السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية

الرافعي ، مصطفى صادق

مقدمة المحقق للطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم مقدَِّمة المحقق للطبعة الأولى الحمد لله وكفى، ((والصلاة والسلام على مَن مَدَّتْ عليه الفصاحةُ رِوَاقها، وشَدَّت به البلاغة نطاقها، المبعوث بالآيات الباهرة والحجج، المنزَّل عليه قرآنٌ عربي غير ذي عوج)) (¬1)، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: فهذا بحث بديع سطره الأديب الأريب الحُذاقيّ اللوذعيّ، واللَّسِن المِصْقَع الحصيف الألمعيّ، والفصيح البارع الحِبْل البَلْتَعيّ ... أبي السامي مصطفى صادق الرافعيّ، رحمة الله عليه. بدا لنا أن نعيدَ بهاءَهُ، ونجددَ رُواءَهُ؛ ففعلنا وحققناهُ. ¬

(¬1) اقتباس من كلام العلامة جمال الدين ابن هشام [المتوفى سنة 761هـ] (أثابه الله، وبل بالرحمة ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه) في فاتحة شرحه لكتاب "قطر الندى وبل الصدى".

وهو خليق بأن يصل ليد كل عربي قارئ، ومَقْمَنَةٌ لأن يُتلى على كل أمي عابئ. وحسبك دلالة على أهميته ونفاسته أن تعرف الجهدَ المبذولَ فيه من رجل مثل الرافعي (قدس الله روحه ونور ضريحه). قال الأستاذ محمد سعيد العريان (رحمه الله) في كتابه "حياة الرافعي" [ص215 - 216 - ط/ المكتبة التجارية الكبرى - الطبعة الثالثة (1375هـ - 1955م)]: ((أنشأ الرافعي هذا البحث إجابة لدعوة جمعية الهداية الإسلامية بالعراق؛ لتنشره في ذكرى المولد النبوي (¬1). وقد لقي من العناء في إنشاء هذا الفصل ما لا أحسب غيره يقوى عليه. وحسبك أن تعلم أن الرافعي لم يتهيأ لكتابة هذا ¬

(¬1) سنة 1352 هـ.

الفصل حتى قرأ "صحيح البخاري" كله قراءة دارس، وأنفق في ذلك بضعة عشر يومًا، وهو وقت قليل لا يتسع للقارئ العجل أن يقرأ فيه "صحيح البخاري" قراءة تلاوة؛ فكيف به دارسًا متمهلاً يقرأ ليتذوق بلاغة الأسلوب ودقة المعنى؟ ولكن ذلك ليس عجيبًا من الرافعي الذي كان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متوالية لا يمل، فلا ينهض عن كرسيه حتى يَوْجَعَهُ قَلْبُهُ! وكتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام، ثم دفعه إليَّ لأكتبه بخطي ولم يمله عليَّ، فأنفقت في كتابته ثلاثة أيام أخرى)) ا. هـ. ولعمري ما إخال الكلمات - مهما كثرت ومهما كان شأن قائلها بلاغة ومقامًا - في الثناء على الرافعي تفي بمعشار حقه وقدره، وَقِدْمًا كان يقال: ((إنما يعرف

الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل)) (¬1). والرافعي - بحق - سابق حلبة المقالة الأدبية، والصدر المُقَدَّم لمنشئي عصرنا وإن رغمت أنوف شُمَّخ - تُؤْبَن بالحيف - تريد أن تزحزحه عن الساحة لغرض أو لآخر! وما قلناه واقع ما له من دافع، وحقيقة حينما أتذكرها تخطر بِخَلَدي عبارةُ الغزاليِّ الخالدة: ((لا أعرف مظلومًا تواطأ الناس على هضمه، ولا زهدوا في إنصافه، كالحقيقة))!. ألا ليت شعري بأي وجه من دين أو خلق يستجيز منصف متجرد عن الهوى تقديمَ "عُوير"، أو "كُسير"، أو ثالثٍ " دِفْنَاس ما فيه خير"، أو رابعٍ "هِلْبَوث فَدْم"، أو خامس "فَقْفَاقَة رَذْل"، أو سادس "بين يديْ عَدْل" (¬2) ... ؟!! ¬

(¬1) يُروى هذا الكلام مرفوعًا إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ولا يصح من قول الرسول. راجع - إن شئت غير مأمور - "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للعلامة المناوي شرح الحديث رَقْم (2613) [(ج3ص12) ط/ مكتبة مصر]، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة" لمحدث الشام العلامة محمد ناصر الدين الألباني، الحديث (3227). (¬2) يُقال: فلان بين يديْ عدل: أي: هالك قد يُئِسَ منه، وهذه العبارة قد يستخدمها بعض علماء الجرح والتعديل من المحدثين في الراوي يكون ضعيفَ الحديث غيرَ ضابطٍ له ولا ثقة فيه، ويظن كثيرٌ من المبتدئين في هذا العلم الشريف أنها عبارة تعديل لا تجريح، ولا كذلك. قال العلامة ابن منظور (رحمه الله) في "لسان العرب" [(ج6ص127) ط/ دار الحديث بالقاهرة] تبعًا للجوهري في "الصحاح" [(ص743) ط/ دار الحديث] نقلاً عن ابن السكيت: ((وقولهم للشيء إذا يُئِسَ منه: "وُضِعَ على يَدَيْ عَدْل": هو العَدْلُ بنُ جَزْء بنِ سعدِ العشيرة، وكان وَلِيَ شُرَطَ تُبَّعٍ، فكان تُبَّعٌ إذا أراد قتلَ رجلٍ دفعه إليه، فقال الناس: وُضِعَ على يَدَيْ عدل، ثم قيل ذلك لكل شيء يُئِسَ منه)) انتهى. وهذه فائدة نفيسة، طالما غفل عنها كثيرون، فخذها شاكرًا الله (تعالى)، وكن منها على ذُِكر.

ولكن هكذا الظِّلِّيم المأفون لا يفتأ يأتي بالفواقر والبَهَالِق، والطامات والبوائق .. يخطئ ويزل، ((ويعثر عثرات يَدْمَى منها الأظَلّ، ويدحض دَحْضَات تخرجه إلى سبيل مَن ضل)) (¬1) ... تراه يصرخ في لِدَاته وأترابه، ويرفع عقيرته بين أتباعه وطلابه: لِيبلغ الشاهد منكم الغائب، وَلْيوصِ السابق منكم اللاحق: لَمَا علمتم من أديب يزعم أن الأدب هو: ((السُّمُو بضمير الأمة)) (¬2)، وأن الأديب هو: ((مَن كان لأمته وَلِلُغتها في مواهب قلمه لقبٌ مِن ألقاب التاريخ)) (¬3)؛ لتجهزن عليه ولا تتركونه! ولتكونن عونًا لمن ناوأه وإن كان في الأدب ¬

(¬1) ما بين القوسين مقتبس من كلام للسهيلي (رحمه الله) في تعقب له على ابن سيده، وقد نقله العلامة ابن منظور في "لسان العرب" (ج1ص334). (¬2) من كلام الرافعي في مقال له بعنوان: "الأدب والأديب". وهو منشور في الجزء الثالث من "وحي القلم". (¬3) من كلام الرافعي في مقال له بعنوان: "الأدب والأديب". وهو منشور في الجزء الثالث من "وحي القلم".

من جنس المنخنقة، والموقوذة، والمتردية والنطيحة! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم!!. وتلك شِنْشِنَة نعرفها مِن أَخْزَمَ، وصدق مَن قال: ((لن ترضى شَانِئَةٌ إلا بِجَرْزَةٍ)) (¬1)!! وَأَجْمِلْ بقول أبي الطيب المتنبي: يُؤْذِي القَلِيلُ مِنَ اللِّئَامِ بِطَبْعِهِ ... مَنْ لا يَقِلُّ كَمَا يَقِلُّ وَيَلْؤمُ الظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ... ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ وَمِنَ البَلِيَّةِ عَذْلُ مَنْ لا يَرْعَوِي ... عَن جَهِلِهِ وَخِطَابُ مَنْ لا يَفْهَمُ فدع عنك الأغماز والطَّغام، والدخلاء والأغتام، والمَوْقَى والهُوج، والرُِّعاع والهَمَج ... واحفظ جيدًا: ¬

(¬1) قال الإمام ابن فارس (رحمه الله) في "مقاييس اللغة" (ص161): ((العرب تقول في أمثالها: ((لن ترضى شانِئَةٌ إلا بجرزة)) أي: إنها من شدة بَغضائها وحسدها لا ترضى للذين تُبغضهم إلا بالاستئصال)) ا. هـ.

((إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب)) (¬1). والسلام. وخطه بيمينه أبو عبد الرحمن البحيري وائل بنُ حافظ بنِ خلف غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه كفر الدوار - البحيرة - جمهورية مصر العربية مساء الأربعاء: 14جُمادى الأولى 1431هـ 28/ 4/2010 م. ***** ¬

(¬1) من كلام الرافعي في تصديره لمعلمته النفيسة "وحي القلم".

وصف البلاغة المحمدية

وصف البلاغة المحمدية قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ [المتوفى سنة 255 هـ] في كتابه "البيان والتبيين" (¬1) واصفًا كلامَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة: ((هو الذي قَلَّ عددُ حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة، ونزه عن التكلف، وكان كما قال اللهُ (تبارك وتعالى): قل يا محمد!: {وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أهل التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في ¬

(¬1) (ج2/ص8 - 9) ط/ دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. ذلك، ولنا دراسة خاصة حول الجاحظ وكتابه هذا، كان الباعث على جمعها مناقشة جرت بيني وبين أحد الدكاترة الأفاضل في شأنه. وستنشر قريبًا بإذن الله.

موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي. فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وشُيّد بالتأييد، ويسر بالتوفيق. وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام. ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يَبُذُّ الخطبَ الطوالَ بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفَلَج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز، ولا يلمز، ولا يبطئ، ولا يعجل، ولا يسهب، ولا يَحْصَر.

ثم لم يسمع الناس بكلام قَطُّ أعم نفعًا، ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه؛ من كلامه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم كثيرًا ... قال محمد بن سلام: قال يونس بن حبيب: ((ما جاءنا عن أحد مِن روائع الكلام، ما جاءنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) ولعل بعض مَن لم يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلام، يظن أنا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره! كلا والذي حرم التزيد على العلماء، وقَبَّح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء! لا يظن هذا إلا مَن ضل سعيُه ا. هـ [وقال القاضي عياض المالكي (رحمه الله) في كتابه الماتع "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (1/ 56 - 57): ((وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول: فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل؛ سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف. أُوتي جوامع الكلم، وخُص ببدائع الحِكَم، وعلم ألسنة العرب. يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله. ومَن تأمل حديثه وسبره علم ذلك وتحققه)) ا. هـ] (*) ¬

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليست في المطبوع، فهو مما زاده المحقق في الطبعة الثانية

السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية

السُّمُوُّ الرُّوحِيُّ الْأَعْظَمُ وَالْجَمَالُ الْفَنِّيُّ فِي الْبَلاَغَةِ النَّبَوِيَّةِ ((أنا لا أعبأ بالمظاهر والأغراض التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر. والقِبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها. فلا أكتب إلا ما يبعثها حية، ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكِّن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا؛ ثم إنه يُخيل إليَّ دائمًا أني رسول لغوي بُعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه ... )) (مصطفى صادق الرافعي) تحقيق وائل بن حافظ بن خلف عفا الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم لما أردت أن أكتب هذا الفصل (¬1) وهممت به، عرضت لي مسألة نظرت فيها أطلب جوابها، ثم قدرت أن يكون أبلغ فلاسفة البيان في أوربا لعهدنا هذا رجلًا يحسن العربية المبينة، وقد بلغ فيها مبلغ أئمتها علمًا وذوقًا، ودرَس تاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَرْس الروح لأعمال الروح، وتفقه في شريعته فقْه الحكمة لأسرار الحكمة، واستوعب أحاديثه واعتبرها بفن النقد البياني الذي يبحث في خصائص الكلام عن خصائص النفس؛ وتمثلت أني لقيت هذا الرجل فسألته: ما هو الجمال الفني عندك في بلاغة محمد صلى الله عليه وسلم؟ ¬

(¬1) بسطنا الكلام في كتابنا "إعجاز القرآن" عن بلاغة النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة، وبقي هذا المعنى الذي تراه، فهذه المقالة كالتكملة على ما هناك. (الرافعي).

