السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم

السخاوي، شمس الدين

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللَّهِ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّهُ؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: * المال وأحكامه: فإن موضوع المال وما يتعلَّق به من أحكام وما له به من صلة، أمر متشعِّب جداً، وخُصَّ بدواوين كثيرة شهيرة، وبقي: معرفة هل المال في ذاته محمود أم مذموم، وفي النصوص (الأحاديث والآثار) ما يفيد هذا وهذا، ولذا حمله العلماء على الحالتين على حسب ما يؤول إليه الأمر. • متى يذم المال؟ فهو مذموم باعتبار (¬1) : - أن فيه إشغالاً عما هو الأهم في الدنيا من العمل بالخيرات، وقد يكون سبباً في الصدّ عن كثير من الطاعات. - أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات، ووسيلة إلى الغفلة والممنوعات، لأن التمتع بالدنيا بسببه له ضراوة كضراوة الخمر، وبعضها يجرُّ إلى بعض، إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة -والعياذ بالله-. - أن الشرع قد جاء بذم الدنيا، وهو من زينتها، وسبب للتمتّع بلذّاتها، كقوله -تعالى-: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] ، وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود: 15] . ¬

(¬1) مأخوذ بتصرف كبير من مواطن من «الموافقات» (1/176 وما بعد، و5/354 وما بعد) .

متى يمدح المال؟

وفي الحديث: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم: أن تفتح عليكم الدنيا كما فُتحت على الذين من قبلكم ... » ، وفيه: «إن مما يُنبتُ الربيع ما يقتل حَبَطاً أو يُلِمّ» (¬1) . وذلك كثير شهير في الكتاب والسنَّة، وسيأتي بعضه عند المصنف. - ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة، وقد جاء: «إن حلالها حساب، وحرامها عذاب» (¬2) ، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد، وإن المال صادٌّ عن ذلك. • متى يمدح المال؟ ونازع آخرون في ذلك؛ وقالوا عن الوجوه المذمومة السابقة: إنها حق، وهذا النظر الذي نظرتم إليه إلى المال والدنيا هو نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا، من كونها متعرفاً للحق، ومستحقاً للشكر الواضع لها، بل إنما يعتبر فيها كونها كيساً ومقتنصاً للذات، ومآلاً للشهوات، انتظاماً في سلك البهائم، وهذا ظاهر للعيان من هذه الجهة، وهو على هذا الحال، قشرٌ بلا لبٍّ، ولعب بلا جد، وباطل بلا حق؛ لأن صاحب هذا النظر لم ينل منه إلا مأكولاً، ومشروباً، وملبوساً، ومنكوحاً، ومركوباً، من غير زائد، ثم يزول عن قريب، فلا يبقى منه شيء، فذلك كأضغاث أحلام، وهذا هو نظر الكفار (¬3) أصالة، وأما المؤمنون فهم ¬

(¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب الصدقة على اليتامى) (رقم 1495) ، وكتاب الرقاق (باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها) (6724) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف. (¬3) أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أننا سنتبع سننهم -أعني: اليهود والنصارى-، وهم منغمسون بالملذات، وهذا واقع اليوم بلا دافع، وهذه المضاهاة هي أخطر ما تصيب الأمة على الإطلاق، وعدم معرفة (فقه المفاضلة) المذكورة يسبب ويلات على الأمة، سلباً وإيجاباً، ولذا فعزة أمتنا ورفعتها بتعلّم أحكام دينها، والخطورة كل الخطورة في تناول الأحكام تناولاً أولياً من نص واحد، وإهدار سائر النصوص، أو عدم اعتبار ما جاءت به الشريعة من تحقيق مقاصد معتبرة، وتأمل ما سيأتيك تجد مثالاً مهماً على هذا الإجمال، والله المستعان.

المال كغيره من الشهوات:

يعلمون أن المال محمود من وجوه كثيرة، منها: - إنه نعمة من الله -عز وجل- كسائر النعم، يجب شكرها، والواجب الانتداب إلى ذلك حسب القدرة والمكنة، وصار ذلك القشرُ محشواً لُبّاً، بل صار القشر نفسه لباً؛ لأن الجميع نعمٌ طالبة للعبد أن ينالها، فيشكر لله بها وعليها. - إنه يستعان به على الطاعات، وهو ذريعة في بعض الأحايين إلى تحقيق بعض المأمورات والواجبات، كالمستعان به على أمر أخرويّ، ففي الحديث: «نِعْم المال الصالح للرجل الصالح» (¬1) ، وفي الحديث الآخر: «ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم....» ، إلى أن قال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (1) ، فجعل المال فضلاً من الله يمتنّ به على بعض عباده. - إن ما ذكر من الحساب على المال، وأنه يؤخر الأغنياء من دخول الجنة، يقال عليه: إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المال، فإنه - مثلاً- من خلاله: يقع أكل كذا، وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها، فإذا رُوعيت صار ذلك وسيلة إلى العبادات والطاعات، وإن لم تُراع كان التسبب والتناول فيه قصوراً أو خلافاً على حسبه وبقدره. • المال كغيره من الشهوات: - وعلى الجملة؛ فالمال كغيره من الشهوات والملذات، له أحكام، وضوابط، وشروط، وموانع، ولواحق تراعى، والترك (¬2) في هذا كله كالفعل، فكما أنه إذا تسبب للفعل كان تسببه مسؤولاً عنه، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسؤولاً عنه. ¬

(¬1) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف. (¬2) إذ هو عند المحققين الأصوليين (فعل) ، ولذا من عمل الصالحات من أجل الناس فهو المرائي، ومن تركها من أجلهم فقد أشرك، فكان الترك شرعه من أجلهم، على ما ذكر الفضيل بن عياض، فتأمل!

فصل النزاع:

وتأمل حادثة سلمان وأبي الدرداء، فيما أخرج البخاري (1968، 6139) ومسلم (182) عن أبي جحيفة قال: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء -وهي زوجه- متبذِّلة؛ فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل فإني صائم. فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل؛ فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم. فنام، ثم ذهب ليقوم؛ فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصلينا فقال له سلمان: «إن لربِّك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍّ حقّه» (¬1) . فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَ سلمان» . يتبين لنا من هذا أن الفعل والترك يتعلق بهما الحساب، وإذا كان كذلك، فلم يبق مجالاً لذم المال من هذا الوجه. • فصل النزاع: والصواب في هذا الباب: أن تناول المباح، وتحصيل المال من حلِّه؛ لا يصح أن يكون صاحبه محاسباً عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه، إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جهة الاستعانة به على التكليفات، فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به، فقد شكر نعم الله، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] (¬2) . ¬

(¬1) أشدُّ واجب وأهمه في شرع الله تعالى -في نظري-: إعطاء كل ذي حق حقه، فالنفوس ترغب، والأهواء تميل، وقد يكون ذلك مع شيء يحبه الله -تعالى-، ولكن (إعطاء كل ذي حق حقه) يحتاج إلى إرادة تامة صحيحة، وتصوّر جملي سليم، والله الموفق. (¬2) يؤكد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر (الحساب اليسير) في قوله -تعالى-: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق: 7-8] بأنه العرض، لا الحساب الذي فيه مناقشة =

الفصل في المسألة:

وهذه النعم هدايا من الله للعبد، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد؟ هذا غير لائق في محاسن العادات، ولا في مجاري الشرع، بل قصد المهدي أن تقبل هديته، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه، فليقبل، ثم ليشكر له عليها. والخلاصة؛ إنَّ المال لا بدَّ أن يكون خادماً لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي، ويراعى إمساكه وتحصيله من جهة ما هو خادم له، فيكون مطلوباً ومحبوباً فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله -عز وجل- من المأكل والمشرب ونحوهما: مباح في نفسه، وإباحته بمفرداته المتعددة، خادمة لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة (¬1) ، فهو معتبر ومحبوب بالنسبة إلى حقيقته الكلية، لا إلى اعتباره الجزئي، ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين. أما إن عاد المال لنقض أصلٍ من أصول الشرع، والاعتداء على المقاصد الكلية، بالاعتداء على العرض، أو العقل، أو البدن، أو النسل، أو الدين؛ فهذا هو المذموم، ويسمى أخذه: رغبة في الدنيا، وحباً في العاجلة، وضده هو الزهد فيها، وهو تركها من هذه الجهة، ولا شك أن ذلك مطلوب. ولذا فالفصل في المسألة: أن ذم المال بإطلاق لا يستقيم، كما أن مدحه بإطلاق لا يستقيم، يوضّحه: مسألة الحجر على السفيه، الذي يضع المال في غير موضعه (¬2) ، ومسألة النفقات وأحكامها، فالقاعد عن العمل معرض نفسه للمسألة، ¬

= وعذاب. أخرجه البخاري (4939) ومسلم (2876) من حديث عائشة، وإلا؛ لم تكن النعم خالصة للمؤمنين يوم القيامة، وإليه يرجع قوله -تعالى-: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] . أعني: سؤال المرسلين. ويحققه أحوال السلف، كما سيأتي التنويه عليه. (¬1) قال ابن حزم في «الأخلاق والسير» (ص 175- ط. عبد الحق) : «ينبغي للكريم أن يصون جسمه بماله، ويصون نفسه بجسمه، ويصُونَ عرضه بنفسه، ويصون دينه بعرضه، ولا يصون بدينه شيئاً أصلاً» . فلله درُّه ما أدقّه! وأبعد غوره وفهمه! (¬2) من بديع ما يذكر في هذا الباب: ما قاله ابن حزم في «المحلى» (10/100) : «فإضاعة المال حرام، وإثم وعدوان بلا خلاف» . وقال عن إهمال (إصلاح المال) : =

الصحابة والمال:

مضيِّع لمن يعول، وكفاه إثماً (¬1) بذلك، ومن المتفق عليه أن تركه هذا ليس مرغباً فيه، ولا هو زاهد فيه على الوجه المحمود، بل يسمى فعله سفهاً وكسلاً، وكذا مسألة التبذير والشح، فكلاهما مذموم، وهما طرفان، والعدل والخير بينهما. • الصحابة والمال: والذي يترجم ذلك كله على وجه فيه وسط، دون وكس ولا شطط: الصحابة خصوصاً، والسلف الصالح عموماً، فإنهم -رضوان الله عليهم- كانوا حريصين على المال، ولهم فيه بتحصيله مهن معروفة، كاسبين له من جهة كونه عوناً على ¬

= «فمن لم يعن على إصلاحه؛ فقد أعان على الإثم والعدوان وعصى الله -تعالى-» . (¬1) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم) (2/692 رقم 996) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته» . وأخرجه بلفظ: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» : النسائي في «السنن الكبرى» (5/374 رقم 9176-ط. دار الكتب العلمية) ، أو «عشرة النساء» (رقم295) ، وأبو داود في «السنن» (رقم 1692) ، وأحمد (2/ 160، 193، 194، 195) ، والطيالسي (2281) ؛ كلاهما في «المسند» ، وابن حبان في «صحيحه» (4240- «الإحسان» ) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1411، 1412) ، والحاكم في «المستدرك» (1/415) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/467 و 9/25) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/135) . وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (20810) ، والنسائي في «الكبرى» (5/374 رقم 9177-ط. دار الكتب العلمية) ، أو «العشرة» (رقم294) ، والحميدي في «المسند» (رقم 599) ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (رقم 635) ، والحاكم في «المستدرك» (4/500) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (رقم 1413) بلفظ: «يعول» بدل «يقوت» ؛ جميعهم من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، به، ووهب بن جابر لم يرو عنه غير أبي إسحاق، ووثقه ابن معين، والعجلي، وابن حبان (5/489) ، ونقل الذهبي في «الميزان» (4/350) جهالته عن ابن المديني، وقال: «لا يكاد يعرف» . ومعنى الحديث: أنه لا ينبغي المساهلة على من تلزم الإنسان نفقته، ويلزم البداية بهم في الإنفاق، وليس له الإنفاق على غيرهم مع حاجتهم، والله أعلم.

مراتب الناس في حظوظهم في المال:

شكر الله عليه، وعلى جهة اتخاذه مركباً للآخرة، وهم كانوا أزهد الناس فيه، وأورع الناس في كسبه. فربما سمع أخبارهم في طلبه من يتوهم أنهم طالبون له من جهة ملذاته وشهواته فحسب، وهذا جهل بالاعتبار الذي طلبوه، وحاش ÷ أن يطلبوه على علاته، إنما طلبوه من جملة عباداتهم -رضوان الله عليهم، وألحقنا بهم، وحشرنا معهم، ووفقنا لما وفقهم له بمنّه وكرمه-. فلا نعرف أحداً اجتمع له مال كما اجتمع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكل ما سيق إليه جعله لأصحابه، وإقامة الدين، فكأني به -بأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم - مع كونه المتسبِّب يرى أن ما وصل ليده من محض الفضل، وأنه كوكيل على تصريفه فقط، وليس له منه شيء، وهذه أعلى المراتب، وكان الواحد من أصحابه كالوكيل، يأخذ منه ما احتاج، وهو أقل مرتبة من هذا. • مراتب الناس في حظوظهم في المال: ولا شك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب، وأن الأسوة لهم في ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكانوا يهضمون نفوسهم، ويطرحون حظوظها، بفضل قوة يقينهم بالله؛ لأنهم عالمون بصفاته، وبيده -سبحانه- ملكوت السموات والأرض، وهو حسيبهم لا يخيبهم، فصارت الشهوة والنزوة والحظوة عندهم من قبيل ما قد ينسى، ويأنف الواحد منهم إلى الالتفات إليها على وجه ما فيها مزاحمة لحق الله -تعالى-، وهذه نماذج للتدليل على ذلك: - صح عن عائشة -رضي الله عنها- أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين - قال الراوي: أراه ثمانين ومئة ألف-، فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: «يا جارية! هلُمّي أفطري» ، فجاءتها بخبز وزيت. فقيل لها: أما استطعت فيما قسمت أن تشتري

بدرهم لحماً تفطرين عليه؟ فقالت: لا تُعنِّيني، لو كنتِ ذكرتني لفعلت (¬1) . - وخرَّج مالك أن مسكيناً سأل عائشة وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف؛ فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس لك ما تُفطرين عليه. فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلتُ. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهلُ بيت أو إنسانٌ -ما كان يُهدي لنا- شاةً وكَفَنَها (¬2) ؛ فدعتني عائشة، فقالت: كُلي من هذا. هذا خير من قرْصِكِ (¬3) . - وروي عنها أنها قسمت سبعين ألفاً وهي ترقع ثوبها (¬4) ، وباعت ما لها بمئة ألف وقسمته، ثم أفطرت على خبز الشعير (¬5) ، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة؛ فلا يأخذ إلا من المَلِك؛ لأنه قام له اليقين بقسْم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه (¬6) ، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم؛ فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيراً ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (8/67) ، والدارقطني في «المستجاد» (رقم 36، 37) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (16/ق 738) -، والحاكم في «المستدرك» (4/13) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/47، 49) ، والبغوي في «الجعديات» (1673) بإسناد صحيح، بألفاظ مقاربة. ووقع في بعض طرقه أن معاوية هو الذي بعث إليها بالمال، اشترى به منها داراً. ولا تعارض؛ فهو المرسِل، وابن الزبير المرسَل؛ إلا إذا حمل على تعدد القصة، والله أعلم. وانظر ما سيأتي عند المصنف (ص 158) ، وتعليقنا عليه. (¬2) إن العرب- أو بعض وجوههم- كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف، فإذا سلخوه غطوه كلَّه بعجين دقيق البُرّ، وكفّنوه فيه، ثم علَّقوه في التنّور، فلا يخرج من ودكِه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيِّب الطعام عندهم، قاله ابن عبد البر في «الاستذكار» (27/407) . (¬3) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/997- رواية يحيى، ورقم 2105- رواية أبي مصعب) بلاغاً عن عائشة. (¬4) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/47) . (¬5) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/47- 48) ، وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف. (¬6) إنفاق الأموال في وجوه الخير عظيم، وهو عنوان الثقة بالله وتفويض الأمر إليه، وهذا ما كان السلف الصالح يفعله، وأما السعي في اكتساب الرزق من طرقه المشروعة؛ فهو ما يحث عليه الشرع ويستدعيه الاحتفاظ بعزة النفس وشرفها، ولا يحق للرجل أن ينكث يده من العمل وهو قادر =

من تدبيره لنفسه، فإذا دبّر لنفسه، انحط عن رتبته إلى ما هو دونها. - ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم (¬1) ؛ إن استغنى استعفَّ، وإن احتاج أكل بالمعروف، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه؛ فقد يكون في الحال غنياً عنه؛ فينفقه حيث يجب الإنفاق، ويمسكه حيث يجب الإمساك، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار، وهذا -أيضاً- براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب؛ فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره، وهو لم يفعل، بل جعل نفسه كآحاد الخلق، فكأنه قسّام في الخلق يعدُّ نفسه واحداً منهم. وفي «الصحيح» عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الأشعَرِيِّين إذا أرمَلوا في الغَزوِ أو قلَّ طعامُ عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد؛ فهم منِّي وأنا منهم» (¬2) . ¬

= عليه بدعوى أن تدبير الله له خير من تدبيره، ومن يفعل ذلك؛ فليس من الفضيلة في شيء، وليست هذه الدعوى إلا من مظاهر الكسل والإخلاد إلى الرضا مما تجود به أنعم العاملين؛ فترجع في الحقيقة إلى معنى أن تدبير الخلق له خير من تدبير نفسه. (¬1) أخرج ابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/694-695، 701) ، وسعيد بن منصور في «السنن» (4/1538 رقم 788 -ط. الصميعي) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (12/324 رقم 12960) ، وابن جرير في «التفسير» (7/582 رقم 8597) ، وابن سعد في «الطبقات» (3/276) ، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 112) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (6/ 4-5، 354) ، وابن الجوزي في «مناقب عمر» (ص 105) من طرق عن عمر؛ قال: «إني أنزلتُ نفسي من مال الله منزلة والي مال اليتيم، إن استغنيتُ استعففت، وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف، ثم قضيتُ» ، وهو صحيح بمجموع طرقه إن شاء الله تعالى. وفي رواية أنه قال ذلك لعمار وابن مسعود -رضي الله عنهم- حين ولاهما أعمال الكوفة، وفيها: «إني وإياكم في مال الله ... » وذكر نحوه. (¬2) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الأشعريين (باب الشركة في الطعام والنَّهد والعروض) (5/128 رقم 2483) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب فضائل الصحابة (باب من فضائل الأشعريين -رضي الله عنهم-) (4/1944- 1945 رقم 2500) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.

وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا (¬1) ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور (¬2) ؛ فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «ابدأ بنفسكَ ثم بمن تعُولُ» (¬3) ، بل يحمل على الاستقامة في حالتين. فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة، وما أخذوا ¬

(¬1) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب مناقب الأنصار (باب إخاء النبي - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين والأنصار) (رقم 3782) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخيل. قال: لا. قال: يكفوننا المئونة، ويشركوننا في الثمر. قالوا: سمعنا وأطعنا» . وأخرج البخاري في «صحيحه» (رقم 3781) ، في الكتاب والباب السابقين، وفي (باب كيف آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه) من الكتاب نفسه (رقم 3937) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب النكاح (باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن ... ) (رقم 1427) ، وغيرهما من حديث أنس؛ قال: «قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق؛ فربح شيئاً من إقط وسمن ... » . (¬2) قلت: أكتفي هنا بذكر مثالٍ واحدٍ وقع في غزوة تبوك؛ فقد أخرج مسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً) (1/55- 56 رقم 27) بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتى همّ بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر: يا رسول الله! لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها، قال: ففعل، فجاء ذو البُرِّ ببُرِّه، وذو التمر بتمره. قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه. قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها. قلت: حتى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: «أشهد أن لا إله إلا الله، لا يلقى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة» . وأخرجه أحمد في «مسنده» (3/11) ، وقد تكلم بعضهم في صحة هذا الحديث بكلامٍ متعقب. انظر: «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/221-223) . (¬3) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى) (4/294 رقم 1427) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى) (2/717 رقم 1034) عن حكيم بن حزام، رفعه.

أهمية التفصيل في التفضيل وثمرته:

لأنفسهم لا يعد سعياً في الحظ؛ إذ للقصد إليه أثر ظاهر، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره، ولم يفعل هنا ذلك، بل آثر غيره على نفسه، أو سوَّى نفسه مع غيره، وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء بُرءاء من الحظوظ، كأنهم عدُّوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ، وتجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح والأجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسباً لغيره لا له، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم؛ لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم؛ فأين الحظ هنا؟ بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم؛ فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكماً بالقسم الأول، بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداءً. - ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء، بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن، وامتنعوا مما مُنعوا منه، واقتصروا على الإنفاق في كل ما لهم إليه حاجة؛ فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ، لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها، فإن قيل في مثل هذا: إنه تجرُّدٌ عن الحظ؛ فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزاً ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي، وهذا هو الحظ المذموم، إذ لم يقف دون ما حد له، بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها، ولا كلام في هذا، وإنما الكلام في الأول، وهو لم يتصرف إلا لنفسه؛ فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة للمسلمين، بل هو وال على مصلحة نفسه، وهو من هذا الوجه ليس بوال عام، والولاية العامة هي المبرأة من الحظوظ؛ فالصواب -والله أعلم-: أن أهل هذا القسم معاملون حكماً بما قصدوا من استيفاء الحظوظ؛ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين، وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به، لكن على نسبة القسمة ونحوها. • أهمية التفصيل في التفضيل وثمرته: فتأمل هذا الفصل؛ فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفي

رسالة السخاوي «السر المكتوم» :

أحوال أهلها، وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة؛ فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه؛ كما يفهمون طلبها على غير وجهه؛ فيمدحون ما لا يمدح شرعاً، ويذمون ما لا يذم شرعاً. وفيه -أيضاً- من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق، ولا الغنى أفضل بإطلاق، بل الأمر في ذلك يتفصل (¬1) ؛ فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموماً، وكان الفقر أفضل منه، وإن أمال إلى إيثار الآجلة؛ بإنفاقه في وجهه، والاستعانة به على التزود للمعاد؛ فهو أفضل من الفقر (¬2) ، والله الموفق بفضله. * رسالة السَّخاوي «السِّر المكتوم» : • تعريف عام (¬3) : عمل السَّخاوي -رحمه الله تعالى- في رسالته هذه على إيراد النصوص المسندة -وساق بعضها بإسناده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في مدح المال وذمه، وقصد ¬

(¬1) هذا الذي قرره السّخاوي في رسالته هذه «السر المكتوم» ، وسيأتيك نقولات طويلة من وجوه وأدلة عديدة في نصرته وتأييده. (¬2) انظر في «المفاضلة بين الفقر والغنى» : «قواعد الأحكام» للعز بن عبد السلام (2/362-365) ، «فتاوى ابن الصلاح» (ص 47-50، 52) ، «تفسير القرطبي» (3/329 و5/343 و14/306 و15/216 و 19/213) ، و «عدة الصابرين» (ص 193-195، 203- 204، 208-209، 217، 284، 313-314، 317-322) ، «مجموع فتاوى ابن تيمية» (11/21، 69، 119-121، 195 و14/305- 306) ، «الفتاوى الحديثية» (ص 44- 45) ، ورسالة محمد البيركلي (ت 981هـ) «المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر» ، وهي مطبوعة عن دار ابن حزم - ببيروت، سنة 1414هـ، في (64) صفحة. (¬3) ظفرت في موضوعها: بما ذكر ابن طولون في ترجمته لنفسه «الفلك المشحون» (89) : «تهذيب المقال في الفرق بين ما يحمد ويذم من المال» ، وهو فيها -على غالب ظني على عادته- لم يخرج عما عند المصنف. وفي «هدية العارفين» (1/574) : «كمال الآمال في بيان حال المال» لعبد الصمد الفارسي.

صحة نسبة الرسالة للمصنف:

إلى التوفيق بينهما، بإيراد عبارات العلماء، مستأنساً بفهومهم، معمّقا لشذرات كلامهم المتناثر في هذا الموضوع، على وجه فيه تأصيل مليح، واستدلال صحيح، وجمع رجيح، بعبارات وجيزة، ونقولات سلفية شهيرة، فجزاه الله عن الإسلام وأهله، والعلم وطلبته؛ خير الجزاء. • صحة نسبة الرسالة للمصنف: هذه الرسالة صحيحة النسبة لمؤلفها بيقين، دون أدنى ظن أو تخمين، فهو ذكرها في ترجمته المسماة «إرشاد الغاوي» (ق 64/أ، و80/أ، و157/ب، و194/أ، و227/ب) ، وكذا في مواطن من كتابه «الضوء اللامع» منها في ترجمته الشخصية عند سرد مؤلفاته (8/ 18) ، وذكرها في مواطن أخرى منه، هي: - (1/ 289) عند ترجمته (أحمد بن حسين بن علي الشهاب المرحومي الأصل، الأشموني المولد، القاهري، المديني، المالكي) قال: «ولازمني في أشياء، حتى قرأ علي من تصانيفي «السر المكتوم» ... » - (6/211) في ترجمته (قايتباي الجركسي المحمودي الأشرفي ثم الظاهري) نعته بقوله: « ... أحد ملوك الديار المصرية، والحادي والأربعون من ملوك الترك البهية، ويلقب بدون حصر بـ (الأشرف) أبي النضر» . وقال عنه: «وترجمته تحتمل مجلدات من الأمور الجليات والخفيات!!» . وقال بعده مباشرة: «وقد أشرتُ إليه في مقدمات عدة كتب وصلت إليه من تصانيفي ... كـ «رفع الشكوك بمفاخر الملوك» ، ... وذكر كتابين آخرين وقال: «و «السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم» ... » ، وقال عن رسالتنا هذه بعد هذا بسطرين: «وهو المرسل لي بالسؤال عما تضمنه الرابع (¬1) من المقال» . قلت: أشار إلى ذلك في (ديباجة) الرسالة، بقوله: «فقد سئلت عما وقف ¬

(¬1) يريد رسالتنا: «السر المكتوم» .

عليه السلطان الملك الأشرف، أوحدُ الملوك، والمنفرد بما هو أدرى وأعرف، حفظه الله من جميع أركانه وجهاته، وبلّغه في الدارين النهاية من مسرّاته، ... » . ونستفيد من هذا: أن رسالتنا هذه ألفها جواباً على سؤال ورده من الملك الأشرف -رحمه الله تعالى-. - (9/92) في ترجمة (محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يوسف المحب بن الولوي ابن التقي بن الجمال بن هشام القاهري الشافعي) ، قال في ترجمته: «وكان قد قرأ عليّ «السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم» وتردد إليّ في غير هذا» . - (11/66) في ترجمة (أبي بكر بن أبي الفضل بن أبي البركات القسطلاني الأصل، المكي المولد والدار، الشافعي، وهو فخر الدين بن كمال الدين ابن كمال الدين محمد بن أحمد بن أبي الخير بن حسين بن الزين) (ت 795هـ) ، وقال عنه: «وممن يكتسب بالشهادة بباب السلام وبالنساخة لعبد المعطي وغيره» قال: «كتب للمشار إليه من تصانيفي عدة، وقرأ عليَّ منها: «الابتهاج» ، و «السر المكتوم» ... وأجزت له» . وذكر السَّخاوي رسالتنا هذه في كتب أخرى له، منها: * «الأجوبة المرضية فيما سئل عنه من الأحاديث النبوية» (2/588) في جواب سؤال عن (عبد الرحمن بن عوف) وهل يدخل الجنة زحفاً؟ وبيَّن وهاء ذلك، وتعرض لمناقبه، واستطرد في سبب كثرة ماله، فقال ما نصّه: «هذا مع أن كثرة ماله -رضي الله عنه- إنما كانت ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له: «بارك الله لك» (¬1) بحيث كان يقول: «إنه لو رفع حجراً لرجا أن يصيب تحته ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5167) ، ومسلم (1427) من حديث أنس.

