السنة المفترى عليها

سالم البهنساوي

المستشار سالم علي البهنساوي السُنَّة المُفتَرَى عليها الهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية دار الوفاء - المنصورة. دار البحوث العلمية - الكويت.

الطبعة الثالثة: 1409 هـ - 1989 م دار الوفاء - القاهرة دار البحوث العلمية للنشر والتوزيع - الكويت.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور: الآية 51]

مع الكتاب المفترى عليه:

مع الكتاب المفترى عليه: لقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب سنة 1399 هـ - 1977 م، وذلك للدفاع عن السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وكشف خصومها المُحْدَثينَ وَالقُدَامَى وَمَنْ نَافَقُوهُمْ من العلماء حيث زعم كبيرهم أنَّ السُنَّةَ قد تراخى تدوينها فأصحبت متعارضة ونادى بالاكتفاء بالقرآن الكريم وادَّعى أنَّ عليَاً دخل الجنة بحديث نبوي ودخل النار بحديث آخر، وأنَّ عائشة ناقصة عقل بحديث ويؤخذ عنها الدين بحديث آخر. وكنا نودُّ أنْ تتضافر الجهود لهدم هذه البدعة والتي خصصت بعض الأجهزة الرسمية لنشرها وحراستها وتطويق من نابذها العداء، ولكن حمى الخلافات التي سادت المجتمعات العربية قد تسربت إلى عقول بعض الكُتَّاب الإسلاميين فطالب أحدهم بمصادرة الكتاب: [أ] لأنه خالف الإجماع في عدة مسائل وهي في الحقيقة محل خلاف واختار المؤلف أقرب الآراء في نظره إلى القرآن والسُنَّة النبوية. [ب] أو لأنه لا يكفر بعض المذاهب التي تسب الصحابة، ولم يستجب المؤلف لهذا أو ذاك واحتج بأنَّ منهج السلف هو ألاَّ نُكَفِّرَ الواحد المعيَّن ولا نحكم بتخليده في النار لأنَّ ذلك موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه. (مجموع الفتاوى: 3/ 230 و 7/ 619). ولقد اجتمعت لجنة رسمية وأخرى أهلية لبحث هذه الاتهامات وانتهت إلى سلامة الكتاب مما وُجِّهَ إليه من المطاعن؛ بل أوضح بعض المتخصِّصِين أنَّ الكتاب هو المفترى عليه. وها هي الطبعة الثالثة تصدر بعد أنْ تضمَّنَت المزيد من البحوث لتفنيد مزاعم من ظنوا أنهم من المُتخصِّصين في السُنَّة وهم من ألدِّ أعدائها بعلم أو بغير علم، كما تضمَّنت تفصيل الرد على المفتريات الموجَّهة ضد هذا الكتاب. كما نقل المؤلف الحوار الخاص بالشيعة إلى كتاب باسم الحقائق الغائبة بين الشيعة وأهل السُنَّة وأبقى الحوار الخاص بالأحاديث النبوية وأضاف بحوثاً إلى بعض الفصول وفصلاً كاملاً عن الوحي الإلهي والعقل. الناشر 21 رمضان 1408 هـ - 7 مايو 1988 م.

هذا الكتاب بين الشكل والمضمون:

هذا الكتاب بين الشكل والمضمون: ما أنْ ظهر كتاب " السُنَّة المفترى عليها "، حتى تلقيت أكثر من عتاب من أخوة، تركَّزت اعتراضاتهم في الآتي: أولاً: عنوان الكتاب يفيد الافتراء على السُنَّة النبوية، مع أنَّ هذا لا قدرة للناس عليه، مما يتعيَّن معه تعديل عنوان الكتاب: والجواب على ذلك أنَّ اللفظ قد ورد في القرآن الكريم في ستين موضعاَ، نذكر منها قول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [سورة الأنعام، الآية: 144]، [سورة الأعراف، الآية: 37]، [سورة يونس، الآية: 17]، [سورة الكهف، الآية: 15]. وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [سورة يونس، الآية: 38] وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص: 75]. وهذه المواضع تفيد أنَّ أعداء الله كانوا يفترون على الله ورسوله، وهذا لا يعني أنَّ ما زعموه صحيحاً، أو أنَّ استخدام هذه الكلمة تفيد التسليم لهؤلاء بالقدرة على تغيير شيء من الحق الذي جاء به القرآن والسُنَّة النبوية.

ثانياً: الكتاب فيه دعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية وهذا التقريب غاية يهودية، وأدنى ما يقال عنه إنه تنازل من كل طرف عن بعض معتقداته، وهذا فساد كبير. وقد غاب عن هؤلاء ما يأتي: 1 - إنَّ التقريب بين المسلمين ليس من أعمال اليهود، وأعمالهم قد نهى الله عنها في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]. 2 - إنَّ النزاع والفرقة يؤدِّيان إلى الفشل والهزيمة إذْ قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. 3 - إنَّ التقريب لا يعني تنازل كل فرقة عن بعض معتقداتها لتقترب من الآخرين، بل هو ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. 4 - حتى يتم التقريب بالرد إلى الكتاب والسُنّة، فإنه من الواجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه وأنْ يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. ثالثاً: قيل إنَّ الكتاب جاء بمفهوم جديد للعصمة نفي عنهم الكفر إلا المعتقد أنَّ العصمة تتضمَّن الرواية عن الله مباشرة. وقد تجاهلوا أنَّ أئمة السُنَّة لا يقولون بكفر هؤلاء، وتناسوا أنَّ العصمة التي حدَّدَ الكتاب معالمها، وحصرها في عصمة أئمة آل البيت في الرواية عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قد ذهب فقهاء من أهل السُنَّة إلى أنَّ هذه العصمة لازمة لجميع الرُواة وليس للأئمة

من آل البيت فقط. فقد قال الإمام علي بن حزم: «كل عدل روى خبراً قاله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذلك الراوي معصوم من تَعَمُّدِ الكذب ومن جواز الوهم» وقال: «التبليغ المعصوم فيه كما هو إلى الصحابة، هو إلى غيرهم إلى يوم القيامة لأنَّ حفظ الدين لازم للصحابة كما هو لازم لمن بعدهم» (راجع " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: جـ 1 ص 117). رابعًا: إنَّ الكتاب قطع بعدم وجود قرآن آخر عند الشيعة مع أنَّ مصحف فاطمة ورد ذكره في كتاب " الكافي " للكليني وفي مراجع أخرى لديهم. ولسنا ندري ماذا يضير الإسلام والمسلمين لو نقلنا عن فقهاء أخرين من الشعية - نقلاً صادقاً لا افتعال فيه - أنه لا يوجد لديهم قرآن آخر، وأنَّ ما كتب في ذلك روايات باطلة وهي من الإسرائيليات. خامسًا: قيل إنَّ الكتاب أخذ برأي مرجوح في شأن سُنَّة الآحاد فأخذ بها في العقائد والمعجزات خلافاً لرأي الجمهور، وقد غاب عن هؤلاء أنَّ المنهج هو ما كان عليه صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانو يعملون بأحاديث الآحاد في جميع الأمور طالما رواها العدل الضابط حسبما هو مُفصَّلٌ في الكتاب، كما أنَّ الفقهاء الذين قسَّموا السُنَّة إلى قطعية وظنية مجمعون على وجوب العمل بالسُنَّة كلها، لأنَّ هذا التقسيم قد جاء لبيان حكم من رَدَّ السُنَّة كما هو مُفَصَّلٌ في مواضعه، ولو علم أصحاب هذا المصطلح أنه سيكون مستنداً لاستبعاد حكم الله في الشؤون الدستورية وفي الحدود وفي الأمور الاقتصادبة - كما هو حاصل في عصرنا - لأبطلوا هذا التقسيم وأغلقوا باب هذه الفتنة التي يُصِرُّ عليها بعض المُقلِّدين. سادسًا: قيل إنَّ الكتاب تعرَّض لموقف بعض العلماء ومنهم أصحاب المدرسة الإصلاحية، ومن يقولون إنَّ الإسراء كان بالروح فقط،

ومن يرُدُّون سُنَّةَ الآحاد في العقائد والمعجزات، وبهذا يكون قد وضعهم في عداد المفترين على السُنَّة النبوية. وهذا الاستدلال غير صحيح، فلا تلازم بين المقدمة والنتيجة، ومع هذا فقد يفتري بعض العلماء على السُنَّة، وهم يحسبون أنهم يدافعون عنها كما فعل من ذكرنا في الفصل السابع والتاسع، وقد يظلم الإنسان نفسه ببعض الأعمال ولا يدرك ذلك. قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]. إنَّ هذه الاعتراضات وإنْ كانت لها أسباب أخرى عند بعض النقاد قد تجنح في كثير منها نحو الحزبية، إلاَّ أنها كانت سبباً في إعادة البحث في هذه الأمور وغيرها، وفي إضافة صفحات وبنود عن سُنَّة الآحاد، وعن الفتنة الكبرى، وعن مسألة تحريف القرآن، ومصحف فاطمة، وعن العصمة والبداء. ونرجو أنْ يدرك أصحاب الرأي المخالف أنَّ الحد الأدنى من شعب الإيمان بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، هو إصلاح النفوس حتى لا تحمل بغضاً ولا يبقى في قلوبنا غلٌّ للذين آمنوا بالله ورسوله. كما أنَّ نفي الكفر عن مذهب أو طائفة لا يعني صحة جميع ما لديهم ولا يتضمَّن الحكم بالإسلام لمن أظهر كفراً بواحاً لنا فيه برهان من الله تعالى. سالم علي البهنساوي 15/ 5 / 1401 هـ - 21/ 3 / 1981 م.

بين يدي هذا الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم بين يدي هذا الكتاب: لقد أرسل الله رسوله محمداً - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهُدى ودين الحق ليظهره على المناهج والنظم المحلية والعالمية. وفي هذا قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]. وهذه الرسالة العالمية الخاتمة للرسالات النبوية والمُتَمِّمَة والمُهيمنة عليها، قد جاءت بفضائل الأعمال، ولهذا قد رضي بحكمها الشرفاء من الناس الذين لم يؤمنوا بها. وظل يعارضها من اصطدمت هذه الرسالة بمصالحهم ونزواتهم وسلطانهم الجائر على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان. ولقد كانت معارضة هؤلاء لهذه الرسالة، هي الطعن في صحتها وفي صدق الرسول والرسالة، وسلكوا لذلك وسائل مختلفة ولكن ما لبثت أنْ انهارت أمام الحقائق التي أحاط بها الباحثون عن الحق والعدل. ولقد كانت توجيهات الله أن يعرض المسلم عن هؤلاء المعاندين والجاهلين لأنَّ تعصُّبهم وجهالتهم ستزين لهم التكذيب دائماً، قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15].

كما كانت توجيها الله أنْ تمنع المسلم عن جدال أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلاَّ بالتي هي أحسن ليتفرَّغ المسلمون إلى ما هو أجدى وأنفع، قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15]. ولقد افترى كثير من المشركين وأهل الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الرسالة التي جاء بها والممثلة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية. فقد وصف دِرْمِنْجْهَمْ القرآن بأنه (قصص يسمى قصص محمد وقد ورد فيه أنَّ الإسلام يجيز اشتراك جملة رجال في زوجة واحدة) كما زعم كل من نيقولا دوكور وهو تنجر ومراشي وبيبلندر وبريدو أنَّ محمداً رجل كاذب وأنَّ الإسلام من أعمال الشياطين وأنَّ المسلمين قوم هُمَّج والقرآن كتاب متناقض. أما البابا اينوشاتيوس الثالث فقد زعم أنَّ محمداً هو المسيح الدجال، هذه المزاعم وغيرها وردت في كتاب انتشر في الغرب واسمه " حاضر الإسلام "، ومؤلفه هولوثروب ستوارد (جـ 1، ص 16، 83، 85) وتوجد مزاعم أخرى في كتب ومؤلفات مماثلة قديماً وحديثاً ولم تمنع هذه من دخول الغربيين في الإسلام، بأعداد كبيرة، بل تكوَّنت منظمات إسلامية في أمريكا وكندا وأوروبا وألمانيا وقد أخذت على عاتقها نشر الإسلام بين هذه الشعوب. أمام هذا الفشل؛ نقلت المعركة داخل صفوف المسلمين بعد أنْ تحوَّل المبشِّرُون والمستشرقون من العداء الصريح والتكذيب المفضوح إلى التسليم بالإسلام في جانب ثم الطعن فيه من جانب أخر.

أ - فوجدنا بين المسلمين من يزعم أنَّ السُنَّة النبوية لم تُدَوَّن إلاَّ بعد مدة طويلة تثير الشك في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يجعلها غير ملزمة في زعمهم. وهذا أساسه ما زعمه المستشرق اليهودي جولدتسيهر من أنَّ ألوف الأحاديث النبوية من صنع علماء الإسلام في الطبقات التالية لعصر الصحابة. ب - ووجدنا بين المسلمين من يزعم أنَّ علماء الحديث لم يبحثوا في صحة متن الحديث مما أدخل على السُنَّة ما ليس منها. جـ - ومن المسلمين من ردَّ أحاديث الآحاد في أمور العقيدة وفي المعجزات وفي الأمور الدستورية وفي الحدود. د - ومن المسلمين من ادَّعى أنَّ السُنَّة لا تستقل بتشريع الأحكام ومن ثم فلا يعمل بها إنْ أتت بحكم ليس في القرآن الكريم. وكما وجد خلاف حول قدرة السُنَّة النبوية على تخصيص عموم القرآن ونسخ بعض أحكامه، وحول شبهة التعارض بين النصوص الشرعية. إنه ليس غريباً أنْ يفتري أعداء الإسلام على السُنَّة النبوية، فهذه رسالتهم في الدنيا ولا ضرر على الإسلام من هؤلاء لأنَّ كفرهم ظاهر. إنما يتجسَّدُ الضرر والخطر في أولئك الذين ينتسبون إلى الإسلام ثم يُحرِّفُون نصوصه في القرآن أو السُنَّة النبوية، أو يسعون إلى الشهرة أو السلطة على حساب هذا الدين، إما لجهل أو لعمالة ظاهرة أو مستترة. ولئن كان خطر هؤلاء هو كونهم يهدمون الإسلام من داخله وباسم الإسلام. فإنَّ نبي الإسلام قد أخبر عنهم وأرشد إلى مجاهدتهم، فروى عنه

الإمام مسلم قوله: «ما بعث الله من نبي إلاَّ كان له من أمَّته حواريون وأصحاب يأخذون بسُنَّته ويتقيَّدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ما لا يؤمرون به، فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». من أجل ذلك فقد فصل هذا الكتاب الشبهات التي قذف بها المستشرقون وسائر أعداء الإسلام، افتراء على الله فيما يتعلق بالسُنة النبوية التي تحولت المعركة إليها بالإنكار أو التطوير، لأنَّ هدمها هدم للدين وإضعافها إضعاف له، كما أنَّ نصر السنة وإظهارها نصر للإسلام وإظهار له على غيره. وإذا كان الهدف من ذلك هو كشف وسائل هؤلاء هؤلاء الأعداء سواء كانوا كفار الصرحاء أو كانوا من المنافقين الذين يرتدون ثياب هذا الدين، فإنَّ الكتاب أيضاً قد فصل الأمور التي اختلف فيها المسلمون الأوائل حيث استغل العلمانيون وأعداء الإسلام هذا الخلاف لخدمة العلمانية، كما هو حاصل في استبعاد سنة الآحاد في الشؤون الدستورية وفي الحدود استناداً إلى ما وقع من خلاف حول قطعية ثبوتها. كما كشف الكتاب أخطاء العلماء الذين حاولوا الدفاع عن الإسلام بالتسليم بأمور ليست منه، ثم محاولة تبريرها والدفاع عنها بدفاع ليس من الإسلام في شيء. ونأمل أنْ تكون فصول الكتاب العشرة، قد تحقَّقت هذه الأغراض، وبالله وحده نعتصم ونتأيد. سالم علي البهنساوي

الفصل الأول: بين الرسول وحقيقة السنة.

الفَصْلُ الأَوَّلُ: بَيْنَ الرَّسُولِ وَحَقِيقَةِ السُنَّةِ: - حقيقة السنة النبوية ومكانتها. - أنواع السُنَّ ووظيفة الرسول. - الجماعات الإسلامية والمنهج النبوي. - السُنَّة بين النصارى والأعراب. - استقلال السُنَّة بالحكم الشرعي.

1 - حقيقة السنة النبوية ومكانتها:

1 - حَقِيقَةُ السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَمَكَانَتُهَا: السنة في اللغة العربية هي الطريقة والأسوة الحسنة أو السيئة. وفي هذا المعنى روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُِ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ». والسنة في القرآن الكريم هي التطبيق العملي للقرآن الكريم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وبهذا المعنى اقترنت السنة بالكتاب، فكان التمسك بها كالتمسك بالقرآن وهجرها هجر له، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وبهذا فالبدعة هي أن يدخل المسلم على الدين ما ليس منه، وفي هذا روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وفي رواية البخاري: «مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».

كما روى الإمام مسلم أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ». والسنة النبوية عند علماء الأصول هي كل ما ثبت عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قول أو فعل أو تقرير. والسنة بهذا تكون مع القرآن الكريم المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي. وفي هذا قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59]. لما كان ذلك كذلك فإنه ليس بمسلم من ردِّ السنة النبوية حتى لو زعم أنه يؤمن بالقرآن الكريم ويعمل به، لأنَّ ردَّ السنة تكذيب لدعواه الإيمان بصدق القرآن، لأنَّ الله يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، والمؤمن لا يمكن أنْ يتلمس من القرآن ما يظن أنه يناقض بعضه أو يناقض سنة النبي لأنَّ الله تعالى يقول: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]. وقد روى أحمد وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا يَتَدَارَؤُونَ (¬1) فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَلاَ تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا بِهِ وَمَا جَهِلْتُمْ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ». إنَّ الذين يَرُدُّونَ السنة النبوية في عصرنا قد يقولون إنهم لاَ يَرُدُّونَ السنة التي لم تَرِدْ في القرآن الكريم، وهؤلاء قد أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في حديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ونصه: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ ¬

_ (¬1) يتدافعون في الخصومة في فهم القرآن.

حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» (¬1)، وأما الاحتجاج بحديث: «فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني وما أتاكم يخالف القرآن فليس مني» فهو من وضع الزنادقة كما قال الشافعي والمديني شيخ البخاري (" لمحات في أصول الحديث " للدكتور محمد صالح: ص 37). فالقرآن والسنة كلاهما من عند الله تعالى والرسول ليس إلاَّ مبلِّغاً وقد عصمه الله من الخطأ في التبليغ إذْ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. إنَّ الإجماع منعقد على أنَّ من رَدَّ السنة النبوية فقد ارتدَّ عن الإسلام، وفي هذا قال الفقيه ابن حزم الأندلسي: «لَوْ أَنَّ امْرِءًا قَالَ: لاَ نَأْخُذُ إِلاَّ بِمَا وَجَدْنَا فِي القُرْآنِ لَكَانَ كَافَرًا بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ» (¬2). إنَّ الله الذي عصم النبي في أداء الرسالة قد تعهَّد بحفظها فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، ولهذا كان الوحي يستدرك على الرسول إنْ اجتهد قبل أنْ ينزل الوحي. وفي هذا روى الترمذي وابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي في " الدلائل " عن ابن مسعود قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِيئَ بِالأَسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. ولم يرد عليهم شيئاً فَقَالَ أُنَاسٌ يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِى بَكْرٍ، وَقَالَ أُنَاسٌ: يَأْخُذُ بِرِاْيِ عُمَرَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رِجَالٍ ¬

_ (¬1) الحديث رواه أبو داود كما أخرجه بسياق آخر الترمذي في " باب العلم " وابن ماجه في " المقدمة " حديث رقم 12، المرجع " سنن أبي داود لشرح الخطابي ":ج 5 ص 10، وانظر " التاج الجامع للأصول ": ج 1 ص 46 والبند 3 ص 24. (¬2) " الأحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: جـ 1 ص 109.

فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ وَإِنَّ اللَّهَ يُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ (مَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرَ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ (رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا). ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمْ عَالَةٌ (أي فقراء) فَلاَ يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنَ الأًسْرِى إِلاَّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1). وبهذا عصم الله الرسالة من الخطأ في الاجتهاد وأنزل القرآن بهذه الحقيقة. كما اجتهد صلى الله عليه وسلم في إعراضه عن ابن أم مكتوم، وهو الأعمى الذي جاءه وهو مشغول بعرض الإسلام على زعماء قريش وفيهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة حسبما رواه الترمذي والحاكم وابن حبان عن عائشة وقد كان النبي يرجو إيمانهم فنزل قول الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (¬2) ¬

_ (¬1) الآيات السابقة بهذا الترتيب في سورة إبراهيم آية 36، المائدة 118، ويونس 88، ونوح 26، والأنفال 67، 68. (¬2) [عبس: 1 - 10].

2 - نزول الوحي بالسنة:

إنَّ الله الذي حفظ القرآن والسنة هو المدافع عمَّن تمسك بهما إذْ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]. ولقد تكفَّل الله بنصره الذين ينصرون الإسلام الممثل في القرآن والسنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. لقد هزم الله المسلمين الذي هزموا الإسلام في أنفسهم وأهليهم وبلادهم وهزم الذين أضعفوا السنة النبوية وإنْ صلُّوا وصاموا وتبتلوا!! 2 - نُزُولُ الوَحْيِ بِالسُنَّةِ: وكما نزل الوحي بالقرآن فقد نزل بالسنة وأخذ صوراً متعددة نذكر منها: [1] النفث في الروع أي إلقاء المعنى في قلب النبي الذي قال: «إنّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنّهُ لنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَوْفِي رِزْقَها وَأَجَلَهَا فاتّقُوا الله وأجْمِلُوا في الطَّلبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حُرِّمَ» (رواه ابن حبان في " صحيحه " وابن كثير في " التفسير " جـ 4 ص 121). [2] نزول جبريل في صورة بشر يسأل النبي ليُعَلِّمَ الناس ويتعلَّمُوا وفي هذا روى مسلم والبخاري في " كتاب الإيمان " أنَّ النبي أتاه رجل سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان فأجابه ثم خرج فقال: «رُدُّوهُ» فلم يروا شيئاً فقال النبي: «هذا جبريل جاء يعلِّم الناس دينهم». [3] نزول جبريل في صورته الملائكية وفي هذا روى البخاري ومسلم أنَّ النبي قال: «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ، جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ».

[4] نزول الوحي في صورة غير مرئية ولكن توجد أمارات تدل عليه من ذلك ما رواه البخاري ومسلم في " كتاب الحج " أنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: " كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مُتَمَضِّخٌ بِطِيبٍ " فَسَكَتَ النَّبِيُّ سَاعَةً فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: «أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الْعُمْرَةِ» فأتي بالرجل فقال النبي: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك. (اللؤلؤ والمرجان: جـ 1 ص 15 حديث 733). [5] نزول الوحي بالسنة أو بالقرآن متضمِّناً تصحيحاً لاجتهاد أقدم النبي عليه بفطرته البشرية ولم يكن مبلِّغاً عن الله، ففي السنة روى أحمد عن عائشة أنَّ يهودية قالت لها: وَقَاكِ اللَّهُ عَذَابَ الْقَبْرِ فسألت النبي، فقال: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لاَ عَذَابَ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وهذه الرواية وردت في " صحيح مسلم " عن عائشة قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ الْيَهُودِ وَهِيَ تَقُولُ هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَالَتْ: فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدُ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ. كما روى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر أنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بعد صلاة خسوف الشمس: «مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ». أما نزول الوحي بالقرآن في هذا فتذكر منه إذنه لمن تخلف عن غزوة تبوك فنزل قول الله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]. وفي قبوله الفداء من أسرى بدر نزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]. وفي إعراضه عن ابن أم مكتوم لانشغاله بزعماء المشركين أملاً في إسلامهم نزل قول

الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، ... } [عبس: 1 - 4]. لما كان ذلك فإنَّ كل ما صحت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول وفعل وتقرير فمصدره الوحي الإلهي على النحو سالف الذكر. ولقد حاول أئمة النفاق في عصرنا أنْ يرُدُّوا السنة النبوية بدعوى التمسك بالقرآن الكريم فقال محمد خلف الله: «إنَّ ما عدا القرآن فكر بشري نتعامل معه بعقولنا» وقال: «إنَّ ما ورد في القرآن غير قطعي الدلالة، لا يعمل به إلاَّ إذا جاءت السنة بنص آخر قطعي الدلالة» (¬1). ¬

_ (¬1) " الغزو الفكري " ص 275 و" منهجية جمع السنة " للدكتورة عزية طه " ص: 46، 47، 72، 73، 322، 323. و" الحكم ". الطبعة الثالثة، ص 170.

3 - أنواع السنة ووظيفة الرسول:

3 - أَنْوَاعُ السُنَّةِ وَوَظِيفَةِ الرَّسُولِ: لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم على خاتم النبيين ليكون معجزة للناس جميعاً إلى يوم القيامة، فهو معجز في كلماته ومعجز في الحقائق والمعاني التي تضمنها في هذه الكلمات. ومن قبيل الإعجاز في المعنى أن الله تعالى قد قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]. وفي السنوات الأخيرة من هذا القرن فقط أثبت العلماء أنَّ قوة الجاذبية بين أجزاء الكون تقل بالتدريج بسبب تباعدها واتساعها. وأيضاً قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. وفي السنوات الأخيرة فقط اكتشف العلماء أنَّ مادة الكون كانت جامدة ثم حدث فيها انفجار شديد ولقد تطرَّق العالم الفرنسي موريس بوكاي إلى الحقائق العلمية الواردة في القرآن الكريم كخلق الجنين وتطوره وما يتعلق بالسماوات والأرض وما يتعلق بالنبات والإنسان وانتهى في كتابه " الكتب المقدسة في ضوء العلم الحديث "، إلى أنَّ كل ما جاء به القرآن يتَّفق تماماً مع ما توصَّل إليه العلم الحديث.

ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أنْ يكون الرسول مبلِّغاً لهذا القرآن ومنفِّذاً لأحكامه، ومن ثم جعل الله للنبي صفة أخرى غير التبليغ وهي التبيان {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. كما قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وصفة البيان كما تكون بإبلاغ القرآن للناس كافة، تكون بتفصيل أحكامه العامة وتنفيذها، ولهذا وردت الآية بطاعة الله أي أحكامه الواردة في القرآن الكريم، وبطاعة الرسول أي أحكامه التي بيَّنَها وهي السُنَّة النبوية. ولهذا أوجب الله طاعة الرسول والتزام سُنَّته فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. من أجل ذلك أوضح النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ السُنَّة من الله تعالى وهي مثل القرآن إذ يقول في الحديث الصحيح: «إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» (¬1) 1 - السُنَّةُ القَوْلِيَّةُ: وبيان الرسول وإبلاغه للسُنَّة قد يكون بالقول مثل حديث: «لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلاَ يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ» رواه البخاري ومسلم وغيرهما وحديث: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَجَسَّسُوا ¬

_ (¬1) " سنن أبي داود ": 4/ 279، و" ابن ماجه ": 1/ 6، و" الترمذي ": 3/ 374، و" المستدرك ": 1/ 109، و" الدارمي ": 1/ 140، و" ابن حبان " (" موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان " لليهثمي، تحقيق محمد عبد الرزاق حمزة: حديث رقم 97 ص 55).

وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوانًا كَمَا أًَمَرَكُمْ اللهُ تَعَالَى، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» رواه الإمام مسلم. 2 - السُنَّةُ العَمَلِيَّةُ: وقد يكون البيان النبوي بالعمل كما هو الحال في الوضوء والصلاة والحج، فقد توضَّأ الصحابة مثل وضوئه، وصلُّوا مثل صلاته وفعلوا مثله في مناسك الحج وسائر الأمور العظيمة، ثم روى هؤلاء الصحابة ذلك إلى غيرهم دون بيان الركن من الشرط أو الفرض من المندوب، لأنه لا احتمال عندهم أنْ يترك أحد شيئاً من الدين حتى يبحثوا عن الفرض والمندور في أفعال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقد قال فيما رواه البخاري: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّى». وقال كما جاء في " صحيح مسلم ": «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ». 3 - السُنَّةُ التَّقْرِيرِيَّةُ: وتكون السُنَّة النبوية بتقرير حال أو السكوت عن أمر بما يدل على إقراره، ومثال ذلك أنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر صحابته بالتوجه إلى بني قريظة لقتالهم بسبب خيانتهم في غزوة الأحزاب، وكان أمره هذا بقوله الوارد في البخاري ومسلم بلفظ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، ولكن الإسراع وليس إرجاء الصلاة عن ميقاتها، وفهم آخرون الأمر على ظاهره فالتزموا به فلا صلاة إلاَّ في بني قريظة ولو فات وقت العصر،

ولما بلغ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتهاد الطائفتين، لم ينكر على أي منهما فدلَّ سكوته على إقرار الاجتهاد في تنفيذ الأمر. ومن قبيل السنة التقريرية أيضاً ما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والدارقطني والحاكم عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة شديدة البرودة فأشفقت إنْ اغتسلت أنْ أهلك فتيمَّمْتُ ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله ذكروا ذلك له فقال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟». فقلتُ: يا رسول الله ذكرت قول الله عز وجل {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فتيمَّمت وصليت فضحك رسول الله ولم يقل شيئًا. بهذا السكوت أقرَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التيمم عند الخوف من حصول ضرر من الماء إما لمرض بالجلد، أو لبرد يضر الإنسان إذ استحمَّ بهذا الماء. وأيضاً يستفاد من اختلاف الصحابة في فهم قول النبي: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» ومن اختلافهم في فهم قول الله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (*) [النساء: 43] و [المائدة: 6] أنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرّ كل طائفة على اجتهادها في تنفيذ أوامر الشريعة. والاجتهاد لا يكون في أصول الدين ومصادره (¬1) ولا يكون جَرْياً وراء الأهواء والمصالح ومن لا يجوز تأويل الفروع ووصفها بالأصول ليكون ذلك مبرِّراً للخلاف. ¬

_ (¬1) " الإحكام في أصول الأحكام " للإمام علي بن حزم: جـ 2 ص 237 وما بعدها. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ملاحظة: كتبت الآية خطأ في الكتاب المطبوع (فإن لم تجدوا ماء فتيمَّمُوا).

4 - الجماعات الإسلامية والمنهج النبوي:

4 - الجَمَاعَاتُ الإِسْلاَمِيَّةُ وَالمَنْهَجِ النَّبَوِيِّ: إنَّ سكوت النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له حكمة بالغة وهو إقرار الاجتهاد في فهم النص الشرعي إذا كان النص يقبل التأويل وغير قطعي الدلالة، لأنَّ افتراض عدم العمل بالنص الشرعي إلاَّ إذا اجتمعت الأُمَّة على معناه فيه تعطيل لهذا الدين القيم إذا ما اختلف أحد في فهم بعض النصوص أو أكثرها، وهذا الخلاف محتمل وأمر طبيعي لاختلاف عقول الناس وإدراكهم، لهذا روى البخاري ومسلم أنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». إنَّ هذا المنهج قد غفلت عنه بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة وبالتالي بذلت جهداً كبيراً في الطعن على الجماعات الإسلامية الأخرى التي تخالفها في فهم بعض النصوص الشرعية، بل من الجماعات من يعلن أنَّ ما هم عليه من التمسُّك بالسُنَّة العملية يعجعلهم الجماعة الوحيدة الناجية وغيرهم يصبح من الفرق الضالة الداخلة في النار، بل منا من جعل بعض فروع الإسلام أصولاً عقائدية يكون العمل في دائرتها جهاداً في سبيل العقيدة يقدم على القتال والجهاد بالمدفع. ومن أفراد الجماعات الإسلامية من تبنَّى فهماً للنصوص التي تقبل الخلاف. وفرض هذا الفهم على أفراد جماعتهم، وقيل لهم: يأثم من خالفه لأنه في نظرهم الفهم القاطع، وبذلك يصبح الفرد مخيَّراً بين الأخذ

التطرف وتلبيس إبليس:

بهذا الفهم أو ترك هذه الجماعة، وهذا كله يخالف منهج النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي أقرَّ الاختلاف في فهم النصوص كما أنَّ هذه الأساليب ينطبق عليها قول الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. التَّطَرُّفُ وَتَلْبِيسُ إِبْلِيسَ: ومن السُبُلِ التي يدخل بها الشيطان على أفراد بل جماعات إسلامية تزيينه الفرقة والخلاف لهم وإيهامهم أنهم هم الناجون من عذاب الآخرة، وباقي الأفراد والجماعات الإسلامية في النار لأنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةٍ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم على شرط مسلم. وهؤلاء يجعلون تمسًّكهم بِالسُنَّةِ العَمَلِيَّةِ كالمحافظة على الصلاة في الجماعة، والمحافظة على السواك واللحية، هو مقومات كونهم أهل النجاة، لأنهم على مثل ما كان عليه النبي وصحابته، أما غيرهم فالنار مثواهم. ولقد تناسى هؤلاء أنَّ ترك هذه السُنَّة لا يترتب عليه دخول النار لنصوص شرعية لا تُحصَى، منها ما رواه البخاري ومسلم أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَمَلٍ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ»، فَقَالَ الأَعْرابِيُّ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا». ولقد نسي هؤلاء أنَّ المقصود بالملل أو الفرق التي تفترق عن الإسلام، هي التي ترتدُّ إلى الكفر مثل البهائية والقاديانية والنُصَيْرِيَّة والإسماعلية.

أما الفئات التي أخطأت بما لا يخرجها عن الإيمان مثل الخوراج والمعتزلة فلا يقال إنها ضمن أهل النار ومن ادَّعَى كفرها فقد تكلَّف بغير دليل من الشرع أو العقل (¬1)، وإنما يقال إنَّ أمرهم لا يخرج عن حكم العُصاة من المسلمين فهو متروك إلى الله إنْ شاء غفر وإنْ شاء عَذَّبَ. لقوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 و 116] (1). ومع هذا قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: «من قال إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منها يكفر كفراً ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسُنَّة وإجماع الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -» (¬2). وهذا الرأي محل نظر فقد قال الإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي في كتابه " الاعتصام ": «إنَّ هذه الفرق تحتمل من جهة النظر أنْ يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق وليس ذلك إلا الكفر ... ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسُنَّة كقول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. ومن السُنَّة ذكر رواية للحديث نصها: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الذِينَ يَقِيسُونَ الأُمُورَ بِرَأْيهِمْ، فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ يُحَرِّمُونَ الحَلالَ» (¬3). إنَّ هذا الحديث يؤكِّدُ ما تضمنته الطبعة الأولى والثانية من أنَّ الفرقة الناجية هو أهل القبلة فتشمل جميع طوائف المسلمين ويؤيِّدُ ذلك رواية ابن ماجه برقم 3992 وفيها: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ». وقد رجحت ذلك لأنَّ بعض الأفراد والجماعات يشيعون أنهم الفرقة الموصوفة في الحديث وغيرهم في النار، وهذا كما قال الإمام محمد بن عبد الوهاب، من صفات الجاهلية وهو ادِّعاء كل طائفة حصر الحق فيها (¬4). وقد أبطل ابن تيمية هذا الرأي حيث ينبني عليه تكفير أهل البدع الذين هم من أهل الوعيد بمنزلة الفُساق والعُصاة (¬5) ويكون قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هُمْ فِي النَّارِ» أي مثل ما جاء في سائر الذنوب ولكن هذا لم يعجب أحد الدُعاة فاتَّهمنا بالجهل ومخالفة الإجماع وطلب الحجر علينا. ¬

_ (¬1) ورد هذا المعنى في " تلبيس إبليس " لابن الجوزي: ص 18. (¬2) " مجموع الفتاوى ": ج 7 ص 218. (¬3) " الاعتصام ": ج 4 ص 190. (¬4) كتابه " مسائل الجاهلية ": ص 33. (¬5) " مجموع الفتاوى ": ج 3 ص 346 وص 351.

5 - السنة بين النصارى والأعراب:

5 - السُنَّةُ بَيْنَ النَّصَارَى وَالأَعْرَابِ: إنَّ روح الإسلام ومنهاجه العملي يتمثَّلُ في التطبيق العملي للقرآن والسُنَّة: وهو التطبيق الذي لا ينكره إلاَّ الجاهل أو الحاقد. لهذا فإنَّ من النصارى مَنْ طرح العصبية وشهد بما لا يجعله جاهلاً أو حاقداً، فشهد بمكانة السُنَّة وبموضعها الصحيح من القرآن والحياة. يقول جيمس ميتشيز: «لقد اتهم الإسلام في ذلك العصر بأنه خلو من التفكير الاقتصادي، بل اتهم بالرجعية الرأسمالية. وسِرُّ اتهامهم له الجهل بالإسلام ونظمه وروحه ورسالته وتعاليمه السمحة. لقد جاء الإسلام في كافة نظمه وتشريعاته دعوة تحريرية على الجمود والضعف والرجعية المادية والعقلية فهو توازن وتعادل. لقد جاء في نظامه الاقتصادي بقوانين تُحقِّقُ التعاون بين الطبقات في ظل المحبة كما تكفل التطور الهادف ... ». ويقول ماسينيون: «يحتل الإسلام مكاناً وسطاً بين نظريات الرأسمالية والبرجوازية ونظريات البلشفية والشيوعية، فالحياة الاقتصادية في الإسلام حياة تراحم وتعاون وتكافل ورحمة، حياة إنسانية لها مُثُلُها العليا، وتستمدها من رسالتها وعقيدتها بينما هي في النظرة الرأسمالية والشيوعية على السواء حياة صراع وتقاتل وسيطرة واستعباد، صراع تحترق فيه وتفنى كافة القيم العليا لتبقى قيمة واحدة هي قيمة الرأسمال الفردي والجماعي وبذلم نجد

الرأسمالية تنظر إلى الإنسان كسلعة وتنظر الشيوعية إليه كآلة مُسَخَّرة، وينظر الإسلام إلى المادة كشيء مُسَخَّرٌ لخدمة الإنسان». ويقول جوستاف لوبون: «إِنَّ العَرَبَ المُسْلِمِينِ هُمْ سَبَبُ اِنْتِشارِ المَدَنِيَّةِ فِي بِلاَدِ أُورُوبَا». ويقول الشاعر الألماني جيتة: «إذَا كَانَ هَذَا هُوَ الإِسْلاَمُ فَنَحْنُ جَمِيعًا نَدِينُ بِالإِسْلاَمِ» (¬1). إنَّ الإسلام مع واقع المسلمين جعل جيتة وغيره يشك في إسلام العرب المسلمين الذي لا يعملون بالإسلام. والجانب الاقتصادي في الإسلام الذي امتدحه ماسنيون وجيمس متشرز وغيرهما يرجع غالبه إلى السُنَّة النبوية، فهي التي بيَّنتْ أحكام الزكاة وشؤون المال. فلو أخذنا بالقرآن فقط لأمكن لقوم أنْ يُطوِّرُوا الإسلام ليصبح رأسمالياً أو اشتراكياً أو شيوعياً، ولكن السُنَّة هي التي حدَّدتْ معالمه، فكان مُتميِّزاً عن هذه النظريات جميعاً. وفي مقارنة بين المصادر الإسلامية وبين الكتب السابقة ومنها الأناجيل والتي تُسَمَّى كتب " العهد الجديد " يقول الدكتور موريس بوكاي: «إنَّ الأناجيل دُوِّنَتْ في القرن الرابع وتوجد بردية ترجع إلى القرن الثاني، ولكنها لا تنقل إلاَّ أجزاء منفصلة»، كما يقول: «إنَّ أقدم مخطوطتين يونانيتين ترجعان إلى القرن الرابع» (¬2) ويقول أيضاً: «توجد نصوص أخرى قد استبعدتها الكنيسة وأخفتها من أنظار المؤمنين، وبرغم ¬

_ (¬1) أقوال هؤلاء المستشرقين منقولة عن كتاب " الإسلام والرسول في نظر منصفي الغرب " للأستاذ أحمد بن حجر قاضي المحكمة الشرعية بقطر: ص 126 وما بعدها. (¬2) كتابه " دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة " ص 99.

ذلك هناك مؤلفات مثل أناجيل الناصريين والعبرانيين والمصريين و" إنجيل توما " و " إنجيل برنابا ". كما يقول وربما كان مما حذف مائة إنجيل وقد احتفظت الكنيسة فقط بأربعة أناجيل (¬1)، ولينتهي إلى أنَّ القرآن وحده هو الكتاب الثابت عن الله تعالى وأنَّ ما جاء به يطابق ما توصَّل إليه العلم الحديث. إنَّ ما أدركه هؤلاء الغربيون المسيحيون لم يدركه بعض المسلمين، فزعم أحدهم أنَّ القرآن متناقض وادَّعَى آخر أنَّ الإسلام يصلح كشعائر للعبادات، أما في الجانب الاقتصادي فالماركسية هي الواجبة الاتباع. وقال ثالثٌ: إنَّ المرأة يجب أنْ تتساوى مع الرجل في الميراث، وبهذا يصدِّقُون «كرومر» في زعمه أنَّ الإسلام لا يصلح للحضارة، وأن السبيل الصحيح هو الفكر الغربي الذي تحمله الألسنة العربية (¬2). ولقد أصيب أكثر القائلين بتناقض القرآن أو السُنَّة، بأمراض نفسية وعصبية، ثم ماتوا، ولم تنفعهم هذه الدعاوى. فهل يدرك هذا الذين ينظرون إلى الإسلام من خلال المناظير الأجنبية شرقاً أو غرباً. وهل آن لهم أنْ ينظروا إلى ما قدَّمُوهُ إلى الله ورسوله لأنه وحده الذي يبقى في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة. إنَّ السُنَّة التي تركها بعضهم قد دُوِّنتْ وحُفظت من أفواه الصحابة الذين حفظوها من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما دوَّنَهَا العلماء الذين أخذوا ¬

_ (¬1) نفس المصدر السابق، " الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ": ص 99. (¬2) الأول هو «بورقيبة» والثاني «أبو مدين» والثالث «زياد بري» أما إنكار السنة فيرجع إلى " الكتاب الأخضر " وفصلته " مجلة الزحف الأخضر " بقلم العقيد «حسن فتاح اشكال» الحاكم العسكري لسرت بليبيا، (العدد الثامن الصادر في: 3/ 3 / 1980).

عن الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بالكتابة أو الحفظ المباشر بغير انقطاع أو فارق زمني. ومع هذا خضعت لنقد وتمحيص لم تشهده أية رواية في العالم حتى اليوم. ولقد شهد بهذا غير المسلمين أمثال «باسورث سميث» عضو كلية التثليث في أكسفورد وكارليل و «برناردشو» والدكتور «سبرنكر كان» فقد أعلنوا إعجابهم بطريقة جمع الأحاديث النبوية والعلم الخاص بذلك عند المسلمين، وهو علم الجرح والتعديل (¬1)، فالتحقيقات التي قام بها الذين جمعوا الأحاديث، والشروط التي وضعوها لقبول الرواية عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحوَّل دون تسرُّب الشك إلى السُنَّة. وفي هذا يقول الكاتب العالمي الدكتور موريس بوكاي: «قد نشرت أول مجموعة للأحاديث في العشرات من السنين التي تلت مباشرة وفاة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد كانت كمية الأحاديث التي جمعت في القرن الأول بعد وفاته محدودة ... » (¬2). ويقول (¬3): «لقد كانت معلومات هذا المصدر الثاني تعتمد على النقل الشفهي، لذلك كان الذين بادروا إلى جمع هذه الأقوال والأفعال في نصوص قد قاموا بتحقيقات تتسم دائماً بالصعوبة، ولهذا كان هَمُّهُم الأول في عملهم العسير ي مُدَوَّناتهم منصباً أولاً على دِقَّة الضبط لهذه المعلومات الخاصة بكل حادثة في حياة النبي، وبكل قول من أقواله والتدليل على ذلك الاهتمام بالدِقَّة والضبط لمجموعات الأحاديث المعتمدة فإنهم قد نصُّوا على أسماء الذين نقلوا أقوال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله، وذلك بالصعود في الإسناد إلى الأول من أسرة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صحابته الذين قد نقلوا هذه المعلومات مباشرة منه نفسه، وذلك بعد الكشف على حال الراوي في جميع سلسلة ¬

_ (¬1) " حياة محمد " للدكتور محمد حسين هيكل: ص 67. (¬2) و (¬3) " دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة " ص 275.

الرواية، والابتعاد عن الرُواة غير المشهود لهم بحسن السيرة وصدق الرواية، ونحو ذلك من دلائل ضعف الراوي المُوجبة لعدم الاعتماد على الحديث الذي روي عن طريقة. وهذا ما قد انفرد به علماء الإسلام في كل ما روي عن نبيِّهِم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبعد فهذه أمثلة قليلة جداً مما كتبه المنصفون من غير المسلمين في بحوثهم وكتبهم، وقد يكون ذلك بدافع التجرد في البحث العلمي، أو لأنه ليس من الحكمة الطعن في أمر هو في الواقع من المسائل الظاهرة التي يعجز الجميع عن الطعن فيها، وقد يكون التجرد عن العصبية وراء هذه الكتابات. وأيّاً كانت الدوافع لهذه الكتابات، فهي ليست تملُّقاً للمسلمين، لأنها قد كتبت في فترات ضعفهم وتخلُّفهم وزوال سلطانهم وقوتهم، ولا يبقى إلاَّ أنْ يدرك هؤلاء المسلمون الذين تركوا السُنَّة النبوية أنه لا محل لهذه الشُبهة عند غير المسلمين، وأنَّ كل مسلم يدرك أنَّ من ردَّ الحديث النبوي أو حُكماً من أحكامه يبعد المسلم عن دار الإسلام، ولهذا حارب الخليفة الأول من ردَّ حُكم الزكاة أو امتنع عن أدائها ولم يُفرِّق بين الصلاة والزكاة، لأنَّ الله تعالى لم يُفرِّق بين الشعائر التعبُّدية وبين الشرائع القانونية الاقتصادية، إذ أوحى إلى نبيِّهِ كما جاء في القرآن الكريم {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]. ولم يفرِّق بين القرآن والسُنَّة في الأحكام فقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92] و [التغابن: 12] وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. والالتزام بما ورد في القرآن والسُنَّة دون تفرقة بينهما مجمع عليه في الماضي والحاضر. قال الأستاذ محمد العفيفي في كتابه " مقدمة في تفسير الرسول للقرآن الكريم " ص 5:

«فإنَّ القرآن والسُنَّة وحي من الله تعالى، يفسِّرُ بعضُها بعضاً، ويدل كل منهما على صدق الآخر. وقد جعل الله سُنَّة رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بياناً للقرآن، وتطبيقاته في كل قول وعمل من أقوال الرسول وأعماله، ليكون الرسول هو الأسوة الحسنة كما يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. وقال: ومن الدلائل الكبرى على أنَّ القرآن والسُنَّة يفسِّرُ بعضها بعضاً أنَّ القرآن مركب من آيات مرتبة، ترتيباً معجزاً، حتى يمكننا أنْ نصل إلى جديد من المعاني بكل آية أو بكل جزء من أجزائها، كلما تعدَّدتْ ارتباطاته بالقرآن كله» وقد أورد الإمام بدر الدين الزركشي فصلاً في كتابه " البرهان في علوم القرآن " (¬1) تضمَّن إجماع الأمَّة على معاضدة السُنَّة بالقرآن فقال: «اعلم أنَّ القرآن والحديث أبداً متعاضدان على استيفاء الحق وإخراجه من مدارج الحكمة حتى أنَّ كل واحد منهما يخصِّصُ عموم الآخر ويُبَيِّنُ إجماله، وقد اعتنى بإفراد ذلك بالتصنيف الإمام أبو الحكم بن برجان في كتابه المُسمَّى بـ " الإرشاد "» (¬2). ¬

_ (¬1) " البرهان في علوم القرآن " للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي: جـ 2 ص 129. (¬2) هو الإمام عبد السلام بن عبد الرحمن الإشبيلي المعروف بابن برجان توفي سنة 627 هجرية وكتابه " الإرشاد في تفسير القرآن " من نسخة مصوَّرة بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية.

6 - استقلال السنة بالحكم الشرعي:

6 - اسْتِقْلاَلُ السُنَّةِ بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ: إنَّ من وسائل إضعاف السُنَّة النبوية القول إنها مُفسِّرة للقرآن الكريم، ولا تستقل بالتشريع، وإنها كالمذكرة التفسيرية للقانون. وحتى تتَّضِحَ خطورة هذه الدعاوى نُبيِّنُ وضع السُنَّة النبوية: 1 - فالسُنَّة قد تأتي تأكيداً لما جاء في القرآن الكريم وتُسَمَّى السُنَّة المؤكدة، من ذلك ما رواه البخاري بسنده عن النبي قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» فقد جاء ذلك مؤكداً لقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. 2 - والسُنَّة قد تكون مُبيِّنةً، وهي التي جاءت بأحكام مفصَّلة تُبَيِّنُ ما جاء في القرآن مُجملاً، فقد أمر الله في القرآن بالصلاة والصوم والزكاة والحج دون أنْ يفصل الأحكام العلمية، كما ورد مثل ذلك في المعاملات والحدود، فجاءت السُنَّة النبوية وبيَّنت الصلوات المفروضة وأوقاتها وأركانها كما فعلت ذلك في سائر الأحكام المجملة. 3 - والسُنَّة قد توجب حُكماً جديداً سكت عنه القرآن الكريم مثل عقوبة الزاني المُحصن، فقد ورد في القرآن عقوبة الجلد مائة وأضافت السُنَّة الرجم لمن كان مُتزوِّجاً (¬1). وبالرجوع إلى مناهج الفقهاء نجد اختلافاً لا يعدو ¬

_ (¬1) ورد حُكم الزنا على التدريج إذ قال الله {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ =

أن يكون خلافًا في الاصطلاحات، فبعضهم كابن القيم في كتاب " الطرق الحكمية " يسمي النوع الأول السُنَّة الموافقة، بينما يسمِّي النوع الثاني بالسُنَّة المُفَسِّرَة، ونجد الخلاف يزداد في النوع الثالث فقد يراه بعضهم أنها سُنَّة زائدة عما في الكتاب، وَيُُسَمِّيهَا آخرون باِلسُنَّةِ المُوجِبَةِ، ولكن تختلف الأسماء بينما المُسَمَّى لا يختلف حكمه. فالإمام الشافعي يقول (¬1): «وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ مَعَ كِتَابِ اللهِ، وَسَنَّ فِيمَا لَيْسَ فِيه بِعَيْنِهِ نَصُّ كِتَابٍ وَكُلُّ مَا سُنَّ فَقَدْ أَلْزَمَنَا اللهُ بِاِتِّبَاعِهِ». بينما نراه يصف هذه السُنَّة الجديدة وصفاً ينفي عنها أنها تنسخ القرآن، «أَنَّ السُنَّةََ لاَ نَاسِخَةٌ لِلْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هِي [تَبَعٌ] لِلْكِتَابِ، بِمِثْلِ مَا نَزَلُ نَصًّا، وَمُفَسِّرَةٌ مَعْنًى مَا أَنْزَلَ اللهِ مِنْهُ جُمَلاً». ولكن مع وصفه السُنَّة بأنها لا ناسخة للقرآن يوجب الأخذ بحديث: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» الذي يراه غيره بأنه ناسخ لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ... } [البقرة: 180]. يقول الإمام الشافعي: «وَجَدْنَا أَهْلَ الفُتْيَا وَمَنْ حَفِظْنَا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِالمَغَازِي مِنْ قُرَيْشِ وَغَيْرَهَا لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامَ الفَتْحِ: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "» (¬2). ¬

_ = حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [سورة النساء، الآية 15]، ثم ورد قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [سورة النور، الآية: 2]، ثم روى أحمد ومسلم وابن ماجه عن النبي قوله: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ». (¬1) و (¬2) " الرسالة " ص 98 وما بعدها

لهذا روى البيضاوي في " المنهاج " أنَّ للشافعي قولين في هذا قول يمنع نسخ القرآن بالسُنَّة مطلقاً وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد وعن أكثر الظاهرية عدا ابن حزم (¬1). والقول الآخر للشافعي هو جواز النسخ وقد استنكر بعضهم ذلك عليه، ولكن الخلاف ليس في الحكم العملي، الوارد في الحديث النبوي «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، بل الخلاف بين الفقهاء والأصوليين هو في وصف هذا الحديث هل هو مخصص لحكم القرآن {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] أم هو ناسخ لهذه الآية والنتيجة العملية واحدة. فالأحناف ومن معهم يرون أنَّ الحديث ناسخ للآية لأنه دليل منفصل عنها، وهو حديث مشهور ومتواتر في المعنى. فيصلح للنسخ عندهم. وغيرهم يرى أنَّ الحديث مُخصِّصٌ للآية. والخلاف كما هو ظاهر لا أثر له على الحكم كما أنه خلاف في الاصطلاح فالنسخ والتخصص متشابهان «لأَنَّ النُّسْخَ تَخْصِيصٌ فِي الأَزْمَانِ وَالتَّخْصِيصُ تَخْصِيصُ الأَعْيَانِ، وَالمَعْنَى الذِي مِنْ أَجْلِهِ صَارَ النُّسْخُ يُصَارُ إِلَى التَّخْصِيصِ أَلاَ وَهُوَ أَوَْلَوِيَّتُهُ عَلَى إِلْغَاءِ الحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَالإِتْيَانِ بُحْكُمٍْ جَدِيدٍ» (¬2). والجدير بالذكر أنَّ النوع الأول والثاني من السُنَّة هما موضوع اتفاق الفقهاء، أما النوع الثالث فهو محل خلاف نظري. فالسُنَّة التي أتت بحكم جديد، منهم من قال إنها لا تستقل بإثبات هذا الحكم وإنما تستند إلى نص عام في القرآن، تفرَّعت عنه، أو استقت منه ¬

_ (¬1) " الإحكام ":جـ 4 ص 477، و" المُحلَّى ":جـ 1 ص 19 نقلاً عن " مناهج الاجتهاد ": ص 226. (¬2) " المحصول " للرازي: ص 561 نقلاً عن " مذكرات " الدكتور بدران أبو العينين بدران.

وبنيت عليه. ومنهم من قال إنَّ السُنَّة تستقل بتشريع الأحكام فتحريم غير الأمهات وحرمة الجمع بين البنت وعمَّتها والبنت وخالتها، وحرمة لحم الحُمُر الأهلية وكل ذي مخلب من الطير أو ناب من السباع. وغير ذلك من الأحكام التي لم ترد في القرآن إنما استقلَّت بها السُنَّة، لأنَّ الله تعالى أوجب طاعة الرسول، استقلالاً في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. ووجه الاستدلال بالنص أنَّ طاعة الرسول جاءت استقلالاً، أما طاعة أولي الأمر فجاءت في حدود ونطاق طاعة الله ورسوله لأنها عطفت عليهما. ولقد زعم بعض تلاميذ المستشرقين ممن انتسبوا إلى العلم بأنه يلزم عرض السُنَّة على القرآن، فإنْ أتَتْ بحكم ليس فيه فلا نأخذ به، وقد تبنى ذلك الشيخ أبو رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية ". ولكن الخلاف الواقع بين الفقهاء لا ينبغي أنْ يكون سندًا لهؤلاء المُغرضين، لأنه خلاف في المصطلحات والمناهج فحسب، فقد يراها البعض أمراً زائداً على ما جاء به الكتاب، بينما يراها آخرون مجرد بيان، ويراها البعض تأكيداً لما جاء به النص القرآني لا أكثر من ذلك، ويرجع هذا إلى مداخل وجوه البيان الناتجة عن دقة ملاحظة الفوارق بينها. فالخلاف الواقع في صدر الأمَّة في هذا الشأن نظري. ولهذا فالنتيجة العملية أنَّ السُنَّة الزائدة عما ورد في القرآن، حُجَّةٌ يجب العمل بها وإنْ اختلفوا في وصف هذه السُنَّة، وفي هذا قال ابن القيم: «السُنَّة مع القرآن على ثلاثة أوجه إحداها أنْ تكون موافقة له من وجه، والثاني أنْ تكون بياناً لما ورد بالقرآن وتفسيراً له، والثالث أنْ تكون موجبة لحكم سكت القرآن

عنه أو بحرمة لما سكت عن تحريمه ولا تخرج عن هذه الأقسام، فما كان فيها زائداً على القرآن فهو تشريع مبتدأ يجب طاعته فيه ولا تحل معصيته» (¬1). وصحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرِّقُوا بين سُنَّة ورد فيها نص من القرآن وسُنَّة الحكم فيها يعتمد على الحديث وحده، لأنَّ الله تعالى قد قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وفي هذا قال ابن حزم: «لَوْ أَنَّ امْرِءًا قَالَ: لاَ نَأْخُذُ إِلاَّ بِمَا وَجَدْنَا فِي القُرْآنِ لَكَانَ كَافَرًا بِإِجْمَاعِ [الأُمَّةِ]» (¬2). لقد انتهى عصر جمع السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وعصر تمحيصها وأصبح من اليسير معرفة وضع الحديث النبوي ودرجته من الصحة أو الضعف أو الوضع والبطلان، فلا يجوز والحالة هذه أنْ يضعِّف أحد من السُنَّة النبوية بالإقلال من منزلة أحاديث الآحاد، والتركيز على أنها ظنية الثبوت، لأنَّ هذا المصطلح كان لأسباب خاصة في تحديد من يجوز أنْ يتهم بالكفر في مجال رد الحديث النبوي. وقد أجمعت الأمَّة على مر العصور، على أنَّ السُنَّة حُجَّة ويجب العمل بها كالقرآن الكريم، لا فرق في ذلك بين المتواتر منها والآحاد. ولا يختلف مسلم مخلص اليوم على أنَّ من وسائل إضعاف الإسلام في نفوس المسلمين هو إبعاد السُنَّة كلها أو بعضها، وهذا يتحقق باستبعاد سُنَّة ¬

_ (¬1) " إعلام الموقعين " لابن القيم: جـ 2 ص 228. (¬2) " الإحكام في أصول الأحكام ": جـ 1 ص 109.

الآحاد في الأمور الدستورية أو التشريعية أو الاقتصادية، وهذا ما قد ظهر في عصرنا استناداً إلى أنَّ هذه السُنَّة ظنية الثبوت، فهل يدرك من يتمسَّكون بهذا الاصطلاح الذي لا مبرِّرَ له في عصرنا إلاَّ أنْ يكون سنداً لأعداء هذه السُنَّة وهذا الدين أو لأصحاب الأهواء. العقل العربي والتدوين: لقد نشرت دار الطليعة بلبنان كتاب " تكوين العقل العربي " للدكتور محمد عابد الجابري، ادَّعى فيه أنَّ العقل العربي أخذ تصوراته عن الإنسان والكون والمجتمع من عصر التدوين الذي بدأ عام ثلاثة وأربعين ومائة للهجرة لأنَّ تدوين السُنَّة والفقه لا يخلو من وجود رأي للذي قام بالتدوين فلا بد أنه قام بحذف وتقديم وتأخير في المرويات مما يعد إعادة تشكيل الموروث الثقافي (ص 64)، وادَّعى أنَّ الرأي في التدوين يتضح من تعمُّد أهل السُنَّة السكوت عن التدوين عند الشيعة وكذلك سكوت مراجع الشيعة عن التدوين عند أهل السُنَّة (ص 96). وهذا الكاتب قد تعمَّد تضليل المُثقفين الذين كتب لهم هذه المقدمات الكاذبة ليخول لنفسه حق تصحيح ما زعم أنه تناقضات في تكوين العقل العربي، بينما التناقض في عقله هو فيما يلي: 1 - أنَّ تصورات العرب عن الإنسان والكون لم تؤخذ من عصر التدوين سالف الذكر بل مصدرها القرآن الكريم وهذا ما سجله الدكتور موريس بوكاي في كتابه " دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة " والمبين في الفصل الأخير. 2 - أنَّ التدوين الرسمي العام بدأ سنة 99 هـ عندما تولى عمر بن عبد العزير الخلافة ومن قبله ومنذ عصر الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان هناك تدوين للأفراد وكل ذلك قبل بدء تدوين مذهب الشيعة وكتبهم ومُدوَّناتهم فقد بدأت بكتاب " الكافي " للكُليني والمتوفَّى سنة 329 هـ، فلا يقال إنَّ أهل السُنَّة عند التدوين أغفلوا مرويات الشيعة فلم يكن لهؤلاء وجود مرويات عند بدء التدوين.

3 - إنه لم يكن للرأي دور في التدوين فقد نقل الراوي كل ما سمعه من السُنَّة أو أقوال الصحابة، والرأي ينحصر في شروط الراوي الممثلة في العدالة والضبط، ولا يمس النص في شيء ولكن المؤلف زعم أنهم أهملوا الرأي في المرويات بالحذف والإضافة فهذا لم يقل به أحد حتى المستشرقين حيث قرَّرُوا الواقع وهو لا يعني حذف شيء أو إضافته والمراجع تكذب المؤلف.

الفصل الثاني: الفتنة وشبهات حول تدوين السنة:

الفَصْلُ الثَّانِي: الفِتْنَةُ وَشُبُهَاتٌ حَوْلَ تَدْوِينِ السُنَّةِ: كتابة السُنَّة بين التاييد والمعارضة. كتابة السُنَّة في العصر النبوي. من وسائل حفظ السُنَّة. كتب السُنَّة ونشأتها. علوم الحديث وأهميتها. ردُّ السُنَّة بين السند والمتن.

7 - كتابة السنة بين التأييد والمعارضة:

7 - كِتَابَةُ السُنَّةِ بَيْنَ التَّأْيِيدِ وَالمُعَارَضَةِ: لما كان القرآن الكريم هو المعجزة التي تحدَّى الله بها البشر إلى يوم القيامة في عدة مواضع من هذا الكتاب الكريم، منها قول الله تعالى في سورة الإسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. ومنها قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]. والجدير بالذكر أنَّ التحدي كان بالإتيان بسورة من مثل سور القرآن، لأنَّ الآية الواحدة ليست محلاً لهذا التحدِّي، فمن الآيات ما هو كلمة واحدة كما في سورة الرحمن في وصف الجنتين، إذ قال الله: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64]، وهذه آية، لذلك كان محل التحدِّي هو السورة، وهي قد تكون من ثلاث آيات قصار مثل سورة الكوثر، قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1، 2، 3]. لما كان ذلك، فإنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول الأمر قد نهى عن كتابة السُنَّة النبوية حتى لا تختلط بالقرآن، وليظل القرآن هو المعجزة الخالدة. ولما كان هذا هو سبب النهي عن كتابة السُنَّة، فإنه قد أبيحت الكتابة في الحالات التي لا يخشى فيها اختلاطها بالقرآن الكريم، فوجدنا كُتُبًا لرسول

الله فيها أحكام من السُنَّة النبوية، وكتباً لبعض صحابته في هذا الشأن وقد عرفت باسم الكتب أو الصحف، وظل الأصل هو معرفة السُنَّة عن طريق الحفظ والرواية وهذه الصحف وغيرها تؤكد أنَّ السُنَّة قد نقلها الصحابة إلى التابعين إما بكتابة التابعي أو الصحابي. ومن الأمثلة على الكتابة: 1 - كتب النبي ومعاهداته التي أملاها للإمام علي ومنا ما كان في قراب سيف النبي وقد روى البخاري عن أبي هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً منِّيْ إلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو، فإنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أكْتُبُ». (¬1). 2 - كما روى الترمذي أنَّ رجلاً من الأنصار شكى إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلة حفظه فقال له: «اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ» أي بالكتابة (¬2): وقال: «قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» (¬3). 3 - وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة أنه لما فتح الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: اكتب لي، فقال النبي: «اكْتُبُوا لَهُ» كما رواه البخاري في كتاب العلم ومسلم في كتاب الحج وكذا أبو داود والترمذي (¬4). 4 - وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أنه لما اشتد المرضى بالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ ¬

_ (¬1) " فتح الباري ": جـ 1 ص 217، " مسند أحمد ": جـ 1 ص 119. (¬2) " سنن الترمذي ": العلم: ص 12. (¬3) " المستدرك " للحاكم: جـ 1 ص 106، و" كنز العمال ": جـ 5 ص 227. (¬4) " المسند ": جـ 12 ص 235.

كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ ... فَاخْتَلَفُوا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، فَقَالَ: "قُومُوا عَنِّي، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ "» (¬1) وهذا يؤكد أَنَّ الكتابة لم تكن ممنوعة إلاَّ خشية اختلاط السُنَّة بالقرآن، فإذا زال هذا السبب كانت كتابة السُنَّة مطلوبة. وفي هذا روى أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم عن عبد الله بن عمرو أنه قَالَ للنبي: إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ الشَّيْءَ [أَفَأَكْتُبُهُ؟]، قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى؟ قَالَ النَّبِيُّ: «نَعَمْ، فَإِنِّي لاَ أَقُولُ إلاَّ حَقًّا» (¬2). وهذا وغيره مما لا مجال لحصره يرجِّحُ أنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كتابة الحديث بقوله: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» كما رواه مسلم في " صحيحه " وكما رواه غيره، إنما كان في أول أمر نزول القرآن مخافة أنْ يختلط بالسُنَّة النبوية، فلما زال هذا السبب أذن النبي في الكتابة. قال الإمام الصنعاني: «صَارَ الأَمْرُ لِلْجَوَازِ» (¬3). قال الرامهرمزي: «وحديث أبي سعيد - حرصنا أنْ يأذن لنا النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكتابة فأبى - أحسب أنه كان محفوظاً في أول الهجرة - وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن» (¬4). ¬

_ (¬1) " فتح الباري ": 1/ 218 و " صحيح مسلم ": 3/ 1257. (¬2) " مسند أحمد ": 2/ 162 و 207 و " أبو داود " (العلم ص 3). (¬3) " المحدث الفاصل ": ص 71 نقلاً عن " أصول الحديث " للدكتور محمد عجاج الخطيب: ص 150. (¬4) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للأستاذ مصطفى السباعي: ص 61.

8 - التدوين الرسمي وحفظ السنة:

وقال المحقق الدكتور السباعي: «وأعتقد أنه ليس هنالك تعارض حقيقي بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، إذا فهمنا النهي على أنه نهي عن التدوين الرسمي كما كان يدوَّن القرآن، وأما الإذن فهو سماح بتدوين نصوص من السُنَّة لظروف وملابسات خاصة أو سماح لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون السُنّة لأنفسهم والتأمل في نص حديث النهي قد يؤيد هذا الفهم» (¬1). 8 - التَّدْوِينُ الرَّسْمِي وَحِفْظُ السُنَّةِ: فضلا ًعن ذلك كله فمن المعلوم أنَّ الله الذي تولى حفظ الإسلام وحفظ رسوله ليبلغ هذه الأمانة قد وفر أسباب هذا الحفظ. فقد قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. فالسُنَّة النبوية إنما جمعت من أفواه الذين سمعوها وحفظوها عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي هذا روى الدارمي عن أبي العالية قال: «[إِنْ] كُنَّا نَسْمَعُ الرِّوَايَةَ بِالْبَصْرَةِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ نَرْضَ، حَتَّى رَكِبْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَسَمِعْنَاهَا مِنْ أَفْوَاهِهِمْ» (¬2). وقد وضع البغدادي كُتُبًا في هذا باسم " الرحلة في طلب الحديث " (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق. [ص 61، طبعة المكتب الإسلامي]. (¬2) " سنن الدرامي ": جـ 1 ص 240، وانظر أيضاً أمثلة عديدة في " جامع بيان العلم " لابن عبد البر: ص 94. (¬3) " مجموعة رسائل في علوم الحديث " صبحي السامرائي: جـ 9 ص 138.

ووضع الرامهرمزي كتابًا عن العلماء الذين رحلوا لطلب العلم (¬1) وفعل آخرون مثله، نكتفي بكتاب " مكاتيب الرسول "، حيث جمع فيه مؤلفه 316 من كتب الرسول وصحفه التي (¬2) بكتب الحديث والسيرة. إنَّ هذا الحفظ الدقيق لِلْسُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ قد انبهر به الذين اطلعوا على بعض جوانب علم الحديث من علماء الغرب - ولكن بعض الأعراب من المسلمين ما زالوا يبحثون عن ميدان الشهرة، فلم يجدوا ما يشتهرون به إلاَّ أنْ يكونوا ممن قال الله فيهم {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]؟ إنَّ هذه النصوص القاطعة تخرس الذين يزعمون أنَّ السُنَّة دونت بعد فترة طويلة تبعث على الشك فيها، ومن ثم ينادون بالاكتفاء بالقرآن الكريم. إنَّ السُنَّة قد كتبت منها الكثير في العصر النبوي، ثم دونت بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز، وذلك من أفواه من حفظوها عن الصحابة مباشرة ومن الكتب التي تركها الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، كما هو ثابت في الفصول التالية. أما تدوين السُنَّةِ بمعرفة الشيعة فيبدأ - حسبما ورد بمقدمة " الكافي " (¬3) - بصحيفة الإمام علي التي أملاها النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنها ما كان في قراب سيفه، ثم دَوَّنَ أبو رافع القبطي مولى الرسول كتاب السنن والأحكام ¬

_ (¬1) " الحديث النبوي " للأستاذ محمد الصباغ: ص 48. (¬2) " مكاتيب الرسول " للعلاَّمة على الأحمدي من جزأين. بيروت، دار المهاجر. (¬3) " الأصول من الكافي " لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُلَيْنِي: جـ 1 ص 4، 5.

والقضايا، وهذا التدوين في عصر الصحابة أي قبل ظهور الشيعة فأول من دوَّن منهم الكُليني المتوفى سنة 329 هـ بكتابه " الكافي "، ثم دوَّن ابن بابويه المتوفى سن 381 هـ كتاب " من لا يحضره الفقيه "، ثم دوَّن الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460 كتاب " تهذيب الأحكام " وبعد ذلك كتاب " جامع الأخبار " للشيخ عبد اللطيف الهمذاني المتوفى سنة 1050 هـ. وأما المذهب الزيدي من كتبه " أحاديث الشفاء " للضمدي (*) وأحاديث " البحر الزخار " لابن بهران و " المجموع الفقهي " ويضم ما رواه الإمام زيد. والجعفرية يخلطون الحديث بالفقه أي أقوال النبي بأقوال أئمتهم بسبب العصمة ومن ثم تحتاج إلى تمحيص طويل ودقيق للسبب المبيَّن في الفصل الثالث والجدير بالذكر أنَّ " صحيفة الإمام علي " التي أشار إليها كتاب " الكافي " تتضمَّن أموراً حصرها الإمام علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في الحديث الذي رواه " البخاري " عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: «لاَ، إِلاَّ كِتَابَ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ». قَالَ قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «العَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» (¬1) فهذه الصحيفة قد خلت من ذكر حديث الغدير الذي بنى عليه الخلاف بين السُنَّة والشيعة وهي لا تُعَدُّ من مدونات الشيعة لأنَّ مذهبهم ظهر بعد قتل الإمام علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. أما التدوين الرسمي للسُنَّة فكان في عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز ووالده وبأمر منهما إلى جميع البلدان ففي عصرهما جمع ما عند التابعين وهم الذين نقلوا عن الصحابة مباشرة (¬2)، وإنْ كان هذا التدوين الرسمي قد حفظ السُنَّة، فإنَّ عصر النبي لم تمتنع فيه الكتابة حيث سار النهي الأول إلى الجواز كما قال الخطابي في " معالم السُنن "، وهذا يؤكد قول عبد الله بن عمرو: «كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا. فَأَمْسَكْتُ عَنِ الكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: "اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ "» (¬3) ¬

_ (¬1) البخاري: جـ 1 ص 36، باب كتابة العلم. (¬2) " فقه الحديث النبوي " للمؤلف. (¬3) " سنن أبي داود ": ج 2/ 334 برقم 3446. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) الضمدي وليس الغمذي (كما ورد في الكتاب المطبوع) [" أحاديث شفاء الأوام في أحاديث الأحكام " للشيخ عبد العزيز بن أحمد الضمدي اليمني المتوفى سنة 1078هـ].

9 - كتابة السنة في العصر النبوي:

9 - كِتَابَةُ السُنَّةِ فِي العَصْرِ النَّبَوِيِّ: لما كان القرآن الكريم مُعجزاً في لفظه ومعناه وقد تحدَّى الله به البشر جميعاً، فإنَّ المستشرقين والمُبشرين الذين تخصَّصُوا في تشويه هذا الدين لم يجرؤوا على الطعن في القرآن. ولما كان القرآن مُجملاً في أمور والسُنَّة النبوية هي المفصِّلة لهذه الأحكام، فإنَّ الطعن عليها يهدم قواعد هذا الدين، ومن ثم وجدنا بعض المستشرقين يردِّدُ أنَّ الحديث النبوي لم يكتب في عصر الصحابة، وبناء على ذلك فإنَّ أحاديث الآحاد وهي عماد السُنَّة لا يعمل بها في أمور كثيرة لأنَّ الظن قد تطرَّق إلى روايتها، ووجدنا من ردَّدَ هذا من المسلمين ولكن كانت غايته التي أظهرها الدفاع عن السُنَّة (¬1). وقد تجاهل المستشرقون ومن قلَّدهم من المسلمين أنَّ كتابة الحديث النبوي بدأت في عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن بطريقة فردية، كما أنَّ النبي اكتفى بحفظ الصحابة للسُنَّة حتى جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز وأمر بالتدوين الرسمي، وكان ذلك في عصر التابعين، أي الطبقة التالية للصحابة والتي نقل أهلها عن صحابة رسول الله مباشرة، وبالتالي دونت السُنَّة النبوية بمعرفة الذين حفظوها عن صحابة النبي مباشرة. أما كتابة السُنَّة النبوية في عصر النبي فنذكر منها على سبيل المثال: ¬

_ (¬1) ورد هذا في كتاب " العقيدة والشريعة " لليهودي جولدتسيهر وفي كتابَيْ " أضواء على السنة المحمدية " و " قصة الحديث النبوي " للمسلم الشيخ محمود أبو رية.

أولاً - دستور النبي بالمدينة: عندما هاجر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة وضع لهم قانوناً ودستوراً ينظِّمُ شؤون المسلمين بعضهم ببعض مع غيرهم من سكان يثرب وأهلها ومما جاء به: (¬1) 1 - أنهم أمَّة من دون الناس. 2 - المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم (أي يدفعون الديات من باب التكافل) وهم يَفْدُونَ أسيرهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 3 - وأنه من يتبعنا من يهود لهم النصرة والأخوة غير مظلومين ولا نتناحر عليهم. 4 - وأنه لا يحل لمؤمن اقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أنْ ينصر مُحْدِثاً أو يأويه. 5 - وأنَّ اليهود يقفون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 6 - وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنَّ مردّه إلى الله وإلى محمد. وهذه الصحيفة قد أوضحت أنَّ المسلمين أمَّة واحدة من دون الناس وبالتالي فما ورد في الأحاديث النبوية عن كفر مفارقة الجماعة أو خلع البيعة إنما ينصرف إلى هذه الأمًَّة الواحدة، فمفارقتها ردة عن الإسلام. وهذه الصحيفة أوجبت على المؤمنين الرجوع إلى الله ورسوله عند الخلاف باعتبارين: ¬

_ (¬1) " مسند أحمد ": جـ 1 ص 271 وجـ 2 ص 204 وجـ 3 ص 242 و" المنتقى من كنز العمال ": جـ 5 ص 251 و" السنن الكبرى ": جـ 8 ص 106.

الأول: كونهم أعضاء الجماعة أو الأمَّة المؤمنة. والثاني كونهم من رعايا هذه الدولة. وهذا الاعتبار يشترك فيه اليهود والنصارى ومن هنا كان خضوعهم للقانون الإسلامي. ثانيًا - كتاب النبي في الصدقات: كان عند رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاب في الصدقات ثم أرسله الخليفه أبو بكر لأنس بن مالك وغيره وهو مختوم بخاتم النبي وقد رواه الإمام أحمد في " مسنده " (¬1). وروى عن ابن الحنفية محمد بن علي بن أبي طالب أنه قال: أرسلني أبي وقال: «خُذْ هذا الكتاب فاذهب به إلى عثمان فإنَّ فيه أمر النبي بالصدقة» (¬2). ثالثًا - كتاب سعد بن عبادة: وكان عند سعد بن عبادة الأنصاري كتاباً فيه بعض أحاديث النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وروى الإمام البخاري أنَّ هذه الصحيفة كانت نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى الذي كان يكتب الأحاديث بيده في عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3). رابعًا - كتاب النبي لأهل حضرموت: كما سلم رسول الله كتاباً لوائل بن حجر ليعمل به أهل حضرموت (¬4) فيه أركان الإسلام وتعاليمه وفريضة الزكاة وحد الزنا والخمر. ¬

_ (¬1) " مسند الإمام أحمد ": جـ 1 حديث 72 ص 183، و" السُنَّة قبل التدوين " للأستاذ محمد عجاج الخطيب: ص 344، ومحمد حميد الله. (¬2) المرجع السابق، و" فتح الباري ": جـ 7 ص 83. (¬3) " السُنَّة قبل التدوين ": ص 346 و " صحيح البخاري " جـ 2. (¬4) " الإصابة في تمييز الصحابة " لعز الدين ابن الأثير: جـ 1 ص 312.

خامسًا - كتاب النبي لأهل اليمن: وعندما ولي رسول الله عمرو بن حزم على اليمن أعطاه كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات وغيرها. وقد عرف الكتاب باسم " صحيفة عمرو بن حزم ". وقد روى أبو داود هذا الكتاب في " سُننه ". وكذا النسائي وابن حبان والبيهقي والحاكم والدارقطني. وقال القاضي أحمد شاكر: إنَّ الكتاب، إسناده صحيح جداً (¬1). سادسًا - " الصحيفة الصادقة ": كما توجد الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص الذي سمح له النبي بكتابة الحديث. وقد عرف سندها في كتب السُنَّة باسم عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والجد هو صاحب الصحيفة الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص، ويرجَّح أنَّ حفيده عمرو بن شعيب كان يروي منها، وقد نقل الإمام أحمد محتواها في " مسنده "، كما نقلت عنها بعض كتب السُنَّة (¬2). وقد وردت شبهة بشأن هذه الصحيفة، فردَّ البعض رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولكن قال الإمام تقي الدين بن تيمية (¬3) وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء فيحتجُّون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صح النقل إليه مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ونحوها ونقل الشافعي وأحمد وإسحاق مثل ذلك. ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 293 جـ 4 و " المحلى ": جـ 1 ص 18. (¬2) " مسند الإمام أحمد " تحقيق أحمد شاكر: جـ 9 ص 235 الحديث 6477 والجزء العاشر بكامله والحادي عشر والثاني عشر حتى ص 50. (¬3) " مجموع الفتاوى ": جـ 18 ص 8، 9.

10 - الحقيقة بين العلة والمعلول:

سابعاً: صحيفة جابر بن عبد الله: كما توجد صحيفة الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري وقد ذ كرها ابن سعد في ترجمة مجاهد (¬1). ثامناً - الصحيفة الصحيحة: كما توجد الصحيفة الصحيحة للتابعي همام بن منبه الذي التقى بالصحابي الجليل أبي هريرة ونقل عنه كثيراً من أحاديث النبي، وجمع ذلك في صحيفة. وقد وصلت كاملة إذ عثر عليها الدكتور المُحقِّق محمد حميد الله في مخطوطتين متماثلتين في دمشق وبرلين (¬2)، كما نقلها الإمام أحمد كاملة في " مسنده "، ونقل عنها " البخاري " في أبواب مختلفة، والجدير بالذكر أنَّ الصحابي أبا هريرة مات سنة 59 هـ وهو الذي نقلت عنه أحاديث هذه الصحيفة. 10 - الحَقِيقَةُ بَيْنَ العِلَّةِ وَالمَعْلُولِ: إنَّ هذه الصحف ليست وحدها التي اشتملت على ما كتب في عصر النبي وصحابته، بل هي أهم ما دونه هذا العصر، ومع هذا فهي تحوي أموراً كثيرة من أركان الإسلام وفروعه، وقد كتبت قبل الحرب التي نشبت في زمن الإمام عليٍّ، وقد نقل البخاري وغيره عن هذه المدوَّنات، وبالتالي فالتعليل بردِّ السُنَّة لأنها كتب بعد الحروب ويخشى معها أنْ يكذب الذين اقتتلوا فيروُون غير الحق عن النبي علة باطلة، من حيث الشكل، إذ توجد ¬

_ (¬1) " طبقات ابن سعد ": جـ 5 ص 423. (¬2) " السنة قبل التدوين ": ص 345 وما بعدها.

