السلفيون وحوار هادئ مع الدكتور علي جمعة

شحاتة صقر

* قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: 152). * قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8)» (¬1). ¬

_ (¬1) أي {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما أُمِرُوا بالإيمان به، قوموا بلازم إيمانكم، بأن تكونوا {قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} ... بأن تنشط للقيام بالقسط حركاتكم الظاهرة والباطنة. وأن يكون ذلك القيام لله وحده، لا لغرض من الأغراض الدنيوية، وأن تكونوا قاصدين للقسط، الذي هو العدل، لا الإفراط ولا التفريط، في أقوالكم ولا أفعالكم، وقوموا بذلك على القريب والبعيد، والصديق والعدو. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} أي: لا يَحْمِلَنَّكُم بُغْضُ {قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} كما يفعله مَن لا عَدْلَ عنده ولا قسط، بل كما تشهدون لِوَلِيِّكُم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان كافرًا أو مبتدعًا، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق؛ لأنه حق، لا لأنه قاله، ولا يُرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق. {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم، فإن تم العدل كملت التقوى. {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فمجازيكم بأعمالكم، خيرها وشرها، صغيرها وكبيرها، جزاءً عاجلًا وآجلًا. [انظر: تفسير السعدي (ص 224)].

* قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (الأحزاب: 58). * وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟»، قَالُوا: «اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ»، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، قِيلَ: «أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟»، قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» (رواه مسلم) (¬1). * قَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ: «ذَكَرْتُ رَجُلًا بِسُوءٍ عِنْدَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَنَظَرَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: «أَغَزَوْتَ الرُّومَ؟»، قُلْتُ: «لَا». قَالَ: «فَالسِّنْدَ وَالْهِنْدَ وَالتُّرْكَ؟»، قُلْتُ: «لَا». ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (4/ 2001)، برقم (2589). (بَهَتَّهُ) أَيْ قُلْتَ عَلَيْهِ الْبُهْتَانَ وَهُوَ كَذِبٌ عَظِيمٌ يُبْهَتُ فِيهِ مَنْ يُقَالُ فِي حَقِّهِ، والْبُهْتَانِ هُوَ الباطل، والغيبة ذِكْرُ الْإِنْسَانِ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا يَكْرَهُ، وَأَصْلُ الْبَهْتِ أَنْ يُقَالَ لَهُ الْبَاطِلُ فِي وَجْهِهِ وَهُمَا حَرَامَانِ. [انظر: شرح النووي على مسلم (16/ 142)، تحفة الأحوذي (6/ 54)].

قَالَ: «أَفَسَلِمَ مِنْكَ الرُّومُ وَالسِّنْدُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْكَ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ؟!». قَالَ سفيان: «فَلَمْ أَعُدْ بَعْدَهَا» (¬1). العِلمُ قال اللهُ قال رسولُه قال الصحابةُ ليسَ بالتَمْويه ما العلمُ نصْبُك للخلافِ سفاهةً بينَ الرسولِ وبينَ قولِ فَقيه ¬

_ (¬1) شعب الإيمان للبيهقي (5/ 314)، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (10/ 18)، البداية والنهاية لابن كثير (9/ 336).

مقدمة الأستاذ الدكتور محمد بكر حبيب، الأستاذ بجامعة الأزهر

مقدمة الأستاذ الدكتور محمد بكر حبيب الأستاذ بجامعة الأزهر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد ... فبارك الله تعالى في الدعوة السلفية (¬1) ورجالها الربانيين، الذين قَيَّضَهُم الله تعالى لحَمْل الدين على مَرِّ العصور، يَنْفُون عنه تحريف الغَالِين وتأويل المُبْطِلين، ويَذُبُّون عن سنة خاتم المرسلين - صلى الله عليه وآله وسلم -، وينشرون منهج الصحابة والتابعين، ولولا أن الله قَيَّضَهم لذلك لَمَا وصل إلينا العلم الشرعي الصحيح، والمنهج النبوي المستقيم، ولَمَا قام دارس، ولا أفتى مُفْتٍ، إذ ذلك أساسه هذا الدين، وتعلم العلم الشرعي الصحيح، فالطّعْنُ فيهم طَعْنٌ في المتكلّم فيهم؛ إذ إنه يطعن في مصدرِ علمِه، وأساسِ فهمِه. ومما ينبغي مراعاته، كما هو معلومٌ في أصول الفقه؛ مراعاة حال المُسْتَفْتين، ولذا فإن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ربما أعطى لكل سائلٍ في مسألة واحدة، جوابًا مختلفًا مراعاةً لحاله، وكان ابن عباس - رضي الله عنه - يغير فتواه بناءً على حال المُسْتَفْتي، وكذا فعل أئمة الفقه كالشافعي - رحمه الله -. ¬

_ (¬1) هكذا ينسبون أنفسهم، ويتحاشَون التزكية بلفظ (السلف)، وإن كان الناس يطلقونه عليهم.

والناظر في أحوال مَن يبنون القباب على القبور، ويقيمون الموالد، ويعظمون غير الله، وغيرها من المسائل، يجد أنهم منغمسون في شتى الموبقات، من الشرك بالله، والزنا، وشرب المسكرات، وغيرها، فهل نزيد ذلك ونقول لهم: إن هذا جائز وهو من الدين؟ كما أن من طرق الاستدلال، كما هو معلومٌ في أصول الفقه، أن الترك فِعْلٌ، فما تركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أمور العبادات، مع قيام المقتضي وانتفاء المانع، فالحَقُّ تَرْكُه، وإلا كان الفاعلُ مُحْدِثًا في الدين، أما تَرْكُه - صلى الله عليه وآله وسلم - في أمور العادات فلا يدل على الحظر أو المنع، إذ تُرَدُّ العادات والمعاملات إلى الأصل، وهو الإباحة، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -:" أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ " (رواه مسلم). فالتَّرْكُ في العبادات يُرَدُّ إلى الأصل فيها وهو الحظر، والتَّرْكُ في المعاملات يُرَدُّ إلى الأصل وهو الإباحة. وها هو الأستاذ/شحاتة صقر، مِن شباب الدعوة السلفية، يُخْرِج كتاب (السلفيّون وحوار هادئ مع الدكتور على جمعة، مفتي الديار المصرية) وهو جدير بالنشر والقراءة؛ إذ يحاور محاورةً علميةً هادئةً، ناقلًا عن العلماء الربانيين. فجزاه الله خيرًا، وبارك فيه وفي إخوته من الدعوة السلفية، وفي عامة المسلمين. وكتبه محمد بكر إسماعيل حبيب رئيس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون - جامعة الأزهر بدمنهور

مقدمة الأستاذ الدكتور محمد النشار، الأستاذ بجامعة الأزهر

مقدمة الأستاذ الدكتور محمد النشار الأستاذ بجامعة الأزهر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله مُعِزِّ مَن أطاعه ومُذِلِّ مَن عصاه، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله خير نبي أرسله وأعَزّ عبدٍ اصطفاه، اللهم صَلّ وسلِّمْ وبارك عليه وعلى جميع أصحابه ومن اهتدى بهداه. وبعد ... فإن القلب لَيَحْزَن على ما صار إليه حال الأمة الإسلامية من فُرقةٍ واختلاف في وقتٍ هي أحوج ما تكون فيه إلى التقاء الكلمة، ووحدة الصف، وتكاتف الجهود من أجل العمل على الخروج بهذا البلد من الظروف العصيبة التي يمر بها، والوصول بها إلى بر الأمان. وأهل العلم هم أوْلَى الناس بالعمل على توحيد الصف وجمع الكلمة؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وهم الذين يمثلون ضمير الأمة، وقلبها النابض، ومَن بيدهم توجيه أفرادها إلى التزام منهج الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، امتثالًا لقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} (النحل:125). كذلك هم أوْلى الناس باتباع منهج الإسلام في البعد عن السخرية من المسلمين وغمزهم ولمزهم لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا

خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} (الحجرات:11). ويقول تعالى حاكيًا عما لاقاه رسوله الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه من أذى المشركين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} (المطففين: 29 - 36). وفضيلة الأستاذ الدكتور/علي جمعة مفتي جمهورية مصر العربية من العلماء الذين نُجلّهم ونقدّرهم؛ لأنه على رأس مؤسسة الإفتاء المصرية التي اضطلعت - وما تزال - بمهمة توجيه المسلمين إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وذلك ببيان ما يحل لهم وما يحْرُم عليهم من أمور الدنيا والدين، خرج علينا فضيلته في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة بكتاب مطبوع على نفقة وزارة الأوقاف المصرية ومدعوم بأموال المسلمين، أسماه " المتشددون، منهجهم، ومناقشة أهم قضاياهم " صَوَّب فيه سهامه إلى السلفيين، ونال من منهجهم ووصفهم بأحَطّ الصفات من التشدد والضلال، وكالَ لهم التهم جزافًا، وحذّر منهم ومن منهجهم، وبيَّن أنهم أخطر على الأمة من ألّدِّ أعدائها، واستعدى عليهم جميع أفراد الشعب لكي يقفوا صفًا واحدًا في وجه هذا الخطر الداهم، وهذا مسلكٌ غريب، وسلوكٌ مُريب كُنّا نَبْرَأ بفضيلته أن يَسْلُكَه، فضلًا أن يدعوَ إليه. وقد قام الأخ الفاضل الشيخ شحاتة صقر بمناقشته، والرد على فضيلته، وتفنيد حُجَجِه، ذبًّا عن إخوانه المسلمين الذين أصابتهم سهامه وسياطه، ودفعَ إلَيَّ كتابه للنظر فيه، ففعَلْتُ ولم أجد فيما كتبه شططًا، أو خروجًا على منهج أهل السنة والجماعة مِن طلبِ الدليل والتمسكِ به، فجزاه الله خيرًا. واللهَ أسألُ أن يجمع هذه الأمة على كلمةٍ سواء، وأن يبرم لها أمر رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُذَلُّ فيه أهل المعصية، ويُؤْمَرُ فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنه

وليُّ ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وكتبه ا. د/محمد النشار دمنهور في 7/ 1/1433هـ. الموافق 3/ 12/2011م.

مقدمة

مقدمة إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} (آل عمران:102). {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} (النساء:1). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)}. (الأحزاب:70). أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِى النَّارِ. في كتاب طُبِعَ على نفقة وزارة الأوقاف المصرية (¬1) ومدعَّم من أموال المسلمين ويباع بـ «جنيه واحد» عند بائعي الصحف رغم أن تكلفته قد تتعدى ضعف هذا المبلغ، ليصل إلى أكبر عدد من القراء في مصر- شَنَّ مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة هجومًا شرسًا ليس على مَن يَصُدُّون عن سبيل الله ويَبْغُونَها عِوَجًا ويحاربون شرع الله - سبحانه وتعالى - جهارًا نهارًا من العالمانيين والليبراليين وغيرهم، بل شن هجومه على السلفيين الذين يطالبون بتطبيق شرع الله - عز وجل - في كل صغيرة وكبيرة، ويَدْعون المسلمين إلى العودة إلى منهج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه الكرام - رضي الله عنهم - في العقيدة والشريعة وشتى أمور الحياة. ¬

_ (¬1) ضمن إصدارات سلسلة قضايا إسلامية، العدد (197)، رجب 1432، يونية 2011.

كنا ننتظر من المفتي أن يقوم بدوره في صد هجوم أعداء الشريعة، ولكنه بدلًا من ذلك حاول تشويه صورة السلفيين الذين ذاع صيتهم وازداد إقبال الناس عليهم، ولم يتوقع أعداؤهم أن يكون لهم ولعلمائهم بعد الثورة هذا الظهور الطاغي على المشهد المصري، واستحواذهم على قلوب الناس وعقولهم، رغم سنين طوال مُورِسَتْ فيها صنوف التشويه والقمع والاضطهاد ضدهم بحجج مختلفة، لو مورست تجاه أي طائفة لكانت نسيًا منسيًّا. ففي كتابه الأخير (المتشددون ... منهجهم ... ومناقشة أهم قضاياهم) شنّ الدكتور علي جمعة حربًا شعواء ظالمة على جموع السلفيين في مصر والعالم الإسلامي، في محاولة لحجب الأضواء المتزايدة عنهم، وكبح جماح نجمهم الصاعد بقوة في السماء المصرية سياسيًا واجتماعيًّا ودينيًّا وفكريًّا. وقد كان التيار السلفي - وما زال - غرضًا لكل السهام العلمانية والليبرالية والماركسية والقومية , ولا عجب في خلافهم وعدائهم للمنهج الإسلامي الذي يناصبونه العداء ويدخلون معه في صراع وجود حيث ينتمون لفكر مختلف كليًّا , ولكن العجب من عداء مفتي الديار الذي أخذ يكيل التهم للسلفيين بلا دليل. بل إنه في تسجيل بالصوت والصورة أخذ ينتقصهم وينتقص كبار علمائهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بأسلوب ساخر مع أنهما يتمتعان باحترام وتوقير كبيرين من علماء الأزهر وغيرهم كما سيرى القارئ في صفحات هذا الكتاب. وقُوبل كتاب المفتي باحتفاءٍ شديد من أصحاب الفكر العلماني والليبرالي نظرًا لكونه يصب في مصالحهم للهجوم على التيار السلفي الذي يقف حجر عثرة في وجه محاولاتهم المستميتة لمسخ هوية الأمة الإسلامية. ومع هذه الحرب الشعواء من المفتي ضد السلفيين تعجب عندما تجد منه الدعوة إلى التقريب مع الشيعة الذين يقولون بتحريف القرآن ويكفّرون الصحابة، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -.

صدر هذا الكتاب عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية ليطعن في السلفيين الذين لم ينزلوا على الناس من كوكب المريخ أو زحل، بل هم ملايين من المسلمين لهم بفضل الله - سبحانه وتعالى - قبول واسع عند الناس لتبنّيهم منهج الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. صدر هذا الكتاب وفي مقدمته كلمة للدكتور محمد الشحات الجندي - الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - يقول فيها: «يتناول هذا الإصدار من إصدارات المجلس - قضايا إسلامية - العديد من القضايا الحياتية، وهي قضايا تستمد جذورها من منابعها الصافية التي أرسى تعاليمها القرآن والسنة والإجماع والمنقول والمصلحة الإسلامية المعتبرة ... وليس من غرض المجلس من إصداره هذه المطبوعات ومنها هذه السلسلة: قضايا إسلامية، مصادرة الفكر المعارض أو الحَجْر على الرأي الآخر ... ». ونسأل فضيلة الأمين العام: * هل قرأتم كتاب المفتي قبل طبعه؟!! * هل اطلعتم على ما فيه من افتراءات على السلفيين؟!! * إذا كنتم قد اطلعتم على ما فيه من افتراءات فهل تَثَبَّتُّم من صحة تلك الدعاوى قبل نَشْر الكتاب؟!! مع أن المفتي لم يذكر أدلة لتلك الادعاءات. * هل الطعن في الملايين من المسلمين يعتبر من وجهة نظركم من القضايا الحياتية، التي تستمد جذورها من منابعها الصافية التي أرسى تعاليمها القرآن والسنة والإجماع والمنقول والمصلحة الإسلامية المعتبرة؟!!! * ألا يُعَدّ ما في هذا الكتاب مصادرةً لفكر السلفيين وحَجْرًا على رأيهم الذي يعتمد بالأساس على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؟!!

* ما رأي فضيلة الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية فيما قاله المفتي في هذا الكتاب المطبوع على نفقة المجلس من أن مقاومة الفكر السلفي مطلب قومي؟!! * أليس في هذا الكلام تحريضًا واستعداءً لأجهزة الدولة المختلفة لمحاربة هؤلاء المسلمين؟!! * وإذا كان جهاز أمن الدولة البائد الذي كان يحارب هؤلاء السلفيين ويزُجّ بهم في المعتقلات قد ولّى فمن الذين يرشحهم فضيلة المفتي للقيام بهذا المطلب القومي؟!! ولكننا نذَكّر فضيلة المفتي وفضيلة الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بأن السلفيين رغم التشويه المتعمد لهم من قبل أجهزة الإعلام المختلفة، ورغم التضييق الشديد عليهم مِن قِبَل جهاز أمن الدولة في النظام البائد انتشرت دعوتهم بفضل الله - سبحانه وتعالى - في الآفاق، وقد انبهر كثيرون مسلمون وكافرون بملايينهم المنظمة التي خرجت لنصرة الشريعة في ميدان التحرير في جمعة 29/ 7/2011م (¬1). ونرجو الله - سبحانه وتعالى - الذي وقانا أكاذيب العلمانيين وبطش وغشم جهاز أمن الدولة السابق أن يقينا ظلم فضيلة المفتي وافتراءاته علينا، وعند الله تجتمع الخصوم. وأذكّر كل مَن يتمسكُ بمنهج أهل السنة والجماعة بقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (آل عمران: 120). فاصبروا واتقوا الله وتمسكوا بكتاب ربكم وسُنّة نبيكم - صلى الله عليه وآله وسلم - وامضوا بعزم وجد في طريق الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتذكروا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد بشّر بخلافة راشدة على منهاج النبوة تأتي بعد الحكم الجبري. ¬

_ (¬1) راجع في ذلك تعليقات صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية يوم السبت التالي لمليونية نصرة الشريعة، وكذلك مجلة «التايم» الأمريكية، وصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية.

إن كتاب (المتشددون) ما هو إلا اجترار لشبهات قديمة ذكر معظمها المفتي في كتابه (البيان القويم لتصحيح بعض المفاهيم، مجموعة فتاوى لدحض الشبهات وجمع الشتات) (¬1)، وهذا الكتاب الذي بين يديك أخي القارئ الكريم ليس ردًّا تفصيليًّا على كتاب (المتشددون)، بل خطوط عريضة، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب الآتية: 1 - الاعتصام للإمام الشاطبي المالكي - صاحب كتاب الموافقات -، وفيه تأصيل شرعي لمسألة البدع. 2 - الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ - رحمه الله - عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وفيه كذلك تأصيل شرعي لمسألة البدع، وقد كان مقررًا لقسم الوعظ والخطابة بالأزهر الشريف. 3 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية. 4 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية. 4 - التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني. 5 - تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، للشيخ الألباني. 6 - اعتقاد الأئمة الأربعة، للدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس. 7 - القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل، للشيخ إسماعيل الأنصاري. 8 - الأشاعرة عرض ونقد للدكتور سفر الحوالي. ¬

_ (¬1) وقد رد عليه الأخ خالد عبد القادر عقدة في كتاب (وقفات مع متصوفة اليوم)، وردَدْتُ عليه في كتاب (كشف شبهات الصوفية) فلله الحمد والمنة.

ونحن السلفيين لا ندّعي لأنفسنا ولا لعلمائنا العصمة، ونحن نرحب بكل من ينصحنا سواء أنَصَحَ برفقٍ أو بشدة طالما كان يريد أن يَرُدّنا إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة, وإلا رددناه نحن إلى ذلك؛ فالحق أحق أن يُتَّبَع , وما لم يكن دينًا عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم - الذين قال الله لهم: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (البقرة:137)، لا نقبل أن يكون اليوم دينًا. ونُذَكِّر المفتي وجميع المسلمين بقول الإمام مالك - رحمه الله -: «من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خانَ الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة:3)، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا» (¬1). وفي الختام أشكر للأستاذ الدكتور محمد بكر حبيب، وللأستاذ الدكتور محمد النشار ما قاما به من جهد وما انتزعاه من وقتهما الثمين في مراجعة هذا الكتاب؛ فجزاهما الله عني وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأسأل الله - عز وجل - أن يبارك لهما في علمهما وعمرهما وأن ينفع بهما الإسلام والمسلمين. كما أسأله - سبحانه وتعالى - أن ينفع المسلمين بهذه الورقات وأن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ـ سيدنا محمد ـ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. شحاتة محمد صقر [email protected] [email protected] 5 ذي الحجة 1432هـ 1 نوفمبر 2011 م ¬

_ (¬1) الاعتصام للإمام الشاطبي المالكي (1/ 54).

درر من كلام الإمام الشاطبي المالكي

دُرَرٌ من كلام الإمام الشاطبي المالكي قال الإمام الشاطبي المالكي - رحمه الله -: * «إن الإحداث في الشريعة إنما يقع إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة» (¬1). * «لا تجد مبتدعًا ممن ينتسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي، فيُنْزِله على ما وافق عقله وشهوته» (¬2). * «الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عملِ أحدٍ البتة، حتى يتثبت ويسأل عن حكمه؛ إذ لعل المعتمَد على عمله يعمل على خلاف السُنّة، ولذلك قيل: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سَلْه يصْدُقْك، وقالوا: ضعف الرويّة أن يكون رأى فلانًا يعمل فيعمل مثله، ولعله فعله ساهيًا» (¬3). * «وقد علم العلماء أنَّ كلَّ دليل فيه اشتباهٌ وإشكالٌ ليس بدليل في الحقيقة؛ حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه، ويشترط في ذلك أن لا يعارضه أصلٌ قطعيٌّ؛ فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك، أو عارضه قطعيٌّ؛ كظهور تشبيه؛ فليس بدليل؛ لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهرًا في نفسه، ودالًا على غيره؛ وإلا احتيج إلى دليل عليه؛ ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 493). (¬2) الاعتصام (1/ 134). (¬3) الاعتصام (2/ 508).

فإن دلَّ الدليل على عدم صحته؛ فأحرى أن لا يكون دليلًا» (¬1). * «من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض، فيوشك أن يَزِلّ، وليس هذا من شأن الراسخين وإنما هو من شأن من استعجل طلبًا للمخرج في دعواه» (¬2). * «شأن الراسخين: تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضًا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة، وشأنُ متبعي المتشابهات أخذ دليلٍ مَا أيّ دليل كان عفوًا وأخذًا أوليًا - وإنْ كان ثَمَّ ما يعارضه من كُليٍّ أو جزئي -، فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكمًا حقيقيًّا، فمتبعه متبع متشابه، ولا يتبعه إلا مَن في قلبه زيغ، ما شهد الله به ومن أصدق من الله قيلًا» (¬3). ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 320). (¬2) الاعتصام (1/ 223). (¬3) الاعتصام (1/ 245).

من هم السلفيون؟

من هم السلفيون؟ (¬1) من حيث المصطلح أصبحت السلفية عَلَمًا على أصحاب منهج الاقتداء بالسلف من الصحابة والتابعين من أهل القرون الثلاثة الأولى وكل من تبعهم من الأئمة كالأئمة الأربعة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك والبخاري ومسلم وسائر أصحاب السنن، وشمل شيوخ الإسلام المحافظين على طريقة الأوائل مع تباين العصور وتفجر مشكلات وتحديات جديدة أمثال ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وكذلك أصحاب أغلب الاتجاهات السلفية المعاصرة بالجزيرة العربية والقارة الهندية ومصر وشمال أفريقيا وسوريا وكانت ذات أثر واضح في تنقية مفاهيم الإسلام ودفعه إلى الأمام لمواجهة زيف الحضارة الغربية، وللكشف عن جوهر الثقافة العربية والإسلامية الأصيلة القادرة على الحياة في كل جيل وكل بيئة. ومن حيث المضمون تعني السلفية في الإسلام التعبير عن منهج المحافظين على مضمونه في ذروته الشامخة وقمته الحضارية، كما تُوَجّهنا إلى النموذج المتحقق في القرون الأولى المفضلة، وفيها تحقق الشكل العلمي والتنفيذ الفعلي ومنه استمدت حضارة المسلمين أصولها ومقوماتها ممثلة في العقيدة خضوعًا للتوحيد وبيانًا لدور الإنسان في هذه الحياة وتنفيذًا لقواعد الشريعة الإلهية بجوانبها المتعددة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وروابط الأسرة وفضائل الأخلاق. والسلفية كمصطلح تعني أيضًا في مدلولها الخاص الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن أمتنا تنفرد بمزية لا تشاركها فيها أمة أخرى في الماضي أو الحاضر أو المستقبل تلك هي ¬

_ (¬1) انظر: قواعد المنهج السلفي، السلفية بين العقيدة الإسلامية والفلسفة الغربية، المخاطر التي تواجه الشباب المسلم وكيف نتوقاها؟ للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي، الأستاذ بكلية دار العلوم بالقاهرة.

تحقق القدوة في شخصه - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ حُفِظَتْ سيرتُه كاملةً محققةً بكافة تفاصيلها فنحن نعلم عنه كل شيء وفقًا لما نُقِلَ إلينا في كتب وعلوم مصطلح الحديث بأدق منهج تاريخي علمي عرفه المؤرخون. وهكذا فإن السيرة النبوية حية في كياننا ونحن نعيشها كل يوم وهي تمثل القمة للسلفيين، وتطبيق الشريعة الإسلامية ممتد على طول الزمن لا يتعلق بعصر دون آخر بل إن كل جيل من المسلمين مطالَبٌ بتنفيذ أصولها النَّصّية مع الاجتهاد فيما لم يَرِدْ فيه نَصٌّ عند مواجهة أحوال الحياة المتغيرة كما هو معروف في أصول الفقه. وإزاء خطط الغزو الفكري ومظاهر الاشتباك العقلي مع خصوم الإسلام صمد السلفيون للمحافظة على جوهر الإسلام وأصوله إيمانًا بأنه لم يظهر زيف هذه العقائد والنحل إلا بطريقة السلف أنفسهم مهما تغيرت الأزمنة والأعصار لأنها طريقة موضوعية ذات أسس علمية منهجية تعتمد على النصوص الشرعية الموثقة. فهناك مسائل ثابتة لا تتغير: كفطرة التوحيد ومخاطبة العقول البشرية للبرهنة على النبوات عامة ونبوة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خاصة والرد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في كل ما انحرفوا به عن الشرع المنزل مع دحض شبهات الملحدين والمشركين. هذا فضلًا عن ثبات الفضائل الأخلاقية وقواعد التحليل والتحريم في المأكل والمشرب والملبس وتنظيم العلاقات الاجتماعية في الأسرة والمجتمع وإقامة العلاقات الدولية مع سائر الأمم وفقًا لأصول الشرع. فإذا كان المسلمون يتلمسون اليوم طريقًا للنهوض فليس لهم من سبيل إلا وحدة جماعتهم، ووحدة الجماعة ليس لها من سبيل إلا الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح مصدره القرآن والسنة، وهذه خلاصة الاتجاه السلفي: عودة بالإسلام إلى مَعِينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

وفي العصر الحديث يعمل السلفيون على استئناف الحياة الإسلامية على أساس هذا الفهم وطبقًا للنظرة الرَحْبة الفسيحة لكل جوانب الإسلام كمنهج رباني شامل لا يَعْتَوِرُه نقص في أي من مجالات الحياة. وقد اتفق المسلمون السلفيون على قاعدة اضطراد العلاقة بين تقدم المسلمين واستمساكهم بالإسلام، وعلى العكس، تدهورهم وضعفهم عند الانسلاخ منه فالعلاقة بينهما علاقة المد والجذر مع الإسلام والإيمان. السلفية والتقدم: يزعم خصوم الإسلام بعامة والسلفية بخاصة أنها دعوة رجعية، وهو زعم خاطئ من جذوره، فلا تتعارض السلفية مع التقدم؛ لأن التقدم في الإسلام تقدم أخلاقي يمضي قدمًا في تحقيق الرسالة التي نِيطَتْ بهذه الأمة مع الأخذ بأسباب العمران المادي في نواحي الحياة كلها. والقديم في تاريخ أوربا تعبير يطلق على العصور المظلمة في القرون الوسطى السابقة لعصر النهضة ورفض أوربا لتاريخها القديم موقف عادي يتلاءم مع رغبتها في التقدم لأن الماضي يُعَدُّ سببًا لتخلفها. وإذا قارَنّا الإسلام بمختلف ديانات العالم عرفنا أن عقائدها منعت معتنقيها من التقدم الحضاري عندما استمسكوا بها، ودارِسُ التاريخ يلاحظ أن أهل أوربا والبوذيين في اليابان على سبيل المثال لما كانوا راسخين في معتقداتهم الدينية كانوا على أسوأ ما يكون من أدوار التخلف، ولمّا أحرزوا لأنفسهم الرقي والتقدم في حياتهم العلمية والعقلية والمادية ما عادوا مؤمنين بمعتقداتهم المسيحية والبوذية إلا اسمًا. أما المسلمون فعندما كانوا أقوياء في إيمانهم بمعتقداتهم صاروا أكثر أمم الأرض تقدمًا وازدهارًا وقوة ومجدًا، وما أن دَبَّ دبيبُ الضعف في إيمانهم بها حتى تخلفوا في ميادين العلم وضعفوا في صراعهم للرقي الدنيوي وتحكمت فيهم واستولت عليهم أمم أجنبية، وهذا فرق عظيم بين معتقدات الإسلام ومعتقدات الديانات الأخرى في العالم.

فالأمر عكسي بالنسبة لنا تمامًا: فإن تاريخنا يعبر عن تقدم حضاري في كافة المجالات، وإذا نحن طالبنا (بالترقي) إلى مستوى السلف فإننا نعني بذلك التمسك بالمفاهيم الإسلامية الشاملة للعقيدة والعبادة والشريعة وسائر الأنشطة الإنسانية التي منها - بلا شك - الحقل العلمي. ولكننا في الوقت نفسه لا نزعم - ولا نظن أن عاقلًا يخطر له على بال - أن نضع الأمة الإسلامية في متحف للتاريخ! بمعنى أن نطالب بإرجاعها للأخذ بوسائل العصور السابقة في الحياة العمرانية بأساليبها في الإنتاج والنقل والتعليم والتطبيب وتشييد المدن وتجهيز الجيوش وبناء المدارس والجامعات والمستشفيات .... إلخ. ويتضح لكل دارس للإسلام أن المفهوم الإسلامي للحضارة أرقى بكثير من التصور الغربي؛ فلا نحن نرضى بتخلف المسلمين الحالي عن تحقيق النموذج الإسلامي، ولا نرضى في الوقت نفسه بتقليد الغرب في فلسفته ومضامينه الفكرية الشاملة. أما نَبْذُ السلفية بحجة التسابق مع الزمن واللحاق بكل ما هو جديد فمنهج خاطئ قائم على مفاهيم غربية متصلة بفلسفتها؛ فإن ما نراه اليوم جديدًا سيصبح غدًا - وحتمًا - قديمًا فليست الموازنة إذن بين قديم وجديد موازنة صحيحة؛ ولكن ينبغي أن تتم بالمقارنة بين الحق والباطل أيًا كان العصر والزمان لأن القيم لا تتغير ولا تتبدل، فليس الجديد مقدَّمًا بالضرورة عن سلفه؟. ولعلنا نصدم أصحاب دعوى التجديد المتغرِّبين النابذين للسلفية عندما نضع أمامهم الحديث النبوي: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ

لَهَا دِينَهَا» (¬1) (رواه أبو داود، وغيره وصححه الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وابن حَجَرٍ العسقلاني والعراقي والألباني). والتجديد إنما يكون بعد الدُرُوس (¬2) فالتجديد ارتقاء وتقدم بالأمة لتسلك طريقها مرة أخرى كلما بعدت عن الصحيح الأصيل المتوارث. ونحن نرفض تقليد الغرب ونبحث عن الأصالة ولا تأتي الأصالة بترقيع الشخصية بل بالارتباط بالعقيدة التي كانت حجر الزاوية في كيان هذه الأمة، وينبغي ¬

_ (¬1) (إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ) أَيْ أُمَّةِ الإجابة، ويحتمل أمة الدعوة (عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ) أَيِ انْتِهَائِهِ أَوِ ابْتِدَائِهِ إِذَا قَلَّ الْعِلْمُ وَالسُّنَّةُ وَكَثُرَ الجهل والبدعة، وَاخْتُلِفَ فِي رَأْسِ الْمِائَةِ هَلْ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ أَوِ الْبَعْثَةِ أَوِ الْهِجْرَةِ أَوِ الْوَفَاةِ (مَنْ يُجَدِّدْ) مَفْعُولُ يَبْعَثُ (لَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ (دِينَهَا) أَيْ يُبَيِّنَ السُّنَّةَ مِنَ الْبِدْعَةِ وَيُكْثِرُ الْعِلْمَ وَيَنْصُرُ أَهْلَهُ وَيَكْسِرُ أَهْلَ الْبِدْعَةِ وَيُذِلَّهُمْ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَالِمًا بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. ومَعْنَى التَّجْدِيدِ إِحْيَاءُ مَا انْدَرَسَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَمْرُ بِمُقْتَضَاهُمَا. وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ الْمُجَدِّدُ إِلَّا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ مِمَّنْ عَاصَرَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِقَرَائِنِ أَحْوَالِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِ إِذِ الْمُجَدِّدُ لِلدِّينِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ نَاصِرًا لِلسُّنَّةِ قَامِعًا لِلْبِدْعَةِ وَأَنْ يَعُمَّ عِلْمُهُ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّجْدِيدُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ لِانْخِرَامِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ غَالِبًا وَانْدِرَاسِ السُّنَنِ وَظُهُورِ الْبِدَعِ فَيُحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى تَجْدِيدِ الدِّينِ فَيَأْتِي اللهُ تَعَالَى مِنَ الْخَلْقِ بِعِوَضٍ مِنَ السَّلَفِ إما واحدًا أو متعددًا. فالْمُجَدِّدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ عَزْمُهُ وَهِمَّتُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِحْيَاءَ السُّنَنِ وَنَشْرَهَا وَنَصْرَ صَاحِبِهَا وَإِمَاتَةَ الْبِدَعَ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَمَحْوَهَا وَكَسْرَ أَهْلِهَا بِاللِّسَانِ أَوْ تَصْنِيفِ الْكُتُبِ وَالتَّدْرِيسِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُجَدِّدًا الْبَتَّةَ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعُلُومِ مَشْهُورًا بَيْنَ النَّاسِ مَرْجِعًا لَهُمْ. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مُجَدِّدٌ وَاحِدٌ فَقَطْ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. [انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد آبادي (11/ 259 - 264). (¬2) دَرَسَ – دَرْسًا ودُرُوسًا –: عَفَا وذَهَبَ أَثَرُهُ، ودَرَسَ الثَوْبُ: أَخْلَقَ وبَلِيَ. [انظر: المعجم الوسيط، مادة درس)، معجم اللغة العربية المعاصرة، للدكتور أحمد مختار عبد الحميد عمر (1/ 737)].

هنا التمييز بين تقليد (مقومات الشخصية والعقائد والتصورات) وبين النتائج العلمية فلا وطن للعلم ولا جنسية للاكتشاف والأبحاث الإنسانية في الميادين المختلفة. ولكن المشكلة هي اختلافنا الأساسي معهم على قواعد جوهرية تتناول عقيدة التوحيد والإيمان بالله - سبحانه وتعالى - وإفراده بالألوهية والربوبية وماهية الإنسان والغرض مِن خَلْقه وبيان مآله في اليوم الآخر وما هي وسائله لسلوك أحسن السبل الممكنة في الحياة والارتقاء بها؟ وتأتي آفة التقليد عندما ننسى أصالتنا ولذا ينبغي التنبيه إلى الحكمة النبوية في الحديث الذي رواه البخاري: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»، فَقِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟»، فَقَالَ: «وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ؟». وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» (رواه البخاري ومسلم). إذا عرفنا كل هذا أصبح هدف السلفية واضحًا أمامنا كضوء الشمس وهو يتلخص في: تطهير العقيدة من شوائب البدع، وتربية الشخصية الإسلامية، والدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية في كل مجالات الحياة، وفتح الذهن البشري لقبول كل جديد في ميادين العلوم التجريبية، وإحياء العقيدة من منابعها بعيدًا عن المذهبية الضيقة بصورتها الأخيرة أو تطويع العقيدة والشريعة في الإسلام لدعاوي التطوير الخاطئة.

