاب وليست بيانًا له ولا تطبيقًا مؤكدًا لما نَصَّ عليه كتحريم الحُمُرِ الأهلية وكل ذي ناب من السباع وتحريم نكاح المرأة على عمَّتِها أو خالتها» (¬2). فخلاصة القول - أنَّ السُنَّة مصدر تشريعي مُهِمٌّ لا بد منه وأنها صِنْوُ الكتاب تسايره في الأحكام والتشريع على السواء وإنها لا يمكن الاستغناء عنها ولا يمكن فصل السُنَّة عن الكتاب بحال من الأحوال ولذلك قال الشافعي: «فكل من قبل عن الله فرائضه، قبل عن رسول الله سُنَّته، بفرض الله طاعة رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خلقه، وأنْ ينتهُوا إلى حكمه. ومن قبل عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم: (2/ 943) و " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: (2/ 190). (¬2) " السُنَّة قبل التدوين " لمحمد عجاج الخطيب: ص 27. (¬3) " الرسالة " للشافعي: ص 33.

الفصل الثالث: حجية السنة:

الفصل الثالث: حُجِيَّةُ السُنَّة: اتفق العلماء الذين يُعْتَدُّ بهم قاطبة على حُجِيَّةِ السُنَّةِ. قال الشوكاني: «إنَّ ثُبُوتَ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَاسْتِقْلاَلَهَا بِتَشْرِيعِ الأَحْكَامِ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ وَلاَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ لاَ حَظَّ لَهُ فِي دِينِ الإِسْلاَمِ» (¬1). والقرآن والسُنَّة وإجماع الأمَّة مطبقة على لزوم أتباع السُنَّة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬2). وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬3). قال ميمون بن مهران: «الردُّ إلى الله هو الرجوع إلى كتابه وَالرَدُّ إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وإلى سُنَّتِهِ بعد وفاته» وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬4). ¬

_ (¬1) " إرشاد الفحول ": ص 29. (¬2) [آل عمران: 31]. (¬3) [النساء: 59]. (¬4) [الحشر: 7].

فقد جعل سبحانه أمر رسوله واجب الاتِّباع ونهيُهُ واجب الانتهاء عنه، وهذه الآية تعتبر أصلاً لكل ما جاءت السُنَّة به مِمَّا لم يَرِدْ له ذكر في القرآن وعلى هذا الدرب صار من جاء بعد الصحابة من أئمة العلم والدين. فقد ذكر ابن عبد البر في كتاب " العلم " له عن عبد الرحمن بن يزيد: «أَنَّهُ رَأَى مُحْرِمًا عَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَنَهَى الْمُحْرِمَ، قَالَ: ائْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَنْزِعُ بِهَا ثِيَابِي، فَقَرَأَ عَلَيْهِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]». وقال - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (¬1). وقال: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ , وَسُنَّتِي» (¬2). وقال البيهقي: «لولا ثبوت الحُجَّة بالسُنَّة لما قال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته بعد تعليم من شهدها أمر دينهم: " فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ "» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في " المستدرك ": (1/ 96) وقال الذهبي: صحيح. وأبو داود في " سننه ": (5/ 14) وأخرج الترمذي بعضه: (7/ 417) في باب العلم، والإمام أحمد في " المسند ": (4/ 126، 127). (¬2) رواه الترمذي في المناقب: (7/ 417) والإمام أحمد في " المسند ": (1/ 51) و (3/ 59) والحاكم في " المستدرك " وذكره ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله ": (2/ 180). (¬3) رواه البخاري - " فتح الباري ": (1/ 185، 197) و (3/ 574) والإمام مسلم في الحج: (1/ 85 - 86) والترمذي: (3/ 537) والدارمي: (1/ 394) والإمام أحمد في " المسند ": (4/ 21، 32) و (5/ 4، 37، 39، 40، 45، 49، 72، 342، 366، 411) و (6/ 385، 456).

ثم أورد حديث: «نَضَّرَ اللهُ امْرُءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (¬1). قال الشافعي: «فلما ندب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى استماع مقالته وحفظها , وأدائها، دَلَّ على أنه لا يأمر أنْ يُؤَدَّى عنه إلاَّ ما تقوم به الحُجَّةُ على من أدَّى إليه لأنه إنما يُؤَدَّى عنه حلال يُؤْتَى وحرام يُجْتَنَبُ وَحَدٌّ يُقَامُ ومالٌ يُؤْخَذُ ويُعْطَى في دين ودنيا. ثم أورد البيهقي حديث أبي رافع قال: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَةٍ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» (¬2). وفي حديث المقداد أنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ أشياء يوم خيبر: الحمار الأهلي وغيره ثم قال: «يُوشِكُ الرَجُلُ مُتَّكِئًا عَلى أرِيكَتِهِ، يُحَدِّثُ بَحَدِيث مِنْ حَدِيثي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلاَل اسْتَحْلَلْنَاهُ، ومَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلاَ وَإنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرَّم اللهُ» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم: (1/ 87، 888) بلفظ «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا» وقال: على شرطهما، ووافقه الذهبي، وبلفظ آخر «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي» وابن ماجه: (1/ 86) والترمذي: (7/ 417) وله شاهد عند ابن ماجه: (1/ 86) وعن زيد بن ثابت (1/ 84) ومحمد بن جُبير (1/ 85). (¬2) رواه أبو داود في " سُننه ": (5/ 12) والترمذي في كتاب العلم: (7/ 424) وقال: حسن، وابن ماجه: (1/ 16) والدارمي: (1/ 117) بلفظ: «لَيُوشِكَنَّ الرَّجُلُ» والإمام أحمد في " مسنده ": (2/ 368) و (4/ 131، 132). (¬3) رواه ابن ماجه عن معد يكرب: (1/ 6) وأبو داود بإسناد حسن.

ثم قال البيهقي: «وهذا خبر من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما يكون من بعده من رَدِّ المبتدعة فوجد تصديقه فيما بعده» (¬1). ثمَّ أخرج الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَنْ شَبِيبٍ بْنِ أَبِي فُضَالَةَ الْمَكِّيّ: «أََنَّ عِمْرَاَنَ بْنَ حُصَيْن - رَضِيَ اللهُ - عَنهُ ذكر الشَّفَاعَة فَقَالَ رجل من الْقَوْم: يَا أَبَا نَجِيدٍ إِنَّكُم تُحَدِّثُونَا بِأَحَادِيثَ لَمْ نَجِدْ لَهَا أَصْلاً فِي القُرْآنِ، فَغَضِبَ عِمْرَان وَقَالَ لِلْرَّجُلِ: قََرَأْتَ الْقُرْآن؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فََهَْل وَجَدْتَ فِيهِ صَلاَةَ العِشَاءِ أََرْبَعًا وَوَجَدْتَ المَغْرِبَ ثَلاَثًا وَالغَدَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَالظّهْرَ أَرْبَعًا وَالعَصْرَ أَرْبَعًا؟ قَالَ: لاَ: قَالَ. فَعَنْ مَنْ أَخَذْتُمْ ذَلِك، أَلَسْتُمْ عَنَّا أَخَذْتُمُوهُ وَأَخَذْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَوَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَفِي كل كَذَا بَعِيرًا كَذَا وفى كُلِّ كَذَا دِرْهَماً كَذَا. قَالَ: لاَ. قَالَ فَعَن من أَخَذْتُم ذَلِك؟ أَلَسْتُمْ عَنَّا أَخَذْتُمُوهُ وَأَخَذْنَاهُ عَن النَّبِِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَقَالَ: أَوَجَدْتُمْ فِي الْقُرْآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2) أَوَجَدْتُمْ فِيهِ فَطُوفُوا سَبْعاً وَارْكَعُوا رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ المَقََامِ، أَوَجَدْتُمْ فِي الْقُرْآن: لاَ جلب وَلَا جنب وَلاَ شِغَارَ فِي الإِسْلاَم؟ أَمَا سَمِعْتُمْ اللهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3) قَالَ عِمْرَاَنُ: فَقَدْ أَخَذْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْيَاءَ لَيْسَ لَكُمْ بِهَا عِلْمٌ (¬4). ¬

_ (¬1) " مفتاح الجنة ": ص 5، 6. (¬2) [الحج: 29]. (¬3) [الحشر: 7]. (¬4) " مفتاح الجنة ": ص 6.

حسب أهوائهم ونزعاتهم، وقد بحث في هذا الحديث بعض الأئمة فقال: عرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فوجدناه مُخالفاً له لأنَّا وجدنا في كتاب الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). ووجدنا فيه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬2). ووجدنا فيه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬3). وهكذا نرى أنَّ القرآن الكريم يُفَنِّدُ هذا الحديث ويَرُدُّهُ. قال السيوطي: «فاعلموا رحمكم الله أَن من أنكر كَون حَدِيث النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولاً كَانَ أَو فعلا بِشَرْطِهِ الْمَعْرُوف فِي الأُصُول حجَّة، كفر وَخرج عَن دَائِرَة الإِسْلاَم وَحشر مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى، أَو مَعَ من شَاءَ الله من فرق الْكَفَرَة». وروى الإمام الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يوماً حديثاً وقال: إنه صحيح فقال له قائل: أَتَقُولُ بِهِ يَا أَبَا عَبْدَ اللهِ، فَاضْطَرَبَ وَقَالَ: يَا هَذَا أَرَأَيْتَنِي نَصْرَانِياً، أَرَأَيْتَنِي خَارِجاً من كَنِيسَةٍ، أَرَأَيْتَ فِي وَسَطِي زُنَّارًا؟ أَرْوِي حَدِيثَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلاَ أَقُولُ بِهِ؟ (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) [الحشر: 7]. (¬2) [آل عمران: 31]. (¬3) [النساء: 80]. " إرشاد الفحول ": ص 13، 14. (¬4) " مفتاح الجنة ": ص 3.

الفصل الرابع: جهود العلماء لحفظ السنة:

الفصل الرابع: جهود العلماء لحفظ السُنَّة: أسلفنا في الفصلين السابقين - مكانة السُنَّة التشريعية وحُجية السُنَّة ونذكر في هذا الفصل بيذة من جهود العلماء من لدن الصحابة والتابعين لحفظ السُنَّة وصيانتها لِنُدَلِّلَ على أنَّ السُنَّة حظيت من أول يومها بسياج وحماية منقطعة النظير، وما ذلك إلاَّ لأنهم عرفوا منزلة السُنَّة وإنها المصدر التشريعي الأول بعد القرآن الكريم ولهذا اتبعوا كل سبيل يحفظ على السُنَّة نورها وبالغوا في التحري والتثبت في روايتها خشية الوقوع في الخطأ وخوفاً من أنْ يتسرَّب إليها التصحيف أو التحريف، بل إنَّ بعضهم فَضَّلَ الإقلال من الرواية، قال ابن قتيبة: «وَكَانَ عُمَرُ أَيْضًا شَدِيدًا عَلَى مَنْ أَكْثَرَ الرِّوَايَةَ، أَوْ أَتَى بِخَبَرٍ فِي الْحُكْمِ لاَ شَاهِدَ لَهُ عَلَيْهِ. وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُقِلُّوا الرِّوَايَةَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ: أَنْ لاَ يَتَّسِع النَّاس فِيهَا، وَيَدْخُلُهَا الشَّوْبُ؛ وَيَقَعُ التَّدْلِيسُ وَالكَذِبُ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالْفَاجِرِ وَالأَعْرَابِيِّ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ، وَأَهْلِ الخَاصَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَبِي بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يُقِلُّون الرِّوَايَةَ عَنْهُ. بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ لاَ يَكَادُ يَرْوِي شَيْئًا كَسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالجَنَّةِ» (¬1). وكما احتاط السلف في التحديث احتاطوا وتثبَّتُوا في قبول الأخبار عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الذهبي: «كَانَ أَبُو بَكْرٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَوَّلَ مَنْ احْتَاطَ فِي قَبُولِ الأَخْبَارِ، فَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ قَبِيْصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ ¬

_ (¬1) " تأويل مختلف الحديث ": ص 48، 49.

أَنَّ الجَدَّةَ جَاءَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَلْتَمِسُ أَنْ تُوَرَّثَ، فَقَالَ: " مَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الْلَّهِ صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَكِ شَيْئًا "، ثُمَّ سَأَلَ النَّاسَ فَقَامَ المُغيرَةُ فَقَالَ: " سَمِعُتُ رَسُولَ الْلَّهِ صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهَا الْسُّدُسَ ". فَقَالَ لَهُ: " هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ " فَشَهِدَ مُحَمَّدٌ بْن مَسْلَمَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُوْ بَكْرٍ - رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ -» (¬1). وفي " صحيح مسلم " (¬2): اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - النَّاسَ فِي إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ (¬3)، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: «شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ»، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمَةَ. وحدث لعمر مثل هذه الحادثة مع كثير من الصحابة منهم أُبَيْ بن كعب وأبي موسى وفي رواية قال عمر لأبي موسى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (¬4). وعن عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - قال: «كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَنِي وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٌ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ» (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (6/ 278، 279) وقال: حسن صحيح، وأبو داود في الفرائض (3/ 316)، وابن ماجه (2/ 909)، ومالك (2/ 513) , و " الكفاية " للخطيب البغدادي: ص 26. (¬2) " صحيح مسلم ": (3/ 1311). (¬3) هو جنين المرأة. (¬4) " موطأ الإمام مالك ": (2/ 964). (¬5) رواه أحمد: (1/ 154، 174، 387)، وابن ماجه: (1/ 446) ورقم الحديث (1395) و " الكفاية " للخطيب البغدادي: ص 28.

هذا لا يعني أنَّ الصحابة اشترطوا لقبول الحديث أنْ يرويه راويان فأكثر أو يشهد الناس على الراوي أو أنْ يستحلف بل كان الحامل لهم على هذا ألاَّ يسترسل الناس في رواية الحديث ويتساهلوا فيه من غير تَحَرٍّ وَتَثَبُّتٍ كاف فيقعوا في الكذب على الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حيث شعروا أو لم يشعروا ويتَّضح هذا من قول عمر لأبي موسى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وإلاَّ فقد قبلوا أحاديث كثيرة برواية الآحاد وبنوا عليها أحكامهم، فقد ورد أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ الْمَجُوسَ. فَقَالَ: «مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ». فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» (¬1). وأراد رجم مجنونة حتى أُعْلِمَ بقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ» (¬2) فأمر أنْ لا تُرْجَمَ. يَتَبَيَّنُ من هذا أنَّ الخلفاء الأربعة لم تكن لهم شروط معيَّنة لقبول الأخبار وإنَّ كل ما روي عنهم ما يوهم ذلك لا يعدو التثبت والتأكد وكل ما صدر عنهم كان في سبيل الحفاظ على السُنَّة المطهَّرة وألاَّ يشوبها ما ليس منها. ومن الجهود التي بُذِلَتْ للحفاظ على السُنَّة وضع ضوبط مُقَرَّرَةٍ تعرف بها قوة الحديث أو وَهَنِهِ منها علم إسناد الحديث وقد بدأ المطالبة به منذ وقت مُبَكِّرٍ واهتم به العلماء حتى جعلوه من الدين، قال عبد الله بن المبارك: «الإِسْنَادُ مِنَ الْدِّينِ، وَلَوْلاَ الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ» وقال: «بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَوْمِ الْقَوَائِمُ» (¬3) يَعْنِي الإِسْنَادَ. ¬

_ (¬1) انظر " الكفاية " للخطيب البغدادي: ص 27 و " الأحكام ": (2/ 13). (¬2) رواه ابن ماجه: (1/ 658)، والدارمي: (2/ 93) , وأبو داود (4/ 559)، والإمام أحمد: (6/ 100، 101، 144). (¬3) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 92.

ومنها - أيضاً - نقد الرُواة وبيان حالهم ومن تقبل روايته ومن لا تقبل من خلال دراسة الراوي سيرة وتاريخاً وما خفى من أمره وما ظهر. ولم تأخذ العلماء في ذلك لومة لائم. وقيل ليحيى بن سعيد القطان: «أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلاَءِ الذِينَ تَرَكْتَ حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَكَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟» فَقَالَ: «لأَنْ يَكُونَ هَؤُلاَءِ خَصْمِي أَحَبَّ إِليَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمِي رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لِمَ لَمْ تَذُبَّ الكَذِبَ عَنْ حَدِيثِي؟» (¬1). هذه بعض جهود العلماء لحفظ السُنَّة ولا سبيل إلى استقصاء جهود علماء السُنَّة في الحفاظ عليها والإفاضة في بيانها في هذا المختصر. ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 92.

الباب الثاني: (السنة ومنكروها قديما):

الباب الثاني: (السُنَّةُ ومنكروها قديماً): لما كان منكرو السُنَّةِ حديثاً قد تعلَّقوا بكثير من آراء السُنَّة قديماً وكان لمنكري السُنَّةِ قديماً أثر كبير في ظهور منكري السُنَّة حديثاً لذا رأيت أنْ أقدِّم نبذة سريعة ونظرة عاجلة عن منكري السُنَّةِ قديماً في ثلاثة فصول: 1 - الفصل الأول: السُنَّةُ والخوراج. 2 - الفصل الثاني: السُنَّة والشيعة. 3 - الفصل الثالث: السُنَّة والمعتزلة.

تمهيد:

تمهيد: ذكرنا - فيما سبق - مكانة السُنَّة من التشريع الإسلامي وإنها صنو الكتاب ولا يمكن الاستغناء عنها والاعتماد على القرآن وحده، وأنه لا يمكن الجمع بين دعوى الالتزام بتعاليم الإسلام وإنكار حُجِيَّةِ السُنَّةِ إلاَّ أنَّ بعض الناس قد يجهلون أو يتجاهلون البدهيات من الأمور وهذا الذي حدث بالنسبة للسُنَّة النبوية الشريفة. قَالَ أُمَيَّةُ [بْنِ عَبْدِ اللَّهِ] بْنِ خَالِدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «إِنَّا نَجِدُ صَلاَةَ الْحَضَرِ، وَصَلاَةَ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ نَجِدُ صَلاَةَ السَّفَرِ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: «يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ نَعْلَمُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ» (¬1). ثم كثر أصحاب هذه الفتنة حتى قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيِّ: «إِذَا حَدَّثْتَ الرَّجُلَ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا وَحَدِّثْنَا مِنَ الْقُرْآنِ , فَاعْلَمْ أَنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ» (¬2). إلاَّ أنَّ هذا الاتجاه لم يكن عاماً جماعياً حيث لم يكن هناك حزب أو جماعة تعرف بهذا الاتجاه وإنما كان ثمة أفراد معدودون وأشخاص معروفون بالإلحاد والزندقة وبشكل خاص بالعراق. ثم دار الزمان دوره فَقُبَيْلَ نهاية القرن الثاني، وُجِدَتْ شرذمة أنكرت حُجِيَّةَ السُنَّة كمصدر للتشريع، وأخرى أنكرت حُجِيَّةَ غير المتواتر منها، وإليك بعض هذه الطوائف: ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في " المستدرك ": (1/ 258) وسلمه الذهبي. (¬2) " الكفاية " للخطيب البغدادي: ص 16.

الفصل الأول: السنة والخوراج:

الفصل الأول: السُنَّةُ والخوراج: الخوارج إنْ لم ينغمسوا في رذيلة الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما فعل أغمار الشيعة - نظراً لصراحتهم وتقواهم وبداوة طبائعهم وبُعْدِهِمْ عن الأخذ بمذهب التَقِيَّةِ الذي يؤمن به الشِيعَة، لكنهم خالفوا الجمهور في مواقف تشريعية كثيرة فرويت عنهم أحكام غريبة، مثل إباحتهم الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها، وإنكارهم حكم الرجم الوارد في السُنّة، ولم يكن سبب ذلك كما زعم بعض الكاتبين جهلهم بالدين وجرأتهم على الله واستحلالهم لما حرّم اللهُ ورسُولُه، بل كان سببه ما ذهبوا إليه من رد الأحاديث التي خرجت بعد الفتنة أو التي اشترك رواتُها بالفتنة. وإنه لبلاء عظيم أن تسقط عدالة جمهور الصحابة الذين اشتركوا في النزاع مع عليّ ومعاوية، أو نسقط أحاديثهم ونحكم بكفرهم أو فسقهم، وهم هذا الرأي لا يقِلُّون عن الشِيعَة خطراً وفساد رأي وسوء نتيجة (¬1). إلاَّ أنه ليس كل الخوارج على هذ الحالة بل كان هناك فرقة منها تُسَمَّى - الإباضية - يقبلون الأحاديث النبوية وَيَرْوُونَ عن عَلِيٍّ وعثمان وعائشة وابي هريرة وغيرهم - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وأما أخذهم بخبر الآحاد فواضح مِمَّا كتبوه في أصول الفقه، ومن هنا لا ينبغي إطلاق القول بأنَّ كافة الخوارج يرفضون السُنَّة التي رواها الصحابة بعد التحكيم أو قبله، إلاَّ أنَّ السُنَّةَ الصحيحة قد لقيت من الخوارج والشيعة عَنَتاً كبيراً وكان لآرائهم الباطلة في الصحابة أثر كبير في اختلاف الآراء والأحكام في الفقه وفيما أثير حول السُنَّةِ من شُبَهٍ فيما بعد. ¬

_ (¬1) انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" للدكتور مصطفى السباعي: ص 132، 133 و " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة: ص 17، 20 وما بعدها.

الفصل الثاني: السنة والشيعة:

الفصل الثاني: السُنَّة والشيعة: الشيعة طوائف عديدة وفرق كثيرة والموجود منهم حاليًا في العالم الإسلامي أكثرهم من الإثني عشرية، يطعنون في أبي بكر وعُمَرَ وعثمان ومن شايعهم من الصحابة ويُلَفِّقُونَ التُّهَمَ على أم المؤمنين عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وينالون من طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص ويحطون على جمهور الصحابة إلاَّ عَلِيًّا وشيعته من الصحابة - على زعمهم - وقد ذكر بعضهم أنهم من ثلاثة إلى خمسة عشر صحابيًا فقط، وأقاموا على ذلك مذاهبهم من رَدِّ أحاديث جمهور الصحابة إلاَّ ما رواه شيعة عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، على أنْ تكون رواية الأحاديث التي يقبلونها من طرق أئمتهم لاعتقادهم عِصْمَتَهُمْ أو عن طريق من هو على نِحْلَتِهِمْ، والقاعدة العامة عندهم أنَّ من لم يوال عَلِيًّا - على التفصيل الذي عندهم - فقد خان وصية الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونازع أئمة الحق فليس أهلاً للثقة والاعتماد مع أنهم أكذب الطوائف كلها. قال الشافعي: «مَا رَأَيْتُ أَشْهَدَ بالزُّورِ مِنَ الرَّافِضَةِ» وقال صاحب " الوشيعة: «ادَّعَتْ كُلُّ كُتُبِ الشِيعَةِ أَنَّ الأَئِمَّةَ أَوْلاَدُ عَلِيٍّ كَانَتْ تُنْكِرُ كُلَّ حَدِيثٍ يَرْوِيهِ إِمَامٌ مَن أَئِمَّةِ الأُمَّةِ، وَأَنَّ الأَخْذَ بِنَقِيضِ مَا أَخَذَتْهُ الأُمَّةُ أَسْهَلُ طَرِيقٍ فِي الإِصَابَةِ , وَكُلُّ خَبَرٍ وَافَقَ الأُمَّةَ بَاطِلٌ، ومَا خَالَفَ الأُمَّةَ فَفِيهِ الرَّشَادُ، وَكَانَ الإِمَامُ يَقُولُ: (دَعُوا مَا وَافَقَ القَوْمَ فَإِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلاَفِ القَوْمِ). وَتَقُولُ الشِّيعَةُ: إِنْ وَافَقَ الكُلَّ يَجِبُ الوُقُوفَ (أَيْ التَوَقُّفَ). وَكَانَ الصَّادِقُ يَأْمُرُ بِمَا فِيهِ خِلاَفَ العَامَّةِ (أَهْلُ السُنَّةِ وَالجَمَاعَةِ) وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ يَدِينُ بِدِينٍ إلاَّ كَانَتْ الأُمَّةُ تُخَالِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ إِبْطَالاً لأَمْرِ عَلِيٍّ» (¬1). ¬

_ (¬1) " الوشيعة في نقد عقائد الشيعة " لموسى جار الله: ص 26.

هذه دعوة الشيعة، وهذا أصل من أصولهم مِمَّا يقتضي منه العجب، وذكر السيوطي: «أنَّ من غُلاة الرافضة من ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسُنَّة والاقتصار على القرآن، فهم يعتقدون أنَّ النبوة لِعَلِيٍّ، وأنَّ جبريل أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم من أَقَرَّ للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنبوة ولكن قال أنَّ الخلافة كانت حقاً لِعَلِيٍّ، فلما عدل بها الصحابة عنه إلى أبي بكر قال هؤلاء - المخذولون لعنهم الله - كفروا وعدلوا بالحق مستحقه، وَكَفَّرُوا عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أيضًا لعدم طلبه حَقه فَبَنَوْا على ذَلِك رَدَّ الأَحَادِيث كلهَا لِأَنَّهَا عِنْدهم بزعمهم من رِوَايَة قوم كُفَّارٍ فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون» (¬1). إنَّ عدالة الصحابة أمر مُقَرَّرٌ بإجماع المسلمين وهو معلوم من الدين بالضرورة لأنه ورد فيهم ما يوجب لهم الجلالة ويجعلهم في قمة الثقة والأمانة. فهم جلساء رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اختارهم الله لِصُحْبَةِ رسوله وجعلهم أمناء على حديثه، كيف لا، وقد زَكَّاهُمْ الله ورسوله واجتمعت الأُمَّةُ على ذلك فلا سبيل إلى الطعن فيهم، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} (¬2). وقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬3). ¬

_ (¬1) " مفتاح الجنة ": ص 3، 4. (¬2) [الفتح: 29]. (¬3) [التوبة: 100].

وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬1). وقال سُبْحَانَهُ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬2). وقال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ» (¬3). وقال: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» (¬4). وقال عبد الله بن مسعود: «مَنْ كَانَ مِنْكُم مُسْتَنًّا فَليَسْتَنَّ بِِمَنْ قَدْ مَاتَ فََإِِنَّ الحَيَّ لاَ تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا وَاللهِ أَفْضَلَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَأَبَرَّهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلاَقِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ» (¬5). ¬

_ (¬1) [الحشر: 8]. (¬2) [الفتح: 18]. (¬3) " صحيح مسلم ": 4/ 1967 - 1968. (¬4) " صحيح مسلم ": 4/ 1961. و " تيسير الوصول إلى جامع الأصول ": 3/ 226. (¬5) " شرح العقيدة الطحاوية ": ص 422.

ولله درُّ أبي زُرعة الرازي ما أحسن قوله: «إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ , وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ حَقٌّ , وَالْقُرْآنَ حَقٌّ , وَمَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَيْنَا الصَحَابَةُ، وَهَؤُلاَءِ الزَنَادِقَةُ يُرِيدُونَ أَنْ يُجَرِّحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى» (1). هذا هو الحق الصَرَاحُ والصدق القراح أنهم تَذَرَّعُوا بإنكار السُنَّة وحُجِيَّتَهَا إلى إبطالها رأسًا وبذلك مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأعجب بكفر هؤلاء، ويأبى الله إلاَّ أنْ يتم نوره ولو كره الكافرون.

الفصل الثالث: السنة والمعتزلة:

الفصل الثالث: السُنَّةُ والمعتزلة: اختلفت نُقُولُ العلماء من موقف المعتزلة من السُنَّة، والذي استنتجه الخضري من كتابات الشافعي ومال إلى ذلك الأستاذ السباعي بأنَّ الفرقة التي رَدَّتْ الأخبار كلها هي المعتزلة (¬1) لأنهم كانوا يَزِنُونَ جميع الأشياء بعقولهم الفاسدة وأذهانهم القاصرة، ولا شك أنَّ العقل الإنساني مهما بلغ من الذُّرْوَةِ والكمال فلا بُدَّ أنْ يبقى قاصرًا عن إدراك بعض الحقائق ولا سيما الأمور التعبُّدية غير المُعَلَّلَةِ كما قال الشافعي: «كما أنَّ الحواس لها حد تنتهي إليه كذلك العقل له حد ينتهي إليه ويقصر دونه». والواقع أنَّ نُقُولَ العلماء عن موقف المعتزلة من السُنَّةِ قد اضطربت - كما قال السباعي - هل هم مع الجمهور في القول بِحُجِيَّتِهَا بِقِسْمَيْهَا المتواتر والآحاد أم ينكرون حُجِيَّتِهَا بِقِسْمَيْهَا أم يقولون بحجية المتواتر وينكرون حجية خبر الآحاد؟ وذكر السباعي نُقُولاً عن الآمدي وابن حزم وابن القيم ثم قال: «وهذه النقول - كما ترى - متضاربة لا تعطينا حكما صحيحاً في المسألة» ثم تحدث عن مذهب النَظَّامِ وأنه ينكر معجزات النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من انشقاق القمر وتسبيح الحصى في يده ونبع الماء من بين أصابعه ليتوصل من ذلك إلى إنكار نُبُوَّتِهِ. ثم إنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها ولم يجرؤ على إظهار ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها ": ص 134، 135.

رفعها فأبطل الطرق الدالة عليها فأنكر لأجل ذلك حجية الإجماع وحجية القياس في الفروع الشرعية وأنكر الحُجَّةَ من الأخبار التي لا توجب العلم الضروري ... كما عاب أصحاب الحديث وروايتهم أحاديث أبي هريرة، وزعم أن أبا هريرة كان أكذب الناس وطعن في الفاروق عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وزعم أنه شك يوم الحديبية في دينه وشك يوم وفاة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه ضرب فاطمة وابتدع صلاة التراوايح، وطعن في عثمان لاستعماله الوليد بن عقبة على الكوفة حتى صلى بالناس وهو سكران، وطعن في عَلِيٍّ وابن مسعود ونسب الصحابة إلى الجهل والنفاق ... إلى آخر هذيانه (¬1). ومنه نرى أنَّ المعتزلة ما بين شاك في عدالة الصحابة منذ عهد الفتنة كـ (واصل) وما بين مُوقِنٍ بفسقهم كـ (عمرو بن عبيد) وما بين طاعن في أعلامهم مُتَّهِمٌ لهم بالكذب والجهل والنفاق وذلك يوجب رَدَّهُمْ - على زعمهم - للأحاديث التي جاءت من طريق هؤلاء الصحابة (¬2). ما أسخف هذا الدليل وما أوهى هذا الاستدلال فيا لله لدواوين السُنَّة وكتب الحديث، نعوذ بالله من الخذلان واستحواذ الشيطان من لم يهده فلا هادي له. «وقد كان موقف المعتزلة من السُنَّة هذا الموقف المتطرف المباين لعقيدة جمهور المسلمين أثر كبير في الجفاء بين علماء السُنَّة ورؤوس المعتزلة، تراشق على أثره الفريقان التُّهَمَ، فالمعتزلة يرمون المُحَدِّثِين بروايتهم الأكاذيب والأباطيل - على زعمهم -، وبأنهم زوامل للأخبار لا يفهمون ما يروون ... بينما يَتَّهِمُ المُحَدِّثُونَ أئمة الاعتزال بالفسق والفجور والابتداع في الدين والقول بآراء ما نزَّلَ الله من سلطان». ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها: ص 135. (¬2) " السُنَّة ومكانتها: ص 140.

هذا وقد أدى مع الأسف هذا الصراع إلى نتيجتين خطيرتين فيما يتعلق بالسُنَّة: أولاهما: ما فتحه رؤساء المعتزلة من ثغرات في مكانة الصحابة استطاع أنْ يَلِجَ المتعصبون من المستشرقين ويَجْرُؤُا على رميهم بالكذب والتلاعب في دين الله مستدلين إلى ما افتراه النَظَّام وأمثاله عليهم، وقد تبع المستشرقين في هذا بعض كُتَّابِ المسلمين كأحمد أمين وأَبِي رِيَّةَ وغيرهما. ثانيهما: أنَّ جمهور المعتزلة كانوا في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه حتى أنَّ بِشْر المريسي كان من أبرز رؤوس المعتزلة في عصره: قالوا إنه كان في الفقه على رأي أبي يوسف (¬1). فلما أشرعت الخصومة بين أهل الحديث وأهل الاعتزال جَرَّحَ المُحَدِّثُونَ كُلَّ من قال بخلق القرآن، وجرَّ ذلك بعض المُغالين منهم إلى أَنْ يُجَرِّحَ كثيراً من أصحاب أبي حنيفة بِحُجَّةِ أنهم يقولون بالرأي. ولا ذنب لهم إلاَّ أنَّ مذهب أبي حنيفة كان مذهب خصومهم المعتزلة، حتى إنَّ الإمام أبا حنيفة نفسه لم يسلم من أذى الذين جاؤوا بعده من أولئك المُحَدِّثِينَ، فلقد نسبوا إليه القول بخلق القرآن مع أن الثابت عنه بنقل الثقات غير ذلك ومع أن محمد بن الحسن كان يقول: «مَنْ صَلَّى خَلْفَ المُعْتَزِلِيَّ يُعِيدُ صَلاَتَهُ». هذا وقد وجد قديمًا بعض الأشخاص أو بعض الفرق التي طعنت في السُنَّة ولكنها انهزمت وَضَمَّهُمْ الدهر إليه بنهاية القرن الثاني أو على الأكثر بنهاية القرن الثالث ولم تقم لها قائمة بعد ذلك. وقد أحييت الفتنة مَرَّةً أخرى في القرن الماضي بتأثير الاستعمار الغربي كما سنراه قريبًا. ¬

_ (¬1) " الفَرْقُ بين الفِرَقِ ": ص 124. و " السُنَّة ومكانتها ": ص 142.

الباب الثالث: السنة ومنكروها حديثا:

الباب الثالث: السُنَّة ومنكروها حديثاً: عرض وتحليل وفيه ستة فصول: 1 - السُنَّة والمسشرقون. 2 - السُنَّة والدكتور توفيق صدقي. 3 - السُنَّة والأستاذ أحمد أمين. 4 - السُنَّة ومحمود أبو رية. 5 - السُنَّة والدكتور أحمد زكي أبي شادي. 6 - السُنَّة ومنكروها في القارة الهندية.

تمهيد:

تمهيد: ذكرنا في الفصل الماضي وجود شرذمة قُبَيْلَ نهاية القرن الثاني دعت إلى نَبْذِ السُنَّة النبوية وجُحُودِهَا إلاَّ أنَّ هؤلاء بقوا مخذولين مغمورين إلى نهاية القرن الثاني أو على الأكثر نهاية القرن الثالث ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك. وظلت الأُمَّةُ الإسلامية آمنة طوال أحد عشر قرنًا من هذه الفتنة حتى جاء عهد الاستعمار وبدأ المستعمرون بنشر أفكارهم الخبيثة للقضاء على مقومات الإسلام وتحقيق مآربهم الاستعمارية من تمزيق المسلمين وتشتيتهم شذر مذر. وقد اتَّخَذَ المستعمرون مهاجمة السُنَّة والتشكيك في حُجِيَّتِهَا وصدق جامعيها وَرُوَاتِهَا كوسيلة للقضاء على مصادر التشريع ليغزوا المسلمين - بعد ذلك - غَزْوًا فكريًا. ومن البَلِيَّةِ أنهم وجدوا من أبناء المسلمين من ينتمون إلى آباء المسلمين ويتظاهرون بالإسلام والغيرة عليه وهم ألدُّ أعدائه وأشد ولاء لسادتهم المستشرقين المستعمرين المنطوين على الحقد الدفين ضد الإسلام والمسلمين وعملاء تحقيق خططهم الاستعمارية لأنهم رُبُّوا في أحضان الحضارة الغربية وَتَشَبَّعُوا بثقافتها الإلحادية فلم يحل لهم إلاَّ معايرها ولم يرق في نظرهم إلاَّ إلحادها وانحرافها عن كل ما يمت بصلة إلى القيم الإسلامية وتعاليمها الصافية التي منبعها الكتاب والسُنَّة. ولما رأوا أنه لا يمكن لهم عداء الإسلام جَهْرًا وتشويه تعاليمه ظاهرًا مع الحفاظ على مصالحهم وتعايشهم في البيئة الإسلامية تَلَطَّفُوا في تحقيق مآربهم بالدسائس الخفية والحيل اللطيفة بإثارة الشُبُهَاتِ الواهية والمغالطات المكشوفة في طريق السُنَّة وفي السُنَّةِ نفسها فانطلت دَسِسَتُهُمْ على الأغمار وراجت خديعتهم على الأغرار. ولكن جرت سُنَّةُ الله أنه لم تكن فتنة إلاَّ قَيَّضَ الله من يقمعها وما أصاب المسلمين غمة إلاَّ ندب الله من يجلوها كما قال تعالى:

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (¬1). وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2). فتفطن لها المحدثون (¬3). وأدرك مدى خطرها وتفاقم شرها السادة المُتَّقُونَ، فكشفوا أضاليلهم وفَنَّدُوا أباطيلهم فصارت فتنتهم هباء منثورًا كأنْ لم يكن شيئًا مذكورًا، والحمد لله رب العالمين. وها نحن نقدم طائفة من هؤلاء الذين تعرضت السُنَّة المباركة لمطاعنهم وشُبُهَاتِهِمْ ومغالطاتهم. نقول وبالله التوفيق: ¬

_ (¬1) [الأنبياء: 18]. (¬2) [الحجر: 9]. (¬3) أي المُلْهَمُونَ.

الفصل الأول: السنة والمستشرقون:

الفصل الأول: السُنَّة والمستشرقون: نظرة تاريخية لدراسة المستشرقين للسُنَّة: لم يَتَّجْهْ المستشرقون إلى دراسة الأحاديث النبوية في وقت مبكر ولعل أول من قام بمحاولة دراسة الأحاديث النبوية هو المستشرق (جولدتسيهر) الذي نشر نتيجة بحثه سَنَةَ 1890 م بعنوان " دراسات إسلامية " باللغة الألمانية. وحظي كتابه هذا مكانًا مرموقًا في دائرة الاستشراق من ذلك الوقت حتى الآن وَعُدَّ كتابه إنجيلاً مُقَدَّسًا عندهم. ثم بعد ذلك - وبِمُضِيِّ أكثر من نصف قرن - نشط البروفسور المستشرق (شاخت) وأمضى وقتًا غير قليل في البحث والتنقيب في معادن الأحاديث الفقهية وخلاصة ما وصل إليه من نتائج «أنه ليس هناك حديث واحد صحيح وخاصة الأحاديث الفقهية» وأصبح كتابه إنجيلاً ثانيًا لعالم الاستشراق وفاق (شاخت) سلفه (جولدتسيهر) حيث غَيَّرَ من نظرته التشكيكية في صحة الأحاديث إلى نظرة متيقنة في عدم صحتها. ولقد ترك كتابه هذا أثرًا عميقًا في تفكير دَارِسِي الحضارة الإسلامية حتى قال المستشرق (جب): «إنه - يعني كتاب شاخت - سيكون في المستقبل أساسًا لكافة الدراسات عن الحضارة الإسلامية والتشريع وعلى الأقل في الغرب». ولم تنشر بحوث في السُنَّة بأقلام المستشرقين في غضون ثلاثة أرباع قرن - ما عدا هذين الكتابين - اللَّهُمَّ إلاَّ عِدَّةَ مقالات لا تمس الموضوع إلاَّ من بعيد.