كتابة وصحف عن النبي قبل الحرب، وباطلة موضوعاً لأنَّ التاريخ كله بل أعداء الإسلام أنفسهم يشهدون أنَّ الحروب لم تؤثر على الأحاديث النبوية، لأنَّ المتحاربين اجتهدوا في تنفيذ حكم الله ولم يكن قتالهم يسقط عدالتهم. كما أنَّ كتب الشيعة وأهل السُنَّه لا تخرج عن هذا، فبعض الشيعة يقولون عن الصحابه (1) «إنَّ عداوتهم والنيل منهم والقدح فيهم لأجل دينهم أو صحبتهم لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفر وضلال وخروج عن الإسلام» كما يُعرِّف السُنَّة النبوية بأنها «مجموع ما ورد عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتلقاه عنه أهل بيته والعدول الأمناء من أصحابه من الأحاديث والأخبار من قول أو فعل أو تقرير» (¬1). كما أنَّ عقيدة أهل السُنَّة في هذا الشأن أنَّ «الصحابة كلهم عدول من لاَبَسَ الفتن وغيرهم لإجماع من يعتد به» (¬2). فهل يدرك ذلك أصحاب هذه العلة، أم أنَّ زعامتهم وشهرتهم تحول دون رجوعهم إلى الحق وتوبتهم عن هذا ألافتراء على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى سُنَّته وصحابته! وهل يجهل الذين يزعمون أنَّ السُنَّة لم تدوَّن إلاَّ بعد عصور الفتن، أنه بالاضافة إلى ما أشرنا إليه أنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أرسل كتباً ورسائل إلى الملوك والرؤساء كما زود رسله إلى قومهم بكتب تضمَّنت الحلال والحرام وأمور الدين وقد جمع أكثرها في مكاتيب الرسول يضم 316 كتابًا (¬3). ¬

_ (¬1) " الشيعة وعقائدهم وأحكامهم " السيد أمير محمد الكاظمي القزويني: ص 74 - 73. (¬2) " قواعد التحديث " للأستاذ محمد جمال الدين القاسمي. (¬3) " مكاتيب الرسول " للشيخ علي الأحمدي - بيروت. دار المهاجر.

السنة والمنافقون حديثا:

السُنَّةُ وَالمُنَافِقُونَ حَدِيثًا: إنَّ أقواما سخرتهم شياطين الإنس لهدم الإسلام من داخله بوسيلة مكشوفة تتمثل في إظهار التمسك بالقرآن والاكتفاء به لأنَّ السُنَّة ظن إذ لم تُدَوَّن وقد تسرب إليها الضعف خصوصاً سُنَّة الآحاد. وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. وإذ نحيل القاريء إلى كتاب النفاق والمنافقون للصديق الأستاذ المرحوم حسن عبد الغني حيث فصل أعمال المنافقين وأحصى خصالهم بما لا نجده في كتاب آخر. فإننا نؤكد أنَّ نفاق هؤلاء , نعرفه من إظهارهم العمل بالقرآن وهم في الحقيقة لا يعملون به، فقد جاء به أنَّ من مهام النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. فمن رَدَّ السُنَّة القولية والعملية في هذه الأمور يكون قد رَدَّ القرآن الذي أخبر أنَّ الله قد خول نبيه هذه الصفات والخصائص وأمر بطاعته مع طاعة الله اي العمل بالسُنَّة والقرآن إذ قال الله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]. وقد أخبر الله عن هؤلاء فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]. وأخبر أنَّ طاعة الرسول طاعة الله فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

11 - من وسائل حفظ السنة:

11 - مِنْ وَسَائِلِ حِفْظِ السُنَّةِ: إنَّ حفظ الله تعالى للسُنَّة تجلى في تخصص رجال في تتبع أحوال من رووا عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حيث العدالة والحفظ والضبط، فكان لذلك علم يسمى علم الجرح والتعديل أو علم الحديث رواية، كما تخصَّص هؤلاء أيضاً في بحث موضوع الحديث أي متنه وألفاظه ليتأكدوا من أنه لا يصطدم بالقرآن أو السُنَّة المجمع على صحتهما، بحيث إذا تطرَّق إلى ذلك الشك أعادوا البحث في أحوال الرواة ليتأكدوا من صحة نسبة المتن إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولما كان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو المُبَيِّنُ لمُجمل القرآن والمُفصل لأحكامه فقد قال الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فقد وجدنا من الفقهاء كابن حزم الأندلسي من يؤكد أنَّ الذكر الذي حفظه الله يشمل القرآن والسُنَّة لأنَّ الله هو الذي تعهَّد بعصمة النبي. طَرِيقَةُ حِفْظِ السُنَّةِ وَكُتُبِهَا: ولهذا حفظ أكثر الصحابة الحديث ونقلوه إلى من بعدهم، وهو في هذا ينفِّذون قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي، فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ

هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، والنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» (¬1). وقد حفظ الله السُنَّة بوسائل مختلفة أهمها: أولاً: كانت السُنَّةُ النبوية تتداول بالحفظ. ولهذا وجدنا الإسناد الذي اختص به علماء الحديث فصنَّفوا رُواة الأحاديث، ومدى اتصال روايتهم إلى الصحابة، ثم إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليميزوا بين ما روى عن الصحابي ولم يرفعه إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعرفوا ذلك بالحديث الموقوف أي موقوف على الصحابي. كما بيَّنُوا ما رفع إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسمَّوْهُ بالحديث المرفوع. كما تعقَّبُوا الرُواة من حيث العدالة والثقة والحفظ فصنَّفوهم إلى (أوثق الناس) أو (ثقة ثقة) أو (ثقة حافظ) و (ثقة فقط) أو عدل وهكذا إلى مجهول الحال، وليِّنُ الحديث، وضعيف ومجهول ومتروك الحديث، أو متَّهم وكذَّب. ولقد كان من دقَّتهم في ذلك أنْ قال أحمد بن حنبل وأبو بكر الحُميدي (شيخ البخاري) وأبو بكر الصيرفي، وأخرين: «إنَّ من كذب على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو بحُسن نيَّة لا عبرة بتوبته في مجال الرواية، فلو تاب وحسُنتْ توبته لا تقبل روايته»، وقد رأى غيرهم أنَّ قواعد التوبة شرعاً تسمح بقبول رواية التائب، ولكن هؤلاء يحتاطون لأنَّ الأمر يتعلق برواية الحديث النبوي. ومِنْ دقَّتهم أنَّ العدالة لا تتوفر إلاَّ باجتماع أمور كثيرة، أما الجرح فيثبت بشيء واحد أي بقول شخص واحد، لأنَّ الجَرْحَ مُقدَّم على التعديل، فمن وثَّقه أشخاص ¬

_ (¬1) رواه الشافعي في " الرسالة " واستدل به على حجية حديث الآحاد، كما رواه أحمد بن حنبل: جـ 1 ص 183 و 225 و 437 ورواه أبو داود: باب العلم، ص 10 والترمذي: ص 7 وابن ماجه في المقدمة والمناسك: ص 18 و 76.

ولكن طعن فيه شخص واحد قدم الجرح (أي الطعن) على التعديل (أي على شهادة الأشخاص الذين وثقوا هذا الراوي) وعليه تستبعد روايته. ثانياً: كما تداولت السنة بالكتابة من بعض الصحابة أوضحناه من قبل ثم من التابعين، ولكنها لم تدوَّن آنذاك رسميا بأمر من النبى اكتفاء بالحفظ، وذلك حتى لا تختلط بالقرآن، لأنَّ القرآن والسُنَّة كانا يكتبان في الحجارة وسعف النخيل والجلد ومن ثم كان الاختلاط آنذاك هو الغالب لو دُوِّنت السُنَّة. ثالثاً: ثم جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز وهو من طبقة التابعين، أي الطبقة التالية للصحابة والتي حفظت منهم مباشرة، فأمر بتدوين السُنَّة النبوية فقد أخرج أبو نعيم قي " تاريغ أصبهان " (¬1) أنَّ هذا الخليفة كتب إلى أهل الآفاق أي جميع الولايات والأمصار «انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه». رابعاً: لهذا قام عمرو بن حرم والي المدينة فجمع ما عند السيدة عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية (98 هـ) (¬2) وما عند القاسم بن محمد بن أبي بكر (106 هـ). خامسًا: ثم أكمل هذا الجمع عَلَمٌ من أعلام الحديث النبوي وهو الإمام محمد بن شهاب الزُهري (124 هـ)، وهو الذي نسب إليه تدوين السنة النبوية. ¬

_ (¬1) " السنة ومكانتها [في] التشريع الإسلامي ": ص 104. (¬2) هو تاريخ الوفاة لتتضح أنَّ الرواية أخذت من أشخاص عاصروا الصحابة ونقلوا عنهم مباشرة.

سادساً: ثم جاء بعده من أتقنوا أداء هذه الأمانة ومنهم: 1 - بمكة ابن جريج (150 هـ) وابن إسحاق (151 هـ). 2 - بالمدينة سعيد بن أبي عروبة (156 هـ) - والربيع بن صُبيح (160 هـ) والإمام مالك (179 هـ). 3 - وبالشام أبو عمر الأوزاعي (157 هـ) وهُشيم (173 هـ). 4 - وبالبصرة حماد بن سلمة (167 هـ) ومن بعده صَنَّفَ [مسدد] بن مسرهد البصري مسنداً. 5 - وبالكوفة سفيان الثوري (161 هـ) ومن بعده صَنَّفَ عبيد الله بن موسى العبسي مسنداً وذلك على رأس مائتين. 6 - وبخراسان - عبد الله بن المبارك. 7 - وباليمن معمر (154 هـ). 8 - وبمصر الليث بن سعد (175 هـ) كما صَنَّفَ نُعيم بن حماد الخُزاعي مسنداً. 9 - ثم كانت المسانيد كـ " مسند أحمد " وأبي بكر الحميدي وأبي داود سليمان الطيالسي وأسد الأموي ومسدد الأسدي البصري الموصلي. 10 - ثم كان دور الدقة والتخصص في التصحيح فجمع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ) الصحيح فحسب طبقاً لقاعدة وضعها وهي اشتراط المعاصرة والسماع ليقبل رواية الشخص عن غيره، وهكذا حتى اتصال ذلك بالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أي يشترط أنْ يكون الراوي معاصراً في الزمن والمكان لمن روى عنه وسمع منه.

11 - وكان مثله الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (261 هـ)، ولكنه اكتفى بشرط المعاصرة لأنه يتضمَّنُ السماع، إذ معاصرة الراوي لِمَنْ روى عنه دليل على سماعه منه خصوصاً أنه يروي عنه ويُصَرِّحُ باسم صاحب الرواية. ثم تتابعت كتب السُنَّة التي جمعت الصحيح وغيره، وقد بيَّن أصحابها درجة الحديث من الصحة والضعف حسب مصطلحات وضعوها وبيَّنُوها فكان ما يأتي: 12 - " سُنن أبي داود " المتوفى سنة (275 هـ). 13 - و " سُنن ابن ماجه " المتوفى سنة (273 هـ). 14 - و " جامع الترمذي " [المتوفى سنة] (273 هـ). 15 - و " سنن النسائي " المتوفى سنة (303 هـ). 16 - ثم جاء بعد هؤلاء من أخذ عنهم ثم استدرك عليهم بالبحث والتمحيص مثل الإمام سليمان الطبراني (360 هـ) فوضع " المعاجم الثلاث " مرتَّية حسب الروايات. 17 - كما جمع الدارقطني (385 هـ) كتاب " السنن ". 18 - ومثله ابن حبان (354 هـ). 19 - وابن خزيمة (311 هـ). 20 - والطحاوي (321 هـ) (*). 21 - ثم كانت بعض الكتب للاستدراك على كتب الصحاح، كما فعل أبو عبد الله الحاكم (405 هـ)، فوضع كتابه " المستدرك " فاستدرك على ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع أن تاريخ وفاته [32 هـ] وهو خطأ في الطباعة، إذ وفاة الإمام الطحاوي 321 هـ = 933 م [انظر " الأعلام " للزركلي: 1/ 206].

البخاري ومسلم في أحاديث صحيحة على شرطهما، ولكنها لم يخرجاها في " صحيحيهما " فاعبترها الحاكم صحيحة على شرط البخاري أو مسلم حسب تحقيقه لتوفر شروط القبول عند كل منهما، كما وَهِمَ الحاكم في بضعة أحاديث عند البخاري ومسلم فظنَّ أنها ليست صحيحة. 22 - وتعقَّب الحافظ ابن حجر الأحاديث التي استدركها الحاكم على البخاري ومسلم وأثبت صحَّتها لأنَّ الحاكم قد وَهِمَ في استدراكه على " الصحيحين ". 23 - كما وضع كتاباً أسماه " القول المُسدَّد في الذب عن المسند " (راجع فيه الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، في الأحاديث الموضوعة حيث أورد أربعة وعشرين في " مسند الإمام أحمد " وعدَّها من الموضوعات، وهي ليست كذلك حسبما أثبته ابن حجر في كتابه هذا. 24 - ومن ذلك التمحيص أنْ وضع السيوطي ذيلاً لهذين الكتابين سمَّاهُ " القول الحسن في الذبِّ عن السُنن " لأنَّ ابن الجوزي حكم على بضعة وعشرين حديثاً من تلك الواردة في " كتب السُنَّة الأربعة " , وضعَّفها قكشف السيوطي أنها صحيحة وأنَّ ابن الجوزي تسرَّعَ في البحث والتصحيح. 25 - وأخيراً فحسب الباحث عن الحقيقة أنْ يجد مُدوَّناتٍ تحتوي على رسائل النبي وكُتُبه إلى الملوك والرؤساء وإلى الأمراء والمبعوثين، ومن هذه المُدوَّنات كتاب " مجموعة الوثائق السياسية " للأستاذ محمد حميد الله (*)، وكتاب " مكاتيب الرسول " للشيخ علي الأحمدي، وقد ضمَّ هذا ثلاثمائة وستة عشر رسالة كل رسالة مصدرها من كتب السُنَّة أو السيرة النبوية. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) خطأ في الطباعة: هو محمد حميد الله وليس محمد حميد الدين.

12 - علوم الحديث وأهميتها:

12 - عُلُومُ الحَدِيثِ وَأَهَمِيَّتُهَا: إنَّ هذا التمحيص الذي للسُنَّة النبوية نشأ عنه ظهور علوم للحديث وهذه نوجزها فيما يلي: 1 - يوجد علم الحديث رواية وهو يتعلَّق بنقل الحديث وتحديد أسانيد روايته وحفظ ألفاظه وتحديد أسماء الرُواة وهذا يسمَّى السند أو سلسلة الرُواة. 2 - وعلم الحديث دراية وهو يبحث في حقيقة الرواية وشروطها وأحوال الرُواة وشروط قبولهم وأنواع الأحاديث ودرجتها. وهذا العلم يُسَمَّى علم أصول الحديث، وقد تفرَّعتْ عنه علوم هي من علوم الحديث وأخصها: 3 - علم الجرح والتعديل، وهو علم يبحث في جرح الرْواة واستبعاد روايتههم أو في تعديلهم وقبول الحديث عنهم. 4 - علم تاريخ الرجال ويبحث في تاريخ الرُواة ونشأتهم وشيوخهم وتلاميذهم ورحلاتهم ومن التقوا بهم ثم عاداتهم وأخلاقهم وأقوال العلماء والعارفين بهم ليمكن الحكم لروايتهم بالثقة فيها أو استبعادها. 5 - علم مختلف الحديث ويبحث في ظاهرة التعارض كالمُطْلَقِ والمُقَيَّدِ

والعام والخاص، لأنه لا يوجد تعارض بين الأحاديث الصحيحة، وفي هذا قال ابن خزيمة: «لا أعرف أنه روي عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثان بإسنادين صحيحين متضاربين فمن كان عنده فليأتني به» (¬1). 6 - علم الناسخ والمنسوخ: وبحث التدرج في أحكام الشريعة بالنسخ في بعض الأحاديث، كأن يرفع الحديث المتأخر حكم الحديث المتقدِّم، وقد يكون هذا صريحًا كحديث: «كُنْت (*) نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا» رواه مسلم. وقد يعرف النسخ بالزمن والتاريخ كحديث: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» وهذا كان في عام الفتح أو في حَجَّة الوداع (¬2)، قال الشوكاني ينبغي أنْ يحمل على أنَّ كُلاً من الصوم والإحرام وقع في حالة مستقلة وهذا لا مانع منه (¬3). 7 - علم علل الحديث: ويبحث في الأسباب الغامضة التي تقدَّم في الحديث ما يوجب البحث في مدى صحَّته وانقطاعه وتوثيقه وسنده ومتنه. 8 - علم غريب الحديث: ويبحث في المعاني الغريبة والألفاظ الغريبة وسببها. 11 - كتب مصطلح الحديث وعلومه: إنَّ هذا العلم قد بدأ مع جمع السُنَّة وتمحيصها، فكان أول من اشتهر ¬

_ (¬1) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 258. (¬2) المرجع السابق. (¬3) " نيل الأوطار " للإمام محمد بن علي الشوكاني: ج 4 ص 278، وقد أورد أنَّ صوم النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حَجَّة الوداع فيه نظر لأنه كان مُفْطراً فقد صحَّ بانَّ أم الفضل أرسلت إليه بقدح لبن فشربه وهو واقف بعرفة. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) في " صحيح مسلم " تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» حديث رقم 37 - (1977). 3/ 1563.

في ذلك الإمام علي بن المديني (¬1) شيخ البخاري: 1 - ثم وضع البخاري كتباً فيه كـ " التاريخ الأوسط " و " الكبير "، ومن أنواع الكتب ما كان خاصاً بالضعفاء والمتروكين، وفي ذلك ألف البخاري والنسائي والدارقطني وابن الجوزي. 2 - وضع الذهبي كتاب " ميزان الاعتدال ". 3 - ومنها ما هو خاص بالثقات كـ " كتاب العجلي " المتوفى سنة (261 هـ) و" كتاب الحافظ قاسم في الثقات " من غير رجال الكتب الستة. 4 - وقد وضع أبو محمد الرامهرمزي كتاباً مُتخصِّصاً، ولذا قيل إنه أول من ألَّف، والكتاب اسمه " المحدث الفاصل بين الراوي والسامع " وقد توفي سنة (360 هـ) قبل أنْ يستوعب كل بحوث هذا العلم. 5 - وجاء الحاكم أبو عبد الله النيسابوري المتوفى سنة (405 هـ) فجمع في ذلك كتابه " معرفة علوم الحديث ". 6 - ثم فعل مثله أبو نعيم الأصفهاني المتوفى (430 هـ). 7 - ثم جاء الخطيب أبو بكر البغدادي المتوفى سنة (463 هـ) فألَّف قواعد وقوانين الرواية في كتاب أسماه " الكفاية ". 8 - ووضع في آداب وشروط الرواية كتاباً سماه " الجامع لآداب الشيخ والسامع ". 9 - ثم وضع القاضي عياض المتوفى (544 هـ) كتاب " الإلماع ". 10 - ثم وضع الشيخ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح كتابه المشهور باسم " مقدمة ابن الصلاح " (مات سنة 643 هـ). ¬

_ (¬1) ولد البخاري 194 هـ وتلقى الناس عنه قبل أنْ يبلغ الثامنة عشر عَامًا.

بداية علم المصطلح:

11 - ثم شاع هذا العلم على يد العراقي والسخاوي والنووي والسيوطي وابن كثير وابن حجر والزركشي وغيرهم. بِدَايَةُ عِلْمِ المُصْطَلَحِ: ولا يخفى أنه وإنْ كان هذا العلم لم يكتب مستقلاً إلاَّ في عصر الإما المديني شيخ البخاري. 1 - إلاَّ أنَّ من الفقهاء من تناوله في كتب الفقه وأصوله، من ذلك الإمام أبو حنيفة المتوفى سنة (150 هـ) حيث تضمَّن فقهه قواعد التشدُّد في قبول الأخبر ولا سيما أحاديث الآحاد إنْ خالفت عموم القرآن أو السُنَّة المشهورة كما هو منقول عنه في غير هذا المبحث. 2 - وأيضاً الإمام مالك بن أنس المتوفى سنة (179 هـ) قد وضع كتابه " الموطأ " وهو من كتب السُنَّة ومن العلماء من يقدِّمُهُ على " البخاري " و " مسلم " لمكانة الإمام مالك، ولشدَّته في التمحيص ومنهم من ساوى بينهم، ولكن جمهور المحدثين على أنَّ كتاب " الموطأ " دونهما و" البخاري " و " مسلم " في المقدمة. 3 - وأيضاً الإمام الشافعي المتوفى سنة (204 هـ) فقد تناول ذلك في كتابه " الرسالة ". إنَّ هذا العرض الموجز جداً يُبيِّنُ أنَّ الأحاديث ليست كما يتصوَّرُ المعترضون على السُنَّة النبوية، أو كما يريد بعضنا من الشهرة بنقد الأحاديث بغير علم بأصول النقد ورجاله، أو كما يتصوَّرُ من كانت ثقافته أجنبية عن السُنَّة النبوية، فيستسيغ ردَّ بعض الأحاديث التي لا تتفق مع الأفكار الغربية أو الشرقية دون أدنى جهد وبحث في هذه العلوم للوصول إلى الحقيقة.

13 - رد السنة بين السند والمتن:

13 - رَدُّ السُنَّةِ بَيْنَ السَّنَدِ وَالمَتْنِ: ولقد تأثَّر الأخ الصديق الأستاذ محمد عبد الله السمان بهذا التيار، فكتب «إنَّ مشكلة الأحاديث ما زالت مُعَقَّدَةً لم تحل بعد، ولم يتوفَّر العلماء المخلصون لعلاجها وتصفيتها. ألوف المصنَّفات الدينية القديمة محشوٌّ بالأحاديث المنسوبة إلى رسول الله دون أنْ يتكرَّم واضعوها بالإشارة إلى روايتها، ودون أنْ يتصدَّى العلماء من بعدهم لتخريجها وتصنيفها .. . كثيراً ما تشاهد تناقضاً في أحاديث الرسول الصحيحة المعتمدة تناقضاً في الشكل والجوهر» (¬1). ومن الأمثلة التي ذكرها قوله: ما رواه أحمد وغيره أنَّ الرسول قال لعائشة حين سألته عن أولاد المشركين «هُمْ تَبَعٌ لآبَائِهِمْ» ويروي الطبراني أنَّ الرسول قال: «هُمْ خَدَمُ أَهْلِ الجَنَّةِ» ويرى الصديق أنَّ هذا من التناقضات التي ذكر أنها كثيرة، دون أنْ يُفَصِّلَهَا ودون أنْ يذكر أسماء الكتب والمُصنَّفات المحشوَّة بالأحاديث المنسوبة إلى الرسول، واكتفى بأنها آلاف ... ؟ وكان الأجدر به وهو الغيور على الإسلام المدافع عنه والمُمْتحن من أجله عدة سنوات أنْ يُبَيِّنَ هذه الكتب إنْ وجدت حقاً، حتى لا يرتاب أحد في المراجع الإسلامية كلها، وأيضاً كان عليه أنْ يتصدَّى للبحث والتخريج لها ولما يعتقده من تناقضات في بعض الأحاديث النبوية، أما أنْ يطلب من غيره ¬

_ (¬1) نقلاً عن كتابه " محمد الرسول البشير ": ص 14 و 47.

أطفال المشركين:

أن بحث في كتب لم يُبَيِّنْهاوتناقضات لا يؤمن بها فذلك غير مقبول، وهو علَّةُ العلل في عصرنا إذ يكتفي كل منا بتوجيه النقد اللاذع دون أنْ يدرك أنه مسؤول أيضاً مثل غيره، تماماً إنْ لم تكن مسؤوليته أشد لأنه علم ما لم يعلم غيره وأقدر عن غير العالم. أَطْفَالُ المُشْرِكِينَ: إنَّ أدنى مراجعة لبعض كتب السُنَّة بشأن أطفال المشركين نجد قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هُمْ تَبَعٌ لآبَائِهِمْ» أو «هُمْ مِنْهُمْ» (¬1) ورد جواباً على سؤال عن هؤلاء الأطفال عند القتال، وقد نهى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النساء والصبيان (¬2) وكان جوابه: «هُمْ تَبَعٌ لآبَائِهِمْ»، أي لا يمكن وقف القتال لوجود أطفال بين المشركين، أما بعد انتهاء المعركة فقد روى أحمد والنسائي أنَّ النبي قال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَاوَلُونَ الذُّرِّيَّةَ؟»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا هُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «إنَّ خِيَارَكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ، أَلاَ إِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَة تُولَدُ إِلاَّ وُلِدَتْ عَلَى الْفِطْرَةِ فَمَا تَزَالُ عَلَيْهَا حَتَى يُبَيِّنُ عَنْهَا لِسَانُهَا» وفي هذا روى مسلم الحديث القدْسيَّ: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ» (*) كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وقال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» (¬3) ولهذا فما قيل عن التعارض هنا ليس صحيحاً (¬4). ¬

_ (¬1) و (¬2) الحديثان في " صحيح مسلم " كتاب الجهاد. (¬3) رواه " البخاري " في باب الجنائز، و " مسلم " في باب القدر وأحمد في " مسنده ": ج 3 ص 435. (¬4) قاله عبد الجليل عيسى في " اجتهاد الرسول ": ص 81. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) لم ترد كلمة (مسلمين) في " صحيح مسلم "، انظر الحديث رقم 2865، 4/ 2197 وإنما هي من شرح محمد فؤاد عبد الباقي.

14 - متن الحديث ومشكلة الوضع:

14 - مَتْنُ الحَدِيثِ وَمُشْكِلَةُ الوَضْعِ: إنَّ الأحاديث النبوية ليست مشكلة، فقد تخصَّص العلماء الأقدمون في تتبع رُواة الأحاديث حتى صنَّفُوا الرواية إلى صحيح وحسن وضعيف وموضوع. والحديث الموضوع هو المختلق والمنسوب كذباً إلى رسول الله، وتحرم روايته إلاَّ إذا كان الغرض هو التحذير منه. ومن ظنَّ أنه إنْ كان في باب القصص والمواعظ فلا حرج من التساهل فقد ضلَّ وأضلَّ، لأنه من المتواتر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». أمَّا كيف تعرف الصحيح من الموضوع، فتلك صناعة النُقَّادِ في علم الحديث، فيجب الرجوع إلى كتبهم مثل كتاب " الموضوعات من الأحاديث الموفوعات " للحسين بن إبراهيم الهمذاني المتوفى سنة (543 هـ)، وكتاب " الضعفاء " لابن حِبَّان، ومثله للعقيلي والأزدي، وكتاب " الموضوعات " للحافظ عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة (597 هـ) ويضمُّ كثيراً من الأحاديث الموضوعة في كتاب كبير من مجلدين. وكل ما علينا اليوم من بحث هو أنْ نرجع إلى ما كتبه هؤلاء العلماء الذين وهبوا أنفسهم لخدمة السُنَّة فطهَّرُوها من محاولات التحريف التي قام بها أعداء الإسلام وهذا مُوَضَّحٌ بأخر الفصل. عَلاَمَاتُ الوَضْعِ: وعلامات الحديث الموضوع كما اشار إليها هؤلاء العلماء هي: أولاً: الإقرار وهو سَيِّدُ الأدلَّة، ومثاله ما أقرَّ به ميسرة بن عبسة الفارسي أنه وضع أحاديث في فضائل القرآن، وسبعين حديثاً في فضائل أحد الصحابة، وكما أقرَّ أبو عِصْمَةَ نوح بن أبي مريم المُلَقَّبْ بنوح الجامع،

أنه نسب إلى ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، أحاديث في فضائل القرآن سورة سورة. ثانيًا: ما ينزل منزلة الإقرار من القرائن في الراوي والمروي، ومثاله ما أسنده الحاكم عن سيف بن عمر التميمي قال: كنت عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكُتَّاب يبكي، وقال: ضربني المُعلّمُ، فقال [سعد]: لأُخْزِيَنَّهُم اليوم، حدّثني عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً: «مُعَلِّمُو صبيانك شراركم، أقلهم رحمة لليتيم وأغلظهم على المساكين»، فهذا الراوي الكذَّاب مُتَّهَمٌ بالزندقة وأسقط العلماء رواياته. ثالثًا: كما يعرف الكذب بمعارضة الحديث المروي للمعقول والمعلوم من خصائص النبوَّةِ، ومثال ذلك ما رواهُ ابن الجوزي عن طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن جده مرفوعاً بلفظ «إنَّ سفينة نوح طافت بالبيت سبعاً وصَلَتْ عند المقام ركعتين». ومثاله أيضاً ما رُويَِ أنَّ جعفر بن أبي طالب أهدى إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفارج، فأعطى أصحابه واحدة واحدة وأعطى معاوية ثلاثاً وقال: «ألقني بهِنَّ في الجنة». فالوضع في هذا الحديث يتَّضح لمعارضته للحقائق التالية: أنَّ جعفر استشهد في غزوة مؤتة في جمادى الآخرة سَنَةَ ثمان من الهجرة، ومعاوية أسلم بعد ذلك في رمضان من تلك السَنَةِ فلا تعاصر بينهما في عصر الإسلام كما أنَّ معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ليس من المُبَشَّرين بالجنة. رابعًا: أنْ يكون الحديث المروي مُعارضاً لدلالة الكتاب والسُنَّة المشهورة واستحال الجمع بينهما ومثال ذلك، ما رُوِيَ عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين أنهما صَلَّيَا في مسجد الرصافة، فقام قاَصٌّ فقال: حدَّثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قالا: حدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلاَّ الله، خلق الله من كل

كلمة طيراً، منقارهُ من ذهب، وريشه من مرجان»، وأخذ القاص يروي كلاماً نحو من عشرين ورقة. فلما فرغ من قصصه قال له يحيى بن معين مشيراً بيده، فحضر مُتَوَهِّماً عطاء سيأخذه - فقال له يحيى: من حدَّثَكَ بهذا الحديث؟ قال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين - فقال: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد، ما سمعتُ بهذا قط في حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الرجل: لم أزل أسمع أنَّ يحيى بن معين أحمق، ما تَحَقَّقْتُ هذا إلاَّ الساعة، كأنْ ليس فيها أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما. خامساً: ركاكة اللفظ والمعنى كحديث «الهَرِيسَةُ تَشُدُّ الظَهْرَ» (" المنار " لابن القيم الجوزية: ص 25). سادساً: تناقض المعنى مثل «الْبَاذِنْجَانُ لِمَا أُكِلَ لَهُ» و «الْبَاذِنْجَانُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» و «لَوْ كَانَ الأَرُزُّ رَجُلا لَكَانَ حَلِيمًا» (" المنار " لابن القيم: ص 19، 20). سابعاً: مخالفة صريح القرآن والسُنَّة الصحيحة مثل «مقدار الدنيا أنها سبعة آلاف سَنَةٍ» (" توضيح الأفكار ": جـ 2 ص 96). ثامناً: مخالفة الوقائع التاريخية: من ذلك ما رُويَ عن أبي وائل قال: «خرج علينا ابن مسعود بصِفِّين» لذلك قال أبو نعيم أتراه بُعِثَ بعد الموت، فإنَّ ابن مسعود توفي قبل صِفِّين سَنَةَ (32 هـ) (¬1). ومثل حديث: «وضع الجزية عن أهل خيبر، ففيه شهادة سعد بن معاذ الذي توفي قبل ذلك في غزوة الخندق، كما أنَّ الجزية لم تكن ¬

_ (¬1) " صحيح مسلم بشرح النووي ": جـ 1 ص 117.

15 - مدى التوقف في متن الحديث وطرق التخريج:

قد فرضت، حيث وضعها النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نصارى نجران ويهود اليمن بعد غزوة تبوك» (¬1). تاسعاً: اشتمال الحديث على سخافات: مثل حديث «من اتَّخذ ديكاً أبيض لم يقربه شيطان ولا سِحْرٌ» (¬2) وحديث «ثَلاثَةٌ تُزِيدُ فِي البَصَرِ: النَّظَرُ إِلَى الخُضْرَةِ، وَالمَاءِ الجَارِي، وَالوَجْهِ الْحَسَنِ» (¬3) وحديث «النَّظَرُ إِلَى الوَجْهِ الجَمِيلِ عِبَادَةٌ» (¬4) وأيضاً حديث «عوج بن عنق ففيه (¬5) أنَّ طوله كان ثلاثة ألاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلث، وفيه أنَّ نبي الله نوح - خاف من الغرق وقال لعون بن عنق احملني في قصعتك وأنَّ الطوفان لم يصل إلى كعبه». 15 - مَدَى التَّوَقُّفُ فِي مَتْنِ الحَدِيثِ وَطُرُقِ التَّخْرِيجِ: إنَّ الأصل والقاعدة عند أهل العلم بالسُنَّة أنه إذا كان رُواة الحديث من الثقات وسلموا من الطعن والشك في روايتهم فقد اعتبر الحديث صحيحاً، أي صادراً عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى لو خالف متنُهُ أي موضوعه أحاديث أخرى صحيحة. ولكن بعض العلماء يشترط لقبول الحديث أنْ يكون مَتْنُهُ مُوافقاً لسائر الأحاديث في هذا الموضوع ويُعَبِّرُون عن ذلك بشرط خلو الحديث من الشذوذ والعلَّة. ¬

_ (¬1) " المنار ": ص 37، 38 وقد أورد ابن القيم عشر قرائن تُكَذِّبُ الرواية. (¬2) و (¬3) و (¬4) و (¬5) " المنار ": ص 21 و 24 و 29.

وإذا كان هذا مقبولاً في فترة جمع السُنَّة وتصفيتها بحيث يكون مثل هذا الشذوذ في المعنى سبباً لإعادة البحث في أحوال الرُواة، والتأكد من صِحَّة الحديث. فلا يجوز في عصرنا أنْ نجلس على الأرائك ونتغنَّى برَدِّ الحديث لأنَّ متنه يُعَدُّ شاذاً في نظرنا عن غيره، لأنَّ الذين جمعوا السُنَّة وتخصَّصُوا فيها قد بيَّنُوا لنا كل ذلك، وكان لديهم من العلم والملكات ما يؤهِّلُهُم لهذه المُهِمَّة، وكانوا يأخذون بذلك فترة الجمع والتمحيص. قال ابن دقيق العيد: «وكثيراً ما يحكمون بذلك - أي بالوضع - باعتبار يرجع إلى المَرْوِيِّ وألفاظ الحديث وحاصله أنها حصلت لهم - بكثرة محاولة ألفاظ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هيئة نفسية وملكة يعرفون بها ما يجوز أنْ يكون من ألفاظه وما لا يجوز» (¬1). لهذا يرى السَّلَفِيُون وغيرهم أنَّ مخالفة الحديث لغيره من الأحاديث ليس شذوذاً ولا عِلَّةً تقدح في صِحَّتِهِ لأنَّ زيادة الثقات هي حكم جديد يجب العمل به، فإنْ تعارضت الزيادة مع حديث آخر صحيح فوجب الترجيح بين الروايتين كأنْ تكون ناسخة لغيرها إنْ تساوت معها في الزمن أو تأخَّرت عنها، ولا يجوز أنْ يقال إنَّ هذا حديث صحيح قد رواه الثقات، ولكن نَرُدَّهُ لأنَّ موضوعه يخالف العقل أو يخالف حديثاً آخر. غير أنَّ اتصال السند وعدالة الرُواة لم يمنعا علماء الحديث من البحث في السند والمتن إنْ كانت به عِلَّةٌ قادحة ٌ، مثال ذلك حديث أبي هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثاً، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» (¬2). ففي رواية لهذا الحديث نجد زيادة نَصُّهَا: «ثُمَّ لِيَغْتَرِفْ بِيَمِينِهِ مِنْ إِنَائِهِ، ثُمَّ لِيَصُبَّ عَلَى شِمَالِهِ فَلْيَغْسِلْ مَقْعَدَتَهُ». ¬

_ (¬1) " توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار " للقاضي محمد بن إسماعيل الأمير: جـ 2 ص 94. (¬2) رواه الجماعة ولم يذكر البخاري العدد، " نيل الأوطار " للشوكاني: جـ 1 ص 169. لأنه لم يصح في عصر الصحابة.

[زيادة الثقات والإدراج]:

[زِيَادَةُ الثِّقَاتِ وَالإِدْرَاجِ]: (*) فهذه الزيادة في المتن رواها الثقات ولكن العلماء النُقَّاد لما وجدوا أنَّ هذه الزيادة ليست هي المحفوظة بحثوا في المتن والسند وانتهوا إلى أنها من كلام الراوي إبراهيم بن طهمان (¬1) حيث كان يصل شرحه بالحديث فلا يُمَيِّزُهُ المُسْتَمِعُ، فيظنُّ أنه من الحديث وقد يرويه بهذه الزيادة وهذا يُسَمَّى الإدراج. ومثل حديث: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَدْ أَدْرَكَ» فهو عن الزُهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه قال أبو حاتم الرازي: «هذا خطأ المتن والإسناد». والإسناد هو الزُهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَلاَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا» (¬2). رواه الدارقطني والعقيلي وأخرجه ابن خزيمة عن أبي هريرة عن النبي بلفظ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الإمَامُ صُلْبَهُ» (¬3). ومثل حديث: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِساً كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ». فقد روى الحاكم النيسابوري أنَّ الإمام مسلماً جاء إلى البخاري وسأله عنه فقال: هذا حديث مليح إلاَّ أنه معلول، فهو عن عون بن عبد الله، أي موقوف عليه وليس من قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬4) لذلك يوجد عليم (علل الحديث) ولا يبحث في الصِحَّة والضعف والجرح والتعديل، - إنما قال الحاكم النيسابوري - يبحث في «أوجه ليس للجرح فيها مدخل فإنَّ حديث المجروح ساقط، وعِلَّة الحديث يكثر في آحاديث الثقات أنْ يُحَدِّثُوا بحديث له عِلَّةٌ فيخفى عليهم علمه» (¬5). ¬

_ (¬1) و (¬2) " علل الحديث " لابن أبي حاتم الرازي: جـ 1 ص 65 وص 172. (¬3) " نيل الأوطار " للإمام محمد بن علي الشوكاني: جـ 2 ص 240. باب قراءة المأموم. (¬4) " أصول الحديث " للدكتور محمد عجاج الخطيب: ص 294. (¬5) " معرفة علوم الحديث ": ص 112. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) أورد المؤلف هذا العنوان في (محتويات الكتاب): ص 366.

طرق التخريج:

وقال ابن الصلاح: إنَّ معرفة علل الحديث من أجل علوم الحديث وأدقِّها وأشرفها، وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب (¬1). طُرُقُ التَّخْرِيجِ: وخلاصة القول في ذلك أنه إذا وجد الباحث أنَّ متن الحديث فيه ركاكة في اللفظ أو فساد في المعنى أو يخالف صريح القرآن في حدود علمه فإنَّ الواجب عليه أنْ يقوم بتخريج الحديث والوقوف على درجته من حيث الصحة والضعف، ويمكنه التخريج بالطرق الآتية: [1] التخريج عن طريق الصحابي: إذا كان اسم الصحابي الذي روى الحديث مذكوراً فيمكن تخريجه عن طريق: أ - المسانيد: وهي الكتب المُصَنَّفَةُ بأسماء الصحابة كـ " مسند أحمد ". ب - المعاجم: وهي تُرَتِّبُ الأحاديث بأسماء الصحابة كـ " المعجم الكبير " للطبراني، و " معجم الصحابة " للموصلي أو الهمداني أو كـ " الأوسط " للطبراني. ج - كتب الأطراف وهي تقتصر على طرق من الحديث، ومنها ما هو مرتَّبٌ على مسانيد الصحابة أو مُرَتَّبَةٌ على الحروف طِبْقاً لأول المتن. [2] التخريج عن طريق ألفاظ المتون: فهذه الكتب تُصَنِّفُ الحديث بأول كلمة من المتن مثل كتاب " الجامع الصغير " للسيوطي، ولهذه الطريقة وضع بعض العلماء فهارس ومفاتح لبعض كتب الحديث. [3] التخريج عن طريق موضوع الحديث: وهذه تشمل المُصَنَّفات الحديثة المرتبة على الأبواب والموضوعات، كالجوامع والمستدركات والسُنن والموطآت. ¬

_ (¬1) " مقدمة ابن الصلاح " (" علوم الحديث ")، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري: ص 34.

[4] التخريج عن طريق ألفاظ الحديث: وهذه الطريقة اتّبعها المستشرقون الذين وضعوا " المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي " الذي شمل تسعاً من كتب السُنَّة فيجب الرجوع إليها. [5] التخريج عن طريق المتن: إذا كانت علامات الركاكة والوضع في متن الحديث ظاهرة فيرجع إلى كتب الموضوعات، ومنها ما هو مُرَتَّبٌ على الحروف مثل كتاب " المصنوع في معرفة الحديث الموضوع " ويُسمَّى " الموضوعات الصُغرى " للشيخ علي القاري الهروي ومنها المُرَتَّبُ على الأبواب مثل كتاب " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة " لأبي الحسن علي الكتاني (¬1) والحكم على المتن يختص به كبار أئمة علماء الحديث فمن الجراءة والسخافة أنْ يدَّعي ذلك كل من كتب أو صنَّف. [6] التخريج عن طريق السند: ويكون ذلك بدراسة سلسلة الإسناد بالرجوع إلى ترجمة كل منهم ومعرفة أحوال الرُواة ومدى قبولهم ومدى الاتصال أو الانقطاع والاطلاع على رأي أئمة الجرح والتعديل في هذا الشأن (¬2). وقد وضع علماء الحديث كثيراً من المُصنَّفَات عن الرجال أشهر أنواعها في معرفة الصحابة، وفي الطبقات، وفي رُواة الحديث، وفي رجال كتب مخصوصة، وفي الثقات وفي الضُعفاء، وفي رجال بعض البلدان وفي مُصنَّفات مُرَتَّبة على الحروف. هذا والأحاديث التي بحث الأئمة الثقات أسانيدها وبيَّنُوا مراتبها من الصِحَّة والضعف فيمكن الاكتفاء بحكمهم ما لم يكن أحدهم مشهوراً بالتساهل في حكمه لأنَّ التخريج عن طريق السند ليس باباً مفتوحاً على مصراعيه لكل من أراد ¬

_ (¬1) و (¬2) يراجع البند السابق عن المتن ومشكلة الوضع وكتاب " أصول التخريج ودراسة الأسانيد " للدكتور محمود الطحان: ص 148 وص 156.

الفصل الثالث: السنة والفتنة الكبرى:

الفَصْلُ الثَّالِثِ: السُنَّةُ وَالفِتْنَةُ الكُبْرَى: أدب الخلافة والعصمة الجديدة. الحديث بين السُنَّة والشيعة والخوارج. حوار حول العصمة وحديث الغدير. أقوال الأئمة والسُنَّة. حقائق عن السُنَّة والعصمة. مصدر الأئمة في تبليغ الأحكام والحقيقة الغائبة.

16 - السنة والفتنة الكبرى:

16 - السُنَّةُ وَالفِتْنَةُ الكُبْرَى: لقد كان من آثار الفتنة التي ظهرت بين المسلمين أنْ نازع الصحابي معاوية (بصفته أمير الشام)، وخرج على الإمام عليٍّ مُتَّهِماً إياه بالتهاون في معاقبة قَتَلَةِ أمير المؤمنين عثمان، وكان الإمام عليٌّ قد آثر التروي وعدم الأخذ بالشُبهات عملا بقواعد الإسلام وأصوله. ونتج عن الحرب التي وقعت بين الإمام عليٍّ والفئة التي وقفت مع معاوية أنْ انشق على الإمام علي طائفة حاربته وسُمِّيتْ بالخوارج لأنهم خرجوا عليه عندما قبل التحكيم بينه وبين معاوية. كما ترتَّب على هذا أنْ اشتدَّتْ طائفة في مناصرتها للإمام عليٍّ وتشيَّعتْ له وعرفت باسم الشيعة. وكان لهذا ولهذه الفتنة أثر بالنسبة للسُنَّة النبوية، إذا أنها لم تُدَوَّنْ في عصر النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في كتاب واحد يجمع عليه المسلمون كما هو الشأن في القرآن الكريم، وهذا الأثر ينحصر فقط في المصدر الذي تؤخذ منه السُنَّة النبوية، ففي الوقت الذي حدثت فيه الفتنة كانت السُنَّة محفوظة ورُواتها محل ثقة، ولكن بسبب الفتنة وجدنا أنَّ الخوارج قد رَدُّوا الأحاديث النبوية التي رُوِيَتْ من غير أئمتهم ظناً منهم أنَّ جمهور صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين قبلوا التحكيم بعد انتصار الإمام عليٍّ لا يكونون محلَّ ثقة في تلقي الحديث

النبوي عنهم. كما وجدنا أنَّ الشيعة - فيما عدا الزيدية - أكثرهم يرُدُّون الحديث النبوية المرويَّ عن غير أئمتهم، لأنَّ عقيدتهم أنَّ من بايع أبا بكر وعمر وعثمان يكون قد خان وصيَّةَ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باستخلاف الإمام عليٍّ من بعده، وهذه غير ثابتة عند أهل السُنَّة، وأيضاً أهل السُنَّة منهم من يتوقَّفُ في أخذ الأحاديث النبوية من مصادر الشيعة. هذه الحواجز يجب أنْ تزول وأنّْ تُراجع الأحاديث في جميع هذه المصادر، لأنَّ من رحمة الله بالأمَّة، أنَّ الذين رَوَوْا السُنَّة من الصحابة كثيرون حتى وجدنا أكثرها عند جميع الطوائف الإسلامية. والقول إنَّ الله تعالى أوصى أنْ يتولَّى الإمام (عليٌّ) أمر المسلمين من بعده (¬1) ولكن النبي لم يُبَلِّغْ ذلك خشية أنْ يقال أنه آثر ابن عمه، فنزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]، هذا القول محل نظر لقصره السُنَّة على آل البيت. بينما سياق الآيات القرآنية يُرَجِّحُ المعنى الآخر الذي أورده (أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي والشيعي)، والمُلَقَّبْ بشيخ الطائفة، إذ أورد المعنى السابق ثم قال: قلنا قال ابن عباس: معناه إنْ كتَمْتَ آية مِمَّا أنزل إليك فما بلَّغْتَ رسالته (¬2)، وبيان ذلك تجده بعنوان حديث غدير خُمْ. ¬

_ (¬1) جاء في كتاب " عقيدة الشيعة الإمامية " للسيد هاشم معروف وكتاب " أصل الشيعة وأصولها " لكاشف الغطاء: ص 107 أنَّ قول الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] نزل عندما تخوَّفَ النبي في إظهار أمر الله بتولية الإمام عليٍّ بعد النبي ولكن بعد نزول الآية أمر بذلك يوم غدير خُمْ وهو مكان مَرَّ به الرسول عند عودته من حَجَّّةِ الوداع، وتروي بعض كتب الشيعة أنَّ النبي أوصى هناك بخلافة الإمام عليٍّ له. وأهل السُنَّة لم يثبت هذا لديهم لأنه لم يَصِحَّ في عصر الصحابة. (¬2) " تفسير البيان " لشيخ الطائفة الطوسي: جـ 3 ص 588.

وقوله له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، معناه يمنعك أنْ ينالوك بسوء فعل أو شر أو قهر. كما أنَّ الآيات السابقة واللاحقة خاصة بأهل الكتاب من اليهود والنصارى ولهذا قال الشهيد سَيِّدْ قُطْبْ: «يبدو من السياق قبل هذا النداء وبعده أنَّ المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هُمْ عليه وبحقيقة صفتهم التي يستحقُّونهاعما هم عليه ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء» (¬1). إنَّ وصيَّة الرسول بخلافة عليٍّ، كما يرى الشيعة، يجب أنْ تزول آثاره، فإنها تنحصر في أمر لا يؤثِّرُ على السُنَّة النبوية، وقد زال سبب الخلاف حول أحقية الإمام عليٍّ بالخلافة بعد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأولى بكل مسلم أن يأخذ كل ما ورد عن النبي، لأنَّ الذين رَوَوْا السُنَّة إنما نقلوها قبل وفاته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا مجال للزيادة أو النقص فيها، ولا يجوز رَدَّ رواية بعض الصحابة لمُجرَّدِ أنهم ليسوا من أهل البيت أو لم يكونوا من أئمة الخوارج، لسبب جوهري هو أنه قد جاءت صفاتهم في القرآن الكريم الذي يؤمن به أهل السُنَّة والشيعة والخوارج، وهو مصحف عثمان الموجود بين أيدينا جميعاً، لقد قال الله عن صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، والآية لم تُفرِّق بين الصحابة الذين حضروا بيعة الرضوان قبل فتح مكة، وهؤلاء جُلُّ الذين رويت عنهم الأحاديث النبوية. فالذين رضي الله عنهم لا ينبغي لمسلم أنْ يطعن فيهم، أو يَرُدَّ روايتهم عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو رواية بعضهم، لأنهم ليسوا من أهل البيت أو من أئمة الخوارج أو لأنهم مُتَشَيِّعُونَ لأهل البيت أو كانوا مع الخوارج. فالواجب على المسلمين أنْ يَقْبَلُوا ¬

_ (¬1) " في ضلال القرآن ": جـ 2 ص 806.

بين السنة والشيعة:

روايات الصحابة دون تفرقة بين أحد منهم بسبب القرابة أو اجتهادهم ومواقفه من الخلافات. بَيْنَ السُنَّةِ وَالشِّيعَةِ: إنَّ أعظم فتنة أصابت المسلمين هي انقسامهم إلى سُنَّةٍ وَشِيعَةٍ، ولكن هذا الانقسام لا يترتَّبُ عليه قطع أواصر الأخُوَّة والمودة بين الطائفتين، ولا يترتب عليه اختلافهم في مصدر التشريع وهو القرآن الكريم والسُنَّة النبوية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولم تكن الشيعة التي كانت مع عليٍّ، يظهر منها تنَقُّصٌ لأبي بكر وعمر، ولا فيها من يُقَدِّمُ عَلِيًّا على أبي بكر وعمر ولا كان سَبُّ عثمانَ شائعاً فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرُدُّ عليه آخر». وقال كذلك: «الشيعة المتقدِّمُون كانوا يُرَجِّحُون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من إثبات الصفات والقدرة والشفاعة ونحو ذلك» (" مجموع الفتاوى ": المجلد 4 ص 112 و 436). ولكن في العصور المتأخِّرة اتسعت رقعة الخلاف بين الطائفتين متى وجدنا من أهل السُُنَّة من يرمي الشيعة بالكفر لاعتقادهم بعصمة الأئمة ولوجود رواية في كتاب " الكافي في الأصول " للكُلَيْنِي عن مصحف فاطمة، ووجدنا من الشيعة من يرمي أهل السُنَّة بالكفر لإنكارهم عصمة الأئمة عند الشيعة وهي من المعلوم من الدين بالضرورة عندهم. ولقد ظل هذا الجدار من عدم الثقة قائماً حتى توالت النكبات على بلاد المسلمين في فلسطين وغيرها، وتحالف الغرب والشرق ضِدَّهُمْ وخضعت لذلك حكومات واصلت الحرب على دُعاة الإسلام من الطائفتين، مِمَّا أدَّى إلى وجود تيار يدعو إلى التقريب بين الطائفتين ليتعاونوا فيما اتَّفقُوا عليه لا للتنازل كل طائفة عن بعض معتقداتها، بل ليتنازل كل منهما عن الخطأ والفتنة، وذلك بالاحتكام إلى القرآن وعمل الصحابة قبل الحروب.

هذا التقريب وصفه نفر من أهل السُنَّة بأنه يخدم الصهيونية والاستعمار، بينما كان رَدُّ أحد الشيعة هو «أنَّ المشاكل التي نعانيها لا تتصل في واقعاه بقضية التشيع والتسنُّن من قريب أو بعيد، بل إنَّ الحديث عن هذه القضية والاهتمام بها يزيد المشاكل تعقيداً، ويجعلها مستحيلة أو عسيرة الحل وهذا ما يريده لنا المستعمرون والصهاينة أعداء الدين والوطن أنهم يريدون أنْ نتلهَّى بالمشاحنات والنعرات الطائفية». ثم وصف الكتب والنشرات التي تصف الشيعة بالكفر بقوله: «لقد دأب هذا الجهاز في تأليفه ونشراته على مهاجمة الشيعة وتصويرهم كطائفة ملحدة مجرمة تكيد للإسلام والمسلمين، والغرض الأول هو تنفيذ الخطوط العريضة التي رسمها الاستعمار لإيقاظ الفتنة وإشاعة الفرقة بين المسلمين» (¬1). هذه النشرات تستند إلى روايات في كتب الحديث النبوي عند الشيعة تفيد أنَّ لهم مصحفاً آخر يُسَمَّى " مصحف فاطمة "، وتفيد عصمة أئمتهم بمعنى أخذ ما يصدر عنهم من قول أو فعل أو تقرير على أنه رواية عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولما كانت هذه الروايات غير صحيحة أو محل نظر حسبما دلت عليه مراجع للشيعة، فوجب وقف المعركة لأنَّ الحد الأدنى من الإيمان بين أهل القبلة هو ما جاء في قول الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]. فإذا لم ينشرح صدر غُلاة السُنَّة والشيعة لما تضمَّنه هذا الكتاب من تصحيح الروايات والمفاهيم أسوة بمنهج شيخ الإسلام ابن تيمية فلا أَقَلَّ من أنْ يتمسَّكُوا عن إثارة الفتنة لأنهم جميعاً طوعاً أو كرهاً أمام عَدُوٍّ مشترك، وفي هذا قال الإمام حسن البنا في " رسالة المؤتمر الخامس ": «من فروع النظرة الشمولية للإسلام اعتبار المسلمين كلهم على ما بينهم من اختلاف كياناً واحداً فرقته أحداث الزمان، وفرض على المسلمين بعث الكيان الدولي للإسلام». ¬

_ (¬1) " الشيعة في الميزان " - محمد جواد مغنية: ص 10.

17 - أدب الخلاف والعصمة الجديدة:

وفي هذا يقول الدكتور الشيخ سليمان دنيا في كتابه " الشيعة وأهل السُنَّة " نقلاً عن الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتابه " أصل الشيعة وأصولها " ص 134: «إنَّ الجماعات الإسلامية بين السُنَّة لا تختلف في الاعتقاد بالله ونبوَّة محمد وأنه خاتم الرسل وفرضية الصلاة والصوم والحج والتصديق بالمعاد، ما دام ذلك وما دامت القبلة واحدة والقرآن في مكانة القداسة من الجميع فإنه لا يعتدُّ بالخلافات الأخرى» كما ينقل عن كاشف الغطاء «أنه إذا اقتصر المعتقد على التوحيد والنبوَّة والمعاد والعمل بالفرائض ولم يعتقد بالأئمة وعصمتهم، تجري عليه جميع أحكام الإسلام». وهذه الاتجاهات تمثِّلُ عناصر التقريب بين المسلمين وهو ما قال عنه الإمام آية الله الخميني: «إننا نريد أن نحكم بالإسلام كما نزل على محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا فرق عندنا بين سُنَّة وشيعة لأنَّ هذه المذاهب لم تكن في زمن الرسول» (¬1). غير أنَّ هذا لم يطبَّق وساد الاتجاه المذهبي. 17 - أَدَبُ الخِلاَفِ وَالعِصْمَةِ الجَدِيدَةِ: لقد ظهر كتاب " السُنَّة المفترى عليها " لكشف الشُبُهات الحديثة التي صُوِّبَتْ نحو السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، ووقف منها المختصون موقف المتفرِّج. ولهذا لم يتعقَّب الكتاب مواطن الخلاف بين الأفراد والجماعات ولم يفصل الرد على المخالفين، باعتبار أنَّ الأمور الخلافية هي أمور اجتهادية، ولا يوجد بين المجتهدين من خَوَّلَهُ الله تعالى خاصية الفصل فيها ولقد غاب هذا عن بعض الإخوة، وهم يؤمنون بانتفاء العصمة لأحد بعد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فغفلوا عن معركة الإسلام الرئيسية، وشرعوا في افتعال المعارك بين المسلمين، بأسلوب يتنافى مع آداب الإٍٍسلام وقيمه، ومنا ألاَّ يكون المسلم سَبَّاباً ولا لعَّاناً، والاَّ يعطي نفسه صفة الأحبار الذين يزعمون أنَّ قولهم هو الحق، وماذا بعده إلاَّ الضلال المبين. ولقد كان لهذا الكتاب وصاحبه نصيب من القذائ التي تؤدِّي إلى النزاع ¬

_ (¬1) " مجلة الإيمان " اللبنانية: السنة الأولى. العدد 5، و " المعرفة " التونسية: السنة الخامسة. العدد 4 في 1/ 4 / 1979، و" القبس " الكويتية في 23/ 7 / 1980.

غافلين قول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] .. ولقد حمل السيد / محمد سلامة جبر على المؤلف والناشر وطلب مصادرة الكتاب والحجر على صاحبه حتى بعد أنْ ثبت له بحضور من اختارهم هو أنَّ الأمور التي طلب تعديلها لظنه مخالفتها الإجماع، قد قال بها جمع لا يستهان بعلمهم وفقههم. لهذا فصل الكتاب كشف هذه الشبهات في مواضعها. كما سعى آخر إلى مصادرة الكتاب لأنه يدعو إلى التقريب بين السُنَّة والشيعة وهذه دعوة يهودية في ظنه القائم على أساس أنَّ الشيعة الجعفرية ليسوا من المسلمين، ولما نوقش فيما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الشأن والمشار إليه فيما بعد، جنح الأخ إلى أنَّ التقريب يعني تنازل كل فئة عن بعض معتقداتها، وقد تضمَّنت الطبعة الثانية إزالة هذه الشبهة، لأنًّ الأصول التي جعلها الكتاب مبادئ للتقريب تنفي هذا الظن بل تدعو إلى الأخذ بما ورد في القرآن الكريم وبالثابت من السُنَّة النبوية التي رواها الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وذلك قبل أنْ تنشأ المذاهب والفرق. كما أنَّ التقريب يغلق باب الفتنة التي من شأنها إشعال نار الحرب بين أهل السُنَّة والشيعة، وهذا ليس من صالح الطرفين بل هو الذي تسعى إليه الصهيونية العالمية وحلفاؤها. كما وجد الكتاب، حرباً أخرى من غلاة الشعية، فأمروا شبابهم بعد اقتنائه أو تصفُّحه، لأنه رجس من عمل الشيطان، حيث نقل عن علماء الشيعة ما يؤيِّدُ مذهب أهل السُنَّة، كما نقل عنهم تضعيفاً لعلماء الشيعة المخالفين لأهل السُنَّة. ولقد حاول أحد هؤلاء النقل عن الكتاب نقلاً تنقصه الأمانة فأثبت الأقوال والعبارات التي تدعو إلى التقريب، وأغفل بل وحذف ضوابط التقريب وأهمها: ما أكده الكتاب في المقدمة وفي هذا الفصل هو كفر من قال بتحريف شيء من القرآن الكريم أو قال إنَّ الأئمة لهم خاصية أو عصمة تخوِّلهم تخصيص عام القرآن أو تقييد مطلقه، أو نسخ أحكامه. أورد ذلك عز الدين إبراهيم في " السُنَّة والشيعة ". [الشِّيعَةُ وَمَذْهَبِ السَّلَفِ] لما كان ذلك وكان الأخ إحسان ظهير قد حمل على الكتاب ومؤلفه لأنه لم يأخذ

بأسلوبه عندما تناول الكتاب موضوع الشيعة والسُنَّة. وقد نسي بأنَّ الكتاب يتعلق بالأحاديث النبوية وضرورة الأخذ بها سواء كان رُواتها من أهل البيت أو من غيرهم من الصحابة، وقد استلزم هذا نزع سلاح التكفير الذي شهره الغُلاة من الفريقين، وبالتالي إبطال ما يقال عن تحريف القرآن الكريم وما يقال عن العصمة والبداء، والأستاذ إحسن إلهي ظهير قد جانبه الصواب فيما ظنه أنَّ هذا الفصل يكذبه فيما نقل من كتب الشيعة. وفيما قاله من وجوب رجوعي إليه قبل نشر أقوال الشيعة في كتابي لأتثبَّتَ من الموضوع. فجوهر الخطأ في ظنه بغير دليل أو شبهة دليل أنَّ الأقوال التي نشرتها عن الشيعة وضعت لتكذيبه بينما هي تكذب رُواتها وهم من الشيعة الذين يرى هو كفرهم. وعليه فجوهر الخلاف هنا ليس تكذيبي لما نقله عن المراجع الشيعية بل الخلاف في أنه قطع بكفر الشيعة الجعفرية وبالتالي قطع بجهل من يدعو إلى التقريب بينهم وبين أهل السُنَّة. والحكم بيننا وهؤلاء الأخوة هو مذهب السلف الذي لخَّصه إمام أهل السُنَّة أحمد بن حنبل ومن بعده الإمام ابن تيمية الذي نقل عن عبد الله بن المبارك أنَّ أصول البدع أربعة، الروافض (الشيعة) والخوارج والقدريَّة والمُرجئة، ثم يقول: «والأئمة لم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة ونحو ذلك ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع. وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة» (¬1). أما من قال بكفر من خالفهم وأنَّ الصحابة غيَّرُوا في الدين وبدَّلُوا فقد قال عنهم ابن تيمية: «إنهم أبعد عن الكتاب والسُنَّة» (¬2).وقال: «غلظت بدعتهم» (¬3) ولهذا عَدَّهُم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ضمن الطوائف الإسلامية حتى من اتَّصف منهم بالهوس والتعصُّب (¬4). ولم يقولوا بكفرهم. ومن قال إنَّ ابن تيمية كتب عن الروافض من الشيعة وهؤلاء لم يقولوا بالعصمة للأئمة، فهؤلاء نحيلهم على قول ابن تيمية «وأصل قول الرافضية إنَّ النبي نَصَّ على خلافة عَلِيٍّ نصاً قاطعاً للعذر وأنه إمام معصوم ومن خالفه كفر وأنَّ المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم واتَّبعوا أهواءهم وبدَّلوا الدين وغيَّروا الشريعة بل كفروا إلاَّ نفراً قليلاً منهم (¬5). ¬

_ (¬1) و (¬2) و (¬3) " مجموع الفتاوى ": ج 3 ص 350، 356، 408. (¬4) " العقيدة الطحاوية " شرح وتعليق الألباني: ص 57. (¬5) " مجموع الفتاوى ": ج 3 ص 356 وج 7 ص 354. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: خطأ في الطباعة إذ وقع وضع هذه الهوامش في الصفحة (95) بدلاً من هذه الصفحة (94).

18 - الحديث النبوي بين أهل السنة والشيعة والخوارج:

إنَّ الشيعة أصحاب هذه العقيدة يعدُّهم ابن تيمية ضمن الفرق الإسلامية إذ يقول: «سائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم يقولون إنَّ الشخص الواحد قد يعذِّبه الله بالنار ويدخله الجنة» (¬6). ولهذا تجنب الكتاب إصدار أحكام بكفر الشيعة الجعفرية ورفض ترديد هذه المقولة: ما رَدَّ بدعة تكفير أهل السُنَّة من جانب غُلاة الشيعة ورفع لواء التقريب سالف الذكر ولكن الغُلاة من الطرفين شنَّعُوا على هذا المنهج حسبما جاء في كتاب " بين الشيعة وأهل السُنَّة " للأستاذ إحسان إلهي ظهير. وكتاب " السُنَّة والشيعة " باسم عز الدين إبراهيم. وأمام إصرار الغُلاة على نبذ التقريب وعلى رفع سلاح التكفير نقلت هذا الحوار الأخوي إلى كتاب مستقل هو ضوابط التقريب، بفصوله الأربعة ليظل كتاب " السُنَّة المفترى عليها " لما نشر من أجله ولهذا يتناول هذا الفصل ما يتعلق بالحديث النبوي. 18 - الحَدِيثُ النَّبَوِيُّ بَيْنَ أَهْلِ السُنَّةِ وَالشِّيعَةِ وَالخَوَارِجِ: لقد كان المسلمون في عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحتى خلافة الإمام عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، لا يختلفون في أمر السُنَّة النبوية، ثم ظهرت الفتنة بعد خروج الصحابي معاوية ومن معه، واعتراضهم على الإمام عَلِيٍّ، بدعوى أنه تهاون في إقامة الحد على قتلة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَمِيعًا -. ¬

_ (¬6) " مجموع الفتاوى ": ج 3 ص 356 وج 7 ص 354.

ولقد أشعل المنافقون نار الفتنة فنشبت الحرب بين معاوية ومن معه وبين أهل السُنَّة والجماعة بقيادة خليفة للمسلمين الإمام عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وعندما قبل التحكيم حقناً للدماء خرجت عليه فرقة سُمِّيَتْ بالخوارج وحاربوه فكان رد الفعل أنْ ظهرت طائفة الشيعة وتغالت في حب الإمام عليٍّ، ورَدَّتْ الطائفتان الأحاديث النبوية التي رويت عن غير طريق أئمَّتهم، وانفردت الشيعة باعتبار أقوال أئمَّتهم وأفعالهم وتقريرهم أحاديث نبوية حتى ولو لم ترفع إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي أحاديث نبوية في ذاتها لعصمة الأئمة عندهم. لهذا أثبت هنا رسالة الشيخ الآصفي عن العصمة عندهم، يليها تحرير الخلاف حول حديث الغدير والعصمة والتكفير للمسلمين وكذلك نزاهة هؤلاء الأئمة من هذه البدعة ومن الربوبية. بيان الشيخ الآصفي عن العصمة وتبليغ الأحكام: (¬1) نعتقد نحن بعصمة الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلاَمُ - وعصمة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعصمة الأئمة من أهل بيته - عَلَيْهِمْ السَّلاَمُ -. والعصمة على قسمين: عصمة في السلوك تعصم صاحبها عن ارتكاب المعاصي والمحرَّمات، وعصمة في التبليغ تعصمه عن الكذب والسهو والخطأ في تبليغ أحكام الله تعالى وحدوده. والعصمة التي نعتقد بها في الأئمة من أهل البيت لا تزيد على هذين الأمرين (¬2). وبقدر ما يتعلَّق بالائمة من أهل البيت أذكر لكم بعض الأدلَّة التي يستدلُّ بها على عصمتهم من القرآن الكريم ومِمَّا صَحَّ من حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) " البيان ": 415. (¬2) نرجو أنْ يسود هذا المعنى لأنَّ المعلق في كتاب " الكافي ": ج 1 ص 369 يربط البداء بعصمة الأئمة وعلمهم الغيب فإذا لم يقع ما أخبروا به يكون قد بدا الله شيء غير به ما أخبروا عنه.

آية التطهير:

آيَةُ التَّطْهِيرِ: أما الدليل من القرآن الكريم فآية التطهير في سورة الأحزاب الآية 33: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً} [الأحزاب: 33]، ومن الضروري أنْ نقف وقفات قصيرة عند كلمات هذه الآية الكريمة. وأول ما نلتقي به في هذه الآية الكريمة كله {إِنَّمَا} ولا شك أنها من أقوى أدوات الحصر في اللغة العربية وتفيد إثبات ما بعدها ونفي ما عداه. فيكون المعنى في ضوء ذلك إثبات التطهير لأهل البيت ونفي أنْ يكون الله تعالى قد أراد «إرادة تكوينية» التطهير لغيرهم حين نزول الآية الكريمة. وهذا واضح لا لبس فيه لمن أنس أسلوب العرب في الكلام وعرف أصول اللغة وقواعدها. وبعد ذلك تأتي جملة: {يُرِيدُ اللَّهُ} والإرادة هنا لا شك إرادة تكوينية، وليست تشريعية. ومن المعروف أنَّ الإرادة الإلهية قسمين: تكوينية وتشريعية، والتكوينية هي التي لا تتخلل إرادة أخرى بين إرادته تعالى ومراده. وهذه الإرادة لا تتخلف ولا يحول دونها شيء. يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. والإرادة التشريعية هي التي تتخلل إرادة المكلف واختياره بين إرادته تعالى وما يريده تعالى من أعمال المكلفين. وتتعلق هذه الإرادة دائماً بأفعال العباد الاختيارية. كما في الواجبات التي يريدها الله تعالى من عباده فيستجيب له ناس ويعصيه آخرون

ولا شك أنَّ إرادة الله تعالى في هذه الآية ليست من الإرادة التشريعية. إذ لا معنى لحصر إرادة التطهير في أهل البيت فقط. فإنَّ الله يريد التطهر لكل عباده دون استثناء. {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). فينحصر الأمر - إذن - أنْ تكون الإرادة في هذه الآية الكريمة إرادة تكوينية، وهي التي لا يمكن أنْ تتخلف. {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33]. والرجس، كما يقول الراغب: «كل شيء قذر». يقول الطبري في تفسير الآية الكريمة «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهَ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ يَا أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، وَيُطَهِّرَكُمْ مِنَ الدَّنَسِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَهْلِ مَعَاصِي اللَّهِ تَطْهِيرًا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ» (¬2). ويقول النيسابوري في تفسير الآية الكريمة: «فاستعار للذنوب الرجس» (¬3). فقد شاء الله - إذن - ولا رَادَّ لمشيئته أنْ يذهب الذنوب والرجس والمعاصي عن نبيِّه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأهل بيت نبيِّه - عَلَيْهِمْ السَّلاَمُ -. وفي حدود ما ذكرنا لا يبقى مجال للمناقشة والتشكيك في فقرات الآية الكريمة. ¬

_ (¬1) [المائدة: 6]. (¬2) " جامع البيان " للطبري: 22/ 5. (¬3) " تفسير غرائب القرآن " للنيسابوري بهامش " جامع البيان ": 22/ 10.

يبقى السؤال عن أهل البيت من هم؟ هل هم زوجات رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم هم زوجاته وسائر أهله من آل عباس وآل عقيل وآل عَلِيٍّ؟ والحديث في ذلك يطول في دراسة إسناد الروايات التي اختلفت في تحديد أهل البيت. ونقتصر هنا على بعض الروايات التي صحت نسبتها إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في تحديد أهل البيت. روى الحاكم في " المستدرك " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ، قَالَ: لَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّحْمَةِ هَابِطَةً، قَالَ: «ادْعُوا لِي، ادْعُوا لِي» فَقَالَتْ صَفِيَّةُ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَهْلَ بَيْتِي عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ» فَجِيءَ بِهِمْ فَأَلْقَى عَلَيْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِسَاءَهُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ آلِي فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ»، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. قال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ» (¬1). وروى مسلم في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " والبيهقي في " السُنن الكبرى " وكل من الطبري وابن كثير والسيوطي في تفسير الآية الكريمة واللفظ للأول: عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَجِّلٌ مِنْ شَعَرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الحُسَيْنٌ فَدَخَلَ مَعَهُ ثُمَّ ¬

_ (¬1) " المستدرك على الصحيحين ": 3/ 147، 148.

جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء عليٌّ فأدخله، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأَحْزَاب: 33] (¬1). وروى كل من الطبري وابن كثير في " تفسيريهما " والترمذي في " صحيحه " والطحاوي في " مشكل الآثار " واللفظ للأول عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ ... } فَدَعَا حَسَنًا وَحُسَيْنًا وَفَاطِمَةَ فَأَجْلَسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَدَعَا عَلِيًّا فَأَجْلَسَهُ خَلْفَهُ فَتَجَلَّلَ هُوَ وَهُمْ بِالكِسَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» (¬2). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي خَمْسَةٍ: فِيَّ، وَفِي عَلِيٍّ، وَحَسَنٍ، وَحُسَيْنٍ، وَفَاطِمَةَ» (¬3). والروايات بهذا المعنى كثيرة ومتضافرة ودالة على حصر أهل البيت في الخمسة الطاهرين. وإمعانًا في تحديد أهل البيت، وإعلامًا لِلأُمَّةِ أخذ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يتلو هذه الآية كل يوم على باب بيت عَلِيٍّ والزهراء حيث يجمع عَلِيًّا وفاطمة والحسن والحُسين. ¬

_ (¬1) رواه مسلم في " الصيحح ": 7/ 130. والحاكم في " المستدرك ": 3/ 147. والبيهقي في " السنن ": 2/ 149. والطبري في " جامع البيان ": 22/ 5. وابن كثير في " التفسير ": 3/ 485. والسيوطي في " الدر المنثور ": 5/ 198، 199. (¬2) " صحيح الترمذي ": 12/ 85. و" تفسير الطبري ": 22/ 7. و" تفسير ابن كثير ": 3/ 485. و " مشكل الآثار: 1/ 335. (¬3) " جامع البيان " للطبري: 22/ 5. و" ذخائر العقبى " للمحب الطبري: ص 24. و" الدر المنثور ": 5/ 198.

عَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَةَ [عَشَرَ] شَهْرًا، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ أَتَى بَابَ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: " الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ}» [الأحزاب: 33] (¬1). عَنْ [أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ] (**)، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلاَةِ الفَجْرِ يَقُولُ: «الصَّلاَةَ يَا أَهْلَ البَيْتِ» {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] (¬2). ¬

_ (¬1) رواه في " مجمع الزوائد " (*). (¬2) " المستدرك على الصحيحين ": 3/ 158 وقال صحيح على شرط مسلم، وأُسْدُ الغابة ": 5/ 521، و " مسند أحمد ": 2/ 258، و [تفسير] الطبري: 22/ 5 وابن كثير: 2/ 383، و " الدر المنثور " للسيوطي: 5/ 199، و" مسند الطيالسي ": 8/ 274، و" صحيح الترمذي ": 12/ 85 و" كنز العمال ": 7/ 103. تعليق: إنَّ هذا الرأي والتفسير للعصمة لا يفيد علم الأئمة للغيب كما لا يفيد اختصاصهم للتحليل والتحريم أو الرواية عن الله مباشرة من غير طريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولهذا يظل هذا الرأي ضمن دائرة أهل الإسلام لأنَّ أهل السُنَّة لا يُكَفِّرُونَ مسلمًا برأي أو معصية ما لم يَسْتَحِلَّهَا. أما حصر آل البيت في الخمسة في عصر نزول الآية فهو محل نظر فالأولى أَنْ نأخذ بسياق الآيات القرآنية وسياق الأحاديث النبوية معًا، فالآيات تدل على دخول الأزواج في آل البيت وسياق الأحاديث النبوية تعطي دلالة أوسع لآل البيت وهي لا تنسخ دلالة القرآن الذي أدخل نساء النبي في آل البيت ابتداءً من قول الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32]، ومرورًا بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، وانتهاءً بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) [قال الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُمَرُ بْنُ شَبِيبٍ المُسَلِّيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ]. (**) [هو أنس بن مالك وليس مالك بن أنس كما ورد في المطبوع من الكتاب].

حديث الثقلين:

حَدِيثُ الثَّقَلَيْنِ: وورد هذا الحديث في روايات كثيرة عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ويبدو أَنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تحدث به في أكثر من موضع ورواه أئمة الحديث بألفاظ مختلفة. ففي " صحيح الترمذي " عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (¬1). وروى الترمذي أيضًا في " الصحيح " عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ. وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا» (¬2). وروى مسلم في " الصحيح " عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» (¬3). ¬

_ (¬1) " صحيح الترمذي ": 2/ 308 و " كنز العمال ": 1/ 48. (¬2) " صحيح الترمذي ": 2/ 308 و " أسد الغابة ": 2/ 12. (¬3) " صحيح مسلم ": (كتاب فضائل الصحابة) باب فضائل علي بن ابي طالب. ورواه مسلم بأسانيد أخر، ورواه أحمد بن حنبل في " المسند ": 4/ 366 والبيهقي في " السنن ": 2/ 148، والدارمي في " سننه " مختصرًا: 2/ 431، والمتقي الهندي في " كنز العمال ": 1/ 45 مختصرًا، والطحاوي في " مشكل الآثار ": 4/ 368 وورد الحديث أيضًا في كتاب " التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ": 3/ 347 (كتاب الفضائل)، الفصل الرابع في مناقب آهل البيت، وقد نقله عن " صحيح مسلم " و " الترمذي ".

والحديث قد روي بصورة مستفيضة عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يسعنا المجال لذكر إسناده ومصادره. وقد قال السمهودي: «وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة» رَوَوْا حديث الثقلين، وصححه السيوطي في " الجامع الصغير " وقال المناوي في " شرحه ": «قال الهيثمي: " رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ». ويكفي أَنَّ " مسلم " قد روى هذا الحديث (¬1). وفي الحديث: 1 - يجعل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أهل بيته صنوًا للقرآن لا يفتران حتى يردا عليه الحوض يوم القيامة. 2 - ويعتبر التمسك بهما عاصمًا من الضلال. 3 - ويوصيهم أنْ لا يعلوهما ولا يسبقونها في قول أو في فعل فإنهما أعلم منهم. وفي بعض ذلك كفاية في عصمة أهل البيت ومرجعيتهم في تبليغ وتبيان حدود الله تعالى وحلاله وحرامه. • • • ولا نتردد كثيرًا في معرفة من هم أهل البيت إذا عرفنا أنهم مع القرآن في كل شيء وأنهم لن يفترقوا عن القرآن حتى يردوا على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الحوض. فهم والقرآن صنوان لا يفترقان. وهما يستمران إلى يوم القيامة إلى جنب ¬

_ (¬1) أوضحنا في (البند 20) أنه قد ورد أيضًا في الأحاديث النبوية «كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّتِي» كما في " الموطأ " و " الترمذي " و " كنز العمال " و " الجامع الصغير " وبالتالي فأهل البيت لا يطاعنون استقلالاً عن السنة النبوية بل من خلالها وأئمة آل البيت لا يزيدون شيئًا على ما ثبت من الحديث النبوي وقد أوضح ذلك شيخنا الآصفي في (البند 5) بالصفحات التالية.

مصدر الأئمة في تبليغ الأحكام:

أحد من المسلمين لواحد من أهل البيت عدا الأئمة الإثني عشر الذين يعتقد الشيعة الإمامية عصمتهم. فإنَّ الحديث صريح في عصمة أهل البيت في التبليغ وبيان أحكام الله تعالى والاستقامة على نهج الله تعالى. وصريح في استمرار هذا الخط التبليغي لأحكام الله، معصومًا عن الخطأ إلى يوم القيامة في أهل البيت. مَصْدَرُ الأَئِمَّةِ فِي تَبْلِيغِ الأَحْكَامِ: فالأئمة من أهل البيت - إذن - انطلاقًا من هذا الشرح معصومون عن الخطأ والكذب في تبليغ أحكام الله تعالى. فما يحدثونا ويبلغون من أحكام الله تعالى وحلاله وحرامه ليس اجتهادًا في الرأي يصيب حينًا ويخطئ حينًا آخر. وبذلك يفترقون في سائر أئمة الفقه وفقهاء المسلمين. فالفقهاء يجتهدون في إصابة الحكم الشرعي فيصيبون حينًا ويخطئون حينًا آخر. ولذلك يختلفون في الرأي والاجتهاد. وليس في حدود الله تعالى وحلاله وحرامه اختلاف وتعدد. • • • ويثار السؤال: ومن أي مصدر إذن يُحَدِّثُونَ وَيُحَدِّدُونَ الحلال والحرام، إنْ لم يكن اجتهادًا في الرأي؟

فنقول: إِنَّ كل حديث صادر عنهم في الأصول أو الأحكام ليس من رأيهم، وليس فيه شيء من اجتهادهم مطلقًا، وإنما يستندون في ذلك إلى سُنَّةٍ لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، انتهى علمها إليهم، وَيَرْوُونَهَا عنهم، سواء رَوَوْهَا كما يروي المحدثون عن رسول الله مسلسلاً، مسندًا، أم أرسلوها إرسالاً (¬1). روى ثقة الإسلام الكُلَيْنِي عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله (الصادق) يقول: «حديثي، حديث أبي، وحديث أبي حديث جَدِّي، وحديث جَدِّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قول الله عز وجل» (¬2). وروى المفيد في " الأمالي " عن جابر قال: قلت لأبي جعفر الباقر: «إِذَا حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثٍ فَأَسْنِدْهُ لِي». فقال: «قُلْتُ لأًبٍي جَعْفَرَ البَاقِرَ: «إِذَا حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثٍ فَأَسْنِدْهُ لِي». فقال: «حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي رَسُولَ اللهِ عَنْ جِبْرَائِيلَ عَنْ اللهِ، وَكُلَّمَا أُحَدِّثُكَ [فَبِهَذَا] الإِسْنَادِ». (¬3). وروى الكليني عن يونس بن قتيبة قال: سأل رجل أبا عبد الله (الصادق) عن مسألة، فأجابه فيها. فقال الرجل: أرأيت إِنْ كان كذا وكذا ما يكون ¬

_ (¬1) إِنَّ إثبات الحكم الشرعي بغير مصدر يعني الإلهام من الله بغير حاجة إلى الرسول وفي هذا لا يقول به صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن الشيخ محمد رضا المظفري في كتاب " عقائد الإمامية "، عن علم الإمام يقول: «إذا استجد شيء لا بُدَّ أَنْ يعلمه من طريق الإلهام بالقوة الفرسية التي أودعها الله فيه، فإنّ توجه إلى شيء شاء أَنْ يعلمه على وجهه الحقيقي لا يخطئ ولا يشتبه ولا يحتاج في ذلك إلى البراهين العقلية أو إلى تلقين المعلمين» ص 96 كما ورد مثل هذا في الأصول للكافي: جـ 1 ص 271 إلى 274 ونأمل أَنْ يحقق ذلك إخواننا الشيعة وأنْ يدركوا عدم صحة ذلك. (¬2) " أصول الكافي ": 1/ 53. (¬3) " أمالي المفيد ": ص 26.

