السنة النبوية ومكانتها - رقية نياز

رقية بنت نصر الله نياز

مقدمة

المقدمة: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: آية 1] . ْْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً, يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: الآيتان 70-71] . أما بعد: فمما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو أصل التشريع، ومصدره الأول، وأن السنة النبوية هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم. ولقد اْبتُلِي الإسلام في مصدره الثاني منذ نهاية القرن الأول وحتى يومنا هذا، بطوائفَ لا حظَّ لها في الإسلام، تُنْكر حجية السنة، وتثير

الشبهات حولها، على تفاوت منهم في هذا الإنكار، فمنهم من يَرُدُّ الأخبار من حيث هي أقوال وأفعال وتقريرات للرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ينكر خبر الآحاد، ومنهم من أنكر حجية السنة التي تأتي بحكم مستقل. وغيرهم كان إنكاره لحجية السنة من حيث الشكُّ في طريقها، وما يَلْحَقُ رواتها من خطأ أو وهم. فصاروا يقللون من شأن نصوص الحديث، ويحطُّون مِنْ قَدْره، وتطاولوا على رواة الحديث من الصحابة - رضوان الله عليهم - وأئمة الحديث، يقبحونهم ويصفونهم بالشناعات. واستمروا على هذه الدعاوى الباطلة حتى توصلوا إلى القول بعدم الاعتماد على السنة، ورفعوا شعار"الإسلام هو القرآن وحده". إن هذا التطاول السافر على السنة النبوية قديماً وحديثاً هدفه القضاء على الإسلام وأصوله، وإن اختلفت الطرق، والأساليب، والعبارات. ذلك أن أعداء الإسلام وجدوا في السنة المطهرة العائق الكبير الذي يحول بينهم وبين نشر سمومهم، فرفعوا هذا الشعار لتيقنهم التام بمكانة السنة في التشريع الإسلامي، سواء من حيث ثبوت حجيتها، أو من حيث قوة الأدلة التي تثبت منزلتها ومرتبتها في التشريع، وسواء من حيث بيانها وتفسيرها للقرآن الكريم، أو من حيث مكانتها في وجوب العمل بها في كل شؤون الحياة. وما يثار الآن، وما أثير قديماً حول دعوى الاستغناء عن السنة لعدم حجيتها أمر مرفوض، وقد تصدى العلماء الربانيون لهذه الشبهة ببيانها

والرّد عليها إجمالاً وتفصيلاً بما لا يترك مجالاً في إبطالها، وأنها مجرد أكاذيب وافتراءات للقضاء على هذا المصدر الثمين. وقصارى القول في هذا أن هذه دعاوٍ يأباها الله ورسوله، والمؤمنون، والعقل والمنطق السليم. وأن السنة النبوية مصدرٌ أساس في التشريع. وتفصيل هذا هو موضوع البحث. أما هذه الشبه الباطلة والرد عليها فلم أتعرض لها، وذلك لتخصص البحث في بيان"السنة ومكانتها من حيث: الاحتجاج، والعمل" وقد وجدت أيضا محوراً مستقلاً بهذا الشأن في موضوعات الندوة (1) . ومما ينبغي الإشارة إليه أن هذا البحث يتكون من مقدمة، وأربعة مباحث، وخاتمة، على النحو التالي: - المقدمة: في أهمية البحث، وتعريف السنة. - المبحث الأول: مكانة السنة من حيث حجيتها. - المبحث الثاني: مكانة السنة من حيث مرتبتها. - المبحث الثالث: مكانة السنة من حيث بيان الأحكام التشريعية. - المبحث الرابع: مكانة السنة من حيث العمل بها. "هل كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يعد تشريعاً؟ " - الخاتمة: وتتضمن أهم نتائج البحث. (1) انظر: المحور الخامس في موضوعات هذه الندوة تحت عنوان: الرد على الطعون والشبهات المثارة حول السنة والسيرة النبوية قديماً وحديثاً..

وقبل الولوج في بيان "مكانة السنة" لابد أن نتعرض بشيء من التفصيل لبيان مفهوم السنة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فالسنة في معاجم اللغة معناها: هي الطريقة والسيرة مطلقاً، المحمودة والمذمومة، السيئة والقبيحة، ومن هذا المعنى العام قول الله تعالى {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) } [الأحزاب: 62] . ومن هذا المعنى أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها" (1) . أما إذا أضيفت (السنة) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى تشريعات الإسلام، انصرف الذهن إلى طريقته عليه السلام وسيرته في تنفيذ ما بعثه الله من الحق والهدى. وكما هو معرف في معاجم اللغة (2) أن السنة أصلاً مشتقة من الفعل الثلاثي "سنّ" تقول: "سنّ الماء إذا داوم صبه". "سنّ الإبل إذا أحسن رَعْيَهَا، والقيامَ عليها". "سنّ السكين إذا حَدَّه وصَقَله". وكذلك طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته أمور داوم عليها فهي سنة. وما داوم عليه صلى الله عليه وسلم فقد أحسن رعايته فهو سنة.

_ (1) صحيح مسلم / كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة حديث رقم (107) وفي كتاب العلم، باب من سنَّ سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، حديث رقم (1017) . (2) انظر: لسان العرب مادة سنن (17/90) ، المصباح المنير، مادة سنن.

وما أحسن رعايته فقد خلصه علماء الحديث من كل خليط ودخيل فهو سنة مستقيمة حسنة ممدوحة. من هذه المعاني اللغوية يمكن القول بأن: السنة النبوية تعني المنهاج النبوي العام، النظري والعملي الذي جاء به عليه السلام لشرح شريعة الله لتكون دستوراً للحياة، والتي أمر بها في قوله صلى الله عليه وسلم:"فعليكم بسنتي" (1) وحذَّر من الإعراض عنها في قوله: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" (2) . السنة اصطلاحاً: على ضوء المعاني اللغوية السابقة عرَّف أهل العلم الربانيون السنة اصطلاحاً بتعريفات شتى، كلّ حسب تخصصه الحديثي، أو الأصولي، أو الفقهي (3) ، ولا يعنينا هنا تتبُّع كل تلك المصطلحات والاختلافات؛ ذلك لأن هذا الاختلاف في إطلاقات السنة لفظي وغير جوهري مرجعه اختلاف الأغراض والأهداف والتخصصات التي عُني بها كل فريق من أهل العلم. ولعل الذي يفيدنا في هذا البحث المعنى الذي يبحث عن حجيَّة السنة ومكانتها في التشريع.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه - عن العرباض بن سارية رضي الله عنه - الإمام أحمد (4/126-127) . وأبو داود: السنة، باب لزوم السنة حديث (4607) والإمام الترمذي: العلم، باب 16، حديث (2676) ، وقال: حديث حسن صحيح. وصححه أيضا ابن حبان (1/178-179) حديث رقم (5) . (2) رواه الإمام البخاري برقم (5063) في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، والإمام مسلم (برقم 1401) في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد المؤنة. (3) انظر: إطلاقات السنة في: إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر / د. عبد الكريم النملة (3/14، 15) دار العامة، ط. الأولى 1417?، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي / د. مصطفى السباعي (ص 49) المكتب الإسلامي، ط. الثالثة 1402?.

المبحث الآول: مكانة السنة من حيث حجيتها

المبحث الآول: مكانة السنة من حيث حجيتها المطلب الأول: ثبوت حجية السنة بأدلة القرآن الكريم ... المبحث الأول: مكانة السنة من حيث حجيتها وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: ثبوت حجية السنة بأدلة القرآن الكريم. المطلب الثاني: ثبوت حجية السنة بالأحاديث النبوية. المطلب الثالث: ثبوت حجية السنة بإجماع الأمة. المطلب الرابع: ثبوت حجية السنة بالدليل العقلي.

المبحث الأول: مكانة السنة من حيث حجيتها السنة النبوية مصدر أصيل من مصادر التشريع الإسلامي وقد قامت الأدلة المعتبرة الصحيحة الصريحة من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وإجماع الأمة، وكذلك الأدلة العقلية، على إثبات حجيتها، ومكانتها في التشريع الإسلامي، وسوف نلخص إثبات حجيتها في مطالب هذا المبحث. المطلب الأول: إثبات حجية السنة النبوية بأدلة القرآن الكريم فَرَض القرآن الكريم على المسلمين بأدلة قاطعة وجوبَ قبولِ سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أنها مصدر تشريعي في استنباط الأحكام الشرعية، وفي هذا الصدد يقول الإمام الشافعي: "الكتاب شهد للسنة بالاعتبار" (1) . وقد نهجت الآيات القرآنية مناهج شتى في بيان حجية السنة النبوية، وتعددت فيها وسائل تؤكد على اتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم،كما تعددت فيها عبارات الوعيد والإنذار والترهيب من مخالفته والخروج عن مقتضى أوامره، وعدم الاستسلام لأحكامه (2) ولعل أبرز هذه الوسائل هي:

_ (1) الموافقات في أصول الشريعة والأحكام (4/10) مطبعة: محمد علي صبيح وأولاده ـ القاهرة. (2) انظر: مكانة السنة في التشريع الإسلامي د. محمد لقمان السلفي (ص 45) دار الراعي – الهند، ط. الثانية 1420?.

أولاً: آيات قرآنية تثبت أنه صلى الله عليه وسلم يبلِّغ عن الله تعالى: ومن ذلك قوله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى, إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4] ، وقد علق القاضي أبو البقاء على هذه الآية بقوله: إن القرآن والحديثَ يتَّحِدان في كونهما وحياً منزلاً بدليل الآية السابقة. (1) أما الإمام ابن حزم فيؤكد ذلك قائلاً: "صح لنا بالآية السابقة أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قسمين: أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفاً معجز النظام وهو القرآن. الثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف، ولا معجز، ولا متلو، لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عزَّ وجَلَّ مراده هنا". (2) وأيضا قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113] . فأثبت سبحانه وتعالى في هذه الآية وغيرها من الآيات (3) ، إنزال الكتاب والحكمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أكد سلف هذه الأمة أن الكتاب غير الحكمة، وأن المقصود بالكتاب: هو القرآن. والحكمة هي: السنة (4) .

_ (1) انظر: قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث للعلامة القاسمي (ص 59) تحقيق: محمد البيطار، ط. عيسى البابي الحلبي وشركاه. (2) الإحكام في أصول الأحكام للعلامة ابن حزم الأندلسي (ص87) ط. الإمام ـ القاهرة. (3) انظر الآيات في سورة البقرة الآية 129، 151، آل عمران: الآية 164، الأحزاب الآية 34، الجمعة: الآية 2. (4) انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/17) المكتبة العلمية - المدينة المنورة، وانظر: كتاب الأم للإمام الشافعي (7/271) نشر مكتبة الكليات الأزهرية، والرسالة للإمام الشافعي (ص 78) ط. المطبعة السلفية- مصر.