وخلاصة القول أنَّ الأحاديث النبوية لم يتجه إلى دراستها إلاَّ عدد قليل جدًا من المستشرقين، ومع ذلك فإنَّ بحوثهم لم تكن ناضجة، ومناهج بحثهم لم تكن علمية، ويمثل ذروة هذه الدراسات كتابات (شاخت) التي أصبحت من المصادر الأساسية لِكُتَّابِ الغرب بل ولكثير من كُتَّابِ الشرق الذين قاموا بأخطر دور في تاريخ البحث العلمي فيما يتعلق بالحديث النبوي، ومن ثم وجهت سهام الطعن إلى السُنَّة النبوية من قبل مختلف الأشخاص ومن مختلف الزوايا وتناول كل فريق منهم جانبًا من جوانبها المختلفة. فمنهم من طعن في حُجِيَّةِ السُنَّة ومكانتها التشريعية ومنهم من ادَّعَى تأخر كتابة الأحاديث إلى قرن أو أكثر ثم استنتج من ذلك أنه لا يمكن الاعتماد عليها، ومنهم من أثار الشك في الأسانيد وقيمتها العلمية. وقال قائل منهم كيف نقبل الأحاديث وتعتبرها صحيحة وقد بلغ عددها سبعمائة ألف. ألم يكن للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مشغل شاغل إلاَّ الكلام فقط، ومنهم من أضاف إلى ذلك تساؤلاً آخر فقال: «إنَّ الأحاديث الموجودة في أيدينا لا تصل إلى مائة ألف فأين بقية الرصيد المُدَّعَى». ومنهم من استنتج نتيجة أخرى فقال: «لقد انتشر الكذب في الحديث فبلغ في عهد البخاي حَدًا لم يجد بسببه إلاَّ حديثًا واحدًا صحيحًا من كل مائة وخمسين أفلا يحق لنا أنْ ننتقد هذه المجموعة أيضًا - مجموعة البخاري نفسها - فنختار منها ما نختار بالبحث والتحقيق وندع ما ندع غير آسفين لنا قدر في البخاري». ومنهم من حكم قائلاً - كغلام أحمد البرويز - أنَّ الأحاديث إنما كانت مؤامرة أعجمية على نقاءة الإسلام وصفائه وبساطته وقد تجمعت هذه الأفكار

فَتَجَسَّدَتْ في كتابات (شاخت) الذي ادَّعَى بعد بحث مُضْنٍ أنه ليس هناك حديث واحدٌ صحيحٌ، وخاصة الأحاديث الفقهية وأنها في الواقع - على حَدِّ زعمه - كلام علماء المسلمين من القرن الثاني والثالث الهِجْرِيَّيْنِ وأقاويلهم، وضعت على لسان النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زُورًا وَبُهْتَانًا (¬1). ¬

_ (¬1) من مقدمة " دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه " للأعظمي - بتصرف.

عرض تاريخي لأغراض المستشرقين:

عرض تاريخي لأغراض المستشرقين: إذا كانت عداوة أهل الصليب للإسلام قديمة وشديدة فإنها اشتدت بعد ما فتح صلاح الدين الأيوبي القدس وارتدت الحملات الصليبية كلها مدحورة مهزومة وهي التي كانت تحلم في استعمار بلاد الشام وما حولها. إذًا فأهم أهداف المستشرقين هو الطعن في الإسلام وتشويه حقائقه لكونه الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيِّين. وهناك دافع سياسي استعماري وذلك لما سمع ملوك أوروبا بما تتمتع به بلاد الإسلام من طمأنينة ومدنيَّة وأراضي خصبة، كما سمعوا الشيء الكثير عن ثرواتها ومصانعها فجاءوا يقودون جيوشهم باسم المسيح وما في نفوسهم في الحق إلاَّ الرغبة في الاستعمار والفتح والاستئثار بخيرات المسلمين وجعلهم طوع بنانهم لمقاصدهم الاستعمارية وأداة مرنة لبلوغ مآربهم. وشاء الله أنْ تندحر الحملة الصليبية كلها مهزومة بعد حروب دامت قرابة قرنين من الزمان وترجع إلى ديارها تحمل في قلوبها الحسرة غير أنَّ ملوكها وأمراءها رجعوا مُصَمِّمِينَ على الاستيلاء على هذه البلاد مهما طال الزمن وكثرت التكاليف ورأوا بعد الإخفاق في الاستيلاء عليها عسكريًا أنْ يتَّجهوا إلى دراسة شؤونها وعقائدها ومصادر تشريعها تمهيدًا لغزوها فكريًا. ولما كان القرآن الكريم قد حفظه الله من التحريف والزيادة والنقصان حيث قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) [الحجر: 9].

فإنَّ تفكير أعداء الإسلام اتجه إلى السُنَّة بالطعن والتشكيك وكانت النواة الأولى التي تولت القيام بهذه المهمة - ولا زالت - تتألف من رجال الدين المسيحي أو اليهودي الذين هم - ولا شك - أشد الناس كُرْهًا للإسلام وَتَعَصُّبًا عليه ولذلك كان من الطبيعي أنْ تتسم بحوث هؤلاء بالمظاهر الآتية: 1 - سوء الظن والفهم لكل ما يتصل بالإسلام في أهدافه ومقاصده. 2 - سوء الظن برجال المسلمين وعلمائهم وعظمائهم. 3 - تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف العصور وخاصة في العصر الأول بمجتمع متفكك تقتل الأنانية رجاله وعظماءه. 4 - تصوير الحضارة الإسلامية تصويرًا دون الواقع بكثير تهوينًا لشأنها واحتقارًا لآثارها. 5 - الجهل بطبيعة المجتمع الإسلامي على حقيقته والحكم عليه من خلال ما يعرفه هؤلاء المستشرقون من أخلاق شعوبهم وعادات بلادهم. 6 - إخضاع النصوص للفكرة وتحريف النصوص في كثير من الأحيان تحريفًا مقصودًا وتحكمهم في المصادر التي ينقلون منها كل ذلك انسياقًا مع الهوى وانحرافًا عن الحق (¬1). والمُطَّلِعُ على تاريخ الاستشراق - في جمهورهم - لا يخلو أحدهم من أن يكون قِسِّيسًا أو استعماريًا أو يهوديًا، وقد يَشِذُّ عن ذلك أفراد. ثانيًا: أنَّ الاستشراق في الدول الغربية غير الاستعمارية - كالدول السكاندنافيه - أضعف منه في الدول الاستعمارية. ¬

_ (¬1) اقتباس من " السُنَّة ومكانتها ": ص 188.

ثالثًا: إنَّّ المستشرقين المعاصرين في الدول غير الاستعمارية يخلَّون عن جولدتسيهر وآرائه بعد أنْ انكشفت أهدافه الخبيثة. رابعًا: إنَّ الاستشراق بصورة عامة ينبعث من الكنيسة، وفي الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جَنْبًا إلى جنب، يلقى منهما كل تأييد. خامسًا: إنَّ الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا ما تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليدية من كونه أداة هدم للإسلام وتشويه لسمعة المسلمين (¬1). ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 16 - 17.

شبه المستشرقين حول السنة:

شُبَهِ المستشرقين حول السُنَّةِ: أنتقل بعد هذا إلى بيان موقف المستشرقين من السُنَّة النبوية ومزاعمهم وشُبَهِهِمْ التي أثاروها حولها، ولعل أشد المستشرقين خطرًا وأكثرهم خُبْثًا وإفسادًا في هذا الميدان هو المستشرق اليهودي «جولدتسيهر» (¬1). ويبدو أنه كان واسع الاطلاع على المراجع العربية حتى عُدَّ شيخ المستشرقين في الجيل الماضي. وقد نقل لنا الأستاذ أحمد أمين بصورة غير رسمية كثيرًا من آرائه عن تاريخ الحديث في " فجر الإسلام " و " ضُحَاهُ "، كما نقل لنا بصورة رسمية الدكتور علي حسن عبد القادر في كتابه " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي " وقد تعرض لهما الدكتور مصطفى السباعي بالنقد في كتابه " السُنَّةُ ومكانتها في التشريع الإسلامي " (¬2). وفيما يلي عرض موجز وإشارة سريعة إلى بعض الاتجاهات العامة والخطوط الرئيسية في بحوثه: 1 - يقول الدكتور علي حسن عبد القادر في كتابه (¬3): «وهناك ¬

_ (¬1) ولد سَنَةَ 1850 م ودرس في مدارس اللغات الشرقية ببرلين وليبزج وفيِينَا ورحل إلى سوريا سَنَةَ 1873 م وتتلمذ على الشيخ طاهر الجزائري وتَضَلَّعَ في العربية على شيوخ الأزهر، عُرِفَ بعدائه للإسلام وبخطورة كتاباته عنه، ألف كتابًا عن " الظاهرية ومذهبه وتاريخهم " ثم " دراسات إسلامية " في جزئين و " العقيدة والشريعة الإسلامية " وهو مجري. (" دائرة المعارف الإسلامية ") توفي سَنَةَ 1921 م. (¬2) وكذا الشيخ محمد الغزالي في كتابه " دفاع عن العقيدة والشريعة " الذي استفدت واقتبست منه كثيرًا. (¬3) " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ": ص 126.

مسألة جد خطيرة نجد من الخير أنْ نعرض لها ببعض التفصيل، وهي وضع الحديث في هذا العصر، ولقد ساد إلى وقت قريب في أوساط المستشرقين الرأي القائل: «بأنَّ القسم الأكبر من الحديث ليس صحيحًا ما يقال من أنه وثيقة للإسلام في عهد الطفولة ولكنه أثر من آثار جهود المسلمين في عصر النضوج». وأشار الدكتور إلى أنَّ هذا الرأي هو لجولدتسيهر: هذا لا يستغرب من يهودي يسعى أنْ يقضي على الإسلام بأسره. إنَّ المفسر لا يهمه إقامة الدليل على دعواه بقدر ما يهمه النفث بدسائسه كي تعمل عملها في الذين لم يتمكن الإسلام في قلوبهم. إنَّ القرآن الكريم والسُنَّة الصحيحة تُكَذِّبُ هذه الدعوى، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬1). فما معنى كمال الدين وتمامه إذا قيل: إنَّ السُنَّة لم تحفظ وأنها نتيجة التطور وقال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي». فما توفي رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ وقد كان الإسلام ناضجًا متكاملاً لا طفلاً يافعًا كما يَدَّعِي هذا المستشرق. ثم يقال له: إنك تعلم أنَّ المسلمين في مختلف بقاع الأرض التي وصلوا إليها وأهل تلك الديار الذين دخلوا في الإسلام كانوا يتعبَّدون عبادة واحدة ويقيمون أسس أسرهم وبيوتهم على أساس واحد، وهكذا كانوا مُتَّحِدِينَ ¬

_ (¬1) [المائدة: 3].

في العبادات والمعاملات والشعائر والعادات غالبًا فلو كان الحديث أو القسم الأكبر منه نتيجة للتطور الديني - كما زعمت - للزم حتمًا أَلاَّ تتحد عبادة المسلم في شمال إفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب آسيا، إنَّ البيئة في كل منهما مختلفة عن الأخرى تمام الاختلاف، فكيف اتَّحَدَا في العبادة والتشريع والمعاملات والآداب؟ وبينهما من البُعد ما بينهما. من هذا نرى أنَّ زعمه هذا مبني على أساس من جرف هار فانهار من أول وهلة. 2 - ثم حاول بعد ذلك أنْ يصور لنا أنَّ الأمويِّين كانوا يضطهدون الذين وأصحابه، وأنَّ العلماء الأتقياء كانوا على خلاف مستمر معهم وأنهم وضعوا أحاديث .. وهو كاذب في كلا الأمرين، فإنَّ الروايات التي يمكن أنْ يعتمد عليها والأخبار التي يمكن أنْ يتعلق بها في قوله عن الأمويِّين إذا تمعَّنت فيها ومحَّصتها تجدها كلها غير جديرة بالاهتمام حيث أنها كلها من آثار صنائع العباسيين والشيعة والروافض. بل إننا نجد نصوصًا كثيرة تُكَذِّبُ ما رمى به هذا المستشرق خلفاء بني آمية، فقد كان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختار معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لكتابة الوحي. ونسك عبد الملك وتقواه ودعاء الناس يلقِّبُونه بحمامة المسجد، ولما جاء الناس يبايعونه كان يتلو كتاب الله على مصباح ضئيل، ولقد أنشأت أكثر المساجد المعروفة اليوم في عصر الوليد بن عبد الملك، والتاريخ يذكر بكثير من الإعجاب فتوحات الأمويِّين، وأما ما ادَّعاه من الخلاف المستمر بين العلماء الأتقياء والأمويِّين ففيه تمويه، فالحق الذي لا مرية فيه أنَّ العلماء الذين نهضوا لجمع الحديث وتدوينه لم يكن بينهم وبين الأمويين أي عداء إلاَّ ما نقل من جفاء سعيد بن المسيب لعبد الملك لأنه أراد أخذ البيعة لابنه الوليد ثم سليمان من بعده، فأبى سعيد وقال: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى

عَنْ بَيْعَتَيْنِ» في وقت واحد، فهذا هو سبب الجفاء، ولا نعلم قبل هذه الحادثة جفاء بين سعيد وخلفاء بني أمية، ووقع شيء من الجفاء بين الحجاج وبعض علماء عصره سببه اشتداد الحَجَّاجِ في مقاومة خصوم الدولة الأموية. أما الذين قام العداء بينهم وبين الأمويين فهم الخوارج والعلويُّون وهؤلاء غير أولئك العلماء الذين ضَحُّوا بحياتهم في سبيل جمع الحديث وتدوينه، فإنْ كان المستشرق يريد بالعلماء الأتقياء - أولئك الغلاة من الشيعة والخوارج فنعم - ولكنه يثير العجب حيث إنه يطلق هذا اللقب على من كانوا أداة فساد وإفساد في أرض الله الطاهرة وتظاهرًا بِحُبِّ عَلِيًّ وآله - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ووضعوا أحاديث للوصول إلى غايتهم وهم يضمرون في نفوسهم المكر والكيد للإسلام وأهله (¬1). 3 - ثم يزعم «ولم يقتصر الأمر على هؤلاء فإنَّ الحكومة نفسها لم تقف ساكنة إزاء ذلك، فإذا أرادت أنْ تُعَمِّمَ رأيًا أو تسكت هؤلاء الأتقياء، تذرعت أيضًا لوجهات نظرها، فكانت تعمل ما يعمله خصومها، فتضع الحديث أو تدعو إلى وضعه» (¬2). وهذه دعوة جديدة لا وجود لها إلاَّ في خيال كاتبها، فما روى لنا التاريخ أنَّ الحكومة الأموية وضعت الأحاديث لتعمم بها رأيًا من آرائها فنحن نسأله أين تلك الأحاديث التي وضعتها الحكومة، ولا نجد في حديث واحد من آلافها الكثيرة في سنده عبد الملك أو يزيدًا أو الوليد أو أحد عُمَّالِهِمْ كالحَجَّاجِ، فاين ضاع ذلك في زوايا التاريخ لو كان له وجود؟ وإذا كانت الحكومة الأموية لم تضع بل دعت إلى الوضع فما الدليل على ذلك؟ ¬

_ (¬1) انظر " السُنَّة ومكانتها ": ص 197، 198. " رسالة حُجِيَّة السُنَّة " لمحمد لقمان السلفي ": ص 110. (¬2) " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ": ص 126، 127.

4 - ثم يقول: «إنه لا توجد مسألة خلافية سياسية أو اعتقادية إِلاَّ ولها اعتماد على جملة من الأحاديث ذات الإسناد القوي» (¬1). أهذا هو الدليل على أنَّ الحكومة الأموية هي التي دعت إلى الوضع؟ لماذا يكون لوضع هذه الأحاديث في المسائل الخلافية من وضع المذاهب المختلفة سبب إلاَّ الوضع؟ لقد بَيَّنَ علماؤنا أسباب اختلاف الحديث فما كان مرجعه إلى الوضع بَيَّنُوهُ، وما كان مرجعه إلى غير ذلك بَيَّنُوهُ أيضًا، فالزعم بِأَنَّ ذلك دليل على وضع الأحاديث المختلفة كلها زعم باطل وأشد منه بطلانًا أنْ يَتَّخِذَ ذلك دليلاً على تدخل الحكومة الأموية في الوضع ودعوتها إليه. 5 - ثم يزعم «أنه استغلَّ هؤلاء الأمويون الإمام الزُّهْرِيَّ بدهائهم في سبيل وضع الأحاديث». وهذه مؤامرة مذمومة وجُرْأَةٌ شنيعة من هذا اليهودي المستشرق على أكبر إمام من أئمة السُنَّة في عصره، بل على أول من دَوَّنَ السُنَّة من التابعين لنرى ما فيها من خُبْثٍ ولؤم وَدَسٍّ وتحريف، إنها لخطَّة مُبَيِّتَةٌ من هذا المستشرق أنْ يهاجم أركان السُنَّة واحدًا بعد واحدٍ، فلقد هاجم أكبر صحابي روى الحديث على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حتى إذا فرغ من تهديم أبي هريرة - على زعمه - جاء هنا ليهدم ركن السُنَّة في عصر التابعين، ولكن الله غالب على أمره ولا بُدَّ للحق من هزيمة الباطل مهما آوى الباطل إلى ظل ظليل وركن متين. والإمام الزُّهْرِي لا يضره حقد الحاقدين فهو قطب السُنَّة ويكفيه فخرًا ما قال فيه الذهبي: «هُوَ أَعْلَمُ الحُفَّاظِ الإِمَامُ الحَافِظُ الحُجَّةُ». وقال مكحول ¬

_ (¬1) " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ": ص 126 وما بعدها.

«مَا بَقِيَ عَلَى ظَهْرِهَا أَعْلَمَ بِسُنَّةٍ مَاضِيَةٍ مِنَ الزُّهْرِيِّ» وقال عمر بن دينار: «مَا رَأَيْتُ أَنَصَّ وَأَبْصَرَ بِالحَدِيثِ مِنَ الزُّهْرِيِّ». وهكذا تواترت روايات الأئمة والحفاظ وعلماء الجرح والتعديل على توثيقه وأمانته وجلالة قدره ونُبْلِهِ في أعين المحدثين. ولا نعلم أنَّ أحدًا اتَّهَمَهُ بأمانته وصدقه في الحديث قبل هذا المستشرق اليهودي المُتَعَصِّبُ (جولدتسيهر). 6 - ثم ادَّعَى أنه اعترف اعترافًا خطيرًا عندما قال: «إِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثِ» وأنَّ ذلك يُفْهَمُ منه استعداد الزُهري لأنْ يُلَبِّي رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند الأمَّة الإسلامية. وَرَدُّنَا على هذا الزعم المفترى هو: أولاً: أنَّ هذا النص الذي نقله فيه تحريف مُتَعَمَّدٌ يقلب المعنى رأسًا على عقب. ثانيًا: أنَّ الزُهري كان يمتنع عن كتابة الأحاديث للناس، والظاهر أنه كان يفعل هذا ليعتمد الناس على ذاكرتهم [ولا يَتَّكِلُوا] على الكُتُبِ، فلما طلب منه هشام وَأَصَرَّ عليه أنْ يُمْلِي على ولده لِيَمْتَحِنَ حفظه، وأملى عليه أربعمائة حديث خرج من عند هشام وقال بأعلى صوته: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا كُنَّا مَنَعْنَاكُمْ أَمْراً قَدْ بَذَلْنَاهُ الآنَ لِهَؤُلاَءِ، وَإِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ (الأَحَادِيثِ) فَتَعَالَوْا حَتَّى أُحَدِّثَكُمْ بِهَا فَحَدَّثَهُمْ بِالأَرْبَعِمِائَةَ الحَدِيث». هذا هو النص الصحيح لقول الزهري. وانظر الفرق بين قول الزهري كما رواه المستشرق وكما رواه المؤرخون والمحدثون ثم انظر إلى هذه الأمانة حيث حذف «الـ» من «الأحاديث» فقلبت الفضيلة رذيلة ... 7 - ثم زعم «وقد شعر المسلمون في القرن الثاني بأنَّ الاعتراف بصحة الأحاديث يجب أنْ يرجع إلى (الشكلي) فقط، وأنه يوجد من الأحاديث

الجَيِّدة الإسناد كثير من الأحاديث الموضوعة، وساعدهم على هذا ما ورد من (الحديث)، " سَيَكْثُرُ التَحْدِيثُ عَنِّي، فَمَنْ حَدَّثَكُمْ بِحَدِيثٍ فَطَبِّقُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ ِمنِّي، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ " هذا هو المبدأ الذي حديث بعد قليل عند انتشار الوضع». في الحقيقة أنَّ المستشرق افترى على علماء الإسلام في موضعين: الأول: دعواه بأنَّ الاعتراف بصحة الحديث شكلي فقط، وأنه يوجد بين الأحاديث الجَيِّدَةِ الإسناد كثير من الأحاديث الموضوعة، وهذا افتراء منه عليهم وَهُمْ لم يقوموا بهذا قطعًا وكيف يعترفون بهذا وإن كان صحيحًا فليخبرنا الكتاب الذي اعترفوا فيه، وإنما الذين قالوه حين بحثوا مسألة العمل بخبر الواحد: هل يفيد القطع أو الظن؟ فذهب الجمهور إلى أنه يفيد الظن لأنه وإنْ كان صحيحًا بحسب الشروط المقررة إلاَّ أنه يحتمل ألاَّ يكون صحيحًا (في الواقع) والذي دعاهم إلى هذا هو الاحتياط والتثبت في شرع الله، فأين هذا مما ينقله عنهم هذا المستشرق؟. والثاني: زعم أنَّ المبدأ الذي حدث بعد قليل هو حديث: «سَيَكْثُرُ التَحْدِيثُ عَنِّي». وهو كذب وافتراء محض لأنَّ هذا التحديث نقده صيارفة الحديث ونُقَّادُهُ وحكموا بوضعه وكذبه. والحقيقة أنَّ هذا المستشرق من أقل الناس مروءة وحياء وأمانة في سبيل العلم، فهو يخترع الأكذوبة ويتخيَّلها وَيُرَكِّبُ لها في نفسه هيكلاً ثم يلتقط له من هنا ومن هناك ما يوهم أنه يؤيِّده فيما ادَّعى ولا يهمه أنْ يكذب في النصوص أو يُحَرِّفَهَا أو يزيد فيها أو ينقص منها - حسب هواه - أو يغالط في الفهم أو يستدل لما ليس بدليل ويعرض عما يكون دليلاً قاطعًا. فهذا شأن قوم يزعمون التجرد وأنهم سلكوا المنهج العلمي الحديث. إنا لله وإنا إليه راجعون.

8 - يزعم «أنًّ تعاليم القرآن تجد تكملتها واستمرارها في مجموعة من الأحاديث المتواترة - فهي وإنْ لم [تُرْوَ] (*) عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مباشرة تعتبر أساسية لتمييز روح الإسلام» (¬1). أي أنَّ الأحاديث المتواترة لم تصدر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والطعن ليس في حديث ما أو في جملة أحاديث عليها اعتراض قوي أو ضعيف، كَلاَّ، إنَّ الطعن في السُنَّة كلها المتواتر منها والمشهور والصحيح. 9 - ويزعم: «أنَّ هذه الأحاديث وغيرها من النصوص المماثلة لها والتي يسهل علينا جمعها لا تمثل وجهات نظر خاصة بطبقة سامية الأخلاق فحسب بل إنها لتعبِّر عن العاطفة العامة لفقهاء الإسلام» (¬2). ومن أين أتى فقهاء الإسلام بهذه الأحاديث؟ ومن أين تَسَرَّبَتْ إليهم هذه العواطف التي أنطقتهم بهذه الأحاديث؟ إنهم أقل شأنًا من أنْ ينفردوا بتأليفها ولذلك يقول: «لكن الإسلام خلال توسُّعه التالي وبفعل التأثيرات الأجنبية ترك مجالاً لدقة العلماء المُفتين ولعلماء العقائد» (¬3). إنَّ الرجل يهرف بما لا يعرف وهو في حقده على الإسلام يهاجمه بعنف وعمى ولا يَتَّخذُ مكانًا يظن به الضعف ثم يهجم بل ينطح برأسه كل شيء دون تفريق وهيهات أنْ يصدع إلاَّ رأسه: كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا * ... * ... * فَلَمْ يُضِرْها وأوْهَى قَرْنَهُ الوَعلُ (السُنَّّةُ كلها من صنع الناس حتى المتواتر منها): عفاء على التاريخ والعلم كله إذا كانت قيم الحقائق تتناول بهذا الأسلوب الفوضوي، ولكن الرجل يريد إفهام قومه أنَّ الإسلام من صنع محمد وقومه. ¬

_ (¬1) " دفاع عن العقيدة والشريعة " لمحمد الغزالي: ص 62. (*) في المطبوع " دفاع عن العقيدة والشريعة ": ص 47 [لم تُرْوَ] لا كما ورد [لم تَرِدْ]. (¬2) " دفاع عن العقيدة والشريعة " لمحمد الغزالي: ص 62. (¬3) " دفاع عن العقيدة والشريعة " لمحمد الغزالي: ص 73.

6410 - ثم يزعم وهو يقدم مفهوم النسخ في الإسلام: «إنَّ الرسول كان يتطور مع الزمن وكان يصطنع وحيًا جديدًا، ينسخ به الوحي القديم كلما لاحت ضرورة» (¬1)، الرسول يصطنع وحيًا جديدًا كلما لاحت ضرورة، إتهام حتى على الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. 11 - ثم يقول: «إنَّ المسلمين - لما فتحوا هذه البلاد وحكموها بما فيها من تقاليد وقوانين بعد أنْ طَوَّرُوا هذه التقاليد والقوانين، وأضفوا عليها من عندهم صبغة دينية ثم جعلوها أحاديث شريفة ونسبوها إلى نبيهم» هذا هو التطور الفقهي في نظره. قد يجيز العقل أنْ يستدين فقير من غني وأنْ يستعين ضعيف بقوي غير أنَّ العقل يحكم باستحالة التلاقي والاستعداد يوم يكون التكافؤ معدومًا بين الطرفين، فمن الحماقة أنْ يقال أنَّ (أرسطو) أخذ أفكاره من أحد الخبازين في أفران أثينا أو من أحد الخبازين في حاناتها، ومن الحماقة أنْ يقال أنَّ (فُورْدْ) أخذ ثروته من مُتَسَوِّلٍ في إحدى كنائس أمريكا. ومن الحماقة أنْ يقال إنَّ (محمدًا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَلَّفَ قرآنه بمعونة أحد الخواجات النازحين إلى مكة يطلبون الرزق. إنَّ هذا البيان الساحر فحواه، القاهر بمعناه يعجز الأئمة العرب عن إتيان بآية مثله، فكيف بنازح أعجمي {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (¬2) (¬3). هذه بعض مزاعمه ومفترياته وأكاذيبه وقد ذكرنا بعضها وَفَنَّدْنَاهَا ولا تكفي هذه العُجالة أنْ تستوفي لجميع مزاعمه، ويأبى الله إلاَّ أنْ يُتِمَّ نوره ولو كره الكافرون. ¬

_ (¬1) " دفاع عن العقيدة والشريعة ": ص 73. (¬2) [النحل: 103]. (¬3) اقتباس من " دفاع عن العقيدة والشريعة ".

هذا وإنَّ المستشرقين - بمجموعهم - بجتمعون مع جولدتسيهر في آرائه وأفكاره فهذا سبرنجر مثلاً يقول: «إنَّ أحاديث نبوية كثيرة زائفة ومُلَفَّقَة». ويقول موير وويل ودوزي: «إنَّ نصف الأحاديث المُدَوَّنة في " صحيح البخاري " ليست أصيلة وغير موثوق بها». ويقول شاخت: «إنَّ أسانيد الحديث النبوي عملية مُلَفَّقَة» ولهذا اكتفيت بتفنيد آراء جولدتسيهر وحده.

الفصل الثاني: السنة والدكتور توفيق صدقي:

الفصل الثاني: السُنَّةُ والدكتور توفيق صدقي: (*) نشر الدكتور - توفيق صدقي - مقالين في مجلة " المنار " (¬1) تحت عنوان (الإسلام هو القرآن وحده) وأتى من الفلسفة العجيبة وقَرَّرَ هدم دعامة من دعائم الدين وادَّعَى اكتفاء الاستنباط من القرآن الكريم وحده وزعم أنَّ السُنَّة كانت خاصة بمن كان في عصر الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنها لو كانت عامة لجميع البشر لبذلوا الوسع في ضبطها ولتسابقوا في نشرها بين العالمين ولما وجد بينم مُتَوَانٍ وَمُتَكَاسِلٍ أو مُثَبِّطٍ لهم. ويزعم «أنَّ عدم كتابة شيء من الحديث إلا بعد عهده - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمدة، كاف في حصول التلاعب والفساد الذي حصل» (¬2). قلنا: إنَّ عدم كتابة شيء من الحديث في عهده - - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يفيد التلاعب والفساد - كما زعم - بل ربما كان عدم الكتابة مما يبالغ في النفس في تأكيد صحة أسانيد السُنَّة إذ رواية الحديث الواحد بطرق متعددة وبأسانيد مختلفة مع حفظ متنه أكبر مدفع لدعوى التلاعب والفساد. هذا إذا سَلَّمْنَا هذه الدعوى فكيف وقد ثبت ما يفيد كتابة الأحاديث في عهده - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه أذن في ذلك، كما سيأتي: ¬

_ (*) طبيب مصري ليس من أهل الاختصاص بالعلوم الشرعية، توفي عام 1920 م. (¬1) في العددين (7، 12) من السَنَةِ التاسعة. (¬2) " مجلة المنار ": 9/ 703.

من ذلك ما رواه أحمد (¬1) عن عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَحَادِيثَ لاَ نَحْفَظُهَا، أَفَلاَ نَكْتُبُهَا؟ قَالَ: " بَلَى، فَاكْتُبُوهَا "». وَعَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُبَ مَا يَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ فَأَذِنَ لَهُ» (¬2). وقد صَحَّ عن أبي هريرة قوله: «مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرُ مِنِّي حَدِيثًا عَنْهُ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو , فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ , وَلاَ أَكْتُبُ» (¬3). يقول: «عدم إرادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن يبلغ عنه للعالمين شيء بالكتابة سوى القرآن المتكفل بحفظه في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ولو كان غير القرآن ضروريًا في الدين لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتقييده كتابة ولتكفَّل الله بحفظه ولما جاز لأحد روايته على حسب ما أداه إليه فهمه (¬4). قلنا: هذه الدعوى غير مسلمة - ولو سلَّمنا جدلاً لما انتجت النتيجة - التي يريدها - وهي أنه لم يرد أنْ يبلغ عنه شيء أصلاً سوى القرآن، لأنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل كثيرًا من الرسل إلى الجهات المختلفة ولم يثبت أنه كان يقتطع لهم من صحف الكتاب ما يكون الحُجَّة في دعوتهم إلى الإسلام. ¬

_ (¬1) " مسند أحمد ": 2/ 215. (¬2) " تقييد العلم ": ص 75. (¬3) رواه البخاري في " صحيحه ": 1/ 206. " سنن الدارمي ": 1/ 125. " مسند أحمد ": 2/ 248. (¬4) " مجلة المنار ": 9/ 203.

على أنَّ أصل وظيفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هي التبليغ {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} (¬1)، وقد قال: «أَلاَ فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وذلك غير مخصوص بالكتاب بل بكل ما سمع منه قرآنًا كان أو سُنَّةً وقد قال تخصيصًا لهذه: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ». قال الدكتور السباعي: «وقصارى القول أنَّ إنكار حُجِيَّة السُنَّة والادعاء بأنَّ الإسلام هو القرآن وحده لا يقول به مسلم يعرف دين الله وأحكام شريعته تمام المعرفة، وهو يصادم الواقع، فإنَّ أحكام الشريعة إنما ثبت أكثرها بالسُنَّة، وما في القرآن من أحكام إنما هي مُجْمَلَةٌ وقواعد كلية في الغالب، وإلاَّ فأين نجد في القرآن أنَّ الصلوات خمسة، وأين نجد ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة، وتفاصيل شعائر الحج وسائر أحكام المعاملات والعبادات» (¬2). وقال ابن حزم - رَحِمَهُ اللهُ - «ونسأل قائل هذا القول الفاسد في أي قرآن وجد أَنَّ الظهر أربع ركعات وأَنَّ المغرب ثلاث ركعات وأَنَّ الركوع على صفة كذا والسجود على صفة كذا وصفة القراءة فيها والسلام وبيان ما يجتنب في الصوم وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة والغنم والإبل والبقر ... وأحكام الحدود وصفة وقوع الطلاق وأحكام البيوع وبيان الربا والأقضية والتداعي والإيمان والأحباس والعمرى والصدقات وسائر أنواع الفقه وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم نَدْرِ كيف نعمل فيها وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة قد جمعناها كلها في كتاب واحد وهو المرسوم بكتاب المراتب فمن أراد الوقوف عليها فليطلبها هنالك فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة، ولو أنَّ امرءًا قال: لا نأخذ إلاَّ ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة ولكان لا يلزمه إِلاَّ ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر لأنَّ ذلك هو ¬

_ (¬1) [آل عمران: 20]، [الرعد: 40]، [النحل: 82]. (¬2) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 165.

أقل ما يقع عليه اسم صلاة ولا حد للأكثر في ذلك وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة مِمَّنْ قد اجتمعت الأُمَّةُ على كفرهم» (¬1). وأما قوله: «ولو كان غير القرآن ضروريًا في الدين لأمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتقييده كتابة ولتكفل الله بحفظه ولما جاز لأحد روايته على حسب ما أداه إليه فهمه» (¬2). فقد ذكرنا أمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابته وإذنه بذلك وأنه قد تكفَّل بحفظه ولم يُجَوِّزْ لأحد روايته على حسب ما أداه إليه فهمه وسيأتي مزيد إيضاحه في باب (اعتراضات منكري السُنَّة). هذا وقد ذكر الدكتور السباعي أنَّ الدكتور توفيق صدقي قد رجع عن آرائه في آخر عمره. ¬

_ (¬1) " الأحكام " لابن حزم: 2/ 79، 80. (¬2) وقد رد على مزاعمه هذه وغيرها كل من الأساتذة الشيخ طه البشري والسيد رشيد رضا والدكتور مصطفى السباعي.

الفصل الثالث: السنة والأستاذ أحمد أمين:

الفصل الثالث: السُنَّة والأستاذ أحمد أمين: (*) من المؤسف حقًا أنْ ينخدع ببحوث المستشرقين وخاصة جولدتسيهر فريق من الكُتَّاب المسلمين المعاصرين الذين تتلمذوا على المستشرقين وهو هجوم لا يبدو واضحًا كما بدت آراء المستشرقين من قبل، بل مقنعًا بستار العلم والبحث والتحقيق العلمي. وكان من أشهر الكُتَّاب الذين سلكوا هذا المسلك الأستاذ أحمد أمين في كتابيه " فجر الإسلام " و " ضُحاه " حين تعرض للكتابة عن الحديث وتدوينه فمزج السم بالدسم وخلط الحق بالباطل وهو في الحقيقة ردَّد لما كتبه جولدتسيهر إلاَّ أنه كان لبقًا وأشد تحرزًا حيث أنه بث السموم في أسلوب هادئ وحاول أنْ يصل إلى غايته من غير أنْ يثير ثائرة الجمهور عليه. وأفرد الأستاذ في كتابه " فجر الإسلام " فصلاً خاصًا بالحديث حاول فيه أنْ يؤرِّخَ السُنَّةَ وتدوينها فبيَّن معنى السُنَّة وقيمتها التشريعية، ثم ذكر أنَّ السُنَّة لم تُدَوَّنْ في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل كان بعض الصحابة يكتبون لأنفسهم فقط. ثم تعرض للوضع في الحديث واستظهر أنَّ الكذب على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ في وقت مُبَكِّرٍ وأشار إلى أنَّ دخول ¬

_ (*) كاتب وأديب معروف، خِرِّيج القضاء الشرعي وعميد كلية الآداب سابقًا ومؤلف " فجر الإسلام " و " ضُحَاهُ " و " ظُهْرُهُ ". إلاَّ أنه كان من دهائه ولباقته يَدُسُّ السُمَّ في الدسم في كتاباته ضد الإسلام والسُنَّة النبوية مسايرة لأهواء سادته المستشرقين المغرضين الحاقدين على الإسلام والمسلمين. انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للسباعي: ص 236 وما بعدها.

الشعوب في الإسلام كان له أثر كبير في الوضع الذي بلغ في الكثرة بعد أنْ اختار الإمام البخاري " صحيحه " من ستمائة ألف حديث كانت شائعة في عصره. ثم ذكر أهم الأمور التي حملت على الوضع وذكر منها تغالي الناس في أغراضهم عن العلم إلاَّ ما اتصل بالكتاب والسُنَّة اتصالاً وثيقًا، وانتهى من ذلك إلى بيان جهود العلماء في مكافحة الوضع وذكر ما يؤخذ عليهم من أنهم لم يعنوا بنقد المتن عُشْرَ ما عنوا بنقد السند ثم تكلموا عن أبي هريرة فقال: إنه لم يكن يكتب بل كان يُحَدِّثُ من ذاكرته وأنَّ بعض الصحابة شَكُّوا في حديثه وبالغوا في نقده ثم ختم هذا الفصل بالأدوار التي مَرَّ بها تدوين السُنَّة حتى عصر البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الكتب الستة. هذا خلاصة ما كتبه الأستاذ عن السُنَّة. وتعرَّضت لبعض آرائه بالنقد في أماكن مختلفة من بحثي هذا وأضيف على البعض ما يلي: يقول الأستاذ متكلمًا عن نشأة الوضع: «ويظهر أنَّ الوضع حدث في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحديث " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " (¬1) يغلب على الظن أنه إنما قيل لحادثة زَوَّرَ فيها على الرسول (¬2) - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وهذا الذي زعمه الأستاذ لا سند له في التاريخ الثابت ولا في سبب الحديث المذكور. أما التاريخ فلم يحدثنا أنَّ أحدًا في حياة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن أسلم وصحبه زَوَّرَ عليه كلامًا ورواه على أنه حديثه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ولو وقع مثل هذا لتوفر الصحابة على نقله لشناعته وفظاعته، كيف وقد كان حرصهم شديدًا على أنْ ينقلوا لنا كل ما يتصل به - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ما يتعلق بحياته العادية. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في ص 169. (¬2) " فجر الإسلام ": ص 258.