القول فيها؟ فقال له: مه. ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول الله. لسنا من (أرأيت) في شيء (¬1). ونلخص ما تقدم من الحديث عن العصمة فيما يلي: 1 - أهل البيت معصومون عن المعاصي والذنوب في سلوكهم الشخصي. 2 - ومعصومون عن الخطأ والكذب والتبليغ. 3 - ويستمر هذا الامتداد المعصوم من الكذب والخطأ في تبليغ أحكام الله إلى يوم القيامة ضمن نطاق أهل بيت رسول الله، وفي كل عصر منهم إمام يعود الناس إليه في معرفة أحكام الله وحدوده. 4 - ولم يمارس أئمة أهل البيت رأيًا واجتهادًا في الرأي في معرفة وتبليغ أحكام الله. 5 - ولم يزيدوا فيما يقولون ويحدثون ويبينون من أحكام الله تعالى عن حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - • • • ويبقى السؤال: كيف استوعب الأئمة من أهل البيت من حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وسُنَّته ما لم يستوعبه سائر الصحابة والمحدثون من حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وسُنَّته. والجواب: أَنَّ ما يغيب عن علمنا مما خلق الله تعالى من وسائل وأسباب ¬

_ (¬1) " أصول الكافي ": 1/ 58.

التلقي والتعليم أكثر مما نعرف، وماذا يضرنا إنْ لم نعرف ذلك بعد أَنْ علمنا أنهم صادقون في كلامهم وفي حديثهم عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ويكفينا ذلك في قيام الحُجَّةِ ووجوب الاتباع. ولا نريد أنْ نزيد هنا على ذلك. فهؤلاء الأئمة من أهل البيت بشهادة كلام الله وبشهادة حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صادقون لا يكذبون. وقد أخبرونا أنهم يحدثونا عن سُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وحديثه في كل ما يحدثون ويكفينا ذلك. على أنَّ الإمام علي بن أبي طالب كانت له مجالس خاصة مع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ينقلها المحدثون، وكان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يملي عليه كتابًا في الحلال والحرام. وقد نقل الإمام البخاري من هذا الكتاب، كما نقل غيره من أئمة الحديث عن الإمام علي عن رسول الله من طريق هذا الكتاب .. وقد توارث أهل بيته من بعد هذا الكتاب. ولكننا لا نريد إطلاقًا أَنْ نقول: إِنَّ كل مرويات أهل البيت عن هذا الكتاب، لقد رَوَوْا منه من غيره. وإنما نكتفي بما علمنا من القول، وذلك أنهم يَرْوُونَ في كل ما يُحَدِّثُونَ عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وإنهم صادقون لا يكذبون. وقد بَرَّأَهُمْ الله تعالى وَنَزَّهَهُمْ عن ذلك. وهذا هو خلاصة الكلام فيما نعتقده في عصمة الأئمة من أهل البيت - عَلَيْهِمْ السَّلاَمُ - والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الكويت: محمد مهدي الآصفي في 5 شوال 1399 هـ.

19 - حقائق عن السنة والعصمة:

19 - حَقَائِقَ عَنْ السُنَّةِ وَالعِصْمَةِ: وتعليقًا على البيان الذي نقلناه عن الشيخ الآصفي نضع أمام القارئ الحقائق التالية: [1] إنَّ حصر الشيعة آل البيت في النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين يستند إلى الأحاديث النبوية ولكنها لا تفسخ القرآن الكريم الذي أدخل أمهات المؤمنين في آل البيت. فلا يوجد سبب يؤدي إلى استبعاد زوجات النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آل البيت بعد أنْ أثبت القرآن لهن هذه الصفة. [2] لا يجوز أنْ يضاف إلى آل البيت غير من ذكرنا لأنَّ ثبوت هذا كان عن طريق الوحي أي القرآن أو السُنَّة ولا يتنزل الوحي على أحد بعد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كما أنَّ العصمة بمعنى التطهير من الكبائر والرجس لا تتعدى آل البيت المشار إليهم لأنها ليست ميراثًا لطائفة أو مذهب. [3] استيعاب آل البيت أو أئمة الشيعة للأحاديث النبوية لا يكون إلاَّ بالرواية المتصلة إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا فقه للإمام محمد باقر الصدر في كتابه، فلا وحي بعد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد فَصَّلَ ذلك في كتاب " الحكم " وكذلك كتاب " ضوابط التقريب بين الشيعة وأهل السُنَّة ". [4] لا جدال في أنَّ عَلِيًّا قد روى عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقل ذلك البخاري وغيره، ولكن هذه الروايات هي المدونة في كتب السُنَّة وليست أسرارًا كنسية لا يعرفها أحد إلاَّ الإمام الغائب، كما أنه لا يوجد عند أهل البيت روايات خاصة لا يعلمها أحد وتوارثها سرًا أئمة الشيعة فقد روى الإمام مسلم عن الإمام عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: «من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلاَّ كتاب الله وهذه الصحيفة فيها أسنان الإبل وَشَيْءٌ من الجراحات فقد كذب»، فصحيفة الإمام عَلِيٍّ ليس فيها سوى هذه الأحكام وليست موسوعة في الأحاديث النبوية ولم يذكرها الإمام عَلِيٍّ إلاَّ للأئمة لأنَّ من عاصره منهم بنوه وهؤلاء لم يُؤْثَرْ عنم إلاَّ الثابت في كتب السُنَّة. [5] يرتب بعض الشيعة على القول بالعصمة أَنَّ رواية غير أئمة الشيعة للحديث النبوي لا يعمل بها إلاَّ إذا وافقت مذهبهم، كما رَتَّبُوا على هذه العصمة

ما قاله نصير الدين الطوسي إنَّ الإمامية هم الفرقة الناجية لا غير وما نقل عن نعمة الله الجزائري من أنَّ دخول الجنة لا يكون إلاَّ بالإقرار بالشهادتين والإقرار بولاية أهل البيت. (" الكشكول ": ج 1 ص 140 و 141 و 169) للفقيه يوسف البحراني، مكتبة نينوى طهران. وانظر تفصيل ذلك في كتاب " ضوابط التقريب ": ص 50 وما بعدها. [6] يؤكد ابن حجر الهيثمي أنَّ حديث غدير خم «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» ليس نصًا في إمامة (عَلِيٍّ) ولا إمامة غيره من الأئمة عند الشعية، فلم يحتج به هو والعباس مع قرب العهد جدًا بيوم الغدير إذ بينهما نحو الشهرين، وجواز نسيان عَلِيٍّ والعباس وسائر الصحابة السامعين لخبر يوم الغدير، محال، فيجزم العاقل بأدنى بديهته أنه لم يقع منهم نسيان ولا تفريط وأنهم حال بيعتهم لأبي بكر كانوا متذكرين لذلك الحديث عالمين به. إنَّ ادعاء الشيعة والرافضة أنَّ الصحابة علموا هذا النص ولم ينقادوا له، عناد ومكابرة بالباطل، وزعمهم أنَّ عليًا تركها تقية، كذب وافتراء، فقد كان في منعة من قومه مع كثرتهم وشجاعتهم، ولقد قال الأنصار: «منا أمير ومن المهاجرين أمير» واحتج عليهم بحديث «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ»، فكيف سلموا بهذا ولم يقولوا أنه ورد حديث في إمامة عَلِيٍّ. ويستطرد ابن حجر الهيثمي فيقول: الشيعة أقل فحشًا في عقائدهم من الرافضة، وذلك لأن الرافضة يقولون بتكفير الصحابة لأنهم عاندوا بترك النص بإمامة عَلِيٍّ. بل زاد أبو كامل (رئيس الفرقة الكاملية) فَكَفَّرَ عَلِيًّا زاعمًا أنه أعان على كتمان وستر ما لا يتم الدين إلاَّ به لأنه لم يرد عنه قط أنه لم يحتج بالنص على إمامته (¬1). ¬

_ (¬1) " الصواعق المحرقة " للمحدث الفقيه أحمد بن حجر الهيثمي: ص 68. طبعة لبنان سَنَةَ 1983.

20 - الشيعة وبراءة الأئمة:

20 - الشِّيعَةُ وَبَرَاءَةُ الأَئِمَّةِ: يرى الشيعة أَنَّ إمام المسلمين لا يعنيه إلاَّ الله تعالى ويفوضه في أمور الدين وهذا ما جعلهم يقولون بعصمة الأئمة مستدلين بقول الله تعالى: الاِخْتِلاَفُ حَوْلَ الأَئِمَّةِ: تثبت الإمامة لدى الشيعة بنص صريح متواتر أو بالمعجزة (¬1) والإمامة والنص هو حديث غدير خُمْ، فيقولون إنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في غدير خُمْ (وهو مكان بين المدينة ومكة) وذلك عند عودته من حجة الوداع وخطب في الناس بعد أنْ رفع يد الإمام علي بن أبي طالب بجانب يده - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعلن إمامة الإمام علي وحدد المعصومين من بعده، وقد أنكر علماء الحديث من أهل السُنَّة هذه الرواية وأثبتوا أَنَّ عليًا كان في اليمن خلال حجة الوداع، ثم يختلفون في بيان الأئمة، فبعد اتفاقهم على الإمام علي بن أبي طالب، اختلفوا في الأئمة من بعده. فمنهم من حصرها في ذرية الإمام علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من السيدة فاطمة ومنهم من وقف عند إمام ثم حصرها في ذريته أو في إخوانه (¬2). كما أنه يوجد خلاف فيما بينهم في الأئمة بعد الإمام جعفر الصادق. فمنهم من يرى أنَّ الإمامة بعد الإمام جعفر الملقب بالكاظم وتلاه علي بن موسى الرضا، ومحمد النقي وعلي النقي والحسن العسكري ومحمد المهدي، الذي اختفى في مدينة سُرَّ من رأى (سامراء) بالعراق وكان عمره خمس سنوات وما زالوا ¬

_ (¬1) " أصل الشيعة وأصولها ". محمد حسين آل كاشف الغطاء: ص 107. و " شرح العقائد النسفية ". سعد الدين التفتازاني: ص 141 و " نهاية الإقدام في علم الكلام " للشهرستاني. طبعة بغداد: ص 480، و" المذاهب الإسلامية " للشيخ محمد أبو زهرة: ج 1 ص 57. (¬2) " محاضرات في الملل والنحل " للكتور حمدي عبد العال: ص 131.

بين العصمة والسنة النبوية:

ينتظرون عودته على أنه المهدي المنتظر، في الوقت الذي تعتقد طائفة أنَّ المهدي المنتظر هو محمد بن الحنفية وهو ابن الإمام علي بن أبي طالب من أخرى غير السيدة فاطمة (¬1) وهؤلاء هم الكيسانية ومنهم من قال بنبوة الإمام عَلِيٍّ وبنيه الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وآخرون من القرامطة زعموا نبوة محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (¬2). ولكن من يتصف بالعصمة من الأئمة؟ وهل تنحصر في هؤلاء فقط؟ بَيْنَ العِصْمَةِ وَالسُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ: إنَّ الخلاف في معنى العصمة خلاف حاد بعضه يمكن أن يسمح بالتقارب بين السُنَّة والشيعة، ومنه خلاف يؤدي إلى الكفر فلا تقريب ولا تقارب. [أ] فمنهم من يقول: «إنَّ الإمامة صفة من الله تعالى وتحقيقها في محل معين وهو الشخص المعين، لا يجوز عليه الخطأ» ويقول: «قول الإمام وفعله وتقريره وتركه حُجَّةٌ» (¬3). [ب] ومنهم من يقول: «النبي يوحى إليه فينبه على وجه الخطأ فيتوب منه والإمام لا يوحى إليه، فيجب عصمته» (¬4). [ج] ومن يقول: «حكمة التدرج افتضت بيان جملة من الأحكام وكتمان جملة، ولكنه - سَلاَمُ اللهِ عَلَيْهِ - أودعها عند أوصيائه، كل وصي يعهد بها إلى الآخر لينشرها في الوقت المناسب حسب الحكمة» انظر " الملل والنحل " (هامش " الفصل ": ج 3 ص 22) و" المذاهب الإسلامية " للشيخ أبو زهرة " ج 1 ص 55. [د] ومنهم من يقول: «كل من شك في وجود الباري أو وحدانيته أو نبوة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو جعل له شريكًا في النبوة فهو خارج عن دين الإسلام، والشيعة يبرأون من جميع الغلاة وَالمُفَوِّضَةِ وفعالهم» (¬5). ¬

_ (¬1) " حقيقة البابية والبهائية ". محسن عبد الحميد: ص 52. (¬2) " الفرق بين الفرق " للبغدادي: ص 206، و" الفصل في الملل والأهواء والنحل " لابن حزم: ج 4ص 184 و" فرق الشيعة " للنُوبَخْتِي: ص 74. (¬3) و (¬4) " الألفين ". جمال الدين المطهر المعروف بالعلاَّمة الحلي: ص 285 و 287. (¬5) محسن الأمين في كتابه " أعيان الشيعة " وانظر " السبأيون " للدكتور حمدي عبد العال: ص 32 و" هوية التشيع " أحمد الوائلي: ص 134.

أقوال الأئمة والسنة النبوية:

أَقْوَالُ الأَئِمَّةِ وَالسُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ: يوجد من الشيعة من يقول إن العصمة تعني أن الإمام إذا قال شيئًا في أصول الدين أوالأحكام فلا يخطئ لأن قوله ليس من اجتهاده ورأيه مطلقًا إنما يبلغ عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يشترط أن يكون هذا البلاغ بطريق الإسناد المتصل إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما هو الحال في رواية السُنَّة النبوية. ومن قال ذلك إنما يقول بالإلهام الذي قال عنه الشيخ محمد رضا المظفري في كتابه " عقائد الإمامية ": «إذا استجد شيء لا بد أن يعلمه عن طريق الإلهام بالقوة الفرسية التي أودعها الله فيه»: ص 96 وانظر " الأصول " للكُليني: ج 1 ص 271 - 274. وهؤلاء يرتبون على ذلك أن الإمام المعصوم إذا قال قولاً يخالف القرآن الكريم أو الحديث النبوي، لا يرد قوله بل يعمل به لأنه في عقيدتهم يملك تخصيص عموم القرآن والسُنَّةِ وتقييد المطلق ونسخ أحكامها. ولقد أفتى هؤلاء بما يخالف القرآن في أمور كحرمان الزوجة من الميراث في الأراضي الفضاء فلا ترث إلا في المباني، فمن مات ولا يملك بنايات بل يملك أراضي فضاء، لا ترث فيها أرملته، بينما يستحق باقي الورثة، وإذا ترك بنايات يستنزل منها قيمة الأرض، وفي هذا إنقاص لفرضها المحدد في القرآن الكريم. كما أفتوا باستقلال البنات بتركة مورثهن فيرثن التركة كلها إذا لم يكن معهن أخ ولذلك خلافًا لقول الله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]. ومنهم من يقول بالرد على البنت. وقالوا لا تطلق الزوجة قضائيًّا إذا تركها زوجها وسافر نهائيًّا، طالما أنه يرسل إليها النفقة إذ لا حق لها في الباه، أي الاستمتاع بالرجل واستقرت أحكامهم على ذلك كله فإذا كان عن أثر يمحص وإن كان إلهامًا بمقتضى العصمة فضلال. إن هؤلاء الأئمة لم يقولوا أبدًا بالعصمة هذه ولم يكن هذا شائعًا في عصرهم وسكتوا عنه، ومن يقلدون هذه الأحكام الاجتهادية يعتقدون أنها من أصول الدين ويجهلون أنها تنطوي على نسخ بعض أحكام القرآن أو تخصيصها.

نزاهة الأئمة من الربوبية:

نَزَاهَةُ الأَئِمَّةِ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ: لقد أدرك بعض علماء الشيعة أن من يقول باختصاص الأئمة بتخصيص القرآن وَالسُنَّةِ ونسخ أحكامهما، إنما يجعلهم يشرعون كالأحبار والرهبان الذين ورد فيهم قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. ولهذا قال الإمام محمد باقر الصدر: «ثبت في محله من انتهاء عصر التشريع بانتهاء عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن الأحاديث الصادرة عن الأئمة المعصومين ليست إلا بيانًا لما شَرَّعَهُ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأحكام وتفاصيلها» (¬1). كما أنه لا خلاف بين الناس جميعًا أن يروي عن شخص لا بد أن يكون معاصرًا له، فلا يروي حفيد عن أجداد لم يعاصروه لوفاتهم قبل أن يولد، ولهذا فرواية علماء الشيعة عن أئمتهم يلزم أن يذكر فيها سلسلة الرواة ليمكن معرفة مدى معاصرة الراوي لمن روى عنه ومعرفة مدى توفر شروط العدالة والضبط في الرواة، ولكن الشيخ الآصفي يقول: «إن كل حديث صادر عنهم في الأصول أو الأحكام، ليس من رأيهم وليس فيه شيء من اجتهادهم مطلقًا، وإنما يستندون في ذلك إلى سُنَّةِ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتهى علمها إليهم ويروُونها عنهم سواء رَوَوْهَا كما يروي المحدثون عن رسول الله مسلسلاً، مسندًا أم أرسلوها إرسالاً» (¬2). وهذا يعني أن أي إمام من الأئمة الاثني عشر لو قال شيئًا، لا يحتاج إلى أن يذكر اسم من سمع منهم أو روى عنهم وبالتالي يروي عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى لو كان بينه وبين عصر الصحابة عشرة قرون. وهذا لا يقول به إلا من يَدَّعِي أن هؤلاء جميعًا يوحى إليهم من الله أو يعلمون عن طريق الإلهام كما يقول الشيخ محمد رضا المظفري في كتابه " عقائد الإمامية ": ص 96. وهذا الافتراض لا يقبله إلا من زعم أن هؤلاء يوحى إليهم ولهذا يصبح عندهم ادعاء أن الأئمة إذا قالوا بخلاف القرآن صح ذلك لأن الله أعلمهم بذلك. والشيخ الآصفي يقول في موضع آخر: «لكي يسلم الحديث عند فقهاء وعلماء الإمامية ¬

_ (¬1) " تعارض الأدلة " للسيد الإمام محمد باقر الصدر: ص 30. (¬2) " السنة المفترى عليها "، الطبعة الثانية: ص 126.

حول تحديد آل البيت:

يخضع لمراحل متعددة من النقد في السند وفي الدلالة وفي المقارنة وفي الصدور، فإذا سلم الحديث في هذه المراحل جميعًا يؤخذ به» (¬1). وإذا وجب هذا التمحيص لقبول قول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلماذا يقرر إعفاء أقوال الأئمة من هذا التمحيص ومن اشتراط الإسناد والعدالة والضبط؟ لقد روى الإمام أحمد (*) عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله (أي الإمام جعفر) هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: لا. من قال هذا أخزاه الله» (¬2). حَوْلَ تَحْدِيدِ آلِ البَيْتِ: إن سند علماء الشيعة في عصمة الأئمة كما ذكر الشيخ [الآصفي] وغيره، ينحصر في قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [سورة الأحزاب، الآية: 33]، وفي حديث: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي». فمن هو أهل البيت الوارد ذكرهم في النصين المذكورين؟ يرى علماء الشيعة حصر آل البيت في عَلِيٍّ وفاطمة وابنيهما، أما زوجات النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد أخرجوهن من أهل البيت بينما القرآن الكريم قد خَصَّهُنَّ بوصف أهل البيت، ويقول الشيعة: إن الحديث النبوي نسخ القرآن في ذلك حيث قال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَهْلُ بَيْتِي: عَلِيًّا وَفَاطِمَةُ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ». إن هذا الحديث لم ينسخ الآية القرآنية فلا تعارض بينهما إذ أن وصف أهل البيت يشمل زوجات النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويشمل من ورد ذكرهم في الحديث النبوي. ومع هذا لو اقتصر علماء الشيعة على حصر العصمة في الإمام عَلِيٍّ والسيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين، لما حدثت الفتن والاضطرابات والخلافات. فالشيخ الآصفي يقول: «ويستمر هذا الامتداد المعصوم من الكذب والخطأ في تبليغ أحكام الله إلى يوم القيامة ضمن نطاق أهل بيت رسول الله، وفي كل عصر منهم، إمام يعود الناس إليه في معرفة أحكام الله وحدوده» (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 100. (¬2) " المسند ": ج 1 ص 73، طبع بيروت، نقلاً عن كتاب " الإمام الصادق " للشيخ محمد أبو زهرة: ص 236. (¬3) " السنة المفترى عليها ": ص 127. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) لم أجده في " مسند أحمد " وإنما هو من مصادر شيعية ربما يكون للطوسي أو " أصول الكافي " للكُليني، [أخطأ في اعتباره " مسند أحمد "، حتى في كتاب أبي زهرة وقع ذكر " المسند " لا على أنه " مسند أحمد "، وإنما ذكر المسند مع ذكر الجزء والصفحة]. (انظر " الإمام الصادق " للشيخ محمد أبو زهرة: ص 236، مطبعة علي أحمد مخمير - مصر).

براءة الأئمة:

فهو لم يحصر هذه العصمة في الأربعة المذكورين في الحديث النبوي ولا في الأئمة الإثني عشر، بل قال باستمرار وجود إمام معصوم في كل عصر إلى يوم القيامة، بينما غيره يُقَدِّرُ أن العصمة تنحصر في الأئمة الإثني عشر ولهذا ينتظرون الإمام المهدي الثاني عشر لينقل لهم ما خفي عليهم (¬1). ولم يقف عند ظاهر الآية القرآنية حيث تضمنت تطهير أهل البيت من الرجس، بل قال بامتداد العصمة لتشمل العصمة في تبليغ أحكام الله كما هو شأن رسل الله تعالى. وكل ذلك يخالف النصوص التي يستند إليها علماء الشيعة، بل من شأنه أن يصبح الإمام المعصوم كالأحبار والرهبان يُشَرِّعُ من دون الله تعالى. بَرَاءَةُ الأَئِمَّةِ: ليس صحيحًا أن أحدًا من الأئمة قد قال بهذه العصمة في الرواية لنفسه أو غيره، ولهذا نجد الشيخ جعفر كاشف الغطاء ينفي الصحة عن المراجع الأصولية عند الشيعة وهي " من لا يحضره الفقيه "، و" الكافي " و" التهذيب ". فيقول عن أصحابها: (وهم الكُليني، ومحمد الصدوق، ومحمد الطوسي)، يقول: «كَيْفَ يُعَوَّلُ فِي تَحْصِيلِ العِلْمِ عَلَيْهِمْ وَبَعْضُهُمْ يُكَذِّبُ رِوَايَةَ بَعْضٍ، بِتَكْذِيبِ بَعْضِ الرُوَّاةِ» (¬2). ولهذا أيضًا جاء في كتاب " أعيان الشيعة ": «إِنَّ أَكْثَرَ الأَخْبَارِ المَرْوِيَّةِ غَيْرَ قَطْعِيَّة السَّنَدِ، وَإِنَّ أَحَادِيثَهَا مُخْتَلِفَةِ المَرَاتِبِ فَفِيهَا الصَّحِيحُ وَالحَسَنُ وَالمُوَثَّقُ وَالضَّعِيفُ وَالمُرْسَلُ وَالضَّعِيفُ وَغَيْرَ ذَلِكَ» (¬3). والسند غير المتصل قد اختلف في قبوله عند الشعية، فمنهم من قبله طالما أن الراوي ثقة، وفي " معالم الدين " قال (¬4): «إِنَّ أَسَاسَ الرِّوَايَةِ الثِّقَةَ بِكُلِّ رِجَالِ السَّنَدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مَعْرُوفَينَ حَتَّى يُمْكِنَ مَعْرِفَةَ مِقْدَارِ الثِّقَةِ فِيهِمْ». ص 214، ولكن الشيعة الإمامية مع طعنهم على البخاري لأنه لم يثبت روايات عن الإمام جعفر الصادق، ¬

_ (¬1) " الشيعة وأهل السنة " تقديم الشيخ محمد تقي الدين القُمِّي: ص 22 و" أصل الشيعة وأصولها " للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء: ص 61. (¬2) و (¬3) و (¬4) نقلا عن كتاب " الإمام الصادق " للشيخ محمد أبو زهرة: ص 286، 287 وص 412.

فهم يرون أنه لو كان بين الرواة شخص غير إمامي، فلا تقبل هذه الرواية حتى لو كان جميع الرواة من الثقات فقد ذكر الشيخ الطوسي في كتابه " عدة الأصول ": «أَنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً فِي العَمَلِ إِذَا كَانَ رَاوِيهِ مِنَ الطَّائِفَةِ المُحِقَّةِ أَيْ الاثْنَا عَشَرِيَّةِ» ص 31. ثم يضع الطوسي شرطًا أخر يؤكد ضرورة اتصال السند من الإمامية الثقات فيقول عند التحقيق تبين أنه لا يعمل بالخبر الذي يرويه الإمامية مطلقًا، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمة - عَلَيْهِمْ السَّلاَمُ - ودونهما الأصحاب، فليس كل خبر يرويه الإمامي يكون صحيحًا يجب العمل به، بل الخبر الصحيح الذي يجب العمل به هو ما يرويه الإمام عن الأئمة. ومن الشيعة من قال بقبول رواية غيرهم إذا كان مُوَثَّقًا أو ممدوحًا منهم ففي رسالة " جواز الاكتفاء بتصحيح الغير " لأبي المعالي ص 9: «لو كان بعض رجال السند غير إمامي مصرحا بالتوثيق أو مصرحا بالمدح لا بد من كون الباقي إماميا موثقا» (¬1). ولهذا فالإمام جعفر الصادق بَرِئَ مما ينسب إليه من عدم قبوله رواية غير الإمامية. فقد كان يَرْوِي عنه حال حياته، مالك وأبو حنيفة وسفيان وَشُعْبَةُ، وهو لا يقبل بروايتهم عنه إذا كانوا غير عدول أو كانت روايتهم غير مقبولة، فكيف يرضى بروايتهم إذا كانوا غير أمناء في النقل عنه (¬2). ولقد روى جابر الجُعَفِي وهو من الإمامية أن الإمام محمد الباقر قال وهو يُوَدِّعُهُ عائدًا من العراق: «أبلغ أهل الكوفة أني بريء ممن تبرأ من أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ -» (¬3). ولقد سئل الإمام الباقر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عن قول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]، فقال: «أصحاب محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». فقال السائل يقولون هو (عَلِيٌّ)، قال الإمام محمد الباقر: «عَلِيٌٌّ مِنْهُمْ» (¬4). أما عن عصمة هؤلاء الأئمة بمعنى أن الله تعالى أودع عندهم أسرار الدين وعصمهم في النقل عنه أو عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير طريق الرواية المتصلة السند، فنجد ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 380 (¬2) و (¬3) " حلية الأولياء ": ج 3 ص 39 و 137. (¬4) الأخبار الأربعة في " حلية الأولياء ": ج 3 ص 185 نقلاً عن الشيخ محمد أبو زهرة: ص 208.

بين الأئمة وأسرة أبي بكر:

الإمام علي زين العابدين يقول ما يُكَذِّبُ ذلك، فهو الإمام الرابع عند الشعية وقد جاء في " حلية الأولياء " أنه كان يذهب إلى زيد بن أسلم ويجلس عنده فقال له نافع بن جبير: «أَنْتَ سَيِّدُ النَّاسِ وَتَذْهَبُ إِلَى هَذَا العَبْدِ»، فقال الإمام: «إِنَّمَا يَجْلِسُ الرَّجُلُ إِلَى مَنْ يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ» ج 2 ص 138. والإمام جعفر الصادق قد قال للمعتزلة عند دعوتهم لبيعة محمد بن عبد الله بن الحسن: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ ضَرَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ وَدَعَاهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَفِي المُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَهُوَ ضَالٌّ مُتَكَلِّفٌ " وَقَالَ لِلأَبِ: " إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ وَلاَ لابْنِكَ وَإِنَّمَا هُوَ لِهَذَا - أَيْ السَفَّاحُ - ثُمَّ لِهَذَا (المَنْصُورُ) فَلَمْ يَقُلْ بِالعِصْمَةِ أَوْ الإِمَامَةِ لأَحَدٍ (¬1). بَيْنَ الأَئِمَّةِ وَأُسْرَةِ أَبِي بَكْرٍ: إن الإمام جعفر الصادق الذي ينسب إليه مذهب الشيعة الإمامية، أمه حفيدة أبي بكر الصِدِّيق، فهي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِدِّيقَ، والقاسم تربى في حجر عمته السيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - وكان يروي عنها، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وأم فروة، أمها أسماء بنت أبي بكر الصديق والقاسم جَدُّ جعفر لأمه، عَلَّمَ جعفر مما آتاه الله من العلم فقد مات - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عام 108 هـ، وكان جعفر في الثامنة والعشرين من عمره. والإمام عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - قد رَبَّى وَعَلَّمَ محمد بن أبي بكر (والد القاسم) لأنه احتضنه بعد أن تزوج أمه أرملة أبي بكر الصديق (¬2). الصَّادِقُ وَالعِصْمَةُ: والإمام جعفر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ينفي العصمة المنسوبة إليه وإلى الأئمة التي تتضمن التحليل والتحريم بغير نص في القرآن أو السُنَّةِ النبوية بدعوى أن الإمام مُلْهَمٌ فقد روى " الكافي " عن أبي بعير عن أبي عبد الله قال: «قلت له: «{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ ¬

_ (¬1) كتاب " الصادق " للعلامة المظفري: ج 1 ص 242 و 203. (¬2) " الإمام الصادق " للشيخ محمد أبو زهرة: ص 4 - 27، دار الفكر العربي.

الصادق والتقية:

أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}» [التوبة: 31].، فقال: «والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون». وقال أيضًا: «والله ما صاموا لهم ولا صلوا لهم ولكن أحلوا لهم حرامًا وَحَرَّمُوا عليهم حلالاً فاتبعوهم» (¬1). الصَّادِقُ وَالتَّقِيَّةُ: أما التقية التي تنسب إلى الإمام جعفر الصادق فيفسرها قوله عند الطبرسي: «نَصُونُ بِذَلِكَ مَنْ عُرِفَ مِنْ أَوْلِيَائِنَا فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ نَتَعَرَّضَ لِلْهَلاكِ» (¬2). فهذه التقية ليست منهجًا لمذهب يدعو إلى التظاهر بموالاة الصحابة وتنزيه القرآن من التحريف ثم الاعتقاد بغير ذلك وترويجه سِرًّا كما يزعم بعض غلاة الشيعة. فالإمام جعفر يقول بالتقية بمعنى مداراة الحكام الظالمين لدفع الأذى ومنع المخاطر التي نتجت عن مقتل الحسين - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ومقتل زيد - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ومقتل الأخوين محمد النفس [الزكية] وإبراهيم، ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن (¬3). الصَّادِقُ وَالقُرْآنُ: إن ما نسب إلى الإمام جعفر الصادق عن القرآن افتراء عليه فقوله: «إِنَّ عِنْدَنَا مِنْ حَلاَلِ اللهِ وَحَرَامِهِ مَا يَسَعُنَا كِتْمَانُهُ، مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُحَدِّثَ بِهِ أَحَدًا»، ليس له سند صحيح وَتُكَذِّبُهُ الروايات الصحيحة، فقد روى العياشي في " تفسيره " عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ، إِنْ أَصَابَ لَمْ يُؤْجَرْ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنَ السَّمَاءِ». وقد رُوِيَ عن الإمام الباقر: «مَا ضَرَبَ رَجُلٌ القُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ إِلاَّ كَفَرَ» (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 32. (¬2) و (¬3) المرجع السابق: ص 242 - 244. (¬4) المرجع السابق: ص 216 وقد نقل أيضًا عن " الصافي ": ص 9، 10.

21 - حديث الغدير وأصل الخلاف:

21 - حَدِيثُ الغَدِيرِ وَأَصْلُ الخِلاَفِ: إن أصل الخلاف بين الشيعة والسُنَّةِ يرجع إلى رواية حديث الغدير ومؤداه أن الله قد أمر نبيه بإعلان وصاية الإمام علي من بعده فلم يفعل خشية أن يقال إن النَّبِيَّ يُحَابِي أقاربه كما يرويه الإمام كاشف الغطاء في كتابه " أصل الشيعة وأصولها ": ص 107. وقد فصله الشيخ محمد إبراهيم الموحد القزويني في كتابه " عيد الغدير ": ص 16 فقال: «إنه أثناء عودة النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حجة الوداع وهو في طريقه إلى المدينة والعراق ومصر واليمن وكان وصولهم في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة. وكانوا مائة وعشرين ألف مسلم عدا من انضموا إليهم في الطريق والتحقوا بهم من اليمن ومن مكة، فنزل جبريل على رسول الله بالآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]. وأبلغ جبريلُ النَّبِيِّ أن اللهَ تعالى يأمره أن يقيم عَلِيَّ بن أبي طالب إمامًا على الناس وخليفة من بعده ووصيًّا له. فتوقف النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المسير وأمر أن يلحق به من تأخر عنه ويرجع من تقدم عليه فاجتمع المسلمون جميعًا حوله وأدركتهم صلاة الظهر فصلى بهم وخطب فيهم فأبلغهم أمر الله في الإمام علي وأن يُبَلِّغَ الشاهدُ منهم الغَائِبَ وكان مما قال: " اسمعوا وأطيعوا فإن الله مولاكم وعلي إمامكم ثم الإمامة في ولدي من صلبه إلى يوم القيامة. قَوْلِي عن جبريل عن اللهِ فلتنظر نفس ما قدمت لغد "» ص: 16. ثم يقول القزويني: «هذه الواقعة الخالدة المعروفة بواقعة الغدير من أشهر الوقائع التاريخية ومن أبرز الأحداث في حياة النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد شهد بها مائة وعشرة من الصحابة الذين حضروا الواقعة بأنفسهم منهم أبو بكر وعمر وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وَسَمُرَةَ بن جُندب والزبير بن العوام وطلحة بن [عبيد] الله والعباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر وغيرهم». ثم

حقيقة حديث الغدير:

ثم يقول: «إن هذه الواقعة ليس هناك مجال للإنكار والتشكيك في صحتها والمناقشة في سندها لأن العلماء والحفاظ والمحدثين والمؤرخين القُدامى أثبتوا صحتها، وحقيقتها واعتمدوا عليها منذ مئات السنين وحتى هذا اليوم ... لكونها واقعة إسلامية هامة في تاريخ الإسلام وفي تاريخ نبي الإسلام ولوقوعها في حجة الوداع وقبل وفاة النَّبِيِّ بسبعين يومًا» ص: 30. حَقِيقَةُ حَدِيثِ الغَدِيرِ: يذكر القزويني مصادر هذه الواقعة وَرُوَّاتِهَا في كتب أهل السُنَّةِ ويذكر الصفحات. وبالرجوع إلى هذه المصادر التي ذكرها تبين أنها لا تتصل من قريب أو بعيد بوصاية الإمام عَلِيٍّ بعد النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحصر الخلافة والأئمة في اثني عشر شخصًا من ولد السيدة فاطمة. بل تتعلق بفضله وآل البيت وليس بالخلافة. أما المصادر الأخرى التي وجدناها كما ذكر مصادرها وصفحاتها فهي كالآتي: 1 - رواية " صحيح مسلم ": عَنْ زَيْدٍ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا، بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ " - فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ -، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، [أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي]» فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: [لزيد بن أرقم] وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ يَا زَيْدُ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلُّ هَؤُلاَءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ (*). هذا الحديث يُسَمَّى حديث الثقلين وورد في " الموطأ " و " الترمذي " و " كنز العمال " «كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي» وبالتالي فأهل البيت لا يطاعون إلا من خلال ما لديهم من سُنَّةِ النَّبِيِّ. فهي التي تُبَيِّنُ القُرْآنَ وَتُخَصِّصَ عُمُومَهُ. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) مسلم، " الجامع الصحيح "، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: (44) كتاب فضائل الصحابة (4) باب من فضائل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، حديث رقم 2408، 4/ 1873، الطبعة الثانية: 1972 م، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان.

2 - رواية " المسند ": أ - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا بِغَدِيرِ خُمٍّ، فَنُودِيَ فِينَا: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ، [وَكُسِحَ] لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى [بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟»] قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» قَالَ: فَلَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: «هَنِيئًا يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَمُؤْمِنَةٍ» " مسند أحمد 4/ 281 (*). ب - عَنْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي خُمٍّ فَأَمَرَ بِالصَّلاَةِ فَصَلاَّهَا بِهَجِيرٍ، قَالَ: فَخَطَبَنَا، وَظُلِّلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبٍ عَلَى شَجَرَةِ سَمُرَةٍ مِنَ الشَّمْسِ، فَقَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَوْ [أَلَسْتُمْ] تَشْهَدُونَ، أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَإِنَّ عَلِيًّا مَوْلاَهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» (**). ج - عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، قََالاَ: نَشَدَ عَلِيٌّ النَّاسَ فِي الرَّحَبَةِ: مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ إِلاَّ قَامَ، قَالَ: فَقَامَ مِنْ قِبَلِ سَعِيدٍ سِتَّةٌ، وَمِنْ قِبَلِ زَيْدٍ سِتَّةٌ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: «أَلَيْسَ اللَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ؟» قَالُوا: بَلَى قَالَ: «اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ». " مسند أحمد / 4 وج 1 ( ... ). 3 - رواية الحاكم في " المستدرك ": عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَنَزَلَ غَدِيرَ خُمٍّ أَمَرَ بِدَوْحَاتٍ [فَقُمْنَ]، فَقَالَ: «كَأَنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأَجَبْتُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِتْرَتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَوْلاَيَ، وَأَنَا مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ»، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا وَلِيُّهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» (****) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) أحمد بن حنبل، " المسند " تحقيق شعيب الأرناؤوط - عادل مرشد، وآخرون، 30/ 430، حديث رقم 18479، الطبعة الأولى: 1421 هـ - 2001 م، نشر مؤسسة الرسالة. (**) المصدر السابق: 32/ 73، حديث رقم 19325. ( ... ) المصدر السابق: 2/ 262، حديث رقم 950. (****) الحاكم، " المستدرك على الصحيحين "، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، 3/ 118، حديث رقم 4576، الطبعة الأولى: 1411 هـ - 1990 م، نشر دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان.

بِطُولِهِ. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِطُولِهِ (" المستدرك: 3/ 109). . 4 - رواية ابن حجر العسقلاني: روى علي بن أبي طالب وأبو هريرة وجابر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم عن النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال يوم غدير خُمٍّ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» (" تهذيب التهذيب ": 7/ 337). 5 - رواية السيوطي: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ». «اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» (" تاريخ الخلفاء ": ص 114 و 169). 6 - [رواية أبي نعيم]: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» (" حلية الأولياء ": 4/ 23). رواية أبي نعيم وهي كغيرها لا تتعلق بالخلافة أو الإمامة أو الوصاية. 7 - روايات كتب التفسير: يذكر القزويني أن كتب التفسير أجمعت على حديث الغدير كما ذكره، والثابت في هذه المراجع هو: أ - وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه وَابْن عَسَاكِر بِسَنَد ضَعِيف عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «لَمَّا نَصَّبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ فَنَادَى لَهُ بِالولاَيَةِ هَبَط جِبْرِيلٌ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]» (" الدر المنثور ": 2/ 259). فهذه الروايات ضعيفة وليس فيها تعيين الإمام عَلِيٍّ وَصِيًّا وخليفة بعد النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعيين الأئمة الاثني عشر ولكن القزويني يوهم الناس بغير ذلك.

ب - ورد في " تفسير الفخر الرازي عن آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]. ذكر المفسرون في سبب نزول الآية، أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» فَلَقِيَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَقَالَ: هَنِيئًا لَكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ أَصْبَحْتَ مَوْلاَيَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ (" تفسير الرازي ": 3/ 431). ج - " تفسير ابن كثير ": يذكر القزويني أن حديث الغدير ورد بيانًا لقول الله تعالى للنبي: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ... وأن ابن كثير أورد الرواية محل الخلاف (ج 2 ص 14). وبالرجوع إلى هذا التفسير وجدناه كغيره قد خلا من الأصل الذي يساق من أجله حديث الغدير وهو تعيين عَلِيٍّ وَصِيًّا بعد النبي وإسناد الخلافة إلى الأئمة الاثني عشر من نسل فاطمة. كما أورد ابن كثير رواية ابن أبي حاتم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ لَمْ يُبْدِهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ. فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَاللَّهِ مَا وَرَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوداءَ فِي بَيْضَاءَ. قال: وهذا إسناد جيد. كما ذكر ابن كثير رواية " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّ عَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سُئِلَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ (أي الراوي وهب): وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». والعقل يعني الديات. 4 - " تفسير المنار ": ذكر القزويني أن " تفسير المنار " (ج 6 ص 464) أورد رواية حديث الغدير كما نقلها القزويني وبالرجوع إلى تفسير القرآن الحكيم المُسَمَّى بـ " تفسير المنار " بنفس الجزء وبذات

الصفحة تبين أن ما فيها هو: «وَرَوَتِ الشِّيعَةُ عَنِ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. النَّصُّ عَلَى خِلاَفَةِ عَلِيٍّ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَشَجَّعَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الآيَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِوِلاَيَةِ عَلِيٍّ فَتَخَوَّفَ أَنْ يَقُولُوا: حَابَى ابْنَ عَمِّهِ، وَأَنْ يَطْعَنُوا فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا نَزَلَتِ الآيَةُ عَلَيْهِ فِي غَدِيرِ خُمٍّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فِعْلِيٌّ مَوْلاَهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ». ثم قال الشيخ رشيد رضا تعليقًا على ذلك: «وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ وَأَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ مُخْتَلِفَةٌ، فِيهَا المَوْضُوعُ وَالضَّعِيفُ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ فِي غَزْوَةِ الْيَمَنِ، وَأَنَّهُ رَأَى [مِنْهُ] جَفْوَةً فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ يَشْكُو عَلِيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ إِذْ لَمْ يَفْعَلُ إِلاَّ مَا يُرْضِي الْحَقَّ، خَطَبَ النَّاسَ فِي غَدِيرِ خُمٍّ، وَأَظْهَرَ رِضَاهُ عَنْ عَلِيٍّ وَوِلاَيَتَهُ لَهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالاَتِهِ». ثم قال الشيخ رشيد رضا تعليقًا على ذلك: «وَيَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّ الْحَدِيثَ لاَ يَدُلُّ عَلَى وِلاَيَةِ السُّلْطَةِ، الَّتِي هِيَ الإِمَامَةُ أَوِ الْخِلاَفَةُ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى، بَلِ الْمُرَادُ بِالْوِلاَيَةِ فِيهِ وِلاَيَةُ النُّصْرَةِ وَالْمَوَدَّةِ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا فِي كُلٍّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (*) وَمَعْنَاهُ: مَنْ كُنْتُ نَاصِرًا وَمُوَالِيًا لَهُ فَعَلِيٌّ نَاصِرُهُ وَمُوَالِيهِ، أَوْ مَنْ وَالاَنِي وَنَصَرَنِي فَلْيُوَالِ عَلِيًّا وَيَنْصُرْهُ. وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْفُو أَثَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَيَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَعَلَى مَنْ يَنْصُرُ النَّبِيَّ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَهَذِهِ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ]، وَقَدْ نَصَرَ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَوَالاَهُمْ. فَالْحَدِيثُ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى مَنْ وَالاَهُمْ مِثْلُهُ، بَلْ حُجَّةٌ لَهُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُهُمْ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى مَنْ وَالَى مُعَاوِيَةَ وَنَصَرَهُ عَلَيْهِ. فَهُوَ لاَ يَدُلُّ عَلَى الإِمَامَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى نَصْرِهِ إِمَامًا وَمَأْمُومًا. وَلَوْ دَلَّ عَلَى الإِمَامَةِ عِنْدَ الْخِطَابِ لَكَانَ إِمَامًا مَعَ وُجُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالشِّيعَةُ لَا تَقُولُ بِذَلِكَ». ثم قال الشيخ رشيد رضا: «وَلِلْفَرِيقَيْنِ أَقْوَالٌ فِي ذَلِكَ، لاَ نُحِبُّ اسْتِقْصَاءَهَا، وَالتَّرْجِيحَ بَيْنَهَا لأَنَّهَا مِنَ الْجَدَلِ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَمَا دَامَتْ عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ غَالِبَةً عَلَى ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: [سورة المائدة، الآية: 51]، [سورة الأنفال، الآيتان: 72، 73]، [سورة التوبة، الآية: 71]، [سورة الجاثية، الآية: 19].

الْجَمَاهِيرِ فَلاَ رَجَاءَ فِي تَحَرِّيهِمُ الْحَقَّ فِي مَسَائِلِ الخِلاَفِ، وَلاَ فِي تَجَنُّبِهِمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الخِلاَفِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْعَدَاءِ، وَلَوْ زَالَتْ تِلْكَ الْعَصَبِيَّةُ، وَنَبَذَهَا الْجُمْهُورُ لَمَا ضَرَّ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ ثُبُوتُ هَذَا الْقَوْلِ أَوْ ذَاكَ؛ لأَنَّهُمْ لاَ يَنْظُرُونَ فِيهِ حِينَئِذٍ إِلاَّ بِمِرْآةِ الإِنْصَافِ وَالاعْتِبَارِ، فَيَحْمَدُونَ الْمُحِقِّينَ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُخْطِئِينَ {اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. ثُمَّ إِنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ الإِمَامَةِ لَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ لَتَوَاتَرَ وَاسْتَفَاضَ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلاَفِ، وَلَتَصَدَّى عَلِيٌّ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِالنَّصِّ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا يَحْسُنُ بَيَانُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الإِمَامُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلاَ احْتَجَّ بِالآيَةِ هُوَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ آلِ بَيْتِهِ وَأَنْصَارِهِ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ، لاَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ (بعد وفاة النبي)، وَلاَ يَوْمَ الشُّورَى بَعْدَ عُمَرَ، وَلاَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلاَ بَعْدَهُ فِي زَمَنِهِ، وَهُوَ [هُوَ] الَّذِي كَانَ لاَ تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ التَّقِيَّةَ فِي قَوْلٍ وَلاَ عَمَلٍ؛ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ، وَوُضِعَتْ لَهَا الرِّوَايَاتُ، وَاسْتُنْبِطَتِ الدَّلاَئِلُ بَعْدَ تَكَوُّنِ الْفِرَقِ، وَعَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْخِلاَفَةِ لاَ مُنَاسَبَةَ لَهَا فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهِيَ مِمَّا لاَ تَرْضَاهُ بَلاَغَةُ الْقُرْآنِ». أما وجود الحديث في مراجع الشيعة فروايته غير متصلة فالراوي بينه وبين النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرون ويروي عنه مباشرة، وَحُجَّتُهُمْ في ذلك أن أئمتهم لهم خاصية المعرفة دون حاجة إلى تلقين الرواة حسبما ذكره محمد رضا المظفري في كتاب " عقائد الإمامية ": ص 96 والكُليني في " الكافي ": ج 1 ص 271. وفقيه الشيعة العالم المحدث الشيخ يوسف البحراني في كتابه " الكشكول " تحت عنوان (حديث الغدير) نقل عن ابن الجوزي صحة الرواية وهي «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» (" الكشكول ": ج 2 ص 316 طبعة طهران، مكتبة نينوى الحديثة).

[الصحابة وحديث غير خم]

[الصَّحَابَةُ وَحَدِيثُ غَدِيرِ خُمْ]: إن من يقول بصحة حديث غدير خم الذي قيل أنه اشتمل على وصية النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأئمة الاثني عشر، ومن يعتقد ذلك يطعن في الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة بل ويرميهم بالخيانة والكفر وهو لا يجهل أن هؤلاء قد اتخذهم النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُسُلاً له وزراء وقوادًا، وكان القرآن يتنزل على النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يكشف المنافقين، أو بأعمال لله فيها حكم آخر، فمثلاً عن الأشخاص: حذر القرآن النبي ممن أقاموا مسجدًا من المنافقين فقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ... } [التوبة: 107]، وعن الأعمال التي ألغاها القرآن قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ... } [الأنفال: 67]. فلو كان كبار الصحابة من المنافقين أو خانوا النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما نسي الخالق العليم أن ينبه إلى ذلك، ليعزلهم ويحذر منهم، ولنزل القرآن بذلك أيضًا، وبالتالي فلا حجة لمروجي هذه الأكاذيب (¬1). بل إن الوصية التي قيل إنها نص في إمامة الاثنا عشر وعلى رأسهم الإمام عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، هذه الوصية قد جاء في بعض مصادر الشيعة ما ينقضها، فقد روى اليعقوبي: «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ خِيَارُهُمْ عَلَى خِيَارِهِمْ وَشِرَارُهُمْ عَلَى شِرَارِهِمْ» (¬2). ويثبت الدكتور النشار أن كلمة الشيعة لم يرد ذكرها على الإطلاق في عصر الخلفاء الراشدين وحتى مرحلة خلافة الإمام عَلِيٍّ فلم يذكرها اليعقوبي أو المسعودي وهما مؤرخان شيعيان (¬3)، بل إن الإمام عَلِيًّا قد نقل عنه ما ينفي هذه الوصية إذ يقول: «إما أن يكون عندي عهد من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا والله ولكن لما قتل الناس عثمان نظرت في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد هلكا ولا عهد لهما وإذا الخليفة الذي أخذها بمشورة المسلمين قد قتل» (¬4). ¬

_ (¬1) " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة ". (¬2) " تاريخ اليعقوبي ": ج 2 ص 187. (¬3) " نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام " للدكتور علي سامي النشار: ج 2 ص 15 ط. 1385 - 1965 م. (¬4) " الإمامة والسياسة " لابن قتيبة: ص 45، 46. و" نظام الخلافة " للدكتور مصطفى حلمي: ص 117.

ورواية اليعقوبي «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» هي بذاتها ما روتها كتب السنة المعتمدة عن أهل السنة والجماعة وهي لا تحدد أشخاصًا بأسمائهم كما جاء في رواية حديث غدير خم. إن الاعتقاد بالإمامة والوصاية من أهم عقائد الشيعة الإمامية حيث يرون أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أثناء عودته من حجة الوداع وقف في غدير خُمْ في نحو عشرين ألفًا من الصحابة وأعلن أن عَلِيًّا هو الوصي والإمام من بعده وحصر الأئمة في اثنا عشر إمامًا كلهم معصومون ولا يجوز عليهم الخطأ وكل منهم ينص ويعلن عن الإمام الذي يليه (¬1)، وهذه من الأمور المتواترة عندهم ومن المعلوم من الدين بالضرورة ولكن الإمام الحسن ابن الإمام عَلِيٍّ وهو الإمام الثاني الاثنا عشر عندما قامت الحرب بينه وبين معاوية وتبادلا الرسائل ليقنع كل منهما الآخر في أحقيته بالخلافة، الإمام الحسن في هذه الرسائل التي أوردها الأصفهاني (¬2) (الشيعي) لم يشر من قريب أو بعيد إلى حديث غدير خُمْ، بل انتهى مختارًا إلى نتيجة تنقض هذا الحديث، فعلى الرغم من كثرة أنصاره وأتباعه وعجز معاوية عن محاربته فقد تنازل عن الخلافة لمعاوية. والأمر الآخر أنه في كتاب الصلح الذي وجهه إلى معاوية ورد فيه: «وَلَيْسَ لِمُعَاوِيَةَ أَنْ يَعْهَدَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، بَلْ يَكُونُ الأَمْرُ مِنْ بَعْدِهِ شُورَى بَيْنَ المُسْلِمِينَ». وهذا معتقد أهل السنة وهو أن الإمامة والخلافة شورى بين المسلمين وغير محصورة في الأئمة الاثنا عشر، والإمام الحسن في هذه الرسائل لم يعلل طلب الإمامة لنفسه بوصية النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بحديث غدير خُمْ، بل طلب البيعة والطاعة له حتى يحقن دماء المسلمين، وفي رسالة معاوية كان الرد أنه الأكبر سِنًّا والأقدم تجربة والأكثر سياسة والأطول ولاية؟. كما يذكر النُّوبَخْتِي من علماء الشيعة أن أتباع الحسن افترقوا بعد مقتل الحسين ومنهم من قال بإمامة محمد بن الحنفية وأنه الإمام المهدي بل منهم من قال أنه لم يمت وغاب ليعود ويملأ الأرض عدلاً (¬3). ¬

_ (¬1) " أصل الشيعة وأصولها " للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء: ص 272. (¬2) " مقاتل الطالبيين " للإمام أبو الفرج الأصفهاني: ص 55. (¬3) " فرق الشيعة " للنوبختي: ص 24، 62. و" الصواعق المحرقة " لابن حجر: 134.

لما كان ذلك فإن من يدعي تواتر حديث الغدير ويتهم صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتمانه وخيانة الأمانة بذلك إنما يُكَذِّبُ القرآنَ الكريم الذي وَثَّقَ هؤلاء وزكاهم، كما أنه يتهم آل البيت بخيانة هذه الأمانة لعدم إظهارهم هذا الحديث (جَدَلاً)، وذلك لانتفاء عذر إخفائه حيث أن عصمتهم توجب أن يبلغوه ولا يخشون أحدًا، ما أن تجمع القوة بيدهم خلال خلافة الإمام عَلِيٍّ ثم مبايعة المسلمين للحسن والحسين يسقط كل أسباب كتمان مثل هذا الحديث إن وجد، فلو كانت وصية النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواردة في هذا الحديث قد نزل بها جبريل وفيها قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]. لو كان ذلك صحيحًا ما تخلف أئمة آل البيت - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، عن الجهر بها، بل ما تخلف أحد من الصحابة عن التسمك بها، فدل ذلك على عدم ثبوتها وأن هذه الآية قد نزلت في شأن اليهود والنصارى ويؤكذ ذلك ما قبلها وما بعدها من الآيات القرآنية.

22 - دعوى التكفير بين السنة والشيعة:

22 - دَعْوَى التَّكْفِيرِ بَيْنَ السُنَّةِ وَالشِّيعَةِ: لقد لخص الإمام ابن تيمية عقيدة أهل السنة بشأن الفرق التي تنازعت وهي من أهل القبلة فقال: «وَأَمَّا السَّلَفُ وَالأَئِمَّةُ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي عَدَمِ تَكْفِيرِ المُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ [المُفَضِّلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ] وَلَمْ تَخْتَلِفْ نُصُوصُ أَحْمَدَ فِي أَنَّهُ لاَ يُكَفَّرُ هَؤُلاَءِِ» (¬1). وقال عن الخوارج: «وَإِذَا كَانَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ ثَبَتَ ضَلاَلُهُمْ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ لَمْ يُكَفَّرُوا مَعَ أَمْرِ [اللَّهِ وَرَسُولِهِ] بِقِتَالِهِمْ فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ فِي مَسَائِلَ غَلِطَ فِيهَا مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ؟ فَلاَ يَحِلُّ لأَحَدِ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ أَنْ تُكَفِّرَ الأُخْرَى وَلاَ تَسْتَحِلَّ دَمَهَا وَمَالَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بِدْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ» كما قال البغدادي: «فِرَقُ الإِمَامِيَّةِ مَعْدُودُونَ مِنْ فِرَقِ الأُمَّةِ» (¬2). كما لخص إمام الشيعة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء رأيه في هذه المسألة بقوله: «إن الجماعات الإسلامية بين السنة والشيعة لا تختلف في الاعتقاد بالله ونبوة محمد وأنه خاتم الرسل، وفرضية الصلاة والزكاة والصوم والحج والتصديق والمعاد. وما دام ذلك وما دامت القبلة واحدة والقرآن الكريم في مكان القداسة من الجميع فلا يعتد بالخلافات الأخرى. فإذا اقتصر المعتقد على التوحيد والنبوة والمعاد والعمل بالفرائض ولم يعتقد بالأئمة وعصمتهم تجري عليه جميع أحكام الإسلام» (¬3). ولكن هذه القواعد الأصولية لم يعمل بها أخوة من أهل السنة فقالوا بكفر الشيعة لاعتقادهم بالعصمة وبالإمامة وتحريف القرآن. كما أن جمعًا من الشيعة قد قالوا: نُكَفِّرُ أهل السنة والخوارج بل بكفر الصحابة وتحريف القرآن. 1 - يقول الشيخ محمد رضا المظفر: «نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها» (" عقائد الإمامية ": ص 93، دار القدير). «ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصومًا من جميع الرذائل والفواحش ومن السهو والخطأ والنسيان» (" عقائد الإمامية ": ص 95). ¬

_ (¬1) و (¬2) " مجموع الفتاوى ": ج 3 ص 351، 282. و " الفرق بين الفرق ": ص 21. (¬3) " أصل الشيعة وأصولها ": ص 134، و " السنة المفترى عليها " - الفصل الثالث.

[إباحة دم النواصب]:

2 - ويقول الشيخ حسين ابن الشيخ محمد آل العصفور الدرازي البحراني: «إِنَّهُ لَيْسَ النَّاصِبُ إِلاَّ عِبَارَةٌ عَنْ التَّقْدِيمِ عَلَى عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - غَيْرَهُ». ويقول: «هُوَ مَا يُقَالُ لَهُ عِنْدَهُمْ سُنِّيًّا» (" المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل " الخراسانية ": ص 147، 157. طبعة 1399 هـ). 3 - وقال في " شرح نهج البلاغة " للراوندي: إن النبي سئل عن الناصب فقال: «مَنْ يُقَدِّمُ عَلَى عَلِيٍّ غَيْرَهُ» (" شرح نهج البلاغة " للراوندي: ص 145). 4 - يقول الخميني: «أَمَّا النَّوَاصِبُ وَالخَوَارِجُ لَعَنَهُمْ اللهُ فَهُمَا بَخْسَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ» (" تحرير الوسيلة ": ج 1 ص 118). ويقول: «لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَى الكَافِرِ بِأَقْسَامِهِ حَتَّى المُرْتَدُّ وَمَنْ حُكِمَ بِكُفْرِهِ مِمَّنْ اِنْتَحَلَ الإِسْلاَمِ كَالنَّوَاصِبِ وَالخَوَارِجِ» (" تحرير الوسيلة ": ج 1 ص 79). 5 - وَيُعَرِّفُ المامقاني الملقب بالعلاَّمة الثاني النواصب فيقول: «" كتبت إلى محمد بن علي بن عيسى أسأله عن الناصب هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما؟ " فرجع الجواب: " من كان على هذا فهو ناصب "». ويقول: «يجري حكم الكافر على من لم يكن اثنا عشريًا» (" مقدمة تنقيح المقال ": ص 207، طبعة النجف: 1352 هـ). [إِبَاحَةِ دَمِ النَّوَاصِبِ]: [1] وحكم النواصب هو ما رواه شيخ الشيعة محمد بن علي بن بابويه الملقب بـ (الصَّدُوقِ) بسنده عن داود بن فرقد قال: «قلت لأبي عبد الله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: ما تقول في مقتل الناصب؟»، قال: «حلال الدم ولكني أتقي عليك فإن قدرت أن تقلب عليه حائطًا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل». قلت: «ما ترى في ماله؟» قال: «توه ما قدرت عليه» (" علل الشرائع " للصدوق: ص 601، الطبعة الثانية). [2] ويقول الدرازي: «وقد تقدم خبر إسحاق بن عمار وفيه: إن كل شيء يملكه الناصب حلال إلا امرأته» (" المحاسن النفسانية ": ص 165، 166). [3] ويقول: «إن الأخبار في هذا بالغة حد التواتر المعنوي وكلها شاهدة بما ذكرنا فلا

23 - الحقيقة الغائبة:

عصمة لقول من ذهب إلى إسلامهم، «فَالَّظاهِرُ كُفْرُ مَنْ خَالَفَ الشِيعَةَ الاثْنَا عَشَرِيَّةَ» (المرجع السابق: ص 139 و 144). 4 - ويروي الطوسي عن أبي عبد الله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قال: «خُذْ مَالَ النَّاصِبِ حَيْثُمَا وَجَدْتَهُ وَادْفَعْ إِلَيْنَا الخُمُسَ» (" تهذيب الأحكام: ج 4 ص 122. و " وسائل الشيعة ": ج 6 ص 340). 23 - الحَقِيقَةُ الغَائِبَةُ: لقد غاب عن أصحاب هذه الأقوال أن الإمام عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - لم يقل بكفر الخوارج ولهذا رفض سبي نسائهم وأطفالهم وهذه الروايات تكفرهم. كما أنه لم يثبت عن أحد من الأئمة الاثني عشر أنهم قالوا بكفر أهل السنة أو الخوارج أو غيرهم من المسلمين الذين خالفوا الشيعة الإمامية فأنكروا مسألة الإمامة، ومقتضاها: أن الأئمة بعد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثني عشر حددهم الله كما أنكروا عصمة هؤلاء الأئمة بمعنى تخويلهم خاصية الرواية عن الله مباشرة. وغاب عن إخواننا الشيعة حقيقة هامة وهي أن هذه الروايات التي تقطع بكفر من لم يكن من الجعفرية الاثنا عشرية، ليست من الروايات الصحيحة المتصلة إلى هؤلاء الأئمة، فالروايات فيها عنهم أو عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلة وغير متصلة، وهي موقوفة على من رواها ولكن بحوارنا مع علماء الشيعة المعاصرين قالوا: «لا نصحح أي كتاب عدا القرآن الكريم، ولا نأخذ بكل ما في كتبنا مهما كان المؤلف من الثقات. والنقد عندنا يبلغ حد القسوة أحيانًا في السند والدلالة والسياق وفي المقارنة وفي الصدور» (¬1). ومعنى هذا أن هذه الروايات لاَ يُسَلِّمُونَ بِهَا بل تخضع للتمحيص. ولكن العصمة عند الشيعة تشمل العصمة في التبليغ فيمتنع الكذب والسهو والخطأ على أئمتهم في تبليغ الأحكام عن الله تعالى، لكن نقلت عنهم الأحكام بالرواية المتصلة أو بروايات مجهولة ليست فيها إشارة إلى أسماء الرواة، ذلك أن اتصال الرواية بالراوي ليست شرطًا لصحة الرواية عندهم فيمكن أن ينسب قول إلى النبي أو أحد الأئمة المعصومين عند الشيعة دون أن يذكر الراوي أسماء من روى عنهم، مثل ¬

_ (¬1) " السنة المفترى عليها ": ص 99 نقلاً عن الشيخ الآصفي و " أصل الشيعة ".

الروايات السابقة التي تحكم بكفر من عدا الجعفرية والتي تُعَرِّفُ النواصب بأنهم أهل السنة وتضغ لهم أحكامًا هي أحكام الكفار والمرتدين عن الإسلام. وهذا ليس تكهنًا، فقد روى المُفِيدُ في " الأمالي " عن جابر قال: «قُلْتُ لأًبٍي جَعْفَرَ البَاقِرَ: «إِذَا حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثٍ فَأَسْنِدْهُ لِي». فقال: «حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي رَسُولَ اللهِ عَنْ جِبْرَائِيلَ عَنْ اللهِ، وَكُلَّمَا أُحَدِّثُكَ فَبِهَذَا الإِسْنَادِ». وَقَالَ: «يَا جَابِرُ: الحَدِيثُ وَاحِدٌ تَأْخُذُهُ عَنْ صَادِقٍ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (" الأمالي " للشيخ المفيد: ص 26). وفي هذا يقول الشيخ الآصفي: «إِنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَادِرٍ عَنْهُمْ فِي الأُصُولِ أَوْ الأَحْكَامِ لَيْسَ مِنْ رَأْيِهِمْ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ اِجْتِهَادِهِمْ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَسْتَنِدُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انْتَهَى عِلْمُهُمْ إِلَيْهِمْ وَيَرْوُونَهَا عَنْهُمْ، سَوَاءٌ رَوَوْهَا كَمَا يَرْوِي المُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ مُسَلْسَلاً، مُسْنَدًا، أَمْ أَرْسَلُوهَا إِرْسَالاً». وهنا يكمن الخطر ففي الوقت الذي يؤكد فيه بعض علماء الشيعة المعاصرين على عدم قبولهم أي كتاب إلا القرآن الكريم. نراهم هم أنفسهم يقولون إن العبرة بمدى ثقة الراوي وأن عدم إسناد الرواية إلى من رواها لا تقدح في هذه الرواية طالما صدرت عن ثقة. وعلى هذا فلدينا روايات عن الثقات من الشيعة لشأن حكم النواصب وهو أنه حلال المال والدم، وأن النواصب هم أهل السنة. بينما النواصب في التاريخ الإسلامي هم من استخدمهم يزيد بن معاوية في محاربة آل البيت - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وانتصر بهم عليهم (¬1). ولا وجود لهم في عصرنا. وهكذا في جميع المسائل الرئيسية المختلف عليها مثل الزعم بتحريف القرآن وكفر الصحابة عدا قلة من آل البيت، نجد علماء من الشيعة ينكرون هذا الغلو والتطرف بل والتحريف. ثم نجد غيرهم يصرون على هذه الروايات المزيفة والتي ليس لها من سند صحيح أو متصل بمن نسبوها إليهم من الأئمة المفترى عليهم بهذه الأقوال. ¬

_ (¬1) " تفسير المنار " للشيخ محمد رشيد رضا: ج 6 ص 303.

ونجد من أهل السنة من يقول: إن الذين ينكرون تحريف القرآن وكفر الصحابة إنما يقولون ذلك من باب التقية والمداراة ويستدلون بقول نعمة الله الجزائري: «إِنَّمَا صَدَرَتْ عَنْهُمْ مِنْ أَجْلِ مَصَالِحَ كَثِيرَةٍ» (" الأنوار النعمانية ": ج 2 ص 357). ولهذا يحتاج هذا كله إلى وقفة موضوعية من علماء الشيعة الجعفرية خصوصً الذين يدل واقعهم على أنهم ينكرون هذه الروايات، فيلزمهم النظر في تعليل توثيقهم وغيرهم لأصحاب هذه الافتراءات وتعليل استمرار طبع هذه الكتب دون تحقيق علمي لها يثبت عدم صحة هذه الأقوال ورأيهم في الأمور التالية الواردة في كتبهم: 1 - عدم جواز الصلاة خلف أهل السنة إلا تقية: (انظر " التقية " للخميني: ص 198. " الاستبصار " للطوسي: 1/ 428. " الوافي ": 5/ 164 - 181. " جامع أحاديث الشيعة ": 6/ 410 وما بعدها. " من لا يحضره الفقيه " للصدوق: 1/ 81. " التهذيب " للطوسي: 1/ 255. " الكافي في الفروع " للكُليني: 1/ 318. " الخلل في الصلاة " للخُميني: ص 9. " مصباح الفقيه ": 1/ 145. " مسالك الأفهام ": ص 38. " المعتبر " للمحقق الحلي: ص 242. " مستدرك الوسائل " للنوري: 1/ 489. " الوسائل " للحر العاملي: - أبواب صلاة الجماعة، - استحباب حضور الجماعة خلف من لا يقتدى به للتقية والقيام في الصف الأول معه. " غنائم الأيام " للقمي: ص 236). 2 - نجاسة أهل السنة: (انظر: " مسالك الأفهام ": ص 3 - 4. " مفتاح الكرامة " للعاملي: ص 143، 144. " مصابيح الفقيه ": 4/ 19، 31، 45 , 53. " غنائم الأيام ": ص 65، 66، 87، 88. " المعتبر " للحلي: ص 89. " الوافي ": 5/ 443. " الرسالة الصلاتية " للبحراني: ص 21. " الأنوار النعمانية ": 2/ 306. " الوسائل " للعاملي: - باب نجاسة ساري أصناف الكفار، و - باب كراهة الاغتسال بغسالة الحمام. " الاستبصار " للطوسي: 1/ 18. " الأصول من الكافي ": 2/ 65. " الروضة البهية " للشهيد الثاني: 1/ 49. " تحرير الوسيلة " للخميني: 1/ 118. " الفصول المهمة " للعاملي: ص 92). 3 - عدم صحة الصلاة على موتى أهل السنة ودفنهم في مقابر الشيعة وأن دفنوا وجب نبش قبورهم: (انظر: " مسالك الأفهام ": ص 12. " مصباح الفقيه ": 3/ 24، 25، 73. " غنائم الأيام ": ص 296. " مستدرك النوري ": 1/ 112، " الوسائل " للحر العاملي: - باب كيفية الصلاة على المخالف. " تحرير الوسيلة " للخميني: 1/ 79، 89. " زبدة الأحكام " للخميني: ص 44. 4 - نقل البحراني في كتابه " الكشكول ": ج 1 ص 169: «أَنَّ الإِمَامِيَّةَ هُمْ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ لاَ غَيْرَ، لأَنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ يَكُونُ بِالإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَبِوِلاَيَةِ أَهْلِ البَيْتِ».

الحقيقة الغائبة ومصدر تبليغ الأحكام:

الحَقِيقَةُ الغَائِبَةُ وَمَصْدَرُ تَبْلِيغِ الأَحْكَامِ: نقلت قول الشيخ الآصفي في البند / 5: «إِنَّ أَئِمَّةَ الشِّيعَةِ إِنَّمَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَقُولُونَ مِنْ أَحْكَامٍ». وقد ذكر أنه لا حرج أن يستوعبوا من الأحاديث ما لم يستوعبه سائر الصحابة. ولكن أئمة الشيعة الذين عاصروا النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويمكن أن ينقلوا عنه هم الأربعة (علي وفاطمة والحسن والحسين - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -) وهؤلاء روايتهم للحديث النبوي قليلة ومحدودة بشهادة كتب الشيعة، فأكثر الأحكام ينقلونها عن باقي الأئمة الذين لم يعاصروا النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم ستة رجال. فهل يمتد عصر التشريع إلى ما بعد عصر النبوة حتى يملك هؤلاء التشريع؟ يقول الإمام محمد باقر الصدر في كتابه " تعارض الأدلة " ص 30: «ثَبَتَ فِي مَحَلِّهِ انْتِهَاءَ عَصْرِ التَّشْرِيعِ بِانْتِهَاءِ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الأَحَادِيثَ الصَّادِرَةَ عَنْ الأَئِمَّةِ المَعْصُومِينَ لَيْسَتْ إِلاَّ بَيَانًا لِمَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الأَحْكَامِ وَتَفَاصِيلِهَا» (1). لما كان ذلك فإن الأحكام الشرعية الورادة في كتب الشيعة أو في غيرها من الكتب، لا حجة فيها إلا إذا استندت إلى نص صريح من القرآن الكريم أو السنة النبوية. والأحاديث النبوية لا تعلم بالفراسة أو الإلهام أو الرؤيا إنما تعلم برواية الثقة عن غيره من الثقات حتى تتصل بالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولهذا يجب ذكر أسماء الرواة حتى يعلم مدى عدالتهم وبالتالي مدى قبول روايتهم، وفي هذا يوقل الشيخ محمد جواد مغنية وهو أحد علماء الشيعة المعاصرين: «إِنَّ عُلَمَاءَ السُنَّةِ وَالشِّيعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ قِيَاسَ العَمَلِ بِالحَدِيثِ هُوَ الثِّقَةُ بِصِدْقِ الرَّاوِي وَأَمَانَتِهِ فِي النَّقْلِ، سُنِّيًّا كَانَ أَوْ شِيعِيًّا، تَمَامًا كَالحِكْمَةِ يَأْخُذُهَا المُؤْمِنُ أَنَّى وَجَدَهَا» (¬1). فصدق الراوي وأمانته شرط جوهري في قبول ما يسنده من الأحاديث إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولهذا لا يقبل الحديث إذا ¬

_ (¬1) من مقال له في " اللواء الأردنية " بتاريخ 7/ 1 / 1987 م.

أخفى الراوي أحد الأشخاص الذين روى عنهم، ومن باب أولى لا يقبل من أحد نسبة حديث إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرون إلا إذا ذكر أسماء الرواة في جميع الطبقات من عصره إلى عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن هذا الشخص حتى لو كان من أئمة الشيعة لا يمكن أن يستوعب الأحاديث النبوية ولا أن يتلقاها عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مباشرة حيث لم يكن معاصرًا له كما أنه لا يقول الشيعة باستمرار الوحي حتى آخر أئمتهم وهو الإمام محمد المهدي الذي يعتقدون أنه اختفى في سرداب في سُرَّ مَنْ رَأَى (سَامُرَّاءْ) وما زالوا ينتظرون خروجه، وبالتالي فهم لا ينسبون إلى الأئمة الاثني عشر التلقي عن الله لأن ذلك من خصائص الأنبياء وبالتالي ينتهي التشريع بانتهاء عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبهذا قال الإمام محمد باقر الصدر. ولا ينكر مسلم أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كلفه الله أن يبلغ أحكام الشريعة إلى الناس، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل، الآية: 44]. وقد بين ذلك عن طريق السنة القولية والعملية وكان هذا البيان لجميع الصحابة فلم يخصوا به الأربعة الذين هم أئمة الشيعة من آل البيت، كما لا يقول مسلم أنه خص هؤلاء بالأحكام الشرعية وأخفاها عن باقي الصحابة والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [سورة المائدة، الآية: 67]. فالذين رَوَوْا السنة النبوية القولية والعملية هم الصحابة جميعًا بما فيهم آل البيت مثل عَلِيٍّ وفاطمة والحسن والحسين أو غيرهم ممن لا يعدهم الشيعة من آل البيت كابن عباس وحمزة وجعفر وعاتكة وأم هانئ وغيرهم. ولهذا فإن اشتراط علماء الشيعة أو بعضهم حصر الأحاديث النبوية في الأئمة المعصومين عندهم واشتراطهم عدم قبول رواية الحديث إلا إذا كان الراوي من الإمامية أي من الشيعة الجعفرية، هذا من شأنه رد الغالبية العظمى من أحاديث النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي التي رواها الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - ثم يضطر هؤلاء إلى الالتجاء إلى القياس والاجتهاد لتبليغ أتباعهم أحكام الدين.

فهل يصبح هذا الاجتهاد والقياس حديثًا نبويًا لأن المجتهد من الشيعة الجعفرية أو أئمتهم؟. لقد وجدت كتب للحديث النبوي عندهم وهي " الكافي " و " الاستبصار " و " التهذيب "، و " من لا يحضره الفقيه "، وهذه الكتب ليست كلها رواية متصلة من أصحابها إلى أئمتهم الذين وجدوا في عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالتالي فإن الأحاديث المدونة بها قد خلا أكثرها من الإسناد فتجد الروايات تذكر عن عدة من أصحابنا أو عن الإمام جعفر ثم تعد هذه الأقوال أحاديث عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع وجود الفارق الزمني الكبير بين أصحاب هذه الروايات وبين النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو فارق زمني يصل إلى عدة قرون، ويستند الشيخ الآصفي إلى الثقة في الراوي بينما هذا الراوي مجهول لم يذكر اسمه ثم يستند إلى أن الله لديه وسائل وأسباب للتلقي والتعليم تغيب عن علمنا ولكن مع التحفظ على هذا القول فإنه تجب التفرقة بين العلم الذي ينسب إلى صاحبه من العلماء أو الأئمة وبين الأحكام التي تنسب إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهذه لا تكون إلا وحيًا من الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، فالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يبلغ من الأحكام إنما يبلغ عن طريق الوحي من الله الذي قال في ذلك: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم، الآيتان: 3 - 4]. فهل تبليغ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأحكام الشرعية لا يكون إلا عن طريق الوحي بينما تبليغ الأئمة الاثني عشر للأحكام الشرعية يكون بغير طريق الوحي؟

الفصل الرابع: السنة وشبهة الظنية:

الفَصْلُ الرَّابِعُ: السُنَّةُ وَشُبْهَةِ الظَنِّيَّةِ: - تقسيم السنة في الماضي والحاضر. - مدى الشك في ثبوت السنة وسبب التفرقة بينهما. - أحاديث الآحاد بين الظن واليقين. - استحالة العمل بغير اعتقاد.

24 - تقسيم السنة في الماضي والحاضر:

24 - تَقْسِيمُ السُنَّةِ فِي المَاضِي وَالحَاضِرِ: لقد اصطلح علماء الحديث على تقسيم الحديث النبوي إلى متواتر وآحاد وَعَرَّفُوا الحديث المتواتر بأنه الذي رواه في الطبقات الثلاث (أي في عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين) عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب. وحد التوتر أي العدد الذي يصبح به الحديث متواترًا شيء غير متفق عليه، كما عَرَّفُوا الآحاد من الأحاديث بأنها تلك التي رواها في الطبقات الثلاث عدد لا يبلغ حد التواتر. هذا التقسيم اصطلح عليه الفقهاء و [المُحَدِّثُونَ]، ولم يكن في عصر الصحابة أو التابعين إنما دعت الحاجة إليه بعد شيوع الفتن وبدء تمحيص السُنَّةِ وتحديد مراتبها. ولقد رتب الفقهاء والمحدثون على هذا التقسيم آثارًا أهمها أن السنة المتواترة تفيد العلم القطعي كالقرآن أما سنة الآحاد فتفيد العلم الظني، غير أن الحديث إذا صحت نسبته للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبح واجب العمل والعلم، لا فرق في ذلك بين المتواتر والآحاد، وبذلك قال السيوطي وابن الصلاح وابن حزم وغيرهم. وهذا التقسيم من الناحية العملية ومن حيث وجوب العمل بالحديث النبوي لا يكاد يذكر لسببين.

25 - أحاديث الآحاد بين مدرستي الرأي والحديث:

الأول - أن الجميع متفقون على وجوب العمل بالمتواتر والآحاد من الأحاديث. الثاني - أن الغالبية العظمى من الأحاديث النبوية ابتدأت آحادًا من حيث الرواية في عصر الصحابة، ثم تواترت في عصر التابعين وتابع التابعين، كما أن المتواتر يكون في اللفظ ويكون في المعنى، والتواتر اللفظي لا يزيد عن أربعة عشر حديثًا، وقيل أقل وقيل أكثر وذلك للاختلاف في حد التواتر. أما المتواتر المعنوي فهو اشتراك العدد من الرواة في رواية معنى واحد بالألفاظ المختلفة، وهذا كثير جدًا في السنة القولية والعملية. وأهم أثر لتقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد هو في أمر من رد الحديث، فمن أخذ باصطلاح المتواتر والآحاد - وهم أغلبية الفقهاء - لا يقولون بكفر من رد الأحاديث الآحاد لأنها ظنية الثبوت بينما يرون كفر من رد الأحاديث المتواترة. ومن قال إن التواتر والآحاد قطعي الثبوت يقولون بكفر من رد شيئًا من الأحاديث سواء كانت بطريق التواتر أو الآحاد. 25 - أَحَادِيثُ الآحَادِ بَيْنَ مَدْرَسَتَيْ الرَّأْيِ وَالحَدِيثِ: ولكن مع هذا يختلف الفقهاء في شروط إعمال أخبار الآحاد تبعًا لمدى توثيقهم للخبر، فالأحناف وسائر علماء الكوفة والذين أطلق على فقههم اسم مدرسة الرأي كانوا يرون أن أخبار الآحاد ظنية، وبالتالي لا يعمل بها إن خالفت ما هو أقوى منها، أي القرآن والسنة المتوترة والمشهورة لأن الدليل المعارض قطعي وبالتالي لا تخصصه سُنَّةُ الآحاد أو القياس.

