السنة المطهرة والتحديات

نور الدين عتر

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نَبِيِّنَا وَهَادِينَا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين من جاء بالشريعة الكاملة التي اختصت بِأَنْ تَكَفَّلَ المولى تبارك وتعالى بحفظها وسدادها إلى أَبَدِ الآبِدِينَ، - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ - ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً. أما بعد: فإنَّ هذا الموضوع: «السُنَّة المُطَهَّرَة والتحديات» دراسة علمية موضوعية، وعرض صادق أمين للخصوصية الكبرى التي اختص الله بها هذه الأمَّة وفضَّلها بالامتياز بها على سائر الأمم، وفي جميع العصور السابقة واللاحقة، تلك الخصوصية «حفظ الحديث النبوي» ذلك التراث الثري والحيوي الضخم الذي اختص اللهُ هذه الأُمَّةَ بأن حفظته غَضًّا طَرِيًّا مدى االعصور والأزمان، وعلى مَرِّ القرون والأجيال، وها نحن وقد انسلخ القرن الرابع عشر ودخلنا في الخامس عشر الهجري نقرأ حديث نَبِيِّنَا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَسْمَعُهُ وَيُخْطَبُ بِهِ عَلَى المَنَابِرِ، وَيُذَاعُ على العالم جديدًا صحيحًا كما قاله ونطق به وكأنه صدر عنه الساعة، - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إنَّ هذا الكنز العظيم الذي ظفرنا به وفزنا بنواله قد اجتاز في طريقه إلينا عقبات وتحديات ضخمة اعترضت طريق وصول السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ إلينا، وواجهت هذه الأمَّةُ المُؤْمِنَةُ حَامِلَةَ هذا الحديث وروايته، فاجتازتها أُمَّةُ الإسلام وتغلبت عليها بتوفيق من الله تعالى، وقدمت بذلك منذ اللحظات الأولى لعملها في الرواية البرهان على كمال هذا الإسلام وكفايته ووفائه بكل حاجات البشرية، ما كان منها موجودًا سابقًا وما يطرأ بَعْدُ مِنَ المُتَغَيِّرَاتِ لاَحِقًا.

هدف هذا البحث:

هَدَفُ هَذَا البَحْثِ: هذه التحديات هي هدف الدراسة في هذا البحث: تحديات العقبات التي واجهتها الأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَّةُ بِخُلُوِّ الجَوِّ العِلْمِيَّ وَالدِّينِيَّ وفراغه الكامل لدى الأمم الأخرى من أَيِّ تأصيل أو ثروة أو أثارة من طريق يكفل صِحَّةَ الرواية يمكن أنْ يفيد منه الصحابة لنقل السُنَّةِ وَالتُرَاثِ نَقْلاً صَحِيحًا. ثم بعد هذا تحديات الأسئلة المستفسرة أو المستشكلة عن تحقق حفظ السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وسلامة نقل الحديث النبوي، بل الأسئلة المُتَعَنِّتَةِ التي طرحت قَدِيمًا وَتَجَدُّدِ الخوض فيها منذ مطلع العصر الحديث حول جهود العلماء، وَعُلَمَاءَ السُنَّةِ وَأَهْلِ الحَدِيثِ، الذين كان لهم الفضل الأكبر في خدمة هذا الدين الإسلامي بحفظهم لِلْسُنَّةِ: الأصل الثاني من أصول الإسلام بعد كتاب الله تعالى، وهل نجحت الأُمَّةُ في تذليل تلك العَقَبَاتِ وَمَلْءِ ذلك الفراغ العلمي ومن ثم تحقيق غاية في الذروة في الغايات العلمية العظيمة والدينية ألاَ وهي حفظ الحديث النبوي وصيانته من التغيير والتبديل. ولنبدأ البحث بشأن الحديث من أيامه الأولى. تَلَقِّي الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ: لقد بعث اللهُ تعالى رسوله الأعظم خاتم الأنبياء والمرسلين بالهداية الكاملة التامة، التي تشمل جميع الشؤون والقضايا، وَأَيَّدَهُ بالمعجزة الكبرى. التي خَصَّهُ بها من بين سائر الأنبياء وأكرم أُمَّتَهُ بها دون سائر الأمم، ألاَ وهي معجزة القرآن الكريم، بُرْهَانَ نُبُوَّتِهِ وآية رسالته، وكتاب دعوته وهدايته، ودستور أُمَّتِهِ، وآتاه السُنََّةَ حكمة تُفَسِّرُ هذا القرآن وَتُبَيِّنُهُ، كما قال تبارك وتعالى:

الصحابة ورواية السنة:

{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (¬1). وقال عَزَّ من قائل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬2) وقد تلقى الصحابة هذا القرآن الكريم وهذا الحديث النبوي الشريف بأقصى غاية القبول والإذعان كما تتلقى الأرض الخصبة الطيبة غيث السماء وقد استبد بها الظمأ، واشتد القحط وطال أمده، فتتشرب الغيث بكل ذَرَّاتِهَا، ثم تقدم للعالم أطيب الثمار. فاستمع الصحابة القول من القرآن ومن الحديث وَاتَّبَعُوهُ أحسن ما يكون عليه الاتباع حتى كانوا خير هذه الأُمَّةِ المُفَضَّلَةِ على سائر الأمم وأفضل جيل فيها، قال اللهُ تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬3). الصَّحَابَةُ وَرِوَايَةِ السُنَّةِ: لما اختار الرسول الكريم - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ -، جوار ربه ولحق بالرفيق الأعلى خلفه صحبه الكرام في آداء الأمانة وحمل الرسالة إلى العالم، هنالك واجهت الصحابة مسألة نشر السُنَّةِ والمحافظة عليها، ونقلها كما سمعوها من قائلها، - صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - طِبْقاً لما حَضَّهُمْ وَحَثَّهُمْ عليه وأمرهم وَكَلَّفَهُمْ به في الأحاديث الكثيرة المتواترة البالغة غاية الكثرة، كما ¬

_ (¬1) [سورة النساء، الآية: 113]. (¬2) [سورة النحل، الآية: 44]. (¬3) [سورة آل عمران، الآية: 110].

تحدي الفراغ العلمي في الرواية:

في الحديث الذي يقول فيه: «نَضَّرَ اللهُ امْرُءًا سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فََبَلِّغَهُ كَماَ سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (¬1). فقام الصحابة بحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، ونقل الحديث النبوي إلى العالم، لأنهم حين خرجوا وانتشروا في الأرض لم ينتشروا غُزاة بعقلية الفاتحين بل كانوا يَهْدُونَ العالم وينقذونه من الظلمات إلى النور، ومن الضلال والضياع إلى الطريق المستقيم طريق السعادة والكرامة والفوز في الدنيا وفي الآخرة وذلك كما سجله التاريخ لهم من أفعالهم وأحوالهم، وكما نطقت به هذه الكلمة المُدَوِّيَةُ الخَالِدَةُ التي كتبها الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز لعامله يقول له: «إَّنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا هَادِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا». وكما قال من قبله أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب لواليه على مصر: «مَتَى اسْتَعْبَدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرِارًا». تَحَدِّي الفَرَاغَ العِلْمِيَّ فِي الرِّوَايَةِ: واجه الصحابة هذه القضية التي تمس جوهر الإسلام قضية نقل السُنَّة النَّبَوِيَّة وحفظها وكان الجَوُّ كما ذكرنا خالياً وفارغاً جداً ليس فيه أي أثر من قاعدة أوقانون لدى أي أُمَّةٍ من الأمم يفيد في نقل تراث أو ما يتعلق بالرواية أياً كانت الرواية ليمكن أنْ يعتبر سابقة يُحْتَذَى أَوْ قُدْوَةً يُؤْتَسَى بها، بل كان هناك واقع مظلم عند الأمم الأخرى، فقد فرطت في كتبها المقدسة التي يرتبط بها وجودها الحقيقي في الواقع، وتلفقت أقاويل وأقاصيص وحكايات خرافية ¬

_ (¬1) أخرجه أبوداود في العلم (باب فضل نشر العلم): ج 3 ص 322 والترمذي: ج 5 ص 33 - 34 بلفظه وقال: «حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وابن ماجة: ص 84.

أصول المنهج العلمي للرواية في القرآن:

باطلة من هنا وهناك، لَبَّسَتْ بها كتب دينها، حتى صارت تحوي أقاصيص وأباطيل مِمَّا ينبو الذوق عن ذكره فضلاً عن تدوينه (¬1). الأمر والواقع الذي يدل على المهمة الكبرى التي أنيطت بالصحابة لكي يقوموا بالواجب الذي ألقي على عاتقهم، وَيُؤَدُّوا هذا الحديث عن نبيهم، أداءاً صحيحاً يُحَقَّقُ الغاية التي أمروا بها وبتوصيلها إلى العالم. أُصَولُ المَنْهَجِ العِلْمِيِّ لِلْرِّوَايَةِ فِي القُرْآنِ: لكنه الإسلام، الإسلام العظيم كفاهم المؤنة، وَحَلَّ لهم المعضلة بما يشتمل عليه من عوامل الحفظ الذاتية التي خَصَّهُ اللهُ تعالى بها، وأودعها في القرآن وَالسُنَّةِ فواجه بها الإسلام الأعاصير العاتية عبر التاريخ صَلْبًا ثَابِتًا، ثم بما امتاز به من خصوصية الشمول لكل جوانب الحياة، مِمَّا يكفل لهذه الأُمَّةِ المَنَعَةَ والسلامة والقوة والهداية، ما إن تمسكت به، وتعلقت بأهدابه، واعتصمت بحبله المتين وَعُرْوَتِهِ الوُثْقَى. فقد قررت نصوص القرآن أصولاً علمية كانت منارة للصحابة في صيانة الرواية وأداء الحديث صحيحًا كما سمع من قائله، وهي أصول على غاية من الأهمية لخطورة موقعها، ولما أنَّ دلالة النصوص عليها ظاهرة واضحة، حتى أنها لظهورها وتسليمها قد غفل عنها وعن موقعها الهام في تأصيل قواعد الرواية والنقل الصحيحين. ¬

_ (¬1) مثل ما تنسب القصص الإسرائيلية إلى لوط - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أنَّ ابنتيه سقتاه خمراً حتى سكر، قصدتا أن يقع عليهما، وتلدا له ذكورا؟ وقد ضاجعهما واحدة واحدة ثم حملتا منه؟ ثم أتت كل واحدة منها بولد ذكر؟ حاشا نبي الله لوطا عن ذلك - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -.

أولا: تحريم الكذب:

غير أنا لا نستطيع ههنا في هذا الموقف، الإِفَاضَةَ في تفاصيلها وتفاريعها، بل نكتفي بعرض ملخص لهذه الأصول العلمية في الرواية فيما يلي: أَوَّلاً: تَحْرِيمُ الكَذِبِ: وهذا يعني فرض الأمانة العلمية، كما نُعَبِّرُ اليوم، وتحريم الخيانة العلمية ومعلوم تشديد القرآن الكريم وَالسُنَّةُ النَّبَوِيَّةُ في الزجرعن الكذب تشديدًا عظيمًا، وتغليظ حرمته، حتى جعل الكذب من صفة غير المسلم، كما جاء في نص القرآن الكريم: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} (¬1) وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬2) كذلك الحديث المتواتر عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مِقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، وقد رَوَى هذا الحديث عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضع وسبعون صَحَابِيًا. (¬3). ¬

_ (¬1) [سورة النحل، الآية: 105]. (¬2) [سورة الأعراف، الآية: 33]. (¬3) انظر تفصيل تخريجه عنهم في " تدريب الراوي ": ج 2، ص 177 - 178، وأما في مطلق تحريم الكذب فقد رواه نحو مائتي صحابي.

ثانيا: رفض خبر الفاسق:

ثَانِيًا: رَفْضُ خَبَرِ الفَاسِقِ: وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬1) فقد أوجب التثبيت وعدم قبول خبر الفاسق حتى تَتَبَيَّنَ صِحَّتُهُ من طريق أخرى فتكون العمدة على تلك الطريق. ثَالِثًا: اشْتِرَاطُ العَدَالَةِ لِقَبُولِ خَبَرَ الرَّاوِي: وهو أصل في الشريعة بلا خلاف، يشهد له قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2) وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬3) فإنَّ هذا وإنْ كان ظاهره في الشهادة في الأموال فإنه يدل بطريق الأَوْلَى على اشتراط ذلك في راوي الحديث لأنه يشهد على الله تعالى وعلى رسوله بما ينقل. قال الإمام الترمذي: «لأَنَّ الشَهَادَةَ فِي الدِّينِ أَحَقُّ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهَا مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الحُقُوقِ وَالأَمْوَالِ» (¬4). وأخرج ابن ابي حاتم عن بهز بن أسد قال: «لَوْ أَنَّ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ جَحَدَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَخْذَهَا مِنْهُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، فَدِينُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ بِالعَدْلِ» (¬5) ¬

_ (¬1) [سورة الحجرات، الآية: 6]. (¬2) [سورة الطلاق، الآية: 2]. (¬3) [سورة البقرة، الآية: 282]. (¬4) ج 1 ص 44 من نسخة " شرح العلل " لابن رجب الحنبلي. (¬5) " الجرح والتعديل ": ج 1 قسم 1 / ص 16. وانظر " التعليق على شرح العلل ": ج 1 ص 45.