وأما الحديث المذكور فقد اتَّفَقَتْ كتب السُنَّة المعتمدة على أنَّ الرسول إنما قاله حين أمرهم بتبليغ حديثه إلى من بعدهم فقد أخرج البخاري في (باب ما ذكر عن بني إسرائيل) من طريق عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ورواه مسلم من طريق أبي سعيد ... وظاهر من هذه الرواية أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد علم أنّض الإسلام سينتشر وسيدخل فيه أقوام من أجناس مختلفة، نَبَّهَ بصورة قاطعة على وجوب التحري في الحديث عنه وتجنُّب الكذب عليه بما لم يقله وَوَجَّهَ الخطاب في ذلك إلى صحابته لأنهم هم المُبَلِّغُونَ إلى أُمَّتِهِ من بعده وهم شهداء نُبُوَّتِهِ ورسالته وليس في هذه الرواية وغيرها إشارة قط إلى أنَّ هذا الحديث إنما قيل لوقوع تزوير على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). وقد ذكر السباعي أسبابًا غير ما ذكرته الرواية السابقة (¬2) وقال في ص 529: «وحسبك دليلا على مقدار الوضع أن أحاديث التفسير التي ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: «لم يصح عنده منها شيء»، قد جمع فيها آلاف الأحاديث، وأن البخاري وكتابه يشتمل على سبعة آلاف حديث منها نحو ثلاثة آلاف مكررة، قالوا: إنه اختارها وصَحَّتْ عنده من ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره». إنَّ كثرة الوضع في الحديث مِمَّا لاينكره أحد، ولكن المؤلف أراد أنْ يستدل على مقدار الوضع بأحاديث التفسير، وأحاديث " البخاري ". وظاهر كلامه أنه يُشكِّكُ في أحاديث التفسير كلها إذ ينقل عن الإمام أحمد أنه قال: «لم يصح منها شيء». والإمام أحمد لا تخفى مكانته في السُنَّة فإذا قال في أحاديث التفسير: ¬

_ (¬1) اقتباس من " السُنَّة ومكانتها ": ص 238، 239. (¬2) اقتباس من " السُنَّة ومكانتها ": ص 240، 241.

لم يصح منها شيء كان كل ما رُوِيَ فيها مشكوكًا بصحته إِنْ لم يحكم عليه بالوضع هذا نتيجة منطقية لظاهر كلام الأستاذ. أما أحاديث التفسير فلا يخفى على كل من طالع كتب السُنَّةِ أنها أثبتت شيئًا كثيرًا منها بطرق صحيحة لا غبار عليها وما من كتاب في السُنَّةِ إلاَّ وقد أفرد فيه مؤلفه بَابًا خَاصًّا لما ورد في التفسير عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الصحابة أو التابعين. وأما ما نقله الأستاذ عن الإمام أحمد في أحاديث التفسير فهو يشير إلى ما رُوِيَ من قوله: «ثَلاَثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَفْسِيرُ، وَالمَلاَحِمُ وَالمَغَازِي» والكلام عن هذه العبارة من وجوه. أولاً: إنَّ في النفس من صحتها شيئًا لأنَّ الإمام أحمد نفسه قد ذكر في " مسنده " أحاديث كثيرة في التفسير، فكيف يعقل أنْ يُخْرِجَ هذه الأحاديث ويثبتها عن شيوخه في " مسنده " ثم يحكم بأنه لم يَصِحَّ في التفسير شيء. ثانيًا: إِنَّ نفي الصِحَّة لا يستلزم الوضع أو الضعف، وقد عرف عن الإمام أحمد خاصة في نفي الصحة عن أحاديث وهي مقبولة. وقالوا في تأويل ذلك أَنَّ هذا الاصطلاح خاص به (¬1). ثالثًا: الإمام لم يقل: إنه لم يصح في التفسير شيء وإنما قال: «ثَلاَثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ ... »، والظاهر أَنَّ مراده نفي كتب خاصة بهذه العلوم الثلاثة بدليل ما جاء في الرواية الثانية مُصَرِّحًا به «ثَلاَثَةُ كُتُبٍ» وهذ المعنى هو ما فهمه الخطيب البغدادي حيث قال: «إِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كُتُبٍ مَخْصُوصَةٍ فِي هَذِهِ المَعَانِي الثَلاَثَةِ ... » (¬2). ¬

_ (¬1) انظر " الرفع والتكميل في الجرح والتعديل " للكهنوي، بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: ص 86. (¬2) اقتباس من " السُنَّة ومكانتها ": ص 243، 244 وانظر ما بعدها.

وأما زعمه أَنَّ البخاري قد انتقى أحاديث صحيحة من ستمائة ألف حديث فسيأتي الحديث عنه في باب (اعتراضات منكري السُنَّةِ). وعندما تعرض المؤلف لعدالة الصحابة قال: (¬1) «وأكثر هؤلاء النُقَّادُ عَدَّلُوا الصحابة كلهم إجمالاً وتفصيلاً، فلم يتعرَّضوا لأحد منهم بسوء ولم ينسبوا لأحد منهم كَذِبًا وقليل منهم من أجرى على الصحابة ما أجرى على غيرهم». إِنَّ مما اتفق عليه الجماهير قاطبة من أهل السُنَّة والجماعة ونُقَّادِ الحديث تعديل الصحابة وتنزيههم عن الكذب والوضع وَشَذَّ عن ذلك الخوارج والمعتزلة والشيعة أصحاب الأهواء والميول المعروفة. ولكن المؤلف - لغرض في نفسه - يُشَكِّكُنَا في هذه الحقيقة فَادَّعَى أولاً أَنَّ أكثر النُقَّادِ عَدَّلُوا الصحابة مع أَنَّ النُقَّادَ جميعًا عَدَّلُوهُمْ وعدالتهم محل إجماع بينهم ثم يزعم أَنَّ قليلاً منهم أجرى على الصحابة ما أجرى على غيرهم مع أَّنَّ الذين تكلموا في الصحابة ليسوا من نُقَّادِ الحديث بل من أصحاب الأهواء والميول المعروفة بالتعصب لبعض الصحابة على بعض الآخر. قال الحافظ الذهبي: قال الحافظ الذهبي: «فأما الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى ... إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى» (¬2). وقال الحافظ ابن كثير: «وَالصَحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ عِنْدَ أَهْلِ السُنَّةِ وَالجَمَاعَةِ»، ثم قال: «وَقَوْلِ المُعْتَزِلَةِ: الصَحَابَةُ عُدُولٌ إِلاَّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا قَوْلٌ بَاطِلٌ [مَرْذُولٌ] وَمَرْدُودٌ» (¬3) وهكذا ذهبت مزاعم الأستاذ هباء وصان الله صحابة رسوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - من تلك الحملات التشكيكية التضليلية التي رفع لواءها هؤلاء المُتَعَصِّبُونَ. ¬

_ (¬1) ص 265. (¬2) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للسباعي: ص 261. (¬3) [" الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث " لابن كثير، تأليف أحمد شاكر: ص 182، نشر دار الكتب العلمية، بيروت. لبنان].

أما مزاعمه في أبي هريرة فقد تناولناها بالرد في باب (اعتراضات منكري السُنَّة). ثم نشر إسماعيل أدهم رسالته في سَنَة 1353 هـ عن تاريخ السُنَّة وَكَذَّبَ فيها أحاديث الكتب الصحاح (¬1) إلاَّ أنَّ أخطر من قام بهذا الدور في العصر الحديث هو محمود أبو رية. فإلى الحديث مع «محمود أبو رية». ¬

_ (¬1) انظر " دراسات في الحديث النبوية وتاريخ تدوينه ": ص 27.

الفصل الرابع: السنة ومحمود أبو رية:

الفصل الرابع: السُنَّة ومحمود أبو رية: (*) ثم بعد هؤلاء تَسَلَّمَ اللواء أبو رِيَّةَ وأخرج كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية " وهو لم يأت بفكرة جديدة ولا باستدلال جديد بل جمع ما كان من الشُبَةِ متناثراً في كتب الشيعة وأئمة الاعتزال والمتكلمين والمستشرقين مع حكايات تذكر في كتب الأدب التي يتفكَّه بها الناس في مجالسهم، وَأَيْمُ الله أنني قرأت فيه مُجَرَّداً من كل عاطفة فوجدت أنه لم يقل شيئاً لم يكن عند أسلافه وإنما الذي فاقهم فيه أنه أكثر خُبْثاً ودناءةً وأسوأ أدباً مع الصحابة الأمناء وأجرأ على الكذب والبُهُتِ والخيانات العلمية. «أما ما ذكره خلال كتابه من نقول عن مصادر محترمة في الأوساط العلمية الإسلامية، فإنها لا تعدو أن تكون وردت في تلك المصادر في مورد غير الذي أورده المؤلف فوضعها في غير مواضعها، أو أن تكون هي في حد ذاتها حقائق مسَلَّمة لدى المحقّقين ولكنهم لا يقصدون منها ما قصده المؤلف، فيذكرها إيهاما للقارئ بأن أصحابها يلتقون معه في فكرته وأهوائه، أو تكون نصوصا «مبتورة» انتزع منها ما يردّ على المؤلف، ولم يذكر منها إلا ما يريد أن يثبته في البحث الذي يتناوله - وسنرى نموذجا لذلك في بحث أبي هريرة - أو أن تكون من أقوال بعض العلماء نقلا عن المعتزلة، فينسبها إلى هؤلاء العلماء أنفسهم، كما فعل فيما نقل عن ابن قتيبة، وبالجملة فإنَّ أصحاب هذه المؤلفات والنصوص التي نسبها إليهم لا يلتقون معه في آرائه ونزعاته» (¬1). ¬

_ (*) كاتب مصري معاصر، عُرِفَ بشدَّة انحرافه عن السُنَّة والطعن فيها باسم حرية الرأي والتحقيق العلمي - على زعمه -، توفي قريباً. (¬1) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 4، 5.

وأما تعريف كلمة السُنَّة عنده فيقول: «ولم تكن السُنَّة يومئذٍ (يعني عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعرف إلاَّ بالسُنَّة العملية» (¬1). ومفهوم السُنَّة العملية عنده هو السُنَّة العملية المتواترة كما قال: «وسنن الرسول المتواترة - وهي السُنَّة العملية - وما أجمع عليه مسلمو الصدر الأول وكان معلومًا عندهم بالضرورة، كل ذلك لا يسع أحد جحده أو رفضه بتأويل أو اجتهاد ككون الصلاة المعروفة خمسًا ... » إلى أَنْ قال: «هذه هي سُنَّة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأما إطلاقها على ما يشمل الأحاديث فاصطلاح حادث» (¬2). وأما بالنسبة لأحاديث الآحاد فيقول: «ومن صح عنده شيء منها رواية ودلالة عمل به، ولا تجعل تشريعًا عامًا تلزمه الأُمَّةُ إلزامًا تقليدًا لمن أخذ به» (¬3). ويقول (¬4): «إنهم جعلوا السُنَّة القولية في الدرجة الثانية أو في الدرجة الثالثة من الدين وإنها تلي القرآن في المرتبة». ثم قال بعد أسطر: «وأما الذي هو في الدرجة الثانية من الدين فهو السُنَّة العملية» ومفهومه أنَّ السُنَّةَ القولية ليست في الدرجة الثانية، ولا ندري ما منشأ هذا الاضطراب وعدم الثبوت على رأي حتى خالف عجز كلامه صدره ثم ما الدليل على التفرقة بين السُنَّة القولية والفعلية، «وليس في كلام الشاطبي الذي استشهد به ما يشهد للتفرقة بين السُنَّة القولية والفعلية بل كلام يدل على أَنَّ المُرَادَ بِالسُنَّةِ القول والفعل والتقرير» (¬5). ومعلوم أَنَّ السُنَّةَ جملة من المرتبة الثانية بعد الكتاب وأنَّ ما ثبت عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أمر الدين يجب اتِّبَاعَهُ وطاعته فيه إذًا فما الفائدة ¬

_ (¬1) " أضواء على السُنَّة المحمدية " لمحمود أبو رِيَّة: ص 404. (¬2) " أضواء على السُنَّة المحمدية " لمحمود أبو رِيَّة: ص 406، 407. (¬3) " أضواء على السُنَّة المحمدية " لمحمود أبو رِيَّة: ص 407. (¬4) " أضواء على السُنَّة المحمدية " لمحمود أبو رِيَّة: ص 17. (¬5) " دفاع عن السُنَّة " للشيخ أبي شُهبة: ص 55.

من هذه التفرقة وما الدليل عليها وما الدليل على عدم جعل الأحاديث الآحاد تشريعًا، إنه يدعو إلى الفوضى في العقيدة والشريعة وإلى المخالفة الصريحة لكتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -. وَيَدَّعِي أَنَّ الذين عنوا بالتشريع من أئمة الإسلام لم يكونوا أهلاً لتمحيص السُنَّة وبيان صحيحها وسقيمها وأنَّ الأدباء وعلماء الكلام من المعتزلة هم أهل لذلك. يقول بعد التعريف بكتابه وذكر عُلُوِّ قدر الحديث النبوي: «وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة فإنَّ العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس وتركوا أمره لمن يُسَمُّون رجال الحديث يتناولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم ... » (¬1). يريد أنَّ أئمة الإسلام وفقهائه كالبخاري ومسلم والنسائي وغيرهم لم يكونوا أهلاً لتمحيص السُنَّة لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض العقول فهم ليسوا عنده بعلماء وإنّض الأدباء وعلماء الكلام من المعتزلة هم أهل ذلك. إنه يحاول الازدراء بالمحدثين ورميهم بالجمود لِيُقَلِّلَ من شأنهم ويتجاهل أَنَّ ما وضعه المحدثون من قواعد لنقد الراوي والمروي هي أدق وأرقى ما وصل إليه علم النقد في الحديث والقديم. «إنَّ علماء الأدب وأضرابهم مِمَّنْ ليسوا من رجال الحديث وصيارفته أكرم على أنفسهم مِنْ أَنْ يقفوا ما ليس لهم به علم، وأنْ يَزُجُّوا بأنفسهم في علوم ومعارف ليسوا أهلاً لها» (¬2). والحقيقة أَنَّ من أمعن النظر في كتابه هذا يدرك أَنَّ الرجل غير موثوق فيما ينقل فكثيرًا ما يزيد في النص الذي ينقله كلمة أو ينقص كلمة لينسجم ¬

_ (¬1) " أضواء على السُنَّة المحمدية " لمحمود أبو رِيَّة: ص 4. (¬2) " دفاع عن السُنَّة " للدكتور أبي شُهبة: ص 46.

مع ما يريد دون ما يريد صاحبه وكثيرًا ما يسند القول إلى غير صاحبه تمويهًا وتضليلاً. فنقل عن ابن كثير في " البداية والنهاية " (¬1) أنَّ عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال لكعب الأحبار: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ (عَنْ رَسُولِ اللهِ) أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ». وعبارة ابن كثير: لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ (عَنْ الأُوَلِ) وليس فيها (عَنْ رَسُولِ اللهِ) ولكن " أمانة " أَبِي رِيَّةَ و (تحقيقه العلمي) أجازا له تحريف هذا النص ليثبت ما ادَّعَاهُ من أنَّ كَعْبًا كان يُحَدِّثُ عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنَّ الصحابة كانوا يأخذون عنه الحديث، وهذه الفرية دَسَّهَا المستشرقون اليهود أمثال «جولدتسيهر» لِيَدَّعُوا تأثير اليهودية في الدين الإسلامي! .. فتلقفها منهم «المحقق العلمي» أَبُو رِيَّةَ، وتبرع لهم بإثبات الأدلة عن طريق «التزوير» (¬2). إنه لم يَتَحَلَّ بالأدب والخُلُقِ الشريف في بحثه فقد أتى بالألفاظ البذيئة والكلمات النابية التي يَتَرَفَّعُ عنها المؤلفون العاديون فضلاً عن المُحَقِّقِينَ المُنْصِفِينَ وجعل من نفسه (العلاَّمة المحقق الأمين) فَتَهَكَّمَ بالمُحَدِّثِينَ ورماهم بالجهل والتساهل فعندما عرض للحن والخطأ في الحديث والتقديم والتأخير والزيادة والنقص منه ص 75 - 79 ثم ذكر عنواناً بالخط العريض فقال: «تساهلهم - أَيْ المُحَدِّثِينَ - فيما يُرْوَى في الفضائل وضرر ذلك». وهو يوهم من لا يعلم أنَّ المُحَدِّثِينَ جميعًا على هذا - مع أنَّ كثيراً من الأئمة كالبخاري ومسلم وابن خزيمة قد جَرَّدُوا كتبهم للصحاح، وَتَحرَّوْا غاية التَحَرِّي في ذكر أحاديث الفضائل، وأيضاً فالمُحَدِّثُونَ لم يأخذوا بالأحاديث الضعيفة في باب الفضائل إِلاَّ بشروط فصلها أهل الفن والتحقيق، فإرسال القول على عواهنه - كما ¬

_ (¬1) 8/ 206. (¬2) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 364.

صنع المؤلف - ليس من الأمانة العلمية في عرض الآراء، وهو إلى التدليس والتلبيس أقرب منه إلى التوضيح والتبيين (¬1). وأما أبو هريرة فقد ترجم له في كتابه فيما يربو على خمسين صفحة ولم يَدَعْ منقصة ولا مَذَمَّةً إلاَّ ألصقها به وزعم «أَنَّ الصحابة والتابعين وفقهاء الإسلام وأئمة الحديث ثلاثة عشر قرنًا كاملةً قد خدعوا بأبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ولم يفطنوا إلى (تفاهة أمره) و (حقارة منبته) وجرأته في الكذب إرضاء للأمويّين، إنهم لم يفطنوا لما فطن إليه «أَبُو رِيَّةَ» فيا لسوء حظ المسلمين الذين حرموا من رأي «أَبِي رِيَّةَ» الصائب وبصيرته النافذة خلال هذه القرون كلها! (¬2). وإليك أمثلة من إسفافه وهذيانه على أبي هريرة: قال في [ص 152]: «وكان بينهم - أي الصحابة - لا في العير ولا في النفير». وقال في [ص 157]: بعد نقله شيئًا من سيرة أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عن مُحَقِّقٍ (مثله) يظهر من هذه الحكايات وغيرها أنه كان مِمَّنْ حضر وقعة صِفِّينْ وأنه كان يصانع الفئتين - ثم قال: وَحَدَّثَ غير واحدٍ أنَّ أبا هريرة كان في بعض الأيام يصلي في جماعة عَلِيٍّ ويأكل مع جماعة معاوية، فإذا حمي الوطيس لحق بالجبل، فإذا سأل قال: «عَلِيٌّ أَعْلَمُ، وَمُعَاوِيَةُ [أَدْسَمُ]، وَالجَبَلُ أَسْلَمُ». وقال في [ص 185]: «ومن كان هذا شأنه - لا يكون - لا جرم - إلاَّ مهينًا لا شأن له ولا خطر». نعم هكذا يهذي ويفتري ويجمع من الحكايات والأكاذيب ولا سيما في موضوع فيه اتِّهام وتجريح لصحابي جليل من صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) " دفاع عن السُنَّة ": ص 73. (¬2) " السُنَّة ومكانتها ": ص 31.

وَسَلَّمَ - وأنه لا في العير ولا في النفير، ثم من قال لك أيها المُحَقِّقُ النظار وصاحبك الذي زعمت أنه محقق، و، وأَنَّ أبا هريرة شهد موقعة صِفِّينَ، حكاية باطلة تبني عليها هذا الحكم الظالم الأليم. ثم هل من المعقول أَنَّ أبا هريرة كان ينتقل بين الجماعتين ويصانع الفئتين ولا ينكشف أمره، يا أيها الناس أليس لكم عقول تعقلون بها؟ ثم كان أبو هريرة مهينًا لا شأن له ولا خطر عند المؤلف لأنه لم يصاحب النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ على ملء بطنه وأنه قد اتَّخَذَ من الصُفَّةِ ملاذًا لفقره ... وهذا أكبر عيب عند «أَبِي رِيَّةَ» يُجَرِّحُ به أبا هريرة والله تعالى مدح أهل الصُفَّةِ ومنهم - لا شك - أبو هريرة. قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (¬1). فيأتي أبو رية فيجعل المفاخر مثالب والفضائل رذائل. فهل رأيت في باب النقد والبحث والتحقيق العلمي والأمانة العلمية شبيهًا لهذا، وفي أي قانون أو عُرْفٍ أو دين يكون السِّبَابُ نقدًا والشتائم بحثًا وتحريف الحقائق وتغييرها تحقيقًا علميًا إِلاَّ في عُرْفِ وقانونِ أبي رية. وقال في [ص 166] تحت عنوان (أول راوية اتُّهِمَ في الإسلام): «أنَّ أبا هريرة اتَّهَمَهُ الصحابة وأنكروا عليه، وكانت عائشة أَشَدُّهُمْ إنكارًا عليه لتطاول الأيام بها وبه ... وَأَنَّ مِمَّنْ اتهم أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعلي، ... ثم زعم أَنَّ عَلِيًّا كان سيئ القول فيه وقال عنه: ألا إنه أكذب الناس أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبو هريرة ... إلخ». ¬

_ (¬1) [البقرة: 273].

ثم تَصَيَّدَ من كلام النظام وغيره من ساداته ما زعم أنه يشهد له. والحقيقة أَنَّ الصحابة كانوا يَرْوُونَ عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذات كما كانوا يَرْوُونَ عنه بالوساطة عن صحابي آخر، وفي بعض الأحيان كان يراجع بعضهم بعضًا فيما يرويه، إما بالتثبت والتأكد لأنَّ الإنسان بنسى أو يغلط وإما لأنه ثبت عنده ما يخالفه أو ما يخصِّصُهُ أو يُقَيِّدُهُ، فليس من الإنصاف أَنْ نَتَّخِذَ من هذه المراجعة دليلاً على اتِّهام الصحابة بعضهم لبعض وتكذيب بعضهم لبعض. وكل ما ذكره من تكذيب عمر وعثمان وعَلِيٍّ له وأنَّ عَلِيًّا كان سيء القول فيه لا يعدو أنْ يكون دعاوى كاذبة مُزَوَّرةٌ، وهذه كتب الثقات في تاريخ الصحابة وحياتهم لا تكاد تجد فيها شيئًا مِمَّا زعم وادَّعَى. وهذه من «الدعاوى الكاذبة التي يطنطن بها [المُبَشِّرُونَ] والمُسْتَشْرِقُونَ ومن تابعهم من الكُتَّابِ المعاصرين الذين جعلوا من أنفسهم أبواقًا لترديد كلامهم» (¬1). وهو في الحقيقة لا يرمي إلى اتِّهَامِ أبي هريرة أو غيره من الصحابة، بل أنه يَتَّخِذُ من اتِّهَامِهِمْ سبيلاً إلى بطلان السُنَّة. فإذا تحقق له تهديم أبي هريرة وغيره فقد تحقق له هدم السُنَّة وبطلانها. جاء في " تاريخ بغداد ": «أنَّ هارون الرشيد - لما أراد ضرب رأس (شاكر) رأس الزنادقة في عصره، سأله عن سبب اتخاذ الزنادقة لخطَّتهم في ابتدائهم مع من يطمعون بتزندقه، بتعليمه كراهية بعض سادات الصحابة، فقال شاكر: «إنَّا نريد الطعن على الناقلة، فإذا بطلت الناقلة أوشك أنْ نُبطل المنقول» (¬2). ¬

_ (¬1) اقتباس من كلام أبي شُهبة في كتابه " دفاع عن السُنَّة ": ص 131. (¬2) " دفاع عن أبي هريرة " للشيخ عبد المنعم صالح العلي العزي: ص 8.

وهكذا صنع أبو رية وغيره ممن قاموا بحملات التشكيك والطعن في الصحابة إلاَّ أنَّ أبا رية كان الحظ الأوفر منها. وقد أطرى كتابه بقوله: «وهذه الدراسة الجامعة التي قامت على قواعد التحقيق العلمي، هي الأولى في موضوعها لم ينسج أحد قبلي على منوالها». نعم لقد صدق وهي الأولى في موضوعها وأسلوبها خلطًا وكذبًا وَتَجَنِّيًا ولم ينسج أحد من قبل على منوالها. «ولا أدري إنْ كان من قواعد التحقيق العلمي التي لم ينسج أحد من قبل على منوالها أنْ يكون مُدَّعِي العلم قليل الأدب بذيء الكلام، شنيع التهجم على من يتصدى لتاريخهم أو على من قد يتصدون للرد عليه في المستقبل؟ ولكن الذي أدريه أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحَيَاءُ مِنْ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالبَذَاءُ مِنْ الجَفَاءِ وَالجَفَاءُ فِي النَّارِ» ولا أدري إِنْ كان «أبو رية» يطعن في هذا الحديث لأنه مِمَّا رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فإليه حديثا آخر يرويه زيد بن طلحة بن ركانة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ» وصدق رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). وسوف ينال أبو رِيَّةَ جزاء فعله ما يستحق عند الله يوم القيامة (¬2). ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 43، 44. (¬2) صدر في الرد على أبي رية كتب منها " ظلمات أبي رية أمام أضواء على السُنَّة المحمدية " للشيخ محمد عبد الرزاق حمزة و " الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السُنَّة من الزلل والتضليل والمجازفة " للشيخ عبد الرحمن المعلَّمي اليماني والدكتور مصطفى السباعي في كتابه الراجع " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " و " دفاع عن السُنَّة " للدكتور محمد أبو شُهبة.

الفصل الخامس: السنة والدكتور أحمد زكي أبي شادي:

الفصل الخامس: السُنَّةُ والدكتور أحمد زكي أبي شادي: ألف كتاباً سَمَّاهُ " ثورة الإسلام " مريداً به الدفاع عن الإسلام فمزج فيه الحق بالباطل وتردَّى بأئمة الحديث وكذب الأحاديث مستهزئاً بمكانتها وزعم أنها مختلقة وأنه لا يمكن أنْ يقبل صحتها العقل وأنَّ أغلبها تدعو إلى السخرية بالإسلام والمسلمين والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول: «وهذه " سُنن ابن ماجه " و " البخاري " وجميع كتب الحديث والسُنَّة طافحة بأحاديث وأخبار لا يمكن أنْ يقبل صحتها العقل ولا نرضى نسبتها إلى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأغلبها يدعو إلى السخرية بالإسلام والمسلمين وبالنبي الأعظم» والعياذ بالله (¬1). ويزعم «وَإمَّا التغني بأبي داود والترمذي والنسائي ومسلم وترديد الأحاديث المُلَفَّقَةِ التي لا تنسجم وتعاليم القرآن وَإمَّا سوء تفسير آيات الكتاب العزيز وَإمَّا الجهل بروح القرآن، وَإمَّا التنازل عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان فبمثابة الخيانة لرسالة الإسلام الخالدة» (¬2). ثم يقول في حديثه مع المستشرقين: «ومع العلم أولئك المستشرقين كعلم المستنيرين من المسلمين بأنَّ الجمهرة من الأحاديث النبوية مختلفة اختلاف الإسناد نفسه الذي لم يكن معروفًا في فجر الإسلام فإنَّ حظَّهم هو التعلق بكل سخف حقير منها للتدليل على سخافة الإسلام وحقارته يساندهم في ذلك من طريق غير مباشر جهلة الكُتَّابِ المسلمين» (¬3). ¬

_ (¬1) و (¬2) " ثورة الإسلام ": ص 25، 44. (¬3) " ثورة الإسلام ": ص 17.

هذا بعض ما كتبه الدكتور عن السُنَّة ورجالها، وهو ترديد لما سبق من كلام أعداء الإسلام من المستشرقين وأذنابهم من الطعن في السُنَّة وتشكيك لما ثبت وصحح على أيدي المحققين أصحاب السُنن الذين حفظوا الإسلام ممثلاً في تراثه الخالد جيلاً بعد جيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها. إنَّ المحققين قد أجمعوا على أنَّ أصح الكتب بعد كتاب الله لهي " صحيح البخاري " فـ " مسلم " ثم " أبو داود "، فـ " الترمذي "، فـ " النسائي "، و " ابن ماجه "، فقوله: «إِنَّ الجمهرة من الأحاديث النبوية مُخْتَلَقَة» هو محض افتراء وكذب وطعن في الصحاح وتجاهل بمكانة السُنَّة التي هي صنو الكتاب في التشريع، على أني لا أضيع وقتي في الرد على مزاعم الدكتور إذ هي ترديد لما سبقت من المستشرقين وتلامذتهم ولأنها ليست قليلة بمكان يمكن أَنْ تضمَّها هذه العجالة السريعة. إنَّ نظرة المؤلف العامة للإسلام نظرة مُشَوَّهَةٌ ومحفوفة بالمخاطر والمطاعن ومن طالع كتابه هذا بإمعان يدرك أنه لا يهدف إلى هدم السُنَّة والطعن فيها فحسب بل يتخذ منها سبيلاً إلى تحريف القرآن والشريعة ليخضعهما - على حسب زعمه - لمتطلبات العصر، وجعلهما عرضة للتبدل بتبدل الأحوال والظروف حتى يصل في نهاية المطاف إلى إبطال الدين والشرائع. يقول (¬1): «إنَّ روح الإسلام التي تقر مبدأ الصالح العام بل تقدِّسه تسمح في هذا العر بأنْ تكون المرأة قوامة على الرجل بقدر ما تسمح بأنْ يكون الرجل قَوَّامًا على المرأة إذ أنَّ مَرَدَّ ذلك إلى الاعتبار الاقتصادي لا أكثر ولا أقل، بخلاف ما كان عليه الحال في فجر الإسلام» ... إلى آخره ... فهو لا يهمه أنْ يبطل مفعول الآية الكريمة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (¬2) ¬

_ (¬1) " ثورة الإسلام ": ص 24. (¬2) [النساء: 34].

تحت ستار الصالح العام وكيف يأتي بعبارة مُنَمَّقَةٍ عليها مسحة البحث العلمي المزعوم ليبطل حكم الله الخالد وسُنَّته التي لا تتبدل ويثبت أنَّ المرأة قَوَّامَةٌ على الرجل ويرجع ذلك - على زعمه - إلى الاعتبار الاقتصادي لا أقل ولا أكثر، أما الدين والخلق فلا عبرة بهما. ثم يقول: « ... والقرآن الشريف والأحاديث النبوية مجموعة مبادئ خلقية وسلوكية مُسببة، بحيث أنَّ أحكامها عرضة للتبدل بتبدل الأحوال والأسباب ففيه شواهد هادئة على ضوئها وأسبابها وظروفها، لا أحكام متزمتة لا تقبل التعديل وفاقًا لتبدل الأسباب والظروف» (¬1). إنَّ الرجل يريد أنْ نُبَدِّلَ القرآن والسُنَّة على حسب أهوائه ونزعاته وشهواته، إنه يظن مصادر التشريع الإسلامي أهون من قوانين أوروبا التي لا تستبدل إلاَّ بعد إجراء تجارب معينة وتحت ظروف وجمعية تشريعية عليا لتصرفها حسب الظروف المتبدلة، إنني أخشى على الإسلام من أعدائه قدر ما أخاف عليه من أبنائه وأدعيائه. إنَّ الرجل عاش وتربَّى في حضن الولايات المتحدة الأمريكية وعايش بعض الأحداث في عصر كان يدين بالحرية المطلقة، وهو معجب بمدنية أوروبا الغربية عامة وبأمريكا خاصة ويُمَجِّدَهَا تمجيدًا قويًا - ولهذا كثيرًا ما يُرَى في كتابه يستشهد بمبادئ أمريكا وحضارتها حتى قال: «إنَّ مبادئ الإسلام نظريًا وعمليًّا هي أقرب ما تكون لمبادئ الحضارة الأمريكية والحياة الأمريكية تفكيرًا وسلوكًا، فهل يتنبَّه المسلمون إلى هذه الحقيقة الراسخة فيفلحوا» (¬2). لم أَرُدُّ عليه وهو يجعل من القوانين الرخيصة الوضعية مثلاً أعلى ومن الحياة الغربية المهنية شأنًا وأي شأن؟؟!! يقول: ¬

_ (¬1) " ثورة الإسلام ": ص 62. (¬2) المصدر السابق: ص 57.

«وما الدفاع الذي تقوم به أمريكا اليوم عن العالم الحر إلاَّ صنو الدفاع الذي رفع لواءه محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (¬1). إنَّ الرجل الذي بلغ الذروة في حبه لأمريكا ومبادئها وحضارتها وأعجب بها أي إعجاب حتى نسي ما تقوم به أمريكا من مساندة وتأييد للصهيونية المجرمة الغاشمة وإسرائيل وغمطها للحق العربي الإسلامي وحق شعب فلسطين. إنَّ المؤلف مُعْجَبٌ بالثورات لذلك سَمَّى كتابه " ثورة الإسلام " وهل ما يدري ماذا جنى المسلمون والعرب من تلك الثورات المتعاقبة على حكوماتهم إلاَّ ضعفًا على ضعف ووهنًا على وهنٍ، إنَّ الثورة بمفهومها تعني التغيير والتبديل بالقوة والتسلط وفرض نفسها بالجبروت والطغيان والاستيلاء على السلطة بالعنف ... فهل جاء الإسلام ثائرًا على البشرية ثائرًا على أوضاعها وتقاليدها، ثائرًا على حياتها ومجتمعاتها .. كَلاَّ إنه جاءها هاديًا للبشرية ورحمة للإنسانية مُنَفِّذًا لها من هاوية الدمار والخراب .. إلى دار السعادة والهناء والبقاء .. والخير والفلاح .. في الدنيا والآخرة. هذا ولا يزال أعداء السُنَّة يواصلون حملات تضليلية تشكيكية مُرَكِّزَةٍ تستهدف السُنَّة بل الإسلام عقيدة وشريعة، فقد نشرت مجلة " العربي " الكويتية (¬2) مقالاً لعبد الوارث بعنوان [ليس كل ما في صحيح البخاري صحيحًا وليست هذه الأحاديث مفتراة فحسب بل منكرة] وطالب فيه بضرورة تنقية كتب التفسير والحديث من هذه الخزعبلات والمفتريات .. على حد زعمه. ومزاعمه هذه ما هي إلاَّ مواصلة لمساعي سادته المستشرقين والغربيِّين المنطوين على الحقد الدفين ضد الإسلام والمسلمين. والأدهى من هذا وأَمَرُّ أنْ يدعو رئيس دولة إسلامية إلى نبذ السُنَّة وإنكارها ويجهر بذلك، فيا لله لدواوين السُنَّة وكُتُبَ الحديث، نعوذ بالله من الخذلان واستحواذ الشيطان، ومن يضلل الله فلا هادي له. ¬

_ (¬1) " ثورة الإسلام ": ص 61. (¬2) مجلة " العربي ": عدد فبراير 1966، ص 138.

الفصل السادس: منكرو السنة في القارة الهندية:

الفصل السادس: مُنكرو السُنَّة في القارة الهندية: تمهيد: سبق أنْ ذكرنا أنَّ كُتُبَ التاريخ لا تحدِّثنا عن أفراد أو جماعات انتسبت إلى الإسلام ودعت إلى نبذ السُنَّة بعد القرن الثاني أو على الأكثر بعد القرن الثالث، وأنَّ الأُمَّة الإسلامية ظلت آمنة طوال أحد عشر قرنًا إلاَّ أنَّ الفتنة قد استيقظت بعد ذلك من قبل المستعمرين. يقول الأستاذ المودودي - رَحِمَهُ اللهُ -: «ما أنْ حل القرن الثالث عشر الهجري حتى دبت الحياة في هذه الفتنة (فتنة إنكار السُنَّة وحُجِيَّتها) من جديد فكانت ولادتها في العراق وترعرعت في الهند، وإنِّ بدايتها لتعود في الهند إلى سيد أحمد خان ومولوي جراغ علي، ثم كان فارسها المقدام مولوي عبد الله جكرالوي ثم تَسَلَّمَ الراية مولوي أحمد دين امرتسري ثم تقدم بها مولانا أسلم جراجيوري وأخيرًا تولى رياستها غلام أحمد برويز الذي أوصلها إلى ساحل الضلال» (¬1). وفي ضوء ما أشار إليه الأستاذ المودودي ينبغي أنْ نَتَعَرَّفَ على أفكار السيد أحمد خان وجراغ علي حول السُنَّة (¬2)، لأنَّ أفكارهما هي التي مَهَّدَتْ الطريق لإعلان خبايا نفوس أهل القرآن الذين صَرَّحُوا بإنكار السُنَّة كلها، وأخذوا يدعون إليها كحركة علمية ثقافية تقدمية فَاغْتَرَّ بالانضمام إليها بعض البُلْهِ ومن لا صلة له بالعلوم الدينية من العامة والمثقفين (¬3). ¬

_ (¬1) " سنت کي اءيني حيثيت ": ص 16. (¬2) انظر " فرقة أهل القرآن ": ص 73 وما بعدها. (¬3) انظر ص 78 وما بعدها من هذه الرسالة.

نشأة أهل القرآن في القارة الهندية:

نشأة أهل القرآن في القارة الهندية: في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي بدأت الدعوات الهَدَّامَةُ تغزو الهند إثر إصابة المسلمين بجمود ثقافي واجتماعي، غير أنَّ مفعولها سَرَى على شكل واضح في ولاية بنجاب بأواسط الهند الموحدة. وما أسوأ حظ هذه البقعة من الأرض حيث كانت مسرحًا لحركتين هَدَّامَتَيْنِ للإسلام - القاديانية وأهل القرآن. ففي سَنَةِ 1900 م ظهر في تلك البقعة ميرزا غلام أحمد القادياني وادَّعَى النبوة، ثم بدأ غلام نبي المعروف بعبد الله جكرالوي (¬1) نشاطه الهدام بإنكار السُنَّة كلها وأسس مذهبه باسم أهل القرآن في سَنَةِ 1902 م. ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن عبد الله الجكرالوي نزيل لاهور، ولد في جكرالة بمقاطعة «ميانوالي» ببنجاب بالباكستان في نهاية العقد الثالث من القرن التاسع عشر الميلادي في أسرة علم ودين. وتلقى علومه الأولية علي يد والده ثم في المدارس الأهلية المجاورة لبلدته وأخيرًا سافر إلى «دهلي» لدراسة الحديث الشريف على يد «ميان نذير حسين» المُحَدِّثُ الشهير، وبعد العودة من «دهلي» أصبح شيخًا من شيوخ (أهل الحديث) ودخل في مجال التأليف والنشر ولعل أول انحرافه عن جادة الحق يعود تاريخه إلى العقد الأخير من القرن التاسع عشر عندما ناظره ابن عمه (القاضي قمر الدين) في أوائل هذا العقد بطرح معضلات أمام عبد الله في الحديث الشريف ما أوقعته في اللُّبْسِ فقال قولته المشهورة: «هذا هو القرآن المُوحَى به وحده من عند الله إلى محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنَّ ما عداه فليس بوحي». ثم شرع في تصنيف تفسيره للقرآن الكريم واتخذ لاهور مقرًا دائمًا لنشر دعوته الجديدة، وكان يجيد اللغة العربية وله باع طويل في علومها المختلفة وكان مُنَاظِرًا جَيِّدًا وَجَدَلِيًا بارعًا خَلَّفَ مؤلفات عديدة. مرض في بدلية 1912 م فنصحه الأطباء بمغادرة لاهور واختيار موضع آخر لسكناه حرصًا على صحته فانتقل إلى «ملتان» ثم إلى «ميانوالي» القريبة من جكرالة وظل طريح الفراش إلى أنْ أنخرته المنية سَنَةَ 1914 م (انظر " نزهة الخواطر " [عبد الحي بن فخر الدين الحسني]: 8/ 289).