ذهباً» (¬1) . ولكون عامة ماله من التجارة، بل ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- وهي ممن أضيف إليها الحديث المسؤول عنه أنها قالت -وقد بعث إليها عبد الرحمن بمال-: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون» ، سقى الله ابن عوف سلسبيل الجنة (¬2) . ونحوه عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأزواجه: «إن الذي يحنو عليكن من بعدي هو الصادق البار، اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سبيل الجنة» (¬3) . أخرجهما الحاكم في «مستدركه» ، وعنده -أيضاً- عن أبي هريرة رفعه: «خيركم خيركم لأهلي من بعدي» (¬4) . ¬

(¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) أخرجه أحمد (6/76-77، 103-104، 121، 135) ، وفي «فضائل الصحابة» (1249، 1258) ، والترمذي (3749) ، وإسحاق بن راهويه (1755) ، والطحاوي في «المشكل» (3566) ، وابن حبان (6995) ، وابن سعد (3/132-133) ، والحاكم (3/310-311، 312) ، والطبراني في «الأوسط» (3235، 9111) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/98) ، وابن عساكر (10/131-132) ، وهو حسن. وفي الباب عن ابن عوف نفسه عند البزار (2590 -زوائد) ، وأبي نعيم (1/99) . (¬3) أخرجه أحمد (6/99، 300-302) ، وابن سعد (3/132) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (1412، 1413) ، والحاكم (3/311) ، والطبراني في «الكبير» (23 رقم 636، 896) ، وأبو نعيم في «المعرفة» (1 رقم 477) ، وابن عساكر (10/132-133) . و «سبيل» ويقال «سليل» وهو ماء في الجنة، قاله ابن قتيبة في «غريب الحديث» ، وتعقبه العسكري في «تصحيفات المحدثين» (1/325) بقوله: «ولا أعلم أحداً رواه «من سليل الجنة» ، وإنما الرواية: «من سلسبيل الجنة» » . قلت: هذا القسم من المفقود من «غريب ابن قتيبة» . (¬4) أخرجه الحاكم (3/311-312) ، وأبو يعلى (10 رقم 5924) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (رقم 1414) ، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (2/294) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/276- 277) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (10/131) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وإسناده حسن. قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح على شرط الشيخين» . وأقره الذهبي. =

وكذا مع ما كان يصل به أمهات المؤمنين: «أوصى لهن بحديقة بيعت بأربع مئة ألف» (¬1) ، إلى غير ذلك من صدقاته الفاشية وعوارفه العظيمة، حتى إنه أعتق في يوم ثلاثين عبداً، وفي عمره ثلاثين ألف نسمة، وتصدق مرة بِعِيرٍ فيها سبع مئة بَعِير، وردت عليه تحمل من كل شيء، فتصدق بها وبما عليها، وبأقتابها، وأحلاسها. وعن معمر عن الزهري قال: تصدق ابن عوف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس مئة فرس في سبيل الله وخمس مئة راحلة، وأوصى بعد موته بخمسين ألف دينار، وبألف فرس في سبيل الله، ولمن بقى من البدريين كل رجل بأربع مئة دينار، وكانوا مئة فأخذوها، وكان عثمان -رضي الله عنه- فيمن أخذ (¬2) . ومن تكون الدنيا في يديه ويؤدي الحقوق منها ويتطوع بالأمور المستحبة فيها ولم تكن عائقة له عن الوصول إلى الله -تعالى-، ولا لها في قلبه مزية، ولا يفخر بها؛ خصوصاً على من دونه (¬3) ، ولا يكون بما في يديه منها أوثق منه بما عند الله، بحيث يحبسها عما شرع له صرفها فيه، مع التقتير على نفسه وعياله، وعدم إظهار نعمة الله -عز وجل-، ولا ينفقها في وجوه الباطل التي لم تشرع، ولا يبذر يكون ¬

= وقال الهيثمي في «المجمع» (9/174) : «رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات» . وعند ابن أبي عاصم والحاكم: أن أبا سلمة بن عمرو بن عبد الرحمن بن عوف قال: «فباع عبد الرحمن حديقة بأربع مئة ألف، فقسمها في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -» . وانظر «السلسلة الصحيحة» (1845) . (¬1) انظر التخريج السابق. (¬2) انظر هذا الأثر عند: ابن عساكر (10/139) ، والذهبي في «السير» (1/90) ، وما سيأتي في التعليق على (ص 96-97) . (¬3) الفخر والعجب بالمال، أسوأ مراتب العُجب، ودواءه: انظر في كلِّ ساقط خسيس، وهو أغنى منك، فلا تغتبط بحالةٍ يفوقك فيها من ذكرت، واعلم أن عجبك بالمال حُمقٌ لأنّه أحجارٌ لا تنتفع بها إلا بأن تُخرجها عن مُلكك بنفقتها في وجهها فقط، والمال -أيضاً- غادٍ ورائحٌ، وربّما زال عنك، ورأيته بعينه في يد غيرك، ولعلّ ذلك يكون في يدِ عدوّك، فالعُجب بمثلِ هذا؛ سُخفٌ، والثقة به غرورٌ وضعفٌ.

ذلك زيادة له في الخير، قال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم المال الصالح للمرء الصالح» (¬1) . وقيل فيما للطبراني في «الأوسط» عن ابن عباس: يا رسول الله! من السيد؟ قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام» قالوا: فما في أمتك من سيد؟ قال: «بلى: رجل أعطي مالاً حلالاً، ورزق سماحة، وأدنى الفقير، وقلَّتْ شكاته من الناس» (¬2) . وفي حديث مرفوع لأحمد وغيره: «لا بأس بالغنى لمن اتقى، ... » (¬3) . وفي آخر: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ مات والله عنه راض» (¬4) . وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: «لو كان عندي أُحد ذهباً أعلم عدده وأخرج زكاته، ما كرهت ذلك وما خشيت أن يضرني» (¬5) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» (¬6) ، وقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (¬7) . إلى غيرها مما بيَّنتُه في «السر المكتوم» ، وكم في الصحابة ممن اتصف بجميع صفات الخير التي ترغب في الإكثار لها كعثمان بن عفان، وطلحة الفياض، والزبير بن العوام، وثلاثتهم من العشرة المشهود لهم بالجنة -أيضاً-، وسعد بن الربيع، وغيرهم من سادات المسلمين، وترك ابن مسعود سبعين ألف درهم، فيتعين استثناء هؤلاء من عموم: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل ¬

(¬1) سيأتي تخريجه في صلب رسالة السخاوي (ص 84) . (¬2) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص 86) . (¬3) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص 88) . (¬4) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص 87) . (¬5) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص 87) . (¬6) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص 169) . (¬7) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص 86) .

أغنيائهم بخمس مئة عام» (¬1) ، أو يخصّ بفقراء طبقتهم وهو أظهر» . ونقلتُ هذا النَّصَّ بطوله للتنبيه على عناية المصنف في هذه المسألة، وله فيها أجوبة متعددة، ظفرتُ بواحد منها بخطِّه، وسأعمل على إثباته على إثر رسالتنا هذه، والله الموفق. * وذكره في موطن آخر من «الأجوبة المرضية» (3/1002) مختصراً -أيضاً-، مقتصراً على «السر المكتوم» دون تتمة العنوان. * وذكره -أيضاً- في كتاب آخر له، هو «استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذوي الشرف» (2/ 605) . قال بعد أن أورد حديث علي: «اللهم ارزق من أبغضني وأهل بيتي كثرة المال والعيال» (¬2) قال: «وقد بيّنتُ -على تقدير ثبوته، مع إيراد نحوه من الأحاديث- الجمع بينهما وبين دعائه - صلى الله عليه وسلم - لخادمه سيدنا أنس -رضي الله عنه- بكثرة المال والولد (2) في كتابي: «السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم» ... » . * وذكره السخاوي كذلك في «إجازته لتلميذه شرف الدين أبي بكر بن محمد بن سلطان الحيشي» المرفقة في آخر نسخة تشستربتي من كتاب «الجواهر المكللة» ضمن (أسماء مصنفاته) التي سمعها عليه. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2353، 2354) ، والنسائي في «الكبرى» في كتاب التفسير (2/92 رقم 368) ، وابن ماجه (4122) ، وأحمد (2/296، 343، 451، 513، 519) ، وابن أبي شيبة (13/ 246) ، وهناد في «الزهد» (589) ، وأبو يعلى (6018) ، وأبو زكريا المطرز في «فوائده» (رقم 88، 89) ، وابن حبان (676) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 91، 99، 100 و8/212، 250) ، و «ذكر أخبار أصبهان» (2/59) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/736 رقم 1352) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/34 و7/225) ، والبيهقي في «البعث والنشور» (ص 241 رقم 408) عن أبي هريرة مرفوعاً. والحديث له شواهد، وهو صحيح. (¬2) سيأتي عند المصنف، وتخريجه هناك.

وصف النسخة الخطية المعتمدة في التحقيق:

وذكر إسماعيل باشا البغدادي في «إيضاح المكنون» (4/12) كتابنا هذا بإسقاط كلمة (المالين) ، بينما أثبتها في «هدية العارفين» (2/220) -وعنه صاحب «معجم الموضوعات المطروقة» (2/1075) -، بالإفراد هكذا «المال» !. • وصف النسخة الخطية المعتمدة في التحقيق: اعتمدتُ على نسخة خطية نفيسة وجيدة ووحيدة (¬1) -فيما أعلم- للكتاب، محفوظة في مكتبة أيا صوفيا، تحت رقم (1849) ، في (64) ورقة، وفيها ورقة مكررة وفي كل ورقة لوحتان، في كل لوحة تسعة أسطر، منسوخة في حياة المصنف، وذلك في سنة (880هـ) ، جاء في آخرها: «تم الكتاب بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وذلك على يد الفقير المعترف بالتقصير أبو الفضل الأعرج - غفر الله له، ولمن دعا له بالمغفرة، ولجميع المسلمين-، وكان الفراغ منه عام ثمانين وثماني مئة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وعترته الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً أبداً» . * ترجمة الناسخ: ترجم المصنف في «الضوء اللامع» (11/129 رقم 416) للناسخ فقال: «أبو الفضل بن عبد الوهاب بن عبد اللطيف بن علي بن عبد الكافي السنباطي القاهري الشافعي الكاتب الأعرج ويسمَّى محمداً، نشأ فقرأ القرآن، وجوَّد الخَطّ على يس، وبرع وتكسَّب بالنساخة مع التصدي للتكتيب في أيام، بل ينوب في الأشرفية وغيرها في ذلك، وربما اشتغل يسيراً عند بلديه عبد الحق وغيره، وبعد أبيه جلس في دكانه بالشرب قليلاً ثم ترك، ويجتمع مع محمد بن محمد بن عبد الرحمن السنباطي الكتبي في علي» . ¬

(¬1) ذكر لها في «الجامعة الإسلامية» نسخة أخرى في (6) ورقات، ولما طلبتها وجدتها «الجوهر النفيس» وهو منظومة في «المدلسين» ولا صلة لها بكتابنا هذا.

هذا كل ما أورده السخاوي عنه، وهو يعطي قيمة علمية لنسختنا وإن كانت وحيدة، وفيها أخطاء قليلة. وهذه النسخة ملوكيّة، طرتها مذهّبة، أثبت عليها اسم العنوان واسم المؤلف في إطار، وهذا رسمه بحروفه: «كتاب السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم، تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة حافظ العصر شمس الدين محمد السَّخاوي» . وعلى الحاشية بخطٍّ مغاير: «قد وقف هذه النسخة الجليل السلطان الأعظم، والحال المعظّم مالك الزين والخير ابن خادم الحرمين الشريفين السلطان ابن السلطان ابن السلطان المفدَّى محمود خان، وقفاً صحيحاً شرعياً لمن طالع رسائلي، أكرمه الله تعالى بالرفق والحسنى. حرره الفقير أحمد شيخ زاده، المفتش بأوقاف الحرمين الشريفين، غفر لهما» . وتحته ختم هكذا قرأته: «زتو (¬1) توفيق، يا رب، من كتب أحمد» . وفي أعلى الصفحة ختم آخر، فيه ما رسمه: «الحمد لله الذي هُدينا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله» وفي سطر تحته: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . ومن ميزات هذه النسخة وهي نفيسة -ويزيد في جودتها ونفاستها- أن عليها قصاصات بخط السَّخاوي نفسه (¬2) ، وهي بمثابة زيادات على الأصل الذي ¬

(¬1) كذا رسمها بمعنى «زدت» ، والله أعلم. (¬2) ألحقنا نموذجاً منها في المصورات المرفقة تحت (نماذج خطية من النسخة المعتمدة) .

نقل منه الناسخ، ولا يبعد عندي أنه اعتمد على نسخة السخاوي نفسه، ثم لما نظر السخاوي فيها، بدت له زيادات أرفقها السخاوي -كعادته- على النسخة التي كتبها أبو الفضل الأعرج، وربما فعل ذلك للسلطان الأشرف، بسبب حسن وجودة خطه، والذي يقوي هذا الاحتمال أنه أشار بخطه إلى موضع الورقة بقوله: «ينظر الورقة» . وهذه الإلحاقات والزيادات في رسالتنا في ثلاثة مواطن، هي: الأول: (ق 21/أ) بحذاء السطر الثاني في الهامش أثبت: «ينظر الورقة» ، وليس فيها شيء بهذا الخصوص. الثاني: (ق 25/ب) بحذاء السطر الرابع «ينظر الورقة» ، وفي أسفل الورقة نفسها وعلى وجه طولي طمس السطر (4-8) (¬1) بورقة مستقلة بخط السَّخاوي أثبت أثراً عند أبي نعيم في «الحلية» وفي آخر الورقة: «يتلوه والحاصل» ، قلت: كلمة «والحاصل» في أول السطر الخامس من (ق 25/ب) ، وهذا إلحاق مضبوط محلُّه. الثالث: (ق 50/ب) بحذاء السطر السادس «ينظر الورقة» ، وأثبت محل آخر أربعة أسطر من (ق 50/أ) ورقة بخط السخاوي فيها (17) سطراً، ولم يتم الإلحاق، فأكمله في آخر (ق 50/ب) ، فجاء فيها تتمته في آخر خمسة أسطر، وآخر ما فيها: «يتلوه: ولكن كان سفيان» ، وهي الكلمات التي بعد إشارة الإلحاق في السطر والورقة نفسها، ومن حسن حظنا أن المصور صور الورقتين مرتين ¬

(¬1) من دقة المصور -جزاه الله خيراً- أنه صور هذه الورقة مرتين: مرة ما في أصلها تامة دون الورقة المرفقة معها، والثاني: بالطمس الذي تظهر الورقة معه دون أصل الكتاب، ولم يكرر الترقيم، فأحسن في المرتين، وجزى الله خيراً مَنْ كان سبباً في وصول هذه المصوَّرة بين يديَّ، وأحسن إليه، وأجزل له المثوبة.

بالطمس الذي في الأصل، ويظهر فوقه الإلحاق، ومن غيره دون الإلحاق، فلم يقع نقص، ولله الحمد. ويبقى التنويه والتنبيه على سقط وقع في (ق 16/أ) و (16/ب) في آخر أربعة أسطر منها، ولحُسن حظنا أن النقص الأول كان في لفظ أحاديث، اجتهدنا في تتميمها من دواوين السنة، بتصريح من السّخاوي في النقل الذي أوردناه سابقاً عنه -وهو في «الأجوبة المرضية» - أنها في كتابنا «السر المكتوم» ، ولا وجود لها في غير هذا الموطن فيه، والسياق يساعد على ذلك. وأما الموطن الآخر، فهو موجود بحروفه في «الأجوبة المرضية» -أيضاً-، ضمن كلام للسخاوي، أوّله وآخره مثبت في الأصل، والساقط بينهما مع التنويه على أن المثبت من كلامه بمقدار السقط، والسياق يقتضيه، والمعنى تام به، والقلب منشرح تماماً على أن سد هذا النقص بالنحو المذكور يجبر الكسر في المخطوط الوحيد -فيما نعلم- لهذا الكتاب، والحمد لله على توفيقه، واخترنا الألفاظ التي ساقها المصنف في رسالته المرفقة (¬1) مع كتابنا هذا، والله الموفق. ****** ¬

(¬1) علماً بأن جل النقولات التي فيها متطابقة مع ما في «السر المكتوم» ، وهي بخط المصنف المعروف.

ترجمة المصنف

* ترجمة المصنِّف (¬1) : • اسمه، ونسبه، ولقبه، وكنيته: هو الشيخ العلامة، الرحالة الحافظ؛ محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن ¬

(¬1) من خلال استقراء كامل لـ «الضوء اللامع» ، وذكر ما يخص السَّخاوي منه من أحداث، وغير ذلك. وهذه قائمة بمصادر ترجمته التي وقفنا عليها: * «الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر» (مواطن عديدة، تؤخذ من فهرس الأعلام في آخره) . * «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع» (8/2-32) . * «التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة» (2/513-514) . ثلاثتها للسَّخاوي. * «القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي» (2/215-229) . * «متعة الأذهان من التمتع بالأقران بين تراجم الشيوخ والأقران» ، تأليف محمد بن طولون الصالحي، ويوسف بن حسن بن عبد الهادي بن المبرد الحنبلي، انتقاء: أحمد بن محمد الحصكفي. * «مفاكهة الخلان في حوادث الزمان» لمحمد بن علي بن طولون (1/178) . * «تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر» (ص 18-23) . * «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن التاسع» (2/184-187) . * «الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة» (1/53-54) . * «ذيل طبقات الشافعية» لأحمد بن محمد الأسدي (ق 90/ب) مصورة من الجامعة الإسلامية. * «بدائع الزهور في وقائع الدهور» (3/361) ، ط 3، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، (1404هـ/1984) . * «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» (8/15-17) . * «فهرس الفهارس والأثبات» (2/989-993) . * «نظم العقيان في أعيان الأعيان» (ص 152-153) . * «ثبت أبي جعفر أحمد بن علي البلوي» (ص 374-375) . * «ديوان الإسلام» لمحمد بن عبد الرحمن الغزي (ص 3 -97) . * «إبراز الغيّ الواقع في شفاء العيّ» (ص 11- ضمن «مجموعة رسائل اللكنوي» ) (المجلد السادس) . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= * «تذكرة الراشد برد تبصرة الناقد» (ص 48، 103- 161- ضمن مجموعة «رسائل اللكنوي» ) (المجلد السادس) . * «التعليقات السنية على الفوائد البهيّة في طبقات الحنفية» (ص 38) . * «الرفع والتكميل» (ص 64، 65) . * «فرحة الطلاب والمدرسين بذكر المؤلّفات والمؤلفين» . جميعها لأبي الحسنات عبد الحي اللكنوي (ت 1304هـ) . * «الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة» (ص 84) . * «تاج العروس» مادة سخي (38/ 254-255) ط. المجلس الوطني للثقافة، دولة الكويت. * «كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون» (ص 2، 12، 29، 62، 107، 128، 156، 157، 295، 367، 465، 503، 618، 909، 1017، 1089، 1172، 1356، 1362، 1364، 1365، 1779، 1884، 1911، 1964، 1969) . * «فهرس ابن غازي» (ص 148-169) . * «التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول» ، أبو الطيب محمد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني القنوجي (ت 1307هـ) ، بتصحيح وتعليق: عبد الحكيم شرف الدين، المطبعة الهندية العربية، سنة 1382هـ/1963م، (ص 439-440) . * «الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد» (ص 104) لابن ديبع الشيباني. * «إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون» (م 1/27، 29، 30، 31، 34، 57، 70، 112، 117، 124، 125، 131، 151، 155، 158، 159، 175، 181، 187، 191، 195، 217، 221، 227، 236، 238، 259، 351، 379، 474، 547، 549، 579، 605- م2/12، 38، 39، 79، 80، 93، 123، 124، 150، 169، 180، 205، 222، 223، 246، 247، 252، 253، 254، 255، 375، 407، 420، 532، 594، 719) . * «هدية العارفين في أسماء الكتب وآثار المصنفين» ، إسماعيل باشا البغدادي، وكالة المعارف- استانبول، (1955) (2/219-221) . * «اكتفاء القنوع بما هو مطبوع» لفان ديك، (99) . * «التعريف بالمؤرخين» ، المحامي عباس العزاوي، 1376 هـ/1957م، شركة التجارة والطباعة المحدودة، (1/252-253) . * «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» لإجناتيوس كراتشكوفسكي الروسي (القسم الثاني/ ص 485) ، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم. =

أبي بكر بن عثمان بن محمد، الملقب شمس الدين، أبو الخير وأبو عبد الله، بن الزين -أو: الجلال- أبي الفضل وأبي محمد، السَّخاوي الأصل، ¬

= * «معجم المؤرخين المسلمين» ليسري عبد الغني، (88) . * «المؤرخين في مصر» لمصطفى زيادة، (ص 30) . * «مؤرخو مصر» لمحمد عبد الله عنان، (ص 127-141) . * «مصر الإسلامية وتأريخ الخطط المصرية» لمحمد عنان -أيضاً- (ص 60-63، وص 263-275) . * «شمس الدين السَّخاوي: حياته وآثاره» لمحمد عنان -أيضاً-، مقالة نشرت في مجلة «الرسالة» المصرية، على حلقتين، سنة (3) (ص 1011-1013، 1046-1048) . * «معجم المطبوعات العربية والمعربة» ، يوسف إلياس سركيس، مطبعة سركيس بمصر، 1346هـ/1928م، (ص 1012-1014) . * «تاريخ آداب اللغة العربية» ، جرجي زيدان، دار الهلال، علَّق عليها وراجعها د. شوقي ضيف، (3/183-184) . * «مداخل المؤلفين والأعلام العرب» لفكري زكي الجزار، (2/ 659-660) . * «الأعلام» (6/194-195) . * «معجم المؤلفين» (10/150) . * «المستدرك على معجم المؤلفين» (ص 678-679) . * «علم الحديث في مكة المكرمة» لصالح يوسف معتوق، (ص 364-372) . * «تزيين الألفاظ بتتميم ذيول الحفاظ» (ص 62-67) . * «السخاوي مؤرخاً» لعبد الله بن ناصر الشقاري، أطروحة دكتوراة، من جامعة الإمام محمد ابن سعود، قسم التأريخ والحضارة، سنة (1406هـ) . * «الحافظ السخاوي وجهوده في الحديث وعلومه» لبدر بن محمد العماش، رسالة دكتوراة، مطبوعة عن دار الرشد، في مجلدين، سنة (1421هـ) . * «التعريف بما أفرد من الأحاديث بالتَّصنيف» (ص 24، 42، 44، 50، 75، 95، 111، 163، 180) . * وعقدت ندوة بالقاهرة عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، سنة (1981م) ، وقدمت فيها عدة بحوث متخصصة عن السخاوي -رحمه الله تعالى-.

مولده، ونشأته:

نسبة إلى «سخا» (¬1) بمصر، القاهري مولداً، الشافعي مذهباً، المصنّف. يعرف بالسَّخاوي، وربما يقال له: ابن البارد، شهرة لجدّه، بين أناس مخصوصين، لذا لم يشتهر بها أبوه بين العامَّة ولا هو؛ بل يكرهها، كابن عُليَّة وابن المُلقن، ولا يذكره به إلا من يريد احتقاره. ويقال له: الغزولي، والأثري، والبغدادي، وقد أفصح بذلك عن قوله في «إرشاد الغاوي» (ق 11/ب) بعد كلام: «وحينئذٍ؛ فالسخاوي نسبته الظاهرة، وربما يقال له: البغدادي -إن صح- بلا مكابرة، وهو فيهما بالنظر إلى الأصل: قاهري المولد مع الدار بلا فصل، بهائي الخطة كما بينه وضبطه، بُلقيني المجاورة، عسقلاني التتلمذ والمشاورة، الأَثَري -بفتحتين ومثلثة- من غير توقف؛ نسبة إلى الأثر، وصفه بعضهم بالغزولي؛ لظنه التنقيص به من الجاهل الفضولي، ولعمري إنها كما ستقف عليها؛ حرفة لأبيه وجده، وغيرهما من الأئمة، المصاحب كل منهما لسعده» . • مولده، ونشأته: ولد السَّخاوي في ربيع الأول، سنة (إحدى وثلاثين وثمان مئة) ، بحارة بهاء الدين قراقوش (¬2) ، علوّ الدرب المجاور لمدرسة شيخ الإسلام البلقيني، محل أبيه وجده بالقاهرة. ثم تحول منها حين دخل في الرابعة من عمره لملكٍ اشتراه أبوه مجاور لسكن شيخه الحافظ ابن حجر، الذي كان له أبلغ الأثر في حياته -كما سيأتي-. ¬

(¬1) مدينة من المدن المصرية القديمة، نسب لها غير واحد من العلماء، وهي الآن من قرى مركز (كفر الشيخ) بمديرية الغربية بمصر، وكفر الشيخ يبعد (170) كم عن القاهرة، انظر لها: «معجم البلدان» (3/196) ، «التحفة المصرية بأسماء البلاد المصرية» (ص 80) ، «المعجم الجغرافي في البلاد المصرية» (2/2/141) . (¬2) انظر عنها «الخطط» (2/2) للمقريزي.

رحلاته، وشيوخه، وتلاميذه، وعلمه:

التحق بالمكتب صغيراً عند المؤدّب الشريف: عيسى بن أحمد المقسي، فأقام عنده يسيراً، ثم تفقه على زوج أخته الفقيه الصالح البدر: حسين بن أحمد الأزهري، فقرأ عنده القرآن، وصلى به للناس التراويح في رمضان، على عادتهم في ذلك إذا أكمل الطالب حفظ القرآن الكريم. ثم توجّه به أبوه للفقيه المجاور لسكنه الشيخ المفيد: محمد بن أحمد النحريري الضرير. ثم توجه إلى الفقيه: محمد بن عمر الطباخ، وحفظ عنده بعض «عمدة الأحكام» . ثم انتقل للعلامة الشهاب ابن أسد، فأكمل عنده حفظها، وحفظ «التنبيه» ، و «المنهاج» ، و «ألفية ابن مالك» ، و «النخبة» ، وتلا عليه لأبي عمرو، ثم لابن كثير، وسمع عليه غيرهما من الروايات إفراداً وجمعاً، وتدرَّب به في المطالعة والقراءة، وصار يشارك غالب من يتردَّد إليه، للتفهُّم في الفقه، والعربية، والقراءات، وغيرها. ونستطيع أن نتبيّن بعض ملامح نشأة السَّخاوي العلمية، وكونه من عائلة ذات اهتمامات علمية، من خلال الوقوف على ترجمة جده محمد بن أبي بكر ابن عثمان (والد أبيه) - «الضوء اللامع» (7/175- 177) ، وجده الآخر - «الضوء» (4/124- 125) ، وأبيه - «الضوء» (7/205) ، وشقيقه أبي بكر بن عبد الرحمن - «الضوء» (11/44-46) ، وعمه أبي بكر بن محمد - «الضوء» (11/73) ، وأولاد أخيه -محمد بن عبد القادر (8/67) ، ومحمد عز الدين أبي اليمن بن أبي بكر (7/171) ، وزين العابدين محمد بن أبي بكر (11/172-173) -، وابنه أحمد (2/ 120) ، وعنايته المبكرة به علميّاً. • رحلاته، وشيوخه، وتلاميذه، وعلمه: جاب السَّخاوي البلادَ وجالَ، وجدّ في الرحلة والطلب، وارتحل إلى

حلب، ودمشق، وبيت المقدس، والخليل، ونابلس، والرملة، وحماة، وبعلبك، وحمص، ودخل وسمع في كثير من المدن والقرى التي في الطرق إليها، بحيث زاد عدد من أخذ عنهم- عن الأعلى والدُّون والمساوي- على أَلف ومئتين، وزادت الأماكن التي تحصَّل فيها من البلاد والقرى على الثمانين. وقد سجَّل لنا السَّخاوي كثيراً من أحداث هذه الرحلات العلمية التي قام بها، فقد ألَّف «الرحلة الحلبية وتراجمها» ، و «الرحلة المكية» ، و «الرحلة السكندرية» ، إضافة إلى مصنَّفه «البلدانيات العليات» ، الذي ذكر فيه أسماء ثمانين بلدة دخلها وسمع بها، مع تخريج حديثٍ، أو أثرٍ، أو شعرٍ، أو حكايةٍ؛ عن أحد شيوخه في تلك البلدة بإسناده، أضف إلى ذلك «معجمه» الذي سجل فيه أسماء شيوخه الذين أخذ عنهم، وسماه: «بغية الراوي بمن أخذ عنه السَّخاوي» ، أو «الامتنان بشيوخ محمد ابن عبد الرحمن» ، كما سيأتي وصفه في مكانه. كما أن الحافظ السَّخاوي -رحمه الله- أمضى كثيراً من سنوات عمره مجاوراً في مكة والمدينة. وقد حاولنا من خلال إجراء مسح شامل لمصنفاته، خاصة «الضوء اللامع» ، و «التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة» ، تحديد أماكن ارتحاله وإقامته، فوقفنا من ذلك على ما ملخصه: 1- لم يغادر مصر طوال سنوات حياة شيخه الحافظ ابن حجر؛ حتى لا يفوته شيء من علمه، وكان أثناء ذلك يحرص أشد الحرص على لقاء الغرباء والوافدين واختبار أحوالهم - «الضوء اللامع» (1/77) . 2 - جاور في مكة خمس مرات - «الضوء» (3/118) - كانت المجاورة الأولى منها سنة (إحدى وستين وثمان مئة) - «الضوء» (10/ 170) - وكان في مكة خلال السنوات التالية:

- (ست وخمسين) - «الضوء» (1/334-335) ، (2/59) ، (10/ 331) ، (12/64) . - (تسع وستين) - «الضوء» (9/170) . - (سبعين) - «الضوء» (5/185) ، وحج فيها (12/72) . - (إحدى وسبعين) - «الضوء» (2/134، 154) (6/270) ، (7/ 277) . - (أربع وسبعين) - «الضوء» (7/292) . - (ست وثمانين) (¬1) - «الضوء» (2/322) ، (6/280) ، (8/56، 115) . - (سبع وثمانين) - «الضوء» (3/138) ، (11/135، 137) . وعاد خلالها من مكة إلى القاهرة، فوصل القاهرة في أول سنة (ثمان وثمانين) - «الضوء» (8/67) . - (اثنين وتسعين) - «الضوء» (2/81، 290) ، (7/243) ، (11/ 135) . - (ثلاث وتسعين) - «الضوء» (1/344) ، (2/86) ، (6/275، 306) . - (أربع وتسعين) - «الضوء» (1/250) ، (6/275) ، (7/220، 279) . وغادرها أثناء هذه السنة - «الضوء» (11/93) . - (خمس وتسعين) ، وعاد خلالها إلى القاهرة - «الضوء» (2/184) ، (3/240) . - (ست وتسعين) - «الضوء» (5/274) ، (7/171) ، (9/164) . - (سبع وتسعين) - «الضوء» (2/81، 290) ، (7/243) ، (11/135) . - (ثمان وتسعين) - «الضوء» (7/240) ، وتوجه خلالها إلى المدينة ثم ¬

(¬1) ثم تبين لنا من «إرشاد الغاوي» (ق 65/ب) أن السخاوي جاور سنة (خمس وثمانين) ومعه أمه وعياله، واستمرت هذه المجاورة إلى آخر سنة (سبع وثمانين) ، فتكون هذه المجاورة والتي بعدها (واحدة) لا (اثنتين) .