رابعا: التثبت من كل قضية:

رَابِعًا: التَّثَبُّتُ مِنْ كُلِّ قَضِيَّةٍ: وذلك في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬1) أي لا تتبع شَيْئًا لم تعلم تحققه وسلامته وهذا يشمل وجوب التأكد من صحة العلم النقلي، ونحن إنما نتكلم هنا عن العلم النقلي فلا يقبل منه شيء إِلاَّ بعد التَثَبُّتِ مِنْ صِحَّتِهِ وأنه مطابق لأصل النص الذي صدر عن صاحبه. خَامِسًا: تَحْرِيمُ نَقْلِ الخَبَرِ المَكْذُوبِ: هذا الأصل يدلنا على مدى الاحتياط الواجب وقد دلت عليه الآية السابقة {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1)، ولما في الحديث الصحيح المستفيض من رواية جماعة من الصحابة عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه " وغيره (¬2). وهذا تحذير خطير من مسؤولية الرواية، يوجب على كل من سمع حَدِيثًا أَنْ يَتَوَقَّفَ ولا يرويه حتى يتثبت ويأخذ بالاحتياط. تَطْبِيقُ الصَّحَابَةِ لأُصُولِ القُرْآنِ فِي الرِّوَايَةِ: في عصر الخلفاء الراشدين الذي تأصلت فيه أصول الرواية كانت السيادة في المجتمع الإسلامي للطبقة التي كونت هذا المجتمع وهي طبقة الصحابة ¬

_ (¬1) [سورة الإسراء، الآية: 36]. (¬2) " مقدمة صحيح مسلم ": ص 7.

عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - بدلالة الوثائق العلمية:

الكرام، تلامذة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذين آمنوا به وبذلوا من أجله كل نفس ونفيس ثم انطلقوا يجاهدون في سبيل الله لإنقاذ الدنيا من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان ولتحرير الأمم والشعوب والأفراد من عبادة الإنسان إلى عبادة الواحد الدَيَّانِ والاعتزاز به وحده سبحانه، والانعتاق من الذلة لأي قوة أو سلطان في الدنيا سوى سلطان اللهِ سبحانه حتى رفعوا هذا الإنسان إلى عزة وكرامة تًعْنُو أمامها كل دعوة حرية أوتحرير، فكان من الطبيعي أن يكون الصحابة حراصًا أشد ما يكون الحرص على صيانة الحديث النبوي، وعلى أدائه وفق ما سمعوه كما أمرهم بذلك القرآن، وَرَبَّاهُمْ عليه النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصدق والتثبت في كل شيء بصفة عامة وفي الحديث النبوي بصفة خاصة. لذلك كان هذا العصر عصر العدالة الذهبي، وكان الصحابة يتلقون الحديث عن بعضهم البعض، ويصدق بعضهم بَعْضًا لاَ يَتَّهِمُونَ أَحَدًا منهم في الحديث عن النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَدًا سواء في ذلك ما قبل وقوع الفتنة وما بعد وقوعها وما شجر فيها من الخلاف. عَدَالَةُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بِدَلاَلَةِ الوَثَائِقِ العِلْمِيَّةِ: وَقَدْ حَدَّثَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَوْمًا بِحَدِيثٍ فَسُئِلَ: هَلْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: «سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللهِ مَا كُنَّا نَكْذِبُ وَلاَ نَدْرِي مَا الكَذِبُ».

وَمِمَّا يدل على عدالة الصحابة وثائق كثيرة، منها ما أخرجه مسلم (¬1) بالأسانيد الصحاح وغيره أَيْضًا أنه جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لا يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ، ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَالِي لاَ أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلاَ تَسْمَعُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً (¬2) إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ مِنْ النَّاسِ إلاَّ مَا نَعْرِفُ». وذلك ما نطقت به أدلة القرآن وَالسُنَّةُ كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬3) وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬4). وتواتر قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (¬5) وأخرج الشيخان عن آبي سعيد الخُدري أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذّهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ» (¬6). ¬

_ (¬1) في " مقدمة صحيحه ": ص 10. (¬2) أي فترة من الزمان. قبل وقوع الفتنة. (¬3) [سورة آل عمران، الآية: 110]. (¬4) [سورة الفتح، الآية: 29]. (¬5) صرح بتواتره الحافظ ابن حجر في " الإصابة ": ج 1 ص 20. (¬6) " البخاري ": ج 6 ص 8 و " مسلم ": ج 1 ص 118.

وذلك ما أجمع عليه أهل العلم المعتمدون فقد كفانا البحث - كما قال الإمام أبو عمر بن عبد البر - عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وَهُمْ أَهْلُ السُنَّةِ وَالجَمَاعَةُ على أنهم كلهم عدول (¬1). وَأُنَوِّهُ هنا بالاستشهاد بدلالة الواقع في مروياتهم كما دَلَّ عليه أسلوب هو في البحث العلمي من وسائل المعرفة القاطعة وهو ما يُسَمَّى في فن مناهج البحث وعلم المنطق «الاستقراء التام»: يقول العلاَّمة المُحَدِّثُ عبد الرحمن المعلَّمي اليماني (¬2): «إنَّ أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكك في عدالته من الصحابة اعتبارًا لما ثبت أنهم حَدَّثُوا به عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عن صحابي آخر عنه، وعرضوها على الكتاب وَالسُنَّةِ وعلى رواية غيرهم مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم (¬3)، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التُّهْمَةَ، بل وجدوا عامة ما رَوَوْهُ قد رَوَاهُ غيرهم من الصحابة مِمَّنْ لا تتجه إليه تُهْمَةٌ، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له». ونضيف إلى ذلك ما أَدَّى بنا إليه البحث فنشهد أنه من خلال دراستنا لألوف تراجم الرُوَّاةِ والمرويات الضعيفة التي ذكرت في كتب الضعفاء فإنه لم يوجد حديث قط يحكم فيه بما يُخِلُّ بهذا المبدأ (¬4). ¬

_ (¬1) " الاستيعاب ": ج 1 ص 8 وانظر " الكفاية ": ص 49 و " توضيح الأفكار " للصنعاني: ج 2 ص 469 وغيرها. (¬2) في كتاب " الأنوار الكاشفة ": ص 271. (¬3) أي نزعاتهم السياسية في الخلاف بين عَلِيٍّ ومعاوية. (¬4) وانظر التحقيق القيِّم الذي قام به العلاَّمة محمد بن الوزير اليماني من أئمة الشيعة الزيدية باستقرائه أحاديث الصحابة الذين اشتهر كلام بعض الفرق فيه وَتَوَصُّلِهِ إلى النتيجة التي ذكرناها أَيْضًا، وذلك في كتاب " الروض الباسم في الذَبِّ عن سُنَّةِ أبي القاسم ": ج 2 ص 113 - 129 واعتمد عليه كذلك محمد بن إسماعيل الصنعاني من أئمة الشيعة الزيدية المجتهدين في كتابه " توضيح الأفكار ": ج 2 ص [363 - 453].

قوانين الرواية في عصر الصحابة:

قَوَانِينُ الرِّوَايَةِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ: تلك الأصول التي بَيَّنَّاهَا في ضبط الرواية وصياغتها توجب البحث وَتُحَتِّمُ التَثَبُّتَ في الحديث، من جهة الراوي، ومن جهة الرواية، ومن جهة المروي، وغير ذلك مِمَّا يتعلق بالحديث، لأَنَّ في كل ذلك قرائن، ودلائل تشير إلى صحة النقل أو عدم صحته مِمَّا لا يجوز شَرْعًا في مسؤولية الدين أَنْ يفرط الباحث فيه. وكان الصحابة آنذاك هم الذين يَرْوُونَ الحديث للناس، وهم خير القرون، ولم تكن هناك سلاسل إسناد، ولذلك لم يكن الأمر بحاجة إلى أكثر من أَنْ نَتَثَبَّتَ من صحة أداء الراوي العدل الضابط وهو الصحابي، بأنْ نطمئن إلى أنه لم يخطيء أو لَمْ يَنْسَ، ونحو ذلك، مِمَّا قد يعرض للعدل الضابط، مِمَّا لا يُعْصَمُ منه البشر. وقد تشبث الصحابة بتلك الأصول بما يحقق الهدف، فَقَدْ اتَّبَعُوا قَوَانِينَ وَأُصُولاً في الرواية تلائم ما ذكرنا من وضع السُنَّةِ في عهدهم وكانت مبتدأ علم مصطلح الحديث، وأصول النقد، الذي تكامل شَيْئًا فَشَيْئًا بعد ذلك مع ما طرأ من التغيرات، وطول الأسانيد وغير ذلك. وقد لجأ الصحابة إلى قواعد نذكر منها: أَوَّلاً: تَقْلِيلُ الرِّوَايَةِ: وذلك حتى لا يزلق لسان الراوي، فينزلق ويقع في الخطأ أو يسرع إليه الوهم، والأمثلة على ذلك من تصرف الخلفاء الراشدين وتوجيهاتهم كثيرة مشهورة، أضيف إليها هذه الوثيقة التي تدل على انتشار الأخذ بهذا الأصل

ثانيا: التثبت من صحة الرواية عند تحملها وعند أدائها:

وشيوعه فيهم، فقد اشتهروا واستفاض عن الصحابة مَرْفُوعًا إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَوْقُوفًا أي منسوباً إليهم من كلامهم «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» (¬1). وقد نَبَّهْنَا إلى تعدد رواية هذا القول، لأنه يدل على انتشار هذه القاعدة ورسوخها في المجتمع تَقْلِيدًا عِلْمِيًّا، وهويعني أَنَّ الإنسان لاَ يُحَدِّثُ إِلاَّ بما يثق من نفسه أنه يؤديه كما سمعه. ثَانِيًا: التَثَبُّتُ مِنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ تَحَمُّلِهَا وَعِنْدَ أَدَائِهَا: ومن ذلك أنهم يَسْتَشْهِدُونَ مع الراوي غيره أو يَسْتَحْلِفُونَهُ، تَثَبُّتاً، وَاطْمئْنَانًا ومن ذلك ما ذكره الذَّهَبِيُّ في ترجمة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: «وَهُوَ الَّذِي سَنَّ لِلْمُحَدِّثِينَ التَّثَبُّتَ فِي النَّقْلِ وَرُبَّمَا كَانَ يتَوَقَّفُ فِي خَبَرِ الوَاحِدِ إِذَا ارْتَابَ رَوَى الجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ مِنْ وَرَاءِ البَابِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَرَجَعَ فَأرْسَلَ عُمَرُ فِي أَثَرِهِ فَقَالَ: " لِمَ رَجَعْتَ؟ " قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُجَبْ فَلْيَرْجِعْ ". قَالَ: " لتَأْتِينيِ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَو لأَفْعَلَنَّ بِك "، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى مَمْتَقِعًا لَوْنُهُ وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقُلْنَا: " مَا شَأْنُكَ؟ " فَأخْبرََنَا وَقَالَ: " فَهَلْ سَمِع أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ " فَقُلْنَا: " نَعَمْ كُلَّنَا سَمِعَهُ " فَأَرْسَلُوا مَعَهُ رَجُلاً مِنْهُم حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأخْبرهُ». وَنَوَدُّ أنْ نُنَبِّهَ - ولو أننا استطردنا عن الموضوع - إلى أَنَّ ما فعله الصحابة في هذا المجال لم يكن من باب الاتِّهَامِ، كما حاول بعض المعاصرين من الكاتبين في تاريخ السُنَّةِ أَنْ يَتَقَوَّلَ وينسب إلى الصحابة أنهم قد يَشُكُّونَ فِي ¬

_ (¬1) ورد ذلك عن جماعة من الصحابة، انظر الرواية عن بعضهم في " مقدمة صحيح مسلم ": ص 8، وقارن بـ " البخاري " في العلم، (باب إثم من كذب على النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -): ج [1] ص 29 و " سُنن ابن ماجه ": ص 10 - 13، وانظر " توجيه النظر ": ص 14 - 16.

ثالثا: نقد الروايات:

صِدْقِ بَعْضِهِمْ، فإنَّ عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صَرَّحَ في بيان عمله في التثبيت بقوله: «إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ». فالواقع أَنَّ من يريد تفسير عمل الصحابة فِي التَثَبُّتِ بِالشَكِّ وَالتُّهْمَةِ لبعضهم شأنه شأن من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، لأنَّ نصوص الروايات التي يستدل بها صريحة في ألفاظها واضحة في عباراتها يقول أصحابها: إِنَّنَا لَمْ نَتَّهِمْ هَذَا الرَّاوِي، ثم يأتي هذا المُتَقَوِّلُ في هذا الزمان ليزعم أَنَّهُ يَتَّهِمُهُ، فمن نُصَدِّقُ؟ أَهََلْ نُصَدِّقُ صاحب المسألة المُتَثَبِّتُ أو نُصَدِّقُ المُتَقَوِّلَ المُخْتَرِعَ لهذا التفسير بعد مَدِيدِ الأجيال والقرون؟ ومن قوانينهم في الرواية: ثَالِثًا: نَقْدُ الرِّوَايَاتِ: وذلك بعرضها على نصوص وقواعد الشريعة فإذا وجدوا النص المروي مُخَالِفًا لَهَا رَدُّوهُ ولم يعملوا به. فهذه السَيِّدَةُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فيما أخرجه الشيخان عنها، سَمِعَتْ حَدِيثَ عُمَرَ وَابْنَهُ عَبْدَ اللهِ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ». فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ "، وَقَالَتْ حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}» (¬1). ¬

_ (¬1) [سورة الأنعام، الآية: 164]، [سورة الإسراء، الآية: 15]، [سورة فاطر، الآية: 18]، [سورة الزُمر، الآية: 7].