أسباب نشأة أهل القرآن:

وقد تزعم حركة أهل القرآن في بداية الأمر شخصيتان «محب الحق عظيم آبادي» (¬1) في بهار - شرقي الهند - و «عبد الله الجكرالوي» في لاهور في آن واحد. غير أنَّ الأول لم يخالف المسلمين في الأعمال الظاهرة بل كان متمثلاً لها كأي فرد من المسلمين باستنباط ذلك من القرآن الكريم دون اللجوء إلى السُنَّة الشريفة (¬2) مع ما سجله من المخالفات الظاهرة كإنكاره وجود منصب الإمامة في الإسلام لعدم ذكر القرآن له وغير ذلك. وأما عبد الله فقد خالف المسلمين منذ اللحظة الأولى ابتداء من ثاني أركان الإسلام إلى أنْ أدى به المقام إلى تشكيل فرقة جديدة باسم (أهل الذكر والقرآن). أسباب نشأة أهل القرآن: كانت المصادر التي بحثت عن نشأة أهل القرآن وخروجهم إلى حَيِّز الوجود تتفق على أنهم الثمرة الطبيعية للحركة التي بذر بذورها أعضاء حركة السيد أحمد خان (¬3) وقد تحدث عن ذلك الشيخ ثناء الله ما نصه «ما أشأم ذلك اليوم ¬

_ (¬1) هو الحافظ السيد محب الله ولد في آخر السبعينات من القرن التاسع عشر وكان حنفي المسلك في أول الأمر ثم تحول عنه وأصبح عضوًا غير بارز في زمرة أهل القرآن وله مؤلفات عديدة: [1] دعوة الحق، [2] شرعة الإسلام، [3] منهاج الحق، [4] بلاغ الحق. وقد صَنَّفَ كتابه الأول والثاني قبل الانضمام إلى أهل القرآن، والثالث أثناء تذبذبه والأخير فيه التصريح بعدم أخذ السُنَّة في الدين، توفي في أواخر الخمسينات من القرن العشرين. (¬2) " انكار حديث ايك فتنة ايك شازش ": ص 179 للبروفسور محمد فرمان. (¬3) انظر " نصرة الحديث ": ص 2 للشيخ حبيب الرحمن الأعظمي و " سنت کي اءيني حيثيت " لأبي الأعلى المودودي: ص 16 و " فرقة أهل القرآن بباكستان وموقف الإسلام منها ": ص 4. رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير من الشيخ خادم حسين إلهي بخش في جامعة الملك عبد العزيز سَنَةَ 1400 هـ.

الذي خرج فيه صوت عليكره (¬1) المخالف لجميع الأمة الإسلامية الداعي إلى الاعتماد على القرآن وحده في الدين أو السُنَّة لا تكون دليلاً شرعيًا، فأثر هذا الصوت على الحافظ محب الحق العظيم آبادي في " بتنة " بالهند كما أثر على عبد الله جكرالوي في لاهور بباكستان أعظم تأثير» (¬2). 2 - أصابت المسلمين بجمود ثقافي واجتماعي وجهل الكثيرين منهم بأمور دينهم مما نتج عنه فقدان العلم الصحيح بين الأوساط الإسلامية. 3 - استغلال الدولة المستعمرة تربية بعض الأفراد المنحرفين ممن تسموا بالمسلمين مباشرة أو بالوساطة وشحن أفكارهم لصالحها ولو على حساب الدين، مما تضمن بهم الولاء على المسلمين وكان على رأس هؤلاء غلام أحمد القادياني وعبد الله جكرالوي وأتباعهما. 4 - اغترار بعض الفئات بالنظريات العلمية الأوروبية المنتشرة خلال النصف الأول من القرن العشرين وتفسير الحقائق الإسلامية على ضوء تلك النظريات والتوفيق بينها وبين الإسلام، وقد ترأس أتباع سيد أحمد خان إيجاد ¬

_ (¬1) المراد به حركة السيد أحمد خان الممثلة في دعوة المسلمين إلى تقليد المستعمرين في كل أمور الدنيا والدين وأنَّ هذا هو طريق التقدم والرقي والحضارة وأنَّ المسلمين إذا ما أرادوا أنْ يلحقوا بركب الحضارة فعليهم أنْ يُقَلِّدُوا الإنجليز في كل شيء. على هذا الأساس قامت حركة السيد أحمد خان فقد أنكرت ما تنكره الثقافة الغربية ولو كان دينًا وأثبتت ما تثبته ولو كان مخالفًا للدين ولإجماع المسلمين. يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: «أما القيادة الثانية التي تزعَّمها السيد أحمد خان على أساس تقليد الحضارة الغربية وأُسُسِهَا المادية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها، على علاتها وتفسير الإسلام والقرآن تفسيرًا يطابق ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة في آخر القرن بما لا يثبته الحس والتجربة ولا تقرره علوم الطبيعة في بادئ النظر من الحقائق الغيبية وأمور ما بعد الطبيعة» انظر " الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ": ص 71. أما رأيه في السُنَّة فسيأتي في ص 85. (¬2) " فرقة أهل القرآن ": ص 77.

هذا الانسجام، ثم تبعهم أهل القرآن في هذا المسلك لوجود الصلة الروحية بين الفريقين (¬1). 5 - ولعل السبب المباشر لنشأة أهل القرآن هو شعورهم بضرورة وحدة الصف الإسلامي والخلاص من الفرق المتعددة (على حد زعمهم) من الحنفية والشافعية والمالكية .. وجميع المسلمين تحت راية واحدة، لكنهم ضلوا الطريق لجهلهم بالإسلام وأسس الحكمة (¬2). ومهما تعددت أسباب نشأتهم إلاَّ أنَّ في طبيعة هذه الأسباب إنما هو الزيغ والإلحاد والضلال وحب الشهرة والرئاسة والحصول على المكانة المرموقة عند المستعمر وكسب المكاسب المادية منه. ¬

_ (¬1) كنظرية الارتقاء في خلق آدم ووجود الجنس البشري وتأويل الآيات القرآنية على ضوء هذه النظرية. انظر " إبليس وآدم " للبرويز: ص 6 - 35. نقلاً عن " فرقة أهل القرآن وموقف الإسلام منها ": ص 7. (¬2) " فرقة أهل القرآن وموقف الإسلام منها ": ص 7.

أشهر زعماء أهل القرآن:

أشهر زعماء أهل القرآن: 1 - الخواجه أحمد دين الأمرتسري: ولد في عام 1861 م بمدينة امرتسر بالهند، وتلقى علومه الدينية في امرتسر وغاية ما وصل إليه من التعليم المنتظم هو الثانوية الإسلامية في امرتسر، غير أنَّ جِدَّهُ وشغفه بالمطالعة أكسباه شهرة واسعة فَعُيِّنَ عضوًا لهيئة التدريس في المدرسة الإسلامية بامرتسر. وفي 1917 م أحيل إلى التقاعد ثم دَرَّسَ مُدَّةً في مدرسة البنات وكان يجيد اللغة العربية والفارسية والأردية والإنجليزية، وقد نبغ في كل علوم الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والفلك والمنطق والعلوم الإسلامية كما كان يعرف علم النبات وطبقات الأرض وغيرها من العلوم الشائعة آنذاك (¬1). وقد اتصل بعبد الله الجكرالوي في 1902 م وكثيرًا ما كان الخواجه يزروه لتبادل الآراء والمناقشة حول العديد من المسائل العلمية فيقنع عبد الله الخواجه أحيانًا كما كان يقنع هو بآراء الخواجه أحيانًا أخرى. هذا وقد قام الخواجه بتأسيس طائفته النفصلة بامرتسر في عام 1926 م واختار لها اسم (أُمَّة الإسلام) وأصدر مجلة " البلاغ " خاصة بهذه الجماعة تحمل أفكارهم وتنشر نظرياتهم الخاصة وقد استطاع أنْ يجذب إليه كثيرًا من الأثرياء والبلغاء والنبهاء، وَيُوَسِّعَ نشاط هذه الفرقة بسبب دماثة خُلُقِهِ. وكان يمتاز بعمق الفكر فيما يكتب فيه يفوفي الموضوع حقه من جميع جوانبه بالاعتماد على القرآن وحده دون اللجوء إلى ما عداه. وله مؤلفات ¬

_ (¬1) " فرقة أهل القرآن ": ص 19.

2 - الحافظ أسلم جراجبوري:

عديدة، من أشهرها " معجزة القرآن " (مجلد واحد) مات في 1936 من بعد أنْ ظل طريح الفراش ثلاثة أشهر. 2 - الحافظ أسلم جراجبوري: ولد في جراجبور عام 1880 م بالهند في أسرة أهل الحديث وحفظ القرآن قبل أنْ يناهز التاسعة من عمره ولذلك لُقِّبَ بالحافظ. ثم درس الفارسية والإنجليزية ثم الرياضيات كما أنه درس العربية على مولانا فتح الله. والمعروف أنه لم يدرس في مدرسة منظمة إلاَّ أنَّ شغفه بالعلم والمطالعة سَمَا به إلى مكان مرموق وقد تنقل مُدَرِّسًا في عدة مراحل. ولعل صلته بأهل القرآن ترجع إلى قلقه النفسي من جراء مسألة حجب ابن الابن بعد وفاة أبيه مع عمه، يقول: أثناء دراستي للسراجي (¬1) وقفت في مسألة حجب ابن الابن مع عمه، ولم تلق في نفسي قبولاً فبحث في علم الفرائض فلم أجد لي موافقًا، وأخيرًا وجدت القرآن يوافق ذلك (¬2). وقد أخرج كتابًا باسم " محجوب الإرث " نقد فيه قواعد الميراث المجمع عليها بين المسلمين. والحافظ يمتاز - من بين أهل القرآن - باطِّلاعه الواسع وكثرة مؤلفاته في النقد للعلوم المستنبطة لخدمة السُنَّة. وهو يعتبر الرجل الثاني - بعد برويز - من حيث التأليف والقيام بنشر أفكار أهل القرآن. وقد مات في 28 ديسمبر عام 1955 م عن عُمُرٍ قارب الخمسة والسبعين. ¬

_ (¬1) يشير بذلك إلى " السراجي في علم الميراث " لسراج الدين محمد الحنفي. (¬2) " فرقة أهل القرآن ": ص 26.

3 - برويز:

3 - برويز: هو غلام أحمد برويز بن فضل دين، ولد في عام 1903 م، في بلدة بثالة القريبة من قاديان بالبنجاب الشرقية في الهند في أسرة علمية وتلقى علومه الدينية الأولى في كنف جده ولم يتجاوز في دراسته الثانوية ثم انتقل إلى المحيط العملي فتوظف في المطبعة الحكومية. وبعد استقلال باكستان انتقل إلى كراتشي ونشط في دعوته نشاطًا بالغًا لخلو الجو من المعارضة آنذاك فوضع لمؤيِّديه أسسًا واضحة وجعل لهم مكاتب فكر تحت إدارته ولم تمض بضع سنوات حتى عَمَّ ذكره في أرجاء باكستان وانضم إلى صفوفه كثير من المثقفين المحامين والمحاضرين والطلاب والمهندسين. وكان يمتاز بالاطلاع الواسع على الأفكار الأوروبية ويرمي وجوب صيغ الإسلام بها، وهو يعتقد أنَّ النظريات العلمية حقائق لا تقبل الجدل والمناقشة بل يجب تفسير القرآن بمقتضاها (¬1). كما أنَّ أسلوبه في المؤلفات يجلب قارئه من حيث يذهل عما دَسَّ فيها من الأباطيل، أما التأويل وصرف الكلمات عن معانيها الحقيقية في كتبه فَحَدِّثْ ولا حرج، فما من معتقد إسلامي إلاَّ مَسَّهُ قلم برويز بالتأويل بأسلوب لا يفطن إليه إلاَّ المتعمق في دراسة العلوم الإسلامية. والرجل قد تتلمذ على الحافظ أسلم وورث منه جميع مخلَّفات الخواجه الفكرية حول السُنَّة، ويُعَدُّ السيد أحمد خان في قائمة مفكري هذا العصر ويمدح عبد الله الجكرالوي في منهجه وَيَدَّعِي كمال الدين في القرآن وعدم التسليم لغيره في الحُجَّةِ والبرهان، وهو يعتبر أكثر أهل القرآن كتابة وتأليفًا (¬2). ¬

_ (¬1) " فرقة أهل القرآن ": ص 32. (¬2) انظر " فرقة أهل القرآن ": ص 35.

ولا يزال الرجل حَيًّا يسعى ويجتهد في نشر أفكاره وحزبه (طلوع اسلام) أقوى أحزاب أهل القرآن الموجودين في الوقت الحاضر. ويوجد في الوقت الحاضر أربع فرق من أهل القرآن (¬1) ويجمعهم أمران: 1 - القول بالاكتفاء على القرآن وحده في أمور الدنيا والآخرة. 2 - وأنَّ السُنَّة النبوية - عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَلاَةِ وَالسَّلاَمُ - ليست بحجة في الدين فلا مجال لإقحامها فيه، وبهذا نعرف الفرق بين أهل القرآن وغيرهم من منكري السُنَّة، فهؤلاء ينكرون السُنَّةَ أصلاً كمصدر للتشريع بينما غيرهم يثيرون الشُبُهَاتِ حولها. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: «إنَّ الذين يثيرون الغبار حول السنة فريقان، فريق ظهر مروقه من الدين مروق السهم من الرمية وقد ظهرت هذه الطائفة في الهند وباكستان والْتَقَيْتُ بنفر منهم فحكمت بادي الرأي عليهم بحكم لاَ يَسُرُّ أتباعهم في مصر، ذلك أنَّ هؤلاء لا يكتفون بإنكار حُجيَّة السُنَّة بل يفسرون القرآن بأهوائهم وما يعرفون كلمة عربية بل يفسرون الترجمة الأعجمية الباطلة ويضربون الكتاب بعضه ببعض فينكرون حكم آيات المواريث وحكم آيات الصدقات بل ينكرون بعض الصلوات وهكذا كان علمهم إنكارًا وتفكيرهم ضلالاً، وأصل هؤلاء من منبوذي الهنود دخلوا الإسلام ليفسدوه فضل سعيهم .. وساء ما يفعلون ويقولون، وقد وجدنا أتباعًا لهذه النحلة الضالة المضلة في مصر .. والفريق الثاني من هؤلاء لا يظهرون إنكار حجية السُنَّة ولكنهم يكثرون من التشكيك فيها وفي الرُوَاةِ وَيَدَّعُونَ أنهم يريدون تنقيتها، وأولئك منهم من يلبس العمائم ¬

_ (¬1) انظر " فرقة أهل القرآن ": ص 39.

سيد أحمد خان (2) وموقفه من السنة النبوية:

وَيَتَزَيَّ بِزِيِّ الإسلام ويتسربل بسربال علمائه .. ويقول: إنه تَخَرَّجَ من معاهد أقيمت للدراسة الإسلامية. وهؤلاء نقول لهم: بدل أنْ تطعنوا بالجملة: خَصِّصُوا وادرسوا إنْ كنتم مخلصين وائتونا بمجموعة تقيمون الدليل فيها على عدم صدق النسبة إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما أنْ تلقوا القول على عواهنه وتثيرون الغبار في الجو كله .. فإنَّ ذلك يدل على فساد المقصد وسوء الطوية ويثبت أنكم لا تريدون للإسلام عزًا ولا لأحكامه تقريرًا وتثبيتًا (¬1). سيد أحمد خان (¬2) وموقفه من السُنَّة النبوية: سبق أنْ ذكرنا أنَّ نشأة أهل القرآن إنما كانت الثمرة الطبيعية للحركة التي بذر بذورها أعضاء حركة السيد أحمد خان وذكرنا أنَّ حركة السيد أحمد خان ¬

_ (¬1) من مقال له في مجلة " حضارة الإسلام ": العدد 5 - السَنَة 8، ص 25. (¬2) هو سيد أحمد خان بن أحمد مير التقي بن عماد الحسيني، ولد في دهلي في بيت شرف وعِزٍّ في 17 أكتوبر 1817 م، بدأ دراسته بالقرآن الكريم ثم درس بعض كتب الفارسية والعربية، وفي 1838 م توفي والده وكانت وفاته نقطة تحول في حياته لانقطاع الراتب الذي كانت الأسرة تتقاضاه من الديوان المغولي، فاتصل بشركة الهند الشرقية للعمل بها فأعجب الإنجليز بذكائه فرقوه حتى أوصلوه إلى درجة مساعد القاضي في المحاكم الإنجليزية وبدأت حياته العملية بتصنيف الكتب وإصدار المجلات الثقافية والعلمية وانتهت بتأسيس المدارس والمعاهد وأخيرًا جامعة عليكره، ففي 1847 م أخرج كتابه الشهير " آثار الصناديد " في ذكر الآثار القديمة لمدينة دهلي، ومن آثاره العلمية " أسباب الثورة في الهند " و " خطبات أحمدية " و " تاريخ بجنور " و " تصحيح آثين أكبرى) وغيرها. هذا بالإضافة إلى ما كتبه في مجلة " تهذيب الأخلاق " التي جمعها الشيخ محمد إسماعيل ونشرها تحت اسم (مقالات سر سيد) كما أنَّ له تفسيرًا للقرآن الكريم وفيه التحامل الواضح لاستنباطات معينة من القرآن الكريم، وكانت وفاته 27 مارس 1898 م. اهـ. مُلَخَّصًا من " نزهة الخواطر ": 8/ 30 و " فرقة أهل القرآن ": ص 75.

كانت تقوم على أساس تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية وأنه لا بُدَّ للمسلمين إذا أرادوا الرقي والتقدم والازدهار أنْ يتخلَّوا عن مبادئ دينهم ونظم شريعتهم وأنْ يُقَلِّدُوا مستعمريهم في كل شؤون دينهم ودنياهم، فهذا طريق رُقِيِّهِمْ وتقدمهم. وأما موقفه من السُنَّة فيتَّضح مما سجله بقلمه في العديد من كتبه وقد استغرقت بحوثه عن السُنَّة والأحكام الواردة عن طريقها الجزء الأكبر من مقالاته الدينية فبدأ بالتأويل في المغيبات الواردة عن طريقها مثل تأويله في تعريف الشيطان بأنه «القوى العدائية التي لا يملك الإنسان السيطرة عليها» (¬1). ثم تقدم خطوة فأنكر الجزئيات من السُنَّة مثل إنكاره للسُنَّة الواردة في مماثلة الأراضين للسماوات في العدد، فقال: «إنَّ هذا التصور مما كان يقول به الجاهليون دون سواهم .. وبناء على لفظ {مِثْلَهُنَّ} في الآية (¬2) وضعت تلك الروايات كلها في هذا الباب والله ورسوله بريء منها» (¬3). ومثل إنكاره للأمر الخارق للعادة، فما كان منه في القرآن نفاه على أنه لم يقع كَنَفْيِهِ إلقاء إبراهيم في النار وولادة عيسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - من غير أب، وابتلاع الحوت ليونس - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - (3) أو حمله على الاستعارات والمجازات، وما كان من الخرق في السُنَّةِ أنكره استنادًا إلى أنه مخالف للقوانين الطبيعية ولا يصح الخلف في القوانين الطبيعية البتة (3). ثم تقدم خطوة فقال: «بعد وفاة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظلت الروايات تتناقل على الألسنة إلى عهد التصنيف في الكتب المعتمدة، غير أننا لا نستطيع ¬

_ (¬1) " فرقة أهل القرآن ": ص 77. (¬2) يشير إلى قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]. (¬3) " فرقة أهل القرآن ": ص 78.

أن نغض الطرف عن الصورة التي دُوِّنَتْ بها كتب الأحاديث تلك التي كان مبناها روايات الذاكرة .. بينما البعد الزمني كفيل بمزج الزائد بها وإضافة الجديد إليها» (¬1). ويضيف قائلاً: «بأنَّ ما دُوِّنَ في هذه الكتب من الأحاديث إنما هي ألفاظ للرُواة ولا نعرف ما بين اللفظ الأصلي - الصادر من سفتيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمُعَبِّرُ به من وفاق أو خلاف وليس من العجب أنْ يخطئ أحد الرُواة في فهم الحديث مما يكون سببًا في ضياع المفهوم الصحيح» (¬2). وبناء على هذا جعل الأحكام المستنبطة من السُنَّة بوجه عام أحكامًا لا يجب على المسلم اتِّبَاعَهَا «وأنَّ ما استخرج العلماء من نصوصها الحالية إنما هي أحكام اجتهادية لا نَصِّيَةَ فيها ولا حتمية لاحتمال ألاَّ يكون ذلك مقصوده - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -» (¬3). ثم خطا خطوة أخرى إلى الأمام فعاتب المحدثين والسلف مُحَمِّلاً إياهم التقصير في عدم تمحيص متون السُنَّة مثل السند فقال: «وإنا لنشكر المحدثين جهودهم المبذولة في هذا الشأن غير أنَّ جُلَّ مساعيهم بل كلها لم تتجاوز توثيق الرُواة وعدمه بينما أولئك الرُواة قد مضى على وفاتهم زمن طويل ثم أعقب ذلك دور التحقيق عنهم بحيث يكون هو العمدة في قبول الحديث ورده، فإنْ لم يكن هذا العمل مستحيلاً فلا يخلو أنْ يكون أمرًا في غاية الصعوبة» (¬4). كما قال أحمد أمين في " ضُحَى الإسلام " (¬5). وفي نهاية المطاف حاول أنْ يُجْهِزَ على السُنَّة بوضعه الشروط التي يَتَعذَّرُ توفرها في أغلب الأحاديث فقال: «والمعيار السليم لقبولها هو أنْ ينظر إلى المروي بمنظار القرآن، فما وافقه أخذناه ولما لم يوفقه نبذناه ... وإنْ نُسِبَ شَيْءٌ من ذلك إلى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيجب أن يتوفر فيه ثلاثة شروط. ¬

_ (¬1)، (¬2)، (¬3)، (¬4) " فرقة أهل القرآن ": ص 79. (¬5) " ضُحى الإسلام " لأحمد أمين: 2/ 130.

1 - أَنْ يكون الحديث المروي قول الرسول بالجزم واليقين. 2 - أَنْ توجد شهادة تثبت أنَّ الكلمات التي أتى بها الراوي هي الكلمات النبوية بعينها. 3 - أَلاَّ يكون للكلمات التي أتى بها الرُواة معان سوى ما ذكرها الشُرَّاحُ. فإن اختلف أحد هذه الشروط الثلاثة لم يصح نسبة القول إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو إنه حديث من أحاديثه» (1). وهذه الشروط لا تتوفر إلاَّ في المتواتر اللفظي دون سائر السُنَّة الصحيحة المتواترة تواترًا معنويًا أو السُنَّة الآحادية التي عليها مدار الأحكام الشرعية عند المسلمين، إذًا فمعنى هذا نبذ السُنَّة كمصدر تشريعي للدين الحنيف. ويعلم من هذا أنَّ المؤلف باشتراط هذه الشروط يريد أنْ يتوصَّل تدريجيًا إلى إنكار السُنَّة وَحُجِيَّتُهَا وأنْ يُجْهِزَ عليها كليًا لأنَّ هذه الشروط يتعذَّرُ توفرها في أغلب الأحاديث. ولا غرابة منه هذا فقد أنكر الجنة والنار والملائكة وكثيرًا من أمور الآخرة التي تواترت النصوص على ثبوتها ووجودها.

جراغ علي وموقفه من السنة:

جراغ علي وموقفه من السُنَّة: يعتبر جراغ عَلِي (¬1) أحد أعمدة المدرسة التي أسَّسَهَا السيد أحمد خان ومن أكبر المدافعين عن آراء السيد كما أنه حاول أنْ يصبغ الإسلام بالحضارة الغربية مثل أستاذه - السيد أحمد خان - فَأًوَّلَ نصوص الإسلام بما يتلاءم مع تلك الحياة الأوروبية. يقول الدكتور محمد مصطفى الأعظمي: «إنَّ المستعمرين قد تَنَبَّهُوا لخطورة روح الجهاد بالسيف فشرعوا بالطعن في أحاديث الجهاد وكان جراغ عَلِي والمُتَنَبِّ الكذاب القادياني من قادة هذه المدرسة كما أنتجب الروح الإنهزامية رجالاً مثل السيد أحمد خان وعبد الله جكرالوي وأحمد أمرتسري وآخرين ... » (¬2). وأما موقفه من السُنَّة فإنه يكشف النقاب عنه قوله: «إِنَّ القرآن كامل من كل الوجوه ويواكب سير الحضارة وتطورها ويرفع مُتَّبِعِيهِ إلى أعلى درجات الرُقِيِّ والتمدن، فإنْ أحسنَّا تفسيره وتعبيره سلك بنا هذا المسلك، وإنْ قَيَّدْنَاهُ بآراء المفسرين ومنهجهم وحصرناه في الروايات فإنَّ الوضع ¬

_ (¬1) هو جراغ عَلِي بن محمد، ولد سَنَةَ 1844 م في أسرة علمية وقد اكتفى بالمتوسطة في الدراسة المنتظمة غير أنَّ شغفه بالمطالعة وَحُبَّهُ للاطلاع وذكاءه النادر أوصله إلى مكان مرموق، ففي 1873 م أخذ الرجل يتأثر بما كانت تنشره مجلة " تهذيب الأخلاق " التي كانت تصدرها حركة السيد أحمد خان، وبعد مُضِيِّ بضع سنوات أخذ هو الآخر يكتب في تلك المجلة على منوال السيد نفسه إلى أنْ أصبح أحد أعضاء حركة عليكره البارزين. توفي سَنَةَ 1895 م (انظر للتفصيل مقالة " جراغ عَلِي " أيم أي أردو 1971 م. جامعة بنجاب لاهو باكستان) نقلاً عن فرقة أهل القرآن ص 81). (¬2) " دراسات في علوم الحديث ": ص 28.

ينقل رأسًا على عقب فنسير نحو الهبوط والهاوية بدلاً من التقدم ومسايرة الركب لأنَّ الروايات لم يصح منها إلاَّ القليل بل جُلُّهَا فرضيات وأوهام للعلماء أو أنها دلائل قياسية وإجماعية. وهذا المسلك هو ما يسير عليه قانون الشريعة والفقه ولا شك أنَّ مثل هذا المسلك يحجز عن الرقي والتقدم ومسايرة ظروف الحياة» (¬1). ويقول: «إنَّ المحقِّقين الذين جمعوا الأحاديث ومَيَّزُوا بين سقيمها وصحيحها صَرَّحُوا بأنَّ الحديث مهما قوي سنده لا يمكن الاعتماد عليه وما ذكر فيه غير حتمي قطعًا، فلو أَمْعَنَّا النظر في هذه الحقيقة لاضطررنا أنْ نقول: إنَّ معايير الصدق والأصول العقلية لا حاجة لإقامتها لتمير الحديث لأنَّ الحديث في حَدِّ ذاته لا يمكن الاعتماد عليه ولا اعتبار لما يتحدث عنه» (¬2). هذا وإنَّ نظرة جراغ عَلِي العامة للإسلام نظرة مُشَوَّهَةٌ محفوفة بالمطاعن، ومن اطَّلع على آرائه المختلفة في الشريعة وشعائرها أدرك أنه لا يهدف إلى هدم السُنَّة فحسب بل يَتَّخِذُ من هدمها سبيلاً إلى تحريف القرآن والشريعة ليصل في نهاية المطاف إلى إبطال الدين والشرائع. يقول عن الجهاد: «ليس المراد من الجهاد هو قتال العدو وحربه كما يُفَسِّرُهُ علماء المسلمين والمستشرقين بل معناه بذل الوسع في تحقيق الشيء المراد حصوله، وأما تفسيره بحرب فلا تسنده اللغة العربية ولا الآيات القرآنية، بل إنَّ علماء الأدب يُقِرُّونَ بأنَّ الجهاد غير الحرب البَتَّةَ» (¬3). ¬

_ (¬1) و (¬2) " فرقة أهل القرآن ": ص 84. (¬3) " فرقة أهل القرآن ": ص 82.

ويقولون عن الزكاة «لم يُعَيِّنْ القرآن المقصود من الزكاة، وإنما أمر بإعطاء الفقراء ما زاد عن الحاجة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (¬1)، (¬2). هذا وقد كان لآرائه وآراء السيد أحمد خان وأعضاء حركتهما الآخرين الأثر الأكبر في الجهر بإنكار السُنَّة كلها مِمَّنْ جاء من بعدهم - في القارة الهندية - وَتَبَنَّى أفكارهم ودعا الناس إليها فلم يأت إنكارهم لِلْسُنَّةِ إلاَّ تمهيدًا لإنكار شرائع الدين وأحكامه حتى كان نهاية مطافهم أنْ حَرَّفُوا القرآن وأخضعوه لنظرياتهم الباطلة فمرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ومن يضلل فلا هادي له. وأما شُبُهَاتُ أهل القرآن فسنورد أهمها في الباب القادم مع تفنيدها بإيجاز إنْ شاء الله. ¬

_ (¬1) [البقرة: 219]. (¬2) " فرقة أهل القرآن ": ص 83 وما بعدها.

الباب الرابع: شبهات منكري السنة:

الباب الرابع: شُبُهاتُ منكري السُنَّة: وفيه فصلان: 1 - شُبُهَاتُ مُنكري السُنَّة عموماً. 2 - شُبُهَاتُ فرقة أهل القرآن في القارة الهندية.

الفصل الأول: شبهات منكري السنة:

الفصل الأول: شُبُهَاتُ مُنْكِرِي السُنَّةِ: تَعَلَّقَ هولاء وهولاء - مِمَّنْ أنكروا السُنَّةَ - قديمًا وحديثًا - بِشُبَهٍ وهي عندهم أدلة - تعلقوا بها لِيُقَوُّوا موقفهم ويدافعوا عن مذهبهم. نورد الأشهر منها ونرد عليها - باختصار - تلو كل شبهة، كالآتي: الشُبْهَةُ الأُُولََى: قالوا: قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. وإذا قلنا أنَّ القرآن في حاجة إلى بيان كان ذلك تكذيبًا صريحًا للقرآن وتكذيبًا لِمُنْزِلِ القرآن الذي قد نفى عنه أنْ فيه تقصير أو تفريط في أمر من الأمور ولذا فلا يمكن أنْ يستعان بشيء آخر في شريعة الله من سُنَّةٍ أو حديثٍ (¬1)، (¬2). تعلق به كل من توفيق صدقي وأبو رِيَّةَ (¬3) الرَدَّ: إن القرآن حوى أصول الدين وقواعد الأحكام العامة ونص على بعضها بصراحة وترك بيان بعضها الآخر لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما دام الله قد أرسل رسوله لِيُبَيِّنَ للناس أحكام دينهم وأوجب عليهم اتباعه كان بيانه للأحكام بيانًا للقرآن، ومن هنا كانت أحكام الشريعة من كتاب ¬

_ (¬1) السُنَّة ومكانتها ": ص 153، " مجلة المنار ": 9/ 1 - 7. (¬2) " دراسات في الحديث النبوي ": ص 31. (¬3) " مجلة المنار ": 9/ 516، " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 404.

الشبهة الثانية:

وَسُنَّةٍ وما يلحق بهما ويتفرَّعُ عنهما من إجماع وقياس أحكامًا من كتاب الله تعالى إما نَصًّا وإما دلالةً ولا منافاة بين حُجِيَّةِ السُنَّة وبين أنَّ القرآن جاء تبيانًا لكل شيء (¬1). وآية: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬2). الاستدلال بها ليس في محله لأنَّ القرآن قد أرشدنا إلى الأخذ بما جاء عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. هذا على أنَّ المراد بالكتاب هنا القرآن، كيف وقد رَجَّحَ كثير من المفسِّرين أنَّ المراد بالكتاب هنا هو (اللوح المحفوظ) (¬3). الشُبْهَةُ الثَانِيَةُ: قالوا: قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬4). يدل على أنَّ الله تكفل بحفظ القرآن دون السُنَّة، ولو كانت دليلاً وحُجَّةً كالقرآن لتكفَّل بحفظها (¬5). الرد: والجواب على هذا هو أنَّ ما وعد الله من حفظ الذكر لا يقتصر على القرآن وحده بل المراد به شرع الله ودينه الذي بعث به رسوله وهو أَعَمُّ من أنْ يكون قرآنًا أو سُنَّةً ويدل على ذلك قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬6) ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 155. (¬2) [الأنعام: 38]. (¬3) " دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه ": ص 36. (¬4) [الحجر: 9]. (¬5) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 153. (¬6) [النحل: 43] و [الأنبياء: 7].

الشبهه الثالثة:

أي أهل العلم بدين الله وشرعه، ولا شك أنَّ الله كما حفظ كتابه حفظ سُنَّة نبيِّه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - بما تهيأ لها من أئمة العلم يحفظونها ويتناقلونها ويتدارسونها ويُميِّزون صحيحها من دخيلها (¬1). وذكر الذهبي أَنَّ الرَّشِيْدَ أَخَذَ زِنْدِيقاً لِيَقْتُلَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: «أَيْنَ أَنْتَ مِنْ أَلْفِ حَدِيْثٍ وَضَعْتُهَا ? فَقَالَ الرَّشِيْدُ: فَأَيْنَ أَنْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ الفَزَارِيِّ، وَابْنِ المُبَارَكِ يَتَخَلَّلاَنِهَا، فَيُخْرِجَانِهَا حَرْفاً حَرْفاً». وقيل لابن المبارك: هَذِهِ الأَحَادِيثُ المَوْضُوعَةُ [المَصْنُوعَةُ]؟ فقال: «يَعِيشُ لَهَا الجَهَابِذَةُ» (¬2). وقد رَدَّ ابن حزم على من زعم أنَّ المُرَادَ بالذكر في الآية وحده فقال: «هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل ... والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قرآن أو من سُنَّةٍ وحي يُبَيَّنُ بها القرآن وأيضًا فإن الله تعالى يقول {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فصح أنه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - مأمور ببيان القرآن للناس، وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مِمَّا لا نعلم ... فإذا كان بيانه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - لذلك المُجْمَلِ غير محفوظ ولا مضمون سلامته مِمَّا ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منه» (¬3). الشُبْهَهُ الثالثة: قالوا: لو كانت السُنَّة حُجَّةً لأمر النبي - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - بكتابتها ولعمل الصحابة والتابعون على جمعها وتدوينها، لكن لما ثبت أَنَّ ¬

_ (¬1) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 156، 157. (¬2) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 251. وانظر " تهذيب التهذيب ": 1/ 152 و " فتح المغيث ": ص 109. (¬3) " الأحكام " لابن حزم: 1/ 121.

الشبهة الرابعة:

النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منع من كتابتها وأمر أنْ يُمْحَى ما كتب منها فكيف تكون حُجَّةً؟ (¬1). الرد: وأجيب على هذا: بأنَّ عدم أمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابتها ونهيه عن ذلك كما ورد لا يدل على حُجِيَّتِهَا لأنَّ المصلحة حينئذٍ كانت تقتضي تضافر كُتَّابَ الصحابة - نظرًا لِقِلَّتِهِمْ - على كتابة القرآن وتدوينه، ولئلاَّ يختلط شيء من السُنَّة بالقرآن. والنهي الوارد إنما كان عن كتابة الحديث وتدوينه رسميًا كالقرآن، وأما أنْ يكتب الكاتب لنفسه فقد ثبت وقوعه في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل تواتر كما سنذكره إنْ شاء الله. وليست الحُجِيَّةُ مقصورة على الكتابة حتى يقال: لو كانت حُجِيَّةُ السُنَّةِ مقصورة على النبي - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - لأمر بكتابتها فإنَّ الحُجِيَّة تثبت بأشياء كثيرة منها التواتر ومنها ما نقل العدول الثقات ومنها الكتابة، والقرآن نفسه لم يكن جمعه في عهد أبي بكر بناء على الرقاع المكتوبة فحسب بل لم يكتفوا بالكتابة حتى تواتر حفظ الصحابة لكل آية منه. وليس النقل عن طريق الحفظ بأقل صحة وضبطًا من الكتابة خصوصًا من قوم كالعرب عرفوا بقوة الحافظة وأتوا من ذلك بالعجائب، فقد كان الرجل منهم يحفظ القصيدة كلها من مرة واحدة كما ثبت عن ابن عباس أنه حفظ قصيدة لعمر بن أبي ربيعة في جلسة واحدة (¬2). الشُبْهَةُ الرَابِعَةُ: قالوا: يجب أنْ يكون الدين قَطْعِيًّا وفي الأخذ بالسُنَّةِ لا يبقى كذلك. ¬

_ (¬1) و (¬2) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 158.

والآيات تدل على قطعية القرآن وتنفي عنه الريب: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} (¬2). وقالوا: إنكم تزعمون أنَّ الحديث إما متواتر وإما آحاد، والمتواتر لا يتجاوز بضعة أحاديث أما البقية فكلها من الآحاد وهي ظنية حسب قولكم، فإذا كان الدين هو مجموع ما في الكتاب والسُنَّة كان بهذا الاعتبار ظنيًا إذ مجموع القطعي والظني ظني والقرآن الكريم يُنَدِّدُ بمن يتبع الظن، قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬3). وقال سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬4). وبما أنَّ الأحاديث ظنية لذلك لا يمكن الاعتماد عليها ويبقى الدين هو القرآن وحده (¬5). الرد: وللجواب على هذا نقول: إنها مِمَّا لا ريب فيه أنَّ القرآن الكريم قطعي الثبوت ولكنه ليس قطعي الدلالة في كل المواضع فمن يرجح أحد معانيه لا يستطيع أنْ يقطع بأنَّ هذه الدلالة قطعية وما سواها باطل، بل هو يعتقد بظنية دلالته فرجح الأمر إلى اتِّباع ما هو ظني الدلالة (¬6). ¬

_ (¬1) [البقرة: 2]. (¬2) [فاطر: 31]. (¬3) [يونس: 36]. (¬4) [الإسراء: 36]. (¬5) استدل به كل من رَدَّ الأخبار وتوفيق صدقي. المنار: 9/ 912 و " جماعة القرآن " (¬6) " دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه ": ص 34.

الشبهة الخامسة:

وأما الدعوى بأنَّ الظن في أحكام الدين غير جائز فذلك فيما يتعلق بأصول الدين التي يكفر من جحدها أو شك فيها كوحدانية الله تعالى ... أما فروع الدين وجزئياته فالعمل بالظن واجب ولا سبيل إليها إلاَّ الظن بالظن غالبًا. وأيضًا، فإنَّ حُجِيَّةَ خبر الآحاد ليست ظنية بل هي مقطوع بها لانعقاد الإجماع على ذلك بين العلماء منذ عصر الصحابة فمن بعدهم فلا يكون العمل بها دليلاً ظنيًا بل بدليل مقطوع به مفيد للعلم بذلك وهو الإجماع (¬1). الشُبْهَةُ الخَامِسَةُ: قالوا: أثر عن بعض الصحابة النهي عن التحديث أو التقليل منه ولم تُدَوَّنْ السُنَّة إلاَّ في عصور متأخرة بعد أنْ طرأ عليها الخطأ والنسيان ودخل فيها التحريف والتغيير وذلك مِمَّا يوجب الشك بها وعدم الاعتماد عليها في أخذ الأحكام. الرد: الجواب على هذا: هو أَنَّ تحرز بعضهم عن التحديث أو النهي عنه فذلك من شدة الاحتياط في الدين أَنْ يذكروا عن رسولهم ما قد يخطئون فيه كما صَرَّحَ بذلك الزبير، أما من كان قوي الذاكرة فقد حَدَّثَ بلا حرج، كابن عباس وابن مسعود، على أنَّ الأخبار عن كتابة الصحابة والتابعين للحديث متواترة معنويًا لا مجال لطالب الحق معه أنْ ينكرها أو يتشكَّك فيها. أما القول بأنَّ السُنَّة قد تأخر تدوينها فزالت الثقة بضبطها وأصبحت مجالاً للظن والشك، والظن لا يجوز في دين الله - فهذا قول من لم يقف على جهود العلماء في مكافحة التحريف والوضع والكذب. «وإذا كانت السُنّة قد نقلت بالضبط والحفظ غالباً والكتابة أحياناً، من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الأول حيث دَوَّنَ الزُّهْرِي السُنّة بأمر عمر ¬

_ (¬1) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 160، 179. و " الأحكام " للآمدي: 1/ 169.