عاد. فقد قال في ترجمة أحدهم في «الضوء» (3/157) : «وزار المدينة غير مرة، وكان في قافلتنا سنة (ثمان وتسعين) ، ذهاباً وإياباً» . - (تسع وتسعين) - «الضوء» (5/274) ، (10/148) ، (11/145) . 3 - كان في القاهرة خلال السنوات التالية -بعد خروجه منها بعد وفاة شيخه كما تقدم-: - (ست وسبعين) - «الضوء» (9/66) . - (سبع وسبعين) - «الضوء» (8/34) . - (تسعين) - «الضوء» (9/105، 200) ، (10/293) . - (اثنتين وتسعين) - «الضوء» (9/241) ، وذهب (¬1) خلالها للحج ثم عاد إليها. - (خمس وتسعين) - «الضوء» (9/165) . - (ست وتسعين) (¬2) - «الضوء» (11/195) . 4 - كما أنه كان في حلب سنة تسع وخمسين (¬3) - «الضوء» (1/242) ، وكذلك في نابلس - «الضوء» (8/69) . 5 - وجاور بالمدينة النبويَّة مرتين - «الضوء» (5/20) -، الثانية منهما سنة (ثمان وتسعين) - «الضوء» (9/104) -، وكان فيها خلال السنوات التالية: ¬

(¬1) ومعه أمه وعياله، وأخوه عبد القادر وابنه وعيالهما. (¬2) ومعه والدته وأهله، وابن أخيه وأولاده، واستمر مقيماً بمكة، وماتت أمه في سنة (سبع وتسعين) من رمضان، ثم سافر إلى المدينة في جمادى الآخرة، من سنة (ثمان) هو وأهله، وصام بها رمضان، ثم عاد إلى مكة في شوال، وأفاد واستفاد كثيراً، وبقي يحدث فيها حتى سنة (إحدى وتسع مئة) ، فاتجه إلى المدينة، فوطنها يوم الاثنين التاسع عشر من ذي الحجة، فاستقر بها بالمدرسة الزينية، تجاه باب الرحمة، وبقي يحدث بها إلى وفاته. (¬3) له فيها مصنف خاص، ولخّص أحداثها في «الضوء اللامع» (8/8) ، «إرشاد الغاوي» (ق 27/ب) .

- (ست وخمسين) - «التحفة اللطيفة» (2/395) ، (3/541) . - أواخر سنة (سبع وخمسين) - «الضوء» (5/109) . - (سبع وثمانين) - «التحفة» (2/439) -، دخلها أثناء السنة - «التحفة» (1/143) . - (ثمان وثمانين) ، وكان جاور قبلها- «التحفة» (2/156) . - (ثمان وتسعين) - «التحفة» (1/107، 494) ، «الضوء» (9/48) . وقد نصّص السَّخاوي في مقدمة «الضوء اللامع» أنه ترجم فيه لجميع شيوخه وتلاميذه، وكان أثناء تراجمهم ينبه على ذلك، ويبسط القول فيه، كأن يذكر أسماء المصنّفات التي قرأها على شيخه، أو قرأها تلميذه عليه، ومكان اللقاء، وتاريخه، ونحو ذلك، ولعل شيوخه المترجمين في «الضوء اللامع» و «التحفة اللطيفة» قد بلغوا مئات، وأكثر منهم تلاميذه. وقد أفرد السَّخاوي كلاًّ منهم بالتصنيف، كما تقدَّم. ثم إن السَّخاوي تولَّى التدريس بعدة مدارس، منها المدرسة الصَّرْغَتْمَشيّة (¬1) بالقاهرة -كما ذكر في «الضوء اللامع» (5/294) -، والمدرسة البرْقوقِية (¬2) - «الضوء» (1/210) -، ومدرسة السلطان الأشرف بمكة -كما يأتي عند ذكر وفاته-، والمدرسة الكاملية (¬3) ، والتي وقع له بها حادثة، سجلها في مصنفه: ¬

(¬1) نسبة إلى الأمير سيف الدين صرغتمش الناصري، بناها سنة (ست وخمسين وسبع مئة) ، وهي خارج القاهرة بجوار جامع ابن طولون، بينه وبين قلعة الجبل. وكان الأمير قد وقفها للحنفية. انظر: «وجيز الكلام» (1/88) ، «الخطط» (2/403) . (¬2) نسبة إلى السلطان برقوق، انتهى منها سنة (ثمان وثمانين وسبع مئة) ، تعرف بعد ذلك بجامع برقوق، بشارع المعز لدين الله الفاطمي بالنحاسين. انظر: «وجيز الكلام» (1/286) . (¬3) نسبة إلى السلطان الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب (ت 635هـ) ، بنى هذه المدرسة سنة (اثنتين وعشرين) ، وتقع بخط بين القصرين بالقاهرة. انظر: «الخطط» (2/375) للمقريزي. =

ملازمته للحافظ ابن حجر، واستفادته منه، ومدحه له:

«الفرجة بكائنة الكاملية التي ليس فيها للمعارض حجة» ، كما سيأتي ذكره. • ملازمته للحافظ ابن حجر، واستفادته منه، ومدحه له: سمع السَّخاوي الكثير من الحديث على شيخه، إمام الأئمة، الشهاب ابن حجر، وأقبل عليه بكلّيته، إقبالاً يزيد على الوصف، حتى حمل عنه علماً جمّاً، واختصَّ به كثيراً، بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قرب منزله منه، وكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر. وقرأ عليه في المصطلح، وسمع عليه كثيراً، كـ «الألفية» و «شرحها» مراراً، و «علوم الحديث» لابن الصلاح إلا اليسير من أوائله، وأكثر تصانيفه في الرجال كـ «التقريب» ، وثلاثة أرباع أصله، و «اللسان» بتمامه، و «مشتبه النِّسبة» ، و «تخريج الزاهر» ، و «تلخيص مسند الفردوس» ، و «المقدمة» ، و «أماليه الحلبية» ، و «الدمشقية» ، وغالب «فتح الباري» ، و «تخريج المصابيح» (¬1) ، وابن الحاجب الأصل، و «تغليق التعليق» ، ومقدمة «الإصابة» ، وجملة يطول تعدادها. ولم يفارقه إلى أن مات، وأذن له في الإقراء والإفادة والتصنيف. كان شيخه شيخ الإسلام ابن حجر يحبُّه، ويُثني عليه، وينوِّه بذكْرِه، ويعترف بعلوِّ فخره، ويرجحه على سائر جماعته المنسوبين إلى الحديث وصناعته. قال السَّخاوي في ترجمة شيخه ابن حجر، المسماة بـ «الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر» ، في (الباب السادس: في سياق شيء من بليغ كلامه) ، (2/742-743) : ¬

= وقد رُسمَتْ ديارُها إلا بقايا منها تقع على الجانب الغربي لسوق النحاسين إلى الناحية الشمالية لمدرسة السلطان برقوق. انظر: «تراث القاهرة» (37) . (¬1) واسمه: «هداية الرواة» طبع في (6) مجلدات عن دار ابن القيم ودار ابن عفان، بتحقيق أخينا الشيخ علي الحلبي -حفظه الله-، وضمنت أحكامه على الأحاديث ضمن موسوعة لي في (أحكام الحافظ ابن حجر على الأحاديث والآثار) مرتبة على المواضيع، يسر الله إتمامها بخير.

مدحه، والثناء عليه:

«ومنه: ما كتب به على أول شيء خرّجتُه في ابتداء الطلب: وقفتُ على هذا التخريج الفائق، وعرفتُ مَنَّ الله على عباده، بأن أَلحق الأخيرَ بالسابق، ولولا ما أفرط منه من الإطراء فيَّ، لما عاقني عن الثناء عليه عائق، واللهَ المسؤول، أن يعينه على الوصول إلى الحصول، حتى يتعجّب السابقُ من اللاحق» . وقال فيه (3/1146) وهو يعدِّد تلاميذه -وذكر نفسه-: «لازمه بأخَرة أشدَّ ملازمة، حتى حمل عنه ما لم يُشاركه فيه غيره من الموجودين، وأقبل الشيخ عليه -بحمد الله- بكلِّيته حتى صار يُرسل إليه قاصِدَه، يُعْلمه بوقت ظهوره من بيته؛ ليقرأ عليه، وسمع من لفظه أشياء، وحمل عنه أكثر تصانيفه، وأذن له في الإقراء ... » . وقد اختصَّ السَّخاوي بشيخه الحافظ ابن حجر أبلغ اختصاص، حتى إن أحد تلاميذه كان يمدحه بتسميته «ابن حجر» (¬1) . كما أنا لا نكاد نجد مصنَّفاً من مصنفات السَّخاوي، صغيراً أو كبيراً، إلا وينقل فيه من تحريرات وتحقيقات شيخه الحافظ ابن حجر، مما يدلّ على شدَّة اعتنائه بها، واستحضاره لما فيها. • مدحه، والثناء عليه: قال الشوكاني في «البدر الطالع» (2/185) : « ... وبالجملة فهو من الأئمة الكبار، حتى قال تلميذه جار الله ابن فهد: والله العظيم لم أَرَ في الحفّاظ المتأخرين مثله، يعلم ذلك كل من اطلع على مؤلفاته، أو شاهده، وهو عارف بفنه، منصف في تراجمه. ورحم الله جدّي؛ حيث قال في ترجمته: ¬

(¬1) «الضوء اللامع» (7/270) .

مؤلفاته

إنه انفرد بفنّه، وطار اسمه في الآفاق به، وكثرت مصنّفاته فيه وفي غيره، وكثير منها طار شرقاً وغرباً، شاماً ويمناً، ولا أعلم الآن من يعرف علوم الحديث مثله، ولا أكثر تصنيفاً، ولا أحسن، وكذلك أخذها عنه علماء الآفاق، من المشايخ والطلبة والرفاق، وله اليد الطولى في المعرفة بأسماء الرجال، وأحوال الرواة، والجرح والتعديل، وإليه يشار في ذلك، ولقد قال بعض العلماء: لم يأت بعد الحافظ الذهبي مثله سلك هذه المسالك، وبعده مات فن الحديث، وأسف الناس على فقده، ولم يخلف بعده مثله» . ولا يفوتنا التنبيه على أن السَّخاوي -رحمه الله- كان حريصاً على تسجيل ثناء الناس عليه، سواء شيوخه أم تلاميذه، أو حتى العامة ممن يلتقي بهم، حتى أفرد بالتصنيف كتاباً سماه: «من أثنى عليه من العلماء والأقران ... » ؛ بل عقد فصلاً أثناء ترجمته نفسه في «الضوء اللامع» (¬1) لمن أثنى عليه، إضافة إلى ذكره عبارة كل منهم أثناء ترجمته من «الضوء اللامع» ، أو «التحفة اللطيفة» ، أو الإشارة -على الأقل- إلى أنه كان يفعل ذلك. ويبدو لنا أن سبب هذا الحرص الشديد: ما كان بين السَّخاوي وبعض معاصريه من التنافس، خاصة عصريَّه الحافظ السيوطي -كما يأتي-. • مؤلفاتهُ (¬2) : إن الحافظ شمس الدين السخاوي (831-902هـ) من العلماء المكثرين من التصنيف في جوانب عديدة من العلوم الإسلامية، خاصة علْمي الحديث والتاريخ، وما زال المطبوع منها شيئاً قليلاً، وقد امتازت مؤلفاته بالتحرير ¬

(¬1) (8/19- 32) . (¬2) جمعتها في ثبت، ورتبتها على حروف المعجم، وصدر أول مرة عام (1419هـ) ، وفيه (270) عنواناً، ثم زدت عليه وحققته وأضفت إليه وبلغت الكتب التي فيه (348) مؤلفاً، سيصدر قريباً -إن شاء الله تعالى-.

والجودة، حتى استحقت ثناء العلماء المُنْصِفين. قال العيدروسي في «تاريخ النور السافر» (ص20) : «وتصانيفه إليها النهاية في الشهادة له لمزيد علوّه وفخره» . وقال (ص21) : «وقرظ أشياء من تصانيفه غير واحد من أئمة المذهب....، وكتب الأكابر بعضها بخطوطهم، حتى قال بعضهم: إن لم تكن التصانيف هكذا، وإلا فلا» . وقال ابن العماد في «شذرات الذهب» (8/16) : «وصنَّف كتباً إليها النهاية، لمزيد علوه وفصاحته» . وقال تلميذه جار الله ابن فهد -كما في «البدر الطالع» (2/185-186) : - « ... ولقد -والله العظيم- لم أر في الحفَّاظ المتأخرين مثله، ويعلم ذلك كل من اطلع على مؤلفاته أو شاهده، وهو عارف بفنه، منصف في تراجمه، ورحم الله جدّي حيث قال في ترجمته: إنه انفرد بفنه، وطار اسمه في الآفاق به، وكثرت مصنفاته فيه وفي غيره، وكثير منها طار شرقاً وغرباً، شاماً ويمناً، ولا أعلم الآن من يعرف علوم الحديث مثله، ولا أكثر تصنيفاً ولا أحسن. وكذلك أخذها عنه علماء الآفاق من المشايخ والطلبة والرفاق، وله اليد الطُّولى في المعرفة بأسماء الرجال، وأحوال الرواة، والجرح والتعديل، وإليه يشار في ذلك ... » . وقال اللكنوي في «التعليقات السنية» (ص38) : «وقد طالعت من تصانيفه ... » وذكر جملة منها، وقال: «وكلها نفيسة جداً، مشتملة على فوائد مطربة» . وفي «ثَبَت البلوي» (ص375) أن السَّخاوي أخبر عن نفسه: «أن له مئة وستين تأليفاً» . وذكر الأسدي في «ذيل طبقات الشافعية» (ق 90/ب) ؛ أن مؤلفات السخاوي تبلغ المئتين، إلى ذلك الوقت، وإلا ... فقد نقل الكتاني في «فهرس الفهارس» (2/989) أن مؤلفاته «تنيف على أربع مئة مجلد، كما ذكر وفصَّل في كثير من إجازاته» .

المطبوع منها

ثم وجدت هذه العبارة نقلها اللكنوي عن ابن روزبهان في «شرح شمائل الترمذي» ، ونص عبارته: «وله تصانيف تنيف على أربع مئة مجلد، كما ذكر لي وفصَّل كثيراً منها في إجازاته» . وهذا هو المطبوع منها (¬1) : 1- الابتهاج بأذكار المسافر الحاج: طبع مرتين، الأولى: بتحقيق رضوان محمد رضوان؛ عن دار الكتاب العربي، والثانية: بتحقيق علي رضا؛ عن مكتبة لينة، بمصر. 2- الاتعاظ بالجواب عن مسائل بعض الوعاظ: طبع بتحقيق عمرو علي عمر عن الدار السلفية في الهند باسم: «الإيقاظ» ! وهو خطأ. 3- الأجوبة العلية عن الأسئلة الدمياطية: طبع مرتين، الأولى: بتحقيق الأخ مشعل الجبرين عن دار ابن حزم، والثانية: بتحقيقي عن دار غراس. 4- الأجوبة المرضية فيما سئل عنه من الأسئلة الحديثية (¬2) : طبع بتحقيق ¬

(¬1) لغاية كتابة هذه السطور. (¬2) نسبت للسخاوي أجزاء كثيرة، هي موجودة برمتها فيه، وهي: جزء أفرده لحديث: «ثلاثة لا يعاد صاحبهن ... » (1/39) ، جزء في إحياء أبويّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (ق164) ، جزء في إخفاء السريرة (1/299، 3/1072) ، جزء في {آلم تنزيل} عند النوم (2/ 458) ، جزء في صيام شهر شعبان (1/32) ، جزء في طرق حديث: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة» (3/1598) ، جزء في طرق حديث: «أكرموا الخبز» (ق81) ، جزء في طرق حديث: «تناكحوا تناسلوا» (1/356) ، جزء في طرق حديث «لحوم البقر داء ... » (1/21) ، جزء في طرق حديث: «لو كان لابن آدم ... » (1/177-188) ، جزء في طرق حديث: «من باع داراً أو عقاراً ... » (ق 38) ، جزء في طرق حديث: «نية المؤمن أبلغ من عمله» (1/345-352) ، جزء في طرق حديث «لا يدخل الجنة ولد زنية» (1/96) ، جزء في فقد البصر (2/644-658) ، جزء في قص الأظفار (1/93-95) ، جزء مفرد في الأحاديث الواردة في الشياة والمعز (3/1063) ، سؤال عن تعيين قبر عمرو بن العاص (2/ 821) ، سؤال عن حديث: «من تزين للناس ... » (1/299) ، سؤال في أسماء أهل الصفة (1/273) ، =

علي رضا بعنوان «الفتاوى الحديثة» عن دار المأمون، وطبع بعنوان: «الأجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه من الأحاديث النبوية» عن دار الراية، بتحقيق د. محمد إسحاق، في ثلاثة مجلدات، وفرغ أخونا الشيخ صلاح الزياني وآخرون من خدمته، وسيظهر -إن شاء الله- قريباً. 5- استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذوي الشرف: طبع بتحقيق الأخ الشيخ خالد بابطين، عن دار البشائر، في مجلدين. 6- الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ: طبع بتحقيق المستشرق روزثنال، وترجمه د. صالح العلي عن مؤسسة الرسالة، وطبع في القاهرة عن المكتبة التجارية، وفي دمشق عن مطبعة الترقي، وفي بغداد عن مطبعة العاني، ونشر ضمن كتاب: «علم التاريخ عند المسلمين» ، وعن مكتبة الساعي بتحقيق محمد عثمان الخشت. 7- الانتهاض في ختم الشفا لعياض: طبع بتحقيق عبد اللطيف الجيلاني عن دار البشائر. 8- بغية الراغب المتمنِّي في ختم سنن النسائي رواية ابن السني: طبع بتحقيق أبي الفضل إبراهيم بن زكريا عن دار الكتاب المصري، وبتحقيق عبد العزيز بن محمد عن مكتبة العبيكان. 9- بغية العلماء والرواة: وهو ذيل قضاة مصر، طبع بتحقيق جودة هلال ومحمد محمود صبح عن الدار المصرية للتأليف والترجمة. 10- البلدانيات العليات: نشره الأخ حسام القطان عن دار العطاء باسم «البلدانيات» .

_= الكلام على حديث: «تنزل الرحمات على البيت المعظم» (1/26-31) ، الكلام على حديث: «من كان له إمام ... » (1/145-148) ، الكلام على حديث: «المنبتُّ لا أرضاً قطع ... » (1/10-15) ، الكلام على قول: «كل الصيد في جوف الفرا» (3/1176-1189) .

11- التبر المسبوك في الذيل على تاريخ المقريزي: السلوك، نشر منه مجلداً شارل غلياردو بيك عن مطبعة بولاق، ثم طبع مجلد منه يحتوي على السنوات (845- 857هـ) عن مكتبة الكليات الأزهرية. 12- تحرير الجواب عن ضرب الدواب: نشر بتحقيقنا في مجلة «الحكمة» ، العدد الرابع (ص 215- 257) ، وطبع كذلك بتحقيق الأخ هادي المري عن دار ابن حزم، وقبله عن الدار نفسها بتحقيق محمد خير رمضان. 13- تحرير المقال في الكلام على حديث: «كل أمر ذي بال....» : ذكره ضمن «الأجوبة المرضية» (1/ 189- 203- ط. الراية) . 14- تحرير المقال والبيان في الكلام على الميزان: طبع في مجلة «البحوث الإسلامية» الصادرة عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء- الرياض، (العدد السادس والخمسين) ، بتحقيق د. بدر العماش. 15- تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والبقاع المباركات: طبع بالمطبعة الأزهرية بهامش المجلد الرابع من كتاب المِقَّري: «نفح الطيب» ، ثم طبع مفرداً بتحقيق حسن قاسم ومحمود ربيع منسوباً لأبي الحسن نور الدين علي بن أحمد السخاوي، عن مكتبة الكليات الأزهرية، وطبع عن معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية بفرانكفورت- ألمانيا. 16- التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة: طبع بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- عن مطبعة السنة المحمدية، ثم طبع عن نشرته أكثر من مرة منها بعناية أسعد طرايزوني الحسيني عن مطبعة دار نشر الثقافة. 17- تخريج أحاديث العادلين لأبي نعيم: طبع بتحقيقي عن دار عمار- الأردن، ودار البشائر الإسلامية، ثم بهامش «فضيلة العادلين» لأبي نعيم، بتحقيقي، عن دار الوطن، الرياض.

18- تخريج أربعي الصوفية للسلمي: طبع بتحقيق الأخ الشيخ علي بن حسن بن عبد الحميد عن المكتب الإسلامي ودار عمار- الأردن. 19- تقريظ كتاب: «الحدائق الغوالي في قباء والعوالي» : نشره محمد بن محمد العلوي، ووضعه في آخر الكتاب المذكور -أي: الحدائق الغوالي-. 20- تكملة ضم المسند المعتلي إلى إتحاف المهرة في أطراف العشرة: وهو ضمن «إتحاف المهرة» ، طبع بتحقيق جماعة، عن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، بالتعاون مع الجامعة الإسلامية. 21- التوضيح الأبهر لتذكرة ابن الملقن في علم الأثر: طبع بمصر قديماً، وأعاد طبعه عنها حسين الجمل عن دار التقوى بالقاهرة، ثم عن مكتبة التربية الإسلامية، ثم بتحقيق عبد الله البخاري عن مكتبة أضواء السلف، ثم مع «نزهة النظر» لابن حجر عن دار الآثار. 22- الجواب الذي انضبط عن: «لا تكن حلواً فتسترط» : طبع بتحقيقنا عن دار التوحيد بالرياض. 23- جواب عن تزوير اليهود كنيسة بيت المقدس: طبع بتحقيقي في مجلتنا «الأصالة» (عدد 20 السنة الخامسة) ، وهو ضمن «الأجوبة المرضية» (3/1015-1032) . 24- جواب في الجمع بين حديثين هما: دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - لأنس بن مالك بكثرة المال والولد، وحديث دعائه - صلى الله عليه وسلم - بذلك على من لم يؤمن به ويصدقه: مطبوع ملحقاً بكتابنا هذا، عن أصلٍ بخط المصنِّف. 25- الجواهر المجموعة: طبع بتحقيق محمد خير رمضان عن دار ابن حزم بعنوان: «الجواهر المجموعة والنوادر المسموعة» . 26- الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر: طبع منه قسم يسير صالح العلي ضمن ترجمة: «علم التاريخ عند المسلمين» في بغداد، ثم طبع

منه مجلد إلى نهاية (الباب الثالث) بتحقيق د. حامد عبد المجيد ود. طه الزيني عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، ونشره صديقنا الأستاذ إبراهيم باجس كاملاً في ثلاثة مجلدات عن دار ابن حزم. 27- حرز الأماني: ذكر عبد الجبار عبد الرحمن في «ذخائر التراث العربي» (1/567) أنه مطبوع في القاهرة بعنوان: «حرز الأماني» ولم نقف عليه. 28- رجحان الكفة في بيان نبذة عن أخبار أهل الصفة: طبع بتحقيقنا عن دار السلف، الرياض، وذكرت مجلة «أخبار التراث العرب» مصر (4) (عدد 46، 47) (ص14) : أن بسيوني زغلول حققه، ولم أره لغاية رقم هذه السطور. 29- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: طبع بعناية المقدسي في القاهرة في اثنتي عشر جزءاً، ثم صور عن دار الحياة ببيروت في 6 مجلدات ضخمة. 30- عمدة القارىء والسامع في ختم «الصحيح الجامع» : حققه الأستاذ علي بن محمد العمران عن دار عالم الفوائد، والأخ الدكتور مبارك الهاجري، ونشره في مجلة «كلية الشريعة» جامعة الكويت (عدد 44 - السنة 16) . 31- الغاية في شرح منظومة ابن الجزري الهداية: طبع بتحقيق ودراسة محمد سيدي محمد عن دار القلم دمشق والدار الشامية بيروت، ثم بعد ذلك بسنتين بتحقيق أبي عائش عبد المنعم إبراهيم عن مكتبة أولاد شيخ، وكتب على طرته: «مخطوطة تطبع لأول مرة» !! 32- غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج: طبع بتحقيق (!!) نظر الفريابي عن مكتبة الكوثر، وله نشرة جديدة، أرجو أن تكون جيِّدة! 33- فتح المغيث بشرح ألفية الحديث: طبع بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان في القاهرة، وصور عن دار الكتب العلمية لبنان، ثم طبع بتحقيق علي حسين عن الجامعة السلفية بالهند، ثم صورته دار الإمام الطبري، ثم صدر عن دار الكتب العلمية بتعليق صلاح محمد عويضة.

34- الفخر المتوالي فيمن انتسب للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الخدم والموالي: طبع بتحقيقي عن مكتبة المنار- الأردن، ثم أخرى مزيدة ومنقحة عن دار غراس. 35- القناعة مما تحسن الإحاطة به من أشراط الساعة: طبع بعناية وفهرسة عصام الحرستاني، وتخريج محمد الزغلي عن دار البيارق ودار عمار بعنوان: «أشراط الساعة» ، ونشر -قبل- بتحقيق مجدي السيد عن مكتبة الساعي، ثم بتحقيق الشيخ د. محمد العقيل عن مكتبة أضواء السلف، وهي أحسن نشراته. 36- القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع: طبع مرات. 37- القول المعتبر في ختم النسائي رواية ابن الأحمر: حققه عبد الرحمن المدخلي، بحث تخرج في الجامعة الإسلامية، ثم طبع عن المكتب الإسلامي ودار ابن حزم بتحقيق جاسم العجمي. 38- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: طبع عن مكتبة الخانجي بتحقيق عبد الله محمد الصديق وعبد الوهاب عبد اللطيف، وعن دار الكتاب العربي بتحقيق محمد بن عثمان الخشت، وصدر عن دار الهجرة- لبنان في مجلد. 39- المنهل العذب الرويّ في ترجمة قطب الأولياء النووي: طبع بتصحيح محمود حسن ربيع عن جمعية النشر والتأليف الأزهرية بعنوان: «ترجمة شيخ الإسلام قطب الأولياء الكرام، وفقيه الأنام محيي السنة مميت البدعة أبي زكريا محيي الدين النووي» ، ثم حققه وعلّق حواشيه د. محمد العيد الخطراوي بالعنوان المذكور عن مكتبة دار التراث، المدينة النبويّة. 40- وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام: طبع في حيدر آباد - الدكن عن دائرة المعارف، ثم طبع مرة أخرى مع «دول الإسلام» ، وطبع بتحقيق حسن إسماعيل مروة عن دار العروبة ودار ابن العماد، ثم طبع بتحقيق بشار عواد وعصام حرستاني وأحمد الخطيمي عن مؤسسة الرسالة.