وفي رواية مسلم أنها قالت: «إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ، وَلاَ مُكَذَّبَيْنِ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ» (¬1). ومن منهج الصحابة في الرواية والبحث عن الرُوَاةِ والأسانيد: الرحلة في طلب الحديث: وهي ظاهرة علمية وحضارية لم يكن لها مثل في التاريخ لا قبل الإسلام ولا بعده إلاَّ عند المسلمين ومنذ فجر تاريخهم أيام الخلفاء الراشدين. لقد شحذ الصحابة الهِمَمَ وَتَخَطَّوْا الصعاب والعقبات، وقطعوا المسافات من أجل تلقي الحديث من حَمَلَتِهِ وَوُعَاتِهِ، بل سجل لنا التاريخ بالوثائق المؤكدة القاطعة ظاهرة أبلغ وأسمى في هذا الميدان تلك هي الرحلة في طلب الحديث الواحد فقط. ومن ذلك ما ثبت بالأسانيد الصحاح عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أنه رحل من المدينة المنورة إلى دمشق الشام ليسأل عبد الله بن أنيس الأنصاري عن حديث في القصاص من المظالم بين الناس يوم القيامة، فقال عبد الله بن أنيس: سَمِعْتُ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ، أَوْ قَالَ: يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ قال: - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ - عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا» فَقُلْتُ: مَا بُهْمًا؟ قَالَ: «لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ» قَالَ: فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلُ النَّارَ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ. ¬

_ (¬1) " البخاري ": في الجنائز: ج 2 ص 77 - 80. و " مسلم ": ج 3 ص 42 - 43 وذكره الزركشي في كتابه " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 102 - 103 وانظر: ص 76 - 77.

الصحابة وتحديات الفتنة:

قَالَ: قُلْنَا كَيْفَ هُوَ؟ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عُراةً غُرْلاً بُهْمًا؟ قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ». أخرجه أحمد والبخاري في " الأدب المُفرد " والحاكم في " المستدرك " (¬1). وليست هذه الحادثة فريدة من تاريخنا، ولا هي قاصرة على جيل الصحابة، بل هي سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ سَنَّهَا الصحابة وتابعهم عليها التابعون وَمَنْ بعدهم، فقد سجل التاريخ بالأسانيد الصحيحة مجموعة من رحلات الصحابة لأجل حديث واحد، ومجموعة كبيرة من أخبار رحلات التابعين، ومن بعدهم لأجل حديث واحد فقط، وَدَوَّنَ لنا ذلك كله بأسانيده الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب " الرحلة في طلب [الحديث] " الذي حَقَّقْنَاهُ، وَبَيَنَّا سلامة وصحة أسانيد ما أورد من ذلك. وأضفنا إليه مجموعة ثانية من رحلات الصحابة منها في عهد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن رحلات غيرهم. الصَّحَابَةُ وَتَحَدِّيَاتُ الفِتْنَةِ: ثم واجهت الصحابة مشكلة خطيرة، كبيرة الخطر، أَلاَ وهي ظاهرة الكذب التي جَدَّتْ بسبب الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة الشهيد عثمان بن عفان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ثم قتل الإمام المجاهد الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وما نتج عن ذلك من انقسامات واختلافات، وظهور مذاهب مبتدعة سمح أصحابها لأنفسهم أَنْ يَخْتَلِقُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَفْتَرُوا عَلَيْهِ، فى سبيل الترويج لآرائهم وأهوائهم، وجمع الأنصار والأعوان من حولهم. ¬

_ (¬1) وَصَحَّحَهُ الحاكم ووافقه الذهبي: ج 2 ص 427، ج 4 ص 574، وانظر تخريج الحديث وتحقيق صِحَّتِهِ في تعليقنا على كتاب " الرحلة في طلب الحديث " للخطيب البغدادي: ص 111، 112.

وقد انتدبت الصحابة لمداواة هذا الداء الجديد، واجتهدوا في محاربة الكذب والوضع، مُتَّبِعِينَ أقصى وأحكم وسائل البحث والفحص، بِأَنْ أضافوا إلى ما لم يبق من القوانين قواعد وأساليب علمية جديدة، تقاوم هذا الداء وتكافحه، فكان من ذلك: 1 - أنهم تتبعوا الأسانيد وعنوا عناية شديدة بالبحث عن إسناد الحديث وفحص أحوال رُوَاتِهِ، وهذا كما ثبت بالأسانيد الصحاح عن الإمام التابعي الجليل محمد بن سيرين قال: «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُنّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنظَرُ إِلَى أَهْلِ البِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ» (¬1). ومن هنا فإنا نُؤَرِّخُ للإسناد بأنه وجد من أوائل عهد الصحابة بالرواية، وليس كما يُوهِمُ بَعْضُ النَّاسِ أنَّ الإسناد قد وجد في مرحلة مُتَأَخِّرَةٍ، وهذه مئات المُصَنَّفَاتُ في الحديث ذاخرة بعشرات ألوف الأسانيد الواصلة إلى الصحابة إلى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهد صدق وبرهان يقين وحق لكل من ينظر في كُتُبِ السُنَّةِ نظرة واحدة بتأمل وتفهم. 2 - وحث علماء الصحابة الناس على الاحتياط في حمل الحديث، وَأَلاَّ يأخذوا إِلاَّ حديث من يوثق به دِينًا وَوَرَعًا وَحِفْظًا وَضَبْطًا حتى شاعت في عُرْفِهِمْ هذه القاعدة التي وجدناها مروية بالأسانيد الكثيرة المستفيضة عن جماعة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه ": ج 1 ص 11 والترمذي في " علل الجامع "، انظر: ج 1 ص 51 من " شرح علل الترمذي " للحافظ ابن رجب الحنبلي.

يقول كل واحد منهم عن الصحابة إنهم كانوا يقولون: «إِنَّمَا هَذِهِ الأَحَادِيثَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهًا» (¬1) مِمَّا يدل على قيام توعية ضخمة في هذا الخصوص. 3 - وترتب على ذلك أَنْ وجدت أنواع من الحديث المقبول وغير المقبول، ووجدت فنون الإسناد، وعلوم الجرح والتعديل وَالرُّوَاةِ، وغير ذلك، وقد سَجَّلَ الأئمة المتقدمون في مطلع كُتُبِهِمْ رُوَاةَ الحديث نُقُولاً صحيحة عن الصحابة أنفسهم فيها كلامهم في الرجال جَرْحًا وَتَعْدِيلاً وغير ذلك، وهكذا وجدت علوم المتن وأصول الحديث في الأسانيد والمتون. 4 - وكان من منهج الصحابة في الرواية والبحث عن الرُّوَاةِ والأسانيد: الرحلة في طلب الحديث. ومن هنا فإننا نستطيع بكل ثقة أَنْ نُسَجِّلَ هَهُنَا نتيجة بالغة الأهمية، وهي أَنَّ الصحابة الكرام - رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَنْهُمْ - وقد جعلوا كتاب الله تعالى وَسُنَّةَ رسوله مِرْآتَهُمْ قَدْ تَوَصَّلُوا بِدِقَّةٍ استنباطهم وعمق فقههم إلى استنباط قوانين للرواية حفظوا بها الحديث من الخطأ والخلط، كما صانوه من الدَسِّ وَالاِخْتِلاَقِ، وكانت هذه القواعد أصول علوم الحديث التي نمت شجرتها وتفرعت فروعها في كل عصر حتى تغطي الحاجة التي كانت تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ أحوال جديدة في الرُّوَاةِ وَالرِّوَايَةِ، والمتون والأسانيد. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل ": ج 1 قسم 1 ص 15 عن عدد من التابعين بلفظ: «كَانَ يُقَالُ: إِنَّمَا هَذِهِ الأَحَادِيثَ ... » أي كان الصحابة يقولون. وانظر كتابنا " منهج النقد في علوم الحديث ": ص 329، 330.

تحديات الثقافات الأجنبية في القرن الثالث الهجري:

تَحَدِّيَاتُ الثَّقَافَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ فِي القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ: هذا من حيث تَحَدِّي الفراغ العلمي الذي واجهه الصحابة في مرحلة بِأَنْ ابتكروا ووضعوا منذ اللحظة الأولى القواعد الكفيلة بحفظ السُنَّةِ وأدائها صحيحة كما سمعوها من صاحبها - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَلاَةِ وَأَتَمَّ التَسْلِيمِ -، وواجهوا كل جديد بعد ذلك بما يناسبه من المنهج العلمي. ثم كانت هناك تحديات من نوع آخر ظهرت في القرن الثالث من الهجرة وهو عصر النهضة العلمية، حيث تم في هذا العصر تلاقح العقل العربي والمسلم بالثقافات الأخرى، وأظهرت الأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَّة من التقدير للعلوم والمعارف الأخرى ما لم تعرفه أُمَّةٌ مدى التاريخ، حتى أَنَّ الخلفاء ليقدمون جائزة الكتاب المأخوذ والمترجم عن الأمم الأخرى وزنه ذَهَبًا، فترجمت كتب العلوم والفنون، عن اليونان وَالفُرْسِ، والهند، ونقلت ثقافاتهم إلى اللغة العربية مِمَّا كان إِنْجَازًا عِلْمِيًّا وَحَضَارِيًّا ضَخْمًا في فترة وجيزة. لكن حدث أَنَّ كَثِيرًا من المُفَكِّرِينَ انْبَهَرُوا وَتَأَثَّرُوا بأساليب المناطقة والفلاسفة وتأثروا بها كَثِيرًا، حتى ظهرت فئة تُؤْثِرُ هذه الأساليب على أساليب المُحَدِّثِينَ وَأَهْلِ الأَثَرِ، بل إِنَّ منهم من راح يطعن على أهل الحديث نَهْجَهُمْ وَيَرُدُّ الأحاديث الصحيحة وَيَتَأَوَّلُ النصوص القطعية الصريحة، بمجرد الأوهام التي عَشَّشَتْ في عقولهم بتأثير العقلية المادية أو الفلسفية التي تَسَرَّبَتْ إليهم من بعض تلك الثقافات التي ترجمت عن اللغات والأمم الأخرى، حتى وجد من ينكر من الغيبيات أشياء لا يمكن إنكارها وَيَتَأَوَّلُ ايات القرآن وَالسُنَّةِ المتواترة في الملائكة والجن تَأَثُّرًا بتلك العقلية والأوهام المادية، كما أوضحه لنا العلماء في رُدُودِهِمْ على هذه الفِرَقِ ولا سيما معاصرهم الإمام ابن قتيبة في

السنة والاحتكاك بالثقافات الأجنبية المعاصرة:

كتاب " تأويل مختلف الحديث "،، وقد وصف هؤلاء بأنَّ بعضهم بلغ به الغرور إلى درجة أَنَّ أحدهم لو أراد أَنْ ينتقل من الإسلام إلى أي دين من الأديان النصرانية أو اليهودية ما وجد له مُتَّسَعًا ولا مُتَنَقَّلاً ينتقل إليه؟. فكانت في مقابلة ذلك تلكم الوقفة الضخمة التي وقفها أَهْلُ السُنَّةِ وَالحَدِيثِ ومقدمهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في وقفته الكبرى التي كان لها بليغ الأثر وعظيم الفضل في تصحيح مسار الفكر الإسلامي والتزامه بالأصل الصحيح وهو الاحتكام والالتزام بِالكِتَابِ وَالسُنَّةِ. إِنَّ وقفة الإمام أحمد في فهمنا وتفسيرنا، ليست لأجل مسألة جزئية وهي مسألة خَلْقِ القُرْآنِ وحدها وحسب، بل إِنَّ هذه الجزئية تعبير عن الأمر الكلي، والإصرار على تقرير المنهج الصحيح أمام مفترق الطرق التي فرقتها الأهواء المتأثرة بالثقافات الأجنبية؟ فعلى أي نهج يدرج الفكر المسلم؟ هل يفكر بالمنهج والأصول العِلْمِيَّةِ والإِسْلاَمِيَّة أم نفكر بالمنهج الذي وضعه أرسطو وأفلاطون وغيرهما؟. وقد سجل التاريخ هذه الوقفة للإمام أحمد بن حنبل بما يناسب المعنى الذي فَسَّرْنَاهُ به حتى قالوا: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَ هَذَا الدِّينَ بِأَبِي بَكْرٍ الصِدِّيقَ يَوْمَ الرِدَّةِ وَبِالإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ يَوْمَ المِحْنَةِ» (¬1) السُنَّةُ وَالاحْتِكَاكُ بِالثَّقَافَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ المُعَاصَرَةِ: في مطلع عصرنا الحديث ومنذ أول القرن الرابع عشر الهجري أعاد ¬

_ (¬1) " تذكرة الحفاظ " للذهبي: ص 431، 432.