وماذا تستخرج لك فلسفة البيان منه؟ وما سره الذي يجتمع فيه؟ ولم يكد يَخْطِر لي ذلك حتى انكشف الخاطر عن وجهٍ آخرَ، وذلك أن يكون معنى هذا السؤال بعينه قد وقع في شيء من حديث النفس لأبلغ أولئك العرب الذين رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وآمنوا به، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وقد صحبه فطالت صحبته، لا يفوته من كلامه في الملأ شيء، وخالطه حتى كان له في الإحاطة بأحوال نفسه كبعض التاريخ، فتدبر ما عسى أن يكون سر الجمال في بلاغته - صلى الله عليه وسلم -، وما مرجعه الذي يرد إليه؟ لو دار السؤال دورتيه في هذه السليقة العربية المحكمة التي رجعت أن تكون فلسفة تشعر وتحس، وفي تلك الفلسفة البيانية الملهمة التي بلغت أن تكون سليقة تدرس وتفكر لما خلص من كلتيهما إلا برأي

واحد تلتقي عليه حقيقة البيان من طرفيها، وهو: أن ذلك الجمال الفني في بلاغته - صلى الله عليه وسلم - إنما هو أثرٌ على الكلام من رُوحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها. وبعد: فأنا في هذه الصفحات لا أصنع شيئًا غيرَ تفصيلِ هذا الجوابِ وَشَرْحِهِ، باستخراجِ معانيه، واستنباطِ أدلته، والكشفِ عن أسراره وحقائقه؛ ولقد درست كلامَهُ - صلى الله عليه وسلم -، وقضيت في ذلك أيامًا أتتبع السر الذي وقع في التاريخ القفر المجدب فَأَخْصَبَ به، وَأَنْبَتَ للدنيا أزهاره الإنسانية الجميلة، فكانوا ناسًا إِنْ عِبْتَهُمْ بشيء لم تَعِبْهُم إلا أنهم دون الملائكة؛ وكانوا ناسًا، دارت الكرة الأرضية في عدهم ثلاث دورات: واحدة حول الشمس، وثانية حول نفسها، وثالثة حول أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم تركت الكلام النبوي يتكلم في نفسي ويُلهمني ما أُفصح به عنه، فلكأني به يقول في صفة نفسه: إني أصنع أمة لها تاريخُ الأرضِ مِن بعدُ، فأنا أقبل من هنا وهناك، وأذهب هناك وهنا، مع القلوب والأنفس والحقائق، لا مع الكلام والناس والوقت. إن ههنا دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرةَ التي من ذريتها أوربا وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض بنورٍ مُتَمِّمٍ لما يعمله نورُ الشمسِ والقمرِ. وقد كان المسلمون يَغزون الدنيا بأسلحة هي في ظاهرها أسلحةُ المقاتلين، ولكنها في معانيها أسلحة الأطباء؛ وكانوا يحملون الكتاب والسنة، ثم مَضَوْا إلى سبيلهم وبَقِي الكلامُ من بعدهم غازيًا محاربًا في العالم كُلِّهِ حربَ تغيير وتحويل إلى أن يدخل الإسلام على ما

دخل عليه الليل (¬1). ¬

(¬1) في الحديث الشريف: ((ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل)). وكأن العبارة نص على أن الإسلام يعم حين تظلم الدنيا ظلامها الشعري ... إذا طمست الإنسانية بلذاتها، وأظلمت آفاقها الروحانية؛ فيجيء الإسلام في قوة أخلاقه كشباب الفجر، يبعث حياة النور الإنساني بعثًا جديدًا؛ وهذا هو رأينا في مستقبل الإسلام: لا بد من انحلال أوربا وأمريكا، كما يصفر النهار، ثم يختلط، ثم يظلم، ثم تطلب الطبيعة نورها الحي من بعد. (الرافعي). وأقول: عن تميم الداري (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل. عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)). وكان تميم الداري (رضي الله عنه) يقول: ((قد عرفت ذلك في أهل بيتي؛ لقد أصاب مَن أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصغار والجزية)). هذا حديث صحيح: أخرجه الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل (رحمه الله) في "المسند" (4/ 103)، والإمام أبو القاسمِ الطبرانيُّ في "المعجم الكبير" كما في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (6/ 14)، وقال راقمه (رحمه الله): ((رجالُ أحمدَ رجالُ الصحيحِ))، والإمام الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (4/ 430 - 431) (8326)، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الإمام الذهبي في "تلخيص المستدرك"، وتعقبهما الشيخ الألباني - في "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" حاشية (ص118 - 119) - بأنه على شرط مسلم فقط. وزاد عزوه إلى ابن بشران في "الأمالي" (60/ 1)، وابن منده في كتاب "الإيمان" (1/ 102)، والحافظ عبد الغني المقدسي في "ذكر الإسلام" (1/ 166)، وقال هذا: ((حديث حسن صحيح)). قال الألباني: ((وله شاهد عند الحاكم (4/ 430) (8324)، وعند ابن منده من حديث المقداد بن الأسود (رضي الله عنه)، وهو على شرط مسلم)) ا. هـ. قلت: وهو أيضًا عند الطبراني في "الكبير" (20/ 601)، وصححه ابن حبان (6699، 6701 - إحسان) (1631، 1632 - موارد الظمآن)، وقال الحافظ نور الدين الهيثمي (رحمه الله) في "المجمع" (6/ 14): ((رجال الطبراني رجال الصحيح)).

هذا منطلق الحديث في نفسي. وقد كنت أقرؤه وأنا أتمثله مُرْسَلاً بتلك الفصاحة العالية من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يَمُرُّ إعجاز الوحي أولَ ما يخرج به الصوتُ البشري إلى العالم، فلا أرى ثَمَّ إلا أن شيئًا إلهيًا عظيمًا متصلاً بروح الكون كله اتصالَ بعض السر ببعض السر، يتكلم بكلام إنساني هو هذا الحديث الذي يجيء في كلمات قوية رائعة، فنها في بلاغتها كالشباب الدائم.

كنت أتأمله قطعًا من البيان، فأراه ينقلني إلى مثل الحالة التي أتأمل فيها روضة تتنفس على القلب، أو منظرًا يَهُز جمالُه النفسَ، أو عاطفة تَزيد بها الحياة في الدم، على هدوء ورَوْح وإحساس ولذة؛ ثم يزيد على ذلك أنه يصلح من الجهات الإنسانية في نفسي، ثم يرزق الله منه رزق النور فإذا أنا في ذوق البيان كأنما أرى المتكلم - صلى الله عليه وسلم - وراء كلامه. وأعجب من ذلك أني كثيرًا ما أقف عند الحديث الدقيق أتعرف أسراره، فإذا هو يشرح لي ويهديني بهديه؛ ثم أُحِسُّه كأنما يقول لي ما يقول المعلم لتلميذه: ((أفهمت؟)). وقفت عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ قومًا ركبوا في سفينة، فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجلٌ منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت! فإن أخذوا على يده نجا

وَنَجَوْا، وإن تركوه هلك وهلكوا)) (¬1). ¬

(¬1) روى البخاريُّ هذا الحديثَ على وجهٍ آخرَ، وفيه زيادةٌ من الجمال الفني؛ قال: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)). فهذا تمثيل لحالة طائفة في "الأسفل" تعمل لرحمة من هم في "الأعلى": عاطفة شريفة ولكنها سافلة، وحمية ملتهبة ولكنها باردة، ورحمة خالصة ولكنها مهلكة؛ ولن تجد كهذا التمثيل في تصوير البلاغة الاجتماعية والغفلة الفلسفية لأناس هم عند أنفسهم أمثلة الجِد والعمل والحكمة، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لهؤلاء من ألف وثلاثمائة سنة: أنتم المصلحون إصلاحًا مخروقًا!. (الرافعي). وأقول: الحديث أخرجه الإمام البخاري (رحمه الله) في موضعين من "صحيحه": الأول باللفظ المزبور أعلاه: في [كتاب الشركة - باب هل يُقْرَع في القسمة؟ والاستهمامِ فيه] حديث رَقْم (2493)، ثم رواه في [كتاب الشهادات - باب القرعة في المُشْكِلات] حديث رقم (2686). والحديث أخرجه أيضًا الإمام أحمد في "المسند" (4/ 268، 270)، والإمام أبو عيسى الترمذي في "جامعه" [كتاب الفتن] حديث رقم (2173)، وقال: ((حديث حسن صحيح))، والإمام البيهقي في "السنن الكبير" [كتاب العتق - باب إثبات استعمال القرعة] (ج10ص288).

فكان لهذا الحديث في نفسي كلام طويل عن هؤلاء الذين يخوضون معنا البحر ويسمون أنفسهم بالمجددين، وينتحلون ضروبًا من الأوصاف: كحرية الفكر، والغيرة، والإصلاح؛ ولا يزال أحدهم ينقر موضعه من سفينة ديننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه، أي بقلمه ... زاعمًا أنه موضعه من الحياة الاجتماعية يصنع فيه ما يشاء، ويتولاه كيف أراد، موجهًا لحماقته وجوهًا من المعاذير والحجج، من المدنية والفلسفة، جاهلاً أن القانون في السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها، فالحكم لا يكون على العمل بعد وقوعه كما يحكم على الأعمال الأخرى؛ بل قبل وقوعه، والعقاب لا يكون على الجرم يقترفه المجرم كما يعاقب اللص والقاتل وغيرهما، بل على الشروع فيه، بل على توجه النية إليه، فلا حرية هنا في عمل يفسد خشب السفينة أو يمسه من قرب أو بعد

ما دامت ملججة في بحرها، سائرة إلى غايتها؛ إذ كلمة (الخرق) لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، وهنا لفظة (أصغر خرق) ليس لها إلا معنى واحد وهو (أوسع قبر). ففكِّر في أعظم فلاسفة الدنيا مهما يكن من حريته وانطلاقه، فهو ههنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد تفسرها في لغة البحر حدود الحياة والمصلحة، وكما أن لفظة (الخرق) يكون من معانيها في البحر القبر والغرق والهلاك، فكلمة (الفلسفة) يكون من بعض معانيها في الاجتماع الحماقة والغفلة والبلاهة، وكلمة الحرية يكون من معانيها الجناية والزيغ والفساد (¬1). ¬