أخطاء منهجية في كتاب المفتي

أخطاء منهجية في كتاب المفتي أولًا: لم يلتزم الدكتور علي جمعة بآداب الحوار الإسلامي مع السلفيين الذين نظن أنه يعتبرهم من المسلمين قال المفتي (ص24): «مِن مصائب (¬1) هذا التيار المتشدد أنهم اتهموا الأشاعرة بأنهم فرقة ضالة، وهنا يتجلى فكر الخوارج الذي لا يعبأ بأن يخرج على جماعة المسلمين وينتقصهم ويزعم أنهم على ضلالة ويدعي الحق لنفسه». وقال (ص69): «مِن طامَّات (¬2) هذا التيار المتشدد أنه يحرِّم التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الدعاء إلى الله». وقال (ص102): «يخالف المتشددون أغلب المسلمين في فرحهم بذكرى ميلاد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويتهمونهم أنهم على بدعة ضلالة، على الرغم من احتفالهم بذكرى بعض علمائهم وأئمتهم، وهذه مصيبة أخرى من مصائبهم». ثانيًا: المفتي أشعريٌّ، ويفخر بذلك، والأشاعرة لا يقبلون أحاديث الآحاد في العقائد حتى ولو كانت في صحيحَي البخاري ومسلم، وفي قولهم هذا مخالفة صريحة لمنهج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد أرسل معاذًا - رضي الله عنه - وحده إلى اليمن ليُعلّم الناس العقيدة والشريعة. إن المفتي (ص121 - 122) يرُدّ حديثين في صحيح مسلم بحجة أنهما أحاديث آحاد، ورغم ذلك تجده يستدل (ص120) بإسرائيليات لا زمام لها ولا خطام تروى بدون إسناد أصلًا. ¬

_ (¬1) هكذا: مِن مصائب، و (مِن) للتبعيض، أي أن هناك مصائب أخرى!!! حسبنا الله ونعم الوكيل. (¬2) هكذا: مِن طامات، و (مِن) للتبعيض، أي أن هناك طامات أخرى!!! حسبنا الله ونعم الوكيل.

وتجده يستدل على عقيدته الأشعرية في تأويل الصفات بحديث مكذوب على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو: (وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ)، ونسبه إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ثم قال المفتي في الهامش في تخريج هذا الأثر: «الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي 1/ 321». ونسأل المفتي: هل هذا الأثر حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ وهل هو متواتر، أم آحاد؟ هل هو صحيح أم ضعيف؟ لم يبَيّن لنا المفتي؟ وهل الكتاب الذي عزى إليه مصدر معتبر في تخريج الأحاديث؟!! وهل هذا الأثر أصح من أحاديث البخاري ومسلم؟!! نترك الإجابة لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: «(وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ) كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مُخْتَلَقٌ وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ لَا كِبَارِهَا وَلَا صِغَارِهَا وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِسْنَادِ لَا صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَلَا بِإِسْنَادِ مَجْهُولٍ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: بَعْضُ مُتَأَخِّرِي مُتَكَلِّمَةِ الْجَهْمِيَّة ... وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ». وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الْإِلْحَادِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: «وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ» قَصَدَ بِهَا الْمُتَكَلِّمَةُ الْمُتَجَهِّمَةُ نَفْيَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ؛ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالُوا: كَانَ فِي الْأَزَلِ لَيْسَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْعَرْشِ لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ التَّحَوُّلِ وَالتَّغَيُّرِ. وَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ بِجَوَابَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرْشِ: بِمَنْزِلَةِ الْمَعِيَّةِ وَيُسَمِّيهَا ابْنُ عَقِيلٍ الْأَحْوَالَ. وَتَجَدُّدُ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ إذْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ تَغَيُّرًا وَلَا اسْتِحَالَةً.

وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ اقْتَضَى تَحَوُّلًا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَمِنْ شَأْنٍ إلَى شَأْنٍ فَهُوَ مِثْلُ مَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَنُزُولِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَإِتْيَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَهُوَ لَازِمٌ لِسَائِرِ الْفِرَقِ» (¬1). وقد يقول قائل إن هذا كلام ابن تيمية الذي يعتبره المفتي من السلفيين المتشددين، ولهذا القائل ننقل تأييد الحافظ ابن حجر لكلام ابن تيمية المتشدد وثناءَه عليه، حيث قال: «وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: « ... وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ»، وَهِيَ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ» (¬2). ونسأل المفتي: هل الحافظ ابن حجر من المتشددين؟!!! ثالثًا: يعارض المفتي الأحاديث الصحيحة بروايات ضعيفة، ومن ذلك أنه (ص81 - 82) عارض أحاديث رواها البخاري ومسلم في نهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد – بقصة بناء أبي جندل - رضي الله عنه - مسجدًا على قبر أبي بصير - رضي الله عنه - في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهي قصة لا تصح، فليس لها إسناد تقوم به الحجة، وإنما أوردها ابن عبد البر في ترجمة أبي بصير عن الزهري، ورواها موسى بن عقبة بدون إسناد (¬3). رابعًا: أحيانًا يحاول المفتي إقناع القارئ بصحة الأحاديث الضعيفة التي يستدل بها بأن يُكثر من المراجع التي يعزو إليها، مع عدم ذِكْر درجة صحة الحديث، ومن الأمثلة على ذلك أن المفتي بعد أن نقل القصة الضعيفة السابقة (ص82) عزاها في ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 272 - 275). (¬2) فتح الباري لابن حجر (6/ 289). (¬3) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 2123)، تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للألباني (ص78 - 82)

الهامش لبعض كتب السيرة التي يعلم الجميع أن بها الصحيح والضعيف، بل وما لا أصل له. ورغم أن موسى بن عقبة روى القصة السابقة بلا إسناد فقد قال المفتي في الهامش: «ورواها أيضًا موسى بن عقبة في (المغازي) وابن إسحق في (السيرة)، ومغازي موسى بن عقبة من أصح كتب السيرة، فكان يقول الإمام مالك عنها: «عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي»، وكان يحيى بن معين يقول: «كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب». وهذا الكلام فيه من التدليس ما فيه، فإن كلام الإمام مالك والإمام يحيى بن معين - إن صح عنهما - فلا يعني أن كل ما في كتاب موسى بن عقبة صحيح؛ بل غاية ما فيه أنه أصح من كتب السّيَر الأخرى، أي أن ما لا يصح فيه أقل مما فيها. خامسًا: بل إنه استدل (ص71) برؤيا، مع أن الرؤى والأحلام ليست من مصادر التشريع. سادسًا: أحيانًا يعارض المفتي الأحاديث الصحيحة بأقوال العلماء، مع أن الحق في مسألة ما لا يُعرف بكثرة القائلين به، بل يعرف بمدى موافقته للدليل من الكتاب والسنة. سابعًا: أحيانًا يعارض الأحاديث الصحيحة برأيه، قال المفتي (ص120): «لا يجوز زيارة قبور المشركين». رغم ورود الحديث الصحيح في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - زار قبر أمه، وقد اتفق جمهور الفقهاء على أنه يجوز للمسلم أن يزور قبور الكافرين والمشركين، وذلك لأنه يتحصل له من هذه الزيارة تذكر الموت والدار الآخرة والتي

علل بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الإذن العام بزيارة القبور، دون تفريق بين قبور المسلمين وقبور الكافرين (¬1). ثامنًا: في كتاب المفتي عبارات تحتاج إلى مراجعة ومن ذلك: أ - في (ص16) قال المفتي إن الأشعرية «هي عقيدة أغلب المسلمين في مجال الاعتقاد» (¬2). وللقارئ أن يسأل المفتي: ما معنى عقيدة في مجال الاعتقاد؟!!! ب - في (ص21) قال المفتي: «من الأشياء التي يصر عليها من يُسمّون أنفسهم بالمتشددين ... » رغم أنه لا يوجد مَن يسمون أنفسهم بالمتشددين، وأغلب الظن أن السبب في ذلك أن كلمة (المتشددين) في الكتاب كله كانت في الأصل كلمة (السلفيين) ثم استبدلت على الحاسب الآلي بكلمة (المتشددين)، فكانت هذه العبارة في الأصل: «من الأشياء التي يصر عليها من يُسمّون أنفسهم بالسلفيين ... »، فاستُبدِلَت مع أخواتها. ولعل مما يؤكد أن هذا الأمر تم على الحاسب الآلي أنه قد لفت انتباهي أن المفتي نقل كلامًا لابن القيم (ص126) وذكر فيه: «والمتشددون مجمعون على هذا». وتعجبُ إذا وجدت المفتي ينقل عن ابن القيم إجماع المتشددين، وبالرجوع إلى كتاب (الروح) الذي نقل منه المفتي تجد العبارة هكذا: «والسلف مجمعون على هذا». فتم استبدال كلمة (السلف) بكلمة (المتشددين)!!! جـ - في (ص82 - 83) تكرار لفقرة تبلغ تسعة أسطر، مع اختلاف في أسلوب أول سطرين في الفقرة الثانية عن الأولى، والسبعة أسطر الباقية مكررة بالنص. ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 45)، فتح الباري لابن حجر (3/ 179)، الإنصاف 2/ 562 للمرداوي الحنبلي، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 344، 27/ 377)، عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد آبادي (9/ 41). (¬2) انظر الرد على ذلك (ص 74 - 78) من هذا الكتاب.

وهذا ما يمنع من القول بأن ذلك خطأٌ طباعي. د - في (ص 115) تجد عبارة «كما جاء بالسؤال»، وعند البحث لا تجد أية إشارةٍ إلى أسئلة لا قبل العبارة ولا بعدها، بل ولا في الكتاب كله. تاسعًا: الكتاب في مواطن كثيرة يفتقد الموضوعية ويغلب عليه التعميم، فالمفتي يكيل الاتهامات جزافًا، ولم يدعم اتهاماته بدليل واحد، ومن الأمثلة على ذلك: أ- في أول سطرين من كتابه (ص7) تجد هذه العبارة: «سمات منهج المتشددين الذين تسموا بالسلفيين». فهو قد حكم على ملايين السلفيين في العالم الإسلامي بأنهم متشددون، وكأن هذا أمرٌ قد فُرِغَ منه، وبقى عنده أن يشرح سمات هؤلاء المتشددين. وإن سألتَ المفتي بصفته حاصلًا على درجة الدكتوراه: «لو أن كتابه هذا نوقش كرسالة جامعية في جامعة الأزهر مثلًا وسأل المناقشون المفتي عن مصدر تلك المعلومات، فماذا ستكون إجابته؟!!. بالطبع لم يذكر المفتي أي مصدر لتلك المعلومات. ب- قال (ص12): «نرى آراء أغلب من تسموا بالسلفيين واتجاهاتهم وسلوكهم ومواقفهم وأحكامهم على الأشياء باطلة». ونسأل المفتي: ما هي المراكز البحثية العالمية التي قامت بتلك الإحصائيات التي أوصَلَتْك إلى هذا الحكم الجائر على ملايين المسلمين؟ قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 64). جـ- يتهم السلفيين (ص 116) بأن مكانة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قلوبهم ليست على القدر المطلوب، وأن حبهم للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يصدق. ونسأل المفتي: هل شققت عن صدور هؤلاء الملايين حتى تدعي هذا الادعاء؟!!

د – قال (ص138): «إذا وجدتَ شخصًا يرتدي قميصًا (¬1) قصيرًا فاعلم أنه من المتشددين، وإن رأيت امرأةً ترتدي النقاب فاعلم أنها متشددة». هكذا عمم المفتي هذا الحكم على كل رجل وكل امرأة ولم يستَثْنِ أحدًا، وإذا سألتَ المفتي عن مصدر تلك الإحصائيات، فماذا ستكون إجابته؟!! وماذا لو أن ملايين السلفيين قد رفعوا دعاوى قضائية على المفتي يطالبون برفع ظلم المفتي عنهم؛ حيث سبَّهم واتهمهم جميعًا بالتشدد مع أنهم فقط يطبقون أحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - التي تنهى عن إسبال الثياب، وتنتقب نساؤهم أخذًا بمشروعية النقاب عند الأئمة الأربعة، فمنهم من قال إنه واجب ومنهم من قال إنه مستحب، وأخذًا بقول المفتي الدكتور علي جمعة على قناة اقرأ الفضائية: «قضية النقاب يرى فرضيتها الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والإمام أحمد بن حنبل». حينئذ ماذا ستكون إجابة المفتي أمام القاضي؟ ولو أن كل مسلم يرتدي قميصًا قصيرًا وكل امرأة ترتدي النقاب قد أقامت دعوى ضد فضيلة المفتي فله أن يتخيل عدد المحامين الذين سيوكلهم للدفاع عنه، وكم سينفق من أموال، وماذا سيكون حكم القاضي في ملايين الدعاوى التي سيقيمها هؤلاء؟!! ولو تخيل المفتي أن هؤلاء سيقاضونه أمام الله - عز وجل - الذي لا تخفى عنه خافية ولا يظلم أحدًا - سبحانه وتعالى -، فماذا سيكون جوابه أمام الله - سبحانه وتعالى -؟!! ونحاكم فضيلة المفتي إلى فضيلة المفتي، نحاكمه إلى نفسه، ونقول له: «هل كان الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والإمام أحمد بن حنبل من المتشددين؟». ¬

_ (¬1) ((وهو ما يسمَّى في العامية المصرية بالقفطان.

الدكتور علي جمعة والأمانة العلمية

الدكتور علي جمعة والأمانة العلمية (¬1) أولًا: ذكر المفتي (ص74 - 75) حديث عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ - رضي الله عنه -، أَنَّ رَجُلا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «ادْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَنِي»، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ أَخَّرْتَ ذَلِكَ وَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ»، قَالَ: «فَادْعُهُ»، قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ» (¬2). واستدل المفتي بهذا الحديث على جواز التوسل بذات الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكنه حذف منه قول الأعمى في دعائه: «وَشَفِّعْنِي فِيهِ»؛ لأنه دليل على أن الأعمى إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وليس بذاته. أليس من الأمانة العلمية أن يذكر المفتي الحديث بنصه ولا يبتر الجزء الذي هو حجة عليه؟!! فإن قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للأعمى أن يقول: «وَشَفِّعْنِي فِيهِ» معناه: اقبل شفاعتي، أي اقبل دعائي في أن تقبل شفاعته - صلى الله عليه وآله وسلم - أي دعاءه وسؤاله لي- في أن ترُدَّ عليَّ بصري، هذا الذي لا يمكن أن يُفهَم من هذه الجملة سواه، ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد؛ لأنها تنسف بنيانهم من القواعد ¬

_ (¬1) لمعرفة المزيد مما ورد في كتبه الأخرى راجع كتاب (الدكتور علي جمعة إلى أين)، تأليف: طلحة محمد المسير (ص29 - 34). (¬2) رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك وقال: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»، ووافقه الذهبي.

وتجتثه من الجذور، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه، ذلك أن شفاعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في الأعمى مفهومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة (¬1). ثانيًا: نقل المفتي مرتين في فقرتين متتاليتين (ص82، ص83)، عن موطأ مالك (1/ 231) أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما انتقل إلى جوار ربه قَالَ نَاسٌ: «يُدْفَنُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ». وَقَالَ آخَرُونَ: «يُدْفَنُ بِالْبَقِيعِ». ثم استدل بذلك على جواز الدفن في المساجد، حيث قال مرتين في الفقرتين: «ووجه الاستدلال أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - اقترحوا أن يُدفن - صلى الله عليه وآله وسلم - عند المنبر، وهو داخل المسجد قطعًا». وعند الرجوع إلى موطأ مالك تجد أن ما استدل به المفتي رواه الإمام مَالِكٍ بلاغًا بغير إسناد (¬2)، والإمام مالك - رحمه الله - وُلد عام 93 هـ أي بعد هذه الحادثة باثنين وثمانين سنة؛ فقد توُفِّيَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ربيع الأول سنة 11هـ. وكان الألْيَق بالمفتي - من باب الأمانة العلمية - أن يذكر أن هذه الرواية لا تصح، وبالتالي لا يجوز له أن يَستدل بها أصلًا، وإن كان قد استدل بها وهو لا يعلم أنها ضعيفة فالأمر أعظم؛ فلا يليق به - وهو الأستاذ الجامعي ومفتي الديار المصرية - أن يستدل بأحاديث لا يعلم مدى صحتها، ويَرُدّ بها أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم نهى فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد. ثالثًا: تعليقًا على حديث البخاري: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ، مَاشِيًا وَرَاكِبًا»، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما - يَفْعَلُهُ» نقل المفتي (ص110) عن ¬

_ (¬1) ((انظر: التوسل أنواعه وأحكامه للألباني (ص76 - 82). (¬2) أي يقول: «بلغني كذا»، ولا يَذْكُر مَن الذي أخبره بهذا الحديث، فتكون الرواية غير صحيحة لأنها عن مجهول لا يُعْلَمُ حالُه من الصدق والعدالة والضبط.

الحافظ ابن حجر أنه قال في شرحه لهذا الحديث: «فِيهِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ لِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ عَلَى التَّحْرِيمِ». ولكن المفتي لم ينقل قول الحافظ ابن حجر بعد هذا الكلام: «وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَجِيئَهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَى قُبَاءٍ إِنَّمَا كَانَ لِمُوَاصَلَةِ الْأَنْصَارِ وَتَفَقُّدِ حَالِهِمْ وَحَالِ مَنْ تَأَخَّرَ مِنْهُمْ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ مَعَهُ؛ وَهَذَا هُوَ السِّرّ فِي تَخْصِيص ذَلِك بالسبت». رابعًا: بعد أن اتهم السلفيين (ص116) بأنهم يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد أن ذكر الآيات التي تمنع ذلك ذكر أن القاضي عياضًا قال: «فنحن لا نقول إلا ما يرضي ربنا، ويرضي رسولنا - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا نتجرأ على مقامه الشريف، ونؤذيه - صلى الله عليه وآله وسلم - بالكلام بما لا يُرضيه - صلى الله عليه وآله وسلم -». وإدخال هذا الكلام في هذا السياق يوهم أن القاضي يُنْكِر على من يقول بأن والدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النار. ونسأل المفتي الذي لم يذكر مصدر هذا الكلام: من أين جئت بهذا الكلام مع أن الإمام النووي قد نقل عن القاضي عياض أن بكاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما زار قبر أمه كان عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ إِدْرَاكِ أَيَّامِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ (¬1). وكلام القاضي عياض هو نفس كلام السلفيين ومِن قبلهم الإمام أبي حنيفة وغيره كما سيأتي إن شاء الله (¬2). خامسًا: قال المفتي (ص147): «ونَصَّ المالكية على أن انتقاب المرأة مكروه إذا لم تجْرِ عادةُ أهل بلدها بذلك، وذكروا أنه من الغلو في الدين، قال الإمام الدردير في الشرح الكبير: «وانتقاب امرأة» في عطفه على المكروه، قال الدسوقي في حاشيته: «(وَ) ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم (7/ 46). (¬2) انظر (ص 128 - 132) من هذا الكتاب.

كُرِهَ (انْتِقَابُ امْرَأَةٍ) أَيْ تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا بِالنِّقَابِ، وَهُوَ مَا يَصِلُ لِلْعُيُونِ فِي الصَّلَاةِ (¬1) لِأَنَّهُ مِنْ الْغُلُوِّ وَالرَّجُلُ أَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَوْمٍ عَادَتُهُمْ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَانْتِقَابُ امْرَأَةٍ) أَيْ سَوَاءً كَانَتْ فِي صَلَاةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا كَانَ الِانْتِقَابُ فِيهَا لِأَجْلِهَا أَوْ لَا. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مِنْ الْغُلُوِّ) أَيْ الزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ إذْ لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ السَّمْحَةُ. (قَوْلُهُ: فَالنِّقَابُ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا) أَيْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا لِأَجْلِهَا أَوْ لِغَيْرِهَا مَا لَمْ يَكُنْ لِعَادَةٍ». التعليق: 1 - نطلب من القارئ الكريم قراءة كلام الدسوقي مرةً أخرى ولْيَنْتَبِه لما فوق الخط؛ فالكلام عن كراهة الانتقاب وتغطية وجه الرجل أو المرأة في الصلاة، وإلا فما فائدة قوله: «وَالرَّجُلُ أَوْلَى»، فلم يَقُل أحدٌ من العلماء بوجوب أو استحباب النقاب على الرجال حتى يقول المالكية بالكراهة. ومن الغريب أن المفتي حذف قول الشيخ محمد عرفة الدسوقي: (قَوْلُهُ: وَالرَّجُلُ أَوْلَى) أَيْ مِنْ الْمَرْأَةِ بِالْكَرَاهَةِ». 2 - يوضح ما سبق ما جاء في كتب المالكية حيث جاء في شرح مختصر خليل للخرشي (3/ 222): «وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ وَأَوْلَى الرَّجُلُ الِانْتِقَابُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ بِالنِّقَابِ، وَاللِّثَامِ تَغْطِيَةُ الشَّفَةِ السُّفْلَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَلَا إعَادَةَ عَلَى فَاعِلِهِ». 3 - في ضوء ما سبق يُفْهَم قَوْلُهُ: «(فَالنِّقَابُ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا) أَيْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا لِأَجْلِهَا أَوْ لِغَيْرِهَا مَا لَمْ يَكُنْ لِعَادَةٍ». ¬

_ (¬1) ذكرها المفتي هكذا: «أَيْ تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا بِالنِّقَابِ، وَمَا يَصِلُ لِلْعُيُونِ فِي الصَّلَاةِ». ولعله خطأ طباعي.

فالمعنى أن تغطية وجه المرأة أو الرجُل بالنقاب مكروه في الصلاة سواء لُبِس النقاب أثناء الصلاة أو قبل الصلاة، وسواء كانت تغطية الوجه بالنقاب في الصلاة لأجل الصلاة أو لسبب آخَر. ويوضح ذلك تكملة كلام الدسوقي الذي لم ينقله المفتي: «مَا لَمْ يَكُنْ لِعَادَةٍ، وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ فيه خَارِجَهَا بِخِلَافِ تَشْمِيرِ الْكُمِّ وَضَمِّ الشَّعْرِ فإنه إنَّمَا يُكْرَهُ فيها إذَا كان فِعْلُهُ لِأَجْلِهَا، وَأَمَّا فِعْلُهُ خَارِجَهَا أو فيها لَا لِأَجْلِهَا فَلَا كَرَاهَةَ فيه، وَمِثْلُ ذلك تَشْمِيرُ الذَّيْلِ عن السَّاقِ؛ فَإِنْ فَعَلَهُ لِأَجْلِ شُغْلٍ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى وهو كَذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ». 4 - مما يَرُدّ زَعْمَ المفتي أن المالكية يقولون بكراهة انتقاب المرأة: أن فقهاءهم ومنهم الدسوقي نفسه أجاز للمحرمة بالحج أو العمرة أن تستر وجهها بغير النقاب، فقال: «مَتَى أَرَادَتْ السَّتْرَ عن أَعْيُنِ الرِّجَالِ جَازَ لها ذلك مُطْلَقًا عَلِمَتْ أو ظَنَّتْ الْفِتْنَةَ بها أَمْ لَا، نعم إذَا عَلِمَتْ أو ظَنَّتْ الْفِتْنَةَ بها كان سَتْرُهَا وَاجِبًا» (¬1). وقال العبدري المالكي: «الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ تَلْبَسُ مَا شَاءَتْ غَيْرَ الْقُفَّازَيْنِ وَالْبُرْقُعِ وَالنِّقَابِ وَلَا تُغَطِّي وَجْهَهَا، وَإِحْرَامُهَا فِي وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَلَا بَأْسَ أَنْ تَسْدُلَ ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا لِتَسْتُرَهُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلْتَسْدُلْهُ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا وَلَا تَرْفَعُهُ مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهَا وَلَا تَشُدُّهُ عَلَى رَأْسِهَا بِإِبْرَةٍ وَلَا غَيْرِهَا» (¬2). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 214). (¬2) التاج والإكليل لمختصر خليل، لمحمد بن يوسف العبدري (3/ 141). وانظر: جامع الأمهات لابن الحاجب المالكي (1/ 204)، الكافي في فقه أهل المدينة لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي (1/ 153)، كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني لأبي الحسن على بن ناصر الدين المالكي (1/ 697).

5 - زعم المفتي (ص148) أن المالكية ذهبوا إلى بدعية النقاب لأنه من الغلو في الدين، ولا مانع منه إذا وافق عادة النساء. وهذا الادعاء بناه على قولهم بكراهة انتقاب المرأة والرجل في الصلاة، فهل من الأمانة العلمية أن تتحول مسألة تغطية الوجه داخل الصلاة إلى مسألة تغطيته أمام الرجال الأجانب؟!!! وهنا ننقل قول أحد علماء المالكية لتتضح الصورة، قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي - رحمه الله -: «وَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ؛ بَدَنُهَا وَصَوْتُهَا، فَلَا يَجُوزُ كَشْفُ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ لِحَاجَةٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، أَوْ دَاءٍ يَكُونُ بِبَدَنِهَا، أَوْ سُؤَالِهَا عَمَّا يَعِنُّ وَيَعْرِضُ عِنْدَهَا» (¬1). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن (3/ 1578).

اتهامات، ولا دليل

اتهامات، ولا دليل صبَّ مفتي الديار المصرية جام غضبه وحنقه على إخوانه في الدين ووصفهم بأشنع الأوصاف والصفات التي لم يقُلْها في أعداء الدين، فيتهمهم بهذه الاتهامات، ولن أعلق على تلك الاتهامات لأنها ليس لها وجود إلا في مخيلة المفتي. فالناس يعيشون مع ملايين السلفيين وبفضل الله لا يجدون فيهم تلك الخصال، ونحن في انتظار أدلة المفتي وبيِّناته وإحصائياته العلمية التي تؤيد تلك الادعاءات، ولْيَذْكُرْ لنا بعض الأمثلة - بالأسماء والعناوين - لعل الله أن يصلحهم على يديه، أما أن يتهم الملايين في العالم الإسلامي بلا دليل فهذا عين الظلم، وعند الله تجتمع الخصوم. قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 64). وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» (قال الإمام النووي في الأربعين النووية: «حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين». وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ» (رواه مسلم). من افتراءات المفتي على السلفيين: 1 - آراء أغلب من تسموا بالسلفيين واتجاهاتهم وسلوكهم ومواقفهم وأحكامهم على الأشياء باطلة (ص12). 2 - أنهم يتبنون فكرًا صداميًّا (ص12). 3 - لقد أصبح توجه هؤلاء المتشددين عائقًا حقيقيًّا لتقدم المسلمين، وللتنمية الشاملة التي يحتاجها المجتمع الإسلامي عامة ومصر على صفة الخصوص، وهذا التوجه المتعصب أصبح تربة صالحة للفكر المتطرف، وأصلًا للمشرب المتشدد الذي يدعو الأمة إلى تشرذم المجتمع وإلى انعزال الإنسان عن حركة الحياة، وأن يعيش وحده

في خياله الذي غالبًا ما يكون مريضًا غير قادر على التفاعل مع نفسه أو مع من يحيط به من الناس (ص13). 4 - من خصائص هذا الفكر الانعزالي التشدد، فهو يرى أن الحياة خطيئة وأنه يجب علينا أن نتطهر منها (ص15). 5 - عندهم عقلية الانطباع والهوى، وهى عقلية تخالف العقلية العلمية، وتخالف المنطق المعروف (ص15). 6 - متعبون في تلقيهم التفكير المستقيم (ص15). 7 - متمردون منعزلون لا يثقون فى العلماء ولا يثقون إلا في طائفة قليلة تجارىهم في أهوائهم (ص15). 8 - يتميزون بامتلاك عقلية المؤامرة يرون كل ما حولهم وكأنه يحيك ضدهم مؤامرات ويحاول أن يبيدهم من على الأرض، مما يجعلهم متحفزين دائما بأن يكونوا معاندين لمن حولهم (ص15). 9 - يتميزون بالكبر والعجب الذي يحتقرون معه كل رأى سوى رأيهم (ص15). 10 - يقفون ضد أي إصلاح في المجتمعات الإسلامية بدعوى أن كل جديد بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار (ص16). 11 - يبتعدون دائمًا عن جوهر الموضوع إلى النظر في مجرد الشكليات (ص16). 12 - يعظمون غير العلماء، ويحطون من شأن العلماء (ص16) (¬1). ¬

_ (¬1) في تسجيل مرئي ذكر الدكتور علي جمعة أن الحافظ ابن حجر العسقلاني - أحد كبار علماء الحديث - كان يبيع الحشيش على باب الجامع الأزهر. وهنا سؤال: ماذا لو سمع الكفار بكلام المفتي، وعلموا أن علماء المسلمين يبيعون الحشيش أمام المساجد؟!! ما الصورة التي سيأخذونها عن هذا الدين؟ وهل سيفكرون حينئذٍ في الدخول في الإسلام؟!!

13 - يتصدرون بما لا يزيد عن مائة مسألة لتفسيق الناس وتكفيرهم، والدعوة إلى منابذتهم ومحاربتهم (ص16). 14 - لقد آن الأوان وحان الوقت لأن يكون مقاومة هذا الفكر المتنطع مطلبًا قوميًا (ص16). 15 - إذا وجدتَ شخصًا يرتدي قميصًا (¬1) قصيرًا فاعلم أنه من المتشددين، وإن رأيت امرأةً ترتدي النقاب فاعلم أنها متشددة (ص138). ¬

_ (¬1) ((وهو ما يسمى في العامية المصرية بالقفطان.

السلفيون أم المفتي؟ من الذي يتبنى الفكر الصدامي؟

السلفيون أم المفتي؟ من الذي يتبنى الفكر الصدامي؟ اتهم المفتي السلفيين (ص12 - 13) بأنهم يتبنون فكرًا صداميًّا، وأن هذا الفكر الصدامي يفترض أمورًا ثلاثة وهى: أولًا: أن العالم كله يكره المسلمين، وأنهم في حالة حرب دائمة للقضاء عليهم، وأن ذلك يتمثل في أجنحة الشر الثلاثة الصهيونية (يهود) والتبشير (نصارى) والعلمانية (إلحاد)، وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين في الخفاء مرة وفى العلن مرات، وأن هناك استنفارًا للقضاء علينا مللنا من الوقوف أمامه دون فعل مناسب. ثانيا: وجوب الصدام مع ذلك العالم حتى نرد العدوان والطغيان، وحتى ننتقم مما يحدث في العالم الإسلامي هنا وهناك، ووجود الصدام يأخذ صورتين: الأولى: قتل الكفار الملاعين. والثانية: قتل المرتدين الفاسقين. أما الكفار الملاعين فهم كل البشر سوى من شهد الشهادتين. وأما المرتدون الفاسدون فهم مَن شهد الشهادتين وحكم بغير ما أنزل الله وخالف فكرهم. ثالثًا: أن فكرهم يراد له أن يكون من نمط الفكر الساري، وهذا معناه أنه لا يعمل من خلال منظمة أو مؤسسة يمكن تتبع خيوطها بقدر ما يعمل باعتباره فكرًا طليقًا من كل قيد يقتنع به المتلقي له في أي مكان، ثم يقوم بما يستطيعه من غير أوامر أو ارتباط بمركز أو قائد. وعليه فإن الفوضى سوف تشيع بصورة أقوى وتنتشر بصورة أعمق». انتهى كلام المفتي.

ومع هذا الكلام وقفات (¬1): أولًا: إن قول مفتي مصر في الفقرة الأولى مردود، فهل تعامى عن الحقيقة الشرعية والواقعية، فالله - عز وجل - يخبرنا عن هذه العداوة قائلًا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120)، وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (المائدة:82)، وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217). أما الواقع فهو خير شاهد على هذه العداوة قديمًا وحديثًا، فالحروب الصليبية قديمًا، والاحتلال الأجنبي حديثًا، والمجازر التي ارتكبت في البوسنة والهرسك وسراييفو وغيرها، وما يحدث للمسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان والشيشان وما يحصل في فلسطين وموقف أمريكا والغرب من اليهود ومساندتهم لهم، هذا بالنسبة للعدو الخارجي أما التيار العلماني والليبرالي فموقفه من التيار الإسلامي واضح للعيان لا ينكره إلا مكابر. ثانيًا: قول المفتي إن السلفيين يرون وجوب الصدام مع ذلك العالم بقتل الكفار وقتل المرتدين، فإنه إنما صاغه بهذه الصورة ليشنع على السلفيين، فهل ينكر المفتي الجهاد، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة، ثم إن كان ينكر جهاد الطلب، فهل ينكر جهاد الدَّفْع وحق المسلمين في الدفاع عن بلدانهم المحتلة؟!! ثم إنه من المعلوم أن الكفار أنواع فمنهم محاربون، ومنهم أهل عهد، ومنهم أهل ذمة ولكل واحد حكمه، فتعميمه الكلام عن السلفيين في هذه المسألة بأنهم يرون وجوب الصدام مع جميع الكفار وقتلهم تعميم غير مقبول وفيه من التلبيس ما فيه. ¬

_ (¬1) بتصرف من مقال: كتاب المتشددون منهجهم ومناقشة أهم قضاياهم لعلي جمعة، عرض ونقد، موقع الدرر السنية www.dorar.net.

ونطالب المفتي بمصدر معلوماته تلك، في أي كتاب للسلفيين أو في أي محاضرة لهم قرأ المفتي أو سمع أنهم يرون وجوب قتل جميع الكفار؟!! نطالب صاحب الفضيلة بالبيّنة!!! ثالثًا: المرتد حكمه القتل، فقد أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَحَوَّل عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل (¬1) لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (رواه البخاري). ولِقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» (رواه مسلم). قال الإمام ابن المنذر: «وأجمع أهل العلم على أن شهادة شاهدين يجب قبولها على الارتداد ويقتل المرء بشهادتهما إن لم يرجع إلى الإسلام، وانفرد الحسن فقال: «لا يُقبَل في القتل إلا شهادة أربعة» (¬2). وقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ فَقَدْ أُهْدِرَ دَمُهُ، لَكِنَّ قَتْلَهُ لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُزِّرَ فَقَطْ؛ لأَِنَّهُ افْتَاتَ عَلَى حَقِّ الإِْمَامِ؛ لأنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَهُ (¬3). رابعًا: مسألة الردة والحكم بغير ما أنزل الله فيها تفصيل معروف والحكم فيها يتوقف على توفر الشروط وانتفاء الموانع. ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية (13/ 234). (¬2) الإجماع لابن المنذر (ص 46). (¬3) الموسوعة الفقهية الكويتية (22/ 190)، عن: المبسوط (10/ 106)، والفتاوى الهندية (7/ 3)، والأم (6/ 154)، والإنصاف (9/ 462)، والهداية لأبي الخطاب (203). وأكثرتُ في التركيز على مسألة إجماع العلماء على وجوب قتل المرتد لأن هذه المسألة هناك مَن يميعها، وللأسف محسوب على الإسلاميين!!

سهام المفتي تصيب الأزهر وعلماءه وطلابه

خامسًا: ادعى المفتي أن السلفيين يحكمون بالردة على مخالفيهم، ومرة أخرى نطالب صاحب الفضيلة بالبيّنة!!! سؤال: من الذي يتبنى الفكر الصدامي؟!! اعتبر المفتي (ص16) مقاومة الفكر السلفي مطلبًا قوميًا، وجعله (ص14) واجبًا على الجميع!!! وإن كان المفتي ينكر على السلفيين بل وعلى جميع المسلمين الصدام مع المحاربين من الكفار، فما رأي القارئ الكريم في تحريض المفتي للمجتمع كله للصدام مع السلفيين المسلمين؟! ونسأله: هل السلفيون عندك مسلمون؟ وإن كانوا مسلمين فهل هم عندك أخطر على المجتمع من اليهود والنصارى والعلمانيين أعداء شريعة الله؟!!! سهام المفتي تصيب الأزهر وعلماءه وطلابه: تلك الافتراءات التي وصف بها المفتي السلفيين لا شك أنها تصيب الكثير من أساتذة جامعة الأزهر الذين ينتهجون المنهج السلفي، وقد ردّ بعضهم على كتاب المفتي على القنوات الفضائية. وكذلك تصيب سهام المفتي الكثير من مدرسي المواد الشرعية في المعاهد الأزهرية، وكثير من أئمة وخطباء وزارة الأوقاف المصرية الذين ينتهجون المنهج السلفي.

تناقضات وقع فيها المفتي في كتابه

تناقضات وقع فيها المفتي في كتابه (¬1) من الأمور المستقرة عند العلماء أنه ما من إنسان يأتي بقول مخالفٍ للكتاب والسنة إلا وتجد التناقضات في قوله ذاك، فهذه سنة مطردة في كل من خالف الحق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هؤلاء: «ولستَ تجدُ أحدًا من هؤلاء إلا متناقضًا ... بخلاف ما جاء من عند الله فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد في المعاش والمعاد؛ قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) (النساء: 82)» (¬2). ومن تناقضات المفتي في كتابه: أولًا: قال المفتي (ص156): «لا حرج أن يختلف المرء مع عالم أو داعية في رأْيٍ أو اجتهاد متى كان أهلًا لذلك، ولكن الحرج في تحول هذا الاختلاف إلى مِعْوَل هدمٍ لمكانة هذا العالم والحطّ من قدْره وازدرائه وسوء الأدب معه». ومع ذلك حوَّلَ اختلافه مع السلفيين في بعض المسائل إلى مِعْوَل هدمٍ لمكانتهم والحط من قدْرهم وازدرائهم وسوء الأدب معهم. ثانيًا: عاب المفتي على السلفيين إنكارهم على الأشاعرة فيما يخالفون فيه منهج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، واعتبر ذلك انتقاصًا للأشاعرة، ومع ذلك أجاز (ص17) التعبد بمذهب الشيعة الإمامية الذين لا ينتقصون الأشاعرة فقط بل يكَفِّرُون الأشاعرة وجميع المسلمين ¬

_ (¬1) لمزيد من تناقضات المفتي في كتبه الأخرى راجع كتاب (الدكتور علي جمعة إلى أين)، تأليف: طلحة محمد المسير (ص15 - 28). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (5/ 318).