الشبهة السادسة:

ابن عبد العزيز، كانت سلسلة الحفظ والصيانة متصلة لم يتطرَّق إليها الانقطاع فلا يصح أَنْ يتطرق إليها الشك. أما ما دُسَّ على السُنّة من كذب فقد تصدَّى له العلماء وبيَّنُوهُ بما لا يترك مجالاً للشك، حتى إنَّ النفس لتطمئِنُّ إلى السُنّة إلى حدٍّ يكاد يصل إلى درجة اليقين» (¬1). ويرى الأستاذ «أحمد حسين المحامي» أَنَّ المستشرقين في نظرتهم إلى القرآن والحديث النبوي يقيسون تدوين السُنَّة النبوية بصياغة التعاليم المسيحية التي بدأ تدوينها أو (وضعها) على الأصح ابتداءً من القرن الرابع الميلادي حيث لا المسيح ولا تلامذته ولا الأناجيل ولا يونس نفسه قد صاغ التعاليم التعاليم المسيحية التي تمارس بها الآن. وإنما وضعتها المجامع المسيحية التي بدأت في القرن الرابع الميلادي - كما أسلفنا - بعد أنْ أصبحت المسيحية هي الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية وذلك لنحدد عناصر العقيدة وتصدر القرارات ضد مخالفيها (2). الشُبْهَةُ السَادِسَةُ: قالوا: قد ورد من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدل على عدم حُجِيَّة السُنَّة من ذلك «إِنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ مِنِّي». فإذا كان ما رُوِيَ من السُنَّة حكمًا شرعيًا جديدًا كان ذلك غير موافق للقرآن، وإنْ لم يثبت حُكْمًا جَدِيدًا كان لمحض التأكيد والحُجَّةِ هو القرآن. الرد: والجواب على هذا: هو أنَّ هذا الحديث رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخالد مجهول وأبو جعفر ليس صحابي، فالحديث منقطع. ¬

_ (¬1) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 159، 160. " مفتريات على الإسلام ": ص 38.

وقال الشافعي: «ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء». وقال البيهقي: «والحديث الذي رُوِيَ في عرض الحديث على القرآَن باطل لا يصح، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن» (¬1). لقد اتفق أكثر منكري السُنَّة بالأدلة التي ذكرناها وبالحجج التي أوردناها والاتجاه الذي أوضحناه من ترك الاحتجاج بالسُنَّة النبوية لكن منكري السُنَّة قديمًا وحديثًا ما عدا أهل القرآن (¬2) كانوا يأخذون بالسُنَّة العمليَّة المتواترة كالصلاة والزكاة والحج وما شاكل ذلك من الأمور التي تناقلها المسلمون جيلاً بعد جيل عمليًا ولكن ذهب أهل القرآن إلى أبعد من ذلك فأنكروا حتى هذا الجزء المتواتر العملي من الإسلام. ¬

_ (¬1) " مفتاح الجنة ": ص 6 - 15. (¬2) أهل القرآن من أشد منكري السُنَّة وهم فرقة بباكستان يُسَمَّوْنَ بالقرآنيِّين، وكان منهم الدكتور توفيق صدقي لكنه رجع أخيرًا عن آرائه كما ذكر ذلك الدكتور مصطفى السباعي.

الفصل الثاني: شبهات فرقة أهل القرآن:

الفصل الثاني: شُبُهَات فرقة أهل القرآن: وأما شُبُهَات أهل القرآن فنوجزها فيما يلي مقترنة بالرد عليها. الشُبْهَةُ الأُُولََى: قالوا حسبنا كتاب الله لأنه تكفَّل بذكر الأمور الدينية كلها بالشرح والتفصيل، فلم يبق للمسلمين حاجة إلى السُنَّة كمصدر للتشريع وأخذ الأحكام منها. يقول عبد الله جكرالوي: «إنَّ الكتاب المجيد ذكر كل شيء يحتاج إليه في الدين مفصلاً ومشروحاً من كل وجه، فما الداعي إلى الوحي الخفي وما الحاجة إلى السُنَّة؟» (¬1). ويقول: «كتاب الله كامل مفصَّل لا يحتاج إلى الشرح ولا إلى تفسير محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتوضيحه إياه أو التعليم العملي بمقتضاه» (¬2). ويقول الحافظ أسلم في المعنى نفسه ما نصه: «قد انحصرت ضروريات الدين في اتباع القرآن المُفصَّل ولا تتعداه» (¬3). الرد: لا شك أنَّ القرآن حوى أصول الدين وقواعد الأحكام العامة ونص على بعض جزئياتها اليسيرة وأما ما يدَّعيه هؤلاء من تنصيصه على كل صغيرة وكبيرة فهو ادِّعاء لا يقره واقع القرآن، فلو كان الأمر كما يقولون فأين عدد الصلوات الخمس المفروضة في اليوم والليلة فضلاً عن عدد الركعات لكل ¬

_ (¬1) " فرقة أهل القرآن ": ص 88. (¬2) و (¬3) " مقام حديث ": ص 143.

فريضة وأين نصاب الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة .. بل خول بيان هذه الجزئيات إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلو كان القرآن مشتملاً على كل التفاصيل والجزئيات التي يحتاج إليها في الدين - كما يزعم هؤلاء - لما أمر الله رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبيينه للناس ولما أمر المسلمين بطاعة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامتثال ما يأمرهم واجتناب ما ينهاهم عنه. وفي هذا المقام يقول الدكتور السباعي (*): «بحق إن الله لم ينص في الكتاب على كل جزئية من جزئيات الشريعة وإنما بَيَّنَ أصول الشريعة ومصادرها وقواعدها ومبادئها العامة. ومن الأصول التي بَيَّنَهَا العمل بِسُنَّةِ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). ولعل الذي أوقعهم في فهمهمه الخاطئ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2). ففهموا من التفصيل القرآني ما يفهمون منه من لغتهم الأوردية فالتفصيل والتفصيلات في الأوردية يأتي بمعنى (تعيين الجزئيات) غير أنَّ مادة (ف - ص - ل) لم ترد بهذا المعنى في لغة الضاد وإنما معناها الإبانة والتنحية والتوضيح لأنَّ التفصيل ضد الإجمال» (¬3). قال الراغب: «الفصل: إبانة أحد الشيئين عن الآخر» (¬4) فإحلال التفصيل الأوردي مكان التفصيل العربي هو أساس الخطأ الذي وقعوا فيه. ¬

_ (*) لم أجد هذا القول في كتاب " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي، ولا في كتاب " دفاع عن السُنَّة " للشيخ محمد محمد أبو شهبة [كتب العنوان خطأ " دفاع عن الحديث النبوي " وإنما هو " دفاع عن السُنَّة "]. (¬1) [الحشر: 7]، " دفاع عن الحديث النبوي ": ص 102. (¬2) [يوسف: 111]. (¬3) " فرقة أهل القرآن ": ص 91. (¬4) " المفردات في غريب القرآن ": ص 381.

الشبهة الثانية:

وبناء على ما تقدم يتضح بأن التفصيل المقصود في الآية هر شمول القرآن بكل الأصول الشرعية دون نعيين جزئياتها بذكر كل صغيرة وكبيرة في المعاش والمعاد. الشُبْهَةُ الثَانِيَةُ: قالوا إِنَّ السُنَّةَ لم تكن وحيًا من الله وإنما هي أقوال نسبها الناس إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زورًا وتزييفًا دون أَنْ يكون للايحاء يد في صدورها منه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه لم ينزل عليه شيء من الوحي سوى ما حواه القرآن، يقول عبد الله: «إنا لم نؤمر إلاَّ باتباع ما أنزل الله بالوحي ولو فرضنا جدلاً صِحَّةَ نسبة بعض الأحاديث بطربق قطعي إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنها مع صِحَّةِ نسبتها لا تكون واجبة الاِتِّبَاعِ، لأنها ليست بوحي منزل من الله عز وجل» (¬1). ومثل هذا القول بقول الحافظ أسلم (¬2). وقال الخواجه أحمد الدين: «إنَّ الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل هو الوحي الإلهي فحسب وهل أمرنا بالبحث عن هذا الوحي الإلهي في التوراة أو الإنجيل .. أو البخاري ومسلم أو الترمذي وأبي داود وابن ماجه .. أو مسانيد أئمة أخرى ... » (¬3). الرد: كيف لم تكن السُنَّة وحيًا من الله، والله تعالى يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬4). ¬

_ (¬1) " فرقة أهل القرآن ": ص 91. (¬2) " مقام حديث ": ص 139. (¬3) " فرقة أهل القرآن ": ص 92. (¬4) [النجم: 3، 4]، يقول القرطبي: «فيها دلالة على أنَّ السُنَّة َ كالوحي المُنَزَّلِ من الله» " الجامع لأحكام القرآن ": 7/ 6255.

وبفول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» (¬1). ثم إنَّ الله يقول مُبَيِّنًا حقيقة مقام الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تبليغ دينه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لأََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (¬2) تفيد الآية أَنَّ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو تكلف القول وافترى على الله - حاشاه أنْ يفعل ذلك - غير ما أخبر الله به فإنَّ المنية تخترقه في حينه وأنَّ مغبة مثل هذا العمل قاسية وأليمة لا تحمد عقباها، فهل يتصور منه بعد هذا الإنذار والوعيد الشديدين لهذا النبي الأُمِيَّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أَنْ يصدر منه تحليل أو تحريم أو تفصيل في الدين مبناه الهوى والنفس الأَمَّارة بالسوء فضلاً عن أنه الصادق الأمين. إذن لا تصدر حركاته وسكناته وأقاويله التشريعية إلاَّ موافقة للإرادة الإلهية وعلى هذا فالسُنَّة وحي من الله وأخبار منه بواسطة رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال السيد رشيد رضا: «لا شك في أَنَّ أتباع الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما صَحَّ عنه من بيان الدين داخل في عموم ما أنزل الله إلينا على لسانه ... فإنه تعالى أمرنا باتباعه وطاعته وأخبرنا أنه مُبَلِّغٌ عنه وقال له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. والجمهور على أنَّ الأحكام الشرعية الواردة في السُنَّة مُوحَى بها وأنَّ الوحي ليس مقصورًا في القرآن» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود عن المقداد: 5/ 10. (¬2) [الحاقة: 44 - 47]. (¬3) تفسير المنار: 8/ 308.

ويعلل ذلك بقوله: «لذلك أوجز القرآن في بيانه أحكام الدين العملية وَوَكَّلَ بيانها لعمل الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أحال في بيانها على العمل. ولعل الذي أوقع هؤلاء في هذه الشُبْهَةِ هو عدم فهمهم لحقيقة الوحي في السُنَّة، حيث ظنوا طريقة الوحي فيها مثل طريقة وحي القرآن من نزول الملك به فحفظه وتسجيله ثم روايته تواترًا وعدم إتيان البشر بمثله، فخفاء الفرق بين الوحيين أوقعهم في هذا اللبس» (¬1). فوحي القرآن يختلف عن وَحْيِ السُنَّةِ، إذ أَنَّ وحي السُنَّةِ في المرتبة الثانية بعد القرآن فلم يتوسط جبربل في نقل كل جزئية من جزئياتها كما هو الحال في القرآن ومن هنا جاء وَحْيُ السُنَّةِ، إذ أنَّ وَحْيَ السُنَّةِ أعم وصولاً إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إيحاء القرآن وقد كان يأتيه في صور متعددة من الإلهام والقذف والرؤيا في المنام ومن وراء حجاب أو بواسطة ملك الوحي، وقد ذكر الله هذه الأنواع وأشار إلى أنها طريق تكليم الله لعباده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} (¬2). ووحي السُنَّةِ لم يتجاوز مفهوم هذه الآية ولم يتعداه لذا يقول الشيخ المودودي عقب هذه الآية: «ظهر أَنَّ القرآن اشتمل على نوع واحد من أنواع الوحي والصورتان الأخيرتان للوحي المذكور في الآية أيضًا مما كان يستمد منهما الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهداية والإرشاد وقد أظهرت لنا الآية ذلك» (¬3). ¬

_ (¬1) " فرقة أهل القرآن ": ص 95. (¬2) [الشورى: 51]. انظر " فرقة أهل القرآن ": ص 51 وما بعدها. (¬3) " سنت کي اءيني حيثيت ": ص 102.

الشبهة الثالثة:

الشُبْهَةُ الثَالِثَةُ: وللقوم شُبْهَةٌ أخرى مفادها أنَّ اتِّبَاعَ السُنَّةِ والقضاء بوفقها يُؤَدِّي إلى الاشتراك في الحكم وقد نهى القرآن عنه: {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬1). يقول صاحب افتراء تعامل: «البعض على أقوال الرسل وأفعالهم وتقريراتهم مع وجود كتاب الله علة قديمة قدم الزمن وقد برأ الله رسله وأنبياءه من هذه الأحاديث بل جعل تلك الأحاديث كفرًا وشركًا» (¬2). ويقول الخواجه أحمد الدين في شرح هذه الشُبْهَةِ ما نصه: «قد وضع الناس لإحياء الشرك طرقًا متعددة فقالوا إنا لنؤمن أَنَّ الله هو الأصل المطاع غير أَنَّ الله أمرنا باِتِّبَاعِ رسوله، فهو اِتِّبَاعٌ مضاف إلى الأصل المطاع وبناء على هذا الدليل الفاسد يُصَحِّحُون جميع أنواع الشرك، فهل يصبح الأجنبي زوجًا لمتزوجة يقول زوجها إنها زوجته إلاَّ أَنَّ الله لم يأمر بمثل ذلك: {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}» (¬3). الرد: ما أقبح هذه الحُجَّةِ وما أبعد هذا الاستدلال وهل الله تعالى بعث رسله لإحياء الشرك أم لمحوه وهل اِتِّبَاعُ السُنَّةِ والحكم بوفقها إلاَّ اِتِّبَاعٌ وتطبيق لأحكام القرآن، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬4). ¬

_ (¬1) [الأنعام: 57]، [يوسف: 40]، [يوسف: 67]. (¬2) " فرقة أهل القرآن ": ص 96. (¬3) المصدر السابق: ص 97. (¬4) [النساء: 65].

يقسم الرب - جَلَّ وَعَلاَ - في هذه الآية بذاته بأنْ لن يذوق أحد طعم الإيمان ما لم يرض بقضائك يا محمد - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - ثم لا يشعر المتحاكمون إليك بحرج أو ضيق في أنفسهم بما قضيت فيهم. فهل يُؤَدِّي حكمه بعد هذا الخبر الإلهي في القضاء وفصل الخصومات إلى الشرك بل حكمه عين التوحيد وامتثال للأحكام الإلهية بل هو حكم الله تعالى: ولو اقتضت الإرادة الإلهية عدم التحاكم إلى السُنَّةِ كما يزعم هؤلاء لما صح مجيء كاف الخطاب في قوله: {يُحَكِّمُوكَ} ولما جاءت تاء الخطاب في {قَضَيْتَ} للتنصيص على ذك. وقد تكرر هذا المفهوم في آيات متعددة من القرآن الكريم بل علقت بعض الآيات الهداية والفلاح والإيمان بالتسليم لحكمه وطاعته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -. قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬1). وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). ويقول في آية أخرى مُحَذِّرًا من مغبة عدم اتِّبَاعِهِ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - نافيًا الإيمان عن أولئك: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وأما استدلالهم بقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ} (¬4). ¬

_ (¬1) [النور: 54]. (¬2) [النور: 51]. (¬3) [النور: 47]. (¬4) [الأنعام: 57]، [يوسف: 40]، [يوسف: 67].

لإخراج السُنَّةِ عن كونها حكمًا إلهيًا فهو استدلال في غير محله. لأن هذه الجملة القرآنية وردت في ثلاثة مواضع من كتاب الله، ففى الأنعام جاءت رَدًّا على طلب الكفار من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنزال الآيات والإسراع بها، فَرَدَّ الله على هذا الطلب مُوَضِّحًا أنَّ ذلك مرجعه إلى الله لا إلى رسوله، وأنًَّ الله هو المُتَفَرِّدُ في هذه الشؤون لا شريك له فيها لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (¬1). والموضعان الأخيران في سورة يوسف، أولهما حكاية عن قول يوسف لصاحبه في السجن ونصحه له بترك الشرك وأنَّ عبادة الأوثان افتراء واختلاق على الله وأنَّ الله هو المُتَفَرِّدُ في الحكم والعبادة، قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (¬2). والموضع الأخير جاء حكاية عن قول يعقوب - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ينصح أبناءه ويعلمهم آداب الدخول على الملوك وأنه إِنْ وقع لهم ما يكرهون في الحياة فهو قضاء وقدر وأنه لا يملك لهم من الله شيئًا (*) وأنَّ هذا لهو مسلك عباد الله الصالحين، قال تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) [الأنعام: 57]. (¬2) [يوسف: 40]. (¬3) [يوسف: 67]. (¬4) " فرقة أهل القرآن ": ص 98، 99. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: يشير إلى قوله تعالى في الآية التي أوردها {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}

الشبهة الرابعة:

والمواضع الثلاثة - كما ترى - لا تشير إلى ما ذهب إليه هؤلاء بل إنها تأمر العبد بالرضاء بما قدره الله له أو عليه وأنَّ الله هو المتفرِّدُ في حكمه، وهذا لا يتنافى مع الاحتكام إلى السُنَّةِ ولا يوصل من حكم بها أو تحاكم إليها إلى دائرة الشرك بل هو عين التوحيد لأنَّ الحكم بالسُنَّة مستمد من الله بواسطة رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالحكم بها في الحقيقة والواقع حكم لله المتفرد في شؤون خلقه، فال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬1). وإنما كان يصح الاستدلال بهذه الآية إذا كان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحكم ويأمر من عند نفسه وحسب هواه - وحاشاه ذلك - أما أنه لا ينطق عن الهوى وإنما يأمر بما أمره الله فإنَّ الاستدلال بهذه الآية لا يستقيم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} (¬2). الشُبْهَةُ الرَابِعَةُ: قالوا إنَّ السُنَّة لم تكن شرعًا عند النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفهمها الصحابة على هذا المنوال لذا نُهُوا عن كتابتها وقد تحدث برويز عن ذلك بقوله: «لو كانت السُنَّة جزءًا من الدين لوضع لها الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهجًا كمنهج القرآن من الكتابة والحفظ والمذاكرة ولا يفارق الدنيا إلاَّ بعد راحة بال على هذا الجزء من الدين لأنَّ مقام النبوة يقتضي أنْ يعطي الدين لأمته على شكل محفوظ لكنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتاط بكل الوسائل الممكنة لكتاب الله ولم يفعل شيئًا لسُنَّته بل نهى عن كتابتها: " لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي غَيْرَ القُرْآنِ، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ "» (¬3). ¬

_ (¬1) [النساء: 80]. (¬2) [الأعراف: 203]. (¬3) رواه مسلم ولفظه: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ». انظر " مسلم بشرح النووي ": 18/ 129.

وبقول الحافظ أسلم: «الأمر الذي لا مِرَاءَ فيه أَنَّ الصحابة قد أدركوا حقيقة نهي النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كتابة سُنَنِهِ وعرفوا أَنَّ الأمم السابقة لم تضل إلاَّ بسبب كتابة روايات أنبيائها» (¬1). ويضيف فيقول: «االشيء الملفت للنظر هو أنَّ الأحاديث لو كانت لها الصفة الدينية لما اشتدَّ نهي النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صحابته عن كتابتها ولهيَّأوا السبل لحفظها وتدوينها» (¬2). وَيُحَذِّرُ صاحب " بلاغ الحق " العلماء من الجهر بالسُنَّة فيقول: «إياكم وإعلان الأحاديث على المنابر وإنْ أَبَيْتُمْ فسيدخل إلى دين الله ما ليس منه وينضاف إلى شرع الله ما لا يجوز إضافته إليه» (¬3). الرد: أقول أما النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كتابة السنة فإنه ثبت أنه قد أذن بكتابتها أيضًا وذكر النهي دون الإذن مخالف للأمانة العلمية وسنذكر في باب (اعتراضات منكري السُنَّة) طرق الجمع بين هذا النهي والإذن. وأنَّ الإذن ناسخ للنهي. على أنَّ مدى حرص النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو تعليم صحابته وإفهامهم أمور دينهم باللسان والعمل، ثم إنَّ حياته العملية أكبر حافز للعض على سُنَّته والأخذ بها في جميع شؤون الحياة. فلو لم تكن السُنَّة عند النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دينًا وشرعًا - كما يزعم هؤلاء - لما اعتنى بها هذا الاعتناء ولما سلك لإشاعتها ونشرها كل الوسائل الممكنة له آنذاك ولما أمرهم بالحفظ والتبليغ، مثل قوله: «احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ» (¬4). ¬

_ (¬1) " مقام حديث ": ص 104. (¬2) " مقام حديث ": ص 110. (¬3) انظر " فرقة أهل القرآن ": ص 101. وقد ذكر هذه الشُبْهَة بالتفصيل. (¬4) الحديث رواه البخاري: 1/ 30.

وقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬1). وقوله: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬2). وقوله: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» (¬3). فلو لم تكن السُنَّة شرعًا ودينًا لما حرص الصحابة والتابعون على حفظها ولما ضربوا أكباد الإبل لسماعها وحفظها وتدوينها وجمعها، يَقُولُ أَنَسٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «كُنَّا نَكُونُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسْمَعُ مِنْهُ الحَدِيثَ فَإِذَا قُمْنَا نَتَذَاكَرُهُ فِيمَا بَيْنَنَا حَتَّى نَحْفَظُهُ» (¬4). ويقول أبو هريرة: «إِنِّي لأُُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلاَثَةَ أَجْزَاءٍ: فَثُلُثٌ أَنَامُ، وَثُلُثٌ أَقُومُ، وَثُلُثٌ أَتَذَكَّرُ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ» (¬5). وهذا سعيد بن المسيب يقول: «كُنْتُ أَرْحَلُ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِي فِي طَلَبِ الحَدِيثِ الوَاحِدِ» قِيْلَ لِلشَّعْبِيِّ: «مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا العِلْمِ كُلُّهٌ؟ قَالَ: " بِنَفْيِ الاغْتِمَادِ (*)، وَالسَّيْرِ فِي البِلاَدِ، وَصَبْرٍ كَصَبْرِ الجَمَادِ (*)، وَبُكُوْرٍ كَبُكُوْرِ الغُرَابِ» (¬6). فلو لم تكن السُنَّةُ شرعًا ودينًا لما حرصوا عليها هذا الحرص ولما تحمَّلوا مشاق السفر في سبيلها ولما أصبحت جزءًا من حياتهم اليومية ولما قال - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (¬7). ¬

_ (¬1) الحديث رواه البخاري: 1/ 155. (¬2) و (¬3) سبق تخريجهما. [حديث «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» انظر ص 15 والحديث الثاني: «فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» انظر ص 17 و 56]. (¬4) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي، انظر أصول الحديث لمحمد عجاج الخطيب (¬5) رواه الدارمي في " سُننه ": 1/ 82. (*) [ورد كذلك: «بِنَفْيِ الاغْتِمَامِ» و «وَصَبْرٍ كَصَبْرِ الحَمَامِ» انظر " سير أعلام النبلاء " للذهبي، تحقيق الشيخ شُعَيْب الأرناؤوط، الطبعة: الثالثة، 1405 هـ / 1985 م، نشر مؤسسة الرسالة: 4/ 300]. (¬6) ذكر المؤلف في الهامش المصدر الذي استقى منه قوله الشعبي: " البداية والنهاية " لابن كثير: 9/ 100 [بحثت في هذا المصدر فلم أجد مقولة الشعبي هذه. انظر " سير أعلام النبلاء ": 4/ 300]. (¬7) رواه أبو داود: 5/ 13. وابن ماجه: 1/ 16. والدارمي: 1/ 43. وأحمد: 4/ 126، 127. كلهم عن العرباض بن سارية ورواه الترمذي: 7/ 438. وقال: حسن صحيح.

كيف لا تكون السُنَّةُ شرعًا ودينًا وعليها قوام بناء الدين، وكفاها فخرًا أنْ يجعلها رب العزة والجلال طريق الوصول إليه لمن أراد غفرانه وجنَّته: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (¬1). أما ما استدلوا به من أنَّ نهي النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كتابة السُنَّة دليل على عدم حُجِيَّتِهَا فهو استدلال لا ينهض لأنَّ عدم الكتابة ليس دليلاً على عدم حُجِيَّتِهَا وإخراجها من مصدر التشريع لأنَّ المكتوب في حد ذاته لا يكون حُجَّةً حتى يقوم الدليل على صدق نسبته إلى كاتبه بَيْدَ أَنَّ تشكيل المجتمع على السُنَّة العملية أقوى حُجَّةً وأكثر ضمانًا من المكتوب في الكراريس دون نزوله إلى محيط العمل لذا يقول الأستاذ المودودي: «ترك النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجتمعًا متكاملاً على سُنَّته والذي نقل كل حركة من حركاته بختم هدايته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وكان هذا المجتمع يحوي ألوفًا من البشر ممن سمع أقواله وشاهد أفعاله وتربى في كنف هدايته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فنقل هؤلاء كل النقوش إلى من بعدهم نسلاً بعد نسل حتى وصلت إلينا» (¬2). ثم لا يخفى على المُطَّلِعِ البصير أَنَّ ما ورد من النهي إنما كان عن كتابة الحديث رسميًا كالقرآن أما أَنْ يكتب الكاتب لنفسه فقد ثبت وقوعه وإقراره - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - على ذلك كما رُوِيَ عن عبد الله بن عمرو بن العاص في " مسند أحمد " (¬3) أَنَّ بعض الصحابة اشتكوا سوء حفظهم لما يسمعون منه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فقالوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَحَادِيثَ لاَ نَحْفَظُهَا، أَفَلاَ نَكْتُبُهَا؟ قَالَ: " بَلَى، فَاكْتُبُوهَا "» ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 21]. (¬2) " سنت کي اءيني حيثيت ": ص 160. (¬3) 2/ 215.

الشبهة الخامسة:

وكان هذا آخر الأمرين من كتابة أقواله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - (¬1). وأما ما زعمه من أنَّ تدوين أقوال الأنبياء كان سببًا لضلال الأمم السابقة وقياس هذه الأمة عليها فهو أمر مرفوض يحمل في طياته الغش والتمويه لأنَّ هناك فرقًا أساسيًا بين ما دُوِّنَ من أقوال الأنبياء السابقين وبين ما دُوِّنَ من سُنَّتِهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقوال السابقين لم تُدَوَّنْ بالسند وتسلسل الرُواة في نقلها حتى عهد التدوين في الكتب فضلاً عن معرفة سيرة هؤلاء الناقلين بينما أقوال سيدنا ونبينا محمد - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - نقلت بالتسلسل جيلاً بعد جيل وامتازت الأُمَّةُ المحمدية بميزة الإسناد التي لم تمتاز بها أُمَّةٌ قبلها ثم عرضت سير الناقلين على أصول معتمدة لقبول السُنَّة واعترف بهذا الواقع أعداء الإسلام وخصومه. يقول الدكتور شبرنجر مشيرًا إلى العناية الإسلامية بعلم الرجال: «اختص المسلمون بتسجيل خمسمائة ألف شخص من قدمائهم وضبط سيرتهم وأحوالهم في تاريخهم المعتمد القويم» (¬2). الشُبْهَةُ الخَامِسَةُ: قالوا: «إِنَّ طاعة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت طاعة مُقَيَّدَةً بزمنه، وامتثال أحكامه لا يتجاوز حياته، وقد أوصد هذا الباب منذ وفاته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -» (¬3). ويشر ح صاحب " تبليغ القرآن " هذه الشُبْهَة بقوله: «لقد كانت إرشاداته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصدر وفق ظروف أصحابه ولو كنا موجودين في تلك ¬

_ (¬1) انظر " السُنَّة الإسلامية " للدكتور رؤوف شلبي: ص 37. (¬2) " مقام حديث ": ص 130. (¬3) " فرقة أهل القرآن ": ص 107. قاله الخواجه [أحمد دين الأمرتسري].

الآونة لوجب علينا اتباع أقواله وإرشاداته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ... كما أنَّ خطاب القرآن عام عندنا غير أنَّ المخاطبين بالأحاديث أمَّة خاصة وهم العرب» (¬1). الرد: هذه دعوى جديدة لا أصل لها إلاَّ خيال كاتبها وإلاَّ فمن أين لهم أَنَّ طاعته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كانت مُقَيَّدَةً بزمنه، أليس الله قد أرسل رسوله للناس كافة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬2). مع أنَّ العديد من آيات القرآن فيها خطاب خاص لمشركي العرب الذين أقاموا الحواجز في طريق الدعوة فأصدر أحكامًا في أولئك الصادين حسب مسلكهم الخاص ولا تنحصر تلك الأحكام بإجماع في أولئك الأفراد بل تتجاوز إلى من يماثلهم في تصرفاتهم العوجاء. فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. كما هو معروف في الأصول. فإذا كان حكم آيات القرآن لا يختص بزمن ولا بأشخاص معدودين فكذلك السُنَّة إذ لا فرق بين أحكام الكتاب وأحكام السُنَّة لصدورها من مصدر واحد، لذا كان الإيمان بمحمد رسول الله هو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، ثم ما هو الدليل على هذا التفريق بين القرآن والسُنَّة حتى صار خطاب القرآن عامًا وخطاب السُنَّة خاصًا بأُمَّة العرب؟. ولو كانت سُنَّتُهُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - خاصة بأولئك الأفراد ففيم يكون تصديقه بعد وفاته وفيم يكون اتِّبَاعَهُ لجلب المحبة الربانية المنصوص عليها في قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬3) [آل عمران: 31] ¬

_ (¬1) " فرقة أهل القرآن ": ص 107. (¬2) [الأعراف: 158]. (¬3) [آل عمران: 31].

الشبهة السادسة:

لذا اتفق المسلمون على أنَّ خطاب القرآن والسُنَّة وأحكامهما عاملان شاملان لا يختصان بأمة ولا بزمن لأن عموم خطاب القرآن مستلزم لعموم خطاب السُنَّة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬1). وتخصيص أوامره - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وإرشاداته محدودة أو بزمن معين تخصيص بغير مخصص لا يستند إلى دليل، لذا يقول الأستاذ المودودي - رَحِمَهُ اللهُ -: «لا فرق بين هداية القرآن وهداية المصطفى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَإِنْ كانتا مؤقتتين ومحدودتين فهمًا معًا وإنْ كانتا دائمتين وعالميتين فَهُمَا مَعًا» (¬2). الشُبْهَةُ السَادِسَةُ: قالوا: إنَّ السُنَّة قد انتقدت متنًا وسَنَدًا وأنَّ المحدثين تكلموا في رجالها ومتونها وما كان كذلك ودخله النقد وآراء الرجال لا يصلح دينًا، كما أنَّ الإسلام لم يجرؤ أعداؤه على توجيه الاتهام إليه إلاَّ عن طريق الأحاديث الي أقر المسلمون بصحتها لكن الإسلام بريء منها، يقول الحافظ أسلم: «إِنَّ الأحاديث قد انتقدت علميًّا ما أفقدها صفة التدين لأنَّ الأمور الدينية ما يدخلها النقد وآراء الرجال» (¬3). ويضيف فيقول: «الاعتراضات الموجهة للإسلام من غير أهله لا تأتي إلاَّ من الأحاديث التي أَقَرَّ المسلمون بصحتها وهي موضوعة الأصل لا صلة لها بالدين» (¬4). الرد: إنَّ الرجل يفوه بما لا يعرف وهو في شدة حقده على السُنَّة والطعن فيها لا يبحث عن موضع يظن به الضعف بل يطعن فيها هكذا خبط عشواء وهيهات أَنْ يصدع إلاَّ رأسه إنه يجهل أو يتجاهل تاريخ الإسلام وجهود العلماء ¬

_ (¬1) [سبأ: 28]. (¬2) " سنت کي اءيني حيثيت ": ص 334. (¬3) " فرقة أهل القرآن ": ص 109 و " مقام حديث ": ص 154. (¬4) " فرقة أهل القرآن ": ص 109 و " مقام حديث ": ص 154.

المحدثين لمقاومة الوضع فهو بدل ما يعترف للمحدثين بفضلهم وجهدهم في سبيل خدمة السُنَّة يتهمهم بأنهم أقروا بصحة الأحاديث وهي موضوعة الأصل ولا صلة لها بالدين وأنَّ الإسلام بريء منها. إنَّ الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة أَجَلُّ وأسمى من أَنْ يخوضوا في الكذب والوضع وَهُمْ رَوَوْا عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (¬1). إننا نعترف أنَّ حركة الوضع في الحديث بدأت في وقت مُبَكِّرٍ وأنَّ الخلافات السياسية والكلامية - ولا سيما - بين عَلِيٍّ ومعاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - كانت من العوامل الرئيسية في حركة الوضع تلك إذ أخذ بعض أصحاب معاوية يضعون الأحاديث في مثالب عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وينشرونها بين الناس وقد قابلهم بمثلها جَهَلَةُ أصحاب عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - دون علم عَلِيٍّ ومعاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، كما أنَّ ظهور أرباب الكلام من القدرية والمرجئة والجهمية ... والمناقشات الحادة بينها هَيَّأَتْ الأجواء المناسبة للوضع بذم بعضهم بعضًا. لكن حركة الوضع هذه لا يمكن أنْ نجعلها دليلاً على أنَّ السُنَّة كلها موضوعة الأصل وأنها لا تصلح أنْ تكون دينًا عَامًا. هذه بعض شُبُهَاتِ فرقة أهل القرآن ومزاعمهم قد ذكرنا أشهرها وَفَنَّدْنَاهَا ولا تكفي هذه العُجَالَةُ لنستوفي جميع شُبُهَاتهم وهي في الحقيقة أباطيل وأضاليل، نسأل الله الهداية والرشاد «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ، فَلاَ هَادِيَ لَهُ» (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري، انظر " فتح الباري ": 1/ 200 و " مسلم بشرح النووي ": 1/ 67. وسيأتي تخريجه مُفَصَّلاً في ص 175. (¬2) هو جزء من حديث أخرجه النسائي في " سننه " تحقيق: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة. كتاب النكاح - باب ما يستحب من الكلام عند النكاح. حديث رقم 3277. مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب. الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م.

الباب الخامس: اعتراضات من منكري السنة:

الباب الخامس: اعتراضات من مُنْكِرِي السُنَّة: وقد وجه هؤلاء جملة اعتراضات وانتقادات بعضها على السُنَّة وتدوينها وكتابتها، وأخرى على رُواتها ورجالها، وها هي بعضها مقرونة بالرد عليها: 1 - قالوا: هناك أحاديث وردت عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها المنع عن كتابة الحديث كما وردت أحاديث أخرى فيها تصريح بكتابة الحديث وهذا تعارض. وللجواب على هذا نقول: إنَّ كل من نقل عنه كراهية كتابة الحديث فقد نقل عنه عكس ذلك أيضًا - ما عدا شخص أو شخصين - وقد ثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم ومن أشهر الصحابة الذين اشتهرت عنهم أحاديث عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها كراهة كتابة العلم: (أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -). أما حديث أبي سعيد فقد رَدَّهُ مسلم بلفظ: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (¬1) وهذا أصح ما رُوِيَ في هذا الباب. ¬

_ (¬1) " صحيح مسلم بشرح النووي ": 18/ 129 و " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: 1/ 63.

وأما حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وحديث زيد بن ثابت فكلها متكلم في أسانيدها ولم تأت بطرق مقبولة بعتمد عليها. وأما حديث أبي سعيد - الذي عند مسلم " فقد اختلف العلماء في رفعه ووقفه، قال الحافظ: «وَمِنْهُمْ مَنْ أَعَلَّ حَدِيث أَبِي سَعِيد وَقَالَ: الصَّوَاب وَقْفه عَلَى أَبِي سَعِيد، قَالَهُ الْبُخَارِيّ وَغَيْره» (¬1). وغلط بعض الرُوَاة فجعله عن أبي سعيد عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد أورد ابن عبد البر في كتاب " العلم " (¬2) قريباً من معناه موقوفاً على أبي سعيد من طرق لم يذكر فيها النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبعد التسليم أنها مرفوعة اختلفوا في توجيهها وأهمها قولان: (¬3) 1 - أنَّ أحاديث النهي منسوخة بالأحاديث الأخرى التي تبيح كتابة الأحاديث ويجب ألاَّ ننسى بأنَّ هناك حديث واحد صحيح لا غير الذي ينهى عن كتابة الأحاديث علمًا بأنَّ فيه الاختلاف أيضًا - كما رأينا آنفًا - في رفعه ووقفه. 2 - أنَّ النهي كان خاصًا بكتابة غير القرآن مع القرآن على ورق واحد خشية الالتباس بينهما (¬4). وهذا التوجيه الثاني أوجه لإملاء النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عدد من الصحابة، ولكتابة الصحابة الأحاديث التي بلغت درجة التواتر وإليك نماذج منها: 1 - عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن العَاصِ قَالَ: «كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) " فتح الباري ": 1/ 185. (¬2) " جامع بيان العلم وفضله ": 1/ 64 [انظر " الأنوار الكاشفة " للشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني: ص 35]. (¬3) ذكر السباعي عدة أوجه للتوفيق. انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 61. (¬4) " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة " ص 286 و " دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه " للأعظمي: ص 78، 79.

وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ» (¬1). 2 - ويشهد أبو هريرة على كتابته قائلاً: «مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرُ مِنِّي حَدِيثًا عَنْهُ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو , فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ , وَلاَ أَكْتُبُ» (¬2). 3 - لما فتح الله على رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قام رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخطب خطبته ... فقال أبو شاة - رجل من اليمن -: اكتب لي يا رسول الله، فقال رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ» (¬3). 4 - وعن أبي الطفيل قال: سُئِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - هل خَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشيءٍ؟ فقال: مَا خَصَّنَا إِلاَّ مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا: «لَعَنَ اللَّه مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّه» (¬4). 5 - وعن رافع بن خديج أَنَهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَنَكْتُبُهَا؟ قال: «اكْتُبُوا وَلاَ حَرَجَ» (¬5). ¬

_ (¬1) " مسند أحمد ": 2/ 12 - 192، 207، 215 وأبو داود: 4/ 60، 61 والحاكم: 1/ 106 وزاد عن عمر: «قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» " تقييد العلم " بطرق كثيرة: ص 74، 83. " جامع بيان العلم ": 1/ 71. و " سُنن الدارمي ": 1/ 125، 126 وبين القوسين زيادة له. (¬2) روه البخاري: 1/ 206. والدارمي: 1/ 125. " مسند أحمد ": 2/ 248. (¬3) رواه البخاري: 1/ 205 " فتح الباري ". والإمام أحمد: 2/ 262 - 238. " جامع بيان العلم ": 1/ 70. و " تقييد العلم ": ص 86. (¬4) " مسند أحمد ": 1/ 118 - 153. (¬5) [" المعجم الكبير " للطبراني: حديث 4410، 4/ 279. تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، نشر مكتبة ابن تيمية - القاهرة، الطبعة الثانية].