ما وقع بينه وبين عصريه السيوطي:

• ما وقع بينه وبين عصريه السيوطي: كان بين المصنّف الحافظ السَّخاوي من جهة، والبرهان البقاعي؛ والجلال السيوطي؛ والدِّيمي من جهة أخرى، ما بين الأقران، حتى اشتهر أن السيوطيَّ قال فيه مُضمِّناً: قل للسَّخاوي إِنْ تَعْروك نائبةٌ ... عِلْمي كبحر من الأمواج مُلْتَطمِ والحافظ الدِّيَميُّ (¬1) غَيثُ السحاب فَخُذْ ... غَرْفاً من البحر أو رشفاً من الدِّيَمِ وقال السيوطي في «نظم العقيان» (ص 152) أثناء ترجمة السَّخاوي: «وسمع الكثير جدّاً على المسندين بمصر والشام والحجاز، وانتقى، وخرَّج لنفسه وغيره، مع كثرة لحنه، وعُريِّه من كل علم، بحيث إنه لا يحسن من غير الفنّ الحديثيّ شيئاً أصلاً، ثم أكبَّ على التاريخ، فأفنى فيه عمره، وأغرق فيه عمله، وسلَق فيه أعراض الناس (¬2) ، وملأه بمساوىء الخلق، وكل ما رموه به إن ¬

(¬1) ترجمته في «الضوء اللامع» (5/140) ، وفيها انتقاد السَّخاوي له. (¬2) وتجد هذا عند السيوطي في أكثر من كتاب، ولا سيما «مقاماته» ، انظر منها -على سبيل المثال-: «الدوران الفلكي» (1/394- «شرح المقامات» ) ، و «طرز العمامة» (2/766- «شرح المقامات» ) . وكذلك فعل ابن إياس في «بدائع الزهور» (2/616) ، والشوكاني في غير ترجمة من «البدر الطالع» مثل ترجمة (الرملي) (2/169) ، وترجمة (سبط ابن حجر) (2/355) ، فضلاً عن ترجمة السيوطي نفسه (1/333) ، فإنهم جميعاً ذكروا أن السخاوي بالغ في «الضوء اللامع» من الانتقاص من معاصريه! وأورد عبد الحي اللكنوي في «تذكرة الراشد برد تبصرة الناقد» (ص 159- ضمن «مجموعة رسائله» ) (المجلد السادس) ، نماذج كثيرةً من ذلك. وكذلك فعل عنان في «مصر الإسلامية» (ص 263-275) ، وتجاوز في عباراته إلى حدِّ التطاول عليه، وسيأتيك قريباً -إن شاء الله تعالى- نتف من كلامه، وكأني بالسخاوي يدفع عن نفسه هذه التهمة، لما قال في «الجواهر والدرر» (2/685-686) -وقد ذكر من كتب ابن حجر: «معجم شيوخه» ، و «قضاة مصر» - قال: «وقد نزه كثير من الناس صاحب الترجمة عن هذا الكتاب، وكذا عن «معجم شيوخه» و «قضاة =

صدقاً، وإن كذباً، وزعم أنه قام في ذلك بواجب وهو الجرح والتعديل، وهذا جهل مبين، وضلال وافتراء على الله ... » . كما أن السيوطيَّ صنَّف أكثر من كتاب في الرد على السَّخاوي وانتقاده، منها «الكاوي في تاريخ السَّخاوي» ، المطبوع ضمن «مقاماته» (¬1) ، و «القول المجمل في الردّ على المهمل» (¬2) . ¬

= مصر» ونحوهما، من أجل بيانه لكثيرٍ من الأحوال، بل كان ذلك سبباً لحقد كثيرين عليه. وسمعت بعض المعتبرين يقول عنه: إنه لم يكن يغتابُ أحداً بلفظه، فكتب بخطه ما يكونُ مضبوطاً عنه، محفوظاً له، والأعمالُ بالنيات. فأرجو أن يكون مقصده في ذلك جميلاً، لا كبعض من قام في حظّ نفسه، وجعل التعرّض له أو عدم وصفه بالمرتبة التي أنزل نفسه إياها من الشجاعة والشهامة والفصاحة والديانة، والتفرّد عن جميع أهل عصره بسائر العلوم، وكذا من لم يضِفه إذا ورد عليه، أو تعقّب كلامه، وأشباه ذلك من الخرافات، سبباً للطعن، ولو بالقذف الصريح نظماً ونثراً، وعندي من صنيعه من ذلك ما يفوق الوصف، ويتعجب من صدور مثله ممن له أدنى عقل، بحيث فاق فيه بعض من انتدب للتاريخ من المقادسة، وتفرَّقت أوراقه بعد موته، ولم يرفع الله له رأساً، ولا عوّل أحدٌ على كلامه، وحين استشعر مقت النّاس له بمجرّد ظهور هذه الطامات بعد موته، أوصى بعض خواصه ممن أسند وصيته إليه أن يُخفي أوراقه إلى بعد عشرين سنة من مماته، فأجرى الله -عز وجل- عليه سُنَّته في عباده، وألبسه ممَّا أضمره رداءً بين الناس عُرف به، بحيث لا أعلم -والله- أحداً من خلق الله -تعالى- معه ظاهراً وباطناً، بل صرح هو غير مرة بقوله: ما صحبت أحداً وفارقته وأنا طيبُ الخاطر منه سوى اثنين، قلت: وأحدهما غايةٌ في الإهمال. ولمّا كثرت وقائع هذا الرجل، حَسُنَ التصدي لسيرته، وإفراد ذلك في تأليف، فالجزاء من جنس العمل. ألهمنا الله رشدنا، وأعاذنا من شرور أنفسنا، بمنّه وكرمه» . وانظر دفاعاً آخر للسخاوي في: «الضوء اللامع» (1/5) ، «فتح المغيث» (4/363) . (¬1) (2/ 933-957- تحقيق. سمير الدروبي) . (¬2) منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، ضمن (118 - مجاميع) . وعنه نسخة في مكتبة الجامعة الإسلامية (462 ف/2) . انظر: «مكتبة الجلال السيوطي» لأحمد شرقاوي إقبال (ص 281 رقم 523) ، و «معجم مؤلفات السيوطي المخطوطة بمكتبات المملكة العربية السعودية العامة» (ص 123 رقم 380) ، «دليل مخطوطات السيوطي» (ص 114 رقم 506) .

والحافظ السَّخاوي بدوره ترجم للسيوطي في «الضوء اللامع» (¬1) ترجمة انتقده فيها بشدة؛ بل اتهمه فيها بالاختلاس، ووصفه بالحمق والهوى، وختم ترجمته بقوله: «فسبحان واهب العقول» !، إضافة إلى مصنفه «انتقاد مدعي الاجتهاد» ؛ حيث كان السيوطي يزعم أنه مجدد المئة العاشرة، ثم مصنَّف السَّخاوي الآخر «الاعتبار والموعظة لزاعم رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة» ، الذي يردّ فيه على فتوى للسيوطي بجواز بذلك (¬2) . وقد استمرّت هذه المعركة حتى بعد وفاة الحافظ السَّخاوي، حيث نجد أحد تلاميذ السَّخاوي، وهو أحمد بن الحسين بن محمد الشهاب المكي المتوفى سنة (926 هـ) ، قد ألف رسالتين في الرد على السيوطي والدفاع عن أستاذه، الأولى بعنوان: «الشهاب الهاوي على قِلال الكاوي» ، والثانية بعنوان: «المنتقد اللوذَعي على المجتهد المدَّعي» (¬3) . وعلى كُلٍّ؛ فإن كلام بعضهم في بعض لا يُقبل، لأن المقرَّر عند علماء الجرح والتعديل: أن كلام الأقران في بعضهم غير مقبول؛ مع ظهور أدنى منافسة، فكيف بمثل المنافسة بين هذين الرجلين، التي أفضت إلى التأليف في بعضهم البعض. ومع ذلك فإن الحافظ السَّخاوي كان الأكثر التزاماً وموضوعية، ففي حين نجد الغريب العجيب من العبارات والاتهامات التي انتقد بها السيوطي السَّخاوي ¬

(¬1) (4/65-70) . (¬2) علماً بأن كلاًّ منهم كان يذكر صاحبه بخير قبل أن تحصل بينهم الوقيعة وبعد ذلك -أيضاً-، انظر -على سبيل المثال-: «مقامات السيوطي» (1/614 و2/780، 966) . ومن الفوائد المهمة جدّاً: أن السيوطي في مقاماته «الفارق بين المصنف والسارق» لم يقصد السخاوي البتة، بل فيها (2/228- «المقامات» ) ما يشير إلى أن المردود عليه سرق كتب السخاوي -أيضاً-، خلافاً لما هو شائع أنه ردّ عليه!. (¬3) انظر: «التحفة اللطيفة» (1/177- 178) .

-كما في «الكاوي» مثلاً- فإنَّا لا نجد عُشْرَ ذلك عند الحافظ السَّخاوي -رحمهما الله تعالى- (¬1) . ¬

(¬1) عجبي لا ينتهي من حطِّ محمد عبد الله عنان في كتابه «مصر الإسلامية وتاريخ الخطط المصرية» (ص 263-275) على السَّخاوي، ووصفه بأقذع وأبشع الأوصاف، والانتصار بقوة لخصومه! دون جمع للأقوال، والموازنة بينها، وإنما بمجرد اختيار عباراتٍ للسَّخاوي والتعليق عليها بعبارات جارحة، كقوله (ص 265) على إثر عبارة: «يعتبر في عصرنا غلوّاً وإنحرافاً؛ بل يعتبر غروراً مذموماً وسفاهة مرذولة» !! و «يضطرم بعوامل التنافس والحقد والغيرة والجدل الملتهب» ، وقوله (ص 267) : «يغدو صارماً شديد الوطأة، كثير الخبث، شغوفاً بالهدم، ينقب عن مواضع الضعف بمثابرة مدهشة، حتى أنك تلمس في أحيان كثيرة أثر هذا الشغف في تتبع السقطات والهنات مما يرغم على إيراده من المآخذ التافهة السخيفة أحياناً، كلما أعوزته مادة الهجوم والانتقاص، وأحياناً يجد السَّخاوي في الخلال والظروف الشخصية منفذاً للطعن، وهنا يلجأ بخبث إلى النقل عن آخرين ... » . إلى غير ذلك من العبارات التي فيها مثل هذه الطعون! نعم؛ في «الضوء» شيء من ذلك، ولذا امتنع بعض أهل العلم من إعارته، وكان ذلك سبباً لاختصار المؤرخ عمر بن أحمد الشماع له، ذكر ذلك في ديباجة «القبس الحاوي» (1/28) ، قال: «وسبب جمعي له وتلخيصه وتحريره وتهذيبه وتنقيحه، هو أنه أوقفني صاحبنا المحدّث جار الله ابن شيخنا الحافظ عز الدين عبد العزيز بن فهد المكي بها، في المحرم سنة (سبع وعشرين وتسع مئة) على تأريخ الحافظ شمس الدين محمد السَّخاوي ولي منه إجازة، ويسمى: «الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع» . فأعجبني جملةٌ من تراجمه الفائقة، وقد كنت طلبت من والده المذكور أن يوقفني عليه في أثناء مجاورتي الأولى، سنة (ستَّ عشرة وتسع مئة) ، فامتنع من ذلك؛ واعتذر بأنّ في بعض تراجمه ما ينبغي إخفاؤه وستر ما هنالك. ولما يسر الله -تعالى- بوقوفي عليه شاهدت ما قصده شيخنا، وأشار إليه من التنكيت والتَّبْكيت على أقوام في تراجم كثيرة، ونشر محاسن آخرين بعبارة حسنة فائقة مفيدة، فعزمت على تلخيص محاسن تراجمه، والإعراض عما لا فائدة في نقله، فتوجهت إلى مطالعته، وسرّحت النظر في أزهاره ونوّاره، وولجت بين ملتفّ أشجاره، وميّزت بين عشبه ورياضه، فرأيته قد اشتمل على أقسام أربعة، لم أقف على من نبَّه عليها. وها أنا بحمد الله وتوفيقه أُفصِّلها لك بعبارة واضحة محرَّرة: القسم الأول: يصف أهله بالجمع بين العلم والعمل. القسم الثاني: يصف أهله بالقليل من العلم فقط. =

وفاته:

وقد اعتذر الشوكاني في «البدر الطالع» (2/187) عن صنيع السَّخاوي في تاريخه «الضوء اللامع» فقالَ: «وليتَ أنَّ صاحب الترجمة صان ذلك الكتاب الفائق عن الوقيعة في أكابر العلماء من أقرانه، ولكن ربما كان له مقصد صالح، وقد غلبت عليه محبة شيخه الحافظ ابن حجر، فصار لا يخرج عن غالب أقواله، كما غلبت على ابن القيم محبّة شيخه ابن تيمية، وعلى الهيثمي محبة شيخه العراقيّ» (¬1) . • وفاته: قال الغزِّي في «الكواكب السائرة» (1/54) : «ورأيت بخط بعض أهل العلم أن السَّخاوي توفي سنة (خمس وتسعين وثماني مئة) ، وهو خطأ (¬2) بلا شك، فإني رأيت بخط السَّخاوي على كتاب «توالي التأنيس (¬3) بمعالي ابن إدريس الشافعي» ، للحافظ ابن حجر، أنه قرىء عليه في مجالس، آخرها يوم الجمعة، ثامن شهر المحرم، سنة (سبع وتسعين وثمان مئة) ، بمنزله من مدرسة السلطان الأشرف قايتباي، بمكة المشرفة. ورأيت بخطه -أيضاً- على الكتاب المذكور: أنه قرىء عليه -أيضاً- بالمدرسة المذكورة في مجالس، آخرها يوم الأربعاء، ثامن عشر، شهر ربيع ¬

= القسم الثالث: من يشحن تراجمهم بالأفعال المذمومة، والصفات القبيحة. القسم الرابع: من ترجمته خالية من هذه الأقسام الثلاثة» . ثم مثّل على كل قسم من هذه الأقسام. ولكن هذا لا يستدعي الأوصاف المذكورة. وما أحسن اعتذار الشوكاني الآتي، والله الهادي. (¬1) انظر لزاماً: «فهرس الفهارس» ، و «الضوء اللامع» (1/5) ، و «فتح المغيث» (4/363) . (¬2) أشنع من هذا، من أرّخ وفاته سنة (ستين وثمان مئة) ، انظر في رده: «إبراز الغي» (ص 11) ، «تذكرة الراشد برد تبصرة الناقد» (ص 48، 103-158، 161) -وذكر فيه (650) وجهاً لنقضه-؛ كلاهما ضمن «مجموعة رسائل اللكنوي» (المجلد السادس) . (¬3) عنوان المطبوع: «التأسيس» ؛ وهو خطأ، صوابه ما أثبتناه. انظر: «توثيق النصوص وضبطها» (ص 108) ، وكتابنا «كتب حذر منها العلماء» (1/59) .

الأول، سنة (تسع مئة) » . كذلك فإن «الضوء اللامع» ، و «التحفة اللطيفة» -وكلاهما للسَّخاوي- مليئان بذكر أحداث وتراجم متعلقة بسنوات لاحقة للتاريخ المذكور. ثم قال الغزّيّ: «ثم رأيتُ ابن طولون ذكر في «تاريخه» أنه توفي بمكة، وصُلّي عليه غائبة بجامع دمشق، يوم الجمعة، ثالث عشر، ذي القعدة، سنة (اثنتين وتسع مئة) . ثم رأيت شيخنا النعيمي ذكر في «عنوانه» : أنَّه توفي بالمدينة وصُلِّي عليه غائبة بدمشق، يوم الجمعة، سابع عشر، من ذي القعدة، سنة (اثنتين) المذكورة، والله -تعالى- يعلم أيهما أصح -رحمه الله تعالى-» . قلت: وعلى هذا جمهور مؤرّخي وفاته، أعني أنه توفي في سنة (اثنتين وتسع مئة) ، ويؤيده أنا لم نجد في مصنفاته، خاصة «الضوء اللامع» ، و «التحفة اللطيفة» أيَّ ذكر لأحداث بعد سنة (اثنتين وتسع مئة) . فقد ذكر في «التحفة اللطيفة» (3/50، 574) شهر ربيع الثاني من تلك السنة، وبعده موضع واحد ذكر فيه شهر جمادى الآخر (2/198) . وقد وقفنا على قول أحد تلاميذه في «التحفة اللطيفة» (2/152) عن أحدهم: «فقُدِّرت وفاته بعد المصنف [يعني: السَّخاوي] ، في (سنة ثلاث وتسع مئة) » ، مما يشهد لصحة ما عليه الجمهور من أن وفاته كانت سنة (اثنتين وتسع مئة) ، والله أعلم. وقد «دفن ببقيع الغرقد، خلف مشهد الإمام مالك، بجانب قبر العلاَّمة الشهاب الأبشيطي» ، هكذا جاء على غلاف نسخة «التحفة اللطيفة» ، مما يؤيد قول النعيمي المتقدم. رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته. *****

السر المكتوم

السِّرُ المكتومُ في الفرق بين المالين المحمود والمذموم تأليف الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السَّخاوي (831 - 902 هـ) قدَّم لهما وعلّق عليهما ووثق نصوصهما وخرّج أحاديثهما وآثارهما أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعدَ حمد اللهِ جاعل من اختاره في الدارين سعيداً، وشامل خلقِه بالرزق كرماً وجوداً، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ أبي القاسم أسخى الناس وأسمحهم كفّاً، وأزهدهم في الدنيا وأحسنهم لها صرفاً: فقد سئلتُ عما وقفَ عليه السلطان الملك الأشرف، أوحدُ الملوك والمنفرد بما هو به أدرى وأعرف، حفِظهُ الله من جميع أركانه وجهاتِه، وبلّغه في الدارين النهاية من مسرّاته، في «رسالةٍ منسوبةٍ للحسن البصريِّ» -رحمه الله- في: (الفريضة السابعةِ: مما يجب على المؤمن من الفرائض في اليوم والليلة) ، وهو أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم من أحبني فارزقه الكفاف، ومن أبغضني فأكثِر ماله وولده» (¬1) ، ¬

(¬1) عزاه صاحب «كشف الخفاء» (1/218) إلى سعيد بن منصور، بواسطة «الفتاوى الحديثية» لابن حجر الهيتمي، ثم وجدت السيوطي في «الحاوي للفتاوي» (1/375) يورده بإسناد سعيد بن منصور، وعزاه لـ «سننه» ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمرو بن حزم: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم من أبغضني وعصاني فأكثر له المال والولد، اللهم من أحبني وأطاعني فارزقه الكفاف، اللهم ارزق آل محمد الكفاف، اللهم رزق يوم بيوم» . وقال السيوطي على إثره: ويناسبه ما أورده السلفي في «الطيوريات» من طريق علي بن الجعد، عن شعبة، عن منصور، عن بعض أصحابه: أن يهودياً أتى النبيَّ فقال: ادع لي، فقال: «اللهم أصح جسمه وأكثر ماله وأطل حياته» انتهى. قلت: لي هنا ملاحظات: الأولى: إسناد الحديثين ضعيف، فالأول: مرسل والثاني: معضل. الثانية: لا يوجد الحديث الثاني في مطبوع «الطيوريات» ، طبعة دار البشائر. الثالثة: سُئل السَّخاوي عما نقل عن «رسالة عن الحسن البصري فيما يجب على المؤمن من الفرائض في اليوم والليلة» في (الفريضة السابعة) وأورد الحديث ... ولم يتكلم عليه باللفظ المذكور، واسترسل في ذكر شواهده كما فعل هنا، وذلك في كتابه «الأجوبة المرضية» (2/739- 745 رقم 190) .

طرق حديث أنس في الدعاء له بكثرة المال والولد

أهو صحيح أم لا؟ وبماذا يُجمَع به بينه وبين دعائِه - صلى الله عليه وسلم - لخادمه سيدنا أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه-، حسبما اتفق عليه الشيخان بِكثرةِ المال والولد (¬1) . ¬

(¬1) حديث دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب فضائل الصحابة (باب من فضائل أنس بن مالك) (رقم 2480) بعد (146) -ومن طريقه التيمي في «دلائل النبوة» (107) -: حدثنا أبو معن الرقاشي، وأبو عوانة في «مسنده» في موضعين - كما في «إتحاف المهرة» (1/408 رقم 322) -، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، وابن حبان في «صحيحه» (7177) ، والبيهقي في «الدلائل» (6/194) ؛ كلاهما من طريق محمود بن غيلان، والبزار في «مسنده» (2/ق 57- الأزهرية) من طريق زيد بن أخرم أبي طالب الطائي، وأبو القاسم الحنائي في (الجزء الثالث) من «فوائده» (رقم 77- بتحقيقنا) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (9/345- ط. دار الفكر) ، من طريق بكار بن قتيبة، خمستهم عن عمر بن يونس، عن عكرمة، عن إسحاق [بن عبد الله بن أبي طلحة] ، عن أنس، به. وللحديث طرق متعددة، عن أنس بن مالك: الأولى: عن قتادة عنه، قال: قالت أمي وفي رواية أم سليم: يا رسول الله! خادمك أنس، ادع الله له. قال: فذكره. أخرجه البخاري (6334، 6344، 6378، 6379، 6380، 6381) ، ومسلم (2480) (141) ، والترمذي (3828) ، وقال: حديث حسن صحيح، والطيالسي (1987) ، وأحمد (6/403) ، وأبو يعلى (3200، 3238) ، وابن حبان (7178) ، والبغوي (3990) ، والبيهقي في «الدلائل» (6/ 194) ، و «المدخل» (134) . قال أحمد: عن أنس، عن أم سليم، فجعله من (مسند أم سليم) ، وهو رواية للشيخين، ورواية الترمذي والبيهقي، وابن البخاري في «مشيخته» (ص 946) . وانظر: «فتح الباري» (11/182) . الثانية: عن هشام بن زيد: سمعت أنس بن مالك يقول مثل ذلك. أخرجه البخاري (6379) ، ومسلم (2480) ، وأبو يعلى (3239) . الثالثة: عن ثابت، عن أنس، قال: دخل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علينا، وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي، فقالت أمي: يا رسول الله! خويدمك، ادع الله له، قال: فدعا لي بكل خير، وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: فذكره. أخرجه مسلم (2481) (142) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (88) ، والطيالسي (2077) ، وأحمد (3/193-194) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (رقم 1267) ، وأبو يعلى (3328) ، وأبو عوانة (2/76) ، وابن أبي الدنيا في «مجابو الدعوة» (79) -ومن طريقه اللالكائي في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= «السنة» (رقم 110، 111- كرامات الأولياء- ط. البصيرة) -، وابن بشكوال في «المستغيثين بالله» (رقم 19- ط. دار الكتب العلمية ورقم 20- ط. المشكاة) ، والبيهقي (3/53- 54، 95، 96) ، وفي «الدلائل» (6/148) . ثم رواه عبد بن حميد (رقم 1255) ، وأحمد (3/248) من طريقين آخرين، عن ثابت، به، نحوه. وقال ابن حميد: «وأدخله الجنة» مكان قوله: «وبارك له فيما أعطيته» . وسنده صحيح على شرط مسلم. وزاد: قال: فلقد رأيت اثنتين، وأنا أرجو الثالثة. وبعض ألفاظ هذا الطريق فيه بيان كرامة لأنس، سيسوقه المصنف بتمامه (ص 164) . الرابعة: عن الجعد أبي عثمان، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمِعَت أمي أم سليم صوته، فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله! أنيس. فدعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث دعواتٍ، قد رأيت منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة. أخرجه مسلم (2480) (144) ، والبيهقي في «الدلائل» (6/196) . الخامسة: عن حميد بن أنس: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سليم. فقالت: يا رسول! إن لي خويصة. قال: ما هي؟ قالت: خادمك أنس. فما ترك خير آخرةٍ ولا دنيا إلا دعا لي به. فإني لمِن أكثر الأنصار مالاً، وحدثتني ابنتي أمية أنه دفن لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومئة. أخرجه البخاري (1982) ، والسياق له، وابن حبان في «صحيحه» (9/158/7142) - الإحسان) وأحمد (3/108) ، ويعقوب الفسوي في «المعرفة» (2/532) ، -إلا أنه قال: «اللهم ارزقه المال، وبارك له فيه -أظنه قال-: وأطل عمرَه» -، والبيهقي في «الدلائل» (6/195) . وإسناده على شرط الشيخين، ولطول العمر طريق أخرى تأتي -إن شاء الله تعالى-. وأخرج نحوه من طريق حميد، به: ابن سعد في «الطبقات» (7/19) . السادسة: عن حفصة بنت سيرين، عن أنس، به. وزاد: قال أنس: فلقد دفنت من صلبي -سوى ولد ولدي- خمساً وعشرين ومئة، وإن أرضي ليثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيءٌ يثمر مرتين غيرها. علّقه أبو نعيم في «الحلية» (8/267) ، ووصله الطبراني في «الكبير» (1/248/710) ورجاله ثقات، غير إبراهيم بن عثمان المصيصي فلم أعرفه، وقد ساقه الحافظ في «الإصابة» من رواية الطبراني بإسناده، وسكت عنه. السابعة: عن عبد العزيز بن أبي جميلة -واسم أبي جميلة: صهيب-، عن أنس، قال: إني لأعرف دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيَّ، وفي مالي، وفي ولدي. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/19-20) . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وأخرجه أبو يعلى (4/191 رقم 4206- تحقيق إرشاد الحق) من هذه الطريق بلفظ: «إني لأعرف دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لي أن يبارك لي في مالي وولدي» ، وعلّقه البخاري في «التاريخ الكبير» (6/15) . ورجاله ثقات رجال الشيخين، غير عبد العزيز هذا، ترجمه ابن أبي حاتم (2/2/379) ، ومن قبله البخاري في «التاريخ الكبير» (3/2/15) بهذه الرواية، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/124) . الثامنة: عن أبي خلدة، قال: قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: خدمه عشر سنين، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجد منه ريح المسك. أخرجه الترمذي (3832) -وقال: «حديث حسن غريب» -، والبيهقي في «الدلائل» (6/195- 196) . قلت: وإسناده صحيح، ورجاله ثقات رجال الصحيح. التاسعة: عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، قال: كان كرم أنس يحمل كل سنة مرتين. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/20) ، وسنده صحيح على شرط البخاري. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» رقم (507) ، والبيهقي في «الدلائل» (6/196) ، من طريق أخرى عن ثمامة، به، نحو الطريق التالي، دون قول أنس: فقد دفنت ... ، وسنده جيد. العاشرة: عن سنان بن ربيعة، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ذهبَت أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! خويدمك ادع الله له، قال: «اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره، واغفر ذنبه» . قال أنس: فقد دفنت من صلبي مئة غير اثنين، أو قال: مئة واثنين، وإن ثمرتي لتحمل في السنة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة، وفي رواية: حتى استحييت من الناس، وأنا أرجو الرابعة. أخرج ابن سعد (7/19) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (653) ، والرواية الأخرى له، وفيها سعيد بن زيد -وهو الأزدي- صدوق له أوهام، ورواية ابن سعد سالمة منه، وكذا أخرجه أبو يعلى في «المسند» (1048) ، ولذلك قال الحافظ في «الفتح» (4/229) : «وإسناده صحيح» . وقد أشار البخاري إلى هذه الطريق في بعض تراجمه لهذا الحديث بقوله في (الدعوات) (11/ 144) : باب: دعوة النبي لخادمه بطول العمر وبكثرة ماله. وقد أيَّد ذلك الحافظ برواية «الأدب المفرد» المتقدمة، وفاتته رواية ابن سعد، وهي أصح كما سبق. وقد تقدم له شاهد في الطريق الخامسة. ثم وجدت له شاهداً آخر ذكره الحافظ المزي في «تهذيب الكمال» (2/364) ، فقال: وقال الحسين ابن واقد وغيرُه عن ثابت، عن أنس: دعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته» . =