(¬1) الزائغون في التاريخ الإسلامي كله صنفان ليس لهما ثالث، وقد وصفهما الحديث الذي رواه البخاري بسنده إلى حذيفة بن اليماني (رضي الله عنهما) قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ)). قُلْت: ُ وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: ((قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)). قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: ((هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)). قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: ((تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)) قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: ((فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)). انتهى الحديث. فتأمل قوله: ((يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ))، فهؤلاء هم الذين يريدون الإصلاح للمسلمين لا من طريق الإسلام بل من طرق أخرى فيها معروفها ومنكرها، وفيها علمها وجهلها، وفيها عقلها وحماقتها. ولعل من هذا قولهم: المدنية الأوروبية بحسناتها وسيئاتها ... وتأمل قوله: ((إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ)) فليست الدعوة إلى باب واحد، بل إلى أبواب مختلفة لعل آخر ما فتحوا منها باب الأدب المكشوف ... ثم تأمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ))، فإن معناه استمساك بما بقي على الطبيعة السليمة مما لا يستطيع أولئك أن يغيروه ولا أن يجددوه، أي بالاستمساك ولو بأصل واحد من قديم الفضيلة والإيمان، وعبارة العض بأصل شجرة تمثل أبدع وأبلغ وصف لمن يلزم أصول الفضائل في هذا الزمن، ومبلغ ما يعانيه في التمسك بفضيلته، وهي وحدها فن كأجمل ما يبدعه مصور عبقري. (الرافعي). وأقول: الحديث أخرجه الإمام البخاري (قدس الله رُوحه ونور ضريحه) في موضعين من "صحيحه": الأول في [كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام] حديث رَقْم (3606) قال: حدثنا يحيى بن موسى. ثم رواه في [كتاب الفتن - باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة] برقم (7084) قال: حدثنا محمد بن المثنى. وأخرجه أيضًا الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله في "صحيحه" في [كتاب الإمارة] حديث رقم (1847) قال: حدثنا محمد بن المثنى. وأبو نعيم في "حلية الأولياء" في ترجمة حذيفة بن اليماني [(ج1ص254) رقم (907) ط/ مكتبة الإيمان]، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن المثنى. كلاهما (يحيى بن موسى، وابن المثنى) عن الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني بُسْر بن عبيد الله الحضرميُّ، أنه سمع أبا إدريسَ الخَوْلانيَّ يقول: سمعت حذيفةَ بنَ اليماني (رضي الله عنهما) يقول: .. فذكره. وراجع إن شئت "السلسة الصحيحة" للشيخ ناصر الدين الألباني (رحمه الله) حديث رقم (2739).

وعلى هذا القياس اللغوي فالقلم في أيدي بعض الكُتَّاب من معانيه الفأس، والكاتب من معانيه المخرب، والكتابة من معانيها الخيانة؛ قال لي الحديث: ((أفهمت؟)). هكذا يجب تأمل الجمال الفني في كلامه - صلى الله عليه وسلم -، فهو

كلام كلما زدته فكرًا زادك معنى، وتفسيره قريب، قريب كالروح في جسمها البشري، ولكنه بعيد بعيد كالروح في سرها الإلهي، فهو معك على قدر ما أنت معه، إن وقفت على حد وقف، وإن مددت مد، وما أديت به تأدى، وليس فيه شيء مما تراه لكل بلغاء الدنيا من صناعة عبث القول، وطريقة تأليف الكلام، واستخراج وضع من وضع، والقيام على الكلمة حتى تبيض كلمةً أخرى، والرغبة في تكثير سواد المعاني، وترك اللسان يطيش طيشه اللغوي يتعلق بكل ما عرض له، ويحذر الكلام على معاني ألفاظه، ويجتلب له منها ويستكرهها على أغراضه، ويطلب لصناعته من حيث أدرك وعجز، ومن حيث كان ولم يكن .. إنما هو كلام قيل؛ لتصير به المعاني إلى حقائقها، فهو من لسان وراءه قلب، وراءه نور، وراءه الله (جل

جلاله)؛ وهو كلام في مجموعه كأنه دنيا أصدرها - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه العظيمة، لا تبرح ماضية في طريقها السوي على دين الفطرة؛ فلا تتسع لخلاف، ولا يقع بها التنافر؛ والخلاف والتنافر إنما يكونان من الحيوانية المختلفة بطبيعتها؛ لقيامها على قانون التنازع تعدو به وتجترم وتأثم، فهي نازلة إلى الشر، والشر بعضه أسفل من بعض؛ أما روحانية الفطرة فمتسقة بطبيعتها، لا تقبل في ذاتها افتراقًا ولا اختلافًا؛ إذ كان أولها العلو فوق الذاتية، وقانونها التعاون على البر والتقوى؛ فهي صاعدة إلى الخير، والخير بعضه أعلى من بعض. فكلامه - صلى الله عليه وسلم - يجري مجرى عمله: كله دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة وحياة؛ وإنه يخيل إلي وقد أخذت بطهره وجماله أن من الفن العجيب أن يكون هذا الكلام صلاة وصيامًا في الألفاظ.

أما أسلوبه - صلى الله عليه وسلم - فأجد له في نفسي روح الشريعة ونظامها وعزيمتها، فليس له إلا قوة قوة أمر نافذ لا يختلف، وإن له مع ذلك نسقًا هادئًا هدوء اليقين، مبينًا بيان الحكمة، خالصًا خلوص السر، واقعًا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها. وكيف لا يكون كذلك وهو أمر الروح العظيمة الموجهة بكلمات ربها ووحيه؛ ليتوجه بها العالم كأنه منه مكان المحور: دورته بنفسه هي دورته بنفسه وبما حوله، روح نبي مصلح رحيم، هو بإصلاحه ورحمته في الإنسانية، وهو بالنبوة فوقها، وهو بهذه وتلك في شمائله وطباعه مجموع إنساني عظيم لو شبه بشيء لقيل فيه: إنه كمجموع القارات الخمس لعمران الدنيا. ومن درس تاريخه - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه حقه من النظر والفكر والتحقيق، رأى نسقًا من التاريخ العجيب كنظام فلك

من الأفلاك موجَّه بالنور في النور من حيث يبدأ إلى حيث ينتهي. فليس يمتري عاقل مميز أن هذه الحياة الشريفة، بذلك النظام الدقيق، في ذلك التوجه المحكم - لا يطيقها بشر من لحم ودم على ناموس الحياة إلا إذا كان في لحمه ودمه معنى النور والكهرباء على ناموس أقوى من الحياة. ولم يكن مثله - صلى الله عليه وسلم - في الصبر والثبات واستقرار النفس واطمئنانها على زلازل الدنيا، ولا في الرحمة ورقة القلب والسمو فوق معاني البقاء الأرضي. فهو قد خُلق كذلك؛ ليغلبَ الحوادث ويتسلط على المادة؛ فلا يكون شأنه شأن غيره من الناس: تدفنهم معاني التراب وهم أحياء فوق التراب، أو يحدّهم الجسم الإنساني من جميع جهاتهم بحدود طباعه ونزعاته؛ وبذلك فقد كان

(عليه الصلاة والسلام) منبعَ تاريخ في الإنسانية كلها دائمًا، ولرأس الدنيا نظام أفكاره الصحيحة. عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوا الْمَبِيتَ (¬1) إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ ¬

(¬1) وفي رواية: ((حتى آواهم المبيتُ إلى غار))، وهي عند الإمام مسلم (رحمه الله) في "صحيحه" (2743) من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه مرفوعًا. والرواية التي أثبتها المصنفُ (رحمه الله) هي رواية البخاريِّ في "صحيحه" (2272) من طريق سالم أيضًا، والمبيت في هذه الرواية منصوب على المفعولية، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (رحمه الله) في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" [(6/ 615) ط/ دار الحديث بالقاهرة]: ((وتوجيهه أن دخول الغار من فعلهم، فحسن أن ينسب الإيواء إليهم)) ا. هـ. وفي رواية للبخاري (2333) من طريق نافع، عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) مرفوعًا: ((بينما ثلاثة نفر يمشون أخذهم المطر، فأَوَوْا إلى غار في جبل ... ))، ففي هذه الرواية بيان لسبب دخولهم الغار. وفي رواية أبي هريرة (رضي الله عنه) لهذا الحديث - وهي عند الطبراني في كتاب "الدعاء" (193)، وابن حبان في "صحيحه" (971 - إحسان)، (2027 - موارد الظمآن) -: ((خرج ثلاثة فيمن كان قبلكم يَرْتَادُون لأهليهم، فأصابتهم السماءُ، فلجأوا إلى جبل، فوقعت عليهم صخرة، فقال بعضهم لبعض: عَفَا الأَثَرُ، ووقع الحَجَرُ، ولا يعلم بمكانكم إلا الله، فادعوا الله بأوثق أعمالكم ... )) ا. هـ. وفي رواية النعمان بن بشير (رضي الله عنهما) عند الطبراني في "الدعاء" (189): ((كان ثلاثة نفر يمشون في غب السماء، إذ مروا بغار، فقالوا: لو أويتم إلى هذا الغار، فأووا إليه، فينما هم فيه إذ وقع حجر من الجبل مما يهبط من خشية الله (عز وجل)، حتى إذا سد الغار، فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا شيئًا خيرًا من أن يدعو كل امرئ منكم بخير عمل عمله قَطُّ ... )). وفي رواية أنس بن مالك (رضي الله عنه) عند الطبراني أيضًا (192): ((إن ثلاثة نفر فيمن سلف من الناس انطلقوا يرتادون لأهليهم، فأصابتهم السماء، فدخلوا غارًا، فسقط عليهم حجر، فأطبق عليهم حتى ما يرون منه خصاصة ... )). وفي رواية عقبة بن عامر (رضي الله عنه) عند الطبراني (195): ((إن ثلاثة نفر من بني إسرائيل خرجوا يرتادون لأهليهم ... )).

الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ! كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ

كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبُقُ (¬1) قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلَا مَالاً (¬2)، فَنَأَى بِي (¬3) ¬

(¬1) قال الإمام النووي (رحمه الله) في "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (17/ 58): ((لا أَغْبُق)): بفتح الهمزة وضم الباء: أي: ما كنت أقدم عليهما أحدًا في شرب نصيبهما عشاء من اللبن. والغبوق: شرب العشاء، والصبوح: شرب أول النهار. يقال منه: غبَقت الرجل - بفتح الباء - أَغبُقه - بضمها مع فتح الهمزة - غبقًا فاغتبق. أي: سقيته عشاء فشرب. وهذا الذي ذكرته من ضبطه متفق عليه في كتب اللغة وكتب غريب الحديث والشروح. وقد يصحفه بعض مَن لا أنس له فيقول: أُغبِق بضم الهمزة وكسر الباء، وهذا غلط ا. هـ. (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (4/ 552): ((المراد بالأهل: ما له من زوج وولد، وبالمال: ما له من رقيق وخدم. وزعم الداودي أن المراد بالمال: الدواب، وتعقبوه، وله وجه)) ا. هـ. (¬3) نأى: بَعُد. والباء في (بي) للتعدية، كأنه قال: بعدني. ولا يظهر في الكلام ما يصلح أن يكون فاعلاً، ولكن ما رأيت أحدًا تعرض له، والأقرب: أن يعتبر الفاعل ضمير السير أو المشي، كأنه أضمر اعتمادًا على السياق، أي: بعدني السير في طلب شيء يومًا. والله أعلم. قاله أبو الحسن السندي (رحمه الله) في "حاشيته على صحيح البخاري" (2/ 35) ط/ عيسى البابي الحلبي. قلت: وقع في رواية: ((فنأى بي طلبُ الشَّجَرِ يومًا)). والله الموفق لا رب سواه.

فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ (¬1) عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ! إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ! فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ)). قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ! كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي، حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ (¬2) مِنْ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا! ¬

(¬1) أُرِح: أرجع. (¬2) السنة: العام المقحط الذي لم تنبت الأرض فيه شيئًا، سواء نزل غيث أم لم ينزل. قاله الإمام المنذري (رحمه الله) في كتابه "الترغيب والترهيب".