وبهذا نعلم أن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم والجزء الذي تكامل به الدين مع القرآن الكريم كان وحياً من عند الله (1) وإذا ثبت أنه وحي من عند الله، فهو إذاً حجة قاطعة في التشريع الإسلامي. ثانيا: آيات قرآنية تأمر بالإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم على أنحاء متعددة منها: 1 - أمر إلهي بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مقروناً بالإيمان بالله تعالى، ومن أمثلة هذه الصورة قوله سبحانه وتعالى {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] . 2 - أمر إلهي بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ضمناً مع رسالات الرسل السابقين، ومن أمثلة هذه الصورة قول الله تعالى {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] . فاقتران الأمر بالإيمان على الوجوه السابقة يقتضي وجوب الاتباع، وهذا يعني حجية السنة في التشريع كما أكد ذلك الإمام الشافعي بقوله:

_ (1) انظر: مكانة السنة في التشريع د. محمد لقمان السلفي (ص62) .

إن الله جعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له، الإيمان بالله ثم برسوله صلى الله عليه وسلم، فلو آمن عبد به ولم يؤمن برسوله، لم يقع عليه اسم كمال الإيمان ابتداءً حتى يؤمن برسوله معه. ففرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم (1) . ثالثاً: آيات قرآنية تأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم وهذا الأمر جاء بصور متعددة منها: 1 - الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم مقرونة بطاعة الله تعالى ومن أمثلة هذه الصورة: قول الله تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] . فالملاحظ في هذه الآية، وغيرها من الآيات (2) اقتران طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، بطاعته تعالى بواو العطف، ومعلوم عند علماء اللغة أن العطف بالواو يفيد مطلق الاشتراك، وهذا يعني أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بها كطاعة الله تعالى. وأحياناً يأتي هذا الأمر مكرراً بواو العطف مع إعادة الأمر بالطاعة، ومن أمثلة هذه الصورة (3) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] .

_ (1) انظر الرسالة للإمام الشافعي (ص 73، 76) بتصرف. (2) وللاستزادة انظر الآيات في سورة: آل عمران 132، والنساء: الآية 69، والأحزاب: الآية 36، 71. (3) وللاستزادة انظر: سورة المائدة الآية 92.

إن تكرار العامل (أطيعوا) مع حرف الواو يفيد عموم تأكيد وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم فيما استقل به من التشريع، كما أكد ذلك الإمام الشاطبي حين قال: "وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعة الله، دالٌ على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله". (1) 2 - الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم ضمناً مع طاعة الرسل السابقين: ومن أمثلة هذه الصورة (2) قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: الآية 64] . ومعلوم بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم أحد الرسل، وبالتالي هو داخل في حكم الطاعة المقررة للرسل عامة، بل إن طاعته آكدُ وأشد لزوماً؛ لأن شريعته عامة، ورسالته خاتمة الرسالات (3) ، فإذا ثبت هذا كانت سنته حجة وتشريعاً واجباً إلى قيام الساعة. 3 - الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم استقلالاً: وقد سلك القرآن الكريم مسالك عدة ومتنوعة في بيان هذه الصورة، وبدلالات مختلفة، من ذلك: أ) ما جاء من الأمر بطاعته صراحة ومن أمثلته قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا

_ (1) الموافقات في أصول الشريعة (4/10) . (2) وللاستزادة انظر: سورة الأنعام الآية 48. (3) انظر: مكانة السنة في التشريع الإسلامي / د. محمد لقمان السلفي (ص 39) .

الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] .وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقد علق الحافظ ابن كثير على هذه الآية بقوله: يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله (1) ... وفي هذا إشارة إلى حجية السنة النبوية؛ لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتحقق إلا إذا عمل بقوله واقتدى بفعله (2) . ب) الأمر باتباعه، في قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وقوله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فالله سبحانه وتعالى لم يأمر باتباعه -في هذه الآية الأخيرة-، بل جعل ذلك الاتباع من لوازم محبته، وبهذا يثبت أن من لم يتبع السنة النبوية، ولم ير العمل بها واجباً، فهو في دعوى محبته لله تعالى كاذبٌ، ومن كان في هذه الدعوى كاذباً، فهو في دعوى إيمانه بالله تعالىكاذب بلا مرية (3) . ج) ومما جاء في الأمر بطاعته بطريق الدلالة، قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65] ؛ ذلك لأن

_ (1) تفسير القرآن العظيم / للحافظ ابن كثير (1/528) ط. عيسى البابي الحلبي وشركاه. (2) انظر: مكانة السنة في التشريع الإسلامي (ص 49) . (3) انظر مقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري (ص 7) المكتبة السلفية، ط. الثانية. المدينة المنورة.

الحكم في الظاهر يعني الانقياد في الباطن، وهذه هي الطاعة والتسليم (1) المطلوبان لحجية السنة النبوية بطريقة غير مباشرة. ومن هذا أيضا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] يقول الإمام ابن القيم: ((فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه، وهذا من تمام الطاعة التي تؤكد حجية السنة النبوية (2) بطريقة غير مباشرة)) . د) ما جاء في الأمر بطاعته بطريق التحذير من المخالفة قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ، فإذا حذر سبحانه وتعالى من مخالفته صلى الله عليه وسلم، فهذا يوجب طاعته، وأيضاً قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: من الآية 7] . فإذا حذرسبحانه وتعالى نهى عن مخالفته فهذا يوجب الإيمان به (3) وطاعته، وهذا تأكيد لحجية السنة النبوية. رابعا: آية قرآنية تؤكد تكفُّلَ الله تعالى بحفظ السنة النبوية، ومما

_ (1) انظر: تفسير القرآن العظيم/ للحافظ ابن كثير (1/120) . (2) انظر: إعلام الموقعين / للإمام ابن القيم (1/58) المكتبة التجارية - مصر. (3) انظر: الموافقات في أصول الشريعة / للإمام الشاطبي (4/10)

يدلُّ على ذلك قوله تعالى: {إِنَّانَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر: 9] . والمقصود بالذكر هو: القرآن والسنة، كما أخبر بذلك غير واحد من السلف (1) ، وكل ما تكفَّل الله بحفظه هو مضمون من الزيغ، والتحريف، وكل ما ثبت سلامته حجة للعمل والاستنباط.

_ (1) انظر: تدريب الراوي / للإمام السيوطي (ص 102) دار إحياء السنة النبوية، ط. الثانية 1399? والإحكام في أصول الأحكام (ص 109) ، المقصود بالذكر في الآية القرآن الكريم، ويلزم من حفظ القرآن حفظ السنة لأنها بيان له.

المطلب الثاني: ثبوت حجية السنة بالإحاديث النبوية

المطلب الثاني: ثبوت حجية السنة بالإحاديث النبوية ... المطلب الثاني: إثبات حجية السنة بالأحاديث النبوية نص النبي صلى الله عليه وسلم على حجية السنة، وأكد أنها دليل من أدلة الأحكام التشريعية، وكان هذا التقرير منه صلى الله عليه وسلم بَدَهيّا، ولاسيما بعد برهان القرآن ذلك بآيات صريحة لا تحتمل التأويل - كما بينا في المطلب السابق - ولعلنا هنا نسرد أهم الأحاديث التي تناولت إثبات حجية السنة وأنها مصدر مهم وأساس في التشريع الإسلامي، وبيان ذلك يكون من خلال النقاط التالية: أولا: أحاديث فيها دلالة صريحة على حجية السنة: وهذا في الأحاديث التي تدعو صراحة إلى الاعتصام بالسنة والتمسك بها واتخاذها منهجاً؛ لأنها صادرة من المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ومن الأمثلة على ذلك: أ) الدلالة الصريحة في وجوب التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض

ابن سارية رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ" (1) . ب) ومما يدل صراحة على أن السنة النبوية وحي من عند الله قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه..... الحديث " (2) . ثانيا: أحاديث فيها دلالة تنبيهية على حجية السنة النبوية: وضابط هذا المسار وجود العبارات التي تُرَغِّب في اتباع السنة، وتحذر من المخالفة، ومن أمثلة ذلك: أ) قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" (3) . فدخول الجنة والنجاة من النار مبني على طاعته صلى الله عليه وسلم واتباع أمره؛ إذ إن طاعته واجبة وهي مصدر أساس في التشريع الإسلامي. ب) ومما يرغب في اتباع السنة، ويرهب من التفريط فيها، وصيته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقوله:"تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي" (4) فاذا كان اتباع السنة يوجب الأمن من

_ (1) حديث صحيح، تقدم تخريجه. (2) حديث صحيح. رواه عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه: الإمام أحمد (4/130-131) وأبو داود برقم (4604) في كتاب السنة، باب لزوم السنة. وصححه ابن حبان (1/189) برقم (12) . (3) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الإمام البخاري (7280) في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بجوامع الكلم. (4) أخرجه الدارقطني في السنن (4/245) والبيهقي في السنن الكبرى (10/114) والخطيب البغدادي في كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/111) رقم (88) ، وهبة الله اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/80) رقم (90) . وصححه الحاكم في المستدرك (1/93) .

الضلال، فإن التفريط فيها وقوع في الضلال، وهذا يثبت حجية السنة. ج) ومما يدل على حجية السنة النبوية بدلالة التنبيه، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة" (1) ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن هذه الفرقة الناجية قال: "ما أنا عليه وأصحابي" (2) . ثالثاً: أحاديث فيها إيماء وإشارة إلى حجية السنة: وهذا النوع كثير في نصوص السنة المطهرة، وضابطها أنها تشير تلميحاً لا تصريحاً إلى وجوب الاعتصام بالسنة، وهذه الإشارة إنما كانت منه صلى الله عليه وسلم لمكانة السنة في التشريع. ومن أمثلة هذا النوع: أ) قوله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلَّغ أوعى من سامع" (3) . ب) قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن

_ (1) رواه من حديث أبي هريرة: الإمام أحمد 2/332، وأبو داود (4596) في كتاب السنة، باب شرح السنة وابن ماجه (3991) في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، والإمام الترمذي (2640) في كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: حديث حسن صحيح. (2) رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: الإمام الترمذي (2641) في كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال حديث حسن غريب مفسّر. (3) رواه من حديث عبد الله بن مسعود: الإمام أحمد 1/437، وابن ماجه (232) في المقدمة، باب من بلغ علمًا، والترمذي (2657) في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وقال: حسن صحيح. وصححه ابن حبّان برقم (69،68،66) .

يبلغ من هو أوعى له منه" (1) فدخول اللام على الفعل المضارع (يبلغ) يفيد الأمر، وهذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم إنما كان حماية لهذا المصدر المهم من الضياع أو التحريف. ج) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " بلغوا عني ولو آية" (2) ولم يقل عليه السلام حديثاً؛ لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم منه بطريقة الأولية، لأن السنة بيان وتفسير للقرآن (3) . د) ومما يدل على حجية السنة بطريق التلميح والإشارة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما نهيت عنه أو أمرت به فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (4) . يقول الإمام الشافعي مؤكداً ذلك: وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلامهم أنه لازم لهم، وإن لم يجدوا له نفس حكم في كتاب الله لأنه شرع (5) .