الذين ليسوا على مذهبهم بل يكفِّرون الصحابة وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان، والعشرة المبشرون بالجنة - رضي الله عنهم -. ثالثًا: قال المفتي (ص16) إن الشيعة ينكرون جميع الصحابة إلا عليًّا وبعضًا قليلًا حوله، ثم أجاز (ص17) الأخذ بمذهب الشيعة. فكيف يأخذ المسلم بمذهبٍ يُنكر بل يكفّر جميع الصحابة إلا عليًّا وبعضًا قليلًا حوله؟!!! (¬1) رابعًا: زعم المفتي (ص 117) عدم كُفْر والدَي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنهما مِن أهل الفترة، واستدل بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء:15). ثم عاد وناقض قوله هذا عندما عَلّق على حديث أَنَسٍ - رضي الله عنه -، في صحيح مسلم أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟»، قَالَ: «فِي النَّارِ»، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ». حيث قال المفتي (ص120) إنه يمكن حَمْلُه على أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقصد أباه بل قصد عمه أبا طالب الذي مات بعد بعثته - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يُعلن إسلامه. ولكن قصة احتضار أبي طالب وموته على الشرك تدل على أن أبوي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بل وجَدُّه عبد المطلب ليسوا من أهل الفترة بل ماتوا على الكفر، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، ¬

_ (¬1) راجع (جهود علماء الأزهر الشريف في بيان حقيقة دين الشيعة)، جمع وترتيب: شحاتة صقر، راجعه وقدَّم له الأستاذ الدكتور محمد بكر حبيب الأستاذ بجامعة الأزهر؛ للاطلاع على أقوال علماء الأزهر في بيان حقيقة دين الشيعة: ومنهم الشيخ حسنين مخلوف ـ مفتي مصر الأسبق ـ، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر الأسبق، والشيخ عطية صقر، والشيخ محمد عرفة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، والشيخ محمد أبو زهرة وغيرهم.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ»، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: «يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟». فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: «هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬1)، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬2). خامسًا: قال المفتي (ص14): «هذا الفكر يريد أن يسحب مسائل الماضي في حاضرنا، وذلك تراه قد حول هذه المسائل إلى قضايا وإلى حدود فاصلة بينه وبين من حوله، وهذه القضايا يتعلق أغلبها بالعادات والتقاليد والأزياء والملابس والهيئات من طريقة الأكل والشرب إلى قضاء الحاجة واستعمال العطور. وتؤثر هذه الخصيصة التي يستجلب مسائل الماضي وتسحبها وتجرها إلى الحاضر من ناحية، وتحول مجرد المسألة التي كانت في نطاق الماضي لا تعدو مسألة إلى قضية ندافع عنها وننافح من أجلها، وتكون في عقليته معيارًا للتقويم وللقبول والرد، فمن فعلها فهو معه، ومن لم يفعلها فهو ضده، يشمئز منه وينفر ويعاديه». وقال المفتي (ص19) تحت عنوان (أهم مسائل المتشددين التي جعلوها أصولا لهم وعنوانًا عليهم): «لقد تمسك المتشددون بمجموعة من المسائل التي لا تمثل هوية ¬

_ (¬1) التوبة:113. (¬2) القصص:56.

الأمة وكلها مسائل فرعية، وجعلوها معيارًا لتصنيف المسلمين، وامتحانًا لتقسيمهم، ورُوِّج لدى طوائف كثيرة من الناس أنها قطعية لا خلاف فيها، وأن الحق معهم وحدهم، وأن القائل بغير ما يقولونه مارق فاسق منحرف أو على أقل تقدير غير ملتزم ومتساهل، أو يُتَّهم بأنه ليس متبعًا للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فشغلوا المسلمين بهذه المسائل، التي مذهبهم فيها غالبًا ما يكون ضعيفًا أو شاذًّا ... ونؤكد أنه لا يجوز أن نقع في جَعْل هذه المسائل المعيار الذي نقسم به المسلمين، بل المعيار يجب أن يكون حب الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وما اتفقت عليه الأمة من أصول، وقد تم اختيار 17 مسألة فقط من مسائلهم». هذا ما قاله المفتي، ولكنه ناقض نفسه وخالف كلامه هذا كما يلي، ونحن نحاكمه إلى ما كتبه في كتابه: أ- اتهم المفتي السلفيين بأنهم شغلوا المسلمين بهذه المسائل، وفي هذا اتهام لعلماء المسلمين الذين تكلموا في تلك المسائل، وفيه اتهام للمفتي نفسه الذي أخرج كتابه وشغل المسلمين بتلك المسائل. ب- قال المفتي إن هذه المسائل كلها فرعية، وإن السلفيين جعلوها معيارًا لتصنيف المسلمين، ومع أن هذا خلاف الحقيقة فقد عاد المفتي وجعل تلك المسائل معيارًا لتصنيف المسلمين، فكتاب المفتي يتهم السلفيين بالتشدد لمجرد أنهم خالفوه في تلك المسائل. ج- قال المفتي إن هذه المسائل، مذهب السلفيين فيها غالبًا ما يكون ضعيفًا أو شاذًّا، ومعنى ذلك - عنده – أنه اعترف بأن بعضها أو قليلًا منها مذهب السلفيين فيه صحيح، وهذا ما لم يذكره المفتي في أيٍّ من تلك المسائل. د – اتهم المفتي السلفيين بأنهم يتهمون من يقول بغير ما يقولونه بأنه مارق فاسق منحرف أو على أقل تقدير غير ملتزم ومتساهل، ورغم أن ذلك الاتهام مخالف للحقيقة، عاد المفتي واتهم السلفيين الذين يقولون بغير قوله بأنهم (متشددون وآراء أغلبهم واتجاهاتهم وسلوكهم ومواقفهم وأحكامهم على الأشياء باطلة (ص12)، وأن عندهم عقلية الانطباع والهوى (ص15)، وأنهم متمردون منعزلون لا يثقون فى العلماء

ولا يثقون إلا في طائفة قليلة تجارىهم في أهوائهم (ص15)، وأنهم يتميزون بالكبر والعجب الذي يحتقرون معه كل رأى سوى رأيهم (ص15). هـ- قال المفتي إنه لا يجوز أن نقع في جَعْل هذه المسائل المعيار الذي نقسم به المسلمين، ولكنه خالف ذلك بأنْ جَعَل كل مسألة بمفردها معيارًا لاتهام السلفيين بالتشدد، فتجد عناوينه لجميع المسائل كالآتي كما جمعها في (ص19 - 20)، ثم بنى عليها كتابه: «المتشددون يصفون الله بالمكان، المتشددون ينتقصون الأشاعرة، المتشددون غير مؤهلين للإفتاء ويحدثون فوضى فى المجتمع، المتشددون يعدّون أغلب تصرفات المسلمين بدعًا وضلالات، المتشددون يحرّمون التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويعدونه شركا بالله، المتشددون يحرّمون الصلاة في المساجد ذات الأضرحة ويصرّحون بوجوب هدمها، المتشددون يعدّون التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والصالحين شركًا بالله، المتشددون يحرّمون الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ويعدّونه بدعة وضلالة، المتشددون يحرّمون السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقبور الأنبياء والصالحين، المتشددون يتهمون مَن تَرجّى بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالشرك الأصغر، المتشددون يَحْكمون على والدَي المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنار يوم القيامة، المتشددون ينفون أي إدراك للميت وشعوره بمن يزوره، المتشددون ينكرون ذِكْر الله كثيرا ويمنعون الأوراد، المتشددون أكثرُهم يمنعون استعمال السبحة في الذكر ويرونها بدعة وضلالة، المتشددون يتمسكون بالظاهر ويتعبدون الله بالثياب (ثوب الشهرة – النقاب)، المتشددون يسعون قبل أن يتعلموا ويخلطوا (¬1) الوعظ بالعلم» (¬2). ¬

_ (¬1) كذا قال المفتي (ص20) والصواب: (ويخلطون)، فهي معطوفة على (يسعون) وليس على (يتعلموا). (¬2) انظر مناقشة هذه المسائل (ص 64 - 153) من هذا الكتاب.

ونسأل القارئ الكريم هل المسائل السابقة - كما قال المفتي - يتعلق أغلبها بالعادات والتقاليد والأزياء والملابس والهيئات من طريقة الأكل والشرب إلى قضاء الحاجة واستعمال العطور؟!! سادسًا: ذكر المفتي (ص29) مذهب الأشاعرة في تأويل الصفات، ورجحه، ثم قال (ص30): «وما أجمل ما قال ابن قدامة المقدسي في لمعة الاعتقاد ... »، ونقل المفتي (ص 30 - 32) عن ابن قدامة ما ينسف مذهب المفتي ومذهب الأشاعرة في تأويل الصفات. وننقل هنا عن ابن قدامة ما نقله المفتي عنه هناك بنصه، وأطلب من القارئ الكريم أن ينتبه لما فوق الخط: قال ابن قدامة - رحمه الله -: «وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى - عليه السلام - من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلَقّيه بالتسليم والقبول، وترك التعرُّض له بالرّدّ والتأويل والتشبيه والتمثيل. وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظًا، وترك التعرض لمعناه ونرُدّ علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله اتباعًا لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7)، وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 7]، فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمَّلوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه، بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}. قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنه - في قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ اللهَ يَنْزِلُ إلىَ سَمَاءِ الدُّنْيَا»، أو «إِنَّ اللهَ يُرَى فِي الْقِيَامَةِ»، وما أشبه هذه الأحاديث: «نؤمن بها، ونصدق بها بلا كيف، ولا معنى، ولا نرُدّ شيئًا منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نَرُدّ على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا

حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى:11)، ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شُنِّعَتْ، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كُنْه ذلك إلا بتصديق الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتثبيت القرآن». قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - رضي الله عنه -: «آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله». إلى هنا انتهى ما نقله المفتي من كلام ابن قدامة، وهو كافٍ في الرد على المفتي، ولتأكيد مخالفة ابن قدامة وأئمة الدين لمنهج المفتي والأشاعرة ننقل هنا ما قاله ابن قدامة بعد ذلك مباشرة ولم ينقله المفتي. قال ابن قدامة: «وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف - رضي الله عنهم -، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات، لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعَرُّضٍ لتأويله. وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنارهم (¬1) وحذرنا المحدثات وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (¬2). وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفِيتُم». وقال الإمام أبو عمر الأوزاعي - رضي الله عنه -: «عليك بآثار مَن سَلَفَ وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول». ¬

_ (¬1) ((المنار، جمع منارة: وهي العلامة تجعل بين الحدين. (¬2) ((رواه أبو داود، وصححه الألباني.

وقال محمد بن عبد الرحمن الأدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: «هل علمها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أو لم يعلموها؟»، قال: «لم يعلموها»، قال: «فشيء لم يعلمه هؤلاء أعَلِمْتَه أنت؟»، قال الرجل: «فإني أقول: قد عَلِمُوها»، قال: «أفَوَسِعَهُمْ أن لا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يَسَعْهم؟»، قال: «بلى وسِعَهُم»، قال: «فشيء وسع رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وخلفاءه لا يسَعُك أنت؟»، فانقطع الرجل. فقال الخليفة - وكان حاضرا -: «لا وسَّعَ اللهُ على من لم يسَعْهُ ما وَسِعَهم». وهكذا من لم يَسَعْه ما وَسِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسان والأئمة من بعدهم والراسخين في العلم من تلاوة آيات الصفات وقراءة أخبارها ولإمرارها كما جاءت، فلا وَسَّع الله عليه» اهـ. إن ما نقله المفتي عن ابن قدامة هو عقيدة السلف الصالح وعقيدة أئمة الخلف، وهذا ما يدين به السلفيون المتشددون!!!، فإن في مناهجهم العلمية كتاب لمعة الاعتقاد الذي نقل منه المفتي؛ فهَلّا التزم المفتي بما نقله عن ابن قدامة، وهَلّا رجع عن عقيدة الأشاعرة!!! ووسعه ما وَسِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسان والأئمة من بعدهم والراسخين في العلم.

أسئلة للدكتور علي جمعة تنتظر الإجابة

أسئلة للدكتور علي جمعة تنتظر الإجابة السؤال الأول: سمعناك ورأيناك وأنت تسخر من شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (¬1)، فَهُما - عندك - من رؤوس السلفيين المتشددين، ورغم ذلك رأيناك في كتابك (المتشددون) تستدل بكلامٍ لابن تيمية (ص118، 119، 126، 141)، وبكلام لابن القيم (ص52، 126)، بل أطلقْتَ على ابن تيمية (ص141) لقب شيخ الإسلام ابن تيمية، بل لقبته في كتابك (التربية والسلوك ص 207) بالإمام ابن تيمية. فلِمَ هذا التناقض العجيب؟!! السؤال الثاني: اتهمت السلفيين (ص149) بالسعي قبل الوعي والخلط بين الوعظ والعلم، واتهمتهم بأنهم يستخدمون مجالس الوعظ والتذكير بالله للإفتاء مما ينشر الجهل ويفرق المسلمين. ثم رأيناك تستدل بكلامهم: فنقلتَ عن ابن تيمية وابن القيم، وعن الألباني (ص94)، وعن بكر أبي زيد (ص158)؟ فإن كانوا على جهل فكيف تنقل عنهم، وتستدل بكلامهم؟!! وإن كانوا أهل علم فكيف تتهمهم بالجهل؟!!! السؤال الثالث: ذكرتَ (ص13) أن توَجُّه هؤلاء السلفيين المتشددين قد أصبح عائقًا حقيقيًا لتقدم المسلمين ولتجديد خطابهم الديني». ¬

_ (¬1) ((انظر (ص 167 - 175) من هذا الكتاب.

فما المقصود بتجديد الخطاب الديني؟ ومن الذي سيقوم بهذا التجديد؟ وما هي ضوابطه؟ وهل تجديد الخطاب الديني يعني أن نعرض الإسلام على المسلمين أو غير المسلمين من الغربيين وغيرهم بطريقة يفهمونها، مع التمسك بالدين المنزل من عند الله - سبحانه وتعالى - وعدم التبديل فيه كما فعل اليهود والنصارى بدينهم؟ أم أن المقصود بتجديد الخطاب الديني تجديد مضمون الدين نفسه وتمييع أحكام الإسلام، كما قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم: 9)؟ وهل هذا التجديد يعني أمْرَكَة الخطاب الديني للمسلمين وتقديم نموذج للإسلام العصري العلماني الذي يراه الغرب النموذج الوحيد الصالح الآن لإعماله في البلاد الإسلامية بغرض نقلها من التخلف إلى الحداثة، وإدماجها في العولمة أو النظام العالمي الجديد، وإنقاذها بالطبع من التطرف والإرهاب؟!! السؤال الرابع: اتهمْتَ السلفي (ص14) بأنه ينتقل إلى «دور يرى فيه وجوب الانتحار وتفجير نفسه في الناس بالمتفجرات الحقيقية وبالقنابل، ويرى أنه ليس لحياته معنى؛ لأنه يسبح ضد التيار». ونسألك: من هم السلفيون الذين فجروا أنفسهم في الناس بالقنابل والمتفجرات؟ نطالبك بالمستندات وأرقام المحاضر والقضايا يا صاحب الفضيلة!!! أما قولك إن السلفيين يسبحون ضد التيار فهذا محض ادعاء يشهد الواقع بعدم صدقه، فالقاصي والداني يعلم أن التيار يسبح مع السلفيين وأن شعبيتهم في تزايد بفضل الله - سبحانه وتعالى -. السؤال الخامس: ذكرتَ (ص14 - 15) أن السلفي يرى أنه لابد عليه أن يزيد من نسله وأن يملأ الأرض صياحًا بأطفاله محاولًا بذلك أن يسد ثغرة اختلال الكم، حيث أنه يشعر بأنه وحيد وبأنه قلة، وبأن الكثرة الخبيثة من حوله سوف تقضى عليه وتكتم على أنفاسه، فيحاول أن يفر من ذلك بزيادة النسل، بل ويشيع بين أتباعه وأصحابه هذا المفهوم الذي يحدث معه الانفجار السكاني والتخلف التنموي».

ونسألك: من أين لك تلك التحليلات النفسية؟ ومَن الذين أجريت عليهم تجاربك؟!!! نطالبك يا صاحب الفضيلة بالبينة، نطالبك بالمستندات. ونسألك: مَن قال لك إن السلفيين يشعرون بأنهم قلة، وبأنهم يتهمون الناس بالخبث، وبأن الكثرة الخبيثة من حولهم سوف تقضى عليهم وتكتم على أنفاسهم؟!! إن السلفيين – بفضل الله – يشعرون بحب الناس لهم وثقتهم فيهم، والواقع يشهد بذلك، وما إقبال الناس على مشايخهم وقنواتهم الفضائية منكم ببعيد!!! ولتعلم حب الناس للسلفيين انظر في نتائج انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، وما حصده السلفيون من مقاعد في المرحلتين الأولى والثانية رغم حداثة عملهم السياسي الذي أبهر الأجانب قبل المصريين. السؤال السادس: اتهمت السلفيين (ص14 - 15) بأنهم يحاولون زيادة النسل، وأنهم يشيعون بين أتباعهم وأصحابهم هذا المفهوم الذي يحدث معه الانفجار السكاني والتخلف التنموي. ونسألك: ما رأيك في حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكَمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه الإمام أحمد وأبو داود، وصححه الذهبي والألباني). وهل تطبيق حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الأمر بزيادة النسل، سبب للانفجار السكاني والتخلف التنموي؟!! إن سبب التخلف التنموي هو البعد عن شرع الله - عز وجل - وليس زيادة السكان، وإلا فإن هناك بلادًا متقدمة - كاليابان وفرنسا - عدد سكانها أكثر من عدد سكان مصر بينما تقل مساحتها بكثير عن مساحة مصر. ونذكّر المفتي بأن الحد من زيادة نسل المسلمين هدف للغرب يسعون إليه بشتى الطرق. ونذكره أيضًا بأن الحكومة المصرية السابقة كانت مشغولة بمحاربة زيادة النسل بدلًا من التنمية.

السؤال السابع: قلت (ص13): «لقد أصبح توجُّه هؤلاء المتشددين عائقًا حقيقيًّا لتقدم المسلمين ... وللتنمية الشاملة التى يحتاجها العالم الإسلامي عامة، ومصر على صفة الخصوص. وهذا التوجه المتعصب أصبح تربة صالحة للفكر المتطرف، وأصلًا للمشرب المتشدد الذي يدعو إلى تشرذم المجتمع وإلى انعزال الإنسان عن حركة الحياة، وأن يعيش وحده في خياله الذي غالبًا ما يكون مريضًا غير قادر على التفاعل مع نفسه أو مع من يحيط به من الناس» انتهى. ونسألك: ألم تعلم يا صاحب الفضيلة - كما يعلم الجميع - أن السلفيين لا يعيشون منعزلين في الصحاري والبراري والجبال بل يشاركون في تنمية المجتمع المصري؟!! فالسلفيون ليسوا في عزلة عن الحياة فإنهم ينتمون إلى جميع التخصصات العلمية والمهنية، فمنهم الطبيب والمهندس والمعلم وأستاذ الجامعة، بل منهم أساتذة في جامعة الأزهر، ومدرسون ووعاظ بالأزهر الشريف، وخطباء ودعاة بوزارة الأوقاف. ونسألك: كيف علمتَ ما يدور في خيال السلفيين؟ وكيف علمتَ أن هذا الخيال غالبًا ما يكون مريضًا؟ السؤال الثامن: قلتَ (ص14): «ويتميز هذا الفكر المتشدد بعدة خصائص تؤدى إلى ما ذكرنا، وترسم ذلك الموقف الذي يجب على الجميع الآن – خاصة - أن يقاوموه وأن يعملوا بكل وسيلة على إخراج أولئك من عزلتهم؛ لأنهم لم يعودوا ضارين لأنفسهم فقط، لكن ضررهم قد تعدى إلى مَن حولهم وإلى شباب الأمة ومستقبلها، وإلى المجتمع بأسره».انتهى. ونسألك: 1 - قلت إنه يجب على الجميع الآن - خاصة - أن يقاوموا الفكر السلفي المتشدد، فهل معنى كلامك أن مقاومة السلفيين فرض عَيْن، وليست فرض كفاية؟!!!

2 - ونسألك أيضًا - بناءً على كلامك -: هل يأثم مَن لم يشارك في مواجهة السلفيين؟!! 3 - أين يعتزل السلفيون حتى تجعل إخراجهم من عزلتهم واجبًا على الجميع؟!! 4 - ما هي الأضرار التي أصاب بها السلفيون أنفسهم ومَن حولهم وإلى شباب الأمة ومستقبلها، والمجتمع بأسره؟!! فالواقع يشهد بعكس هذا الكلام. السؤال التاسع: قلتَ (ص15): «ومن خصائص هذا الفكر الانعزالي التشدد، فهو يرى أن الحياة خطيئة، وأنه يجب علينا أن نتطهر منها، وأن التطهر منها يكون بالبعد عن مفرداتها، سواء أكانت هذه المفردات هي الفنون أو الآداب أو كانت هذه المفردات هي المشاركة الاجتماعية أو حتى تعلم أساليب اللياقة». ونسألك: 1 - عن أي طائفة منعزلة تتحدث؟ ما هي الطائفة التي ترى أن الحياة خطيئة؟ إن كنت تتحدث عن الصوفية فقد يصدقك الناس، أما السلفيون فإن الواقع يشهد أنهم في منأى عن هذا الوصف، وهو اتهام عارٍ عن الصحة، بعيد عن الواقع. 2 - ماذا تقصد بالفنون والآداب؟ هل تقصد أن السلفيين يبتعدون عن الغناء والرقص والعري؟ إن كنت تقصد فقد أصبت كبد الحقيقة ولا لوم عليهم في ذلك، بل كان يجب عليك أن تمدحهم بدلًا من أن تذمهم؛ فهم متبعون للشرع في ذلك وليسوا متبعين لهواهم. أما إن كنت تقصد بالفنون والآداب أشياء لم يحرّمها الإسلام كالشِّعر المباح مثلًا، فهاتِ برهانك على أن السلفيين يرون التطهر منها. 3 - ماذا تقصد بالمشاركة الاجتماعية التي يبتعد عنها السلفيون؟ إن كنت تقصد الحفلات المختلطة مع النساء المتبرجات مثل احتفالك بعيد ميلادك في أحد أندية اللَيُونْز

الماسونية بين الممثلين والمغنين؟ إن كنت تقصد ذلك فحُق للسلفيين أن ينعزلوا عن مثل هذه المشاركات. السؤال العاشر: قلْتَ (ص16) إن الأشعرية «هي عقيدة أغلب المسلمين في مجال الاعتقاد» (¬1). وهذا ادعاء لا دليل عليه. واتهمْتَ السلفيين (ص 16) بأنهم يقلدون في العقائد، وأساس الاتهام أنك أشعري وأول واجب عند الأشاعرة هو النظر أو القصد إلى النظر أو أول جزء من النظر أو ... إلى آخر فلسفتهم المختلف فيها بينهم، وعندهم أن الإنسان إذا بلغ سن التكليف وجب عليه النظر ثم الإيمان، واختلفوا فيمن مات قبل النظر أو في أثنائه، أيُحْكمُ له بالإسلام أم بالكفر؟! وينكر الأشاعرة المعرفة الفطرية ويقولون إن من آمن بالله بغير طريق النظر فإنما هو مقلد ورجح بعضهم كفره، واكتفى بعضهم بتَعْصِيَتِه. وقد نقل الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أقوالًا كثيرةً في الرد عليهم، وأن لازم قولهم تكفير عوام المسلمين بل تكفير الصدر الأول من الصحابة والتابعين (¬2). ونسأل المفتي: أ- ما رأيكم في إيمان الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قبل أن يولد الأشاعرة وقبل أن يولد المفتي، ولم يُلْزِمهم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بما ألزم به الأشاعرة - ومنهم فضيلة المفتي – جموع المسلمين. فهم آمنوا بالله بغير طريقة الأشاعرة. فهل الصحابة - رضي الله عنهم - مقلدون متشددون عند الأشاعرة وعند فضيلة المفتي؟ ¬

_ (¬1) كذا قال: عقيدة في مجال الاعتقاد!!!. (¬2) انظر (فتح الباري 3/ 357، 361، 13/ 347 - 358).

ب- عامة المسلمين يؤمنون بالله وبرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالفطرة وعلى غير طريقة الأشاعرة وتعقيداتهم فهل يتهمهم المفتي بأنهم مقلدون أيضًا؟. وما هو رأي المفتي – بصفته أشعريًا في حكم إيمان المقلد الذي آمن بالله بغير طريق النظر الذي يوجبه هو والأشاعرة، هل المقلد كافرٌ أم عاصٍ؟ إن أول واجب على المكلف هو توحيد الله - سبحانه وتعالى - وعبادته كما تضمنته شهادة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا - رضي الله عنه - عَلَى اليَمَنِ، قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ» (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية للبخاري: «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ». وفي رواية للبخاري: «فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ». وفي رواية لمسلم: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ». قال الإمام ابن المنذر - رحمه الله -: «وأجمع كل من نحفظ عنه أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ولم يَزِدْ على ذلك شيئًا أنه مسلم» (¬1). ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص 44).

وننقل هنا أيضًا كلامًا نفيسًا للإمام القرطبي في تفسيره نُهْدِِيه للمفتي لنَرُدّ به اتهامه للسلفيين بأنهم يقلدون في العقائد، قال الإمام القرطبي: «ذَهَبَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِف اللهَ تَعَالَى بِالطُّرُقِ الَّتِي طَرَقُوهَا وَالْأَبْحَاث الَّتِي حَرَّرُوهَا لَمْ يَصِحّ إِيمَانه وَهُوَ كَافِر؛ فَيَلْزَم عَلَى هَذَا تَكْفِير أَكْثَر الْمُسْلِمِينَ , وَأَوَّل مَنْ يَبْدَأ بِتَكْفِيرِهِ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافه وَجِيرَانه. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى بَعْضهمْ هَذَا فَقَالَ: «لَا تُشَنِّع عَلَيَّ بِكَثْرَةِ أَهْل النَّار». أَوْ كَمَا قَالَ. قُلْت (¬1): وَهَذَا الْقَوْل لَا يَصْدُر إِلَّا مِنْ جَاهِل بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّة نَبِيّه - صلى الله عليه وآله وسلم - لِأَنَّهُ ضَيَّقَ رَحْمَة اللهِ الْوَاسِعَة عَلَى شِرْذِمَة يَسِيرَة مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ , وَاقْتَحَمُوا فِي تَكْفِير عَامَّة الْمُسْلِمِينَ. أَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْل الْأَعْرَابِيّ الَّذِي كَشَفَ عَنْ فَرْجه لِيَبُولَ , وَانْتَهَرَهُ أَصْحَاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللَّهُمَّ اِرْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَم مَعَنَا أَحَدًا». فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَقَدْ حَجَرْت وَاسِعًا». خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة (¬2). ¬

_ (¬1) أي الإمام القرطبي. (¬2) عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي صَلاَةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا». فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا» يُرِيدُ رَحْمَةَ اللهِ. (رواه البخاري). وفي رواية لأبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَالِسٌ فَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا»، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا». ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَقَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ، صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» أَوْ قَالَ: «ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ». (رواه أبو داود وصححه الألباني). والسَّجْل: الدلو إذا كان فيه ماء قلّ أو كثر، ولا يقال لها وهي فارغة «سَجلٌ»؛ والذَّنُوب: الدلو العظيمة إذا كانت مَلأى ماء، وقد يكون فيها ماء قريب من المِلء. [باختصار من شرح سنن أبي داود لبدر الدين العيني الحنفي (2/ 211)].

أَتُرَى هَذَا الْأَعْرَابِيّ عَرَفَ اللهَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَان وَالْحُجَّة وَالْبَيَان؟ وَأَنَّ رَحْمَته وَسِعَتْ كُلّ شَيْء (¬1) , وَكَمْ مِنْ مِثْله مَحْكُوم لَهُ بِالْإِيمَانِ. بَلْ اِكْتَفَى - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ كَثِير مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَحَتَّى إِنَّهُ اِكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ فِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَاهُ لَمَّا قَالَ لِلسَّوْدَاءِ: «أَيْنَ اللهُ؟»، قَالَتْ: «فِي السَّمَاء». قَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، قَالَتْ: «أَنْتَ رَسُول اللهِ». قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» (¬2). وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَظَر وَلَا اِسْتِدْلَال , بَلْ حَكَمَ بِإِيمَانِهِمْ مِنْ أَوَّل وَهْلَة , وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَنْ النَّظَر وَالْمَعْرِفَة غَفْلَة. وَاَللهُ أَعْلَم» (¬3). وبعد كلام الإمام القرطبي نسأل القارئ الكريم: هل أغلب المسلمين آمنوا كما آمن الأعرابي والأمة السوداء التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالإيمان، أم آمنوا بِالطُّرُقِ الَّتِي طَرَقهَا الأشاعرة وَالْأَبْحَاث الَّتِي حَرَّرُوهَا؟!! ومن إجابة هذا السؤال تتبين إجابة السؤال التالي: هل صحيح ما قاله المفتي من أن الأشعرية هي عقيدة أغلب المسلمين؟!!! ¬

_ (¬1) أي أَتُرَى هَذَا الْأَعْرَابِيّ عَرَفَ أن رَحْمَةَ اللهِ - سبحانه وتعالى - وَسِعَتْ كُلّ شَيْء. (¬2) رواه مسلم. (¬3) تفسير القرطبي (7/ 332 - 333). وقد أشار الشيخ عطية صقر - رحمه الله - إلى كلام الإمام القرطبي، وذلك في فتوى له بتاريخ مايو 1997، كما في فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com . ونسأل المفتي: هل الإمام القرطبي والشيخ عطية صقر من السلفيين المتشددين الذين يقلدون في العقائد؟!!!

مناقشة هادئة لبعض مسائل كتاب المفتي

مناقشة هادئة لبعض مسائل كتاب المفتي المسألة الأولى قوله إن السلفيين يصفون الله بالمكان قال المفتي (ص21): «من الأشياء التي يُصِر عليها من يُسمّون أنفسهم بالمتشددين (¬1) وَصْفُ الله بالجهة والمكان، ويزعمون إثبات الفوقية المكانية له سبحانه وتعالى. وهذا الإصرار منهم يتعارض مع ما ينبغي أن يكون عليه تنزيه الله سبحانه وتعالى». الجواب: ادعاؤه أن السلفيين أثبتوا لله المكان، قول باطل، لم يَقُلْه أحدٌ منهم؛ لأنه لم يثبت في القرآن ولا في السنة، وإنما يثبتون لله ما أثبته لنفسه من صفة العلو وغيرها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَقُولُونَ: إنَّ اللهَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَكَمَا عُلِمَ الْمُبَايَنَةُ وَالْعُلُوُّ بِالْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ الْمُوَافِقِ لِلْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ وَكَمَا فَطَرَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ خَلْقَهُ؛ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِهِ وَقَصْدِهِمْ إيَّاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» (¬2). ¬

_ (¬1) كذا قال المفتي: من يُسمّون أنفسهم بالمتشددين!!!. (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 297 - 299) باختصار.

وقد ذكر الإمام صدر الدين ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية، وهي عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي (¬1) أنّ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الْقَطْعِيَّةَ عَلَى عُلُوِّ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ دَلِيلٍ (¬2). وذكر أن النصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده تقرب من عشرين نوعًا (¬3). وقسمها إلى ثمانية عشر نوعًا وذكر أدلة كل نوع، ثم قال: «وهذه الأنواع من الأدلة لو بُسِطَتْ أفرادها لَبَلَغَتْ نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك!» (¬4). وكتاب الله - سبحانه وتعالى - به الكثير من النصوص الدالة على علوه - سبحانه وتعالى - بذاته فوق جميع مخلوقاته، ومن ذلك: أولًا: التصريح باستوائه على عرشه جاء ذلك في سبعة مواضع في القرآن العزيز: 1 - قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5). 2 - قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأعراف: 54). ¬

_ (¬1) وقد ذكر ابن أبي العز في مقدمة شرحه للعقيدة الطحاوية أن الإمام أبي جعفر الطحاوي - رحمه الله - أخبر عما كان عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومحمد بن الحسن الشيباني , ما كانوا يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية (ص 164). (¬3) نفس المصدر (ص 285 - 288). (¬4) نفس المصدر (ص 288).

3 - قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (يونس:3). 4 - قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الرعد:2). 5 - قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} (الفرقان: 58 - 59). 6 - قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (السجدة:4). 7 - قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الحديد:4). ثانيًا: التصريح بلفظ العَلِيّ والأعْلَى، قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255). وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (الحج:62)، وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (الأعلى:1). ثالثًا: التصريح بلفظ الفوقية في عدة مواضع، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:18 (، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل:50). رابعًا: التصريح بصعود الأشياء إليه - سبحانه وتعالى -، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر:10). وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران:55)، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ

رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء:157 - 158)، وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (المعارج:4). خامسًا: التصريح بنزول الأشياء من عنده - سبحانه وتعالى -، قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الزمر:1). وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} (الشعراء: 193 - 195). ووجه الاستدلال بهذين النوعين الرابع والخامس أنه لا يُعْقَل الصعود والرفع إلا من أسفل إلى أعلى، ولا يعقل النزول والتنزيل إلا من أعلى إلى أسفل. سادسًا: التصريح بأنه سبحانه وتعالى في السماء، قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (الملك:16 - 17). وعندما نقول: إن الله - سبحانه وتعالى - في السماء ليس معنى ذلك أن السماء تحيط به، أو كما يعبر هؤلاء بأن الله ساكن السماء! تعالى الله عن ذلك علوً كبيرًا. بل نقول: إن الله - سبحانه وتعالى - في السماء يعني على السماء، وفوق السماء، مستوٍ على عرشه - سبحانه وتعالى -، كقول الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} (النمل:69) أي: على الأرض. ونقل الإمام البيهقي عن الشيخ أبي بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الفقيه قوله: «قد تضع العرب (في) بموضع (على)؛ قال الله - عز وجل -: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} (التوبة:2)، وقال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه:71)، ومعناه: على الأرض

وعلى النخل، فكذلك قوله: {فِي السَّمَاءِ} أي على العرش فوق السماء، كما صحت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬1). أما السنة: فهي مليئة بالأحاديث الدالة على علو الله على خلقه منها: أولًا: إخباره - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الله في السماء، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً» (رواه البخاري ومسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - للجارية: «أَيْنَ اللهُ؟»، قَالَتْ: «فِي السَّمَاء». قَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، قَالَتْ: «أَنْتَ رَسُول اللهِ». قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» (رواه مسلم). وجه الاستدلال من هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شهد لها بالإيمان لما قالت إن الله في السماء. وقال أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين في نصيحته لمشايخه من الأشاعرة: «فمَن تكونُ الراعيةُ أعلمَ باللهِ منه لكوْنه لا يعرف وجهة معبوده، فإنَّه لا يزال مظلمَ القلب، لا يستنيرُ بأنوار المعرفة والإيمان» (¬2). ثانيًا: لما خطب - صلى الله عليه وآله وسلم - في المجمع العظيم في حجة الوداع «قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟»، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثالثًا: من أدلة علو الله تعالى حديث معراج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم (¬3) وهو صريح في ذلك؛ لأن جبريل - عليه السلام - كان يصعد بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ¬

_ (¬1) الأسماء والصفات (2/ 324). (¬2) مجموعة الرسائل المنيرية (1/ 185). كان أبو محمد الجوينِي والد إمام الحرمين في حيرة واضطراب في صفات الله - عز وجل -، ثمَّ صار إلى مذهب السَّلف، وألَّف رسالة نُصح لبعض مشايخه من الأشاعرة، وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (1/ 174 - 187). (¬3) وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص50)، أن قصة الإسراء والمعراج متواترة، ونسأل المفتي: «الأشاعرة يستدلون في العقائد بالمتواتر، فهل تصح عندهم هذه القصة المتواترة دليلًا على علو الله على خلقه؟!!!».