التاريخ نفسه باحتكاك العالم الإسلامي الراقد في سِنَةِ الغَفْوَةِ مع الشرق والغرب، ونتيجة الصِدَامِ العَسْكَرِيِّ، ومحاولات الاستعمار للغزو الفكري الذي يفوق في الواقع فِي خُبْثَهُ وَخَطَرِهِ كل خطر فأخذت تَتَرَدَّدُ منذ ذلك الوقت وتتكرر دسائس وأباطيل حول السُنَّةِ أثارها مستشرقون مغرضون متحاملون، وَتَلَقَّفَهَا، وَيَا لِلأَسَفِ بعض أبنائنا من المُنْبَهِرِينَ بحضارة الأجنبي وَالمُغْتَرِّينَ بزخارفها وزينتها، وصاروا يدندنون بما تلقفوا من آراء بعض المُسْتَشْرِقِينَ المُتَحَامِلِينَ وَيُرَدِّدُونَ، دون علم منهم بما في هذه المقالات من عظيم البُهْتَانِ وَزَيْفِ البَاطِلِ المُخْتَلَقِ أَوْ تَوَهُّمٍ وَوِسْوَاسِ الجَاهِلِ بِأَمْرِ هَذَا العِلْمْ ومنهجه المتعمق والمتكامل. وقد نهض علماء الإسلام في هذا العصر أَيْضًا بواجبهم وَتَصَدُّوا لهذه المحاولات، وَصَنَّفُوا فِي الرَدِّ على هذه الأباطيل والافتراءات أَبْحَاثًا قَيِّمَةً مفيدة، أَدُّوا بها واجب الأمانة والعلم أجزل اللهُ مَثُوبَتَهُمْ وأينعت جهودهم ثِمَارًا عظيمة الفائدة أَمَدَّتْ مكتبة العلوم الإِسْلاَمِيَّة بِزَادٍ جديد على غاية الأهمية تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْهُمْ. ونحن في موقفنا هنا نَوَدُّ أَنْ نتعرض لبعض قضايا هذه الإثارات تمس الحاجة إليها ولعلها قد ترددت هنا في آونة أخيرة في بعض المناسبات وهي استشكالات تختلف عن كثير مِمَّا نوقش وقدم الرَدَّ عليه لأنها تمس تكوين منهج المُحَدِّثِينَ بكليته وليست تقتصر على أمور جزئية منه. وَأُلَخِّصُ هذه القضايا التي أَوَدُّ أَنْ أتناولها بالمناقشة بعبارات عن المستشرق اليهودي جولدتسهير المتحامل على الإسلام في الشرق والغرب، وتبعه ليون بورشيه في كتابه " دِرَاسَاتٌ في السُنَّةِ الإِسْلاَمِيَّة " مع بعض عبارات وأفكار مِمَّا صدر عن بعض الأقدمين وَالعَصْرِيِّينَ المُتَأَثِّرِينَ بالفلسفة اليونانية أو العقلية المادية.

أولا: الشكل والمضمون:

أَوَّلاً: الشَكْلُ وَالمَضْمُونُ: يَدَّعِي تْسِيهِرْ ومن معه أَنَّ فحص علماء الإسلام لِلْسُنَّةِ وَنَقْدِ الروايات يعتمد على النقد الخارجي فقط يريدون (نقد السند) دون النظر من حيث النقد الداخلى، يقصدون «نَقْدَ المَتْنِ» فعندما يقدم هذا الإسناد سلسلة متصلة لشيوخ جديرين بالثقة فَإِنَّ هذا الحديث يعتبر صَحِيحًا حتى لو كان قد نقل به فكرة مستحيلة تَدُلُّ على الكذب والبهتان. ثَانِيًا: التَّنَاقُضُ بَيْنَ الأَحَادِيثِ: وهو اِدِّعَاءٌ قديم وَجَّهَهُ إلى المُحَدِّثِينَ من لم يُمْعِنْ النظر في صنيعهم، ثم كَرَّرَ - المُسْتَشْرِقُونَ، وبعض من تَلَقَّى عنهم أو قرأ آراء أولئك السابقن، فزعم هؤلاء كلهم أَنَّ المُحَدِّثِينَ حملوا المتناقض من الروايات وَصَحَّحُوهَا، فإنه كما يقول بعض المُسْتَشْرِقِينَ، وضعت مبادىء شكلية زعم أصحاب الحديث أنها تستهدف تصحيح عِلَلِ الحديث، أي إزالة التعارض. وقد اغْتَرَّ بهذا الزعم كَثِيرٌ مِمَّنْ لم يخبر واقع هذا العلم الدقيق وحقيقة أصول المُحَدِّثِينَ في مواجهة هذه المشكلة حَتَّى تَوَرَّطَ في ذلك بعض من لا ينبغي أَنْ يصدرعنه ذلك فاعترض على حديث «أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ»، وقال: «لَعَلَّ عِيسَى ضَرَبَهُ أَيْضًا فَفَقَأَ عَيْنَهُ الأُخْرَى؟؟». ثَالِثًا: فِي تَطْبِيقِ المُحَدِّثِينَ لِمَنْهَجِ النَّقْدِ: زعموا أَنَّ المُحَدِّثِينَ في حقل التطبيق لم يراعوا القواعد التي قَََعَّدُوهَا لنقد الأحاديث بل إنهم مشوا أحاديث موضوعة مسفة جِدًّا والامتياز النبوي لمحمد هو وسيلة للتغلب على مثل هذه المشكلات فللبرهنة على أَنَّ أبا حنيفة هو أفضل فقيه من فقهاء الشريعة الدينية اخترع تلامذته الحديث التالي: «يَكُونُ

مواجهتنا لهذا التحدي بيان التكامل والشمول في منهج المحدثين:

فِي أُمَّتِي يَوْمًا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسَيَكُونُ سِرَاجُ أُمَّتِي»، ولم يجهدوا مُطْلَقًا فِي أنْ يجعلوا الناس يُصَدِّقُونَ بأنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ذكر فِعْلاً اسم العالم العراقي كذا قال جولدتسهير وتابعه ليون بورشيه. هكذا تَكَلَّفَ هؤلاء الخوض في هذا العَلَمِ العظيم ثم راحوا يَتَطَفَّلُونَ على علم الحديث ينقدونه، وعلى المُحَدِّثِينَ يقترحون عليهم. وَأَوَدُّ أَوَّلاً أَنْ أُنَبِّهَ إخواني إلى رأي في جملة مزاعم الناقدين لِلْمُحَدِّثِينَ ببيان تصنيفها العلمي، وذلك أنها بصورة إجمالية ليست أكثر من تخيلات أو أباطيل أو أوهام، إنها ليست من النوع الذي يرقى إلى ما يسميه العلماء في بحوثهم ومناقشاتهم «شُبْهَةٌ» لأنها ليست من نوع ما يشتبه على العقل الباحث الجاد، بأن يقع له دليل ضعيف يخلط فيه الناظر فيظنه قَوِيًّا، إنما هي تخيلات أو أوهام وبعضها مزاعم مُلَفَّقَةٌ فقد فضح تلفيقها أصحابها وغشاهم بِالخِزْيِ وَالخَيْبَةِ. لكننا نتساءل هل نشأت هذه الأفكارعند هؤلاء لأنهم لم يفهموا منهج المُحَدِّثِينَ، أو أنهم فهموا ذلك فأرادوا أَنْ ينتهزوا غفلة الناس عن تكاسل بنيان علم الحديث وإحكام خِطَّتِهِ النقدية؟. مُوَاجَهَتُنَا لِهَذَا التَّحَدِّي بَيَانُ التَّكَامُلِ وَالشُّمُولِ فِي مَنْهَجِ المُحَدِّثِينَ: ومن هنا فإنا رأينا أنه لِزَامًا علينا في مواجهة هذا التحدي أَنْ نُبَيِّنَ أَوَّلاً هذا الأصل الجوهري البالغ الأهمية في عمل المُحَدِّثِينَ، أعني مزية التكامل والدقة والإحاطة فَإِنَّ هذا البيان مُهِمٌّ جِدًّا بسبب ما يلحظه الناظر في كُتُبِ

المُصْطَلَحِ من إعواز لبيان هذا الأمر، وَإِنْ كان السبب اعتماد علمائنا السابقين - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى - على تحصيل العلم في الصدور وتكوين المَلَكَةِ، ولكن هذا البيان يزيد الردود والمناقشة وُضُوحًا وَجَلاَءً، وَقَدْ عَلَّمَنَا الإسلام الحنيف أَنْ نقيم أمورنا على الحُجَّةِ الواضحة والبرهان الساطع حتى صار ذلك غاية أُمْنِيَّةَ العَالِمِ، بَلْ مُتْعَةَ البَاحِثِ، كما قيل لبعض العلماء الكبار: فِيمَ لَذَّتُكَ؟ فَقَالَ: «فِي شُبْهَةٍ تَتَضَاءَلُ افْتِضَاحًا، وَحُجَّةٍ تَتَبَخْتَرُ اتِّضَاحًا». وقد توصلنا بفضل الله تعالى وتوفيقه إلى صياغة مبتكرة لهذا العلم علم المصطلح، تبرز وتظهر بجلاء تكامل هذا العلم وَدِقَّتِهِ وَشُمُولِهِ، وأنه في الواقع يشكل ما يسمى بلغة عصرنا هذا (نِظَامًا) أَوْ (نَظَرِيَّةً) نَقْدِيَّةً مُتَكَامِلَةٍ، تتآلف فيها أنواع علوم الحديث كلها، لتبدو في مجموعها منطلقة بتسديد وإحكام نحو الغاية المنشودة، فواجهنا هذا التحدي ببادرة جديدة تَعْتَمِدُ عَلَى الرَدِّ العِلْمِيِّ وَالتَّطْبِيقِ الفِعْلِيِّ في جلاء نظرية النقد عند المُحَدِّثِينَ بقالب جديد ليبرز هذا التكامل، وليس بمجرد الحوار والجدال. وتقوم هذه النظرية على أساس بسيط جِدًّا وسهل الفهم مقتبس من نص الحديث المتواتر: «نَضَّرَ اللهُ امْرُءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ». فَإِنَّ هذا اللفظ يدل على أنه لاَ بُدَّ لكي يكون الحديث مقبولاً أَنْ يكون راويه قد أداه كما سمعه، وهذا بلا شك أمر واضح لا جدال فيه، وهو يوجب علينا أَوَّلاً أَنْ نَخْبُرَ أَحْوَالَ الرُّوَاةِ، وقد استوعب المُحَدِّثُونَ ذلك بأصول عديدة شاملة تُبَيِّنُ كل ما يتصل بالراوي جَرْحًا وَتَعْدِيلاً، وَتِبْيَانًا لاسمه ونسبه وتمييزه عمن قد يشابه اسمه حتى أحصوا ذلك إحصاء عَجِيبًا وَبِتَمْيِيزٍ دَقِيقٍ، مثل تمييزهم بين من يتفق اسمه مع غيره في الرسم، ويختلف في النطق مثل هذه الأسماء (يزيد،

بريد، تزيد) أو يتماثل اسمه مع اسم غيره أو غير ذلك، في جملة علوم تبلغ ثلاثين نَوْعًا (¬1). ثم إِنَّ أَخْذَ الراوي عن أساتذته له أحوال وأحكام، وكذلك تبليغه يعتريه أحكام أَيْضًا، فكانت دراسة علوم الرواية مُكْمِلَةً لما سبق وَمُتَمِّمَةٌ لَهُ، وهي خمسة علوم من علوم الحديث (¬2). ولما أنَّ الأحاديث وصلت إلينا بنقل رجال السند وَاحِدًا عن الأخر حتى يبلغوا قائلها كان من الواجب أَنْ ندرس شروط القبول في السند والمتن وذلك في تعريف «الحديث الصحيح» و «الحديث الحسن» وقد توصلنا ببحث خاص وتحقيق جديد إلى بيان كفاية شروط الحديث المقبول لإثبات سلامة الحديث وأدائه كما سُمِعَ من قائله وكيف أَنَّ قواعد هذا الفن البالغة ثمانين قاعدة تعمل كلها لتحقيق هذه الغاية بواسطة شروط الحديث الصحيح والحسن، التي تستجمع في الحقيقة كل قواعد الحديث وقوانينه (¬3)، والتي متى اختل شيء منها كان الحديث ضعيفًا، لما فيه من فقد المعيار الذي يثبت سلامة النص المروي. ثم ننتقل في ضوء ما سبق إلى السير والدرس لكل جوانب الحديث ونوضح احتمالات الضعف والقوة فيها، ابتداء بأحوال المتن، ثم بأحوال السند وما يعرض له من اتصال أو انقطاع أو غير ذلك. ثم نتتبع الأنواع والأحوال المشتركة بين السند والمتن كالشاذ ¬

_ (¬1) انظر دراستها مفصلة في كتاب " منهج النقد في علوم الحديث " الباب الثاني في علوم الرواة: ص 73 - 187. (¬2) انظر دراستها في المرجع السابق، الباب الثالث في علوم الرواية: ص 188 - 239. (¬3) وذلك في بحث " الاتجاهات العامة للاجتهاد ومكانة الحديث الصحيح فيها "، تحت الطبع.