_ (1) رواه الإمام البخاري (67) في كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رُبّ مبلغ أوعى من سامع. والإمام مسلم (1679) في كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض. (2) رواه الإمام البخاري (3641) في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. (3) انظر: مكانة السنة في التشريع الإسلامي / د. محمد لقمان (ص 76، 77) . (4) حديث صحيح. رواه الإمام أحمد (1/17) ، وأبو داود (4605) في كتاب السنة باب في لزوم السنة، والترمذي (2663) في كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان برقم (13) . (5) انظر الرسالة / للإمام الشافعي (ص 217) .

المطلب الثالث: ثبوت حجية السنة بإجماع الآمة

المطلب الثالث: ثبوت حجية السنة بإجماع الآمة ... المطلب الثالث: إثبات حجية السنة بالإجماع أجمع المسلمون من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن على حجية السنة، وعدِّها مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، ولم يخالف في ذلك إلا من

اتبع سبيل غير المؤمنين. وقد نقل هذا الإجماع جمع كثير من أهل العلم المحققين (1) ، فعلى سبيل المثال يقول العلامة القاسمي: ((انتهى العلماء المحققون إلى أن الحديث الصحيح حجة على جميع الأمة، وأيدوا رأيهم هذا بالآيات القرآنية التي تفرض على المؤمنين اتباع الرسول عليه السلام، والتسليم لحكمه، ورأوا مَنْ يحكي خلاف هذا المذهب غيرَ خليقٍ بالانتساب إلى العلم وأهله، وإن نسب نفسه أو نَسَبَتْه العامة إلى سعة المعرفة والتفقه في الدين)) (2) . ويحسن بنا أن ننقل هذا الإجماع مفصلاً عن الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء وذلك من خلال ما يلي: أولاً: نصوص في وقوع الإجماع من الصحابة رضوان الله عليهم تثبت حجية السنة النبوية: كان الصحابة رضوان الله عليهم في حياته صلى الله عليه وسلم يتبعون كل ما صدر منه في الأحكام الشرعية، لا يختلف في ذلك واحد منهم، فيقبلون بتسليم عام بأقواله، واتباع كامل لأفعاله (3) ،ومن أمثلة ذلك:

_ (1) انظر: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول / للإمام الشوكاني (ص 33) ط. الحلبي وشركاه 1356?. والإحكام في أصول الإحكام (ص 87) وعلوم الحديث ومصطلحه / د. صبحي الصالح (ص 291) دار العلم للملايين - بيروت ط. الأولى 1378?، وأصول الأحكام الإسلامية د. أبو السعود عبد العزيز موسى (ص 101) ط 1413? ومكانة السنة في التشريع الإسلامي / د. محمد لقمان (ص 97) . (2) انظر: قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث/ للعلامة القاسمي (ص263) مطبعة ابن زيدون- دمشق 1353 ?. (3) انظر: تفسير الطبري / للإمام محمد بن جرير الطبري (4/150) بيروت. وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/190) المكتبة العلمية – المدينة المنورة.

أ) اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب - أو فضة - وجعل فصّه مما يلي كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ النّاس مثله، فلمّا رآهم قد اتخذوها رمى به، وقال: لا ألبسه أبداً. ثم اتخذ خاتماً من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة. (1) ب) ومما يدلُّ على حجية السنة بإجماع الصحابة في حياته صلى الله عليه وسلم ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم. فخرج رجل ممن صلى معه، فمرّ على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبلَ مكة، فداروا كما هم قِبلَ البيت (2) . ج) ومما يدلُّ على وقوع الإجماع من الصحابة رضوان الله عليهم، رجوع الصدِّيق أبي بكر رضي الله عنه في ميراث الجدة إلى السنة النبوية (3) . د) رجوع الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في دية العاقلة إلى السنة النبوية (4) . وكان رضي الله عنه يقول: ((سيأتي قوم يجادلوكم

_ (1) إشارة إلى حديث رواه الإمام البخاري (5866) في كتاب اللباس، باب خاتم الفضة. (2) رواه الإمام البخاري (41) في كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان. (3) انظر: موطأ الإمام مالك (2/513) كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة، وسنن أبي داود (2894) كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة، وسنن الترمذي (2101) كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة والحديث صححه ابن حبان برقم (6031) ، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص 3/82: إسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أنه صورته مرسل. انظر: النص كاملاً في هذا المبحث (صـ 33) . (4) انظر: مسند أحمد (3/452) ، وسنن أبي داود (2927) كتاب الفرائض، باب في المرأة ترث من دية زوجها، وسنن الترمذي (1415) كتاب الديات باب ما جاء في المرأة هل ترث من دية زوجها (2110) وكتاب الفرائض، باب، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم..

بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله)) (1) . ?) قضاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بالسنة النبوية، في بيان مكان مكوث المرأة المتوفى عنها زوجها، أثناء العدة (2) . ثانياً: وقوع الإجماع من التابعين: سلك التابعون مسلك الصحابة - رضوان الله عليهم - في لزوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال: أ) يقول الإمام مطرف بن عبد الله بن الشخير: والله ما نريد بالقرآن بدلاً ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا (3) . يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ب) وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: إن رأس القضاء اتِّباعُ ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) . ج) أما الإمام إسحاق بن راهويه فكان يقول: مَنْ بلغه عن رسول الله

_ (1) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/122 رقم (203) ، وانظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/231) . (2) رواه الإمام مالك في الموطأ 1/591 في كتاب الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، ومن طريقه رواه الإمام أحمد 2/53-54، وأبو داود (2300) في كتاب الطلاق، باب في المتوفى عنها زوجها، والترمذي (1204) في كتاب الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها؟ وصححه ابن حبان (4292) ، والحاكم في المستدرك 2/208 ووافقه الذهبي. (3) انظر: جامع بيان العلم (2/30) . (4) انظر: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة / للإمام السيوطي (ص 21) دار السلام، ط. الأولى.

صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم ردَّه بغير تقية، فهو كافر (1) . ثالثاً: وقوع الإجماع من الأئمة المجتهدين: كان الأئمة الأربعة من أشد الناس تمسكاً بالحديث إذا ثبت عندهم لا يعدلون عنه إلى قول أحد من الناس، فعلى سبيل المثال: أ) يقول الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: "إياكم والقول في دين الله تعالى بالرأي وعليكم باتباع السنة، فمن خرج عنها ضَلَّ" (2) . ب) وكان الإمام مالك رضي الله عنه يقول: "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وما جاء من نبيكم، وإن لم تفهموا المعنى فسلِّموا لعلمائكم ولا تجادلوهم، فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق" (3) . ج) أما الإمام الشافعي فيؤكد ذلك قائلاً: يسقط كلُّ شيءٍ مخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقحم معه رأي، ولا يقاس، فإن الله عز وجل قطع العذر بقوله صلى الله عليه وسلم " (4) . د) أما الإمام أحمد فكان يقول: أولأحد كلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) ؟!.

_ (1) انظر الإحكام في أصول الأحكام (ص 89) . (2) قواعد التحديث (ص 23) وفيها زيادة. (3) انظر: المرجع السابق. (4) كتاب الأم (2/228) وانظر (2/226) (7/273) والرسالة (ص 217، 219) . (5) انظر: قواعد التحديث (ص 52) .

المطلب الرابع: ثبوت حجية السنة بالدلبل العقلي

المطلب الرابع: ثبوت حجية السنة بالدلبل العقلي ... المطلب الرابع: العقل والحس والمشاهدة وهي أمارات تدل على حجية السنة وتدل على أنَّ ما أجمل من القرآن الكريم تبيِّنه السنة وتفصله؛ فمثلاً فرض الله على الناس في القرآن الكريم عدة

فرائض مجملة غير مبينة، لم تفصل في القرآن أحكامها، ولا كيفية أدائها، فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] . ولم يبين كيف تقام الصلاة وتؤتى الزكاة ويؤدَّى الصوم والحج. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا الإجمال بسنته القولية والعملية؛ لأن الله سبحانه وتعالى منحه سلطة هذا التبيين بقوله عز شأنه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ، فلو لم تكن هذه السنة البيانية حجة على المسلمين، وقانوناً واجباً اتباعه، ما أمكن تنفيذ فرائض القرآن ولا اتباع أحكامه. فالعقل والحس والمشاهدة أمارات دالة على ضرورة السنة وحجيتها، ووجوب اتباعها، وهذه السنن البيانية إنما وجب اتباعها من جهة أنها صادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورويت عنه بطريق يفيد القطع بورودها عنه، أو الظن بورودها، فكل سنة تشريعية صَحَّ صدورُها عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهي حُجَّة واجبةُ الاتباع (1) .

_ (1) انظر: علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف (1/ 28) مطبعة النصر – القاهرة، ط. السابعة 1376?. تعليم علم الأصول د. نور الدين مختار الخادمي (ص155) مكتبة العبيكان، ط. الأولى 1423?.

المبحث الثاني:مكانة السنة من حيث مرتبتها

المبحث الثاني:مكانة السنة من حيث مرتبتها المطلب الأول: إثبات أن السنة هي المصدر الثاني بإدلة القرآن الكريم ... المبحث الثاني: مكانة السنة من حيث مرتبتها وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: إثبات أنَّ السنة هي المصدر الثاني بأدلة القرآن الكريم المطلب الثاني: إثبات أنَّ السنة هي المصدر الثاني بالأحاديث النبوية المطلب الثالث: إثبات أنَّ السنة هي المصدر الثاني بالإجماع المطلب الرابع: إثبات أنَّ السنة هي المصدر الثاني بالمعقول

المبحث الثاني: مكانة السنة النبوية من حيث المرتبة أثبتنا في المبحث السابق - بما لا يدع مجالاً - للشك حجية السنة، وأنها مصدر وأصل يقصد في استنباط الأحكام الشرعية، وذلك للآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة والإجماع الأكيد من جمهور المسلمين على مرّ العصور. وهذه الحجية الثابتة تأتي متأخرة عن القرآن الكريم، فمرتبتها تلي مرتبة القرآن، بمعنى أن الباحث إذا لم يجد في القرآن الكريم رأي الشرع فيما يريد معرفته من أحكام لجأ إلى السنة يبحث فيها عما يريد (1) . لهذا نسمع ونردد أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع. وإثبات حجيتها مصدراً ثانياً يكون من خلال آيات القرآن، ونصوص الأحاديث، وإجماع الأمة، وأخيراً الدليل العقلي. المطلب الأول: إثبات أن السنة هي المصدر الثاني بأدلة القرآن الكريم كل الآيات التي دعت إلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع النور الذي جاء به كانت مشروطةً بالإيمان بالله وطاعته قبل ذلك (2) فعلى سبيل

_ (1) أصول الأحكام الإسلامية، د. أبو السعود موسى (ص 101) والمدخل لدراسة السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي (ص 69) مكتبة وهبة - القاهرة، ط. الثانية 1411?، ومكانة السنة في التشريع الإسلامي، د. محمد لقمان (ص 105) . (2) سبق بيان أمثال هذه الآيات في هذا البحث انظر: (ص8-12) من هذا البحث.