فَفَعَلَتْ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ (¬1)! فَتَحَرَّجْتُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ! إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ! فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا)). قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ! إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ (¬2)، ¬

(¬1) الخاتم: كناية عن بكارتها. وقوله: ((بحقه)) أي: بنكاح لا بزنا. قاله الإمام النووي (رحمه الله). (¬2) ورد في رواية النعمان بن بشير (رضي الله عنهما) بيان لسبب تركه أجره، إذ فيها: (( ... قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: قَدْ عَمِلْتُ حَسَنَةً مَرَّة ً، كَانَ لِي أُجَرَاءُ يَعْمَلُونَ، فَجَاءَنِي عُمَّالٌ لِي، فَاسْتَأْجَرْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَجَاءَنِي رَجُلٌ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَطَ النَّهَارِ فَاسْتَأْجَرْتُهُ بِشَطْرِ أَصْحَابِه ِ، فَعَمِلَ فِي بَقِيَّةِ نَهَارِهِ كَمَا عَمِلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي نَهَارِهِ كُلِّهِ، فَرَأَيْتُ عَلَيَّ فِي الزِّمَامِ أَنْ لَا أُنْقِصَهُ مِمَّا اسْتَأْجَرْتُ بِهِ أَصْحَابَهُ لِمَا جَهِدَ فِي عَمَلِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَتُعْطِي هَذَا مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَنِي وَلَمْ يَعْمَلْ إِلَّا نِصْفَ نَهَارٍ؟! فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ! لَمْ أَبْخَسْكَ شَيْئًا مِنْ شَرْطِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالِي أَحْكُمُ فِيهِ مَا شِئْتُ، فَغَضِبَ وَذَهَبَ وَتَرَكَ أَجْرَهُ!)) وهذه الرواية عند الإمام أحمد في "المسند" (4/ 274 - 275)، والطبراني في "الدعاء" (190) بسند حسن.

فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ! أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي. فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ، مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ! فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ! لاَ تَسْتَهْزِئْ بِي! فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ! فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا (¬1)، اللَّهُمَّ! فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ! فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ ¬

(¬1) زاد في رواية أبي هريرة، وأنس بن مالك (رضي الله عنهما): ((ولو شِئْتُ لم أُعْطِهِ إلا أَجْرَهُ الأولَ)).

فَخَرَجُوا يَمْشُونَ)) (¬1). انتهى الحديث. وأنا فلست أدري، أهذا هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في الإنسانية ¬

(¬1) صحيح: البخاري (2215، 2272، 2333، 3465، 5974)، ومسلم (2743) عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما). والحديث جاء عن غير واحد من الصحابة بألفاظ متقاربة مع اختلاف في الترتيب. وقد استوعب طرقَه الحافظُ الطبرانيُّ (رحمه الله) في كتاب "الدعاء"، فانظره إن شئت [(ص74 - 83) ط/ دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان]. وانظر أيضًا "فتح الباري" [(6/ 614 - 620) ط/ دار الحديث بالقاهرة]، و"مجمع الزوائد" (8/ 140 - 144). فائدة نفيسة جدًّا: هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 274 - 275)، والبزار، والطبراني بسند حسن - كما قال الحافظ في "الفتح" (6/ 614) - عن النعمان ابن بشير (رضي الله عنهما) أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرقيم، فقال: ((إن ثلاثة كانوا في كهف فوقع الجبل ... )) فذكر الحديث بنحو ما سبق. فهذا الحديث تفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم - للرقيم الذي ورد ذكره في قوله (تعالى): {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا} [الكهف:9]. فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن أصحاب الرقيم هم الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار. إذا عُلم هذا استرحنا من الخلاف والاضطراب الكثير المبثوث في كتب التفسير حول الرقيم. والله الموفق لا رب سواه.

وحقوقها بكلامٍ بَيِّنٍ صريحٍ فلا فلسفة فيه، يجعل ما بين الإنسان والإنسان من النية هو ما بين الإنسان وربه من الدين؛ أم هي الإنسانية تنطق على لسانه بهذا البيان العالي، في شعر من شعرها ضاربة فيه الأمثال، مشيرة فيه إلى الرموز، واضعة إنسانها بين شدة الطبيعة ورحمة الله، محكمة عناصر روايتها الشعرية، محققة في بيانها المكشوف أغمض معانيها في فلسفة الحاسة الإنسانية حين تتصل بأشيائها فتظهر الضرورة البشرية وتختفي الحكمة، وفلسفة الروح حين تتصل بهذه الأشياء ذاتها فتظهر الحكمة وتختفي الضرورة، مبينة أثر هذه وتلك في طبيعة الكون، مقررة أن الحقيقة الإنسانية العالية لن تكون فيما ينال الإنسان من لذته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يقنعه من منطقه، ولا فيما يلوح من خياله، ولا فيما ينتظم من قوانينه؛ بل هي السمو على هذه الحقائق الكاذبة كلها، وهي الرحمة التي تغلب على

الأثرة فيسميها الناس بِرًّا، والرحمة التي تغلب على الشهوة فيسميها الناس عفةً، والرحمة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانةً؛ وهي في ضبط الروح لثلاث من الحواس: حاسة الدعة التي يقوم بها حظ الخمول، وحاسة اللذة التي يقوم بها حظ الهوى، وحاسة التملك التي يقوم بها حظ القوة. وتَزيد الإنسانية على ذلك في نسق شعرها أنها تثبت أن الْبِرَّ من العفةِ والأمانةِ هو على إطلاقه كالأساس لهما؛ فمن نشأ على بر أبويه كان خليقًا أن يتحقق بالعفة والأمانة، وأن العفةَ من الأمانةِ والْبِرِّ هي مساكهما وجامعتهما في النفس، وأن الأمانةَ من الْبِرِّ والعفةِ هي كمالُ هذه الفضائل، وكلهن درجات لحقيقة واحدة، غير أن بعضها أسمى من بعض في الشأن والمنزلة، وبعضها طريق لبعض يجر سبب منها سببًا منها، وأن الرحمة الإنسانية التي هي وحدها الحقيقة الكبرى إنما

هي هذا الحب، بادئًا من الولد لأبويه، وهو الحب الخاص؛ ثم من المحب لحبيبته، وهو الحب الأخص، ثم من الإنسان للإنسانية، وهو الحب مطلقًا بعمومه وبغير أسبابه الملجئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجات كدرجات الحياة نفسها من طفولتها إلى شبابها إلى الشيخوخة، ومن العاطفة إلى الرغبة إلى العقل. ثم إنه ما دام كمال الفضيلة هو الأمانة، فما قبلها أنواع منها؛ فبر الولد أمانة الطبع المتأدب، وعفة المحب أمانة القلب الكريم، والثالثة أمانة الخلق العالي، وهي أسماهن؛ لأنها لن تكون خلقًا ثابتًا إلا وقد خضع لقانونها الطبع والقلب، ودخل في أسبابها الأدب والكرم؛ فالأمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي الأمانة للإنسانية العامة المتصلة بالمرء من أبعد جهاته، دون الإنسانية الخاصة بكل شخص من أب، أو أم، أو قريب؛ ودون التي هي أخص وهي إنسانية الحب.

ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل من هؤلاء الذين مثلوا رواية الإنسانية الفاضلة في فصولها الثلاثة، لا يقول إنه فعل ما فعل من صالح أعماله إلا (ابتغاء وجه الله)، وقد تطابقوا جميعًا على هذه الكلمة، وهي من أدق ما في فلسفة الإنسانية في شعرها ذلك، فإن معناها أن الرجل في صالح عمله إنما كان مجاهدًا نفسه، يمنعها ما تحرص عليه من حظها أو لذتها أو منفعتها، أي: منخلعًا من طبيعته الأرضية المنازعة لسواها، المنفردة بذاتها، متحققًا بالطبيعة السماوية التي لا يرحم الله عبدًا إلا بها، وهي: رحمة الإنسان غيره (¬1)، أي: اندماجه ¬

(¬1) عن جرير بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لا يَرْحَمِ النَّاسَ، لا يَرْحَمْهُ اللهُ (عز وجل))) أخرجه البخاري في "صحيحه" (6013، 7376)، ومسلم في "صحيحه" (2319)، واللفظ له.

باستطاعته وقوته، وإعطاؤه من ذات نفسه، ومعاونته كف أذاه. والحديث كالنص على أن هذه الرحمة في النفس هي الدين عند الله، لا يصلح دين بغيرها، ولا يقبل الله صرفًا ولا عدلًا من نفس تخلو منها؛ وإذا كانت بهذه المنزلة، وكانت أساس ما يفرض على الإنسان من الخير والحق، فهي من ذلك في معنى الحديث أساس ما يصلح هذه الإنسانية من الشر والباطل؛ وبهذا كله تكون الغاية الفلسفية التي ينتهي إليها كلامه - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ تنشئة الناس على البر والعفة والأمانة للإنسانية هي وحدها الطريقة العملية الممكنة لحل معضلة الشر والجريمة في الاجتماع البشري. وانظر كيف جعل نهاية السمو في رحمة المال الذي يصفونه بأنه شقيق الروح، فكأن الإنسان لا يخرج فيها لغيره من بعض ماله، بل ينخلع من بعض روحه؛

وهذا يقرر لك فلسفة أخرى أن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وأن الزائفة هي في الأخذ دون العطاء؛ وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق؛ فما المرء إلا ثمرة تنضج بموادها، حتى إذا نضجت واحْلَوْلَتْ (¬1) كان مظهر كمالها ومنفعتها في الوجود أن تهب حلاوتها، فإذا هي أمسكت الحلاوة على نفسها لم يكن إلا هذه الحلاوة بعينها سبب في عفنها وفسادها من بعد. ((أفهمت؟)). وما دمنا قد وصفنا رحمة المال، فإنا نتم الكلام فيها بهذا الحديث العجيب في فن تمثيله وبلاغة فنه: عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، ¬

(¬1) احْلَوْلَى الشَّيْءُ: حَلاَ وَحَسُنَ.

وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلاَ تَتَّسِعُ)). انتهى (¬1). فأنت ترى ظاهر الحديث، ولكن فنه العجيب في هذا الحديد الذي يراد به طبيعة الخير والرحمة في الإنسان، فهي من أشد الطبائع جمودًا وصلابة واستعصاء متى اعترضتها حظوظ النفس الحريصة وأهواءها، ومع ذلك فإن السخاء بالمال يبسط منها وينتهي في الطبع إلى أن يجعلها لينة، فلا تزال تمتد وتسبغ حتى يكون كمال ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" حديث رقم (1443) باللفظ المزبور أعلاه، ورواه أيضًا بأرقام (2917، 5299، 5797)، ومسلم (1021)، والإمام أحمد (2/ 256، 389، 523)، والنسائي في "المجتبى" (2547، 2548)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2437)، والبيهقي في "السنن الكبرى" [كتاب الزكاة - باب كراهية البخل والشح والإقتار] (ج4ص186)، والرامهرمزي في كتاب "أمثال الحديث" [(الجزء السادس ص123) ط/ المكتبة الإسلامية - استانبول - تركيا. تحقيق: أمة الكريم القرشية]. وراجع "شرح المسند" للعلامة أبي الأشبال أحمد بن محمد شاكر (رحمه الله) حديث رقم (7331)، و"فتح الباري" (3/ 373 - 375)، و"فيض القدير" للمناوي (5/ 656 - 657) ط/ مكتبة مصر، وحاشيتي السيوطي والسندي على "سنن النسائي".