وكذا قال - صلى الله عليه وسلم - لنهدٍ -قبيلةٍ من اليمن-: «اللهم بارك لهم في محضِها ومخضِها (¬1) ، ومذقِها (¬2) وابعث راغِبها في الدثر (¬3) ، وافجُر له الثَّمَدَ (¬4) ، وبارك له في المال والولد» (¬5) . ¬

= ويشهد لها: الحادية عشر: ما أخرجه أبو يعلى في «مسنده الكبير» -كما في «المطالب العالية» (15/542 رقم 3810- ط. العاصمة) بسندٍ حسن، من طريق عبد الله بن أبي طلحة عنه، قال: كان فيما دعا لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم آته مالاً وولداً» ، فما أعلم أحداً أصاب من لين العيش أفضل مما أصبت، ولقد دفنت بكفي هاتين من ولدي أكثر من مئة، لا أقول لكم: فيه ولد ولد، ولا سقط. قال ابن حجر عقبه: «هذا الحديث مخرج عندهم بغير هذا اللفظ» . (¬1) محضها: الخالص من كل شيء، والمحض في اللغة: اللبن الخالص غير مشوب بشيء، والمخض: تحريك السقاء الذي فيه اللبن، ليخرج زبده. (¬2) المذق: المزج والخلط، يقال: مذقت اللبن، فهو مذيق إذا خلطته بالماء، انظر: «النهاية» (4/311) ، «الفائق» (2/7) . (¬3) الدَّثر: المال الكثير، كذا في الفائق (2/7) ، وفي «النهاية» : الدَّثر هاهنا: الخصب والنبات الكثير، وكذا في «أسد الغابة» (3/67) وهما بمعنى. (¬4) الثَّمد -بالتحريك-: الماء القليل؛ أي: أفجره لهم حتى يصير كثيراً يدعو لهم بكثرة الماء وإغزاره. انظر: «النهاية» (1/221) ، و «العقد الفريد» (2/54) ، و «الفائق» (2/7) . (¬5) أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» 1/185 من طريق أبي عبد الله محمد بن علي البلوي، عن محمد بن جعفر بن محمد التميمي، عن عبد العزيز بن يحيى الجلودي، عن محمد بن سهل، عن عبد الله بن محمد البلوي، عن عمارة الخيواني، عن علي مرفوعاً، وقال عقبه: «هذا لا يصح، وفيه مجهولون وضعفاء منهم النسائي، وأكذب الكل البلوي» . وقال الحافظ في «التقريب» (5938) : «محمد بن سهل النسائي لا بأس به» . ولم يعزه في «كنز العمال» (7/837- 838 رقم 21607 و10/627- 630 رقم 30325) إلا لابن الجوزي. ونقل عنه قوله: «لايصح، فيه مجهولون وضعفاء» . وعزاه ابن حجر في «الإصابة» (2/236) لابن الجوزي، وقال: «من وجه ضعيف جداً» . ثم وجدت الحديث عند القاضي عياض في «الشفا» (1/169-170) ، وأورده بطوله، وأفادني تخريجُ السيوطي له في «مناهل الصفا» (ص 48 رقم 95) وهذا نصُّ كلامه بحروفه: «أبو نعيم في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= «معرفة الصحابة» والديلمي في «مسند الفردوس» ، من -وفي مطبوعه: في! - حديث عمران بن حصين، وأبو نعيم من حديث حذيفة بن اليمان مختصراً» انتهى. وعزاه محققه في الهامش لـ «المستدرك» (4/327) ! وهو ليس فيه، ولعله لم يميز أن «المعرفة» غير «المستدرك» ، ولا قوة إلا بالله! وإلى الله المشتكى! قال أبو عبيدة: حديث عمران بن حصين مطوَّلٌ جدّاً، أخرجه ابن الأعرابي في «معجمه» (3/959-961 رقم 2040) -ومن طريقه ببعضه الخطابي في «الغريب» (1 /713) ومطولاً أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3/1570-1572 رقم 3972) - من طريق عبد الرحمن بن محمد الحارثي، نا عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد العُذريّ، نا شريك بن عبد الله النخعي، عن العوام بن حوشب، عن الحسن بن أبي الحسن البصري، عن عمران، به. ولم يعزه في «الكنز» (10/617-624 رقم 33017) إلا للدَّيلمي! وإسناده ضعيف، فعبد الرحمن بن يحيى بن سعيد مجهول لا يقيم الحديث من جهته، قاله العقيلي في «ضعفائه» (2/351) ، وذكره الأزدي، فقال: «متروك لا يحتج بحديثه» ؛ نقله ابن حجر في «اللسان» (5/148) . وانظر له: «الميزان» (2/597) ، «الكامل» (4/290) ، «الضعفاء» لابن الجوزي (2/101) ، «الديوان» (246) ، «المغني» (2/289) ، وعبد الرحمن بن محمد بن منصور الحارثي، حدّث بأشياء لا يتابع عليها، قاله ابن عدي في «الكامل» (4/319) . وقال الدارقطني وغيره: ليس بالقوي. انظر: «سؤالات الحاكم» (129) ، «الإرشاد» (2/508) ، «تاريخ بغداد» (10/283) ، «المغني» (2/386) ، «الديوان» (245) ، «الميزان» (2/586) . وشريك القاضي: صدوق، يخطىء كثيراً، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، كذا في «التقريب» (2787) . واعتنى جماعة بغريب هذا الحديث، فأوردوا الحديث في كتبهم من غير إسناد. انظر -على سبيل المثال-: «منال الطالب» (1/39) ، «الفائق» (2/279) ، «المجموع المغيث» (1/ 378 و3/401) . وأما حديث حذيفة، فقد أخرجه أبو نعيم في «المعرفة» (3/1574رقم 3974) ، وابن قتيبة في «غريب الحديث» من طريق زهير بن معاوية، عن ليث، عن حبة العرني، عن حذيفة، به، وفيه نحو القطعة التي أوردها المصنف. عزاه ابن حجر في «الإصابة» لابن قتيبة في «الغريب» ، ولم أظفر به في طبعتي الكتاب! وإسناده ضعيف. وحَبّة هو ابن جُوين العُرني، صدوق له أغلاط، وكان غالياً في التشيع. =

سند المصنف لحديث عمرو بن غيلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم

فقلت: أما الحديث فقد أخبرتني به خاتمةُ مُسنِدِي مصرَ أم محمدٍ ابنةُ عمرَ ابن العزِّ بن جماعة (¬1) ، عن أبي عمرَ محمد بن أحمدَ بن إبراهيم الحنبليِّ، أنبأنا الفخرُ أبو الحسن علي بن أحمدَ الصالحيّ، عن أبي جعفرٍ الصيدلانيِّ، أخبرتنا فاطمةُ ابنةُ عبدِالله قالت: أخبرنا أبو بكر بن ريذةَ، أخبرنا أبو القاسم الطبرانيّ (¬2) ، ¬

= وانظر له: «تهذيب الكمال» (5/351) . وليث هو ابن أبي سُليم، صدوق اختلط جداً، ولم يتميز حديثه، فترك. وظفرتُ بشاهدٍ له، لم أر من نبّه عليه، وهو: ما أخرجه ابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/559- 567) من طريق خالد بن حبيش، عن عمرو ابن واقد، عن عروة بن رويم، وساقه مطوّلاً جدّاً، وفي آخره بيان لغريبه. وهذا إسناد معضل. قال أبو عبيدة: وجدتُ حديثاً فيه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لصحابي بكثرة المال أو البركة، فات المصنِّف ذكره، وهو على شرطه: أخرج البخاري في «الأدب المفرد» (رقم 632) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2/ 38 رقم 717) ، وأبو يعلى (1456، 1467، 1469) ، وابن جرير في «المنتخب» (ص 560) ، وأبو نعيم في «المعرفة» (4/2001-2002 رقم 5026، 5028) عن عمرو بن حريث، قال: ذهبت بي أمي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا غلام، فمسح على رأسي، ودعا لي بالرزق، وفي رواية: بالبركة. وأخرجه ابن شبة في «تاريخ المدينة» (1/246) ولفظه: «اللهم بارك له في صفقته» ، وفي لفظ عند ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2/37 رقم 714) : «اللهم بارك لعبد الله في تجارته» ، والحديث صحيح، انظره في «السلسلة الصحيحة» (2943) ، وعزاه الهيثمي في «المجمع» (9/286، 405) للطبراني، وأبي يعلى، وقال: «رجالهما ثقات» . وهنالك أحاديث أخرى. وفي صحتها كلام. انظر -على سبيل المثال-: «الآحاد» (1687) لابن أبي عاصم. (¬1) اسمها سارة، ترجم لها المصنف في «الضوء اللامع» (12/52) . وقال عنها: «من بيت علم ورياسة» ، و «قد حدثت بالكثير» . سمع عليها الأئمة، وحملتُ عنها ما يفوت الوصف، وكانت صالحة، قليلة ذات اليد، ولذلك كنا نواسيها مع فطنة وذوق ومحبة في الطلبة، وصبر على الإسماع، وصحة السماع، أضرَّت قبل موتها بمدة، وماتت في ليلة الاثنين خامس المحرم سنة خمس وخمسين، ودفنت من الغد» ، قال: «ونزل أهل مصر بموتها في الرواية درجة، رحمها الله وإيانا» . (¬2) في «المعجم الكبير» (17/28-29 رقم 56) ، ومن طريقه المزي في «تهذيب الكمال» (22/187-188) ، وعزاه السيوطي في «الحاوي للفتاوى» (1/374-375) للطبراني في «الكبير» ، =

حدثنا أحمد بن المعلّى الدِّمشقي والحسين بن إسحاق التُستريّ وموسى بن سهل أبو عمران الجوْني، قالوا: حدثنا هشام بن عمارٍ، حدثنا صدقةُ بن خالدٍ، حدثنا يزيدُ بن أبي مريم، عن أبي عبيدِالله مسلم بنِ مِشْكَمٍ، عن عمرو بن غيلانَ الثقفيِّ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اللهم مَن آمن بي وصدّقني، وعلِمَ أنّ ما جئتُ به هو الحقّ مِن عندكَ، فأقِلَّ مالَه وولدَه، وحبِّب إليه لقاءَكَ، وعجّل له القضاء، ومَن لم يُؤمن بي ولم يصدّقني، ولم يعلم أنَّ ما جئتُ به الحقّ من عِندكَ فأكثِر مالَه وولدَه، وأطِل عُمرَه» (¬1) . ¬

= وقال عقبه: وسنده صحيح، إن صحت صحبة عمرو بن غيلان، فإنه مختلف في صحبته، وأبوه هو الذي أسلم على عشرة نسوة، فأمر أن يختار أربعاً. وبقية رجاله ثقات. وقد أورده الديلمي في «مسند الفردوس» ، ثم قال: «وفي الباب عن معاذ بن جبل، وفضالة بن عبيد» . قال أبو عبيدة: سيأتي ذلك كله -إن شاء الله تعالى- مفصلاً. (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مسنده» (2/189) رقم (674) ، وابن ماجه (4133) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (3/246 رقم 1607) ، وعباس الترقفي في «جزئه» (رقم 103) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/326- 327) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/417 رقم 965) أو (1/282رقم 472-ط. شاكر) ، والطبراني في «الكبير» (17/56) ، وفي «مسند الشاميين» (2/312 رقم 1406) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (46/304) والضياء في «الموافقات» (ق 40/أ) -كما في «السلسلة الصحيحة» (1338) -، وابن الأثير في «أسد الغابة» (4/261) ، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (3/1197) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (22/187- 188) من حديث عمرو بن غيلان. قال البوصيري في «الزوائد» : رجال الإسناد ثقات، وهو مرسل. وذكره الحافظ في «الإصابة» (4/669) من طريق العسكري. قلت: عمرو بن غيلان مختلف في صحبته، وذكره ابن سميع في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وقال: أدرك الجاهلية، قال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (4/372 رقم 5888- ط. إحياء التراث) : «إن كان أدرك الجاهلية فهو صحابي، ولم يبق في حجة الوداع أحد من أهل مكة والطائف إلا أسلم وشهدها» . انظر: «التاريخ الكبير» (22/362) ، و «تهذيب الكمال» (22/186) ، و «الإصابة» (4/668) ، وما سيأتي قريباً عند المصنف.

تخريج المصنف للحديث

هذا حديث حسن، أخرجه ابنُ ماجه في (الزهد) من «سننه» (¬1) ، والحسن ابن سفيانَ (¬2) معاً عن هشام بن عمار. فوافقناهُما فيه بعلوّ. وأخرجه أبو القاسم البغويُّ في «معجم الصحابة» (¬3) له، والحسن بن سفيانَ (¬4) -أيضاً- معاً؛ عن الحكم بن موسى، وعباس الترقُفيّ في «جزئِه» (¬5) المسموع عندنا، ومن طريقه ابن منده في «معرفة الصحابة» (¬6) عن محمد بن المبارك الصوريِّ، كلاهما عن صدقةَ، فوقع لنا بدلاً لهم عالياً. وهكذا رواه أحمدُ بن القاسمِ بن مُساورٍ ومحمد بن عبد الله الحضرميِّ، كلاهما عن الحكم. ورواه أحمد بن زنجويه، عن هشامٍ، وأخرجه أبو نعيم في «معرفةِ الصحابةِ» (¬7) من طريقهم، قال (¬8) : وحدّث به أبو بكرٍ وعثمانُ ابنا أبي شيبةَ، عن مُعلّى بن منصورٍ، عن صدقةَ مثلَه. وأخرجه أبو حفص بن شاهينَ في «معجم الصحابةِ» من حديث محمد بن المبارك الصوريِّ، وممن روى هذا الحديث أيضاً أبو علي بن السَّكن، والعسكريُّ (¬9) ، ¬

(¬1) برقم (4133) ، كما تقدم. (¬2) ومن طريقه: أبو نعيم في «المعرفة» (4/2033) . (¬3) غير موجود في القسم المطبوع منه، وأخرجه من طريقه ابن عساكر (46/304) . (¬4) ومن طريقه: أبو نعيم في «المعرفة» (4/2032) . (¬5) (رقم 103) ، ومن طريقه ابن عساكر (46/304) ، وعزاه له ابن حجر في «الإصابة» (4/ 669) والمصنف في «الأجوبة المرضية» (2/740) . (¬6) ومن طريقهما: ابن عساكر (46/304) . (¬7) انظر: «معرفة الصحابة» لأبي نعيم 4 (/2032) برقم (2095) . (¬8) قال في مطبوعه على أثره: «ورواه معلى بن منصور عن صدقة مثله. حدثنا محمد بن أحمد، ثنا محمد بن عثمان، ثنا أبي وعمي أبو بكر قالا: ثنا معلى بن منصور، ثنا صدقة، مثله» . (¬9) ومن طريقه ابن حجر في «الإصابة» (4/669) ، وعزاه له في «الأجوبة المرضية» (2/740) .

تحقيق المصنف في صحبة عمرو بن غيلان

وابن أبي عاصمٍ (¬1) ، وأبو الشيخ (¬2) ، ورجاله شاميُّون موثوقون. وقول ابن عبدِالبرِّ (¬3) : ليس إسناده بالقويِّ ليس بجيدٍ، فكلُّهم إلا ابن مِشكَمٍ -وهو بكسر الميم وفتح الكاف بينهما مُعجمةٌ ساكنةٌ (¬4) -، مخرَّجٌ لهم في «الصحيح» ، ولكن عمرو بن غيلان اختُلِف في صحبته كما صرّح به أبو نُعيمٍ (¬5) وابن منده (¬6) ، وأثبتها خليفةُ (¬7) والمستغفريُّ وغيرهما (¬8) . ¬

(¬1) في «الآحاد والمثاني» (3/246 رقم 1607) . (¬2) عزاه له السخاوي في «الأجوبة المرضية» (2/740) . (¬3) قال في «الاستيعاب» (3/1197) : «حديثه عند أهل الشام، ليس بالقوي» ، فكلامه عن عمرو بن غيلان وليس على الإسناد، وفي «سنن الدارقطني» (1/78) عنه: «مجهول» ‍!!. والمذكور هنا يخالف ما في «الأجوبة المرضية» (2/740) : «وإسناده كما قال ابن عبد البر: ليس بالقوي» ! (¬4) أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه، وكان كاتب أبي الدرداء، ثقة، مقرئ، ترجمته في «طبقات ابن سعد» (5/450) ، «ثقات ابن حبان» (5/398) ، «تهذيب الكمال» (27/543) ، «تاريخ الإسلام» (4/403) . (¬5) قال في «معرفة الصحابة» (4/2032) : «مختلف في صحبته» ، وكذا في «التجريد» (2/415 رقم 4486) ، وحمّره وترجمه ابن حبان في «ثقاته» (7/217) في قسم (أتباع التابعين) قال: «يروي عن كعب، روى عنه قتادة» ، وقال المزي (22/187) : «لا تصح صحبته، وأبوه غيلان بن سلمة له صحبة» . قلت: ظفرت له برواية عن أبي الدرداء، عند بحشل في «تاريخ واسط» (150) . (¬6) انظر «تاريخ دمشق» (46/36) . (¬7) في المخطوط «خليفته» ! وترجمة خليفة في «طبقاته» (53، 285) وذكره في الموطن الثاني تحت: (من أهل الطائف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) . (¬8) قال مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (10/245 رقم 4164) في ترجمته: «ذكره العسكري في (جملة الصحابة) من غير تردد، وقال: ولي البصرة وهو من ساكني الطائف، وكذلك أبو القاسم البغوي» ، وذكره الترمذي في كتابه «تسمية أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -» (ص 75 رقم 435) ضمن (الصحابة) من غير تردد -أيضاً-، وترجمه البخاري (6/253) ، وابن أبي حاتم (6/362) ولم يذكرا صحبته! وأهمله مسلم في «طبقاته» لقلة مروياته، ولعدم ثبوت صحبته عنده.

كلام ابن عساكر في عمرو بن غيلان

وقال البغوي: سكن الشام، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً (¬1) ، وقال ابن السكن: يقال له صُحبةٌ. وجزم بنفيها ابن البرقيِّ (¬2) ، وكذا ذكرَه في (الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام ممن أدركَ الجاهلية) : أبو الحسن بنُ سُمَيعٍ (¬3) ، ولم يقع في روايةِ واحدٍ ممن عزَوتُ الحديث إليه أنه قال: سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك صرّح ابنُ السكن فقال: لم يَذكُر في حديثه رؤيةً ولا سَماعاً. وأما ابن عساكر فقال: ليس له عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - غيرُه (¬4) ، وبالجملة فهو مرسلٌ وإنما حسَّنته لشواهِده التي منها ما أخرجه الطبرانيُّ في «معجمه الكبير» بسندٍ جيدٍ، وكذا ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ في «الثواب» له، وصحَّحه ابنُ حبان عن فضالةَ بن عُبيدٍ -رضي الله عنه- بلفظ: «اللهم مَن آمن بك وشهِد أني رسوُلك فحبِّب إليه لقاءك، وسهِّل عليه قضاءك، وأقلِل له من الدنيا، ومَن لم يؤمن بك ولم يشهد أني رسولك فلا تحبِّب إليه لقاءَك، ولا تُسهِّل عليه قضاءك، وكثِّر له من الدنيا» (¬5) ، ترجم عليه ابنُ حبان: (دعاء المصطفى لمن شهِد له بالرسالةِ، وعلى ¬

(¬1) نقله عنه ابن عساكر (46/ 305) وجعله البغوي (تميمياً) وتعقبه ابن عساكر، فقال: «كذا قال! وإنما هو الثقفي» . (¬2) نقل عنه ابن عساكر (46/305) قوله: «ليست تصح له صحبة، له حديث» . (¬3) نقله عنه ابن عساكر (46/306) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (22/187) . (¬4) انظر «تاريخ دمشق» (46/303) . (¬5) أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (208) ، وأبو الشيخ في «الثواب» ، وابن أبي الدنيا -كما في «الترغيب» (4/72) -، والطبراني في «الكبير» (18/313 رقم 808) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/421 رقم 987) ، والأصبهاني في «الترغيب» (2348) جميعهم عن ابن وهب، حدثني سعيد بن أبي أيوب، عن أبي هانىء، عن أبي علي الجنبي، عن فضالة بن عبيد، وإسناده قوي، رواته ثقات رجال مسلم، والجنبي: ثقة، اسمه عمرو بن مالك، وهو غير النكري المتكلم فيه، وأبو هانىء هو حميد بن هانىء الخولاني. =

ذكر شواهد لحديث ابن غيلان

مَن أبى ذلك عليه) . ومنها ما أخرجه الطبرانيُّ -أيضاً- عن معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم مَن آمن بي وصدّقني وعلِم أنَّ ما جئتُ به هو الحقُّ قأقلِل مالَه وولدَه، وعجّل قبضَه، اللهم ومن لم يؤمن بي ولم يُصدّقني ويعلم أنَّ ما جئتُ به هو الحقّ من عندك فأكثر مالَه وولدَه، وأطل عمرَه» (¬1) . ومنها ما رواه ابنُ ماجه في «سننه» وأحمد في «مسنده» وآخرون بسندٍ حسنٍ من حديث نُقادة الأسدي -رضي الله عنه- قال: «بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجلٍ يستمنحُه ناقةً فردّه، ثم بعثني إلى رجلٍ آخر، فأرسلَ إليه بناقةٍ فلما أبصرَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم بارك فيها وفيمن بعثَها» . قال نقادة: فقلت: يا رسولَ الله! وفيمن جاء بها، قال: «وفيمن جاء بها» . ثم أمر بها فحُلِبَت فدرَّت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أكثِر مالَ فلانٍ وولدَه -للمانع الأول-، واجعل رِزقَ فلانٍ يوماً بيومٍ -للذي بعثَ الناقةَ-» (¬2) . ¬

= وعزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/286) إلى الطبراني وقال: ورجاله ثقات، ونظرت في تخريج العلامة محمود شاكر له في «تهذيب الآثار» (1/289 رقم 485) فصرح أنه لم يقف عليه عند غير الطبري! وصرح المصنف في «الأجوبة المرضية» (2/741) أنه أقوى شواهد حديث عمرو بن غيلان المتقدّم. (¬1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (20 رقم 162) ، وفي «مسند الشاميين» (3/258) ، والبيهقي في «الشعب» (1476 أو 1401-ط. الهندية) ، وابن عدي في «الكامل» (5/118 أو 5/1769) ، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/286) : «وفيه عمرو بن واقد، وهو متروك» . وقال البيهقي: «تفرد بإسناده هذا عمرو بن واقد» . فإسناده ضعيف جداً. وذكره الذهبي في «الميزان» (3/291) من (منكرات عمرو) هذا. • فائدة: قال البيهقي في «الشعب» (4/99-100-ط. الهندية) على إثره: «وروي مثل هذا عن عمرو بن غيلان الثقفي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن صح شيء من هذه الأحاديث، فإنما هو لزهادته - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، واختياره الآخرة على الأولى، لعلمه بمصائب الدنيا، فلم يرضها لنفسه، ولا لمن يحبه من أمته، أعاذنا الله من فتنة الدنيا، وعذاب الآخرة برحمته» . (¬2) أخرجه أحمد (5/77) ، وابن أبي شيبة (640) ، والطيالسي (1251) ، والروياني (1462) ، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= ومسدد في «مسانيدهم» ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (8/126-127) ، وابن ماجه (4134) ، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (1/393) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1061) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (3/166-167) ، والطبراني في «الدعاء» (2014) ، والدينوري في «المجالسة» (2972- بتحقيقي) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (5/2702) ، والبيهقي في «الشعب» (7/320) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (5/355) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (4/41-42) من طريق أبي المنهال سيَّار بن سلامة، عن البراء السّليطي، عن نقادة الأسدي، رفعه. وفي إسناده البراء السليطي مجهول، نعم؛ وثقه ابن حبان (4/78) ! وهذا من تساهله! قال الذهبي في «الكاشف» : «مجهول» . وقال في «الميزان» (1/302) : «لا يعرف» ، وقال: «تفرد عن السليطي سيار بن سلامة أبو المنهال» . وقال ابن حجر في «التقريب» : «مقبول» ؛ أي: إذا توبع، ولا أعرف ذلك، فتحسين المصنف له لذاته ليس بحسن. وانظر: «تهذيب الكمال» (4/41-42) . وقال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (3/280) : «في إسناده البراء، قد ذكره ابن حبان في «الثقات» . وقال الذهبي: «مجهول، وباقي رجال الإسناد ثقات» . وقال: «ليس لنقادة شيء في بقيّة الكتب الستة سوى هذا الحديث الذي انفرد به ابن ماجه» . قلت: ومن الغريب قول ابن حجر في «الإصابة» (6/468) في ترجمة (نُقَادة) : «له حديث في «مسند أحمد» و «السنن» لابن ماجه من طريق ولده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى رجل يستمنحه ناقة ... » الحديث» . وهو ليس من طريق ولده، وذكره على الجادة في «أطراف مسند الإمام أحمد» (5/421 رقم 7475) ، وليس في «المسند» غيره. وأما قول الذهبي السابق عن البراء: «تفرد عنه سيار» ؛ فمدفوع بما أخرجه ابن قانع في «معجم الصحابة» (3/167) ؛ قال: حدثنا محمد بن يونس، نا عبد الله بن داود الخُريبي، نا هرمز بن جُوزان، عن البراء، عن نقادة الأسدي: «أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى رجل يستحمله ناقة، فجاء، فقال: «اللهم بارك فيها، وفيمن بعث بها، وفيمن جاء بها» » . و (نُقَادة) من الأسماء المفردة في الصحابة، ولذا أورده البَرْدِيجي في «طبقات الأسماء المفردة» (رقم76) ، وضبطه ابن حجر في «التقريب» ؛ بضم النون بعدها قاف، وفي «التجريد» : «نُفَادة» ؛ بالفاء، وقال: «وقيل: نُقادة. وقيل: غير ذلك» ، وفي «الإصابة» : «بالقاف» ، وفي هامش «معجم الصحابة» : «نَقَّادة: كذا ضبطه في «التاريخ» ضبط قلم» . وانظر: «الطبقات» لمسلم (رقم 495) ، وتعليقي عليه في (قسم الدراسة) . ثم وجدت طريقاً آخر له، فيه متابعة للبراء! أخرجه المعافى بن عمران في «الزهد» (رقم 27) =

أحاديث في اقتران محبة النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر

بل ورَد نحو هذا عن جماعةٍ آخرينَ؛ فروى الترمذي في «جامعه» -وقال: غريب-، عن عبد الله بن مُغفّل -رضي الله عنه- قال: قال رجلٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسولَ الله! إني أحبُّك، فقال: «انظر ماذا تقول» . قال: والله إني أحبُّك ثلاثَ مرّاتٍ، قال: «إن كنت تُحبّني فأعِدّ للفقر تجفافاً (¬1) ، فإنَّ الفقرَ أسرعُ إلى مَن يُحبني ¬

= حدثنا الربيع بن بدر، عن سيار بن سلامة، عن عبادة بن نسي، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل ذُكر عنده لِقاحٌ يمنحه لِقْحَةً، فقال: ما عندنا لِقْحَةً نمنحها النبي - صلى الله عليه وسلم - ... بنحوه. وإسناده ضعيف جداً، فيه الربيع بن بدر متروك. ثم ظفرت بشاهد آخر فات المصنف أن يذكره. أخرج الأصبهاني في «ترغيبه» (2349) من طريق أبي الشيخ في «الثواب» من طريق أبي زرعة، ثنا يحيى بن بكير قال: حدثني يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله ابن عبد الرحمن بن يعمر الأنصاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم ارزق آل محمد الكفاف، اللهم ارزق آل محمد يوماً بيوم، اللهم من أحبني وأطاع أمري فارزقه الكفاف، اللهم من أبغضني وعصى أمري فأكثر له من المال والولد» . وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات معروفون، إلا أنه مرسل، وأوله صحيح، كما سيأتي. وفي آخر حديث أبي هريرة -الذي سيشير إليه المصنف قريباً-، شاهد آخر للمعنى المذكور، ولكنه لا يفرح به، لما سيأتي، والله الهادي. (¬1) تِجْفافاً -بكسر المثناة الفوقية، وسكون الجيم، وتائين بينهما ألف وتاء مزيدة-: من (جفّ) إذا يبس، وهو شيء يوضع على الخيل ليقيها أذى الحرب. أي: أعد للفقر وقاية؛ لأن النفوس لا تتحمّله. قال الكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 84 وما بعد) في معناه: «يجوز أن يكون معنى قوله: «فأعد للفقر تِجفافاً» ؛ أي: إنك ادعيت دعوى كبيرة، ومن ادعى شيئاً طولب بالبينة عليه فكأنه قال: إنك مطالب بصحة دعواك بالاختبار لك بالصبر تحت أثقال الفقر، وتحمل مكروهه، وتجرع غصصه، فاستعد لذلك فإن ذلك كائن، ومما يدل على [أن] ذلك كذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - له: «انظر ما تقول» ، كأنه ينهه على ما ادعاه من محبته إياه ظنه أمر له غورٌ، وليس ذلك بهين، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما يقول ما يقول عن غفلة لعظم ما ادعاه، وحسبان منه، وسلامة صدرٍ، وليس بقوله على التيقظ والعلم وتحقق معناه. ألا ترى أن في الحديث: «أن رجلاً أتاه» دلّ على أنه ليس من علية أصحابه، ومن الذين لهم فضل العلم بالله -عز وجل-» . وقال: «ويجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم من الرجل نظراً إلى نفسه، وإلى أوصافها بعين التعظيم، فصرفه =