مناقشات وردود حاسمة:

والمضطرب، حتى تصل الدراسة إلى قمة البحث في الحديث المُعَلَّلِ سواء كانت العلة في السند أو في المتن أو فيهما جميعا. مناقشات وردود حاسمة: هذا بيان موجز قدمناه بين يدي المناقشة والنقد لما ذكرناه من الأوهام حول منهج المُحَدِّثِينَ، ومنه نرى أن عمل المُحَدِّثِينَ شامل لنقد السند والمتن على حد سواء، ونلمس بطلان ما يردد من أقاويل حول منهج المُحَدِّثِينَ وعملهم العلمي. وَنُفَصِّلُ هذا بتفصيل الرد على المزاعم الثلاثة الأولى التي أوردناها فنقول: أولاً ـ مسألة الشكل والمضمون في نقد الرواية: إن الادعاء بأن فحص العلماء للحديث يقوم على نقد السند فقط ويقتصر عليه، لهو أشهر انتقادات المُسْتَشْرِقِينَ ومقلدتهم الذين يجترُّون أفكارهم ويرددونها ترداد الببغاء، ونلاحظ قبل المناقشة أن هؤلاء لا يعبرون باصطلاحات المُحَدِّثِينَ «سند»، «متن» بل يغيرون المصطلحات الإِسْلاَمِيَّة رغم دقتها ووضوح معناها، إلى مصطلحات سطحية غامضة، لا يدري القاريء معناها، مِمَّا ينم عن الغرض الذي في نفوسهم. ثم بعد هذا البدء والإعادة منهم في هذا الزعم نجد أنه على شهرته أشد مزاعمهم ضعفا وأوضحها سقوطا، ومن الدليل على ما قلناه: 1ـ إِنَّ أيَّ طالب علم درس أَيَّ كتاب في مصطلح الحديث لو تفكر قليلا لتبين له سقوط هذا الادعاء وزيفه، لأننا نقرأ أيّ كتاب في مصطلح

الحديث فنجد في تعريف الحديث الصحيح والحسن أنه يشترط فيهما شرطان أساسيان لقبول الحديث هما: سلامته من أن يكون شَاذًّا أَوْ مُعَلاًّ، ثم ننظر في شرح التعريف فنجدهم يقولون: إن الشذوذ قسمان: شذوذ السند وشذوذ المتن، وكذلك العلة قسمان: علة في السند وعلة في المتن. وهي حقيقة مقررة يعرفها صغار طلبة العلم، فهل في الدنيا عاقل يصدق بعد هذا أنهم ينتقدون الإسناد فقط، ولا ينتقدون المتون. 2 - إن نظرة إلى الصفحات الأولى من كتب هذا العلم لو كلف احدهم نفسه أن يمر بمكتبة ويتناول كتابًا في مصطلح الحديث ويقرأ قليلا من أوله، لوجد أمامه تعريف هذا العلم بما يبين حقيقة هذه القضية لأنه سيجدهم يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ «عِلْمٌ بِقَوَانِينَ يُعْرَفُ بِهَا أَحْوَالَ السَّنَدِ وَالمَتْنِ مِنْ حَيْثُ القَبُولِ أَوْ الرَدِّ» (¬1). فأين هي النظرة الشكلية التي تنظر للإسناد دون المتن أم أنهما قرينان لا ينفصل أحدهما عن الآخر في أي أصل من هذا العلم، وهل يا ترى لو اطلع قائل هذا الزعم على كتاب في أصول الحديث هل كان يجتريء أن يقول قولته؟ أم أن الأمر عنده سيان؟. 3 - إنا نجد عند المُحَدِّثِينَ قاعدة أدق وأبلغ وهي قاعدة متفق عليها بينهم جميعا يقررون فيها: أنه قد يَصِحُّ السند ولا يصح المتن لِشُذُوذٍ أَوْ عِلَّةٍ، وقد يصح المتن ولا يصح السند لورود دلائل على صحة المتن من طرق أخرى، وهذا مُقَرَّرٌ في كل مراجع هذا الفن وليس هو من المعلومات النادرة وذلك يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أَنَّ المُحَدِّثِينَ احتاطوا من النظرة الشكلية القاصرة، وأنهم احتاطوا لكل احتمال، وأعدوا له العدة في منهج موضوعي، شامل ومتعمق أَيْضًا ¬

_ (¬1) انظر في " تدريب الراوي " للسيوطي: ص 5.

4 - نقول لهم بعد هذا: ما تظنون فيما أسميتموه النقد الخارجي؟ هل تظنونه تم واستكمل عند المُحَدِّثِينَ بعيدًا عن النظر والفحص للمتون وهذا الذي قلتم: «سلسلة شيوخ جديرين بالثقة، هذا الجدير بالثقة كيف كان جديرًا بها؟ هل حصل عليها بصك غفران أو لانتمائه إلى فئة معينة؟؟ أم أنه كما هو الواقع حاز على هذه الصفة (ثِقَةٌ) بأن اجتاز اختبارًا شاملاً لشخصيته لتحقيق صفة العدالة أو ما نسميه الآن الأمانة العلمية وصفة (الضَبْطِ) أو ما يمكن أن نسميه الكفاءة العلمية التي بها يكون على مستوى استيعاب الحديث وأدائه كما سمع. في الواقع إن إثبات ثقة الرُوَّاةِ، وكونهم جديرين بالثقة هذا الذي استخف به جولدتسهير وَمُقَلِّدَتُهُ يرتبط المتون ارتباطًا قَوِيًّا لأن توثيق الراوي لا بد فيه من اختبار مروياته وعرضها على روايات الثقات فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو كانت له مخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه (ضَابِطًا) (¬1) وحكمنا له مع اتصافه بالعدالة بأنه (ثِقَةٌ). وهذه كتب الجرح والتعديل مليئة بألفاظ الجرح للرواي بسبب الخطأ في مروياته مثل قولهم (فُلاَنٌ مُنْكَرُ الحَدِيثِ). (يَرْوِي المَنَاكِيرَ). (يَرْوِي الغَرَائِبَ). (رَوَى حَدِيثًا بَاطِلاً). (رِوَايَاتُهُ وَاهِيَةٌ). وغير ذلك كثير يدل على أن المُحَدِّثِينَ كانوا في الاحتياط أبلغ مِمَّا يريده المتطفلون عليهم. على أنا بعد هذا نرجو أَنْ لاَ يُتَوَهَّمَ من نقاشنا أننا نغض من نقد السند، أو هموم الرُوَّاةِ، بل إن للسند قيمته التي لاَ تُجْحَدُ وَلاَ تُنْكَرُ في ¬

_ (¬1) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 106. وانظر الفكرة في " مقدمة صحيح مسلم ".

ثانيا ـ ادعاء التعارض والاستشكال على الأحاديث:

ميزان النقد، وهو الخصوصية التي اختص اللهُ بها النقد الإسلامي على مناهج النقد في الدنيا، في قديم عصورنا وفي حديثها فإن هذا السند لا ينقل كَلاَمًا عَادِيًّا عن شخص عادي، بل ينقل عن صاحب الوحي الذي يُبَلِّغُ عن اللهِ تعالى، فَأَمْرُهُ هُوَ أَمْرُ اللهِ، وَنَهْيُهُ هُوَ نَهْيُ اللهِ، فمن البَدَهِيِّ أن نقول لمن يروي شَيْئًا من الحديث، مَا سَنَدُكَ فِي نَقْلِ هَذَا الكَلاَمِ. بل أننا لنعتز بعناية علمائنا بنقد الأسانيد، بل بتقديم نقد الأسانيد على المتون في كثير من المواضع، وذلك لأن المتن في كثير من الأحيان ربما لا يشتمل على دلائل توحي بشيء يستدل به على صحة النص أو سقمه مِمَّا يجعل نقد السند متعينا وَمُقَدَّمًا لا محالة، على حين تبقى أفكار الناقد غير المسلم في مثل هذا الوضع حائرة في احتمالات الحدس والتخمين، أو ضالة في المتاهات واتجاهات الظنون والتخيلات. ثَانِيًا ـ ادِّعَاءُ التَّعَارُضِ وَالاسْتِشْكَالِ عَلَى الأَحَادِيثِ: لقد سبق أن واجه المُحَدِّثُونَ منذ القدم هذا الزعم، وعالجوه بالقواعد والقوانين الكافلة بوضع الأمر في نصابه مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ ادِّعَاءَ التعارض بالقواعد والقوانين إنما يأتي من عدم الفهم، أو من قلة التدبر في حقيقة المراد من النص، بل قد وجدنا أكثر من واحد يُورِدُونَ التعارض بين أحاديث لا أصل لها البتة، أو يعارضون حديثًا صحيحًا بحديث مختلق مصنوع. وَنُفَضِّلُ الجَوَابَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَلِي: 1 - إن ادِّعَاءَ التعارض أو الاستشكال على النصوص ليس بالأمر الصعب مهما بلغت من الدقة والإحكام ما دام فيها ما ليس منه بُدٌّ، من عام

وَخَاصٌّ مُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمُطْلَقٌ وَمُقُيِّدٌ يُقَيِّدُهُ، وَمُجْمَلٌ وَمُفَسِّرٌ يُفَسِّرُهُ. فهل يقبل هؤلاء المعترضون أن يطبق عليهم حكمهم ونترك كلامهم اللجلج، وَهَلاَّ وسعتهم الأحاديث الضخمة المحكمة التي لا إشكال فيها ولا سؤال، إذن لوجدوا ما يملأ ساحة التشريع والفكر. 2 - إِنَّ المُحَدِّثِينَ قد تبعوا قواعد وشروطًا لعلاج مشكلة ما يظن فيه تعارض مع نص آخر أو إشكال، وهذه القواعد والشروط هي من صميم نهج نقدهم، تتصل اتصالاً وثيقًا بشروط قبول الحديث ذاتها ويتفرع عليها أنواع من علوم الحديث، مثل الشاذ، المحفوظ، المنكر، المعروف، الناسخ، المنسوخ، المضطرب، المُعَلَّلُ، ومختلف الحديث. تفصيل ذلك: إن الحديث المقبول إذا عارضه حديث ضعيف طرح الحديث الضعيف وحكم عليه بالإنكار، كما بَيَّنُوا في الحديث المنكر (¬1). أما إذا عارضه حديث من رواية الثقات، ولا نسميه الآن صَحِيحًا فإننا ننظر في طبيعة النَصَّيْنِ وفي مدلوليهما فإن وجد وجه للتوفيق والجمع بينهما عمل به، وتبين زوال التعارض، وأنه نشأ من قلة التمعن. وكذلك إذا دَلَّ البحث على أن أحد النَصَّيْنِ جاء بعد الآخر وحل محله فلا تعارض هنا، لأن الشارع نسخ الحكم المتقدم بالحكم الآخر. أما إذا لم يظهر هذا ولا ذاك فإننا نأخذ بالراجح والأقوى، ويكون هو «الصَحِيحُ» وَيُسَمَّى أَيْضًا المحفوظ ويكون المرجوح «شَاذًّا» أو «مُعَلَّلاً» ... وهو مردود ¬

_ (¬1) انظر " نخبة الفكر " و " شرحها " لعلي القاري: ص 85 - 89 و " تدريب الراوي ": ص 152.

وقد عُنِيَ العلماء بأوجه الترجيح وأنواعها وَتَقَصَّوْهَا بجزئياتها وكلياتها حتى زادت جزئياتها على مائة وجه من أوجه الترجيح، وضبطت كلياتها في سبعة أقسام كلية ترجع كلها إليها (¬1). وهكذا نجد البحث في موضوع التعارض قد شمل كل جوانبه وعالج المشكلة عِلاَجًا يزيل كل توهم حول الحديث الصحيح والحسن. . 3 - عني العلماء بدراسة ما أشكل من الأحاديث دراسة تفصيلية تتناول كل حديث منهما، فأجابوا عنه عند شرحهم للحديث في الشروح الحافلة التي صَنَّفُوهَا على كُتُبِ السُنَّةِ، ولم يكتفوا بذلك بل أفردوا هذا اللون العلمي بالدراسة في كتب خاصة كثيرة، نذكر منها: " اختلاف الحديث "، للإمام الشافعي. " تأويل مختلف الحديث "، لابن قتيبة. " مشكل الآثار "، للطحطاوي. " مشكل الحديث "، لأبي بكر بن فورك. " مشكل الحديث "، للقصري. فَمَثَلاً: الحديث الذي أوردناه، والذي استشكله بعضهم في محاضرة عِلْمِيَّةٍ في إحدى قاعات جامعة كبيرة مشهورة، هذا الحديث صحيح متفق عليه، أخرجه الشيخان بأسانيدهما عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: " أَرْسَلْتَنِى إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ! "، قَالَ: " فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. ¬

_ (¬1) أورد الإمام الحازمي من أوجه التوفيق التفصيلية خمسين وَجْهًا في كتابه " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ": ص 11 - 27 وأوصلها العراقي في " نكته على ابن الصلاح " إلى أكثر من مائة، ثم جاء السيوطي فضبطها بسبع قواعد كلية في كتابه " تدريب الراوي ": ص 388 - 391.

قَالَ: «أَىْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ؟». قَالَ: «ثُمَّ الْمَوْتُ». قَالَ: «فَالآنَ»، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ» (¬1) وقد أجاب عنه العلماء منذ أزمان بأجوبة كثيرة نذكر منها. أنَّ الملائكة مخلوقات نورانية ليست مادية، لكن الله أعطاها قُدْرَةً على التشكل بالصور المادية، أَلاَ ترى أنَّ جبريل - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أتى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصورة دحية الكلبي، وَمَرَّةً في صورة أعرابي، فلما جاء الملك موسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وجاذبه، لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل لا تمثيل، وليست عَيْنًا حقيقية للملك، ولم يضر الملك بشيء. وقال: الإمام أبو بكر بن فورك (¬2): «وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إَِِّن مَعْنَى قَوْلِهِ لَطَمَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - عَيْنَ مَلَكَ المَوْتِ تَوَسَّعَ فِي الكَلاَم وَهُوَ نَحْوَ مَا يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنه قَالَ: " أَنَا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَة " يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلْزَامَ مُوسَى مَلَكَ المَوْتِ الحُجَّةَ حِينَ رَادَهُ فِي قَبْضِ رُوحِهِ ... ». 4 - الأحاديث الواردة في أمور من علوم الكون والطبيعة وأخص بالذكر هنا الأحاديث المتعلَّقة بالطب. ¬

_ (¬1) " البخاري ": في الجنائز (باب من أحب أنْ يُدْفَنَ في الأرض المقدسة) ج 2 ص 90 والأنبياء (باب وفاة موسى) ج 4 ص 157. و " مسلم " واللفظ له: ج 7 ص 100. (¬2) في كتابه " مشكل الحديث ": ص 113، وانظر " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة: ص 277 - 278.