طبع السخاء هو كمال طبع الخير في النفس الكريمة، فمن ألزم نفسه الجود والإنفاق راضها رياضة عملية كرياضة العضل بأثقال الحديد ومعاناة القوة في الصراع ونحوه؛ أما الشُّحُّ فلا يناقض تلك الطبيعة، ولكنه يدعها جامدة مستعصية لا تلين ولا تستجيب ولا تتيسر. وقد جعل الجبة من الثُّدِيِّ إلى التَّرَاقِي، وهذا من أبدع ما في الحديث؛ لأن كل إنسان فهو منفق على ضروراته، يستوي في ذلك الكريم والبخيل، فهما على قدر سواء من هذه الناحية؛ وإنما التفاوت فيما زاد وسبغ من وراء هذا الحد، فههنا يبسط الكريم بسطه الإنساني، أما البخيل فهو ((يريد))؛ لأنه إنسان، والإرادة عمل عقلي لا أكثر، فإذا هو حاول تحقيق هذه الإرادة وقع من طبيعة نفسه الكزة (¬1) فيما يعانيه من يوسع جبة من ¬

(¬1) الكزة: المنقبضة. ويقال: رجل كَزُّ اليدين، أي: بخيل.

الحديد لزقت كل حلقة من حلقاتها في مكانها، فهي مستعصية متماسكة، فهو يوسعها فلا تتسع. ألا ترى كيف تتوجه الحجة، وكيف تدق الفلسفة وهي في أظهر البيان وأوضحه؟ وهل تحسب طبيعة البخيل في دقائقها النفسية لو هي نطقت بالغة من وصف نفسها هذا المبلغ من جمال الفن وإبداعه؟ وهو بعدُ وصف لو نُقل إلى كل لغات الأرض لزانها جميعًا، ولكان في جميعها كالإنسان نفسه: لا يختلف تركيبه، فلن يكون بثلاثة أعين، لا في بلاد شكسبير ولا في بلاد الزُّنُوج. إن كلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يترجم بفلسفة عصرنا وآدابه، فستراه حينئذ كأنما قيل مرة أخرى من فم النبوة، وستراه في شرحه الفلسفي كالأزهار الناضرة: حياتها بشاشتها في النور؛ وتعرفه إنسانية قائمة تصحح بها

أغلاط الزمن في أهله، وأغلاط الناس في زمنهم؛ وتجده يرف على البشرية المسكينة بحنان كحنان الأم على أطفالها، والناس الآن كالأطفال غابت أمهم، فهم في تنافر صبياني. وما الأم بطبيعتها إلا الميزان لاستبدادهم، والحكمة لطيشهم، والائتلاف لتنافرهم، والنظام لعبثهم؛ وبالجملة فحنان قلبها الكبير هو القانون لكل قضايا هذه القلوب الصغيرة. وقد كتبنا في فلسفة الأدب وحقيقته، ومعانيه الإنسانية، وأن الأديب التام الأداة هو الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط، وأن علم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضعه من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار،

وأن الأديب مكلف بتصحيح النفس الإنسانية ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائمًا إلى فوق (¬1). فإذا تدبرت هذا المقال، واعتبرت كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما بَيَّنَّا وشرحنا، وأخذته من عصره ومن العصر الذي نعيش فيه، ونظرت إلى ألفاظه ومعانيه، واستبرأت ما بينها من خواص الفن بمثل ما نبهناك إليه من التأويل الذي مر بك، وعلمت أن كل حقيقة فنية لا تكون كذلك إلا بخاصة فيها، وأن سر جمالها في خاصتها - إذا ¬

(¬1) نشر هذا المقال في مقتطف شهر يوليو سنة (1932م)، وأكثر ما فيه يعد متممًا لفلسفة هذا الفصل؛ وسنجمع كل مقالاتنا في كتاب يصدر إن شاء الله في آخر صيف هذا العام. (الرافعي). وأقول: المقال المومى إليه عنوانه: "الأدب والأديب"، وهو منشور في الجزء الثالث من "وحي القلم"، وإخال أنه الكتاب الذي عناه الرافعي (رحمه الله). وقال العريان: ((أحسبه كان يعني كتابه "قول معروف"، وقد استغنى عنه بـ "وحي القلم")).

جمعت ذلك لم تَرَ مذهبًا عن الإقرار بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو أعظم نبي وأعظم مصلح، فهو أعظم أديب؛ لأن فنه الأدبي أعظم فن يحقق للإنسانية حياة أخلاقها، وهو بكل ذلك أعظم إنسان - صلى الله عليه وسلم -. فالفن في هذه البلاغة هو في دقائقه أثر تلك الروح العليا بكل خصائصها العظيمة التي يحتاج إليها الوجود الروحاني على هذه الأرض، ولذا ترى كلامه - صلى الله عليه وسلم - يخرج من حدود الزمان، فكل عصر واجد فيه ما يقال له، وهو بذلك نبوة لا تنقضي، وهو حي بالحياة ذاتها، وكأنما هو لون على وجه منها كما ترى البياض مثلًا هو اللون على وجه طائفة من الجنس البشري ... فإذا نظرت في هذا الفن فانظره في حديثه، وفي عمله، وفي الدنيا التي ألفها من التاريخ تأليف القطعة البليغة النادرة من الكلام، ورد كل ما تدبرته من ذلك

إلى تلك الروح الجديدة على تاريخ الأرض؛ فلتعلمن حينئذ أن كل بليغ هو شمعة مضيئة صُنعت لها مادة النور نورًا وجمالًا بجانب هذه الشمس التي خُلقت فيها مادة النور نورًا وجمالًا وحياة وقوة؛ هناك نور لذي عينين، وهنا النور لكل ذي عينين؛ وذاك يتخايل كالحلم، وهذا يفصح كالحقيقة؛ وذلك ضوء من حوله الظلمة دانية، وهذا قد طرد الظلمة عن نصف الدنيا إلى نصف الدنيا؛ والأول نور بلا روح، والثاني هو روح النور. تلك في رأينا هي الطريقة التي كان يفهمه بها أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، كما يفهم الشاعر نور القمر في ليلة صيف بمعانٍ من الزمان والمكان، ومن النفس والحالة، ومن الهيئة والشكل، ومن العين والفكر، ومن السماء والأرض، ففيه النور وزيادة، أي: الحقيقة وما ترتفع بها على

نفسها؛ وبهذه الطريقة كانوا معه كأعظم فلاسفة الفن مع الفن إعجابًا وحبًا وانقيادًا وطاعة، حتى انخلعوا من عصرهم ودنياهم، وخرجوا من أحوالهم وطبائعهم، وانجذبوا إليه أشد انجذاب عرفه التاريخ، وأصبحوا مصرفين معه تصريف الحوادث لا تصريف الأشخاص، وعادت أنفسهم وكأن تأثير الأرض يلتقي فيها بتأثير السماء فيُغسل في سحب عالية فلا يكون فيها كما يريده الناس، بل كما يريد الله؛ ورجعت قلوبهم لا تلبس على دينها رأيًا ولا هوى، وكأنما وضع لها هذا الدين حرسًا على كل سمع وعلى كل بصر؛ وبالجملة فأولئك قوم كأنما تناولهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفرغهم ثم ملأهم، وما انتقلوا إلى منزلتهم العالية في التاريخ إلا بعد أن نقلهم هو إلى منزلة من منازل نفسه الشريفة. وناهيك من رجال يمثل لهم بهذا المثل الذي يضربه

لهم في الإيمان ليبلغوه أو يقاربوه؛ فعن خباب بن الأرت (رضي الله عنه) قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: ((كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ))! (¬1). فانظر يا هذا، فإنه لو اجتمعت قوى الكون فجاءت يشد بعضها بعضًا فنزلت في عبارة من الكلام لتملأ نفوس المؤمنين بقوتها لما وُضعت إلا هذا الوضع من ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري في "صحيحه" (3612، 3852، 6943)، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 109، 110، 111)، (6/ 395)، وأبو داود (2649)، والنسائي في "المجتبى" (5320) مختصرًا، وأبو يعلى في "مسنده" (7213)، وابن حبان في "صحيحه" (6698 - إحسان)، والحاكم (3/ 382)، والبيهقي في "السنن الكبير" (9/ 5)، والطبراني في "المعجم الكبير" (3639، 3640 - 3646، 3647)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (1/ 137) رَقْم (473).

هذا التمثيل بأمشاط المسامير وأسنان الْمِنْشَار في عظم الإنسان الحي ولحمه. وظاهر التمثيل على ما رأيت من العجب، ولكنَّ له باطنًا أعجب من ظاهره، وهو البلاغة كل البلاغة والبيان حق البيان. فإنما يريد - صلى الله عليه وسلم - أن الحديد لا يأكل ولا يمزع من أولئك الأقوياء بإيمانهم عظمًا ولحمًا وعصبًا، بل هو حديد يأكل حديدًا مثلَهُ أو أشدَّ منه، فإنَّ للروح المؤمنة المسلطة على جسمها قوةً تصنع هذه المعجزة، فيمر الحديد في العظم واللحم والعصب يسلبها الحياة، ولكنها تسلبه شدته وجلده وصبره! وكل ما جاء من التمثيل في كلامه - صلى الله عليه وسلم - ينطوي فيه من إبداع الفن البياني وإعجازه ما يفوت حدود البلغاء، حتى لا تشك إذا أنت تدبرته بحقه من النظر والعلم أن

بلاغته إنما هي شيء كبلاغة الحياة في الحي: هي البلاغة ولكنها أبدع مما هي؛ لأنها الحياة أيضًا. وأنت خبير أن هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - كانت تأخذه عند نزول الوحي عليه أحوالٌ وُصفت في كتب الحديث: قالت عائشةُ (رضي الله عنها): ((وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا)) (¬1). وفي حديثٍ آخرَ عنها قالت: ((فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الإمام مالك في "الموطإ" (1/ 202 - 203/ 7)، ومن طريقه البخاري في "صحيحه" (2)، ومسلم (2333)، والإمام أحمد (6/ 58)، والترمذي (3634)، وقال: ((حديث حسن صحيح))، والنسائي (934)، وابن حبان (38 - إحسان). قولها (رضي الله عنها): ((فيفصم)) أي: يقلع ويتجلى ما يغشاه. و ((يتفصد)): مأخوذ من الفصد، وهو قطع العِرْق لإسالة الدم، شبه جبينه بالعِرْق المفصود مبالغة في كثرة العرق. كما في "الفتح" (1/ 26 - 27).

الْعَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ)) (¬1). وفي حديثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: ((فَأَنْزَلَ اللهُ (تَبَارَكَ وَتَعَالَى) عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ، حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي)) (¬2). وفي حديث يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ حين قَالَ لِعُمَرَ: أَرِنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ: ((فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَيَّ، فَجِئْتُ وَعَلَى ¬

(¬1) صحيح: وهو جزء من حديث الإفك الطويل. وقد أخرجه البخاري (2661، 4141، 4750)، ومسلم (2770)، والإمام أحمد في "المسند" (18/ 9 - 14) ط/ دار الحديث بالقاهرة، والآجُرِّي في "الشريعة" (1965، 1966، 1967). "البرحاء": الشدة. "يتحدر": ينصب. "الجُمَان": الدر. شبهت قطرات عرقه - صلى الله عليه وسلم - بحبات اللؤلؤ في الصفاء والحسن. قاله الإمام النووي (رحمه الله) في "المنهاج" (17/ 112). (¬2) صحيح: أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" (2832، 4592)، والترمذي في "جامعه" (3033)، وقال: ((حديث حسن صحيح))، والنسائي في "المجتبى" (3099، 3100). الرض: الدق والكسر.

رَأْسِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ، فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ)) (¬1)، أي: يردد نفسه من شدة ثقل الوحي. فهذه كلها أحوال تصف عمل الدماغ بكل ما فيه من جهد القوى العصبية؛ ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها ويتركها لوعي الروح وحدها، لا يشاركها في هذا الوعي فكر ولا هاجس، ولا يتصل به شيء من حياة الحي؛ فيتحقق للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجود آخر غير وجوده المحدود بجسمه وطباعه ودنياه؛ ويخرج بوعيه من هذه الجاذبية الأرضية إلى ما وراء حدود الطبيعة من قوى الغيب؛ وبذلك يتلقى عن روح الكون، ثم يفصم عنه وقد وعى ما أُوحي إليه. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" (1536،1789، 1847، 4329، 4985)، ومسلم في "صحيحه" (1180)، والنسائي في "سننه" (2668)، وإمام الأئمة ابن خزيمة في "صحيحه" (2671).