من السَّيل إلى منتهاه» (¬1) . ¬

= عن نظره إلى أوصافه بعين التعظيم والاتكال عليها وهو - صلى الله عليه وسلم - وإن دعاه إلى عملٍ لفقر يوم الحساب وعمله صفته، فإن دعاه إليه جداً اجتهاداً فقد دعاه عنه اتكالاً عليه وسكوناً إليه، ويدل على أنه أراد به فقر يوم القيامة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أعد للفقر تجفافاً» والتجفاف إنما يكون لرد الشيء، والحول بينه وبينك، وفقر الدنيا لمن أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جائزة من الله وعطاءً، وعطاء الله وجائزته لا ترد، فدلّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أعد للفقر تجفافاً» ؛ أي: لفقر يوم القيامة ليصرفه عنك، أو يجوز أن يريد الفقر الذي هو قِلّة المال، والضر وعدم المرافق، وهو الفقر المعروف، ويكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فأعد للفقر تجفافاً» ؛ أي: تجفافاً تصونه به، وتدفع عنه ما يقدح فيه من الجذع فيه، والنكرة له، والتشوق لمرادته، فإن الفقر جائزة الله لمن أحبني، وخلعته عليه، وبره به، وإكرامه له، وتحفته إياه، وجزيل الثواب منه على جليل قدر هذه الصفة عنده، وذلك أن الفقر زيّ أنبيائه، وحلية أوليائه، وزينة المؤمنين، وشعار الصالحين، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول له: إن هذا كائنٌ من الله -عز وجل- فاستعد لقبوله، والاستقبال له، والاستعداد لدفع ما يقدح فيه من الصبر فيه، والشكر عليه، والصون له، والدفع عنه تعظيماً له، وإجلالاً لقدره، فكأنه -عليه الصلاة والسلام- وإن ذكر الفقر من بين جميع المكاره، فإنه لم يرد به خصوص الفقر الذي هو عدم الإملاك، ولكنه أراد جميع المكاره وأنواع المحن والبلايا» . قال: «فالمراد من الفقر: المكاره والبلايا من أي وجه كان، وليس ذلك خصوص الفقر، ولكنه لما كان من عظيم المكاره وجليل البلايا؛ عبَّر عن البلاء والمكروه به، والدليل عليه أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأجلّة منهم والكبار لم يكونوا مخصوصين بالفقر وعدم الإملاك، ولم يكونوا مجانبين من البلايا العظام والمكاره الشداد» . ومثَّل على ذلك بقوله: «وقتل عمر، وحوصر عثمان أربعين يوماً، وذبح، ولقي علي -رضي الله عنه- ما لقي، وكأنه كان مخصوصاً بالبلاء مراداً به أكثر عمره، ولقيت عائشة -رضي الله عنها- ما لقيت بالجمل، وطلحة والزبير -رضي الله عنهما قتلا، وتوفي أبو ذر بالربذة وحيداً فريداً، وعمران بن حصين أُضنى على سرير منقوب ثلاثين سنة، وخبّاب مرض مرضاً طالت مدته فيها حتى اكتوى سبعاً في بطنه، وكذلك عامة أصحابه - صلى الله عليه وسلم - لقوا من البلايا والشدائد أنواعاً، وهؤلاء هم المخصوصون بشدة المحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبتلوا كلهم بالفقر خاصة، ولكن بأنواع البلايا» . (¬1) أخرجه الترمذي (2350) -ومن طريقه الكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 84) -، وابن حبان (2922) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/283 رقم 475-ط. شاكر) ، والبيهقي في «الشعب» (1471- ط. دار الكتب العلمية أو 1398-ط. الهندية) ، والبغوي (14/268) ، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 87) ، من طريق شداد أبي طلحة الراسبي، عن أبي الوازع، عن عبد الله بن مغفل، وقال =

وروى الإمام أحمد في «مسنده» عن أبي سعيدٍ الخُدري -رضي الله عنه- أنه شكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجتَه فقال: «اصبر أبا سعيد، فإن الفقر إلى مَن يُحبني مِنكم أسرعُ مِن السيل من أعلا الوادي -أو: مِن أعلا الجبل- إلى أسفله» (¬1) ، أوردهما القاضي عياض في «الشفا» (¬2) بدون عزوٍ في آخر (فصلٍ في علامةِ محبتِه - صلى الله عليه وسلم -) . وروى البزار عن أنس رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال: إني أحبُّك. قال: «استعدَّ للفاقةِ» (¬3) ، ونحوها عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- ¬

= الترمذي عقبه: «حديث حسن غريب» . وأورده الديلمي في «الفردوس» (2219) ، ومداره على شداد، فيما أفاده البيهقي، وهو علّة الحديث، وحديثه منكر. وانظر: «إتحاف المهرة» (10/566 رقم 13434) ، و «مجمع الزوائد» (10/274) ، و «السلسلة الضعيفة» لشيخنا الألباني (1681) ، وذكر منه: «إنّ البلايا أسرع ... منتهاه» في «السلسلة الصحيحة» (1586) -ولم يعزه إلا لابن حبان- و «صحيح موارد الظمآن» (2/481 رقم 2122) ، فكأنّ (النكرة) عنده في القسم الأول منه. ولم يعزه السيوطي في «مناهل الصفا» (رقم 980) إلا للترمذي. (¬1) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/42) ، والبيهقي في «الشعب» (1473) والسرقسطي في «الدلائل في غريب الحديث» (2/604-605 رقم 315) من طريق عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، به. وعزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/274) إلى أحمد، وقال: «ورجاله رجال الصحيح» . قلت: نعم، ولكن إسناده منقطع، (عمرو بن الحارث المصري) لم يثبت سماعه من سعيد بن أبي سعيد، ولذا قال البيهقي: «مرسل» ، وسعيد هذا لم يوثقه غير ابن حبان (4/278) . وعزاه المتقي في «كنز العمال» (6/483) إلى سعيد بن منصور -أيضاً-. (¬2) انظر: «الشفا» (2/64-65) للقاضي عياض. (¬3) أخرجه البزار (3595) ، والتيمي في «الترغيب والترهيب» (2352) ، والبيهقي في «الشعب» (1470) من حديث أنس، وعزاه الهيثمي في «المجمع» (10/274) إلى البزار، وقال: «ورجاله رجال الصحيح، غير بكر بن سليم، وهو ثقة» . قلت: بكر بن سُليم، قال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (2/386) : «شيخ يكتب حديثه» . وقال ابن عدي في «الكامل» (2/462) : «عامة ما يرويه غير محفوظ، ولا يتابع عليه، وهو من جملة =

أيضاً (¬1) . ¬

= الضعفاء الذين يكتب حديثهم» . وانظر: «تهذيب الكمال» (4/212) ، و «إكمال تهذيب الكمال» (3/14 رقم 790) . وللحديث شواهد بألفاظ أخرى متقاربة، منها: - حديث أبي ذر، عند الحاكم (4/331) وراويه عنه: عبد الله بن أبي طلحة، لم يثبت له سماع منه، فهو منقطع. - وعن عتمة الجهني، عند الطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم، قاله الهيثمي في «المجمع» (10/314) . - وعن كعب بن عجرة، عند الطبراني في «الأوسط» (7157) ، قال الهيثمي في «المجمع» (10/314) : «وإسناده جيد» ! - ومن مرسل عمرو بن الحارث، أخرجه البيهقي في «الشعب» (1473) ، وقال: «هذا مرسل» . (¬1) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (6/119) ، وإسناده ضعيف جداً، وفيه حسين بن قيس الرَّحبي، ولقبه حَنَش، وهو متروك. وفي الباب عن أبي هريرة: أخرجه أبو الشيخ في «الثواب» -ومن طريقه قوام السنة الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (2350) -، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/279 رقم 467-ط. شاكر) ، والبيهقي في «الشعب» (4/96-98 رقم 1400- ط. الهندية) ، من طريق ابن فُضيل، ثنا عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده؛ لَلْبلاء أسرع إلى من يُحبُّني من الماء الجاري من قُلَّة الجبل إلى حضيض الأرض، اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده» . وإسناده ضعيف جداً، عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، أبو عباد الليثي: متروك الحديث، ولفظ البيهقي مطول، وفيه قصة، وفيه أن قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا موجّه لرجل أنصاري. وأفاد أنه أبو ذر، وقال: «عبد الله بن سعيد غير قوي في الحديث» ، ومنه طرف -ليس فيه الشاهد- عند ابن ماجه (2448) . و (قلّة الجبل) : أعلاه. و (حضيضه) : أسفله، و (الكفاف) : مالم يكن فيه فضل. وفي الباب عن علي قوله: «من أحبنا أهل البيت، فليعد للفقر جلباباً وتجفافاً» . علقه أبو عبيد في «غريب الحديث» (3/466) عن عوف، عن عبد الله بن عمرو بن هند، عنه. ووصله عباس الدوري في «تاريخ يحيى بن معين» (3/293 رقم 1387) : حدثنا العباس: ثنا هوذة بن خليفة: ثنا عوف، به. وإسناده ضعيف. =

أحاديث في اقتران محبة الله تعالى بالفقر والبلاء

وفي «الإحياء» (¬1) مرفوعاً: «إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه، فإذا أحبَّه الحُبَّ البالغ ¬

= قال أبو عبيد: تأوّله بعض الناس على أنه من أحبّنا افتقر في الدنيا. وأنكره ابن قتيبة في «إصلاح غلط أبي عبيد» (ص 117- 118) ، قال: «والقول فيه عندي: إنه أراد: من أحبّنا أهل البيت فليرفض الدنيا وطلبها، وليزهد فيها، وليصبر على الفقر والتقلل، ... » في كلام أكده، وزاد عليه السرقسطي في «الدلائل» (2/604) ، فانظره. (¬1) انظر: «إحياء علوم الدين» للغزالي (4/208) ، وعزاه العراقي في تخريجه إلى الطبراني من حديث أبي عنبسة الخولاني، وكذا في «إتحاف السادة المتقين» (9/277) ، وصوابه: «أبو عنبة الخولاني» كما في الطبعة المفردة في «تخريج أحاديث الإحياء» (2/1085 رقم 3931-ط. طبريّة) ، والحديث في «الفردوس» (1/250 رقم 968) وفيه «أبو عتبة» بعد العين التاء المثناة الفوقية! وصوابه: بالنون. والحديث في «كنز العمال» (11/101 رقم 30794) معزو للطبراني وابن عساكر، وفيه: «عن أبي عقبة» بالقاف! وهو خطأ. وأخرجه من حديث أبي عنبة: الختلي في «المحبة» (رقم 153) ، وإسناده ضعيف، وأبو عنبة ولد في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن معاذ وغيره، فهو تابعي من حيث الرواية. وانظر: «معرفة الصحابة» (5/2979 رقم 3370) ، و «تاريخ دمشق» (67/120-122) ، و «المؤتلف والمختلف» للدارقطني (3/1653-1654) والتعليق عليه. ولي هنا ملاحظات: الأولى: ظفرتُ بالحديث في مواطن من «إتحاف السادة المتقين» غير المذكور، منها (7/524) ووقع فيه: «من حديث ابن عيينة الخولاني» وهذا لون آخر من التصحيف في اسم راويه! ونقل عن العراقي هنا قوله فيه: «وسنده ضعيف» ، وزاد: «قلت: ولفظه في «الأوسط» : إذا أحب الله عبداً ابتلاه، وإذا أحبه الحبّ البالغ اقتناه، لا يترك له مالاً ولا ولداً» . ولفظه في «الكبير» : «إن الله -عزّ وجلَّ- إذا أراد بعبد خيراً ابتلاه، فإذا ابتلاه اقتناه، قالوا: يا رسول الله! وما اقتناه؟ قال: لم يترك له مالاً ولا ولداً. ورواه ابن عساكر كذلك» ، وذكره في (7/650) وعزاه للطبراني وابن عساكر، وفيه «أبو عتبة» بالتاء بدل النون! الثانية: لم أظفر بالحديث في طبعتي «المعجم الأوسط» ! وهو في القسم المفقود من «المعجم الكبير» وعزاه له الهيثمي في «المجمع» (2/291) بلفظ: «إذا أراد الله بعبد خيراً ابتلاه، وإذا ابتلاه أضناه، قال: يا رسول الله! وما أضناه؟ قال: «لا يترك له أهلاً ومالاً» ، كذا فيه في الموطنين «أضناه» ، =

اقتناه» ، قيل: وما اقتناه، قال: «لم يترُك له أهلاً ولا مالاً» . وعند ابن المبارك في «الزهد» والحازمي معاً من حديث يعلى بن الوليد قال: «لقيتُ أبا الدرداء -رضي الله عنه- فقلت له: ما تحبُّ لمن تحب؟ قال: الموت، قلت: فإن لم يمت، قال: يُقلّ الله مالَه وولدَه» (¬1) . ¬

= وصوابه: «اقتناه» ، وقال عنه: «وفيه إبراهيم بن محمد شيخ الطبراني، ضعَّفه الذهبي، ولم يذكر سبباً، وبقية رجاله موثوقون» . الثالثة: للحديث شواهد فيما ذكر الزَّبيدي، وعبارته: «ورواه أبو نعيم في «الحلية» (رقم 2707، 2711، 4044- تقريب البغية) ، والديلمي من طريقه، من حديث ابن مسعود: «إذا أحب الله عبداً اقتناه لنفسه، ولم يشغله بزوجةٍ ولا ولد، وسياق المصنف -يريد ما في «الإحياء» وهو الذي عند السخاوي- مشعر بأنه من رواية جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا هو في «نهج البلاغة» للشريف الموسوي» . قال أبو عبيدة: أحسن في نسبة «نهج البلاغة» للشريف الرَّضى، ونسبته لعلي -رضي الله عنه- باطلة. قاله الذهبي في «الميزان» (3/124) ، وغيره، كما بيّنته في كتابي «كتب حذر منها العلماء» (2/ 250-255) ، وحديث علي في «الفردوس» (971) ، و «تذكرة الموضوعات» (ص 193) . (¬1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (977) ، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/112 أو 13/ 311- ط. الهندية) ، وأحمد في «الزهد» (ص 173 أو 2/60- ط. دار النهضة) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (7/104) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (1/39) ، وابن سعد في «الطبقات» (7/ 392) ، والمروزي في «زوائد الزهد» (347) ، وهناد بن السّري في «الزهد» (542 و543) ، ومسدد -كما في «المطالب العالية» (3/338) -، وابن أبي الدنيا في «ذكر الموت» (356- بتجميعي) ، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/162-ط. دار الفكر) ، ثم ظفرت به عند المعافى بن عمران في «الزهد» (رقم 26) وفي آخره زيادة: «قيل: ما تحب لعدوك؟ قال: يكثر الله ماله وولده، ويطيل بقاءه» ، والزيادة عند ابن جرير وابن عساكر (47/162) وغيرهما -أيضاً-، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (3/227) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/425) ، والطوسي الشيعي في «أماليه» (2/12) ، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (2/349) من حديث يعلى بن الوليد. ويعلى والراوي عنه (غيلان بن بشر) فيهما جهالة. وأخرجه أبو نعيم (1/217) بسندٍ آخر فيه انقطاع.

أحاديث في دعاء الصحابة والسلف على من ظلمهم بكثرة المال والولد

وفي أول «المجالسةِ» (¬1) للدينوري من طريق أبي البَخْتَري الطَّائي قال: كان بين عمار بنِ ياسرٍ -رضي الله عنه- وبين رجلٍ من أهل الكوفةِ كلامٌ، فقال له عمار: إن كنت كذبتَ عليَّ فأسألُ الله ألا يُميتك من الدنيا حتى يُوطأ عقبك (¬2) ، ويكثُر مالُك وولدُك (¬3) . ¬

(¬1) بل في (الجزء الرابع عشر) منه (5/208-209 رقم 2034- بتحقيقي) ، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (43/448-ط. دار الفكر) . (¬2) هذا دعاء عليه بأن يكثر أتباعه، بأن يكون سلطاناً، أو مقدّماً، أو ذا مال، فيتبعه الناس، ويمشون وراءه. (¬3) أخرجه هناد في «الزهد» (550) ، ومن طريقه أبو داود السجستاني في «الزهد» (ص 261 رقم 272- ط. الهندية أو ص 240 رقم 279-ط. المصرية) ، والخطابي في «العزلة» (ص123-124 -ط. ياسين السوّاس) عن أبي الأحوص -واسمه: سلام بن سليم الحنفي-، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (43/447-448) ، والذهبي في «السير» (1/427 و12/479) عن علي بن عاصم؛ كلاهما عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري، بنحوه. وإسناده حسن. وفي «زهد أبي داود» زيادة في آخره نصها: «وإنْ كنتُ فعلتُ الذي قُلت، لأنا شرٌّ من الذي لا يغتسل يوم الجمعة» . وأخرجه وكيع في «الزهد» (175) -ومن طريقه أحمد في «الزهد» (ص 119، 766) -، وابن عساكر (43/448) ، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (3/256) -ومن طريقه البلاذري في «أنساب الأشراف» (1/167) -، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/427 أو 1/298 رقم 503) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/142) ، وابن عساكر (43/449) من طريق سفيان، وابن أبي شيبة في «المصنف» (8/ 455) ، وهناد في «الزهد» (551) عن أبي معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير-، وأبو داود السجستاني في «الزهد» (271-ط. الهندية أو رقم 278-ط. المصرية) عن جرير وأبي معاوية، وابن عساكر (43/448- 449) عن يحيى بن عيسى، جميعهم عن الأعمش، عن إبراهيم التَّيمي، عن الحارث بن سويد، نحوه، وسيأتي لفظه قريباً عند المصنف. وإسناده قوي. وأخرجه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/426-427 أو 1/297 رقم 500-ط. شاكر) ، =

وشكا رجلٌ إلى أبي الدرداء أخاً له، فقال: سينصرك الله عليه. فوفد المشتكى منه على معاوية، فأجازه بمئة دينار، فقال أبو الدرداء للمشتكي: هل علمت أن الله قد نصرك على أخيك؟ وفد على معاوية؛ فأجازه بمئة دينار، وولد له غلام (¬1) . ورويناها -أيضاً- من طريق إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سُويدٍ: أن رجلاً من أهل الكوفة وشى بعمارٍ إلى عُمرَ فقال له عمار: إن كنت كاذباً فأكثَرَ ¬

= والمعافى بن عمران الموصلي (23) ، وابن عساكر (43/448) من طرق أخرى بنحوه. والخبر في «السير» (1/423) ، و «اللسان» مادة (وطأ) ، وفسره بقوله: أي كثير الأتباع، دعا عليه بأن يكون سلطاناً ومقدّماً أو ذا مالٍ، فيتبعه الناس ويمشون وراءه. (¬1) ظفرت بنحوه عنه، أخرجه المعافى بن عمران في «الزهد» (رقم24) ، وابن عساكر (47/ 162) بسندٍ فيه انقطاع: أن رجلين من أهل دمشق تنازعا، فعابا، فاستطال أحدهما على الآخر، فعاب المستطال عليه، ثم قدم، فلقيه أبو الدرداء، فقال: شعرتُ أنك قد تصوَّت -أي: رفعت صوتك- على صاحبك، قال: بم ذا يا أبا الدرداء؟ قال: «كثر مالُه وولدُه، ومن يُكثَّر مالُه، تكثر شياطينه» ، وأخرج ابن أبي الدنيا في «العيال» (رقم 449) آخره مرفوعاً، بسندٍ واهٍ. وظفرت بما أخرجه أحمد في «الزهد» (ق57/ب) والمعافى بن عمران في «الزهد» (206) من طريق حسَّان بن كُريب قال: كنا بباب معاوية، ومعنا أبو مسعود -صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج رجل قد كساه معاوية بُرْنُساً، فهنَّأه قوم، فقال أبو مسعود: خذ من طيباتك، وقال الآخر: خذ من حسناتك، وفيه ابن لهيعة. ثم ظفرت بأقرب منهما، أخرجه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/294 رقم 494- ط. شاكر) بسند صحيح إلى بيان -وهو ابن بشر الأحمسي- عن حكيم بن جابر: أن رجلاً نال من رجل، فأتى أبا الدرداء فشكاه، فقال: إن الله سيُديلك منه. فلما كان بعد ذلك، دعاه معاوية، فحَباه، وأعطاه، فأتى أبا الدرداء، فذكر ذلك له، فقال: أليس قد أُدِيل لك منه؟ ثم امتنَّ الله -عزّ وجلَّ- بالوقوف على لفظه بحروفه، عند وكيع في «الزهد» (177) ، وأبي داود السجستاني في «الزهد» (رقم 249) ، وأبي نُعيم في «الحلية» (1/223) ، وإسناده ضعيف، حسان ابن عطية لم يدرك أبا الدرداء.

الله مالَك وولدَك، وجعلَك مُوطّأ العقبين (¬1) . وفي «الفردوس» و «مسنده» لكن بدون إسنادٍ عن علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم ارزق من أبغضني وأهلَ بيتي كثرةَ المال والعيال، كفاهم بذلك أن يكثُر مالُهم فيطولَ حسابُهم، وأن تكثُر عيالهم فتكثر شياطينُهم» (¬2) . وفي (الثامن عشر) من «المجالسةِ» (¬3) من طريق محمد بن سيرين قال: مرَّ ابنُ عمرَ رضي الله عنهما على رجلٍ فسلَّم عليه، فلما جاز قيل له: إنه كافر، فرجع إليه فقال: ردَّ عليَّ السلام، فردَّ عليه، فقال له: أكثر اللهُ مالَك وولدَك، ثم التفت إلينا فقال: هذا أكثر للجزية. ¬

(¬1) مضى قريباً، قبل الهامش السابق. (¬2) أورده الديلمي في «الفردوس» (2007) من حديث علي بن أبي طالب. ثم وجدت المصنف يقول في «استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذوي الشرف» (2/604 رقم 339) : «أورده الديلمي وابنه معاً بلا إسناد» . وكذا قال الشريف السَّمهودي في «الجوهر الشفاف» (ق 95/ب) ، وفي «جواهر العقدين في فضل الشَّرَفين: شرف العلم الجلي والنسب النبوي» (1/255- ط. بغداد أو ص 344- ط. دار الكتب العلمية) ، وزاد في الأخير: «قلت: ولما كان الحامل على بغضهم الميلُ إلى الدنيا لِمَا جبلوا عليه من حب المال والولد، دعا عليهم بتكثير ذلك، لكن مع سلبهم نعمته، فلا يكون ذلك إلا نقمة عليهم لكفرانهم نعمة من هُدوا على يديه إيثاراً للدنيا، بخلاف مَن دعا له صلّى الله عليه وآله وسلم بتكثير المال والولد كأنس -رضي الله عنه-، إذ القصد به كون ذلك نعمةً عليه؛ فيتوصلُ به إلى ما جعل ذلك له من الأمور الأخروية والدنيوية النافعة» . وأشار المصنف على إثره إلى كتابنا هذا، وسبق أن نقلنا كلامه الموجود في «استجلاب ارتقاء الغرف» في تقديمنا لهذا الكتاب، والحمد لله على آلائه وتوفيقه. (¬3) انظر: «المجالسة» (6/179 رقم 2525) ، وإسناده ضعيف، في إسناده هوذة بن خليفة صدوق. وانظر: «تهذيب الكمال» (30/320) .

جمع المصنف بين الدعاء لأنس وبين الدعاء لمن لم يؤمن به

وروينا في «المزاح والفكاهة» (¬1) للزبير بن بكَّار من طريق مِسعَر، عن عبد الرحمن بن هرمز قال: كان مولىً لنا يأتي أبا هريرة -رضي الله عنه- فيقول له أبو هريرةَ: سلامٌ ورحمة الله، ومتَّ وشيكاً، وأكثر الله لمن يبغضُك من المال والولَد. وفي (الحادي والعشرين) منها (¬2) من طريق وُهَيب بن الورد قال: إن الله -عزَّ وجلَّ- إذا أراد كرامةَ عبدٍ أصابه بضيقٍ في معاشه، وسقمٍ في جسده، وخوفاً في دُنياه، حتى ينزلَ به الموت وقد بقيت عليه ذنوبٌ شدّد بها عليه الموتُ حتى يلقاه وما عليه شيءٌ، وإذا هان عليه عبدٌ يُصحُّ جسدَه، ويوسِّع عليه معاشَه، ويؤمّنه في دنياه، حتى ينزل به الموتُ وله حسناتٌ، خفّف عنه بها الموتُ حتى يلقاهُ، وما له عندَه شيءٌ. وأما الجمع بينَه وبين حديث الدعاء لأنس فالجواب كما ظهر لي: أنه يقال: ليس المالان في الموضعين على حدٍّ سواء، فالذي دعا لخادمه بالكثرةِ منه هو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: «لا خير فيمن لا يُحبُّ المال ليصلَ به رحمه، أو يؤدّي به عن أمانته، ويستغني به عن خلق ربه» (¬3) . ¬

(¬1) من مصادر ابن حجر في «الإصابة» : نقل منه خمس مرات. انظر: «ابن حجر وموارده في كتاب الإصابة» (2/189) ، ولم أظفر به فيما لدي من مصنفات مفردة عن (المزاح) ، مثل «المراح في المزاح» للغزي، «غذاء الأرواح بالمحادثة والمزاح» لمرعي الكرمي، «الإيضاح في بيان أحكام المزاح» للحمد. (¬2) انظر «المجالسة» (7/22 رقم 2865) ، وأخرجه -أيضاً- أبو نعيم في «الحلية» (8/156) عن أحمد بن إبراهيم، ثنا الحكم بن موسى، به. وفي إسناده ابن أبي الرجال -وهو عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الرحمن الأنصاري، المدني، نزيل الثغور، صدوق ربما أخطأ. وذكره الزبيدي في «إتحاف السادة المتقين» (10/271) ، وعزاه للدينوري في «المجالسة» . (¬3) أخرجه ابن حبان في «الضعفاء والمجروحين» (2/185) في ترجمة (العلاء بن مسلمة الرواس) -وقال: «يروي عن العراقيين المقلوبات وعن الثقات الموضوعات، لا يحل الاحتجاج به =

والمعنى في هذا كما قال العسكري: أنه لا خير فيمن يُحبُّ المال لغير هذه الخصال، وإنما يحبُّ المؤمنُ -يعني: الكاملُ- المالَ لهذه الأشياء (¬1) . ونحوه قول سعيد بن المسيّب -رحمه الله-: «لا خير فيمن لا يجمع المالَ فيقضي دينَه ويصل رحمَه، ويكفّ به وجهَه» (¬2) . ولذلك يروى كما أخرجه الإمام أحمد وابن منيع في «مسنديهما» من حديث عمرو بن العاصي -رضي الله عنهما-، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمرو نعمّا بالمال الصالح للمرء الصالح» (¬3) ، وفي لفظ: «نعم المال الصالح ¬

= بحال» -، والبيهقي في «الشعب» (1250 و1251) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/135) من حديث أنس بن مالك. وذكره ابن عرَّاق في «تنزيه الشريعة» (2/303) وعزاه لابن حبان والبيهقي، والشوكاني في «الفوائد المجموعة» (63) . وأخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (55 و56 و68 و103) ، والدينوري في «المجالسة» (5/336- 337 رقم 2211- بتحقيقي) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/173) ، والبيهقي في «الشعب» ، (1252) من قول سعيد بن المسيب، وهو الصحيح. وذكره عنه ابن عبد البر في «بهجة المجالس» (1/196) ، والذهبي في «السير» (4/238) ، وابن حمدون في «تذكرته» (8/98 رقم 227) ، و «سير السلف» (ق113/ب) . والخبر في «ربيع الأبرار» (4/ 142) عن ابن المبارك. (¬1) نقله المصنف في «الأجوبة المرضية» (2/744) -أيضاً- عن العسكري. (¬2) سبق تخريجه في الذي قبله، وفي بعض المصادر زيادة: «وكان يقول: اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها إلا لأصون بها حسبي وديني» وسيأتي مفرداً عند المصنف (ص 174) . (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/18) ، وأحمد (4/197 و202) ، وفي «فضائل الصحابة» له (1745) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (299) ، وأبو عوانة في (الزكاة) -كما في «إتحاف المهرة» (4/101) -، وأبو يعلى (13/320-322 رقم 7336) ، وأبو عُبيد في «غريب الحديث» ، وابن عبد الحكم في «فتوح مصر» (ص250) ، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (6065) ، وابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 43) ، وابن حبان في «صحيحه» (3210) و (3211) ، والطبراني في «الأوسط» (3213) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1315) ، والحاكم (2/2 و236) ، والبغوي في «شرح السنة» (2495) ، والبيهقي في «الشعب» (1248) من حديث عمرو بن العاص، وإسناده صحيح، وجوّده العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (3/ 228) ، وغيره.