لقد عُنِيَ أسلافنا بهذه الأحاديث، وَصَنَّفُوا فيها مجموعات عرفت باسم الطب النبوي، ورأى العلم فيها دلائل من دلائل نُبُوَّتِهِ وَبَرَاهِينَ رِسَالَتِهِ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، لما اشتملت عليه من فوائد عرفها الطب وأفاد بها، كما أبرزت ذلك دراسات معاصرة كثيرة مثل الدراسات التي أجريت على الحَبَّةِ السَّوْدَاءَ، والدراسات التي أجريت على العسل وفوائده واستطباباته وهو طب القرآن وطب الحديث النبوي، حتى حازت بعض هذه البحوث على جوائز عالمية، ومع ذلك فالعلم يُقَرِّرُ أنه لا زال المجال مفتوحًا للمزيد من الدرس المفيد حول العسل. ولكن بعض الناس مِمَّنْ لم يتمعنوا في هذه الأحاديث استشكل ما وجده من بعض الأحاديث الطبية أو الصحية واشتهر الإشكال حتى لزم البحث فيه، وكشف اللثام عن حقيقة الأمر فيها. ونجيب عن الإشكال حول بعض الأحاديث إجابات إجمالية وإجابات تفصيلية فيما يلي: (أ) أما الإجابة الإجمالية: فإننا نؤمن بالله تعالى رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا وَرَسُولاً فمهما ثبت عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصح عنه في هذه القضايا فإننا نقبله ولا يضرنا بعد التثبت والتحري لثبوت صحة الحديث، عدم اكتشاف العلم لما أخبر به الحديث لأن العلم كما يقول خُبَرَاؤُهُ وَأَرْبَابُهُ مازال على حافة اكتشاف الكون. وقد زلق بسبب هذا الوهم كثيرون حتى أن بعضهم وهو موريس بوكاي، تناول بعض هذه الأحاديث بالنقد ليؤكد بذلك إعجاز القرآن، لأن أخبار القرآن عن الكون أخبار علمية قاطعة ومعجزة، فرأى أنه لو كان القرآن كلام مُحَمَّدٍ لوقع فيه مثل ما وقع في بعض الأحاديث.

وهذا خطأ فادح ناشيء من الغفلة عَنْ أَنَّ السُنَّةَ هي وحي أَيْضًا، ولكنها وحي غَيْرَ مَتْلُوٍّ، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬1). لكن هذا لا يعني أن نعمل بكل حديث في الطب من تلقاء أنفسنا بل يجب أن نرجع في كيفية ذلك إلى الأطباء أهل الخبرة بكيفية استعمال تلك الوصفات كما هو الشأن في أي علاج طبي مهما كان. وقد أقر كبار الأطباء الذين أطلعوا على أحاديث «الطب النبوي» بما أتت به هذه الأحاديث بل قال لي استاذ في كلية الطب بجامعة دمشق: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْتِ بِوَصْفَاتٍ طِبِيَّةٍ سَابِقَةٍ لِعَصْرِهَا فَحَسْبَ بَلْ إِنَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ جَاءَ مُقَنِّنًا لِلْطِبِّ وَالأَطِبَّاءِ». وقال لي زميل آخر من كبار أساتذه كلية الطب في جامعة دمشق (الدكتور محمود الجزيري): «كَيْفَ نَقْبَلُ كَلاَمَ هَؤُلاَءِ الأَجَانِبِ وَلاَ نَقْبَلُ كَلاَمَ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟. ذكر الدكتور الجزيري قِصَّةً من واقع حياته العلمية فيها كل العبرة لمن عقل وتدبر فقال: «قَدْ كُنْتُ أَوَّلَ مَا عُيِّنْتُ مُدَرِّسًا فِي كُلِيَّةِ الطِبِّ أُقَرِّرُ فَائِدَةَ شُرْبِ المَاءِ مَعَ الطَّعَامِ، أَخْذًا بِالحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ .. وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ .. وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ " وَقَدْ لاَحَظْتُ فَائِدَةَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى مَرْضَايَ الذِينَ أَصْبَحَ عَدَدُهُمْ يَزِيْدُ الآنَ عَنْ نِصْفِ مِليُونٍ وَكَانَ الطَّلَبَةُ آنَذَاكَ يُعَارِضُونَنِي لأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي الكُتُبِ التِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَالمَأْخُوْذَةِ عَنْ الأَجَانِبِ ضِدَّ ذَلِكَ وَكُنْتُ أَصَرُّ عَلَىَ رَأْيِي وَأُخَالِفُ تِلْكَ الكُتُب وَأَخِيرًا جَاءَ الطِبُّ يُقَرِّرُ مَا ذَكَرَهُ الحَدِيثُ ¬

_ (¬1) [سورة النجم، الآيتان: 3، 4].

الشَّرِيفُ وَيُوصِي بِشُرْبِ المَاءِ مَعَ الطَّعَامِ، لأَنَّهُ تَبَيَّنَ لِلأَطِبَّاءِ أَنَّ شُرْبَ المَاءِ مَعَ الطَّعَامِ يُفِيدُ مِنْ زِيَادَةِ إِفْرَازِ العُصَارَاتِ كُلِّهَا فِي المَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالأَمْعَاءِ، وَيُسَاعِدُ مُهِمَّةَ جِهَازِ الهَضْمِ بِتَلْيِينِ الطَّعَامِ وَصِيَاغَتِهِ كَعَجِينَةٍ تَنْفُذُ فِيهَا الْعُصَارَاتُ الهَاضِمَةُ، وَيَمْنَعُ القَبْضَ، وَكُنْتُ أُوْصِي بِالمَصابِينَ بِالْقَبْضِ (الإِمْسَاكُ) المُزْمِنِ بِكَثْرَةِ شُرْبِ المَاءِ مَعَ الطَّعَامِ وَكَانَتْ تَوْصِيَةً نَاجِحَةً مِائَةً بِالمِائَةِ ... » إلى آخر ما ذكره الزميل الدكتور الكبير - حَفِظَهُ اللهُ -، مِمَّا يجعلنا نأخذ العبرة لذلك في هذه الأحاديث الشريفة. (ب) وأما الإجابة التفصيلية: فأذكر فيها هذين المثالين: المثال الأول: حديث شرب لبن الناقة وبولها: وهو حديث صحيح متفق عليه أخرجه " البخاري " و " مسلم " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا»، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاةِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ... إلى آخر ما ذكر الحديث من عقوبتهم الشديدة (¬1). ¬

_ (¬1) " البخاري": في الطهارة (باب أبوال الإبل والغنم) ج 1 ص 52 ومواضع أخرى، و " مسلم ": في [كِتَابِ الْقَسَامَةِ] (باب حكم المحاربين) ج 3 ص 1296 ـ 1297 واللفظ لمسلم. وقد جاء في بعض الروايات: «عَلَيْكُمْ بِأَبْوَالِ الإِبِلِ فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ لِلذَّرِبَةِ (*) بُطُونِهِمْ» أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس مَرْفُوعًا كما في " فتح الباري ": ج 10 ص 120 كما ذكر داود الأنطاكي في " تذكرته ": ج 1 ص 279 أن لبن اللقاح مع بولها ينفع دَوَاءً للاستسقاء غير الريحي وهذا يشير إلى معرفة نفعها منذ القديم وقد ذهب المالكية إلى طهارة بول الإبل وبول ما يأكل لحمه استنادا لهذه الأحاديث. وقال الحنفية: هي نجسة لكنها نجاسة مخففة وأجابوا عن الأحاديث بأنها للضرورة. -------------------- (*) [وَالذَّرِبَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، جَمْعُ ذَرِبٍ وَالذَّرَبُ بِفَتْحَتَيْنِ فَسَادُ الْمَعِدَةِ].

والجواب من ملاحظة ما ذكرنا في الإجابة الإجمالية أنه لا ينبغي الاستشكال على الحديث لعدم توصل العلم إلى ما وصفه الحديث وغير ذلك مِمَّا ذكرناه بل إنه موجب عند العقلاء لمتابعة البحث حَتَّى يَتَوَصَّلَ الطب إلى طريق الإفادة من هذا العلاج وقد وفق الله تعالى بعض اخواننا من أساتذة جامعة دمشق وأفاد من هذا الطب النبوي في علاج طفل له صغير أصيب باستسقاء في رأسه، وتضخم رأس الطفل جِدًّا، وأعيا الأطباء علاجه، فتذكر الوالد العالم المؤمن قِصَّةَ العُرَنِيِّينَ، وصار يذهب إلى مناطق نائية يأتي منها باللبن من النوق، وكانت النتيجة جيدة والفائدة ملحوظة جِدًّا على حين لم يفدهم عقار الأطباء، ولولا عقبات بُعْدِ المكان وَنُدْرَةِ الحليب وغير ذلك من معوقات لأمكن أن تُسْتَوْفَى التجربة وتتابع وها نحن نذكر هذه المحاولة عسى أن تثير عزائم الخبراء للإفادة من الحديث في علاج هذا الداء بالتجارب العلمية كما أننا نهيب بأطبائنا أن ينفضوا عن أنفسهم نعاس الركون إلى الأجانب فباب العلم مفتوح لطالبه. ولهم بأسلافهم القدوة الحسنة: عِلْمًا أن تعليل نفع لبن الناقة وبولها للاستسقاء واضح وَمُيَسَّرٌ عِلْمِيًّا: وذلك لأن لبن الناقة يحتوي على كمية كبيرة من الكالسيوم مركزة فيه كما ذكر الدكتور الجزيري، يضاف لذلك ما ذكره الأنطاكي في " تذكرته ": ص 78 ج 1 أن الإبل ترعى النباتات الصحراوية كالشيح والقيصوم، وفيها مواد نافعة لفتح السدد، وهذا التوسيع أو الفتح للأوعية يساعد على تصريف السوائل المتجمعة في حالة الاستسقاء. المثال الثاني: حَدِيثُ الذُّبَابِ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ دَاءً». وهو حديث صحيح أخرجه البخاري وغيره (¬1). ¬

_ (¬1) " البخاري ": في آخر الطب و " أبو داود ": في الأطعمة، رقم 3844 كلاهما من حديث أبي هريرة وأخرجه " النسائي " من حديث أبي سعيد: ج 7 ص 178 - 179 وسنده حسن.

استشكل بعضهم هذا الحديث بأن الذباب ينقل الجراثيم وخصوصًا جراثيم حُمَّى التِيفُوئِيدْ فكيف نغمسه في الطعام أو الشراب ثم نطرحه بَدَلاً من أن نطرح الشراب الذي وقع فيه الذباب؟. وقد أجيب عن ذلك بأجوبة نظرية وتطبيقية. فمن الأجوبة النظرية: ما قاله طبيب إحدى الجامعات: «لَوْ لَمْ يَكُنْ الذُّبَابُ مُحَصَّنًا بِمُضَادَّاتِ تِلْكَ الجَرَاثِيمِ لَمَاتَتْ الذُّبَابَةُ بِعُلُوقِ الجَرَاثِيمِ بِهَا وَلَمَا بَقِيَ ذُبَابٌ فِي العَالَمِ». ومن الأجوبة التطبيقية ما لاحظه الأقدمون بالتجربة أَنَّ دَلْكَ مَوْضِعَ لَدْغِ الزُّنْبُورِ أَوِ العَقْرَبِ بِالذُّبَابِ يَنْفَعُ مِنْهُ نَفْعًا بَيِّنًا. ومن التطبيقات الحديثة: ما لوحظ على جرحى الحرب العالمية من الجنود أن جراحهم أسرع شفاء وَالْتِئَامًا من الضباط الذين يعنى بهم مزيد عناية في المستشفيات لأن الجنود يتداوون في الميدان فيتعرضون لوقوع الذباب على جراحاتهم ... ومنذ سَنَةِ 1922 نشر الدكتور ديريل بعد دِرَاسَةٍ مُسْبَقَةٍ لأسباب جائحات الهيضية (كُولِيرَا) في الهند وجود كائنات دقيقة تغزو الجراثيم وتلتهمها وتدعى مُلْتَهِمَاتِ الجَرَاثِيمِ (بَكْتِرْيُوفَاجْ) وأثبت ديريل أن البَكْتِرْيُوفَاجْ هو العامل الأساسي في إطفاء جوائح (الكُولِيرَا) وأنه يوجد في بُرَازِ الناقهين من المرض المذكور وأن الذباب ينقله من البُرَازِ إلى آبار ماء الشرب فيشربه الأهلون وتبدأ جذوة جائحة الهيضة بالانطفاء. وقد تمكن الأستاذ ديريل من تكثير مُلْتَهِمَ الجَرَاثِيمِ وتنميته والاستفادة منه في المعالجة كما أنه تأكد من تأثيره في الجَرَاثِيمِ بإضافته إلى مزروعها وملاحظة إذابته لها تَمَامًا ثم اكتشف منذ ذلك الحين حتى الآن عدد كبير من مُلْتَهِمَاتِ الجَرَاثِيمِ كُلٌّ مِنْهَا يَلْتَهِمُ نَوْعًا مُعَيَّنًا أَوْ عِدَّةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الجَرَاثِيمِ.