وذكرت روايات أخرى في هذا المعنى في المجمع (¬1). 2 - قالوا: إنَّ السلف اهتموا بالأسانيد وحبسوا نشاطهم في وزن رجالها ولم يهتموا بالمتون أو يصرفوا جهدًا مذكورًا في تمحيصها .. (¬2). قلنا: هذا خطأ فإنَّ الاهتمام بالسند لم يقصد لذاته وإنما قصد منه الحكم على المتن نفسه، ثم إنَّ صحة الحديث لا تجيء من عدالة رُوَاتِهِ فحسب بل أيضًا تجيء من انسجامه مع ما يثبت يقينًا من حقائق الدين الأخرى. ثم كيف يتفق زعمهم هذا مع ما ذهبوا إليه من الحكم على متن الحديث بالشذوذ والنكارة والاضطراب والتعليل والوضع والاختلاق وما وضعوه من أمارات يستدل بها على الحديث بالوضع. لقد جعلوا من أمارات الموضوع ركاكة اللفظ بحيث يشهد الخبير بالعربية أَنَّ هذا لن يصدر من فصيح فضلاً عَمَّنْ هو الفصحاء؟ وركاكة المعنى كَأَنْ يكون مشتملاً على محال، واشتمال الحديث على مجازفات ومبالغات لا تصدر من عاقل حكيم والمخالفة للحس والمشاهدة والمخالفة بصريح القرآن أو السُنَّة المتواترة أو الإجماع مع تعذر التأويل المقبول أو غير ذلك مما أفاضت به كتب تاريخ الوضع في الحديث. قال الربيع بن خثيم: «إِنَّ لِلْحَدِيثِ ضَوْءًا كَضَوْءِ النَّهَارِ تَعْرِفُهُ، وَظُلْمَةً كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ تُنْكِرُهُ». وقال ابن الجوزي: «مَا أَحْسَنَ قَوْلَ القَائِلِ: كُلُّ حَدِيثٍ رَأَيْتَهُ تُخَالِفُهُ العُقُولُ وَتُنَاقِضُهُ الأُُصُولُ وَتُبَايِنُهُ النُقُولُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ» (¬3). 3 - قالوا: إنَّ عمر أحرق كتب السُنَّة كما روى عنه القاسم بن محمد: «فَأَتَوْهُ بِكُتُبِهِمْ فَأَحْرَقَهَا بِالنَّارِ , ثُمَّ قَالَ: " أُمْنِيَةٌ كَأُمْنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ "». (¬4). ¬

_ (¬1) " مجمع الزوائد ": 1/ 151، 152 وانظر " كنز العمال ": 5/ 226. (¬2) " ضُحَى الإسلام ": 2/ 160 و " ليس من الإسلام " للشيخ محمد الغزالي: ص 44. (¬3) " دفاع عن السُنَّة " للشيخ محمد أبي شُهبة: ص 47. (¬4) " تقييد العلم " للخطيب البغدادي: ص 52، 53.

ولم يكتف بهذا بل أرسل إلى الآفاق منشورًا يدعوهم لحرق كتب السُنَّة والتخلص منها، فقد جاء عن عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ السُّنَّةَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لاَ يَكْتُبَهَا , ثُمَّ كَتَبَ فِي الأَمْصَارِ «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَمْحُهُ» (¬1). والجواب عن هذا: أنَّ رواية القاسم بن محمد عن عمر منقطعة ومن ثم فهي ضعيفة وساقطة عن الاعتبار. ورواية يحيى عن جعدة كذلك منقطعة وساقطة عن الاعتبار (¬2). 4 - قالوا: هَدَّدَ بعض المحدثين بالنفي كما قال السائب بن يزيد أنه سمع عمر يقول لأبي هريرة: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ» وقال لكعب: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ [عَنِ الأُوَلِ] أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» (¬3). وأجيب على هذا بأنَّ القول المنسوب إلى عمر غير ثابت عنه. قال المُعَلَّمِي: «ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة، والمجهول لا تقوم به حُجَّة» (*). وفي الإسناد مشكلات أخرى. بل الثابت أَنَّ عمر بعث في آخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة، وبطبيعة الحال كان يُحَدِّثُهُمْ ويعلِّمُهُمْ ويُفْتِيهِمْ. 5 - قالوا: إنَّ عمر ضرب أبا هريرة على كثرة الرواية كما نقل أبو رية [ص 163] وقال له: «قَدْ أَكْثَرْتَ مِنَ الرِوَايَةِ وَاَحْرَ بِكَ أَنْ تَكُونَ كَاذِباً عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». قلنا: هذا كذب وافتراء وَزُورٌ ولم يثبت ضرب عمر لأبي هريرة على رواية الحديث أو على أمر آخر، والخبر مكذوب مختلق وقائلة معتزل شيعي ¬

_ (¬1) " تقييد العلم ": ص 53، و " جامع بيان العلم ": 1/ 65. (¬2) " سير أعلام النبلاء ": 2/ 433 و " البداية والنهاية ": 8/ 106. (¬3) " سير أعلام النبلاء ": 2/ 433 و " البداية والنهاية ": 8/ 106. (*) [بهذه الصيغة ذُكِرَ قول المعلمي اليماني، انظر " الأنوار الكاشفة ": ص 154 طبعة سَنَة: 1402هـ - 1982م. المطبعة السلفية - ومكتبتها. عالم الكتب].

لا يقبل قوله في الصحابة، وعزاها أبو رية إلى " شرح نهج البلاغة " لابن أبي الحديد، وهو من دعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، ثم لا يعرف له سند (¬1). ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة والشيعة وغيرهم بما فيها انتقاص لأبي بكر وعمر وعلي وعائشة وإنما يتشبث بها من لا يعقل. 6 - قالوا: إنَّ عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر. وعند البعض - وأبا مسعود - مكان أبي ذر. وقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا هذا الحديث الذي تحدثون عن محمد» (¬2). نعم، هكذا زعموا أنه حبسهم، وهل يعقل من مثل عمر أنْ يحبسهم وهم الأجلاَّء من أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهل يكفي لحبسهم أنهم أكثروا الرواية، وقد ناقش هذا الإمام ابن حزم وَرَدَّهُ وقال: هذا مرسل ومشكوك فيه من (شيعة) فلا يصح ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد لأنه لا يخلو عمر من أنْ يكون اِتَّهَمَ الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث ... ولئن كان سائر الصحابة متهمين بالكذب على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما عمر إلاَّ واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلاً. ولئن كان حبسهم وهم غير مُتَّهَمِينَ فقد ظلمهم، فليختر المحتج مذهبه هذا الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء ولا بد له من أحدهما ... ثم قال: «وقد حدث عن عمر بحديث كثير ... وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة أَكثر رِوَايَة مِنْهُ إِلاَّ بضعَة عشر مِنْهُم» (¬3). ولهذا قال السباعي: «وَقَدْ حَاوَلْتُ أَنْ أَعْثُرَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ [فِي كِتَابٍ مُعْتَبَرٍ] فَلَمْ أَجِدْهَا، وَدَلاَئِلُ الوَضْعِ عَلَيْهَا ظَاهِرَةٌ» (¬4). ¬

_ (¬1) " الأنوار الكاشفة ": ص 152، 153. (¬2) [ذكر المؤلف في الهامش: (" تذكرة الحفاظ ": 1/ 7 و " مجمع الزوائد ": 1/ 149) لكني لم أجد قولة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في الكتابين المذكورين] انظر: " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: ص 64، 65. (¬3) " الإحكام " لابن حزم: 2/ 139 وما بعدها. (¬4) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 64.

ثم لو سلمنا - جَدَلاً - بصحة الرواية، فهناك خلاف بين المحبوسين، فالذهبي يذكر ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود - بينما يذكر ابن حزم - ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر، فهل تكرر الحبس من عمر؟ ولو تكرر لاشتهر، ثم إنَّ خبرًا كهذا يجب أنْ ينتشر في الآفاق من غير أنْ يحتمل الشك في المحبوسين، ولو سلمنا أَنَّ العبرة في الحادثة نفسها فإنَّ هناك صحابة أكثر منهم حديثًا لم يردنا خبر عن حبسهم، فلا يعقل أنْ يحبس بعضًا دون بعض في قضية واحدة. فيحبس هؤلاء ويترك أبا هريرة وهو أكثر حديثًا منهم. فقد روى [5374] حديثًا. هذه يدلك على أنَّ هذه الحادثة فرية وأكذوبة. ولأنَّ ابن مسعود كان من كبار الصحابة وأقدمهم إسلامًا وله مقام كبير في نفس عمر حتى أنه حين أرسله إلى العراق لِيُعَلِّمَ أهلها الدين والأحكام اِمْتَنَّ عليهم بقوله: «وَلَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِعَبْدِ الله عَلَى نَفْسِي». وأما أبو ذر فمهما نقل عنه من حديث فهو لم يبلغ جزءًا ما رواه أبو هريرة، فَلِمَ يحبسه ولا يحبس أبا هريرة؟ (¬1). يتبيَّنُ من هذا أنَّ ما نسب إلى عمر ليس بصحيح، بل مختلق مكذوب، بل على العكس فإنَّ هذه الأخبار على فرض صحتها، لا تدل على عدم اعتداده بالسُنَّة النبوية، بل على أنه كان يريد التثبت لا أكثر. 7 - قالوا: إنَّ بعض الصحابة - كابن عباس وعائشة - رَدُّوا على أبي هريرة بعض حديثه وَكَذَبُوهُ وَمَثَّلُوا لذلك بحديث «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ»، فلم يأخذ ابن عباس بخبره وقال: «لاَ يَلْزَمُنَا الوُضُوءُ مِنْ حَمْلِ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ». يريدون من هذا أنْ يثبتوا أَنَّ الصحابة كان يضع بعضهم بعضًا موضع النقد والطعن. وليس فيه دليل على ما زعموا وإنما هو نقاش ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 64، 65 و " السُنَّة قبل التدوين ": ص 109، 110.

علمي محض مبني على اختلاف أنظارهم وتفاوت مراتبهم في الاستنباط والاجتهاد أو على نسيان أحدهم حديثًا وتذكر الآخر له. وليس ذلك ناشئًا عن شك أو ريبة أو تكذيب واحد لآخر. أما الحديث هذا فليس له أثر بهذا اللفظ - كما قال الشيخ السباعي - في كتب الحديث قاطبة ولا في كتب الفقه - وليس فيها ذكر لهذه الحادثة التي رَوَوْهَا عن ابن عباس على أبي هريرة - ولو ثبت وثبتت الحادثة لما أغفلوا النص عليها. نعم، ذكرها بعض علماء الأصول منهم - صاحب [" مُسَلَّم الثبوت "]- وهؤلاء القوم بتساهلون - بعضهم - في ذكر الأحاديث التي ليس لها أصل أو لها أصل من طريق ضعيف لأنَّ الحديث ليس من اختصاصهم، وعلى كل حال فإنَّ كتبهم ليست مرجعًا في علم الحديث ولا يرجع إليها فيه. واللفظ الموجود لهذا الحديث في كتب الحديث هو «مِنْ غُسْلِهِ الْغُسْلُ وَمِنْ حَمْلِهِ الْوُضُوءُ» (¬1). ثم إنَّ أبا هريرة لم ينفرد بهذا الحديث، بل رواه عَلِيٌّ وعائشة ورواه أبو هريرة مرفوعًا وموقوفًا. ثم على فرض صحة الواقعة وثبوت رَدِّ ابن عباس لأبي هريرة فليس معناه التكذيب ولا الطعن بل هو خلاف في فهم الحديث وفقهه، فأبو هريرة يوجب الوضوء من الجنازة عملاً بظاهر الحديث وابن عباس يرى الوجوب غير مراد من الحديث بل هو محمول على الندب (¬2). 8 - قالوا: إنَّ أبا هريرة لم يكن يكتب الحديث، بل كان يعتمد في روايته على ذاكرته (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وابن ماجه. (¬2) " السُنَّة ومكانتها ": ص 300. (¬3) " فجر الإسلام " لأحمد أمين: ص 268.

قلنا هذا شيء لم ينفرد به أبو هريرة وإنما صنيع كل من روى الحديث من صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما عدا - عبد الله بن عمرو - فقد كانت له صحيفة يكتب فيها. وهذا شيء يعترفون به كما قال أحمد أمين: «وعلى كل حال مضى العصر الأول ولم يكن تدوين الحديث شائعًا إنما كانوا يَرْوُونَهُ شفاهًا وحفظًا، ومن كان يُدَوِّنُ فإنما كان يُدَوِّنُ لنفسه» (¬1). إذًا فما وجه تخصيص أبي هريرة بهذا؟ وما الفائدة من ذكره وهو معلوم في أحاديث أبي هريرة، فما دام الرجل لم يكتب الحديث وما دام لم يرو عن ذاكرته فقط، وما دامت الذاكرة قد تخطئ وتخون فنحن في شك من صحة أحاديثه (¬2). سبحان الله! هل هذا مأخذ على أبي هريرة؟ فهل غفل الأستاذ عن ثناء الصحابة عليه في حفظه وصدقه وزُهده وورعه، بل هل غفل أو تغافل عن دعاء الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحفظ؟. هل جهل الأستاذ أنَّ العلماء من يفضل الأخذ عن الذي يُحَدِّثُ من حفظه إذا كان مثبتًا صدوقًا عن الأخذ عن الذي يُحَدِّثُ من كتاب غيره، حتى لقد قال علماء الأصول: إذا تعارض حديثان أحدهما مسموع والآخر والآخر مكتوب كان المسموع أولى وأرجح، ومن هنا كره فريق من العلماء من الصحابة والتابعين كتابة الحديث كيلا يَتَّكِلُوا على الكتابة وحدهافتضعف ملكة الحفظ. أخرج ابن عبد البر عن الأوزاعي: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَيْئًا شَرِيفًا إِذْ كَانَ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ يَتَنَاقَلُونَهُ وَيَتَذَاكَرُونَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْكُتُبِ ذَهَبَ نُورُهُ وَصَارَ إِلَى غَيْرِ [أَهْلِهِ]» (¬3). ¬

_ (¬1) " فجر الإسلام ": ص 272. (¬2) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 304. (¬3) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 305. [انظر " جامع بيان العلم وفضله "، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، الطبعة: الأولى 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية].

9 - قال الأستاذ أحمد أمين: «إنَّ أبا هريرة لم يكن يقتصر على ما سمع من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. بل كان يُحَدِّثُ عنه بما سمعه من غيره، فقد رُوِيَ أَنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلاَ صَوْمَ لَهُ " فأنكرت ذلك عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَتْ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ احْتِلاَمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ " فلما ذُكِرَ ذلك لأبي هريرة قال: " إِنَّهَا أَعْلَمُ مِنِّي وَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ بَلْ سَمِعْتُهُ مِنَ الفَضْلِ بْن العَبَّاسِ» (¬1). الجواب على ذلك: أولاً: إنَّ إسناد أبي هريرة إلى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يسمعه منه شيء لم ينفرد به أبو هريرة بل شاركه فيه صغار الصحابة، ومن تأخَّر إسلامه فعائشة وأنس والبراء وابن عباس وابن عمر، هؤلاء وأمثالهم أسندوا إلى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما سمعوه من صحابته عنه وذلك لما ثبت عندهم من عدالة الصحابي وصدقه، فقد روى ابن عمر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ». وأسنده إلى أبي هريرة. وقد قال أنس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ بِهِ سَمِعْنِاهُ مِنْ رَسُولِ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، [وَلَكِنْ كَانَ يُحَدِّثُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَلاَ يَتَّهِمُ بَعْضُنَا بَعْضًا]». وقال البراء: «مَا كُلُّ الْحَدِيثِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ يُحَدِّثُنَا أَصْحَابُنَا عَنْهُ، كَانَتْ تَشْغَلُنَا عَنْهُ رَعِيَّةُ الإِبِلِ». وهذا ما يُسَمَّى عند العلماء بمرسل الصحابي وقد أجمعوا ¬

_ (¬1) " فجر الإسلام ": ص 269.

على الاحتجاج به وأنَّ حكمه حكم المرفوع وأنَّ الجهالة بالصحابي غير قادحة لأنَّ الصحابة كلهم عدول، قال الإمام النووي بعد ذكر الخلاف في حُجِيَّة المرسل: «هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ أَمَّا مرسل الصحابي كاخباره عن شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُ لِصِغَرِ سِنِّهِ أَوْ لِتَأَخُّرِ إسْلاَمِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ حُجَّةٌ ... » ثم قال: «وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَ " مُسْلِمٍ " مِنْ هَذَا مَا لا يحصى. وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراينى مِنْ أَصْحَابِنَا: " لاَ يُحْتَجُّ بِهِ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْسَلِ غَيْرِهِ إلاَّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لاَ يُرْسِلُ إلاَّ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَحَابِيٍّ، [قَالَ]: لأنهم قَدْ يَرْوُونَ عَنْ غَيْرِ صَحَابِيٍّ "»، ثم قال النووي: «وَالصَّوَابُ الأَوَّلُ وَأَنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ مُطْلَقًا لأَنَّ رِوَايَتَهُمْ عَنْ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ [نَادِرَةٌ] وَإِذَا رَوَوْهَا بَيَّنُوهَا فَإِذَا أَطْلَقُوا ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ [الصَّحَابَةِ] وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ» (¬1). ثانيًا: إنَّ كُتُبَ الحديث لم تذكر إنكار عائشة على أبي هريرة ولكنها ذكرت المسألة على أنَّ أبا هريرة استفتى في صوم من أصبح جُنُبًا فأفتى بأنه لا صوم له، فاستفتيت عائشة وأم سلمة في المسألة نفسها فكلتاهما أفتت بصحة صومه، وقالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا ثُمَّ يَصُومُ [ذَلِكَ الْيَوْمَ]» فلما قيل ذلك لأبي هريرة رجع عن فتواه وقال: «هُمَا أَعْلَمُ مِنِّي»، فالواقعة واقعة فتوى أفتى فيها كل بما علمه وصح عنده عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس فيها إنكار عائشة ولا رَدَّها عليه (¬2). ثم لو سلمنا بثبوت الإنكار عنها فليس معناه تكذيب أبي هريرة فيما روى بل معناه أنها لا تعرف هذا الحكم، وإنما تعرف خلافه فيكون من الاستدراكات ¬

_ (¬1) " المجموع " للنووي: 1/ 62. (¬2) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 308.

التي استدركتها عائشة أم المؤمنين على كبار الصحابة وما زال الصحابة يستدركون بعضهم على بعض لا يرون ذلك تكذيبًا بل تصحيحًا للعلم وأداء للأمانة على ما يعرفها الصحابي (¬1). 10 - زعموا أنَّ الصحابة قد أكثروا من نقد أبي هريرة على إكثاره من الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَكُّوا فيه. هذا زعم كل من الأستاذ أحمد أمين والمستشرق جولدتسيهر. من المعلوم أنَّ أبا هريرة كان من المكثرين في التحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الرغم من تأخر إسلامه لكثرة ملازمته للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى كان يدور معه حيث دار، فلما توفي الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما كان يفعل صغار الصحابة. يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: «إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، إِنِّي كُنْتُ رَجُلاً مِسْكِينًا، أخدُم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ» وفي حديث آخر «وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا» (¬2). 11 - قال صاحب " فجر الإسلام ": «والحنفية يتركون حديثه - يعني حديث أبي هريرة - أحياناً إذا عارض القياس كما فعلوا في حديث [المُصَرَّاةِ] (*)» (¬3). ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 209. وذكر السباعي وجوهًا أخرى للتوفيق بين الروايتين، فانظرها. (¬2) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": حيث الرد المفصل ص 209. (*) [ورد في المطبوع من الكتاب (المعراة) وهو خطأ وإنما هي (المُصَرَّاةِ). هي التي يترك حلبها أياماً ليجتمع اللبن في ضرعها فيتوهم المشتري أنها تدُرُّ هذا القدر من اللبن كل يوم. (¬3) " فجر الإسلام ": ص 269.

يزعم المؤلفان أنَّ الحنفية يقدمون القياس على الخبر إذا عارضه، والحنفية لم يقولوا بتقديم القياس على الحديث بل الإمام وصاحباه وجمهرة من أتباعه على أنَّ الخبر مُقَدَّمٌ على القياس مطلقًا وإنْ كان ضعيفًا، وذكر ابن حزم الإجماع على أنَّ مذهب أبي حنيفة: أنَّ ضعيف الحديث أولى عنده من الرأي والقياس إذا لم يجد في الباب غيره (¬1) وهو مذهب الجمهور. وذهب فخر الإسلام واختاره ابن أبان وأبو زيد وهم من الحنفية، إلى أَنَّ الراوي إذا كان فقيهًا قدم خبره على القياس مطلقًا. وإِنْ كان غير فقيه قدم خبره على القياس أيضًا إِلاَّ إذا خالف جميع الأقيسة وانسد باب الرأي بالكلية، ومثلوا لذلك بحديث [المُصَرَّاةِ]. ثم يظهر من ظاهر قول [المُؤَلِّفَيْنِ] هذا الموقف من تقديم القياس على الخبر خاص بأبي هريرة - عند القائلين به - وليس بصحيح، بل هم يُعَمِّمُونَ في كل رَاوٍ غير فقيه، إذًا فما وجه تخصيص أبي هريرة بالذكر؟ إلاَّ شيء في نفس المؤلف على أبي هريرة. وأما ما نقله عن الحنفية من قولهم بعدم فقاهة أبي هريرة فغير صحيح، إذ لم يقل بذلك منهم إلاَّ فخر الإسلام وصاحباهُ، وجمهور الحنفية على خلافهم والتشنيع على مقالتهم تلك (¬2)، وجمهور الحنفية على أنَّ أبا هريرة فقيه، قال الكمال [بن] الهُمَام: «وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَقِيهٌ». نعم إِنَّ الحنفية مع كونهم يُقَدِّمون الخبر على القياس إذا تعارضا، فقد ¬

_ (¬1) انظر " الأجوبة الفاضلة " للكنوي: ص 49، وقال ابن القيم في " أعلام الموقعين ": 1/ 77: «وأصحاب أبي حنيفة مُجْمِعُونَ على أنَّ مذهب أبي حنيفة أَنَّ ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي وعلى هذا بنى مذهبه ... ». (¬2) انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " حيث قد أفاض الدكتور السباعي في الرَدِّ على مزاعم الأستاذ أحمد أمين بالتفصيل. ص 298 وما بعدها وانظر " دفاع عن السُنَّة " الدكتور محمد أبو شُهبة: ص 145.

تركوا خبر أبي هريرة هنا - لا لخصوص أبي هريرة - كما يزعم المؤلف، ولا خروجًا عن قاعدتهم بل يناء على قاعدة مُسَلَّمٌ بها عندهم وعند جميع العلماء أنَّ الخبر إذا عارض الكتاب والسُنَّة والإجماع لم يعمل به، لأنَّ القاعدة في الترجيح عند تعارض الأدلة أنْ يصار إلى الأقوى ولا شك أنَّ ما دَلَّ عليه الكتاب والسُنَّة بمجموعها والإجماع أقوى مِمَّا دَلَّ عليه خبر الآحاد، وهذا الخبر قد عارض عندهم الكتاب والسُنَّة والإجماع فلا يعمل به، ثم سلكوا في الجواب عنه مسالك مختلفة أقربها أنه منسوخ. وَأَيًّا كان الأمر فليس في مسلك الحنفية هنا ما يعود بالطعن على أبي هريرة. 12 - قال: «وَالوُضّاع قد استغلوا فرصة إكثاره فزوَّرُوا عليه أحاديث لاَ تُعَدُّ» (¬1). نقول: إنَّ هذا شيء لم يُخَصَّ به أبو هريرة بل إِنَّ عَلِيًّا وعمر وعائشة وابن عباس وغيرهم قد كُذِبَ عليهم، إذًا فما وجه تخصيص أبي هريرة بالذكر إِلاَّ أنَّ الأستاذ يريد التشكيك في مرويات أبي هريرة كلها كما صَرَّحَ قبل ذلك بقوله: «كل هذه الظروف تجعلنا نقف من أحاديث أبي هريرة موقف الحذر والشك»، بهذا يُنْهِي الأستاذ حديثه عن أبي هريرة كما أنهى سلفه - جولدتسيهر - بحثه في أبي هريرة حيث يقول: «إنَّ كثيرًا من الأحاديث التي نسبها الرُواة إليه قد نُحِلَتْ عليه في عصر متأخر» (¬2). وهكذ يحمل مؤلف " فجر الإسلام " حملات مُنْكَرَةٍ بأسلوب لطيف على هذا الصحابي الجليل من غير تَثَبُّتٍ ولا تحقق أو مُتعمدًا ليحقق فكرة خبيثة في ذهن مستشرق ومغلوب على هواه لِيُشَوِّهَ بها سيرة عظمائنا الذين نقلوا إلينا هذا الشرع وحفظوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ¬

_ (¬1) " فجر الإسلام ": ص 270. (¬2) " دائرة المعارف الإسلامية ": 2/ 25 - 27.

13 - يزعمون أَنَّ السُنَّة لما دخلها من الوضع ورواية بالمعنة لم تعد مَحَلاًّ للثقة والاعتماد، يقول أبو رية [ص 8] أنه بعد أنْ لبث زمنًا طويلاً يبحث ويُنَقِّبُ بعد أَنْ أخذ نفسه بالصبر والأناة، انتهى إلى حقائق عجيبة ونتائج خطيرة: «ذلك أني وجدت أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث (كلها) - مِمَّا سَمَّوْهُ صحيحًا أو ما جعلوه حسنًا - حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومُحْكَمِ تركيبه كما نطق به الرسول ... وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة، وذلك في القلة والندرة، وَتَبَيَّنَ لي أنَّ ما يسمُّونه في اصطلاحهم حديثًا صحيحًا إنما كانت صِحَّتُهُ في نظر رُوَّاتِهِ لاَ أَنَّهُ صَحِيحٌ في ذاته». إنه يريد أنْ يُفْهِمَ القارئَ أنَّ السُنَّة لم يأت فيها حديث على مُحْكَمٍ لفظه وأصل تركيبه، وأنها قد دخلها الكثير من التغيير والتحريف والتبديل وأنَّ رواية الحديث بالمعنى هو الأصل والقاعدة ومجيئها على اللفظ النبوي أمر شاذ ونادر ... الخ. «ونحن لا نقول: إِنَّ الأحاديث كلها رُوِيَتْ بألفاظها، وكيف وقد ثبت أنَّ القصة الواحدة أو الواقعة رُوِيَتْ بألفاظ مختلفة وإنْ كان المعنى واحداً؟ ولا نقول: إنَّ الأحاديث كلها رُوِيَتْ بالمعنى - كما زعم - وكيف ومن الأحاديث ما اتفقت الروايات على لفظها؟ أفلا يدل اتفاق الروايات على اللفظ أنَّ هذا حقيقة اللفظ المسموع من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ومن الأحاديث ما لا يشك متذوق للبلاغة أنها من كلام أفصح العرب، وأنها لن تخرج إِلاَّ من مشكاة النبوَّة» (¬1). وبعد هذا يعلم أنَّ الرواية بالمعنى قد منعها كثير من العلماء كما أجازها بعض الآخرين لمن كان عارفًا بالألفاظ والأساليب خبيرًا بمدلولاتها والفروق ¬

_ (¬1) انظر " دفاع عن السُنَّة " الدكتور محمد أبو شُهبة: ص 52.

الدقيقة بينها على أنْ تكون بقدر الحاجة إليها لا أنها أصل يتبع ويلتزم في الرواية وأنَّ الرواية بالمعنى ممنوعة باتفاق في الأحاديث المعتبر بلفظها كالأذكار والأدعية وجوامع كلمه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إنَّ الذين نقلوا الأحاديث من الصحابة ومن بعدهم من ثقات الرواة كان لهم من الخصائص الدينية والنفسية والخُلُقِيَّةِ ما يعصمهم من التغيير والتبديل والتساهل في الرواية، وإنكار ذلكر مكابرة. وأما ما ادَّعَاهُ من أنه يَتَبَيَّنُ له أنَّ ما سَمَّوْهُ صحيحًا إنما هو في نظر رواته لا أنه صحيح في ذاته، فشيء سبق به من ألف سَنَةٍ أو تزيد، فقد قال أئمة الحديث (¬1) إنَّ الحكم على الحديث بالصحة أو الحسن أو عدم تحققها. وليس المراد أنه صحيح أو حسن أو ضعيف في الواقع ونفس الأمر، إذ لا يعلم ذلك يقينًا إلاَّ عَلاَّمُ الغيوب وأنه يجوز عقلاً أنْ يكذب الصادق ويصدق الكذوب به، وهذا التجويز العقلي دعاهم إليه التعمق في البحث والتأنِّي في النظر والتثبت في الحكم وبلوغ الغاية في النصفة» (¬2). 14 - قالوا: «إنهم أباحوا للناس أنْ يَرْوُوهَا - السُنَّة - عنهم بالمعنى على حسب ما فهموه»، قاله الدكتور توفيق صدقي (¬3). ونقول له: إنَّ جواز رواية الحديث بحسب ما يؤدِّيه الفهم، لا نسمعه إلاَّ منك فإنَّ المقرر المعروف أنَّ فهم الحديث في ذاته تابع لروايته لا أنَّ روايته تابعة لفهمه، وأما رواية الحديث بمعناه - إذا غاب عن الراوي لفظه - فجائز لأنَّ المراد منه حكمه لا التحدي بلفظه، ولأنَّ القرآن مُتَعَبَّدٌ بلفظه وليست السُنَّةُ كذلك، إذًا فلا بأس بروايته بمعناه. ¬

_ (¬1) انظر " قواعد في علوم الحديث " ظفر أحمد العثماني التهانوي: ص 49 - 56. (¬2) " دفاع عن السُنَّة ": ص 54. (¬3) انظر " مجلة المنار ": 9/ 913.

15 - وقال الدكتور توفيق - أيضًا -: «إنَّ ولوع المتقدمين بجمع روايات الحديث مدعاة إلى وقوع التضارب والاختلاف فيها». قلنا بالعكس بل هو ادَّعَى إلى حفظها وصيانتها لأنَّ من وقف على قراءة شيء من أخبار اولئك الأخيار العدول الذين انقضت أعمارهم في هذا السبيل، إذ كان يمشي الواحد منهم الشهر والشهرين والأكثر متنقلاً بين الأقطار والمدن لطلب الحديث الواحد، قال سعيد بن المسيب: «كُنْتُ أَرْحَلُ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِي فِي طَلَبِ الحَدِيثِ الوَاحِدِ». مع العلم أنَّ ولوع المتقدمين بجمع الروايات ورواية الحديث الواحد بطرق متعددة وبأسانيد مختلفة أكبر مدافع لدعوى التضارب والاختلاف فيها. 16 - قالوا: كيف نقبل الأحاديث ونعتبرها صحيحة وقد بلغ عددها أكثر من سبعمائة ألف، ألم يكن للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شغل شاغل إلاَّ الكلام فقط؟. وأضاف بعضهم: إنَّ الأحاديث الموجودة بين أيدينا لا تصل إلى مائة ألف، فأين بقية الرصيد المُدَّعَى؟. أما الأستاذ أحمد أمين فاتخذ من كثرة الحديث دليلاً على كثرة الوضع حيث قال: « ... وأن البخاري وكتابه يشتمل على سبعة آلاف حديث منها نحو ثلاثة آلاف مُكَرَّرَةٌ، قالوا: إنه اختارها وصَحَّتْ عنده من ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره» (¬1). نحن لا ننكر كثرة الحديث ولكن يجب أنْ يعلم تحديد المراد من كلمة الحديث وتفريق العلماء بين الحديث والخبر والأثر. ¬

_ (¬1) " فجر الإسلام ": ص 529.

فقد قال جماعة: إنَّ الحديث ما أضيف إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيختص بالمرفوع عند الإطلاق ولا يراد به الوقوف إلاَّ بقرينة. أما الخبر فإنه أعم من أنْ يطلق على المرفوع والموقوف فيشمل ما أضيف إلى الصحابة والتابعين وعليه يُسَمَّى كل حديث خبرًا، ولا يُسَمَّى كل خبر حديثًا. أما الأثر: فإنه مرادف للخبر، فيطلق على المرفوع والموقوف. وفقهاء خراسان يسمون الوقوف بالأثر، والمرفوع بالخبر. فإذا عرف تحديد المراد بالحديث والخبر والأثر سهل علينا أنْ نفهم معنى لهذه الكثرة الهائلة، فهي شاملة لما نقل عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأقوال الصحابة والتابعين، كما يشمل طرق الحديث الواحد، فقد يروي المُحَدِّثُ الحديث الواقع من طرق مختلفة بجمع طرقه من رُواته، فقد يبلغ أحيانًا عشرة طرق فيعدها عشرة أحاديث وهي ليست إلاَّ حديثًا واحدًا، وقد كان إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول: «كُلُّ حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مِنْ مِائَةِ وَجْهٍ فَأَنَا فِيهَ يَتِيمٌ». وبهذا إذا جمعت أقوال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وتقريراته إلى أقوال الصحابة والتابعين، وجمعت طرق كل حديث لا يستغرب ولا يستبعد أنْ يبلغ ذلك كله مئات الألوف بهذا المعنى. وبهذا تفهم معنى قول بعضهم: «فلان كان يحفظ سبعمائة ألف حديث». أي من أقوال الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة والتابعين مع طرق كل قول.

الباب السادس: أمثلة من الأحاديث تعرضت لنقد منكري السنة:

الباب السادس: أمثلة من الأحاديث تعرَّضت لنقد مُنْكِرِي السُنَّة: قد تعرض هؤلاء المنكرون لسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لطعن ونقد كثير من الأحاديث الصحيحة وفيما يأتي أمثلة منها: الحديث الأول: [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (¬1) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30]]. -------------------------------- (1) هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدَّوْسِيُّ اليماني، ونظراً لما أشيع حوله من شُبُهَاتٍ ومطاعن، ومفتريات فإني أوسع ترجمته - بعض الشيء - أداءً لبعض حقه ولما قام به من خدمة جليلة في سبيل السُنَّةِ الشريفة فأقول: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس فسمَّاهُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن، واشتهر بِكُنْيَتِهِ حتى غلبت على اسمه وسُئِلَ أبو هريرة: لِمَ كُنِّيتَ بذلك؟ قال: «كُنِّيتُ أبا هريرة لأني وجدت هِرَّةً فحملتها في كُمِّي فقيل لي: أبو هريرة». أسلم سَنَةَ سبع من الهجرة على الطُفيل بن عمرو وقد لازم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى آخر حياته وقصر نفسه على خدمته فكانت صحبته ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في " الإصابة ": 7/ 199 - 201 و " تهذيب التهذيب ": 12/ 63 و " تاريخ الإسلام ": 2/ 333 و " طبقات ابن سعد ": 52/ 4 / 2.

أربع سنوات وقد اتَّخذ الصفة مقامًا له وخدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ملء بطنه وكان يحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُبًّا شديدًا وكان ورعًا ملتزمًا سُنَّةَ رسول الله يُحَذِّرُ الناس من الانغماس في ملذات الدنيا وشهواتها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، صبر على الفقر الشديد حتى أنه كان يلصق بطنه بالحصى من الجوع، يقول: «إِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، [بِشَبَعِ] بَطْنِي، حَتَّى لاَآكُلَ الخَمِيرَ ... »، ويقول: «وَكُنْتُ فِي سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الصُفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، إِمَّا بُرْدَةٌ، أَوْ كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوهَا فِي أَعْنَاقِهِمْ» (¬1). وكان عفيف النفس مع فقرة فياض اليد مبسوط الكف لم يحمله فقره على الشح. اعتزل الفتن التي قامت بعد استشهاد عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وربما كان يحث الناس على اعتزالها ويروي عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» (¬2). كان حسن المعشر طيب النفس صافي السريرة نظر إلى الدنيا بعين الراحل عنها فلم تدفعه الإمارة إلى الكبرياء بل أظهرت تواضعه فربما استخلفه مروان على المدينة فيركب حمارًا قد شد عليه بردعة وفي رأسه خلبة (*) من ليف يسير فيلقى الرجل فيقول: «الطَّرِيقَ .. قَدْ جَاءَ الأَمِيرُ» (¬3). ويمر في السوق يحمل الحطب على ظهره - وهو يومئذٍ أمير على المدينة - لمروان ¬

_ (¬1) " السُنَّة قبل التدوين " الدكتور محمد عجاج الخطيب: ص 414. (¬2) رواه البخاري. انظر " فتح الباري ": 7/ 426. (*) [الخلبة: الحلقة]. (¬3) " طبقات ابن سعد ": 4/ 2 / 60، 61.

كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يتأخر عن إجابته لما يسأل لما عرف من حرصه على طلب العلم، قال ذات يوم: يَا رَسولَ الله مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله خَالِصًا مِنْ [قِبَلِ نَفْسِهِ]» (¬1). قد عرف الصحابة منزلته بعد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان يُحَدِّثُ في مسجد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويفتي الناس بحضرة علماء وكبارهم وكان أمينًا في حديثه عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا قال في شيءٍ برأيه قال: «هَذَا مِنْ كِيسِي» وقد روى عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرًا وكان يقول: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرُ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ، وَلاَ أَكْتُبُ» وقد شهد له إخوانه أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكثرة سماعه وأخذه عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه الشهادات تدفع كل ريب أو ظن حول كثرة حديثه حتى أَنَّ بعضهم رَوَوْا عنه لأنه سمع عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمعوا. رَوَى أَشْعَثُ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، ... » (¬2). وكان حافظًا ضابطًا لما يُرْوَى، اجتمعت فيه صفتان عظيمتان تتم إحداهم الأخرى، الأولى سعة علمه وكثرة مروياته والثانية قوة ذاكرته وحسن ضبطه، وهذا غاية ما يتمناه أولو العلم. ¬

_ (¬1) " البخاري ": 1/ 203 و " طبقات " ابن سعد: 2/ 118 - 2. (¬2) " سير أعلام النبلاء ": 2/ 436.