للرجل الصالح» . وأخرج الديلمي عن جابر -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نعم العون على تقوى الله المالُ» (¬1) . ¬

(¬1) قال العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (4/101) : «رواه أبو منصور الديلمي في «مسند الفردوس» من رواية محمد بن المنكدر، عن جابر، ورواه أبو القاسم البغوي من رواية ابن المنكدر مرسلاً، ومن طريقه رواه القضاعي «مسند الشهاب» هكذا مرسلاً» . قلت: أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (2/260 رقم 1317) من طريق البغوي، عن عبد الرحمن بن صالح، ثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر مرسلاً. ورجاله ثقات، إلا أنه مرسل. نعم، وصله الديلمي في «الفردوس» (3/95) ، وابن لال في «مكارم الأخلاق» -كما في «إتحاف السادة المتقين» (9/87) ، و «كنز العمال» (6/239 رقم 6342) -، من طريقين، عن ابن المنكدر، عن جابر رفعه، وفي الأول: عبد الله بن أحمد بن عمر بن شوذب الواسطي (شيخ ابن لال) ، وفي الثاني: صالح بن عمرو، لم أظفر بترجمتهما. وأخرجه أبو علي النيسابوري في «فوائده» (ق 70/ب) عن أنس رفعه بلفظ: «نعم العون على الدِّين قوت سنة» ، وفيه أحمد بن محمود بن نعيم، وحمر بن نوح، مجهولان. وأخرجه الديلمي (4/ق 94- زهر الفردوس) باللفظ نفسه من حديث معاوية بن حيدة، رفعه. وإسناده واه جدّاً، فيه محمد بن داود بن دينار، قال ابن عدي: «كان يكذب» . فالمرفوع لم يثبت بلفظيه. انظر: «السلسلة الضعيفة» (2040، 2042) ، «تذكرة الموضوعات» (174) . وورد عن ابن المنكدر وغيره من السلف من أقوالهم، وهذا أشبه، وهذا ما وقفت عليه من ذلك، والله الموفق. أخرجه أبو القاسم البغوي في «الجعديات» (1687) ، وابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 58) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/149) ، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (5/355) من قول محمد ابن المنكدر، وليس عندهم جميعاً لفظة: (المال) وبدلها: (الغنى) . وأخرج ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 67) عن داود -عليه السلام- قال: «نعم العونُ اليسار، أو الغنى عن الدين» . وأخرج -أيضاً- فيه (رقم109) ضمن قصة جاء في آخرها: «قال لبيد بن عطارد: نعم العون على المزود الجِدَة» . وأخرج -أيضاً- فيه (رقم 59) عن مكحول قال: «بعض المعيشة عون على الدين» .

وعند الطبرانيِّ في «الأوسط» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قيل: يا رسولَ الله من السيد؟ قال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، قالوا: أفما في أمتك من سيد؟ قال: بلى، رجلٌ أعطي مالاً حلالاً، ورُزق سماحةً، وأدنى الفقير، وقلّت شكاته في الناس» (¬1) . وقال - صلى الله عليه وسلم -في حديث: «ذهب أهل الدُّثُور بالدَّرجات العُلى، يُصلُّون كما نصلّي، ويصومون كما نصومُ، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويعتقون ولا نُعتِق، ولهم فُضول أموال» -: «ذلك فضلُ الله يُؤتيه من يشاءُ» (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7006) ، والبيهقي في «الشعب» (10898) من حديث ابن عباس، وعزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/128) إلى الطبراني، وقال: وفيه نافع بن هرمز، وهو ضعيف، وقال في (8/202) : وفيه نافع بن هرمز وهو متروك. وانظر: «الترغيب والترهيب» للمنذري (3/260) ، وقال عنه شيخنا العلامة الألباني -رحمه الله - في «ضعيف الترغيب والترهيب» (رقم 1562) : «ضعيف جداً» . (¬2) أخرجه الدارمي (1353) ، وأحمد (2/238) من حديث أبي هريرة، عن أبي ذر قال: يا رسول الله ذهب ... ، وأخرجه البخاري (843 و 6329) ، ومسلم (595) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (146) ، وابن خزيمة (749) ، وأبو عوانة (2/248) ، وابن حبان في «صحيحه» (2014) ، والبيهقي (2/186) ، والبغوي في «شرح السنة» (717) و720) من حديث أبي هريرة، قال: جاء الفقراء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: «ذهب أهل الدثور ... » . وأخرجه بنحوه -أيضاً-: أحمد (5/158) ، والحميدي (123) ، والحسين المروزي في «زوائده على الزهد لابن المبارك» (1157) ، وابن ماجه (927) ، وابن خزيمة (748) ، والطبراني في «مسند الشاميين» (810) من طرق عن أبي ذر، ورواياتهم متقاربة، ويزيد فيه بعضهم على بعض. وأخرجه البزار في «مسنده» (4045) من طريق بشر بن عاصم: أن أباه أخبره، أنه سمع أبا الدرداء أو أبا ذر، فذكره. وأخرجه -أيضاً-: الطيالسي (982) ، وابن أبي شيبة (10/235 و13/453) ، وأحمد (5/196) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (147 و148 و151) ، والطبراني في «الدعاء» (708) من حديث أبي الدرداء. وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

وقال أيضاً -كما ستأتي الإشارة إليه- لكعبٍ -رضي الله عنه-: «أمسِك [عليك بعض مالك، فهو خير لك» (¬1) . وفي آخر: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ مات والله عنه راض» (¬2) . وقال ابن عمر -رضي الله عنهما: «لو كان عندي أُحدٍ ذهباً، أعلم عدده، وأُخرج زكاته، ما كرهتُ ذلك، وما خشيتُ أنْ يضرَّني» (¬3) ¬

(¬1) سيأتي تخريجه (ص 169) . (¬2) أخرجه ابن ماجه (70) ، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (1/152-153 رقم 7- «بغية الباحث» ) ، والحاكم في «المستدرك» (2/331) ، ومحمد بن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (1/86 رقم 1، 2) ، وأبو يعلى في «مسنده» -رواية ابن المقرئ وهي غير المطبوعة، ومن طريقه الضياء في «المختارة» (6/126 رقم 2122) -، وابن جرير في «التفسير» (6/78) ، والبيهقي في «الشعب» (5/341 رقم 6856) ، والضياء في «المختارة» (رقم 2123) من طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس مرفوعاً. وعزاه ابن كثير في «التفسير» (7/149- ط. أولاد الشيخ) لابن مردويه. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (4/132) لابن المنذر، والبزار، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. ولم يعزه في «كنز العمال» (رقم 278) إلا لابن ماجه، والحاكم. وأورده ابن حجر في «المطالب العالية» (12/370 رقم 2910- ط. العاصمة) ، وعزاه للحارث، وسكت عنه. وقال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1/56) : «هذا إسناد ضعيف، الربيع بن أنس ضعيف هنا» . قلت: وفيه أبو جعفر الرازي، وهو سيء الحفظ، والحديث في «ضعيف الجامع الصغير» (5719) ، و «ضعيف سنن ابن ماجه» (70) ، و «ضعيف الترغيب والترهيب» (رقم 1) . • تنبيه: أورد المصنف هذا الحديث في موطنين من «الأجوبة المرضية» هما (2/587 و3/1002) ، وتحرف (فارق) في مطبوعه إلى (رزق) وأهمله المحقق، ولم يعلق عليه بشيء! (¬3) أخرجه ابن ماجه (1787) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/82) ولفظهما: «ما أُبالي لو كان لي أُحدٍ ذهباً، أعلمُ عدده، وأُزكيه، وأعمل فيه بطاعة الله -عز وجل-» . =

التفصيل في فضل الغنى والفقر

وقال] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحةُ لمن اتقى خيرٌ من الغنى، وطيبُ النفس من النعيم» (¬2) ، أخرجه أحمد، وابنُ ماجه عن خبيبٍ الجهني. فمن تكون الدنيا [في يديه، ويؤدّي الحقوق منها، ويتطوّع بالأمور المستحبّة فيها، ولم تكن عائقةً له عن الوصول إلى الله تعالى، ولا لها في قلبه] (¬3) مزيةٌ ولا يفخر بها خصوصاً على مَنْ دونَه (¬4) ، ولا يكون بما في يديه منها أوثق منه ¬

= وإسناده صحيح، وصححه شيخنا الألباني في «السلسلة الصحيحة» (تحت رقم 559) ، و «صحيح سنن ابن ماجه» (1787) . (¬1) بدل ما بين المعقوفتين بياض في الأصل، وأثبتّه من «الأجوبة المرضية» (2/587- 588، 3/1002) ، للمصنّف، وانظر ما ذكرناه في مقدمة التحقيق. (¬2) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/69 و5/272، 380) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (301) ، وفي «التاريخ الكبير» (5/22) ، وابن ماجه (2141) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2566) ، والحاكم (2/3) -وصححه ووافقه الذهبي، وذكر أن صحابيه اسمه يسار بن عبد الله الجهني-، والبيهقي في «الشعب» (1245 و1246) ، وفي «الآداب» (965) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (6/3082 رقم 7120) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (14/450) من حديث معاذ بن عبد الله بن خُبيب الجُهني، عن أبيه، عن عمِّه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عليهم وعليه أثر غسل وهو طيب النفس، فظننا أنه ألمَّ بأهله. فقلنا: يا رسول الله! نراك طيِّب النفس؟ قال: أجل، والحمد لله، ثم ذُكر الغنى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خيرٌ من الغنى، وطيبُ النفس من النِّعم» . هذا لفظ البخاري في «الأدب المفرد» ، ولفظه عند أحمد: «كنا في مجلسٍ فطلع علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسه أثرُ ماءٍ، فقلنا: يا رسولَ الله نراك طيِّبَ النفس، فقال: أجل، ثم خاض القومُ في ذكر الغنى، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس بالغنى، ... » . وقال البوصيري في «زوائد ابن ماجه» : إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (174) . (¬3) بدل ما بين المعقوفتين بياض في الأصل، والمثبت من «الأجوبة المرضية» (2/586 و3/ 1001) للمصنف، ومن «جوابه» الذي بخطه، وهومرفق بآخر كتابنا هذا، والله الموفق، لا ربّ سواه. (¬4) انظر ما قررناه في (مقدمة التحقيق) أن الفخر بالمال أسوأ مراتب العُجب.

بما عند الله، بحيث يحبسها عما شُرِع له صَرْفها فيه، من التقتير على نفسِه وعيالِه، وعدم إظهارِ نعمة الله -عزَّ وجلَّ- ولا يُنفقها في وجوه الباطل التي لم تشرع، ولا يُبذّر، يكون ذلك زيادةً له في الخير. وكم من غنيٍّ مُتَّصفٍ بذلك وأزيد منه، مثل: داود، وسليمان، ويوسف، وطوائف من الأنبياء -عليهم الصلاةُ والسلام-، وعثمان بن عفّان، وعبد الرحمن ابن عوف، وطلحة الفياض (¬1) أحد العشرةِ -رضي الله عنهم-، وسعد بن الربيع الذي قال: «أنا من أكثر الأنصار مالاً» (¬2) ، وقال له عبد الرحمن بن عوف: «بارك الله لك في أهلك ومالِك» (¬3) -رضي الله عنهما-، وغيرهم من الأولياء (¬4) . ¬

(¬1) الفياض: الجواد الواسع العطاء. قال زهير في «ديوانه» (139) : وأبيض فيَّاض يداه غمامةٌ ... على مُعتفَيه ما تَغِبُّ نوافِلُه وأصله من قولك: فاض الماء، إذا سال، وحديث مستفيض، أي: شائع منتشر، قاله الخطابي في «غريب الحديث» (2/218-219) ، وأسند خبراً يدلل على كرمه، كنت قد خرجته بتطويل في تعليقي على «المستجاد» للتنوخي (رقم 8) . وفي خبر عند أبي عبيد في «الغريب» (4/164) ، وابن قتيبة في «إصلاح غلط أبي عبيد» (ص 128- 129) ، بيان أنه -رضي الله عنه- ترك مئة حمل مال مقدار الحمل منها ثلاثة قناطير، والقنطار مئة رطل. (¬2) قطعة من حديث فيه طول، أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب البيوع (باب ما جاء في قول الله -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ ... } ) (رقم 2048) من حديث عبد الرحمن بن عوف، ورقم (2049) من حديث أنس، وفيه قول عبد الرحمن بن عوف الآتي. وطرف الحديث الأول عند البخاري برقم (3780) ، وطرف الثاني بالأرقام: (2293، 3781، 3937، 5072، 5148، 5153، 5155، 5167، 6082، 6386) . وانظر عن (غنى) المذكورين وسخائهم: «الجواهر المجموعة» للسخاوي، و «المستجاد» للتنوخي، و «المستجاد» للدارقطني، و «مراقي الجنان» ليوسف بن عبد الهادي (فهرس الأعلام) فيها جميعاً، والتدليل على ذلك لا طائل تحته، لشهرته، ولأنه يطيل الهوامش، وفيما فعلنا كفاية إن شاء الله -تعالى-. (¬3) انظر الهامش السابق. (¬4) أذكر هنا مثالاً على كثرة ثروة الصحابة -رضوان الله عليهم جميعاً-، حتى يتبين لنا مبلغ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= غناهم، مع حرصهم على الخير والبذل في أخبار صحيحة تكاد أن تكون هي للخيال أقرب منها للحقيقة، وهي تجسد ما أراده المصّنف على وجه جليٍّ جدّاً: أخرج الدينوري في «المجالسة» (رقم 2200- بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (18/428- ط. دار الفكر) -، وابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 418) بسندٍ صحيح عن عروة بن الزبير: أن الزبير بن العوام ترك من العروض قيمة خمسين ألف ألف درهم، [ومن العين خسمين ألف ألف دينار] . وأخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (3/110) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (18/428-ط. دار الفكر) - من طريق آخر عن هشام، به، بلفظ: «كانت قيمة ماترك الزبير إحدى وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف» . وأخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب فرض الخمس (باب بركة الغازي في ماله حياً وميتاً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر) (رقم 3129) : حدثني إسحاق بن إبراهيم؛ قال: «قلت لأبي أسامة: أحدثكم هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير ... » ، وذكر خبراً طويلاً فيه: «فقُتِل -رضي الله عنه- ولم يدع ديناراً ولا دِرهماً، إلا أرضين منها الغابة، وإحدىعشرة داراً بالمدينة، ودارَين بالبصرة، وداراً بالكوفة، وداراً بمصر» . قال: «وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال، فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف؛ فإني أخشىعليه الضيعة، وما ولي إمارة قط ولا جباية خراج ولا شيئاً إلا أن يكون في غزوة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مع أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-. قال عبد الله بن الزبير: فحسبتُ ما عليه من الدين؛ فوجدته ألفي ألف ومئتي ألف. قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير، فقال: يا ابن أخي! كم على أخي من الدين؟ فكتمه، فقال: مئة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه. فقال له عبد الله: أرأيتك إن كانت ألفي ألف ومئتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا؛ فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي. قال: وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومئة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وست مئة ألف. ثم قام فقال: من كان له على الزبير حق فليوافنا بالغابة. فأتاه عبد الله بن جعفر -وكان له على الزبير أربع مئة ألف-، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا. قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخِّرون إن أخَّرتم. فقال عبد الله: لا. قال: فاقطعوا لي قطعة. قال عبد الله: لك من ها هنا إلى ها هنا. قال: فباع منها فقضى دينه فأوفاه. وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية -وعنده عمرو بن عثمان، والمنذر بن الزبير، وابن زمعة-، فقال له معاوية: كم قوِّمت الغابة؟ قال: كل سهم مئة ألف. قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= ونصف. فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهماً بمئة ألف. وقال عمرو بن عثمان: قد أخذتُ سهماً بمئة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهماً بمئة ألف. قال معاوية: كم بقي؟ فقال: سهم ونصف، قال: أخذته بخمسين ومئة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بست مئة ألف. فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه، قال بنو الزبير: أقسم بيننا ميراثنا. قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه. قال: فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين؛ قسم بينهم. قال: وكان للزبير أربع نسوة، ورفع الثلث، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومئتا ألف» . والمتأمل والمتمعِّن فيما ذكر من الآثار والأخبار يكاد يقف على تعارضٍ واختلاف في تركة الزبير، ووجدت كلاماً متيناً للحافظ ابن حجر حاول فيه إزالة هذا الاختلاف، آثرتُ أن أنقله من «الفتح» (6/232-234- ط. السلفية) على الرغم من طوله؛ لما فيه من تحرير وتنقيح، وهذا نصُّ كلامه بالحرف: قال بعد رواية البخاري السابقة: «في رواية أبي نعيم من طريق أبي مسعود الراوي عن أبي أسامة: أن ميراث الزبير قسم على خمسين ألف ألف ومئتي ألف ونيف، زاد على رواية إسحاق: ونيف، وفيه نظر؛ لأنه إذا كان لكل زوجة ألف ألف ومئتا ألف؛ فنصيب الأربع: أربعة آلاف ألف وثمان مئة ألف، وهذا هو الثُّمن، ويرتفع من ضربه في ثمانية، ثمانية وثلاثون ألف ألف وأربع مئة ألف، وهذا القدر هو الثلثان، فإذا ضم إليه الثلث الموصى به وهو قدر نصف الثلثين وجملته تسعة عشر ألف ألف ومئتا ألف؛ كان جملة ماله على هذا سبعة وخمسين ألف ألف وست مئة ألف، وقد نبه على ذلك قديماً ابن بطال ولم يجب عنه، لكنه وهم؛ فقال: وتسع مئة ألف. وتعقبه ابن المنير فقال: الصواب: وست مئة ألف. وهو كما قال ابن التين: نقص عن التحرير سبعة آلاف ألف وأربع مئة ألف؛ يعني: خارجاً عن قدر الدَّيْن، وهو كما قال، وهذا تفاوت شديد في الحساب، وقد ساق البلاذري في «تاريخه» هذا الحديث عن الحسين بن علي بن الأسود بن أبي أسامة بسنده، فقال فيه: «وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة من ثمن عقاراته ألف ألف ومئة ألف، وكان الثمن أربع آلاف ألف وأربع مئة ألف، وكان ثلثا المال الذي اقتسمه الورثة خمسة وثلاثين ألف ألف ومئتي ألف» . وكذلك أخرجه ابن سعد عن أبي أسامة؛ فعلى هذا إذا انضم إليه نصفه وهو سبعة عشر ألف ألف وست مئة ألف؛ كان جميع المال اثنين وخمسين ألف ألف وثمان مئة ألف؛ فيزيد عما وقع في الحديث ألفي ألف وست مئة ألف، وهو أقرب من الأول، ولعل المراد أن القدر المذكور وهو أن لكل زوجة ألف ألف ومئة ألف كان لو قسم المال كله بغير وفاء الدين، لكن خرج الدين من حصة كل أحد منهم؛ فيكون الذي يورث ما عدا ذلك، وبهذا التقرير يخف الوهم في الحساب ويبقى التفاوت أربع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= مئة ألف فقط، لكن روى ابن سعد بسند آخر ضعيف عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن تركة الزبير بلغت أحداً أو اثنين وخمسين ألف ألف، وهذا أقرب من الأول، لكنه -أيضاً- لا تحرير فيه، وكأن القوم أتوا من عدم إلقاء البال لتحرير الحساب؛ إذ الغرض فيه ذكر الكثرة التي نشأت عن البركة في تركة الزبير؛ إذ خلف ديناً كثيراً ولم يخلف إلا العقار المذكور؛ ومع ذلك؛ فبورك فيه حتى تحصل منه هذا المال العظيم، وقد جرت للعرب عادة بإلغاء الكسور تارة وجبورها أخرى؛ فهذا من ذاك. وقد وقع إلغاء الكسور في هذه القصة في عدة روايات بصفات مختلفة؛ ففي رواية علي بن مسهر عن هشام عند أبي نعيم: «بلغ ثمن نساء الزبير ألف ألف، وترك عليه من الدين ألفي ألف» ، وفي رواية عثام بن علي عن هشام، عند يعقوب بن سفيان: «إن الزبير قال لابنه: انظر ديني وهو ألف ألف ومئتا ألف» ، وفي رواية أبي معاوية عن هشام: «أن قيمة ما تركه الزبير كان خمسين ألف ألف» ، وفي رواية السراج: «أن جملة ما حصل من عقاره نيف وأربعون ألف ألف» ، وعند ابن سعد من حديث ابن عيينة: «إن ميراثه قسم على أربعين ألف ألف» . وهكذا أخرجه الحميدي في «النوادر» عن سفيان، عن هشام بن عروة. وفي «المجالسة» للدينوري من طريق محمد بن عبيد، عن أبي أسامة: أن الزبير ترك من العروض قيمة خمسين ألف ألف، والذي يظهر أن الرواة لم يقصدوا إلى التحرير البالغ في ذلك كما تقدم، وقد حكى عياض، عن ابن سعد ما تقدم، ثم قال: «فعلى هذا يصح قوله: إن جميع المال خمسون ألف ألف، ويبقى الوهم في قوله: ومئتا ألف» . قال: «فإن الصواب أن يقول: مئة ألف واحدة» . قال: «وعلى هذا؛ فقد وقع في الأصل الوهم في لفظ: «مئتا ألف» ، حيث وقع في نصيب الزوجات، وفي الجملة؛ فإنما الصواب مئة ألف واحدة، حيث وقع في الموضعين» . قلت: وهو غلط فاحش يتعجب من وقوع مثله فيه مع تيقظه للوهم الذي في الأصل وتفرغ باله للجمع والقسمة، وذلك أن نصيب كل زوجة إذا كان ألف ألف ومئة ألف لايصح معه أن يكون جميع المال خمسين ألف ألف ومئة ألف، بل إنما يصح أن يكون جميع المال خمسين ألف ألف ومئة ألف، إذا كان نصيب كل زوجة ألف ألف وثلاثة وأربعين ألفاً وسبع مئة وخمسين على التحرير، وقرأت بخط القطب الحلبي عن الدمياطي أن الوهم إنما وقع في رواية أبي أسامة عند البخاري في قوله في نصيب كل زوجة: «أنه ألف ألف ومئتا ألف» ، وأن الصواب: «أنه ألف ألف» سواء بغير كسر، وإذا اختص الوهم بهذه اللفظة وحدها خرج بقية ما فيه على الصحة؛ لأنه يقتضي أن يكون الثمن أربعة آلاف ألف؛ فيكون ثمناً من أصل اثنين وثلاثين، وإذا انضم إليه الثلث صار ثمانية وأربعين، وإذا انضم إليها الدين صار الجميع خمسين ألف ألف ومئتي ألف؛ فلعل بعض رواته لما وقع له ذكر مئتا ألف عند الجملة، ذكرها عند نصيب كل زوجة سهواً. =

عبد الرحمن بن عوف ومقدار ثروته

وكان عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- يقول: إنه لو رفع حجراً لرجى أن يُصيبَ تحته ذهباً (¬1) ، وفتح الله عليه ومات فحُفر الذهب من تركته بالفؤوس حتى ¬

= وهذا توجيه حسن، ويؤيده ما روى أبو نعيم في «المعرفة» من طريق أبي معشر عن هشام، عن أبيه؛ قال: «ورثت كل امرأة للزبير ربع الثمن: ألف ألف درهم» ، وقد وجهه الدمياطي -أيضاً- بأحسن منه، فقال ما حاصله: إن قوله: فجميع مال الزبير خمسون ألف ألف ومئتا ألف صحيح، والمراد به قيمة ما خلفه عند موته، وأن الزائد على ذلك -وهو تسعة آلاف ألف وست مئة ألف- بمقتضى ما يحصل من ضرب ألف ألف ومئتي ألف، وهو ربع الثمن في ثمانية مع ضم الثلث كما تقدم، ثم قدر الدين حتى يرتفع من الجميع تسعة وخمسون ألف ألف وثمان مئة ألف، حصل هذا الزائد من نماء العقار والأراضي في المدة التي أخر فيها عبد الله بن الزبير قسم التركة استبراء للدين كما تقدم، وهذا التوجيه في غاية الحسن لعدم تكلفه وتبقية الرواية الصحيحة على وجهها. وقد تلقاه الكرماني؛ فذكره ملخصاً ولم ينسبه لقائله، ولعله من توارد الخواطر، والله أعلم. وأما ما ذكره الزبير بن بكار في «النسب» في ترجمة عاتكة، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» : أن عبد الله بن الزبير صالح عاتكة بنت زيد عن نصيبها من الثمن على ثمانين ألفاً؛ فقد استشكله الدمياطي وقال: بينه وبين ما في «الصحيح» بون بعيد، والعجب من الزبير! كيف ما تصدى لتحرير ذلك؟! قلت: ويمكن الجمع بأن يكون القدر الذي صولحت به قدر ثلثي العشر من استحقاقها، وكان ذلك برضاها، وردّ عبد الله بن الزبير بقية استحقاقها على من صالحها له، ولا ينافي ذلك أصل الجملة. وأما ما أخرجه الواقدي عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ قال: قيمة ما ترك الزبير أحد وخمسون ألف ألف؛ فلا يعارض ما تقدم لعدم تحريره. وقال ابن عيينة: قسم مال الزبير على أربعين ألف ألف، أخرجه ابن سعد، وهو محمول على إلغاء الكسر» . قال أبو عبيدة: كلام ابن حجر السابق فيه جمع وتحرير جيدان. وانظر: «تاريخ دمشق» (18/427، 428) ، و «المجالسة» (456، 2092) وفيها ما يشعر باضطراب الرواة في قيمة التركة. والخبر في: «السير» (1/65) ، و «اللمعات البرقية في النكت التاريخية» (ص 30-31) . (¬1) ذكره المصنف في «الأجوبة المرضية» (2/584) -أيضاً-، ولم يعزه لأحد. ثم وجدته مسنداً من حديث أنس ضمن قصة فيها محاورة سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف، التي أشار إليها المصنف -سابقاً-، أخرجها عبد بن حميد في «المنتخب من مسنده» (رقم =

مجلت (¬1) فيه الأيدي، وأخذت كلُّ زوجةٍ ثمانين ألفاً (¬2) -وكنَّ أربعاً-، وقيل: مئة ألفٍ (¬3) ، وقيل: بل صولحت إحداهن؛ لأنه طلقها في مرضه على نيفٍ وثمانين ألفاً (¬4) ، ¬