ثالثا ـ تطبيق المحدثين لنهجهم النقدي:

كما تأكد عام 1928 حين أطعم ذباب البيوت زروع جراثيم مُمْرِضَةٍ فاختفى أثرها بعد حين وماتت كلها من جراء وجود مُلْتَهِمَ الجَرَاثِيمِ شأن الذباب الكبير في مكافحة الأمراض الجرثومية التي قد ينقلها هو بنفسه وعرف أنه إذا هُيِّءَ خلاصة من الذباب في فصل فيزيولوجي فإن الخلاصة تحتوي على ملتهمات أربعة أنواع على الأقل مِنَ الجَرَاثِيمِ المُمْرِضَةِ. والغمس في الحديث ليس غَمْسًا للجناحين فقط وانما [هُوَ] غَمْسٌ لجسم الذبابة مع جناحيها فيدخل مُلْتَهِمُ الجَرَاثِيمِ إلى الشراب من جراء غَمْسِ جسمها هذا فَضْلاً عن أن الذبابة تمسح دَائِمًا أجنحتها بأرجلها ولذلك تكون الأجنحة مَقَرًّا لِلْمُلْتَهِمَاتِ وَلِلْجَرَاثِيمِ أكثر من غيرها من أعضاء الذبابة. ثَالِثًا ـ تَطْبِيقُ المُحَدِّثِينَ لِنَهْجِهِمْ النَّقْدِيِّ: وأما الادعاء والزعم بأن المُحَدِّثِينَ لَمْ يُطَبِّقُوا قواعدهم في النقد، فقد وجدت هذه الفكرة مَنْ يُرَدِّدُهَا من بعض المعاصرين في كتاب أصدره أَخِيرًا، حاز به فيما يبدو على درجة جامعية عُلْيَا، وقد صدر كتابه هذا بمحاولة للدفاع عن السُنَّةِ ولا أقول إنه دافع عَنْ السُنَّةِ، ثم بعد ذلك راح يزعم أن المُحَدِّثِينَ لم يطبقوا قواعد منهجهم بدقة في فصل طويل، أَيَّدَ فيه رأيه وَادَّعَى مَا ادَّعَاُه مِنْ قَبْلُ جولدتسهير؟. وهذا الزعم من أكبر الأدلة على تهافت منهج هؤلاء الناقدين المتعالين المغرورين، لأنه يشير إلى أَنَّ المُحَدِّثِينَ لو طبقوا قواعدهم، لكان نقدهم سليما، وقد كانوا يزعمون قَبْلُ أَنَّ نَهْجَهُمْ قاصر عن التمعن في قالتهم هذه يكشف حقيقتهم وَتَقَوُّلَهُمْ بغير علم، بل بمجرد التسرع، والمجازفة في الحكم، حتى لقد أصاب والله هؤلاء الناقدين من أنفسهم المقاتل بطعنهم المفتعل على المُحَدِّثِينَ ومنهجهم العلمي:

ومن أوجه تبيان ذلك بالأدلة القاطعة: 1 - أَنَّ المُحَدِّثِينَ قَرَّرُوا كما هو مُدَوَّنٌ في كل كتب علوم الحديث، أن من دلائل الوضع في الحديث مخالفته للوقائع الحِسِّيَّةِ المُشَاهَدَةِ أَوْ لِلْتَأْرِيخِ ... وهذا أمر مفروغ منه، مطبق على أوسع نطاق في نقد الأحاديث كما يشاهد في الكُتُبِ الخَاصَّةِ بالأحاديث الموضوعة والتحذير منها وفي كُتُبِ نقد الرُوَّاةِ. وهذه حادثة لطيفة من أسلاف جولدتسهير من اليهود لها دلالتها الهامة، جرت مع الحافظ الإمام أبي بكر الخطيب البغدادي سَنَةَ 447 هجرية. قال الإمام الذهبي في " تذكرة الحفاظ ": «أَظْهَرَ بَعْضُ اليَهُودِ كِتَابًا بِإِسْقَاطِ النَّبِيِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجِزْيَةَ عَنْ الخَيَابِرَةِ - يَعْنِي يُهَودَ خَيْبَرَ -وَفِيهِ شَهَادَةٌ لِلْصَّحَابَةِ، فَعَرَضَهُ الوَزِيرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ؟ فَقَالَ: «هَذَا مُزَوَّرٌ». قِيلَ: «مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا؟». قال: «فِيهِ شَهَادَةُ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ أَسْلَمَ عَامَ الفَتْحِ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَفِيهِ شَهَادَةُ سَعْدٍ بْنِ مُعَاذٍ، وَمَاتَ قَبْلَ خَيْبَرَ بِسَنَتَيْنِ». فَاسْتَحْسَنَ الوَزِيرُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ مَا فِي الكِتَابِ (¬1) انتهى. ¬

_ (¬1) " التذكرة ": 1141، وانظر " طبقات الشافعية الكبرى ": 4/ 35 و " الإعلان بالتوبيخ " للسخاوي: ص 10، و " الخطيب البغدادي " للدكتور يوسف [العش]: ص 235 وقد أحال إلى هذه المصادر وغيرها وأوردنا ذلك في تصديرنا لكتاب " الرحلة في طلب الحديث " للخطيب البغدادي، مع واقعة أخرى في عتق سلمان الفارسي ص 53 ـ 54. لكن الغريب أَنَّ القوم لم يرتدعوا بما حاق بهم من الخيبة بل حاولوا تثبيت هذه الوثيقة كَرَّةً ثَانِيَةً فأحضروا هذا الكتاب بين يدي ابن تيمية - رَحِمَهُ اللهُ - وحوله اليهود يزفونه ويجلونه وقد غشي بالحرير والديباج فلما فتحه وتأمله بزق عليه وقال: «هَذَا كَذِبٌ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ» وذكرها، فقاموا من عنده بِالذُلِّ وَالصَّغَارِ. انظر القصة وتفصيل الأوجه وهي عشرة في كتاب تلميذه ابن القيم: " المنار المنيف في الصحيح والضعيف ": ص 102 ـ 105.

فهذا الناقد المسلم لاَ يَتَرَدَّدُ لحظة ولا يتوقف عن الحكم ببطلان الوثيقة المُزَوَّرَةِ التي أسندها إلى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هؤلاء الأفاكون. وها نحن نجعل هذه التجربة التي خاضها أجداد «تْسِهِيرْ» مِنْ قَبْلُ هَدِيَّةً إِلَيْهِ تَعْبِيرًاعن الموقف البارد الذي يزعمه في حق النقاد المسلمين. 2 - إن الحديث الذي أوردوه وقالوا حَرْفِيًّا: «إنه مأخذ من حقل تطبيق هذا العلم نفسه، وهو حديث: أَبُو حَنِيفَةَ سِرَاجُ هَذِهِ الأُمَّةِ» (¬1). هذا الحديث هو نفسه برهان يثبت دِقَّةَ نَظَرِ المُحَدِّثِينَ، فإنهم قد وسموا بالكذب راويه مأمون بن أحمد السُّلَمِي الهَرَوِِي منذ الأيام التي ظهر فيها وطلع على الناس بهذا الحديث ونحوه وسجلوا اسمه في القائمة السوداء، قائمة الكَذَّابِينَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي لا تقبل لها توبة فِي الرِّوَايَةِ أَبَدًا. وكان منهم آنذاك عَصْرِيُّهُ الإمام أبوحاتم محمد بن حِبَّانَ البُسْتِيَّ - رَحِمَهُ اللهُ -. 3 - زعمهم أن العلماء لم يجهدوا مُطْلَقًا في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النَّبِيَّ قد ذكر اسم العالم العراقي. هذا زعم مناقض للحقيقة وللواقع تَمَامًا فإن هذا الحديث اسْتُنْكِرَ هُوَ وَمَا شَاكَلَهُ غَايَةَ [الاستنكار] من العلماء والعامة حتى سقط راويه ولم يعد يسمع منه أحد. ثم إن الراوي ليس من تلامذة أبي حنيفة ولا له صلة به، بل هو بعيد عن عصر أبي حنيفة وعن وفاته بمائتي عام. وقد قال الحاكم في " المدخل " - بعد أن أورد هذا الحديث -: «وَمِثْلُ هَذِهِ الأَحَادِيثِ يَشْهَدُ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». ¬

_ (¬1) [الحَدِيثُ الذِي وَضَعَهُ المُتَعَصِّبُونَ لأَبِي حَنِيفَةَ: «سَيَكُونُ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَالُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ هُوَ سِرَاجُ أُمَّتِي»].

فَهَلْ يُصَدِّقُ أَحَدٌ بعد هذا من يزعم أن الناس تلقوا الحديث بالقبول وأن الواضعين بزعمه الفاسد ورأيه الفاسد لم يجهدوا في أن يجعلوا الناس يصدقونه، أو أن الواقع يعكس ذلك، وأن الأُمَّةَ جميعها قد رفضت هذا الحديث كما رفضت سائر الأكاذيب وتبرأت منها ومن مختلقيها. 4 - إننا إذا رجعنا إلى حقل التطبيق الذي يزعم «جولدتسهير» ومن يتبعه أنه أخذ الحديث منه، فإننا سنجد العجاب من فظاعة الإفك وَالبُهْتَانِ. إن هذا الحديث قد نَبَّهَ عليه العلماء في مختلف العصور في تصانيفهم الحديثية المشتهرة والمتداولة بين الخاصة والعامة في كتب الأحاديث الموضوعة، وكتب مصطلح الحديث وكتب التعريف برجال الحديث، واسمحوا لي أن أطيل عليكم فأسرد جملة من المراجع من عصور مختلفة تُحَذِّرُ من هذا الحديث ومن روايته: [1]- ذكره معاصره الإمام محمد بن حاتم بن حِبَّانَ البُسْتِيَّ المتَوَفَّى فِي سَنَةِ 354 هـ في كتاب " المجروحين ". كما نقل عنه الذهبي في " ميزان الاعتدال ": ص 429 ـ 430. [2]- الحاكم أبوعبدالله المتَوَفَّى سَنَةَ 405 هـ في " المدخل إلى كتاب معرفة الإكليل ": (ورقة 291/ 2). [3]- ومحمد بن طاهر المقدسي المتَوَفَّى سَنَةَ 503 هـ فِي " تذكرة الموضوعات ": ص 144. [4]- وعبد الرحمن بن الجوزي (597 هـ) في " الموضوعات الكبرى " وقال: «حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَعَنَ اللهُ وَاضِعَهُ»: ج 2 ص 47 ـ 49. [5]- والذهبي (748 هـ) في " ميزان الاعتدال ". [6]- والحافظ ابن حجر (852 هـ) في " لسان الميزان ": ج 5 ص 8. [7]- والحافظ السَّخَاوِِيُّ (902 هـ) في " فتح المغيث ": ص 114.

[8] و [9]- والسيوطي (911 هـ) فِي كتابه " تدريب الراوي ": ص 181، و " اللآلي المصنوعة ": ج 1 ص 57. [10]- والحافظ أبوالحسن بن عَرَّاقْ (963 هـ) في كتاب " [تَنْزِيهُ] الشَّرِيعَةِ ": ج 2 ص. (¬1). [11] و [12]- وَالمُحَدِّثُ علي القاريِّ في " شرح النخبة ": ص 128، وفي كتاب " الموضوعات الكبرى "، وقال: «مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ المُحَدِّثِينَ»: ص 76. [13]- والشوكاني في " الفوائد المجموعة ": ص 420. [14]- والأبياري في " حاشية نيل الأماني ": ص 53. [15]- وَالعَلاَّمَةُ حسين خاطر في " لَقْطِ [الدُّرَرْ] ": ص 73. هذه خمسة عشر مرجعا في أعصر متتالية منذ عصر الرَّاوِي الوَضَّاع حتى عصرنا هذا، وفي حقول الحديث المتنوعة، حقل القواعد كـ " المدخل " و " تدريب الراوي ". وحقل التطبيق الذي زعم الطاعن أنه يرجع إليه كـ " الميزان " وغيره من كتب الرجال وكتب الموضوعات في شتى الحقول تُوَضِّحُ كذب هذا الحديث وتفضح إفكه وهي كلها بحمد الله مشهورة معروفة متداولة ثم يأتي بعد ذلك من يزعم أنه يُدِينُ المُحَدِّثِينَ من حقل تطبيقهم بأنهم يَرْوُونَ الأحاديث الموضوعة أو أنها تنطلي عليهم حين أنهم سَيَّرُوا في الناس وأذاعوا فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ التحذير من الأحاديث الموضوعة والتنبيه عليها بما في ذلك نفس الحديث الذي استشهد به الطاعن، حيث توالى المُحَدِّثُونَ على التحذير منه في المُصَنَّفَاتِ المشهورة المتداولة عَلَى مَرِّ العُصُورِ كَمَرِّ الدُّهُورِ. ثم إننا نلاحظ إخواني القُرَّاء، أَنَّ الأجانب وأتباعهم من أبنائنا يَتَبَجَّحُونَ ¬

_ (¬1) [لم يقع ذكر الصفحة في هذا المصدر، ورجعت إلى الكتاب نفسه. انظر: " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة " نور الدين ابن عراق الكناني (المتوفى: سَنَةَ 963هـ)، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، عبد الله محمد الصديق الغماري، 2/ 30، الطبعة الأولى: 1399 هـ، نشر دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان].