المثال: أ - يقول سبحانه وتعالى في بيان ذلك: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] . ب – وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . فالدلالة واضحة في الآية لأن الرد إلى الله سبحانه وتعالى يعني الرجوع إلى كتابه، وهو القرآن الكريم. والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم يعني: الرّد إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدلالة واضحة كما ذكره أهل العلم الذين يُعتد بقولهم (1) .

_ (1) انظر: تفسير الطبري (4/150) والرسالة للإمام الشافعي (ص 80) والإحكام في أصول الأحكام للإمام ابن حزم (ص 87) . (2) انظر مبحث إثبات حجية السنة بالنصوص النبوية (ص 13) من هذا البحث.

المطلب الثاني: إثبات أن السنة هي المصدر الثاني بالأحاديث النبوية

المطلب الثاني: إثبات أن السنة هي المصدر الثاني بالأحاديث النبوية إن النصوص النبوية أشارت بالفعل إلى عدّ السنة هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وقد أشرنا إلى ما نحن بصدد إثباته الآن سابقاً (2) ولا ضير أن نؤكد منهج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الاعتقاد من خلال حواره مع معاذ ابن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن فقد ذكرت الروايات أنه صلى الله عليه وسلم لما

بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن وقال له: "ماذا تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال معاذ: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، وقال: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله" (1) .

_ (1) رواه الإمام أحمد (5/230و242) ، وأبو داود (3592) في كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء. والإمام الترمذي (1327) في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي، والدارمي (168) في المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة. وقال الإمام الترمذي: إسناده ليس بمتصل. هذا الحديث تكلم فيه كثير من أهل الحديث، لكن الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه. معناه صحيح انظر: العلل المتناهية لابن الجوزي (2/758) ونقل الألباني تضعيفه عن البخاري والترمذي والعقيلي والدراقطني وابن حزم وابن طاهر وابن الجوزي والذهبي والسبكي وابن حجر، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم: 881.

المطلب الثالث: إثبات ان السنة هي المصدر الثاني بالإجماع

المطلب الثالث: إثبات أن السنة هي المصدر الثاني بالإجماع نقل إجماع السلف على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع غير واحد من أهل العلم، فعلى سبيل المثال: يقول الدكتور أبو السعود موسى: "أجمع المسلمون من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن على الاعتداد بالسنة واعتبارها مصدراً من مصادر الالتزام الشرعية يتم الرجوع إليه بعد الرجوع إلى القرآن الكريم وعدم وجود الحكم المراد معرفته فيه" (2) .

_ (2) أصول الأحكام الإسلامية (ص 101) .

ويؤكد الدكتور محمد لقمان هذه المنزلة للسنة بقوله: "الأخبار والآثار المذكورة في مرتبة السنة من كتاب الله، وإن كان أكثرها متكلماً فيها إلا أن المجموع يفيد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الأجلاء كانوا يعدُّون السنة في المرتبة الثانية من القرآن، فالمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار" (1) . والآثار التي تثبت هذا الإجماع كثيرة سبق بيانها، (2) منها على سبيل المثال: أ -كتاب عمر رضي الله عنه إلى شُرَيح، وقولُه: "إذا أتاك أمر بما في كتاب الله فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، فاقض بما سَنَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ". ب -ومن هذا قول ابن مسعود رضي الله عنه: "من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإنْ جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم" (3) .

_ (1) انظر: مكانة السنة في التشريع الإسلامي (ص 106، 107) . (2) انظر المبحث الأول من هذا البحث. (3) الموافقات في أصول الشريعة (4، 5، 6) .

الطلب الرابع: إثبات أن السنة هي المصدر الثاني بالمعقول

الطلب الرابع: إثبات أن السنة هي المصدر الثاني بالمعقول ... المطلب الرابع: إثبات أن السنة هي المصدر الثاني بالمعقول إن الدليل العقلي من الأدلة التي يعتدّ بها شرعاً في الإقناع، وقد أعلى سبحانه من شأن العقل في مواضع عديدة في القرآن، منها قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] ، كما أمر سبحانه بإعمال العقل في التفكر والتدبر، ومن ثم الوصول إلى الحقيقة، وذلك في مجالات كثيرة منها قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] . لهذا كان من المهم ونحن نثبت السنة مصدرًا ثانيًا من مصادر التشريع الإسلامي أن نشير إلى الدليل العقلي الذي اشتمل على وجهين: الوجه الأول: إن القرآن الكريم مقطوع به جملة وتفصيلاً، والقطع في السنة إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، وذلك أن آيات القرآن الكريم متواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، عن رب العزة جل وعلا، معنى ذلك: أن جملة القطع جاءت من كون جميعه متواتراً من عند الله سبحانه وتعالى، أما تفصيل القطع فلأن كل آية من آياته تثبت بالتواتر بأنها من عند الله تعالى، بخلاف السنة، فإنَّ ما فيها من القطع في الحديث المتواتر في الجملة فقط، وهو قليل، والمظنون فيها كثير، والمعروف عقلاً أن المقطوع به مقدم على المظنون، فلزم من ذلك تقديم القرآن على السنة.

الوجه الثاني: إن السنة إمَّا بيانٌ للكتاب، أو زيادة على ذلك. فإن كانت بياناً فهي ثانية على المبيَّن في الاعتبار، إذ يلزمُ من سقوط المبيَّن سقوطُ البيان، ولا يلزم العكس، وما شأنه هذا فهو أولى في التقدُّم، هذه واحدة، والأخرى: إن لم تكن بياناً فلا يعتد بها إلا بعد ألا يوجد الحكم في الكتاب، وهذا دليل على تقدم اعتبار القرآن الكريم على السنة (1) .

_ (1) انظر: الموافقات في أصول الشريعة / للإمام الشاطبي تحقيق: محمد الفاضلي (4/6) المكتبة العصرية، ط. الأولى 1423? وأصول الأحكام الإسلامية د. أبو السعود موسى (ص 13) .

المبحث الثالث: مكانة السنة من حيث بيان الأحكام التشريعية

المبحث الثالث: مكانة السنة من حيث بيان الأحكام التشريعية المطلب الأول: السنة مؤكدة ومقررة لما جاء في القرآن الكريم ... المبحث الثالث: مكانة السنة من حيث بيان الأحكام التشريعية وفيه ستة مطالب: المطلب الأول: السنة مؤكدة ومقررة لما جاء في القرآن الكريم المطلب الثاني: السنة مبينة لمجمل القرآن الكريم المطلب الثالث: السنة مخصصة لعام القرآن الكريم المطلب الرابع: السنة مقيدة لمطلق القرآن الكريم المطلب الخامس: السنة تثبت أحكاما سكت عنها القرآن الكريم المطلب السادس: السنة ناسخة لأحكام ثابتة في القرآن الكريم

المبحث الثالث: مكانة السنة من حيث بيان الأحكام التشريعية تزخر السنة بالأحكام التشريعية مع تباين أنواعها، واختلاف أحكامها، فنجدها إما أن تكون مؤكدة ومقررة لما جاء في القرآن الكريم، أو مبينة لمجمل القرآن الكريم، أو مخصصة لعام القرآن الكريم، أو مقيدة لمطلق القرآن الكريم، أو ناسخة لحكم ثابت في القرآن الكريم، أو مثبتة لحكم سكت عنه في القرآن الكريم. وسوف نبين ذلك من خلال المطالب الآتية: المطلب الأول: السنة مؤكدة ومقررة لما جاء في القرآن الكريم تأتي السنة مقررة ومؤكدة لحكم جاء في القرآن الكريم، فيكون الحكم له مصدران، وعليه دليلان: دليل مثبت من آي القرآن، ودليل مؤيد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة ذلك: قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه" (1) ؛ وذلك لشدة ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال المسلم على المسلم، فإن هذا الحديث يؤكد ويقرر ما جاء في القرآن الكريم

_ (1) حديث صحيح. رواه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه الإمام أحمد 5/425، والبيهقي في السنن الكبرى (9/358) ، وصححه ابن حبان (5978) .

من نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله وَاسْتحْلَلْتمْ فروجهن بكلمة الله" (1) فهذا الحديث يؤكد ويقرر ما جاء في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] والأمثلة أكثر من أن تحصر. فهناك كثير من الأحكام دلت عليها آيات القرآن الكريم، وأيدتها السنة، من هذه الأحكام: الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والنهي عن الشرك بالله، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق، وغير ذلك من المأمورات والمنهيات التي دلَّت عليها آيات القرآن الكريم، وأيدتها سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقام الدليل عليها منهما (2) .

_ (1) رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (1218) في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (2) علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف (ص 39) .

المطلب الثاني: السنة مبينة لمجمل القرآن الكريم

المطلب الثاني: السنة مبينة لمجمل القرآن الكريم واللفظ المجمل هو اللفظ الذي لا يعلم المراد منه بنفس صيغته، ويتوقف فهمه ومعرفة المراد منه على أمر خارج عنه، كلفظ الصلاة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 83] . إن هذا لفظ لا يعرف

المراد منه، ولا يعلم المطلوب منه؛ لأن إقامة الصلاة قد تحصل بفعل صلاة واحدة، أو عدد من الصلوات وقد تحصل بطرائق مختلفة، وفي أوقات متعددة، ومعلوم أن التكليف بالصلاة أو بغيرها لا يكون مبهماً وغامضاً، وإنما يكون واضحاً ومعلوماً. وبالتالي فهذا اللفظ {الصَّلاةَ} مبهم وغامض ولا يعرف المراد منه من الصيغة نفسها، أي: من هذا اللفظ وأسلوبه، وإنما يعرف بالرجوع إلى أمر شرعي آخر، هذا الأمر الشرعي الذي بين المراد من لفظ الصلاة هو السنة النبوية الشريفة. وهي: أقواله وأفعاله وتقريراته التي وضحت المقصود من الصلاة، وبينت كيفيتها، ووقتها، وشروطها، وأركانها، ومندوباتها، وغير ذلك مما هو معروف في أحكام الصلاة. وكذلك لفظ {الزَّكَاةَ} في قوله تعالى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} هو لفظ مجمل لا يعرف المطلوب منه على وجه التحديد والضبط، وعلى سبيل التفصيل والتفريع لذلك بينته السنة النبوية، ووضحته، وذكرت تفصيلاته، وتعريفاته، وكيفية شروطه، وغير ذلك (1) . فهناك كثير من الأحاديث بينت الإجمال في كثير من الآيات. كالأحاديث التي بينت مواقيت الصلاة، وأعداد ركعاتها، والأحاديث التي بينت الأموال التي تجب فيها الزكاة، والأموال التي لا تجب فيها، والمقدار الواجب إخراجه. فإن هذه الأحاديث تعدّ مبينة للإجمال في آيات الصلاة، وآيات الزكاة وهذا عام في كثير من أحكام التشريع.

_ (1) تعليم علم أصول الفقه د. نور الدين خادمي (ص 156) .