روى عنه خلق كثير من التابعين. قال البخاي: روى عنه نحوًا من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم. قال ابن عمر: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْلَمُنَا بِحَدِيثِهِ» (¬1). قال الإمام الشافعي: «أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ» (¬2). وقال الذهبي: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَثِيقَ الحِفْظِ، مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ» (¬3). وهذا ما ذكرناه غيض من فيض، شهد به رؤوس العلم لأبي هريرة، فسعة علمه وكثرة حديثه لا يخفيان على مسلم. وفاته: توفي سَنَةَ تسع وخمسين - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرَحِمَهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً - ------------------------------------- «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ (لاَ يَقْطَعُهَا)» (¬4). النقد: يقول أبو رية عن هذا الحديث: «وإليك مثلاً من ذلك نختم به ما نقله من الأحاديث التي رواها أبو هريرة وهي في الحقيقة من الإسرائيليات حتى لا يطول بنا القول». ثم ذكر الحديث، ثم قال: «ولم يكد أبو هريرة يروي هذا الحديث ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء ": 2/ 435. (¬2) المصدر السابق: 2/ 432. (¬3) المصدر السابق: 2/ 446. (¬4) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي: 6/ 286 وما بين قوسين له. وفي التفسير: 8/ 627 وفي الرقاق: 11/ 415 ومسلم: 4/ 2175 والترمذي في صفة شجر الجنة: 7/ 225 وأخرجه ابن ماجه: 2/ 1450 رقم الحديث (4335) في كتاب الزهد. والدارمي في كتاب الرقاق: 2/ 244 وفيه زيادة: «وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}» [الواقعة: 30]. ورواه الإمام أحمد في " المسند ": (2/ 257، 404، 418، 438، 452، 455، 462، 479، 487) و (3/ 110، 135، 164، 185، 207، 234) وله شاهد عند مسلم عن سهل بن سعد: 4/ 2176 وعن أبي سعيد بلفظ: «يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ [السَّرِيعَ]، مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا».

حتى أسرع كعب، قال: " صدق والذي أنزل التوراة على موسى، والفرقان على محمد (¬1) - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». الرد: أنكر أبو رية هذا الحديث على أبي هريرة وزعم أنه من الإسرائيليات لكن ما وجه الإنكار فيه؟ إذا كان رواه أبو هريرة، فقد رواه سهل بن سعد وأبو سعيد كما ذكرنا في التخريج. وإذا كان وجه إنكار هذا الحديث لضخامة الشجرة وكبرها فهل يستغرب وجود مثل هذه الشجرة في {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (¬2) وإذا كان وجه إنكار هذا الحديث هو كون الراكب يسير في ظلها مائة عام فإني أسأله: أليست الجنة من أمور الغيب؟ أليس رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» (¬3) إذًا فما وجه الإنكار والاستغراب؟ ليس إلاَّ الزيغ والإلحاد ... هل يريد هؤلاء أَنْ ينفوا كل ما لم تتصوره عقولهم وتفكيرهم؟ فإن أرادوا هذا وجب عليهم أَنْ ينفوا كثيرًا من المخترعات التي نسمع بها ولا نراها أو نراها ولا نعقلها. ثم أليس في عالم الشهادة ما استطاع العلم أَنْ يكشف من عظمته مما لا يكاد يتصوره العقل، ألا يُحَدِّثُنَا علماء الفلك الآن عن كبر حجم الشمس بالنسبة إلى أرضنا أكثر من مليون مرة؟ والشمس إحدى ملايين السموس التي تكبر شمسنا هذه بملايين المرات؟ ألا يحدثنا هؤلاء العلماء عن شموس ¬

_ (¬1) " أضواء على السُنَّة المحمدية " محمود أبو رية: ص 177. (¬2) [الحديد: 21]. [الآية التي ذكر فيها {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} هي الآتية {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]]. (¬3) رواه البخاري: 13/ 465.

في هذا الفضاء الرحب، لم يصل إلى الأرض نورها حتى الآن منذ مليون أو أكثر من السنوات الضوئية

الحديث الثاني:

الحديث الثاني: 2 - عَنْ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ ذَلِكَ اليَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ» (¬1). النقد: قال الأستاذ أحمد أمين: «وقد وضع علماء الجرح والتعديل قواعد ليس هنا محل ذكرها ولكنهم - والحق يقال - عنوا بنقد الإسناد أكثر مِمَّا عنوا بنقد المتن، فقلَّ أنْ نَظْفَرَ منهم بنقد من ناحية أَنَّ ما نسب إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يتفق والظروف الي قيلت فيه، أو أَنَّ الحوادث التاريخية الثابتة تناقضه، أو أَنَّ عبارة الحديث نوع من التعبير الفلسفي يخالف المألوف في تعبير النبي، أو أَنَّ الحديث أشبه في شروطه وقيوده بمتون الفقه وهكذا، ولم نظفر منهم في هذا الباب بعشر معشار ما عنوا به من جرح الرجال وتعديلهم حتى نرى البخاري نفسه - على جليل قدره ودقيق بحثه - يثبت أحاديث دَلَّتْ الحوادث الزمنية والمشاهدة التجريبية على أنها غير صحيحة، لاقتصاره على نقد الرجال، كحديث: «لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ نَفْسٌ ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الطب: 10/ 238 و 246 بألفاظ متقاربة، وفي الأطعمة: 9/ 569 بلفظ: «مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ»، ومسلم بلفظ: «مَنْ تَصَبَّحَ» عن سعيد. وفي لفظ: «مَنْ أَكَلَ» 3/ 1618، وأبو داود في الطب: 4/ 208، والإمام أحمد بن حنبل: 1/ 181.

مَنْفُوسَةٌ» (¬1) وحديث «مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ ذَلِكَ اليَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ» (¬2). الرد: إنَّ المؤلف نقد هذا الحديث لأنَّ الحوادث الزمنية والمشاهد التجريبية - على حسب زعمه - تخالفه، ولا عبرة عنده أَنَّ الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد وأنه صحيح سندًا ومَتْنًا. إِنَّ قطع مؤلف " فجر الإسلام " بتكذيب هذا الحديث جرأة مذمومة بالغة منه، لا يمكن أَنْ تقبل في المحيط العلمي بأي حال، كيف وقد دلت شواهد طبية - كما سأذكرها - على أَنَّ التمر مفيد في وقاية الجسم وعلاجه من أمراض العيون والبواسير ونحو ذلك، ولو لم تكن هذه الشواهد موجودة، فإنَّ الحديث الصحيح حُجَّةٌ في نفسه لا يحتاج إلى شواهد خارجية. إنَّ العلماء من جعل هذا الحديث خاصًا بتمر المدينة عملاً برواية مسلم «إِنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءً - أَوْ إِنَّهَا تِرْيَاقٌ - أَوَّلَ البُكْرَةِ» (¬3). وقالوا: ولا مانع أَنْ يخص الله بلدًا بميزة لا تكون في غيرها لبعض إلاَّ دواء في الأدوية التي تكون في بعض تلك البلاد دون ذلك الجنس في غيره، لتأثير يكون في تلك الأرض أو ذلك الهواء ببركة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: «ظَاهِر [الأَحَادِيث] خُصُوصِيَّةِ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ بِدَفْعِ السُّمّ وَإِبْطَال السِّحْر، وَالْمُطْلَق مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى المُقَيَّدِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْخَوَاصِّ الَّتِي لاَ تُدْرَكُ بِقِيَاسٍ ظَنِّيٍّ» (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري: 1/ 211، وسيأتي الحديث عنه. (¬2) " فجر الإسلام " لأحمد أمين: 1/ 217، 218. (¬3) " صحيح مسلم ": 3/ 1619. (¬4) " فتح الباري ": 10/ 240.

وقال النووي: «وَفِي هَذِهِ [الأَحَادِيثِ] فَضِيلَةُ تَمْرِ الْمَدِينَةِ وَعَجْوَتِهَا وَفَضِيلَةُ التَّصَبُّحِ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْهُ وَتَخْصِيصُ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهَا» (¬1). ومنهم من قال إنَّ هذا عام في كل عجوة لأنَّ: «السَّمُومَ إِنَّمَا تَقْتُلُ لإِفْرَاطِ بُرُودَتِهَا فَإِذَا دَاوَمَ عَلَى التَّصَبُّحِ بِالْعَجْوَةِ تَحَكَّمَتْ فِيهِ الْحَرَارَةُ وَأَعَانَتْهَا الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ فَقَاوَمَ ذَلِكَ بُرُودَةَ السُّمِّ مَا لَمْ يُسْتَحْكَمْ» (¬2). والذي ارتضاه الأكثرون تخصيصه لعجوة المدينة لما مَرَّ من حديث " مسلم " ولما جاء في حديث سَعْدٍ الآتِي قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي فَقَالَ: «إِنَّكَ رَجُلٌ مَفْؤُودٌ، ائْتِ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ أَخَا ثَقِيفٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَتَطَبَّبُ فَلْيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنَّ بِنَوَاهُنَّ ثُمَّ لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ» (¬3). قال ابن القيم: «والتمر غذاء فاضل حافظ الصحة ولا سيما من اعتاد الغذاء به كأهل المدينة وغيرهم ... » إلى أَنْ قال: «وتمر العالية من أجود أصناف تمرهم فإنه مُلَيِّنٌ للجسم لذيذ الطعم، صادق الحلاوة، والتمر يدخل في الأغذية والأدوية والفاكهة وهو يوافق أكثر الأبدان ... ولا ريب أَنَّ للأمكنة اختصاصًا ينفع كثيرًا من الأدوية في ذلك دون غيره فيكون الدواء الذي نبت في هذا المكان نافعًا من الداء» (¬4). ولا يوجد فيه ذلك النفع إذا نبت ف يمكان غيره لتأثير ¬

_ (¬1) " شرح مسلم " للنووي: 14/ 3. (¬2) " فتح الباري ": 10/ 240. (¬3) رواه أبو داود: 4/ 207 وفي إسناده مقال. (¬4) قلتُ: من هذا الباب ما ذكروا أَنَّ هناك بئرًا بطريق المدينة (حائل) يستشفى الناس من مائه، وأَنَّ كثيرًا مِمَّنْ سقوا منه شفوا من أمراضهم بعد شربهم واغتسالهم منه وأَنَّ أفواجًا من الناس الذين ابتلاهم الله بأمراض يتزاحمون عليه بكرة وعشيًا للشرب منه حتى اضطرت الإمارة والشرطة إلى تعيين رجال الأمن حوله للحفاظ على النظام وتفاديًَا من الفوضى. وقامت البلدية ببناء أحواض لتسيير عملية توزيع الماء، فإذا كان هذا واقعًا في مدينة حائل فما ظنك بالمدينة المنورة التي فاضت بدعاء النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتواترت في فضائلها أحاديث كثيرة وقد جمعتها وخَرَّجْتُهَا في " الدرة الثمينة في جمع وتخريج ما ورد من الحديث في فضائل المدينة ". اهـ.

نفس التربية أو الهواء أو هما معًا جميعًا، فإنَّ للأرض خواص وطبائع يقارب اختلافها اختلاف طبائع الإنسان، وكثير من النبات يكون في بعض البلاد غذاء مأكولاً، وفي بعضها سُمًّا قاتلاً. وقال في مكان آخر: «وَنَفَعَ هَذَا الْعَدَدُ مِنْ [هَذَا] التَّمْرِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ مِنْ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِعَيْنِهَا مِنَ السَّمِّ وَالسِّحْرِ، بِحَيْثُ تَمْنَعُ إِصَابَتُهُ، مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي لَوْ قَالَهَا أَبُقْرَاطُ وَجَالِينُوسْ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الأَطِبَّاءِ، لَتَلَقَّاهَا عَنْهُمُ الأَطِبَّاءُ بِالقَبُولِ وَالإِذْعَانِ وَالانْقِيَادِ، مَعَ أَنَّ الْقَائِلَ إِنَّمَا مَعَهُ الْحَدْسُ وَالتَّخْمِينُ وَالظَّنُّ، فَمَنْ كَلاَمُهُ كُلُّهُ يَقِينٌ، وَقَطْعٌ وَبُرْهَانٌ، وَوَحْيٌ أَوْلَى أَنْ تُتَلَقَّى أَقْوَالُهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَتَرْكِ الاعْتِرَاضِ» (¬1). «أما السحر فإذا ذهبنا إلى أنه مرض نفسي، وأنه يحتاج إلى علاج نفسي، وَأَنَّ الإيحاء النفسي له أثر كبير في شفاء المرضى بمثل تلك الأمراض، وإذا أخذنا العجوة إلى أنها مُغَذِّيَةٌ مفيدة للجسم، مقوية للبنية، قاتلة للديدان، قاضية على تعفن الفضلات، وأنها من عجوة المدينة، مدينة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن هذا علاج وصفه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وهو الذي لا ينطق عن الهوى. لا أشك في أَنَّ ذلك يحدث أثراً طيباً في نفس المسحور، وقد أثبت الطب أثر التخيل والوهم والإيحاء النفسي في كثير من الأمراض شفاء أو إصابة، أفليس ذلك من شأنه ألا نتسرع في تكذيب الحديث ما دام من الممكن تخريجه على وجه معقول؟» (¬2). تجربة علمية تؤيد الحديث: ---------------------------- وإذا كان الحديث حُجَّةً في نفسه لا يحتاج إلى دعم خارجي، فإنَّ النفس تطير فرحًا وسرورًا عندما يوافق العلمُ الصحيح الحديثَ الصحيح، كتبت جريدة " الأهرام " تحت عنوان (البلح علاج لأمراض العيون والجلد والأنيميا والنزيف ولين العظام والبواسير ويساعد على الولادة بسرعة). ¬

_ (¬1) " الطب النبوي ": [ص 75، طبعة دار الهلال - بيروت]. (¬2) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 284.

أثبتت الأبحاث العلمية التي أجريت أخيرًا بالمركز القومي للبحوث أَنَّ البلح غذاء كامل، ويفيد في وقاية الجسم وعلاجه من أمراض العيون وضعف البصر وعلاج الأمراض الجلدية كالبلاجرا وأمراض الأنيميا وحالات النزيف ولين العظام والبواسير ويساند المرأة الحامل على الولادة بسهولة. صَرَّحَ بذلك الدكتور عبد العزيز شرف المشرف على وحدة بحوث الأدوية بالمركز القومي للبحوث وأضاف: «إِنَّ الأبحاث أثبتت كذلك أَنَّ البلح يعادل اللحم في قيمته الغذائية ويتفوق عليه بما يعطيه من سعرات حرارية ومواد معدنية وسكرية وذلك بالإضافة إلى أنه غني بالكالسيوم والفُسْفُورِ والحديد ويحتوي على غالبية الفيتامينات المعروفة» (1). ويقول الدكتور السباعي أنه جرب بنفسه حين ذهب إلى الحج في عام 1384 هـ واستمر على التصبح بسبع تمرات من تمر المدينة مدة خمسة أشهر كاملة، وأنه مصاب بمرض (السكر) ثم حلل البول والدم فلم يظهر أي أثر للسكر في البول ولم يزد السكر في الدم عما كان عليه قبل سفره إلى الحج (2). بعد هذه التجارب المؤكدة لا يجوز أَنْ يبقى شك في نفس المسلم. أما الملحدون وأصحاب الأهواء فللكلام معهم أسلوب آخر ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

الحديث الثالث:

الحديث الثالث: 3 - عن ابن عمر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ» (¬1). النقد: هذا الحديث من الأحاديث التي زعم مؤلف " فجر الإسلام " أَنَّ الحوادث الزمنية والمشاهد التجريبية تخالفه كما مر آنفًا في الحديث السابق. الرد: إِنَّ صاحب " فجر الإسلام " اقتصر على الجزء من الحديث الذي ذكره البخاري (¬2) « ... فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ»، أما البخاري فعادته ما جرى عليه من تقطيع الحديث في أبواب متعددة، والمؤلف إنما حكم عليه بالوضع لمخالفته للحوادث التاريخية والمشاهد - على حسب زعمه - على الجزء من الحديث، فلو جمع الحديث من طرقه المختلفة وأبوابه المتعددة، ربما لم يخرج بهذه النتيجة المؤسفة. فقد روى الحديث ¬

_ (¬1) رواه البخاري في (كتاب العلم): 1/ 211 عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَد». وفي (باب مواقيت الصلاة) « ... فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ " يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ. ورواه مسلم عن جابر بألفاظ متقاربة. وأبو داود في (الملاحم): 4/ 506 والترمذي في (الفتن): 6/ 525. (¬2) " فتح الباري ": 2/ 45.

من طرق متعددة فَسَّرَ بعضها بعضًا، فالمراد من الحديث أنه عند انقضاء مائة سَنَةٍ من قول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لن يبقى أحد مِمَّنْ كان موجودًا في عهده - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قال هذا النبأ. قال ابن قتيبة: «وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا حَدِيثٌ قَدْ أَسْقَطَ الرُّوَاةُ مِنْهُ حَرْفًا (أي كلمة)، إِمَّا لأَنَّهُمْ نَسَوْهُ، أَوْ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْفَاهُ، فَلَمْ يَسْمَعُوهُ. وَنَرَاهُ - بَلْ لاَ نَشُكُّ - أَنَّهُ قَالَ: " لاَ يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ ". يَعْنِي، مِمَّنْ حَضَرَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَوْ يَعْنِي الصَّحَابَةَ فَأَسْقَطَ الرَّاوِي (مِنْكُم)» (¬1). وعلى كل حال فإنَّ الروايات الأخرى توضح هذه الرواية، قال النووي: «هَذِهِ الأَحَادِيثُ [قَدْ] فَسَّرَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَفِيهَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلاَمِ النُّبُوَّةِ وَالمُرَادُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى الأَرْضِ لاَ تَعِيشُ بَعْدَهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ سَوَاءٌ قَلَّ أَمْرُهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَمْ لاَ؟ وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ عَيْشِ أَحَدٍ يُوجَدُ بَعْدَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَوْقَ مِائَةِ سَنَةٍ» (¬2). ويرى الدكتور السباعي: أَنَّ بعض الصحابة «لَمْ يَفْطِنْ إِلَىَ تَقْيِيدِ الرَّسُولِ بِمَنْ هُوَ عَلَىَ ظَهْرِهَا - اليَوْمَ - فَظَنُّوهُ عَلَىَ إِطْلاَقِهِ وَأَنََّ الدُّنْيَا تَنْتَهِي بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَنَبَّهَهُمْ ابْنِ عُمَرَ إِلَىَ [القَيْدِ] فِي لَفْظِ الرَّسُولِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَ لَهُمْ المُرَادَ مِنْهُ» (¬3). وقد استقصى العلماء من كان آخر الصحابة مَوْتًا فذكر الحافظ في " الفتح " أَنَّ أبا الطُفيل عامل بن واثلة آخر من مات من أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ وفاته كانت سَنَةَ مائة من الهجرة (¬4). وكل ما في الأمر أَنَّ الرسول بَيَّنَ لأصحابه أنهم لن يعمروا كما عمر من ¬

_ (¬1) انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 99. (¬2) " شرح النووي على مسلم ":16/ 90. (¬3) [" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلام " للدكتور مصطفى السباعي: ص 279، الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م، المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان]. (¬4) " فتح الباري ": 2/ 75.

كان قبلهم من الأمم ولذلك عليهم أَنْ يَجِدُّوا في طاعتهم ويعملوا في دنياهم لآخرتهم وليس في هذا ما يخالف الحوادث الزمنية والمشاهدات التجريبية. قال السباعي: «فَأَنْتَ تَرَىَ أَنََّ هَذَا الحَدِيثَ الذِي كَانَ فِي الوَاقِعِ مُعْجِزَةً مِنْ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقَلِبُ فِي مَنْطِقِ النَّقْدِ الجَدِيدِ الذِي دَعَا إِلَيْهِ صَاحِبُ " فَجْرِ الإِسْلامِ " إِلَى أَنْ يَكُونَ مَكْذُوبًا مُفْتَرَىً!» (¬1). «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبُكَ مِنْ أَنَّ مُؤَلَِّفَ " فَجْرِ الإِسْلامِ " ذَكَرَ فِي آخِرِ فَصْلِهِ أَهَمَّ مَرَاجِعَ بَحْثِهِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا " فَتْحِ البَارِي "، وَ " القَسْطَلاَّنِي عَلَىَ البُخَارِيِ " وَ " شَرَحَ النَوَوِيَّ عَلَىَ مُسْلِمٍ "، وَهَؤُلاَءِ الشُرَّاحِ نَبَّهُوا عَلَىَ مَعْنَى الحَدِيثِ، وَبَيَّنُوا تَقْسِيِْ البُخَارِي لَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَأَشَارُوا عِنْدَ الجُزْءِ المُخْتَصَرِ إِلَىَ مَوْضِعِ الحَدِيثِ الكَامِلِ، فَإِنْ كَانَ الأُسْتَاذُ اطََّلَعَ عَلَىَ رِوَايَاتِ الحَدِيثِ وَأَقْوَالَ الشُرَّاحِ، فَكَيْفَ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَذِبِهِ؟ وَإِنْ لَمْ يَطََّلِعْ عَلَيْهَا فَكَيْفَ عَدَّ تِلْكَ الْشُّرُوحِ مِنْ مَرَاجِعَ بَحْثِهِ، بَلْ كَيْفَ اسْتَبَاحَ الخَوْضَ فِي هَذَا المَوضُوعِ عَلَىَ غَيْرِ هُدَىً؟» (¬2). ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلام " للدكتور مصطفى السباعي: ص 281. (¬2) [المصدر السابق: ص 282].

الحديث الرابع:

الحديث الرابع: 4 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتْ الْجَنَّةُ مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ. فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ [وَيُزْوَى] بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ» (¬1). النقد: طعن أَبُو رِيَّةَ في هذا الحديث لا لشيء - إلاَّ لأنه رواه أبو هريرة - وكل ما رواه أبو هريرة فهو عنده كذب وغير مقبول وإِنْ كان ما رواه من محاسن الإسلام لأنه يرمي إلى أبي هريرة بعين ساخطة ترى الصحيح سقيمًا والمستقيم مُعْوَجًّا والحق باطلاً. الرد: والحديث رواه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " عن أبي هريرة. ورواه مسلم عن أبي هريرة من طرق عدة لا يتطرق إليها الارتياب، ورواه أيضًا عن أبي سعيد الخُدري مرفوعًا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في (التفسير): 8/ 595 وفي (كتاب التوحيد) بلفظ: «اخْتَصَمَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا»: 13/ 434 ورواه مسلم في " صحيحه ": 4/ 2186 وهو عن أبي سعيد الخُدري نحوه إلى قوله: «وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا» ولم يذكر ما بعده من الزيادة: 4/ 2187 من " صحيح مسلم ".

وروى آخره عن أنس بن مالك. فلو كان هو من رواية أبي هريرة وحده لما اقتضى هذا الطعن فيه فما بالك وقد روى عن غيره من الصحابة كما رأيت، وبذلك انهار الأساس الذي بنى عليه كلامه وهو أنه من رواية أبي هريرة وحده وإذا كان أبو هريرة ليس بالعدل الثقة عنده فما رأيه والحديث ثبت عن غيره من الصحابة؟ وإذا كان وجه الإنكار هو أَنَّ الله تعالى يضع رجله، ففي القرآن جاء إثبات اليد والوجه والعين وغير ذلك، وإنْ كان وجه الإنكار أنهما تتخاصمان وتتكلمان فهل هذا مستنكر على الله الذي أنطق كل شيء، وهل يلزم من هذا التخاصم أَنْ يفهمه أَبُو رِيَّةَ وإلاَّ كان باطلاً. قال النووي: «هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ تَمْيِيزًا تُدْرَكَانِ بِهِ فَتَحَاجَّتَا» (¬1) ويحتمل أَنْ يكون بلسان الحال، والله على كل شيء قدير. وإنْ كان سبب الاستغراب والإنكار أَنْ يأتي الله إلى النار، فإنَّ القرآن أثبت المجيء يوم القيامة: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬2). إنَّ تحكيم العقل في مسألة الألوهية وصفاتها من سخافة العقل نفسه، ولا تؤدي عند هؤلاء المغتربين بعقولهم إلاَّ إلى الإلحاد والزندقة، وذلك لأَنَّ العقل الإنساني مهما بلغ من الذروة والكمال يبقى قاصرًا عن فهم كثير من الحقائق وخاصة المتعلقة منها بالألوهية وصفاتها والأمور التعبدية. قال الشافعي: «كما أنَّ الحواس لها حد تنتهي إليه كذلك العقل له حد ينتهي إليه ويقصر دونه» (¬3). وإذا كان العقل لا يزال عاجزًا عن معرفة سِرِّ الحياة في الإنسان نفسه، فكيف يستطيع أَنْ يحيط بحقيقة خالق هذا الكون وصفاته؟ ¬

_ (¬1) انظر " شرح صحيح مسلم " للنووي: 17/ 180 (¬2) [الفجر: 22]. (¬3) [انظر ص 32 من هذا الكتاب].

ولله دَرُّ الشاعر القائل: يَعْتَرِضُ العَقْلُ عَلَى خَاِلٍق * ... * ... * مِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ العَقْلُ (*). وإنما يستشكل هذا الحديث من لم يتذوق لغة العرب وأساليبهم في البيان والحديث سيق مساق التمثيل بجعل الجنة والنار بمنزلة شخصين عاقلين يتحاوران ويتجادلان ثم يفصل بينهما الحكم العدل بما فيه فصل الخطاب، وفي لغة العرب كثير من ذلك. قال الشاعر: شَكَا إِلَيَّ [جَمَلِي] (**) طُولَ السُّرَى * ... * ... * صَبْرًا جَمِيلاً فَكِلاَنَا مُبْتَلَى ولا شكوى ولا كلام، وإنما [مجاز] وتمثيل (¬1). ثم لنفض أَنَّ تحكيم العقل في الأحاديث هو الصواب، فنحن نسأل: أي عقل تريدون أَنْ تُحَكِّمُوهُ؟ أعقل الفلاسفة؟ إنهم مختلفون، وما من متأخر منهم إِلاَّ وهو ينقض قول من سبقه. أعقل الأدباء؟ إنه ليس من شأنهم، فإنَّ عنايتهم [- عفا الله عنهم -] بالنوادر والحكايات. أعقل علماء الطب، أو الهندسة، أو الرياضيات؟ ما لهم ولهذا؟ أعقل المُحَدِّثِين؟ إنه لم يعجبكم، بل إنكم تتهمونهم بالغباوة والبساطة. [أعقل الفقهاء؟؟ إنهم مذاهب متعددة، وعقليتهم - في رأيكم - كعقلية المُحَدِّثِين]. أعقل الملحدين؟ إنهم يريدون أَنَّ إيمانكم بوجود الله، جهل منكم وخرافة ... أعقل أهل السُنَّة والجماعة؟ هذا لا يُرْضِي الشِيعَةَ، ولا المعتزلة. [أم عقل الشِيعَة؟ هذا لا يرضي أهلَ السُنَّةَ، ولا الخوارج]. أم عقل المعتزلة؟ إنه لا يرضى جمهور طوائف المسلمين!. [سيقول أَبُو رِيَّةَ]: «إنني أرتضي عقل المعتزلة، لأنهم أصحاب العقول الصريحة» (¬2). إنه ليست القضية قضية عقل. إنه الإلحاد والزيغ والضلال، فلا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم. ¬

_ (*) [هو الشاعر أحمد الصافي النجفي، انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 39]. (**) [هي جَمَلِي وليس جَمِيلِي كما ورد في الكتاب المطبوع، انظر " دفاع عن السُنَّة " لمحمد أبو شهبة: ص 52.] (¬1) " دفاع عن السُنَّة لأبي شهبة ": ص 196. (¬2) انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 39. [ما أثبته بين [] حسب ما ورد في كتاب السباعي].

الحديث الخامس:

الحديث الخامس: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ (كُلَّهُ)، ثُمَّ لِيَنْزِعَهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُخْرَى شِفَاءً» (¬1). النقد: عَلَّقَ أَبُو رِيَّةَ على الحديث في الحاشية بما سماه (معركة الذباب) بين مجلة " لواء الإسلام " و " مجلة الدكتور " وانتصر يها لـ " مجلة الدكتور "، وأنحى باللائمة والتثريب على المُصَحِّحِينَ لهذا الحديث ونبزهم بالألقاب. الرد: الحديث قد صَحَّ سندًا وَمَتْنًا عن هؤلاء الصحابة الثلاثة: أبي هريرة وأبي سعيد وأنس ثبوتًا لا مجال فيه للشك كما ثبت صدق أبي هريرة في روايته عن رسول ¬

_ (¬1) ورد هذا الحديث عن أبي هريرة من طرق: 1 - عن عبيد بن حنين سمعت أبا هريرة ... أخرجه البخاري: 2/ 329، 4/ 71، 72. والدارمي: 2/ 99. وابن ماجه: 3505. والإمام أحمد: 2/ 398 وما بين القوسين زيادة له وهي للبخاري في روايته عنه. 2 - عن سعيد بن أبي سيعد رواه أبو داود من طريق أحمد وهو في " المسند ": 3/ 329 و 246. 3 - عن ثمامة بن عبد الله بن أنس ... أخرجه أحمد: 3/ 363، 355، 388 وسنده صحيح على شرط مسلم. 4 - عن محمد بن سيرين عنه عند أحمد: 2/ 355، 388 وسنده صحيح وللحديث شواهد: رواه أبو سعيد بلفظ ««إِنَّ أَحَدَ جَنَاحَيِ الذُّبَابِ سُمٌّ، وَالآخَرَ شِفَاءٌ، فَإِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ [فَامْقُلُوهُ]، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ» رواه أحمد: 3/ 67، وابن ماجه: 3509 والنسائي: 2/ 193 وابن حبان في " الثقات ": 2/ 102، عن أنس رواه الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد ": 5/ 38.

الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رغم أنف الطاعنين، بل إنَّ الطاعنين فيه هو الطاعن في هذا الحديث فقد رموا صحابيًا بالبهت وَرَدُّوا حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمجرد عدم انطباقه على عقولهم المريضة، والحال أنه رواه جماعة من الصحابة وليت شعري هل علم هؤلاء بعدم تفرد أبي هريرة بالحديث، وهو حُجَّةٌ لو انفرد. فكيف وقد تابعه صحابيان جليلان؟. ثم قالوا - منكرين -: كيف يكون الذباب الذي هو مياءة الجراثيم فيه دواء؟ وكيف يجمع الداء والدواء في شيء واحد؟ وهل الذباب يعقل فيقدم أحد الجناحين على الآخر؟ سبحان الله! هل العقل يمنع أَنْ يجمع الله الداء والدواء في شيء واحد بل هو معروف مشاهد، فالنحلة تلقي السم من أسفلها وتخرج عسلاً فيه شفاء للناس من فيها، والحية القاتل سمها يدخل لحمها في الترياق الذي يعالج به السم، والله الذي هدى النملة إلى أًنْ تبني بيتها على أحسن نظام هندسي، وهَدَى النملة إلى أَنْ تَدَّخِرَ قُوتَهَا لأوان حاجتها لقادر على أنْ يلهم الذبابة أنْ تقدم جناحًا وتوخر آخر ... ثم إنَّ كثيرًا من الناس يتوهم أنَّ هذا الحديث يخالف ما يقرره الطب وهو أنَّ الذباب يحمل بأطرافه الجراثيم، فإذا وقع في الطعام أو في الشراب علقت به تلك الجراثيم، والحقيقة أنَّ هذا الحديث لا يخالف الأطباء في ذلك بلى يؤيدهم إذ يخبران في أحد جناحيه داء ولكنه يزيد عليهم فيقول: «وَفِي الآخَرِ شِفَاءٌ». فهذا مما لم يحيطوا بعلمه فوجب عليهم الإيمان به إِنْ كانوا مسلمين وإلاَّ فالتوقف إنْ كانوا من غيرهم، إِنْ كانوا عقلاء علماء؟ وذلك لأن العلم الصحيح يشهد أَنَّ عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه.

هذا على افتراض أَنَّ الطب الحديث لم يشهد لهذا الحديث بالصحة حيث اختلفت آراء العلماء فيه، ونحن بصفتنا مؤمنين بصحة الحديث وأنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لاَ يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) لا يهمنا كثيرًا ثبوت الحديث من وجهة نظر الطب، لأنَّ الحديث برهان قائم في نفسه لا يحتاج إلى دعم خارجي. الطب الحديث يؤيد هذا الحديث: ------------------------------- ومع ذلك فإنَّ النفس تزيد إيمانًا وفرحًا حين ترى الحديث الصحيح يوافقه العلم الصحيح، فلهذا ألا يخلو من فائدة لو نقلت خلاصة المحاضرة التي ألقاها أحد الأطباء في جمعية الهداية في مصر حول هذا الحديث، قال: «يقع الذباب على المواد القذرة المملوءة بالجراثيم التي تنشأ منها الأمراض المختلفة، فينقل بعضها بأطرافه، ويأكل بعضا آخر، فتتكون في جسمه مادة سامة يسميها علماء الطب " مبعد البكتيريا " وهي تقتل كثيرا من جراثيم الأمراض، ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حية، أو يكون لها تأثير في جسم الإنسان في حال وجود مبعد البكتيريا هذا، وأن هناك خاصية في أحد الجناحين هي أنه يحول مبعد البكتيريا إلى ناحيته وعلى هذا إذا سقط الذباب في طعام أو شراب وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه فإن أقرب مبعد لتلك الجراثيم وأول واق منها هو مبعد البكتيريا الذي يحمله الذباب في جوفه قريبا من أحد جناحيه، فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه، وغمس الذباب كله، وطرفه كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة وكاف في إبطال عملها». ونقل الشيخ سعيد حوى تحقيقًا لطبيبين مصريين - محمود كمال ومحمد عبد المنعم - في إثبات ما في الحديث وفحوى التحقيق: «إنَّ بعض العلماء - وقد أورد أسماءهم وتواريخهم - قد استطاعوا عزل

مواد مضادة للحيوية من مزرعة للفطريات الموجودة على نفس جسم الذبابة فوجدوها ذات مفعول قوي على الجراثيم السالبة لصيغة غرام كالزحار والتيفونيم وذات مفعول قوي على الجارثيم المسببة للحميات». وهكذا يضع العلماء بأبحاثهم تفسيرًا للحديث النبوي المؤكد لضرورة غمس الذبابة كلها في السائل والغذاء ليخرج من بطنها الدواء الذي يكافح ما تحمله من داء. ويستنتج من ذلك أَنَّ العلم الحديث قد حقق بعد قرون طويلة ما أخبر به النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

الحديث السادس:

الحديث السادس: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ مُوسَى لَطَمَ عَيْنَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَأَعْوَرَهُ» (¬1). النقد: قال بعض أهل الإلحاد: «فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ عَلَى مَلَكِ الْمَوْتِ الْعَوَرُ، جَازَ عَلَيْهِ الْعَمَى. وَلَعَلَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَدْ لَطَمَ الأُخْرَى فَأَعْمَاهُ؛ لأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ أَشَدَّ لِلْمَوْتِ كَرَاهِيَةً مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَكَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ صَارِفًا هَذِهِ الْكَأْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَاصْرِفْهَا عَنِّي "» (¬2). أما أبو رية فقد قال عن الحديث: «إنَّ رائحة الإسرائيلية لتفوح من هذا الحديث». ¬

_ (¬1) رواه البخاري: 7/ 252 في (كتاب الأنبياء) والإمام مسلم: 4/ 1843 بلفظ: «جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ. فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ قَالَ فَلَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، قَالَ: فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي، قَالَ: فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ: الحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ، فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فَالآنَ مِنْ قَرِيبٍ، رَبِّ أَمِتْنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ "». (¬2) انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 276 و " مشكل الحديث وبيانه " لابن فورك: ص 333.

الرد: هذا الحديث صحيح سندًا ومَتْنًا كما رأيت، اتفق عليه الشيخان. إنَّ الله تعالى قد جعل الملائكة من الاستطاعة، أَنْ تتمثل في صور مختلفة وقد أتى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي، وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (¬1). فإن قال قائل: كيف ساغ لنبي أَنْ يلطم عين ملك الموت؟ قال القسطلاني: «أرسل الله ملك الموت إلى موسى - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - في صورة آدمي اختبارًا وابتلاءً، فلما جاءه ملك الموت بهذه الصورة ظنه آدميًا حقيقة تسور عليه منزله بغير إذنه ليوقع به مكروهًا، فلما تسور عليه صكه - لطمه - على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاء فيها دون الصورة المَلَكِيَّةِ» (¬2). فإن قال قائل: كيف ساغ لنبي أنْ يلطم عين ملك الموت وإنْ كان على صورة أخرى؟ قيل لقد قال بعض أصحابنا فيه: إنما ينتقل فيه هذه الأمثلة تخيلات وأنَّ اللطمة أذهبت العين التي هي تخيل وليست بحقيقة. ومنهم من قال: إنَّ معنى قوله: لطم موسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - عين ملك الموت (هو) توسع في الكلام وهو نحو ما يحكى عن عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: [وقال: الإمام أبو بكر بن فورك (¬3)]: «وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إَِِّن مَعْنَى قَوْلِهِ لَطَمَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - عَيْنَ مَلَكَ المَوْتِ تَوَسَّعَ فِي الكَلاَم وَهُوَ نَحْوَ مَا يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنه قَالَ: " أَنَا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَة " يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلْزَامَ مُوسَى مَلَكَ المَوْتِ الحُجَّةَ حِينَ رَادَهُ فِي قَبْضِ رُوحِهِ حسب مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر». وخلاصة ما أجيب على اعترضات هذا الحديث ¬

_ (¬1) [مريم: 17] (¬2) " مشكل الحديث " لابن فورك: ص 334. (¬3) [انظر " مشكل الحديث " لابن فورك، المحقق: موسى محمد علي، ص 314، الطبعة: الثانية، 1985 م، نشر عالم الكتب - بيروت].

1 - أنه لا يمتنع أنْ يكون موسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قد أذن الله له في تلك اللطمة ويكون ذلك امتحانًا للملطوم. 2 - أنَّ ذلك على المجاز، وأنَّ المراد أنَّ موسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ناظره فغلبه بالحُجَّة، وهذا بعيد عن ظاهر الحديث. 3 - أنَّ موسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - لم يعلم أنه ملك الموت وظن أنه رجل قصده يريد نفسه مدافعة عنها، فأدت المدافعة إلى فَقْءِ عينه، لا أنه قصدها بِالفَقْءِ (¬1). وقد رَجَّحَ ابن قتيبة القول بالمجاز، مهما كان الأمر فلا سبيل هناك إلى الطعن في الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) انظر " مشكل الحديث ": ص 333 - 335. (¬2) " تأويل مختلف الحديث ": ص 278.

الحديث السابع:

الحديث السابع: 7 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» (¬1). النقد: هذا الحديث من الأحاديث التي تعرضت لنقد الدكتور أبي شادي في كتابه " ثورة الإسلام ": ص 45، يقول: «وما هي إلاَّ أمثلة قليلة من كثير من صحف ينسب إلى صاحب أعظم شريعة عقلية شريعة عقلية قضت على الخرافات والأباطيل في عصرها ووضعت الأسس لتقدم البشرية المتواصل». الرد: هذا الكلام الذي يسرده المؤلف جزافًا يدل على جهله المركب بأصول الإسلام وتشريعه وأحكامه، والغريب أنه يعترف بأنَّ محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاحب أعظم شريعة عقلية قضت على الخرافات والأباطيل، وما وجه ¬

_ (¬1) رواه البخاري في (كتاب الجنائز): 3/ 151 وفي لفظ له «فِي قَبْرِهِ» وفي (المغازي). وأخرجه مسلم في (الجنائز): 2/ 638، 639 بلفظين (بِبُكَاءِ أَهْلِِهِ عَلَيْهِ) و (بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ). وأبو داود في (الجنائز): 3/ 494. وأخرجه الترمذي: 4/ 82 وابن ماجه: 1/ 508 والإمام أحمد في " المسند ": (1/ 26، 36، 41، 42، 50، 51، 54)، (2/ 61)، (4/ 245، 252، 255، 437)، (6/ 381) ورواه الحاكم: 1/ 381، 382.