من سماء إلى سماء حتى انتهى إلى السماء السابعة، وتجاوزها إلى سدرة المنتهى، ثم إلى البيت المعمور، وكل ذلك وهو في صعود، وهذا دليل على أن الله تبارك وتعالى عالٍ على جميع مخلوقاته بذاته، مستوٍ على عرشه الذي هو أعلى مخلوقاته. أما العقل: فإنه يدل على أن الله - سبحانه وتعالى - في العلو من وجهين: أولًا: إن العلو صفة كمال، والله - سبحانه وتعالى - له صفات الكمال من كل وجه كما قال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم:27)، فوجب ثبوت العلو له - سبحانه وتعالى -. الثاني: أنه إذا انْتَفَتْ صفة العلو ثبتت صفة السفل لتقابلهما، وصفة السفل صفة نقص والله تعالى منزه عن كل نقص. ويقال لِمُنْكِر عُلُوّ الله: إما أن يكون الله - سبحانه وتعالى - موجودًا وإما أن يكون غير موجود - تعالى الله عن ذلك - وعلى كِلَا التقديرَيْن يُلْزَم مُنْكِر العلو ببطلان قولِه؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون الله في العلو أو في السُفل، وكونه في السُفل باطل لأنه يلزم منه أن يكون الله حَالًّا في مخلوقاته وهذا كفر بإجماع السلف، فلم يبْقَ إلا القسم الثاني وهو كَوْنُه - سبحانه وتعالى - في العلو، فيتعين اعتقاد العلو. ويقال أيضًا لِمُنْكِر العلو: لا يخلو الحال من أن يكون اللهُ - سبحانه وتعالى - فوق أو تحت أو يمين أو يسار أو أمام أو خلف فيُنْظَر أي الجهاتِ أشرف فنجد أن العلو هو الأشرف والله - سبحانه وتعالى - مستحق للأشرف، فيتعين كونه في جهة العلو. أما الفطرة: فإن العقلاء جميعهم مفطورون على التوجه إلى العلو عند الدعاء واللّجاء والاضطرار، مما يدل قطعًا على أن الله في العلو، فما من داع أو خائف إلا فزع

إلى ربه - سبحانه وتعالى - نحو السماء لا يلتفت عنه يمنة ولا يسرة، والمسلمون في سجودهم يقول القائل منهم: «سبحان ربي الأعلى» فلا يجد من قلبه إلا الاتجاه نحو السماء. ويشهد لذلك ما جرى بين المُحَدِّثُ أَبُي جَعْفَرٍ الهَمَذَانِيّ وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني حيث حضَر المُحَدِّثُ أَبُو جَعْفَرٍ الهَمَذَانِيّ فِي مَجْلِسِ وَعظِ أَبِي المَعَالِي الجويني، فَقَالَ: «كَانَ اللهُ وَلاَ عرش، وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ» (¬1). فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: «أَخْبِرْنَا يَا أسْتَاذ عَنْ هَذِهِ الضَّرُوْرَة الَّتِي نَجدُهَا، مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ: يَا الله! إِلاَّ وَجَد مِنْ قَلْبِهِ ضَرُوْرَة تَطلب العلوَّ وَلاَ يَلتَفِتُ يَمنَةً وَلاَ يَسرَةً، فَكَيْفَ نَدفَعُ هَذِهِ الضَّرُوْرَة عَنْ أَنْفُسنَا؟»، أَوْ قَالَ: «فَهَلْ عِنْدَك دوَاءٌ لدفعِ هَذِهِ الضَّرُوْرَة الَّتِي نَجدُهَا؟». فَقَالَ: «يَا حَبِيْبِي! مَا ثمَّ إِلاَّ الحَيْرَة». وَلطم عَلَى رَأْسِه، وَنَزَلَ، وَبَقِيَ وَقت عَجِيْب، وَقَالَ فِيمَا بَعْد: «حيَّرنِي الهَمَذَانِيّ» (¬2). ¬

_ (¬1) وهو نفس ما قاله المفتي في كتابه (ص21). (¬2) سير أعلام النبلاء (18/ 474 - 475). وَقد رجع الجويني في آخر حياته عن هذا القول وغيره، قَالَ أَبُو الفَتْحِ الطّبرِيُّ الفَقِيْه: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي المَعَالِي فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: «اشَهِدُوا عَليَّ أَنِّي قَدْ رَجَعْتُ عَنْ كُلِّ مَقَالَةٍ تُخَالف السُّنَّة، وَأَنِّي أَمُوْتُ عَلَى مَا يَموتُ عَلَيْهِ عجَائِز نَيْسَابُوْر». قال الذهبي: «هذا معنى قول بعض الأئمة: «عليكم بدين العجائز»، يعني أنهن مؤمنات بالله على فطرة الإسلام لم يَدْرِينَ ما علم الكلام». انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 474 - 475)، طبقات الشافعية للسبكي (5/ 191)، العلو للعلي الغفار، للذهبي (1/ 258). شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (1/ 209).

أقوال الأئمة الأربعة في مسألة العلو

أقوال الأئمة الأربعة في مسألة العلو: 1 - قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: «من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر , وكذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض» (¬1). 2 - قال الإمام مالك - رحمه الله -: «الله في السماء وعلمه في كل مكان» (¬2). 3 - قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: «القول في السُّنَّة التي أنا عليها ورأيتُ أصحابَنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم - مثل سفيان ومالك وغيرهما - الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمدًا رسول الله وأن الله تعالى على عرشه في سمائه» (¬3). 4 - قال الإمام أحمد - رحمه الله -: «نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حدّ ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد , فصفات الله منه وله وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار» (¬4). وقال الإمام أبو عمر ابن عبد البر المالكي عن قول الله - سبحانه وتعالى -: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} (المجادلة:7) قال: «عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حَمَلْتُ عَنْهُمُ ¬

_ (¬1) الفقه الأبسط (ص46) , ونقل نحو هذا اللفظ الإمام الذهبي في كتاب (العلو) (ص101 - 102) , وابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (ص301). (¬2) رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص263) , وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (ص11) , وابن عبد البر في التمهيد (7/ 138). (¬3) العلو للإمام الذهبي (ص120)، إثبات صفة العلو لابن قدامة (ص124). (¬4) رواه أبو بكر الخلال في كتاب السنة، انظر: دَرْءُ تَعَارُضِ العَقْلِ وَالنَّقْلِ (2/ 30).

التَّأْوِيلَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: «هُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ» (¬1). وممن نقل الإجماع على ذلك الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي حيث قال: «قد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سمواته» (¬2). وروى البيهقي بإسناد صحيح أن الإمام الأوزاعي قال: «كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله - تعالى ذِكْرُه - فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا» (¬3). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زُرْعَة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك فقالا: «أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا، فكان من مذهبهم أن الله تبارك وتعالى على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» (¬4). ¬

_ (¬1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 138 - 139). (¬2) العلو للعلي الغفار للإمام الذهبي (1/ 194). (¬3) الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 304). (¬4) العلو للعلي الغفار للإمام الذهبي (1/ 189). وقال الإمام الذهبي بعد هذا الأثر: «أبو زرعة كان إمام أهل الحديث في زمانه بحيث أن أحمد بن حنبل قال: «ما عبر جسْرَ بغداد أحفظُ من أبي زرعة».

وأعتذر عن الإطالة في النقول (¬1) وما فعلتُ ذلك إلا ليعلم القارئ أين يقف المفتي وأين يقف السلفيون، وليقيس على ذلك بقية المسائل التي سيكون الرد عليها مختصرًا إن شاء الله تعالى. ونسأل المفتي: هل الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء الذين نقلوا إجماع المسلمين على خلاف عقيدة المفتي كلهم متشددون؟!!! ¬

_ (¬1) ومن أراد الاستزادة من الآيات والأحاديث الدالة على علو الله - سبحانه وتعالى -، وأقوال الصحابة والتابعين في ذلك فليرجع إلى كتاب (العلو للعلي الغفار) للإمام الذهبي، وكتاب (إثبات صفة العلو) للإمام ابن قدامة المقدسي.

المسألة الثانية: المتشددون ينتقصون الأشاعرة

المسألة الثانية المتشددون ينتقصون الأشاعرة قال المفتي (ص24): «من مصائب (¬1) هذا التيار المتشدد أنهم اتهموا الأشاعرة بأنهم فرقة ضالة، وهنا يتجلى فكر الخوارج الذي لا يعبأ بأن يخرج على جماعة المسلمين وينتقصهم ويزعم أنهم على ضلالة ويدعي الحق لنفسه». الجواب: أولًا: سبحان الله!!! ما المصيبة في إظهار الحق؟ وهل بيان مخالفة الأشاعرة لمنهج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خروجٌ على جماعة المسلمين واعتناقٌ لفكر الخوارج!!! ثانيًا: من هم الأشاعرة؟ الأشاعرة فرقة تنتسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري - رحمه الله -، وقد مر الأشعري بثلاث مراحل، وهي باختصار: مرحلة الاعتزال، ثم متابعة ابن كلاب، ثم موافقة أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل. وقد صرح أبو الحسن الأشعري بهذا الموقف الأخير في كتبه الثلاثة: رسالة إلى أهل الثغر، ومقالات الإسلاميين، والإبانة. فمن تابع الأشعري على هذه المرحلة، فهو موافق لأهل السنة والجماعة في أكثر المقالات، ومن لزم طريقته في المرحلة الثانية، فقد خالف الأشعري نفسه، وخالف أهل السنة في العديد من مقالاتهم (¬2). ¬

_ (¬1) هكذا: مِن مصائب، و (مِن) للتبعيض، أي أن هناك مصائب أخرى!!! حسبنا الله ونعم الوكيل. (¬2) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 72).

ثالثًا: تأمل إنصاف السلفيين الذين يتهمهم المفتي بأنهم أصحاب مصائب!!، فقد قال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: «الفِرَق المخالفة لأهل السنة متفاوتون في أخطائهم , فليس الأشاعرة في خطئهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية بلا شك , ولكن ذلك لا يمنع من بيان خطأ الأشاعرة فيما أخطأوا فيه ومخالفتهم لأهل السنة في ذلك كما قد بُيِّنَ خطأُ غيرهم لإظهار الحق وبيان بطلان ما يخالفه تبليغًا عن الله سبحانه وعن رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحذرًا من الوعيد المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} (البقرة:159) (¬1). وجاء في فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية والتي صدرت بعضوية الشيخ عبد الله بن قعود، والشيخ المصري الأزهري عبد الرزاق عفيفي نائبًا للرئيس (¬2)، وبرئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن باز (3/ 54). (¬2) الشيخ عبد الرزاق عفيفي عطية (1323 ـ 1415 هـ، 1904 ـ 1994 م)، ولد بشنشور التابعة لمركز أشمون محافظة المنوفية، وتخرَّج في الأزهر حيث مُنِحَ الشهادة العالمية عام 1351هـ , ثم درس مرحلة التخصص في شعبة الفقه وأصوله ومنح شهادة التخصص في الفقه وأصوله بعد الاختبار, كل هذه الدراسة في الأزهر بالقاهرة. وهو أول وكيل لجماعة أنصار السنة المحمدية، وثاني رؤسائها بعد رحيل مؤسسها الأول الشيخ محمد حامد الفقي. عُيِّنَ مدرسًا بالمعاهد الأزهرية، ثم ندب إلى السعودية للتدريس، فدرَّس في عدة مدن، ثم نُقِل إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1391 هـ وعين بها نائبًا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، مع جعله عضوًا في مجلس هيئة كبار العلماء. وأشرف على رسائل بعض الدارسين في الدراسات العليا. من أبرز تلاميذه: المشايخ: محمد بن صالح العثيمين، وصالح السدلان وعبد الله بن عبد الرحمن الغديان، وصالح بن فوزان الفوزان، وصالح بن محمد اللحيدان، وعبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، وعبد العزيز ابن عبد الله آل الشيخ، وعبد الله بن عبد الرحمن البسام، وعبد الله بن حسن بن قعود، وصالح بن عبد الرحمن الأطرم، وعبد الله بن سليمان بن منيع. هؤلاء العلماء السلفيون هم أبرز طلاب هذا العالم الأزهري - رحمه الله -. [انظر: المعجم الجامع في تراجم العلماء وطلبة العلم المعاصرين، كتاب إلكتروني، من إعداد أعضاء موقع ملتقى أهل الحديث].

«موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فَوَّضُوا في أصل معناها - أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم؛ فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة - رضي الله عنهم - وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالخير، وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله» (¬1). رابعًا: إن كان من مصائب السلفيين أنهم بيَّنوا أخطاء الأشاعرة، فما رأي المفتي في الحافظ ابن حجر الذي بيّن أخطاء الأشاعرة؟!! أم أنه يعتبره من المتشددين؟!!! فمن المعلوم أن إمام الأشعرية المتأخر الذي ضبط المذهب وقعد أصوله هو الفخر الرازي، ثم خلفه الآمدي والآرموي فنشرا فكره في الشام ومصر واستوفيا بعض القضايا في المذهب. وقد ترجم الحافظ ابن حجر للرازي والآمدي في (لسان الميزان) وقد أورد نقولًا كثيرة موثقة عن ضلالهما وشنائعهما التي لا يقرها أي مسلم فضلًا عمن هو في علم الحافظ وفضله، وذكر طرفًا من شنائع الآرموي ضمن ترجمة الرازي. وقال في آخر ترجمة الرازي: «أوصى بوصية تدل على أنه حسّن اعتقاده». ووصية الرازي التي نقلها السبكي الأشعري نفسه في (طبقات الشافعية الكبرى) صريحة في رجوع الرازي إلى مذهب السلف. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/ 240 - 241)، الفتوى رقم (5082).

والحافظ ابن حجر في (فتح الباري) قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم، فمثلًا خالفهم في الإيمان، ونقَدَهم في مسألة المعرفة وأول واجب على المكلف في أول كتابه وآخره (¬1). كما أنه نقد شيخَ الأشاعرة في التأويل (ابنَ فُورَك) في تأويلاته التي نقلها عنه في شرح كتاب التوحيد في (فتح الباري)، وذمَّ التأويلَ والمنطقَ مرجحًا منهج الثلاثة القرون الأولى، كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة وغيرها من الأمور (¬2). خامسًا: مع أن المفتي يتهم السلفيين بأنهم خوارج - وهم بريئون من ذلك - فقد أجاز (ص17) التعبد بمذهب الإباضية وهم فرقة من الخوارج (¬3) يقولون بخلق القرآن كما جاء في كتبهم قديمًا وحديثًا، وقد وافقوا الخوارج في ذلك، ويظهر من خلال كتبهم تعطيل الصفات مثل إنكار رؤية الله في اليوم الآخر وتعطيل الصفات عمومًا، والإباضية تقول بتخليد العاصي في نار جهنم، وهي بذلك تتفق مع بقية الخوارج والمعتزلة في تخليد العصاة في جهنم، لكن الإباضية تحكم عليه في الدنيا بأنه كافر كفر نعمة - أو كفر نفاق. ومن الأمور التي يتفقون عليها إنكار الشفاعة لعصاة الموحدين، لأن العصاة - عندهم - مخلدون في النار، فلا شفاعة لهم حتى يخرجوا من النار، وكل ذلك معارضَةٌ لما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الشفاعة لأهل الكبائر (¬4). ¬

_ (¬1) ونقل الحافظ ابن حجر عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيِّ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْأَشَاعِرَةِ أن هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْمُعْتَزِلَةِ بَقِيَتْ فِي مَذْهَبِ الأشاعرة. انظر: فتح الباري (1/ 70 - 71، 13/ 349). (¬2) انظر فتح الباري (1/ 46)، (3/ 357 - 361)، (13/ 347 - 350). (¬3) ((راجع: فتوى الشيخ عطية صقر عن الخوارج، فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com ، تاريخ الفتوى: مايو 1997. (¬4) ((راجع: الإباضية، للدكتور عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف.

سادسًا: أنكر المفتي (ص24) على السلفيين الرد على الأشاعرة وسماه انتقاصًا لهم، ومن المعلوم أن الفخر الرازي هو إمام الأشعرية المتأخر الذي ضبط المذهب وقعَّد أصوله، فما رأي المفتي في تشكيك الرازي في روايات الصحابة - رضي الله عنهم - وقوله إنها لا تفيد القطع واليقين؟ (¬1) فهل هذا من كبير الأشاعرة انتقاص للصحابة - رضي الله عنهم -؟ نريد رأي المفتي!! سابعًا: اتهم المفتي السلفيين ظلمًا (ص16) بأنهم يفسقون الناس ويكفرونهم، ويَدْعون إلى منابذتهم ومحاربتهم، وهذا الكلام من المفتي يشهد الواقع بأنه منابذ للحقيقة. ونسأل المفتي: ما رأيكم في قول الأشاعرة إن مِن أنواع الشرك قولَ الناس إن النار تحرق، والطعام يُشبِع، والثوب يَستُر، وما رأيكم في قول الأشاعرة إن من قال إن هذه الأشياء بطبعها تفعل فلا خلاف في كفره، وإنّ من قال إن هذه الأشياء تفعل بقوة جعلها الله فيها كان مبتدعًا، وقد اختلف الناس في كفره (¬2). ألا يُعدّ هذا القول من الأشاعرة تكفيرًا لمعظم المسلمين! ¬

_ (¬1) ((انظر أساس التقديس للفخر للرازي (ص168 - 172). (¬2) ((انظر شرح أم البراهين للسنوسي (ص81)، شرح الكبرى للدراوي (ص184).

المسألة الثالثة: المتشددون ينكرون اتباع المذاهب الفقهية وتقليدها

المسألة الثالثة المتشددون ينكرون اتباع المذاهب الفقهية وتقليدها قال المفتي (ص33): «مما يميز هؤلاء أنهم يذمُّون التقليد وينكرون على متبعي المذاهب الفقهية الأربعة كمذهب الإمام أبي حنيفة والإمام مالك، والإمام الشافعي والإمام أحمد». الجواب: هذا الكلام عارٍ عن الصحة؛ فالسلفيون يدرسون كتب المذاهب الفقهية، فمثلًا الدعوة السلفية في الإسكندرية من ضمن مناهج معاهدها العلمية كتاب منار السبيل شرح الدليل، للشيخ للشيخ ابن ضويان، وهو كتاب في الفقه الحنبلي. إن التقليد الذي ينكره السلفيون هو أن يتعصب العالم المجتهد لأقوال شيوخه في المذهب وإن خالفت الدليل الصحيح الصريح، والتمسك بأقوالهم؛ كما لو كانت نزلت من السماء، والله - سبحانه وتعالى - يقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3). وهذا التقليد هو التقليد الأعمى الذي عناه الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي وقاضي مصر أبو عبيد حربَوَيْه حين قالا: «لا يقلد إلا عصبي أو غبي»، فقد قال علي بن أبي جعفر الطحاوي: «سمعت أبي يقول - وذكر فضل أبي عبيد حربَوَيْه وفقهه - فقال: «كان يذاكرني في المسائل، فأجَبْتُه يومًا في مسألة فقال لي: «ما هذا قول أبي حنيفة»، فقلت له: «أيها القاضي، أوَكُلُّ ما قاله أبو حنيفة أقول به؟»، فقال: «ما

ظنَنْتُكَ إلا مقلدًا». فقلت له: «وهل يقلد إلا عصبي». فقال لي: «أو غبي». قال: «فطارت هذه بمصر حتى صارت مثلًا وحفظها الناس» (¬1). والسلفيون في إنكارهم هذا التقليد الأعمى متبعون لا مبتدعون، فهاهي أقوال الأئمة الأربعة في اتباع السنة وتَرْك أقوالهم المخالفة لها: * قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: 1 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». 2 - «إذا قلتُ قولًا يخالف كتاب الله وخبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فاتركوا قولي». * قال الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: 1 - «إنما أنا بشر أخطيء وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه». 2 - «ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا ويُؤْخَذ من قوله ويُتْرَك إلا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -». * قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: 1 - «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعوا ما قلت». 2 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». 3 - «كل حديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو قولي، وإن لم تسمعوه منى». ¬

_ (¬1) لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الشافعي في ترجمته للطحاوي (1/ 280)، رسم المفتي (1/ 32) من مجموعة رسائل ابن عابدين الحنفي. ونسب الذهبي هذا القول لأَبي عُبَيْدٍ حربَوَيْه القَاضِي (انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 538)، تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام (7/ 357).

* قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: 1 - «لا تقلدني ولا تقلد مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا». 2 - «من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو على شفا هلكة» (¬1). أما زَعْمُ المفتي أن السلفيين يذمُّون التقليد فننقل له كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: «الْعَامِّيَّ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا يَأْخُذَ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْجُمْهُورُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ يُوجِبُونَهُ يَقُولُونَ: إذَا الْتَزَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ مَا دَامَ مُلْتَزِمًا لَهُ أَوْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنْهَا إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ مِثْلَ: أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضِ دُنْيَوِيٍّ أَوْ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ دُنْيَا يُصِيبُهَا. وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرِ دِينِيٍّ مِثْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ فَيَرْجِعَ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَلَّا يَعْدِلَ عَنْهُ وَلَا يَتَّبِعَ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. فَإِنَّ اللهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَطَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَتَحْلِيلُ مَا حَلَّلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ ¬

_ (¬1) انظر تخريج تلك الأقوال في كتاب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للشيخ الألباني (ص21 - 29).

اللهُ وَرَسُولُهُ وَإِيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ: وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ: سِرًّا وَعَلَانِيَةً. لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ رَجَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ وَأَعْلَمُ بِمُرَادِهِ فَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ وَسَائِلُ وَطُرُقٌ وَأَدِلَّةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُبَلِّغُونَهُمْ مَا قَالَهُ وَيُفَهِّمُونَهُمْ مُرَادَهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ وَقَدْ يَخُصُّ اللهَ هَذَا الْعَالِمَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَذَا. وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَاجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ كَاجْتِهَادِ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ؛ فَإِذَا صَلَّى أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَائِفَةِ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ هُنَاكَ فَإِنَّ صَلَاةَ الْأَرْبَعَةِ صَحِيحَةٌ وَاَلَّذِي صَلَّى إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصِيبُ الَّذِي لَهُ أَجْرَانِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ اتَّبَعَ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِهِ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ مَحْمُودٌ يُثَابُ لَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعَاقَبُ (¬1). وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز: «ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان؟». فأجابت: «أولًا: المذاهب الأربعة منسوبة إلى الأئمة الأربعة الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد، فمذهب الحنفية منسوب إلى أبي حنيفة وهكذا بقية المذاهب. ¬

_ (¬1) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 222 - 226).

ثانيًا: هؤلاء الأئمة أخذوا الفقه من الكتاب والسنة وهم مجتهدون في ذلك، والمجتهد إما مصيب فله أجران: أجر اجتهاده وأجر إصابته، وإما مخطئ فيؤجر على اجتهاده ويعذر في خطئه. ثالثًا: القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ مَن قبله ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد أن الحق بخلافه، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه. رابعًا: مَن لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد مَن تطمئن نفسه إلى تقليده وإذا حصل في نفسه عدم اطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان. خامسًا: يتبين مما تقدم أنه لا تُتَّبَعُ أقوالُهُم على كل الأحوال والأزمان؛ لأنهم قد يخطئون بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل» (¬1). الانتساب المذهبي واتباع الهوى: السلفيون ينكرون تَصَيُّد زلات العلماء والأقوال الشاذة المخالفة لكلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدَّم وهو أحد مشايخ السلفيىن في مصر إن «واجب المسلم أن يأخذ بالدليل مع وافر الحرمة والتقدير لأئمة الفقه والحديث، في القديم والحديث، ولا لَوْمَ في الانتساب المذهبي المجرد من العصبية، هذا هو المذهب الحق، والقول الصدق، وله مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه عمل به من أي مذهب كان، محتجًّا بأن الخلاف في الفروع يتسامح فيه على الإطلاق، ومتجاهلًا أنه: ليسَ كلُّ خلافٍ جاءَ معتبَرًا ... إلا خلافٌ له حظٌّ مِن النظرِ ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 28 - 29)، السؤال الرابع من الفتوى رقم (4172).

ونظرية (جواز التعبد بالخلاف) التي يتبناها في زماننا عوام فسدت فطرتُهم بفعل التربية المعوجة ما هي إلا صدًى لقول سلفهم: «من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا»، مع فارق وهو أن الأولين كانوا يلزمون مذهبًا واحدًا لا يحيدون عنه. أما هؤلاء فقد تركوا الحبل على الغارب، وأطلقوا لأهوائهم العِنان حتى تظفر بمرادها في زلة عالم، أو رخصة متكلفة، أو قول شاذ ملفق دون أي اعتبار لمخالفة العالم غير المعصوم لقول المعصوم - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:4). لقد وصف لنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - دواءَ داءِ الفرقة والاختلاف في قوله: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ... » الحديث» (¬1)، فالسُّنَّة تجمع المتفرقين، وتُوحّدُ المختلفين. ولقد جعل الله - عز وجل - الإجماع حجة معصومة من الضلال، فلا يصح أن نجعل ما يُضَادُّه وهو الاختلاف حُجةً أيضًا، بل علينا أن نردد مع ابن مسعود - رضي الله عنه - قوله: «الخلاف شر» (¬2).وما أحسن قول حافظ المغرب الإمام أبي عمر بن عبد البر - رحمه الله تعالى: «الاختلاف ليس بحجةِ عند أحدٍ علِمْتُه من فقهاء الأمة إلا مَنْ لا بصرَ له، ولا معرفةَ عنده، ولا حجةَ في قوله» (¬3). وشتان بين أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر وبين الأجر الواحد مع العذر، وبين من يتتبع الزلات، ويتحكم بالتشهي، ويرجح بالهوى، فيئول حاله إلى البطالة، ورقة الدين، ونقص العبودية» (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود وابن حبان، وصححه الألباني. (¬2) رواه أبو داود، وصححه الألباني. (¬3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 109). (¬4) عودة الحجاب (3/ 457 - 458).

المسألة الرابعة: المتشددون غير مؤهلين للإفتاء ويحدثون فوضى فى المجتمع

المسألة الرابعة المتشددون غير مؤهلين للإفتاء ويُحْدِثُون فوضى فى المجتمع الجواب: نسأل المفتي عمَّن يتحدث؟!، ومَن هُم هؤلاء السلفيين الذين اتهمهم بعدم الأهلية للفتوى وإحداث فوضى في المجتمع؟!!! هل يتحدث عن أساتذة جامعة الأزهر السلفيين الذين يجيبون على استفتاءات الناس في القنوات الفضائية الإسلامية؟!! أم يتحدث عن أساتذة الجامعات الإسلامية في بلاد الحرمين والهند وغيرهما من بلاد المسلمين؟!! أم يتهم السلفيين الذين درَسوا في الأزهر بعد دراستهم الأكاديمية في الجامعات الأخرى، كما فعل هو نفسه؟!! (¬1) ¬

_ (¬1) فقد جاء على الموقع الرسمي للمفتي أنه حصل بعد الثانوية العامة على بكالوريوس التجارة من جامعة عين شمس سنة 1973م، ثم التحق بجامعة الأزهر بالقاهرة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية، وحصل منها على (الليسانس) سنة 1979م.

المسألة الخامسة: المتشددون يعدون أغلب تصرفات المسلمين بدعا وضلالات

المسألة الخامسة المتشددون يعدّون أغلب تصرفات المسلمين بدَعًا وضلالات تحت عنوان المتشددون يَعُدُّون أغلب تصرفات المسلمين بدعًا وضلالات، قال المفتي (ص58): «من أشنع المفاهيم المسيطرة على فكر هؤلاء هو اتساع مفهوم البدع فيعدون أغلب سلوك المسلمين في عباداتهم وعاداتهم من البدع والضلالات». الجواب: أولًا: طبقًا لكلام المفتي إنْ كانت تصرفات المسلمين في العادات والعبادات ألف تصرف مثلًا فإن المفتي يقول إن أكثر من خمسمائة من تلك التصرفات يعتبرها السلفيون بدعًا، ونسأله: ما هي أغلب تصرفات المسلمين التي يعدها السلفيون بدعًا وضلالات؟ نريد من المفتي إحصاءً دقيقًا لتصرفات المسلمين ثم إحصاءً دقيقًا لأغلب تصرفات المسلمين التي يعدها السلفيون بدعًا وضلالات. هاتِ برهانَك يا فضيلة المفتي، فأنت أستاذ جامعي يجب عليك أن تتحرى الدقة في كل كلمة تقولها، وهذا ما يُمْلِيه عليك ما يسمى بالمنهج العلمي، ومن قبله يُمْلِيه عليك الإسلام، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام:152). ثانيًا: حاول المفتي في كتابه (ص 58 – 68) أن يثبت للقارئ أنه ليست كل بدعة في الدين ضلالة، ورأيه هذا مخالفٌ لنص حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (رواه مسلم). ومخالف لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». قال الإمام النووي - رحمه الله -: «قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ الرَّدُّ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْدُودِ وَمَعْنَاهُ: فَهُوَ بَاطِلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي رَدِّ كُلِّ الْبِدَعِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ.

وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ يُعَانِدُ بَعْضُ الْفَاعِلِينَ فِي بِدْعَةٍ سُبِقَ إِلَيْهَا فَإِذَا احْتُجَّ عَلَيْهِ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى يَقُولُ أَنَا مَا أَحْدَثْتُ شَيْئًا فَيُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِرَدِّ كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ سَوَاءٌ أَحْدَثَهَا الْفَاعِلُ أَوْ سُبِقَ بِإِحْدَاثِهَا» (¬1). وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ , وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً» (¬2). وقال الإمام مالك - رحمه الله -: «مَنْ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة:3)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا» (¬3). والبدع إنما تكون في الدين، أما المخترعات والمحدثات في أمور الدنيا والتي تحقق مصالح العباد، وليس فيها ضررٌ عليهم، وليس فيها خُبثٌ فإنها من الحلال؛ لما روى مسلم في صحيحه عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال:” أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ”. ومن أراد تأصيلًا شرعيًّا لمسألة البدع وردًّا على شبهات المفتي فعليه بكتاب (الاعتصام) للإمام الشاطبي المالكي - صاحب كتاب الموافقات -، وكتاب الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ - رحمه الله - عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وقد كان مقررًا لقسم الوعظ والخطابة بالأزهر الشريف. ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم (12/ 16). (¬2) رواه البيهقي في (المدخل إلى السنن)، برقم (191)، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) (1/ 104)، برقم (126)، وابن نصر في (السُنة) برقم (67)، وابن بطة في (الإبانة عن أصول الديانة) (2/ 112)، وصححه الألباني. (¬3) الاعتصام للشاطبي (1/ 54). الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 85).

المسألة السادسة المتشددون يحرمون التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويتهمون من يفعل ذلك بالشرك والخروج من الإسلام

المسألة السادسة المتشددون يحرمون التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويتهمون من يفعل ذلك بالشرك والخروج من الإسلام قال المفتي (ص69): «من طامَّات (¬1) هذا التيَّار المتشدد أنه يحرِّم التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الدعاء إلى الله ويتهمون من يفعل ذلك بالشرك والخروج من الإسلام، على الرغم من أن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مسألة اتفقت عليها كلمة الفقهاء ومذاهبهم، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على جواز التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بل استحباب ذلك، وعدم التفريق بين حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - وانتقاله الشريف - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولم يشذ إلا ابن تيمية حيث فرق بين التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد انتقاله - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬2)، ولا عبرة لشذوذه (¬3). فندعو الأمة إلى التمسك بما اتفق عليه أئمتها الأعلام». الجواب: أولًا: ادعاء المفتي أن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مسألة اتفقت عليها كلمة الفقهاء ومذاهبهم، ادعاءٌ غير صحيح، وينقضه كلام المفتي نفسه حيث سُئل: «ما حكم التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الدعاء؟» فقال: «هذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، ولذلك ¬

_ (¬1) هكذا: مِن طامات، و (مِن) للتبعيض، أي أن هناك طامات أخرى!!! حسبنا الله ونعم الوكيل. (¬2) هكذا، ولعله خطأ طباعي، ولعله يقصد: حيث فرّق بين التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته وبعد انتقاله - صلى الله عليه وآله وسلم -. (¬3) هكذا، والصواب (لا عبرة بشذوذه)، ولعله خطأ طباعي.

ونحن ندعو ينبغي علينا أن ندعو بما نجد قلوبنا عنده، ولم يرد في السنة الصحيحة التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬1). فإذا كان المفتي قد نقض الإجماع الذي ادعاه، واعترف بأن هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء، فلماذا ينكر على السلفيين أنهم منعوا من التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد اعترف هو نفسه أن هذا التوسل لم يرد في السنة الصحيحة. ثانيًا: ادعى المفتي أن المذاهب الأربعة اتفقت على جواز التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بل استحباب ذلك وأنه لم يشذ إلا ابن تيمية، وللرد على المفتي نكتفي هنا بنقل قولين لأحد الأئمة الأربعة يؤيد فيهما كلام السلفيين في المنع من التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره. قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: «لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استُفِيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف:180) (¬2). وقال أيضًا - رحمه الله - (¬3): «يُكْرَه (¬4) أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام». ¬

_ (¬1) فتاوى عصرية (ص335)، فتاوى البيت المسلم (ص420). (¬2) الدر المختار من حاشية رد المحتار لابن عابدين الحنفي (6/ 396 - 397)، وما أظن المفتي يجرؤ أن يتهم الإمام أبا حنيفة - رحمه الله - بالتشدد كما اتهم السلفيين. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص234) , إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين للزبيدي الحنفي (2/ 285) , وشرح الفقه الأكبر للملا علي القاري الحنفي (ص198). (¬4) قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ - وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا - لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ. فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [(النحل:116)، وَحَكَى مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى. فَإِذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا: أَكْرَهُ هَذَا، وَلَا أُحِبُّ هَذَا، وَهَذَا مَكْرُوهٌ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ» (الاعتصام (2/ 537 - 538). وقال الإمام ابن القيم: «قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا، وَلَا أَدْرَكْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ، وَمَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ كَذَا، وَنَرَى هَذَا حَسَنًا؛ فَيَنْبَغِي هَذَا، وَلَا نَرَى هَذَا»، وَرَوَاهُ عَنْهُ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَزَادَ: «وَلَا يَقُولُونَ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59)، الْحَلَالُ: مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ». قُلْت (القائل الإمام ابن القيم): «وَقَدْ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَئِمَّتِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَيْثُ تَوَرَّعَ الْأَئِمَّةُ عَنْ إطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ، وَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْكَرَاهَةِ، فَنَفَى الْمُتَأَخِّرُونَ التَّحْرِيمَ عَمَّا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْكَرَاهَةَ، ثُمَّ سَهُلَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ الْكَرَاهَةِ وَخَفَّتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَتَجَاوَزَ بِهِ آخَرُونَ إلَى كَرَاهَةِ تَرْكِ الْأَوْلَى، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ؛ فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَعَلَى الْأَئِمَّةِ». ثم ذكر الإمام ابن القيم أمثلة كثيرة منها قول الإمَامِ أحْمَدَ: «لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُ مَا ذُبِحَ لِلزَّهْرَةِ وَلَا الْكَوَاكِبِ وَلَا الْكَنِيسَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (المائدة:3). فَتَأَمَّلْ كَيْف قَالَ: «لَا يُعْجِبُنِي» فِيمَا نَصَّ اللهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَاحْتَجَّ هُوَ أَيْضًا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ لَهُ فِي كِتَابِهِ» [انظر: إعلام الموقعين (1/ 40 - 41)]. ومما يوضح كلام الإمامين الشاطبي والنووي أن الإمام الترمذي قال في سننه: «بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إِتْيَانِ الحَائِضِ»، وذكر فيه قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَتَى حَائِضًا، أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ». [سنن الترمذي (1/ 199)، والحديث صححه الألباني]. فهل يُعقل أن يستدل الإمام الترمذي بالحديث على الكراهة التنزيهية؟!!