المطلب الثالث: السنة مخصصة لعام القرآن الكريم

المطلب الثالث: السنة مخصصة لعام القرآن الكريم واللفظ العام: هو اللفظ الذي يشمل جميع أفراده التي وضع لأجلها. مثل لفظ {الَّذِينَ آمَنُوا} فهو لفظ عام يشمل المؤمنين جميعهم، وكافتهم، ولا يقتصر على المؤمنين في العصر النبوي، أو الذين آمنوا من الرجال دون النساء. واللفظ العام يرد ذكره في القرآن الكريم، وقد يراد به أحياناً العموم والشمول لجميع أفراده. وقد يراد به أحياناً بعض الأفراد فقط. ولذلك فإن معرفة المراد من العموم، وجميع الأفراد، وبعضهم، يتحدد من قبل السنة النبوية الشريفة. وهناك في القرآن الكريم نصوص كثيرة وردت في القرآن عامة، ثم جاءت السنة وقصرت هذا العموم على بعض الأفراد، وذلك كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فالآية عامة في إحلال ما وراء ذكر المحرمات في صور الآية، ثم جاءت السنة وخَصَّصت هذا العموم وقصرته على بعض أفراده، بقوله: صلى الله عليه وسلم "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها" (1) .

_ (1) رواه الإمام البخاري (5109) في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، ومسلم (1408) في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح.

وأيضاً قوله تعالى: َ {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} البقرة: 282] . فلفظ البيع الوارد في الآية عام، يشمل كل أنواع البيوع، فالآية عامة في حل كل أنواع البيوع ثم جاءت السنة وخصصت هذا العموم، بنهيه عن بيع الغرر، وعن البيوع الفاسدة، وهو قوله لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) (1) .

_ (1) رواه من حديث حكيم بن حزام الإمام أحمد 3/402، وأبو داود (3503) في كتاب البيوع، باب الرجل يبيع ما ليس عنده، والإمام الترمذي (1232) في كتاب البيوع، باب كراهية بيع ما ليس عندك، وابن ماجه (2187) في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع ما ليس عندك. وصححه ابن حبان (4983) .

المطلب الرابع: السنة مقيدة لمطلق القرلآن الكريم

المطلب الرابع: السنة مقيدة لمطلق القرلآن الكريم ... المطلب الرابع: السنة مقيدة لمطلق القرآن الكريم واللفظ المطلق هو اللفظ الذي لم يقيد، مثل لفظ"رقبة"فهو مطلق عن القيود، لكن عندما تقول"رقبة مؤمنة"فيكون هذا الوصف وهو"الإيمان"قيد به المطلق وهو"رقبة". ويرد في القرآن الكريم ألفاظ مطلقة عن القيود والأوصاف، فتأتي السنة بتقييدها، كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فاليد في الآية مطلقة غير مقيدة، بكونها اليمين، أو الشمال، فجاءت السنة وقيدت المطلق هذا بكون اليد المقطوعة هي اليد اليمنى، وبيان أن القطع من الكوع. وأيضاً قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فلفظ الوصية الوارد في الآية مطلق غير مقيد بمقدار معين، فبينت السنة أن

مقدار الوصية هو الثلث، أو أقل، فلا يجوز إخراج الوصية بأكثر من ثلث المال الذي تركه الميت. والحديث الذي قيد مطلق الوصية هو قوله: صلى الله عليه وسلم "الثلث والثلث كثير" (1) .

_ (1) رواه الإمام البخاري (2742) في كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، والإمام مسلم (1628) في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث.

المطلب الخامس: السنة تثبيت أحكامها سكت عنها القرآن الكريم

المطلب الخامس: السنة تثبيت أحكامها سكت عنها القرآن الكريم ... المطلب الخامس: السنة تثبت أحكاماً سكت عنها القرآن الكريمفالسنة أثبتت بعض الأحكام التي سكت عنها القرآن الكريم، وذلك مثل الأحاديث الدالة على جواز الرهن في غير السفر، فقد روى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل، ورَهَنه درعاً له من حديد" (2) ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "توفي رسول صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير" (3) وكثبوت الميراث للجدة، فقد روي ((أن الجدة ذهبت إلى أبي بكر رضي الله عنه تبغى الميراث، فقال لها: لا أجد لك في كتاب الله شيئاً،

_ (2) رواه الإمام البخاري (2068) في كتاب الصوم، باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، والإمام مسلم (1603) في كتاب المساقاة، باب الرهن وجوازه في الحضر كالسفر. (3) رواه الإمام البخاري (2906) في فضل الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب

وما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئاً، ثم سأل الناس فقام المغيرة بن شعبة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس. فقال أبو بكر: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك. فانفذه لها أبو بكر رضي الله عنه)) (1) . وكصلاة الوتر، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس مني" (2) وهناك كثير من الأحكام التشريعية التي أثبتتها السنة، وسكت عنها القرآن الكريم، منها ما يلي: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها (3) ، وتحريم الحمر الأهلية (4) ، وإيجاب صدقة الفطر (5) ، وإيجاب الدية على العاقلة (6) ، ومنع التوارث بين المسلم والكافر (7) .وغير ذلك.

_ (1) تقدم تخريجه (ص 18) ، تعليق رقم (4) . (2) رواه من حديث بريدة بن الحصيب الإمام أحمد (5/357) ، وأبو داود (1419) في كتاب الصلاة، باب فيمن لم يوتر، وصححه الحاكم في المستدرك (1/305، 306) . (3) إشارة إلى حديث تقدم تخريجه. (4) إشارة إلى حديث رواه من حديث علي بن أبي طالب الإمام البخاري (5115) في كتاب النكاح، باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، ومسلم (1407) في كتاب النكاح، باب نكاح المتعة. ورواه الإمام البخاري (4199) من حديث جابر بن عبد الله، في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. (5) إشارة إلى حديث رواه الإمام البخاري (1503) في كتاب أبواب صدقة الفطر، باب فرض صدقة الفطر، والإمام مسلم (984) في كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير. (6) إشارة إلى حديث تقدم تخريجه. (7) إشارة إلى حديث رواه الإمام البخاري (4283) في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح، والإمام مسلم (1614) في كتاب الفرائض، أول الكتاب.

المطلب السادس: السنة ناسخة لأحكام ثابتة في القرآن الكريم

المطلب السادس: السنة ناسخة لأحكام ثابتة في القرآن الكريم والنسخ هو: الإبطال والإزالة. والمراد به: إزالة دليل وإبطاله بموجب دليل آخر حل محله. أو هو إزالة الحكم الثابت بالشرع المتقدم بشرع متأخر عنه. وقد اتفق الأصوليون على أن السنة المتواترة تنسخ السنة المتواترة مثلها؛ لأنهما متماثلان في القوة. والسنة المتواترة تنسخ الآحاد، لأن الآحاد أضعف من المتواتر، والسنة الآحاد تنسخ الآحاد، لأنهما متماثلان في القوة، ولا تنسخ المتواترة لأنهما يختلفان في القوة (1) . وهذا هو الذي أجمع عليه أهل العلم. ولكنهم اختلفوا في نسخ الكتاب للسنة ونسخ الكتاب بالسنة. ولكن الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء هو جواز نسخ القرآن بالسنة، ومنع من ذلك الإمام الشافعي، والدليل على ذلك أن القرآن والخبر المتواتر، كلاهما شرع مقطوع بصحته. فإذا جاز أن ينسخ القرآن بالقرآن، جاز أن ينسخ بالخبر المتواتر (2) .

_ (1) عدم نسخ السنة المتواترة بالآحاد منها ليس موضع اتفاق. (انظر: شرح مختصر الروضة 2/325_329) . (اللجنة العلمية) . (2) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (جـ 3/ 103) دار الاتحاد العربي للطباعة. وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول / للإمام الشوكاني (ص 190) ط. حلب 1356?. كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوي (جـ 3/ 797) دار الكتاب العربي – بيروت.

ومن أمثلة السنة الناسخة للأحكام الثابتة في القرآن الكريم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" (1) فإن هذا الحديث نسخ الوصية للوارث في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] وهذا بناءً على رأي الجمهور.

_ (1) حديث صحيح، روي عن جماعة كثيرة من الصحابة، كما قال الألباني في الإرواء (6/87 رقم 1655) . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (20/397) أن من جعل هذا الحديث ناسخا للوصية للوالدين والأقربين فقد غَلِط، فإن ذلك إنما نسخته آية المواريث كما اتفق على ذلك السلف. (اللجنة العلمية) .

المبحث الرابع: مكانة السنة من حيث العمل بها

المبحث الرابع: مكانة السنة من حيث العمل بها المطلب الأول: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ... المبحث الرابع: مكانة السنة من حيث العمل بها. وفيه مطلبان المطلب الأول: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. المطلب الثاني: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم بعد البعثة. وفيه أربعة أقسام: القسم الأول: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم قولاً. القسم الثاني: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم فعلاً. القسم الثالث: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم تقريرًا. القسم الرابع: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم اجتهاداً.

المبحث الرابع: مكانة السنة من حيث العمل بها بعد أن أثبتنا بالأدلة القاطعة من القرآن، والحديث، والإجماع، والمعقول، حجية السنة ومنزلتها وبيانها للأحكام التشريعية يأتي السؤال المهم هل كل ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم يعد تشريعاً؟ قبل أن نجيب عن هذا ينبغي أن نشير إلى نقطة مهمة في حياته صلى الله عليه وسلم، فكلنا يعرف أنه صلى الله عليه وسلم عاش حياتين مختلفتين قبل البعثة وبعدها، وترتب عليهما وجود التشريع وعدمه، لهذا سنتناول الموضوع من هذين الجانبين الأساسين في مطلبين مختلفين: المطلب الأول: ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. المطلب الثاني: ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد البعثة.

المطلب الأول: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة عاش محمد صلى الله عليه وسلم طفولته وشبابه قبل البعثة، لكنها لم تكن حياة عادية كحياة كل الأطفال والشباب في ذلك الحين؛ لأنها حياة تميزت بالمثالية التامة، فكان طرازاً رفيعاً في الفطرة الصافية، والفكر الصائب، والفطنة الأصيلة، فعايش الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجده حسناً شارك فيه، وإلا التزم عزلته وصمته، لهذا عرف في قومه بالخلال العذبة، والأخلاق الفاضلة، والشمائل الكريمة، فكان لا يشرب خمراً، ولا يعبد وثناً، وكان أصدقهم حديثاً، وأفضلهم مروءة، وأعظمهم حلماً، وأوفاهم عهداً وآمنهم أمانة يحمل الكَلَّ، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق (1) . كيف لا يكون كذلك والله سبحانه هو الذي تولاه بالرعاية (2) والحفظ (3) ؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم رغم أنه جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من أخلاق وسلوك إلا أن سيرته في هذه الفترة لا تصح أن تكون مصدراً للتشريع، وذلك لأنه لم يُكَرَّم بنزول جبريل عليه السلام بآيات القرآن، ولم يعصم بالنبوة بعد.

_ (1) انظر: صحيح الإمام البخاري (3) كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحيح مسلم (160) كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والسيرة النبوية لابن هشام (1/128) ، والرحيق المختوم للمباركفوري (ص 62-64) . (2) انظر على سبيل المثال: معجزة شق صدره صلى الله عليه وسلم وإخراج حظ الشيطان منه، في صحيح الإمام مسلم (162) كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث حفظه من التعري في صحيح الإمام البخاري (364) كتاب الصلاة، باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها، وصحيح الإمام مسلم (340) في كتاب الحيض، باب الاعتناء بحفظ العورة. (3) انظر إلى حديث نومه لما هم بمشاركة الشباب سمرهم (انظر المستدرك على الصحيحين (4/254) وصحيح ابن حبان (6272) .