وما وصفه زيد بن ثابت (رضي الله عنه) من أن فخذه كادت تُرَضّ برهان قاطع على أن روحه - صلى الله عليه وسلم - تنسرح من جسمه ساعة الوحي فيثقل الجسم؛ لأنه إنما يخف بالروح وتبقى وظائف الحياة عاملة أعمالها بعسر وبطء؛ لاتصالها بشعاع من الروح دون الروح بجملتها؛ ولسنا هنا بصدد الكلام عن الوحي، فله موضع إن شاء الله في كتابنا "أسرار الإعجاز" (¬1). وإنما نريد أن ندلَّ على أن هذه التهيئة الإلهية لذلك الجهاز العصبي لها أثرها العظيم في فن بلاغته - صلى الله عليه وسلم -، وبها امتاز عن كل بلغاء الدنيا؛ فإن الملهم من أفذاذ العبقريين على هذه الأرض إنما يبلغ ما يبلغه ببعض هذا الذي رأيت، وفي بعض هذا أبدع ما ورثت الدنيا من فنون البيان، وكأن في الدماغ مادة في موضع منه يميز بها من تختارهم السماء لحكمتها ¬

(¬1) لا يزال هذا الكتاب مخطوطًا، وقد جهدت في أن أصل إليه فلم أفلح، وعادوت ذلك مرارًا. وليت شعري مَن لي بمن يأتيني به؛ فلقد كان الرافعي مفتونًا به جدًّا وحُق له، وقد أشار إليه في غير موضع من كتبه. قال صاحب "حياة الرافعي" متحدثًا عن "أسرار الإعجاز": ((فيه فصول تامة التأليف، وفصول أخرى أجمل فكرتها في كلمات على ورق أو أشار إلى مصادرها. وكان الرافعي يعتد بهذا الكتاب اعتدادًا كبيرًا، وهو جدير بذلك حقًّا. وقد أطلعني (يعني: الرافعيَّ) - رحمه الله - على فصول منه، كما تحدث إليَّ عن نهجه في تأليفه، وأذكر أن نهجه فيه كما يأتي: - ... (أ) يتحدث في صدر الكتاب عن البلاغة العربية، فيردها إلى أصولٍ غير الأصول التي اصطلح عليها علماؤها منذ كانت، ويضع لها قواعد جديدة وأصولاً أخرى. - ... (ب) ويتحدث في الفصل الثاني عن بلاغة القرآن وأسرار إعجازه، مسترشدًا في ذلك بما قدم في الفصل السابق من قواعد. - ... (جـ) ويتناول في الفصل الأخير من الكتاب آيات من القرآن على أسلوب من التفسير يبين سر إعجازها في اللفظ والمعنى والفكرة العامة. ويعتبر هذا الفصل الأخير هو صلب الكتاب وأساسه. وقد أتم الكتابة - إلى آخر يوم كنت معه فيه - عن بضع وثمانين آية على هذا النسق. وقد نشر منها في "الرسالة" بضع آيات مفسرة على ذلك النهج، وجعلها في بعض أقاصيصه)).

وإلهامها، وإذا كان فن العبقريين هو أسمى الكلام الإنساني؛ لما خصوا به من هذه التهيئة، فإن فنه - صلى الله عليه وسلم - يكون ولا جَرَمَ من باب الأكبر مما هو أكبر في إلهام الإنسانية كلها. ولهذه القوة النادرة كان بيانه قويًّا على مزج معانيه بالنفس بما فيه من صنعة الحياة، وإنما فلسفة البيان الفني أن تمتد الحياة من النفس إلى اللفظ، فتصنع فيه صنعها، فتفصل العبارة الفنية عن كاتبها أو قائلها وهي قطعة من كلامه؛ لتستحيل عند قارئها أو سامعها قطعة من الحياة في صورة من صور الإدراك؛ فالبيان الفني هو الوسيلة لحمل الوجود وبعثرته في مواضعَ غيرِ مواضعه، وخلقه خلقًا آخرَ في النفس الإنسانية؛ وبذلك يُؤول قوله - صلى الله عليه وسلم -:

((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) (¬1). جعل نوعًا من البيان هو السحر، لا البيان كله، فالحديث كالنص على ما تسميه الفلسفة الأوروبية اليوم (بالبيان الفني)، كأنه قال: إن من البيان فنًا هو سحر من عمل النفس في اللغة تغير به الأشياء، وله عجب السحر وتأثيره وتصرفه؛ وهذا معنى لم يتنبه إليه أحد، ولا يُذكر معه كل ما قالوه في تفسير الحديث، وبذلك ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الإمام مالك في "الموطإِ" (2/ 986/7)، ومن طريقه البخاري في "صحيحه" في إحدى روايتيه (5146، 5767)، وأحمد (4651، 5232، 5291، 5687 - شاكر)، وأبو داود (5007)، والترمذي (2028)، وأبو يعلى في "مسنده" (10/ 5639، 5640)، وابن حبان في "صحيحه" (5795 - إحسان) من حديث عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما). قال الإمام الترمذي (رحمه الله): ((حديث حسن صحيح. وفي الباب عن عمار، وابن مسعود، وعبد الله بن الشخير)). قلت: وفيه أيضًا عن ابن عباس (رضي الله عنهما). وحديثه عند الإمام أحمد (2424، 2473، 2761، 2815، 2861، 3026، 3069 - شاكر)، وأبي داود (5011)، وابن ماجه (3756).

التأويل يكون هذا الحديث قد احتوى أسمى حقيقة فلسفية للفن. ومن أثر تلك القوة أيضًا ما تراه من شدة الوضوح في كلامه - صلى الله عليه وسلم -، ولقد رأينا هذه البلاغة النبوية العجيبة قائمة على أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم الحقائق هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها؛ وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق للحقيقة المعبر عنها، والكلمة الصادقة تنطق مرة واحدة؛ فصورتها اللغوية لا تكون إلا صريحة منكشفة عن معناها المضيء كأنما ألقي فيها النور. وهو معلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلف ولا يتعمل، ولم يكتب ولم يؤلف، ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعًا يقبل التنقيح، أو تعرف له رقة من الشأن كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياس وميزان، أو كأن هذه البلاغة تنبثق بالكلام على طبيعة عاملة فيه بقواها

الدائبة الثابتة، ففنها الجميل هو التركيب الذي تجيء فيه كما ترى الشجر مثلًا كاسيًا من ورقه وزهره، فأنت منه بإزاء عمل جميل لأنك بإزاء حقيقة طبيعية قد انفردت في ذاتها، ومعنى انفرادها في ذاتها أنها كذلك هي، فليس فيها موضع لشيء غير ما هو فيها. ثم لا تنسَ أن النبوة أكبر السبب في ذلك الوضوح البياني العجيب؛ فإن الحياة لا تستغلق في البلاغة بإنسان إلا وهي غنية عنه. ولعل غموض بعض الفلاسفة وبعض الشعراء هو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة .. ألا ترى أن من أساليبهم الفلسفية والشعرية ما يجعل معنى الكلمة أحيانًا هو نقض معناها (¬1)، إذ يتصنعون للفكر ¬

(¬1) من ذلك قول "جيته" شاعر الألمان: ((إن الكل باطل))، معناه: أن الكل ليس بباطل، ولعل هذا في "البديع الفكري" من باب أكل النفي للإثبات ..

ويستجلبون له ويشققون فيه كما يفعل أهل صناعة الألفاظ بالألفاظ، فههنا (البديع اللفظي)؛ وهناك (البديع الفكري) ولا طائل وراءهما إلا صناعة وبهرجة. ومتى كان النبي قسمًا من الحياة، بل مادة لمعانيها الجديدة، فلن يكون بيانه إلا على ما وصفنا لك جمالًا، ووضوحًا، ومنفعة، ودقة، وسموًا بقدر ذلك كله. وهنا معنى نريد أن ننبه إليه ونتكلم في سره وحقيقته: فإنك تقرأ ما جُمع من الكلام النبوي فلا تصيب فيه ما تصيبه في بلاغة أدباء العالم مما فنه الكلام في المرأة، والحب، وجمال الطبيعة، وهو في بلاغة الناس كالقلب في الجسم: لا تخلو منه ولا تقوم إلا به، حتى تجد الكلام في المرأة وحدها شطر الأدب الإنساني، كما أن المرأة هي شطر الإنسانية.

ولا يُعرف له - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأغراض إلا كلمات بيانية جاءت بما يفوق الوصف من الجمال والدقة، متناهية في الحسن، طاهرة في الدلالة، يظهر في وجه بلاغتها ما يظهر في وجه العذراء من طبيعة الحياء والْخَفَر (¬1). كقوله في النساء: ((رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ)) (¬2). ¬

(¬1) الخَفَر - بالتحريك: شدة الحياء. (¬2) حديث صحيح: أخرجه الإمام البخاري (6149، 6161، 6202، 6209، 6210، 6211)، ومسلم (2323)، والإمام أحمد (3/ 107، 117، 172، 176، 186، 206، 227، 252) بألفاظ متقاربة من حديث أنس بن مالك (رضي الله عنه). ورواه الإمام الدارمي (رحمه الله) في "سننه" (2701) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). قال الشريف الرضي [المتوفى سنة ست وأربعمائة (406)] في كتابه "المجازات النبوية": ((هذه استعارة عجيبة؛ لأنه (عليه الصلاة والسلام) شَبَّه النساء - في ضعف النحائز، ووهن الغرائز - بالقوارير الرقيقة التي يوهنها الخفيف، ويصدعها اللطيف. فنهى عن أن يُسْمِعَهُنَّ ذلك الحادي [وهو أَنْجَشَة، بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم بعدها شين معجمة ثم هاء تأنيث] ما يحرك مواضع الصبوة، وينقض معاقد العفة)) ا. هـ.

وقوله لأسامة بن زيد، وقد كساه قُبطية (¬1) فكساها امرأته: ((أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا)) (¬2). ¬

(¬1) بضم القاف ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، وضموا قافه فرقًا بينه وبين ما ينسب إلى القبط من غير الثياب. (¬2) حديث حسن: أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 205)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/ 376)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 234) (3079) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن أسامة بن زيد، أن أباه أسامة (رضي الله عنه) قال: كساني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي (رضي الله عنه)، فكسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما لك لم تلبس القبطية؟)) قلت: يا رسول الله! كسوتها امرأتي. فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مرها فلتجعل تحتها غلالة؛ إني أخاف أن تصف حجم عظامها)). قال الحافظ نور الدين الهيثمي (رحمه الله) في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (5/ 137): ((فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وحديثه حسن وفيه ضعف. وبقية رجاله ثقات)) انتهى. والحديث سكت عليه الإمام الشوكاني (رحمه الله) في "نيل الأوطار" (2/ 490)، وزاد عزوه لابن أبي شيبة، والبزار، وابن سعد، والروياني، والبارودي، والضياء في "المختارة". الغِلالة: شعار يلبس تحت الدثار - مثل القميص تحت الثياب الظاهرة، والجمع: غلائل.