ثالثًا: أما اتهام المفتي للسلفيين بأن مَن يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الدعاء إلى الله يحكم السلفيون عليه بالشرك والخروج من الإسلام، فهذا اتهام باطل، فقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - عن: «مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقول في دعائه: اللهم أعطني كذا وكذا من خَيْرَي الدنيا والآخرة، بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو ببركة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو بحرمة المصطفى، أو بجاه الشيخ التيجاني، أو ببركة الشيخ عبد القادر، أو بحرمة الشيخ السنوسي فما الحكم؟». فأجابوا: «مَن توسل إلى الله في دعائه بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو حرمته أو بركته أو بجاه غيره من الصالحين أو حرمته أو بركته، فقال: «اللهم بجاه نبيك أو حرمته أو بركته أعطني مالًا وولدًا أو أدخلني الجنة وقِنِي عذاب النار» مثلا، فليس بمشرك شركًا يخرج عن الإسلام، لكنه ممنوع سدًّا لذريعة الشرك، وإبعادًا للمسلم مِن فِعْلِ شيء يُفْضِي إلى الشرك. ولا شك أن التوسل بجاه الأنبياء والصالحين وسيلة من وسائل الشرك التي تُفْضِي إليه على مر الأيام، على ما دلت عليه التجارب وشهد له الواقع، وقد جاءت أدلة كثيرة في الكتاب والسُنَّة تدل دلالة قاطعة على أن سدَّ الذرائع إلى الشرك والمحرمات من مقاصد الشريعة. من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:108). فنهَى سبحانه المسلمين عن سَبّ آلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله مع أنها باطلة؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سَبّ المشركين الإله الحق سبحانه انتصارًا لآلهتهم الباطلة جهلًا منهم وعدوانًا.

ومنها: نَهْيُه - صلى الله عليه وآله وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد؛ خشيةَ أن تُعْبَد، ومنها: تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، وتحريم إبداء المرأة زينتها للرجال الأجانب، وتحريم خروجها من بيتها متعطرة، وأمْر الرجال بغض البصر عن زينة النساء، وأمْرِ النساء أن يغضضن من أبصارهن؛ لأن ذلك كله ذريعة إلى الافتتان بها ووسيلة إلى الوقوع في الفاحشة، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية (النور:30 - 31). وثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (¬1)؛ ولأن التوسل بالجاه والحُرْمَة ونحوهما في الدعاء عبادة، والعبادة توقيفية، ولم يَرِدْ في الكتاب ولا في سنة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن أصحابه ما يدل على هذا التوسل، فعُلِمَ أنه بدعة، وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (¬2). وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. (¬2) رواه مسلم. (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 501 - 503). وانظر في أنواع التوسل المشروع وغير المشروع كتاب (التوسل أنواعه وأحكامه) للشيخ الألباني (ص 32 - 46)، كتاب عقيدة التوحيد للشيخ صالح الفوزان (ص85 - 88).

المسألة السابعة: المتشددون يحرمون الصلاة في المساجد ذات الأضرحة ويصرحون بوجوب هدمها

المسألة السابعة المتشددون يُحَرّمون الصلاة في المساجد ذات الأضرحة ويصرحون بوجوب هدمها قال المفتي (ص80): «يحرِّم المتشددون الصلاة بالمسجد الذي ألحق به ضريح رجل صالح، ويصرحون بوجوب هدم الضريح أو المسجد، وهم بذلك يخالفون إجماع المسلمين، ويستفزون مشاعرهم، فالصلاة بالمسجد الذي به ضريح أحد الأنبياء - عليهم السلام - أو الصالحين، صحيحة، ومشروعة، وقد تصل إلى درجة الاستحباب». الجواب: أولًا: هل كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - متشددًا عندما أمر عليًا بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يهدم القبور المرتفعة، وهل كان علي - رضي الله عنه - متشددًا حينما أمر بنفس الأمر؛ فعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ «أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ». (رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي). وإليك كلام العلماء في شرح هذا الحديث لتعلم حقيقة كلام المفتي، جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفورى: قَوْلُهُ (أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي) أَيْ أُرْسِلُكَ لِلْأَمْرِ الَّذِي أَرْسَلَنِي، أَيْ أَجْعَلُكَ أَمِيرًا عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (أَنْ لَا تَدَعَ) أَيْ لَا تَتْرُك.

(قَبْرًا مُشْرِفًا) قال القاري (¬1): هُوَ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ حَتَّى ارْتَفَعَ دُونَ الَّذِي أُعْلِمَ عَلَيْهِ بِالرَّمْلِ وَالْحَصْبَاءِ أَوْ مَحْسُومَةٌ بِالْحِجَارَةِ لِيُعْرَفَ وَلَا يُوطَأَ. (إِلَّا سَوَّيْتُهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ قَدْرَ شِبْرٍ وَيُكْرَهُ فَوْقَ ذَلِكَ. وقال ابْنُ الْهُمَامِ (¬2) هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْقُبُورِ بِالْبِنَاءِ الْعَالِي، وَلَيْسَ مُرَادُنَا ذَلِكَ بِتَسْنِيمِ الْقَبْرِ بَلْ بِقَدْرِ مَا يَبْدُو مِنَ الْأَرْضِ وَيَتَمَيَّزُ عَنْهَا» (¬3). وقَالَ الإمام الشَّوْكَانِيُّ: قَوْلُهُ: (لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ) فِيهِ الْأَمْرُ بِتَغْيِيرِ صُوَرِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ. قَوْلُهُ: (وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنَّ الْقَبْرَ لَا يُرْفَعُ رَفْعًا كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَنْ كَانَ فَاضِلًا وَمَنْ كَانَ غَيْرَ فَاضِلٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَفْعَ الْقُبُورِ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٌ. وَمِنْ رَفْعِ الْقُبُورِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْحَدِيثِ دُخُولًا أَوَّلِيَّا الْقُبَبُ وَالْمَشَاهِدُ الْمَعْمُورَةُ عَلَى الْقُبُورِ، وَأَيْضًا هُوَ مِنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَاعِلَ ذَلِكَ (¬4). وَكَمْ قَدْ سَرَى عَنْ تَشْيِيدِ أَبْنِيَةِ الْقُبُورِ وَتَحْسِينِهَا مِنْ مَفَاسِدَ يَبْكِي لَهَا الْإِسْلَامُ، مِنْهَا اعْتِقَادُ الْجَهَلَةِ لَهَا كَاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ لِلْأَصْنَامِ: وَعَظُمَ ذَلِكَ فَظَنُّوا أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَلْبِ ¬

_ (¬1) هو الملا علي القاري، من علماء الحنفية. (¬2) كمال الدين ابن الهُمام، من علماء الحنفية. (¬3) تحفة الأحوذي (4/ 128 - 129) باختصار. (¬4) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». (رواه البخاري ومسلم).

النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ فَجَعَلُوهَا مَقْصِدًا لِطَلَبِ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَمَلْجَأ لِنَجَاحِ الْمَطَالِبِ وَسَأَلُوا مِنْهَا مَا يَسْأَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَشَدُّوا إلَيْهَا الرِّحَالَ وَتَمَسَّحُوا بِهَا وَاسْتَغَاثُوا. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا مِمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ بِالْأَصْنَامِ إلَّا فَعَلُوهُ، فَإِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَمَعَ هَذَا الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ وَالْكُفْرِ الْفَظِيعِ لَا تَجِدُ مَنْ يَغْضَبُ للهِ وَيَغَارُ حَمِيَّةً لِلدِّينِ الْحَنِيفِ لَا عَالِمًا وَلَا مُتَعَلِّمًا وَلَا أَمِيرًا وَلَا وَزِيرًا وَلَا مَلِكًا» (¬1). فما رأي المفتي في الملا على القاري وابن الهمام والشوكاني والمباركفوري؟ أم أنهم من السلفيين المتشددين؟!! ثانيًا: ومما يَدُلُّ على عدم جواز الصلاة في المسجد الذي به قبر، ما روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ»، والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والألباني. ومن الأدلة أيضًا ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ أُولَئِكَ، إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكِ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: «هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراد، فتصوير صور الآدميين محرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم كما دلت عليه نصوص أُخَر» (¬2). ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (4/ 102 - 103) باختصار. (¬2) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب (3/ 202 - 203).

وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسَة أيام: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» (رواه مسلم). وعن عَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، قَالَا: «لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: وَهُوَ كَذَلِكَ «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا» (رواه البخاري ومسلم) (¬1). ثالثًا: هاهي طائفة من أقوال علماء المذاهب الأربعة في تحريم اتخاذ المساجد على القبور، وفيها أن منهم مَن صرح بأنه كبيرة، وذلك ليعلم القارئ أين يقف السلفيون وأين يقف المفتي: 1 - قال الفقيه ابن حجر الهيتمي الشافعي في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر): «الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُونَ: اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَإِيقَادُ السُّرُجِ عَلَيْهَا، وَاِتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا، وَالطَّوَافُ بِهَا، وَاسْتِلَامُهَا، وَالصَّلَاةُ إلَيْهَا» ... (ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة وغيرها، ثم قال): «تَنْبِيهٌ: عَدُّ هَذِهِ السِّتَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْتُه مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَوَجْهُ أَخْذِ اتِّخَاذِ الْقَبْرِ مَسْجِدًا مِنْهَا وَاضِحٌ، لِأَنَّهُ لُعِنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِ وَجُعِلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقُبُورِ صُلَحَائِهِ شَرَّ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَفِيهِ تَحْذِيرٌ لَنَا كَمَا فِي رِوَايَةِ: «يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا»:أَيْ يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ بِقَوْلِهِ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَصْنَعُوا كَصُنْعِ أُولَئِكَ فَيُلْعَنُوا كَمَا لُعِنُوا. ¬

_ (¬1) لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أَيْ لَمَّا حَضَرَته الْمَنِيَّةُ وَالْوَفَاةُ، طَفِقَ: أَيْ جَعَلَ، وَالْخَمِيصَةُ: كِسَاءٌ لَهُ أَعْلَامٌ (انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 13). وللاستزادة من الأدلة حول هذا الموضوع، وكلام أهل العلم، والرد على شبهات الصوفية حوله انظر كتاب تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للألباني.

وَاِتِّخَاذُ الْقَبْرِ مَسْجِدًا مَعْنَاهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَوْ إلَيْهِ، ... قَالَ أَصْحَابُنَا (¬1): «تَحْرُمُ الصَّلَاةُ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ تَبَرُّكًا وَإِعْظَامًا»، فَاشْتَرَطُوا شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ قَبْرَ مُعَظَّمٍ وَأَنْ يَقْصِدَ بِالصَّلَاةِ إلَيْهِ - وَمِثْلُهَا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ - التَّبَرُّكَ وَالْإِعْظَامَ، وَكَوْنُ هَذَا الْفِعْلِ كَبِيرَةً ظَاهِرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ ... قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: «قَصْدُ الرَّجُلِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْقَبْرِ مُتَبَرِّكًا بِهَا عَيْنُ الْمُحَادَّةِ لِلهِ وَرَسُولِهِ، وَإِبْدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا ثُمَّ إجْمَاعًا، فَإِنَّ أَعْظَمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ أَوْ بِنَاؤُهَا عَلَيْهَا. وَالْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ (¬2) مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ إذْ لَا يُظَنُّ بِالْعُلَمَاءِ تَجْوِيزُ فِعْلٍ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَعْنُ فَاعِلِهِ، وَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِهَدْمِهَا وَهَدْمِ الْقِبَابِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ إذْ هِيَ ¬

_ (¬1) أي علماء الشافعية. (¬2) قال الشيخ الألباني: «وقوله فيما نقله عن بعض الحنابلة: «والقول بالكراهة محمول على غير ذلك»، كأنه يشير إلى قول الإمام الشافعي في كتابه [الأم (1/ 246)] ما نصه: «وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى، أو يصلى عليه، وهو غير مُسَوًّى، وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». وعلى هذا أتباعه من الشافعية، ومن الغريب أنهم يحتجون على ذلك ببعض الأحاديث المتقدمة، مع أنها صريحة في تحريم ذلك، ولَعْنِ فاعلِه، ولو أن الكراهة كانت عندهم للتحريم لقرب الأمر، ولكنها لديهم للتنزيه فكيف يتفق القول بالكراهة مع تلك الأحاديث التي يستدلون بها عليها؟! أقول هذا، وإن كنتُ لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية؛ لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني، ولا شك أن الشافعي متأثر بأسلوب القرآن غاية التأثر، فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه، لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين، فقد قال تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (الحجرات:7)، وهذه كلها محرمات، فهذا المعنى ـ والله أعلم ـ هو الذي أراده الشافعي - رحمه الله - بقوله المتقدم: «وأكره»، ويؤيده أنه قال عقب ذلك: «وإن صلى إليه أجزأه، وقد أساء»؛ فإن قوله: «أساء» معناه ارتكب سيئة، أي حرامًا، فإنه هو المراد بالسيئة في أسلوب القرآن أيضًا، فقد قال تعالى في سورة (الإسراء) بعد أن نهى عن قتل الأولاد، وقربان الزنى، وقتل النفس وغير ذلك: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (الإسراء:38) أي محرمًا. ويؤكد أن هذا المعنى هو المراد من الكراهة في كلام الشافعي في هذه المسألة أن مذهبه أن الأصل في النهي التحريم، إلا ما دل الدليل على أنه لمعنى آخر، كما صرح بذلك في رسالته [جماع العلم (ص125)] ونحوه في كتابه [الرسالة (ص343)]، ومن المعلوم لدى كل من درس هذه المسألة بأدلتها أنه لا يوجد أي دليل يصرف النهي الوارد في بعض الأحاديث المتقدمة إلى غير التحريم كيف والأحاديث تؤكد أنه للتحريم كما سبق؟ ولذلك فإني أقطع بأن التحريم هو مذهب الشافعي، لا سيما وقد صرح بالكراهة بعد أن ذكر حديث: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، فلا غرابة إذن أنْ صرَّح الحافظ العراقي ـ وهو شافعي المذهب ـ بتحريم بناء المسجد على القبر. [اهـ بتصرف من كتاب تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للألباني (ص37 - 40)، وراجع كلام الإمام الشاطبي المالكي أن معنى الكراهة في كلام الأئمة هو التحريم في [الاعتصام (2/ 537 - 538]، وقد نقلته بنصه في هامش (ص90 - 91) من هذا الكتاب.

أَضَرُّ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ لِأَنَّهَا أُسِّسَتْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِهَدْمِ الْقُبُورِ الْمُشْرِفَةِ، وَتَجِبُ إزَالَةُ كُلِّ قِنْدِيلٍ أَوْ سِرَاجٍ عَلَى قَبْرٍ وَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَنَذْرُهُ» (¬1). 2 - قال الحافظ زين الدين العراقي الشافعي: «فلو بَنَى مسجدًا يقصد أن يُدْفَنَ في بعضه دخل في اللعنة، بل يحْرُم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يُدْفَنَ فيه لم يَصِحّ الشرط لمخالفة وقفه مسجدًا» (2). (¬2). 3 - قال الإمام القرطبي المالكي في تفسيره بعد أن ذكر حديث البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ أُولَئِكَ، إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكِ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ ¬

_ (¬1) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 120 - 123) ونقل هذا الكلام المحقق الآلوسي في تفسيره [روح المعاني (5/ 31)]، وأقره عليه. (¬2) نقله المناوي في فيض القدير (5/ 274)، وأقَرَّه.

الْقِيَامَةِ»: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: «وَهَذَا يُحَرِّم عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالْعُلَمَاء مَسَاجِد» (¬1). 4 - قَالَ الفقيه ابْنُ الْمَلكِ الحنفي: «إِنَّمَا حُرِّمَ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ فِيهَا اسْتِنَانًا بِسُنَّةِ الْيَهُودِ» (2). 5 - ذكر الفقيه ابن عابدين الحنفي في علة النهي عن الصلاة في المقبرة: «أصل عبادة الأصنام اتخاذ قبور الصالحين مساجد» (3). (¬2) 6 - قال ابن تيمية الحنبلي: «يحرم الإسراج على القبور، واتخاذ القبور المساجد عليها، وبَيْنَها، ويتعين إزالتها، ولا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين» (4). (¬3). 7 - ونقل ابن عروة الحنبلي كلام ابن تيمية، وأقَرَّه (5). (¬4). 8 - نصّ بعض علماء الحنابلة على بطلان الصلاة في المساجد المبنية على القبور، ووجوب هدمها، فقال ابن القيم في صدد بيان ما تضمنته غزوة تبوك من الفقه والفوائد، وبعد أن ذكر قصة مسجد الضرار الذي نهى الله - تبارك وتعالى - نبيه أن يصلي فيه، وكيف أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - هدَمَه وحرقَه قال: «وَمِنْهَا: أَنّ الْوَقْفَ لَا يَصِحّ عَلَى غَيْرِ بِرّ وَلَا قُرْبَةٍ كَمَا لَمْ يَصِحّ وَقْفُ هَذَا الْمَسْجِدِ وَعَلَى هَذَا: فَيُهْدَمُ الْمَسْجِدُ إذَا بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ كَمَا يُنْبَشُ الْمَيّتُ إذَا دُفِنَ فِي الْمَسْجِدِ، نَصّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَسْجِدٌ وَقَبْرٌ، بَلْ أَيّهُمَا طَرَأَ عَلَى الْآخَرِ مُنِعَ مِنْهُ وَكَانَ الْحُكْمُ لِلسّابِقِ، فَلَوْ وُضِعَا مَعًا لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَصِحّ ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (10/ 38). (¬2) حاشية رد المحتار لابن عابدين (1/ 410). (¬3) الاختيارات العلمية (ص52). (¬4) في الكواكب الدراري (2/ 244).

هَذَا الْوَقْفُ، وَلَا يَجُوزُ، وَلَا تَصِحّ الصّلَاةُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ ذَلِكَ وَلَعْنِهِ مَنْ اتّخَذَ الْقَبْرَ مَسْجِدًا» (¬1). 9 - سُئِلَ الفقيه ابن تيمية الحنبلي: «هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِيهِ قَبْرٌ وَالنَّاسُ تَجْتَمِعُ فِيهِ لِصَلَاتَيْ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُمَهَّدُ الْقَبْرُ أَوْ يُعْمَلُ عَلَيْهِ حَاجِزٌ أَوْ حَائِطٌ؟». فَأَجَابَ: «اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُبْنَى مَسْجِدٌ عَلَى قَبْرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْنُ مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ قَبْلَ الدَّفْنِ غُيِّرَ: إمَّا بِتَسْوِيَةِ الْقَبْرِ وَإِمَّا بِنَبْشِهِ إنْ كَانَ جَدِيدًا. وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بُنِيَ بَعْدَ الْقَبْرِ: فَإِمَّا أَنْ يُزَالَ الْمَسْجِدُ وَإِمَّا أَنْ تُزَالَ صُورَةُ الْقَبْرِ فَالْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الْقَبْرِ لَا يُصَلَّى فِيهِ فَرْضٌ وَلَا نَفْلٌ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ» (2). (¬2) 10 - وقد تَبَنَّتْ دار الإفتاء في الديار المصرية فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه، فنقلَتْها عنه في فتوى لها أصدرتها تنص على عدم جواز الدفن في المسجد، وقد نُشِرَ ذلك بمجلة الأزهر (3). (¬3) وفي المجلة نفسها مقال آخر في تحريم البناء على القبور مطلقًا (4). (¬4). وقد أفتى الشيخ عبد المجيد سليم، شيخ الأزهر الأسبق بأنه لا يجوز دفن الموتى فى المساجد، وأنه إذا دفن الميت فى المسجد نبش عند الإمام أحمد (¬5). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (3/ 500). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (1/ 107، 2/ 192). (¬3) انظر: مجلة الأزهر، ج112، ص 501، 503). (¬4) انظر (مجلد سنة 1930، ص 359، 364). (¬5) فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com . تاريخ الفتوى: جمادى الأولى 1359 هجرية، 22 من يونيه 1940م.

رابعًا: زعم المفتي أن السلفيين يخالفون إجماع المسلمين بتحريمهم الصلاة بالمسجد الذي ألحق به ضريح رجل صالح، وقولهم بوجوب هدم الضريح أو المسجد. وما سبق نقله عن الأئمة وعن علماء الأزهر ينقض هذا الإجماع المزعوم. خامسًا: رغم نَهْيِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد قال المفتي باستحباب الصلاة في المساجد التي بها أضرحة، ولنا أن نسأله: مَن مِن العلماء قال باستحباب ذلك؟ وما هي أدلتهم على هذا الاستحباب؟ فالاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى دليل، ننتظر إجابة المفتي!! ونسأل القارئ الكريم في ضوء ما سبق نقله من كلام علماء المذاهب الأربعة: من الذي خالف إجماع المسلمين؟!! السلفيون أم المفتي؟!!

المسألة الثامنة المتشددون يعدون التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والصالحين شركا بالله

المسألة الثامنة المتشددون يعدون التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والصالحين شركًا بالله قال المفتي (ص89): «من قضايا المتشددين التي فرَّقوا بها الأمة وخرجوا عليها عدُّهم للتبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والصالحين من الشرك، وما ترتب على ذلك عدم انتساب هؤلاء للإسلام مِن شق لجماعة المسلمين وفتن الله أعلم بها» (¬1). الجواب: هذا كلام يخالف الحقيقة، وفيه من الخلط ما فيه، فها هو الشيخ ابن باز - رحمه الله - أحد رموز السلفيين في العالم الإسلامي يوضح الفرق بين التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - , وبعض الأولياء كمسح الجدران , والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره، وبين طلب الحاجات منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ومنهم , ودعائهم، حيث قال ردًّا على مَن قال مثل قول المفتي: «من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني , منحني الله وإياه الفقه في الدين , وأعاذنا جميعًا من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته , أما بعد: فقد وصلني كتابكم وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق ... وقد وقع في كتابكم أمور تحتاج إلى كشف وإيضاح ... لاحظتكم تعبرون دائمًا عن بعض ما شاع بين المسلمين من ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: وما ترتب على ذلك مِن عدم انتساب هؤلاء للإسلام ومِن شق لجماعة المسلمين وفتن الله أعلم بها.

التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - , وبعض الأولياء كمسح الجدران , والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره شركًا , وعبادة لغير الله. وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم , ودعاؤهم وما إلى ذلك، إني أقول: هناك فرق بين ذلك. فطلب الحاجات من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن الأولياء , باعتبارهم يقضون الحاجات من دون الله أو مع الله , فهذا شرك جَلِيٌّ لا شك فيه. لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين , والتي لا ينهاهم عنها العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي من غير فرق بين مذهب وآخر , ليست هي في جوهرها طلبًا للحاجات من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والأولياء , ولا اتخاذهم أربابًا من دون الله , بل مرَدّ ذلك كله - لو استثنينا عمل بعض الجهال من العوام - إلى أحد أمرين: التبرك والتوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وآثاره , أو بغيره من المقربين إلى الله عز وجل. أما التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من غير طلب الحاجة منه , ولا دعائه فمنشأه الحب والشوق الأكيد , رجاء أن يعطيهم الله الخير بالتقرب إلى نبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - وإظهار المحبة له , وكذلك بآثار غيره من المقربين عند الله. وإني لا أجد مسلمًا يعتقد أن الباب والجدار يقضيان الحاجات , ولا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو الولي يقضيها , بل لا يرجو بذلك إلا الله , إكرامًا لنبيه أو لأحد من أوليائه , أن يفيض الله عليه من بركاته. والتبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما يعلمه كل من اطلع على سيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان معمولًا به في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - , فكانوا يتبركون بماء وضوئه , وثوبه وطعامه وشرابه وشعره , وكل شيء منه، ولم يَنْهَهُم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عنه. فأما التبرك بما مس جسده - صلى الله عليه وآله وسلم - من وضوء أو عرق أو شعر ونحو ذلك , فهذا أمر معروف وجائز عند الصحابة - رضي الله عنهم - , وأتباعهم بإحسان لما في ذلك من الخير والبركة، وهذا أقرهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليه.

فأما التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك ونحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي , فبدعة لا أصل لها , والواجب تركها لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما أقره الشرع لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وفي صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - , كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في خطبته يوم الجمعة: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، والأحاديث في ذلك كثيرة. فالواجب على المسلمين التقيد في ذلك بما شرعه الله كاستلام الحجر الأسود وتقبيله , واستلام الركن اليماني. ولهذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قبل الحجر الأسود: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» (رواه البخاري ومسلم). وبذلك يُعلم أن استلام بقية أركان الكعبة , وبقية الجدران والأعمدة غير مشروع لأن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يفعله ولم يرشد إليه ولأن ذلك من وسائل الشرك. وهكذا الجدران والأعمدة والشبابيك وجدران الحجرة النبوية من باب أولى لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يشرع ذلك ولم يرشد إليه ولم يفعله أصحابه - رضي الله عنهم - (¬1). ¬

_ (¬1) وأما ما نُقِلَ عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - من الصلاة في الأماكن التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإن كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد صلى فيها اتفاقًا لا قصدًا، فليس من قَبيل التبرك بالآثار، بل فعله ابن عمر اتباعًا لسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. عن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّي فِيهَا، وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَمْكِنَةِ» (رواه البخاري).

وقد قطع عمر - رضي الله عنه - الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديبية لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها خوفًا من الفتنة بها وسدًّا للذريعة. وأما دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك الأكبر , وهو الذي كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم وأوثانهم , وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند الله , وتقربهم إليه زلفى , ولم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم , كما بين الله سبحانه ذلك عنهم في قوله سبحانه: قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فرَدّ عليهم سبحانه بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} (يونس:18). وقال - عز وجل -: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر:3). فأبَانَ - سبحانه - في هذه الآية الكريمة: أن الكفار لم يقصدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم , أو يقضون حوائجهم وإنما أرادوا منهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى , فأكذبهم سبحانه ورد عليهم قولهم بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، فسماهم كذبة وكفارًا بهذا الأمر. ويدل على كفرهم أيضا بهذا الاعتقاد , قوله سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}

(المؤمنون:117). فسماهم في هذه الآية كفارًا وحَكَمَ عليهم بذلك لمجرد الدعاء لغير الله من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم. ويدل على ذلك أيضا قوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13 - 14). فحَكَمَ سبحانه بهذه الآية على أن دعاء المشركين لغير الله , من الأنبياء والأولياء , أو الملائكة أو الجن , أو الأصنام أو غير ذلك بأنه شرك , والآيات في هذا المعنى لمن تدبر كتاب الله كثيرة» (¬1). يتضح من قول الشيخ ابن باز عدم صحة ادعاء المفتي أن السلفيين يعدّون التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والصالحين من الشرك. وقال الشيخ ابن باز تعليقًا على كلام ابن حجر في جواز التبرك بآثار الصالحين: «هذا خطأ (2). (¬2) والصواب المنع من ذلك لوجهين: أحدهما: أن الصحابة لم يفعلوا ذلك مع غير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - , ولو كان خيرًا لَسَبَقُونا إليه, والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يُقَاسُ عليه غيره لما بَيْنَه وبَيْن غيره من الفروق الكثيرة. ¬

_ (¬1) باختصار من مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (9/ 106 - 111). (¬2) لم يَقُل الشيخ ابن باز إن هذا شرك، كما زعم المفتي.

الوجه الثاني: سَدُّ ذريعة الشرك؛ لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله فوجب المنع من ذلك» (¬1). ويزداد الأمر حول هذه المسألة وضوحًا بكلام لأحد علماء السلفيين وهو الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حيث قال: «ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشُرْب سُؤْرِهِم، والتمسح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم ونحو ذلك، وقد أكثر في ذلك أبو زكريا النووي في (شرح مسلم) في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئًا من ذلك مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا خطأ صريح (2) (¬2) لوجوه منها: 1 - عدم المقاربة فضلا عن المساواة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الفضل والبركة. 2 - ومنها عدم تحقق الصلاح، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بِنَصّ، كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو أئمة التابعين، أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك، أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم. 3 - ومنها أنا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، والأعمال بالخواتيم، فلا يكون أهلًا للتبرك بآثاره. 4 - ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره - صلى الله عليه وآله وسلم - لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، فهل فعلوه مع أبي بكر وعمر ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر مع تعليقات ابن باز (3/ 143). (¬2) لم يَقُل الشيخ سليمان إن هذا شرك، كما زعم المفتي.

وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالجنة، وكذلك التابعون، وهل فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم، فدل أن ذلك مخصوص للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. 5 - ومنها أن فِعْل هذا مع غيره شيءٌ لا يُؤْمَن أن يفتنه وتعجبه نفسه، فيورثه العجب والكبر والرياء، فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم» (¬1). ¬

_ (¬1) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 153، 154).

المسألة التاسعة: المتشددون يحرمون الاحتفال بمولد النبي ص

المسألة التاسعة المتشددون يحرمون الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويعدّونه بدعة ضلالة قال المفتي (ص102): «يخالف المتشددون أغلب المسلمين في فرحهم بذكرى ميلاد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويتهمونهم أنهم على بدعة ضلالة، وهذه مصيبة أخرى من مصائبهم». الجواب: أولًا: اعترف المفتي (ص106) أن الاحتفال بالمولد النبوي لم يحدث إلا في القرن الخامس الهجري. وقد نقل الإمام الصالحي الشامي عن الحافظ السخاوي - رحمه الله - في فتاويه: قوله: «عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة». ونقل عن الحافظ ابن حجر العسقلاني قوله: «أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة». ونقل عن الإمام العلامة تاج الدين الفاكهاني المالكي - رحمه الله - أن عمل المولد بدعة مذمومة (¬1). إذن الاحتفال بالمولد النبوي حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». (رواه البخاري ومسلم). ¬

_ (¬1) انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (1/ 366، 362، 368).

فخير الناس - ومنهم صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يحتفلوا بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - واتَّبَعهم في ذلك السلفيون، فهل يُلَام السلفيون لاتِّبَاعِهم خير القرون، أم أن مَن جاء بعدَ الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم منهم وأفقه بدين الله، وهل ينكر المفتي على الصحابة كما أنكر على السلفيين؟!! وهل يعتبر المفتي رأي الإمام الفاكهاني المالكي مصيبة من مصائبه كما تعود أن يصف آراء السلفيين؟!! أم يَصِفُه بالتشدد كما يحلو له أن يصف السلفيين؟!! وإذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - لم يحتفلوا بالمولد النبوي فإنا نذكر المفتي وكل من أجاز الاحتفال به (¬1) بقَول حُذَيْفَةُ ابن اليمان - رضي الله عنه -: «كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَلَا تَعَبَّدُوهَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ مَقَالًا» (2). (¬2) قال ابن الحاج المالكي - رحمه الله - في (المدخل): «وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ مَوْلِدٍ وَقَدْ احْتَوَى عَلَى بِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةٍ. فَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ الْمَغَانِي وَمَعَهُمْ آلَاتُ الطَّرَبِ مِنْ الطَّارِ الْمُصَرْصَرِ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ آلَةً لِلسَّمَاعِ ... فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا وَمَا أَقْبَحَهَا وَكَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ خَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ وَفَعَلُوا الْمَوْلِدَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى فِعْلِهِ بَلْ زَادُوا عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَبَاطِيلِ الْمُتَعَدِّدَةِ فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى امْتِثَالِ ¬

_ (¬1) للرد على شبهات المفتي وغيره في مسألة الاحتفال بالمولد النبوي، راجع كتاب (القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرُّسْل) للشيخ إسماعيل الأنصاري. (¬2) أخرجه ابن المبارك في الزهد (47)، وبنحوه ابن أبي شيبة في المصنف (16651 و18985)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (10 و11 و12 و15 و16)، وعبد الله في السنة (106)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة (86 و87)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1809)، وابن بطة في الإبانة (196 و197)، واللالكائي (119)، وأبو نعيم في الحلية (1 280)، والخطيب في تاريخه (3 446).

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى ذَلِكَ وَهِيَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنَّا إذْ هُمْ أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ وَأَفْقَهُ بِالْحَالِ. وَكَذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ عَوَائِدِ أَهْلِ الْوَقْتِ وَمِمَّنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ. وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَوْلِدِ إذَا عَمِلَ بِالسَّمَاعِ، فَإِنْ خَلَا مِنْهُ وَعَمِلَ طَعَامًا فَقَطْ وَنَوَى بِهِ الْمَوْلِدَ وَدَعَا إلَيْهِ الْإِخْوَانَ وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ إذْ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ. وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ نِيَّةً مُخَالِفَةً لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَتَعْظِيمًا لَهُ وَلِسُنَّتِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَلَهُمْ قَدَمُ السَّبْقِ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ وَنَحْنُ لَهُمْ تَبَعٌ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ» (¬1). وقال الشيخ عبد المجيد سليم - شيخ الأزهر الأسبق - رحمه الله -: «عمل الموالد بالصفة التى عليها الآن لم يفعله أحد من السلف الصالح ولو كان ذلك من القُرَب لَفَعَلُوه» (2). (¬2) ثانيًا: قال المفتي (ص105): «ونحن نحتفل بمولده - صلى الله عليه وآله وسلم - لأننا نحبه». ونسأله: هل الصحابة - ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المبشرون بالجنة - رضي الله عنهم - الذين لم يحتفلوا بمولده - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكونوا يحبونه - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!! وهل التابعون وتابعوهم بإحسان والأئمة الأربعة الذين لم يحتفلوا بمولده - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكونوا يحبونه - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!! وهل محبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإقامة الموالد؟!! ¬

_ (¬1) انظر: مدخل الشرع الشريف على المذاهب الأربعة (2/ 204 - 312). (¬2) فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com . تاريخ الفتوى: ربيع الثانى 1361 هجرية، 27 أبريل 1942م.

المسألة العاشرة المتشددون يحرمون السفر لزيارة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقبور الأنبياء والصالحين

المسألة العاشرة المتشددون يحرمون السفر لزيارة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقبور الأنبياء والصالحين قال المفتي (ص107 - 111): «من أغرب ما عليه المتشددون تحريمهم السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو قبر الخليل إبراهيم أو قبر أي صالح، وسوف يزداد العجب عندما تعلم أنهم يستحبون زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وزيارة قبور المسلمين بصفة عامة، فهم يستحبون الغاية ويحرمون وسيلته (¬1). وهم بهذا السلوك العجيب الغريب قد اصطدموا بقاعدة متفق عليها أن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، فلا يُعقَل أن يكون المقصد مندوبًا ووسيلته محرمة. وفيما يلي ننقل إجماع المذاهب الفقهية على استحباب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كل ما سبق يُبَيَّن أن هؤلاء المتشددين أصروا على فهْم أحد العلماء الذي شذّ بفهمه (¬2)، وأنكروا فهْم باقي العلماء؛ مما جعلهم يتخبطون وينتجون لنا قولًا غريبًا محصلته استحباب الشيء وتحريم الوسيلة الموصلة إليه، أو أن يقتصر حكم استحباب الزيارة لمن يسكن بجوار القبر الشريف فقط». ¬

_ (¬1) هكذا، والصواب (وسيلتها)، ولعله خطأ طباعي. (¬2) يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.

الجواب: أولًا: لم يخالف ابن تيمية ولا السلفيون إجماع المذاهب الفقهية على استحباب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي نقله المفتي، وإنما الخلاف في مشروعية السفر بقصد زيارة قبره - صلى الله عليه وآله وسلم - فقط. ثانيًا: هذه مسألة اجتهادية اختلف فيها أهل العلم فلماذا يتهم المفتي مَن أخذ بأحد الرأيين بالتخبط والشذوذ؟!! أين أدب الحوار؟!!! ما هكذا يتعامل المفتي مع اليهود والنصارى؟!!! ألا يستحق المسلمون الرفق الذي يعامل المفتي به اليهود والنصارى؟!!! ثالثًا: أقر السلفيون بأن هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، وهذا كلام ابن تيمية فيها: «شَدُّ الرَّحْلِ إلَى مَسْجِدِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ». فَإِذَا أَتَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالسَّفَرِ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ دُونَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ. فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا السَّفَرِ إذَا نَذَرَهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ... بَلْ قَدْ صَرَّحَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ - عليهم السلام - وَغَيْرِهَا لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذَا السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ

مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ طَاعَةٌ وَلَيْسَ بِطَاعَةِ وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللهِ - عز وجل - بِمَا لَيْسَ بِطَاعَةِ هُوَ مَعْصِيَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَرَخَّصَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ فِي (الْإِحْيَاءِ) وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ عبدوس وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي، وَقَدْ رَوَى حَدِيثًا رَوَاهُ الطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَا تَنْزِعُهُ إلَّا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، لَكِنَّهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ وَهُوَ مُضَعَّفٌ. وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَبِمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ» (¬1). وقال الشيخ ابن باز: «لا يجوز السفر بقصد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو قبر غيره من الناس في أصح قولي العلماء ... والمشروع لمن أراد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو بعيد عن المدينة أن يقصد بالسفر زيارة المسجد النبوي فتدخل زيارة القبر الشريف وقبري أبي بكر وعمر والشهداء وأهل البقيع تبعًا لذلك. وإن نواهما جاز؛ لأنه يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا، أما نية القبر بالزيارة فقط فلا تجوز مع شد الرحال. أما إذا كان قريبًا لا يحتاج إلى شد رحال ولا يسمى ذهابه إلى القبر سفرًا، فلا حرج في ذلك، لأن زيارة قبره - صلى الله عليه وآله وسلم - وقبر صاحبيه من دون شد رحال سُنَّة وقُرْبَة. وهكذا زيارة قبور الشهداء وأهل البقيع، وهكذا زيارة قبور المسلمين في كل مكان سُنَّةٌ وقُرْبَة، لكن بدون شد الرحال، لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (27/ 26 - 28). (¬2) مجموع فتاوى ابن باز (8/ 336). والحديث، رواه ابن ماجه بهذا اللفظ، وصححه الألباني، ورواه مسلم بلفظ: «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ».