المطلب الثاني: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم بعد البعثة

المطلب الثاني: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم بعد البعثة يعد ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، وينقسم ذلك إلى الأقسام التالية: القسم الأول: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم قولاً وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم هي عباراته، وكلماته، التي تلفظ بها. والمراد بها: الأحاديث التي تلفظ بها الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً لمقتضيات الأحوال. والأحاديث القولية تمثل في الواقع جمهرة السنة وعليها مدار التوجيه والتشريع، وفيها يتجلى البيان النبوي، وتتمثل البلاغة المحمدية، بأجلى صورها، وفيها جوامع الكلم التي خص الله تعالى بها خاتم رسله. أقسام أقوال النبي صلى الله عليه وسلم: تنقسم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم - كما ينقسم كل كلام - إلى: خبر، وإنشاء. أولاً: أخبار النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه الأخبار قد تكون عن الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله كما في حديث أبي هريرة: "إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة" (1) وقد تكون أخبارا عن عالم الغيب

_ (1) رواه الإمام البخاري (2736) في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنا والإقرار، والإمام مسلم (2677) في كتاب الذكر والدعاء، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها.

مثل إخباره عن سؤال القبر ونعيمه وعذابه، وعن البعث والحشر والشفاعة، ومن أخباره أيضاً ما قصه علينا من سير الماضين من الأنبياء والصالحين، ويدخل في أخباره ما يذكره عن المستقبل مما أطلعه الله عليه. ومما يدخل في دائرة الخبر من أقواله ما يذكره صلى الله عليه وسلم لبيان حقائق الأشياء وبيان قيمها ومراتبها وما فيها من ثواب وعقاب. ومن الأخبار ما يتضمن توجيهات أخلاقية ترغيباً في الخير، وترهيباً من الشر. ومنها ما يتضمن تشريعاً ملزماً للفرد المسلم وللجماعة المسلمة وإن كان في صورة خبر كما في حديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" (1) وقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" (2) . ثانياً: الإنشاء. والإنشاء بمعنى الطلب، من أقواله صلى الله عليه وسلم فيشمل الأمر، والنهي، والدعاء، فتمثل الأمر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (3) . ومثل النهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب

_ (1) رواه الإمام البخاري (1189) في كتاب الجمعة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، والإمام مسلم (1397) في كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. (2) رواه عن أبي سعيد الخدري الدارقطني 3/77 و 4/288، وصححه الحاكم 2/57-58. وقد روي عن جماعة من الصحابة. قال ابن رجب الحنبلي: إن بعض طرقه تُقوّى ببعض. انظر جامع العلوم والحكم 2/210. (3) رواه من حديث الحسن بن علي: الإمام أحمد 1/200، والإمام النسائي 8/327 في كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، والإمام الترمذي (2518) في كتاب في صفة القيامة، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان (722) ، والحاكم (2/13 و 4/99) .

الحديث" (1) . ومن أمثلة الدعاء: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي" (2) . حجية أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم الأصل في حجية أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ما تقدم من الأدلة العامة على حجية السنة؛ لأن الأقوال قسم من أقسام السنة بالإضافة إلى الأدلة التي تدل على وجوب التأسي والمتابعة والاقتداء في أقواله ومن ذلك: قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] . وجه الدلالة: حيث ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية: أن هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله (3) . ولما كان التأسي بأقواله صلى الله عليه وسلم أمرًا واجبًا، لهذا فقد عنى المسلمون بنقل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم أيما عناية، وقسموا (4) الأقوال المقبولة المتصلة السند إلى

_ (1) رواه عن أبي هريرة الإمام البخاري (5143) في كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، والإمام مسلم (2563) في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها. (2) رواه من حديث أبي هريرة: الإمام مسلم (2720) في كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. (3) انظر: تفسير القرآن العظيم / ابن كثير (جـ 3/ 483) . (4) قسم العلماء: الحديث إلى قسمين: متواتر، وآحاد، والمشهور قسم من أقسامه عند المحدثين، كما ذكر الحافظ ابن حجر في شرح النخبة /29-30.

أحاديث قولية متواترة، ومشهورة، وآحاد، فقالوا: إن الأحاديث القولية المتواترة توجب العلم والعمل، ولا مجال للشك فيها. أمّا الأحاديث القولية المشهورة فإنها تفيد علم الطمأنينة، وهو الظن القريب من اليقين، وتوجب العمل بها بالإجماع. أما الأحاديث القولية الآحاد فاختلف فيها، هل تفيد العلم أو تفيد الظن؟ والراجح أنها تفيد العلم، لأن العلماء أجمعوا على وجوب العمل بأخبار الآحاد.. فكيف يوجب العمل وهي غير مفيدة للعلم؟ فالعمل فرع عن تصور العلم، وبالتالي فهي توجب العلم والعمل. وتقسيم (1) السنة إلى: متواتر، ومشهور، وآحاد تقسيم حادث، وليس من منهج الصحابة والسلف الصالح، وإنما كان منهجهم هو وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله (2) . القسم الثاني: ما صدر عنه فعلاً صلى الله عليه وسلم الأفعال: جمع فِعْل، والفعل هو الهيئة العارضة للمؤثر في غيره، بسبب التأثير كالهيئة الحاصلة للقاطع بسبب كونه قاطعاً ... ومنه الفعل العلاجي

_ (1) انظر الحاشية السابقة. (2) انظر: الموضوع بالتفصيل في: شرح الكوكب المنير / للفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار (جـ 2/345) دار الفكر ت دمشق 1400?. وروضة الناظر / لابن قدامة (جـ 1/260) مطابع الرياض 1397?. والكفاية في علم الرواية / للخطيب البغدادي (ص 48) دار الكتاب العربي – بيروت 1406?.وأصول الفقه للبرديسي (ص 194 -195) ط. الثالثة 1969 دار النهضة. وأصول الفقه/ لمحمد أبو زهرة (ص 99) دار الفكر العربي - القاهرة. وأصول الأحكام الإسلامية (ص 108، 111، 113، 122) .

وهو ما يحتاج حدوثه إلى تحريك عضو كالضرب والشتم (1) . والمراد بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم هو كل ما يعمله صلى الله عليه وسلم ببدنه فيدخل في ذلك الإشارة باليد وبالرأس؛ لأنها حركة بعضو من أعضاء البدن ويدخل أيضاً في الأفعال كتاباته صلى الله عليه وسلم إلى الملوك. أقسام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم: اختلف العلماء في تقسيم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وحصرها وعدها، فمنهم من حصرها في سبعة أقسام كالزركشي والشوكاني (2) . ومنهم من حصرها في ضربين كالشيرازي (3) ومنهم من قسمها دون حصر لعددها كأبي الحسين البصري (4) . وهذه التقسيمات مستحدثة لم تكن إلا بعد عصر الأئمة، ولا ينبني على ذلك التقسيم فائدة، ولكن هذا التقسيم يوضح ما يستحب فيه المتابعة، وما يمتنع وما يجوز، لذلك ستقسم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتضح الأمر إلى ما يلي: أولاً: أفعال جِبِلِّيَّة وهذا القسم على نوعين: 1 - أفعال تقع من الرسول اضطراراً دون قصد منه لإيقاعه مطلقاً،

_ (1) التعريفات للجرحاني/57. (2) البحر المحيط للزركشي (جـ 6/29) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الكويت ط. الثانية 1413?. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول / 30. (3) شرح اللمع في أصول الفقه / لأبي إسحاق الشيرازي (جـ 1/ 545) دار الغرب الإسلامي – بيروت 1408? (4) المعتمد لأبي الحسين البصري (جـ 1/ 385) دار الكتب العلمية – بيروت.

وذلك كما في سرور الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر (1) . وكان إذا كره شيئاً رُئي في وجهه. وهذا النوع من الأفعال لا يتعلق به متابعة أو تأثر أو اهتداء لوقوعه دون قصد منه. 2 - أفعال تقع منه اختياراً، وهي ما يفعله الرسول عن قصد وإرادة ولكنها أفعال تدعو إليها الضرورة والحاجة من حيث هو بشر، ويوقعها الإنسان قصداً عند شعوره بتلك الضرورة، إلا أن اتباعها تابع لإرادته وقصده بحيث يستطيع الامتناع عن ذلك في وقت دون وقت. وذلك كالقيام والقعود وهواجس النفس وحركة اليد أثناء المشي ونومه وأكله وشربه، وهذا النوع أيضاً لا يتعلق به متابعة أو تأسٍّ أو اقتداء. ولكن إن واظب الرسول صلى الله عليه وسلم على إيقاع هذا الفعل الجِبِلِّي على هيئة مخصوصة ووجه معروف كوضع يده اليمنى تحت خده عند النوم ونومه على جنبه الأيمن وأكله بثلاث أصابع، فهذا يندب التأسي فيه؛ لأن الغالب من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم التشريع، إذ هو بعث لبيان الشرعيات (2) . وقيل: يستحب المحافظة عليها والأخذ بها ما أمكن تدريباً للنفس وتمريناً لها على أخلاق صاحب الشرع، فإن النفس مهما سومحت في اليسير تشوقت إلى المسامحة فيما فوقه، وكان ابن عمر رضي الله عنهما

_ (1) رواه عن كعب بن مالك الإمام البخاري (3556) في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. والإمام مسلم (2769) في كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. (2) البحر المحيط (جـ 6/23) شرح تنقيح الفصول للإمام القرافي / 288. مكتبة الكليات الأزهرية.

يأخذ نفسه بالمحافظة على جميع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم. قال نافع: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم لقلت هذا مجنون (1) . ثانياً: أفعال صدرت منه على وفق العادات (2) كأحواله صلى الله عليه وسلم في المأكل والمشرب والملبس وطريقة مشيته وطريقة كلامه. فهذه الأفعال مباحة لأنه لم يقصد به التشريع ولم نتعبد به ولم تقع تلك الأفعال على سبيل الطاعة. لكن لو تأسى به متأس فلا بأس، وإن تركه لا رغبة عنه ولا استكباراً فلا بأس ويثاب على قصده التأسي، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما كان يلبس النعال السبتية ويصبغ بالصفرة، فسئل عن ذلك فقال: "وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها. وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها" (3) . ثالثاً: أفعال لم يتبين أمرها ولم يوجد دليل على وقوعها قربة أو عبادة، ولكن لها علاقة بالعبادة، سواء وقعت في أثناء العبادة أو في وسيلتها أو قبلها أو بعدها. كنزوله بالمحصب ليلة النفر، وجلسة الاستراحة في الصلاة، ودخوله مكة من طريق كدي، وخروجه من طريق

_ (1) شرح الكوكب المنير لابن النجار (جـ 2/179) دار الفكر – دمشق 1400?. البحر المحيط (جـ 6/24) . (2) المهذب في علم أصول الفقه / للدكتور عبد الكريم النملة (جـ 2/830) مكتبة الرشد، ط. الأولى 1420?. (3) رواه الإمام البخاري (166) في كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين، والإمام مسلم (1187) في كتاب الحج، باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة.