قال الشريف الرضي في شرح هذه الكلمة: ((وهذه استعارة، والمراد أن القبطية برقتها تلصق بالجسم، فتبين حجم الثديين، والرادفتين، وما يشتد من لحم العضدين والفخذين، فيعرف الناظر إليها مقادير هذه الأعضاء، حتى تكون كالظاهرة للحظه، والممكنة للمسه، فجعلها (عليه الصلاة والسلام) لهذه المحال كالواصفة لما خلفها، والمخبرة عما استتر بها؛ وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، ولهذا الغرض رمى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في قوله: ((إياكم ولبس القُباطيّ؛ فإنها إلا تشف تصف)) (¬1). ¬

(¬1) عن عبد الله بن أبي سلمة أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كسا الناس القباطي، ثم قال: ((لا تذرعها نساؤكم)). فقال رجل: يا أمير المؤمنين! قد ألبستها امرأتي فأقبلت في البيت وأدبرت فلم أره يشف. فقال عمر (رضي الله عنه): ((إن لم يكن يشف، فإنه يصف)) رواه الإمام أبو بكر البيهقي (رحمه الله) في "السنن الكبرى" (2/ 234 - 235) (3080).

فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عُذرةِ هذا المعنى (¬1)، ومَن تبعه فإنما [سلك نهجه، وطلع] فجه)) (¬2). قلنا: وهذا كلام حسن، ولكنَّ في عبارة الحديث سرًا هو من معجزات البلاغة النبوية لم يهتدِ إليه الشريف، على أنه هو حقيقة الفن في هذه الكلمة بخاصتها، ولا نظن أن بليغًا من بلغاء العالم يتأتى لمثله، فإنه (عليه الصلاة والسلام) لم يقل: أخاف أن تصف حجم أعضائها، بل قال: ((حجم عظامها))، مع أن المراد لحم الأعضاء في حجمه وتكوينه، وذلك منتهى السمو بالأدب، إذ ذكر (أعضاء) المرأة في هذا السياق، وبهذا المعرض، هو في الأدب الكامل أشبه بالرفث، ولفظة ¬

(¬1) أي: أول مَن قاله وابتكره، فلم يُسبق إليه. مِن قولهم: فلان أبو عُذر فلانة، وأبو عُذْرَتها: أي: أول مَن افتض بكارتها. (¬2) إلى هنا انتهى كلام الشريف الرضي، وهو في كتابه "المجازات النبوية" رَقْم (128).

(الأعضاء) تحت الثوب الرقيق الأبيض تنبه إلى صور ذهنية كثيرة هي التي عدها الرضي في شرحه، وهي تومئ إلى صورة أخرى من ورائها، فتنزه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذلك، وضرب الحجاب اللغوي على هذه المعاني السافرة، وجاء بكلمة ((العظام))؛ لأنها اللفظة الطبيعية المبرأة من كل نزغة، لا تقبل أن تلتوي، ولا تثير معنى، ولا تحمل غرضًا؛ إذ تكون في الحي والميت، بل هي بهذا أخص؛ وفي الجميل والقبيح، بل هي هنا أليق؛ وفي الشباب والهَرَم، بل هي في هذا أوضح، والأعضاء لا تقوم إلا بالعظام، فالمجاز على ما ترى، والحقيقة هي ما علمت. ومن كلماته في الوصف الطبيعي قوله - صلى الله عليه وسلم - وهو يذكر أوقات الصلاة: ((الْعَصْر إذَا كَانَ ظِلٌّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وكذلك: مَا دَامَتِ الشَّمْسُ حَيَّةً، والْعِشَاء إِذَا غَابَ

الشَّفَقُ إِلَى أَنْ تَمْضِيَ كَوَاهِلُ الْلَّيْلِ)) (¬1)، وكواهل الليل: أوائله وفروعه المتقدمة منه، كالذي يتقدم المطايا من أعناقها الممتدة بعض الامتداد. ¬

(¬1) هذا النص نقله المصنف (رحمه الله) بحروفه من الشريف الرضي في "المجازات"، وهذا أورده على أنه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برمته، ولم أقف عليه مرفوعًا بهذا السياق، وقد ورد بعضه موقوفًا على جماعة من الصحابة. والله أعلم. نعم روى الإمام أحمد في "المسند" (3/ 330 - 331)، وابن حبان في "صحيحه" (278 - موارد) عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنهما) ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل، فقال: قم فصله، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، أو قال: صار ظله مثله ... )) الحديثَ. وروى الإمام أبو داود في "سننه" [كتاب الصلاة - باب في المواقيت] حديث رقم (393) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله: ((أَمَّنِي جبريل (عليه السلام) عند البيت مرتين، فصلى الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشِّرَاك، وصلى بي العصر حين كان ظِلُّهُ مِثْلَهُ ... ))، ورواه الإمام الترمذي في "جامعه" في [كتاب الصلاة - باب ما جاء في مواقيت الصلاة] حديث رقم (149) بلفظ: ((أَمَّنِي جبريل (عليه السلام) عند البيت مرتين ... ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثلَ ظله)).

وقوله وقد سأله رجل متى يصلي العشاء الآخرة، فقال (عليه الصلاة والسلام): ((إِذَا مَلأَ اللَّيْلُ بَطْنَ كُلِّ وَادٍ)) (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ)) (¬2). ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 365) عن رجل من أصحاب النبي بسند رجاله موثقون كما قال الحافظ الهيثمي في "المجمع" (1/ 313). وله شاهد من حديث عائشة (رضي الله عنها) عزاه الهيثمي للطبراني في "الأوسط"، وقال: ((رجاله رجال الصحيح))، وقال الألباني في " السلسلة الصحيحة" (1520): ((إسناده حسن رجاله ثقات. وبالجملة فالحديث ثابت بمجموع الطريقين، وأقل أحواله أن يكون حسنًا. والله أعلم)). لكن لم ينشرح صدر الشيخ (رحمه الله) لتقوية هذا الحديث، فأودعه في السلسلة الأخرى (4750) للاضطراب الواقع في السند والمتن، وهو الصواب؛ ولذلك رمز الحافظ السيوطي للحديث بالضعف في "الجامع الصغير" (9627). بيد أن للحديث شاهدًا من رواية أم أنس، ولكن لا قيمة له؛ فإسناده ضعيف جدًّا، وهو عند الطبراني في "المعجم الكبير" كما في "المجمع" (1/ 314). (¬2) جزء من حديث صحيح، تمامه: ((وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ)). أخرجه الإمام البخاري (583، 3272)، ومسلم (829)، والنسائي (571)، والإمام أحمد في "مسنده" (2/ 13، 19، 106) (4612، 4694، 5834 - شاكر) من حديث عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما).

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ)). قَالَ: ((فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ)) (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا، فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي! فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ))، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" (2348، 7519)، والإمام أحمد في "مسنده" (2/ 511 - 512) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه).

قال: ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)) (¬1). فهذا ونحوه من الفن البديع النادر، وهو مع ذلك لا يأتي في كلامه - صلى الله عليه وسلم - إلا في مثل ما رأيت، فلا يراد منه استجلاب العبارة، ولا صناعة الخيال، فيظن من لا يميز ولا يحقق أن خلو البلاغة النبوية من فن وصف الطبيعة والجمال والحب، دليل على ما ينكره أو يستجفيه، ويقول: بداوة وسذاجة ونحو ذلك مما تشبِّهه الغفلة على جهلة المستشرقين ومَن في حكمهم مِن ضعاف أدبائنا وجهلة كتابنا، وإنما انتفى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الإمام مالك في "الموطإِ" [(2/ 929 - 930/ 23) رواية يحيى بن يحيى]، [وبرقم (934) رواية محمد بن الحسن الشيباني]. ورواه من طريق مالكٍ: الإمامُ أحمدُ في "مسنده" (2/ 375، 517)، والبخاريُّ في "صحيحه" (2363، 2466، 6009)، وفي "الأدب المفرد" (378)، ومسلم في "صحيحه" (2244)، وأبو داود في "سننه" (2550) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه).

لانتفاء الشعر عنه، وكونه لا ينبغي له كما بسطناه في موضعه (¬1)؛ فعمله أن يهدي الإنسانية لا أن يزين لها، وأن يدلها على ما يجب في العمل لا ما يحسن في صناعة الكلام، وأن يهديها إلى ما تفعله لتسمو به لا إلى ما تتخيله لتلهو به. والخيال هو الشيء الحقيقي عند النفس في ساعة الانفعال والتأثر به فقط، ومعنى هذا أنه لا يكون أبدًا حقيقة ثابتة، فلا يكون إلا كذبًا على الحقيقة. ثم هو - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره من بلغاء الناس: يتصل بالطبيعة ليستملي منها؛ بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليملي فيها، وقد كانت آخر ابتسامة له في الدنيا ابتسامته للصلاة (¬2)، يتهلل لطهارة النفس ¬

(¬1) كتابنا "إعجاز القرآن". (الرافعي) (¬2) عن أنس (رضي الله عنه) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ (رضي الله عنه) كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا، وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ. راجع "صحيح البخاري" (680، 681، 754، 1205، 4448)، و"صحيح مسلم" (419)، و"مسند الإمام أحمد" (3/ 110)، و"سنن النسائي" (1831)، و"سنن ابن ماجه" (1624)، و"الشمائل المحمدية" للإمام الترمذي (رحمه الله) (368).

المؤمنة وجمالها قائمة بين يديْ خالقها، منسكبًا في طهارتها روح النور، وكل إنسان إنما يبدو الكون في عينه على ما يرى مما يشبه ما في نفسه، فكل ما رآه المصلي الخاشع في صلاته (¬1) يبدو له كأنه يصلي في ضرب من العبادة على نحو من الدين، وكل ما رآه السكران في سكره يكاد يراه متخبطًا يعربد ما يتماسك! ¬

(¬1) من الكلمات الجميلة الدقيقة في نحو هذا المعنى قوله (عليه الصلاة والسلام): ((لا تزالون في صلاة ما انتظرتم الصلاة)). حديث صحيح: أخرجه البخاري في "صحيحه" (5869)، ومسلم في "صحيحه" (640)، والنسائي في "سننه" (539)، وابن ماجه في "سننه" (692) من حديث أنس بن مالك (رضي الله عنه).

ثم إن الكلام في وصف الطبيعة والجمال والحب على طريقة الأساليب البيانية، إنما هو باب من الأحلام؛ إذ لا بد فيه من عيني شاعر، أو نظرة عاشق؛ وهنا نبي يُوحى إليه، فلا موضع للخيال في أمره، إلا ما كان تمثيلًا يراد به تقوية الشعور الإنساني بحقيقة ما في بعض ما يعرض من باب الإرشاد والموعظة، كما مر بك من أمثلته، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ!)) (¬1)، وهذا كلام أبلغ ما أنت واجد من تفسيره تلك النفس المؤمنة بإحساسها الرقيق، ¬

(¬1) هذا كلام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه)، لا كلام النبي، والأثر أخرجه البخاري في "صحيحه" (6308)، والترمذي في "جامعه" (2497)، والإمام أحمد في "مسنده" (3627، 3628، 3629 - شاكر). وانظر - إن شئت غير مأمور - "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (11/ 123) ط/ دار الحديث بالقاهرة.