وفقهاء أهل المدينة والذين كانوا يسمون بمدرسة الحديث كانوا يرون أن دلالة العام ظنية، وبالتالي فسنة الآحاد لأنها من الخاص، تخصص عام القرآن وكما تخصص عام الأحاديث المتواترة والمشهورة، ويرون أن السنة كلها تستقل بتشريع الأحكام ولو كان راوي الخبر لم يعمل به فالمعمول عليه عندهم هو صحة السند، ولكن الإمام مالك وهو من فقهائهم كان يقدم عمل أهل المدينة على أخبار الآحاد، ونسب إليه أنه يقدم القياس وظاهر القرآن على سُنَّةِ الآحاد، ولهذا لم يعمل بحديث «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا [إِحْدَاهُنَّ] بِالتُّرَابِ» وذلك لعدم روايته التتريب مع الغسل (" تنوير الحوالك ": ص 55، و" الموافقات " للشاطبي: ج 3 ص 21). وسبب ذلك أن الإمام مالك يرى أن عمل أهل المدينة هو بمثابة رواية جماعية وبالتالي يقدمه على الآحاد، وهو لا يقدم عليها القياس مطلقًا بل يقدم ما اعتضد منه بقاعدة عامة قطعية، وفي هذا يقول ابن رشد: «ومالك يرجح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول» (¬1). بالتالي إذا تعارضت الرواية الجماعية مع رواية الآحاد قدم الرواية الجماعية على رواية الآحاد، وليس أدل على ذلك من أن الإمام مالك قال في كتابه " الموطأ ": «إن في كتابي هذا حديث رسول الله وقول الصحابة وقول التابعين ورأيا هو إجماع أهل المدينة». كما أن الإمام مالك يبرأ من تقديم شيء على الكتاب والسنة فقد روى ابن حزم في كتابه " الأحكام " عن معين القزاز عن الإمام مالك أنه قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطىءُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي فَكُلُّ مَا وَافَقَ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقْ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَاتْرُكُوهُ». ¬

_ (¬1) " مناهج الاجتهاد " للدكتور مدكور: ص 630، و " إعلام الموقعين " لابن القيم: ج 1 ص 21، وانظر في ذلك " إعلام الموقعين ": ج 1 ص 130، و " أدب الاختلاف " للدكتور طه فياض: ص 84 و 91.

حجية أحاديث الآحاد بين العموم والخصوص:

وقد أثر عن الإمام أبي حنيفة أنه يقدم القياس على أحاديث الآحاد، والحقيقة التي نقلها الشعراني في كتابه " الميزان " هي أن الإمام أبا حنيفة تبرأ من هذا الادعاء وقال: «كَذَبَ وَاللهِ وَافْتَرَى عَلَيْنَا مَنْ يَقُولُ إِنَّنَا نُقَدِّمُ القِيَاسَ عَلَى النَصِّ وَهَلْ يُحْتَاجُ بَعْدَ النَصِّ إِلَى القِيَاسِ». كما أنكر الإمام الكرخي القول بتقديم الأحناف القياس على أحاديث الآحاد وقال: «لَمْ يَقُلْ أَصْحَابُنَا - أَيْ الأَحْنَافُ - بِذَلِكَ بَلْ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى القِيَاسِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُمْ عَمَلُوا بِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا، أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ، وَإِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ»، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: «لَوْلاَ الرِّوَايَةَ لَقُلْنَا بِالقِيَاسِ» (¬1). وقد نسب ابن أمير الحاج دعوى تقديم القياس على خبر الواحد إلى أحد فقهاء الحنفية وهو عِيسَى بْنُ أَبَانٍ المتوفى سَنَةَ 231 هـ. حُجِيَّةُ أَحَادِيثِ الآحَادِ بَيْنَ العُمُومِ وَالخُصُوصِ: والحقيقة أن التثبيت في قبلو أخبار الآحاد على الصورة التي عرفت إنما يرجع إلى فترة تاريخية معينة اكتشف فيها أن بعض أعداء الدين قد اختلقوا أحاديث ونسبوها إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعد أن دونت السنة وكثرت الرحلات العلمية زالت هذه الشبهة وعاد الأمر إلى عصر الصحابة، وهو أن العبرة بتوافر الثقة في الراوي، فمن كان ثقة كان صادق الخبر ولو كان نفرًا واحدًا، ومن كان غير ذلك لا تقبل روايته وحسبنا أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرسل عنه رسولاً واحدًا في المهام المختلفة مهما كانت طبيعة المهمة وخطورتها، فقد كان الإمام عَلِيٍّ هو رسول اللنبي إلى مكة سَنَةَ تسع من الهجرة ليخبرهم أحكام الله في المشركين وقتالهم، كما كان قيس بن عاصم هو الموفد بأحكام الإسلام إلى عشيرته نيابة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما كان معاذ بن جبل هو رسول النبي إلى اليمن، وكان غيرهم ¬

_ (¬1) " مناهج الاجتهاد " للدكتور محمد سلام مدكور: ص 601.

أفرادًا إلى قومهم وروايتهم إليهم رواية آحاد، وكان في ردها أخطر الآثار ألا وهو القتال، ولكن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرسل مع هؤلاء الرسل عددًا ليبلغ حد التواتر، وكان يستطيع أن يفعل ذلك فدل فعله على صحة ما تضمنه هذا الكتاب وأن خبر الآحاد إذا صدر عن ثقة يكون حُجَّةً في جميع الأمور، ولهذا قال الإمام الشافعي في " الرسالة ": «فَلاَ يَجُوزُ عِنْدِي عَنْ عَالِمٍ أَنْ يُثْبِتَ [خَبَرَ وَاحِدٍ كَثِيرًا، وَيُحِلُّ بِهِ، وَيُحَرِّمُ]، وَيَرُدَّ مِثْلَهُ: إِلاَّ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ، أَوْ يَكُونَ مَا سَمِعَ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ أَوْثَقَ عِنْدَهُ مِمَّنْ حَدَّثَهُ خِلاَفَهُ، أَوْ يَكُونَ مَنْ حَدَّثَهُ لَيْسَ بِحَافِظٍ، أَوْ يَكُونَ مُتَّهَمًا عِنْدَهُ، أَوْ يَتَّهِمَ مَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ حَدَّثَهُ، أَوْ يَكُونَ الحَدِيثُ مُحْتَمِلاً مَعْنَيَيْنِ، فَيَتَأَوَّلَُ فَيَذْهَبَُ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ» (" الرسالة ": ص 100). لقد أثر عن فقهاء الرأي عدم تخصيص عموم القرآن أو السنة المتواترة بأحاديث الآحاد وعدم الأخذ فيما زاد عن القرآن ولكنهم خالفوا ذلك في الأحكام العملية كانتقاض الوضوء بالضحك في الصلاة وبالنوم مضطجعًا، أما فقهاء مدرسة الحديث فيرون استقلال سُنَّةِ الآحاد بتشريع الأحكام كقضاء النبي بشاهد ويمين المدعي ورجم الزاني (¬1). كما يرون أنها تخصص عام القرآن والسنة المتواترة لأن الدلالة هنا ظنية فيقوى خبر الآحاد على تخصيصها، بينما ترى مدرسة الرأي أن هذه الدلالة قطعية وكذلك دلالة الخاص قطعية فلا يخصص أحدهما الآخر إلا عند التعارض (¬2) وأن عرف المتأخر منهما كان هو الناسخ فإذا لم يعرف يعمل بقطعي الثبوت منهما وهو القرآن والسنة المتواترة ومثلها المشهورة وإذا لم يعرف تاريخ العام أو الخاص كان العام هو الأخير احتياطًا (¬3). ¬

_ (¬1) و (¬2) و (¬3) " كشف الأسرار " للبزدوي: ج 3 ص 10 وج 1 ص 291 عن " مناهج الاجتهاد ": ص 104، 123، 602، و" بدائع الصنائع " للكاساني: ج 5 ص 45، و" إعلام الموقعين ": ج 2 ص 289.

26 - مدى الشك في ثبوت السنة وسبب التفرقة بينها:

26 - مَدَى الشَكِّ فِي ثُبُوتِ السُنَّةِ وَسَبَبِ التَّفْرِقَةِ بَيِْنَهَا: نظرًا لأن السُنَّةَ النَّبَوِيَّةَ ولا سيما الأحاديث القولية لم تدون كلها في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما أن روايتها تعتمد على فقه الراوي وحفظه، فقد كان الصحابة يتحرون الدقة في رواية الأحاديث النبوية وقد تمثلت هذه الدقة في أمرين: الأول - كان بعض الصحابة يتوقفون في قبول روايات مَنْ هُمْ محل شك في قدرتهم على الحفظ والنقل ويعرضون هذه الرواية على ما ورد في القرآن الكريم وفي السُنَّةِ النَّبَوِيَّةَ المنقولة عن الثقات في الحفظ والروية ومن الأمثلة على ذلك: 1 - ما روته فاطمة بنت قيس من أن زوجها طلقها ثلاثًا وأن رسول الله لم يقض لها بالنفقة والسكن (¬1)، فقد أورد ذلك النسائي ولكن هذه الشهادة لم يطمئن إليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وَرَدَّهَا مُعَلِّلاً الرَدَّ بقوله: «لاَ نَدَعُ كِتَاب رَبِّنَا وَسُنَّة نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لاَ نَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ». جاء هذا في " صحيح مسلم "، كما قالت عائشة: «يَا فَاطِمَةُ أَلاَ تَتَّقِينَ اللهَ» (¬2)، فالرد للمرأة وليس لحديث ثابت عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) رواه النسائي وصححه بعضهم، " السراج المنير " للمقريزي: ج 3 ص 379. (¬2) رواه البخاري: 9/ 477.

2 - أيضًا ما رواه أبو داود عن معقل بن يسار (*) من أن النبي قضى في المرأة التي مات عنها زوجها قبل الدخول وقبل أن يسمي المهر بأن لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط. ولكن الإمام علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لم يطمئن إلى هذا الراوي لوجود ما يعارض روايته وهو قول الله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، ففهم الإمام من الآية أن من طلقها زوجها قبل التدخول وقبل أن يجعل لها مهرًا لا تستحق صداقًا لرفع الله الجناح عن الزوج ومثلها من مات عنها زوجها قبل الدخول وتحديد المهر ولقد فهم الصحابي عبد الله بن مسعود غير ذلك وعنه أخذ بعض الفقهاء ولكن الخلاف لم يكن حول قبول الحديث بل حول ثبوته. الأمر الثاني - الروايات المنقولة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعارض نَصًّا في القرآن أو حُكْمًا ثابتًا للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالدقة والأمانة جعلت بعض الصحابة يستوثق من صدق الراوي أو من حفظه خصوصًا إذا كان الحكم جديدًا على الصحابي الذي سمع الحديث. ومن الأمثلة على ذلك: 1 - أن خليفة رسول الله أبا بكر الصديق رفض أن يعطي الجدة ميراثًا من تركة حفيدها لأنه قال كما جاء في " سنن أبي داود " و " الترمذي ": «مَا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى [شَيْءٌ]، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا»، ولكن لما عارضه المغيرة بن شعبة وقال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهَا السُّدُسَ»، احتاط أبو بكر فسأله: «هَلْ مَعَكَ أَحَدُ الشُّهُودِ بِذَلِكَ؟»، قَالَ: «مَعِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ»، فلما اطمأن أبو بكر أخذ بهذه السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وقضى بها للجدة.

ومن الأمثلة على الدقة في الرواية: 2 - الإمام علي قال: «كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ [مِنْهُ]، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ» (¬1). 3 - ومن الأمثلة على رد الرواية للشك في حفظ الراوي ما رواه الإمام مسلم أن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قد ذكر لها أن عبد الله بن عمر روى حديثًا فيه: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ»، فقالت عائشة: «يَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ» إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» (¬2). وإن كانت أم المؤمنين - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قد حفظت هذه الرواية ورجحتها بقول الله تعالى: {وَََلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ومن ثم نسبت الخطأ أو النسيان إلى ابن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - ولكن ثبت أيضًا أن البخاري ومسلمًا رَوَيَا عن عمر بن الخطاب أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ» وفي رواية «بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» (¬3)، ولا يوجد تناقض بين الروايتين فقد قال ابن جرير الطبري وانتصر له ابن تيمية أنه يعذب بمعنى يتألم ويحزن لبكاء أهله عليه أو نياحتهم، وفسرها آخرون بمعنى يعاقب (وهذا يكون إذا صدرت منه وصية بذلك، وقد أخرج البخاري حديثًا آخر عن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - ونصه: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ» (¬4). ¬

_ (¬1) " مناهج الاجتهاد في الإسلام " للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور: ص 552، قد نقل هذا عن " تذكرة الحفاظ ": جـ 1 ص 9. (¬2) " مختصر صحيح مسلم " للمنذري: جـ 1 ص 126، الحديث 465. (¬3) و (¬4) " نيل الأوطار " للشوكاني: جـ 4 ص 116، و" اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ": جـ 1 كتاب الجنائز، ص 186.

طَبِيعَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الآحَادِ وَالمُتَوَاتِرِ: إن هذا التثبت ليس رَدًّا لحديث قد ثبت عن النبي بل هو مراجعة على الراوي، وهذا يشمل كل ما يروى عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم ينص أحد على التفرقة بين الحديث المتواتر وحديث الآحاد، لأن الاصطلاح لم يظهر في عصر الصحابة حتى يقال إنهم كانوا يتقبلون الأحاديث المتواترة ويردون أحاديث الآحاد أو يضيقون نطاقها، بل كانوا جميعًا يقبلون الحديث النبوي متى اطمأنوا إلى الرواية على النحو الذي سبق ذكره، وظل هذا خلال عصر التابعين بل والعصر الذي يليه (¬1). وفي هذا قال ابن حزم: «إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا» (¬2) وقال أيضًا: «القرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض وهما شيء واحد في أنهما من عند الله - ومن جاء بعده خبر عن رسول الله يقر أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله، أو قد صح مثل ذلك الخبر في مكان آخر، ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أو لقول فلان أو فلان، فقد خالف أمر الله ورسوله» (¬3). لقد جاءت عصور فيها وضع العلماء مصطلحات ظنها المتأخرون قواعد شرعية، وهي ليست من القرآن ولا من السنة ولا من آثار الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، ولكن كان الغرض من هذا المصطلح هو التفرقة في الحكم بالكفر ¬

_ (¬1) " وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة " للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. (¬2) و (¬3) " الإحكام في أصول الأحكام ": جـ 1 ص 88، 97، 124.

26 - أخطاء وجناية ضد السنة:

بين من رد حديثًا متواترًا، فهذا يكون كافرًا، وبين من رد حديثًا غير متواتر لشكه في الرواية فهذا لا يكون كافرًا. وكفر من رد الحديث النبوي المتواتر لا يكون إلا في حق من يعلم أن الحديث ثابت عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم أصر على أنه غير ملتزم بالسنة النبوية الواردة في هذا الحديث وجحد حكمها وأنكره سواء تعلق الحكم بفرائض كعدد الصلوات أو نوافل كهيئة الصلاة وما ورد فيها من تسبيح لأن الرد والإنكار في هذه الأحوال ليس هو ترك العمل، فهذه معصية بل ينصب حول رد الوحي والرسالة في شطر منها، وهذا كفر بالله ورسوله (¬1). 26 - أَخْطَاءٌ وَجِنَايَةٌ ضِدَّ السُنَّةِ: إن قول عمر بن الخطاب: «لاَ نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لاَ نَدْرْي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ». وكذلك تَحَفَّظَ بعض الصحابة كأبي بكر وعلي وعائشة وتحريهم نسبة الحديث إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبح لدى بعض علماء عصرنا وخصوصًا بعض أساتذة علوم الشريعة منهجًا خاصًا في شأن رد خبر الآحاد لأنه ظني الثبوت مع أن هؤلاء الصحابة لم يصرحوا أو يلمحوا بذلك، بل لم يعرفوا اصطلاح المتواتر والآحاد لأنه ظهر بعد عصرهم. كما أن اصطلاح فقهاء المذاهب الجماعية في تقسيم الحديث النبوي إلى متواتر ومشهور، والآحاد تحول أثره من التفرقة بين من يحكم بردته وكفره وهو الذي يرد الحديث المتواتر، ومن لا يحكم عليه بالكفر وهو رد حديث الآحاد، تحول من هذا الأثر إلى القول إن أحاديث الآحاد ليست حُجَّةً في أمور مختلفة إذ يقول الشيخ محمد ¬

_ (¬1) مثال ذلك كتاب " أصول الفقه الإسلامي " للشيخ زكي شعبان: ص 67 حيث قال: «وَلَكِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَدَّ الحَدِيثَ». والمنقول أنه شك في حفظ الراوي ولم يرد حديثًا ثبت عنده.

عبده «ولا يمكن أن يعتبر حديث من حديث الآحاد دليلاً على العقيدة» (¬1). ويرى الدكتور عبد الحميد متولي أن سنة الآحاد لا يمكن أن يثبت بها حكم دستوري. ويرى آخرون أنها لا تصلح في الحدود والعقوبات، وهكذا ظهرت مادة علمية تغرس في نفوس الطلاب أن السنة النبوية ظنية الثبوت، وهم يعلمون أن الأحاديث المتواترة، نادرة، وأن أحكام الشريعة أكثرها من سنة الآحاد وأنها ملزمة للأمة، ومن ثم تصبح هذه الأقوال جناية ضد السنة النبوية لا تقل أثرًا عن جناية المستشرقين وتلاميذهم من المسلمين، لأن هذه الأقوال قد خلت من بيان المقصود من هذه الظنية وأنه لا أثر لها على العمل بهذه السنة في العبادات والمعاملات والحدود وغيرها ولم يذكر هؤلاء أن جمعًا من الفقهاء يقولون أن أحاديث الآحاد تفيد العلم وتوجب العمل لأنه لا عمل بغير علم حيث قال بذلك الإمام أحمد وبعض أهل الحديث وداود الظاهري وابن حزم وآخرين كما لم تقترن أوصاف هؤلاء لهذه السنة بالظنية، بما قرره الأحناف والشافعية وجمهور المالكية من أن هذا الظن يوجب العمل بهذه السنة لأنه لا تلازم بين وجوب العمل وإفادة علم اليقين بل يكفي الظن الراجح، بل قال الغزالي: أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمي الظن علمًا وهذا لا يتعارض مع قطعية وجوب العمل بها فالظن والقطع غير [واردين] على محل واحد، فمبعث الظن هو المخبر عنه من جواز الخطأ والنسيان ومعبث القطع إنما هو حكم الله ولا تعارض في أن حكم الله يوجب العمل بمقتضى الظن والعمل بخبر الآحاد قد تواتر بإجماع الصحابة وبتواتر الأحاديث الدالة على عمل النبي (¬2). ¬

_ (¬1) " الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ": جـ 5 ص 37 للشيخ عمارة عن " رسالة التوحيد " للأستاذ الإمام. (¬2) " المستصفى " للغزالي: جـ 1 ص 93، و" الأحكام " للآمدي ": جـ 2 ص 49، و" الأحكام " لابن حزم: جـ 1 ص 107 - 133، و" أصول الحديث " للدكتور محمد عجاج الخطيب: ص 302، و" الرسالة " للإمام الشافعي: ص 401، و" ضوابط المصلحة " للدكتور محمد سعيد [البوطي]: ص 165، و" التقريب " للنووي: ص 41.

27 - السنة والمصطلحات الحديثة:

27 - السُنَّةُ وَالمُصْطَلَحَاتُ الحَدِيثَةُ: الحديث المتواتر عند من يأخذون بهذا الاصطلاح هو الذي يرويه عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب، ويشترط أن يتوفر هذا العدد من الرواة في زمن صحابة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزمن التابعين، ثم عصر تابع التابعين. أما الحديث المشهور أو المستفيض فهو ما رواه الآحاد من الرواة في عصر الصحابة، ثم رواه في الطبقتين التاليتين عدد يبلغ حد التواتر. أما حديث الآحاد فهو الذي لم يبلغ حد الشهرة ولا حد التواتر، ولكن من الفقهاء من يقسم السنة النبوية إلى متوتر وآحاد، وبذلك يكون المشهور ضمن أحاديث الآحاد. إن أصحاب هذا المصطلح لم يتفقوا على عدد الرواة الذي يكون فاصلاً بين المتواتر والمشهور والآحاد فقد اختلفوا في عدد رواة الحديث من كل نوع حتى تجد المشهور عند قوم متواترًا عند آخرين، فالباقلاني يحدد المتواتر بما رواه أربعة فأكثر واشترط غيره عشرة، بينما عند أبي الهذي عشرين فأكثر. قال الحافظ ابن كثير: «والشهرة أمر نسبي، فقد يشتهر عند أهل الحديث أو يتواتر ما ليس عند غيرهم [بالكلية]، ثم [قد] يكون المشهور متواترًا أو مستفيضًا، وهو ما زاد نقلته على ثلاثة. وعن القاضي الماوردي: أن المستفيض أقوى من

المتواتر. وهذا اصطلاح [منه]» ... وقال: «وقد يشتهر بين الناس أحاديث لا أصل لها، أو هي موضوعة بالكلية. وهذا كثير جدًا، ومن نظر في كتاب " الموضوعات " لأبي الفرج بن الجوزي عرف ذلك، وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: " أربعة أحاديث تدور بين الناس في الأسواق لا أصل لها: " مَنْ بَشَّرَ بِخُرُوجِ آذَارْ بَشَّرْتُهُ بِالجَنَّةِ " وَ " مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ " وَ " نَحْرُكُمْ يَوْمَ صَوْمِكُمْ " وَ " لِلْسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ "». إن المتواتر عند من يأخذون به ينقسم إلى متواتر في اللفظ وهو الذي روي في الطبقات الثلاث بلفظ واحد مثل حديث: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». ومتواتر في المعنى وهو الذي تختلف ألفاظه ورواياته ولكن يتواتر معناه مثل أحاديث الصلوات ومناسك الحج وغيرها مما لا مجال لحصره لأنه كثير منهم من يروي الأحاديث بالمعنى، أي بألفاظ من عنده فالخطبة الواحدة أو الموضوع الواحد يرويه بألفاظ مختلفة ولم ينكر أحد منهم ذلك، وفي هذا قال الصحابي زُرَارَةُ بْنِ أَوْفَى: «لَقِيتُ عِدَّةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي اللَّفْظِ وَاجْتَمَعُوا فِي المَعْنَى» (¬1). وقد استدلوا لذلك بقول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَّرَ اللَّهُ امَرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ» (¬2). والتواتر المعنوي في الأحاديث النبوية، هو الذي قصده شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: ¬

_ (¬1) " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي: جـ 1 ص 411. (¬2) رواه أحمد بسند صحيح.

«فَالمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ [نَقْلٌ مُتَوَاتِرٌ عَنْ نَبِيِّهِمْ بِأَلْفَاظِ القُرْآنِ وَمَعَانِيهِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَبِالسُّنَّةِ المُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ] مِثْلُ: كَوْنِ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ وَالعِشَاءِ أَرْبَعًا، وَ [كَوْنِ] المَغْرِبِ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ، وَكَوْنِ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ وَمِثْلُ الجَهْرِ فِي العِشَائَيْنِ وَالفَجْرِ [وَالْمُخَافَتَةِ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَمِثْلُ كَوْنِ الرَّكْعَةِ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ]، وَكَوْنِ الطَّوَافِ بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ سَبْعًا، وَرَمْيِ الجَمَرَاتِ كُلُّ وَاحِدَةٍ سَبْعُ حَصَيَاتٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ» (¬1) (*). ومع هذا فإن المتواتر المعنوي قد عده أصحاب هذا المصطلح ضمن أحاديث الآحاد مع كثرة رواته في الطبقات الثلاث، فمثلاً خطبة النبي في حجة الوداع تدخل ضمن المتواتر المعنوي، ولا يعدونها قطعية الثبوت. إن النتائج المترتبة على هذا التقسيم قد تبدلت في عصرنا عن بعض الكُتَّابِ، فالذين أتوا باصطلاح الحديث المتواتر لم يرتبوا على هذا التقسيم رد سُنَّةِ الآحَادِ وعدم العمل بها، فهم متفقون على أن حديث الآحاد إذا رواه العدل الثقة وجب العمل به، ومنهم من قال إنه قطعي الثبوت (¬2). وهذا يشمل أمور الدين كلها سواء كانت عقائد أم عبادات أم معاملات. وكما اختلفوا في مسألة التواتر وشروطها، فقد اختلفوا في العمل بآحاديث الآحاد، إذا خالفت القرآن أو المتواتر من حديث النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فيرى أبو حنيفة ألا يعمل رواية بخلافه في الحياة العملية، ويرى مالك أنه إن خالف عمل أهل المدينة دل على عدم صحة نسبته إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال الجبائي: لا يعمل به إلا إذا رواه اثنان فأكثر، بينما يكتفي ¬

_ (¬1) نقلاً عن كتاب " الحديث النبوي " للصباغ: ص 245. (¬2) قال ذلك ابن حزم في " الإحكام ": جـ 1 ص 119 واستحسنه ابن القيم في كتابه " مختصر الصواعق المرسلة ": ص 487 وفي " إعلام الموقعين ": ص 394 جـ 2، وهو معنى قول الشافعي في " الرسالة ": ص 412 والنووي في " التقريب " بالنسبة لأحاديث البخاري ومسلم وكذا الشيخ أبو عمرو بن الصلاح و" تيسير الوحيين " للنجدي: ص 15 والألباني في الحديث: ص 15. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " لابن تيمية، تحقيق: علي بن حسن - عبد العزيز بن إبراهيم - حمدان بن محمد، 3/ 13، الطبعة الثانية، 1419هـ / 1999م، نشر دار العاصمة، المملكة العربية السعودية.

الإمام الشافعي بصحة السند واتصاله بالنبي عن طريق رجال ثقات عدول وهو نفس منهج الإمام أحمد وأهل الظاهر. كما يختلفون في أمر لا أثر له على قبول الحديث والعمل به. فمنهم من يرى أن حديث الآحاد يفيد غلبة الظن ولا يفيد اليقين وبالتالي فهو ظني الثبوت، ويرى آخرون أنه قطعي الثبوت ثم ظهر بعد ذلك من رأى عدم الأخذ به في العقائد، بل تجاوز بعض المسلمين ذلك فقالوا: الحكم الشرعي في العقائد يحرم أن يكون دليلاً ظنيًا، وكل مسلم يبني عقيدته على دليل ظني يكون قد ارتكب حرامًا، وكان آثمًا عند الله (¬1). والذي يلفت النظر أن اصطلاح أحاديث الآحاد والأحاديث المتواترة وما نتج عن ذلك من تفرقة في الأحكام الشرعية، لم يكن عند صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم تؤثر هذه التفرقة، فهي لم توجد إلا على أثر ظهور أحاديث موضوعة من أعداء الإسلام أو من غيرهم ومنسوبة إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مما استوجب التثبت في الأمر والتأكد من صحة نسبة الحديث إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومثل هذا التثبت يتفاوت الناس فيه - ومن هنا كانت العلة في هذا التقسيم وكانت نتيجته أن من توقف في قبول حديث من هذا النوع لا يعد كافرًا - بينما من توقف في الأخذ بحديث من الأحاديث المتواترة وأنكره يعد كافرًا. بِدْعَةُ العُلَمَاءِ المُعَاصِرِينَ: لقد تجاوز بعض العلماء المعاصرين الغاية التي من أجلها وجد تقسيم الحديث ¬

______ (¬1) كتاب " الدوسية " من كتب حزب التحرير (الإسلامي) (*): ص 6. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) كثير من مناضلي هذا الحزب وأتباعه يرفضون إضافة صفة (الإسلامي)، فالتسمية الصحيحة (حزب التحرير) فقط.

إلى متواتر وآحاد ألا وهي عصمة دم من رد حديثًا غير متواتر للشك في الراوي: 1 - «فوجدنا من يقطع بأنه لا يمكن أن تتخذ حديثًا من أحاديث الآحاد دليلاً على العقيدة، مهما قوي سنده، لأن المعروف عند الأئمة قطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، وأن الظن لا يغني من الحق شيئًا، وهذه نتيجة تغاير تمامًا المعروف عند العلماء كما أوضحناه من قبل. 2 - ووجدنا من يقول إن كل مسلم يبني عقيدته على دليل ظني يكون قد ارتكب جرمًا وإثمًا. 3 - كما قيل إنه لا فرق بين القرآن وبين السنة في حق الصحابة من حيث وجوب الامتثال، بينما يختلف هذا الموضوع في حق من جاء في الأعصر المتأخرة، لأن الأحاديث لم تصلهم عن طريق متواتر يقيني» (¬1). كما قال الدكتور عبد الحميد متولي: «إن أحاديث الآحاد لا تصلح في الأمور الدستورية لأهميتها، وقال غيره: إنها لا تصلح في العقوبات لخطورتها، ثم كان رد بعض العلماء بأن عدم يقينية أخبار الآحاد هو ما قرره جميع فقهاء الشريعة الإسلامية، بل قيل لم نسمع أن فقيهًا واحدًا ادعى أن أخبار الآحاد تفيد اليقين» (¬2). ¬

_ (¬1) " الحديث النبوي " للشيخ محمد الصباغ: ص 27. (¬2) مذكرات مطبوعة للدراسات العليا بكلية الشريعة والقانون بالكويت وعنوانها " نظام الحكم في الإسلام " للدكتور حسن صبحي. وهذا اسم كتاب الدكتور عبد الحميد متولي، فوجب التنويه.

جَوْهَرُ الخَطَأِ العِلْمِيِّ: إن جوهر الخطأ في هذه الأقوال هو القطع بأن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، والزعم بأن أحدًا لم يقل أو يدعي أنها تفيد اليقين. والقطع بأنها لا تصلح في أمور العقيدة بل من المحزن القول بأن من بنى عقيدة على حديث آحاد قد ارتكب إثمًا. ومن دواعي الحزن والأسى أن أكثر مدرسي الفقه الإسلامي بالجامعات يتوسعون في إثبات ظنية أحاديث الآحاد، ويلقنون هذه الظنية دون بيان سبب هذا المصطلح المستحدث وآثاره، مما يسر اقتناع الطلاب بالتيارات التي تدعي رد هذه السُنَّةِ في بعض الأمور. وقد حدد الشيخ النجدي هذا الخطر بقوله: «رأوا تقسيم الأحاديث إلى متواترة وآحادية، فادعوا أنه لا يقبل في العقائد إلا المتواتر، وقد ادعى من جازف منهم وقل علمه بالإجماع على ذلك وهذا قول ينادي على فساد نفسه» (¬1). وبعض الخطأ يكمن في نقل مصطلح وجد أثناء تصفية السنة، وقد زال بعد ثبوتها وتدوينها وأصبح معلومًا أن الشك أو الظن في الأحاديث لا محل له بعد القرن الثالث الهجري. وإن العلة في التفرقة بين المتواتر والآحاد هي عصمة دم من رَدَّ حديثًا غير متواتر للشك في رواته؟ ومع هذا فالتواتر اللفظي أنكر ابن الصلاح وآخرين وجوده وأقر غيره وجوده في عدة أحاديث ولكن الإجماع منعقد على أن العمل بأحاديث الآحاد واجب ولا تحل مخالفته (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب " تيسر الوحيين " للشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي: ص 15، 16. الطبعة الرابعة. (¬2) " أصول الفقه الإسلامي " للأستاذ محمد مصطفى شلبي: ص 129.

28 - أحاديث الآحاد بين الظن واليقين:

28 - أَحَادِيثُ الآحَادِ بَيْنَ الظَنِّ وَاليَقِينِ: إذا كان قد نقل عن الإمام مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه يقدم عمل أهل المدينة على أحاديث الآحاد، وعن الإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه يقدم القياس على سنة الآحاد. فذلك كان قبل تدوين السنة وتمحيصها ومعرفة الصحيح منها وغير الصحيح، وبالتالي فكان عمل أهل المدينة أو القياس أكثر اطمئنانًا عندهما من الحديث الذي لم يثبت، وهما لا يقدمان شيئًا على الحديث الصحيح، ومن ثم نقل عنهما وعن غيرهما إذا صح الحديث فهو مذهبي. من أجل ذلك رحل محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) من العراق إلى المدينة، والتقى الإمام مالك وقرأ عليه " الموطأ " ثم قارنه بما لدى شيخه أبي حنيفة من أحكام، بحيث إذا وجد في مذهب الأحناف حكمًا يخالف حديثًا صحيحًا أثبت الحكم من الحديث وترك القياس (¬1). ولم يكن " صحيح البخاري " أو " مسلم " موجودًا حتى يرجع إليهما الفقيه محمد بن الحسن. ¬

_ (¬1) " حجة الله البالغة " و" الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف " للإمام ولي الله الدهلوي: ص 52، 53.

وأيضًا رحل أبو يوسف الصاحب الثاني لأبي حنيفة إلى المدينة، وقرأ " الموطأ " وصحح ما لديه من الفقه. كما كثرت المناظرات العلمية في هذا الشأن، من ذلك مناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن في حجية أحاديث الآحاد واقتناع الأخير بعدم جواز تقديم القياس عليها، ولهذا أيضًا نجد الإمام النووي في " المجموع " ينقل رأي شيخه الشافعي، فإذا وجد حديثًا صحيحًا أثبته وقال: وهذا هو المذهب. إننا لا نجد في أن خلافًا وقع بشأن مدى ثبوت أحاديث الآحاد ولكنه لا مجال له اليوم، ولذا يقول أبو الطيب صديق حسن خان: «والخلاف في إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم مقيد بما إذالم يضم إليه ما يقويه وما إذا انضم إليه ما يقويه، أو كان مشهورًا أو مستفيضًا، فلا يجدي فيه الخلاف المذكور، ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع عليه، قد صيره من المعلوم صدقه، وهكذا خبر الآحاد إذا تلقته الأمة بالقبول». وقد أوضح ابن الصلاح أن ما رواه البخاري أو مسلم مقطوع بصحته، عدا ما تكلم فيه أهل الثقة من الحفاظ كالدارقطني، وقال ذلك ابن كثير في " علوم الحديث "، ونقله العراقي في " شرحه على ابن الصلاح " عن الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي وأبي إسحاق الإسفراييني والقاضي أبي الطيب وأبي أسحاق الشيرازي، ونقله أيضًا عن السرخسي الحنفي أو عن القاضي عبد الوهاب (من المالكية) وعن أبي الخطاب وأبي يعلى من الحنابلة وعن أكثر أهل الحديث، ورجح ذلك الحافظ ابن حجر (¬1). ¬

_ (¬1) " الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث " لابن كثير: ص 16، وكتاب " الحديث حجة في العقائد والأحكام " للشيخ محمد [ناصر الدين] الألباني: ص 58، و" علوم الحديث ": ص 25.

ولما كان الأحناف يرون أن الحديث المستفيض يوجب العلم به، وكان حديث الآحاد في اصطلاحهم هو ما رواه في الطبقات الثلاث (الصحابة والتابعين وتابع التابعين) عدد لا يبلغ حد التواتر، وكان حد التواتر من خمسة رواة فأكثر. وكان من الاصطلاح عندهم أن الحديث إن اشترك في روايته اثنان أو أكثر يسمى عزيزًا، وإن كان الرواة في أي طبقة أكثر من ثلاثة سمي مشهورًا ومستفيضًا. فإنه لا يوجد ضوابط يعتمد عليها للتفرقة بين الآحاد والمشهور أو المتواتر، إذ أن زيادة رَاوٍ وَاحِدٍ لحديث الآحاد ينقله إلى المشهور وزيادة رَاوٍ وَاحِدٍ إلى الخبر المشهور يجعله متواترًا، فضلاً عن أن هذه الشروط لم تكن عند صحابة رسول الله فقد كان حديث الآحاد عندهم مقبولاً في العقائد وغيرها. والقرآن يثبت الحقوق بشهادة اثنين من العدول. وعلى ذلك فلا يحل لمسلم أَنْ يَرُدَّ حديثًا صحيحًا أو أن يزعم أن العمل به غير جائز في أمور العقيدة أو في المعجزات أو في الشؤون الدستورية أو في العقوبات أو الحدود، ولو جاز هذا المنطق لما وجد ما يمنع هؤلاء أو غيرهم من القول بأن أحاديث الآحاد لا يعمل بها في الأمور الاقتصادية لخطورتها أو في المعاملات لأهميتها، وبالتالي يصبح الإسلام طقوسًا أو لا يحكم حياة الناس ومعاملاتهم ويخضع لقاعدة (دَعْ مَا لِقَيْصَرْ لِقَيْصَرْ، وَمَا للهِ للهِ)، أو يصبح الإسلام اشتراكية علمية حسب الأسلوب الأخير للبلاشفة، وهو الزعم بأن الماركسية نظام اقتصادي ولا شأن له بالأديان، والمسلم الذي يطبق العدل الماركسي إنما يطبق الإسلام. وتكون النتيجة أن الإسلام لا يمنع أن نأخذ بالماركسية كنظام اقتصادي أو بالرأسمالية كنظام عالمي، ورحم اللهُ أئمة المذاهب الجماعية فلو كانوا يعلمون أن تقسيم الحديث سيؤدي إلى هذه النتائج ما أقروا التقسيم.

28 - حقيقة الظن المنسوب للسنة:

ورحم اللهُ الإمامَ الشافعي إذ يقول في كتابه " الرسالة ": «ولم أحفظ من فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد ... فلا يجوز عندي عن عالم أن يُثبت خبر واحد كثيرًا، وَيُحِلُّ بِهِ، وَيُحَرِّمُ، ويردَّ مثله إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه، أو يكونَ ما سمع ومَنْ سمع منه أوثقَ عنده ممن حَدَّثَهُ خِلاَفَهُ، أو يكونَ من حدثه ليس بحافظ، أو يكونَ مُتَّهَمًا عنده، أو يَتَّهِمَ من فوقه ممن حدثه، أو يكونَ الحديث محتملاً معنيين، فَيَتَأَوَّلَُ فيذهبَُ إلى أحدهما دون الآخر» (¬1). 28 - حَقِيقَةُ الظَنِّ المَنْسُوبِ لِلْسُنَّةِ: لما كان ذلك فإن قول بعض العلماء إن الأئمة قاطبة يرون أن أحاديث الآحاد تفيد الظن ولا يعمل بها في العقائد والمعجزات أو في الشؤون الدستورية والحدود أمر ليس صحيحًا حتى لو ظل بعض المدرسين بالجامعات ينقل هذا بغير إدراك لهذه النتائج. إن من يرون أن هذا الحديث ظني الثبوت لديهم شبهة في صحة نسبة الخبر إلى النبي، فالحديث المذكور غير مقطوع بصحته في فهمهم أما الظن الوارد في القرآن الذين يستندون إليه، فموضوعه هو قول الله تعالى عن الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى، وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 27، 28]. فادعاء الكفار أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله، وأن الله اصطفى البنات على البنين كما ورد في قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ، أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات: 149 - 154]. ظن باطل ¬

_ (¬1) " الرسالة ": ص 100 وما بعدها.

وهذه المزاعم هي التي قال الله عنها: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]. فالظن في هذه الآيات وفي حديث " مسلم " «فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» ليس هو اصطلاح الظنية الذي أتى بها العُلَمَاءُ المُحْدَثُونَ، والفرق شاسع بين المعنى في الحالتين. فالظن الوارد في هذه الآية وارد في معرض ترك الحق الثابت باليقين واتباع الهوى الذي لا دليل عليه، وليس كذلك الظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد، فإطلاق كلمة الظن على أحاديث الآحاد وهي في حقيقتها أكثر السنة النبوية وربطها بالمعنى الوارد عند بعضهم في عبارة «إن الأئمة قاطبة يرون أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا» خطأ مبين حيث أورد للظن معنى واحدًا حصره في المفهوم الذي اتبعه المشروكون في مواجهة حقائق القرآن، بينما الظن أصله «إِدْرَاك الذِّهْن الشَّيْء مَعَ تَرْجِيحه [وَقد يكون مَعَ اليَقِين]» (¬1)، وقد يرد في القرآن الكريم بمعنى اليقين كقول الله {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وكقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬2). وهذا القول غير صحيح لأن الأئمة قاطبة لم يقولوا إن أحاديث الآحاد ظينة الثبوت، فمنهم من قال إنها قطعية الثبوت كابن الصلاح والسيوطي وابن حزم وآخرين. وأيضًا لأن من قال: إن هذه الأحاديث ظنية الثبوت لم يربط هذه ¬

_ (¬1) " المعجم الوسيط ": جـ 2 باب الظاء. (¬2) [سورة البقرة، الآيتان: 45، 46] [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " المعجم الوسيط ": مجمع اللغة العربية، الإدراة العامة للمعجمات وإحياء التراث، (باب الظاء)، ص 578، الطبعة الرابعة: 1425 هـ - 2004 م، مكتبة الشروق الدولية.

الظنية وبين الظن الوارد في قول الله {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]، وفي الحديث «فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ». ولم يجعل هذا الاصطلاح مضعفًا لهذه السنة بحيث لا تصبح حجة في بعض أمور الدين، بل جعل الفارق بين الآحاد والمتواتر قاصرًا على حكم من شك في الحديث النبوي، فالوارد بطريق التواتر، لا مجال للشك فيه وبالتالي من رده كان كافرًا، أما ما ورد بطريق الآحاد يصبح محلاً للنظر في مدى صحة نسبته إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن ثم لا يكفر من شك في ثبوت حديث بذاته أما من شك في جميع أحاديث الآحاد ولم يأخذ بها يكون منكرًا للسنة ويكفر بذلك وظنية الآحاد سببها جواز الخطأ والنسيان من الراوي الواحد. السُنَّةُ بَيْنَ القَطْعِيَّةِ وَالظَنِّيَّةِ: إن القول بظنة سنة الآحاد أريد به جواز الخطأ والنسيان على الراوي الثقة، وقد نسب ذلك النووي إلى الأكثرية (¬1) وبهذه الظنية رد البعض حكمها. ولكن هذا لا ينطبق على جميع سنة الآحاد، بل على ما كان ضعيفًا منها أو الأحاديث التي حدث كلام في صحتها، ولهذا توجد ثلاثة مذاهب توجب القطع بثبوت أحاديث الآحاد، وتتلخص في: 1 - مذهب يقول إنها قطعية ولو لم تكن في " البخاري " و" مسلم ". 2 - مذهب يرى أن القطعية خاصة بما رواه البخاري ومسلم. ¬

_ (¬1) " التقريب ": ص 41 و" مناهج الاجتهاد ": ص 123 و 219 و 227.

3 - مذهب يرى أن سُنَّةَ الآحاد قطعية الثبوت في كل ما تلقته الأمة بالقبول وهو ما رجحه الحافظ ابن حجر في " شرح النخبة " (¬1). وما قاله ابن حزم في " الإحكام " «نقلاً عن الإمام أحمد والحارث بن أسد المحاسبي والحسين بن علي الكرابيسي وأبو سليمان الخطابي، كما روي عن عن مالك أنه قطعي موجب للعمل والعمل معًا» جـ 1 ص 108. ومنهم من قال: يفيد العلم اليقيني كابن الصلاح في " علوم الحديث ": ص 28، وابن كثير في " مختصر علوم الحديث ": ص 28، وابن تيمية كما في " مختصر الصواعق ": جـ 2 ص 383، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة مثل السرخسي والرازي من الحنفية، وابن حامد أبي الطيب وأبي أسحاق من الشافعية وأبي يعلى وأبي الخطاب، وأبي موسى من الحنابلة وذكره ابن الصلاح واختاره ومن قال أنه تفرد به عن الجمهور لم يرجعوا إلى هذه المسائل ونزلوا إلى كلام ابن الحاجب ولو ارتفعوا درجة إلى السيف الآمدي وإلى ابن الخطيب وإلى الغزالي والجويني والباقلاني لعرفوا ذلك (¬2). والنتيجة التي انتهى إليها الذين قالوا بالقطعية أو الظنية هي ما لخصه ابن القيم في قوله (¬3): «والذي ندين به ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، إن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان لا راويه ولا غيره». ¬

_ (¬1) " قواعد التحديث " للأستاذ محمد جمال الدين القاسمي: ص 87 من " شرح النخبة ": ص 7. (¬2) المرجع السابق: ص 87 نقلاً عن إعلام الموقعين. (¬3) " الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام " للألباني: ص 58.

29 - أحاديث الآحاد والعلم اليقيني:

29 - أَحَادِيثُ الآحَادِ وَالعِلْمِ اليَقِينِي: الحديث النبوي قد يرويه في عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابع التابعين، عدد من الرواة يستحيل تواطؤهم على الكذب ويسمى هذا بالحديث المتواتر. ولكن هذا العدد الذي لا يحصى قد لا يتحقق في هذه الطبقات الثلاث، وفي هذه الحالة يطلق عليه اسم حديث الآحاد مثل حديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الوارد في أول كتاب البخاري، فقد رواه الصحابي عمر بن الخطاب ولكنه اشتهر وشاع في عصر التابعين ومن بعدهم حتى رواه عدد لا يحصى في هاتين الطبقتين. ومثل هذا الحديث أجمع على نقله أصحاب كتب الحديث المشهورة المتداولة، ولهذا يرى آخرون أن مثل هذه الأحاديث متواترة إذا أجمعت هذه الكتب على إثباتها وتعددت طرقها مما يستبعد معه تواطؤهم على الكذب (¬1). ولقد أجمع العلماء على أنه فرض على كل مسلم أن يعمل بما صح من السنة النبوية سواء في ذلك ما يعد متواترًا أو آحادًا، [(¬2)] ولكنهم اختلفوا في مسألة إثبات العقائد والمعجزات بسنة الآحاد، فجمهور الفقهاء يرون أن ¬

_ (¬1) الشيخ الألباني - " وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة ": ص 24. (¬2) " مناهج الاجتهاد ": ص 508، والشيخ شلتوت في " الفتاوى ": ص 62.

أمور العقيدة لا تؤخذ إلا من النصوص المتواترة (¬1)، ويرى غيرهم أنه طالما أن العمل بالسنة كلها مجمع عليه فيستحيل أن يعمل المسلم بشيء ولا يعتقد به. وقد استدل هؤلاء الفقهاء على ذلك بالآتي: أولاً: إن التفرقة بين الأحاديث النبوية والقول إن هذا متواتر فنأخذ به في جميع الأمور لأنه قد رواه خمسة فأكثر أو سبعة فأكثر. وذلك آحاد لا يؤخذ به في أمور لأن رواته في عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبلغوا حد التواتر سالف الذكر. هذه التفرقة لا دليل عليها من القرآن أو السنة، أو إجماع الصحابة أو أقوال جمهورهم أو بعضهم وبالتالي فإنه لا يوجد سند شرعي لهذا التقسيم خصوصًا وأن القرآن الكريم قد اعتد بخبر الاثنين والأربعة وأخذ به في الحدود بما فيها من إرهاق النفس في القصاص أو غيره. قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ... } [النور: 4]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106]. ثانيًا: إن ما عليه السلف الصالح في أمر العقائد قد تجسد في آراء أحمد بن حنبل في رسائله وإجاباته، وهي تدل على أنه كان يقبل أحاديث الآحاد في الاعتقاد، ويسير على مقتضاها ولا يقتصر في الأخذ بها على العمل، فالإيمان ¬

_ (¬1) " تيسير الوحيين " للشيخ النجدي: ص 15 و" مناهج الاجتهاد ": ص 508.

بعذاب القبر ومنكر ونكير والحوض والشفاعة، والدجال ونزول عيسى، كل هذا وغيره أخذه عن أحاديث الآحاد. كما أن كل ذي حس وبصيرة يدرك أن المسلم لا يؤدي العبادة إلا بعد اعتقاده بصحة الحديث النبوي الذي أمر بهذه العبادة، والمعلوم أن العبادات قد ثبتت كلها بأحاديث الآحاد، وأنها تضمنت أمورًا هي من العقائد (¬1) ومنها الحديث الوارد في " البخاري " و" مسلم " الآمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويؤدوا أركان الإسلام وقد استند إليه الخليفة الأول في قتال مانعي الزكاة وأجمع الصحابة على ذلك. ثالثًا: أن القرآن الكريم قد تضمن اختصاص الرسول ببيان أحكام القرآن وتفصيلها. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. والرسول إنما بلغ أحكام الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد بأخبار الآحاد فوجبت الطاعة التامة لهذه الأحكام، واعتقاد وجوبها لأن العمل بها يسبقه الاعتقاد بثبوتها إذ لا عمل بغير اعتقاد. رابعًا: إن الأمانة والصدق في الرواية لا تكون بالعدد، ولهذا قال الدهلوي: «لَيْسَ مِيزَانُ التَّوَاتُرِ عَدَدُ الرُّوَاةِ وَلاَ حَالَهُمْ وَلَكِنَّ اليَقِينَ الذِي يَعْقُبُهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ» (¬2). ¬

_ (¬1) الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه " ابن حنبل ": ص 226 بند 115 و" المناقب " لابن الجوزي: ص 169. (¬2) " الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف " للإمام ولي الله الدهلوي: ص 50.

لهذا أرسل النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وحده ليبلغ الناس في موسم الحج الأحكام الواردة في سورة التوبة وفيها ما يتعلق بالكفر والإيمان وهذه من العقائد. فلو كان خبر الواحد لا يعمل به في العقائد لأرسل النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفدًا. ولكنه لم يفعل ذلك، بل أرسل نفرًا واحدًا لكل بلد ليبلغ أهلها أحكام الدين كلها بما فيها العقائد والعبادات والمعاملات. خامسًا: إن أهل البلاد استقبلوا مبعوث النبي وهو فرد واحد وتلقوا عنه هذه الأحكام. وظل الصحابة والسلف الصالح من بعدهم يقبلون خبر الآحاد في العقائد وغيرها، حتى ظهرت التقسيمات النظرية التي لا تستند إلى شيء إلا المنطق العقلي، وهو ليس مصدرًا للأحكام الشرعية بل وينقضه منطق عقلي مخالف. سادسًا قول ابن تيمية في كتابه " الفتاوى ": «كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلاً بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ العِلْمَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلاَّ فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ المُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الكَلاَمِ» (¬1). سابعًا: وهذه الحقيقة ثابتة ومؤكدة منذ عصر الصحابة فأول رسالة في هذا كتبها الإمام الشافعي فقال: «اِجْتَمَعَ المُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَديثًا عَلَى تَثْبِيتِ خَبَرَ الوَاحِدِ وَالاِنْتِهاءِ إِلَيه» (¬2). ¬

_ (¬1) " مجموع الفتاوى ": جـ 13 ص 351. (¬2) " الرسالة ": ص 106 - 121.

ثامنًا: قال الكرابيسي وابن منداد وابن حزم وأبو يعلى الحنبلي: إن خبر الواحد حجة في العقائد، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي " التَّبْصِرَةِ " وَ" شَرْحِ اللُّمَعِ ": «وَخَبَرُ الوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ يُوجِبُ العِلْمَ وَالعَمَلَ سَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ الكُلُّ أَوِ البَعْضُُُُ» ولو كان هناك دليل قطعي على أن العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد لصرح بذلك الصحابة (¬1). تاسعًا: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: «جَمِيعَُ مَا حَكَمَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللهُ - بِصِحَّتِهِ فى هَذَا الكِتَابَ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ وَالعِلْمَ النَّظَرِيَّ حاصِلٌ بِصِحَّتِهِ فِي نَفْسِ الأَمْرِ وَهَكَذَا مَا حَكَمَ البُخَارِيُّ بِصِحَّتِهِ في كِتَابِهِ وَذَلِكَ لأَنَّ الأُمَّةَ تَلَقَّتْ ذَلِكَ بِالقَبُولِ سِوَى مِنْ لاَ يُعْتَدُّ بِخِلاَفِهِ وَوِفَاقَِهِ فِي الإِجْمَاعِ» (¬2). عاشرًا: قال ابن حزم: «فَخَبَرُ الوَاحِدِ إِذَا اتصل برواية العدل إلى رسول الله وجب العمل به ووجب العلم بصحته إذ الناقل للخبر إما أن يكون عدلاً أو فاسقًا، فإن كان فاسقًا فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره، فأوجب ذلك سقوط قوله فلم يبق إلا العدل فكان هو المأمور بقبول روايته»، وقال: «جَمِيعُ أَهْل الإِسْلامِ كَانُوا عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الوَاحِدِ الثِّقَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ يَجْزِي عَلَى ذَلِكَ كُلَّ فِرْقَةَ فِي عِلْمِهَا كَأَهْلِ السِّنَّةَِ وَالخَوَارِجَ وَالشِّيَعَةَِ وَالقِدْرِيَّةَ حَتَّى حَدَثَ مُتَكَلِّمُو المُعْتَزِلَةَ بَعْدَ المِائَةِ مِنَ التَّارِيخِ فَخَالَفُوا الإِجْمَاعَ» (¬3). حادي عشر: وقال السفاريني: «وَلَمَّا وَقَفَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى اخْتِيَارِ ابْنِ الصَّلاَحِ مِنْ أَنَّ مَا أُسْنِدَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ، قَالَ: وَإِنَّا مَعَ ابْنِ الصَّلاَحِ فِيمَا عَوَّلَ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ» (¬4). ¬

_ (¬1) " وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة ": ص 24. (¬2) " شرح النووي لصحيح مسلم ": جـ 1 ص 14. (¬3) " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: جـ 1 ص 14 - 17. (¬4) " لوامع الأنوار البهية " للسفاريني: ص 17.

ثاني عشر: وأخيرًا فقد نقل عن ابن كثير أنه وقف على كلا (الشيخ) ابن تيمية مضمونه أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من أهل الإسلام، ثم قال ابن تيمية: «وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الحَدِيثِ قَاطِبَةً، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ عَامَّةً» (¬1). ولما كان ذلك كذلك، فقد أخطأ من ذكرنا ممن قالوا إن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا ال ظن، كما أخطأ الشيخ محمود شلتوت خطأ فادحًا فيما قرره بقوله أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة أو المغيبات (¬2). فلا إجماع على ذلك حسبما أوضحناه من قبل، وأحاديث الآحاد التي ثار خلاف حول كونها قطعية الثبوت أم لا، لا نجد بين علماء الأمة خلافًا حول وجوب العمل بها لأن وجوب العمل لا مجال لتقريره إلا لأن العلم بهذه السُنَّةِ يقيني وليس ظَنِّيًّا (¬3). فضلاً عن ذلك كله فإن ادعاء أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن أو لا يعمل بها في العقائد ليس عليه أي دليل من القرآن أو السنة أو عمل الصحابة بل قامت هذه الأدلة وغيرها على أن الحديث النبوي إذا صحت نسبته إلى النبي يعمل به في جميع أمور الدين. والشروط التي وضعها أصحاب هذا المعتقد تجعل الحديث المتواتر معدوم الوجود غالبًا عند جميع الفرق الإسلامية وإن وجد فهو في أربعة أحاديث أو خمسة، وجميع أمور الدين التي خول الله النبي تفصيلها وبيانها بالسنة هي أحاديث آحاد أجمع المسلمون على العمل بها ولكن الخلاف في مسألة العلم بها وهل هو ظني أو يقيني والحقيقة أن العمل لا يصح إلا إذا اعتقد المسلم بصحة الأمر به وقد استقر العمل بأحاديث الآحاد لاعتقاد المسلمين بثبوتها ويستوي أن يكون الثبوت على سبيل العلم القطعي أو اليقيني أو الظني. ¬

_ (¬1) " العقيدة في الله " للشيخ عمر سليمان الأشقر: ص 46. (¬2) " الإسلام عقيدة وشريعة ": ص 75. (¬3) " الإحكام " لابن حزم: جـ 1 ص 108.

30 - استحالة العمل بغير اعتقاد:

30 - اِسْتِحَالَةُ العَمَلِ بِغَيْرِ اعْتِقَادٍ: إن الذين قالوا إن أحاديث الآحاد تفيد وجوب العمل بها، ولا تفيد العلم الجازم، لا يريدون بذلك إنكار ما ورد بهذه الأحاديث أو رفض ما جاء بها، فمثلاً قد روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو في الصلاة بعد التشهد وقبل السلام، فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ» كما أورد الإمام مسلم هذا للدعاء في رواية لأبي هريرة فيها قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ [التَّشَهُّدِ الآخِرِ]، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ» وذكرها. فهذا الدعاء وغيره من الأفعال الواردة في سُنَّةِ الآحَادِ، يعمل به هؤلاء الذين يقولون إن هذه الأحاديث ظنية الثبوت ومنهم من يتوقف في الإيمان بعذاب القبر والمسيح الدجال، لأنه اعتقاد قلبي والعقيدة عندهم لا تثبت إلا بدليل من القرآن الكريم أو السنة النبوية المتواترة. أما الذين يقولون بأن أحاديث الآحاد توجب العلم والعمل مَعًا فيرون استحالة القول بوجوب العمل فقط لأن المسلم لا يتعبد بشيء إلا إذا اقترن ذلك بصحة هذا العمل وصدق الدليل الذي جاء به، لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقد نهى تعالى عن القول بشيء لا يؤمن بصحته فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1). وفي هذا روى ابن تيمية أن أبا بكر المروذي سأل الإمام أحمد بن حنبل عن إنسان يقول: «إِنَّ الخَبَرَ يُوجِبُ عَمَلاً وَلاَ يُوجِبُ عِلْمًا [فَعَابَهُ] وَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا [هَذَا]» (¬2). فهؤلاء يرون أنه من الصعب جدًا أو من المستحيل أن يكلف الله المسلم بدعاء التشهد وفيه التعوذ بالله من عذاب القبر ومن فتنة المسيح الدجال، ثم يعمل المسلم ذلك وهو يعتقد أن الذي يستعيذ بالله منه أمر غير ثابت والعلم بصحته غير واجب شرعًا. والجدير بالذكر أن الذين يقولون إن أحاديث الآحاد ليست حجة في العقائد، يستدلون على ذلك بأن العقيدة هي الجزم واليقين، وقد نهى الله عن اتباع الظن في العقائد فقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]. كما قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]. ولكن يلاحظ أن الظن الوارد في هذه الآيات يتعلق بإثبات الألوهية لغير الله تعالى، وهذا يختلف تمامًا عن الظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد، فالشرك مع الله تعالى يستند إلى ظن هو الوهم والخيال الكاذب الذي لا يوجد أدنى احتمال على صدقه. ¬

_ (¬1) [الأعراف: 33]. (¬2) " المسودة " [لآل] تيمية: ص 242.

أما أحاديث الآحاد فلا يقطع أحد بأنها من نوع الظن الكاذب فالغالب هو صحتها والاحتمال الضعيف هو عدم صحتها. إن الظن قد يطلق على الوهم والكذب كما هو الحال بالنسبة لمعتقدات المشركين، وقد يطلق على اليقين كما في قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ، الذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬1). ويطلق الظن كما جاء في معاجم اللغة العربية على إدراك العقل لشيء مع ترجيح ذلك، وهذا الترجيح يتفاوت حتى يصل إلى درجة اليقين. والظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد هو من هذا النوع، ولا ارتباط بينه وبين النوع الأول من الظن والمشار إليه بالنسبة لمعتقدات المشركين. إن الأمور التي ترد في أحاديث الآحاد وتوصف بأنها من العقائد، كالجنة والنار وفتنة المسيح الدجال وعذاب القبر، قد جعل بعض الفقهاء التصديق بها غير لازم لأنها أمور عقائدية لا تثبت إلا بالدليل القطعي كالقرآن والسنة المتواترة، بل منهم من قال بكفر من أخذ بهذا الخبر في مجال الاعتقاد لأنه لو جاز قبول خبر الآحاد في الرواية لجاز اتباع مدعي النبوة بلا معجزة (¬2). ولكن يجب أن نفرق بين الإيمان بالله وبالرسل وهذا أمر لا يثبت إلا بالأدلة القاطعة، وبين الأوامر الصادرة من الرسول إلى أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه. ¬

_ (¬1) [البقرة: 45، 46]. (¬2) الإمام عبد الرحيم الأسناوي في كتابه " نهاية [السول] شرح منهاج الأصول في علم الأصول ": جـ 2 ص 239 (" المنهاج " للبيضاوي).

30 - أمور العقيدة والتوقف في بعض السنة:

فالذين اتبعوا الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآمنوا بصدق رسالته، يصدقون بكل ما جاء في السنة النبوية، ويستوي في هذا الأحكام العملية وغيرها، إذ يكفي في ثبوت صدورها عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العلم القريب من اليقين. 30 - أُمُورُ العَقِيدَةِ وَالتَّوَقُّفُ فِي بَعْضِ السُنَّةِ: لهذا فالذين توقفوا في شيء من أحاديث الآحاد، إنما فعلوا ذلك لأن الحديث لم يثبت عندهم، ومن القبيل ما رواه الإمام مسلم أن عبد الله بن عمرو (*) كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينفضن رؤوسهن، فسمعت عائشة أم المؤمنين ذلك فقالت: يَا عَجَبًا لابْنِ عَمْرٍو هَذَا يَأْمُرُ النِّسَاءَ [إِذَا اغْتَسَلْنَ] أَنْ يَنْقُضْنَ رُؤُوسَهُنَّ. أَفَلاَ يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُؤُوسَهُنَّ، «لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ. وَلاَ أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلاَثَ إِفْرَاغَاتٍ». لذلك نجد الإمام أحمد بن حنبل قد صرح بأن حديث الآحاد يفيد العلم بنفسه (¬1). وأحاديث الآحاد التي كانت محلاً للتوقف أو الظن هي التي رويت خلافًا للقواعد الشرعية الثابتة، ومن ثم وجد الشك في صدق الراوي أو قدرته على الحفظ، ومن قبيل ذلك ما رواه أصحاب الكتب الخمسة من أن فاطمة بنت قيس شهدت عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأنها طلقت ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله نفقة ولا سكنى، فرد عمر شهادتها وقال: «لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لاَ نَدْرِي لاَ نَدْرْي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ (**)، لها النفقة والسكنى». ¬

_ (¬1) " توضيح الأفكار ": جـ 1 ص 370. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع (عبد الله بن عمر) والصواب (عبد الله بن عمرو بن العاص) انظر " الجامع الصحيح " للإمام مسلم، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: (3) كِتَابُ الحَيْضِ (12) بَابُ حُكْمِ ضَفَائِرِ المُغْتَسِلَةِ، حديث رقم 331، 1/ 260. الطبعة الثانية: 1972 م، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان. (**) في هذا يقول الدكتور مصطفى السباعي - رَحِمَهُ اللهُ -: إن قول عمر «لاَ نَدْرْي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ» لم يرد في كتاب من كتب الحديث قاطبة، وقد بحثت في كل مصدر استطعت الوصول إليه من مصادر الحديث في مختلف دُورِ الكُتُبِ العامة فلم أعثر على من ذكره بهذا اللفظ، بل الذي فيها «حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ» ولم يرد ذلك اللفظ إلا في بعض كتب الأصول، كـ " مُسَلَّمَ الثُبُوتِ " مَعْزُواً إلى " صحيح مسلم "، وليس في " مسلم " إلا «حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ» وقد نَبَّهَ شارح " مُسَلَّمَ الثُبُوتِ " إلى هذا فقال: «وَالمَحْفُوظُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ" " حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ "»، انظر " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 264، 265 الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م، المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان. وانظر اَيْضًا: رأي الدكتور نور الدين عتر حيث يقول: «وأما زيادة "أصدقت أم كذبت" فلا أصل لها في رواية الحديث، وقد استغلها أعداء الإسلام، والعجب أن يذكرها بعض الكاتبين في "أصول الحديث" أو أصول الفقه، ثم يعزوها لمسلم اَيْضًا، ومسلم وغيره منها براء!!» " منهج النقد في علوم الحديث " للدكتور نور الدين عتر، ص 53، الطبعة الثالثة: 1401 هـ - 1981 م، نشر دار الفكر دمشق - سورية.

وفي رواية " مسلم " قال عمر: «لاَ نَدْرِي [لَعَلَّهَا] حَفِظَتْ، أَوْ نَسِيَتْ» (¬1). وفي هذا روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «[مَا لِفَاطِمَةَ] أَلاَ تَتَّقِي اللَّهَ؟» يَعْنِي فِي قَوْلِهَا: لاَ سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةَ (¬2). من أجل ذلك قال الإمام ابن تيمية: «وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ خَبَرَ [الوَاحِدِ] قَدْ يُفِيدُ العِلْمَ إذَا احْتَفَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُفِيدُ العِلْمَ» ثم يقول: «وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لاَ يُفِيدُ إلاَّ الظَّنَّ»، ويقول: «وَالْعِلْمُ هُنَا حَصَلَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّتِهِ» (¬3). ينكر الإمام ابن الأثير [الجزري] ظنية صحيح أخبار الآحاد، فيقول في كتابه " جامع الأصول ": «[وهو] أخبار الآحاد التي لم يختلف السلف فيها وفي العمل بها» (*) ليست ظنية بل تدخل في نطاق علم الطمأنينة كما تدخل الأخبار المتواترة في علم اليقين، ويحدد علم الظن بأنه: «ما رده السلف من الأخبار التي يخشون منها الإثم على العامل بها، لقربها من الكذب، كما يخشون الإثم على تارك العمل بالمشهور، لقربه من الصدق، والمحدثون لا يطلقون اسم الصحيح إلا على مالا يتطرق إليه تهمة بوجه من الوجوه» (*) ج 1 ص 91. ويقول الإمام الشوكاني: «وَاعْلَمْ: أَنَّ الخِلاَفَ الذِي ذَكَرْنَاهُ [فِي أَوَّلِ هَذَا البَحْثِ] مِنْ إِفَادَةِ خَبَرِ الآحَادِ الظَّنَّ أَوِ العِلْمَ، مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ خَبَرُ وَاحِدٍ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يُقَوِّيهِ، [وَأَمَّا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يُقَوِّيهِ]، أَوْ كَانَ مَشْهُورًا، أَوْ مُسْتَفِيضًا، فَلاَ يَجْرِي فِيهِ الخِلاَفُ الْمَذْكُورُ وَلاَ نِزَاعَ فِي أَنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ إِذَا وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى العَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ العِلْمَ لأَنَّ الإِجْمَاعَ عَلَيْهِ قَدْ صَيَّرَهُ مِنَ المَعْلُومِ صِدْقُهُ، [وَهَكَذَا خَبْرُ الوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ فَكَانُوا بَيْنَ عَامِلٍ بِهِ وَمُتَأَوِّلٍ لَهُ]. وَمِنْ هَذَا القِسْمِ أَحَادِيثُ " صَحِيحَيِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ" فَإِنَّ الأُمَّةَ تَلَقَّتْ مَا فِيهِمَا بالقبول» (¬4) لما كان ذلك كذلك، فإن الذين يقولون أو يكتبون ما يفيد أن أحاديث الآحاد ظنية الثبوت. ¬

_ (¬1) " مصنف ابن أبي شيبة ": جـ (**)، ص 147. (¬2) " البخاري ": 9/ 477. (¬3) " [مجموع] الفتاوى ": جـ 18 ص 40. (¬4) " إرشاد الفحول ": ص 49. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) النص المثبت بين « ... » من " جامع الأصول " لابن الأثير الجزري. (**) سقط ذكر رقم المجلد في الكتاب المطبوع. انظر " مصنف ابن أبي شيبة "، تحقيق الشيخ محمد عوامة، (10) كِتَابُ الطَّلاَقِ (140) بَابُ مَنْ قَالَ فِي المُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا: لَهَا النَّفَقَةُ، حديث رقم 18982، 10/ 80، الطبعة الأولى: 1427 هـ - 2006 م، نشر شركة دار القبلة للثقافة الإسلامية - المملكة العربية السعودية، مؤسسة علوم القرآن - سوريا.

يتفقون في أن العمل بها واجب شرعًا، وهو ما يقول به أولئك الذين يعتقدون أنها قطعية الثبوت، ويصبح الخلاف في شيء غير عملي ولا يضعف من هذه السنة النبوية. والقول بغير ذلك يؤدي إلى عدم الاعتقاد بصحة أمور قد جاءت عن طريق أحاديث الآحاد وقد استقرت في نفوس المسلمين جميعًا ومنها، الإيمان بسؤال الميت في قبره وبعذاب القبر والإيمان بالصراط وبحوض النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشفاعته يوم القيامة والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، والإيمان بعلامات الساعة وصفة القيامة والحشر، فهذه وغيرها قد وردت في أحاديث صحاح بعضها من شروط الإيمان كما في " صحيح مسلم " و " البخاري " مثل سؤال جبريل للنبي عن الإيمان والإسلام وفيه قال: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالبَعْثِ» (¬1). فكيف يقبل المسلم أن يقال له إن الإيمان بهذه الأمور واجب شرعًا ولكن العلم بها ظني ولا تثبت به أمور العقيدة، مع أن هذه كلها من أمور العقيدة؟. وكيف يوفق هؤلاء بين كون هذه الأمور التعبدية والتي يدخل في الشعائر وفي الصلاة والدعاء، وبين زعمهم أن العمل بها واجب ولكن العلم بها غير واجب؟. إن هذا تناقض لا يستقيم إلا بالعودة إلى ما كان عليه الصحابة حيث لا يفرقون بين هذه الأمور. ¬

_ (¬1) " اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ": كتاب الإيمان.

الفصل الخامس: سنة الآحاد والمذاهب الجماعية:

الفَصْلُ الخَامِسُ: سُنَّةُ الآحَادْ وَالمَذَاهِبُ الجَمَاعِيَّةُ: - دعوى تقديم القياس على سنة الآحاد. - السنة وأسباب توقف الأئمة. - شبهة تقديم عمل أهل المدينة. - المذاهب والخلاف الفقهي.

31 - دعوى تقديم القياس على سنة الآحاد:

31 - دَعْوَى تَقْدِيمِ القِيَاسِ عَلَى سُنَّةِ الآحَادِ: لقد نسب إلى الإمام أبي حنيفة أنه يقدم القياس على أحاديث الآحاد، ولكن كثيرًا ما أخذ أبو حنيفة بأخبار الآحاد ثم قاس عليها، من ذلك القول بنقض الوضوء بالنوم [مضطجعًا]، وإتمام الصوم لمن أكل وشرب ناسيًا. وإذا علم الإمام في المسألة حديثًا نبويًا ولو كان من أخبار الآحاد، أخذ به وعدل عن القياس، ومن ذلك أنه كان يفتي بأن دية الإبهام أكبر من دية الخنصر لأن منفعة كل منهما ليست متساوية ثم ترك هذا القياس عندما علم أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عن أصابع اليد: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» (¬1). فالصحيح عند أبي حنيفة أنه لا يقدم القياس على ما صح عنده من الأحاديث ولو كانت آحَادًا ولكننا نجد في بعض الكتب الفقهية أن الإمام أبا حنيفة اشتهر بتقديم القياس على خبر الآحاد. فما صحة ذلك؟ يجيب على ذلك ابن أمير الحاج فيقول: «إذَا تَعَارَضَ خَبَرُ الوَاحِدِ وَالقِيَاسُ بِحَيْثُ لاَ [جَمْعَ] بَيْنَهُمَا، قُدِّمَ الخَبَرُ مُطْلَقًا عِنْدَ [الأَكْثَرِ] مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ»، وإنما نسب القول بذلك في الجملة إلى أحد فقهاء الحنفية وهو عيسى بن أبان المتوفى سنة 221 هـ (¬2). ¬

_ (¬1) " نيل الأوطار " للشوكاني: جـ 7. (¬2) " التقرير والتحبير " لابن أمير الحاج: جـ 2.

ويدافع الإمام عن نفسه فيقول: «كَذَبَ وَاللهِ وَافْتَرَى عَلَيْنَا مَنْ يَقُولُ إِنَّنَا نُقَدِّمُ القِيَاسَ عَلَى النَصِّ وَهَلْ يُحْتَاجُ بَعْدَ النَصِّ إِلَى القِيَاسِ»، ولكنه يرى أنها أخبار ظنية الثبوت، ولهذا خصها بشروط للتأكد من صحتها، فيشترط في الراوي العدالة والضبط ولكن معنى الضبط عنده يتسع لضبط المتن وضبط المعنى، «ولهذا لا يحتج برواية من اشتهرت غفلته خلقة»، «أو مسامحة ومجازفة لعدم توفر شروط الضبط، ولهذا رد رواية من لم يعرف بالفقه عند معارضتها لمن عرف الفقه» (¬1). ولكننا نجد شبهة الشك في روايات أبي هريرة أتت من كثرة ما روى عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم من نظرة ومفهوم بعض العلماء عنه فيما قيل إنه ليس بفقيه، الأمر الذي يستوجب بيان حقيقة هذا: لقد أجاب الصحابي طلحة بن [عبيد الله] عن السبب في كثرة روايات أبي هريرة فقال فيما رواه عنه البخاري في " التاريخ ": «وَاللَّهِ مَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لَمْ نَسْمَعْ وَعَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، إِنَّا كُنَّا قَوْمًا أَغْنِيَاءَ وَلَنَا بُيُوتَاتٌ وَأَهْلُونَ، وَكُنَّا نَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ ثُمَّ نَرْجِعُ، وَكَانَ هُوَ مِسْكِينًا لاَ مَالَ لَهُ وَلاَ أَهْلَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ يَدُهُ مَعَ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، فَمَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ وَسَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ». ونفس السبب قاله أبو هريرة، إذ روى عنه البخاري في " صحيحه ": «كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِلْءِ بَطْنِي» كما يروي عنه مسلم في " صحيحه " قوله: «[إِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَرَضِيهِمْ]، وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى [مِلْءِ] بَطْنِي». وعبارة «مِلْءِ بَطْنِي» قد يفهمها بعض الناس خطأ، ولهذا ذكر الإمام ¬

_ (¬1) " مناهج الاجتهاد في الإسلام " للدكتور محمد سلام مدكور: ص 601.

النووي في " شرحه لصحيح مسلم " أن المعنى هو أنه كان يقنع بقوته مع النبي ولا يطمع في تجارة أو مال، أي أنه كان يلازم النبي ليتفرغ للعلم والجهاد ويكتفي باللقيمات التي يُقِمْنَ صلبه. أما مسألة الفقه كشرط لقبول روايات الصحابي فإن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حكم فيها وقال: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي، فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» (¬1)، وهذا الحديث يفيد أن الراوي والمبلغ قد يكون غير فقيه. فضلاً عن ذلك فإن مسألة تفرغ أبو هريرة للعلم والجهاد مع رسول الله رواها البخاري ومسلم، وليست محل شك وبالتالي فالمتفرغ للعلم والرواية لا ينازع أحد في أنه أقدر على تحمل الرواية وفي هذا يقول الدكتور مصطفى السباعي تعليقًا على كثرة أحاديث أبي هريرة: «وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ المُتَفَرِّغَ لِلْشَيْءِ، المُهْتَمِّ بِهِ، المُتَتَبِّعِ لَهُ، [يَجْتَمِعُ] لَهُ مِنْ أَخَبَارِهِ وَالعِلْمَ بِهِ [فِي أَمَدٍ قَلِيلٍ]، مَا لاَ يَجْتَمِعُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، [وَنَحْنُ] نَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِ التَّلاَمِيذِ [مَعَ أَسَاتِيذِهِمْ] مَا يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ عَلَى تَأَخُّرِهِ فِي التَّلْمَذَةِ وَالصُّحْبَةِ مَصْدَرًا مَوْثُوقًا لَكُلِّ أَخْبَارِ أُسْتَاذِهِ مَا دَقَّ مِنْهَا وَمَا جَلَّ» (*). إن ما يكتب عن عدم فقه الرواة من الصحابة وما قيل من روايات تشكك فيهم إنما كتب نقلاً عن المستشرقين وهم لا شك يهدفون إلى هدم الإسلام والتشكيك فيه عن طريق هدم السنة أو التشكيك في رواتها. وحسب صحاب رسول الله فضلاً ومنزلة أن قال رسول الله - صَلََّى اللهُ ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي "، ص 343، الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م، المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان. وطبعة دار الوراق للنشر والتوزيع، ص 378، الطبعة: الأولى، سنة 2000 م.

32 - الأحناف واشتراط فقه الراوي:

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ» (¬1). وحسب أبي هريرة أن دعا له رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «اللهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا [- يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ -] وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمِ المُؤْمِنِينَ». رواه مسلم. أما فقهاء الكوفة الذين قدموا القياس على خبر الواحد فقد كان في تلك الفترة يقدمون فيها الحكم المبني على القياس لأنه يستند إلى نص عام في القرآن أو السنة المتواترة، ويقدمونه على أخبار الآحاد التي لم تصح عندهم، والسبب هو الاطمئنان إلى صحة الحديث من عدمه، وبالتالي فإذا كان الراوي معروفًا لديهم قدموا روايته على القياس، والسبب كما ينقل عن عيسى بن أبان أنه لا يستطيع الوقوف على معاني كلام رسول الله الذي أوتي جوامع الكلم إلا من كان له دراية بالفقه وخاصة أن رواية الحديث بالمعنى كانت مستفيضة (¬2). 32 - الأَحْنَافُ وَاشْتِرَاطُ فِقْهِ الرَّاوِي: أما ما نسب إلى الأحناف من تقديم القياس على سُنَّةِ الآحاد إن كان راوي الحديث لم يشتهر بالفقه، كما في روايات أنس بن مالك وأبي هريرة لأنهما وإن عرفا بالضبط والعدالة، ولكن لم يعرفا بالفقه، فمردود عليه بما قاله الفقيه الحنفي أبو اليسر، فقد جاء في " كشف الأسرار " (¬3) أنه قال: «[وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا القَوْلُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَيْضًا] بَلْ المَنْقُولُ ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) " كشف الأسرار " وكتب أصول الحنفية، نقلاً عن " مناهج الاجتهاد " للدكتور محمد سلام مدكور: ص 126. (¬3) " كشف الأسرار ": جـ 2 ص 385 نقلاً عن " مناهج الاجتهاد ": ص 603.

عَنْهُمْ أَنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى القِيَاسِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ اشْتِرَاطُ الْفِقْهِ فِي الرَّاوِي فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا القَوْلَ مُسْتَحْدَثٌ». وأيضًا ما نقله ابن أمير الحاج من أن الإمام أبا حنيفة كان يقدم سُنَّةََ الآحَادِ على القياس سواء كان الراوي فقيهًا أو غير فقيه، وذلك من رواية أبي الحسن الكرخي عن الإمام - رَحِمَهُ اللهُ -. ونقل الدهلوي (¬1) عن الكرخي أن أبا حنيفة أخذ بحديث أبي هريرة فيمن أكل وشرب ناسيًا وهو أن يتم صومه، وقدمه على القياس، فبطل بذلك ما اشتهر من اشتراط فقه الراوي، وما أشيع عن عدم فقه أبي هريرة. كما أخذ الإمام بحديث أنس بن مالك في أكثر مدة الحيض، وعدل عن القياس ما يقول البزدوي. وبهذا يبطل ما قيل من أن أنسًا لم تقبل روايته لعدم الفقه، وما قيل من اشتراط الفقه في الراوي. فمخالفة بعض الفقهاء لسنة الآحاد، ليس لضعف هذه السنة ولا لعدم فقه رواتها، بل لعدم معرفة هذا الحديث، أو كان قد وصله ثم بَدَا له رأي في فهمه. فعدم الثقة في صحة الخبر هو السبب الرئيسي في هذا الأمر. ¬

_ (¬1) " الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف " للإمام ولي الله الدهلوي: ص 91.

33 - السنة وأسباب توقف الأئمة:

33 - السُنَّةُ وَأَسْبَابُ تَوَقُّفِ الأَئِمَّةِ: إن الذين يبتغون التقسيم المحدث للسنة النبوية ويقولون إن أحاديث الآحاد ظنية الثبوت فلا يعمل بها في العقائد أو الشؤون الدستورية أو العقوبات أو الشؤون الاقتصادية أو المعجزات، لا ينكرون أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أرسل أبدًا إلى قوم إلا آحادًا، وخولهم إبلاغ قومهم أمور الدين كله، بما فيها العقائد والحلال والحرام، كما أن الصحابة الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس وجاءهم فرد واحد أبلغهم بأن قرآنًا نزل وَحَوَّلَ القبلة إلى الكعبة، قبلوا هذا الخبر وتحولوا في صلاتهم على الفور. إن الخلاف في شأن أحاديث الآحاد الذي من أجله نشأ التقسيم هو في طبيعة هذا الخبر، هل يوجب العلم به أم يوجب العمل دون العلم؟ فيرى بعض العلماء أنه قطعي الثبوت أي يوجب العلم به، ويرى الشافعي ومالك وأبو حنيفة، كما يرى آخرون أنه يوجب العمل ولا يوجب العلم، ولقد أجاب الأئمة أحمد بن حنبل وداود وابن حزم بأنه لا عمل بغير علم. ولكن الذين يوجبون العمل دون العلم أنه لا ارتباط بين وجوب العلم ووجوب العمل، إذ يكفي لوجوب العمل الظن الراجح والعلم لا يكون إلا باليقين (¬1). ¬

_ (¬1) " الإحكام " للآمدي: جـ 2 ص 49، و" الإحكام " لابن حزم: جـ 1 ص 97 وما بعدها، و" المستصفى " للغزالي: ج 1 ص 92.

فتقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، وكذا الخلاف بشأنه أمر نظري لا يؤثر على العمل، قال الإمام الغزالي: «وَمَا حُكِيَ عَنْ المُحَدِّثِينَ [مِنْ] أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ العِلْمَ، فَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُفِيدُ العِلْمَ بِوُجُوبِ العَمَلِ؛ إذْ يُسَمَّى الظَّنُّ عِلْمًا». وهذا يؤكد أن الخلاف في المصطلح لا أثر له من الناحية العملية، فالكل يوجب العمل بأحاديث الآحاد (¬1) إذا توفرت فيها شروط الحديث. فمثلاً الإمام مالك يرى أن عمل أهل المدينة هو بمثابة نقل جماعي عن عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالتالي إن جاء حديث الآحاد مخالفًا لهذا العمل قَدَّمَ عمل أهل المدينة لأن الحديث لم يثبت عنده إذا تطرق الشك إليه، وهذا كان محتملاً بسبب الفتنة التي وقعت، أما عمل أهل المدينة فلم يتطرق إليه الشك وعليه فمن قال إن الإمام مالك يرد سنة الآحاد مطلقًا قد أساء وتعدى. كما أنه في هذه الفترة نقل عن الإمام أبي حنيفة أنه يقدم القياس على أحاديث الآحاد. وحقيقة أنه لم يقدم القياس على أحاديث ثبت صحتها، لأنه كان يشك في بعض الرواة، واشترط للعمل بخبر الآحاد شروطًا لم يشترطها غيره، لأنه كان في الكوفة موطن الحروب والفتن آنذاك. وما كنا بهذا لنلتمس للإمام عذرًا فنحن عيال على فقهه ومائدته، إنما نكشف عن الواقع والحقيقة، لقد قال الإمام أبو حنيفة: «كَذَبَ وَاللهِ وَافْتَرَى عَلَيْنَا مَنْ يَقُولُ إِنَّنَا نُقَدِّمُ القِيَاسَ عَلَى النَصِّ وَهَلْ يُحْتَاجُ بَعْدَ النَصِّ إِلَى القِيَاسِ» (¬2) كما قال: «لَوْلاَ الرِّوَايَةِ لَقُلْتُ بِالقِيَاسِ». ولكن أبا حنيفة يرد خبر الآحاد إذا ¬

_ (¬1) " أصول الحديث " للدكتور الخطيب: ص 303 تعليق بالهامش. (¬2) " الميزان " للإمام [الشعراني]: ص 51 و" مناهج الاجتهاد ": ص 601.

كان لديه شك في روايته، وعنده إذا خالف الراوي الخبر وعمل بنقيضه شك في الرواية، وإذا كان الخبر في أمر تعم به البلوى فالأصل أن يرويه جمع عن جمع، فإن رواه واحد، تطرق الشك في هذه الرواية وقدم القياس عليها، لأن الظن قد تسرب إلى هذا الخبر بينما القياس مستنده القرآن أو السنة المتواترة وهذه قطعية الثبوت، وبهذا لا يقال إن الإمام أبا حنيفة يقدم القياس على أحاديث الآحاد. قال ابن أمير الحاج: «إذَا تَعَارَضَ خَبَرُ الوَاحِدِ وَالقِيَاسُ بِحَيْثُ لاَ [جَمْعَ] بَيْنَهُمَا، قُدِّمَ الخَبَرُ مُطْلَقًا عِنْدَ [الأَكْثَرِ] مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ»، وإنما نسب القول بذلك في الجملة إلى أحد فقهاء الحنفية وهو عيسى بن [أبان] (*) المتوفى سنة 221 هـ (¬1). وقال الإمام الدهلوي: ويكفيك دليلاً على هذا قول المحققين إن هذا مذهب عيسى بن أبان ولقد زال سبب هذا الظن بتمحيص الروايات تمحيصًا لم يشهد التاريخ مثله، وقد شهد غير المسلمين بذلك أمثال برناردشو وكارليل وباسورث فقد أظهروا إعجابهم بطريقة علم مصطلح الحديث وخصوصًا علم الجرح والتعديل. وقد أوضح هذا الإمام الشافعي إذ قال: إن بعض الأحاديث لم تبلغ علماء التابعين - أي الطبقة التالية للصحابة -، فأخذوا بالقياس والقواعد العامة واجتهدوا. ولهذا فإن الطبقة التالية لهم وهي طبقة تابعي التابعين - أي الطبقة الثالثة -، لم تعمل بهذه الأحاديث ظنًا أن التابعين تعمدوا عدم العمل بها لنسخها أو لعلة في بعض رواتها، واستمروا في أخذ الحكم الشرعي بطريق الاجتهاد على الرغم من وجود النص في المسالة. وقد أعلن الشافعي أنه يجب طرح القياس وعمل أهل المدينة في المسائل ¬

_ (¬1) " الإنصاف " للدهلوي: ص 92. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر صفحة 177 من هذا الكتاب.

التي تثبت أن حكمها قد وردت به سنة صحيحة، لأن الصحابة والتابعين من بعدهم لم يكن لديهم ما ينسخ هذه الأحاديث أو يقدح فيها، ومن لجأ إلى أخذ الحكم الشرعي من عمل أهل المدينة أو القياس لم يكن لديه علم بهذه الأحاديث، أو لم يكن قد تأكد من صحة نسبتها إلى النبي بسبب الفتنة والخلافات. وبعد تدوين السنة وزوال الفتن وتوفر الأحاديث وتمحيصها ومعرفة الصحيح والضعيف والموضوع زال سبب التوقف في العمل بأحاديث الآحاد. فمثلاً حكم خيار البيع في مجلس العقد ورد به حديث نبوي ولكن لم يعرفه فقهاء المدينة السبعة، وأخذوا بالقياس، كما عمل أهل المدينة بخلافه، وبالتالي رأى مالك وأبو حنيفة أن عدم العمل بالحديث علة تقدح فيه، وقدم الأول عمل أهل المدينة عليه كما قدم الآخر حكم القياس، ولكن الإمام الشافعي توفر له وسائل تحصيل السنة وتمحيصها بسبب الرحلات العلمية وبسبب تدوين السنة وتمحيصها فقد الحديث وعمل به (¬1). فهل يقبل من مسلم اليوم أن يرد الحديث ويقدم القياس عليه على الرغم من أنه قد روه البخاري ومسلم بلفظ: «إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ». وهل يحل لمن يتولون تدريس الفقه الإسلامي بالمعاهد والجامعات أن يهدروا هذا النص استنادًا إلى القياس أو عمل أهل المدينة الذي لجأ إليه أبو حنيفة ومالك لعدم ثبوت الحديث في عصرهما، إن ذلك لا يجوز في دين الله تعالى. ¬

_ (¬1) " الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف " للإمام الدهلوي: ص 83.

34 - شبهة تقديم عمل أهل المدينة:

34 - شُبْهَةُ تَقْدِيمِ عَمَلِ أَهْلِ المَدِينَةِ: إن من يتمسكون بعمل أهل المدينة ويقدمونه على ما ثبت في السنة النبوية كحديث «خِيَارِ البَيْعِ» سالف الذكر. يعتقدون أن أهل المدينة المنقول عنهم هذا العمل هم كل صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبالتالي فما كان عندهم إنما أخذ عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويصبح بمثابة رواية جماعية تقدم على حديث الآحاد خصوصًا أن الشك في سنة الآحاد كان موجودًا قبل تدوين السنة وتمحيصها. والحقيقة أن أهل المدينة في زمن الإمام مالك لم يكونوا صحابة النبي حتى يصبح النقل عنهم إجماعًا، فقد مات الإمام مالك سَنَةَ 212 هـ (*) وسلسلته الذهبية في الرواية هي (مالك عن نافع عن ابن عمر). فنقله عن التابعين وليس عن الصحابة. لهذا فالرواية الجماعية المنسوبة إلى الصحابة وليس إلى بعضهم أو إلى التابعين أو بعضهم. ولقد كان جواب الإمام الشافعي على ذلك قوله: «لَسْتُ أَقُولُ وَلاَ أحدٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ " هَذَا [مُجْتَمَعٌ] عَلَيه ": إِلاَّ لَمَّا لاَ تَلْقَى عَالِمًا أَبَدًا [إِلاَّ] قَالَهُ لَكَ وَحَكَاهُ [عَنْ مَنْ قَبْلَهُ]، كَالظُّهْرِ أَرْبَعٌ، وَكَتَحْرِيمِ الخَمْرِ، [وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، وَقَدْ أَجِدُهُ يَقُولُ]:" المُجْمَعُ عَلَيْهِ " وَأَجِدُ [مِنَ] المَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ كَثِيرًا يَقُولُونَ بِخِلاَفِهِ» (**) " الرسالة " جـ 3. ومن المعلوم أن الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كانوا جميعًا في المدينة ثم غادرها كثير منهم إلى مكة والكوفة والشام والبصرة ومصر، وذلك في زمن أمير ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) المشهور أن الإمام مالك - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - توفي سنة 179 هـ، انظر " مالك: حياته وعصره - أراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة: ص 24، نشر دار الفكر العربي. (**) انظر " الرسالة " للإمام الشافعي، شرح وتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر: ص 534، 535 (فقرة 1559)، نشر دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

المؤمنين عثمان، ونقل أهل كل بلد عن هؤلاء الصحابة. فلماذا يكون المنقول عن بعضهم من الأعمال حجة عما نقله الآخرون؟ ثم كيف يصبح عمل بعضهم حجة يقدم على الحديث الصحيح؟ لهذا أيضًا رفض الإمام مالك أن يكون كتابه " الموطأ " هو المرجع الوحيد لدولة الخلافة، ولهذا أيضًا توقف نافع عن فتياه بحل الرهن والكفالة في الورق والفضة والطعام إلى أجل مسمى، وذلك عندما علم أن الحسن لا يقول بذلك، ونافع مولى ابن عمر من كبار فقهاء أهل المدينة الذين أخذ عنهم الإمام مالك، بينما الحسن البصري ليس من هؤلاء بل من العراق. فضلاً عن ذلك فالإمام مالك نفسه يقول: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطىءُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي فَكُلُّ مَا وَافَقَ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقْ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَاتْرُكُوهُ». ومثله قال الإمام الشافعي: «كُلَّ مَسْأَلَةٍ صَحَّ فِيهَا الخَبِرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَهْل النَّقْلِ بِخِلاَفِ مَا قَلَتُ فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْهَا فِي حَيَاتِيِ وَبَعْدَ مَوْتَي» (1). وقال الإمام أحمد: «لاَ تُقَلِّدْنِي وَلاَ تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلاَ الثَّوْرِيَّ وَلاَ الأَوْزَاعِيَّ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا (*)» (¬1). وقد اختلف الفقهاء في المراد من عمل أهل المدينة (¬2): أ - فقيل هو إجماع أهل المدينة فيكون حجة من جهة النقل أو الاجتهاد. (" الإحكام " لابن حزم: جـ 1 ص 14، و" كشف الأسرار " للبزدوي: جـ 3 ص 961،و" إرشاد الفحول " للشوكاني: ص 82، وقيل إجماع من جهة النقل فقط مثل نقلهم الصاع والأذان والإقامة والأوقات. ب - وقيل إنه إجماع من طريق الاستدلال أي الاجتهاد فيما لا نص فيه وهذا اختلف فيه. (" مجموع الفتاوى " [لابن تيمية]: جـ 20 ص 306). ¬

_ (¬1) " صفة صلاة النبي " للألباني: ص 23،و" الوجيز في العبادات " للمؤلف: ص 3. (¬2) لم يشر المؤلف في الهامش رقم (2) إلى المصدر. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " إعلام الموقعين " لابن القيم، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم: 139، الطبعة: الأولى، 1411هـ - 1991م، نشر دار الكتب العلمية - ييروت

35 - المذاهب والخلاف الفقهي:

35 - المَذَاهِبُ وَالخِلاَفُ الفِقْهِيُّ: لقد تميز عصر الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بقلة الخلاف في الأحكام الشرعية، لأنه في حياة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يرجعون إليه في جميع الأمور، فيبين لهم حكم الله تعالى فيعملون بهذا الحكم ويقتدون بالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحياة العملية، فيصلون كصلاته ويحجون كحجه دون أن يسألوا عن الفرائض والسنن، حيث كانوا يلتزمون بكل ما صدر عنه قولاً أو عملاً. كما كانوا لا يكثرون من السؤال، وفي هذا روى الطبراني في " الكبير " (*) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوهُ إِلاَّ عَنْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ، كُلُّهُنَّ فِي القُرْآنِ، مِنْهُنَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ} [البقرة: 217] ... {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]». غير أنه بعد وفاة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظهر اتجاهان في الفقه: الأول يتمسك بظواهر نصوص القرآن والسنة النبوية حتى سمي أصحابه بـ (مدرسة الحديث)، وكان من أشهر رجالها زيد بن ثابت، عبد الله بن عباس، عبد الرحمن بن عوف، الزبير بن العوام، أبو عبيدة بن الجراح، وابن عمر [" المدخل لدراسة القرآن والسنة " للدكتور شعبان إسماعيل: جـ 2 ص 315]. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " المعجم الكبير " للطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي: 11/ 454، حديث رقم 12288، الطبعة الثانية، نشر مكتبة ابن تيمية - القاهرة. انظر أيضًا: " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري:2/ 1062، حديث رقم 2053، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.

والاتجاه الثاني كان يأخذ بالرأي عند انعدام النصوص الشرعية أو لترجيح فهم بعضها على الآخر، ولهذا أطلق على أصحاب هذا التيار اسم (مدرسة الرأي) وقد ظهر منهم الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأم المؤمنين عائشة. [" الاجتهاد بالرأي " للدكتور خليفة بابكر: ص 197]. وقبل تدوين السنة وتمحيص الفقه اتسع الخلاف بين المدرستين بسبب قلة الأحاديث النبوية عند أهل الكوفة من أصحاب مدرسة الرأي، ولعدم تثبت بعض أصحاب مدرسة الحديث من بعض الأحاديث كان منهم من يقدم القياس أو عمل أهل المدينة على بعض النصوص الشرعية التي لم تكن قد شاعت وثبت صحتها. فلم يأخذ بحكم خيار البيع كل من الإمام أبو حنيفة وهو من مدرسة الرأي، والإمام مالك وهو من مدرسة الحديث، لأن الحكم الشرعي جاء به حديث غير متواتر ولا مشهور فلم يعملا به لعدم شهرته بين التابعين. وظن هذان الإمامان أن هناك علة في الحديث أدت إلى عدم شهرته وإلى عدم العمل به، ولكن يرجع السبب في ذلك إلى أن السنة النبوية لم تكن قد جمعت كلها ومحصت، ومن ثم عندما تحقق ذلك تبين أن هذا الحديث عند البخاري ومسلم مرفوعًا إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلفظ: «إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» [" مناهج الاجتهاد ": ص 114، 120]. ومن قبيل عدم العلم بالسنة ما رواه الإمام مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق أنه لم يحكم للجدة بالميرات وقال: ما سمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عن ميراثها شيئًا، وسأل الناس في المسجد بعد صلاة الظهر، فقام المغيرة بن شعبة وقال: أعطاها الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السدس، فقال الخليفة: أيعلم ذلك أحد غيرك؟ قال: محمد بن مسلمة، فصدقه الخليفة وحكم للجدة بهذا الميراث. وفي الطبقة الثالثة كثرت الرحلات العلمية بين العلماء والفقهاء، كما

كثرت المناظرات وتوفرت السنة النبوية بسبب جمعها وتمحيصها، وأصبح من المتفق عليه أنه لا يحل ترك هذه السنة والعمل بالقياس أو بالرأي أو بعمل بعض التابعين من أهل المدينة أو غيرهم. كما أصبح من المُسَلَّمِ بِهِ أَيْضًا أن الرأي أو الاجتهاد طريق لاستنباط الحكم الشرعي عند عدم وجود الحكم في القرآن أو في السنة النبوية. غير أنه في نهاية القرن الرابع الهجري انتشرت المذاهب الجماعية واستقرت وانتسب كل فقيه إلى مذهب بعينه لا يتعداه حتى سمي هذا العصر بعصر التقليد، بل أطلق عليه في المرحلة الأخيرة منه اسم عصر الجمود، وأشيع أن باب الاجتهاد قد أغلق حتى أصبح قول إمام المذهب كالنص الشرعي فلا يجوز مخالفته. وهذا يخالف ما كان عليه صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما ظل عليه السلف الصالح حتى القرن الرابع الهجري، فكان المسلم لا يقلد مذهبًا بعينه إذ يأخذ عن العالم الثقة بغير اعتبار لمذهبه، بل كان أئمة المذاهب الجماعية يرفضون هذا التقليد. وعندما أراد الخليفة جمع الناس على رأي واحد في الفقه طلب من الإمام مالك أن يضع كتابًا يتجنب فيه رخص ابن عباس وتشدد ابن عمر وشواذ ابن مسعود ويوطئه للناس توطيئًا. غير أن الإمام مالك عندما فرغ من وضع الكتاب وسماه " الموطأ " رفض أن يلزم المسلمين به وقال: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لاَ تفعل هَذَا، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ [إِلَيْهِمْ] أَقَاوِيلَ، وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ، وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ بِمَا سَبَقَ [إِلَيْهِمْ] ... ». وفي هذا أيضًا روى ابن حزم بسنده أن الإمام مالك قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطىءُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي فَكُلُّ مَا وَافَقَ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقْ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَاتْرُكُوهُ».

كما روي عن الإمام أبي حنيفة في كتاب " اليواقيت والجواهر " مثل ذلك وعند الحاكم والبيهقي عن الإمام الشافعي أنه قال: «إذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي». فليس لمسلم أن يترك الحديث الصحيح ويعمل بقول أحد من الناس. ولهذا عندما أجاب ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بالحديث النبوي وقال السائل: قال أبو بكر وعمر، كان جواب ابن عباس: «يوشك أن تسقط عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقولون: قال أبو بكر وعمر». ولكن الذي يجتهد في فهم النص الشرعي ابتغاء مرضاة الله فيتمسك بفهم لا ترده قواعد اللغة يكون مأجورًا ولو أخطأ في الحكم، فقد روى " البخاري " و" مسلم " أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِذَا [حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ] ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ». وهذا كله إذ كان من أهل الاجتهاد. وفي هذا روى " البخاري " و" مسلم " أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بعد غزوة الخندق: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فأدركتهم الصلاة في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وقال بعضهم لم يرد منا هذا، فصلوا في الطيق، فسكت النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا شك أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعرف سبب حثه الصحابة ليصلوا العصر في بني قريظة وهو سرعة الوصول بغير تأخير، وبالتالي لم يرد تغيير مواقيت الصلاة، والذين صلوا في الطريق كانوا أصوب فعلاً ولكن لم يعب على الذين تمسكوا بعموم الأمر وظاهره لأنهم اجتهدوا في فهم المراد من الأمر النبوي.

36 - مجمل أسباب الخلاف:

36 - مُجْمَلُ أَسْبَابِ الخِلاَفِ: أسباب الخلاف بين الأئمة قد تركز في عدة أمور أهمها: [1] الاختلاف في فهم النص ودلالته الشرعية. [2] اعتقاد وجود سبب أدى إلى عدم العمل بالحديث النبوي ومن ثم استمر العمل بخلاف بعض الأحاديث اعتقادًا أن هذا بمثابة رواية جماعية، وهو ما يسمى عند الإمام مالك بعمل أهل المدينة وبموجبه لم يأخذ بحديث الخيار في البيع في مجلس العقد، ثم ثبت بعد ذلك أنه لا يوجد علة ولا سبب يضعف هذا الحديث، فقد أثبته البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الصحاح. [3] ومن أسباب الخلاف أيضًا الاختلاف في دلالة الحديث، مثل الحديث المرفوع الذي رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم ونصه: «لاَ طَلاَقَ وَلاَ عِتَاقَ فِي إِغْلاَقٍ». فقد فسر بعضهم الإغلاق بالإكراه، وقالوا: لا يقع طلاق المكره، وفسره آخرون بالغضب، قال أبو داود: أظنه الغضب. وقال ابن القيم نقلاً عن شيخه ابن تيمية: الإغلاق إنسداد باب العلم والقصد ومن ثم أبطل طلاق المعتوه والمجنون والسكران والغضبان غضبًا لا يعقل فيه ما يقول وهؤلاء قد أغلق عليهم باب العلم والقصد والطلاق لا يقع إلا من قاصد عالم به. [4] ومن أسباب الاختلاف، الخلاف في تصحيح الحديث وتضعيفه، فمثلاً أخذ من ذكرنا بحديث لا طلاق ولا عتاق في إغلاق لصحته عندهم بينما لم يأخذ به آخرون حيث ضعفه الإمام الذهبي.

[4] ومن أسباب الخلاف الفقهي اختلاف أصحاب المذاهب الجماعية في شروط العمل بأحاديث الآحاد، وهو الحديث الذي رواه شخص واحد في عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابع التابعين، فكان بعض الأحناف يقدمون عليه القياس، فقالوا بوجوب صوم يوم آخر على من أكل أو شرب ناسيًا في الصوم، بينما عارضهم الإمام الشافعي بالحديث الذي رواه الجماعة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلفظ: «مَنْ نَسِيَ - وَهُوَ صَائِمٌ -، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ» (¬1). والسرخسي يوجب القضاء لمن بلغ جوزة والصوم فات ركنه عند ابن دقيق [العيد]. كما كان الإمام مالك يجعل من شروط العمل بأحاديث الآحاد ألا تخالف عمل أهل المدينة ومن ثم قال مالك بوجوب قضاء يوم، فأجاب الشوكاني: لو ردت الأحاديث بمثل هذا ما بقي من الحديث إلا القليل (¬2). تَوْحِيدُ المَذَاهِبِ وَجِنَايَةُ التَّفْرِقَةِ: وإذا كان مثل هذا الخلاف قد قام في عصر هؤلاء الأئمة حيث لم تكن جميع الأحاديث النبوية جمعت ومحصت، وبالتالي كانت هناك أسباب لتقديم القياس أو عمل أهل المدينة على أحاديث الآحاد غير المشهورة، فلا مجال اليوم لمثل هذا الخلاف إذ قد زال السبب سالف الذكر بتمحيص السنة النبوية وجمعها، فاستكمل أصحاب المدارس الفقهية ما لديهم من أوجه النقص، فمثلاً عدل الأحناف عن تقديم القياس على حديث الآحاد فعملوا بحكم إتمام الصوم لمن أكل أو شرب ناسيًا، كما أخذ المجتهدون من المالكية بالصحيح ¬

_ (¬1) و (¬2) يرجع إلى البند 25 و 32 وإلى " المبسوط " للسرخسي: جـ 3 ص 136، و" فقه السنة " لشيخ سيد سابق: جـ 1 ص 393، و" مناهج الاجتهاد ": الفصل الثالث، و" نيل الأوطار ": جـ 4 ص 284.

37 - الاجتهاد بين العلماء والعوام:

والثابت من أحاديث الآحاد ولو خالف عمل أهل المدينة، كما أخذوا بالرأي عند انعدام النص، وأيضًا لجأ الإمام الشافعي إلى القياس وتوسط فيه، وقد كان يأخذ به، ومن ثم قال ابن قدامة في كتابه " المغني ": «إن التفرقة بين المسلمين باختلاف المذاهب والآراء وتعصب كل شيعة لمذهب في الأصول والفروع هو من أكبر الكبائر الثابتة بنصوص الكتاب والسنة» (*). 37 - الاِجْتِهَادُ بَيْنَ العُلَمَاءِ وَالعَوَامِّ: الأصل في الإسلام أن يأخذ المسلم الحكم الشرعي من الكتاب والسنة، لأنه لا عصمة لأحد حتى تصبح أقواله أو أفعاله شرعًا من الله لا تحمل مخالفة وأقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم ليست ملزمة بذاتها بل بما استندت إليه من الكتاب والسنة النبوية. لقد نص على ذلك هؤلاء الأئمة، فقال الإمام أحمد بن حنبل: «لاَ تُقَلِّدْنِي وَلاَ تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلاَ الشَّافِعِيَّ، وَلاَ الأَوْزَاعِيَّ، وَلاَ الثَّوْرِيَّ، وَتَعَلَّمْ كَمَا تَعَلَّمْنَا» (**). وقال الشافعي: «[وَبِالتَّقْلِيدِ أَغْفَلَ مَنْ أَغْفَلَ مِنْهُمْ]» ( ... )، و «مَثَلُ الذِي يَطْلُبُ العِلْمَ بِلا حُجَّةٍ مَثَلُ حَاطِبِ لَيْلٍ يَحْمِلَ حِزْمَةٍ مِنْ حَطَبٍ فِيهَا أَفْعَى تَلْدَغُهُ وَهُوَ لاَ يَدْرِي» (¬1). ثم جاء ابن حزم وقال: «التَّقْلِيدُ حَرَامٌ» ويعني به أن يأخذ المسلم كل أقوال إمام من الأئمة دون أن يردها إلى الكتاب والسنة، ولكنه كغيره يدرك أن العوام ليست لديهم هذه القدرة، ولهذا قال على هؤلاء أن يسألوا من يعتقدون أنه أعلم أهل البلد بحكم الله ورسوله وليس بمذهب فلان أو قوله. وليعلم الجميع أن هؤلاء الأئمة ما خالفوا حديثًا صحيحًا إلا لسبب من الأسباب السابق ذكرها، وبالتالي فإن أصاب أحدهم فله أجران وإن أخطأ فله أجر حسبما هو ثابت بالحديث النبوي في " صحيح البخاري " و" مسلم ". ¬

_ (¬1) " الوجيز في العبادات ": للمؤلف: ص 3. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) لم أجد قول ابن قدامة هذا في " المغني ". (**) قارن بما ورد في صفحة 187 من قول الإمام أحمد بن حنبل. ( ... ) انظر " الرسالة " للإمام الشافعي، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر: ص 42، الطبعة الأولى: 1358 هـ - 1940 م، نشر مكتبه الحلبي، مصر. تصوير دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان.

فإن اعتقد أحد من المسلمين في علم إمام وتقواه فأخذ عنه حكمًا ثم تبين أنه قد خالف الحديث النبوي فليس عليه ذنب، لأنه قبل أن يعلم بالحكم الصحيح الثابت في الحديث النبوي لم يكن قد خالف شيئًا فالله تعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» رواه الإمام مسلم. وعلى هذا لا يجوز النيل من هؤلاء الأئمة والعلماء فهم ورثة الأنبياء بهم حفظ الله هذا الدين. كما أن اجتهاد غير العلماء قد يؤدي إلى التنطع في الدين، بل وإلى الضلال، فمثلاً قال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواه مسلم: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» فأوضح لنا هؤلاء الأئمة أن معنى الكفر هنا هو الكفر بنعمة الإيمان وليس الكفر المخرج عن الملة لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] (¬1). ومن الأحاديث النبوية ما كان الغرض منه الترغيب أو الترهيب أو الوعيد وهذا لا يدركه إلا العلماء. فقد روى أبو داود أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ القُبُورِ». ومع هذا رخص وأجاز بعضهم للنساء زيارة القبور فحملوا الحديث على الترهيب لما رواه " مسلم " وغيره عن النبي في قوله: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوهَا» ولأدلة أخرى عندهم منها نسخ الحديث الأول. ¬

_ (¬1) يرجع في تفصيل ذلك إلى كتاب " الحكم وقضية تكفير المسلم " للمؤلف.

وقفة مع المجادلين: إن ظاهر الحديث يدل على النسخ وذلك بإباحة الزيارة بعد أن كانت ممنوعة، وهذا ما أثبته الكتاب بالبند 48 بعنوان (بين النسخ والتخصيص) (¬1) حيث أوضح أن النهي السابق نسخ الحكم أي أن العمل به قد انتهى وهذا ما كان موضع استدلال الدكتورة عزية علي طه في رسالتها للدكتوراه في الحديث النبوي من جامعة الأزهر الشريف، كلية البنات الإسلامية، قسم التفسير والحديث، حيث استشهدت بما ورد في هذا البند للرد على المستشرق جون وليام فيما زعمه من التناقض في هذه الأحاديث وطعنه في الناسخ والمنسوخ، كما استدلت الصفحات بالعقل البشري والتحريف العلمي بند 59 للرد على من ادعى بالتناقض في بعض الأحاديث بينما أثبت هذا البند صحتها وسلامة المتن من التناقض. ص 25، 26 و 50 إلى 53 من الرسالة. كما أورد " فقه السنة ": جـ 1 ص 478 عن الشوكاني أن اللعن للمكثرات من الزيارة ولهذا لم يرجح النسخ وجمع بين الأحاديث. ولكن الأخ [محمد] سلامة جبر توصل إلى استدلال آخر بخلاف هؤلاء جميعًا، هو أن كتاب " السنة المفترى عليها " يجب أن يحرق أو يحجر على صاحبه لجهله وعدم فقهه في السنة فيما أورده في هذه البنود. لقد ذكر ذلك في " النسخ و" خصائص الأنوثة " ومقالاته في " مجلة اليقظة " ومذكراته ثم عاد وتخلى عن هذا الكتيب واستبعده بعد أن استخدم كل عبارات التجريح والسب لمن خالفه ولا سيما كتاب " السنة المفترى عليها " وصاحبه. ¬

_ (¬1) وانظر أيضًا " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ " للهمداني: ص 131، وكتاب " منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل " للدكتورة عزية طه: ص 307 - 310، دار البحوث العلمية، سنة 1987 م.

الفصل السادس: السنة بين المعجزات والعقائد:

الفَصْلُ السَّادِسُ: السُنَّةُ بَيْنَ المُعْجِزَاتِ وَالعَقَائِدِ: - المعجزات بين الدين والعقل. - الإسراء والمعراج بين المسلمين وأعدائهم. - المعجزات وأخطاء الإصلاحيين والمستشرقين. - الغزو الفكري وبدعة الإسراء بالروح. - العلم والمعجزات النبوية.

38 - المعجزات بين الدين والعقل:

38 - المُعْجِزَاتُ بَيْنَ الدِّينِ وَالعَقْلِ: إن المستقرئ لتاريخ الرسل والرسالات يجد أن هؤلاء الرسل إنما جاءوا بالعدل ومكارم الأخلاق، دون أن يكون لهم نفع مادي أو معنوي، بل كان تعرضهم للأذى وتحملهم المشاق في سبيل إنقاذ الناس وتحقيق الخير لهم ورفع الظلم عنهم. هذه الدعوات تحمل للناس نفعًا محضًا لا شبهة فيه، ومن ثم فالعقول الصحيحة تسارع إلى تصديقها دون انتظار المعجزات والبراهين الدالة على صدق الرسالة. ولكن لأنها تضمنت الوعد بالجنة والوعيد بالنار في عالم آخر فيه حياة أبدية لا نهاية لها، فإن الله تعالى قد أقام الحجة على الناس، فأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (¬1). كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2). بهذا أخبرنا القرآن الكريم أن كل رسول كان مؤيدًا من الله بالبينات والبراهين الدالة على صدقه وصحة رسالته، وكان مع كل رسول الكتاب ¬

_ (¬1) [سورة الإسراء، الآية: 15]. (¬2) [سورة الحديد، الآية: 25].

الذي يضم التشريعات التي تصلح أحوال الناس وتفصل بينهم في منازعاتهم وذلك بهذا العدل الإلهي المرموز إليه بالميزان. والمعجزة هي أمر خارق للعادة أو لنواميس الكون وقوانين الحياة يظهره الله على يد نبي وذلك على وجه التحدي تصديقًا له. ولقد كانت معجزة نبي الله عيسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - هي ما أخبر القرآن عنه في وصف هذه الرسالة إذ قال الله عن المسيح {إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ، قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1). أما معجزة خاتم النبيين التي تحدى بها الإنس والجن فكانت القرآن الكريم وفي هذا قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬2). وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬3). ¬

_ (¬1) [سورة آل عمران، الآيات: 45 - 49]. (¬2) [سورة الإسراء، الآية: 88]. (¬3) [سورة البقرة، الآية: 23].

وبجانب هذا القرآن المعجز في كلماته وآياته ومعانيه، فقد كان للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معجزات أخرى أظهرها الإسراء والمعراج الوارد في القرآن والسنة، كما توجد خوارق للعادات والنواميس منها ما أخرجه " البخاري " و" مسلم " عن أنس بن مالك قال: حديث أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَانَتْ صَلاَة العَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الوَضُوءَ (أي الماء الذي يتوضأون به)، فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ (أي إناء للوضوء)، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي ذلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّؤُوا مِنْهُ قَالَ: فَرَأَيْتُ المَاءَ يَنْبَعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ، حَتَّى تَوَضَّؤُوا مِنْ عِنْدَ آخِرِهِمْ» (¬1). ومن هذه الخوارق ما أخرجه " البخاري " و" مسلم " عن ابن عباس وابن مسعود وأنس بن مالك «أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ القَمَرِ»، وفي رواية أخرى: [انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِقَّتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْهَدُوا»] (¬2). إن المعجزات النبوية ترتبط بالإيمان فمن آمن برسالة خاتم النبيين يصدق ما أخبر به من أمور خارقة للعادة، ومنها الإسراء والمعراج، ومن كفر بهذه الرسالة رد هذه المعجزات، ولهذا كان حكم الله في المنافقين هو قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (¬3). ولكن هذا المنطق القرآني غفل عنه بعض المسلمين فاتبع أوهام بعض المبشرين والمستشرقين الذين زعموا أن رحلة الإسراء والمعراج لا يصدقها العقل البشري إلا إذا كان الإسراء بالروح. ¬

_ (¬1) كتاب " اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ": كتاب الفضائل - باب معجزات النبي: ص 598، طبعة وزارة الأوقاف بالكويت. (¬2) المرجع السابق: باب انشقاق القمر: ص 788. (¬3) [سورة المنافقون، الآية: 1].

ولقد تجاهل هؤلاء أن عقلهم هذا قد صدق معجزات رسول الله عيسى ومنها إحياء الميت ورد البصر للأعمى، كما صدق هذا العقل أن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يتكون من ثلاثة أشخاص: هي الأب وهو ذات الله والابن وهو السيد المسيح بوصفه ابنًا لله في اعتقادهم الخاطئ، والروح القدس وهو الله الحي إذا ظهر كحياة (¬1). إن منطق العقول السليمة يقضي بأن يكون الحوار مع هؤلاء المستشرقين والمبشرين في مسألة الإيمان بالرسالة والرسول وليس في الإسراء والمعراج، لأن الذي لا يؤمن بالإسلام لا مجال لإقناعه بما جاء في القرآن والسنة، وهذا هو الخطأ الشائع لدى من ناقش المستشرقين من المسلمين عندما [حَاوَرَهُمْ] في زعمهم أن الإسراء بالروح دون الجسد، وهم ما أشاعوا ذلك إلا للتوصل إلى تكذيب الرسالة والرسول وصرف الناس عنها ولهذا تعمد كبراؤهم الكذب، فادعى مارجليوث أن النبي محمدًا كان يمارس الشعوذة، وزعم القس لامانس أنه كان يسترسل في الشهوات والملذات، وفي ثنايا كتاباته تتضح خلفية هذه الأكاذيب حيث يقول رينيه: «إن لامنس في كتابه عن محمد صاح متأوهًا من أن القرآن عندما جاء صرف العرب عن الإنجيل بعد أن شرعوا في تذوق حلاوته». انظر " المقدمة " وكتاب " معالم تاريخ الإنسانية ": جـ 1 ص 36 تأليف هـ - ج ويلز. ¬

_ (¬1) كتاب " الله واحد أم ثالوث " للأستاذ محمد مجدي مرجان (*): ص 9، 95. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) هو المستشار الدكتور المصري: محمد مجدي مرجان رئيس محكمة الاستئناف العليا…ولد فى أسرة متدينة مسيحية، وكان شماساً في الكنيسة، ثم اعتنق الإسلام، وكتب أربعة كتب فى إظهار الحق: " الله واحد أم ثالوث "، " المسيح إنسان أم إله "، " محمد صلى الله عليه وسلم نبى الحب "، " لماذا أسلمت؟ ". يشغل الآن منصب رئيس محكمة الجنايات والاستئناف العليا، ورئيس منظمة الكتاب الأفريقيين والآسيويين؛ وتنشر جريدة " الأهرام " المصرية مقالاته.

39 - الإسراء والمعراج بين المسلمين وأعدائهم:

39 - الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَأَعْدَائِهِمْ: الإسراء هو انتقال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، وهذا ما ورد في أول سورة الإسراء في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1]. والمعراج هو صعود النبي من بيت المقدس إلى السماوات السبع حيث فرض الله عليه وعلى أمته الصلوات الخمس، أشار الله إليه في سورة النجم [الآيات 10 - 15]: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}. هذه الرحلة وردت بشأنها روايات في السنة النبوية عن مشاهد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد وردت أحاديث أخرى عن رؤيا منامية للنبي فيها مشاهد لأحوال بعض الناس مما جعل الشيخ محمد الغزالي يجزم بأن المشاهد المنسوبة إلى ليلة الإسراء والمعراج هي رؤيا منام في ليلة أخرى من الليالي المعتادة. وصحيح أنه ورد في " صحيح البخاري " في آخر [كتاب] الجنائز عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى [صَلاَةً] أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟» [قَالَ]: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: «مَا شَاءَ اللَّهُ» فَسَأَلَنَا يَوْمًا [فَقَالَ]: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟» قُلْنَا: لاَ، قَالَ: «لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي

فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ، بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ» [قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى]: " إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ [فَيَصْنَعُ] مِثْلَهُ ... » وذكر مشاهد أخرى ثم أخبراه عنها، «قَالاَ: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، [فَيُصْنَعُ] بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا ... الخ» (*). ولكن بجانب هذه الرؤيا المنامية توجد مشاهد رآها النبي في اليقظة في رحلة الإسراء والمعراج فقد أخرج أحمد وأبو داود عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ. فَقُلْتُ: " مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ "». كما أخرج ابن حبان حديثًا آخر «عن [أُمَرَاءَ - أَقْوَامٌ] يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ». وروى [ابن إسحاق] عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَمَّا دَخَلْتُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا رَأَيْتُ رِجَالاً فِي أَيْدِيهِمْ [قِطَعًا] مِنَ النَّارِ كَالأَحْجَارِ يَقْذِفُونَهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ فَتَخْرُجَ مِنْ أَدْبَارِهِمْ، فَقَلَتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا». والجدير بالذكر أن الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (¬1). قَالَ: «ثُمَّ رَأَيْتُ رِجَالاً لَهُمْ بُطُونٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطُّ بِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ، يَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ كَالإِبِلِ المَهْيُومَةِ حِينَ يُعْرَضُونَ [عَلَى النَّارِ]، يَطَئُونَهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ أَكَلَةُ الرِّبَا» (**). والجدير بالذكر أن الله تعالى قال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬2). كما يقول - عَزَّ وَجَلَّ - عن ¬

_ (¬1) [سورة النساء، الآية: 10]. (¬2) [سورة البقرة، الآية: 275]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " فتح الباري بشرح صحيح البخاري "، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، (23) كتاب الجنائز (93) باب، حديث رقم 1386، 3/ 251، طبعة سَنَةَ 1379 هـ، نشر دار المعرفة - بيروت. (**) " السيرة النبوية " لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي: 1/ 405، الطبعة الثانية: 1375 هـ - 1955 م، نشر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.

مؤمن آل فرعون: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (¬1). ويكمل النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: «ثُمَّ رَأَيْتُ رِجَالاً بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَحْمٌ [ثَمِينٌ] طَيِّبٌ، إلَى [جَنْبِهِ] لَحْمٌ غَثٌّ [مُنْتِنٌ]، يَأْكُلُونَ مِنْ [الغَثِّ المُنْتِنِ]، وَيَتْرُكُونَ السَّمِينَ الطَّيِّبَ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ، وَيَذْهَبُونَ إلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْهُنَّ» (*). كما قال: «ثُمَّ رَأَيْتُ نِسَاءً مُعَلَّقَاتٍ بِثُدِيِّهِنَّ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ اللاَّتِي أَدْخَلْنَ عَلَى الرِّجَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَوْلاَدِهِمْ» (**). كما شاهد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبي الله آدم في السماء الأولى، وشاهد في السماء الثانية عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا، وفي السماء الثالثة شاهد نبي الله يوسف وفي الرابعة إدريس وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى وفي السابعة شاهد أبا الأنبياء إبراهيم وسلم عليهم نَبِيًّا نَبِيًّا. ثم وصل إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سدرة المنتهى حيث فرض الله الصلوات الخمس، وفي هذا قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (¬2). ¬

_ (¬1) [سورة غافر، الآيتان: 45، 46]. (¬2) [سورة النجم، الآيات: 1 - 18]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " السيرة النبوية " لابن هشام: 1/ 406. (**) المصدر السابق: 1/ 406.

فَرْضُ الصَّلاَةِ فِي السَّمَاءِ: وعن فرض الصلاة يقول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاَةً، قَالَ: " ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ "، [قَالَ]: " فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: " إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، قَالَ: " فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَتَّى قَالَ: " يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً "، قَالَ: " فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ» (¬1). فهل ترد هذه الوقائع لأنها وردت في أحاديث آحاد؟ أو لأن عصرًا ما لم يتصور أهله المصاعد الربانية التي وردت في قول الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 1 - 4]. فالسماء بها معارج أي مصاعد خاصة بالملائكة والروح يستخدمونها صعودًا وهبوطًا بين السماء والأرض. ¬

_ (¬1) الحديث رواه مسلم في كتاب الإيمان - باب الإسراء، كما رواه البخاري في كتاب الصلاة بألفاظ أخرى ...

وإذا احتسبنا سرعة المعراج الرباني بالزمن البشري لكان ما يقطعه هذا المصعد في يوم من أيامنا نقطعه نحن في خمسين ألف سنة. فكيف لا نفهم كيف صعد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى السماوات السبع ثم عاد إلى مكة في نفس الليلة، والقرآن بين أيدينا يبين لنا هذه الحقائق ويكشف بوضوح عن هذه الوسائل التي خلقها الله تعالى؟. إن المسلم يصدق هذه الوقائع والحقائق التي جاء بها القرآن الكريم وفصلتها السنة النبوية، سواء اكتشفها العلم وحاول اتخاذ الأقمار الصناعية سبيلاً للصعود إلى الكواكب أو جهل العلم ذلك أو عجز في التماس هذه الوسائل والأسباب، لأن الله تعالى يقول عن المنافقين: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1). ثم هل يدرك الإصلاحيون والمجددون أن رد هذه الوقائع يتضمن رد موضوع فرض الصلاة؟ وهذا ما يصبو إليه الكفر ويتمناه. ¬

_ (¬1) [سورة النور، الآيات: 47 - 50].

40 - المعجزات وأخطاء الإصلاحيين والمستشرقين:

40 - المُعْجِزَاتُ وَأَخْطَاءُ الإِصْلاَحِيِّينَ وَالمُسْتَشْرِقِينَ: لقد رد بعض المسلمين المعجزات النبوية تأثرًا ببعض الإسرائيليات وأقوال بعض المستشرقين، وحجة هؤلاء جميعًا أن المعجزات لم تثبت بطريق التواتر بل بروايات آحاد، بل زعم درمنجم (*) أنها أساطير (¬1). ولقد تجاهل هؤلاء المستشرقون أنهم يؤمنون بمعجزات نبي الله عيسى وهي ثابتة عندهم بطريق روايات الآحاد، والتي كتبت بعد عصر السيد المسيح بعدة قرون، كما أنهم يؤمنون بعقائد لا يفهمها العقل البشري وأهمها الأقانيم الثلاثة وهي أن الله هو الأب وهو الابن نزل في شكل بشر هو السيد المسيح وهو روح القدس. إنه من الأمور الطبيعية أن يلجأ المستشرقون والمبشرون إلى هذه الوسائل في صراعهم مع الإسلام، ولكن ليس طبيعيًا أبدًا أن يكون دفاع بعض المسلمين عن الإسلام أمام هذا الهجوم هو التسليم بهذه البدعة ومؤداها أن الإسراء والمعراج ورد بروايات غير متواترة أو أن أحاديث الآحاد لا تصلح لإثبات هذه العقائد لأنه بهذا المنطق يستطيع غيرهم أن يرد الحدود الشرعية والعبادات لأنها وردت بطريق أحاديث الآحاد. ¬

_ (¬1) " حياة محمد " للدكتور محمد حسين هيكل، و" الأعمال الكاملة " للشيخ محمد عبده: جـ 5 ص 37. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) درمنجم (درمنغهام) Dermenghem، E. مدير مكتبة الجزائر. آثاره: بمعاونة محمد الفاسي: قصص من فاس، وقصص جديدة من فاس (باريس 28)، وله: " حياة محمد "، وهو خير ما صنفه مستشرق عن النبي، ويرجع إليه -1926 علماء المسلمين (باريس 1929، والطبعة الثانية 1950 وقد نقله إلى العربية الأستاذ عادل زعيتر و " قصص القبيلة " (1945)، و " أروع النصوص العربية " (باريس 1951)، و " تكريم أولياء الإسلام في المغرب " (باريس 1954)، و " محمد والسنة الإسلامية " (باريس 1955)، و " سيرة الأولياء المسلمين " (الجزائر 1956) ... وغيرها. [انظر " معجم أسماء المستشرقين "، يحيى مراد، ص 508، الطبعة بدون تاريخ، كتب عربية].

لا مجال أنه قد واجه النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مشركي مكة وما حولها من القرى بحادث الإسراء والمعراج كما وردت في ذلك الأحاديث التي لا خلاف على صحتها ولكنهم قالوا: إنها ليست متواترة على الرغم من أنه قد نزل القرآن بذلك فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). إن بدعة أعداء الإسلام في العصر الحديث ليست رد هذه المعجزة على الرغم من أنهم ينكرون الإسلام نفسه ويكفرون برسالته. إنما زعموا أن الإسراء بالروح فقط، وذلك ليستطيعوا التأثير على المسلمين وليتمكنوا من تأويل الدين وتحريفه من واقع التسليم بالقرآن والسنة. وفي سبيل هذا الهدف المسموم ظاهرًا يزعمون أن الإسراء كان بالروح لأن هذه الرحلة رويت بأحاديث ليست متواترة، ولا غرابة أن يقولوا ذلك فليس بعد الكفر ذنب، إنما الغريب أن يتأثر بعض المفكرين الإسلاميين بهذا حيث ردوا المعجزات النبوية التي لم ترد في القرآن أو السنة المتواترة وهؤلاء وقعوا في أخطاء فادحة أهمها: 1 - أن جواب الله على المنافقين كان وما زال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. فالأصل أن يؤمنوا بالإسلام أولاً، فإن فعلوا فعليهم التسليم بما جاء به، ومنه صريح القرآن والسنة في أمر الإسراء والمعراج. 2 - إن الذين يردون الإسراء والمعراج وسائر المعجزات النبوية يؤمنون بتحضير الأرواح وهذه تصدر عن أشخاص ليسوا رسلاً ولا أنبياء، بل ومنهم ¬

_ (¬1) [سورة الإسراء، الآية: 1].

الكفار والملحدون أي أن هؤلاء العلماء يؤمنون بالأمور الغيبية التي يدعي بها غير الأنبياء بينما يردون المعجزات النبوية، وهذا موقف غريب وشاذ إن صدر من المسلم، لأنه بنص القرآن الكريم ملزم بالأخذ عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل ما يبلغنا به سواء كان هذا التبليغ قرآنًا أم سنة قولية أو عملية، فالله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وعليه فإذا ما أخبر النبي أن الله قد أرسل له جبريل فأخذه على البراق حتى وصل إلى بيت المقدس ثم صعد به إلى السماوات العُلَى حيث فرض الله عليه الصلوات الخمس، ثم عاد من حيث أتى، لا يقبل مسلم أن يزعم أن هذا كان بالروح فقط. 3 - إن قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1]، إنما تفسره قواعد اللغة العربية والمصطلحات القرآنية، فالأصل أن اللفظ العام يظل على عمومه ولا يخصص إلا بمخصص وعبارة «أَسْرَى بِعَبْدِهِ» تطلق على انتقال الإنسان وحركته ولا يمكن أن يراد بها انتقال روح الإنسان وحدها. والقرآن الكريم عندما يعبر عما تشاهده الروح أثناء النوم لا يعبر إلا بلفظ الرؤية، ومن هذا قول الله تعالى عن رؤيا نبي الله يوسف {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، وعند ذكر الله تعالى جواب يعقوب عن هذه الرؤيا كان اللفظ وهو: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5]. بينما التعبير في الإسراء لم يكن بألفاظ الرؤيا، بل كان بأسلوب التحديث والإعجاز {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]. 4 - أيضًا لو جاز رد هذه الألفاظ الصريحة وادعاء أن قول الله سبحانه الذي أسرى بعبده وقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، لا يراد منه إلا الإسراء بالروح فقط. إنه كان كذلك، لأصبح القرآن الكريم لعبة في أيدي العابثين

والمنحرفين، فيردون أحكامه بهذه التأويلات الفاسدة، وهذا هو ما وقع فيه - من غير قصد - بعض أصحاب هذا الاتجاه، فردوا معجزة انشقاق القمر الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة وزعموا أن قول الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] معناه اقتربت الساعة وظهر الحق مع أن هذه المعجزة رآها أهل مكة ورواها عدة رجال من الصحابة كما هو ثابت في " البخاري " و" مسلم " وسائر كتب السنة. 5 - أن أعداء الإسلام الذين تحداهم النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان اعترافهم على هذا الحادث المعجز منصبًا حول سفر النبي من مكة إلى بيت المقدس، ثم الصعود إلى السماوات العلى والعدودة إلى مكة في ليلة واحدة، ولو كان الإسراء بالروح فقط لما استنكر العرب هذا، وأيضًا ما كان هناك سب لأن يرتد بعض المسلمين حتى يسارع أبو بكر بالتصديق معللاً أنه يأتمن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما هو أبعد من ذلك وهو الوحي الذي ينزل بالقرآن الكريم. وأخيرًا ما كان هنالك معنى ولا سبب ليرد الله على المنكرين بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1]. 6 - إن الذين ظنوا أنهم يدافعون عن الإسلام برد المعجزات الواردة عن طريق أحاديث الآحاد قد وقعوا في المصيدة وأولوا ما ورد بالقرآن الكريم خاصًا بأمور خارقة للعادات كالإسراء الوارد في سورة تحمل هذا الاسم. ثم تجاوزوا هذا إلى غيره، فمنهم من أنكر الملائكة والجن والشياطين، فقال عن الملائكة هي نوازع الخير في أنفسنا وعن الشياطين هي نوازع الشر - وهذا لا يجهل ما رواه الإمام مسلم عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - في تفسير سورة الجن - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]. فقد جاء في هذا الحديث النبوي: «وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ

وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ. فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ. قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا: مَا ذَاكَ إِلاَّ مِنْ شَيْءٍ حَدَثَ. فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا» (¬1). فالحديث صريح في أن الشياطين مخلوقات تتحرك وليست نوازع في النفس الإنسانية. والقرآن الكريم فيه آيات كثيرة تدل على أن الملائكة مخلوقات وكذا الشياطين، وأن لها حياة ومملكة ووظائف نكتفي هنا بقول الله تعالى في وصف إبليس: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة: 34] و [طه: 116]، وقال تعالى عن وظائف الملائكة: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 124]، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، كما يقول: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 93]، كما يقول: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]. فهل هذه نوازع في النفس أم مخلوقات لها رسالة تتحرك لتحقيقها؟. 7 - إن الذين يؤولون نصوص القرآن والسنة يخدمون أهداف المستشرقين مع أنهم ما فعلوا ذلك إلا رَدًّا على هؤلاء الأعداء ودفاعًا عن الدين فيما يفهمون، فالمستشرقون تواتروا على ذلك وحسبنا هنا ما كتبه المستشرق - درمنجم - الذي نقل عنه الدكتور هيكل في كتابه " حياة محمد "، فقد زعم هذا المستشرق «أن أحاديث الإسراء والمعراج أساطير لم يرجح منها علماء الأحاديث رواية واحدة يعتمد عليها». ثم يقول الدكتور هيكل: «وأحسبك لو سألت الذين يقولون الإسراء والمعراج بالروح في هذا لما رأوا فيه عجبًا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدث عن أشياء واقعة في الجهات النائية». ثم يأتي الشيخ محمد مصطفى المراغي وهو من المدرسة الإصلاحية ويكتب مقدمة كتاب " حياة محمد " فيقول: «وعلم استحضار ¬

_ (¬1) من حديث طويل في " صحيح مسلم " في تفسير سورة الجن (" مختصر صحيح مسلم " للمنذري: جـ 2 ص 339).

الأرواح فسر للناس شيئا كثيرا مما كانوا فيه يختلفون، وأعان على فهم تجرد الروح وإمكان انفصالها وفهم ما تستطيعه من السرعة في طيّ الأبعاد، وقد انتفع الدكتور هيكل بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء فأتى بشيء طريف». وإذا كان هذا اتجاه المستشرقين وهؤلاء ظهروا حديثًا فإن التبشير والمبشرين لم يكن معاصرًا لحركة المستشرقين، بل يمتد إلى عصور الإسلام الأولى حيث جند علماء أهل الكتاب أنفسهم للتبشير بدينهم والطعن على الإسلام بطرق مختلفة، ومنها اختلاق أحاديث وروايات ونسبتها إلى بعض الصحابة والتابعين، ولذا لا يجب الاعتماد على كتب السيرة والتاريخ إلا إذا تم تحقيق رواياتها كما حدث في كتب السنة النبوية، فقد ورد في كتاب أحد الإصلاحيين قال: «ضعوا من المواد القانونية ما يبدو أنه يوافق الزمان والمكان وأنا لا يعوزني أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتهم» (¬1). لهذا أظهر المخطط الصليبي ومفكروه وفلاسفته رضاهم عن اتجاه المدرسة الإصلاحية وتشجيعهم لها، من ذلك قول - جب - في كتابه " إلى أين يتجه الإسلام؟ ": «لسوء الحظ ظل قسم كبير من المسلمين المحافظين ولا سيما في الهند لا يخضعون لهذه الحركات الإصلاحية المهدئة وينظرون إلى الحركة التي تزعمها مدرسة عليكرة بالهند، ومدرسة محمد عبده بمصر نظرة كلها ريبة وسوء ظن لا تقل عن ريبتهم في الثقافة الأوروبية نفسها» ولكن الإصلاح الذي ينشده المستشرق جب أوضحه في نفس الكتاب: «إن مشكلة الإسلام بالقياس إلى الأوروبيين، ليست مشكلة أكاديمية خالصة فحسب فإن لتعاليم الدين الإسلامي من السيطرة على المسلمين في كل تصرفاتهم ما يجعل لها مكانًا بارزًا في أي تخطيط لاتجاهات العالم الإسلامي». والتخطيط الذي يريده سجله في ¬

_ (¬1) القول المنسوب للشيخ المراغي في كتاب لأنور الجندي باسم " الإمام المراغي "، العدد 115 من سلسلة كتب (إقرأ) .....

هذا الكتاب بقوله: «والسبيل الحقيقي للحكم على مدى التغريب (أي أن يصبح الإسلام غريبًا) هو أن نتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي وعلى المبادئ الغربية وعلى التفكير الغربي، وهذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره». ثم يقول: «إن التعاليم الدينية ومظاهرها عند أشد المسلمين محافظة على الدين وتمسكًا به قد أخذت في التحول ببطء خلال القرن الماضي، وإذا حدث هذا فمعناه أن الموازين الدينية والتعاليم الأخلاقية في الإسلام آخذة في التحول وتتجه نحو تقريبه من الموازين الغربية في الأخلاق، التي هي في الوقت نفسه متمثلة في التعاليم الأخلاقية للكنيسة المسيحية». غير أن الإصلاحيين اجتهدوا في خدمة الإسلام بهذه الوسائل وليسوا مهتمين بالعمل ضده كما يريد المستشرقون. 8 - من تجاوزهم الحد أن قال شيخهم: إن هزيمة أصحب الفيل كانت بالرعب مع أن الله يقول: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 3 - 5]. ولكن الإصلاح الديني الذي أرادوه تضمن أن هذه الطير هي مرض الجدري والحصبة الذي جعل الجيش يولي هاربًا، هذا هو قول محمد بن بحر الأصفهاني وهو من المعتزلة، ومع أنه يخالف جميع المفسرين ويخالف صريح القرآن إلا أن الشيخ محمد عبده قال: «إن هذا الفهم هو المتبادر من الآية والواجب الأخذ به» (¬1). ويمثل هذا الفهم الخاطئ، زعم هؤلاء أن قول اله تعالى لنبيه إبراهيم: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ¬

_ (¬1) " الأعمال الكاملة " للإمام محمد عبده: ج 4 ص 738 جمع الشيخ محمد عمارة.

ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيً} [البقرة: 260]. لا يفيد أبدًا أن هذه الطيور مزقت ووزعت على الجبال ثم أعاد الله الروح وبعثها بعد نداء الله لها. إذ يقول هؤلاء أن المعنى لما ورد في القرآن هو أن يضم نبي الله إبراهيم إليه بعض الطيور حتى تستأنس بحيث يستجيب له كلما ناداها، ثم بعد ذلك يوزعها على الجبال أي دون أن يمزقها وينادي عليها حسبما دربها لأن الطيور من أشد الحيوانات استعدادًا لذلك، وهنا ستأتيه سعيًا، والغريب أن هؤلاء الإصلاحيون قد كذبوا صريح القرآن دون أن يدركوا ذلك، فالقرآن الكريم قدم لهذا العمل بقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، ومن ثم لا تفسير لعبارة {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} [البقرة: 260] إلا تفسيرٌ واحدٌ وهو أن الطيور مزقها إبراهيم وفرق أجزاءها على الجبال، ليثق كيف يحيي الله الموتى، ولكن القوم يزعمون غير ذلك. وأيضًا: قول الله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل: 3، 4] لا تفسير له إلا أن هذه الطيور ألقت بالحجارة على جيش أبرهة الذي جاء لهدم الكعبة ولكن دعاة الإصلاح يكذبون ذلك وهم يزعمون أنهم يدافعون عن الإسلام. 9 - إن الذين يردون المعجزات التي رويت بغير طريق التواتر، ويقولون: إن الأحاديث النبوية غير المتواترة ليست قطعية الثبوت. لقد غابت عنهم أمور كثيرة أهمها أن المعجزات النبوية هي أحداث تاريخية خارقة للعادات يتناقلها الناس كافة قرنًا عن قرن، وهذا النقل الجماعي يتحقق فيه التواتر وزيادة، ومن ثم لم يستطع أعداء الإسلام أن يردوا أخبار الغزوات التاريخية ونتائجها التي ليست في صالحهم. وعليه فالأمور الكونية مثل خسوف القمر وانشقاقه إنما تنقل قرنًا عن قرن بحيث تصبح متواترة في ذاتها، أما ما يجيب به النبي من قول عن هذه المعجزات فقد يروى بطريق الآحاد كما لو كان جوابًا لسائل، وهذا لا يطعن في تواتر الوقائع والمعجزات ذاتها. 10 - إن أحاديث الإسراء والمعراج وأحاديث انشقاق القمر قد رويت

عن جماعة من الصحابة ثم عن أضعافهم من التابعين ثم عن الجم الغفير (¬1) ومثل هذا يكفي لإثبات هذه الأحاديث بيقين، ولكن الذين ضعفوا أمام مفتريات المستشرقين أرادوا الدفاع فأخطأوا السبيل، إذا أولوا صريح القرآن ليخدم مذهبهم، فما ورد عن الإسراء والمعراج في القرآن زعموا أن المراد به الروح وأن أحاديث الآحاد لا تصلح لإثبات العقائد والغيب (¬2). وآية انشقاق القمر، قالوا: المراد يوم القيامة مع أن هذه الآية مقترنة بقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 2، 3]، ولا يعقل أن يكون هذا التكذيب وهذا الأمر عن يوم القيامة وخصوصًا أن الآية التي بعدها هي: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ، خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 6، 7]. وذلك فضلاً عن الأحاديث الصحيحة في " البخاري " و" مسلم " وسائر كتب الحديث عن انشقاق القمر في عهد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأمر الذي يقطع أن هذا كان معجزة للنبي وليس المراد انشقاق القمر يوم القيامة. فقد روى الترمذي والشيخان عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً، فَانْشَقَّ القَمَرُ بِمَكَّةَ [مَرَّتَيْنِ]، فَنَزَلَتْ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1، 2]». وفي رواية الترمذي: «انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَارَ فِرْقَتَيْنِ: عَلَى هَذَا الجَبَلِ، وَعَلَى هَذَا الجَبَلِ (2)، فَقَالُوا: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ كَانَ سَحَرَنَا فَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ» (¬3). ¬

_ (¬1) قال ذلك ابن عبد البر وغيره - وقاله الحافظ في " الفتح " - كما ورد في تعليق " اللؤلؤ والمرجان ": ص 788، 789. (¬2) " الأعمال الكاملة ": 5/ 37. (¬3) " التاج الجامع للأصول ": جـ 4 ص 248، تفسير سورة القمر.

41 - الغزو الفكري وبدعة الإسراء بالروح:

41 - الغَزْوُ الفِكْرِيُّ وَبِدْعَةُ الإِسْرَاءِ بِالرُّوحِ: لقد اقترن ضعف المسلمين واحتلالهم بلادهم بحملة واسعة من الغزو الفكري استهدفت الطعن على الإسلام بإضعاف السنة النبوية في مجال المعجزات ثم العقائد والحدود بدعوى عدم تواتر الروايات الواردة بها. ولقد كان ردود الفعل لدى بعض علماء المسلمين، البحث عن جواب يوفق بين هجوم المستشرقين وضعف المسلمين، فمنهم من آثر ألا يفصل موضوع الإسراء والمعراج ليتجاوزه إلى ما هو أيسر وأجدى في نظره (¬1). ومنهم من استشهد بأقوال نسبت إلى السيدة عائشة وغيرها (¬2) فقد نسب آخرون إلى أم المؤمنين أنها قالت: «مَا فَارَقَ جَسَدَهُ جَسَدِي» ليثبتوا أن الإسراء بالروح، ولا يجهل أحد أن الإسراء كان بمكة ودخول النبي بها كان في شوال من السَنَةِ الأُولَى للهجرة وهي بنت تسع سنين أي كانت بالمدينة. وأما ما نقله الفخر الرازي من روايات عن حذيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من أن الإسراء والمعراج كان رؤيا فقط، وما نقله عن عائشة ومعاوية والحسن - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، ليس إلا روايات لابن إسحاق في " السيرة "، وبتمحيصها ¬

_ (¬1) كتاب " فقه السيرة " للشيخ محمد الغزالي: ص 136، ولقد نقده الشيخ ناصر الألباني (هامش الصفحة). (¬2) مقال للشيخ أحمد حماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر في مجلة " المجتمع الكويتية " في 23 رمضان 1397 هـ.

طبقًا لقواعد علم مصطلح الحديث تبين أن ابن إسحاق قال: «حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ» ولا توجد معاصرة بينه وبين من روى عنهم لأنه قد مات في منتصف القرن الثاني الهجري كما أنه لم يذكر اسم من روى عنهم، فتكون الرواية منقطعة وليست حجة في أي استدلال علمي. والرواية المنقولة عن معاوية أيضًا منقطعة إذ يوجد فارق زمني كبير بين يعقوب بن عقبة شيخ ابن إسحاق الذي روى عنه وبين معاوية المنسوب إليه هذا القول، وهذا الانقطاع يجعل الرواية ساقطة ولا يحتج بها عِلْمِيًّا فضلاً عن أنه روى غير ذلك عن حذيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فقد نقل ابن كثير في " السيرة ": ص 60 عن عمر وبعض الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أن الإسراء والمعراج كانا أولاً رؤيا منامية تدريبًا وتيسيرًا على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتمهيدًا للرحلة الواقعية في اليقظة وهي رحلة الإسراء والمعراج الواردة في الكتاب والسنة. كما نقل ذلك عن " شرح الشفاء " للعلامة علي القاري: ج 1 ص 405، 403. فضلاً عن ذلك كله فإن الثابت في " الصحيحين البخاري ومسلم " أن أم المؤمنين عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قالت: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ»، وفي الحديث الشريف أنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ التِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ المَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ ... » وهكذا يؤكد أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسري به بالجسد والروح ولو حدث هذا فالرواية الأخيرة الأصح هي التي تقبل. ومع ضعف سند هذه الرواية فإن الشبهة التي يرون أنها دليل له هي قول الله {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا التِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. وقد أجاب الجمهور على ذلك أنها رؤيا عين، وأخرج ذلك " البخاري " عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - في تفسير هذه الآية.

والراجح أنها تتعلق برحلة الإسراء والمعراج كمشاهدة عملية لأن الفتنة لا مجال لها إذا كانت رؤيا منامية لأنها تحدث لجميع الناس ولا يكذبهم أحد. أما ما ورد في بعض أحاديث الإسراء والمعراج من عبارات مثل «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ»، ومثل «فَاسْتَيْقَظْتُ» فلا يدل على الرؤية المنامية لأنه قبل الرحلة كان - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نائمًا فعلاً وجاء جبريل وأيقظه، وآيات سورة الإسراء تقطع بأن الرحلة ليست رؤيا منامية (¬1). والسنة النبوية تؤكد ذلك وتفصله، فقد روى " البخاري " حديث الإسراء والمعراج عن مالك بن صعصعة أن نبي الله حدثهم عن ليلة أسرى به فقال: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ البَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ، وَاليَقْظَانِ - وَذَكَرَ: يَعْنِي رَجُلًا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ -، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ البَطْنِ، ثُمَّ غُسِلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، وَأُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ، دُونَ البَغْلِ وَفَوْقَ الحِمَارِ: البُرَاقُ، فَانْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ ... » (*). وروي (¬2) عن الحسن أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ فِي الحِجْر، إذْ جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئًا فَعُدْتُ إلَى مَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثانيةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ إلَى مَضْجَعِي فَجَاءَنِي الثَّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَأَخَذَ بِعَضُدِي، فَقُمْتُ مَعَهُ». كما روى الإمام مسلم في باب الإسراء بكتاب الإيمان عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أُتِيتُ بِالبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الحِمَارِ، وَدُونَ البَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ»، قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ ¬

_ (¬1) المرجع أيضًا " رسالة الإسراء والمعراج " للأستاذ محمد أنس المراد: ص 58 و 59. (¬2) محمد بن إسحاق عن " تهذيب سيرة ابن هشام ": ص 91 ج 1. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) جمع المؤلف بين الحديث الذي أثبته: [" فتح الباري بشرح صحيح البخاري "، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، (59) كتاب بدء الخلق (6) باب ذكر الملائكة، حديث رقم 3207، 6/ 302، نشر دار المعرفة - بيروت، طبعة سَنَةَ 1379 هـ]. وهذا الحديث في " صحيح البخاري ": عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ، - وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الحِجْرِ - مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ ... فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا». " فتح الباري بشرح صحيح البخاري "، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، (63) كتاب مناقب الأنصار (42) باب المعراج، حديث رقم 3887، 7/ 201، نشر دار المعرفة - بيروت، طبعة سَنَةَ 1379 هـ.

41 - العلم والمعجزات النبوية:

حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ»، قَالَ: «فَرَبَطْتُهُ بِالحَلْقَةِ التِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ»، قَالَ " ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ ... ». هذا الوصف وكيفية ركوب المعراج بقوله: «أَصْعَدَنِي فِيهِ» ثم وصفه الصعود بين كل سماء وفتح باب كل منها وكل ذلك لا يصعب فهمه وتصديقه من الجميع بعد أن ظهرت المصاعد وأبوابها والأقمار والمركبات الفضائية، فما بالنا بالمؤمنين الذين لا يثبت إيمانهم إلا بتصديق القرآن وكل ما جاء فيه. فهذه الروايات وغيرها في القرآن والسنة تبين أن الإسراء والمعراج تم برحلة ذات وقائع مادية وليس رؤيا منامية أو انتقالاً بالروح وحدها مع بقاء البدن في مكة. والأصل هو أن اللفظ إنما يدل على الظاهر منه بغير تأويل، إذ لا يعدل عن الظاهر من الكلمات إلا إذا وجدت قرائن وأدلة توجب صرف اللفظ عن ظاهره وهذه الدلائل ليس لها وجود في الماضي أو الحاضر اللهم إلا أن تكون عدم جرأة إعلان ذلك لأعداء الإسلام في زمن لم يثبت فيه العلم جواز ذلك، أو أن تكون الدلائل هي الشك في قدرة الله تعالى على الإسراء والمعراج بنبيه بغير الوسائل المحسوسة أمام أعين الناس، وهذا أو ذاك لا يقول به مسلم مؤمن بالله تعالى. 41 - العِلْمُ وَالمُعْجِزَاتُ النَّبَوِيَّةِ: إن حنين الجذع بصوت سمعه الصحابة أمر قد ثبت في رواية " البخاري " بسنده عن جابر قال: «كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ [يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ،] فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا [فَسَكَنَتْ]» وفي رواية: «[فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ] صِيَاحَ الصَّبِيِّ». ولا ينازع مؤمن أن الله تعالى إذا أراد أن يعيد الحياة إلى الميت من البشر أو الشجر لفعل وهذا الجذع قد سمع له صوت وهذا من خوارق العادات والنواميس الكونية، ومع هذا فقد فحص العلماء الخلايا الحية لورقة صغيرة من وريقات

العشب المائي الذي يسمى الأيلوديا تحت العدسة الكبرى للمجهر، فشاهدوا مظاهر الحياة المنتظمة والرائعة، فكل خلية تؤدي جميع وظائف الحياة مستقلة عن غيرها من الخلايا الأخرى المشابهة لها وتتكون الورقة الواحدة من آلاف من هذه الخلايا المتراكمة التي تعدو كأنها بنيان مرصوص. وفي الخلية حركة ففي داخل شريط الحشو (السيتوبلازم) أجسام دقيقة خضر، تتهادى فيه كما تتهادى السفن الصغيرة يجرفها تيار الماء في بحر خضم، إنه الحبلة (البروتوبلازم) ذو التركيب المائي والحيوية الفياضة هو الذي يتحرك وهو مركز الحركة والحياة في جميع الكائنات الحية (¬1). فلعل هذه الحياة والحركة في خلايا تفسر لغير المؤمنين ما عجزوا عن فهمه من الخوارق والمعجزات وكذلك الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية تفسر لهم فهم الإسراء والمعراج كان في الماضي عسير الفهم لدى من هزموا أمام هجمات بعض المستشرقين حتى قال الدكتور هيكل: إن المعراج استجمام ذهني ونفسي لوحدة الوجود كما أن القرآن منذ خمسة عشر قرنًا قد نص على أنه توجد معارج للملائكة تستخدمها بين الأرض والسماوات السبع، وقد ذكرت سورة المعارج سرعة هذه المعارج، يقول الله: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]. ووضعت سورة السجدة معراجًا في قول الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5]. فالمسافة التي تقطعها بعض المعارج في يوم نقطعها نحن بوسائلنا في خمسين ألف سنة ومسافة أخرى تقطعها معارج أخرى في يوم نقطعها نحن في ألف سنة. وكل ذلك لم يكن معلومًا بهذا التفصيل قبل صنع المصاعد الكهربائية والأقمار الصناعية والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصف المعراج بقوله: «لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أُتِيَ بِالمِعْرَاجِ، وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الذِي يَمُدُّ إِلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إِذَا حُضِرَ (جاءه ملك الموت) فَأَصْعَدَنِي فِيهِ [صَاحِبِي] حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ ... ». ¬

_ (¬1) بحث للدكتور رسل تشارلز أرنست، دكتوراه في علم الأحياء والنبات. نقلاً عن كتاب " الله يتجلى في عصر العلم ": ص 73، طبعة الحلبي بالقاهرة / 1968 م بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين.

الأوروبيون والمعراج: إن إيمان محمد هيكل سَوَّلَ له أن يزعم في كتابه " حياة محمد ": ص 193، أن الإسراء والمعراج كان بالروح وهو ما أوردته بعض الإسرائيليات، متجاهلين قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1]، فهذا التعجب لبيان قدرة الله لا يكون للإسراء بالروح بل بمعجزة خارقة لنواميس الكون، ففي نفس السورة طلب المشركون من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يفجر لهم من الأرض ينبوعًا أو يرقى إلى السماء ويأتيهم بكتاب، فكان جواب الله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 93]، فسبحان تكون للقدرة الإلهية أي للمعجزات الحسية الخارقة، فضلاً عن أن لفظ «عَبْدِهِ» لا يكون للروح فقط فالله يقول: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، فلم ينزل القرآن على الروح فقط. وإذا كان الأعرابي قد وجد في مخالفة الإجماع شهرة (كاذبة)، فإن الباحثين الأوروبيين في نقدهم لمسرحية الكوميديا الإلهية لمؤلفها أليجييري دانتي الذي تخيل أنه رحل للسماوات ومعه دليل، فرأى الجنة والنار ووصف ذلك، قالوا: لقد أخذ ذلك عن رحلة الإسراء والمعراج لرسول الإسلام، قال ذلك الإسباني آسين بلاثيوس سنة 1949، فطلبوا منه دليلاً ماديًا على ترجمة هذه القصة إلى لغتهم، فجاء سنة 1949 من يثبت ذلك فنشر الإيطالي أنريكو أنشرولي الترجمة اللاتينية والفرنسية لحديث المعراج والتي نقلها من العربية أبراهام الحكيم بأمر من الملك ألفونس العاشر في القرن الثالث عشر للميلاد وأضاف إليها ترجمة إسبانية مع الشواهد على معرفة أوروبا لهذه الترجمات قبل أن يولد دانتي بسنة، كما نشرته هذه الترجمات بشروح وتعليقات الأستاذ مينوز ساندينوا. فالباحثون الأوروبيون لا يشكون في رحلة الإسراء والمعراج كما وردت في الحديث النبوي بشرح محيي الدين بن عربي، أما الأعراب فمنهم من يجادل في آيات الله ترديدًا للأكاذيب أو ظنًا أن ذلك ما يقبله الأوروبيون.

الفصل السابع: السنة بين العموم والخصوص:

الفَصْلُ السَّابِعُ: السُنَّةُ بَيْنَ العُمُومِ وَالخُصُوصِ: - السنة ودلالة العام والخاص. - شبهة التعارض بين العام والخاص. - شبهة تعارض النصوص الشرعية. - قتال المبشرين بالجنة. - نقصان العقل والدين. - الوحدة الوطنية بين الماضي والحاضر.

السُنَّةُ وَدَلاَلَةُ العَامِّ وَالخَاصِّ: قد يراد بالعام بعض أفراده، كما في قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬1). فالقائلون ليسوا هم جميع الناس، بل فرد أو بعض أفراد، قال السدي: هو أعرابي كان له مكافأة على ذلك، وقال الواقدي: هو نعيم بن مسعود الأشجعي (¬2). والناس الذي جمعوا لصحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هم أبو سفيان وأصحابه وليس جميع الناس. مثل هذا العام يقال عنه العام المخصوص أو المقصور أي على بعض أفراده. ويثور الخلاف بشأن العام الذي يراد منه جميع أفراده لأنه لم يدخله التخصيص، فقال الأحناف: إن دلالته على كل فرد من أفراده دلالة قطعية مثل دلالة الخاص على معناه. وقال الجمهور: إن دلالته ظنية، بينما دلالة الخاص قطعية. وقد نتج عن ¬

_ (¬1) [آل عمران: 173]. (¬2) تفسير " التبيان " للطوسي: المجلد الثالث: ص 52.

42 - الدليل الظني بين العام والخاص:

هذا الخلاف اختلاف هؤلاء في أمرين: هما تخصيص العام بالدليل الظني ويريدون به سُنَّةَ الآحاد أو القياس، والثاني: التعارض بين العام والخاص. 42 - الدَّلِيلُ الظَنِّيُّ بَيْنَ العَامِّ وَالخَاصِّ: ترد بعض نصوص القرآن الكريم عامة مثل قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فإن هذا النص يشمل جميع الأفراد الذين علموا بدخول شهر رمضان بما فيهم الصبيان. ولكن ترد في السنة النبوية نصوصًا تخصص هذا العام فيستثنى بعض أفراده من الحكم الشرعي، مثل حديث «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» رواه أحمد وأصحاب السنن. فهل تخصص مثل هذه السنة عموم القرآن الكريم؟ لقد تعض الفقهاء لذلك في مباحث الأصول وخصوصًا بالنسبة لأحاديث الآحاد. فلا يجوز عند الحنفية تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وكذا تخصيص السنة المتواترة بخبر الواحد، ما لم يخص بقطعي دلالة وثبوتًا. وأجاز الباقون من علماء الأصول مطلقًا سواء خص بقطعي قبله أم لا (¬1). والسبب عند الجمهور أن دلالة الخاص قطعية فيقوى على تخصيص العام لأن دلالة العام ظنية (¬2)، وهذا الخلاف نتج عنه خلاف في الأحكام. ¬

_ (¬1) " فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت " للإمام محب الله بن عبد الشكور: جـ 1 ص 349. (¬2) " مناهج الاجتهاد " للدكتور مدكور: ص 122 - 139 ومراجعه، و" المستصفى من علم الأصول " للإمام أبي حامد الغزالي: جـ 2 ص 148.

نذكر من ذلك حكم ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية عند الذبح، فالأحناف يرون تحريم أكل هذه الذبيحة لعموم قول الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬1)، بينما يرى جمهور الفقهاء أن هذه الذبيحة حلال، لأن هذه الآية قد خصصها الحديث النبوي: «ذَبِيحَةُ المُسْلِمِ حَلاَلٌ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ» (¬2) كما خصصها ما رواه " البخاري " عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: [قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَا هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ]، يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ لاَ نَدْرِي [يَذْكُرُونَ] اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لاَ، قَالَ: «اذْكُرُوا [أَنْتُمُ] اسْمَ اللَّهِ، وَكُلُوا». وأيضًا يثور السؤال إذا كان العام والخاص من النصوص الشرعية في مرتبة واحدة مثل الحديث الذي أورده الإمام مسلم بشأن زكاة الأموال إذ قال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتِ الأَنْهَارُ، وَالغَيْمُ [العُشُورُ]، وَفِيمَا سُقِيَ [بِالسَّانِيَةِ] نِصْفُ العُشْرِ». فهذا حكم عام في جميع الزروع والثمار قلت أو كثرت، ولكن قد ورد نص خاص في نفس الدرجة وهو قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» (¬3)، فهذا الحديث جعل نصاب هذه الزكاة خمسة أوسق، وما قل عن ذلك لا تجب فيه الزكاة وبهذا قال جمهور الفقهاء، ولكن الأحناف يوجبون الزكاة في القليل والكثير من الزروع والثمار. لأن العام عند الأحناف قطعي الدلالة مثل الخاص فيكون الحديثان من درجة واحدة في الثبوت وهي الظنية ومن الدلالة وهي القطعية فلا يقوى أحدهما على تخصيص الآخر، بينما يرى الجمهور أن العام ظني الدلالة فإن كان في القرآن ومتواتر السنة تقوي سنة الآحاد على تخصيصه لأنها قطعي الدلالة (¬4). ¬

_ (¬1) [سورة الأنعام، الآية: 121]. (¬2) " سبل السلام شرح بلوغ المرام ": جـ 4 ص 139. (¬3) رواه مالك ورواه مسلم بلفظ آخر. (¬4) " مناهج الاجتهاد ": ص 605.