الإنكار؟ إنَّ الخطب أعظم من هذا أنَّ المؤلف لا يؤمن بحياة أخرى للميت بعد موته في قبره، لهذا لم يستسغه عقله وأنه كيف يعذب الميت بفعل غيره وقد انقطع عمله؟ إنَّ المؤلف كثيرًا ما يتغنى بالعقل، وأنَّ الإسلام هو دين العقل وأنَّ محمدًا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو صاحب أعظم شريعة عقلية، يقول في ص 169: «إنَّ الإسلام الكريم يحترم العقل كما يحترم البحث ... » فإذا كان الإسلام دين العقل فهل العقل يرفض وجود الحياة الأخرى؟ إنَّ وجه الإنكار عنده أنه كيف يعذب الميت بعمل غيره وقد قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (¬1). والعمومات الأخرى؟ وللجواب على هذا قال الحافظ: «وَالْجَوَاب أَنَّهُ لاَ مَانِع فِي سُلُوك طَرِيق الْجَمْع مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْعُمُومَاتِ وَتَقْيِيد بَعْض الْمُطْلَقَات، فَالْحَدِيث وَإِنْ كَانَ دَالاَّ عَلَى تَعْذِيب كُلّ مَيِّت بِكُلِّ بُكَاء لَكِنْ دَلَّتْ أَدِلَّة أُخْرَى عَلَى تَخْصِيص ذَلِكَ بِبَعْضِ الْبُكَاء كَمَا سَيَأْتِي تَوْجِيهه وَتَقْيِيد ذَلِكَ بِمَنْ كَانَتْ تِلْكَ سُنَّتُهُ أَوْ أَهْمَلَ النَّهْي عَنْ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ الَّذِي يُعَذَّب بِبَعْضِ بُكَاء أَهْله مَنْ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ بِأَنْ تَكُون تِلْكَ طَرِيقَته» (¬2). وقال [المباركفوري] (*): وذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ لِمُخَالَفَتِهَا لِلْعُمُومَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَإِثْبَاتِهَا لِتَعْذِيبِ مَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي التَّأْوِيلِ فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ إِلَى تَأْوِيلِهَا [بِمَنْ] أَوْصَى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ لأَنَّهُ بِسَبَبِهِ وَمَنْسُوبٌ إِلَيْهِ قَالُوا: وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ. إِذَا مُتُّ فَابْكِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ * ... * ... * وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا أُمَّ مَعْبَدِ ¬

_ (¬1) [النجم: 39]. (¬2) " فتح الباري ": 3/ 153 وذكر عدة تأويلات. (*) [هي قولة المباركفوري لا النووي، انظر " تحفة الأحوذي ": 4/ 72 طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان].

قال ابن المبارك: «أَرْجُو إِنْ كَانَ يَنْهَاهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ» (1). هذا هو مذهب الجمهور وأنه لا بُدَّ من تأويل للجمع بين الحديث والعمومات الأخرى، وهذا مذهب صحيح أخذ به الجماهير وبه يمكن الأخذ بجميع الأدلة، ولكن إذا كابر أحد هذا المذهب قائلا إنه لا يقبل التأويل فإننا نقول له: «إن الميت يؤذيه من عمل أهله أشياء محظورة اقترفوها، كما يسوؤه ويحزنه أنْ ينوح عليه أحد من أهله، والإساءة والحزن عذاب» وهذا غير محتاج إلى تأويل. اهـ. والله أعلم.

الحديث الثامن:

الحديث الثامن: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْعَجْوَةُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهِيَ شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ» (¬1). النقد: يقول صاحب " ضُحَى الإسلام " (¬2) «ولكنهم لم يتوسَّعُوا كثيراً في النقد الداخلي، فلم يعرضوا لمتن الحديث هل ينطبق على الواقع أو لا؟ مثال ذلك ما رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْعَجْوَةُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهِيَ شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ». ¬

_ (¬1) رواه البخاري في (كتاب الطب): 10/ 163، والترمذي: 6/ 234 في (الطب) أيضًا، وابن ماجه: 2/ 1142، والإمام مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ [نُفَيْلٍ]: «لِلْعَيْنِ»: 3/ 1619 - 1621، والإمام أحمد في " المسند ": (1/ 178 - 188)، (2/ 301، 305، 325، 356، 357، 421، 488، 490، 511)، (3/ 48) و (5/ 346، 351). ومعنى الحديث، قال الحافظ: «وَالْكَمْأَة نَبَاتٌ لاَ وَرَقَ لَهَا وَلاَ سَاقَ، تُوجَدُ فِي الأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُزْرَعَ. قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لاسْتِتَارِهَا، يُقَال كَمَأَ الشَّهَادَة إِذَا كَتَمَهَا. وَمَادَّة الْكَمْأَة مِنْ جَوْهَر أَرْضِيٍّ بُخَارِيٍّ يَحْتَقِنُ نَحْوَ سَطْحِ الأَرْض بِبَرْدِ الشِّتَاءِ وَيُنَمِّيهِ مَطَرُ الرَّبِيعِ فَيَتَوَلَّدُ وَيَنْدَفِعُ [مُتَجَسِّدًا ... ]». قوله: «مِنْ الْمَنِّ» ذكر فيه ثلاثة أقوال: (أحسنها عند) «وَالْمَنّ مَصْدَر بِمَعْنَى الْمَفْعُول أَيْ مَمْنُون بِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ فِيهِ شَائِبَة كَسْبٍ كَانَ مَنًّا مَحْضًا، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيع نِعَم اللَّهِ تَعَالَى عَلَى [عَبِِيدِهِ] مَنًّا مِنْهُ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ خُصَّ هَذَا بِاسْمِ الْمَنِّ لِكَوْنِهِ لاَ صُنْعَ فِيهِ لأَحَدٍ ... » انظر " فتح الباري ": 10/ 163، 164. (¬2) " ضُحى الإسلام " لأحمد أمين: 2/ 131.

فهل اتَّجهوا في نقد الحديث إلى امتحان الكمأة؟ وهل فيها مادة تشفي العين أو العجوة وهل فيها ترياق؟ نعم إنهم رَوَوْا أنَّ أبا هريرة قال: «أَخَذْتُ ثَلاَثَةَ أَكْمُؤٍ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَعَصَرْتُهُنَّ، [فَجَعَلْتُ مَاءَهُنَّ] فِي قَارُورَةٍ وَكَحَّلْتُ بِهِ جَارِيَةً لِي عَمْشَاءَ، فَبَرَأَتْ». ولكن هذا لا يكفي لصحة الحديث فتجربة جزئية نفع فيها شيء مرة لا تكفي منطقيًا لإثبات الشيء في ثبت الأدوية إنما الطريقة التي تجرب بها مرارًا وخير من ذلك أنْ تُحَلَّلَ لتعرف عناصرها، فإذا لم يكن التحليل في ذلك العصر ممكنًا فلتكن التجربة مع الاستقراء، فكان مثل هذا طريقًا لمعرفة صحة الحديث أو وضعه. الرد: إنَّ الحديث صحيح ثابت في " الصحيحين " وغيرهما وسنده من ناحية النقد متين ليس في رُواته متهم. ثم إنَّ أبا هريرة جَرَّبَ هذا الحديث فوجده صحيحًا وجَرَّبَهُ غيره كثيرون فوجدوه صحيحًا. شهادة تاريخية في تأييد الحديث: -------------------------------- قال النووي: «وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَا وَغَيْرِي فِي زَمَنِنَا مَنْ كَانَ عَمِيَ وَذَهَبَ بَصَرُهُ حَقِيقَةً فَكَحَّلَ عَيْنَهُ بِمَاءِ الْكَمْأَةِ مُجَرَّدًا فَشُفِيَ وَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ وَهُوَ الشَّيْخُ الْعَدْلُ الأَيْمَنُ الْكَمَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيُّ صَاحِبُ صَلاَحٍ، وَرِوَايَةٍ لِلْحَدِيثِ وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِمَاءِ الْكَمْأَةِ اعْتِقَادًا فِي الحَدِيثِ وَتَبَرُّكًا بِهِ» (1). وذكر ابن القيم في " الهدي النبوي " (2) اعترف مشاهير الأطباء

وقال ابن البيطار المالقي في [" مفرداته "]: «ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عجن بماء الإثمد واكتحل به فإنه يقوي الجفن، ويزيد الروح الباصرة حِدَّةً وَقُوَّةً» (¬1). «فها أنت ترى أن العلماء لم يقصروا في التجربة [وأَنَّ الأطباء لم يقصروا في البحث]، ومع ذلك فلم يرض مؤلف " [فجر] الإسلام " إلا أن ياتي كل مسلم إلى كمية من الكماة، ثم يعصرها ويقطر عينيه بمائها، [فإن أصابهم العمى جميعاً كان الحديث مكذوبا وإلا كان صحيحاً] .. ونحن نسأله؟ إن أبا هريرة والنووي والأطباء قديماً جَرَّبُوا الكمأة فوجدوها نافعة للعين، فهل قام هو بمثل هذه التجربة فأصابه مكروه؟ وهل استقرأ هو جميع جزئيات الكمأة على اختلاف أنواعها فوجدها تخالف الحديث؟ (¬2). إنه ليس شيء من ذلك إلاَّ المكابرة والزيغ والانحراف؟ ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله. ¬

_ (¬1) " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 286. (¬2) [بهذه الصيغة ورد النص نقلاً عن " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 286. الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م، المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان].ُُ

الحديث التاسع:

الحديث التاسع: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قََالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ انتََقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» فَقِيلَ لابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَزِيدُ فِي الرِّوَايَةِ «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ» فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «إِنَّ لأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» (¬1). النقد: قال صاحب " ضُحَى الإسلام " بعد ذلك: «وهذا نقد من ابن عمر لطيف في الباعث النفسي، يريد أن ابن عمر يتهم أبا هريرة بزيادة (أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ) في لفظ الحديث لأنه كان صاحب زرع فزادها تبريراً لاتخاذه الكلب لزرعه» (¬2). الرد: إنْ كان المؤلف يريد الطعن في أبي هريرة، فإنَّ أبا هريرة لم ينفرد بهذه الزيادة، بل إنَّ بعض الصحابة قد وافق أبا هريرة على روايته تلك الزيادة وأَنَّ غيره سمعها من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكرنا في شواهد الحديث. ¬

_ (¬1) رواه البخاري: 5/ 6 و 9/ 608 بألفاظ مختلفة. ومسلم: 3/ 1200 والنسائي: 7/ 189 وابن ماجه: 3/ 1069 حديث رقم 3204 من غير زيادة ابن عمر وله شاهد عن أبي هريرة عن البخاري: 5/ 5 وشاهد عند مسلم: 3/ 1202. (¬2) " ضُحَى الإسلام ": 1/ 131، 132.

أما الطعنة التي استنتجها المؤلف من قول ابن عمر والذي عَبَّرَ عنها بقوله: «وهذا نقد من ابن عمر لطيف ... » فقد تعرض الشُرَّاحُ لها وَبََيَّنُوا مُرَادَ ابن عمر من مقالته. قال الحافظ: «وَيُقَال إِنَّ اِبْن عُمَر أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِشَارَة إِلَى تَثْبِيت رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة وَأَنَّ سَبَب حِفْظه لِهَذِهِ الزِّيَادَة دُونه أَنَّهُ كَانَ صَاحِب زَرْع دُونه، وَمَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِشَيْءٍ اِحْتَاجَ إِلَى تَعَرُّف أَحْكَامه» (¬1). قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: «فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ إبَاحَةُ اتِّخَاذِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَكَذَلِكَ لِلزَّرْعِ لأَنَّهَا زِيَادَةُ حَافِظٍ»، زيادة الثقة مقبولة كما هو مقرر في أصول الحديث إذا كان هذا في غير الصحابة فما ظنك بالصحابة وهم عُدُولٌ عُدُولٌ عُدُولٌ. قال النووي عند قول ابن عمر: «[قَالَ الْعُلَمَاءُ]: لَيْسَ هَذَا تَوْهِينًا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلاَ شَكًّا فِيهَا بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَحَرْثٍ اعْتَنَى بِذَلِكَ وَحَفِظَهُ وَأَتْقَنَه ... وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ [وهى اتخاذه للزرع] من رواية بن الْمُغَفَّلِ وَمِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ ... ومن رواية بن الْحَكَمِ [وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ البجلى] عن ابن عمر ... وَلَوِ انْفَرَدَ بِهَا لَكَانَتْ مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً مُكَرَّمَةً» (¬2) كيف وقد وافقه غيره. ومن هنا تعرف الحقيقة الصحيحة، وأَنَّ ابن عمر لم يُكَذِّبْ أبا هريرة، وكيف يُكَذِّبُهُ وقد سبق أنه اعترف أَنَّ أبا هريرة كان أحفظهم لحديث رسول اللهُُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) " فتح الباري " لابن حجر العسقلاني: 5/ 6. (¬2) انظر " شرح مسلم للنووي ": 6/ 555 و " تحفة الأحوذي ": 5/ 66.

ومن هنا تعرف عدم أمانة مؤلف " فجر الإسلام " التي أبت عليه أَنْ يُبَيِّنَ الباعث الحقيقي لهذه الزيادة والعجيب أنه يرشدنا إلى النووي، وهل في كلام النووي - المَارِّ آنِفًا - رائحة التكذيب من ابن عمر لأبي هريرة؟ إنه ليس في شيء من ذلك إلاَّ الخيانة العلمية واتباع أهواء المستشرقين الحاقدين على الإسلام وأهله، نسأل الله السلامة.

الحديث العاشر:

الحديث العاشر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ (*) مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). فَقَالَ الْحَسَن: «وَمَا ذَنْبهمَا؟» قَالَ: «أُحَدِّثك عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُول وَمَا ذَنْبهمَا»، فَسَكَتَ. قَالُوا: قَدْ صَدَقَ الْحَسَنُ «مَا ذَنْبُهُمَا» (¬2). النقد: قال أبو رية: «[وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى] أَنَّ هَذَا الحَبْرَ الدَّاهِيَةَ قَدْ طَوَىَ أَبَا هُرَيْرَةَ تَحْتَ جَنَاحِهِ حَتَّىَ جَعَلَهُ يُرَدِّدُ كَلاَمَ هَذَا الكَاهِنِ بِالنَّصِّ وَيَجْعَلَهُ حَدِيثًا مَرْفُوعًا مَا نُوْرِدُ لَكَ شَيْئا مِنْهُ ... » ثم ذكر هذا الحديث. الرد: إِنَّ أبا رِيَّةَ كعادته يحاول إيقاع الطعن على أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، لكن لو سألناه ما وجه الإنكار في هذا الحديث؟. إِنْ كان هو المتن الذي رواه البخاري (*) فمعناه في كتاب الله، قال تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (¬3). وقال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (¬4). ¬

_ (¬1) قال المؤلف (وراه البخاري): 6/ 214 في بدء الخلق. وفي " فتح الباري " أَنَّ البزار والاسماعيلي والخطابي أخرجوه من طريق يونس بن محمد عن عبد العزيز بن المختار وزادوا بعد كلمة (مُكَوَّرَانِ) «فِي النَّارِ». (*) [غريب من المؤلف كيف أورد هذه الرواية على أن البخاري خَرَّج هذا الحديث بهذه الصيغة: إِذْ لم ترد لفظة (ثَوْرَانِ) في " صحيح البخاري " وإنما وردت الرواية كالتالي: «الشَّمْسُ وَالقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، راجع " فتح الباري شرح صحيح البخاري " لابن حجر، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: 6/ 297 حديث رقم 3200]. (¬2) [انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 165، الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة 1419هـ - 1999م، تحقيق مُحَمَّد محيي الدَّين الأَصْفَر، نشر المكتب الاسلامي - مؤسسة الإشراق]. (¬3) [القيامة: 8، 9]. (¬4) [التكوير: 1] ...

وزيادة غير " البخاري " «فِي النَّارِ» يشهد لها قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (¬1). وفي " صحيح البخاري " (¬2) ثُمَّ [قَالَ]: «يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ». وفيه: «يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ القَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ» (¬3). وهذا يوافق قوله تعالى في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} (¬4). فإنْ قيل وما ذنبهما حتى يُعَذَّبَانِ؟ فإنه مثل رجل سمع بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (¬5). فقال: ما ذنب الحجارة؟ (¬6). قلت: أجاب عن ذلك الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: «لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمَا فِي النَّارِ تَعْذِيبُهُمَا بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ تَبْكِيتٌ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُهُمَا فِي الدُّنْيَا لِيَعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهُمَا كَانَتْ [بَاطِلاً]». ولا شك في أَنَّ جمع العابد والمعبود في النار غاية التوبيخ والسخرية والإيلام (¬7). قَالَ الإِسْمَاعِيلِي: «لاَ يَلْزَم مِنْ جَعْلهمَا فِي النَّار تَعْذِيبهمَا، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي النَّار مَلاَئِكَة وَحِجَارَة وَغَيْرهَا لِتَكُونَ لأَهْلِ النَّار عَذَابًا وَآلَة مِنْ آلاَت الْعَذَاب وَمَا شَاءَ اللَّه مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ تَكُون هِيَ مُعَذَّبَة» (¬8). ¬

_ (¬1) [الأنبياء: 98]. (¬2) 13/ 419. (¬3) [هذه رواية " صحيح البخاري " أما التي أوردها المؤلف فهي بلفظ مسلم: «كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ» " صحيح مسلم "، 1/ 163، حديث رقم 182، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت]. (¬4) [هود: 98]. (¬5) [البقرة: 24]. (¬6) " تأويل مختلف الحديث ": ص 102. (¬7) [عزا المؤلف هذه القولة لـ " فتح الباري " وإنما هي للشيخ محمد محمد أبو شهبة حين نقل عنه من كتابه. انظر " دفاع عن السُنَّة ": ص 145، ولا وجود لها في " فتح الباري "]. (¬8) " فتح الباري ": 6/ 214.ىىىى

فَإِنْ قيل: «وكيف يؤتى بالشمس والقمر ويكوران ويلقيان في النار والنار تضيق بالقمر فضلا عن الشمس، وهذا أمر يعلمه أهل الفلك وغيرهم؟ قلنا: إِنَّ ذلك سيكون يوم القيامة، وأحوال يوم القيامة لا تقاس على أحوال الدنيا، فستبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وسيتغير نظام العالم الذي هو عليه اليوم، وشواهد ذلك من القرآن [أكثر من أن تحصى] (¬1)». هذا لا يشكك فيه موحد، وأما المحلدون فللحديث معهم طريق آخر وأسلوب مغاير. وبهذا ترى أنَّ الحديث صحيح ومزاعم أبي رية ذهبت هباءً منثورًا {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) [انظر " دفاع عن السُنَّة " للشيخ محمد محمد أبو شهبة: ص 145]. (¬2) [الأنبياء: 18] .....

الحديث الحادي عشر:

الحديث الحادي عشر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ السَّلاَمُ: عَلَيْكُمْ فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ» (¬1). النقد: قال أَبُو رِيَّةَ: (¬2) «هذا الكلام قد جاء في " الإصحاح الأول " من " التوراة " - العهد القديم - ونصه هناك (وخلق الله الإنسان على صورته، لا صورة الله خلقه)». يريد أَنَّ أبا هريرة أخذه من كعب ثم رفعه إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الرد: الحديث صحيح سَنَدًا وَمَتْنًا اتفق على صحته الإمامان الجليلان البخاري ومسلم، ولا ضير على أبي هريرة أَنْ يكون ما رواه من الحديث موافقًا لما ¬

_ (¬1) رواه البخاري في (الاستئذان): 11/ 3، وفي (بدء الخلق) ورواه الإمام مسلم: 4/ 2183 والإمام أحمد: 2/ 244، 251، 315، 323، 434، 463، 519. (¬2) " أضواء على السُنَّة المحمدية " محمود أبو رية: ص 174.

في " التوراة " فالكل من عند الله ووحيه، و " القرآن " والسُنَّة الصحيحة هما المهيمنان والشاهدان على الكتب السابقة ولم يدخله تحريف ولا تبديل. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (¬1). وقد تأول المتأولون الحديث على وجوه كثيرة أظهرها: 1 - إنَّ هذا الخبر خرج على سبب وذلك أَنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ برجل يضرب عبده في وجهه لَطْمًا ويقول: «قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ، وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ»، فَقَالَ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ فَلْيَتَّقِ الوَجْهَ فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ ... ». وإنما قال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك لأنه سمعه يقول: «قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ، وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ». وذلك سَبٌّ للأنبياء والمرسلين والمؤمنين إذ خلق وجه الإنسان على صورة آدم، وآدم نبي من الأنبياء، وهذا معنى سَبِّ الأنبياء والمرسلين. 2 - إِنَّ الكناية في قوله: «صُورَتِهِ» ترجع إلى آدم، وذلك ينقسم إلى وجوه: ... [1]- أن يكون معناه وفائدته تعريفنا نعمة الله على أبينا آدم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أَنَّ فضله بِأَنْ خلقه بيده وأسكنه جنته .. ثم عصاه وخالفه فلم يعاقبه على ذلك بسائر ما عاقب به المخالفين له في نحوه. فَعَرَّفَنَا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك أَنَّ أباكم آدم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كان في الجنة على الصورة التي كان عليها في الدنيا لم يغير الله خلقته وتكون فائدة ذلك تعريفنا الفرق بينه وبين سائر من أخرجه من الجنة معه وإبانته منهم في الرتبة والدرجة. ... [2]- إذا قلنا إنَّ الهاء يرجع إلى آدم فسبيله أَنَّ النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أفادنا ¬

_ (¬1) [المائدة: 48].

إبطال قول أهل الذمة أنه لم يكن إنسان إلاَّ من نطفة ولا نطفة إلاَّ من إنسان، وفائدته: أنه خلقه من صلصال كالفخار ثم خلق فيه الروح ولم يكن قط في صُلْبٍ وَلاَ رَحِمٍ ولا كان علقة ولا مضغة بل خلق ابتداءً بشرًا سَوِيًّا (¬1). ... [3]- إنَّ الهاء إلى آدم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - والفائدة أَنَّ الله خلق آدم على الصورة التي كان عليها من غير أنْ كان ذلك حادثًا أو شيئًا منه عن توليد عضو أو تأثير طبع أو فلك أو ليل أو نهار، أبطالاً لقول الطبائعيين. ... [4]- إنَّ الهاء راجعة إلى الله (من طريق الإضافة إلى الله على وجه التخصيص والتشريف) مثل ناقة الله وبيت الله. وقد رَدَّ ابن فورك على ابن قتيبة على قوله في هذا الحديث: «إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - صُورَةٌ لاَ كَالصُّوَرِ كَمَا أَنَّهُ شَيْءٌ لاَ كَالأَشْيَاءِ». وقال: «هَذّا فَاسِدٌ، لاَ يَلِيقُ بِاللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لاقْتِضَائِهِ أَنْ يَكُونَ مُؤَلَّفًا مُرَكَّبًا ذُو حَدٍّ وَنِهَايَةٍ وَبَعْضٍ وَغَايَةٍ» (¬2). وَقَالَ ابن الجوزي: «هَذّا تَخْلِيطٌ وَتَهَافُتٌ لأَنَّ مَعْنَى كَلاَمِهِ أَنَّ صُورَةَ آدَمَ كَصُورَةِ الحَقِّ تَعَالَى» (¬3). وقال أيضًا: «إِعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الأَحَادِيث دَقَائِقَ وَآفَاتٍ لاَ يَعْرِفُهَا إِلاَّ العُلَمَاءُ وَالفُقَهَاءُ» وخلاصة ما قال: للناس في هذا مذهبان: 1 - السكوت عن تفسيره. 2 - الكلام في معناه. واختلف أرباب الكلام على ثلاثة أقوال في الهاء: [1]- أنها تعود إلى بعض بني آدم كما مَرَّ في السبب. ¬

_ (¬1) " مشكل الحديث ": ص 247. (¬2) انظر " مشكل الحديث وبيانه " لابن فورك: ص 69. (¬3) " دفع شبه التشبيه " لابن الجوزي.

[2]- أنها كناية عن اسمين ظاهرين فلا يصلح أَنْ تصرف إلى الله لقيام الدليل أنه تعالى ليس بذي صورة فعادت إلى بني آدم. ومعنى الحديث: أَنَّ الله خلق آدم التي خلقه عليها تامًا لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنية. [3]- أنها تعود إلى الله تعالى وفي ذلك قولان. 1 - أَنْ تكون صورة ملك لأنها فعله وخلقه فتكون إضافتها إليه من وجهين: (أ) التشريف بالإضافة كقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (¬1). (ب) ابتدعها لأعلى مثال سبق. 2 - أنْ تكون الصورة بمعنى الصفة. تقول هذه الصورة هذا الأمر: أي صفته، ويكون خلق آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة، ميزة بذلك على جميع الحيوانات (¬2). ¬

_ (¬1) [الحج: 26]. (¬2) انظر " دفع شُبه التشبيه " لابن الجوزي.

الحديث الثاني عشر:

الحديث الثاني عشر: 12 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (¬1). النقد: قال أبو رية (¬2): «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا ... ». وذكر ما قاله الحافظ من ورود الحديث في بعض رواياته بدون «مُتَعَمِّدًا» وفي بعضها بذكرها ثم قال: «ولكن من حقق النظر وأبعد النجعة في مطارح البحث يجد أَنَّ الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة، ومنهم من الخلفاء الراشدين لم تكن فيها كلمة " مُتَعَمِّدًا " وكل ذمي يستبعد أَنْ يكون ¬

_ (¬1) رواه البخاري في (الأدب): 10/ 587، كما رواه في (كتاب الجنائز) و (العلم) و (الأنبياء). ومسلم في (الزهد): 1/ 9، 10 عن أنس وأبي هريرة والمغيرة، كلهم قالوا: «مُتَعَمِّدًا». وأبو داود في (العلم): 4/ 63. والترمذي في (العلم): 7/ 419، 421، 432، وفي (التفسير): 8/ 278 عن ابن عباس وابن ماجه في (المقدمة): 1/ 13، 14 عن ابن مسعود وأنس وجابر والزبير وأبي سعيد كلهم ذكروا «مُتَعَمِّدًا»، وعن أبي هريرة وأبي قتادة بدون ذكره ورواه الدارمي: 1/ 66، 67 عن جابر وابن عباس وعبد الله بن يعلى وأبي قتادة بلفظ «مُتَعَمِّدًا» وعن الزبير عن غيره. وكذلك: 1/ 111. الإمام أحمد في " مسنده ": (2/ 47، 83، 123، 150، 159، 171، 202، 214، 410، 413، 469، 519) و (3/ 13، 39، 44، 46، 56، 98، 113، 116، 166، 176، 203، 209، 223، 278، 280، 303، 422) و (4/ 47، 100، 156، 201، 267) و (5/ 245، 292، 432). (¬2) " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 38.

النبي قد نطق بها ... ولعل هذه الكلمة قد تسللت إلى هذا الحديث من طريق الإدراج المعروف عند العرب ليسوغ بها الذين يضعون الحديث على رسول الله حِسبة. من غير عمد، أو يتكئ عليها الرواة فيما يَرْوُونَهُ عن غيرهم على سبيل الخطأ أو الوهم أو بسوء الفهم لكي لا يكون عليهم حرج في ذلك لأنَّ المخطئ غير مأثوم ... ». الرد: قلتُ: روى هذا الحديث من طرق كثيرة عن جماعة غفيرة من الصحابة في " الصحيحين " وغيرهما وقد أوصلها بعض المحدثين إلى المائة ما بين صحيح وحسن وضعيف، والحق أَنَّ الحديث رُوِيَ بهذا اللفظ «مُتَعَمِّدًا» من طرق تصل به إلى درجة المتواتر كما حَقَّق الحافظ ذلك في " الفتح " (¬1). ثم إنه لم يَصِحَّ عن أحد من الخلفاء إلاَّ عن عَلِيٍّ في " الصحيحين " وعثمان في " الصحيحين " لا عن ثلاثة من الخلفاء كما زعم. وقد جاء كلمة «مُتَعَمِّدًا» في أغلب رويات " الصحيحين " وغيرهما من الكتب المعتمدة وطرق ذكرتها أكثر من طرق تركتها وأقوى، كما ذكرنا في التخريج. والقاعدة عند نُقَّادِ الحديث (إذا تعارضت الروايات رُجِّحَ الأكثر والأقوى) وهنا ترجح روايات ذكر اللفظ ويحمل المطلق على المقيد. ومن دواعي ترجيح الزيادة أنها جاءت عن الزبير بن العوام في " مستخرج الإسماعيلي " وفي " سنن ابن ماجه "، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. أما زعمه «أَنَّ هذه الكلمة وضعت ليسوغ بها ... » فغير مقبول. ¬

_ (¬1) " فتح الباري ": 1/ 164.

كيف يجتمع الوضع حسبة مع عدم التعمد؟ إنَّ معنى الحسبة أَنْ يقصد الواضع وجه الله وثوابه، وهل يرجى وجه الله وثوابه بالكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ على مذهب الجهلة الصوفية والكرَّامية القائلين: إنا نكذب لرسول الله لا على رسول الله! وهو باطل. أما قوله: «أدرجت ليتكئ عليها الرُواة ... إلخ»، فمردود لأنَّ رفع إثم الخطأ والنسيان ليس بهذه الكلمة وإنما بأدلة أخرى. إنَّ السر في ذكرها أنَّ الحديث لما ترتب وعيدًا شديدًا على الكذب، والمخطئ والناس والساهي لا إثم عليهم كان من الدقة والحيطة في التعبير التقييد بالعمد وذلك لرفع توهم الإثم على المخطئ والناسي. وأما نقله عن الحافظ أنه لا يرى تواتر هذا الحديث حيث قال (¬1): «وَلأَجْلِ كَثْرَة طُرُقه أَطْلَقَ عَلَيْهِ جَمَاعَة أَنَّهُ مُتَوَاتِر، وَنَازَعَ بَعْض مَشَايِخنَا فِي ذَلِكَ قَالَ: لأَنَّ شَرْط التَّوَاتُر اِسْتِوَاء طَرَفَيْهِ وَمَا بَيْنهمَا فِي الْكَثْرَة، وَلَيْسَتْ مَوْجُودَة فِي كُلّ طَرِيق مِنْهَا» اقتصر على هذا القدر متبعًا طريقة {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ} وترك {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬2) وقد ترك ما ذكره الحافظ بعد هذا ما نصه: «وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَاد بِإِطْلَاقِ كَوْنه مُتَوَاتِرًا رِوَايَة الْمَجْمُوع عَنْ الْمَجْمُوع مِنْ اِبْتِدَائِهِ إِلَى اِنْتِهَائِهِ فِي كُلّ عَصْر، وَهَذَا كَافٍ فِي إِفَادَة الْعِلْم. وَأَيْضًا فَطَرِيق أَنَس وَحْدهَا قَدْ رَوَاهَا عَنْهُ الْعَدَد الْكَثِير وَتَوَاتَرَتْ عَنْهُمْ ... فَلَوْ قِيلَ فِي كُلّ مِنْهَا إِنَّهُ مُتَوَاتِر عَنْ صَحَابِيّه لَكَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّ الْعَدَد الْمُعَيَّن لَا يُشْتَرَط فِي الْمُتَوَاتِر، بَلْ مَا أَفَادَ الْعِلْم كَفَى ... وأما ما ذكره في الحاشية (¬3): أَنَّ أدعياء السُنَّة وعبيد الأسانيد في عصرنا ¬

_ (¬1) " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 42. (¬2) [النساء: 43]. (¬3) " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 39.

لا يزالون يكابرون في إثبات الزيادة فهو من قلة حيائه وسخفه وجرأته المذمومة وجهله المركب، فهل هو أعلم بالحديث من البخاري ومسلم والدارقطني وأحمد بن حنبل وابن حجر والعيني؟ وصدق النبي الحكيم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت». كانت هذه طائفة من الأحاديث التي تعرضت لنقد المستشرقين وتلامذتهم وقد فَنَّدْنَا شُبُهَاتِهِمْ حولها وهذا غيض من فيض ولا يمكن الاستقصاء لجميع مزاعمهم في هذا المختصر. وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

الفهرس:

الفهرس: الموضوع --------------------------------------------------------------------- صفحة مقدمة ...................................................................................... 3 الباب الأول: السُنَّةُ وما إليها ............................................................ 9 -------- الفصل الأول: تعريف السُنَّة ................................................... 10 -------- الفصل الثاني: مكانة السُنَّة التشريعية ....................................... 13 -------- الفصل الثالث: حُجِيَّة السُنَّة ................................................... 16 -------- الفصل الرابع: جُهُودُ العلماء لحفظ السُنَّة .................................... 21 الباب الثاني: السُنَّةُ ومنكروها قديمًا .................................................... 25 -------- الفصل الأول: السُنَّة والخوارج ................................................ 27 -------- الفصل الثاني: السُنَّة والشيعة ................................................. 28 -------- الفصل الثالث: السُنَّة والمعتزلة ............................................... 32 الباب الثاني: السُنَّةُ ومنكروها حَدِيثًا .................................................... 35 تمهيد ....................................................................................... 36 -------- الفصل الأول: السُنَّة والمستشرقون ........................................... 38 ************ نظرة تاريخية لدراسة المستشرقين لِلْسُنَّةِ ............................... 38 ************ عرض تاريخي لأغراض المستشرقين ................................... 41 ************ شُبهِ المستشرقين حول السُنَّةِ ............................................ 44 -------- الفصل الثاني: السُنَّة والدكتور " توفيق صدقي " ........................... 54 -------- الفصل الثالث: السُنَّة والأستاذ " أحمد أمين " ................................ 58 -------- الفصل الرابع: السُنَّة و" محمود أبو رِيَّةَ " ................................... 64 -------- الفصل الخامس: السُنَّة والدكتور " أحمد زكي أبي شادي " ................. 72 -------- الفصل السادس: مُنْكِرُو السُنَّة في القارة الهندية ............................. 76 ************ نشأة أهل القرآن في القارة الهندية ....................................... 77 ************ أشهر زعماء أهل القرآن .................................................. 81 ************ جراغ علي وموقفه من السُنَّةِ ............................................. 89

الموضوع ------------------------------------------------------------------------ صفحة الباب الرابع: -------- الفصل الأول: شُبُهات منكري السُنَّة ............................................ 92 -------- الفصل الثاني: شُبُهَاتُ فرقة أهل القرآن ....................................... 101 الباب الخامس: اعتراضات منكري السُنَّةُ ............................................... 117 الباب السادس: أمثلة من الأحاديث تعرضت لنقد منكري السُنَّةُ ........................ 135 - الحديث الأول: ........................................................................... 135 - الحديث الثاني: .......................................................................... 141 - الحديث الثالث: .......................................................................... 146 - الحديث الرابع: .......................................................................... 149 - الحديث الخامس: ....................................................................... 152 - الحديث السادس: ....................................................................... 156 - الحديث السابع: ......................................................................... 159 - الحديث الثامن: ......................................................................... 162 - الحديث التاسع: ......................................................................... 165 - الحديث العاشر: ......................................................................... 168 - الحديث الحادي عشر: .................................................................. 171 - الحديث الثاني عشر: ................................................................... 175

ثبت المصادر والمراجع:

ثبت المصادر والمراجع: 1 - الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة للإمام اللكنوي وعليها " التعليقات الحافلة " للشيخ عبد الفتاح أبو غدة. طبع حلب. 2 - الأحكام لابن حزم. 3 - إرشاد الفحول للشوكاني 4 - الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر. 5 - أضواء على السُنّة المحمدية لمحمود أبو رية. 6 - الأنوار الكاشفة للمعلمي اليماني. 7 - البداية والنهاية لابن كثير. 8 - تاريخ الإسلام للذهبي. 9 - تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة. 10 - تحفة الأحوذي في شرح الجامع للترمذي للمباركفوري. 11 - تذكرة الحفاظ للذهبي. 12 - تفسير ابن كثير. 13 - تفسير المنار للشيخ رشيد رضا. 14 - تقييد العلم للخطيب البغدادي. 15 - توجيه النظر للشيخ طاهر الجزائري. 16 - تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني. 17 - ثورة الإسلام للدكتور أحمد زكي أبو شادي. 18 - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر. 19 - جامع الترمذي للإمام الترمذي. 20 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. 21 - حُجِيَّة السُنَّة لمحمد لقمان السلفي (المطبوعة على الآلة الكاتبة). 22 - دائرة المعارف الإسلامية لجماعة من المستشرقين. 23 - دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور مصطفى الأعظمي. 24 - دفاع عن أبي هريرة للشيخ عبد المنعم صالح العلي. 25 - دفاع عن السُنَّة للدكتور محمد محمد أبو شهبة.

26 - دفاع عن العقيدة والشريعة للشيخ محمد الغزالي. 27 - دفع شُبه التشبيه لابن الجوزي. 28 - الرسالة للإمام الشافعي. 29 - السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي. 30 - السُنَّة الإسلامية للدكتور رؤوف شلبي. 31 - السُنَّة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب. 32 - سنت کي اءيني حيثيت للأستاذ أبو الأعلى المودودي (باللغة الأوردية). 33 - سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي. 34 - سنن الدارمي. 35 - سنن ابن ماجه. 36 - سير أعلام النبلاء للذهبي. 37 - صحيح البخاري مع حاشية السندي. 38 - صحيح مسلم. 39 - صحيح مسلم بشرح النووي. 40 - الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية لأبي الحسن الندوي. 41 - ضُحى الإسلام لأحمد أمين. 42 - الطب النبوي لابن قيم الجوزية. 43 - طبقات ابن سعد. 44 - العقيدة الطحاوية مع شرح ابن أبي العز. 45 - علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي [الصالح]. 46 - فتح الباري للحافظ ابن حجر. 47 - فجر الإسلام لأحمد أمين. 48 - فرقة أهل القرآن بباكستان وموقف الإسلام منها للشيخ خادم حسين (المطبوعة على الآلة الكاتبة. 49 - الفرق بين الفرق. 50 - القاموس المحيط للفيروزآبادي. 51 - القواعد في علوم الحديث للعلامة ظفر أحمد التهانوي. 52 - لسان العرب لابن منظور.

الدوريات:

53 - الكفاية في علوم الرواية للخطيب البغدادي. 54 - ليس من الإسلام للغزالي. 55 - مجمع الزوائد للهيثمي. 56 - المجموع للنووي 57 - المستدرك للحاكم. 58 - مسند الإمام أحمد. 59 - مشكل الحديث وبيانه لابن فورك. 60 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي. 61 - مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُنَّة للسيوطي. 62 - مفتريات على الإسلام. 63 - مقام حديث لغلام أحمد برويز. 64 - موطأ الإمام مالك. 65 - نصرة الحديث للشيخ حبيب الرحمن الأعظمي. 66 - نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور علي حسن عبد القادر. 67 - الوشيعة في نقد عقائد الشيعة لموسى جار الله. الدوريات: 1 - جريدة الأهرام. 2 - مجلة حضارة الإسلام. 3 - مجلة المنار المصرية. تصويبات العدد: (¬1) ¬

_ (¬1) قُمتُ باستدراك الأخطاء في النسخة للمكتبة الشاملة.

§1/1