كأنه حاسة من النور كُبَّت في شعورها، وتلك النفس الفاجرة بإحساسها الغليظ، كأنه حاسة من التراب .... ويكاد المؤمن الذي يسمع هذا الوصف يذكِّره ذنوبه، أن يحس بحركة جبل يهمُّ أن ينقلع فيميل عليه، أما الفاجر فيسمعه يذكّره ذنوبه فإذا هي في خياله نقط سود تمر مرور الذباب، ليس منه إلا الحس به، كما يحس من يضرب على أنفه برجل ذبابة، وجعل الذباب يمر على أنفه دون عينه أو فمه، وذلك منتهى الجمال في التصوير؛ لأن الذباب إذا وقع على الفم أو العين ثبت وألح، فإذا وقع على قصبة الأنف لم يكد يقف ومر مروره. الكون في نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - آية الحكمة لا آية الفن، ومنظر المستيقن لا منظر المتخيِّل، ومادة العبودية لله لا مادة التأله للإنسان، وبذلك حَرَّم الإسلام أشياء وكره أشياء لا يكون الفن بغيرها فنًا، في ضروب من الشعر

والتصوير والموسيقى والحب؛ لأنه إنما ينظر للإنسان واحدًا وجمعًا، وحاضرًا وآتيًا؛ وواجبًا ومنفعة، ولذة وألمًا؛ وهذه كلها لا إطلاق فيها إلا من أجل القيد، على حين أن الفن لا قيد فيه إلا من أجل الإطلاق، وأساس الدين حظ الجماعة وقيودها، وأساس الفن الفرد وحريته؛ وهذه الحياة لا تبدو في حالة تركيب وانتظام إلا إذا كانت للكل، فإذا كانت لفرد ظهرت في هيئة انحلال وانتقاض، وأصبحت في الكون كله عمر إنسان واحد. ثم إن للفن ألوانًا لا بد منها لتصويره الجميل الذي تعجب به النفس، والشيطان هو اللون الأحمر فيها، أي هو أشدها زهوًا وإشراقًا وجمالًا في التصوير الفني لكل ما في المرأة والحب والجمال وشهوات النفس، ولسنا ننكر أن الحياة القوية حين تمازجها هذه الفنون تكسب مرحًا ونشاطًا ويكون لها رونق، وفيها متاع؛ ولكن

الحياة لا تكون بها كذلك إلا من أنها تحتسي خمرها، فلها بعدُ من عاقبة هذه الفنون شبيه بما يكون للجسم القوي من عاقبة الخمر إذا تغلغلت الخمر في شعاب كبده وأحاطت رطبتها يابسة، كما وقع في أطوار كثيرة من تاريخ الأمم؛ فليس الاعتبار في هذا التشبيه بما يعرض من تأثير الساعة الزائلة بأفراحها وفن حياتها، بل الشأن للعاقبة المحتومة متى جاءت ساعتها الباقية بأحزانها وفن هلاكها، فالإسلام فيما حَرَّم وكره من ذلك لم يزد على أن أراد للحياة أن تحيا؛ لأنه لا يقر صورة من صور انتحارها. ومَن كان أكبر عمله إنشاء الحقائق الإنسانية وتقريرها شريعة وعاطفة وأعمالًا، فلا جرم كان فنه غير الذي أكبر عمله تمويه تلك الحقائق وزخرفتها؛ ليقع الإحساس بها على غير وجهها، فتخف بالواقع منها على

النفس خفة الكذب في ساعة تصديقه، وهذا هو أكبر عمل الشعر. وههنا سر دقيق لا يتم كلامنا إلا بشرحه؛ لنقطع القول في هذا المعنى، فيظهر حقه من باطله، قلنا آنفًا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره من بلغاء الناس؛ يتصل بالطبيعة يستملي منها، بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليملي فيها، ومعنى هذا: أنه لا يعرض له من زيغ النفس ما يعرض لغيره من الناس، فأحكم حكماء الدنيا لا يستطيع أن يتبين جزءًا صغيرًا من الكون على حقيقته؛ إذ كانت حواس الجسم غير مهيأة لذلك، ففهم جزء من الكون فهمًا صادقًا جزمًا لا يتم إلا بفهم الكون بأجمعه، فهو كله ذرة مكبرة إلى ما لا ينتهي ولا يحد، وليست النبوة شيئًا غير الاتصال بالسر.

والحاضر الذي يكون في إنسان من الناس، هو حاضر ليس غير؛ لأنه يتحول ويفنى، فهو من الزيغ الذي يعتري النفس، ومنه كل أغراض الحياة البشرية الفانية، ولهذا كان طابع الله على نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو تجريده من زيغ الهوى وسرف الطبيعة، فهو من الناس ولكنه متخلق بأخلاق الله (سبحانه)، وله في هذا الباب ما ليس لأحد ولا يطيقه أحد، ويجب على من يقرأ سيرته وشمائله وحديثه أن يبحث دائمًا عن طابع الله في كل شيء منها، فإنه سيرى حينئذ كأنه يدرسها مع الملائكة لا مع الناس، وسيظهر له من تفسيرها أن الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها الأخلاقية العليا إلا فيها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إنسانًا، وكان أيضًا حركة في تقدم الإنسانية؛ وأن من معجزاته أنه أطاق في تاريخه ما عجزت عنه البشرية في تاريخها، وأن كل أموره - صلى الله عليه وسلم - موضوعة وضعًا إلهيًّا كأنها

صفات كوَّنها الله وعلقها في التاريخ لمعاني الحياة، تعليق الشمس في السماء لمواد الحياة. إن الشهوات والمصالح إنما هي حصر النفس في جانب من الشعور محدود بلذات وهموم وأحاسيس تجعل غرض الإنسان في الإنسان نفسه، فهو كما يملأ معدته ويتأنق في الاختيار لها، يريد من كل ذلك أن يملأ شخصه على هذه الطريقة بعينها، طريقة إشباع معدته .. وبهذا تسخر منه حقائق الكون؛ لأنها لا تحد بشخص، ولا تنحصر في أحد، وكل من كانت حدوده الإنسانية جسمه ولذات جسمه، فهو في مقدار هذا الكون كالميت المحدود من الأرض كلها بقبره وتراب قبره؛ وإنه ليجد جسمه وأكاذيب الطبيعة عليه، ولكنه لن يجد الروح وحقائقها؛ وإذا لم يجد هذه فلن يعرف الكون وأسراره؛ وإذا فقد هذا فهو الحاضر الضيق المشوه المكذوب، ومن

ثَمَّ ففنه شهوة إحساسه وإن كان مخدوعًا، وشهوة نظره وإن كان ملبَّسًا عليه، وشهوة خياله، وإن كان التمويه والزور والحاضر الضيق المشوه المكذوب الخادع هو المسمى في لغة القرآن والحديث ((بالدنيا))، فإذا اتسع الإنسان لروحه وأدرك حقيقتها، ووعى ما بينها وبين الكون؛ وأخذ يحقق هذه الروح السماوية في أعماله، وتخطى حدود جسمه إلى فكرة الخلود؛ فهذا كله هو المسمى في لغة القرآن والحديث ((بالآخرة))؛ فهما كلمتان في منتهى الإبداع من الفن والفلسفة؛ وعلى ذلك يؤول قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: ((مَنْ كَانَ هَمُّهُ الآخِرَةَ جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. ومَنْ كَانَ هَمُّهُ الدُّنْيَا فَرَّقَ اللهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ)) (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح: أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 183)، وابن ماجة في "سننه" (4105)، والدارمي في "مقدمة سننه" (229)، والطبراني في "المعجم الكبير" (15/ 4891)، وصححه ابن حبان (680 - إحسان) (72 - موارد الظمآن) من حديث زيد بن ثابت (رضي الله عنه). وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة": ((إسناده صحيح. رجاله ثقات))، وهو كما قال. وقد زاد عزوه لأبي داود الطيالسي. وجود إسنادَه الحافظُ العراقي (رحمه الله) في "تخريج أحاديث الإحياء". ورواه الترمذي (2465) من حديث أنس بن مالك (رضي الله عنه) بسند ضعيف - كما قال الحافظ العراقي - فيه يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف. لكن يشهد له حديث زيد بن ثابت (رضي الله عنه).

وأنت إذا فسرت هذه الكلمات بما وصفنا لك، ووجهتها على ذلك التأويل؛ ... رأيت عجائب معانيها لا تنقضي، وأدركت سر قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ)) (¬1)، فاتساع الذات الإنسانية وممادَّتها ¬

(¬1) لم أقف عليه من كلام النبي، وإنما هذا كلام الخضر (عليه السلام)، قاله لنبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم -، كما رواه البخاري (122، 3401، 4725، 4727)، ومسلم (2380)، والإمام أحمد (5/ 117 - 188، 119 - 120)، والترمذي (3149)، وقال: ((حديث حسن صحيح)).

لحقائق الكون، يجعل الإنسان كالكون نفسه، مجتمعًا غير مفرق على هموم الحياة؛ ويجعل الغنى معنى لا مادة؛ ولو امتلك إنسان من الناس كل ما طلعت عليه الشمس، وكان له كنز في الشرق وكنز في المغرب، لما بلغ شيئًا قليلًا من لذة هذا المعنى في قلبه؛ وفي هذه الحالة تصبح الدنيا العريضة التي يهلك الناس في تحصيلها وليست إلا ضرورة صغيرة، قد تكون في ثوب ولقيمات ونحوها مما لا خطر له، وهذا هو إرغامها وهي مالكة الملوك، فإذا ضاق الإنسان عن روحه أصبحت النفس كالمنخل يوضع الدقيق الناعم فيه؛ ليخرج منه فيمسكه كله ولا يمسك منه شيئًا، ووضع بين عينيها معنى الفقر، فهي تعمل أبدًا لتمتلئ، ولا تمتلئ أبدًا؛ وإذا كان المنخل متخذًا على الطريقة التي صنع بها، ففقره ولا جرم معلق عليه من ذات تركيبه.

(أفهمت)؟ ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متساوقًا مع الحقيقة، متصلًا بها، محدودًا بربه لا بنفسه، كان لذلك خارجًا من حاضر ما نحن فيه، ممتدًا بمعناه الإنساني الكامل إلى المستقبل الذي وراء الحياة، فما نحصره نحن بطبيعتنا في بعض الأسماء لا يلتفت هو إليه بطبيعته، ومن ذلك أوصاف الغنى والحلية والنعيم والمتاع والجمال والمطعم والمشرب، وما داخل الطبيعة من مثل معانيها، وما جرى هذا المجرى، فهذا كله يراه الناس من جهة الحاجة إليه والمطمع فيه؛ إذ كان ضعف إدراكهم وضيق وعيهم مما يبدع لهم أكاذيب الخيال، فتجيء من ذلك أوصافهم وفنون أوصافهم؛ أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرى ذلك من ناحية الغنى عنه والسمو عليه؛ إذ كان لا ينظر بطبيعة روحه العظيمة إلا أعلى النظرين وأطهرهما،

فآخر إدراكنا للحقيقة والطبيعة أول إدراكه هو الطبيعة والحقيقة، وما تعجز عنه الإنسانية تبدأ منه النبوة. وعلى هذا فإن من أقوى البراهين على كماله - صلى الله عليه وسلم - ونبوته واتساع روحه ونفاذ إدراكه لحقائق الكون: أنه لم يتبسط في تلك الفنون كما يصنع البلغاء، ولم يأخذ مأخذهم فيها؛ إذ كانت كلها من أكاذيب القلب والفكر والعين. وفي قانون الحقيقة أن الأشياء هي كل الأشياء، وهي كما هي، أما في قانون الكذب فالأشياء كلها هي ما تختاره أنت منها، وكما تختاره. بحسب الدنيا من جمال فنه - صلى الله عليه وسلم - ما يضيف إلى الحياة عظمة الأشياء العظيمة، ويدفع الإنسانية في طريقها الواحد الذي هو بين الأب والأم، طريق الأخ إلى أخيه، يكون في الدنيا بين الرجلين كما هو في الدم بين القلبين

رحمة ومودة؛ وبحسبنا من جمال هذا الفن ما يهدي الإنسان إلى حقيقة نفسه؛ فيقره في الحقيقي من وجوده الإنساني؛ ويجعل الفضائل كلها تربية للقلب؛ يكبر بها، ثم يكبر، ثم لا يزال يكبر حتى يتسع لحقيقة هذه الكلمة الكبرى: ((الله أكبر)). - تم بحمد الله

§1/1