بما يقال له: «العِلْمُ التَّجْرِيبِيُّ» وبأنهم لا يقبلون قضية إِلاَّ إذا أقاموا عليها الدليل الصحيح الصريح، وَقَدْ تَبَيَّنَ لكم أن هذه الفئة المتحاملة من الأجانب لا تسلك هذا الأسلوب الملتزم بِالحُجَّةِ وَالبُرْهَانِ تُجَاهَ تُرَاثِنَا، بل قد أقامت أَحْكَامًا على غاية الخطورة دون أن يكون لهم على كلامهم مُسْتَنَدٌ ولا ما يشبه أن يكون مُسْتَنَدًا، إنما هي كلمات سطحية وَدَعَاوَى خَالِيَةٌ، تابعهم عليها بعض المُنْبَهِرِينَ من أبناء جلدتنا، ثُمَّ يَتَبَجَّحُ بِالعِلْمِ، والنظريات العلمية ويلوك هذا في أثناء كلامه الذي قد يشتمل على أفحش الأخطاء في حق الإسلام أو الحديث النبوي. والحقيقة أن هذا البعض مِنَ المُسْتَشْرِقِينَ الذين اشتهروا ما كان يمكن أن يشتهروا ويكون لهم شأن يذكر في بلاد الإسلام لولا أن بعض أبنائنا فَاجَؤُوا المسلمين ابتداء من مطلع القرن الهجري السابق بترداد تلك الآرَاءِ الشَاذَّةِ البَاطِلَةِ. وإلا فإن الدارسين في دنيا الغرب الذين خبروا تلك المجتمعات العلمية قد تعجبوا لما حدث في بلاد الإسلام من ضجة كبيرة حول هؤلاء بالرد عليهم وكثرة البدء والإعادة في ذلك، حتى صاروا كَأَنَّ لَهُمْ شَأْنًا كَبِيرًا. لكننا بسبب الانهزام الداخلي الذي وقعنا فيه تلك الفترة قفزنا بهم تلك القفزة. .؟، غير أننا لا نقصد بهذا إلى إغفال النقد العلمي، والمناقشة، كَلاَّ لكن يجب أن نعرف الأمور على حقيقتها وأن تكون واضحة في أذهاننا خُصُوصًا وقد تخلصنا الآن والحمد لله من رِقِّ تَقْلِيدِهِمْ ومن الانهزام الذي وقع فيه كثير من أبناء الطبقة السابقة علينا من بعض أهل الفكر المسلم، فقد أصبح عندنا الآن القناعة الكافية واليقين الراسخ بأن ما عندنا هو الحق واليقين وهو الأصل الذي يجب أَنْ تُبْنَى عليه القضايا والحقائق، كما أنه الخير الذي نقدمه للعالم ونود أن تستفيد منه الدنيا

الخاتمة: نتائج ومقترحات:

الخَاتِمَةُ: نَتَائِجَ وَمُقْتَرَحَاتٍ: ونسجل في الختام هذه النتائج والاقتراحات لهذا البحث: 1 - أَنَّ علم مصطلح الحديث علم إسلامي بحق أوجده المسلمون منذ عهدهم الأول بما أَتْبَعَهُ الصَّحَابَةُ من قوانين الرِّوَايَةِ ثم محاربة الكذب ثُمَّ نَمَا هذا العلم تَبَعًا لتطور الحاجة حتى تكامل تَمَامًا وأنه قام في كل مراحله على أسس دقيقة متكاملة. 2 - إن قواعد هذا العلم التي تبدو مفرقة في كتب المصطلح تكون في جملتها منهجا متكاملاً يدرس الحديث وينقده من جميع الجهات جهات الرِّوَايَةِ وَالرُوَّاةُ والأسانيد والمتون بما لا يدع مجالاً لبحث أو لقائل مع غاية الدقة والموضوعية. وإن أصول هذا العلم نسجت من سداها ولحمتها بنسيح إسلامي خالص سداه ولحمته الإسلام وأصول الكِتَابِ وَالسُنَّةِ في الرواية. 3 - إن ما أثير حول السُنَّةِ من الاستشكالات ليس سوى مَطَاعِنَ مُلَفَّقَةً لاَ مُسْتَنَدَ لَهَا بل ولا تظفر بما يشبه المستند إنما تعتمد على الخيال أو التقول. 4 - ضرورة العناية بجلاء مَنْهَجِ المُحَدِّثِينَ وَالذَبِّ عن الحديث النبوي حتى يكون الشباب المُثَقَّفُ على بصيرة من الركن الثاني من مصادر الإسلام وَالسُنَّةِ المُطَهَّرَةِ فإن السُنَّةَ مِنَ الذِّكْرِ الذِي تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) وتيقنوا بذلك أَيْضًا إعجاز تنفيذ هذا الوعد الإلهي. ¬

_ (¬1) [سورة الحجر، الآية: 9].

لكننا هنا نُنَبِّهُ إِلَى أَنَّ هذه العملية لا يجوز لها أن تتجاوز الحد الضروري المطلوب ولا أي زيادة على حجمها. وقد لاحظنا أن بعض الباحثين من أحبابنا أفرط حتى لم يبق له شغل سواها. وهذا يُؤَدِّي إلى خطر أكبر من خطر الانتقادات هو الانصراف عن المقصود الأصلي وهو درس الحديث النبوي والاهتداء بهديه ونشر علمه وثقافته في المسلمين ليتحققوا باتباع النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 5 - أهمية دراسة علم المصطلح في كليات وأقسام التاريخ والعلوم الاجتماعية وأن يربط النقد التاريخي الذي يدرس فيها بمصطلح الحديث فإن ما يكتب للطلبة الجامعيين في هذا الفن مترجم ومأخوذ في القسم الكبير عن الأجانب وفيه منطقهم وفلسفته النقدية الخاصة بتراثهم الذي لا يجد له سَنَدًا ولا وثائق أصلية إلا في القليل النادر ثُمَّ هُمْ يُقَلِّدُونَنَا وَيُفِيدُونَ مِنَّا فيما عدا ذلك فمن الواجب أَنْ يُزَوَّدَ شبابنا المثقف وَخِرِّيجُو هذه الأقسام خاصة بزاد النقد المنهجي الذي وضعه أسلافنا. وهذه بادرة هامة قام بها أستاذ لا يهتم بِالتَّحَيُّزِ وهو عالم منصف مسيحي هو الدكتور أَسَدْ رُسْتُمْ حيث عقد الصلة الوثيقة بين علوم الحديث وَمَا تَوَصَّلَ إليه النقد التاريخي عند الأُورُوبِيِّينَ في كتابه القيم " مصطلح التاريخ "، فما أحرانا نحن أن نحرص على جلاء هذه المفخرة العلمية وَنُجَنِّبَ في الوقت نفسه جيلنا المثقف الصاعد الانزلاق في عبارات خادعة أو ادِّعَاءَاتٍ غير صحيحة قد تشوش أذهانهم في تراثهم الإسلامي العظيم. 6 - إصدار موسوعة حَدِيثِيَّةٍ جامعة للأحاديث النَّبَوِيَّة، تُرَتَّبُ تَرْتِيبًا مُيَسَّرًا عَلَى

قراءة هذا العصر، متميزا فيها مراتب الحديث من حيث القَبُولِ أَوْ الرَدِّ، وَتُوَضِّحُ بشرح مختصر جِدًّا. مِمَّا يجعل القاريء على بَيِّنَةٍ من أمر أي حديث يَوَدُّ معرفة حكمه أو معناه. 7 - ونرى أَخِيرًا أنه لاَ بُدَّ من إعطاء إلمامة موجزة لأبناء هذه الأُمَّةِ عن الإسناد والرواية والأصول الأهم في علم مصطلح الحديث في مرحلة دراسية مبكرة بما لا يزيد عن عشر صفحات في كل مرحلة يعرفون بها كيف كانت الرواية وكيف حُفِظَتْ السُنَّةُ عبر الأجيال، حتى يكونوا مُتَزَوِّدِينَ بعلم صحيح بحقيقة المسألة وبذلك نكون قد حققنا لهم حصانة مانعة ووقاية من التأثر بسموم الطعن المختلق أو الاستشكال المصطنع. وذلك تطبيق للحكمة التي أقرتها البشرية منذ قديم العصور والقائلة: «دِرْهَمُ وِقَايَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِنْطَارِ عِلاَجٍ» والحمد لله رب العالمين.

ثبت المراجع:

ثبت المراجع: (*) - " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة "، للإمام الزركشي، ط. دمشق. - " الاتجاهات العامة للاجتهاد ومكانة الحديث الصحيح فيها "، نور الدين عتر. تحت الطبع. - " الاستيعاب في أسماء الأصحاب "، لابن عبد البر، بذيل " الإصابة ". - " إرشاد الساري شرح صحيح البخاري "، للقسطلاني. ط. بولاق، الخامسة. - " الإصابة في تمييز الصحابة "، لابن حجر العسقلاني. ط. المكتبة التجارية. - " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار "، للحازمي. ط. حمص. - " الاعلان بالتوبيخ لمن ذَمَّ التاريخ "، لشمس الدين محمد السخاوي. ط. مصر. - " الأنوار الكاشفة "، لِلْعَلاَّمَةِ عبد الرحمن المعلَّمي اليماني، ط. السلفية. - " تأويل مختلف الحديث "، لابن قتيبة، ط. مصر. - " تدريب الراوي شرح تقريب النواوي "، تحقيق أستاذنا عبد الوهاب عبد اللطيف. الطبعة الأولى. - " التذكرة في الطب "، لداود الأنطاكي. ط. مصر. - " تذكرة الحُفاظ " للذهبي، ط. الهند، الطبعة الثالثة. - " تذكرة الموضوعات "، لابن طاهر المقدسي، ط. الهند. - " تلخيص مستدرك الحاكم "، للذهبي، ط. الهند، بذيل " المستدرك ". ¬

_ (*) اختصرنا من بيانات الطبعات ما لا تمس الحاجة إليه.

- " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة "، لابن عَرَّاقْ. - " توجيه النظر "، لطاهر بن صالح الجزائري. - " توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار "، للصعاني، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. - " جامع الترمذي "، للإمام الترمذي. ط. مصطفى البابي الحلبي. - " الجامع الصحيح "، للبخاري، ط. بولاق، سَنَةَ 1313 هـ. - " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم الرازي، ط. الهند. - " الخطيب البغدادي مُؤَرِّخُ بَغْدَادَ وَمُحَدِّثُهَا "، ليوسف العش. - " الرحلة في طلب الحديث "، للخطيب البغدادي، تحقيق نور الدين عتر. - " الروض الباسم في الذب عن سُنَّةِ أبي القاسم "، لمحمد بن الوزير اليماني، ط. المنيرية. - " سنن أبي داود "، ط. التجارية، الطبعة الأولى. - " سنن ابن ماجه "، تحقيق فؤاد عبد الباقي. - " شرح شرح النخبة " لعلي بن سلطان القاري الهروي. ط. استانبول. - " شرح علل جامع الترمذي "، للحافظ ابن رجب، تحقيق نورالدين عتر. ط. دمشق. - " صحيح مسلم "، ط. استانبول. - " طبقات الشافعية الكبرى "، للسبكي. ط. عيسى البابي الحلبي. - " علوم الحديث "، لابن الصلاح، تحقيق نور الدين عتر، الطبعة الثالثة، دار الفكر. - " فتح الباري شرح صحيح البخاري "، لابن حجر العسقلاني، المطبعة الخيرية، للخشاب. - " فتح المغيث شرح ألفية العراقي في علم الحديث "، للسخاوي،

ط. الهند. - " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة "، للشوكاني. - " اللآليء المصنوعة من الأحاديث الموضوعة "، للسيوطي، ط. مصر. - " لقط الدرر حاشية نزهة النظر "، للعدوي، ط. مصر. - " لسان الميزان "، للحافظ ابن حجر، ط. الهند. - " المُجْتَبَى " (سنن النسائي)، ط. مصطفى البابي الحلبي. - " المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل "، للحاكم النيسابوري. - " المستدرك على الصحيحين "، للحاكم النيسابوري. ط. الهند. - " مشكل الحديث " لأبي بكر بن فُورك، ط. الهند. - " المنار المنيف في الصحيح والضعيف "، لابن قيم الجوزية. - " منهج النقد في علوم الحديث "، لنور الدين عتر، الطبعة الثالثة - دار الفكر - دمشق. - " الموضوعات "، لعبد الرحمن بن الجوزي. ط. مصر. - " ميزان الاعتدال في نقد الرجال "، للذهبي، ط. عيسى البابي الحلبي. - " الموضوعات الكبرى "، لِلْعَلاَّمَةِ المُحَدِّث علي بن سلطان القاري. - " نزهة النظر شرح نخبة الفكر "، نسخة شرحها للقاري، ط. استانبول. - " نيل الأماني " حاشية الإبياري على " مقدمة القسطلاني ". ط. مصر.

§1/1