رابعًا: لم ينفرد ابن تيمية بهذا القول كما يظن البعض وكما زعم المفتي، فهذا الرأي اختاره جماعة من العلماء كالقاضي عياض المالكي، والإمام الجويني والقاضي حسين من الشافعية، فقالوا: «يحرم شد الرحل لغير المساجد الثلاثة كقبور الصالحين والمواضع الفاضلة» (¬1). وقد قال بقوله ابن عقيل شيخ الحنابلة في وقته، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عنه، وذكر ذلك عنه أيضًا ابن قدامة أحد علماء الحنابلة حيث قال: «فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل: «لا يباح له الترخص لأنه مَنْهِيٌّ عن السفر إليها؛ قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ (متفق عليه) (¬2). ونسب الشيخ محمد أنور شاه الكشميري (¬3) - أحد كبار فقهاء الحنفية في وقته - رحمه الله - رأْيَ ابنِ تيمية إلى أربعة من المتقدمين منهم أحد أئمة الشافعية في زمانه، وهو الجويني والد إمام الحرمين. قال الكشميري: «اختار ابن تيمية أن السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المبارك غير جائز، بل يريد السفر إلى المسجد النبوي، ثم إذا بلغ المدينة يُستَحَبُّ له زيارة القبر المبارك، وقال باستحباب زيارة القبور الملحقة للمكان لثبوت ¬

_ (¬1) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي (6/ 524). (¬2) انظر: المغني (2/ 100). (¬3) محمد أنور شاه الكشميري: أحد كبار فقهاء الحنفية وأساطين مذهبهم تخرج في جامعة ديوبندي وولي التدريس في المدرسة الأمينية بدلهي، ثم شغل مشيخة الحديث في جامعة ديوبند، وله مؤلفات عديدة. وكان أحد الذين كان لهم دورٌ هامٌّ في القضاء على فتنة القاديانية في شبه القارة الهندية. توفي عام 1352هـ. (انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 306).

زيارة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - البقيع وغيرها ... ووافق ابن تيمية في هذه المسألة أربعة من المتقدمين، ومنهم الجويني والد إمام الحرمين» (¬1). فليس هو رأي ابن تيمية وحده كما يظن البعض وإن كان له فضل الدعوة إليه، والانتصار له. خامسًا: من هم ابن عقيل، والقاضي عياض، والقاضي حسين، والجويني والد إمام الحرمين؟ ها هي أقوال الإمام الذهبي عنهم: 1 - ابن عقيل: «الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، البَحْرُ، شَيْخُ الحنَابلَة، أَبُو الوَفَاء عَلِيُّ بنُ عَقِيْل، الحَنْبَلِيّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ» (¬2). 2 - القاضي عياض: «الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، الحَافِظُ الأَوْحَدُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، القَاضِي، أَبُو الفَضْلِ عِيَاضُ بنُ مُوْسَى المَالِكِيُّ» (¬3). 3 - القَاضِي حُسَيْنُ: «العَلاَّمَةُ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّة بِخُرَاسَانَ» (¬4). 4 - الجويني: «شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، الجُوَيْنِيُّ، وَالِدُ إِمَامِ الحَرَمَيْنِ. كَانَ فَقِيْهًا، مُدَقِّقًا، مُحَقِّقًا، نَحْوِيًّا، مُفَسِّرًا. وَهُوَ صَاحِبُ وَجهٍ فِي المَذْهَبِ» (¬5). وننقل هنا أيضًا ما قاله عنه تاج الدين السبكي – وهو مَن صَنّف رسالة في الرد على رأي ابن تيمية في هذه المسألة وسماها (شفاء السقام في زيارة خير الأنام). ¬

_ (¬1) العرف الشذي شرح سنن الترمذي (1/ 326). (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 443). (¬3) نفس المصدر (20/ 212 - 213). (¬4) نفس المصدر (18/ 260 - 261). (¬5) نفس المصدر (17/ 618 - 619)، والمقصود بالمذهب مذهب الإمام الشافعي.

قال السبكي: «الشيخ أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين أوْحَدُ زمانِه علمًا ودينًا وزهدًا وتقشفًا زائدًا وتحريًا في العبادات، كان يلقب بركن الإسلام له المعرفة التامة بالفقه والأصول والنحو والتفسير والأدب» (¬1). فما رأي المفتي في ابن عقيل شيخ الحنابلة، والقاضي عياض المالكي والجويني شيخ الشافعية، والقاضي حسين شيخ الشافعية الذي مدحه تاج الدين السبكي أحد كبار مخالفي ابن تيمية؟!! هل يتهمهم أيضًا بالتخبط والشذوذ كما اتهم السلفيين؟!!! سادسًا: مسألة السفر لزيارة قبور الأولياء قد سبق نَقْل كلام ابن عقيل شيخ الحنابلة في وقته، وننقل هنا أيضًا قول الكشميري وهو أحد كبار فقهاء الحنفية في وقته حيث قال: «السفر لزيارة قبور الأولياء كما هو معمول أهل العصر لا بد من النقل عليه من صاحب الشريعة أو صاحب المذهب أو المشائخ، ولا يجوز قياس زيارتها على زيارة القبور الملحقة بالبلدة فإنه لا سفر فيها» (¬2). سابعًا: مما يؤيد استدلال ابن تيمية بحديث «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» على عدم جواز السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره - فَهْمُ الصحابة - رضي الله عنهم - لمعنى الحديث، ومن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عَنْ قَزَعَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ: «آتِيَ الطُّورَ؟» قَالَ: «دَعِ الطُّورَ، لَا تَأْتِهِ»، وَقَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» (¬3). ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد أن أَبَا بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَهُوَ جَاءٍ مِنَ الطُّورِ فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟»، قَالَ: «مِنَ الطُّورِ صَلَّيْتُ ¬

_ (¬1) طبقات الشافعية الكبرى (5/ 45). (¬2) العرف الشذي شرح سنن الترمذي (1/ 327). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 418)، برقم (15544).

فِيهِ»، قَالَ: «أَمَا لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَرْحَلَ إِلَيْهِ مَا رَحَلْتَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقًا على هذا الحديث: «فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء مندرجة في العموم وأنه لا يجوز السفر إليها كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة. وأيضًا فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله غير المساجد الثلاثة لا يجوز مع أنَّ قصْده لأهل مَصْرِه يجب تارة ويستحب أخرى وقد جاء في قَصْد المساجد من الفضل ما لا يُحْصَى فالسفر إلى بيوت الموتى من عباده أوْلَى أن لا يجوز» (¬2). ثامنًا: احتج المفتي (ص109 - 110) على جواز السفر لزيارة القبور بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يزور مسجد قباء، فعَن نافِعٍ عَن ِابْن ِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قالَ: «كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَأْتِي مَسْجِدَ قباءَ كلَّ سَبْتٍ، مَاشِيًا وَرَاكِبا»، قالَ نافِعٌ: «وَكانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَفعَله». (رواه البخاري ومسلم). وقال إن النهي عن شد الرحال لمسجد غير الثلاثة ليس على التحريم، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شدَّ الرحال لمسجد رابع وهو مسجد قباء. ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد بن حنبل (39/ 270)، برقم (23850)، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح». (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 328).

والجواب: 1 - أنَّ زِيَارَة َمَسْجِدِ قباءَ لأَهْل ِ المدِيْنةِ، خَالِيَة ٌ مِنْ شَدِّ الرِّحَال ِ (أي السفر) لِقُرْبه. وَهِيَ مُسْتَحَبَّة ٌ مَسْنُوْنة ٌ لهمْ، اقتِدَاءً بفِعْل ِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَقدْ كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَأْتِيْهِ -لِقُرْبهِ- مَاشِيًا وَرَاكِبًا. بَلْ قالَ أَنسُ بْنُ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: «كنّا نصَلي العَصْرَ، ثمَّ يَذْهَبُ الذّاهِبُ مِنّا إلىَ قباءَ، فيَأْتِيْهمْ وَالشَّمْسُ مُرْتفِعَة ٌ» (رَوَاهُ البُخارِيُّ). وَمَحَلُّ النِّزَاعِ في شَدِّ الرَّحْل ِ لِزِيَارَةِ مَسْجِدٍ غيْرِ المسَاجِدِ الثلاثة. فمسجد قباء يستحب زيارته لمن كان فى المدينة؛ لأن ذلك ليس بشَدّ رحل (ليس بسَفَر) كما فى الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَعُمْرَةٍ»» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ» تنبيه على أنه لا يُشْرَع قصْده بشد الرحال، بل إنما يأتيه الرجل مِن بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه، ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد بلده دون المساجد التي يسافر إليها. 2 - مَن حَمَل حَدِيْث «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلّا إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِدَ»، عَلى نفي اسْتِحْبَابِ شَدِّ الرّحَالِ لِغيْرِهَا، ثمَّ أجَازَ شَدَّ الرِّحَال ِ لِلمَسَاجِدِ عَامَّة ً غيرَ المسَاجِدِ الثلاثةِ، بزِيَارَةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لمِسَجْدِ قباء فكلامه فِيْهِ تعَارُضٌ وَتنَاقض: فإنهُ إمّا أَنْ يَنْفِيَ اسْتِحْبَابَ زِيَارَةِ مَسْجِدِ قباءَ، لِيَسْتَقِيْمَ تَأْوِيْلهُ لِحَدِيْثِ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ»: فيُخالِفَ بذَلِك َ السُّنَّة َ الصَّحِيْحَة َ الصَّرِيْحَة. بَلْ يُخالِفُ مَا وَرَدَ مِنْ عَظِيْمِ فضْل ِ زِيَارَتِهِ.

وَإمّا أَنْ يَسْتَحِبَّ زِيَارَة َ مَسْجِدِ قباءَ، كمَا جَاءَتْ بهِ السُّنَّة ُ: فيَسْقط ُ تأْوِيْلهُ لحدِيْثِ «لا تُشَدُّ الرِّحَال». وَعَلى كلا الحاليْن ِ، فكلامُه غيْرُ مَقبُوْل. وقَوْلُهُ بِعَدَمِ الاسْتِحْبَابِ تَسْلِيمٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ. فَإِذًا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ. وَإِذَا سَافَرَ لِاعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُسَافِرُ إلَيْهَا إلَّا لِذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ إلَيْهَا لِغَرَضِ مُبَاحٍ فَكَذَا جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ (¬1). تاسعًا: جانَبَ المفتي الصوابَ في قوله إن السلفيين قد اصطدموا بقاعدة متفق عليها أن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، وفي قوله إنه لا يُعقَل أن يكون المقصد مندوبًا ووسيلته محرمة، ويقصد بذلك أن السلفيين مع أنهم يستحبون زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وزيارة قبور المسلمين بصفة عامة يحرّمون السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو قبر الخليل إبراهيم أو قبر أي صالح. ولبيان ذلك يقال: إن قاعدة (الوسائل لها أحكام المقاصد) معناها أن الوسيلة تأخذ صفة الحسن أو القبح بناءً على ما يقصد بها صاحبها، ولكن هذه القاعدة مقيدة بما لا يخالف الشرع. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (27/ 188).

وهنا هذا السفر الذي هو وسيلة إلى مستحب - وهو زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقبور الأولياء - اصطدم بالشرع حيث خالف حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ». وبناءً على قول المفتي إن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، وإنه لا يُعقَل أن يكون المقصد مندوبًا ووسيلته محرمة»، نسأله: «ما رأيكم فيمن يسرق أموال المسلمين لبناء مسجد أو مساعدة مسكين؟». هنا المقصد - بناء مسجد أو مساعدة مسكين - مندوب (مستحب)، فهل تأخذ السرقة حكم الاستحباب أيضًا أم تكون محرمة؟!! إن المسلم إذا أراد أن يصل إلى غاية مشروعة فإن هذه الغاية يوصل إليها بعدة أنواع من الوسائل: النوع الأول: أن تكون الوسيلة منصوصة من الشارع، فهنا لا إشكال فيها. النوع الثاني: أن تكون ممنوعة بالنص من الشارع، فهنا لا إشكال في المنع منها. النوع الثالث: أن تكون موافقة لأصول الشريعة العامة ولا تخالف شيئًا منها، فهنا لا إشكال فيها أيضًا. النوع الرابع: أن تكون مخالفة لأصول الشريعة وقواعدها العامة، فهنا تمنع أيضًا. النوع الخامس: أن لا يكون فيها نص أو معنى يدل على منع أو إباحة. فهذا النوع الخامس هو الذي تطبق عليه قاعدة الفقهاء (الوسائل لها أحكام المقاصد) أي إذا كان المقصد مشروعًا فإن الوسيلة تكون مشروعة بالضوابط المذكورة سابقًا.

المسألة الحادية عشرة المتشددون يتهمون من ترجى بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالشرك الأصغر

المسألة الحادية عشرة المتشددون يتهمون مَن تَرَجَّى بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالشرك الأصغر قال المفتي (ص112) تحت عنوان «المتشددون يتهمون مَن تَرَجَّى بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالشرك الأصغر: «يتهم المتشددون مَن يترجّوْن بمكانة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالشرك ويبادرونه بقولهم: قل لا إله إلا الله، وفي الحقيقة نتج ذلك عن خلط أمرين: الأمر الأول هو ظنهم أن الترجّي بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتأكيد الكلام به من باب الحلف. والأمر الثاني أنهم اعتقدوا أن حكم الحلف بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو نفس حكم الحلف بآلهة المشركين، ونوضح فساد فهمهم في هذين الأمرين فيما يلي: إن الحلف بما هو مُعَظَّم في الشرع كالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والإسلام والكعبة فلا مشابهة فيه لحلف المشركين بوجه من الوجوه، وإنما مَنَعه مَن مَنَعه مِن العلماء أخذًا بظاهر عموم النهي عن الحلف بغير الله ... أما عن الترجي أو تأكيد الكلام بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو بغيره مما لا يُقْصَد به حقيقة الحلف فغير داخل في النهي أصلًا، بل هو أمر جائز لا حرج فيه ... ». الجواب: أولًا: السلفيون في ذلك مُتَّبِعُون لا مُبْتَدِعُون، فقد اعترف المفتي أن الحلف بما هو مُعَظَّم في الشرع كالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والإسلام والكعبة مَنَعه مَن مَنَعه مِن العلماء، فلماذا يشَنّع على السلفيين عندما أخذوا بقول هؤلاء العلماء، ومعهم أحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - التي تنهى عن الحلف بغير الله، وتعدّه من الشرك والكفر ويكفيهم ذلك؛ فقول رسول الله

- صلى الله عليه وآله وسلم - مُقَدَّم على قول كل عالم كائنًا من كان، وهذا منهج الأئمة الأربعة، وقد سبق نقْلُ كلامهم في ذلك (¬1). ثانيًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ» (رواه البخاري ومسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو داود، والترمذي، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني). في هذا الحديث لم يَسْتَثْنِ النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه ولا الكعبة ولا غيرهما. فهذا توجيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فِعْلٌ سمَاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شركًا وكُفْرًا، هل نفعله اتباعًا لقول المفتي؟!! أيهما أولى بالاتباع: النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أم المفتي؟!! ثانيًا: ليس النهي عن الحلف بغير الله مخصوصًا بآلهة المشركين كما يزعم المفتي، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ ابْنَ الخَطَّابِ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلاَ، إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ» (رواه البخاري ومسلم). قال المناوي في فيض القدير عند شرح هذا الحديث: «وتخصيص الآباء خرج على مقتضى العادة، وإلا فحقيقة النهي عامة في كل معظم غير الله» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر (ص 80 - 81) من هذا الكتاب. (¬2) فيض القدير شرح الجامع الصغير (2/ 319)، رقم (1945).

ثالثًا: قد وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - اسْتِنْكَارُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ - سبحانه وتعالى -، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عبد الرزاق وابن أبي شيبة في (مصنفيهما)، والطبراني في (المعجم الكبير) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَال: «لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا»، (قال الهيتمي في مجمع الزوائد: «رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح»، وصححه الألباني). رابعًا: نريد من المفتي الدليل على هذا التفريق بين الحلف بما هو مُعَظَّم في الشرع كالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والإسلام والكعبة، وبين ما ليس بمعظم، وإلا فقد ورد النهي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الحلف بالكعبة، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ قُتَيْلَةَ، امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ: أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ: «مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ»، وَتَقُولُونَ: «وَالْكَعْبَةِ»، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: «وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»، وَيَقُولُوا: «مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ شِئْتَ» (رواه النسائي والحاكم وقال: «صحيح الإسناد»، وصححه الألباني). فهذا كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النهي عن الحلف بالكعبة وإقراره أنه من الشرك، فأيهما أولى بالاتباع: النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أم المفتي؟!! وعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَحَلَفَ رَجُلٌ بِالْكَعْبَةِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» (رواه ابن حبان، وصححه الألباني، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط مسلم»). فهذا كلام عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في النهي عن الحلف بالكعبة، فأيهما أعلم: صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أم المفتي؟!!

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: «إِنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِاللهِ، وَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ آدَمَ أَوْ جِبْرِيلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَزِمَهُ الِاسْتِغْفَارُ لِإقْدَامِهِ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَلَا كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ» (¬1). خامسًا: نقل الحافظ ابن حجر قول ابن هُبَيْرَةَ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ: «وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِمُعَظَّمٍ غَيْرِ اللهِ كَالنَّبِيِّ، وَانْفَرَدَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ فَقَالَ تَنْعَقِدُ» (¬2). ومعنى ذلك أن هناك رواية أخرى عن الإمام أحمد - رحمه الله - بالمنع من الحلف بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلماذا يطعن المفتي في السلفيين وقد أخذوا برأي: • جمهور الأئمة مالك والشافعي وأبي حنيفة. • أو إجماعهم حيث إن هناك رواية أخرى عن الإمام أحمد بالمنع؟!! سادسًا: هل يستطيع المفتي أنْ يطعنَ في الأئمة الأربعة ويتهمَهم بالتشدد كما فعل مع السلفيين الذين أخذوا برأيهم؟!!! مرة أخرى فلْيعلم القارئ الكريم أين يقف المفتي وأين يقف السلفيون!! ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر (11/ 535). (¬2) نفس المصدر والصفحة.

المسألة الثانية عشرة المتشددون يحكمون على والدي المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنار يوم القيامة

المسألة الثانية عشرة المتشددون يَحْكُمون على والِدَي المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنار يوم القيامة قال المفتي (ص116): «هذه واحدة من قضاياهم التي تسيء المسلمين إذا سمعوا بها، وهي أن مصير والدي المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - النار يوم القيامة، تلك القضية التي إذا ضممناها لباقي القضايا لشعورنا (¬1) وكأن مكانة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قلوبهم ليست على القدر المطلوب، وكان (¬2) حبهم للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يصدق. لا شك أن الحب يتنافى مع رغبة الإيذاء لمن يحب، ولا شك كذلك أن الحديث بسوء عن أبويه - صلى الله عليه وآله وسلم - يؤذي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ... (التوبة: 61)، {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} (الأحزاب: 57 (. ولقد نهانا الله صراحة عن أذية رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومشابهة اليهود - لعنهم الله - في ذلك فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} (الأحزاب: 69)» اهـ. ¬

_ (¬1) هكذا، والصواب: لَشَعَرنا، ولعله خطأ طباعي. (¬2) هكذا، والصواب: وكأن، ولعله خطأ طباعي.

الجواب: أولًا: نقول للمفتي: إن القول بأن أبوي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النار تصديق لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وليس إيذاءً له - صلى الله عليه وآله وسلم -. قال الشيخ عطية صقر - رحمه الله -: «ولا يضير أن يكون فى أنساب الأنبياء كافرون، فكل امرئ بما كسب رهين» (¬1). ثانيًا: هل اطلع المفتي على قلوب ملايين السلفيين حتى يزعُم أن مكانة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قلوبهم ليست على القدر المطلوب، وأن حبهم للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يصدق، وأنهم يرغبون في إيذاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بحديثهم بسوء عن أبويه - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!! ثالثًا: هاهنا سؤال لعلماء الأزهر: من المعلوم أن أذية رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الكفر، فهل هذا الكلام من المفتي يعتبر تكفيرًا للسلفيين؟ وإن كان الأمر كذلك فهل يحكم المفتي بالكفر على الإمام مسلم الذي روى حديثين يدلان على أن أبوي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النار، فقد روى مسلم في صحيحه - وهو أحد أصَحّ كتابين بعد كتاب الله - سبحانه وتعالى - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟»، قَالَ: «فِي النَّارِ»، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ». وهل يحْكُمُ المفتي بالكفر على الإمام النووي - رحمه الله - (¬2) الذي قال في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم في شرح (باب بَيَانِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَلَا تَنَالُهُ شَفَاعَةٌ وَلَا تَنْفَعُه قَرَابَةُ المُقَرَّبِين): «فِيهِ: أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر فَهُوَ فِي النَّار، وَلَا تَنْفَعهُ قَرَابَة الْمُقَرَّبِينَ. ¬

_ (¬1) في فتوى له بتاريخ مايو 1997، انظر: فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com . (¬2) ولا يستطيع أحد أن يزعم أن المفتي يَعتبِر الإمام النووي من السلفيين المتشددين؛ فقد وصفه المفتي (ص 73) بأنه إمام الشافعية.

وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَة عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَب مِنْ عِبَادَة الْأَوْثَان فَهُوَ مِنْ أَهْل النَّار. وَلَيْسَ هَذَا مُؤَاخَذَة قَبْل بُلُوغ الدَّعْوَة، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَة إِبْرَاهِيم وَغَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء - صَلَوَات اللهِ تَعَالَى وَسَلَامه عَلَيْهِمْ-. وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّار» هُوَ مِنْ حُسْن الْعِشْرَة لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَة، وَمَعْنَى (قَفَى) وَلَّى قَفَاهُ مُنْصَرِفًا» (¬1). وروى مسلم أيضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ». قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ» (¬2). وقد قال بقول الإمامِ النوويِّ بكُفْر والدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الإمامُ مسلم (¬3)، والإمامُ أبو داود صاحب السنن (¬4)، والإمامُ النسائي (¬5)، والإمامُ ابن ماجة (¬6)، والإمامُ أبو حنيفة النعمان (¬7)، وشمسُ الدين السرخسي الحنفي (¬8)، وزَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ (¬9)، ¬

_ (¬1) ((شرح النووي على مسلم (3/ 79). (¬2) شرح النووي على مسلم (7/ 45). (¬3) حيث روى في صحيحه الحديثين السابقين. (¬4) حيث روى نفس الحديث مع أحاديث أخرى وعنون عليها: باب في ذراري ـ أي أبناء ـ المشركين. (¬5) حيث روى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وعنون عليه: باب زيارة قبر المشرك. (¬6) حيث روى هو أيضا نفس الحديث وعنون عليه: باب ما جاء في زيارة قبور المشركين. (¬7) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين الحنفي (3/ 202). (¬8) المبسوط في شرح الكافي (27/ 138). (¬9) أَسْنَى الْمَطَالِبِ فِي شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ (4/ 263).

والقاضي عياض المالكي (¬1)، والبيهقي الشافعي (¬2) وابن الجوزي الحنبلي (¬3)، والحافظ ابن كثير الشافعي (¬4)، وشهاب الدين القرافي المالكي (¬5). وقد بسط الكلام في عدم نجاة والدَي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العلامة الحنفي الملاّ علي القاري في (شرح الفقه الأكبر)، وفي رسالة مستقلة أسماها: (أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول - عليه الصلاة والسلام -)، نقل في أولها قول الإمام أبي حنيفة في كتابه (الفقه الأكبر): «ووالدا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ماتا على الكفر». وقد أثبت الملاّ علي القاري في ذلك الكتاب تواتر الأدلة والأحاديث على صِحّة معنى هذا الحديث وعدم نجاة والدي الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد نقل الإجماع على تلك القضية فقال: «وأما الإجماع فقد اتفق السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين على ذلك، من غير إظهار خلافٍ لما هُنالك. والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق، سواء يكون من جنس المخالف أو صنف الموافق» (¬6). ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم (7/ 46). (¬2) دلائل النبوة (1/ 192، 193)، سنن البيهقي (7/ 190). وقال في (الدلائل 1/ 192 193): «وكفرُهم لا يقدح في نسب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يُسْلِمون مع زوجاتهم، فلا يلزمهم تجديد العقد، ولا مفارقتهن؛ إذ كان مثله يجوز في الإسلام». (¬3) الموضوعات (1/ 284). (¬4) البداية والنهاية (3/ 429). (¬5) شرح تنقيح الفصول (ص297). (¬6) أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول - عليه الصلاة والسلام -، (ص84).

وأخيرًا لابد أن يُعلم أن هذا الاتهام الصادر من المفتي في حق السلفيين هو في الحقيقة متوجه لمن ذكرنا من العلماء لو التزم بذلك المفتي، فهل كل هؤلاء العلماء كانوا يقصدون إيذاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهل كانوا من المتشددين؟!! ومرةً أخرى فلْيعلم القارئ أين يقف السلفيون وأين يقف المفتي!!! ومن أراد التوسع في الرد على شبهات المفتي في هذه المسألة فليقرأ كتاب العلامة الحنفي الملاّ علي القاري (أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول - عليه الصلاة والسلام -).

المسألة الثالثة عشرة: المتشددون ينفون أي إدراك للميت وشعوره بمن يزوره

المسألة الثالثة عشرة المتشددون يَنْفون أي إدراك للميت وشعوره بمن يزوره قال المفتي (ص123): «ويسلك المتشددون مسلكًا خطيرًا يميل للمادية البغيضة فينكرون أي إدراك للميت، وينفون شعوره بمن يزوره». الجواب: من التناقض العجيب أن المفتي يتهم السلفيين بهذا الاتهام ثم يرد على نفسه فيستدل لرأيه بكلام اثنين من علماء السلفيين الذين يعتبرهم من المتشددين حيث ينقل مِن كلامهم ما يَدُل على نفْي التهمة عنهم أصلًا. فقد كفانا المفتي مؤنة الرد بأن نقل (ص125) - بعد صفحتين من كلامه السابق - كلامًا لشيخ الإسلام ابن تيمية يؤيد رأيه، ونقل كذلك (ص126) عن ابن القيم كلامًا مشابهًا. وهنا ننقل جزءًا من كلامَيْهما. سُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «هَلْ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ كَلَامَ زَائِرِهِ؟». فَأَجَابَ: «نَعَمْ، يَسْمَعُ الْمَيِّتُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ». وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عتبة بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا». فَسَمِعَ عُمَرُ - رضي الله عنه - ذَلِكَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَسْمَعُونَ وَأَنَّى يُجِيبُونَ وَقَدْ جُيِّفُوا؟» فَقَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتَ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا». ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ.

وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟». وَقَالَ: «إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ». وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ. وَيَقُولُ: «قُولُوا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ». فَهَذَا خِطَابٌ لَهُمْ وَإِنَّمَا يُخَاطَبُ مَنْ يَسْمَعُ» (¬1). وقال ابن القيم - رحمه الله -: «وقد شرع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمته إذا سلّموا على أهل القبور أنْ يُسَلموا عليهم سلامَ مَن يخاطبونه فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين»، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا (¬2)، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به» (¬3). تنبيه الحياة البرزخية لها حقيقة لا اطلاع لنا عليها، لدخولها في علم الغيب الذي استأثر الله به، ومن زعم أن الحياة البرزخية كالحياة الدنيا فقد أتى بما ليس عليه دليل. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (24/ 362 - 363). (¬2) من الطريف أن المفتي كتبها في كتابه هكذا: «والمتشددون مجمعون على هذا». (¬3) الروح (ص 5).

المسألة الرابعة عشرة: المتشددون ينكرون ذكر الله كثيرا ويمنعون الأوراد

المسألة الرابعة عشرة المتشددون ينكرون ذِكْرَ الله كثيرا ويمنعون الأوراد قال المفتي (ص127): «بعد أن حاصر المتشددون أغلب المسلمين في حياتهم وسلوكهم ومساجدهم ذهبوا ليحاصروهم في خلواتهم ومجالس ذكرهم لله - سبحانه وتعالى -، فنهوا الناس عن ذِكْر الله بأعداد كثيرة، ونهوا كذلك عن ذكر الله بالأوراد والأحزاب .... ومن وسائل محافظة المسلم على كثرة الذكر هو أن يُلزم نفسه بورد معين يحافظ عليه كل يوم وليلة، إلا أن المتشددين رفضوا ذلك أيضًا كما رفضوا كثرة الذكر، ولا نعلم أحدًا ينهى عن الذكر من مريدي الخير». الجواب: أولًا: مِن أين جاء المفتي بتلك الاتهامات؟!! مَن مِن السلفيين رفَضَ كثرة الذكر؟ ومَن مِنهم نهى عن ذكر الله؟!! ومَن مِنهم نهى الناس عن ذِكْر الله بأعداد كثيرة، ومَن مِنهم نهى الناس عن ذكر الله بالأوراد والأحزاب؟!! نريد من المفتي البينة على هذا الادعاء!!! ثانيًا: يؤمن السلفيون – كما يؤمن جميعُ المسلمين - أنّ ذِكْرَ الله - سبحانه وتعالى - على وجه العموم مشروع ومستحب في جميع الأوقات لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الأحزاب: 41ـ42). وقال تعالى: { ... وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 35). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ»، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» (رواه الإمام أحمد والترمذي، وابن ماجه وصححه الألباني والأرنؤوط). ولا بأس أن يُلْزِمَ المرء نفسه بأوراد من أذكار بأعداد معينة تحصيلًا للأجر العظيم، وترطيبًا للسان، وتزكية للنفس، شريطة أن لا يعتقد أي فضيلة لهذه الأعداد التي لم تَرِدْ في السُّنة، وإنما يفعل ذلك من باب ضبط الوقت، وكذلك أن لا يعتقد أن المداومة على هذه الأعداد سُنَّة راتبة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ومن تأمل حال السلف الصالح وجد أن أكثرهم كانوا يُلزمون أنفسهم بأوراد من الصلوات والأذكار والقراءة زائدة على ما ورد في السنة المطهرة ويحتجون على مشروعيتها بعمومات الكتاب والسنة الواردة في فضل الذكر والصلاة وغيرهما، ومن يطلع على سِيَرِهم رضوان الله عليهم يقف على صحة ذلك (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَأَمَّا مُحَافَظَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَوْرَادٍ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ: فَهَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فَمَا سُنَّ عَمَلُهُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ كَالْمَكْتُوبَاتِ: فُعِلَ كَذَلِكَ. ¬

_ (¬1) راجع كتاب سير أعلام النبلاء أو تاريخ الإسلام للإمام الذهبي.

وَمَا سُنَّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ مِنْ الْأَوْرَادِ عُمِلَ كَذَلِكَ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ - رضي الله عنهم - يَجْتَمِعُونَ أَحْيَانًا: يَأْمُرُونَ أَحَدَهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ» (¬1). والأذكار والأدعية على قسمين: الأول: الأذكار الواردة في الكتاب والسنة مقيدة إما بزمان أو بمكان أو بحال، فهذا القسم يؤتى به على الوجه الذي ورد في زمانه، أو حاله، أو مكانه، أوفي لفظه، أوفي هيئة الداعي به من غير زيادة ولا نقصان. القسم الثاني: كل ذكر أو دعاء مطلق غير مقيد بزمان أو مكان، فهذا له حالتان: الأولى: أن يكون وَرَدَ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيُؤْتَى بلفظه ولا يُحَدَّد بزمان أو مكان يخص به، أو بعدد يلتزم به. الثانية: أن يكون غير وارد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بل أتى به الداعي من عند نفسه أو من المنقول عن السلف؛ فيجوز للعبد الذكر والدعاء به بخمسة شروط: 1 - أن يتخير من الألفاظ أحسَنَها وأبْيَنَها؛ لأنه مقام مناجاة العبد لربه ومعبوده - سبحانه وتعالى -. 2 - أن تكون الألفاظ على وفق المعنى العربي. 3 - أن يكون الدعاء خاليًا من أي محذور شرعي، كالاستغاثة بغير الله - سبحانه وتعالى -، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 521)، وعزاه المفتي (في هامش ص129) للفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي (2/ 385). ولم أجده فيه فلعله يقصد الفتاوى الكبرى لابن تيمية، فإن هذا النص موجود فيه.

4 - أن يكون في باب الذكر والدعاء المطلق فلا يقيد بزمان أو حال أو مكان. 5 - أن لا يتخذ ذلك سنة يواظب عليها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كتاب تصحيح الدعاء للشيخ بكر أبي زيد (ص42).

تنبيه قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَالْمَشْرُوعُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ نَهَانَا اللهُ عَنْ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّبِعَ فِيهِ مَا شُرِعَ وَسُنَّ، كَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَاَلَّذِي يَعْدِلُ عَنْ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحْزَابِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ لَا يَفُوتَهُ الْأَكْمَلُ الْأَفْضَلُ، وَهِيَ الْأَدْعِيَةُ النَّبَوِيَّةُ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَهَا بَعْضُ الشُّيُوخِ. وَمِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَيْبًا مَنْ يَتَّخِذُ حِزْبًا لَيْسَ بِمَأْثُورٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَإِنْ كَانَ حِزْبًا لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَيَدَعُ الْأَحْزَابَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي كَانَ يَقُولُهَا سَيِّدُ بَنِي آدَمَ، وَإِمَامُ الْخَلْقِ، وَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬1). حُكمُ اختراعِ أذكارٍ وَجَعْلهَا عِبَادَةً رَاتِبَةً: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَذْكَارَ وَالدَّعَوَاتِ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَالِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ فَالْأَدْعِيَةُ وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَحَرَّاهُ الْمُتَحَرِّي مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَسَالِكُهَا عَلَى سَبِيلِ أَمَانٍ وَسَلَامَةٍ، وَالْفَوَائِدُ وَالنَّتَائِجُ الَّتِي تَحْصُلُ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ إنْسَانٌ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ الْأَذْكَارِ قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ شِرْكٌ مِمَّا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَهِيَ جُمْلَةٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا. وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَسُنَّ لِلنَّاسِ نَوْعًا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ غَيْرِ الْمَسْنُونِ وَيَجْعَلَهَا عِبَادَةً رَاتِبَةً يُوَاظِبُ النَّاسُ عَلَيْهَا كَمَا يُوَاظِبُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ ¬

_ (¬1) باختصار من الفتاوى الكبرى (3/ 170).

بَلْ هَذَا ابْتِدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ اللهُ بِهِ؛ بِخِلَافِ مَا يَدْعُو بِهِ الْمَرْءُ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلنَّاسِ سُنَّةً فَهَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى مُحَرَّمًا لَمْ يَجُزْ الْجَزْمُ بِتَحْرِيمِهِ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ وَالْإِنْسَانُ لَا يَشْعُرُ بِهِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَدْعُو بِأَدْعِيَةِ تُفْتَحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ قَرِيبٌ. وَأَمَّا اتِّخَاذُ وِرْدٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَاسْتِنَانُ ذِكْرٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ: فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَمَعَ هَذَا فَفِي الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ الصَّحِيحَةِ وَنِهَايَةُ الْمَقَاصِدِ الْعَلِيَّةِ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُفَرِّطٌ أَوْ مُتَعَدٍّ» (¬1). فالحاصل أنه ليس كل وِرْدٍ ذِكْرًا، فالأوراد الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يمنع منها أحدٌ من السلف وتابعيهم، إنما ينهون عن الأوراد المبتَدَعة والشركية. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 510 - 511).