كداء، ودخوله المسجد الحرام من باب بني شيبة. فقد اختلف العلماء في ذلك، والراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: وهو أنه يستحب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأفعال ويُنْدَبُ إلى ذلك ولا يجب (1) . رابعاً: أفعال بيانية، فإن كان المبين واجباً كان الفعل المبين له واجباً، وإن كان مندوباً فمندوب؛ لأن البيان لا يتعدى رتبة المبيَّن، ومتى تعداه لا يكون بيانا له. خامساً: الأفعال الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم التي ثبت بالدليل اختصاصه بها، كالجمع بين تسع نسوة، فهذا القسم يحرم التأسي فيه (2) . ومن خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التبرك بأثره والاستشفاء به، فقد نقل أنه صلى الله عليه وسلم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه ومجَّ فيه ثم قال لأبي موسى وبلال رضي الله عنهما: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما (3) . وتوضأ وشرب جابر بن سمرة رضي الله عنه من وضوئه (4) ، وجمعت أم سليم رضي الله عنها عرقه لتتطيب (5) ، وشرب بعضهم دم حجامته (6) .

_ (1) شرح الكوكب المنير (جـ 2/181) . المهذب للدكتور/ عبد الكريم النملة (جـ 2/ 832) . (2) معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للجيزاني (ص 130) دار ابن الجوزي، ط. الثانية 1419?. (3) رواه عن أبي موسى: الإمام البخاري (188) في كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، ومسلم (2497) في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين. (4) رواه الإمام البخاري (190) في كتاب الوضوء، والإمام مسلم (2345) في كتاب الفضائل، باب إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله من جسده صلى الله عليه وسلم. (5) رواه الإمام البخاري (6281) في كتاب الاستئذان، باب من زار قوما فقال عندهم، والإمام مسلم (2331) في كتاب الفضائل، باب طيب عرقه صلى الله عليه وسلم والتبرك به. (6) هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، والحديث رواه الدارقطني (1/288) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/330) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/270) وعزاه إلى الطبراني والبزار، وقال: رجال البزار رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم (أحد رواته) وهو ثقة.

والدليل على أن هذا من خصائصه أن الصحابة لم يتبركوا بأفاضلهم، وليس في الأمة بعد نبيها أفضل من أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولو حادثة واحدة أنهم تبركوا بهؤلاء الأولياء الأربعة فهذا إجماع على الترك (1) . حجية أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم: الأصل في حجية أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ما تقدم سابقا من الأدلة العامة على حجية السنة، لأن الأفعال من أقسام السنة، بالإضافة إلى الأدلة التي تدل على وجوب التأسي والاقتداء بأفعاله على وجه الخصوص، مثال ذلك: قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . وجه الدلالة: حيث عبر الله عز وجل بالمصدر {أُسْوَة} أي تأسوا به والتأسي هو أن نفعل مثل فعله على وجهه لأجل فعله (2) . ويشترط في التأسي والمتابعة شرطان: الأول: المتابعة في صورة العمل. الثاني: المتابعة في القصد. فإذا طاف صلى الله عليه وسلم حول الكعبة واستلم الحجر وصلى خلف المقام، كان التأسي والاقتداء به أن يفعل هذا الفعل، وأن يقصد به العبادة، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقصد به العبادة.

_ (1) الاعتصام للشاطبي (جـ 2/ 1106) . (2) أصول الفقه للمقدسي (جـ 1/ 335) .

أما ما فعله صلى الله عليه وسلم بحكم الاتفاق ولم يقصده، مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزله لا قصداً منه صلى الله عليه وسلم لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإن تخصيص ذلك المكان بالصلاة لا يكون تأسياً به صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يقصد ذلك المكان بالعبادة، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة: هل فعل استحباباً أو لحاجة عارضة تنازعوا فيها، وكذلك نزوله بالمحصب عند الخروج من منى لما اشتبه عليه، هل فعله لأنه أسمح لخروجه، أو لكونه سنة تنازعوا في ذلك" (1) . القسم الثالث: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم تقريراً والمراد بالسنة التقريرية: هي ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم مما صدر من بعض الصحابة من أقوال وأفعال بسكوت منه وعدم إنكاره أو بموافقته وإظهار استحسانه وتأييده (2) . والمقصود بالتقرير: هو أن يفعل أحد الصحابة بحضرته فعلاً أو يقول قولاً فيمسك صلى الله عليه وسلم عن الإنكار ويسكت (3) . أمثلة للسنة التقريرية: 1 - ما رواه أبو سعيد الخدري أنه خرج رجلان في سفر وليس معهما

_ (1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام بن تيمية (جـ 1/ 281) . (2) علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف/ 26. (3) شرح الكوكب المنير (جـ 2/ 166) .

ماء فعرضت الصلاة فتيمما صعيداً طيباً فصلَّيا، ثم وجد الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يُعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك فقال للذي لم يعد. أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: "ولك الأجر مرتين" (1) . 2 - احتلم عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في غزوة ذات السلاسل فلم يغتسل خوفاً من الهلاك لشدة البرد، بل تيمم وصلى بأصحابه الصبح، فلما ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال له عمرو: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً (2) وهذا إقرار منه صلى الله عليه وسلم لعمرو في اجتهاده. 3 - إقراره لاجتهاد الصحابة في صلاة العصر في غزوة بني قريظة حين قال لهم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" ففهم بعضهم هذا النهي على حقيقته فلم يصل إلا في بني قريظة بعد المغرب، وقالوا: لا نصلي حتى نأتيها. وفهم البعض أن المقصود الحث على

_ (1) حديث حسن. رواه أبو داود (338) في كتاب الطهارة، باب في المُتَيمِّم يجد الماء بعدما يُصلى، في الوقت. والإمام النسائي (1/213) في كتاب الغسل، باب التيمم لمن لم يجد الماء بعد الصلاة، وهذا لفظ أبي داود. (2) حديث صحيح. رواه أبو داود (334) في كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أن يتيمم، والإمام أحمد (4/203) ، وصححه الحاكم (1/177-178) .

الإسراع فصلاَّها في وقتها. وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل الفريقان فأقرهما، ولم يعنف أحدهما (1) . 4 - إقراره صلى الله عليه وسلم إنشاد الشعر المباح (2) . حجية السنة التقريرية: أولاً: الدليل على أن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم حجة هو أنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إذ سكوته يدل على جواز ذلك بخلاف سكوت غيره (3) . ثانياً: أن من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب إنكار المنكر، لا يسقط عنه بالخوف على نفسه لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] (4) . ثالثاً: احتجاج الشافعية والحنابلة في إثبات النسب بالقيافة، فحديث عائشة رضي الله عنها أن مجززاً المدلجي رأى زيد بن حارثة وابنه أسامة فقال هذه الأقدام بعضها من بعض (5) فَسُرَّ النبيُّ، وأعجبه ذلك. رابعاً: إجماع المسلمين على أن ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من قول، أو

_ (1) انظر: صحيح الإمام البخاري (946) كتاب الجمعة، باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً، والإمام مسلم (177) في كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين. (2) انظر: صحيح الإمام البخاري (3212) كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، والإمام مسلم (2485) كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه. (3) أصول الفقه للإمام المقدسي (جـ 1/ 354) . شرح الكوكب المنير (جـ 2/ 166) . (4) انظر: تفسير القرآن العظيم. ابن كثير (جـ 2/ 165) . (5) معالم أصول الفقه للجيزاني (133) .

فعل، أو تقرير وكان مقصوداً به التشريع والاقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح بصدقه يكون حجة على المسلمين، ومصدرًا تشريعياً يستنبط منه المجتهدون الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين (1) . شروط الاحتجاج بالسنة التقريرية ويكون سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره حجة ودليلاً على الجواز بشروط: أولاً: أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بوقوع الفعل أو القول فإما أن يقع ذلك بحضرته، أو في زمنه، وهو عالم به لانتشاره انتشاراً يبعد معه ألا يعلمه صلى الله عليه وسلم (2) . ثانياً: ألا يكون الفعل الذي سكت عنه سبق تحريمه، فإن سبق تحريمه يكون نسخاً، لئلا يكون سكوته محرما (3) . ثالثاً: ألا يكون الفعل الذي سكت عنه صادراً من كافر كمضيه إلى كنيسة، وبالتالي فلا أثر لسكوته اتفاقاً، وإلا دل على جوازه (4) . ولأن إنكاره صلى الله عليه وسلم لما يفعله الكفار معلوم ضرورة، فالعبرة في فعل أحد المسلمين.

_ (1) علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف/ 37. (2) معالم أصول الفقه للجيزاني / 133. أصول الفقه للمقدسي (1/ 354) . (3) أصول الفقه للمقدسي (جـ 1/ 354) . (4) المرجع السابق.

القسم الرابع: ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهاداً وقد ألحق أكثر العلماء اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أقره الله سبحانه وتعالى عليه بالسنة التشريعية لذلك أدرجناه هنا. ومسألة اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم من المسائل التي اختلف فيها العلماء ولكن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن العقل يُجَوِّز اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وواقع مطلقاً. فيقول صاحب تيسير التحرير: ((وأكثر أهل العلم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاجتهاد مطلقاً في الأحكام الشرعية، والحروب، والأمور الدينية، من غير تقييد بشيء منها. أو من غير تقييد بانتظار الوحي، وهو مذهب عامة الأصوليين ومالك والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث)) (1) . ولاشك في أن نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمنع من كونه أقوى الناس قريحة، وأشدهم حذقاً، وأثقبهم بصيرة، وأصوبهم رأياً، وأحدهم ذكاء، وأكثرهم فهماً لمقاصد التشريع ولمصالح المؤمنين. كيف وهو أتقى الناس وأورعهم وأشدهم خشية لله؟ كما أنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقد وصفه الله عز وجل بأنه: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] . وكل هذه الأمور أدوات يستعين بها المجتهد في

_ (1) تيسير التحرير لمحمد أمين (جـ 4/ 185) دار الكتب العلمية – بيروت.

الوصول إلى إظهار حكم الله في الحادثة وهو يفترق عن سائر الناس بتأييده بالوحي الذي يقره على الصواب ويوجهه إلى الأولى. واجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقع في موطن واحد، أو مكان واحد، أو موضوع واحد، وإنما تعددت المواطن والأمكنة والموضوعات. لذلك سنحصر مواطن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نعرف ما هو تشريع، وما هو ليس بتشريع. أولاً: اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية: كما في مسألة تأبير النخل: لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة فوجد أهلها يلقحون النخل فقال: "ما تصنعون؟ " قالوا: كنا نصنعه. قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا" فتركوه. فنفضت أو فنقصت. قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر" (1) . وفي رواية عائشة وأنس رضى الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال فخرج شِيْصاً. فمرَّ بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت: كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم" (2) . وهذا النوع من الاجتهاد لا يعد تشريعاً؛ لأنه قول في أمور المعايش من طب وزراعة بما يقول به الناس، ناتج عن تجارب وعادة وهذا فيما لا

_ (1) رواه من حديث رافع بن خديج: الإمام مسلم (2362) في كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي. (2) رواه الإمام مسلم (2363) في كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي.