التخصيص وشبهة التعارض:

والمراد بأن النص ظني الدلالة أن به كلمات غير قطعية المعنى كقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فالقرء معناه اللغوي الحيض أو الطهر. فهذا التعدد يجعله في حاجة إلى قرينة للترجيح. التَّخْصِيصُ وَشُبْهَةُ التَّعَارُضِ: إذا ورد نص عام كقول الله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. ثم نص خاص كقول النبي «لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» فيرى الجمهور أن هذا الحديث وإن كان آحادًا فإنه خاص قطعي الدلالة ويخصص عموم هذه الآية لأنها ظنية الدلالة لعمومها، وخالف الأحناف لأن الحديث لا يخصص عموم القرآن لأن العام لا يخصصه إلا ما كان قطعي الثبوت كالقرآن والسنة المتواترة أو المشهورة، ولكن العام إذا خصص كان الباقي من أفراده ظني الدلالة وتخصصه سنة الآحاد أو القياس ولهذا فعموم قول الله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] يخصصه الأحناف بالحديث المشهور: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالفَضْلُ رِبًا» فهذا الحديث الذي رواه أحمد والبخاري قد حدد الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والملح ونهى عن بيعها أو التبادل فيها إلا يَدًا بِيَدٍ ومثلاً بمثل منعًا من الربا. فقال الأحناف: باقي البيوع التي يشملها النص القرآني يخصصها حديث الآحاد أو القياس لأن النص العام بعد هذا التخصيص أصبح ظني الدلالة. ولهذا حرموا التفاضل في الأصناف التي توزن أو تكال أو تتحدد في النوع أو الجنس مع الأصناف الربوية الستة وذلك عن طريق التخصيص بالقياس. ومنهج الأحناف في عدم تخصيص العام بسنة الآحاد محل نظر فلم يكن معمولاً به قبلهم فنقل البزدوي (¬2) ما يفيد توسع الأحناف في تخصيص العام بأخبار الآحاد كانتقاض الوضوء بالضحك في الصلاة وبالنوم مضطجعًا وعدم إفساد الصوم بالأكل والشرب نسيانًا. ¬

_ (1) " المستصفى من علم الأصول " للإمام أبي حامد الغزالي: جـ 1 ص 148 أو " مناهج الاجتهاد ": ص 607. (¬2) " كشف الأسرار " للبزدوي: جـ 1 ص 383، و" مناهج الاجتهاد ": ص 602.

لقد ترتب على القول بظنية ثبوت أحاديث الآحاد أن اتجه فقهاء الرأي إلى عدم الأخذ بها إذا كان حكمها زائدًا عما جاء في القرآن الكريم لأن الزيادة نسخ ولا يؤخذ بالدليل الظني. كما رفضوا تخصص عام القرآن والسنة المتواترة والمشهورة بأحاديث الآحاد لأن الظني لا يعارض القطعي، والتخصيص يكون عند التعارض (1). ولكن في الأحكام العملية أخذ الأحناف بخلاف هذه القاعدة كانتقاض الوضوء بالضحك في الصلاة وبالنوم مضطجعًا والمساواة في قيمة الدية الشرعية من أصابع اليد الواحدة وغير ذلك من أحكام الفروع ولكن فقهاء مدرسة الحديث يرون أن خبر الآحاد يستقل بتشريع الأحكام فالزيادة فيه على القرآن والسنة المتواترة مقبولة لقضاء النبي بشاهد ويمين المدعي وجلد الزاني المحصن وتغريبه عام لأن التغريب ورد في السنة النبوية. كما اختلفوا في دلالة النصوص العامة في القرآن والسنة فترى مدرسة الحديث أنها ظنية وبهذا يخصص عام القرآن والسنة المتواترة بأحاديث الآحاد، بينما ترى مدرسة الرأي أن العام مثل الخاص قطعي الدلالة وبالتالي أحاديث الآحاد لا تخصص عام القرآن والسنة المتواترة وهذا لا يظهر إلا عند تعارض النصوص في الظاهر فإن عرف المتأخر منهما كان ناسخًا وعمل به، فإذا لم يعرف المتأخر يعمل بقطعي الثبوت منهما وهو القرآن والسنة المتواترة ومثلها المشهورة وهذا ثبت الرجم عند الأحناف بالسنة النبوية لأنه إذا لم يعرف تاريخ العام والخاص كان العام هو الأخير احتياطًا ونسخ المتقدم (3). «وتخصيص العام عند الجمهور يعني قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل أو غير مستقل مقارن أو غير مقارن». [" أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء " الدكتور مصطفى سعيد الخن: ص 206]. قال الآمدي: «إِنَّ النَّسْخَ لاَ يَكُونُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ إِلاَّ بِخِطَابٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِخِلاَفِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِالقِيَاسِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الأَدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ. [" الإحكام ": 3/ 161.].

_ (2) " الإسلام عقيدة وشريعة ": ص 75 وكتابه " الفتاوى ": ص 62.

ومن هذا يتضح عدم سلامة منهج الأحناف بشأن أحاديث الآحاد، فهم نظريًا يقولون بعدم قدرتها على تخصيص عام القرآن والسنة المتواترة وعمليًا يأخذون بها. إن صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يقبلون الحديث النبوي ويعملون به، دون أن يفرقوا بين الآحاد والمتوتر ولكن بعضهم كأبي بكر يستشهد مع الراوي آخر ليتأكد من نسبة الحديث النبوي إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكانوا يعملون بالسنة النبوية كلها لأنها البيان الإلهي للقرآن الكريم لقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فقد أمر الله بقطع يد السارق في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]. ثم بين النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوحي من ربه أنه لا قطع في ربع دينار فصاعدًا، فأخذ الصحابة والتابعون بعدهم بالحديث ولم يبحثوا عن القطعي والظني من السنة بل لم يكن عندهم هذا الاصطلاح. إن صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأون الفاتحة في كل ركعة من الصلاة امتثالاً لقول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه " مسلم ": «مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» أي ناقصة، وقوله: «لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ». ولم يقل أحد منهم أن هذا الحديث النبوي من سُنَّةِ الآحاد فلا يخصص قول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، ومن ثم وجب أن نتبع منهاج النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته فقد حذرنا من الابتداع فقال فيما رواه " مسلم ": «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وعلى ذلك فسنعرض بإيجاز لشبهة التعارض بين النصوص ونسخ الأحكام وذلك من خلال هذه الحقيقة وليس من خلال المصطلحات المؤدية إلى عدم الوفاق.

43 - شبهة التعارض بين العام والخاص:

43 - شُبْهَةُ التَّعَارُضِ بَيْنَ العَامِّ وَالخَاصِّ: إذا ورد نص عام بثبوت حكم شرعي ثم ورد نص خاص بنفي هذا الحكم ورفعه، فهل يعد ذلك من قبيل التعارض؟ وكيف يعالج ذلك؟. إن جمهور الفقهاء لا يقول بالتعارض بين العام والخاص في هذه الأحوال، بل يعملون بالخاص أولاً فيما دل عليه من استثناء ويبقى حكم العام كما هو فيما عدا ذلك. أ - فالعموم الوارد في قول الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وفي قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ» تضمن وجوب الزكاة عن جميع ما تخرجه الأرض، ولكن الحديث الذي رواه " البخاري " و" مسلم " بلفظ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ [مِنَ التَّمْرِ] صَدَقَةٌ ... » استثنى ما قل عن هذا المقدار وظل الوجوب قائمًا فيما بلغ هذا القدر فصاعدًا. ب - والعموم الوارد في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، يستثنى منه: الخصوص الوارد في قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، إِلاَّ وَمَعَهَا أَبُوهَا، أَوِ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، [أَوْ] ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا»، وقوله: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو

مَحْرَمٍ، وَلاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»، رواها " مسلم " في كتاب الحج. ولكن ابن حزم يرى أن الآية القرآنية هي التي خصصت الحديث النبوي فيكون السفر إلى الحج قد خرج عن النهي وقد رجح رأيه بالحديث الشريف «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» (¬1) لأن الذهاب إلى الحج ذهاب إلى أعظم المساجد كما ورد النهي عن الكلام أثناء خطبة الجمعة في الحديث الذي رواه الجماعة إلا ابن ماجه بلفظ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: [أَنْصِتْ]، يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ». كما ورد قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2). ثم ورد قول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (¬3). وأمام هذا فإن النص الخاص يستثنى من العام، أي المعنى الأقل هو المستثنى من الحكم العام. والعام في هذه الحالة هو الإنصات لخطبة الجمعة، والاستماع لقراءة القرآن، والخاص هو رد التحية، فيستثنى من الإنصات في الحالتين. النَّسْخُ وَشُبْهَةُ التَّعَارُضِ: وقد يرد النص مغايرًا في حكمه للنص الآخر مغايرة تامة، كأن ينهى أحدهماعن شيء ويبيحه الآخر وهذا يدل على أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ. ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود. (¬2) [الأعراف: 204]. (¬3) [النساء: 86].

44 - بين النسخ والتخصيص:

أ - فقد روى الخمسة عن بسرة بنت صفوان أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلاَ يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»، وقال البخاري: «هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا البَابِ». بينما روى الخمسة عن طلق أن رجلاً سأل النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل يمس ذكره، هل عليه وضوء؟ فقال: «إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ». لهذا قال الأحناف بعدم انتقاض الوضوء بهذا اللمس، ولكن ابن حزم قال: إن إسلام بسرة تأخر عن إسلام طلق، فيكون الحديث الموجب للوضوء قد نسخ الحديث الدال على عدم الوضوء. ب - كما روى أحمد ومسلم عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثًا بلفظ: «تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» ولكن روى أبو داود والنسائي عن جابر قال: «كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ». فدل هذا على أن الحديث الأخير نسخ حكم (الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ). ج - ويكون ترك الوضوء قرينة على أن الأمر بالوضوء كان للاستحباب وليس للوجوب ويؤكد ذلك ما رواه " البخاري " و" مسلم " عن عمرو بن أمية أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [يَحْتَزُّ] مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ». 44 - بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ: النسخ والتخصيص وصفان لأثر النص الذي يرفع الحكم الشرعي.

أ - فإذا كان رفع الحكم والنص مقارنًا في الزمان للحكم أي النص الأولى سمى ذلك تخصيصًا، كما في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وهكذا حكم عام في عدة المتوفى عنها زوجها. ولكن ورد حكم آخر في عدة من كانت حاملاً، فقال تعالى: {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. فقيل نسخ الحكم الأول بينما الآثار تدل على أن النص الأخير مخصص لعموم الحكم الأول، إذا استثنى منه عدة الحوامل. " نيل الأوطار ": جـ 7 ص 89، وابن كثير: جـ 4، و" [الإتقان] " للسيوطي: جـ 3 ص 46. ب - وإذا كان الاستثناء نصًا متأخرًا في الزمن كان ذلك نسخًا، كما في قول الله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66]. والنسخ لا يكون إلا بدليل من القرآن والسنة. فالنسخ والتخصيص يشتركان في رفع الحكم الشرعي والفرق بينهما أن الوصف بالنسخ يكون في الحالات التي يدل النص الوارد بشأنها أن الحكم الأول كان مرادًا من الله لأن النص كان يتناوله سواء ورد في القرآن والسنة، ثم جاء نص متأخر بحكم جديد وأبطل العمل بالأول ابتداء من تاريخ نزول الحكم الجديد، وما ورد في السنة النبوية عن أسباب نزول الحكم الجديد هو الفيصل في ذلك وفي هذا كتب الأستاذ محمد العفيفي: «لذلك كان النسخ في القرآن وثيق الصلة بأسباب النزول من جهة، كما هو وثيق الصلة من جهة أخرى بالسنة القولية والعملية.

ولذلك ربط الله تعالى بين القرآن والسنة في بيان الحكمة في نزول القرآن منجمًا. وهنا نجد النسخ وأسباب النزول والقرآن والسنة في عمل جماعي متواصل يؤدي في النهاية إلى الإحاطة بكل ما هو عام أو خاص في حياة البشر في كل مكان وزمان (¬1). أما تخصيص العام فهو استثناء بعض ما تناوله العام وإخراجه من الحكم الشرعي ونسمي ذلك رفعًا للحكم تجاوزًا مثل قول الله {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فهذا حكم عام في كل مطلقة ولكن قد استثنى من ذلك المطلقات قبل الدخول على الزوج إذ زال سبب العدة وهو احتمال الحمل، وفي هذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فهذه الآية استثنت المطلقات قبل الدخول من حكم العدة ورفعت عنهن هذا الحكم، فمنذ البداية لا يسري في حقهن حكم الآية وذلك بخلاف النسخ حيث يظل الحكم الأول معمولاً به فقد كان المسلم مكلفًا به، ثم يتغير الحكم وينسخ بعد فترة بحكم جديد مثل حديث: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمِ الآخِرَةَ» (¬2). وعلم ناسخ الحديث ومنسوخه يبحث فيما ظاهره التعارض من الأحاديث النبوية وأيضًا أنواع البيان الأخرى كبيان المجمل وتخصيص العام وتقييد المطلق، يزيل هذه الشبهات. ¬

_ (¬1) عن كتابه " مقدمة في تفسير الرسول للقرآن الكريم "، الباب الثالث، الفصل الثالث،: ص 132. (¬2) كتاب " الاعتبار " للهمداني: ص 24، وكتاب " الإتقان في علوم القرآن " للسيوطي: جـ 1 ص 83، و" تفسير ابن كثير ": جـ 4 ص 381.

45 - شبهة تعارض النصوص الشرعية:

45 - شُبْهَةُ تَعَارُضِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ: إن القرآن الكريم والسنة النبوية كلاهما من عند الله تعالى، وبالتالي فلا يتعارض أحدهما مع نفسه أو مع الآخر. وسنعرض فيما يلي أمثلة لنصوص ظن نفر أنها متعارضة وبنى على ذلك نتائج منها الاكتفاء بالقرآن أو إعلان حكم يخالف إجماع الأمة، والأمثلة هي: قِتَالُ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ: لقد قيل إن الإمام عَلِيٍّ من المبشرين بالجنة بينما يصدق عليه قول النبي: «إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ»، وهذا عند القائل تناقض يبرر ترك السنة النبوية! ولكن هذه الرواية لها تكملة هي: «فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا القَاتِلُ فَمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ "». أخرجه البخاري في كتاب الإيمان والراوي هو أبو بكرة. إن القرآن الكريم الذي يزعمون اتباعه قد صرح أن القتال عن فهم في الدين، ليس كفرًا ولا يجعل صاحبه من أهل النار بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. فالرواية معناها أن المسلم الذي يتعمد ويحرص على الخروج لقتل أخيه المسلم، يدخل النار، وينطبق هذا على القاتل والمقتول لوجود الحرص والإصرار على القتل لديه (¬1) والذي كان بين الإمام عَلِيٍّ والخوارج أو أصحاب ¬

_ (¬1) ورد في هذا قول النبي: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». أخرجه البخاري في أول كتابه.

معاوية، ليس من هذا القبيل بل هو اجتهاد أدى أن تقف كل فئة لتدافع عما تعتقد أنه الحق. وهذا لم يقترن بنية قتل أحد بذاته والحرص على ذلك. كما أن هنالك فَرْقًا شاسعًا بين تعمد المسلم قتل أخيه في الإيمان بغير سبب مشروع، وبين الموقف الذي أدى إلى خروج الإمام عَلِيٍّ لرد البغاة الذين خرجوا على الخلافة وشهروا سلاحهم ضد أمير المؤمنين. وهنالك فرق شاسع بين قتال المسلم عن عرضه ونفسه ودينه وماله وبين قتل المسلم أخاه المسلم بغير سبب شرعي فقد ورد في الحديث الشريف: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ». رواه " البخاري " و" مسلم "، كما جاء في الحديث: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، رواه أبو داود والترمذي. فهذه أنواع من القتال المشروع بموجب هذه النصوص، ولا يوجد أي مظهر من مظاهر التعارض النظري بين هذه الأحاديث حتى نقول إن حديث: «إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا» قد خصصه حديث الشهادة، أو خصصته آية {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] (¬1). إن قتال الإمام علي لمن خرجوا على إمامته له أحكام أخرى وردت في باب الإمامة والإمارة، وهي لا تدخل تحت مدلول «إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا» فضلاً عن أن تبشير الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للإمام عَلِيٍّ والخلفاء الأربعة وستة آخرين بالجنة، أمر آخر هو إخبار بالغيب ومن أول شرائط الإسلام الإيمان بالغيب الذي يرد في القرآن والسنة، فمن رَدَّ ذلك أو شك فيه فقد كفر لأنه يَرُدُّ القرآن والسنة وهما من عند الله تعالى الذي قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. ¬

_ (¬1) جاء في " مذكرة حزب التحرير ": «إن هذه الآية خصصت كلمة القاتل والمقتول في الحديث» (ص 26).

46 - نقصان العقل والدين:

46 - نُقْصَانُ العَقْلِ وَالدِّينِ: لقد اشتهر بين العامة أن النساء ناقصات عقل ودين وفهمها أقوام أنها تسيء إلى إنسانية المرأة وإلى رشدها. واشتهر بين العامة حديث بلفظ: «عَائِشَةٌ نَاقِصَةُ عَقْلٍ وَدِينٍ» بينما استدركت على كثير من الصحابة رويتهم عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى جمع الزركشي وغيره ذلك في كتاب مستقل. فهل يوجد تناقض بين حديث «نُقْصَانِ العَقْلِ» وحديث: «خُذُوا نِصْفَ دِينِكُمْ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ عَنْ هَذِهِ الحُمَيْرَاءِ»؟ وقد بحثت في كتب السنة وفي " موطأ مالك " و" مسند الدارمي " فلم أجد حديث «خُذُوا نِصْفَ دِينِكُمْ ... » على الرغم من أن بعض الكتب جاء به أن الحديث ورد بلفظ: «خُذُوا نِصْفَ دِينِكُمْ عَنْ هَذِهِ الحُمَيْرَاءِ» (¬1). وأيضًا لم أجده في باب فضل عائشة بالجزء الرابع من كتاب " المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية ". وقد أورد الإمام بدر الدين الزركشي في كتابه " الإجابة "، بحثًا عن الحديث المذكور جاء فيه: «وَسَأَلَتُ شَيْخَنَا الحَافِظَ عِمَادَ الدِّينِ ابْنَ كَثِيْر رَحِمَهُ اللهُ عَنْ ¬

_ (¬1) ورد هذا في " مذكرة حزب التحرير ": ص 26.

ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ شَيْخنَا [حَافِظُ الدُّنْيَا] أَبُوالحَجَّاجِ المِزِّيُّ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ "الحُمَيْرَاءُ" بَاطِلٌ إِلاَّ حَدِيْثًا فِي الصَّوْم فِي " سُنَنِ النَّسَائِيِّ ". قُلْتُ: وَحَدِيثٌ آَخَرُ فِي " [سُنَنِ] النَّسَائِيِّ " أَيْضًا عَنْ أَبِيْ سَلَمَة قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: " دَخَلَ الحَبشَةُ المَسْجِدَ يَلْعَبُوْنَ فَقَالَ لِي: يَا حُمَيْرَاءُ أتُحِبِّيْنَ أَنْ تَنْظُرِيْ إِلَيْهِمْ "» (¬1). أما عبارة «عَائِشَةٌ نَاقِصَةُ عَقْلٍ وَدِينٍ» (*) فلم ترد في السُنَّةِ كوصف لعائشة بل وردت عن النبي كوصف للنساء عامة في حديث روه " البخاري " و" مسلم " بلفظ: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ، أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ [الحَازِمِ]، مِنْ إِحْدَاكُنَّ، يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ». قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا». إن وصف النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأحوال النساء، قد تضمن أن المرأة لا تصلي ولا تصوم أثناء الحيض الذي يتكرر كل شهر وهذا جعلها تنقص عن الرجل في أمور الدين. وتضمن الحديث أنها في الشهادة لا تتساوى مع الرجل لأن الله قد جعل دليل شهادتها على النصف من دليل شهادة الرجل والسبب كما جاء في القرآن الكريم هو قول الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]، أي خشية أن تنسى فتذكرها الأخرى التي حضرت معها موضوع الشهادة. وقد وصف النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا بأنه نوع من نقصان العقل وهذا أمر نسبي، وقد أثبتت ذلك البحوث العلمية الحديثة فقد جاء بـ " دائرة المعارف ¬

_ (¬1) " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " للزركشي: ص 58، الفصل 2. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) لم أجد هذا الحديث إلا من بين النقاشات التي أثارها الرئيس الطاغية المقبور معمر القذافي وتخريفاته في (الندوة العلمية حول منزلة السنة النبوية من القرآن) التي عقدت في طرابلس عاصمة ليبيا عام 1978 والتي تحدث فيها حسب زعمه عن التناقضات في صحيح البخاري مستشهداً بعدد من الأحاديث منها: (خذوا دينكم من عائشة) - وهذا الحديث ليس من أحاديث البخاري - وحديث آخر: (عائشة ناقصة عقل ودين). وحسب الرئيس القذافي فإن الحديث الأول وضعه أنصار عائشة أما الحديث الآخر فوضعه شيعة علي في معركة الجمل ... انظر كتاب " تدوين الحديث " لإبراهيم فوزي: ص 154، الطبعة الثانية: تموز / يوليو 1995 م، نشر دار رياض اريس للكتب والنشر، المملكة المتحدة، وهذا الكتاب فيه إساءة كبيرة للسنة النبوية ورُواتها.

الكبيرة " قول الدكتور روفاريي: «إن المجموع العضلي عند المرأة أقل منه كمالاً عند الرجل، وأضعف منه بمقدار الثلث، فالقلب عند المرأة أصغر وأخف بمقدار ستين غرامًا في المتوسط والرجل أكثر ذكاءً وإدراكًا أما المرأة فأكثر انفعالاً». وفي نفس الدائرة يقرر (نيكوليس وبيليه) أن الحواس الخمس عند المرأة أضعف منها عند الرجل، وأن مخ الرجل يزيد عن مخ المرأة بمقدار مائة غرام في المتوسط، فنسبة مخ الرجل إلى جسمه 1/ 40 ونسبة مخ المرأة إلى جسمها 1/ 44: كما يوجد اختلاف في المخيخ أيضًا وفي المادة السنجابية فهي عند النساء أقل بدرجة ملحوظة ومحسوسة جدًا. إن نقصان العقل الوارد في الحديث النبوي مقترن بأمر الشهادة على الديون حيث أن ذاكرة المرأة أضعف من ذاكرة الرجل وقد أثبت الطب الحديث ذلك. ولكن هذا النقص لا يراد به انتقاص مكانة المرأة أو وضعها القانوني والاجتماعي، فقد روى الخمسة أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نَعَمْ. إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ». [" حقوق النساء " للشيخ رشيد رضا: ص: 8] و [البهي الخولي: ص 20]. فاختلاف ذاكرة المرأة عن الرجل هو السبب في جعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل كما جاء في القرآن الكريم، وهذا ما وصفه النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه نوع من نقصان العقل، وهذا وصف معنوي لا يتساوى فيه النساء جميعًا بل هو الوصف الغالب لأكثرهن والحكم الشرعي يبنى على الأمر الغالب.

وهذا النقصان ليس له أثر في الفقه الإسلامي إلا في الشهادة على الأموال (¬1) وذلك حفظًا للحقوق، كما هو الحال في اشتراط أربع شهود من الرجال لإقامة حد الزنا وشهادة المرأة وحدها في الولادة. ولا يختلف أحد أنه توجد فوارق بين الرجل والمرأة في بعض الأمور، ولكن الفوارق في هذا الحديث في أمر ضئيل ومحصور في موضوع الشهادة، وهذا لا يمنع أن تروي المرأة أحكام الإسلام كالرجال، فإذا ما اعتقد أحد جدلاً أن رواية «خُذُوا نِصْفَ دِينِكُمْ عَنْ عَائِشَةَ» حديث عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يتعارض هذا مع وصف النساء بنقصان العقل لأنه وصف معلل بما ورد في القرآن الكريم، من النسيان الطارئ الموجب أن يكون شهادتها في الأموال نصف شهادة الرجل، وهذا لا علاقة له برواية الحديث عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن هذه الرواية لا تقوم بها إلا المرأة الذاكرة الحافظة، وهذا التخصص في هذا العلم لا يتحقق إلا للعالمات بأمور الدين والحافظات الذاكرات، أما الوصف العام بنقصان العقل فقد أورد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سببه وهو النسيان في المعاملات المالية والتجارية، فالنسيان خاص بهذا فقط، فلا يشمل الأمور العلمية والاجتماعية والقانونية أو غيرها. وأكبر شاهد على ذلك أن أم المؤمنين عائشة كانت من أهل العلم والفقه بل هي رائدة في ذلك بلا منازع، فقد روت عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألفين ومائتين وعشرة أحاديث (2210) واستدركت على أعلام الصحابة والفقهاء وصححت لهم عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد ذكر الزركشي ¬

_ (¬1) قال الإمام القرطبي: «وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الأَمْوَالِ دُونَ غَيْرِهَا» " الجامع لأحكام القرآن ": جـ 3. أي أن هذا النقص في الشهادة على الأموال فقط وهذا لا يعني جواز شهادتها في الحدود.

47 - مفتريات على المرأة والفقه:

أنها استدركت على أربع وعشرين صحابيًا ومنهم من استدركت عليه في أكثر من رواية (¬1). ومع هذا فإن أخذ نصف أمور الدين عنها لا يتعارض مع الحديث الذي وصف النساء بنقص العقل والدين بل يتفق على النحو سالف الذكر. 47 - مُفْتَرَيَاتٌ عَلَى المَرْأَةِ وَالفِقْهِ: يروج أحد الإخوة الباحثين أن وصف النبي للنساء بنقص العقل والدين يفيد أنه نقص حقيقي وهو من خصائص الأنوثة ويرتب على ذلك أن هذا النقص يجعلها تفضل الرجال عن النساء في الخياطة وأعمال الطهي والطب، ولهذا فالشرع لم يعتد بشهادة النساء أصلاً في أي شيء إلا للضرورة وما لا تدعو إليه الضرورة لا يعتد بشهادتهن أصلاً لا مجتمعات ولا منفردات. ولهذا ادعى الناقد بطلان قولي إن نقص العقل لا أثر له في الفقه إلا في الشهادة على الأموال حفظًا للحقوق وكرر الناقد أن هذا يرجع لجهلي بأحكام الشريعة حيث أثبت عدم جواز شهادتها في الحدود وفي الوقت نفسه أثبت أن نقص العقل لا أثر له إلا في الشهادة على الأموال. وللمعلوم أن الحديث النبوي لم يرتب على وصف المرأة بنقص العقل إلا كون شهادتها على النصف من شهادة الرجل، أما التشريعات الأوروبية فقد أبطلت التصرفات المالية للمرأة في أموالها الخاصة إذا تمت بغير إذن الزوج، تأسيسًا على نقصان أهلية المرأة في هذه التشريعات، ولهذا لزم الإشارة إلى أن الإسلام يرمز إلى نقص الذاكرة بنقص العقل وحصر أثر ذلك في الشهادة أي لا يبطل التصرفات المالية للمرأة ولا يمنع قيامها ببعض الولايات، يقول ابن حزم: «وَجَائِزٌ أَنْ تَلِيَ المَرْأَةُ الحُكْمَ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ وَلَّى الشِّفَاءَ [امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ] ¬

_ (¬1) الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " تأليف الإمام بدر الدين الزركشي، وقد أورد استدراكها على أبيها والأئمة عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وغيرهم.

السنة بين العدوى والوقاية:

السُّوقَ، وَقَدْ أَجَازَ المَالِكِيُّونَ أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً وَوَكِيلَةً» (¬1). وقال الكمال بن الهمام: «وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلاَّ فِي [الحُدُودِ] وَالقِصَاصِ» (¬2). وقال الكاساني: «المَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ [الشَّهَادَاتِ] فِي الجُمْلَةِ، إلاَّ أَنَّهَا لاَ تَقْضِي بِالحُدُودِ وَالقِصَاصِ؛ لأَنَّهُ لاَ شَهَادَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ» (¬3) ويقول الدكتور مصطفى السباعي عن هذا النقص: «فَلَيْسَتْ المَسْأَلَةُ إِذًا مَسْأَلَةَ [إِكْرَامٍ] وَإِهَانَةٍ، وَأَهْلِيَّةٍ وَعَدَمِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ [مَسْأَلَةُ] تَثَبُّتٍ فِي الأَحْكَامِ، وَاِحْتِيَاطٍَ فِي القَضَاءِ بِهَا» (¬4). ولكن الشيخ سلامة جبر يصر على إنكار كل هذه الأقوال وإن من رددها يصبح جاهلاً. السُنَّةُ بَيْنَ العَدْوَى وَالوِقَايَةِ: قيل إن حديث العدوى متناقض إذ نفي العدوى وأمر بالوقاية، ونصه في " البخاري ": «لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، [وَلاَ هَامَةَ] وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ [كَمَا تَفِرُّ] مِنَ الأَسَدِ». ولقد جهلوا أن نفي العدوى ارتبط بالتطير من المرض. ومن شهر صفر وهذا اعتقاد جاهلي من شأنه أن يصبح المريض محل شؤم فلا يرعاه أحد، ويترك الناس العمل في صفر، كما تجاهلوا أنه قد ثبت علميًا أن المرض لا ينتقل بذاته حتمًا بل الأمور مجتمعة منها المسببات الأصلية كالميكروبات والفيروسات وظروف خاصة بالشخص كنقص المناعة العارض للإجهاد أو التدخين أو التوتر أو للبرد الشديد، ولهذه الأمور لا تترك الوقاية ومن ثم أمر بها النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله في " البخاري ": «لاَ [يُورِدَنَّ] مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» وفي الأمر بالفرار من المجذوم كالفرار من الأسد، وقد ثبت علميًا وجود جذام شديد العدوى يجعل وجه المريض كوجه الأسد، ولهذا كله فالحديث النبوي من دلائل النبوة. ¬

_ (¬1) " المحلى ": جـ 9 مسألة 1800. (¬2) " فتح القدير ": جـ 5 ص 485. (¬3) " بدائع الصنائع ": جـ 7 ص 3. (¬4) " المرأة بين الفقه والقانون ": ص 31.

وأخيرًا قالوا بتعارض السنة مع الطب في حديث: «إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ [سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ] فِي التُّرَابِ». رواه " مسلم " فقالوا: إن التراب لم يحلله العلماء حتى نتاكد من صحة الحديث النبوي، وهم بهذا يريدون رفض الأحاديث النبوية الثابتة انتظارًا لاحتمالات ظنية نتجت عن التفكير السطحي في تقليد أوروبا التي أثبت بعض علمائها أن جراثيم لُعَابِ الكلب لا يزيلها الماء بل يزيلها التراب حسب الأبحاث التي أجريت في إسبانيا. ولقد أوضح العالم النمساوي محمد أسد أن دعوى التعارض بين السُنَّةِ والعلم يراد بها هدم الإسلام لأن السنة هي الهيكل الحديدي لصرح الإسلام. انظر كتابه " الإسلام على مفترق الطرق ": ص 87 - 97. وكتاب " ظاهرة رفض السنة " للدكتور صالح أحمد رضا: ص 41. لما كان ذلك، وكانت علة التعارض بين القرآن والسنة، سرابًا في خيال المرضى فقد زعم هؤلاء أن السنة تعارض العلم بحديث الكمأة والذباب، وهذا مفصل بالبنود 59 - 62.

48 - الوحدة الوطنية بين الماضي والحاضر:

48 - الوَحْدَةُ الوَطَنِيَّةُ بَيْنَ المَاضِي وَالحَاضِرِ: لقد ظهر أخيرًا كتاب للشيخ الدكتور محمد عمارة، والكتاب باسم " الإسلام والوحدة الوطنية " الصادر عن دار الهلال في ربيع أول 1399 هـ - فبراير 1979 م، العدد 338. وفيه زعم أن الألوهية والعمل الصالح والحساب والجزاء هي أصول الدين الواحد، أما تعدد الأنبياء والرسل فهذه مناهج ووسائل للتدين لا تمنع دخول أصحاب هذه الديانات الجنة حتى لو ظلوا على شريعتهم بعد بعثة النبي محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن الفارق بين المسلمين وأهل الديانات السابقة كالفارق بين العاملين بالكتاب والسنة وبين المبتدعين، وزعم أن الفوز بأجر الله وثوابه والنجاة من العذاب الذي تحدث عنه القرآن في وعيده الذي توعد به العصاة - كل ذلك حق وعد به الله سبحانه - لا المسلمين المؤمنين بالشريعة المحمدية فقط وإنما مطلق المؤمنين بالدين الإلهي سواء منهم الذين آمنوا بشريعة محمد أو موسى أو عيسى لقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. ثم قال: ولقد يحسب البعض وتلك قضية هامة أن هؤلاء المبشرين بالنجاة من أتباع الشرائع السماوية هم من عاشوا وماتوا قبل البعثة المحمدية، أما من أدرك هذه البعثة أو جاء بعدها فلن يمنعه الإيمان بالله والآخرة والعمل

الصالح إلا إذا هو آمن بشريعة محمد قد يحسب البعض هذا، ولكننا نجد في القرآن ما يقطع بأن اختلاف الشرائع السماوية حتى بعد البعثة المحمدية لن يحول بين فرائقها وبين النجاة: ص 113، 114. كان للدكتور عمارة اجتهاد مماثل كالربط بين الحكم الإسلامي والحكومة الدينية في أوروبا ثم غير هذا الاتجاه فانتصر للإسلام ونقد الأدباء الذين تجاوزوا حدود الإسلام وظهر ذلك في كتبه " الإسلام وحقوق الإنسان "، " الصحوة الإسلامية "، " الدين والدولة "، ونرجو أن يعيد النظر في كتابه " الإسلام والوحدة الوطنية ". اسْتِدْلاَلٌ مَعْكُوسٌ: والآيات القاطعة التي يستدل بها الشيخ هي قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 82 - 85]. والاستدلال المعكوس من الشيخ هو قوله: إن هذه الآية {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 84]، ومعناها شريعة عيسى التي جاءتهم وإن الآية تتحدث عن طائفة نصرانية ظلت على نصرانيتها وكانت علاقتهم بالمسلمين من طابع المودة والموالاة لهذا كانوا من أهل المثوبة بالخلود في الجنات التي تجري من تحتها الأنهار: ص 115. أي على الرغم من عدم إيمانهم برسالة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفيما يلي الأدلة على أن استدلاله في غير محله.

مَوْطِنُ التَّحْرِيفِ: إن القرآن الكريم والسنة النبوية لا يمكن أن يناقض بعضها بعضًا لأن مصدرها واحد وهو الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - الذي قال عن نبيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. وفي هذا روى الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا [يَتَدَارَءُونَ]، فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلاَ تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ، فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ». إن هذا الاجتهاد أراد أن يخدم أوضاعًا زائلة وأقوامًا لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، فحرف معنى الآية 62 من سورة البقرة والآية المماثلة لها وهي 69 من سورة المائدة، فجعلها تكذب باقي ما ورد في القرآن والسنة النبوية عن اليهود والنصارى. فهذه الآية تبشر اليهود والنصارى وكل من آمن برسالة سابقة على رسالة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. والمعنى الذي أجمع عليه المسلمون هو أن من صدق منهم برسالة محمد وآمن بها وعمل صالحًا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وهذا يؤكده قول الله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]. ويؤكد ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ

اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]. فهذه الفئات هي نفسها التي قال الله عنها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. وهذا يشمل من آمن برسالة نبيه ومات قبل بعثة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن آمن منهم بالقرآن الكريم وهذه الفئات يفصل الله بينها يوم القيامة. عَلاَمَاتُ التَّحْرِيفِ وَالاِفْتِرَاءِ: إن المستقرئ للقرآن الكريم من غير المسلمين يتضح له أن الذين يقولون بالدين الموحد الذي يضم الإسلام واليهودية والمسيحية ويسوي بينهم في الجنة بدعوى اتفاقهم على الإيمان بالله تعالى، هؤلاء يحرفون الكلم عن مواضعه ويستدركون على الله ورسوله وعلى الناس جميعًا لأسباب لا تحصى، نذكر منها: 1 - أن هذه الآية التي استشهد بها الشيخ محمد عمارة ويستشهد بها كل من يريد مجاملة اليهود والنصارى على حساب الله ورسوله والقرآن المنزل من عند الله تعالى وردت مرة أخرى في سورة المائدة برقم 69 مسبوقة بتحذير من الله لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى بأن يكفوا عن تحريف التوراة والإنجيل ويكون ذلك بالعمل بهما وبما أنزل إليهم بعدها وهو القرآن. قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 68، 69].

2 - {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة، الآيتان: 17 و 72]. 3 - الآيات التالية تؤكد كفر هؤلاء بسبب هذه العقيدة لأنهم بها يعبدون غير الله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 76، 77]. 4 - كما بين القرآن بعد ذلك أن الله قد سخط عليهم لموالاتهم المشركين ولعدم إيمانهم بالقرآن والنبي فقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 80، 81]. ثم أعقب ذلك مباشرة بالتفرقة بين اليهود والنصارى مبينًا أن من النصارى قسيسين ورهبانًا لا يستبكرون عن الحق المنزل على خاتم النبيين ويعلنون إيمانهم بما سمعوه من الرسول الذي أسمعهم القرآن (وليس الإنجيل) لهذا قال الله: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة: 85، 86]. هذه الآيات 80، 81، 82، 83، 84، 85، 86 من سورة المائدة هي التي يستشهد بها الدكتور محمد عمارة على إيمان أهل الكتاب وأنهم من أهل الجنة وهذا خطأ واضح.

5 - من هذا يتضح تجاوز الدكتور عمارة حدود الاجتهاد في آيات القرآن الكريم بما زعم من أن النصارى الذين لا يؤمنون بالقرآن قد شهد القرآن لهم بالرضوان والمغفرة وأنهم أهل الجنة استنادًا إلى قول الله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ} [المائدة: 85]، والآية لم تحكم لهم جميعًا بهذا الثواب بل للذين صدقوا النبي. كما فسر الدكتور عمارة آيات سورة المائدة السابق ذكرها فزعم أن قول الله: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ} [المائدة: 83]، يراد به ما ورد في الإنجيل الموجود بين أيديهم وقت نزول الآيات وهو الإنجيل الوارد به عقيدة التثليث التي قال الله تعالى عنها: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73]. 6 - وهذا يؤدي إلى إغفال ما يبين أن هذا الحق هو القرآن لأنه مسبوق بقول الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]. فالحق الذي عرفوا هو الذي سمعوا وهو ما أنزل الله إلى الرسول وهو القرآن وليس الإنجيل كما زعم الشيخ الوضاع. وقولهم: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 84] مرتبط بما سمعوه من القرآن، فالإيمان هنا هو الإيمان بالقرآن والنبي وليس الإيمان بالإنجيل المحرف وما به من عقيدة التثليث. 7 - إن الاجتهاد الذي تجاوز الأصول هو الزعم بأن الثواب لجميع النصارى وهو يعلم أن الله أثابهم على هذا الإيمان جنات خالدين فيها، ولو كان هذا الجزاء هو لإيمانهم بما جاء في كتبهم لكان هذا معارضًا صراحة لسياق هذه الآيات لأن ما جاء قبلها وبعدها يؤكد كفر أصحاب عقيدة التثليث وأن مصيرهم النار، وبالتالي فإن الجزاء الجديد وهو الجنة كان لشيء آخر غير الإيمان بهذه الكتب ألا وهو الإيمان بما سمعوه من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ - وهو القرآن الكريم والذي فاضت أعينهم دمعًا مما جاء فيه من الحق الذي كانوا يختلفون فيه. 8 - وأخيرًا وليس آخرًا فإن آيات القرآن الكريم الأخرى تؤكد هذا المعنى ونكتفي منها بقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. والجزية هي ضريبة سنوية تؤخذ من أهل الكتاب الذين يقيمون في الدولة الإسلامية وذلك مقابل عدم تجنيدهم في الجيوش ومقابل الدفاع عنهم. وهذه ليست ضريبة رأس كتلك التي كانت تفرضها الجيوش على أهل البلاد التي اغتصبت واحتلت لأنها تفرق عنها في السبب سالف الذكر وفي أنها لا تفرض على النساء والشيوخ المسنين والصبيان الصغار كما يعفى منها غير القادرين من الرجال. تَضْلِيلٌ آخَرَ: ولكن مع هذا الاجتهاد قد يقدم منه اليهود والنصارى وجهات أخرى، زعم أن الآية التي فرضت الجزية على أهل الكتاب نزلت في طائفة خاصة من اليهود والنصارى ليسوا هم صنف أهل الكتاب أو جنسهم بل خاصة بفئة لا تدين بالتوحيد ولا تؤمن بالله واليوم الآخر، وأهل الكتاب لا تنطبق عليهم هذه الآية، فقد نزلت في أهل الروم في غزوة تبوك والغرض منها حث المسلمين على الرضا بآية منع المشركين من الحج وقد كانوا يجلبون الأموال والمنافع للمسلمين: ص 84.

49 - بدعة التوفيق بين الإسلام والنصرانية:

أمام هذا نود أن يعيد الدكتور عمارة النظر في هذا الاجتهاد حيث أنه لا اجتهاد مع النص. أ - فالآية التالية قد قطعت بفساد عقيدة أهل الكتاب والتي تجعلهم لا يعدون من المؤمنين بالله واليوم الآخر حيث قال الله تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]. ب - فليس صحيحًا أن الآية نزلت في فئة خاصة ليست من صنف أهل الكتاب لأن القرآن صريح في أمره أخذ الجزية من أهل الكتاب بجميع طوائفهم والسبب الذي زعمه الشيخ عمارة لم يرد في أي حديث نبوي بل لم يدعيه أحد من المنافقين والكفار [" تفسير الطبري ": جـ 14 ص 198 و " تفسير البيان " للطوسي: جـ 5 ص 202]. ج - والجزية أخذها المسلمون من أهل الروم ومن غيرهم من أهل الكتاب فليست خاصة بفئة معينة. 49 - بِدْعَةُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الإِسْلاَمِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ: عندما كانت البلاد الإسلامية تحت الاحتلال الإنجليزي أو الفرنسي كانت تتردد في بعض الفترات بدعة التوفيق بين الإسلام والمسيحية وقد دعا إلى ذلك قديمًا «ويلفرد بلنت» وإسحاق تيلور الذي التقى بالشيخ محمد عبده، في دمشق سَنَةَ 1883 م وحاول إقناعه بهذه الفكرة هو وصديق له يدعى محمد

باقر، وقد روى الشيخ محمد رشيد رضا هذه القصة في كتابه " تاريخ الأستاذ الإمام " حيث أوضح أن محمد باقر كان مذبذبًا وتردد بين الإسلام والمسيحية وتنصر ثم عاد وأعلن توبته وعودته إلى الإسلام وأخذ يدعو للتوفيق بين الإسلام والمسيحية على أساس ما وجد عند الكنيسة الإنجيلية. وقد ذكر الدكتور محمد حسين في كتابه " الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " تحت عنوان «دعوات هدامة» أن أحد الفرنسيين زار مصر في أوائل هذا القرن وأخذ يفاوض شيوخ الإسلام لتوحيد الأديان فأهمله الشيخ حسن الطويل ولم يرد عليه. وفي مجلة " الهلال " عدد مارس سَنَةَ 1939 م (شهر المحرم سَنَةَ 1358 هـ) تحت عنوان «هل يمكن توحيد الإسلام والمسيحية؟» نقل عن القمص سرجيوس أن هذه الدعوة باطلة ولا يمكن تحقيقها. وفي عدد أغسطس من نفس العام كتب الشيخ الفيشاوي من علماء غزة أن التوفيق بين المسيحية والإسلام لا يكون إلا بدخول المسيحيين في الإسلام، فالأناجيل لو فهمت فهمًا صحيحًا لا تعارض الإسلام، وكل مسلم يؤمن بعيسى وسائر الأنبياء وفي الفترة الأخيرة ابتداء من سَنَةِ 1952 تولى بعض الأمريكيين المرتبطين بالصهيونية الدعوة إلى مؤتمرات للتوفيق بين الإسلام والنصرانية ولقد اختاروا أشخاصًا بذواتهم لحضور هذه المؤتمرات. إِلْغَاءُ الشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: إن الغرض والهدف من هذا الاجتهاد الذي توصل إليه الدكتور محمد عمارة قد أفصح عنه في قوله: «فإن جمهور المتحدثين باسم الدين وجمهرة الباحثين فيه وعامة المسلمين يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية على مجتمعات تضم رعايا غير مسلمين أي أنهم يدعون إلى تطبيق شريعة أمة محمد - عَلَيْهِ الصَلاَةُ

وَالسَّلاَمُ - على غير أهلها ... وهذا طلب يمثل خروجًا عن سنة الله في كونه وقانونه في خلقه» [" تعدد الشرائع الدينية لتعدد أمم الرسالات ": ص 64]. ولقد زعم أن هذا منهج الرسول والخلفاء، وقال: «إن المسلمين الأوائل على عهد الخلافة الراشدة عندما كانوا يفتحون البلاد ويضمونه إلى الدولة فإنهم كانوا يميزون بين قطاعين من التشريعات في تعاملهم مع هؤلاء الرعايا الجدد غير المسلمين». «فبعد الفتح تدخل البلاد المفتوحة في إطار الدولة الواحدة التي تخضع جميعها لقوانين متحدة، تنظم أمور الحرب والسلم والأمن والمال ... الخ. على حين لم يكن الأمر كذلك في مسائل الدين وأيضًا الشريعة، فلقد تركت الحرية للرعايا غير المسلمين في عقائدهم وفي شرائعهم الأمر الذي يشهد أن الشرائع من الدين وأنها متعددة وليست واحدة وأنه لذلك فلا حق لأبناء شريعة في فرض شريعتهم على أبناء الشريعة الأخرى ما داموا جميعًا أصحاب شرائع إلهية أي في إطار الدين الإلهي الواحد، الذين نسميهم أهل الكتاب»: ص 66. ولقد استشهد الشيخ عمارة ببنود المعاهدات في عهد الخلفاء حيث إن بها (لا يحال بينهم وبين شرائعهم)، (لهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وملتهم وشرائعهم، لا يغير شيء من ذلك هو إليهم): ص 67. ثم «جعل الشيخ المعاملات من الأمور الدنيوية التي لا يحكمها دين ويوحدها الوطن وهو محور ولاء الجميع»: ص 189. ولا توجد في شرائع أهل الكتاب تنظيم للتشريعات المالية والاجتماعية والجنائية بل ولا المواريث، فليس عندهم من الشرائع سوى نظام الزواج والطلاق وقد ضمن لهم المسلمون عدم المساس به لأنه من عقائدهم ولا إكراه في الدين.

مَوْطِنُ التَّضْلِيلِ: هو أن الدين الإلهي الواحد قد ابتدعه بعض اليهود والنصارى لتحويل المسلمين عن دينهم ولو كان لدى أصحاب هذه الدعوى أدنى درجة من الصدق لاتبعوا الرسالة الخاتمة وتركوا مزاعمهم أن الله ثالث ثلاثة أو أن عيسى ابن الله أو أن عُزَيْرًا ابن الله أو أن اليهود أبناء الله وشعبه المختار. كما أن ليس صحيحًا ما زعمه بأن الإنجيل تضمن شريعة في فقه المعاملات وكان يرجع إليها النصارى، فالإنجيل جاء خاليًا من أي تشريع في أمور الدنيا، ولهذا يتبع النصارى في كل دولة تشريع هذه الدولة عن طاعة وقناعة بل ذهب إلى السعودية في العام الماضي وفد من فرنسا على رأسه وزير العدل وصرح بأنهم يرغبون في أخذ نظام المعاملات والمواريث في الشريعة الإسلامية للعمل بها ونصارى مصر يطبقون هذه المواريث حيث لا بديل عنها. وليس صحيحًا أن المعاملات من الأمور الدنيوية التي يحكمها دين لأنه لا خلاف بين المسلمين وأعدائهم في أن الإسلام تضمن تنظيم الشؤون الدنيوية في مجال المعاملات المالية والتجارية والأمور المدنية. والثابت في السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجه عَدِيَّ بْنِ حَاتِمٍ وكان من علماء النصارى بحقيقة كفرهم في المعاملات المالية والدنيوية إذ روى عن " الترمذي " أنه عندما دخل على النبي ليعلن إسلامه قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. قَالَ عَدِّيٌّ: «مَا عَبَدْنَاهُمْ». قَالَ النَّبِيُّ: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَكُمْ الحَرامَ وَيَحَرِّمُوا عَلَيْكُمْ الحَلالَ فَتَتَّبِعُونَهُمْ؟»، قَالَ عَدِّيٌّ: «بَلَى»، قَالَ النَّبِيُّ: «فَتِلْكَ عِبَادَتَهُمْ مِنْ دُونَ اللهِ» (*). ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) الحديث كما ورد في " سنن الترمذي " كالآتي: عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ»، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ». الترمذي، " السنن "، تحقيق الشيخ أحمد شاكر وآخرون (الشيخ إبراهيم عطوة عوض): (48) كتاب تفسير القرآن (10) باب «ومن سورة التوبة»، حديث رقم 3095، الطبعة الثانية: 1395 هـ / 1975 م، 5/ 278، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان .....

إن قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. فقد فهم منه أخ عربي أن اليهود والنصارى في عصرنا ليسوا كفارًا، وأعلن ذلك في ندوة الحوار الإسلامي المسيحي بطرابلس (¬1)، ثم جاء عالم إسلامي وحاول إضفاء الشرعية على هذه النظرية فقال: «إِنَّ النَّصَارَى الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالقُرْآنِ قَدْ شَهِدَ لَهُمْ القُرْآنُ بِالرِّضْوَانِ وَالمَغْفِرَةَ» (¬2). واليهود والنصارى أنفسهم لم يفهموا هذا المعنى من هذه الآية أو غيرها من القرآن بل فهموا أنه قد قطع بكفرهم في ختام هذه الآيات كما أنهم يعلمون أن من أنكر رسولاً فقد كفر ولكن المنافقين مازالوا يحرفون معاني الآيات. وأما معنى الآية السابقة فقد نقل ابن أبي حاتم بسنده عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كُنْتُ مَعَهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ، قال: «يَا سَلْمَانُ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى سَلْمَانَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ (3). فكان إيمان اليهود أن من تمسك بالتوراة وسنة موسى حتى جاء عيسى فآمن به كان ناجيًا، ومن تمسك بالإنجيل وسنة عيسى حتى جاء محمد فآمن به كان ناجيًا، ومن لم يتبع عيسى ومحمدًا كان هالكًا لأن الله يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. إن نصوص القرآن والآية التي يحرف معناها هؤلاء صريحة أن استحقاق الثواب والأمن في الآخرة مرتبط بالإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح وهذا يقتضي عدم الكفر بأي رسول من الرسل، فمن آمن منهم برسالة محمد له الأجر مرتان، ومن كفر بها فهو من أصحاب النار، أما من مات قبل هذه الرسالة فهو من أهل الجنة إن كان عمله صالحًا، وهذا ما تؤكده أسباب النزول. ¬

_ (¬1) من كتاب " خطب وأحاديث القائد الدينية ": ص 100، 101. (¬2) من مزاعم الشيخ محمد عمارة في كتابه " الإسلام والوحدة الوطنية ": ص 112.

الحَقِيقَةُ الغَائِبَةُ: لقد أورد ابن القيم فصلاً في كتابه " هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى "، تضمن من آمنوا بالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رؤساء اليهود والنصارى فاختاروا الإسلام عن رغبة ولقد كان النجاشي ملك الحبشة أعلم النصارى بدينهم وكان عدي بن حاتم من كبار الرؤساء بل إنه الرئيس المطاع في قومه وكذا كان سلمان الفارسي من أعلم النصارى بدينهم، وقد أسلم هؤلاء كما أسلم غيرهم من اليهود والنصارى ولم يتطرق إلى أحدهم شيئًا مما يقول به بعض أصحاب النظرية الثالثة الذين يعلمون أن رسالة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي دعوة جميع الرسل قبله، فالمكذب بها مكذب بدعوة الرسل كلهم كما صرح القرآن الكريم بذلك في آخر سورة البقرة، والغريب في أصحاب هذه النظرية أنهم يعلمون أيضًا أن اليهود ينكرون رسالة عيسى أيضًا وينتظرون أصحاب هذه النظرية أنهم يعلمون أيضًا أن اليهود ينكرون رسالة عيسى أيضًا وينتظرون مسيحًا آخر هو المسيح الدجال، والنصارى يؤمنون بمسيح زعموا أنه الله نزل إلى الأرض في صورة ابن وأنه ثالث ثلاثة، وهذا المسيح لا وجود له ولا يقبل به أي عقل سليم. وأخيرًا فهم لا ينكرون ما رواه مسلم في " صحيحه " أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ». وهذا كله يؤكد أن أصحاب هذه النظرية قد ردوا صريح السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ زاعمين أن أحاديث الآحاد لا يعمل بها في العقائد وهو ما تم بيان زيفه وبطلانه، بدليل أنهم قد صرفوا حكم القرآن الكريم في اليهود والنصارى على النحو سالف الذكر.

50 - أهل الكتاب يكذبون علماء السلطة:

50 - أَهْلُ الكِتَابِ يُكَذِّبُونَ عُلَمَاءَ السُّلْطَةِ: بل إن العلماء من أهل الكتاب يصرحون بأن الإسلام دين شامل لأمور الدنيا كلها وأنه أصلح الشرائع والقوانين. ففي العدد الثاني من مجلة " الدعوة " الصادرة في القاهرة في شعبان 1396 هـ (أغسطس 1976 م) نقلت ما نشرته صحف القاهرة للكتاب المسيحي الأستاذ سامي داود، فقال رَدًّا على وزير العدل المستشار أحمد سميح طلعت: «إن تصريح وزير العدل بأن إقامة الحدود الشرعية ستكون قاصرة على المسلمين أما المسيحيون فسيطبق عليهم القانون الوضعي، يفصم الوحدة القانونية التي ظلت تحفظ وحدة المسلمين والمسيحيين على مر العصور، وبأي ضمير يحكم على المسيحي إذا سرق بالحبس بضعة أشهر» ... ثم قال: «إن ما تضمنه القانون المدني من مواد تستند إلى الشريعة الإسلامية ومنها ما يتعلق بالمواريث وهو أهم وأخطر على علاقات الأسر يطبق على الجميع، فهل شكا أحد من ذلك؟». وفي العدد التاسع من ذات المجلة الصادرة في غرة ربيع الأول سَنَةَ 1397 هـ (فبراير 1977 م) نشرت تحقيقًا تضمن رأي علماء المسيحيين في مصر عن تطبيق الشريعة الإسلامية فنقلت قول الكاردينال اصطفانوس بطريرك الأقباط الكاثوليك: «إن تطبيق حدود الشريعة الإسلامية ضروري على الشخص وعلى جميع المجتمع حتى تستقيم الأمور وينصلح حال الناس، وليس في تطبيقها أبدًا ما يمس حقوق المسيحيين أو يضايقهم والذي يحترم الشريعة الإسلامية يحترم جميع الأديان». ونقلت المجلة عن الأنبا غريغوريوس ممثل الأقباط الأرثوذكس قوله: «إن تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر أمر لا شك فيه ولا اعتراض عليه». وقال: «على الرغم من أن الديانة المسيحية ليس في نصوصها

قطع يد السارق أو قتل القاتل إلا أن المسيحيين لا يعارضون تطبيق حدود الشريعة الإسلامية في مصر». كما نقلت المجلة عن القس برسوم شحاته وكيل الطائفة الإنجيلية في مصر قوله: «لا بد من تطبيق حدود الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة والسلام والحب في المجتمع». أَهْلُ الذِمَّةِ وَعَهْدُ الأَمَانِ: لقد استشهد الشيخ عمارة بعبارات وردت في عهود الخلفاء لأهل الذمة الذين ارتضوا حكم الإسلام وزعم أنها تعني أن يطبق هؤلاء شرائعهم في المعاملات الدنيوية. والشيخ لا يجهل أن شرائعهم ليست فيها نصوص في هذا الشأن ولا يجهل أنه لم يحدث في التاريخ الإسلامي كله إن كانت لليهود والنصارى شرائع خاصة في المعاملات المالية على الرغم من أن الإسلام لا يجبرهم على حكمه في هذه المعاملات ولكن إن التجأوا إلى القاضي المسلم حكم بالإسلام إذ قد ارتضوا حكم الإسلام بهذا التحاكم. أما الحدود وهي العقوبات فلا توجد دولة في العالم تسمح باستثناء واحد من هذه العقوبات وهذا يسمى في الفقه القانوني المعاصر بمبدأ إقليمية القوانين. وقد شهد الممثلون للنصارى في مصر بما يخالف الشيخ عمارة ويفسر معنى هذه العهود أو حسبنا قول وكيل الطائفة الإنجيلية فيما نشرته مجلة " الدعوة " بذا العدد سالف الذكر «في كل عهد أو حكم إسلامي التزم المسلمون فيه بمبادئ الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياه من غير المسلمين والمسيحيين على وجه الخصوص بكل أسباب الحرية والأمن».

أما ممثل الأقباط الأرثوذكس فيقول: «لقد لقيت الأقليات غير المسلمة - المسيحيون بالذات - في ظل الحكم الإسلامي كل حرية وسلام وأمن في دينها ومالها وعرضها حيث كانت تتجلى روح الإسلام السمحة». أما بطريرك الأقباط الكاثوليك فقد قال: «لقد وجدت الديانات الأخرى والمسيحية بالذات في كل عصر التي كان الحكم الإسلامي فيها قائمًا بصورته الصادقة، ما لم تلقه في ظل أي نظام آخر من حيث الأمان والاطمئنان في دينها ومالها وعرضها وحريتها». نأمل أن يعيد الدكتور محمد عمارة النظر في ذلك لأن كتابه " الدين والدولة " قد تضمن مقارنة علمية مشرقة للإسلام والحضارة الغربية والفتح الإسلامي والتوحيد وأوضح أنه التوحيد الإسلامي: ص 199 - 228. كما نأمل أن يدرك ذلك المسلمون المسيحيون واليهود حكامًا وشعوبًا، ونأمل أن يدرك صبيان العلماء وأتباع دعاة الشهرة والزعامة على حساب الدين، إن شبهة التعارض بين النصوص من القرآن والسنة النبوية قد تناولها علماء الحديث حتى أصبح لذلك علم خاص هو (علم اختلاف الحديث ومشكله)، والجدير بالذكر أن أقدم كتاب فيه هو " اختلاف الحديث " للإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سَنَةَ 204 هـ، ثم كتاب " تأويل مختلف الحديث " للإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة (276 هـ) و" مشكل الآثار " للإمام أحمد بن محمد الطحاوي (321 هـ) وهو في أربع مجلدات، و" مشكل الحديث " للإمام محمد بن الحسن الأنصاري (406 هـ)، وقد قال الإمام السخاوي عن هذا العلم: «هو من أهم الأنواع مضطر إليه جميع الطوائف من العلماء وإنما يكمل للقيام به من كان إمامًا جامعًا لصناعتي الحديث والفقه غائصًا على المعاني الدقيقة» [" فتح المغيث " للسخاوي: ص 362، و" نشأة علوم الحديث " (*) للدكتور محمد عجاج الخطيب: ص 347]. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ربما يقصد المؤلف كتاب " أصول الحديث، علومه ومصطلحه " للدكتور محمد عجاج الخطيب. وقد نشرته دار الفكر، الطبعة الثانية: 1391 هـ - 1971 م.

الفصل الثامن: السنة ونسخ الأحكام:

الفَصْلُ الثَّامِنُ: السُنَّةُ وَنَسْخُ الأَحْكَامِ: - التعريف بالنسخ. - نسخ السنة بالقرآن. - الإجماع والنسخ.

51 - التعريف بالنسخ:

51 - التَّعْرِيفُ بِالنَّسْخِ: النسخ هو بيان للحكم الشرعي وليس رفعًا للنصوص وإزالة لها، فيكون الحكم الأول قائمًا حتى تاريخ نزول الحكم الأخير (¬1). فقد نزل قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. وقد روى الإمام أحمد أنه بعد نزول هذه الآية، كان الناس يشربون الخمر حتى يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين بأصحابه صلاة المغرب فخلط في قراءته فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ثم بعد ذلك نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. فهذه الآيات من كتاب الله تعالى، تضمنت مراحل تحريم الخمر، حسب هذا التدرج وكل حكم يظل حكمًا شرعيًا صحيحًا في الفترة السابقة على التحريم. ¬

_ (¬1) لقد اختلف في النسخ هل هو رفع أبو بيان، فإن كان المراد رفع الحكم الشرعي بنص آخر، فلا بأس به يؤكده أنه لا نسخ بالعقل كما جاء في مجموع المتون في مختلف الفنون: ص 68. وهذا ليس رفعًا للنص بل دفع للحكم [" نظرية النسخ " للدكتور شعبان إسماعيل: ص 8].

والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما ينهى عن أمر، ثم يبيحه، يكون بين انتهاء الحكم السابق وأتى بحكم جديد في زمان آخر غير الزمن الأول. فقد نهى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن زيارة القبور، ونهى عن الأكل من لحوم الأضاحي، ثم أباح ذلك، وفي هذا روى الإمام مسلم أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «[نَهَيْتُكُمْ] عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ» م 3/ 65. فهذا الحديث لا يكون لاغيًا للحديث الأول، بل يبين أن زمان العمل به قد انتهى. لهذا فإن آيات القرآن التي نسخ الله حكمها، ما زالت قرآنًا ثابتًا يتعبد المسلمون بتلاوته في الصلاة وفي غير الصلاة. ولهذا نجد أن النسخ لا يختلف كثيرًا عن تخصيص العام، فكلاهما نوع من الاستثناء ولكنه في النسخ يتأخر زمنًا فيظل الحكم الأول فترة. ولكن الاستثناء في التخصيص لا يأتي بعد زمن بل يكون معلومًا ابتداءً مع الحكم العام مثل عدة المطلقات الواردة في قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (¬1)، فهذا عام يشمل جميع المطلقات ولكن قد استثنى الله المطلقات قبل الدخول فلا يشملهن الحكم المذكور لقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬2). فالنسخ يكون بدليل من القرآن أو السنة كما يكون عند وجود فارق زمني بين النصين ولم يمكن الجمع بينهما. ¬

_ (¬1) [البقرة: 228]. (¬2) [الأحزاب: 49]. و" الاعتبار " للإمام محمد الهمذاني: ص 8، و" الإتقان " للسيوطي: جـ 1 ص 83 وجـ 3 ص 71.

لأنه لو أمكن ذلك فلا معنى للقول بالنسخ مثل «شَرُّ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ»، وحديث «خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ» فلم ينسخ أحدهما الآخر، فالأول خاص بالقرون المتأخرة حيث يكثر الفساد والثاني خاص بالقرون الأولى أو بمن شهد لوجود الحاجة الماسة إلى الشهادة، وهذ تفسير يظهره حديث رواه عمران بن الحصين عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ القَرْنُ الذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (*) «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ... ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ ... » (¬1) (**). شُبُهَاتٌ حَوْلَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ: لقد شنع الأخ سلامة جبر على الكتاب لأنه رجح القول بالتخصيص في حديث «شَرُّ الشُّهُودِ» وفي استثناء غير المدخول بها الوارد في الصفحة السابقة، ولا خلاف على أن آية الأحزاب قطعت بإعفاء المطلقة قبل الدخول من حكم العدة الوارد في سورة البقرة، ولا خلاف في أن حديث «شَرُّ الشُّهُودِ» خاص بمن حركته الأهواء في الشهادة وفي أن حكم النسخ هو إبطال العمل بالنص المنسوخ، والناقد لا يملك القول بنسخ الإقراء للمطلقات كلهن وكذا الأمر في خير الشهود، ومن ثم يكون النص الجديد استثناء لبعض أفراد النص الأول والخلاف هل يوصف بأنه نسخ أم تخصيص؟ والناقد يصر على أنه نسخ وأن القول بالتخصيص جهل ¬

_ (¬1) " الاعتبار ": ص 9، " صحيح الجامع الصغير ": ص 43، " صحيح مسلم ": 7/ 186. لقد وزع الأستاذ محمد سلامة جبر مذكرة على الناشرين في الكويت وعلى من يرى أنهم أهل الرأي والعلم تضمنت اعتراضه على أن ينشر مثلي كُتُبًا إسلامية لعدم تخصصي أمام تخصصه كخريج لكلية الدراسات الإسلامية ومدرس بالمرحلة المتوسطة، وقد اعتذرت عن الحوار معه كطلب الأستاذ صلاح شادي عن دار الشعاع لاعتقادي أن هذا النقد المقترن بالألفاظ الجارحة، لا يتصل بالكتاب الذي مضى على نشره ست سنوات ونفذت طبعتين منه، وإنما يتصل بشدة حواري معه عن كتيبه " خصائص الأنوثة " حيث جعل منها أمورًا ليست خصائص للأنثى وليست حكمًا عامًا في الشريعة كنقص العقل، ولكن أمام إصرار الأستاذ صلاح قبلت الحوار معه ومع من دعاهم كعلماء وأفرغ هذا الحوار في محضر بمعرفتهم وبتوقيعهم يوم 9/ 5/ 1982 م، وعلى الرغم من أنه قد تأكد له عدم مخالفتي الإجماع في المسائل التي تناولها، وعلى الرغم من أنه طلب أجلاً غير مسمى لبحث باقي المسائل وهي أربعة، إلا أنه توصل إلى نشر مذكرته في جريدة السياسة يوم 20/ 8 / 1982 م، وتعمد إغفال ردي الثابت بالمحضر سالف الذكر مما جعل الناشر يرسل هذا المحضر إلى الجريدة التي نشرته يوم 27/ 7 واعتذرت عن الخطأ الذي أوقعها فيه وللمهاترات التي = [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " الجامع الصحيح " للإمام مسلم، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، (44) كتاب فضائل الصحابة (52) باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،، حديث رقم (215) 2535، 4 / ص 1965، الطبعة الثانية: 1972 م، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان. (**) المصدر السابق: حديث رقم (214) 2535، 4/ 1964.

بالشريعة يوجب مصادرة الكتاب الحجر على صاحبه. إنه لا يسمى الاستثناء نسخًا إلا إذا جاء بعد فترة زمنية، ويسمى تخصيصًا للعام إذا كان حكم الاستثناء قد ورد تاليًا للحكم السابق بغير فارق زمني، فقد اتفق الفقهاء على أن النسخ لا يفترض فلا يثبت إلا بدليل من القرآن والسنة (¬2) ولا توجد أي قرينة على النسخ في هذين الحكمين، ولهذا رجحت الوصف بالتخصيص وحسبنا أن القول بالنسخ لا يكون بالاجتهاد وبالافتراض ولا دليل هنا على النسخ، ولم يذكر ابن كثير نسخًا في حكم العدة الورد في سورة البقرة كما أن الحافظ ابن حجر لم يقل بالنسخ في حديث «شَرُّ الشُّهُودِ» بل ذكر عدة طرق للتوفيق بين الحديثين، منها حمل الأول «شَرُّ الشُّهُودِ» على حقوق العباد، والآخر على حقوق الله أو حمل الأول على شهادة الزور، كما أن الإمام البيضاوي أورد حديثًا نبويا فيه «ثُمَّ [يَفْشُو] الكَذِبُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ» (¬3). ومع هذا فلا تثريب على من قال بالنسخ فالخلاف في وصف الدليل أنه نسخ أو تخصيص لا يغير من النتيجة وهي أنه استثناء من الأصل. وبهذا تزول الشبهة التي نسبت إلى أبي مسلم الأصفهاني ونقلها الشيخ عبد المتعال الجبري في كتابه " النسخ " كما أفهمه، فقد أجيب أن أبا مسلم لا ينكر النسخ والنقل عنه في هذا مضطرب، والراجح أنه ينكر النسخ في القرآن لقول الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]. فما يسميه العلماء نسخًا يسميه هو تخصيصًا وبهذا قال التاج السبكي (¬4) ملتمسًا العذر لفقيه ¬

_ = تسيء إلى الإسلاميين فلجأ إلى مجلة أسبوعية خليعة ينشر فيها فتاوى دينية فنشر في صفحته (أن وزارة التربية قررت عدم صلاحية كتاب " السنة المفترى عليها "، والحمد لله أن قيض لشرعه من يذب عنه بأمره ويدافع عنه بإذنه) وقد تبرأت هذه الوزارة من هذا الادعاء بكتابها رقم 25640 بتاريخ 6/ 4 / 1983 م وأكدت عم صحة ما نشر في بعض الصحف بغية التشهير بالمؤلف والنيل منه وأنها تربأ بنفسها عن هذا الصغار، حسبما ورد في الرد الرسمي للوزارة. والجدير بالذكر أن الناقد أعلن بعد ذلك تخليه عن " خصائض الأنوثة " وسحبه من المكتبات. (¬2) " الإتقان " للسيوطي: 1/ 83، و" تفسير ابن كثير ": 3/ 497. (¬3) " الغاية القصوى في دراية الفتوى " للبيضاوي: جـ 2 ص 102. (¬4) " نظرية النسخ في الشرائع السماوية " للدكتور شعبان إسماعيل: ص 39.

المعتزلة محمد بن بحر الأصفهاني (أبي مسلم) لكن ما استدل به وهو الآية السابقة تثبت حصول النسخ، وتنحصر الشبهة في نسخ السُنَّةِ للقرآن وهي تتعلق بالتسمية فقط هل هي ناسخة أو مخصصة. هذا وقد ينزل قرآن فينسخ السنة النبوية أو يخصص عمومها. فقد نزل قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، فرفع بذلك الحكم الوارد في الحديث: «إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ»، فلا يوجد تعارض بين الحديث والآية القرآنية، ولا بين هذا الحديث وحديث المبشرين بالجنة، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في بند شبهة تعارض النصوص الشرعية. كما نزل قول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فيخصص حديث النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» (¬1). فالآية القرآنية تضمنت استثناء أهل الكتاب من عموم الحديث وأيضًا من عموم الحديث النبوي لا يراد به كل الناس فهو خاص بمشركي الجزيرة العربية فهو عام أريد به الخصوص (¬2). ¬

_ (¬1) انظر " أضواء على معالم في الطريق ": ص 31 - 34 و 167 و 168. (¬2) كتاب " الحكم وقضية تكفير المسلم " الطبعة الثالثة: ص 377 حتى 388.

52 - نسخ القرآن للسنة:

52 - نَسْخُ القُرْآنِ لِلْسُنَّةِ: إذا كان ذلك فهل تنسخ السُنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الأحكام الواردة في القرآن الكريم؟ لقد قال بعض الفقهاء: إن السنة لا تنسخ القرآن لأن الله تعالى يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]. فقال قوم: إن السنة النبوية ليست خيرًا من القرآن حتى تنسخه فنرى التخصيص، فالنسخ قد يؤدي إلى التعارض بين القرآن والسنة أو إلى وصف السنة بعدم النسخ ثم العمل بنصوصها التي تخصص بعض أحكام القرآن الكريم. وعليه فالواجب النظر الدقيق في مفهوم هذه الآية لأن الاستدلال السابق يؤدي إلى هذه النتيجة. مع أن السنة من الوحي لقول الله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم، الآيتان: 3 - 4]. إن ربط الآية بما قبلها وما بعدها يعطي فهمًا آخر وهو أنها تتعلق بنسخ الرسالات والآيات الكونية المؤيدة لها، فالآية السابقة هي: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]. فالخطاب يرتبط بالرسالات السابقة التي نسخها القرآن الكريم والآية التي بعدها تؤكد ذلك في قول الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108]. والآية بمعنى المعجزة في آيات القرآن، وسواء كان سبب نزول الآية هو تعديل بعض أحكام التوراة أو

تحويل القبلة أو غير ذلك، فالثابت أن السُنَّةَ رفعت بعض أحكام القرآن من ذلك وعلى سبيل المثال الحكم الوارد في قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. فهذا يقرر الوصية للوالدين والأقربين ولو كانوا وارثين ولكنه تغير بالنسبة للأقارب الوارثين ولا خلاف في ذلك بين المسلمين فقد روى أصحاب السنن أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب على ناقته يوم الفتح فقال: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». فهذا الحديث منع الوصية للوارثين من الأقارب وهذا لا خلاف فيه، إنما الخلاف في وصف هذا الدليل الصارف للحكم الأول، الوارد في القرآن الكريم، فالأحناف يقولون إنه كلام مستقل منفصل عن النص العام القطعي فيقوى على نسخه، فيكون حكم الحديث ناسخًا لحكم الوصية للوارثين من الأقارب. بينما الشافعي والجمهور يرون أن الحديث يخصص هذه الآية ولا ينسخها. والإمام الغزالي يقول في هذا: «وَالتَّخْصِيصُ يُرَادُ بِهِ هُنَا قَصْرَ العَامِّ عَلَى بَعْضِ آحَادِهِ بِالإِرَادَةِ الأُولَى، فَدَليلَ التَّخْصِيصِ لَيْسَ لإِخْرَاجِ مَا دَخَلَ فِي العَامِّ، بَلْ لإِرَادَةِ الخُصُوصِ فِي اللَّفْظِ العَامِّ، وَأَنَّ تَسْمِيَةَ الأَدِلَّةِ فِي هَذِهِ الحَالَةِ مُخَصَّصَةٌ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّجَوُّزِ» (¬1). إن المستقرئ لهذه الخلافات التي لم نتوسع فيها، يتضح له أن هذا خلاف نظري، فالجميع لا يختلف في النتيجة العملية وهو وجوب العمل بحكم الحديث ¬

_ (¬1) " المتسصفى للغزالي ": جـ 1، نقلاً عن " مناهج الاجتهاد في الإسلام " للدكتور محمد سلام مدكور: ص 661.

النبوي: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وقد ورد هذا على عموم الآية الخاصة بوجوب الوصية للأقربين وأخرج منها الورثة، وأما حكم الحديث النبوي وهل هو بطلان الوصية للوارثين كما يرى الإمام مالك أو تحريمها مع عدم بطلانها إلا إن جاوزت الثلث كما يرى غيره، فهذه مسألة أخرى تتعلق بدلالة النصوص. والإمام الشافعي يقطع بثبوت السنة النبوية التي منعت الوصية للورثة بينما نراه يصف هذه السنة الجديدة وصفًا ينفي عنها أنها تنسخ القرآن إذ قال: «أَنَّ السُنَّةََ لاَ نَاسِخَةٌ لِلْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هِي تَبَعٌ لِلْكِتَابِ، بِمِثْلِ مَا نَزَلُ نَصًّا، وَمُفَسِّرَةٌ مَعْنًى مَا أَنْزَلَ اللهِ مِنْهُ جُمَلاً» (*) بينما يقول: إن حديث «خُذُوا عَنِّى» نسخ حكم آية الحبس في البيوت. ومع وصفه السنة بأنها لا ناسخة للقرآن يأخذ بحديث «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» الذي يراه غيره بأنه ناسخ لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ... } [البقرة: 180]. فيقول في " الرسالة " (**): «وَوَجدْنا أهلَ الفُتْيَا، [ومَنْ حَفِظْنَا عَنْهُ] مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِالمَغَازِي، مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ: لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَامَ الفَتْحِ: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ... » (¬1). ويرى غيره أن هذا الحديث نسخ حكم آية الوصية. لهذا روى البيضاوي في " المنهاج " «أَنَّ لِلْشَافِعِيِِّ قولَيْنِ فِي هَذَا يَمْنَعُ نَسْخَ القُرْآنِ بِالسُنَّةِ مُطْلَقًا وَهُوَ رِوايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ الإِمَامِ أَحَمْدَ وَقولُ أَكْثَرِ الظَّاهِرِيَّةِ عَدَا اِبْنِ حَزْمٍ (¬2) وَقَوْلٌ بِجَوَازِ هَذَا النُّسْخِ. فَالخِلاَفُ لَيْسَ فِي الحُكْمِ العَمَلِيِِّ، الوَارِدِ فِي الحَديثِ النُّبَوِيِّ (لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)». ¬

_ (¬1) " الرسالة ": ص 98 وما بعدها، و" الإتقان " للسيوطي: جـ 3 ص 60. (¬2) " الإحكام ": جـ 4 ص 477، و" المحلى ": جـ 1 ص 19، و" الاعتبار " للهمداني: ص 27، 203. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " الرسالة " للإمام الشافعي، شرح وتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر: ص 106، 535 (فقرة 314)، نشر دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. (**) المصدر السابق: فقرة 398، ص 139.

وإنما في وصف هذا الحديث هل هو مخصص لحكم القرآن {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ... } [البقرة: 180]، أم هو ناسخ لهذه الآية؟. فالأحناف ومن معهم يرون أن الحديث ناسخ للآية لأنه دليل منفصل عنها وهو حديث مشهور ومتواتر في المعنى فيقوى على ذلك عندهم وغيرهم يرى أن الحديث مخصص للآية، لأن العام بعد التخصيص لا يبقى محتفظًا بقوته فيقوى خبر الواحد على تخصيصه. والخلاصة أن الفقهاء يختلفون في مسالة نسخ السنة للقرآن فقد قال به ابن حزم لأن السنة وحي من الله، وقد ثبت أن قول الله {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] قد نسخه حديث: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ... ». وآية الوصية للوالدين والأقربين نسخها حديث «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» (¬1). وجمهور الفقهاء يرون أن السنة لا تنسخ القرآن بل تخصص عمومه، وهذا في جوهره خلاف في الاصطلاح فقط لأن الإجماع منعقد على العمل بحديث «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». وحديث جلد الزاني الذي لم يسبق له الزواج ورجمه إن كان محصنًا أي سبق له الزواج، ولا يغير من هذه الحقيقة أن يقال: إن هذه الأحاديث النبوية قد نسخت هذه الآيات القرآنية أو خصصتها، فالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خصه الله ببيان أحكام القرآن الكريم بقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وهذا البيان يكون بإبلاغ القرآن للناس جميعًا، ويكون بتفسير وتقييد ما جاء منها مطلقًا كما هو مفصل بالفصل السابع. ¬

_ (¬1) " الإحكام ": جـ 4 ص 478.

أما حديث: «كَلاَمِي لاَ يَنْسَخُ كَلاَمَ اللَّهِ، وَكَلاَمُ اللَّهِ يَنْسَخُ كَلاَمِي، وَكَلاَمُ اللَّهِ يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضًا» فهو غير صحيح ومنكر (¬1). ومع هذا فإن أكثر الفقهاء يرون أنه من الجرأة أن يقال: إن السنة تنسخ القرآن فقد قيل للإمام أحمد بن حنبل «السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الكِتَابِ» فقال: «لاَ أَجْتَرِئُ [أَنْ أَقُولَ فِيهِ]، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ القُرْآنَ، وَلاَ يَنْسَخُ القُرْآنَ إِلاَّ القُرْآنُ» (¬2). والحقيقة أن الآيات التي قيل أنها منسوخة بالسنة يوجد في القرآن آيات أخرى أجملت نسخها وجاءت السنة وفصلت ذلك، فآية {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] نسختها آيات سورة النور الخاصة بأحكام الزنا ثم جاءت السنة وفصلت ذلك، وآية الوصية نسختها آية المواريث بالنسبة للوارثين كما قال ابن عباس، ثم جاء الحديث وأكد أنه لا وصية لوارث (¬3). ولذها نقل السيوطي أن الإمام الشافعي قال: «حَيْثُ وقعَ نَسْخُ القُرْآنِ بِالسُنَّةِ فَمَعَهَا قُرْآنٌ عَاضِدٌ لَهَا، وَحَيْثُ وقعَ نَسْخُ السُنَّةِ بِالقُرْآنِ فَمَعَهُ سُنَّةٌ عَاضِدَةٌ لَهُ لِيَتَبَيَّنَ تَوَافُقُ القُرْآنِ وَالسُنَّةِ» (¬4). أما نسخ القرآن للقرآن فمنه الثابت وهو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة كما في آيات القتال والزنا والخمر، ومنه ما لا يمكن التسليم به وهو نسخ التلاوة والحكم أو نسخ التلاوة مع بقاء الحكم كما في رواية «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ» والسبب في إنكار هذه الروايات هو أنها أقوال آحاد ونسبتها إلى القرآن لا تكون إلا بطريق التواتر، ومن نسب أحكامها إلى القرآن فيرجع إلى أنه يقول عن السنة إنها حكم القرآن لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ... } [الحشر: 7]. ¬

_ (¬1) و (¬2) " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار " للحازمي الهمداني: ص 59. (¬3) " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير: 1/ 211. (¬4) " فتح الباري ": 15/ 155.

ومما يؤكد أن الصحابة كانوا إذا قالوا أن الحكم قد ورد في القرآن أو في كتاب الله، لا يفرقون بين ما ورد في السنة النبوية لأن كلاهما وحي من الله، ما أورده الشوكاني عن الجماعة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَ [زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا قَالاَ: إِنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ ... فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا [عَلَى] هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، [وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ، وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي] أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، ... وكان مما قاله: «عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ» كما قال: «اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» (¬1) (*). ومن هذا يتبين أن رواية: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ»، ليست من القرآن الكريم حتى لو قال الصحابي أن هذا الحكم كان في القرآن الكريم، ولأن القرآن الكريم حتى لو قال الصحابي أن هذا الحكم كان في القرآن الكريم، ولأن القرآن إنما يثبت بالتواتر ولم يثبت هذا في القرآن الكريم. كما يتبين خطأ من زعم أن القرآن فيه تحريف لأن آية الرجم لم تدون به، أو لأن الصحابة أخذوا بحديث: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وتركوا حكم القرآن في ذلك، وجوهر الخطأ هو أنه لا توجد آية للرجم كما أوضحت، أما تخصيص السنة لعموم بعض آيات القرآن الكريم كحصر الوصية في غير الوارثين وتخصيص القراءة في الصلاة بسورة الفاتحة في كل ركعة، فذلك وغيره ليس تحريفًا للقرآن كما يزعم الجاهلون أو المجادلون بالباطل، وهذا مفصل بالفصل السابع. ¬

_ (¬1) " نيل الأوطار " للإمام محمد بن علي الشوكاني: ج 7 ص 86. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " فتح الباري بشرح صحيح البخاري "، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، (54) كِتَابُ الشُّرُوطِ (9) بَابُ الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ تَحِلُّ فِي الحُدُودِ، حديث رقم 2724، 2725، 5/ 323، طبعة سَنَةَ 1379 هـ، نشر دار المعرفة - بيروت.