المسألة الخامسة عشرة أكثر المتشددين يمنعون استعمال السبحة في الذكر ويرونها بدعة وضلالة

المسألة الخامسة عشرة أكثر المتشددين يمنعون استعمال السبحة في الذكر ويرونها بدعة وضلالة قال المفتي (ص132): «أكثر المتشددين يمنعون استعمال السبحة في الذكر ويرونها بدعة وضلالة، لم يتوقف المتشددون عن صَدّ الناس عن الذكر بِنَهْيِهِم عن ذكر الله كثيرًا، وبِنَهْيِهِم عن الأوراد والأحزاب، وإنما بحثوا عن وسائل الناس التي تمكّنهم مِن ذكر الله كثيرًا فحكموا عليها بالبدعة والضلالة، ونهوا عن ذلك وشنَّعوا عليه، هذه الوسيلة هي السبحة التي نراها في أيدي الذاكرين». الجواب: أولًا: لأول مرة لا يعمم المفتي الحكم على السلفيين بل يحكم على معظمهم، ومرةً أخرى نطالبه بالإحصائيات. وهل من وافقه من السلفيين في مسألة السبحة يستحقون منه الثناء أم أنهم ما زالوا يستحقون وصْف المتشددين؟!!! ثانيًا: عَدُّ الذِّكْر بالأنامل (أصابع اليد) ثبت مِن هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قولًا , وفعلًا , وتقريرًا , ودرجَ على ذلك الصحابة - رضي الله عنهم - ومَن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا , فهو من السُّنن المستقرة , والعمل المتوارث لدى الأُمة , تأسِّيًا بنبيها - صلى الله عليه وآله وسلم -، وما زال المسلمون يقومون بهذا الذكر العددي المبارك , ويعقدون تعداده بأنامل اليدين , أو أنامل اليد اليمنى , دون حاجة إلى وسيلة أخرى , من حصى , أو نوى , أو سُبْحة منظومة , أو آلة مصنوعة. وهذا هو الذي يوافق يُسْر الإِسلام , وسهولة التشريع , وأن أحكامه في قدرة المكلفين على اختلاف طبقاتهم. وهذا دأب هذه الشريعة المباركة في التيسير. فعَدُّ الأَذكار العَدَدِيَّة بالأنامل سُنَّةٌ ماضية في الإِسلام , ومن العمل المتوارث بين المسلمين، فعن حُمَيْضَةَ بِنْتِ يَاسِرٍ، عَنْ جَدَّتِهَا يُسَيْرَةَ، وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ،

قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولاَتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلاَ تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ». (رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي، وأبو داود، وابن حبان وصححه الذهبي، وحسنه النووي، والحافظ ابن حجر، والألباني) (¬1). ثالثًا: مسألة التسبيح بالمسبحة مسألة اجتهادية اختلف فيها العلماء، ومن ذهب من العلماء إلى جواز التسبيح بالمسبحة قال: إن التسبيح باليد أفضل. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة: «وَالتَّسْبِيحُ بِالْمَسَابِحِ مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: أَنَّ التَّسْبِيحَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ بِالْأَصَابِعِ وَغَيْرِهَا» (¬2). وقال أيضًا: «عَدُّ التَّسْبِيحِ بِالْأَصَابِعِ سُنَّةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِلنِّسَاءِ: «سَبِّحْنَ وَاعْقِدْنَ بِالْأَصَابِعِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ». ¬

_ (¬1) (قَالَ لَنَا) أَيْ مَعْشَرِ النِّسَاءِ (عَلَيْكُنَّ) اِسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى اِلْزَمْنَ وَأمْسِكْنَ (بِالتَّسْبِيحِ) أَيْ بِقَوْلِ سُبْحَانَ الله، (وَالتَّهْلِيلِ) أَيْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، (وَالتَّقْدِيسِ) أَيْ قَوْلِ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ أَوْ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ. (وَاعْقِدْنَ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ اُعْدُدْنَ عَدَدَ مَرَّاتِ التَّسْبِيحِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْه (بِالْأَنَامِلِ) أَيْ بِعِقْدِهَا أَوْ بِرُءُوسِهَا يُقَالُ عَقَدَ الشَّيْءَ بِالْأَنَامِلِ عَدَّهُ. وَالْأَنَامِلُ جَمْعُ أُنْمُلَةٍ: الَّتِي فِيهَا الظُّفْرُ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْأَصَابِعُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ. (فَإِنَّهُنَّ) أَيْ الْأَنَامِلَ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ (مَسْئُولَاتٌ) أَيْ يُسْأَلْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا اِكْتَسَبْنَ وَبِأَيِّ شَيْءٍ اُسْتُعْمِلْنَ، (مُسْتَنْطَقَاتٌ) بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ مُتَكَلِّمَاتٌ بِخَلْقِ النُّطْقِ فِيهَا فَيَشْهَدْنَ لِصَاحِبِهِنَّ أَوْ عَلَيْهِ بِمَا اِكْتَسَبَهُ. (وَلَا تَغْفُلْنَ) أَيْ عَنْ الذِّكْرِ، يَعْنِي لَا تَتْرُكْنَ الذِّكْرَ، (فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ) بِفَتْحِ التَّاءِ بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ مِنْ النِّسْيَانِ أَيْ فَتَتْرُكْنَ الرَّحْمَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ التَّاءِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ الْإِنْسَاءِ، قَالَ الْقَارِي: وَالْمُرَادُ بِنِسْيَانِ الرَّحْمَةِ نِسْيَانُ أَسْبَابِهَا أَيْ لَا تَتْرُكْنَ الذِّكْرَ فَإِنَّكُنَّ لَوْ تَرَكْتُنَّ الذِّكْرَ لَحُرِمْتُنَّ ثَوَابَهُ فَكَأَنَّكُنَّ تَرَكْتُنَّ الرَّحْمَةَ». اهـ باختصار من تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري (10/ 21). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 187).

وَأَمَّا عَدُّهُ بِالنَّوَى وَالْحَصَى وَنَحْوُ ذَلِكَ فَحَسَنٌ وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُسَبِّحُ بِالْحَصَى وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُسَبِّحُ بِهِ. وَأَمَّا التَّسْبِيحُ بِمَا يُجْعَلُ فِي نِظَامٍ مِنْ الْخَرَزِ وَنَحْوِهِ (¬1) فَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ وَإِذَا أحْسِنَتْ فِيهِ النِّيَّةُ فَهُوَ حَسَنٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَأَمَّا اتّخَاذُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ إظْهَارُهُ لِلنَّاسِ مِثْلُ تَعْلِيقِهِ فِي الْعُنُقِ أَوْ جَعْلِهِ كَالسُّوَارِ فِي الْيَدِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا إمَّا رِيَاءٌ لِلنَّاسِ أَوْ مَظِنَّةُ الْمُرَاءَاةِ وَمُشَابَهَةِ الْمُرَائِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ: الْأَوَّلُ مُحَرَّمٌ، وَالثَّانِي أَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ؛ فَإِنَّ مُرَاءَاةَ النَّاسِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ» (¬2). وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية: «التسبيح باليد أفضل ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه اتخذ لنفسه مسبحة يسبح الله بها فيما نعلم، والخير كل الخير في اتباعه - صلى الله عليه وآله وسلم -. واستخدام المسبحة في عدد التسبيح أو الذكر مباح؛ لكن استعمال الأصابع أفضل منها، أما إذا اعتقد أن في استعمال المسبحة فضيلة فهذا بدعة لا أصل له، وهو من عمل الصوفية» (¬3). وقال الشيخ ابن عثيمين: «السبحة ليست بدعة دينية، وذلك لأن الإنسان لا يقصد التعبد لله بها، وإنما يقصد ضبط عدد التسبيح الذي يقوله، أو التهليل، أو التحميد، أو التكبير، فهي وسيلة وليست مقصودة، ولكن الأفضل منها أن يعقد ¬

_ (¬1) كالمسبحة المعروفة. (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 506). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/ 231)، (25/ 77).

الإنسان التسبيح بأنامله - أي بأصابعه - لأنهن «مُسْتَنْطَقَاتٌ» كما أرشد إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولأن عَدَّ التسبيح ونحوه بالمسبحة يؤدي إلى غفلة الإنسان، فإننا نشاهد كثيرًا من أولئك الذين يستعملون المسبحة نجدهم يسبحون وأعينهم تدور هنا وهناك لأنهم قد جعلوا عدد الحبات على قدر ما يريدون تسبيحه أو تهليله أو تحميده أو تكبيره، فتجد الإنسان منهم يعدّ هذه الحبات بيده وهو غافل القلب، يتلفت يمينًا وشمالًا، بخلاف ما إذا كان يعدها بالأصابع فإن ذلك أحْضَرُ لقلبه غالبًا. الشيء الثالث: أن استعمال المسبحة قد يدخله الرياء، فإننا نجد كثيرًا من الناس الذين يحبون كثرة التسبيح يعلقون في أعناقهم مسابح طويلة كثيرة الخرزات، وكأن لسان حالهم يقول: انظروا إلينا فإننا نسبح الله بقدر هذه الخرزات. وأنا أستغفر الله أن أتهمهم بهذا، لكنه يخشى منه، فهذه ثلاثة أمور كلها تقتضي بأن يتجنب الإنسان التسبيح بالمسبحة، وأن يسبح الله سبحانه وتعالى بأنامله. وعلى هذا فإن التسبيح بالمسبحة لا يعد بدعة في الدين؛ لأن المراد بالبدعة المنهي عنها هي البدع في الدين، والتسبيح بالمسبحة إنما هو وسيلة لضبط العدد، وهي وسيلة مرجوحة مفضولة، والأفضل منها أن يكون عَدّ التسبيح بالأصابع» (¬1). ولْيعْلم القارئ أن الأقوال السابقة إنما هي لعلماء سلفيين من القُدماء والمعاصرين يذهبون إلى عدم بدعية السبحة. رابعًا: مما سبق يتبين أنّ مَن قال من العلماء بجواز العَدّ بالنوى والحصى استدل بفعل الصحابة - رضي الله عنهم - وإقرار الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - على ذلك، أو اعتبر التسبيح بها وسيلة لضبط العدد. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (13/ 240 - 242) باختصار.

خامسًا: ذهب بعض العلماء إلى أن السُّبْحة بدعة مخالِفَةٌ لهديه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وضعَّفوا الأحاديث والآثار التي استدل بها المجَوّزون؛ قال المباركفوري: «ولم يثبت عَدّ التسبيح بالحصى أو النوى مرفوعًا من فعله أو قوله أو تقريره - صلى الله عليه وآله وسلم -، والخير إنما هو في اتباع ما ثبت عنه لا في ابتداع من خلف» (¬1). وقال المانعون إن استعمال المسبحة يقضي على سُنَّة العَدّ بالأصابع، وقالوا إن التسبيح بالمسبحة بدعة مضافة في التعبد بالأَذكار والأوراد , وعُدُولٌ عن الوسيلة المشروعة - العَدَّ بالأنامل - التي دَلَّ عليها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله وفعله , وتوارثه المهتدون بهديه المقتفون لأَثره إلى يومنا هذا , وإلى هديه - صلى الله عليه وآله وسلم - يُرد أمر الخلاف , وبه يتحرر الصحيح عند النزاع (¬2). سادسًا: المسألة اجتهادية ومن ذهب من العلماء إلى بدعية السبحة فهذا اجتهاده وهو دائر بين الأجر والأجرين طالما بذل وسعه واعتمد على أدلة شرعية ولم يتبع هواه. ¬

_ (¬1) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 471). (¬2) انظر: السُّبْحة، تاريخها وحكمها للشيخ بكر أبي زيد، السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني (1/ 185 - 193)، السلسلة الصحيحة له أيضًا (1/ 48).

المسألة السادسة عشرة المتشددون يتمسكون بالظاهر ويتعبدون بالثياب (ثوب الشهرة - النقاب)

المسألة السادسة عشرة المتشددون يتمسكون بالظاهر ويتعبدون بالثياب (ثوب الشهرة - النقاب) قال المفتي (ص138): «المتشددون يتعبَّدون بالثياب (ثوب الشهرة - النقاب)، المتشددون ميزوا أنفسهم بين المسلمين بشكلهم في الظاهر، فيمكن معرفتهم بمجرد النظر في الناس فإذا وجدتَ شخصًا يرتدي قميصًا (¬1) قصيرًا فاعلم أنه من المتشددين، وإن رأيت امرأةً ترتدي النقاب فاعلم أنها متشددة». وقال: (ص140): «إن ما اصطلح عليه الناس من نوع وهيئة للزي ما دام في الإطار العام للقاعدة الكلية للثوب الشرعي بكونه لا يصف ولا يشفّ ولا يكشف، وليس من لباس الشهرة (¬2) فهو مباح. ومراعاة زي الزمان من المروءة ما لم يكن إثمًا». الجواب: أولًا: ثوب الشهرة: نقول للمفتي: ما المخالفات التي خالف فيه السلفيون كلامه الثاني (ص140) حتى يرميهم بما رماهم به في كلامه الأول (ص138)؟!! ما الذي يخالف فيه السلفيون زي أهل زمانهم حتى يتهمهم المفتي بأنهم يلبسون ثوب شهرة، وينزّل عليهم حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا، أَلْبَسَهُ ¬

_ (¬1) ((وهو ما يسمى في العامية المصرية بالقفطان. (¬2) ((ويشترط أيضًا أن يكون ساترًا للعورة، وأن لا يشبه لباس الكفار والكافرات في أزيائهم الخاصة بهم، وأن لا يشبه لباس الرجل لباس المرأة وألا يشبه لباس المرأة لباس الرجل، ويشترط في لباس المرأة أيضًا أن لا يكون زينة في نفسه، وأن لا يكون مبخرًا مطيبًا.

اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا» (رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني). ما هو ثوب الشهرة؟ قال السندي: «قَوْلُهُ: (ثَوْبُ شُهْرَةٍ) أَيْ: مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا يَقْصِدُ بِهِ الِاشْتِهَارَ بَيْنَ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ نَفِيسًا يَلْبَسُهُ تَفَاخُرًا بِالدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، أَوْ خَسِيسًا يَلْبَسُهُ إِظْهَارًا لِلزُّهْدِ وَالرِّيَاءِ» (¬1). وقال السيوطي: «أَرَادَ مَا لَا يحل لبسه، أَو مَا يقْصد بِهِ التفاخر والتكبر، أَو يَتَّخِذهُ المتزهد ليشهر نَفسه بالزهد، أَو مَا يلْبسهُ المتفقهة من لبس الْفُقَهَاء وَالْحَال أَنه من السُّفَهَاء، وَمَا يشْعر بِهِ المتعبد من عَلامَة السِّيَادَة كَالثَّوْبِ الْأَخْضَر» (¬2). ونقل الصديقي العظيم آبادي عن ابن الْأَثِيرِ قوله: «الشُّهْرَةُ ظُهُورُ الشَّيْءِ وَالْمُرَادُ أَنَّ ثَوْبَهُ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ لِمُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لِأَلْوَانِ ثِيَابِهِمْ فَيَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهَمْ وَيَخْتَالُ عَلَيْهِمْ بِالْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرِ» (¬3). ونقل المفتي (ص141) عن الشوكاني قوله: «وَإِذَا كَانَ اللُّبْسُ لِقَصْدِ الِاشْتِهَارِ فِي النَّاسِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ رَفِيعِ الثِّيَابِ وَوَضِيعِهَا وَالْمُوَافِقِ لِمَلْبُوسِ النَّاسِ وَالْمُخَالِفِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَدُورُ مَعَ الِاشْتِهَارِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْقَصْدُ وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ الْوَاقِعَ» (¬4). ونسأل المفتي بعد هذه النقول، وليحكم القارئ الكريم بنفسه: هل اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في نهيه عن إسبال الثياب ثوب شهرة، وهل اتباع المسلمة لأمر ربها في لبس ¬

_ (¬1) حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 378). (¬2) شرح السيوطي لسنن ابن ماجه (1/ 257). (¬3) عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد آبادي (11/ 50). (¬4) نيل الأوطار (2/ 111).

النقاب يُعَدُّ ثوب شهرة، بيننا وبينك ما نقلناه ونقلْتَه أنت عن العلماء، وعند الله تجتمع الخصوم. ثانيًا: تقصير الثياب: قال المفتي (ص138): «إذا وجدتَ شخصًا يرتدي قميصًا (¬1) قصيرًا فاعلم أنه من المتشددين». وله نقول: أولًا: هل كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - متشدّدًا عندما نهى عن الإسبال؟ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ» (رواه البخاري). وعَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ - رضي الله عنه - أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أوصاه فَقَالَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَإِنْ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تَشْتُمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَكَ أَجْرُهُ، وَعَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ، فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَلَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا» (رواه الإمام أحمد، وصححه الأرنؤوط). وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَفِي إِزَارِي اسْتِرْخَاءٌ، فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللهِ، ارْفَعْ إِزَارَكَ» (رواه مسلم). سؤال: لو تخيلنا أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - جاءنا وقال لنا ـ كما قال لابن عمر ـ: «ارْفَعْ إِزَارَكَ»، فهل سنقول: «سمعًا وطاعة يا رسول الله»؟!! أم سنقول إن هذا شعار المتشددين. ¬

_ (¬1) ((وهو ما يسمى في العامية المصرية بالقفطان.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي: «قَالَ ابن الْعَرَبِيِّ (¬1): «لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُجَاوِزَ بِثَوْبِهِ كَعْبَهُ (¬2) وَيَقُولُ لَا أَجُرُّهُ خُيَلَاءَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ تَنَاوَلَهُ لَفْظًا، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ حُكْمًا أَنْ يَقُولَ لَا أَمْتَثِلُهُ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ فِيَّ فَإِنَّهَا دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ بَلْ إِطَالَتُهُ ذَيْلَهُ دَالَّةٌ عَلَى تَكَبُّرِهِ» اهـ مُلَخَّصًا. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِسْبَالَ يَسْتَلْزِمُ جَرَّ الثَّوْبِ وَجَرُّ الثَّوْبِ يَسْتَلْزِمُ الْخُيَلَاءَ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ اللَّابِسُ الْخُيَلَاءَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بن منيع من وَجه آخر عَن ابن عُمَرَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ رَفَعَهُ (¬3): «وَإِيَّاكَ وَجَرَّ الْإِزَارِ فَإِنَّ جَرَّ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ» (¬4). ونسأل المفتي: هل الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي والإمام ابن العربي المالكي من المتشددين؟!! وقد حدّثني الأستاذ الدكتور محمد بكر حبيب، الأستاذ بجامعة الأزهر أنه كان يلتقي والدكتور علي جمعة في الدراسات العليا مع المشايخ وهو بقميص قصير وقلنسوة (طاقية)، وقد زاره في بيته في ذلك الوقت، وهو بهذه الهيئة " اهـ. فما بال الدكتور علي جمعة ينكر على السلفيين التزامهم بسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، التي التزمها فترة من الزمن؟!! ¬

_ (¬1) ((المالكي. (¬2) ((الكَعْب: العظم الناتئ عند ملتقى الساق والقدم، وفي كل قدم كعبان عن يمينها وعن يسارها، والعامة تسمي العقب كعبًا. (انظر المعجم الوسيط (2/ 496). (¬3) ((أي رواه من قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. (¬4) ((فتح الباري (10/ 264).

على الهواء مباشرة المفتي يدافع عن السلفيين

ثالثًا: مسألة النقاب: قال المفتي (ص138): «إن رأيت امرأةً ترتدي النقاب فاعلم أنها متشددة». وله نقول: نقل العلماء اتِّفَاقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ مَنْعِ النِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ سَافِرَاتِ الْوُجُوهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَثْرَةِ الفُسَّاقِ (¬1). وقال أبو حامد الغزالي - رحمه الله -: «لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات» (¬2). ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي «اسْتِمْرَارُ الْعَمَلِ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْأَسْفَارِ مُنْتَقِبَاتٍ لِئَلَّا يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ» (¬3). وقال القاضي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ: «الْأَصَحُّ حُرْمَةُ خُرُوجِهِنَّ سَافِرَاتِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْحَرَامِ الَّذِي هُوَ النَّظَرُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ» (¬4). على الهواء مباشرةً المفتي يدافع عن السلفيين: قال المفتي الدكتور علي جمعة على قناة اقرأ الفضائية: «قضية النقاب يَرَى فَرْضِيَّتَها الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والإمام أحمد بن حنبل». ونسأل المفتي: هل أخطأ السلفيون عندما أخذوا برأي الأئمة الثلاثة الشافعي وأبي حنيفة وأحمدَ بنِ حنبل؟!! ¬

_ (¬1) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد آبادي (4/ 106)، أَسْنَى الْمَطَالِبِ فِي شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ (14/ 271)، خلاصة الفوائد الحموية في شرح البهجة الوردية (14/ 180) كلاهما للقاضي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ، حاشية إعانة الطالبين للعلامة البكري الدمياطي (3/ 300)، تُحْفَةَ الْمُحْتَاجِ بِشَرْحِ الْمِنْهَاجِ لابن حجر الهيتمي الشافعي (29/ 210). (¬2) إحياء علوم الدين (4/ 729). (¬3) فتح الباري (9/ 337). (¬4) خلاصة الفوائد الحموية في شرح البهجة الوردية للقاضي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ (14/ 188).

أمنية!!

هل الأئمة الثلاثة من المتشددين؟ هل كان الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والإمام أحمد بن حنبل من المتشددين؟ وهل المفتي نفسه من السلفيين المتشددين؟ أمنية!! وصَفَ المفتي مَن ترتدي النقاب بأنها متشددة، وكنا ننتظر من المفتي بدلًا من تحذير المسلمين من النقاب - الذي يَرَى فَرْضِيَّته الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والإمام أحمد بن حنبل - أنْ يحذرهم من لبس المايوهات والملابس القصيرة وملابس الكاسيات العاريات، ومن مشاهدة الأفلام والمسلسلات التي تظهر فيها النساء بتلك الملابس. أليست تلك الملابس تخالف ما ذكره المفتي من ضوابط في كتابه (ص140)؟

المسألة السابعة عشرة المتشددون قدموا السعي على العلم

المسألة السابعة عشرة المتشددون قدّموا السعيَ على العلم قال المفتي (ص149): «من أهم المشكلات المنهجية لهذا التيار المتشدد هي السعي قبل الوعي، والخلط بين الوعظ وبين العلم، فيستخدمون مجالس الوعظ والتذكير بالله للإفتاء مما ينشر الجهل ويفرق المسلمين؛ فهل قَلَّ العلماء لينتشر الجهل؟!!». الجواب: أولًا: نحمد الله - عز وجل - أن المفتي اعترف أخيرًا أن السلفيين يعظون الناس ويذكرونهم بالله، ولا يذكرونهم بالنصرانية ولا اليهودية!!! ثانيًا: الاتهام الذي وجهه المفتي للسلفيين يصيب أيضًا أساتذة جامعة الأزهر المتمسكين بالمنهج السلفي؛ فهل هم أيضًا يخلطون بين الوعظ وبين العلم، ويستخدمون مجالس الوعظ والتذكير بالله للإفتاء مما ينشر الجهل ويفرق المسلمين؟!! ثالثًا: مَن هم العلماء والدعاة السلفيون الذين يقصدهم المفتي؟ وما هي الفتاوى التي أفتى بها هؤلاء العلماء والدعاة مما ينشر الجهل ويفرق المسلمين؟ نريد من المفتي البينة على ادعاءاته!!! رابعًا: قال المفتي (ص152): «نرى بعض الناس قد رسخت في أذهانهم أسماء قوم لا خلاق لهم ولا علاقة لهم بالعلم، ورسوخ الأسماء في الأذهان له أثر كبير في

الاقتداء والمحبة، وذلك لاغترارهم بالقدرة الخطابية عند هؤلاء ظنًّا منهم أن ذلك برهانًا (¬1) على العلم». ونسأله: مَن هؤلاء الذين لا خلاق لهم ولا علاقة لهم بالعلم؟!! هاتِ برهانك يا فضيلة المفتي!!! ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، والصواب (برهان)، ولعله خطأ طباعي.

حوار هادئ مع فضيلة المفتي حول مقاله في جريدة «الواشنطون بوست»

حوار هادئ مع فضيلة المفتي حول مقاله في جريدة «الواشنطون بوست» (¬1) فوجئتُ بخبر على موقع مفكرة الإسلام عنوانه: «مفتي مصر للواشنطن بوست: السلفيون وراء استهداف الكنائس والأضرحة!». فقلتُ: لَعَلّ في الأمر لبْسًا، لَعَلّ مصدر الخبر غير موثوق، فعلتُ هذا تطبيقًا لمنهج الإسلام في التثبت مِن الأخبار؛ لئلا نتهم فضيلة المفتي بما هو منه بريء، فدخلتُ على موقع جريدة (الواشنطن بوست) فوجدتُ مقالة بتاريخ 18/ 4/2011 بعنوان: » Revolution‚ counter-revolution and new wave of radicalism in Egypt" By Ali Gomaa «. ترجمته: «الثورة والثورة المضادة، وموجة جديدة مِن التطرف في مصر»، بقلم علي جمعة. وأقسم بالله العظيم ... لقد خطر ببالي أن الخبر نُسب إليه خطًا، وأن الموقع المذكور قد ظلم فضيلة المفتي حيث لم تَرِدْ إشارة إلى منصبه في صدر المقال، وليس كل مَن اسمه (علي جمعة) هو مفتي مصر، ولكني فوجئت في نهاية المقال بما يلي: Ali Gomaa is the Grand Mufti of Egypt ». » وترجمته: «علي جمعة هو فضيلة مفتي مصر» (¬2). ¬

_ (¬1) مقال كتبه شحاتة محمد صقر ونُشر على موقع صوت السلف www.salafvoice.com ، في 25جماد أول 1432هـ الموافق 28 إبريل 2011 م. (¬2) الرابط الأصلي لمقال المفتي: http://www.washingtonpost.com/blogs/...IOzD_blog.html

فتأكدتُ أن المقال لفضيلة المفتي، إلا إذا أصدر بيانًا يكذّب فيه الصحيفة، ويتهمها فيه بتلفيق هذا المقال، وهذا ما نتمناه، ولكنه - للأسف - لم يحدث حتى الآن (¬1). ثم وجدتُ المقال مترجَمًا على موقع صحيفة الأهرام المصرية بتاريخ: 19/ 4/2011 بعنوان: «الثورة والثورة المضادة وموجة الأصولية الجديدة في مصر» بقلم: د. علي جمعة»، ولم أجِدْهُ على صفحات نفس العدد المذكور، وإن كنت قد لاحظت أن موقع الأهرام ترجم كلمة المفتي في المقال: " who call themselves Salafis" بـ «السلفيين»، رغم أن معناها: «الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين». وهذا المقال دفع عشرة محامين للتقدم ببلاغ إلى الدكتور المستشار عبد المجيد محمود النائب العام المصري، يطالبون فيه بالتحقيق مع الدكتور على جمعة مفتى الجمهورية، ويتهمونه بتحريض دولة أجنبية معادية، وهى أمريكا ضد مواطنين مصريين؛ مما يهدد السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية، ويثير الفتن. وفيما يلي .. حوار هادئ مع فضيلة المفتي حول بعض ما سطره في هذا المقال: قال فضيلة المفتي: «من أبرز سمات الروح الثورية التي اجتاحت مصر خلال فترة الشهرين الأخيرين هي المشاركة غير المسبوقة في الحياة العامة لجميع فئات المجتمع المصري. فجميع المواطنين من شتي الدوائر الاجتماعية، ومن جميع مناطق البلاد، ومِن مختلف الثقافات أظهروا معًا إرادة على التضحية من أجل مستقبلهم السياسي، وهذا في حد ذاته تطور مشجع وملهم في آن واحد». ¬

_ (¬1) بل نشر موقع المفتي فيما بعد ما يدل على أن المفتي هو كاتب المقال.

التعليق: هذا اعتراف مِن فضيلة المفتي بمشاركة وتضحيات السلفيين في الحياة العامة، فهم جزء مِن «جميع فئات المجتمع المصري»، وجزء مِن «جميع المواطنين». وأعتقد أنهم -كغيرهم- يستحقون ثناءه. قال فضيلة المفتي: «ولعل أكثر الظواهر إزعاجًا ـ علي الإطلاق ـ خلال الأسابيع القليلة الماضية هي العنف المتصاعد مِن بعض الأوساط المتطرفة ضد بعض الأماكن ذات الأهمية الدينية، ومنها: الكنائس والأضرحة، وتعد هذه الظاهرة تطورًا خطيرًا للغاية، وخاصة في ظل الحالة الهشة التي تعيشها بلادنا في هذا المنعطف التاريخي الدقيق». التعليق: مَن الذي قال: إن المتطرفين الذين سمَّاهم فضيلة المفتي في مقاله بعد ذلك «مَن يسمون أنفسهم بالسلفيين» -" who call themselves Salafis"- مَن الذي قال: إنهم الذين قاموا بالاعتداء على الكنائس والأضرحة؟! ما دليل فضيلة المفتي على هذا الاتهام؟ ألم يسمع المفتي أن التحقيقات قد أثبتت براءتهم من تلك الاتهامات؟! ألم يعلم فضيلة المفتي أن النصارى يتهمون وزير الداخلية السابق بتفجير كنيسة الإسكندرية، وأنهم قد أقاموا دعوى ضده أمام المحاكم؟! ألم يعلم فضيلة المفتي أن السلفيين هم الذين كانوا يحمون الكنائس في ظل الغياب الأمني؟! ألم يخطر ببال فضيلة المفتي أن السلفيين لو كانوا يريدون هدم جميع الأضرحة وجميع الكنائس؛ لَفَعَلوا ذلك في أثناء الغياب الأمني؟! وكانوا سيجدون مَن يساعدهم، ولكن لم يمنعهم من أن يفعلوا ذلك إلا دينهم ومراعاتهم لفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقديرهم للمصالح والمفاسد.

لو كان فضيلة المفتي يعيش في واشنطن أو باريس أو حتى في وارسو؛ فقد يكون له بعض العذر، رغم أن تكنولوجيا الاتصالات الحديثة لم تُبْقِ لأحدٍ عذرًا في عدم التثبت مِن الأخبار أو تلفيق الاتهامات بلا دليل، فما بالك إن كان فضيلته يعيش في مصر، وأخبار تبرئة القضاء والشرطة للسلفيين مِن هدم الأضرحة، وحراستهم للكنائس يعلمها القاصي والداني. قال فضيلة المفتي: «وعلينا أن نحترس مِن هؤلاء بشدة، وأن نعمل على وقفهم؛ حمايةً لسلامة بلادنا ووحدتها السياسية والاجتماعية والدينية»! التعليق: مَن الذين يجب عليهم أن يحترسوا مِن هؤلاء بشدة؟! مَن الذين يجب أن يعملوا على «وقف السلفيين»؛ حمايةً لسلامة بلادنا ووحدتها السياسية والاجتماعية والدينية؟! الجواب: 1 - إن كان فضيلته يقصد المجلس العسكري الذي يحكم البلاد؛ فكان على فضيلته أن يخاطبه مباشرةً مِن باب حرصه على مصلحة البلد، مع أن المجلس العسكري قد أثنى كثيرًا على السلفيين لتعاونهم معه - وما زالوا - في حفظ أمن البلاد. لدرجة أن المحلل السياسي الدكتور عمار علي حسن قال -حسب موقع الجزيرة نت في 21/ 4/2011 - : «إن المجلس العسكري يأمل في استغلال السلفيين كقوة منظمة في المشهد الاجتماعي والسياسي؛ لضبط الشارع وعملية انتقال السلطة». 2 - وإن كان فضيلة المفتي يقصد الرأي العام المصري - الذي يتعاطف كثيرون منه مع السلفيين -؛ فكان الواجب على فضيلته أن ينشر هذا المقال في إحدى الصحف المصرية الناطقة بالعربية، والتي ذكر كثيرٌ منها أخبار تبرئة السلفيين واتهام غيرهم بتلك الجرائم، بدلًا مِن أن يلجأ إلى صحيفة أمريكية تؤثر على الرأي العام الأمريكي!! نحن يا فضيلة المفتي -ومعنا معظم المصريين- نرفض الوصاية الأمريكية.

قال فضيلة المفتي: «إن من يُقْدِمون علي هذه الأفعال الشنيعة ما هم إلا وصوليون ومتطرفون لا علاقة لهم على الإطلاق بتعاليم الإسلام العظيمة». التعليق: يصف فضيلة المفتي السلفيين بأنهم «وصوليون ومتطرفون لا علاقة لهم على الإطلاق بتعاليم الإسلام العظيمة»! فهلا شققْتَ يا فضيلة المفتي .. عن قلوب هؤلاء الملايين حتى تتهمهم بهذه التهم الجزافية؟! في سلسلة مقالاته في جريدة الأهرام المصرية يتحدث فضيلة المفتي عن التعايش مع الآخر - أي الكفار مِن اليهود والنصارى وغيرهم -، وكنا ننتظر منه أن يعاملنا حتى بنفس الطريقة - ونحن مسلمون -! ألا يستحق السلفيون ما يستحقه اليهود والنصارى؟! أم أن السلفيين - عند فضيلة المفتي - غير مسلمين؟! وإن كان ذلك رأيه؛ فليأتنا بالدليل. وهل وَصْفُهُ لهم بأنهم: «لا علاقة لهم على الإطلاق بتعاليم الإسلام العظيم» يعني: تكفيرهم؟ نريد مِن صاحب الفضيلة توضيحًا. قال فضيلة المفتي: «وللأسف .. فمن يُقْدِمون علي هذه الأفعال الهمجية ضد الشعب المصري ومؤسساته الثقافية، والدينية لا يهدفون ببساطة إلى إظهار مثالية الماضي، بل إلى عودة تامة إليه بكل تفاصيله وأدق خصائصه، ويشكل هذا الفكر الرجعي معضلة في حد ذاته، بل والأسوأ مِن هذا تصوير هذا الفكر على أنه مرجع يتعين علي جميع المسلمين التمسك به، أما مَن يرفضون هذا الفكر الرجعي فيعتبرونهم ضالين، ويشككون في عقيدتهم، وتتسبب هذه القوى في بث مشاعر الكراهية في المجتمع، وتعزل بعض شرائح المجتمع المسلم عن شرائحه الأخرى».