وحي فيه (1) . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " أنتم أعلم بأمور دنياكم" ينطق صراحة بأن الأمور التي ترجع إلى الخبرة والتجربة والشؤون الدنيوية كبعض الأفعال الخاصة بالتجارة والزراعة لا يجب الاقتداء فيها والناس أدرى بأحوالهم ومجريات أمورهم (2) . ثانياً: اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور الحربية: كما حصل في يوم بدر وموافقته لرأي الحباب بن المنذر رضى الله عنه: قال ابن اسحاق: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يبادر قريشاً إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به. فجاء الحباب رضي الله عنه بين الجموع. قال يا رسول الله: "أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء، من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القُلَب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي" وفعل ما أشار به الحباب بن المنذر رضي الله عنه (3) . وهذا النوع من الاجتهاد فيه دلالة صريحة على أنه ليس تشريعاً؛ لأنه

_ (1) شرح النووي على صحيح مسلم (5/15/116) دار الريان، ط. الأولى 1407?. (2) أصول الفقه للبرديسي / 209. (3) انظر: سيرة ابن هشام (2/312-313) مكتبة المنار، ط. الأولى 1409? والمستدك للحاكم (3/446-447) والسنة النبوية في ضوء المصادر الأصلية / د. مهدي رزق الله (ص 345) مركز الملك فيصل للبحوث 1412? ط. الأولى.

لو كان تشريعاً ما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وأخذ برأي الحباب بن المنذر ونفذ الرسول صلى الله عليه وسلم رغبة الحباب رضي الله عنه. ثالثاً: اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأقضية: والرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد في الأقضية بالإجماع (1) . وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار" (2) . وفي الحديث دلالة على الحالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئاً، إلا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك، وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز على الناس وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر والله يتولى السرائر، فيحكم صلى الله عليه وسلم بالبينة واليمين، ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كونه في الباطن على خلاف ذلك، ولكنه إنما كُلف بحكم الظاهر (3) . وقضاء الرسول صلى الله عليه وسلم يكون في القضية قبل نزول الوحي، فإن نزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به، فيترك ما قضي به على حاله، ويستقبل ما نزل به القرآنُ الكريم، ولذلك فقضاؤه بغير الوحي إنما هو عن اجتهاد منه.

_ (1) شرح الأسنوي على المنهاج لجمال الدين عبد الرحيم (جـ 2/ 172) ط. صبيح. (2) رواه من حديث أم سلمة: الإمام البخاري (2458) في كتاب المظالم، باب (إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، والإمام مسلم (1713) في كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة. (3) اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم د. نادية العمري / 98. مؤسسة الرسالة.

وقد ورد أيضاً عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم "إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليَّ فيه" (1) . ومن اجتهاداته صلى الله عليه وسلم قضاؤه لفاطمة بنت قيس أن تعتد عند أم شريك ثم رجوعه عن ذلك بقضاء آخر لمصلحة رآها (2) . رابعاً: اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحكام الشرعية: اختلف العلماء في اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام الشرعية والفتاوي في الأمور الدينية، ولكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الأحكام الشرعية والفتاوي في الأمور الدينية عندما ينقطع طمعه في العثور على النص، ولولم يرد الله سبحانه له الاجتهاد لبادر بالوحي في كل حادثة تَعْرِض له، ولسارع بجوابه في كل سؤال يوجه إليه. ولكن الوحي يتأخر، والحادثة ملحَّة تطلب الحل، ولا يجد الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه إلا الاجتهاد في إطار ما نزل عليه من النصوص، وما فهمه من مقاصد الشريعة، ويجتهد ويصيب حكم الله في كثير من الوقائع التي اجتهد فيها، وقليلاً ما كان يغلب على ظنه حكم يكون غيره أولى منه، ومع هذا لا يغلق الله أمامه باب الاجتهاد بإنزال النص، بل يتركه يمارس الاجتهاد، ويُقَلِّب الآراء، بل ويصدر الحكم. فيأتي بعد هذا وحيُ الله إليه منبهاً له إلى الحكم الأفضل، فلا يُقَرُّ على الخطأ، ولكن الله يبين له وجه الحق والصواب في مثل هذه

_ (1) هذه الرواية من حديث أم سلمة رضي الله عنها أخرجها أبو داود (3583) في كتاب الأقضية، باب في قضاء القاضي إذا أخطأ، وأصل الحديث في الصحيحين كما في التعليق السابق. (2) إشارة إلى حديث رواه الإمام مسلم (2942) في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قصة الجسّاسة.

الاجتهادات (1) . ومن أمثلة اجتهاد الرسول في الأحكام الشرعية: اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الهمِّ بإيقاعه العذاب على المتخلفين عن صلاة الجماعة، ورجوعه عن قراره هذا، فقد ورد عن أبي هريرة أنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناساً في بعض الصلوات فقال: لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، فآمر بهم، فيحرِّقوا عليهم بحُزَم الحطَب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها. يعني صلاة العشاء" (2) . ومن ذلك: إقراره لمن صلى العصر قبل الغروب وبعده يوم قريظة (3) . وحاصل الأمر أن ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهادا في الأحكام الشرعية بعد إقرار الله عليه فهو تشريع، ويجب العمل به، أما الحكم الذي صدر منه صلى الله عليه وسلم قبل الإقرار فلا يعد تشريعاً، ولا يجب العمل به.

_ (1) الاجتهاد في الشريعة الإسلامية / للدكتور حسن مرعي / 55. (2) رواه من حديث أبي هريرة: الإمام البخاري (644) في كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، والإمام مسلم (651) في كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها، وهذا لفظ الإمام مسلم. (3) تقدم تخريجه في هذا البحث.

الخاتمة

الخاتمة: من خلال دراسة هذا البحث توصلت إلى النتائج التالية: أولاً: تأكيد حجية السنة النبوية في التشريع الإسلامي والتي دلت عليها آيات القرآن الكريم ونصوص الأحاديث الصحيحة وإجماع الأمة المسلمة والعقول السليمة. ثانياً: إن السنة النبوية هي المصدر الثاني المعصوم بعد كتاب الله، وهذه المرتبة حددتها آيات القرآن الكريم، ونصوص السنة، وإجماع الأمة، وكذلك المنطق المعقول. ثالثاً: إن السنة النبوية ملازمة للقرآن الكريم، ولا يمكن فَصْلُ أحدهما عن الآخر، لأن القرآن كليٌّ هذه الشريعة، والسنة بيان وتفصيل لمجمله، وتوضيح لمبهمه. رابعاً: التنبيه على أنه ليس كل ماصدر من الرسول صلى الله عليه وسلم يعد تشريعاً؛ لأن الصادر منه تشريعاً لابد أن ينضبط بضوابط معينة. خامساً: إن الصادر من الرسول صلى الله عليه وسلم تشريعاً ليس على درجة واحدة في العمل، لأن منه الواجب، والمندوب ومنه ما هو للتأسي فقط. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

مصادر ومراجع

فهرس لأهم مصادر ومراجع البحث 1. إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، د. عبد الكريم النملة دار العامة، ط. الأولى 1417?. 2. الإتقان في علوم القرآن، للإمام السيوطي مطبعة مصطفى الحلبي وأولاده - مصر 1354?. 3. اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم د. نادية العمري - مؤسسة الرسالة. 4. الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم الأندلسي ط. الإمام - القاهرة. 5. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للإمام الشوكاني ط. الحلبي وشركاه 1356?. 6. أصول الأحكام الإسلامية، د. أبو السعود عبد العزيز موسى ط 1413?. 7. أصول الفقه / لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي - القاهرة. 8. أصول الفقه، للبرديسي ط. الثالثة 1969م دار النهضة. 9. إعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام ابن القيم المكتبة التجارية - مصر. 10. أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، لمحمد الأشقر- مؤسسة الرسالة ط. الثانية 1408?. 11. البحر المحيط، للزركشي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الكويت ط. الثانية 1413?.

12. تاريخ التشريع الإسلامي، الشيخ مناع القطان- مؤسسة الرسالة - الطبعة العاشرة 1413 ?. 13. تدريب الراوي، للإمام السيوطي - دار إحياء السنة النبوية، ط. الثانية1399?. 14. تعليم علم الأصول، د. نور الدين مختار الخادمي مكتبة العبيكان، ط. الأولى 1423?. 15. تفسير الطبري، للإمام محمد بن جرير الطبري طبعة بيروت. 16. تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير ط. عيسى البابي الحلبي وشركاه. 17. تيسير التحرير، لمحمد أمين دار الكتب العلمية - بيروت. 18. جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، المكتبة العلمية - المدينة المنورة. 19. الرسالة، للإمام الشافعي المطبعة السلفية - مصر. 20. روضة الناظر، لابن قدامة مطابع الرياض 1397?. 21. السنة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، / د. مهدي رزق الله مركز الملك فيصل للبحوث 1412? ط. الأولى. 22. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي المكتب الإسلامي، ط. الثالثة 1402?. 23. سيرة ابن هشام، مكتبة المنار، ط. الأولى 1409?. 24. شرح الأسنوي على المنهاج، لجمال الدين عبد الرحيم ط. صبيح.

25. شرح الكوكب المنير، للفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار دار الفكر ت دمشق 1400?. 26. شرح اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي دار الغرب الإسلامي - بيروت 1408?. 27. شرح النووي على صحيح مسلم، دار الريان، ط. الأولى 1407?. 28. شرح تنقيح الفصول، للإمام القرافي- مكتبة الكليات الأزهر. 29. علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف مطبعة النصر - القاهرة، ط. السابعة 1376?. 30. علوم الحديث ومصطلحه، د. صبحي الصالح دار العلم للملايين - بيروت ط. الأولى 1378?. 31. كتاب الأم، للإمام الشافعي نشر مكتبة الكليات الأزهرية. 32. كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام، للبزدوي دار الكتاب العربي - بيروت. 33. الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي - دار الكتاب العربي - بيروت 1406?. 34. المدخل لدراسة السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي مكتبة وهبة - القاهرة، ط. الثانية 1411?. 35.معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، للجيزاني دار ابن الجوزي، ط. الثانية 1419?.

36. المعتمد، لأبي الحسين البصري دار الكتب العلمية - بيروت. 37. مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، للإمام السيوطي- دار السلام، ط. الأولى. 38. مقدمة تحفة الأحوذي، للمباركفوري المكتبة السلفية، ط. الثانية. المدينة المنورة. 39. مكانة السنة في التشريع الإسلامي، د. محمد لقمان السلفي - دار الداعي ط. الثانية 1420?. 40.المهذب في علم أصول الفقه، للدكتور عبد الكريم النملة مكتبة الرشد، ط. الأولى 1420?.

§1/1