53 - الإجماع والنسخ:

53 - الإِجْمَاعُ وَالنَّسْخُ: ليس صحيحًا أن الإجماع ينسخ نصًا في القرآن أو السنة لأن النسخ هو إنشاء أو إلغاء لشرع وهذا لا يكون إلا بوحي من الله أي في عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبهذا لاَ حُجَّةَ للإجماع إلا إذا كان له سند. قال ابن حزم: «النُّسْخُ بِالإِجْمَاعِ المَنْقُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَائِزٌ لأَنْ الإِجْمَاعِ أََصْلُهُ التَّوْقِيفُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا بِنَصِّ قُرْآنٍ أََوْ بُرْهَانٍ قَائِمٍ مِنْ أَيِّ مَجْمُوعَةٍ مِنْهُ أَوْ بِنَصِّ سُنَّةٍ أَوْ بُرْهانٍ قَائِمٍ مِنْهَا كَذَلِكَ أَوْ بِفِعْلٍ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَوْ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ» (¬1). فالإجماع لا ينشىء بذاته حكمًا بل يكشف عن حكم الله ورسوله وبالتالي فالناسخ هو هذا الحكم وليس أقوال الصحابة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. لقد أوجب الله الصلاة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} [البقرة: 43]، وهذا النص القرآني وغيره في أمر الصلاة، لم يبين أوقاتها ولا عددها ولا كيفيتها، فكانت السنة النبوية هي المبينة لهذا إذ قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. فهذا البيان ملزم لكل مسلم سواء ورد لنا عن طريق رواية التواتر أو الآحاد، أو ورد في سنة وصنفت بأنها ناسخة أو مخصصة أو وردت عن طريق إجماع الصحابة. فإجماع الصحابة بعد رواية جماعية عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالتالي يكون ألزم من رواية الآحاد لأنه لا يقل عن الحديث المتواتر. ¬

_ (¬1) " الإحكام في أصول الأحكام ": جـ 4 ص 120.

ولا يراد بالإجماع هنا، ما يوجد في كتب الفقه من القول بالإجماع على أمر من الأمور، بل المراد هو ما قامت الحجة القاطعة على أنه إجماع وبالتالي لا يدخل في ذلك الإجماع السكوتي، ويراد به شيوع رأي مع عدم معرفة ما يخالفه، ولا يدخل في ذلك ما كان محل خلاف على أنه إجماع من عدمه. قال ابن حزم: «الإِجْمَاعُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ المِلَّةِ يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَهُ، إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ بِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ» (¬1). وقد علق ابن تيمية على ذلك بأن كفر من أنكر الإجماع ليس باعتبار أنه أنكر الإجماع بل باعتبار أنه أنكر ما ثبت من الدين بالضرورة. وحجية الإجماع موضع خلاف، ولم يكفروا النَظَّامَ بإنكار حجيته وإنما كفره من كفره لأمور أخرى، وفي موضع الإجماع اليقيني لا بد من وجود كتاب أو سنة متواترة فيكون منكر الحكم الثابت به غير منكر لحجية الإجماع فقط بل للكتاب أو السنة المتواترة أيضًا. وابن حزم في كتابه " الإحكام " يقرر أنه لا يتصور إجماع إلا إذا بني على نص بل توقيف من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إما بكلام منه فيقول ولا بد محفوظ حاضر، وإما فعل منه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فهو منقول أيهما، وأما إقراره إذ علمه فأقره ولم يبتكره فهي أيضًا حال منقول محفوظة (¬2). والفرق بين ابن حزم وبين الأئمة المشهورة مذاهبهم في هذه المسألة هو أن ابن حزم لا يعتد بالإجماع إلا إذا كان إجماعًا على نص من القرآن أو السنة النبوية وهذا ما يسميه الأئمة بالإجماع اليقيني. وابن حزم ينكر الإجماع المستند إلى القياس والأئمة يعتدون به ويسمى عندهم الإجماع الظني، كما أنهم لا يكفرون من لم يحتج بالإجماع المستند إلى أحاديث الآحاد لأنه إجماع ظني عندهم. ¬

_ (¬1) " مراتب الإجماع " لابن حزم: ص 7 وبهامشه " تقديرات الإجماع ". (¬2) " الإحكام في أصول الأحكام ": جـ 4 ص 136.

وأما أن دعوى الإجماع تحتاج إلى دليل قاطع، فمثال ذلك ما ذكره ابن المنذر من الإجماع على أن دية المرأة نصف دية الرجل وقد اشتهر هذا في كتب الفقه وبالبحث تبين أنهم يسندون ذلك إلى صحيفة عمرو بن حزم حيث أن بها هذا الحكم مرفوعًا إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتبين أن هذا الحكم ليس في صلب الحديث النبوي بل ورد في حديث معاذ بن جبل وإسناده غير ثابت (¬4). لهذا لم يثبت أي إجماع إلا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - حيث ثبت إجماعهم في الأحكام الشرعية بالتواتر ولذلك لم يختلف أحد في إجماعهم حتى نفاة الإجماع لا ينازعون في إجماع الصحابة على حكم شرعي لأن إجماع الصحابة له سند، فإجماعهم على ميراث الجدة إلى خبر المغيرة بن شعبة، وإجماعهم على تحريم الجمع بين المحارم استند إلى ما رواه أبو هريرة (¬5) وإجماعهم على تحريم الجدات مع أنهن غير الأمهات هو الاستناد إلى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، لأن المراد تحريم الأصول، وإجماعهم على رأي عمر في عدم تقسيم الأراضي المفتوحة، استند إلى فعل النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عدم تقسيم أرض مكة قد فتحت عنوة على ما هو الأصح، وعدم تقسيم أرض بني قريظة وبني النضير وغيرها من دور العرب (¬6). ¬

_ (¬4) " نيل الأوطار " للشوكاني: جـ 1 ص 225، و" مكانة المرأة " للمؤلف: ص 25. (¬5) " أصول الفقه " للإمام محمد أبو زهرة: ص 165. (¬6) " مناهج الاجتهاد ": ص 233 و 531.

الفصل التاسع: العقل البشري والتحريف العلمي:

الفَصْلُ التَّاسِعُ: العَقْلُ البَشَرِيُّ وَالتَّحْرِيفُ العِلْمِي: - الطعن في البخاري. - وسائل جديدة لهدم السنة. - الطعن في أبي هريرة. - الصحابة والإكثار من السنة. - تحريف النصوص بين المستشرقين وعلماء الشهرة.

54 - العقل البشري والتحريف العلمي:

54 - العَقْلُ البَشَرِيُّ وَالتَّحْرِيفُ العِلْمِيُّ: كان من تأثَّر بعض كُتَّاب المسلمين بآراء المستشرقين أنْ وجدنا انسياقاً وراء مزاعمهم دون بحث أو تدقيق فتأثَّر بهم بعض الكُتَّاب وذلك بالطعن في كتب الصحاح وعلى بعض الصحابة وفي رَدِّ السُنَّة النبوية أو نقدها بالعقل البشري المعاصر وعلى سبيل المثال: الطعن في البخاري: ذكر أحمد أمين أنَّ البخاري تطرَّق إلى بعض أحاديثه الضعف فقال (¬1) في كتابه " ضُحى الإسلام ": «نرى للبخاري نفسه على جليل قدره ودقيق بحثه، يثبت أحاديث دَلَّتْ الحوادث الزمنية والمشاهدة التجريبية على أنها غير صحيحة لاقتصاره على نقد الرجال كحديث " لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ "» وحديث «مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ». وقد زعم الدكتور صُبحي محمصاني (¬2) أنَّ المُجَدِّدِينَ أمثال ابن تيمية ¬

_ (¬1) كتاب " ضُحى الإسلام ": ص 217، 218. (¬2) بحث منشور له في كتاب " الثقافة الإسلامية في الحياة المعاصرة " الذي يحوي ما قُدِّمَ للمؤتمر المنعقد برعاية جامعة بريستون الأمريكية (سَنَةَ 1963 م).

ومحمد عبده طعنوا في صحة هذا الحديث وغيره وفي " البخاري" و " مسلم " لمخالفتهما للعلم والواقع وهذا كذب يتجدَّدُ كما هو مُفَصَّلٌ بالبند 69. ولو أراد أحد الناقدين أن يتحرى عن حقيقة هذين الحديثين لبحث كغيره من العلماء أمثال الدكتور مصطفى السباعي (¬1) الذي أوضح في كتابه " السنة ومكانتها في التشريع " أن الحديث الأول «هو جزء من حديث كامل أخرجه " البخاري " في باب السمر [في الفقه والخير] بعد العشاء من كتاب الصلاة، وهو أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلاَةَ العِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ سَنَةٍ لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ (اليَوْمَ) عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ "» فنص الحديث واضح أن الرسول أخبر صحابته في آخر حياته بل جاء في رواية جابر أن ذلك قبل وفاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشهر، أن من كان منهم على ظهر الأرض حَيًّا حين قال الرسول تلك المقالة، لا يعمر أكثر من مائة سنة ولم يفطن بعض الصحابة إلى قول الرسول ممن هو على ظهرها اليوم، فنبههم عبد الله بن عمر إلى هذا الوارد في لفظ حديث وَبَيَّنَ لهم المراد منه وكذلك فعل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في رواية الطبراني. وقد استقصى العلماء من كان آخر الصحابة موتًا فوجدوه أبا الطفيل عامر بن واثلة وقد مات سنة عشر ومائة (¬2)، فيكون الحديث معجزة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس شاهدًا على عدم صحته كما ظن النقاد الذين جهلوا أصول النقد العلمي للسنة النبوية. ¬

_ (¬1) الفصل السابع: ص 279وما بعدها من كتاب " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ". (¬2) " الإصابة في تمييز الصحابة " لابن حجر: جـ 1 ص 5، و" مقدمة علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 150.

55 - حقيقة النقد العلمي:

لقد قال الحافظ ابن حجر في كتاب " فتح الباري " (¬1): «وَقَدْ بَيَّنَ اِبْن عُمَرَ فِي هَذَا الحَدِيث مُرَاد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وَأَنَّ مُرَادَهُ] أَنَّ عِنْدَ اِنْقِضَاءِ مِائَة سَنَةٍ مِنْ [مَقَالَتهِ تِلْكَ يَنْخَرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنُ] فَلاَ يَبْقَى أَحَدٌ» منهم على ظهر الأرض. كما ذكر الإمام مسلم هذا الحديث في رواية عن جابر بلفظ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ اليَوْمَ، تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ، وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ». وقال الإمام النووي: «هَذِهِ الأَحَادِيثُ قَدْ فَسَّرَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَفِيهَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلاَمِ النُّبُوَّةِ وَالمُرَادُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى الأَرْضِ لاَ تَعِيشُ بَعْدَهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، [سَوَاءٌ قَلَّ أَمْرُهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَمْ لاَ] وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ عَيْشِ أَحَدٍ يُوجَدُ بَعْدَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ» (¬2). 55 - حَقِيقَةُ النَّقْدِ العِلْمِيِّ: فهل من الإسلام وشمسه وضحاه أن يغفل الناقد المسلم عن هذا وينسى هذه الحقائق ثم يظهر أقوال المستشرقين التي تزعم أن البخاري على دقة بحثه قد تطرق إلى بعض أحاديثه الضعف وعدم الصحة؟. لا شك أن الكاتب والمؤلف الناقد لم يطلع على هذه المراجع واكتفى بأقوال المستشرقين وصدقهم فالتمس بذلك سبيلاً سهلاً ليكون ناقدًا لعلوم الحديث ورجاله وليكون مؤلفًا وكاتبًا في هذه المادة دون أقل تحقيق أو بحث علمي. أما الحديث الثاني المتضمن وقاية العجوة للسم والسحر فقد جاء في رواية الإمام مسلم أن هذا خاص بتمر المدينة، ففي الرواية: «مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمَّا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا» وفي رواية: «إِنَّ فِي عَجْوَةِ العَالِيَةِ شِفَاءً» (¬3) ¬

_ (¬1) " فتح الباري ": جـ 2 ص 32. (¬2) " المنهاج شرح صحيح مسلم " للنووي: جـ 9 ص 526. (¬3) " مختصر صحيح مسلم " للمنذري: جـ 2 ص 47 الحديث 1475.

والحديث عن عجوة المدينة وتمرها. كما أنه لم يثبت أن هذا التمر قد تناوله شخص أو أكثر بهذه الكمية وواظب عليه ثم أضره السحر أو السم الذي كان معروفًا في عصر النبوة، فضلاً عن أن السحر مرض نفيسي يزول بهذا الفعل مع الاعتقاد، كما أن السم الذي كان شائعًا في هذا العصر لا يمكن أن يضر الشخص الذي تناول يوميًا هذا العدد من التمرات لأن العجوة مليئة وطاردة للديدان فكانت تمنع ضرر مثل هذه السموم في هذا الوقت. لم يظهر في عصرنا بحث طبي يثبت أن العجوة ليس لها الخاصية بالنسبة لهذه السموم فكيف يحكم هذا الناقد المسلم بعدم صحة حديث النبي وقد قال الله عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم، الآيتان: 3 - 4]. لقد أكد الدكتور مصطفى السباعي ذلك وقال أنه جرب تمر المدينة مدة خمسة أشهر كاملة خلال عام فكان يتصبح بسبع تمرات رغم أنه مصاب بمرض السكر، ثم أجرى تحليلاً للدم والبول، فلم يجد أي أثر للسكر في البول ولم تزد نسبة السكر في الدم عما كانت عليه قبل هذه التجربة (¬1). فهل يقتنع بذلك المستشرقون ومن نقل عنهم؟ إن الله العليم بخلقه رَدَّ دعوى الإيمان التي أظهرها المنافقون فقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. نرجو أن يدرك ذلك من يريدون الكتابة والنقد العلمي. ¬

_ (¬1) " السنة ومكانتها في التشريع ": ص 283.

55 - وسائل جديدة لهدم السنة:

55 - وَسَائِلٌ جَدِيدَةٌ لِهَدْمِ السُنَّةِ: لقد ظهر بمصر حديثًا (¬1) كتاب باسم " الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها " وهو كتاب فاخر الطباعة ويباع بسعر رمزي، وينسب إلى من يدعى (السيد صالح أبو بكر). يزعم واضع الكتاب أن عمدة المراجع للأحاديث النبوية هو " صحيح البخاري "، وقد اشتمل على مائة حديث مكذوب دسها اليهود على النبي، ثم جاء البخاري وحكم بصحتها ونسبها إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمؤلف يدعي أنه قد اكتشف هذه الإسرائيليات في " صحيح البخاري " من خلال المراجع العلمية التي أوردها في الجزء الأول من كتابه وهي: أولاً - كتاب " أضواء على السنة المحمدية " للمدعو محمود أبو رية الذي قال ص 52: «إن قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] معناه: أن القرآن هو البداية وهو النهاية ولا شيء سواه وإنما جاءت البلوى من التقول على النبي ونسبة الأحاديث إليه وهو لم يقلها بدليل أنه لم يدونها كما دَوَّنَ القرآن». وهذا المرجع يزعم أن الأحاديث النبوية كلها مختلفة استنادًا إلى هذه الآية التي أراد أن يهدم بها السنة النبوية. ولقد اختلق محمود أبو رية أقوالاً كثيرة في كتابه هذا ونسبها إلى " البخاري " وزعم أنها في " فتح الباري ". ¬

_ (¬1) الطبعة الجديدة منه أحالها الأستاذ أسعد السيد صاحب مكتبة الأنصار بالقاهرة، وكان الكتاب في المراجعة بعد الطبع التي تولاها مشكورًا الأستاذ محمد الشامي، فرأى المؤلف إضافة هذا البند.

ومن هذه الروايات أن «عبد الله بن عمرو أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، وكان يرويها للناس " عن النبي "». وكتاب " فتح الباري " ليس فيه عبارة «عَنْ النَّبِيِّ» بل فيه «وَكَانَ يَرْوِيهَا لِلْنَّاسِ». بهذا يريد أبو رية أن يوهم القارئ أن الأحاديث النبوية أكثرها إسرائيليات من كتب اليهود والنصاري وحيث كانت تروى عن النبي بينما المتقول إن عبد الله بن عمرو كان يروي ما عثر عليه من صحف أهل الكتاب على أساس أنها أقوالهم وليست أقوال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولقد جاء السيد أبو بكر: ص 58 وكرر نقل هذه الرواية المحرفة مؤكدًا أنها هي الحقيقة التاريخية التي تثبت أن عبد الله بن عمرو نقل الأحاديث عن أهل الكتاب كما اختلق أبو رية ونسبها إلى كتاب " البداية والنهاية " لابن كثير ونصها: قال عمر لكعب الأحبار: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ (عَنْ رَسُولِ اللهِ) أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ». وكتاب " البداية والنهاية " فيه: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ (عَنْ الأُوَلِ) ... » أي عن اليهود والنصارى وليس عن رسول الله، وهذه الأكاذيب سبق أن فصلناها في البند 59. هذا هو المرجع العلمي الذي يستند إليه من ينسب الإسرائيليات إلى " البخاري "، وهو مرجع كثر فيه الكذب والتحريف حتى وضع الشيخ عبد الرزاق حمزة كتابًا سماه " ظلمات أبي رية " كما وصفه الشيخ عبد الحليم محمود بأنه «كَذَّابٌ وَمُحَرِّفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ».

ولو اتبعنا أبا رية فيما زعمه من أنه لا يوجد إلا القرآن لأن السنة غير صحيحة لكانت الصلوات الخمس وأعمال الحج ونصاب الزكاة وشروطها من الإسرئيليات المكذوبة على الإسلام، لأنها لم ترد في القرآن الكريم، أي أن المرجع العلمي يريد هدم الإسلام عن طريق هدم السُنَّةِ وهو ما يسعى إليه المبشرون والمستشرقون. وأبو رية وكذا المتهم الجديد المدعو السيد [صالح] أبو بكر لا يجهلان أن القرآن الكريم قد أمرنا باتباع سُنَّةَ النبي، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ولا يجهلان أن إجماع الصحابة والأمة قد انعقد على أن من رد الأحاديث النبوية كان كافرًا. ثانيًا - المصدر العلمي الثاني: روايات محرفة: والنوع الثاني من المراجع العلمية التي يستند إليها المؤلف في دعواه وجود روايات إسرائيلية في أحاديث " البخاري ". هذا النوع هو روايات محرفة يستند إليها للوصل إلى النتيجة التي سطرها في الجزء الأول من كتابه وهي رد السنة النبوية إذ رغم أن: «ما يروى عن النبي وليس له سند في القرآن إنما هو من وحي الخيال الخرافي والكيد الإسرائيلي اللعين»: ص 5.

ومن الأمثلة على الروايات المحرفة: 1 - أورد في الجزء الأول من كتابه: ص 23 ما نصه: «روت عائشة حديث رؤية النبي لربه ليلة الإسراء الذي رواه الشيخان عن عامر بن مسروق»، ليثبت أن البخاري قد وردت به إسرائيليات ردها الصحابة. والتحريف يكمن في أنه لا يوجد عند الشيخين (البخاري ومسلم) حديث رؤية النبي لربه، فهذا اختلاق من المؤلف، فالذي رواه الشيخان هو (حديث عائشة عن مسروق) ونصه: عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّتَاهْ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلاَثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرأَتْ {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]؛ وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]؛ وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الآية؛ وَلكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي [صُورَتِهِ] مَرَّتَيْنِ. (المرجع: " اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ": الحديث 111 ص 41). من هنا يتضح أن عائشة لَمْ تُكَذِّبْ رواية " البخاري " و" مسلم " كما زعم المؤلف بل لقد نقلا عنها الرواية سالفة الذكر، ثم كيف تكذبهما ولم يكونا في عصرها؟ ولكن المؤلف يريد أن يختلق وجود تناقض في روايات " البخاري " ليتوصل لهدم السنة النبوية بزعمه أن " البخاري " روى حديث رؤية النبي لله. 2 - وزعم المؤلف أن عائشة ردت حديث عبد الله بن عمر في " الصحيحين ": «إِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ». وردت حديثًا في " البخاري " و" مسلم

وغيرهما عن قتلى المشركين في بدر. وانتهى من هذا إلى أن أصحاب النبي يُكَذِّبُونَ بعضهم بعضًا في الأحاديث النبوية كما جاء في تحقيق أبي رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية " وهو كتاب قد حَرَّفَ الروايات والأحاديث. ورواية " البخاري " و" مسلم " وسائر كتب السنة ليست فيها الرواية سالفة الذكر، وأم المؤمنين عائشة لَمْ تُكَذِّبْ " البخاري " و" مسلم " كما يحلو للمؤلف أن يوهم القارئ بذلك. بل كتب الحديث فيها أن عائشة استدركت على بعض الصحابة عند روايتهم هذين الحديثين أي قبل أن توجد كُتُب السنة، وبالتالي دَوَّنَ البخاري ومسلم هذا وهو الحديث رقم 536 كما جاء في كتاب " اللؤلؤ والمرجان ": «عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: تُوُفِّيتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِمكَّةَ، وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا ... فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَلاَ تَنْهَى عَنِ البُكَاءِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " قَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ بَعْضَ ذلِك». ثم ختم الرواية بقول ابن عباس: «فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ذَكَرْتُ ذلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: رَحِمَ اللهُ عُمَرَ، وَاللهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ لَيُعَذِّبُ المُؤمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)؛ وَلكِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللهَ لَيَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ القُرْآنُ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1) [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عِنْدَ ذلِكَ: " وَاللهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى "]، قَالَ ابْنُ أُبِي مُلَيْكَةَ: " وَاللهِ مَا قَالَ ابنُ عُمَرَ شَيْئًا "». فالبخاري ومسلم بهذا رويا أن ابن عمر كان يحدث عن النبي قوله: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ورويا استدراك عائشة وتوضيحها لنص الحديث وهو: «إِنَّ اللهَ لَيَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ». كل ذلك كان في حياة الصحابة وفي فترة جمع الحديث النبوي وتمحيص ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (¬1) [سورة الأنعام، الآية: 164]، [سورة الإسراء، الآية: 15]، [سورة فاطر، الآية: 18]، [سورة الزمر، الآية: 7].

الرواية وتحقيقها، تلك الفترة التي بدأت في عصر الصحابة مرورًا بعصر البخاري المُتَوَفَّى سَنَةَ 256 هـ، وكان دوره السادس عشر في سلسلة من تخصصوا في جمع السنة وتمحيصها، وقد بلغوا الثلاثين أو يزيد (¬1). أما ما زعمه المؤلف من أن عائشة قد رَدَّتْ حديثًا في البخاري عن سماع قتلى بدر لخطاب النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا تحريف آخر فيه لأن عائشة لم تعاصر البخاري حتى ترد حديثًا له، وإنما قد روى بسنده عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ) فَقَالَتْ: [وَهَلَ] ابْنُ عُمَرَ رَحِمَهُ اللهُ. إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ) قَالَتْ: [وَذَاكَ] مِثْلُ قَوْلِهِ (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى القَلِيبِ وَفيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ المُشْرِكينَ، فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ: إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ) إِنَّمَا قَالَ: (إِنَّهُمُ الآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌ) ثُمَّ قَرَأَتْ {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] وَ {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} [فاطر: 22]. (" اللؤلؤ والمرجان "، الحديث 537). فهذا ما سمعته عائشة من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا ما استدركت على ابن عمر حسبما روى " البخاي "، وهذا لا ينفي أن يسمع غيرها من النبي ما يؤكد سماع قتلى بدر خطاب النبي فقد روى مسلم في " صحيحه " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: [يَا رَسُولَ اللهِ] كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، ¬

_ (¬1) هذا مفصل في البند 14.

وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا» ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا فِي [قَلِيبِ بَدْرٍ]». وقد أجاب الشيخ الألباني أن (قول النبي): «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»: «لا يفيد بأن الموتى يسمعون، إذ جاء في " صحيح البخاري " عن قتادة: أن الله أحياهم للنبي ليسمعوا ذلك» (" مختصر صحيح مسلم " للمنذري، تحقيق الألباني: جـ 2 ص 72، الحديث 1159، طبعة وزارة الأوقاف بدولة الكويت). ثالثًا - المصدر العلمي الثالث: أحاديث مختلفة: أما المصدر العلمي الثالث الذي استند إليه المؤلف لإثبات وجود إسرائيليات في " البخاري " وبالتالي إضعاف الثقة فيه وفي كتب السنة ليصل إلى النتيجة التي رسمها له أسياده وهي هدم السنة النبوية، هذا المصدر هو أحاديث نبوية محرفة مثل: 1 - الحديث رقم 1 في الجزء الثاني من كتابه: ص 124: حيث قال: «ذروة الكذب في حديث يقول إن النبي الذي عصمه الله حاول الانتحار عندما تأخر عنه الوحي. " البخاري ": ص 38 مجلدة كتاب الشعب» وبالرجوع إلى المجلد الخامس سالف الذكر تبين أن هذه الصفحات في باب مناقب الأنصار وبالبحث تبين أن رواية نزول الوحي على النبي هي الحديث الثالث في " صحيح البخاري " أي بالجزء الأول وليس في هذه الرواية بطبعة الشعب ولا بطبعة الحلبي ولا في طبعة دار الإرشاد من بيروت الإضافة التي وضعها هذا المؤلف والمتضمنة (أن النبي حاول الانتحار عندما تأخر عنه الوحي). و" صحيح مسلم " أورد نفس الحديث، وهو حديث عروة عن عائشة بشأن بدء الوحي في غار حراء حيث جاء الملك وقال للنبي: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» ... وليس فيه الزيادة التي نسبها المؤلف إلى " البخاري " ليصفه بأنه ذروة الكذب، بل إن كتاب " التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول " (*) والذي يحوي ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " للشيخ منصور علي ناصف: الطبعة الثالثة: 1381 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان (5 مجلدات)، [انظر: " دليل مؤلفات الحديث الشريف المطبوعة، القديمة والحديثة "، تأليف محيي الدين عطية، صلاح الدين حفني ومحمد خير رمضان يوسف، 1/ 323 رقم 1446، الطبعة الأولى: 1416 - 1995 م، نشر دار ابن حزم. بيروت - لبنان. وكتاب " التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " كتاب جامع، مختصر ومفيد.

" الكتب الستة " أورد في الجزء الثالث فيه: (أول نزول الوحي) ص 252 طبعة دار الفكر ببيروت، وليس في حديث عائشة سالف الذكر الزيادة المشار إليها. ولكن أحد كتب السيرة غير المحققة ورد به أنه بعد نزول جبريل المرة الأولى وقال للنبي: «اقْرَأْ»، انقطع عنه مدة أرجح الأقوال فيها أربعون يومًا، فكان خلالها ياتي ذروة الجبل فيبدي له أن يرمي نفسه حذرًا من قطيعة الله له، فنطق له الملك قائلاً: «أنت رسول الله حَقًّا، فيطمئن خاطره» (" [نور] اليقين في سيرة سيد المرسلين " للشيخ محمد الخضري: ص 32. وهذا ليس من قبيل الانتحار، وذلك على الرغم من أن رواية الخضري هذه لم ينسبها إلى أي مصدر من كتب السنة أو كتب السيرة، ولكن أشهر وألو كتب السيرة وهو " سيرة ابن إسحاق " التي رواها ابن هشام قد خلت من هذه الرواية مما يدل على أنها من الإسرائيليات، فالوارد عند ابن هشام تحت عنوان (فترة الوحي) «أن الوحي قد فتر حتى شق ذلك على النبي فأحزنه فجاء جبريل بسورة الضحى حيث يقسم الله فيها أنه ما ودعه وما كرهه {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1 - 3]». 2 - الحديث رقم 52 من الجزء الثاني من الكتاب المذكور: ص 241: قال المؤلف: «الحديث رقم 52 فيه افتراء على القرآن لأنه ذكر المرأة تحت اسم النعجة» " البخاري ": مجلد 2 كتاب 3 وذلك بتفسير قول الله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [سورة ص، الآية: 23]، ثم ذكر المؤلف أسبابًا عقلية تنفي صحة إطلاق اسم النعجة على المرأة وقال: «ومن هذه الأسباب نجرم بعدم صواب ذلك ونبرئ البخاري ورسول الله منه»: ص 242. وهذا يفيد أن إطلاق كلمة امرأة على اسم النعجة من قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن بالرجوع إلى المصدر الذي نقل عنه المؤلف وهو

" صحيح البخاري " تبين أن الكلام منسوب إلى البخاري وليس للنبي أو أحد من الصحابة، والنص هو: «يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ نَعْجَةٌ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا شَاةٌ»: جـ 4 ص 196. أي عند العرب، والبخاري إنما ينقل المعنى الذي اتصل بعلمه وعلم غيره ولم ينسب ذلك إلى النبي أو إلى القرآن حتى يقول المؤلف إن هذا افتراء ثم يبرأ القرآن والنبي منه. رابعًا - المصدر العلمي الرابع: العقل البشري: لقد زعم المؤلف أنه اكتشف الإسرائيليات في " صحيح البخاري " من خلال المراجع العملية وقد ذكرنا أمثلة منها، وهي كلها تحريف للكلم عن مواضعه. ولا يبقى من المراجع العملية التي استند إليها المذكور في رده " صحيح البخاري " وباقي كتب السنة إلا منطقه وعقله البشري الذي احتكم إليه وزعم أنه يحتكم إلى القرآن فما كان به من أشياء توافق الحديث النبوي أخذنا بالحديث وإلا كان مكذوبًا، وبهذه المقدمة العقلية يريد أن يقنع المسلمين بترك السنة كلها لأنها ما جاءت إلا لتفصيل ما سكت عنه القرآن أو جاء به مجملاً غير مفصل مثل الصلوات الخمس ومناسك الحج والحلال والحرام وسائر المعاملات. وأيضًا يريد المؤلف أن ينسب الجهل إلى صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعصور التالية لهم إلى يومنا لأنهم لم يدركوا ما توصل إليه. وفيما يلي أمثلة لهذه الأوهام العقلية التي ذكرها في كتابه: 1 - الحديث رقم 8 في كتابه: ص 147 والخاص بالتوسل بالعباس: يقول المؤلف: «الحديث فيه دعوى جواز التوسل إلى الله بالصالحين مع أن ذلك شرك صريح».

والوارد في " البخاري " ليس حديثًا نبويًا بل رواية من البخاري بسنده الصحيح عن عمر بن الخطاب: أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا» قَالَ: فَيُسْقَوْنَ. ولكن المؤلف يضع بعقله قاعدة ليكذب البخاري والصحابة فيقول: «إن الصحابة لم يتوسلوا بالنبي في دعاء أو رجاء لأن الشرك الذي نص عليه القرآن وحرمه على المسلمين، لم يكن إلا توسل الناس بالصالحين». ثم يقول: «من باطن التوحيد وظاهره يصدر اعتقادنا ببطلان هذا الحديث وبطلان نسبته إلى أصحاب النبي»: ص 149. وقد حرف الكلم عن مواضعه عندما قال: «إن الشرك هو التوسل بالصالحين»، فالشرك في القرآن عبادة الناس استقلالاً أو زلفى إلى الله حيث وصف ذلك بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. أما التوسل بالصالحين في رجاء أو دعاء فليس شركًا، بل قد أخرج الترمذي والنسائي والطبراني عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ رَجُلاً ضَرِيرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي قَالَ: «إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قَالَ: فَادْعُهْ، قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ»، قَالَ عُثْمَانُ: «فَوَاللهِ مَا تَفَرَّقْنَا [وَطَالَ بِنَا الْحَدِيثُ] حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ [قَطُّ]». فالتوسل الممنوع هو التوسل بالأموات من غير الأنبياء ومخالفته ليست كفرًا أو شركًا (¬1) بل من المعاصي طبقًا للضوابط الشرعية. ¬

_ (¬1) هذا الموضوع فصله المؤلف في كتابه " الحكم وقضية تكفير المسلم ": ص 168 - 184.

2 - الحديث رقم 9 في فضل عائشة على نساء بني آدم: يقول المؤلف: «روى البخاري أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلاَّ [آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ]، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَ [إِنَّ] فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ "». ثم يرد الحديث لأنه يفضل عائشة على مريم وامرأة فرعون وهي لم تذكر في القرآن مثلهما مما يجعل المغرضين يعللون ذلك بتعصب النبي لزوجته. وهذا منطق الجهلاء الذين لا يؤمنون بالسنة النبوية ولا يسلمون أنها وحي من الله ولكن التبليغ بألفاظ النبي حتى لا تختلط بالقرآن كما يجهلون أن الحديث لم يحصر الكمال في مريم وامرأة فرعون استنتاجًا بل بتوقيف من الله تعالى. وأما قول النبي: «وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ». فهذا ليس عطفًا على الكمال بل استئناف لكلام جديد والواو هنا ليست للعطف بل للمغايرة واستئناف حكم جديد، وتشبيه عائشة بالثريد لا يفيد كمالها على نساء العالمين كما زعم المؤلف، فالثريد غير كامل حتى يكون التشبيه للكمال. 3 - الحديث رقم 15 بكتابه ص 158: يذكر المؤلف أن البخاري روى عن أبي هريرة، قال: «وَإِنَّ [إِخْوَتِي] مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ [إِخْوَتِي] مِنَ الأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ، أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ».

ويرد المؤلف الرواية لأنها في نظر أسياده تخريف لا يليق بالنبي وصاحبه ودس رخيص من أعداء الإسلام. ومن الأسباب العقلية الأخرى: أ - إنه قد جاء في كتاب " [أضواء] على السنة المحمدية ": «أن أبا هريرة أسلم وسنه سبع سنوات وعندما توفي النبي كان سن أبي هريرة عشر سنين، أي أنه لم يعاصر النبي إلا وهو طفل بين السابعة والعاشرة». وسبق أن أوضحنا أن محمود أبو رية كذاب ومحرف للكلم عن مواضعه وكتبه ليست مصدرًا علميًا، وليس أدل على ذلك من أن أكبر خصوم الإمام أبي هريرة وهو الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي الذي تضمن كتابه " أبو هريرة " وصفًا له من محمد سعيد العريان بأنه أمي مفرط مكثار كذاب، مغلول، مهول، متزلف، سخيف، سقيم العقل، صنيعة بني أمية: ص 3. هذا الذي نقل ذلك عن أبي هريرة يقول عن نشأته (ص 20): «نشأ في اليمن وشب حتى أناف على الثلاثين ... وهاجر إلى المدينة بعد فتح خيبر وأسلم ... وأما صحبته فقد صرح في حديث أخرجه " البخاري " بأنها كانت ثلاث سنين». ب - أنه ليس معقولاً أن يحفظ أبو هريرة وينسى أبو بكر وعمر وأعلام الصحابة. ولقد أوضح ذلك البخاري في " التاريخ " فروى عن الصحابي طَلْحَةَ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ - قَوْلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «[وَاللَّهِ] مَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لَمْ نَسْمَعْ وَعَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، إِنَّا كُنَّا قَوْمًا أَغْنِيَاءَ وَلَنَا بُيُوتَاتٌ وَأَهْلُونَ، وَكُنَّا نَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ] ثُمَّ نَرْجِعُ، وَكَانَ هُوَ مِسْكِينًا لاَ مَالَ لَهُ وَلاَ أَهْلَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ يَدُهُ مَعَ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، فَمَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ وَسَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ». 4 - الحديث رقم 24 بشأن عقوبة الزنا: ينقل المؤلف عن " البخاري " أن أعرابيًا جاء إلى النبي وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، [اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ]، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا [لِي]: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا»، فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا. وَأُنَيْسٌ شخص ثالث كلفة النبي بإقامة هذا الحد. والمؤلف لا يعجبه ذلك فيرد الحديث النبوي لأنه أورد أمرين لا أصل لهما في القرآن الكريم، الأول تغريب عام والثاني الرجم (ص 180) والجدير بالذكر أن قضاء النبي بكتاب الله ليس معناه أن هذا القضاء في القرآن، فكتاب الله هنا يعني حكم الله لقول الله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، وقد أقسم النبي أن يحكم بينهما بكتاب الله وهو يعلم أن حكم الرجم ليس في القرآن، ولكن يبين أنه مخول بتفسير مجمل القرآن في قوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬1). والمؤلف يردد أقوال المنافقين والزنادقة من أنه لا التزام إلا بما في القرآن ¬

_ (¬1) [سورة الحشر، الآية: 7]، وقد فصل هذا المعنى الإمام الزركشي في كتابه " البرهان في علوم القرآن ": ج 2 ص 149.

فقط وقد نقل في ذلك عن أبي رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية " أن النبي حذر من الأخذ بشيء لم يرد في القرآن فقال: «إن الأحاديث ستكثر بعدي كما كثرت عن الأنبياء قبلي فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو عني قلته أو لم أقله» وهذا الحديث من وضع الزنادقة كما قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما من رجال الحديث، والثابت أن النبي قال: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»، وهؤلاء لا يجهلون أن السنة وحي من الله وهي البيان التفصيلي للقرآن الكريم للقرآن الكريم ولهذا فصلت أحكام الصلاة والصوم والزكاة والحج والحدود والعقوبات والمعاملات، وفي خصوص جريمة الزنا روى مسلم في " صحيحه " عن عبادة بن الصامت قال: «خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، وَالْبِكْرُ بِالبِكْرِ، الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ، ثُمَّ رَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ، ثُمَّ نَفْيُ سَنَةٍ». كتاب الحدود. خامسًا - جدول المراجع العلمية المحرفة: والمؤلف في سبيل إعطاء الشرعية لبدعته التي زعم فيها أن " البخاري " به إسرائيليات مدسوسة على النبي تبلغ مائة وعشرين حديثًا وهي الأحاديث التي لم يقبلها عقل المؤلف السقيم وقد أوردنا أمثله منها. نراه يصل إلى نتيجة وهي رد السُنَّةِ كلها «ومن تبرئة النبي منها وذلك عملاً على تطهير ديننا من شوائب الدس الإسرائيلي»: ص 3 من المقدمة. وليصل إلى هذه الشرعية وضع جدولاً ص 107 به مقتطفات من مراجع علمية اقتصر فيها على شطر الكلام يؤيد بدعته كالذي يقتصر على قول الله {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ} [النساء: 43]، ولا يذكر باقي قوله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].

أ - فمثلاً ينقل عن الدهلوي في كتابه " الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف " أن السنة هي العملية المتواترة التي رآها الناس والنبي يفعلها (بينما هذه الرسالة تضمنت باقي أنواع السنة القولية والتقريرية وهذا ما أغفله المؤلف). ب - وينقل عن الشيخ محمد عبده أنه قال: «يجب اعتبار القرآن هو السند [الوحيد] لقبول الحديث» بينما الشيخ محمد عبده في " تفسير المنار ": ص 103 يقول: «لا بد من الرجوع بالأحاديث والمذاهب إلى القرآن» ولا يعني بذلك الاستغناء عن السنة. ج - وينقل عن " الرسالة " للإمام الشافعي: «جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ». والشافعي يعني بذلك اجتهاد الرسول فيما لم ينزل فيه وحي بالسنة النبوية بدليل أنه في ذات " الرسالة " يقول: «وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ مَا لَيْسَ فِيهِ بِعَيْنِهِ نَصَّ كِتَابٍ، وَكُلَّ مَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ فَقَدْ أَلْزَمَنَا اللهُ اِتِّبَاعَهُ». د - وينقل المؤلف عن الشيخ مصطفى عبد الرازق أن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حبس أصحاب رسول الله المعاصرين له بالمدينة عن الانتشار في الأرض حتى لاَ [يُحَدِّثُوا] عن رسول الله فيزيد الناس عنهم أو ينقصون حتى أطلقهم عثمان: ص 108. (*). الثورة الاجتماعية والمحرفون الجدد: وفي الوقت نفسه ينقل مجتهد آخر هو الدكتور محمد عمارة في كتابه " عمر بن عبد العزيز " الصادر عن دار الهلال في شوال 1398 هـ / سبتمبر 1978 م تحريفًا آخر عن سبب انتشار الصحابة فيزعم أن «هذا الذي استقر عليه الإسلام والمسلمون حتى عهد عمر قد بدأ يتغير منذ خلافة عثمان بن عفان، فأشراف قريش الذين حجزهم عمر بالمدينة ومنعهم من السعي لحيازة الثروات وامتلاك الأرض في البلاد الغنية المفتوحة، قد انطلقوا وحققوا مطامحهم ومطامعهم على عهد عثمان، وكما يقول الطبري: فإن "عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ حَجَرَ عَلَى أَعْلامِ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قد رد على هذا الافتراء الكاذب كل من: - الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه " الرد على من ينكر حجية السنة ": ص 408، طبع في جمادى 1409 هـ - 1989 م، نشر مكتبة السنة - مصر. - الشيخ محمد محمد أبو شهبة في كتابه " دفاع عن السنة ": ص 37، 49، 53، 278، 280، طبع في جمادى 1409 هـ - 1989 م، طبعة مكتبة السنة - مصر. - الدكتور مصطفى السباعي في كتابه " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي "، الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م، المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان: ص 64، 65، وطبعة دار الوراق: الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م: ص 82، 83. - والدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه " السنة قبل التدوين "، الطبعة الثانية: رمضان 1408 - أبريل 1988 م: ص 106، 109، 110، نشر مكتبة وهبة - مصر.

قُرَيْشٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ الْخُرُوجَ فِي الْبِلْدَانِ إِلا بِإِذْنٍ وَأَجَلٍ ... فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِالَذِي كَانَ يَأْخُذُهُمْ بِهِ عُمَرُ "»: ص 44. ووجه التحريف في الروايتين هو: أ - أن منع الصحابة (لا المهاجرين فقط) من مغادرة المدينة كان قرارًا نافذًا خلال خلافة أبي بكر وعمر وسنتين من خلافة عثمان لسبب ليس ما زعمه الكاتب الأول أو الثاني، بل هو رجوع الخليفة إليهم لأن أحكام السنة النبوية لم تكن قد جمعت كلها وهم يحفظون على تفاوت بينهم. ولكن لما كثرت الفتوحات الإسلامية في خلال خلافة عثمان اضطر للسماح لهم بالهجرة إلى هذه البلاد ليعلموا أهلها أحكام الإسلام وليس للسلب والنهب والمطامع كما يزعم الشيخ عمارة الذي يتجاهل ويذكر هنا اسم الطبري في واقعة منع الصحابة من الهجرة ليوحي للقراء أن السبب الذي اخترعه من أقوال الطبري، فالمنع من الهجرة لم يكن بسبب الخوف من الزيادة أو النقصان على رسول الله كما زعم الدجال الأول وليس للحيلولة دون السلب وامتلاك الأراضي، كما زعم الكاتب الآخر الذي امتد فكره إلى القرطبي فنسب إليه أنه بالجزء الثالث من كتابه " الجامع لأحكام القرآن ": ص 62 قد قطع أن جمهور المفسرين يرون أن معنى قول الله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، هو أن الواجب إنفاقه، هو ما فضل عن العيال أي عن الحوئج: (ص 43 من كتابه). بينما القرطبي ينقل عن قيس بن سعد أن (العفو) هو الزكاة المفروضة ويغفل قوله عن جمهور العلماء إنها نفقة التطوع كما ينقل القرطبي عن غيرهم أن آية الزكاة قد نسخت هذه الآية، ثم يقول: والظاهر يدل على الأول أي أن

الزيادة المطلوب إخراجها كما قال الجمهور هي نفقه التطوع، وكل ذلك حَرَّفَهُ الشيخ عمارة وكذب على القرطبي. وهذه الزيادة كما قال الشهيد سيد قطب في " الظلال ": «حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله - وهذا هو الأكمل والأجمل - فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة»: ص 336 جـ 1. مَوْقِفُ القُرْآنِ مِنَ السُنَّةِ وَصِبْيَانِ العُلَمَاءِ: إن صبيان العلماء الذين يستغلون لرد الحديث النبوي، قد يموهون على العوام فيستدلون بما جاء في أمهات المراجع الإسلامية عن ارتباط السنة بالقرآن وتفصيلها له، غير أن هذه الأقوال لم تأت لرد السنة النبوية وقد فصلنا ذلك في البند 61 من هذا الكتاب وفصلنا سائر المراجع ومنها كتاب " مقدمة في تفسير الرسول للقرآن " للأستاذ محمد العفيفي. إن ما ورد في أمهات الكتب وصرح أصحابه أن المراد به أن السنة تفصل أحكام القرآن ولا تهدمه أو تعارضه ولهذا يردون أحكام السنة إلى أصل عام في القرآن وفي هذا قال الإمام الزركشي: «اعْلَمْ أَنَّ القُرْآنَ وَالحَدِيثَ أَبَدًا مُتَعَاضِدَانِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الحَقِّ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ مَدَارِجِ الحِكْمَةِ حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الآخَرِ وَيُبَيِّنُ إِجْمَالَهُ ثُمَّ مِنْهُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ وَمَعَهُ مَا يَغْمُضُ وَقَدِ اعْتَنَى بِإِفْرَادِ ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ الإِمَامُ أَبُو الحَكَمُ ابْنُ بَرَّجَانَ فِي كِتَابِهِ المُسَمَّى بـ " الإِرْشَادِ " (¬1) وَقَالَ: مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

_ (¬1) هو الإمام عبد السلام بن عبد الرحمن الإشبيلي المشهور بابن برجان وهو أحد علماء اللغة والنحو، مات سنة 627 هـ كما ذكر السيوطي في " بغية الوعاة ": ص 306، وكتابه هو " الإرشاد في تفسير القرآن "، نسخته بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية ونسخة بالمكتبة التيمورية.

مِنْ شِيْءٍ فَهُوَ فِي القُرْآنِ وَفِيهِ أَصْلُهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ وَعَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] أَلاَ تَسْمَعُ [إِلَى] قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ: "لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ الله" وَلَيْسَ فِي نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ الرَّجْمُ وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَكِنَّ الرَّجْمَ فِيهِ تَعْرِيضٌ مُجْمَلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]، وَأَمَّا تَعْيِينُ الرَّجْمِ مِنْ عُمُومِ ذِكْرِ العَذَابِ وَتَفْسِيرِ هَذَا المُجْمَلِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ بِحُكْمِ الرَّسُولِ وبأمره بِهِ، وَمَوْجُودٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر: 7]، وَقَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]». ثم قال: «وَهَذَا البَيَانُ مِنَ العِلْمِ جَلِيلٌ وَحَظُّهُ مِنَ اليَقِينِ جَزِيلٌ، وَقَدْ نَبَّهَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا المَطْلَبِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ خِطَابِهِ، مِنْهَا حِينَ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لأَوْلِيَائِهِ فِي الجَنَّةِ فَقَالَ: "فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ" ثُمَّ قَالَ: "اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ... وَوَصَفَ الجَنَّةَ فَقَالَ: " فِيهَا شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ وَلاَ يَقْطَعُهَا" ثُمَّ قال: "اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30]». ولقد عدد الإمام الزركشي الأحاديث النبوية وربطها بالآيات القرآنية في فصل كامل بعنوان (النوع الأربعون في معاضدة السنة للقرآن) (¬1)، وكان مما ذكره: الروايات التي ساق بعضها صاحب كتاب " الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرئيلية وتطهير البخاري منها ": ص 223، فكان من ذلك الحديث الخاص بالشمس وفيه: «وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ» وحديث ¬

_ (¬1) " البرهان في علوم القرآن " للإمام بدر الدين الزركشي: جـ 2 ص 129 وما بعدها.

«رَأْسُ الكُفْرِ نَحْوَ المَشْرِقِ»، ولكن الإمام الزركشي ربط الحديث بقول الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78]، وقوله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 24]، وقول الله: {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} [فصلت: 37]. أما المدعو السيد أبو بكر والمسخر اسمه لهدم الإسلام عن طريق هدم السنة، فقد زعم أن الحديثين يناقضان القرآن الكريم ولذا فهما من الإسرائيليات ورتب على ذلك استبعاد الأحاديث النبوية كلها وقدم فَهْمًا مغلوطًا للحديث النبوي زعم فيه أنه أراد بالمشرق الخليج العربي والكويت والسعودية لأنها تقع شرق المدينة، والحديث خاص بالشمس وليس بشرق المدينة أو غربها. ونكتفي بهذا في كشف هذه الكتب التي ينفق على ترويجها أعداء الإسلام ويسخرون لذلك بعض الحكام وبعض صبيان العلماء والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

56 - الطعن في أبي هريرة:

56 - الطَّعْنُ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّ المستشرقين الذين لم يجدوا وسيلة لهدم السُنَّة النبوية، ألقوا سمومهم في بعض كتبهم ومن هذه السموم التشكيك في بعض الصحابة. لقد نقل أحمد أمين أنَّ الصحابي أبا هريرة كان يُحَدِّثُ عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير ما سمعه منه واستدلَّ على ذلك بأنه روى عن النبي: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلاَ صَوْمَ لَهُ» فلما أنكرت عائشة ذلك قال: «إِنَّهَا أَعْلَمُ مِنِّي وَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ بَلْ سَمِعْتُهُ مِنَ الفَضْلِ بْن العَبَّاسِ» (¬1). ولقد أجاب الدكتور السباعي بأنَّ كُتُبَ الصحيح لم تذكر عن عائشة أنها أنكرت بل جاء في هذه الكتب أنَّ أبا هريرة استفتى في صوم من أصبح جُنُباً، فأفتى بأنه لا صوم له، فاستفتَتْ عائشة وأم سلمة، فأجابتا بصِحَّةِ الصوم وقالتا: كان رسول الله يصبح جنباً ثم يصوم. فلما قيل ذلك لأبي هريرة رجع عن فتواه وقال: «هُمَا أَعْلَمُ مِنِّي» (¬2). كما أنَّ الرواية التي نسبها المسلم الناقد إلى كتاب " شرح مُسَلَّم الثبوت " ليس فيها حصول الإنكار والرَدِّ من عائشة أو أنَّ أبا هريرة نسب الحديث إلى ¬

_ (¬1) " فجر الإسلام ": ص 269 (للكاتب أحمد أمين). (¬2) " السُنَّةُ ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 307.

النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن رواية " مسلم " فيها أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث قال: سمعت أبا هريرة يقول: «مَنْ أَدْرَكَهُ الفَجْرُ جُنُبًا فَلاَ يَصُمْ» (¬1). ولكن الكاتب تأثرًا بمنهج المستشرقين زعم أن الصحابي الجليل كان يحدث عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يقله النبي، والسبيل لإثبات ذلك هو مجاراة المستشرقين في النقل عن كتاب " شرح مسلم الثبوت " رواية ليست فيه كما نسب إلى أبي هريرة أنه زاد في روايته الحديث: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، (أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ) انْْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» والزيادة هي: (أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ) (¬2). وفي إثبات هذه التهمة ذكر أنه قد قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يزيد في الرواية (أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ) فقال: «إنَّ لأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا»، ويعلق الناقد المسلم على ذلك بقوله: «وَهَذَا نَقْدٌ مِنْ ابْنِ عُمَرَ لَطِيفٌ فِي البَاعِثِ النَّفْسِيِّ» (¬3). أي أن أبا هريرة زاد في الرواية لمصلحته حيث إنه صاحب زرع، ومن أراد التحقيق العلمي يتضح له أن الرواية التي فيها الزرع رواها " مسلم " عن ابن عمر أيضًا بلفظ: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلاَّ كَلْبَ زَرْعٍ، أَوْ غَنَمٍ، أَوْ صَيْدٍ ... » (¬4). وإن الحافظ ابن حجر في كتاب " فتح الباري " أوضح أن ابن عمر أكد رواية أبي هريرة وأن سفيان بن زهير وعبد الله بن مغفل قد وافقاه على هذه الزيادة (¬5). ¬

_ (¬1) " شرح مسلم الثبوت ": 2/ 131. (¬2) " ضحى الإسلام ": جـ 2 ص 131. (¬3) المرجع السابق: ص 131، 132. (¬4) مختصر صحيح مسلم جـ 2 ص 97. (¬5) " فتح الباري ": جـ 5 ص 6.

57 - الإسراف في نقد الحديث وشفاء العيون:

قال النووي في " شرح مسلم ": «(قول ابن عمر: «إنَّ لأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا») [قَالَ الْعُلَمَاءُ]: لَيْسَ [هَذَا] تَوْهِينًا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلاَ شَكًّا فِيهَا، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَحَرْثٍ اعْتَنَى بِذَلِكَ وَحَفِظَهُ وَأَتْقَنَهُ» (¬1). وأخيرًا وليس آخرًا فإن رواية " مسلم " عن أبي هريرة نفسها: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ»، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذُكِرَ لابْنِ عُمَرَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: «يَرْحَمُ اللهُ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ» (¬2). قال الشيخ محمد ناصر الألباني: «قول ابن عمر هذا لا يصح عنه لأن الزهري لم يدركه فهو منقطع وليس على شرط الصحيح» (¬3). فأين هذا كله مما زعمه الناقد الأمين؟ وهل يجهل أن الشافعي والبخاري قالا عن أبي هريرة إنه أحفظ من روى الحديث؟ (¬4). 57 - الإِسْرَافُ فِي نَقْدِ الحَدِيثِ وَشِفَاءِ العُيُونِ: لقد تأثر بعض الكُتَّابِ بالمستشرقين في نقد متن الحديث النبوي ومن الأمثلة على ذلك دعواهم بالتوقف في صحة الأحاديث النبوية حتى يخضع الحديث للتجارب الطويلة. ¬

_ (¬1) " المنهاج شرح صحيح مسلم " للنووي: جـ 6 ص 555. (¬2) و (¬3) " مختصر صحيح مسلم ": جـ 2 ص 197، الحديث 1244 وهامش الصفحة. (¬4) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 291.

لقد طالب بعضهم إخضاع الحديث للتجارب الطويلة والتحاليل الطبية لنعلم صحة نسبته إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقد نقل أحدهم حديث «الكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ» ثم قال: «فهل اتجهوا في نقد الحديث إلى امتحان الكمأة، وهل فيها ترياق؟ نعم إنهم رَوَوْا أن أبا هريرة قال: " أَخَذْتُ ثَلاَثَةَ أَكْمُؤٍ أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا فَعَصَرْتُهُنَّ فِي قَارُورَةٍ وَكَحَلْتُ بِهِ جَارِيَةً لِي عَشْمَاءُ فَبَرَأَتْ" ولكن هذا لا يكفي لصحة الحديث، فتجربة جزئية [نَفَعَ فيها شيء مرة] لا تكفي منطقيًا لإثبات الشيء في [ثبت الأدوية]، [إنما الطريقة] أن تجرب مِرَارًا، وخير من [ذلك] أن تحلل» (¬1) (*). إن هذا الحديث قد رواه " البخاري " و" مسلم " وسنده لا يتطرق إليه الشك حتى نتوقف في قبوله على النتائج العملية أو التجارب الفردية. فضلاً عن أن الأطباء الأقدمين قد أكدوا أن ماءها مفيد للبصر (¬2). أما الطب الحديث فإنه في معامل موسكو، قام مدير مستشفى الرمد بالمنوفية وهو الدكتور المعتز بالله محمد مراد المرزوقي وأجرى أبحاثًا على الكمأة فثبت أنها تعالج الرمد الحبيبي (التراكوما) وهو مرض يؤهل لالتهاب تقيحي يساعد على العمى. ولكن الكاتب يريد أن يجعل الحديث النبوي رهن تجارب أشخاص يخطئون أكثر مما يصيبون حتى يصلوا إلى الحقائق بعد كثير من الضحايا. وكان أجدر بهؤلاء أن يرجعوا إلى الأسباب التي اتفق علماء الحديث على أنها وسيلة رد متن الحديث دون أن يبتدعوا أسبابًا ليست قطعية ولا يقينية، أو أن يجعلوا العقل البشري حكمًا على الكتاب والسنة النبوية. ¬

_ (¬1) " ضحى الإسلام ": جـ 2 ص 131. (¬2) " الهدي النبوي " لابن القيم: جـ 3 ص 181. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ما بين [ .... ] للتصحيح، رجعت فيه إلى كتاب " ضحى الإسلام " لأحمد أمين: 2/ 131، طبعة سنة 1998 م، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

وأجدر بمن قلدهم أن يدرك أن المؤلف المسلم أحمد أمين في قوله: «إن المحدثين عنوا عناية تامة بالنقد الخارجي، ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلي ... فلم يعرضوا لمتن الحديث هل ينطبق على الواقع أو لا؟» (*). هذا المسلم كان يقلد المستشرق كايتاني الذي نقل عنه زميله يوسف شاخت قول: «كل قصد المحدثين ينحصر في واد جدب ممحل، من سرد الأشخاص [الذين] نقلوا المروي - النقد الخارجي - ولا يشغل أحد نفسه بنقد العبارة والمتن نفسه» (¬1). وهل جهل احمد أمين أن من دلائل معرفة الوضع في الحديث كان النظر في السند، حتى وجدنا للحديث أوصافًا تتعلق بالمتن مثل، الشاذ والمقلوب والمضطرب والمدرج والمصحف. ومع هذا فإن الأطباء الذين أجروا تجارب على ما ورد بالسنة النبوية متعلقًا بأمور علمية أو طبية قد توصلوا إلى مطابقة الأحاديث النبوية للنتائج الطبية والعلمية، وكتاب الدكتور موريس بوكاي (2) قد أورد كثيرًا من ذلك في القرآن والسنة، والبحث المقدم إلى المؤتمر العالمي للطب الإسلامي المنعقد بالكويت، قد كشف عن أنه بفحص ستمائة طفل وبعلاج ثمانية منهم من الرمد الحبيبي بماء الكمأة لمدة ثلاثين يومًا تبين أنه قد امتنع حدوث التليف في هذا المرض (التراكوما) مما يحول دون حصول مضاعفات لهذا المرض المؤدي إلى العمى (¬2). كما قدم لنفس المؤتمر (¬3) بحثًا آخر عن الحديث الذي رواه البخاري ¬

_ (¬1) " دائرة المعارف الإسلامية ": مادة أصول آخر الفقرة / 15. (¬2) و (¬3) هذا البحث بعنوان " أضواء على السنة المحمدية في عصر التقدم العلمي " للصديق المخلص الدكتور معتز المرزوقي وقد قدمه ليكون ضمن وثائق المؤتمر المقرر عقده في الكويت خلال يناير سنة 1980 (ربيع الأول سنة 1401 هـ)، والأبحاث الواردة عن الكمأة أجراها بنفسه، أما عن الذبابة فقد نقل عن غير المسلمين ما نقلناه موجزًا وذلك عن الكتاب الذي طبعته وزارة الصحة بالكويت عن المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي وقد تضمن القسم الثالث من هذا الكتاب دراسات عن حقائق في الكتاب والسنة تتعلق بالطب وتطابقها مع = [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) " ضحى الإسلام " لأحمد أمين: 2/ 130.

بلفظ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي [شَرَابِ] أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُخْرَى شِفَاءً». وقد جاء في البحث أن العالم الألماني بريفلر، من جامعة هال اكتشف سنة 1871 م أن الذبابة مصابة بفطر يتكاثر ويلتصق بجسمها، وأنه في سنة 1947 م اكتشف مفليش وجود مضادات حيوية تفرزها هذه الفطريات من جسم الذبابة وأنها فعالة ضد الجراثيم العضوية السالبة مثل التيفود والدوسنتاريا، وهذه المضادات فعالة بحيث أن الغرام منها يحفظ ألف لتر لبن من التلوث بالجراثيم المذكورة التي هي مصدر خطورة الذباب، وأن غمس الذبابة في السائل يجعل المضاد الحيوي يخرج ويذوب في السائل ويعطيه وقاية من المكروبات. يقول الدكتور أمين رضا أستاذ جراحة العظام بجامعة الإسكندرية: إن الجراحين الذين عاشوا قبل اكتشاف مركبات السلفا راوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والقرحات المزمنة بالذباب حيث كان يربى لذلك خصيصًا وبني على هذا اكتشاف فيروس البكتريوناج القاتل للجراثيم، على أساس أن الذباب يحمل في آن واحد الجراثيم التي تسبب المرض والبكتريوناج الذي يهاجم هذه الجراثيم، وتوقف هذا العلاج يرجع إلى اكتشاف مركبات السلف التي جذبت أنظار العلماء وكل هذا مفصل بدقة في جزء من رسالة الدكتوراه للزميل أبو الفتوح مصطفى عيد والمقدمة إلى جامعة الإسكندرية إشرافي. " مجلة التوحيد " الصادرة بمصر، العدد الخامس، سنة 1397 هـ (1977 م) نقلاً عن كتاب " فتاوى معاصرة " للدكتور يوسف القرضاوي: ص 107. ¬

_ = العلم من ذلك حديث «اسْقِهِ عَسَلاً» الذي رواه " البخاري " و" مسلم ". حيث ذكر الدكتور سالم نجم أن التحاليل العملية كشفت عن علاج عسل النحل للمصابين بعسر الهضم وقرحة الاثنى عشر ونقل عن دراسة الدكتور ياسين عبد الغفار علاج هذا العسل في مساعدته لالتئام هذه القرحة، وتناول بحث الدكتور أحمد شوقي هذا العسل كمضاد حيوي بالإضافة إلى ستة عشر بحثًا طبيًا في أمور أخرى.

58 - الصحابة والإكثار من السنة:

58 - الصَّحَابَةُ وَالإِكْثَارُ مِنَ السُنَّةِ: لقد كان بعض صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر تفرغًا من غيرهم ولهذا اشتهروا بكثرة الرواية عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لقد كان أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من هؤلاء الصحابة وهذا مما أغضب المستشرق اليهودي (جولدتسيهر) فقال عنه: «ويظهر أن علمه الواسع بالأحاديث التي كانت تحضره دائمًا قد أثار الشك في نفوس الذين أخذوا عنه مباشرة والذين لم يترددوا في التعبير عن شكوكهم بأسلوب ساخر» (¬1). ولكن كاتبًا مسلمًا لم يقف عند هذا الذي زعمه جولدتسيهر من أن كثرة رواية أبي هريرة أثارت الشك في نفوس من أخذوا عنه أي التابعين، بل زاد الكاتب المسلم أن بعض الصحابة كَذَّبُوا أبا هريرة (¬2). لهذا نوضح هذه المسألة ليزداد المؤمن إيمانًا بالسنة ورواتها، ولقد أسلم أبو هريرة سَنَةَ سَبْعٍ من الهجرة فكان يسمى عبد شمس بن صخر فسماه النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن بن صخر ويكنى بأبي هريرة لأنه كان يحمل هرة صغيرة. وعلى الرغم من تأخر إسلامه إلا أنه روى كثيرًا من الأحاديث كما كان يفتي للصحابة فقد روى الإمام مسلم بسنده عن عروة عن عائشة - رَضِيَ ¬

_ (¬1) كتاب " العقيدة والشريعة " للمستشرق جولدتسيهر. (¬2) أحمد أمين في كتابه " فجر الإسلام ": ص 265 وما بعدها. وانظر البند 69.

اللهُ عَنْهَا -، قالت: «أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ [سُبْحَتِي]، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَكْثَرَ، وَاللهُ المَوْعِدُ، وَيَقُولُونَ: مَا بَالُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يَتَحَدَّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ؟ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَرَضِيهِمْ، وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا: «أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ، فَيَأْخُذُ مِنْ حَدِيثِي هَذَا، ثُمَّ يَجْمَعُهُ إِلَى صَدْرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا سَمِعَهُ» فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ اليَوْمِ شَيْئًا حَدَّثَنِي بِهِ، وَلَوْلاَ آيَتَانِ أَنْزَلَهُمَا اللهُ فِي كِتَابِهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا أَبَدًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159] (¬1). هذا هو سبب كثرة روايات أبي هريرة فكان ذلك ذريعة جولدتسيهر أنهم أكثروا من نقده والشك في صدقه فظن كاتب مسلم أنه لم يقتصر على ما سمع من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل كان يروي عنه أحاديث لم يسمعها (¬2). لقد استند الناقد المسلم إلى روايات نسبت إلى أبي هريرة فنقل عنه أنه قد روى حديث: «مَنْ حَمَلَ جَنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» فلم يأخذ به ابن عباس وقال: «لاَ يَلْزَمُنَا الوُضُوءُ مِنْ حَمْلِ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ». ¬

_ (¬1) " مختصر صحيح مسلم " للمنذري: جـ 2 ص 216 الحديث 1709. (¬2) " فجر الإسلام ": ص 265 وما بعدها للأستاذ أحمد أمين.

وقد أجاب على ذلك الدكتور السباعي (¬1) أنه لم يجد: «لهذا الحديث [بهذا النص] أَثَرًا في كتب الحديث قاطبة، ولا في كتب الفقه والخلاف» ولكن ذكرها بعض علماء الأصول وهؤلاء يتساهل بعضهم في ذكر الأحاديث التي ليس لها أصل أو أصلها جاء من طريق ضعيف والسبب أن الحديث ليس صناعتهم ولا هو من اختصاصهم. والجدير بالذكر أنه قد شاع هذا الحديث في كتب أصول الفقه التي تدرس بالجامعات ومنهم من نسب هذا القول إلى السيدة عائشة كسبب لرد رواية أبي هريرة، وهؤلاء ينقلون عن بعض الكتب دون تحقيق في مدى ثبوت هذا الحديث، ومع هذا فليس فيما نقله الكاتب المسلم ما يدل على أن ابن عباس كَذَّبَ أبا هريرة أو طعن فيه بل رواية تخالف القواعد الشرعية. كما نقل الكاتب أن عائشة رَدَّتْ رواية أبي هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَتَى اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الإِنَاءِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ». قال الناقد البصير: إن عائشة لم تأخذ بالحديث حسب الثابت في كتاب " مسلم الثبوت ": (2/ 178) إذ قالت: «[كَيْفَ] نَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ؟»، ولكن المرجع الذي نقل عنه أحمد أمين وهو " شرح مسلم الثبوت " فيه قول الشارح: «قَالَ فِي التَّفْسِيرِ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا مِنْهُمَا - أَيُّ مِنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - وَإِنَّمَا ثَبَتَ مِنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ [قَيْنٍ] الأَشْجَعِيِِّ [وَفِيْ صُحْبَتِهِ خِلاَفٌ]» والحديث لم ينفرد به أبو هريرة بل رواه الترمذي عن ابن عمر. كما أن النهي مخصوص بالماء المحفوظ في الإناء كما هو ثابت من رواية " مسلم "، ولكن الكاتب المسلم أغفل كل ذلك وأظهر ما يفيد تكذيب بعض الصحابة لأبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وهذا لم يحدث مطلقًا. وإذا كان بعض الصحابة لم يعمل برواية لشكه في قدرة الراوي على تحمل الرواية إما لسوء حفظه أو غفلته أو غير ذلك، فلا يجوز للمسلم في عصرنا أن يجعل من ذلك سببًا في رد حديث قد ثبتت صحته عن النبي - صَلََّى ¬

_ (¬1) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 307.

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن التوقف في العمل بحديث ما كان له ما يبرره أما اليوم فلا يوجد لرد حديث ثبت أنه صحيح، ومن فعل ذلك فليس من الإسلام في شيء.

59 - تحريف النصوص بين المستشرقين وعلماء الشهرة:

59 - تَحْرِيفُ النُّصَوصِ بَيْنَ المُسْتَشْرِقِينَ وَعُلَمَاءَ الشُّهْرَةِ: إن وسيلة أعداء الإسلام لهدمه، لم تقف عند المغالطات والتحريف في المعنى، بل استخدمت الكذب والتحريف الكلمي، فقد قامت بعض العناصر اليهودية بطبع مصحف أنيق عن طريق مطابع خاصة فحرفت فيه بعض الكلمات. من ذلك الآية 64 من سورة المائدة فنصها هو: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}. فانصب التحريف في الطبعة الإسرائيلية على فصل اللام عن العين وإقلاب العين إلى ميم. وبذلك كتبت (وآمنوا بما قالوا) للتمويه لأن بعض المراجعين يكتفي بملاحظة عدد الأسطر في الصفحة وعدد كلمات السطر، ليطمئن أن الطبعة مماثلة للطبعة المنقول عنها. أما تحريف المعنى في الطبعة فلا يخفى على أحد لأن (آمنوا بما قالوا) عكس (لعنوا بما قالوا) فضلاً عن التشكيك في القرآن لأن الآية تصبح (غلت أيديهم وآمنوا بما قالوا) وهذا فيه تناقض وفي نطاق السنة نضرب مثلاً من التحريف والكذب المفضوح، فقد لجأ أحد رجال الأزهر الشريف، ألا وهو الشيخ محمود أبو رية إلى الدفاع عن السنة بوسيلة جديدة، فوضع كتابًا باسم " قصة الحديث النبوي "، لجأ فيه إلى قصر حُجِّيِّةِ السُنَّةِ على نطاق تفسير القرآن، وللتدليل على حتمية ذلك نقل عن المستشرقين أن رجلاً كذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خلال حياته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، ولم يسند هذه الرواية لأي مصدر من المصادر، ثم اتبع أسلوبًا آخر في كتابه " أضواء على السنة المحمدية ": (فنقل أبو رية): «أن عبد الله بن عمرو أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب وكان يرويها للناس عن النبي». وقد نسب هذا القول لابن

حجر في كتاب " فتح الباري ": الجزء الأول، ولكن هذا المصدر ليس فيه عبارة «عن النبي» بل نص العبارة «كان يرويها للناس»، فوهم الشيخ بهذه العبارة أو نقلها عن كذاب مثل (جولدتسيهر) والنتيجة التشكيك في السنة النبوية. كما نقل أبو رية في كتابه هذا عن " البداية والنهاية " لابن كثير، الجزء الثامن: أن عمر قال لكعب الأحبار: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ عَنْ [الأُوَلِ]» (*) وليس عن رسول الله. والسبب أن الوارد في جميع المراجع الإسلامية، أن أمير المؤمنين عمر وجد أن التحدث بما في كتب الأولين أي اليهود والنصارى، قد يخلط ما فيهما بالسنة النبوية، فنهى عن هذا. والجزء الثامن من كتاب " البداية والنهاية " لابن كثير بريء مما نسبه إليه أبو رية. وسواء حَرَّفَ هو أو كان المحرف للحكم هو أحد المستشرقين ونقل عنه أبو رية، فالنتيجة واحدة وهي الكذب على الصحابة والتشكيك في بعضهم، لهذا قال الدكتور مصطفى السباعي: «إِنَّ كَذِبَ أَبِي رَيَّةَ عَلَى السُنَّةِ كَثِيرٌ» (¬1). كما تعقب فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر هذه المفتريات ونقل أكاذيب وتضليل أبي رية كما فصلها المرحوم الدكتور مصطفى السباعي ثم قال: «إِنَّ مَقَايِيسَ البَحْثِ العِلْمِيِِّ الصَّحِيحِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، تُسْقِطُ عَدَالَةَ أَبِي رَيَّةً، وَتَشْهَدُ بِهِ كَكَذَّابٍ وَكَمُحَرِّفٍ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ» (¬2)، كما تعقب الدكتور فضيلة الشيخ عبد الرزاق حمزة هذا في كتابه " ظلمات أبي رية ". ويقول الدكتور عبد الحليم محمود أيضًا: «إِنَّ المَعْرُوفَ أَنَّ الاسْتِشْرَاقَ ¬

_ (¬1) " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 221. (¬2) " القرآن والنبي " للدكتور عبد الحليم محمود (شيخ الجامع الأزهر). [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن بما ورد في الصفحة 284 من هذا الكتاب.

فِي طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْه إِنَّمَا هُوَ اِمْتِدَادٌ لِلْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ» ثم يقول: «المُسْتَشْرِقُونَ لَهُمْ صِبْيَانٌ مَعْرُوفُونَ، إِنَّ لَهُمْ صِبْيَانًا تَابِعِينَ مُقَلِّدِينَ». فالمستشرقون وأتباعهم هم الذين يشككون في السنة فقد كذب اليهودي (جولدتسيهر) على الإمام الزهري فنقل عنه: «إِنَّ [هَؤُلاَءِ] الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ» بينما ما قاله الزهري هو: «إِنَّ [هَؤُلاَءِ] الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ الأَحَادِيثَ» (¬1) أي على تدوين السنة النبوية. فتحريف جولدتسيهر جاء أكثر دقة من تحريف أبي رية، فقد اكتفى (تسيهر) بحذف الألف واللام من كلمة (الأَحَادِيثَ) لتصبح (أَحَادِيثَ) فيختلف المعنى دون أن يشعر المسلم، اللهم إلا من أمعن النظر في المعنى ورجع بدقة إلى أصل الكلام للزهري، وهذا ما فعله الدكتور مصطفى السباعي - رَحِمَهُ اللهُ -. فالتعريف لكلمة الأحاديث تفيد أن الإكراه وقع على كتابة الأحاديث النبوية أي على تدوينها، لأن الزهري كغيره ممن دونوا السنة كانوا يتحرجون من التدوين لأن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد نهى عن كتابة السنة وقال: «لاَ تَكْتُبُوا [عَنِّي]، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» رواه " مسلم ". ولقد أراد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك حفظ خاصية الإعجاز للقرآن فمنع التدوين العام للسنة. ولكن الأمراء لما وجدوا أن السنة قد دخل عليها ما ليس منها بفعل الملحدين والمنافقين ووجدوا أن القرآن جمع وكتب وقد حفظ ومن ثم لا خوف أن يختلط بالسنة، أمروا بكتابة الأحاديث النبوية فجاء الخلفية عمر بن عبد العزيز وأمر [ابن] (*) شهاب الزهري بمباشرة هذه المهمة، فسجل الزهري ذلك، فيقول: «إِنَّ [هَؤُلاَءِ] الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ الأَحَادِيثَ» فأتى (جولدتسيهر) فَحَرَّفَ الكلمة ونقلها: «أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ». وهذا يقلب ¬

_ (¬1) كتابه " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 221. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وليس طارق بن شهاب كما ورد في الكتاب المطبوع.

المعنى إلى نطاق وضع الأحاديث النبوية. وجولدتسيهر يريد بهذا التحريف أن يسبغ شرعية لحقده وأهدافه التي ورد في كتابه " العقيدة والشريعة " إذ زعم أن ألوف الأحاديث هي من صنع العلماء. وهذا وسلفه من الطاعنين ومن تبعهم يريدون الاكتفاء بما جاء في القرآن الكريم من أحكام حتى لا تكشف السنة أغراضهم ولا تحول دون أهوائهم لأنه باستبعاد السنة يستطيعون الوصول إلى حرية وضع الأحكام المتفقة مع زعمائهم دون أن يوصفوا بأنهم يهدمون الدين ودون أن يشعر المسلمون بذلك، وقد شجع هذا بعض العلماء لاجتهاد خاطئ كما فعل الدكتور مصطفى محمود في كتاب أضفى عليه اسم " التفسير العصري للقرآن " ففيه قال: إن الله قد حرم الخبيث الضار وأحل النافع المفيد ولكن مصطفى محمود في تفسيره للخبيث الضار ظن أن إمعان النظر إلى العاريات على شواطئ البحار ليس من الخبيث وبالتالي فليس من المحرم وكذلك ارتداء الفتيات الملابس القصيرة جدًا تمشيًا مع شرف العصر ليس من الخبيث لأن العبرة بالقلوب وبالتالي فإمعان النظر للعاريات بالشوطئ هو تفكر في خلق الله أي من العبادة، وقد تراجع مصطفى محمود عن موقفه فهداه الله إلى الحق. والغرض من هذا التطوير قد أفصح عنه (تيومان) فهو وسيلة لغاية قال عنها: «فإذا أمكن للمبادئ الإسلامية أن تتطور مع الزمن المتطور عندئذ سوف يتحرر ملايين البشر من هذه العقائد» (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " للدكتور محمد [محمد] حسين.

60 - التحريف وموالاة أهل الكتاب:

60 - التَّحْرِيفُ وَمُوَالاَةُ أَهْلِ الكِتَابِ: لقد أفصح المستشرقون والمبشرون عن أهدافهم من الدعاوى الهدامة ومنها التوفيق بين الإسلام والأديان السماوية وهو توفيق يراد به تطوير الإسلام ليقر علماء الأزهر الشريف يردد مزاعم المستشرقين وهذا ما فعله الشيخ علي عبد الرازق في كتابه " الإسلام وأصول الحكم "، وما فعله الشيخ محمود أبو رية في كتبه السابقة، وما فعله الشيخ محمد عمارة في كتابه " الإسلام والوحدة الوطنية " الذي أوضحنا جانبًا من التحريف الوارد به ونشير إلى اجتهاد آخر هو: مُوَالاَةُ أَهْلِ الكِتَابِ: لقد نهى الإسلام عن موالاة اليهود والنصارى، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. ولكن جاء الشيخ محمد عمارة وقال: «لا حجة لأنصار الطائفية والشقاق الديني، لأن الآية - في اجتهاده الصائب - تنهى عن الخيانة الوطنية في حالة الحرب وليس فيها من قريب أو بعيد ما يتصل بالدعوة إلى حجب النصرة والموالاة عن المخالفين لنا في الشريعة وخاصة إذا كانوا لنا إخوة لنا في القومية والوطن». وقد نسب ذلك إلى القرطبي بل قال: «وأكثر من هذا فإن المفسرين يحددون أن المنهي عنه هو أن يعضد هؤلاء الأعداء على المسلمين، في حالة الحرب»: ص 106 (¬1). والإمام القرطبي لم يشر من قريب ولا من بعيد إلى أن هذه الآيات تتعلق بالخيانة الوطنية أو أنها خاصة بالقتال فقط بحيث تجوز الموالاة بعد المعركة ¬

_ (¬1) لقد نسب هذا إلى " القرطبي ": جـ 6 ص 217، والقرطبي لم يقل أن المنهي عنه فقط هو مناصرة الأعداء من المسلمين وقت الحرب، ثم التودد إليهم وموالاتهم في غير الحرب مع استمرار أعدائهم كما يفهم من عبارات الكاتب.

فقد قال في تفسير هذه الآية: هذا يدل على قطع الموالاة شرعًا وقد مضى في آل عمران بيان ذلك، وآية آل عمران نصها: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]. وفي تفسير هذه الآية نقل القرطبي عن ابن عباس قوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَهَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أَنْ يُلاَطِفُوا الْكُفَّارَ فَيَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ».ثم قال القرطبي: «وَمَعْنَى {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أَيْ فَلَيْسَ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ وَلاَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي شَيْءٍ». وفي تفسير قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، يقول القرطبي: «أَيْ يَعْضُدْهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ». وقد زعم الشيخ عمارة أن المراد هنا الخيانة الوطنية في حالة الحرب وزعم أن هذا رأي القرطبي والمفسرين، بينما الإمام القرطبي حدد المراد بقوله: «بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِهِمْ، وَهُوَ يَمْنَعُ إِثْبَاتَ المِيرَاثِ لِلْمُسْلِمِ مِنَ المُرْتَدِّ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلاَّهُمِ ابْنُ أُبَيٍّ ثُمَّ هَذَا الحُكْمُ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي قَطْعِ المُوَالاَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28] ... ». كما أن القرطبي في تفسير قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ... } [المائدة: 57]، قال: «فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اتَّخَذُوا دِينَ الْمُؤْمِنِينَ هُزُوًا وَلَعِبًا». ثم نقل القرطبي أن هذه الآية مثل قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51]، ونقل القرطبي حديثًا عن جابر فيه أَنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالُوا: نَسِيرُ مَعَكَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - «إِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ عَلَى أَمْرِنَا بِالمُشْرِكِينَ». ولو أن الدكتور عمارة قد أوضح أن الموالاة ممنوعة أيضًا في غير حالات الحرب إذ كانوا يتآمرون على الإسلام والمسلمين ويعادوننا كمن يساعد إسرائيل ولو تظاهر بصداقة العرب والمسلمين.

الفصل العاشر: منزلة السنة من القرآن الكريم:

الفَصْلُ العَاشِرُ: مَنْزِلَةُ السُنَّةِ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ: - السنة وتفسير القرآن. - السنة والمذكرة الإيضاحية. - شهادة من الغرب حول القرآن والسنة. - الكتب المقدسة والعلم الحديث.