التعليق: أين ذلك الواقع الذي يتحدث عنه فضيلة المفتي؟ في أي مدينة؟ وفي أي حي؟ ومَن هم هؤلاء الأشخاص؟! إن كان عنده أشخاص بتلك الصفات؛ فلْيُظهِرهُم لنا، أو حتى يُبلغ عنهم الشرطة، ونحن سنساعده - إن شاء الله- في إصلاح هؤلاء المتطرفين. ونحن نطالب فضيلة المفتي بالموضوعية حيث إنه أستاذ جامعي، ولا بد أن تكون كل كلمة يكتبها مبنية على الدليل لا على الهوى، فالتهم الفضفاضة لأشخاص مجهولين ليست مِن البحث العلمي في شيء. وكان ينبغي على فضيلته أن ينزه لسانه وقلمه عن اتهام السلفيين - وهم قطاع عريض من المسلمين - اعترف هو في المقال بأنهم الأعلى صوتًا - بألفاظ كهذه -: 1 - يهدفون إلي الرجوع للماضي بجميع تفاصيله، وأدق خصائصه. 2 - الفكر الرجعي. 3 - مَن يرفضون هذا الفكر الرجعي فيعتبرونهم ضالين، ويشككون في عقيدتهم. 4 - وتتسبب هذه القوى في بث مشاعر الكراهية في المجتمع، وتعزل بعض شرائح المجتمع المسلم عن شرائحه الأخرى. ونقول لفضيلة المفتي: 1 - إن السلفيين يهدفون إلي الرجوع إلى منهج الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، ولا يمنعهم ذلك مِن الأخذ بتطورات العصر الحديث ما دامت لا تتعارض مع هذا المنهج القويم. 2 - إن الفكر الذي يحمله السلفيون ليس رجعيًّا كما يزعم فضيلة المفتي، بل هو منهج الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - ومنهج الأئمة الأربعة وغيرهم مِن أئمة الدين عبر العصور، وهذا المنهج يؤمن به كثير مِن أساتذة جامعة الأزهر، وغيرها مِن

الجامعات المصرية، وكثير مِن المثقفين المصريين مِن أطباء ومهندسين ومدرسين وغيرهم. وما أظن أن مقالة فضيلتكم في الصحيفة الأمريكية ستُثْنِي هؤلاء - إن شاء الله - عن التمسك بدينهم، وما أظن الجيوش الأمريكية أو جيوش الناتو ستفلح في ذلك - إن شاء الله -. 3 - نحن لا نشكك في عقيدة المسلمين، بل نحملهم على ظاهرهم، أما فضيلتكم فقد اتهمتم السلفيين، بأنهم لا علاقة لهم على الإطلاق بتعاليم الإسلام العظيم! هكذا .. «لا علاقة لهم على الإطلاق»، فمَن الذي يشكك في عقيدة المسلمين: نحن أم أنت؟! أم كما يقولون: «رمتني بدائها وانسلت»؟! 4 - أما اتهامكم للسلفيين بأنهم يتسببون في بث مشاعر الكراهية في المجتمع، فهذا افتراء لا دليل عليه، بل هم دائمًا حريصون على التأليف بين المسلمين وجمع كلمتهم على الكتاب والسنة مع عدم التفريط في شيء من ثوابت الدين، ويعاملون غير المسلمين وفق تعاليم دينهم، فلا يظلمونهم، وفي نفس الوقت لا يقرونهم على الكفر، ولا يسعون لإرضائهم على حساب دينهم. قال فضيلة المفتي: «وعندما يعجز هذا المنظور المثالي للمجتمع - الذي يروّج له مَن يسمون أنفسهم بالسلفيين - عن التبلور؛ تتجه الأمور إلي مزيد مِن الأصولية الخطرة. إن حقيقة أن الماضي الذي يسبغون عليه المثالية الكاملة هو مجرد نتاج لخيالهم، ومِن ثمَّ فهو بعيد المنال (لا يمكن لأحد تحقيقه) يتحول إلى محرك للأصولية التي يغذيها شعورهم بالإحباط، وهو حتمًا ما يصلون إليه. والنتيجة الأخرى لهذا الوضع هو: الانعزالية التي تقصي المرء عن محيطه مِن إخوانه المواطنين المتدينين، وبالتالي مِن الإنسانية كلها. فهؤلاء السلفيون يصبحون جزءًا مِن المشكلة بالنسبة للعالم، وليسوا إخوانًا علي الصراط المستقيم (طريق الله)، وهذا الفكر الذي يتبنونه لا مكان فيه للثقافة أو

الحضارة ولا حتى لكرامة الإنسان، ويهدد هذا الانعزال بإشاعة روح مِن الشعور بالاضطهاد، ومنظور تجاه العالم تسوده نظريات المؤامرة، وتغيب عنه - تمامًا - قيم الإسلام العظيمة: كالحكمة والعقلانية». التعليق: يستمر فضيلة المفتي في التحذير مِن السلفيين، ويستعدي الأمريكان عليهم، ويستخدمهم كفزاعة للغرب؛ مثلما كان يفعل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، فَبِهِمْ - من وجهة نظر فضيلة المفتي- «تتجه الأمور إلى مزيد مِن الأصولية الخطرة»، ويتسببون في وجود «محرك للأصولية التي يغذيها شعورهم بالإحباط»، وهم «جزءٌ مِن المشكلة بالنسبة للعالم، وليسوا إخوانًا علي الصراط المستقيم»!! وإن تعجب فعجبٌ تلك الاتهامات الباطلة التي يحزننا أن تصدر من مفتي الديار المصرية الذي يُنتظر منه أن يدافع عن المسلمين، لا أن يكيل لهم الاتهامات بلا دليل، تلك الاتهامات التي ما فتئ اليهود والصليبيون وأذنابهم في ديار الإسلام يتهمون بها دعاة الإسلام في كل مكان. وإن الماضي الذي يسبغ عليه السلفيون المثالية الكاملة ليس مجرد نتاج لخيالهم، بل هو منهج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وليس بعيد المنال، بل سيتحقق، فقد أخبرنا الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن الخلافة الراشدة ستعود على منهاج النبوة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن حُذَيْفَةُ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُبُوَّةٍ» ثُمَّ سَكَتَ. (رواه الإمام أحمد، وحسنه الألباني). أما حديث فضيلة المفتي عن انعزال السلفيين عن عموم الناس فأحسب أنه ليس له وجود إلا في مخيّلة فضيلته، فالسلفيون - بفضل الله - موجودون بقوة داخل فئات المجتمع، وليس أدل على ذلك مِن تخوف العالمانيين مِن شعبيتهم الجارفة.

ونسأل فضيلة المفتي عن قوله عن السلفيين: إنهم «ليسوا إخوانًا على الصراط المستقيم (طريق الله): « not fellow wayfarers on the path to God » هل معنى ذلك عنده أنهم ليسوا بمسلمين، أي: أنه يكَفّرُهم؟! قال فضيلة المفتي: «وتكمن خطورة هذا الفكر الرجعي في أن مكوناته المختلفة تعوق أدني إمكان للتطور، وتعتبر أي تغيير بدعة منكرة تستوجب اللعنة، ويحول هذا دون العمل على مواجهة مشكلات العالم مِن خلال تطوير مؤسساتنا وأممنا بطريقة ايجابية تتسق مع قيمنا الإسلامية. ومِن المحزن أن هذا الخليط الخطر مِن الانعزالية والمثالية بوسعه أن يغذي أيضًا شعورًا زائفًا مِن الثقة بالنفس، بل والغطرسة. وإجمالًا يمكننا القول: إن هذه المكونات تشكل معًا فوضى روحية هي آفة التطرف، ولا يمكن مواجهتها دون قاعدة إسلامية صحيحة، ويتعين علينا مقاومة هذا الفكر على الدوام مِن أجل مستقبل بلدنا ومِن أجل ديننا، ولتحقيق هذا يجب علينا العودة إلى قيمنا الصحيحة ومؤسساتنا الراسخة». التعليق: «فكر رجعي مكوناته المختلفة تعوق أدنى إمكان للتطور، وتعتبر أي تغيير بدعة منكرة تستوجب اللعنة». مرة أخرى اتهام بلا دليل .. !! إن الإسلام الذي يدعو السلفيون جميع المسلمين إلى الالتزام به هو الإسلام النقي المصَفَّى مِن الشركيات والبدع والخرافات، وهو لا يعوق التطور أبدًا، ولكنه يقف حائط صَدٍّ ضد أي محاولة لتمييع الشخصية المسلمة، أو اختراقها بالدعاوى الخداعة.

ونسأل فضيلة المفتي: مَن الذي قال مِن السلفيين: إن «أي تغيير بدعة منكرة تستوجب اللعنة»؟! وأين يسكن بالضبط؟! فهذا افتراء، لا دليل عليه. إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «كُلّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» (رواه مسلم)، والمقصود بها: البدعة في الدين. فالابتداع على قسمين: 1 - ابتداع في العادات: كابتداع المخترعات الحديثة، وهذا مباح في ذاته؛ ما دام لا يشتمل على محرم، أو يؤدي إلى محرم؛ لأن الأصل في العادات الإباحة. 2 - ابتداع في الدين: وهذا مُحرَّم؛ لأن الأصل فيه التوقيف. يا فضيلة المفتي كنا ننتظر مِن فضيلتكم هذه الوثبة عندما مُنِعت الأخت كاميليا شحاتة مِن إشهار إسلامها في الأزهر الشريف، وحُبِسَتْ مع غيرها مِن المسلمات المحتجزات خلف قضبان الأديرة. يا فضيلة المفتي كنا ننتظر مِن فضيلتكم هذه الوثبة نصرةً للمسلمين الذين سبَّ دينَهم وزير المالية السابق النصراني يوسف بطرس غالي، أو دفاعًا عن الدكتور عمر عبد الرحمن - المدرس بجامعة الأزهر - المحتجز ظلمًا في سجون أمريكا، أو دفاعًا عن المسلمين المحتجزين - ظلمًا - في سجون جوانتانامو. يا فضيلة المفتي كنا ننتظر مِن فضيلتكم هذه الوثبة نصرةً للمسلمين في: فلسطين، والعراق، وأفغانستان. يا فضيلة المفتي كنا ننتظر مِن فضيلتكم هذه الوثبة للتدخل لدى الحكومة؛ لمنع ما يحدث عند الأضرحة مِن دعاء للأموات، واستغاثة بغير الله، وذبح لغير الله - سبحانه وتعالى -.

يا فضيلة المفتي كنا ننتظر مِن فضيلتكم هذه الوثبة للتدخل لدى الحكومة؛ لمنع ما يحدث في الموالد مِن: عُرْي، وغناء، وخمر، وميسر، ونوم الرجال بجوار النساء في المساجد. يا فضيلة المفتي كنا ننتظر مِن فضيلتكم هذه الوثبة ضد نوادي اللَّيُونْز الماسونية التي حذر منها علماء الأزهر (¬1)، ولكنا وجدناك تحتفل بعيد ميلادك مع أعضاء الليونز: رجالهم ونسائهم يوم الأحد، في يوم 8 مارس 2009. يا فضيلة المفتي إن كنت تستعدي أمريكا على السلفيين؛ فإنا نذَكّرُك بقَوْل عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: «حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ - عليه السلام - حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم - حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (رواه البخاري). يا فضيلة المفتي نحن نحاكمك لشرع الله - سبحانه وتعالى -: أين البينة على تلك الافتراءات؟! فالبينة على المدَّعي. يا فضيلة المفتي: نحن مولانا الله، أما الأمريكان الذين تَسْتَعْدِيهم علينا فلا مولى لهم. يا فضيلة المفتي نذكرك بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (الحج:38). ¬

_ (¬1) راجع فتوى الشيخ عطية صقر عن الماسونية وموقف الدين منها، حيث ذكر فيها أنه كان للماسونية محافل وجمعيات فى مصر صدر قرار وزارة الشئون الاجتماعية بحلها فى 18/ 4 / 1964.

يا فضيلة المفتي اتهمت الملايين مِن السلفيين ظلمًا، ولن نشكوك إلى أمريكا، ولكن سنشكوك لخالق السماوات والأرض؛ الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. يا فضيلة المفتي إن عاقبة الظلم وخيمة، فنذكرك - وأنفسنا وجميع المسلمين - بقول رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه مسلم). ونذكرك - وأنفسنا وجميع المسلمين - بقول الشاعر: أما والله إنَّ الظُلم شؤمُ ... وَلاَ زَالَ المُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ إِلَى الدَّيَّانِ يَوْمَ الدِّيْنِ نَمْضِي ... وعندَ اللهِ تجتمعُ الخصومُ ستعلمُ في الحسابِ إذِ التقَيْنَا ... غدًا عند المَليكِ مَن الملومُ ستنقطِعُ اللذاذةُ عنْ أنَاسٍ ... مِن الدنيَا وتنقَطعُ الهمومُ يا فضيلة المفتي إن كانت مقالتك تلك رسالة استغاثة موجهة إلى الأمريكان؛ للاستقواء بهم على السلفيين في مصر، فإن ذلك لن يوقف المد السلفي، ولن ينعش المد الصوفي بعد الانحسار الذي شهده؛ بسبب انتشار السلفيين. وإن مقال فضيلتك لَيُذَكّرنا بالتقارير السابقة الموجهة لأمن الدولة، ولكنه هنا موجَّه لأمن الدولة في أمريكا. هل يريد فضيلة المفتي مِن أمريكا أن تتدخل؛ لتقوم بدور أمن الدولة في مصر تجاه السلفيين بعد أن ألْغِيَتْ في مصر؟! أم يهدف مِن ذلك أن تقوم أمريكا بالضغط على المجلس العسكري؟! أم يهدف إلى ما هو أبعد من ذلك: طلب تدخل أمريكي مباشر في مرحلة لاحقة؟!

في السابق كنا نرى استقواء النصارى والعالمانيين بأمريكا، والآن انضم إليهم الصوفية علمًا أن الصوفية كانوا - ولا زالوا - يمثلون النموذج الأمثل للمسلم مِن وجهة نظر المستعمر قديمًا وحديثًا. فالأمريكيون - بالطبع - يعجبهم النموذج الصوفي، فقد حضر توماس رايلي - السفير الأمريكي في المغرب - يوم 14 أبريل 2006 عيد المولد النبوي الشريف الذي أحيَتْه الطريقة القادرية. وشارك السفير الأمريكي في مصر - فرانسيس ريتشارد دوني - أهالي مدينة طنطا احتفالاتهم بمولد السيد البدوي؛ اتباعًا لعادة استَنَّها منذ وصوله إلى مصر، بل إنه حرص على لقاء شيخ مشايخ الطرق الصوفية - الشيخ حسن الشناوي - في أحد سرادقات الطرق الصوفية، قبل أن يذهب برفقة محافظ الغربية الأسبق مترجِّلًا وسط الجموع، إلى سرادق مشيخة عموم السادة الجازولية الحسينية، حيث حضر إحدى حلقات الذكر ليشارك الحضور أذكارهم على نغمات الدف ومع التهليل وهو جالس على الأرض، ولاحظ المراقبون إصرار السفير على حضور معظم احتفالات المولد!

الإمامان ابن تيمية وابن القيم بين إنصاف كبار علماء الأزهر وإجحاف المفتي

الإمامان ابن تيمية وابن القيم بين إنصاف كبار علماء الأزهر وإجحاف المفتي من الصفات الذميمة التي يجب على المسلم أن يتجنبها - السخرية من إخوانه المسلمين، أو تحقيرهم؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} (الحجرات:11). قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: «ينهى- تعالى - عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» (¬1) والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقَر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقِر له؛ ولهذا قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}، فنَصَّ على نهي الرجال وعطف بنهي النساء. وقوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا تلمزوا الناس. والهمَّاز اللَّماز من الرجال مذموم ملعون، كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (الهمزة:1)، فالهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (القلم:11) أي: يحتقر الناس ويهمزهم ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي: اللمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، كما قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (النساء: 29) أي: لا يقتل بعضكم بعضًا. قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يطعن بعضكم على بعض. وقوله: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها» (¬1). هذا حال مَن يسخر مِن المسلمين ويحتقرهم، ويزداد الأمر شناعة إن كان هذا المسلم المحتقَر عالمًا كبيرًا من علماء المسلمين له ثقله العلمي الذي يعترف به القاصي والداني. ويزداد الطين بلة إن كان الذي يسخر من العلماء رجلًا ينبغي أن يكون قدوة للمسلمين في الامتثال لأوامر الله ولأوامر رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وذلك باعتبار الساخر رمزًا للمسلمين حيث يشغل منصب مفتي مصر، فبدلا من أن يوقر فضيلة المفتي علي جمعة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم باعتبارهما مِن أعلام علماء المسلمين، أخذ يسخر منهما أنهما سُجِنا. جلس المفتي وحوله مجموعة من مريديه ـ كما يظهر في التسجيل المرئي ـ وقال بالعامية المصرية ساخرًا أن ابن القيم «غِلِط في حاجات كتير ... وقبضوا عليه، وركّبُوه بالحمار بالمقلوب، وعملوا كده مع الشيخ بتاعه، ومات في السجن، الشيخ بتاعه - الشيخ ابن تيمية مات في السجن، مين اللي قبض عليه؟ مباحث أمن الدولة؟! اللي قبض عليه علماء المسلمين، القاضي ابن مخلوف المالكي هو اللي قابِضْ عليه، الشرع الشريف اللي قبض عليه». ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (4/ 270).

(أي: أنه أخطأ في أشياء كثيرة، وقُبضَ عليه، وركبوه الحمار بالمقلوب، وكذلك فعلوا مع شيخه ابن تيمية الذي مات في السجن، وأن الذين قبضوا عليه ليسوا ظلمة كأمن الدولة بل إنهما كانا يستحقان هذا السجن، وفق الشرع الشريف). ثم دعا فضيلة المفتي إلى الكتاب والسنة وفعل السلف الصالح كمخرج من الحيرة. ثم عاد صاحب الفضيلة إلى السخرية من ابن تيمية وابن القيم قائلًا بالعامية المصرية: «اشمعنَى فْهِمْنا وشربْنا الكتاب والسنة وفعْل السلف الصالح من اتنين اتقبض عليهم». (أي: لماذا فهمنا وشربنا الكتاب والسنة وفعْل السلف الصالح من اثنين قُبِضَ عليهما). وتتوالى ضحكات المريدين. وهنا وقفات مع فضيلة المفتي نحاكمه إلى ما نطق به لسانه: الوقفة الأولى: هل السخرية من المسلمين وعلمائهم تتفق مع الكتاب والسنة وفعل السلف الصالح الذي دعا إليه فضيلة المفتي. إن فضيلة المفتي يتحدث في سلسلة مقالاته في جريدة الأهرام المصرية عن التعايش مع الآخر - أي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم - وكان الأجدر به أن يطبق كلامه ويعامل السلفيين - وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - بنفس الطريقة التي يعامل بها اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار. ألا يستحق السلفيون من المفتي ما يستحقه اليهود والنصارى؟ وكان فضيلة المفتي - حسب موقع مصراوي في 12/ 3//2011 - قد شدد على وجوب المحافظة على نفوس، وأعراض، وأموال المسيحيين في مصر.

ونسأل صاحب الفضيلة: هل يجب المحافظة أيضًا، على نفوس، وأعراض، وأموال المسلمين - ومنهم السلفيون - في مصر؟ وما حكم الشرع فيمن يسخر من علماء المسلمين والملايين منهم؟!! وأعلم - وما أظن أحدًا من المسلمين يخالفني هذا الرأي - أن سخرية المفتي من عالمين جليلين من علماء المسلمين تخالف الكتاب والسنة، وتخالف أيضًا فعل السلف الصالح، وبالتالي يكون فضيلة المفتي قد خالف قاعدته التي دعا إليها وهي الرجوع إلى الكتاب والسنة وفعل السلف الصالح كمخرج من الحيرة. الوقفة الثانية: متى كان السجن تهمة؟ إن كان ابن تيمية وابن القيم قد سُجنا ظلمًا فقد سُجن يوسف - عليه السلام - ظلمًا، وكذلك سُجن إمام أهل السنة - الإمام أحمد - ظلمًا. الوقفة الثالثة: هل صحيح ما قاله فضيلة المفتي عن شيخ الإسلام ابن تيمية وعن تلميذه ابن القيم – رحمهما الله؟ وما دافِعُ علماء المسلمين الذين تحدث عنهم صاحب الفضيلة - ومنهم القاضي ابن مخلوف المالكي - للتحريض على سجن شيخ الإسلام؟!! نَدَعُ الإجابة لأحد معاصريهم وهو الحافظ ابن كثير حيث ذكر أن قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ مَخْلُوفٍ، كان مِنْ أَعْدَاء شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية. وذكر الحافظ ابن كثير سبب هذه العداوة فقال: «وَكَانَ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْفُقَهَاءِ جَمَاعَةٌ يَحْسُدُونَهُ لِتَقَدُّمِهِ عِنْدَ الدَّوْلَةِ، وَانْفِرَادِهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ، وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ، وَقِيَامِهِ فِي الْحَقِّ، وَعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ» (¬1). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (18/ 53)، ط دار هجر للطباعة والنشر.

وذكر الحافظ ابن كثير أَنَّ السُّلْطَانَ اسْتَفْتَى شَّيْخَ الإسلام ابن تيمية فِي قَتْلِ بَعْضِ الْقُضَاةِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَأَخْرَجَ لَهُ فَتَاوَى بَعْضِهِمْ بِعَزْلِهِ مِنَ الْمُلْكِ، وَأَنَّهُمْ قَامُوا عَلَى شَيْخِ الإسْلَامِ وَآذَوْه هو أَيْضًا! وَأَخَذَ يَحُثُّهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يُفْتِيَهُ فِي قَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَنَقُهُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَا كَانُوا سَعَوْا فِيهِ مِنْ عَزْلِهِ، فَفَهِمَ الشَّيْخُ مُرَادَ السُّلْطَانِ، فَأَخَذَ فِي تَعْظِيمِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَنَالَ أَحَدًا مِنْهُمْ سُوءٌ، وَقَالَ لَهُ: «إِذَا قَتَلْتَ هَؤُلَاءِ لَا تَجِدُ بِعْدَهُمْ مِثْلَهُمْ»، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّهُمْ قَدْ آذَوْكَ وَأَرَادُوا قَتْلَكَ مِرَارًا»، فَقَالَ الشَّيْخُ: «مَنْ آذَانِي فَهُوَ فِي حِلٍّ، وَمَنْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ فَاللهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَأَنَا لَا أَنْتَصِرُ لِنَفْسِي». وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى حَلُمَ عَنْهُمُ السُّلْطَانُ وَصَفَحَ (¬1). فتأمل دماثة أخلاق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فقد عفا عن الذين حرّضوا عليه وآذوه ومنهم ابن مخلوف هذا. وها هو ابن مخلوف يعترف بذلك فقد ذكر الحافظ ابن كثير أن قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ مَخْلُوفٍ كَانَ يَقُولُ: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، حَرَّضْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقَدَرَ عَلَيْنَا فَصَفَحَ عَنَّا وَحَاجَجَ عَنَّا». وذكر الحافظ ابن كثير أنَّ الشَّيْخَ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ بِالسُّلْطَانِ نَزَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَعَادَ إِلَى بَثِّ الْعِلْمِ وَنَشْرِهِ، وَأَقْبَلَتِ الْخَلْقُ عَلَيْهِ، وَرَحَلُوا إِلَيْهِ يَشْتَغِلُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَفْتُونَهُ وَيُجِيبُهُمْ بِالْكِتَابَةِ وَالْقَوْلِ، وَجَاءَتْهُ الْفُقَهَاءُ يَعْتَذِرُونَ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ، فَقَالَ: «قَدْ جَعَلْتُ الْكُلَّ فِي حِلٍّ» (¬2). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (18/ 94). (¬2) البداية والنهاية (18/ 95).

الوقفة الرابعة: شيخ الإسلام ابن تيمية بأقلام علماء المسلمين: أولًا: وصفه مؤرخ الإسلام الحافظ ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) بشيخ الإسلام اثنتي عشرة مرة. ووصفه مرة بـ (شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ). ووصفه مرة بـ (شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ). ولعل الجميع يتفق على مكانة الحافظ ابن كثير - رحمه الله -. ثانيًا: نقل الحافظ ابن حجر عنه كثيرًا في كتابه (فتح الباري) ووصفه بـ (الْعَلَّامَة تَقِيّ الدِّين بْن تَيْمِيَّةَ) (¬1)، وبـ (الشَّيْخِ تَقِيِّ الدّين بن تَيْمِيَةَ) (¬2). ثالثًا: وجدنا مشايخ الأزهر الأجلاء يستدلون بآراء ابن تيمية ويُثْنُون على علمه، بل يصفونه بشيخ الإسلام والإمام والعلامة، فبالبحث في موسوعة فتاوى الأزهر التي نشرتها وزارة الأوقاف المصرية على موقعها على الشبكة العنكبوتية وجدتُ أن كبار مشايخ الأزهر السابقين كانوا يستدلون بآراء وترجيحات شيخ الإسلام ابن تيمية فقد وردت كلمة ابن تيمية ست وخمسون مرة، منها ثلاث عشرة وردت بلقب شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك في فتاوى لأعلام من مشايخ الأزهر ومن تولوا الإفتاء فيه، ومنهم: 1 - الشيخ حسن مأمون - رحمه الله - الذي وصفه مرتين بالإمام ابن تيمية. 2 - الشيخ حسنين محمد مخلوف - رحمه الله -. 3 - الشيخ عطية صقر - رحمه الله -. 4 - الشيخ عبد المجيد سليم - رحمه الله -. ¬

_ (¬1) فتح الباري (6/ 289). (¬2) فتح الباري (3/ 66)، (11/ 408)، (13/ 524، 531).

5 - الشيخ جاد الحق على جاد الحق - رحمه الله -، الذي وصفه مرة بالعلامة ابن تيمية، وبالإمام ابن تيمية مرتين. 6 - الشيخ أحمد هريدي - رحمه الله - الذي وصفه بالإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن تيمية. 7 - الشيخ محمد مجاهد - رحمه الله - الذي وصفه بالإمام. فما قول فضيلة المفتي في هؤلاء المشايخ الأعلام؟!! الوقفة الخامسة: شيخ الإسلام ابن القيم بأقلام علماء المسلمين: أولًا: مما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تَرْجَمَة الشَّيْخِ شَمْس الدِّينِ ابْن قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: «صَاحِبُنَا الْإِمَامُ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ الزُّرَعِيُّ، إِمَامُ الْجَوْزِيَّةِ، وَابْنُ قَيِّمِهَا، وُلِدَ فِي سِنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، فَبَرَعَ فِي عُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ، لَا سِيَّمَا عِلْمُ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ وَالْأَصْلَيْنِ. وَلَمَّا عَادَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ لَازَمَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ الشَّيْخُ، فَأَخَذَ عَنْهُ عِلْمًا جَمًّا مَعَ مَا سَلَفَ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ، فَصَارَ فَرِيدًا فِي بَابِهِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، مَعَ كَثْرَةِ الطَّلَبِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالِابْتِهَالِ، وَكَانَ حَسَنَ الْقِرَاءَةِ وَالْخُلُقِ، كَثِيرَ التَّوَدُّدِ، لَا يَحْسُدُ أَحَدًا، وَلَا يُؤْذِيهِ، وَلَا يَسْتَعِيبُهُ، وَلَا يَحْقِدُ عَلَى أَحَدٍ. وَكُنْتُ مِنْ أَصْحَبِ النَّاسِ لَهُ، وَأَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَا أَعْرِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرَ عِبَادَةً مِنْهُ، وَكَانَتْ لَهُ طَرِيقَةٌ فِي الصَّلَاةِ يُطِيلُهَا جِدًّا، وَيَمُدُّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، وَيَلُومُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَلَا يَرْجِعُ، وَلَا يَنْزِعُ عَنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللهُ، وَلَهُ مِنَ التَّصَانِيفِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَكَتَبَ بِخَطِّهِ الْحَسَنِ شَيْئًا

كَثِيرًا، وَاقْتَنَى مِنَ الْكُتُبِ مَا لَا يَتَهَيَّأُ لِغَيْرِهِ تَحْصِيلُ عُشْرِهِ مِنْ كُتُبِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ قَلِيلَ النَّظِيرِ، بَلْ عَدِيمَ النَّظِيرِ فِي مَجْمُوعِهِ، وَأُمُورِهِ، وَأَحْوَالِهِ» (¬1). ثانيًا: وجدنا مشايخ الأزهر الأجلاء يستدلون بآراء ابن القيم، ويُثْنُون عليه ويصفونه بالعلامة والإمام وشيخ الإسلام، فبالبحث في موسوعة فتاوى الأزهر التي نشرتها وزارة الأوقاف المصرية على موقعها على الشبكة العنكبوتية وجدتُ أن كبار مشايخ الأزهر السابقين قد استدلوا بآرائه مائةً وتسعًا وثلاثين مرة ومن هؤلاء: 1 - الشيخ عبد المجيد سليم - رحمه الله - الذي وصفه بشيخ الإسلام ابن القيم مرتين، وبالعلامة ابن القيم مرتين، ومرة بالمحقق ابن القيم. 2 - الشيخ محمد خاطر - رحمه الله - الذي وصفه مرتين بـ «الإمام الجليل الحافظ أبى عبد الله محمد بن أبى بكر الشهير بابن قيم الجوزية». 3 - الشيخ جاد الحق على جاد الحق - رحمه الله -، الذي وصفه مرتين بـ «العلامة ابن القيم»، وبـ «الإمام ابن القيم» مرتين، ومرة بـ «الفقيه ابن القيم». 4 - الشيخ محمد مجاهد - رحمه الله -. 5 - الشيخ عبد اللطيف حمزة - رحمه الله -، الذي وصفه بـ «العلامة ابن القيم». 6 - الشيخ محمد بخيت - رحمه الله - الذي وصفه بـ «الحافظ ابن القيم الحنبلى». 7 - الشيخ حسن مأمون - رحمه الله - الذي وصفه بـ «العلامة ابن القيم». 8 - الشيخ حسنين محمد مخلوف - رحمه الله - الذي وصَفه بـ «العلامة ابن القيم الحنبلى»، و «شيخ الإسلام ابن القيم»، و «الإمام ابن القيم» و «العلامة ابن القيم». 9 - الشيخ أحمد هريدى - رحمه الله - الذي وصفه بـ «الإمام المجتهد أبى عبد الله محمد بن أبى بكر الحنبلى المعروف بابن القيم». ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (18/ 523 - 524)، ط دار هجر للطباعة والنشر.

10 - الشيخ عطية صقر - رحمه الله - الذي وصفه بـ «الإمام ابن القيم» مرتين. تنبيه: قد يقول قائل: «إن المفتي قد علم من حال ابن تيمية ما لم يعلمه العلماء الأفاضل السابق ذكرهم، ومن هنا يسخر منه»، ولهذا القائل ننقل عن المفتي نفسه أنه في كتابه (المتشددون) استدل بكلامٍ لابن تيمية (ص118، 119، 126، 141)، وبكلام لابن القيم (ص52، 126)، بل أطلقَ على ابن تيمية (ص141) لقب شيخ الإسلام ابن تيمية. بل لقبه في كتابه (التربية والسلوك ص 207) بالإمام ابن تيمية. ونسأل صاحب الفضيلة المفتي من أين استقى معلوماته عن ابن تيمية وابن القيم؟ تلك المعلومات التي سبق نَقْل ما يناقضها من كلام كبار علماء الأزهر في الثناء عليهما، ومن كلام الإمام ابن كثير - وقد كان من المعاصرين والملازمين لهما. فمن أين جاء فضيلة المفتي بتلك المعلومات؟ هل نصدق كلام هؤلاء الأعلام من كبار علماء الأزهر أم نصدق فضيلة المفتي؟!!! ننتظر من فضيلة المفتي جوابًا. ونُذَكّره بحديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» (رواه البخاري). وإن كان فضيلة المفتي يستطيع أن يتحلل من ظلمه للسلفيين، فكيف يمكنه أن يتحلل من ظلمه لعالمَيْن قد ماتا، ونحسبهما من أولياء الله الصالحين ولا نزكي على الله أحدًا، هذا ما يبدو من سيرتهما وجهادهما وعِلْمهما وعَمَلهما، وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ» (رواه البخاري).

الخاتمة

الخاتمة في الختام نُحَذّر الدكتور علي جمعة من مغَبّة غِيبَةِ المسلمين وأكل لحومهم؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} (الحجرات:12)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟»، قَالُوا: «اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ»، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، قِيلَ: «أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟»، قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» (رواه مسلم) (¬1). وقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ: «ذَكَرْتُ رَجُلًا بِسُوءٍ عِنْدَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَنَظَرَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: «أَغَزَوْتَ الرُّومَ؟»، قُلْتُ: «لَا». قَالَ: «فَالسِّنْدَ وَالْهِنْدَ وَالتُّرْكَ؟»، قُلْتُ: «لَا». قَالَ: «أَفَسَلِمَ مِنْكَ الرُّومُ وَالسِّنْدُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْكَ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ؟!». قَالَ سفيان: «فَلَمْ أَعُدْ بَعْدَهَا» (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (4/ 2001)، برقم (2589). (بَهَتَّهُ) أَيْ قُلْتَ عَلَيْهِ الْبُهْتَانَ وَهُوَ كَذِبٌ عَظِيمٌ يُبْهَتُ فِيهِ مَنْ يُقَالُ فِي حَقِّهِ، والْبُهْتَانِ هُوَ الباطل، والغيبة ذِكْرُ الْإِنْسَانِ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا يَكْرَهُ، وَأَصْلُ الْبَهْتِ أَنْ يُقَالَ لَهُ الْبَاطِلُ فِي وَجْهِهِ وَهُمَا حَرَامَانِ. [انظر: شرح النووي على مسلم (16/ 142)، تحفة الأحوذي (6/ 54)]. (¬2) شعب الإيمان للبيهقي (5/ 314)، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (10/ 18)، البداية والنهاية لابن كثير (9/ 336). ونقول للمفتي: سلِمَ منك اليهود والنصارى والشيوعيون والعلمانيون والليبراليون والشيعة، ولم يسلم منه إخوانك المسلمون.

ونحذر المفتي من مغَبّة غِيبَةِ علماء المسلمين وأكْلِ لحومهم، فلحوم العلماء مسمومة، ونذكّره بما ختم به كتابه (المتشددون) حيث نقل (ص 158) قول الحافظ ابن عساكر - رحمه الله -: «اعلم يا أخي، وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار مُنْتَقِصِهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثَّلْب بلاه الله قبل موته بموت القلب» (¬1). وأذَكّر إخواني السلفيين بالصبر على ظلم المفتي لهم، وأبَشِّرُهم بما أقسم عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو الصادق المصدوق: «ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تم بحمد الله ¬

_ (¬1) تبيين كذب المفتري (ص 29).

قائمة المراجع

قائمة المراجع * إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين للزبيدي الحنفي. * إثبات صفة العلو لابن قدامة. * أحكام القرآن لابن العربي المالكي. * إحياء علوم الدين للغزالي. * أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام، للملا علي القاري. * أَسْنَى الْمَطَالِبِ فِي شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ لزكريا الأنصاري. * اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية. * الإباضية، للدكتور عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف. * الإبانة لابن بطة. * الإجماع لابن المنذر. * الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم. * الاختيارات العلمية لابن تيمية. * الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر. * الأسماء والصفات للبيهقي. * الاعتصام للإمام الشاطبي المالكي. * الإنصاف للمرداوي الحنبلي. * البداية والنهاية لابن كثير. * البدع والنهي عنها لابن وضاح. * التاج والإكليل لمختصر خليل، لمحمد بن يوسف العبدري. * التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر.

* التوسل أنواعه وأحكامه للألباني. * الدر المختار من حاشية رد المحتار لابن عابدين الحنفي. * الدكتور علي جمعة إلى أين، لطلحة محمد المسير. * الروح، لابن القيم. * الزهد لابن المبارك. * الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي. * السُّبْحة، تاريخها وحكمها لبكر أبو زيد. * السلسلة الصحيحة للألباني. * السلسلة الضعيفة للألباني. * السلفية بين العقيدة الإسلامية والفلسفة الغربية للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي. * السنة، لمحمد بن نصر المروزي. * العرف الشذي شرح سنن الترمذي للكشميري. * العلو للعلي الغفار، للذهبي. * الفتاوى الكبرى، لابن تيمية. * الفقه الأبسط للإمام أبي حنيفة. * الكافي في فقه أهل المدينة لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي. * المبسوط في شرح الكافي، للسرخسي. * المخاطر التي تواجه الشباب المسلم وكيف نتوقاها؟ للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي. * المصنَّف لابن أبي شيبة. * المغني، لابن قدامة. * الموسوعة الفقهية الكويتية. * الموضوعات، لابن الجوزي. * تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام للذهبي. * تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر.

* تبيين كذب المفتري لابن عساكر. * تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، للألباني. * تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري. * تُحْفَةَ الْمُحْتَاجِ بِشَرْحِ الْمِنْهَاجِ لابن حجر الهيتمي الشافعي. * تصحيح الدعاء لبكر أبو زيد. * تفسير ابن كثير. * تفسير الآلوسي. * تفسير القرطبي. * تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. * جامع الأمهات لابن الحاجب المالكي. * جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر. * حاشية إعانة الطالبين للعلامة البكري الدمياطي. * حاشية الدسوقي على الشرح الكبير. * حاشية السندي على سنن ابن ماجه. * حوار هادئ مع فضيلة المفتي حول مقاله في جريدة «الواشنطون بوست» مقال كتبه شحاتة محمد صقر ونُشر على موقع صوت السلف www.salafvoice.com. * خلاصة الفوائد الحموية في شرح البهجة الوردية للقاضي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ. * درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية. * دلائل النبوة للبيهقي. * زاد المعاد لابن القيم. * سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للصالحي الشامي. * سنن أبي داود. * سنن البيهقي. * سير أعلام النبلاء للذهبي.

* شرح السيوطي لسنن ابن ماجه. * شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي. * شرح الفقه الأكبر للملا علي القاري الحنفي. * شرح النووي على مسلم. * شرح سنن أبي داود لبدر الدين العيني الحنفي. * شعب الإيمان للبيهقي. * صحيح مسلم. * صفة صلاة النبي للألباني. * طبقات الشافعية للسبكي. * عودة الحجاب لمحمد بن إسماعيل المقدَّم. * عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب محمد آبادي. * فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com. * فتاوى البيت المسلم، للدكتور علي جمعة. * فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. * فتاوى عصرية، للدكتور علي جمعة. * فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر. * فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب الحنبلي. * فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي. * قواعد المنهج السلفي للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي. * كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني لأبي الحسن على بن ناصر الدين المالكي. * لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الشافعي. * مجلة الأزهر. * مجموع فتاوى ابن باز.

* مجموع فتاوى ابن تيمية. * مجموع فتاوى ورسائل العثيمين. * مدخل الشرع الشريف على المذاهب الأربعة لابن الحاج. * مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري الحنفي. * مسائل الإمام أحمد لأبي داود. * مقال: كتاب المتشددون منهجهم ومناقشة أهم قضاياهم لعلي جمعة، عرض ونقد، موقع الدرر السنية www.dorar.net. * نيل الأوطار للشوكاني.

§1/1