61 - السنة وتفسير القرآن:

61 - السُنَّةُ وَتَفْسِيرُ القُرْآنِ: إن السنة النبوية هي البيان النبوي المكمل للقرآن الكرم، وقد امتن الله على المؤمنين بهذا فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. وفي هذا قال الإمام الشافعي: «ذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: " الحكمة سُنَّةُ رسول الله» (¬1). لقد جعل الله من خصائص الرسول البيان وهو تفصيل القرآن الكريم، إما زيادة عما ورد في القرآن أو تخصيصًا لعمومه وتقييدًا للأحكام المطلقة به، بل جعل سلطانه شاملاً لجميع الأمور صغيرها وكبيرها، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} (¬2). وفي هذا قال ابن القيم: «فَإِذَا [جُعِلَ] مِنْ لَوَازِمِ الإِيمَانِ أَنَّهُمْ لاَ يَذْهَبُونَ ¬

_ (¬1) " الرسالة ": ص 78. (¬2) [سورة النور، الآية: 62].

مَذْهَبًا إذَا كَانُوا مَعَهُ إلاَّ بِاسْتِئْذَانِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ لاَ يَذْهَبُوا إلَى قَوْلٍ وَلاَ مَذْهَبٍ عِلْمِيٍّ إلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، وَإِذْنُهُ [يُعْرَفُ بِدَلاَلَةِ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ فِيهِ]». إن كل ذي حس وبصيرة يدرك أن قول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وغير ذلك مما ورد في القرآن عن طاعة الرسول كلها آيات بينات على لزوم السنة وحفظ الله لها، إذ لو كان القرآن وحده هو المصدر التشريعي للمسلمين لما كان لهذه الآيات وغيرها معنى لأنها تشير إلى بيان الرسول، وهذا البيان ليس في القرآن الكريم، لهذا أمر الله بطاعة الرسول فيما أمرنا به أو نهانا عنه. كما جاءت السنة النبوية بأحكام ليست في القرآن الكريم مثل تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في الزواج (¬1). ومنها عقوبة شرب الخمر ورجم الزاني المحصن وميراث الجدة، كما خصصت السنة أحكامًا جاءت عامة في القرآن، فالله تعالى يقول: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ... } [النساء: 11]. ولكن جاءت السنة وخصصت هذا بحديث: «لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلاَ يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ» (¬2). وفصلت السنة أمورًا كانت مجملة في القرآن مثل عدد الصلوات ومواقيتها وكيفيتها ومناسك الحج والأموار الخاضعة للزكاة وشروط ذلك وأحكام الصوم. ولقد أجمع أهل الإسلام على أن هذه الأحكام واجبة كتلك الواردة في القرآن ولا فرق ولكن يوجد بين الفقهاء خلاف لفظي في وصف السنة فنجد ¬

_ (¬1) " البخاري ": 7/ 11، و" مسلم ": 4/ 135. (¬2) أخرجه " البخاري " و" مسلم " وأصحاب السنن.

الشافعي يقول: «السُنَّةََ لاَ نَاسِخَةٌ لِلْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هِي تَبَعٌ لِلْكِتَابِ ... » بينما يقول: «وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ فِيمَا لَيْسَ فِيه نَصُّ الكِتَابِ» (¬1)، والشافعي مع قوله: «السُنَّةََ لاَ نَاسِخَةٌ لِلْكِتَابِ» يأخذ بحديث: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ولكنه يصفه بأنه مخصص لعموم قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، وليس ناسخًا لها. بينما يرى غيره أن هذا الحديث ناسخ لهذه الآية وليس مخصصًا لها، فالخلاف في هذه الاصطلاحات ليس له أثر على العمل بالسنة النبوية، فمن قال: السنة مبينة للقرآن كمن قال: إنها مفسرة له، فكلاهما يأخذ بالسنة إن جاءت بحكم جديد ليس في القرآن، والفارق بينهما أن الذي يقول: إن السنة مفسرة يرد أحكام السنة إلى أصل عام في القرآن وبالتالي لا يرى أن الحديث زائد عن القرآن، والذي يرى أن السنة مبينة أو مكملة للقرآن يستند إلى ما جاء في القرآن، الذي يرى أن السنة مبينة أو مكملة للقرآن يستند إلى ما جاء في القرآن من وجوب طاعة الرسول، فالخلاف يرجع إلى اختلافهم في الوصف أو النظر إلى صفة السنة وليس في وجوب العمل بها ولهذا قال الشافعي: «وَكُلَّ مَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ فَقَدْ أَلْزَمَنَا اللهُ اِتِّبَاعَهُ». أ - ولكن منهم من يصف هذا القضاء الزائد بأنه تفصيل لنص عام في القرآن فلا نجد في السنة حكمًا إلا وقد دل القرآن عليه إجمالاً أو تفصيلاً، فهي في تصورهم «بَيَانٌ لِمَا فِيهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهَا رَاجِعَةً إِلَيْهِ» (¬2). ب - ومنهم من يصف حكم النبي الزائد عما ورد في القرآن الكريم، بأنه استقلال في التشريع، وفي هذا يقول الأوزاعي: «الكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ ¬

_ (¬1) " الرسالة ": جـ 2. (¬2) " الموافقات " للشاطبي: جـ 4 ص 12، 13.

مِنَ السُنَّةِ إِلَى الكِتَابِ»، وقال ابن عبد البر: «يُرِيدُ أَنَّهَا تَقْضِي عَلَيْهِ وَتُبَيِّنُ المُرَادَ مِنْهُ» (¬1). وقال آخرون: «يَجِبُ أَنْ يَكُونَ المَعْلُومُ لَدَى جَمِيعِ المُسْلِمِينَ أَنَّ القُرْآنَ أَحْوَجَ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُنَّةِ إِلَى القُرْآنِ، فَالسُنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الكِتَابِ وَلَيْسَ الكِتَابُ قَاضِيًا عَلَى السُنَّةِ» (¬2). ولكن هذه الأوصاف غير دقيقة فقد كان جواب الإمام أحمد عن القول: «السُنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الكِتَابِ» قوله: «مَا أَجْسُرُ عَلَى هَذَا [أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ]: إِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ» (¬3). فالقرآن والسنة مصدرهما واحد هو الوحي عن الله تعالى، فهما شيء واحد يعملان معًا في تنسيق كامل ويفترقان في أن القرآن معجز في لفظه ومعناه، والسنة معجزة في معانيها فقط لأن المعنى من الله واللفظ من النبي الذي أجاز الرواية: «إِنَّ القُرْآنَ وَالسُنَّةَ لَهُمَا مَقَاصِدَ وَاحِدَةً فِي جُمْلَتِهَا وَهِي مُتَّسِقَةً بَيْنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ بِحَيْثُ نَجِدَ أَحْكَامًا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ فِي القُرْآنِ وَأَحْكَامًا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ فِي السُنَّةِ لِيَظَلَّ النَّاسُ فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ إِلَى الكِتَابِ وَالسُنَّةِ مَعًا فِي كُلِّ زَمانٍ وَمَكَانٍ» (¬4). لقد أخرج الخطيب والسمعاني بسنديهما إلى عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كان جالسًا ومعه أصحابه كَانَ جَالِسًا وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: «لاَ تُحَدِّثُونَا إِلاَّ بِالقُرْآنِ»، فَقَالَ لَهُ: ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: جـ 2 ص 191. (¬2) بحث للشيخ محمد المبارك نشر بمجلة " الدعوة " الصادرة بالقاهرة في غرة ذي الحجة 98 هـ، العدد 30: ص 48. (¬3) " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: جـ 2 ص 191. (¬4) كتاب " تفسير الرسول للقرآن " للأستاذ محمد العفيفي، وهو كتاب جديد يركز على المنهج الذي تبناه في كتابه " المعجزة القرآنية " وكتابه " القرآن القول الفصل بين كلام الله وكلام البشر " ولكنه ينفرد عنهما بتبيان مفصل لدور السنة النبوية وصلتها بالقرآن والحياة.

[ادْنُهْ] , فَدَنَا , فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِّلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى القُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ فِيهِ صَلاَةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَصَلاَةَ العَصْرِ أَرْبَعًا وَالمَغْرِبَ ثَلاَثًا؟ , تَقْرَأُ فِي اثْنَتَيْنِ , أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِّلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى القُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ سَبْعًا وَالطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ , ثُمَّ قَالَ: أَيْ قَوْمُ خُذُوا عَنَّا فَإِنَّكُمْ , وَاللَّهِ إِلاَّ تَفْعَلُوا لَتَضِلُّنَّ ". فالقرآن أحكم ذلك والسنة تفسر ذلك (¬1) والقرآن الكريم قد أمر بالعمل بالسنة النبوية، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} (¬2)، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59]. وفي هذا قال ابن حزم: «القُرْآنُ وَالخَبِرُ الصَّحِيحُ [بَعْضُهَا] مُضَافٌ إِلَى بَعْضٍ وَهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي أَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (" الأحكام ": جـ 1 ص 88). ولهذا نفى الله الإيمان على من ينكر سنة النبي وحكمه، فقد قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. من أجل ذلك قال الإمام الشوكاني (¬3): بـ «ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ وَاسْتِقْلاَلَهَا». فالقرآن والسنة هما المصدران الرئيسيان للشريعة الإسلامية، أما الإجماع والقياس وغيرهما من المصادر الأخرى فهي ليست مصادر مستقلة، فلا يؤخذ منها الحكم لأنها بذاتها واجبة الاتباع، بل هي طرق للتعبير وبناء الحكم من المصدر وهو الكتاب والسنة، وهي لا تنشئ حكمًا بل تكشف عنه. ولقد أشرت إلى هذا في الفصل الثامن عن الإجماع والنسخ. ¬

_ (¬1) كتاب " الحديث النبوي " للأستاذ محمد الصباغ: ص 20. (¬2) [الحشر: 7]. (¬3) " إرشاد الفحول " للإمام محمد بن علي الشوكاني: ص 29.

62 - السنة والمذكرة الإيضاحية:

62 - السُنَّةُ وَالمُذَكِّرَةُ الإِيضَاحِيَّةُ: إذا كان فقهاء السلف، قد اختلفوا في شيء من أمر السنة النبوية فإنما كان هذا الخلاف حول الاصطلاحات والمفاهيم، فمن فهم أن السنة النبوية لا تستقل بتشريع الأحكام بل تأتي تبعًا للكتاب وتبنى على أصل عام منه، يوجب العمل بالسنة كلها حتى لو جاءت بحكم جديد، وبالتالي فهذا الفريق لا يرد الأحكام الواردة في السنةالنبوية بل يبحث عن أصل عام في القرآن ويربطها به حتى ولو كانت سنة زائدة عما جاء في القرآن، وتكون النتيجة العملية هي الأخذ بالسنة كلها وهنا يلتقي هذا الفريق مع من قال أن السنة تستقل بتشريع الأحكام. وهذا هو حال علماء السلف - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، ولكن بعض طلاب العلم بنى على هذا الخلاف قضية أخرى تنتهي بحكم آخر وهو حصر نطاق السنة في تفسير القرآن وَرَدِّ ما جاء في السنة النبوية زائدًا عما في الكتاب الكريم - وبالتالي يستحلون كثيرًا من المحرمات ويردون جانبًا من الحدود - والعقوبات بل إن بعضهم يعلل ذلك بأنه يدافع عن السنة النبوية (¬1). وهذه هي وسيلة المستشرقين للطعن على الدين، فالمستشرق اليهودي (جولدتسيهر) ¬

_ (¬1) ذهب إلى ذلك الشيخ محمود أبو رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية " وتابعه السيد صالح أبو بكر في " الأضواء القرآنية "، انظر البند 69.

يقول في كتابه " العقيدة والشريعة ": «ألوف الأحاديث هي من وضع العلماء الذين أرادوا أن يجعلوا من الإسلام دينًا شاملاً فخلقوا هذه الأحاديث، والقرآن لم يعط من الأحكام إلا القليل، ولا يمكن أن تكون أحكامه شاملة لهذه العلاقات غير المنتظرة». هذا المستشرق لم يجد لمزاعمه دليلاً، ولكن بعض المسلمين التمسوا الدليل في سببين: 1 - الأول هو حديث موضوع نصه: «[إِذَا جَاءَكُمُ الْحَدِيثُ] فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَقَدْ قُلْتُهُ وَمَا خَالَفَهُ لَمْ أَقُلْهُ»، وما يؤكد عدم صحته أنه يتعارض مع حديث آخر صحيح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ونصه: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ»، وقد جاء هذا الحديث برواية أخرى وفيها يقول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ [الكِتَابَ] وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ». لقد كشف علماء الحديث أن الحديث الأول من وضع الزنادقة، قال بذلك يحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي، كما قال الشافعي: أنه غير صحيح ويتعارض مع قول الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، ومع ما رواه " البخاري " و" مسلم ": «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ». من هذه اللحمة يستبين أن المستشرقين قد أدركوا أن السنة تجعل الإسلام دينًا شاملاً كاملاً وبالتالي فلا سبيل لهدمها أو تطويرها إلا بتجميدها وأيسر وسيلة هي التشكيك فيها أو ادعاء أن أكثرها موضوع وهو المنهج الذي تبناه جولدتسيهر، أما بقية الأحاديث التي لا يستطيعون الطعن عليها فسبيل تجميدها هو القول بعرضها على القرآن، فإن جاءت بحكم ليس في القرآن لا تلتزم به.

2 - والحجة الثانية عندهم هي قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. فيقولون: إن الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - ليس إلا مُبَيِّنًا وَمُفَسِّرًا لما جاء في القرآن وقد شاع على ألسنتهم وغيرهم وصف السنة بالمذكرة التفسيرية للقانون ولكن هذه المذكرة غير ملزمة للقاضي ولا لغيره من الناس وقد تكون كاشفة عن سبب الحكم ولكن ما تتضمنه من تفسير لا يلزم أحدًا وهذا بخلاف السنة النبوية، فهي ملزمة لجميع المسلمين. والآية القرآنية تبين بجلاء أن الله أنزل الذكر على النبي ليبين للناس وَهْمَ الكُفَّارِ حكم الله لعلهم يتفكرون فيهتدون إلى الإيمان (¬1). فالناس هنا هم الكفار لا يؤمنون كما أن الذكر هو القرآن وبيان النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون بتلاوته على الناس جميعًا كما يكون البيان للناس عن طريق الأحاديث النبوية، ولكن ظاهر هذه الآية لا ينطبق إلا على الكفار لأنهم هم الذين يعرضون عن الإيمان، فتلاوة القرآن عليهم وبيانه يقيم الحجة عليهم ولعلهم يتفكرون فيهتدون إلى الإيمان، أما المؤمنون فهم مهتدون إلى الإيمان بنعمة الله وليسوا في حاجة إلى إقامة الحجة أو طلب إيمانهم بالله، ويزيد ذلك وضوحًا الآيات الأخرى الواردة في هذا المعنى في نفس السورة وهي سورة النحل، قال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 63، 64]. وهذا لا يكون إلا بالنسبة للكفار كما أن القرآن هدى ورحمة لمن آمن به وهؤلاء لا يقول الله عنهم {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. ¬

_ (¬1) " تفسير القرآن العظيم ": لإسماعيل بن كثير: جزء 4.

والنتيجة التي نود إظهارها هي أن السنة النبوية تختلف عن المذكرة التفسيرية للقانون الوضعي، فالأخيرة لا تعد تشريعًا وبالتالي لا تلزم القاضي ولا غيره بينما لا خلاف بين المسلمين على أن السنة النبوية هي تشريع من الله الذي عصم نبيه من الخطأ في بيان حكم الله للناس، ولهذا فما ورد بها يجب العمل به ولو كان حكمًا جديدًا لم تتضمنه نصوص القرآن وتستوي بعد ذلك أن توصف السنة بأنها مبينة أو مفسرة أو مكملة لأن هذه الأوصاف لا يترتب عليها استبعاد حكمها أو إضعافه، ولهذا لا وجه بأن تشبه السنة بالمذكرة التفسيرية للقانون. إن الخطأ الشائع بأن السنة كالمذكرة التفسيرية للقانون يرجع إلى عدم معرفة منزلة هذه المذكرة من القانون، فالسنة مصدر تشريعي يعبر عنها بالمصدر الثاني، أما المذكرة التفسيرية للقوانين الوضعية، فهي ليست نصًا تشريعيًا ولا مصدرًا لنص تشريعي إنما تفصح عن المصدر الذي استقى منه النص ثم تبين سبب وضع النص بهذه الصياغة، وبالتالي فهي ليست ملزمة ملزمة للقاضي أو الفقيه بل تكون محل استئناس عند تفسير النص، وعليه فمن شبه السنة النبوية بالمذكرة التفسيرية يضع السنة في غير موضعها، فهي ملزمة للقاضي والفقيه، بل ولكل فرد من المسلمين وهي مصدر تشريعي بجانب القرآن الكريم، وما يرد بها مفسرًا للنص القرآني يستوى ف الإلزام مع ما يرد في السنة من أحكام سكت عنها القرآن لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وكذا للأسباب السابق ذكرها. ومن رد حديثًا ثبت صحته بدعوى أنه غير ملتزم إلا بما جاء في القرآن، يكون بهذا الرد قد ارتد عن الملة، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

فالاحتكام والتحكيم يكونان للقرآن والسنة معًا، ولا خلاف في هذا، فلا يحل لمسلم أن يطلب الاحتكام إلى غير القرآن والسنة ولا يحل للقضاة أو الحكام أن يحكموا بغير ما أنزل الله أو بغير سنة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن استحل هذه المخالفة فقد كفر لإنكاره حكم الله ولتحليله ما حرم الله، أما من مالت نفسه فخالف مع إيقانه وتصريحاته وإعلانه أن حكم الله ورسوله هو الأولى وهو الواجب والأحسن فذاك المخالف يكون عاصيًا. ولقد حذر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذا فقال: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ». رواه أبو داود وغيره (" التاج الجامع للأصول ": جـ 1 ص 46). وقد زعم البعض أن الآيات القرآنية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، لا تفيد كفر من استحل الحكم بخلاف القرآن والسنة، وهؤلاء نسوا قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]. كما تركوا ما رواه الترمذي بسنده الصحيح عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «يَا [عَدِيُّ اطْرَحْ] عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ»، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» (*). إن آيات سورة المائدة قد وصفت من استحل الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وصفًا يفيد الكفر والظلم والفسق، وهذه الأوصاف الثلاث تتعلق بحقيقة واحدة هي استحلال الحكم بغير الكتاب والسنة النبوية، وبالتالي ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) الرواية التي ذكرها المؤلف هي في " المدخل إلى السنن الكبرى " للبيهقي، تحقيق الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي: ص 209، حديث 261، نشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي - الكويت. انظر التعليق في الهامش: ص 255.

فالكفر في هذا الصدد هو نفسه الفسق وهو أيضًا الظلم، لأن هذه الأوصاف الثلاث قد ترد بمعنى الكفر المخرج عن الملة، كما في هذا الشأن، وفي قوله تعالى عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وقد ترد هذه الأوصاف بمعنى المعصية كما في سورة الحجرات عن السخرية والتنابز بالألقاب إذ قال الله عنه: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. كما قال الله عن الجهاد في سورة التوبة: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. وهذا الخطاب موجه إلى المؤمنين ولذلك كان الفسق بمعنى المعصية وأيضًا ورد الكفر بما يفيد المعصية في الحديث النبوي الذي رواه " مسلم " بلفظ: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَاله كُفْر»، لأن الله تعالى لم ينف الإيمان عن المسلمين الذين اقتتلوا، فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. وهكذا فإن كلمات الكفر والظلم والفسق قد ترد بمعنى الكفر المخرج عن الملة وقد تأتي بمعنى المعصية والذي يحدد المقصود هو سياق الآيات في كل موضوع وليس أهواء الناس ومصالحهم. وقد فصلت ذلك في كتاب " الحكم وقضية تكفير المسلم ".

63 - شهادة من الغرب حول القرآن والسنة:

63 - شَهَادَةٌ مِنَ الغَرْبِ حَوْلَ القُرْآنِ وَالسُنَّةِ: إن هؤلاء العرب المجاملين بالباطل لم يدركوا الحقيقة الكبرى التي آمن بها المنصفون من غير المسلمين، الذين ينادونهم أن يعيدوا قراءة علوم السنة النبوية ليقفوا على ما أدركه بعض الباحثين الغربيين من أن الحديث النبوي يوازي عندهم التوراة والإنجيل (قبل التحريف الذي أصاب جانبًا منها)، فالكاتب الفرنسي موريس بوكاي أصدر كتابه في ذلك وعقد فيه مقارنة علمية بين القرآن والسنة والإنجيل والتوراة (¬1). وتأتي أهمية هذا الكتاب من كون مؤلفه أوروبي مسيحي معاصر يشهد شهادة حق من خلال دراسته العلمية الموضوعية لمدى صحة كل من التوراة والأناجيل والقرآن. ويقرر المؤلف أن معالجة الكتب المقدسة من خلال علم الدراسة النقدية للنصوص شيء قريب العهد في بلدان أوروبا. ففيما يخص العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) ظل الناس يقبلونهما على ما هما عليه ¬

_ (¬1) الكتاب اسمه " دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة " وقد عرضة الأخ الأستاذ جابر رزق جابر بمجلة " الدعوة " الصادرة بالقاهرة في غرة ذي القعدة 1398 هـ - أكتوبر 1978 م، وقد نقلنا عنه لدقة العرض والتلخيص.

طيلة قرون عديدة وكان مجرد التعبير عن أي روح نقدية إزاء الكتب المقدسة خطيئية لا تغتفر!!. ويقارن المؤلف بين موقف المسلمين من أحاديث الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وموقف المسيحيين من الأناجيل وهي في رأي المؤلف تشبه أحاديث الرسول من حيث أنها مجموعة من الأقوال والأخبار والأفعال لمحمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليست الأناجيل بأكثر من هذا فيما يتعلق بالمسيح، فقد دله البحث أنه كتبت أولى الأحاديث بعد عشرات من السنوات بعد موت محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثلما كتبت الأناجيل بعد سنوات من انصراف المسيح، وإذا كانت السنة النبوية عبارة عن أقوال النبي وأفعاله، فالمؤلف ظن أن السنة أفعال فقط. فقال: «فالأحاديث والأناجيل عبارة عن شهادات بأفعال مضت ... وسنرى أن مؤلفي الأناجيل الأربعة المعترف بها كنيسًا لم يشهدوا الوقائع التي أخبروا بها والأمر نفسه ينطبق على المؤلفات في الأحاديث المشهورة بصحتها» كما يفهم المؤلف. ويقول أيضًا: «وهنا يجب أن تتوقف المقارنة وذلك لأن النقاش إذا كان قد دار وما زال يدور حول صحة هذا الحديث أو ذاك فإن الكنيسة قد حسمت!!! منذ قرونها الأولى وبشكل نهائي بين الأناجيل المتعددة وأعلنت أربعة منها فقط رغم التناقضات العديدة فيما بين هذه الأناجيل في كثير من النقاط. وهناك فرق آخر جوهري بين المسيحية والإسلام فيما يتلعق بالكتب المقدسة، ونعني بذلك فقدان نصوص الوحي الثابت لدى المسيحية في حين أن الإسلام لديه القرآن الذي هو وحي منزل وثابت حقًا». ويضيف الباحث المسيحي: «فالقرآن هو الوحي الذي أنزل على محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن طريق جبريل وقد كتب فور نزوله ويحفظه ويستظهره المؤمنون عند الصلاة خاصة وقد رتب في سور بأمر من محمد نفسه وجمعت هذه السور فور موت النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي خلافة عثمان».

64 - مؤلف التوراة والإنجيل:

«أما الكتاب المسيحي المقدس! فإنه يختلف بشكل بَيِّنٍ عما حدث بالنسبة للقرآن ... فالإنجيل يعتمد على شهادات بشرية متعددة وغير مباشرة، وإننا لا نملك مثلاً أي شهادة لشاهد عيان لحياة عيسى وهذا خلاف لما يتصور الكثير من المسيحيين». 64 - مُؤَلِّفُ التَوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ: ويطرح المؤلف سؤاله التالي: «من هو مؤلف العهد القديم، أي التوراة؟!». ويجيب بأن الكثيرين من قراء العهد القديم سيرددون ما يقرأونه في حقيقة كتابهم العهد القديم: «إن مؤلف كل من هذه الكتب هو الرب برغم أنها كتبت بأقلام بشر». ويشير المؤلف إلى عدة من الدراسات التي أجابت عن هذا السؤال في رؤية شاملة وكاملة ومن هذه الدراسات دراسة أدموند جاكوب التي يقول فيها: «في البدء لم يكن هناك تعدد في النصوص: ففي القرن الثالث قبل الميلاد تقريبًا كان هناك على الأقل ثلاث مدونات للنص العبري للتوراة، وكان هناك النص المحقق والنص الذي استخدم جزئيًا على الأقل في الترجمة اليونانية والنص المعروف بالسامري (أو أسفار موسى الخمسة). ثم بعد ذلك في القرن الأول قبل الميلاد اتجه إلى تدوين نص واحد. ولكن تدوين نص الكتاب المقدس لم يتم إلا في القرن الأول بعد الميلاد ... ». ويقول المؤلف: «لو كانت هذه المدونات الثلاث موجودة الآن لأمكن إقامة المقارنات للوصول ربما إلى رأي عما كان عليه النص الأصلي ولكن يشاء سوء الحظ ألا تكون لدينا أقل فكرة عنه! إن إقدم نص عبري للتوراة يرجع عهده إلى القرن التاسع بعد الميلاد».

ويختم المؤلف إجابته على سؤاله الذي طرحه بقوله: «بهذا تتضح ضخامة ما أضافه الإنسان إلى العهد القديم وبهذا أيضًا يتبين القارئ التحولات التي أصابت نص العهد القديم الأول من نقل إلى نقل آخر ومن ترجمة إلى ترجمة أخرى بكل ما ينجم عن ذلك من تصحيحات جاءت على أكثر من ألفي عام ... ». العَهْدُ الجَدِيدُ ظَنِّيُّ الثُبُوتِ: أما بخصوص الأناجيل وهي الكتب المقدسة المعترف بها من الكنيسة فيقول: «كثيرون من قراء الأناجيل يشعرون بالحرج بل الحيرة عندما يتأملون في معنى بعض الروايات أو عندما يقارنون روايات مختلفة لحدث واحد مروي في كثير من الأناجيل». وينقل الكاتب عن الأب روحي قوله: «في عصور ليست بعيدة تمامًا كانت أغلبية المسيحيين لا تعرف من الأناجيل إلا مقاطع مختارة عند القداس أو المواعظ». كما أن غالبية المسيحيين يعتقدون أن كتاب الأناجيل شهود عيان على حياة المسيح وأنهم بهذا قد أقاموا شهادات لا تقبل الجدل عن الأحداث التي وقعت في حياته!!. وينفي المؤلف نفيًا قاطعًا أن كاتبي الأناجيل كانوا شهودًا فيقول: «هذه الطريقة في تقديم الأمور لا تتفق مطلقًا مع الواقع، لأ، خروج النصوص التي نملكها اليوم إلى النور قد بدأ في عام 70 م بعد تعديلات في المصادر والشكل،

65 - مقارنة القرآن بالكتب المقدسة:

ولا تشكل هذه الأناجيل أولى الوثائق الثابتة في المسيحية». ويقول: «إن الأناجيل التي أصبحت رسمية فيما بعد أي كنسية لم تعرف إلا في عصر متأخر»!!. بالإضافة إلى أنها كتبت كتعبير عن وجهات النظر الخاصة بجامعي التراث الشفهي المنتمي إلى مختلف الجماعات!!. ويقرر المؤلف أن «نتيجة كل هذا هو أننا لم نعد متأكدين مطلقًا من أننا نتلقى كلمة المسيح بقراءة الإنجيل»!!. 65 - مُقَارَنَةُ القُرْآنِ بِالكُتُبِ المُقَدَّسَةِ: أما عن صحة القرآن وتاريخ تحريره فيقول المؤلف: «صحة القرآن لا تقبل الجدل وتعطي النقل مكانة خاصة بين كتب التنزيل ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد» ... والسبب في ذلك أن «القرآن فور تنزيله أولاً بأول كان النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنون من حوله يحفظونه عن ظهر قلب وكان الكتبة من الصحابة يدونونه». الحَقَائِقُ العِلْمِيَّةُ وَالكُتُبُ المُقَدَّسَةُ: وللإجابة على ذات السؤال الأول الذي طرحه المؤلف عن مدى صحة كل من التوراة والإنجيل والقرآن، قام بمقابلة نصوص الكتب المقدسة بحقائق العلوم موضوع تفكير الإنسان في كل العصور ... وكشف عن الكثير من التناقضات والأمور غير المعقولة والتعارضات بين ما جاء في التوراة والإنجيل وبين المعارف اليقينية التي وصلت إليها البشرية اليوم واستدل بذلك على بشرية تلك النصوص «إذ لا يمكن في الحقيقة أن نقبل بأن رسالة ما منزلة تنص على

66 - نحن والأعراب والزعماء:

واقع غير صحيح بالمرة. وبناء على ذلك فليس هناك سوى إمكانية واحدة للتوفيق المعقول بين الأمرين وهي عدم صحة المقطع الذي يقول في التوراة بأمر غيره مقبول علميًا». وفي نفس الوقت يقرر أنه: «لا شيء في القرآن يناقض كل ما نعرف اليوم ولا مكان مطلقًا للخرافة» وذلك أن استعراض أهم ما جاء في القرآن عن الإنسان والكون والحياة. وعن السنة النبوية قال الدكتور موريس بوكاي: «لقد قام الذين جمعوا المصدر الثاني بتحقيقات تتسم دائمًا بالصعوبة، لهذا كان همهم الأول في عملهم العسير مُنْصَبًّا أَوَّلاً على دقة الضبط لهذه المعلومات الخاصة بكل حادثة في حياة النبي وبكل قول من أقواله. وقد نصوا على أسماء الذين نقلوا أقوال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وذلك بالصعود في الإسناد إلى الراوي الأول من أهل بيت النبي أو من صحابته الذين نقلوا هذه المعلومات مباشرة منه نفسه، وذلك بعد الكشف عن حال الراوي والابتعاد عن الرواة غير المشهود لهم بحسن السيرة وصدق الرواية، وهذا ما قد انفرد به علماء الإسلام في كل ما روي عن نبيهم» (¬1). 66 - نَحْنُ وَالأَعْرَابُ وَالزُّعَمَاءُ: إن أمام الأعراب المسلمين من الزعماء أو العلماء أو غيرهم وهم الذين رَدُّوا السنة النبوية كلها أو بعضها أو أضعفوا حجية جانب منها، أمامهم أحد أمرين: الأول: أمامهم سبيل واحد بدونه يصبحون منافقين، هذا الباب هو البحث في السنة وعلومها للوصول إلى صحة الحديث من عدمه، فإن كان ¬

_ (¬1) عن كتابه المذكور: ص 275.

الحديث النبوي صحيحًا فهو ملزم لكل مسلم، ولا يقبل في دنيا العقلاء أن يظل الإنسان على إسلامه وفي الوقت نفسه ينكر بعض السنة النبوية، أو يضعف حجيتها في الحياة العملية. وإن كان الحديث غير صحيح كان لهؤلاء ولغيرهم الحق في رده بل أصبح واجبًا عليهم ذلك مع إذاعة وإشاعة هذا الذي أدركوه عن طريق علوم السنة وليس عن طريق عقولهم أو عقول سادتهم. الثاني: أن يخرج هؤلاء من الإسلام، فلا يوجد فئة من الناس تقبل أن ينتسب شخص إليها وفي الوقت نفسه يطعن في هذه الفئة ولا يعمل بقانونها ونظامها ومن هنا تبادر الجماعات والأحزاب إلى الإعلان عن الأشخاص الذين خرجوا على منهاج هذه الفئة إن لم يعلنوا هم عن هويتهم الجديدة. ولكن البدعة العالمية الجديدة هو أن يصبح الإسلام شرقيًا أو غربيًا وأن يصبح من أنكر هذه البدعة عرضة للتقتيل والسجن أو الاضطهاد، أو أن يصبح في قاموس العلمانية الجديد، أحد أربعة: موتور أو مأجور أو متخلف أو إِمَّعَةٌ. فهل إلى علاج من سبيل؟

الفصل الحادي عشر: السنة والاجتهادات الخاطئة:

الفَصْلُ الحَادِي عَشَرَ: السُنَّةُ وَالاِجْتِهَادَاتُ الخَاطِئَةُ: - الدلالة الظنية بين العلمانيين والقوميين. - موازين القرآن والسنة. - التمحيص الكاذب لاستبعاد السنة. - أحاديث الآحاد والحدود الشرعية.

67 - الدلالة الظنية بين العلمانيين والقوميين:

67 - الدَّلاَلَةُ الظَنِّيَّةِ بَيْنَ العِلْمَانِيِّينَ وَالقَوْمِيِّينَ: يردد الدكتور محمد خلف الله: «أن ما ورد في القرآن غير قطعي الدلالة لا يعمل به إلا إذا جاءت السنة بنص آخر قطعي الدلالة»، ولكنه قد كشف عن هدفه من ذلك بقوله: «ما عدا القرآن فكر بشري نتعامل مه بعقولنا». وهو بهذا يرد السنة النبوية ويدخلها ضمن الفكر البشري لأنه يدين بالعلمانية (¬1). وفي البدعة الثانية يستعيد أحكام القرآن إذا كانت الآية ظنية الدلالة، مثال ذلك آية: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإن القرء لفظ مشترك له معنيان هما الطهر أو الحيض وبالتالي يجوز احتساب عدة المطلقة بثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار، ولكن خلف الله يَدَّعِي أن مثل هذا الحكم لا يعمل به إلا إذا ورد حديث نبوي قطعي الدلالة، بينما جعل الله الألفاظ المشتركة للتيسير وليس لإنكار الحكم الشرعي. ولكن عالمًا آخر هو الأستاذ عصمت سيف الدولة قد آمن بالله ورسوله وكفر بالعلمانية - وظهر ذلك من مقالاته عن العروبة والإسلام - قد أورد اجتهادًا في عبادات عامة لو فهمت على ظاهرها لكانت مرفوضة. أما العبارات التي لو فهمت على ظاهرها لكانت مرفوضة من المسلمين لأنها أمر لا يقبل الخلاف وهو حجية السنة فهي قوله: 1 - «أن شهادة أن لا إله إلا الله تعني على سبيل القطع أنه ليس مقدسًا إلا كلام الله وليس ملزمًا للمسلمين كافة إلا أوامره ونواهيه، كل ما عدا ذلك ليس مقدسًا وغير ملزم للمسلمين إلا إذا حولوه إلى نظام ارتضوه فالتزموه»: 18/ 12 / 1985. فهذه العبارات ظاهرها يؤدي إلى القول أن السنة غير ملزمة فهي على سبيل القطع ليست كلام الله ولكن الله أمرنا أن نلتزم بما جاء فيها من أمر أو نهي ولا يجادل في ذلك أي مسلم. 2 - «كل قاعدة تستند إلى حديث غير متواتر أو تجيء عن طريق تأويل ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في كتاب " الغزو الفكري ": ص 275، وكتاب " الحكم وقضية تكفير المسلم "، الطبعة الثالثة: ص 170.

حديث متواتر هي قاعدة وضعية وليست بيانًا فهي ليست من قواعد النظام العام الإسلامي». فهذه العبارات تؤدي إلى القول أن سنة الآحاد وضعية غير ملزمة، وهذا ما لا يقبله مسلم، فلا يجادل في قوة إلزام سنة الآحاد إلا من يجادل في قوة إلزام السنة كلها، وهذا لا يعد من المسلمين. 3 - «كل قاعدة جاءت بها آيات القرآن المحكمة أي القطعية الدلالة أو حديث متواتر قطعي الدلالة، هي قاعدة ملزمة ولا يجوز مخالفتها أو الاتفاق على مخالفتها». وكل ما عدا هذا مما يقال أنه من مصادر الشريعة الإسلامية هو من عند البشر، فهو موضوع وكل ما جاء من قواعد بناء عليه جاء بها البشر فهي موضوعة والاستنباط موضوع، والقياس موضوع، والاستحسان موضوع، والاستصحاب موضوع والإجماع موضوع ... فهذه العبارات بهذا العموم تفيد: أ - أن السنة النبوية لا تلزم إلا إذا كانت متواترة وقطعية الدلالة معًا. ب - أن الأحكام المستمدة من آيات قرآنية غير محكمة أحكام وضعية أي من عند البشر، ولا تلزم المسلم. ويرى أن المسلم لا يلتزم بما كان مصدره سنة الآحاد أو الآيات القرآنية ظنية الدلالة إلا إذا قبل ذلك وفي حدود ما يقبله. وهذا يؤدي إلى عدم الالتزام بما كان مصدره سنة الآحاد مثل: 1 - المحرمات من الرضاع والنسب: فالقرآن الكريم نص على المحرمات بسبب الرضاع في قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، والحديث النبوي فصل ذلك فقال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» فزاد بذلك محرمات أخريات مثل: أم زوج المرضعة، وبنات أبناء المرضعة، وبنات بناتها، والقرآن الكريم حَرَّمَ الجمع بين الأختين في قول الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23].

والسنة النبوية في تفصيل هذا التحريم روى " البخاري " و" مسلم ": أَنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا»، ولئن أخذنا بعموم هذه الأقوال والعبادات لكانت هذه المحرمات مرهونة بقبول المسلم لأنها في نظره من وضع الفقهاء الذين قالوا بها. 2 - العبادات: وبهذه القاعدة البشرية فأحكام الطهارة والنجاسات والصلاة والصوم والزكاة والحج مما كان مصدره أحاديث آحاد كل ذلك وهو الكثرة الغالبة من الأحكام يصبح من صنع البشر ولا يلزم المسلم إلا إذا قبله. 3 - المعاملات: وبهذه القاعدة البشرية تكون أحكام المعاملات من بيع وشراء وإجارة وأحكام الزواج والطلاق والمحرم من الطعام والشراب يصبح كل ذلك من وضع البشر لو كان مصدره سنة الآحاد. فمثل هذا اللفظ لا يدل على المراد منه بنفس الكلمة بل يفهم من دلالة خارجة. إن هذا النص يدل على أكثر من معنى ولكن هذا لا يعني أن الحكم المستفاد منه قول بشري غير ملزم حيث توجد قواعد لذلك نعرفها جميعًا ومنها: 1 - أن الأصل في النص الظاهر أنه يدل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي ولكن المراد منه ليس هو المقصود من البيان ومن ثم يحتمل التأويل من هذا الوجه كقول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. فالظاهر هو إباحة زواج ما حل من النساء ولكن هذا المعنى غير مقصود أصالة سياق الآية ولكن المقصود أصالة هو الزواج بواحدة وإباحة تعدد الزوجات إلى أربع عند القدرة وتحقيق العدالة.

2 - وقد يدل اللفظ على ما سيق له مما يزيده وضوحًا على الظاهر مثل قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، فالنص في اللغة هو توضيح الشيء وتبيينه لهذا إذا تعارض الظاهر مع النص يقدم النص ويرجح على الظاهر ومن ثم يرجح الخاص على العام عند التعارض لأن الخاص هو المقصود أصالة بالحكم. 3 - قد يكون اللفظ مفسرًا وهو ما دل بنفسه على معناه المفصل بحيث لا يبقى معه احتمال كقول الله في عقوبة القذف: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، ولهذا إذا تعارض النص مع المفسر يرجح المفسر. 4 - ويكون اللفظ خفيًا أي تدل صفته على المراد منه بوضوح ولكن في تطبيقه يوجد خفاء في بعض أفراده، ويزول هذا الخفاء عن طريق المباحث اللغوية والقرائن مثل لفظ «السارق» فهو واضح الدلالة ولكن يعرض لبعض من يشملهم هذا اللفظ مثل النشال الذي يسرق الجيوب خفية والنباش الذي يسرق الكفن من القبر. فتوصل العلماء بدخول النشال في عداد السارقين في حكم القرآن الكريم لأن اسمه دل على نوع خاص من السرقة ولا يمنع فهو يسرق في غفلة من الأعين الساهرة والآخر يسرق في غفلة من الأعين النائمة، أما النباش فلا يدخل في حد السرقة لأنه يسرق ما ليس له صاحب. 5 - والمجمل: لفظ لا يدل بصيغته على المراد منه ولا توجد قرائن تبينه والسنة النبوية جاءت لتبين ذلك فعلاً، فلا يقال إن الحكم المستخلص من هذا اللفظ من وضع البشر، فقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، لفظ الصدقة فيه مجمل ولكن دلت القرائن على أنه قد أريد به زكاة المال حسبما فصلتها السنة النبوية، فوجب العمل بذلك ولا يقال: إن هذا التفصيل حكم بشري غير ملزم وكذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267]. الإجمال هنا في لفظ «أَخْرَجْنَا» فلم يبين المقدار وجاءت السنة النبوية وفصلت ذلك في قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ [بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ]» (فيما سقي بدلو أو راشية (*) ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) لم يرد نص حديث بهذا اللفظ، وما وضعته ما بين ( .... ) تفسير من المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - لنص الحديث الذي أثبته ما بين [ .... ] كما ورد في كتب الحديث.

نصف العشر). وقوله: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ [صَدَقَةٌ] مِنْ حَبٍّ وَلاَ تَمْرٍ» (*). 6 - أما اللفظ المشترك «مثل القرء وعين» لا يقال إنه يشمل جميع المعاني فتشمل العين حاسة الرؤية وعين الماء وعين الركبة وعين الجاسوس وعين الشمس بل يصبح هذا اللفظ المشترك موقوفًا على بيان المعنى المقصود بالقرائن أو سياق الكلام. • بَيْنَ القُرْآنِ وَالسُنَّةِ: إن آيات القرآن تشتمل على ألفاظ تحتاج إلى بيان وأن بيانها يجيء في السنة وأكثرها آحاد وكل ما ثبت من الأحكام عن طريق السنة النبوية المتواتر منها، والآحاد هو وحي من الله ولا يمكن بحال من الأحوال أن يقال: إن سنة الآحاد غير ثابتة وبالتالي فالحكم المأخوذ منها وضع بشري أو يقال: إن قطعي الدلالة من المتواتر هو الملزم وما عداه غير مرفوض، فلا يقبل من أحد أن يقول بوجوب الصلاة على الحائض بدعوى أن رفع هذا التكليف جاء عن طريق السنة النبوية التي أمرت الحائض بقضاء الصوم ولم تأمرها بقضاء الصلاة. فقد جعل النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر الآحاد حجة في أمور الدين فأرسل آحَادًا يبلغون أحكام الإسلام إلى الآخرين (¬1). ¬

_ (¬1) نشر بـ " الوطن " يوم الجمعة 14/ 3 / 1986 م. وتفصيل حجية الحديث النبوي بالفصل الرابع. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) الحديث ورد قريبا من هذه الصغية في " سنن الدارمي ". انظر: الدارمي: " السنن "، تحقيق الدكتور مصطفى ديب البغا، (3) كتاب الزكاة (11) باب ما لا يجب فيه الصدقة من الحبوب والورق والذهب، حديث رقم 1591، 1/ 412، الطبعة الأولى: 1412 هـ - 1991 م، نشر دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق. سوريا. وانظر أيضًا الدارمي: " السنن "، بتحقيق سليم أسد الداراني: 2/ 1017 حديث رقم 1673، الطبعة الأولى: 1412 هـ - 2000 م، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية.

68 - حول " موازين القرآن والسنة ":

68 - حَوْلَ " مَوَازِينِ القُرْآنِ وَالسُنَّةِ ": لقد ادعى أحد الكُتَّابِ أنه أثناء إعداده كتابًا في الأحاديث النبوية، اكتشف أن " صحيح البخاري " يحتوي على أحاديث ضعيفة وموضوعة، وطالب بإشهار ضعفها وبطلانها لأن عدم الإشارة إليها وفرزها عن الأحاديث الصحيحة سيكون في مصلحة أعداء السُنَّةِ من أدعياء المسلمين أو من بعض المستشرقين، ولأن السكوت على ذلك سيؤدي إلى فتح الباب على مصراعيه للشك في كل الأحاديث النبوية ولا سيما إذا قاموا بتفنيدها وبيان تعارضها مع آيات القرآن الكريم ومع العقل والمنطق السليم (¬1). ثم رتب الكاتب على هذه المقدمة أن يعرض الأحاديث النبوية على القرآن الكريم فقد علمنا كيف نقبل الخبر الصحيح ونرد الخبر الكاذب، ومن موازين القرآن للتمييز بين البريء والمذنب الاستناد إلى الأدلة العقلية والمنطقية في نظره. وبهذه الموازين التي وضعها الكاتب ادعى بوجود أحاديث مكذوبة في " البخاري " و" مسلم " أشهرها في زعمه ما يتعلق بالقيامة وخلق الأرض. استدل الكاتب على ذلك بما رواه " مسلم " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى غُلاَمٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، فَقَالَ: «إِنْ عُمِّرَ هَذَا، لَمْ يُدْرِكْهُ الهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: ذَاكَ الغُلاَمُ مِنْ أَتْرَابِي يَوْمَئِذٍ. ثم نقل الكاتب قول النبي في " صحيح مسلم " لمن سأله عن الساعة: «إِنْ يَعِشْ هَذَا، لَمْ يُدْرِكْهُ الهَرَمُ، قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ». ثم قال الكاتب: «ويظهر أن القيامة قد قامت منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام ونحن لا ندري؟» أم أن الغلام ما زال على قيد الحياة حتى الساعة. هذا الكاتب لم يكلف نفسه عبء البحث في كُتُبِ السُنَّةِ عن معنى الحديث قبل أن يزعم أنه موضوع وأن البخاري ومسلم قد جمعا في " صحيحيهما " أحاديث مكذوبة على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقد قال الحافظ ابن كثير في كتابه " [البداية والنهاية]: ص 31 في [كتاب] الفتن والملاحم ¬

_ (¬1) هذه مقولة عز الدين بليق في كتابه " موازين القرآن والسنة للأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة: ص 79.

إِنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنِ السَّاعَةِ، فَنَظَرَ إِلَى غُلاَمٍ فَقَالَ: " لَنْ يُدْرِكَ هَذَا الهَرَمُ حَتَّى تَأْتِيَكُمْ سَاعَتُكُمْ "» (¬1). وقال ابن كثير: «وَالمُرَادُ: انْخِرَامُ قَرْنِهِمْ، وَدُخُولُهُمْ فِي عَالَمِ الآخِرَةِ، [فَإِنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الآخِرَةِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ]». ثم قال: «وَ [هَذَا] الكَلاَمُ بِهَذَا المَعْنَى صَحِيحٌ ... فَأَمَّا السَّاعَةُ العُظْمَى وَهُوَ اجْتِمَاعُ الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَهَذَا مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ [وَقْتِهِ]». وفي " شرح النووي ": جـ 18 ص 90 لهذا الحديث: «قَالَ القَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلُّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَعْنَى الأَوَّلِ - وهو حديث عائشة - وَالمُرَادُ بِسَاعَتِكُمْ مَوْتِهِمْ وَمَعْنَاهُ يَمُوتُ ذَلِكَ القَرْنُ أَوْ أُولَئِكَ المُخَاطَبُونَ». قال النووي: «وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الغُلاَمَ لاَ يَبْلُغُ الهَرَمَ وَلاَ يُعَمِّرْ». وفي " فتح الباري شرح صحيح البخاري ": ص 533 باب 95: ما يفيد أنه خاص بالمخاطبين لهذا فإن ابن حجر يؤيد القاضي عياض في أن المراد ساعتهم. وبمثل هذا المنطق جاء آخر ونقل حديث " البخاري " عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ». ولقد ادعى الناقد: «أن البخاري على جليل قدره ودقيق بحثه، [يثبت] أحاديث [دَلَّتْ] الحوادث الزمنية والمشاهدة التجريبية على أنها غير صحيحة» (¬2) (*). وهذا الكاتب لو اطلع على الرواية الكاملة لهذا الحديث في " البخاري " في باب السمر بعد صلاة العشاء من كتاب الصلاة لعلم أن هذه الرواية فيها قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ، لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ». وقد أورد ابن حجر في كتاب " الإصابة في تمييز الصحابة ": ج 1 ص 5 أن العلماء ¬

_ (¬1) الحديث ورد في كتاب الرقائق، المجلد 11 ص 362، ورواه أحمد بصفحات: 392، 213، 228، 270 ج 3. (¬2) عن كتاب " ضحى الإسلام " للأستاذ أحمد أمين: ص 217. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) قارن بما ورد في الصفحة 279 من هذا الكتاب (قول أحمد أمين حول " صحيح البخاري " في كتابه " ضحى الإسلام ").

قد تقصوا من كان آخر الصحابة مَوْتًا فتبين أنه عامر بن واثلة الذي مات سَنَةَ مائة وعشرة هجرية. وقد قال الإمام ابن قتيبة في كتابه " تأويل مختلف الحديث ": ص 67: أن الحديث قد أسقط الرواة منه حرفًا أي كلمة وهي (مِنْكُمْ) فيكون النص: «لاَ يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ مِنْكُمْ بَعْدَ مِائَةِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ». والحقيقة أن هذا التأويل لا ضرورة له، فالرواية الكاملة للحديث في " البخاري " فيها: «لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ». كما أن رواية جابر للحديث في " صحيح مسلم " هي: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ اليَوْمَ، تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ، وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ» فاليوم بمعنى منكم. لهذا قال الإمام النووي: هذه الأحاديث يفسر بعضها بعضًا وفيها علم من علوم النبوة. ولكن الكاتب المسلم قد بلغت به الجرأة للحكم على الحديث بالوضع وعلى رواته بالكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى " البخاري " بعدم الدقة في البحث. وكل هؤلاء قد افترى عليهم هذا الكاتب وتعلل بضرورة مطابقة الحديث للعقل والمنطق وادعى أنه يخالف القرآن، وقد ابتدع موازين للحكم على الحديث أهمها ألا يخالف العقل وآخرها ألا يخالف القرآن، وهو يعلم أو يجب أن يعلم أن النبي يقول: «إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»، فالحديث مبين للقرآن بوحي من الله. أما العقل الذي يريد الكاتب أن يجعله حاكمًا على الأحاديث النبوية، فوسيلته في المعرفة هي الحواس الخمس أو المعلومات السابقة والأحاديث النبوية لا تقضي أمورًا تخضع للحواس الخمس، أو لمعلومات الإنسان السابقة فأكثرها أحكام من الله تعالى عن الحلال والحرام أو الجنة أو النار أو الإخبار عن شيء لا يتصل بمعرفة الإنسان، وبالتالي لا يختص العقل بالحكم على هذه الأحاديث بالصحة أو البطلان لأنها تخرج عن اختصاص العقل، فقد ظن بعض الناس تعارض القرآن مع بعض النظريات العلمية وبعد ذلك تغيرت النظريات وكشف العلم صدق ما ورد في القرآن الكريم. الحديث والنص القرآني كلاهما من عند الله ويخرجان من مشكاة واحدة، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

69 - التمحيص الكاذب واستبعاد السنة:

69 - التَّمْحِيصُ الكَاذِبُ وَاسْتِبْعَادِ السُنَّةِ: يحاول بعض الكُتَّابِ أن يتصف بالاجتهاد والتجديد دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتمحيص لمعرفة ما يقبل الاجتهاد وما لا يقبله ومعرفة ما يدخل في اختصاص العقل وما يخرج عن هذا الاختصاص. ولقد ظن هؤلاء النقاد وهو قلة قليلة أن بعض الأحاديث النبوية تتعارض مع القرآن الكريم فراحوا يؤلفون الكتب ويتظاهرون بالحرص على السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ ويتمثل هذا الحرص في استبعادهم الكثير من الأحاديث الصحيحة بدعوى تعارضها مع القرآن الكريم وتجاهلوا أن الأحاديث النبوية تخصص عموم القرآن. وتقيد مطلقه وبالتالي فما تضمنته من تفصيل لا يعد متعارضًا مع القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. لقد تبنى هذه البدعة كتاب " موازين القرآن والسنة للأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة " (¬1) ... ومما ورد في هذا الكتاب: أن ابن كثير روى (¬2) في الجزء الأول من " تفسيره " عن قول الله تعالى في بني إسرائيل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]. قال المؤلف: أورد ابن كثير في تفسير هذه الآية الحديث التالي: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْيَوْمِ تَقْتُلُ ثَلاَثَمِائَةِ نَبِيٍّ، ثُمَّ يُقِيمُونَ سُوقَ بَقْلِهِمْ فِي آخِرِ النَّهَارِ». ثم يقول المؤلف: «ومن المعلوم أن القرآن الكريم ذكر بأن لكل أمة رسول، قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس: 47]. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} (*) [النحل: 36]».، ويعلق على هذه الآيات بقوله: «ليس من المعقول أن يرسل الله هذا الحشد الهائل من الأنبياء إلى قوم من الناس، ثم يقوم هؤلاء القوم بقتلهم كل يوم ثم يرسل الله لهم في اليوم التالي ثلاثمائة نبي آخر فلا يأتي آخر النهار إلا ويكون بنو إسرائيل قد نجحوا بإلقاء القبض عليهم ثم قتلهم ودفنهم». ويقول ¬

_ (¬1) مؤلفه عز الدين بليق، انظر ص 69 وما بعدها. (¬2) " مختصر تفسير ابن كثير ": ج 3 ص 257. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد خطأ في الطباعة (يونس / 467 - النحل / 36)، والصواب ما أثبته [سورة النحل، الآية: 36].

المؤلف: «لو افترضنا أن الله كان يرسل لكل قرية نبي فهل من المعقول أن ينجح بنو إسرائيل في اليوم الواحد بإلقاء القبض على ثلاثمائة نبي من ثلاثمائة قرية ثم قتلهم ودفنهم؟». ولقد غاب عن هذا الكاتب أن ابن كثير لم يذكر حرفًا واحدًا يشير إلى أن هذا حديث عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد أسند القول إلى عبد الله بن مسعود نقلاً عن أبي داود (*) فكيف يجرؤ الكاتب أن ينسب هذا القول للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ليس حديثًا نبويًا، بل حكاية عن أحد الصحابة وهي ليست وحيًا من الله تعالى، كما أنها خبر لم يذكر فيه سلسلة الرواة حتى يتم البحث في مدى عدالة الرواة الذين أسندوا ذلك إلى الصحابة، ولو رجع الكاتب إلى فقه الحديث النبوي لاستراح وأراح. ومن ناحية أخرى فإن تقرير القرآن {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس: 47]، ليس معناه نفي وجود أنبياء كثيرين بجانب الرسول في كل أمة من الأمم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]. فهذا يفيد أنه من حلال رسالة رسول الله موسى أرسل الله أنبياء تابعين لهذا الرسول وهذه الرسالة كما أنه لا يوجد ما يمنع من وجود ثلاثمائة نبي أو يزيد لأمة واحدة إذا كانوا مجموعات متفرقة لكل منهم نبي كبني إسرائيل، فقد أرسل الله لهم رسولاً واحدًا ثم أرسل لهم أنبياء كثيرين ولا يوجد ما يمنع من قيام بني إسرائيل بقتل هؤلاء الأنبياء حتى لو كانوا ثلاثمائة لأن كل مجموعة أو بلدة تقتل نبيها مع التأكيد على أن الرواية التي نقلها ليست عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناقد يعلم أنها منسوبة إلى ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. كما أنه لم يثبت أن هذه الأقاويل صحيحة في نسبتها إلى الصحابي. والمثل الأخير الذي ساقه المؤلف الناقد هو أن الإمام مسلم قد روى حديثًا فيه: «خَلَقَ اللهُ [عَزَّ وَجَلَّ] التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ [فِيهَا الْجِبَالَ] يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَعْدَ [العَصْرِ مِنْ] يَوْمِ الجُمُعَةِ ... » ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) أبو داود الطيالسي، والحديث غير موجود في " المسند ". انظر " تفسير ابن كثير " تحقيق سامي بن محمد سلامة: 1/ 283، الطبعة الثانية: 1420 هـ - 1999 م، نشر دار طيبة للنشر والتوزيع.

ولقد علق المؤلف الناقد على الحديث فقال: «إنه يعرض هذا الحديث النبوي على القرآن الكريم وحدث أنه يتعارض معه جملة وتفصيلاً لأن الله تعالى ذكر في كتابه الكريم أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام بينما نجد أن الحديث النبوي يذكر الأيام الستة في خلق الأرض فقط، فمن خلق السماوات؟»، ثم يقول المؤلف: «إن القرآن يذكر أن خلق الأرض في يومين، والحديث النبوي ذكر أن خلق الأرض في يوم واحد». والمؤلف بهذا يتجاهل أن الحديث النبوي ليس خاصًا بخلق الأرض بل بخلق التربة ففيه خلق الله التربة يوم السبت ثم يتناول ما خلقه الله بالكرة الأرضية من التربة والجبال والشجر والمكروه والنور. والمؤلف لا يجهل أن الحديث النبوي فيه خلق الله التربة يوم السبت وليس فيها أن خلق الأرض يوم السبت. والمؤلف لا يجهل أن التربة غير الأرض، ولا يجهل أن الأيام الستة الواردة في الحديث النبوي لا تتعلق بخلق الأرض والسماوات حتى يزعم بوجود تعارض بين ما ورد بالقرآن الكريم وما ورد بالحديث النبوي عن خلق الأرض. وخلاصة القول في ذلك أن الكاتب ظن أن الحديث يتعارض مع القرآن وَادَّعَى أن موازين القرآن الكريم تقضي برد هذا الحديث وتحكم أنه ليس صحيحًا، لأن الحديث النبوي مع النص القرآني كلاهما من عند الله ويخرجان من مشكاة واحدة، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. والشبهة التي يستند إليها في ادعاء التعارض سببها أنه ظن أن الحديث يذكر أن خلق الأرض يوم السبت أي في يوم واحد بينما القرآن الكريم ينص على أن الله خلق الأرض في يومين. ولكن الحديث النبوي نص على خلق التربة وهي مواد من أديم الأرض، فلم يذكر خلق الأرض. والشبهة الثانية أن الكاتب ظن أن الحديث النبوي عندما ذكر خلق التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد والشجر يوم الاثنين

والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الإربعاء والدواب يوم الخميس يكون قد خالف القرآن في تفصيله للأيام الستة الواردة فيه في قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9 - 12]. فهذه الآيات القرآنية تبين أن الله خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي وقدر أقواتها في يومين آخرين فتلك أربعة أيام، وخلق السماوات السبع في يومين. ولكن هذه الأيام الستة ليست هي التي فصلها الحديث النبوي فهو لم يذكر خلق السماوات ولا خلق الأرض حيث ورد ذلك في القرآن الكريم بل ذكر خلق التربة والجبال والشجر والدواب وغير ذلك مما تم بعد خلق الأرض والسماوات ولا تعارض بين هذا التفصيل وبين ما ورد في القرآن الكريم ولا يوجد أيضًا أي تعارض لو كان خلق هذه الأشياء خلال الأيام الستة التي خلق الله فيها الأرض والسماوات. ولقد أورد ابن كثير (1) ما ذكره " البخاري " «عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي القُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ» وذكر قول الله تعالى: وَقَالَ: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27]-إِلَى قَوْلِهِ: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الأَرْضِ، [ثُمَّ قَالَ]: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] إلى قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11]. فذكر في هذه الأرض قبل السماء، فقال ابن عباس: إن الآيات تفيد أن الله خلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما

بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله تعالى: {دَحَاهَا} [النازعات: 30]، ثم قال ابن عباس: «فلا يختلفن عليك القرآن، فإن كلا من عند الله تعالى». وأخيرًا يدعي الناقد أن الحديث النبوي ذكر خلق التربة يوم السبت بينما يعلم الجميع أن اليوم هو حصيلة دوران الأرض حول محورها دورة كاملة بالنسبة للشمس، وقبل أن يخلق الله الأرض والشمس وتدور الأرض حول محورها لم يكن هناك سبت ولا أحد، لهذا فالحديث النبوي في نظره غير صحيح (¬2). ولقد غاب عن الناقد أن الحديث النبوي يشير إلى خلق التربة وهي غير خلق الأرض كما ذكرت، فقد أشار الحديث إلى خلق التربة، خلق الجبال والشجر وغير ذلك مما يوجد على الأرض ولا تناقض بين ذلك وبين ما ورد في القرآن الكريم عن خلق الأرض، كما غاب عنه أن الله الخالق يعلم الأيام والشهور وأسماءها، قبل خلقها، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. والكاتب يعلم أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال ذلك إلا بوحي من الله تعالى الذي قال في ذلك: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. ذلك أن السنة والقرآن ينبعان من مشكاة واحدة وبهذا قال النبي فيما رواه الترمذي وابن ماجه: «إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»، كما قال فيما رواه الطبراني في " الأوسط " (*): «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ مَا أُمِرْتُ بِهِ فَعَلْتُ» {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] (¬3). ¬

_ (¬2) عز الدين بليق في كتابه " موازين القرآن والسنة ": ص 69 - 75. (¬3) " الحاوي للفتاوى " للإمام جلال الدين السيوطي: ص 65. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع (رواه الطبراني في " الأوسط ") والصواب أنه رواه في " الكبير ". انظر: الطبراني " المعجم الكبير "، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي: 12/ 147، حديث رقم 12722، الطبعة الثانية، دار النشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة.

70 - " المسلم الحزين في القرن العشرين ":

70 - " المُسْلِمُ الحَزِينُ فِي القَرْنِ العِشْرِينْ ": إن بعض الكُتَّابِ قد اتجه إلى الشريعة الإسلامية، ليجدد فيها وينتقد فقهاءها دون أن يكون له رصيد من الدراسات الإسلامية المتخصصة، وبالتالي اتبع السبل العلمانية فتفرقت به عن سبيل الله. ولعل أحدث هذه الاجتهادات الشاذة ما كتبه أحدهم من أنه قد شاع بين الناس حديث رواه " النسائي " بلفظ: « ... وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ». ويعلق الكاتب على الحديث بقوله: «فكان كلما اطلع عليه أحد من الفقهاء برأي قالوا له: (أهو شيء سمعته عن رسول الله؟ أم هو رأي رأيته؟) فأدرك الفقهاء أنه ما من فرصة أمام الرأي ليصادف القبول لدى الجمهور المؤمنين، ما لم يستند إلى سنة متواترة». ثم يقول الكاتب: «ومن ثم لجأ الفقهاء والعلماء إلى تأييد كل رأي يرونه صالحًا ومرغوبًا فيه، بحديث يرفعونه إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان شأنهم في ذلك شأن أولئك الذين وضعوا " سفر تثنية الاشتراع " من التوراة ثم نسبوه إلى موسى، كي يسبغوا عليه الثقة ثم يقول: لقد أصبح هذا المسلك من الأمور اليسيرة نسبيًا بعد انقضاء جيل الصحاب الذين كان بوسعهم وحدهم أن ينفوا أن يكون الرسول قد تحدث بهذا الحديث أو ذاك». ثم يقول الكاتب: «وقد هدأ من روع الفقهاء وطمأن ضمائرهم إذ يتقولون على النبي، اعتقادهم أنهم يخدمون بذلك دين الإسلام» (¬1). هذه الأقوال تفيد ما يأتي: أولاً: أن النسائي قد نسب هذا الحديث إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يصدقه الفقهاء وكانوا ¬

_ (¬1) كتاب " دليل المسلم الحزين " للطالب حسين أحمد أمين: ص 45، طبعة 1403 هـ - 1983 م.

يسألونه: هل هو رأي له أم هو حديث سمعه من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبهذا يثبت الكاتب المجتهد أنه قد جهل الآتي: 1 - أن النسائي قد ولد بعد وفاة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمائتي عام، فكيف يسأله الفقهاء هل سمع الحديث من النبي أم هو رأي له. 2 - أن الحديث قد رواه " النسائي " و" البخاري " و" مسلم " (¬2)، ولم يطعن أحد من علماء الحديث في أحد من رواة هذا الحديث، كما لا يوجد أي غرابة في لفظ الحديث أو معناه. 3 - أن محدثات الأمور التي تعد من البدعة هي اختراع في أمور الدين ولا صلة له بأمور الدنيا، ففيها قال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في " صحيح مسلم ": «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ» (*)، وقد شرح الإمام الشاطبي البدع وأنواعها في كتابه " الاعتصام " المكون من جزئين كبيرين فأوضح أن المبتدع في الدين جعل نفسه كالمضاهي لله في شرائعه ففتح أبوابًا للشقاق والخلاف ورد قصد الشارع في الإنفراد بالتشريع (¬3). ثانيًا: أن الكاتب اختلق أقوالاً نسبها إلى الفقهاء وهي مناقشتهم للنسائي في أمر الحديث وقولهم: إن الحديث النبوي لا يقبل لدى جمهور المسلمين إلا إذا كان متواترًا، ولقد تجاهل الكاتب أن أبسط قواعد الأمانة أن يُعَيِّنَ أسماء الفقهاء الذين نسب إليهم هذه الأقاويل وأن يذكر المصدر العلمي الذي نقل منه ذلك. ولكنه لم يفعل لأن هذه الأقوال من نسخ خياله. ثم زعم أن السنة النبوية لا يعمل بها إلا إذا رويت بطريق التواتر ونسب ذلك إلى الفقهاء ظُلْمًا وَزُورًا. ولقد أوضح الإمام الشاطبي أن من قال ذلك فقد ابتدع أصلاً في الدين، لأن عامة التكاليف الشرعية مبنية على أحاديث الآحاد (¬4). ¬

_ (¬2) " التاج الجامع للأصول ": ج 1 ص 44، و" مختصر صحيح مسلم ": ج1 الحديث 410. (¬3) و (¬4) " الاعتصام " للشاطبي: ج 1 ص 51 و 109. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) مسلم، " الجامع الصحيح "، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: (43) كِتَابُ الفَضَائِلِ (38) بَابُ وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ شَرْعًا، دُونَ مَا ذَكَرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا، عَلَى سَبِيلِ الرَّأْيِ، حديث رقم 141، 4/ 1836، الطبعة الثانية: 1972 م، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان.

ثالثًا: لقد افترى هذا الكاتب وكذب على الفقهاء بأن ادعى أنه أيدوا كل رأي لهم بحديث نسبوه إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذِبًا وَزُورًا ويبدو أن الكاتب يجهل أن السنة النبوية قد دونت ومحصت تمحيصًا دقيقًا وذلك منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يكذب على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنسبة قول إليه ليؤيد به رأيه، وبهذا لم يستطع الكاتب أن يذكر حديثًا واحدًا من تلك التي زعم أنها مكذوبة. رابعًا: يزعم الكاتب أن الفقهاء قد اطمأنت ضمائرهم باختلاقهم أحاديث ونسبتها إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعتقادهم أنهم يخدومون دين الإسلام، وهذا الادعاء لا يجرؤ أن يقول به شياطين الجن أنفسهم. [إنهم] يعلمون أن السنة قد دونت وحفظت وأنه لا يستطيع أحد أن ينسب إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولاً كاذبًا حتى يسهل كشف هذا الكذب والحكم على هذا المدعي بالافتراء وإخراجه من زمرة العلماء العدول وكفره إذا أحل وحرم. ولو كان الكاتب قد اطلع على الأحاديث المتواترة وهي تعد على أصابع اليدين لعلم قول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»، وعندئذٍ يستحي أن ينسب إلى الفقهاء الكذب على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. خامسًا: يزعم الكاتب أن الصحابة وحدهم هم الذين كانوا يستطيعون إثبات صحة الحديث أو نفي صدوره عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا يدل على أن الكاتب المجتهد لا يعلم شيئًا عن تدوين الحديث النبوي، فقد كانت السنة محفوظة في صدور صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم نقلوها إلى من بعدهم من التابعين فضلاً عن أن عصر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخْلُ من الكتابة. ثم شاع تدوين السنة في عصر التابعين حتى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز أرسل إلى والي المدينة أبي بكر بن حزم وإلى ولاة الأقاليم طالبًا تدوين السنة النبوية وقد تولى الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري جمع وتدوين ما في المدينة من سنة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم شاع تدوين السنة في القرن الثاني للهجرة على يد ابن جريج (150 هـ) وابن

إسحاق (151 هـ) بمكة، وسعيد بن أبي عروبة (156 هـ) والربيع بن صبيح (160 هـ) والإمام مالك (179 هـ) بالمدينة وبالبصرة حماد بن سلمة (167 هـ)، وبالكوفة سفيان الثوري (161 هـ)، وبالشام أبو عمرو [الأوزاعي] (157 هـ)، وكذا بواسط هُشَيْمٌ (173 هـ)، وفي خراسان عبد الله بن المبارك (181 هـ)، وباليمن معمر (154 هـ)، وبالري جرير بن عبد الحميد (188 هـ)، وكذا سفيان بن عيينة (198 هـ)، والليث بن سعد (175 هـ)، وشعبة بن الحجاج (160 هـ). ثم كان عصر التمحيص والتحقيق وهو القرن الثالث للهجرة، فكان البخاري (256 هـ) ومسلم (261 هـ) وأبو داود (275 هـ) والنسائي (303 هـ) والترمذي (275 هـ) وابن ماجه (273 هـ) وغيرهم (¬5). ¬

_ (¬5) " المدخل لدراسة القرآن والسنة " للدكتور شعبان إسماعيل: ج 1 ص 131.

71 - أحاديث الآحاد والحدود الشرعية:

71 - أَحَادِيثُ الآحَادِ وَالحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ: تطوع الشيخ الدكتور محمد سعاد جلال فنشر بجريدة " الوطن " مقالاً يوم 10/ 9 / 1982 م وبوصفه من المجتهدين كما قال عن نفسه، قدم سَنَدًا للمرجفين الذين عارضوا الحدود الشرعية ولا سيما حد الرجم في جريمة الزنا فقال: «إن أخبار الآحاد دليل فيه شبهة فلا يثبت بها الحد كما لا يثبت بالقياس لمكان الشبهة فيه لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهو القول المعتمد في مذهب الأحناف، وإليه ذهب فخر الإسلام البزدوي، وشمس الأئمة السرخسي وهما المؤسسان لأصول الحنفية وهو ما نذهب إليه». والجواب على ذلك: إن قاعدة درء الحدود بالشبهات تتعلق بالشبهات التي تحول دون تطبيق الحد ولا تتصل بذات الحد من حيث أنه حكم شرعي. فالشبهة في حد السرقة تمنع قطع اليد إن كان السارق شريكًا في المال المسروق أو كانت شروط إقامة الحد غير متوفرة، ولا يقال حينئذٍ أن ذات الحد فيه شبهة. والأحناف وغيرهم يقولون بعدم وجوب حد الرجم ولا يطبقون على هذا الحد قاعدة «ادْرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ». وشيخنا في رده الأول المنشور يوم 27/ 8 / 1982 م قد ذكر أن حكم الرجم هو الرأي المشهور وعليه عمل الناس حتى اليوم وهو المقرر في المذاهب الفقهية. وعلى ذلك فلا يقال إن الأحناف لا يأخذون بحكم الرجم أو أنهم يرون أن الشبهة قد تمكنت منه فلا يقام هذا الحد. وكتب الأحناف بين أيدينا تشهد بذلك. ففي كتاب " بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع " للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، الطبعة الأولى (*): ج 7 ص 33. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع (الطبعة الأولى: 910 ج 7 ص 33). وهو خطأ في الطباعة (910) ولتصحيح الخطأ انظر: " بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع " للكاساني: 7/ 33، الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م، نشر دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان.

يقول: «وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَنَوْعَانِ: جَلْدٌ، وَرَجْمٌ، وَسَبَبُ [وُجُوبِ] كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الشَّرْطِ، وَهُوَ الإِحْصَانُ، فَالإِحْصَانُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الجَلْدِ» ... «وَأَمَّا الإِحْصَانُ، فَالإِحْصَانُ نَوْعَانِ: إحْصَانُ الرَّجْمِ، وَإِحْصَانُ الْقَذْفِ. أَمَّا إحْصَانُ الرَّجْمِ فَهُوَ عِبَارَةٌ - فِي الشَّرْعِ - عَنْ اجْتِمَاعِ صِفَاتٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ: العَقْلُ وَالبُلُوغُ وَالحُرِّيَّةُ وَالإِسْلاَمُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَكَوْنُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ» ص 38، ص 39. وفي كتاب " شرح فتح القدير " للإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن الهُمَامِ: ج 5 ص 60 قال: «(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ) أَجْمَعَ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِغَائِبَةٍ يُحَدُّ الرَّجُلُ بِإِجْمَاعِهِمْ لِحَدِيثِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِغَائِبَةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ [وَرَحِمَهُ] (*) - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ -». وقال شيخنا: «قد نبه بعض العلماء إلى ضعف أدلة أصحاب المذاهب التقليدية في أصل هذه المسألة وأقر بأن الأحاديث الواردة في إثبات حكم الرجم إنما هي أحاديث آحاد وأنها لا تثبت الحدود التي لا تثبت إلا بالأدلة القطعية على مذهب الحنفية». وهذه المقولة نشأت عن تقسيم الأحناف الأحاديث النبوية إلى متواترة ومشهورة وآحاد، قد قسمها غيرهم إلى المتواترة والآحاد. وشيخنا نفسه قد نقل أن من الفقهاء من أنكر وجود أحاديث متواترة أي أن السنة كلها آحاد، وممن قال: فهذا التقسيم حصر المتواتر في خمسة أحاديث. هذا التقسيم اصطلاح نشأ عن جمع السنة وتمحيص الروايات وأثره عدم كفر من توقف في حديث آحاد وكفر من رد الحديث المتواتر فما شرعية إلزام المسلمين بهذا التقسيم وشرعية ترتيب آثار أخرى عليه، ومنها ما قاله الدكتور عبد الحميد متولي من عدم صلاحية أحاديث الآحاد لإثبات الأحكام الشرعية في الشؤون الدستورية والسياسية. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) الذي في " شرح فتح القدير " (وَرَحِمَهُ) وليس كما ورد في الكتاب المطبوع (وَرَجَمَهُ).

وما قاله بعض أتباع الماركسية من العرب أن هذه الأحاديث لا تصلح في الشؤون الاقتصادية. وما شرعية ما قال به بعض رجال القانون من عدم صلاحية هذه الأحاديث في إثبات الحدود ومنها حد الرجم. ونستطيع أن نقطع أنه لا يوجد أي سند شرعي لإضعاف حجية أحاديث الآحاد في هذه الأمور أو غيرها بل قال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «[أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ]، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ». كما تقطع أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته كانوا يقبلون خبر الواحد في هذه الأمور وغيرها حسبما فصله الإمام الشافعي في كتابه " الرسالة " والإمام علي بن حزم في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام " فضلاً على أن القرآن الكريم قد اعتد بخبر الواحد كما هو معلوم. وتقسيم الأحاديث إلى آحاد ومتواتر ليس وحيًا من الله كما أن النتائج الخاطئة المترتبة على هذا التقسيم لا يستند إلى القرآن أو السنة الصحيحة حتى يمكن الأخذ بها في رد حكم الأحاديث النبوية التي تلقتها الأمة بالقبول «منها أحاديث رجم الزاني المحصن بدعوى أن السنة لا تخصص عموم القرآن وحسبنا أن النبي وصحابته قد عملوا بأخبار الآحاد في جميع أمور الدين وربنا يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. قال ابن حزم: لقد ثبت أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد رجم ماعزًا ولا ينسب إلى رسول الله أنه خالف حكم الله وإن قالوا: إن هذا يخالف القرآن فقد نسبوا إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خالف أمر ربه القائل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]» (¬1). ¬

_ (¬1) جزء من رد المؤلف على الشيخ المجتهد، والمنشور في جريدتي " الوطن " و " السياسة " يوم 1/ 10 / 1982 م.

72 - رد العقل للسنة:

72 - رَدُّ العَقْلِ لِلْسُنَّةِ: يقول شيخنا محمد سعاد جلال في مقاله الأخير: «إن الحديث النبوي له صورتان في الانقطاع. الانقطاع الظاهر وهو انقطاع السند بسقوط فرد أو أكثر من سلسلة السند وهو يقضي بعدم حجية الحديث، والانقطاع الباطن أي أن يكون سند الحديث متصلاً لكن يقع معناه على خلاف مقتضى العقل فيكون ذلك من أسباب انقطاع معناه وترك العمل به». ولقد نسب هذه المقولة إلى الخوارج وعززها بقوله: «إن روح العصر الحاضر ومشاعر الناس في هذا الزمن لم تعد تحتمل وقع هذه العقوبة الشنيعة وأصبح ذلك موضع نقد موجه إلى أحكام الفقه الإسلامي الاجتهادي لا نقول إلى الشريعة الإسلامية وهو نقد غير مرفوض حتى من وجه نظر الشريعة نفسها، لأن الشريعة يجب أن تكون فيما لا يصطدم بقطعي أداة قانونية مرنة موظفة للتعبير مشاعر الجماهير المتطورة بتطور العصر». هذا الذي يؤمن به شيخنا ويدعو المسلمين للإيمان به يحتاج إلى وقفة موضوعية لأن الإيمان به من شأنه أن يصبح كل من يظن أن عقله قد بلغ مرتبة الاجتهاد حاكمًا على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيرد ما يشاء منها ويحل منها ما يشاء ويحرم ما يشاء وبهذا يصبح عند المسلمين الآلاف من الأرباب الذين يملكون التحليل والتحريم وهذا ما حذر منه الله في القرآن الكريم وفصله في السنة النبوية. ولسنا ندري ما هو العقل الذي سيحكم على الحديث النبوي بعدم حجيته وعدم جواز العمل به لأن معناه يخالف العقل مع أنه ليس مما يخضع للتجارب المادية والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوحي من الله قد أخبر أن شؤون الدنيا تخضع لعقول الناس وتجاربهم فقال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ» (*). أما ما يخرج عن نظام الحواس فلا يختص به الناس: أي لا يخضع للعقل. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر التعليق بالصفحة 355 من هذا الكتاب.

إن الإسلام قد صحح الانحرافات التي مارسها كثير من رجال الدين من أهل الكتاب حيث زعموا أن بيدهم صكوك الغفران والحرمان فجاء القرآن وأبطل اختصاص هؤلاء بالتحليل والتحريم. فهل تعود هذه الانحرافات مرة أخرى تحت اسم جديد هو حكم العقل؟. إن العقل لا يصدق أن يرد عالم البصر للأعمى أو يحيي الموتى ولكن القرآن قد أخبر أن نبي الله عيسى فعل ذلك فصدقنا ذلك وقبلناه لا بحكم العقل بل بالإيمان بصدق القرآن. والإيمان بصدق النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي يجعلنا نقبل الأحكام التي جاء بها عن طريق السنة أو القرآن. كما أن عقول الأوربيين تحسن الزنا وتراه أمرًا عاديًا وليس جريمة في حق المجتمع، فهل تصبح هذه العقول حكمًا على سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواء نطق بهذا الحكم شخص غير مسلم أو نطق به مسلم بلسانه لكنه أوروبي بعقله وبيانه. إن مشاعر أصحاب هذه العقول لا تحكم على الله ورسوله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. إن مشاعر ملايين من البشر في روسيا قد تقبل أن يقتل السارق ولكنها لا تقبل أن تعاقب الزوجة الزانية بأدنى العقوبات، ومشاعر دعاة الحرية الجنسية ترى أن الرجم عقوبة شنيعة بينما رجم القرى والمدن بأهلها بوابل من القنابل في لبنان وفلسطين وأفغانستان وإرتريا وكشمير وتشاد والفلبين لا يعد أمرًا شنيعًا أو ماسًا بمشاعر الناس، ومع هذا يصبح من الاجتهاد في شرع الله أن يقال إن اعتراض هؤلاء على عقوبة الزنا نقد غير مرفوض من وجهة نظر الشريعة نفسها حسبما يزعم الشيخ متجاهلاً أن الطب أثبت أن الزنا يضر بالفرد والمجتمع. ثم من هو الذي يملك أن يتحدث وحده باسم الشريعة ليقول: إن هذا النقد مقبول من وجهة نظر الشريعة. إن الشريعة الإسلامية لا تعبر عن مشاعر الجماهير المتطورة بتطور العصر، فهذه المشاعر تحل الزنا والخمر والقتل الجماعي وغير ذلك من الموبقات والمهلكات، وقد جاء الإسلام لتحكم نصوصه من قرآن

وَسُنَّةٍ على أعمال هؤلاء وتصحح أخطاءهم فكيف تتبع الشريعة مشاعرهم. حسبنا أن الله تعالى قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]. وحسبنا قول الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وبالله تعالى نعتصم ونتأيد (¬1). ¬

_ (¬1) نشر هذا بجريدة " الوطن " يوم الجمعة 1/ 10 / 1982 م رَدًّا على مقاله المنشور يوم 10/ 9 / 1982 م (22/ 11 / 1402 هـ).

§1/1