= 1333) وفي آخرها: «قال عبد الرحمن: لقد رأيتني بعد ذلك، ولو رفعت حجراً لظننت أني سأصيب تحته ذهباً، أو فضة» . وأخرجه بنحوه أحمد (3/271) ، وابن سعد (3/126) ، والبلاذري في «أنساب الأشراف» (10/32) ، ولفظه: «قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجراً، لرجوت أن أُصيب [تحته] ذهباً أو فضة» . وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬1) المجل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء، أو المجلة: قشرة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل. (¬2) أسنده ابن عساكر (35/304) عن ابن سيرين قال: إن عبد الرحمن بن عوف توفي، وكان فيما ترك ذهباً قطع بالفأس، ... إلى آخر ما ذكره المصنف هنا. وأخرج أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (4/411) ، والبلاذري في «أنساب الأشراف» (10/38) نحوه من طريق أيوب، عن ابن سيرين، وسيأتي في الذي بعده نحوه. (¬3) أخرج أحمد (3/165) ، وعبد الرزاق (10410) ، وابن سعد (3/137) ، وابن حبان (4096) ، وابن عساكر (35/303) ، بإسناد صحيح على شرط الشيخين على إثر حديث مرفوع: «قال أنس: لقد رأيتُه -أي: عبد الرحمن بن عوف- قَسم لكل امرأةٍ من نسائه بعد موته مئة ألف دينار» . (¬4) أخرج الدينوري في «المجالسة» (رقم 379- بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (35/304- ط. دار الفكر) -، من طريق هشام، عن ابن سيرين، قال: «إن نساء عبد الرحمن بن عوف اقتسمن ثمنَهُنَّ عشرين وثلاث مئة ألف درهم، وتوفي عن أربع نسوة، فأصابت كل امرأة منهن ثمانين ألفاً» . وأخرجه اليزيدي في «الأمالي» (ص97) من طريق آخر عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين قال: لما توفي عبد الرحمن بن عوف ترك أربع نسوة، فصولحت امرأة من نسائه، وأخرجت من الثمن بثمانين ألف درهم. قال ابن سيرين: فبلغني أن الرجال ضربوا بالفؤوس سبائك الذهب من ميراثه، حتى مجلت أيديهم. وأخرج ابن سعد (2/137) -ومن طريقه ابن عساكر (35/303) - عن أبي صالح قال: مات عبد الرحمن بن عوف، وترك ثلاث نسوة، فأصاب كل واحدة مما ترك ثمانون ألفاً، ثمانون ألفاً. قال أبو عبيدة: كذا فيه (أبو صالح) ، وصوابه (صالح) ، وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرج ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 111، 427) بسنده إلى صالح قال: صولحت =

صدقاته ووصيته

وأوصى بخمسين ألفاً (¬1) ، بعد صدقاته الفاشية في حياته، وعوارفه العظيمة، أعتق يوماً ثلاثين عبداً (¬2) ، وتصدّق مرةً بعيرٍ فيها سبع مئةِ بعيرٍ، ورَدَت عليه تحمل من ¬

= امرأة عبد الرحمن ثمنها: الثمن بثمانين ألفاً، هذا لفظ الرواية الأولى، ولفظ الثانية: «على ثمنها ثلث الثمن، بثلاث مئة وثمانين ألفاً» كذا فيه وهو خطأ! صوابه: ما أخرجه سعيد بن منصور -ومن طريقه البيهقي، ومن طريقه ابن عساكر (35/303-304) -، عن عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه قال: صولحت امرأة عبد الرحمن من نصيبها ربع الثمن على ثمانين ألفاً. وما أخرجه البلاذري في «أنساب الأشراف» (10/38-39) من طريق صالح بن إبراهيم قال: أصاب تماضر بنت الأصبغ الكلبي ربع الثمن، فأخرجت بمئة ألف، وهي إحدى أربع نسوة. وانظر سائر الروايات عند: ابن سعد (3/136-137) ، والبلاذري (10/38-39) ، وفي «تاريخ مدينة صنعاء» (ص63، 64) ، و «الأربعين» لأبي الفتوح الطائي (ص79- الحديث التاسع) ، «تهذيب الكمال» (2/ق 809) ، «السير» (1/91) ، «تاريخ الإسلام» (ص 396- عهد الخلفاء الراشدين) ، «صفوة الصفوة» (1/355) . (¬1) أخرج الدارقطني في «المستجاد من فعلات الأجواد» (رقم 40) ، وابن سعد في «الطبقات» (3/136) ، والبلاذري في «أنساب الأشراف» (10/38) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (35/299) عن أبي الأسود -وبعضهم زاد عن عروة بن الزبير، وبعضهم جعل بدل (عن) يتيم-، قال: إن عبد الرحمن بن عوف أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله. وفي لفظ: أوصى عبد الرحمن بن عوف في السبيل بخمسين ألف دينار. وهذه أسانيد منقطعة. ولكن عروة قريب عهد، والإسناد -له أو لمن دونه- صحيح. (¬2) ذكره البلاذري في «أنساب الأشراف» (10/39) عن أبي اليقظان قال: « ... وأعتق في يوم واحد ثلاثين عبداً، وأوصى بسهم من ستة عشر من ماله لأبي بكرة، وأصاب كل امرأة له من ميراثه ثمانون ألفاً» . وأخرج أبو نعيم في «الحلية» (1/99) -ومن طريقه ابن عساكر (35/293) -، عن جعفر بن بُرقان، قال: بلغني أن عبد الرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألف بنت! كذا في المصدرين. وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/308) من الطريق نفسه، وعنده «بيت» بدل «بنت» ! ويعجبني كلام للمصنف في بعض أجوبته جمع فيه بين أثر أبي اليقظان وأثر ابن برقان، فقال -ذاكراً مناقب عبد الرحمن بن عوف-: « ... إلى غير ذلك من صدقاته الفاشية وعوارفه العظيمة، حتى إنه أعتق في يوم ثلاثين عبداً، وفي عمره ثلاثين ألف نسمة» . انظر: «الأجوبة المرضية» (2/585) . وانظر: «الأربعين» لأبي الفتوح الطائي (ص 79) ، والهامش الآتي.

كلّ شيء، فتصدق بها وبما عليها، وبأقتابها وأحلاسها، وأوصى بخمسين ألف دينار، وبألف فرسٍ في سبيل الله، ولأمهات المؤمنين بحديقةٍ بيعت بأربع مئة ألفٍ، ولمن بقي من أهل بدرٍ لكلّ رجل أربع مئة دينار، وكانوا مئة فأخذوها وعثمان فيمن أخذ (¬1) ، كلُّ ذلك ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم - له بالبركةِ. ¬

(¬1) ورد ذلك في آثار عديدة، هذا ما وقفت عليه: أخرج البخاري في «التاريخ الكبير» (1/167) ، والدينوري في «المجالسة» (2199) -ومن طريقيهما ابن عساكر (35/ 299- 300، 300) - عن الزهري قال: «أوصى عبد الرحمن بن عوف لمن بقي ممن شهد بدراً أربع مئة دينار لكل رجل، وكانوا مئة؛ فأخذوها، وأخذ عثمان فيمن أخذ، وهو خليفة، وأوصى بألف فرس في سبيل الله -عز وجل-» . وأخرج ابن المبارك -ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (1/90) ، وعنه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/384- 384 رقم 483- ط. الدار) و «الحلية» (1/99) -، وابن عساكر (35/263) ، والذهبي في «السير» (1/81) عن الزهري قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفاً، ثم تصدق بأربعين ألفاً (وفي بعض المصادر) : ثم تصدق بأربعين ألفاً -مرة ثالثة -، ثم حمل على خمس مئة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمس مئة (وسقط من مطبوع «تاريخ دمشق» : «ألف و» ) راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة، وأما تصدقه على أمهات المؤمنين، فقد ورد ضمن حديث أخرجه الترمذي في أبواب المناقب (باب مناقب عبد الرحمن بن عوف) (3750) من طريق محمد بن عمر، عن أبي سلمة بلفط: «إن عبد الرحمن بن عوف أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربع مئة ألف» ، وقال: «حسن غريب» . والحديث صحيح. أخرجه الترمذي (3749) ، وأحمد في «المسند» (6/77، 103، 120، 135) ، وفي «فضائل الصحابة» (1249، 1258) ، وإسحاق بن راهوية في «المسند» (1755) ، وابن حبان (6995) ، والطبراني في «الأوسط» (3235، 9111) ، وابن سعد (3/132) ، والطحاوي في «المشكل» (3566) ، والحاكم (3/310- 311، 312) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/98) ، وابن عساكر (10/ 131-132) من طرق عن عائشة قالت: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «إنّ أمركن لمِمّا يهمُّني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون» . قال أبو سلمة: ثم تقول عائشة: فسقى الله أباك من سلسبيل الجنة، تريد عبد الرحمن بن عوف، وقد كان وصل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بمالٍ، يقال: بيعت بأربعين ألفاً. =

دعوته صلى الله عليه وسلم للمقداد وعروة بن أبي الجعد

وكذا دعا للمقداد بالبركة فكانت عنده غرائر من المال (¬1) ، ودعا مثله لعروةَ بن ¬

= والحديث صحيح، وله شاهد عند البزار (2590- زوائده) ، وأبي نعيم (1/99) من حديث عبد الرحمن بن عوف رفعه؛ بلفظ: «لا يعطف عليكنّ بعدي إلا الصادقون الصابرون» . وانظر: «السلسلة الصحيحة» (1845، 3318) ، وما مضى في مقدمة التحقيق (ص 21) . ولا تعارض بين الخبرين، فالذي بيع بأربعين ألف، هو ماله بكيدمة وهو سهمه من بني النضير، كما صرَّح به بعض ولده في رواية عند أبي القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (4/409) -ومن طريقه ابن عساكر (35/285) -، وابن سعد (3/132) ، وباعه من عثمان، كما وقع في حديث المسور بن مخرمة. وأخرجه ابن سعد (3/132) ، والدارقطني في «المستجاد» (رقم 39) ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد فضائل الصحابة» (136) ، والحاكم (3/311) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/ 379، 380 رقم 475) ، و «الحلية» (1/98) ، وابن عساكر (35/283) . بقي خبر: التصدق بعير عليها أقتابها وأحلاسها، وهذا وارد في خبر دخول عبد الرحمن الجنة حبواً، وسيأتي تخريجه وبيان ما فيه في التعليق على (ص 127) . • فائدة: جعل ابن قتيبة في «غريب الحديث» الحديث «سليل الجنة» وفسّره؛ فقال: «هو ماء في الجنة» ، وتعقبه العسكري في «تصحيفات المحدثين» (1/325) بقوله: «ولا أعلم أحداً رواه «من سليل الجنة» وإنما الرواية «من سلسبيل الجنة» » . قال أبو عبيدة: هذا التعقب يلحق ابن الأثير في «النهاية» (2/389) مما رواه «من سليل الجنة» ! وقال: «هو الماء البارد، وقيل: السهل في الحلق» ! وانظر: «الأجوبة المرضية» (2/584- 586 و3/1000-1001) ، و «الكسب» لمحمد بن الحسن الشيباني (ص 113-114) ، و «تفسير ابن جرير» (11/ 592-593- ط. هجر) (التوبة: 79) ، و «الأربعين» (ص 80) لأبي الفتوح الطائي، «السير» (1/90) ، و «تاريخ الإسلام» (ص 395- «عهد الخلفاء الراشدين» ) ، «اللمعات البرقية» (ص 31- 32) . (¬1) أخرجه أبو داود في «سننه» في كتاب الخراج والإمارة (باب ما جاء في الركاز وما فيه) (3087) ، وابن ماجه في «صحيحه» في كتاب اللقطة (باب التقاط ما أخرج الجرذ) (2508) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (293) -ولم يسق لفظه-، والطبراني في «الكبير» (20/611 و612) ، والهيثم الشاشي في «مسنده» -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (60/175) -، وأبو نعيم في «دلائل النبوة» (رقم 389) ، والبيهقي (4/155- 156) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (35/222) من طرق عن موسى بن يعقوب الزمعي: حدثتني عمتي قريبة بنت عبد الله عن أمها كريمة بنت المقداد =

أبي الجعد فقال: فلقد كنتُ أقوم بالكُناسة -وهو موضع بالكوفة-، فما أرجع حتى أربح أربعين ألفاً، وقال البخاري في حديثه: «فكان لو اشترى التراب ربح فيه» (¬1) . ¬

= ابن عمرو، عن ضباعة بنت الزبير زوجة المقداد، عن المقداد بن عمرو: أنه خرج ذات يوم إلى البقيع -وهو المقبرة- لحاجته، وكان الناس لا يذهب أحدهم في حاجته إلا في اليومين والثلاثة، فإنما يبعر كما تبعر الإبل، ثم دخل خربة، فبينما هو جالس لحاجته؛ إذ رأى جرذاً أخرج من جحر ديناراً، ثم دخل فأخرج آخر، حتى أخرج سبعة عشر ديناراً، ثم أخرج طرف خرقة حمراء. قال المقداد: فسللت الخرقة فوجدت فيها ديناراً، فتمَّت ثمانية عشر ديناراً، فخرجت بها حتى أتيت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته خبرها، فقلت: خذ صدقتها يا رسول الله! فقال: «ارجع بها؛ لا صدقة فيها، بارك الله لك فيها» . ثم قال: «لعلّك اتبعت يدك في الجُحر؟» . قلت: لا؛ والذي أكرمك بالحق. قال: فلم يفنِ آخرها حتى مات. وهذا لفظ ابن ماجه. وفي رواية الشاشي والطبراني (611) زيادة في آخره: «قالت ضباعة: فما فني آخرها حتى رأيت غرائر الوَرِق في بيت المقدام» . وأخرجه الزبير بن بكار في «نسب قريش» -ومن طريقه ابن عساكر (60/174- وفي آخره: «قال: فما ذهب آخرها حتى رأيت في بيت المقدام غرائر الورق» . وفي سياق بعض الروايات أنه من مسند ضباعة، كما قال الحافظ ابن حجر في «النكت الظراف» (8/504) ، وهو لا يضر، فضباعة هذه صحابية، ولكن هذا إسناد فيه مقال، موسى بن يعقوب، وثقه ابن معين، وابن القطان، وقال ابن عدي: لا بأس به عندي، وقال ابن المديني: ضعيف الحديث، منكر الحديث. وقال أبو داود: روى عنه ابن مهدي، وله مشايخ مجهولون. وقال أحمد: لا يعجبني حديثه. وقريبة هذه لم يرو عنها إلا ابن أخيها موسى، وقال الحافظ في «التقريب» : مقبولة، فهي في عداد المجاهيل، وكذلك كريمة، والحديث في «ضعيف سنن ابن ماجه» (545) ، و «ضعيف سنن أبي داود» (3079) . وقوله -والله أعلم-: «لعلك اتبعت بيدك في الجحر» إذ لو فعل ذلك لكان ذلك في حكم الركاز، وإنما ساق الله هذا المال إليه بغير فعل منه؛ أخرجته له الأرض بمنزلة ما يخرج من المباحات، ولهذا -والله أعلم- لم يجعله لقطة إذ لعله علم أنه من دفن الكفار. أفاده ابن القيم في «إعلام الموقعين» (6/416- بتحقيقي) . (¬1) يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في «الصحيح» في كتاب المناقب (باب منه) (رقم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= 3642) ، وأبو داود في «السنن» في كتاب البيوع (باب في المضارب يخالف) (رقم 3384) ، وابن ماجه في «السنن» في كتاب الصدقات (باب الأمين يتجر فيه فيربح) (رقم 2402) وأحمد في «المسند» (4/375) ، والحميدي في «مسنده» (843) ، وسعدان بن نصر في «جزئه» (رقم 99) -ومن طريقه وغيره ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (40/212- 213) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/707) ، والشافعي في «المسند» (رقم 1333) ، والطبراني في «الكبير» (17 رقم 412) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/112) ، وابن حزم في «المحلى» (8/436، 437) من طريق شبيب بن غرقدة؛ قال: «سمعت الحيَّ يتحدثون عن عروة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ديناراً يشتري له به شاةً، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينارٍ، فجاء بدينارٍ وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب؛ لربح فيه» . لفظ البخاري، وقال عقبه: «قال سفيان: كان الحسن بن عُمارة جاءنا بهذا الحديث عنه؛ قال: سمعه شبيب بن عُروة، فأتيته، فقال شبيب: إني لم أسمعه من عروة؛ قال: سمعتُ الحيَّ يخبرونه عنه» . قال ابن حجر في «الفتح» (6/634) : «توقّف الشافعي فيه؛ فتارة قال: لا يصح؛ لأن هذا الحديث غير ثابت، وهذه رواية المزني عنه، وتارة قال: إن صحّ الحديث قلت به، وهذه رواية البويطي، ثم قال: «وأما قول الخطابي والبيهقي وغيرهما: إنه غير متصل؛ لأن الحيَّ لم يسم أحد منهم؛ فهو على طريقة بعض أهل الحديث، يسمون ما في إسناده مبهم مرسلاً أو منقطعاً، والتحقيق إذا وقع التصريح بالسماع أنه متصل في إسناده مبهم؛ إذ لا فرق فيما يتعلق بالاتصال والانقطاع بين رواية المجهول والمعروف؛ فالمبهم نظير المجهول في ذلك، ومع ذلك؛ فلا يقال في إسنادٍ صرح كل من فيه بالسماع من شيخه: إنه منقطع، وإن كانوا -أو بعضهم- غير معروف» . وقال معقباً على مقولة البخاري: «سمعه شبيب من عروة؛ فأتيته» : «وأراد البخاري بذلك بيان ضعف رواية الحسن بن عمارة، وأن شبيباً لم يسمع الخبر من عروة، وإنما سمعه من الحي، ولم يسمعه من عروة؛ فالحديث بهذا ضعيف للجهل بحالهم، لكن وجد له متابع عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه من طريق: سعيد بن زيد، عن الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد؛ قال: حدثني عروة البارقي.. فذكر الحديث بمعناه. وله شاهد من حديث حكيم بن حزام، وقد أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان، عن شبيب، عن عروة، ولم يذكر بينهما أحداً، ورواية علي بن عبد الله -وهو ابن المديني، شيخ البخاري فيه- تدل على أنه وقعت في هذه الرواية تسوية، وقد وافق علياً على إدخاله الواسطة بين شبيب وعروة: أحمد، والحميدي في «مسنديهما» ، وكذا مسدد عند أبي داود، وابن أبي عمر، والعباس بن الوليد عند الإسماعيلي، وهذا هو المعتمد. =

دعوته لغرقدة

ورُوي مثلُ هذا لغرقدة (¬1) -أيضاً-، بل قد حُملت خزائنُ الأرض إلى رسول ¬

= وزعم ابن القطان في كتابه «بيان الوهم والإيهام» [5/165 رقم 2400- دار طيبة] أن البخاري لم يرد بسياق هذا الحديث إلا حديث الخيل ولم يرد حديث الشاة، وبالغ في الرد على من زعم أن البخاري أخرج حديث الشاة محتجاً به؛ لأنه ليس على شرطه؛ لإبهام الواسطة فيه بين شبيب وعروة، وهو كما قال، لكن ليس في ذلك ما يمنع تخريجه ولا ما يحطه عن شرطه؛ لأن الحي يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ويضاف إلى ذلك ورود الحديث من الطريق التي هي الشاهد لصحة الحديث، ولأن المقصود منه الذي يدخل في علامات النبوة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لعروة، فاستجيب له؛ حتى كان لو اشترى التراب لربح فيه. وأما مسألة بيع الفضولي؛ فلم يردها؛ إذ لو أرادها لأوردها في البيوع، كذا قرره المنذري، وفيه نظر؛ لأنه لم يطرد له في ذلك عمل؛ فقد يكون الحديث على شرطه ويعارضه عنده ما هو أولى بالعمل به من حديث آخر؛ فلا يخرج ذلك الحديث في بابه، ويخرجه في باب آخر أخفى لينبه بذلك على أنه صحيح؛ إلا أن ما دل ظاهره عليه غير معمول به عنده، والله أعلم» . قلت: طريق سعيد بن زيد عن الزبير به -التي أشار إليها ابن حجر سابقاً- أخرجها الترمذي في «جامعه» (أبواب البيوع، باب 34) (3/559) ، وأبو داود في «السنن» (رقم 3385) ، وابن ماجه في «السنن» (رقم 2402) ، وأحمد في «المسند» (4/376) ، والدارقطني في «السنن» (3/10) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/112) بنحوه. قال البيهقي: «سعيد بن زيد -وهو أخو حماد بن زيد- ليس بالقوي» . قلت: هومختلف فيه، ولم ينفرد به؛ فقد تابعه هارون بن موسى الأعور المقرئ عند الترمذي في «جامعه» (3 رقم 1258) . وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين؛ غير أبي لبيد، واسمه: لِمَازة بن زيَّاد، قال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/5) : «وقد قيل: إنه مجهول، لكن وثقه ابن سعد، وقال حرب: سمعتُ أحمد أثنى عليه، وقال ابن المنذر والنووي: إسناده حسن صحيح، لمجيئه من وجهين» . وحديث حكيم بن حزام أخرجه أبو داود في «السنن» (رقم 3386) ، والترمذي في «الجامع» (رقم 1257) ، والدارقطني في «السنن» (3/9) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/112-113) ، وفي إسناده انقطاع، أفاده الترمذي. (¬1) أخرجه ابن قانع في «معجم الصحابة» (12/4216 رقم 1505) في ترجمة (غرقدة) نحو حديث عروة السابق. قال ابن حجر في «الإصابة» (5/344) -وأورد (غرقدة) في (القسم الرابع) من (الصحابة) ! -: =

كرم أبي بكر وعمر

الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى صاحبيه أبي بكرٍ، وعمرَ -رضي الله عنهما-، فأخذوها ووضعوها في مواضعها وما هربوا منها لكونهم قد استوى عندهم الماء والمال، والذهب والحجر (¬1) ، كما عُرف من سيَرهم وأحوالِهم، إلى غيرهم من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديّين، الذين كانوا مع تفاوت مراتبهم للمال خُزّاناً، لا يمتَنِعون عن بذله في مصارفه التي يزداد بها الدّين قوةً وبرهاناً، ولا يدّخرون لأنفسهم منه داراً وبستاناً، بل هم واقفون عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أنا قاسم والله يُعطي» (¬2) ، متحرزون ¬

= «قال ابن قانع: كذا قال. وهو تصحيف. وإنما هو (عن عروة) لا (عن غرقدة) . قلت: وهذا الحديث في «صحيح البخاري» من حديث سفيان بن عيينة، لكن (عن عروة بن الجعد) ، والحديث مشهور من حديثه. وقد بيّنتُ في «شرح البخاري» السبب في إخراج البخاري له، مع أنه (عن الحي) ولا يعرف أحوالهم، والله أعلم» . قال أبو عبيدة: وما نقله ابن حجر في «فتح الباري» سبق أن ذكرناه في تخريج الحديث السابق، وما نقله عن ابن قانع: «كذا قال ... » غير موجود في مطبوع «معجم الصحابة» له. (¬1) من قوله: «حملت خزائن الأرض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هنا» نقله المصنف عن أبي حامد الغزالي في: «إحياء علوم الدين» للغزالي (4/204- ط. دار إحياء الكتب العربية) ، وقال العراقي في تخريجه (7/2237) : «وهذا معروف، وقد تقدم في آداب المعيشة عن البخاري تعليقه مجزوماً من حديث أنس: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمال من البحرين، وكان أكثر مال أتى به، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء إليه، فما كان يرى أحد إلا أعطاه. ووصله عمرو بن محمد البحيري في «صحيحه» من هذا الوجه. وفي «الصحيحين» من حديث عمرو بن عوف: قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار قدومه، ... الحديث. ولهما من حديث جابر: لو جاءنا مال البحرين أعطيتك هكذا ثلاثاً، فلم يقدم حتى توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر أبو بكر منادياً فنادى: من كان له على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة أو دين فليأتنا، فقلت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدني فحثا لي ثلاثاً» . انتهى. (¬2) جزء من حديث: «مَن يُرِد اللهُ به خيراً يفقهْه في الدّين» ، أخرجه أحمد (2/234) ، وأبو يعلى (5855) ، والطحاوي في «شرح المشكل» (1691) من حديث أبي هريرة، وأصله عند ابن ماجه برقم (220) من حديث أبي هريرة، واقتصر فيه على شطره الأول: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» . =

عن الخطأ، فكثُر المصيب فيهم، وقل المخطئ، حتى كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول مُعلناً: «من أراد أن يسأل عن المال فليأتنا، فإن الله جعلني خازناً» (¬1) ، فهنيئاً لهم، ثم هنيئاً لهم بالذي تقرّ به العين. فالخازن الأمين المعطي ما أمر به أحد المتصدقين (¬2) ، ومن الأدلة على ¬

= وأخرجه أحمد (4/102) ، والبخاري (71 و3316 و7312 و7460) ، وفي «التاريخ الكبير» (7/10) ، ومسلم (1037) ، وأبو يعلى (7383) من حديث معاوية. وفي الباب عن جابر بن عبد الله عند: أحمد (3/301) ، والبخاري (3114) ، وفي «الأدب المفرد» (839) ، ومسلم (2133) بلفظ: «تسمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإني أبو القاسم أقسم بينكم» ، وعند البخاري في «الأدب المفرد» : «فإني جعلتُ قاسماً أقسم بينكم» ، وانظر: «الصحيحة» (1628) . (¬1) رواه الحاكم في «المستدرك» (3/271) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، و (3/272- 273) من طريق أبي عاصم، وابن سعد في «الطبقات» (2/348، 359) عن الواقدي، وابن وهب -كما عند ابن القيم في «إعلام الموقعين» (2/38-39- بتحقيقي) -، جميعهم عن موسى بن علي اللخمي، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال: «من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد المال فليأتني» . وصححه الحاكم في الموطن الثاني على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في «الفتح» (7/126) ، وكلام الحاكم متعقب بأن الحسن بن موسى من شيوخ الطبراني، لم أظفر بقول فيه تجريح أو تعديل له. انظر: «الإكمال» (7/215) ، و «السير» (13/534) . وعلى كل حال؛ فهو متابع، وموسى بن علي، وأبوه: لم يخرج لهما البخاري في «الصحيح» ، وإنما في «الأدب المفرد» ، وموسى صدوق ربما أخطأ، وأبوه ثقة، مات بعد المئة وعشرة، فهو لم يدرك عمر. (¬2) أخرج البخاري (1437) ، ومسلم (1023) عن أبي موسى الأشعري رفعه: «إنّ الخازن الأمين الذي يُنفِّذُ ما أمر به، فيُعطيه كاملاً موفَّراً، طيّبةً به نفسُه، فيدْفعُهُ إلى الذي أُمر له به أحدُ المتصدِّقين» ، فكلام المصنف مأخوذ من هذا الحديث. و «جعل الشرع الخازن أحد المتصدّقين، بحسنِ مساعدته على إيصال البرِّ، ولا يقتضي ذلك مساواته للباذل في قَدْرِ الأجر، لأنّ كونه مُتصدِّقاً لا يدُلُّ على ذلك» . قاله العز بن عبد السلام في «شجرة المعارف والأحوال» (ص 254) . وفي الأصل فوق كلمة (المتصدقين) علامة إلحاق، وفي الهامش حيالها: «ينظر الورقة» . =

جواز الحرص على الاستكثار من المال الحلال لمن وثق من نفسه بالشكر عليه

جواز الحرص على الاستكثار من المال الحلال لمن وثق من نفسه بالشكر عليه، والقيام بما يجلب به النفع الأخروي إليه، ما صح من حديث همامٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بينما أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً خرَّ عليه رِجل جرادٍ من ذهب فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه عزّ وجلَّ يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى، ولكن لا غنى بي عن بركتك» (¬1) ، وفي لفظٍ: «ومن يشبع من رحمتك» ، أو قال: «من فضلك» . ويشهد لبعض ما أشرتُ إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت الآخرة همَّه جعل الله ¬

= وقد فعل الناسخ ذلك في موضعين آخرين، والورقتان بخط المصنف (السخاوي) ، أما هنا فلم أظفر بشيء. (¬1) أخرجه البخاري (3391، 7493) عن عبد الله بن محمد الجعفي، وفي (279) في الغسل (باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة) عن إسحاق بن نصر، وأحمد (2/314) ، وابن حبان (6229) ، والبغوي في «شرح السنة» (2027) من طريق أحمد بن يوسف السلمي، كلهم عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، به. وهو في «صحيفة همام بن منبه» (رقم 47) ، و «أمالي عبد الرزاق» (رقم 169) . وأخرجه أحمد (2/304 و490) عن أبي داود الطيالسي، و (2/511) عنه وعن عبد الصمد، وابن حبان في «صحيحه» (6230) عن عبد الصمد وحده، والحاكم (2/582) ، وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير في «البداية» (1/223) ، من طريق عمرو بن مرزوق، ثلاثتهم عن همّام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، وقال ابن كثير: ورواه ابن حبان في «صحيحه» عن عبد الله بن محمد الأزدي، عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الصمد، به. وأخرجه أحمد (2/243) ، والحميدي في «المسند» (2/457 رقم 1060) عن سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (1/200 و201) في الغسل (باب الاستتار عند الاغتسال) ، عن أحمد بن حفص بن عبد الله، عن أبيه، عن إبراهيم، عن موسى بن عقبة، عن صفوان بن سُليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة. وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (5/660) وزاد نسبته إلى البيهقي في «الأسماء والصفات» ، وابن مردويه.

غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عَينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه تاماً ومختصراً: أحمد في «مسنده» (5/183) ، و «الزهد» (33) ، وابن ماجه (4105) ، والدارمي (229) ، وابن حبان (680) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (94) ، وفي «الزهد» (163) ، وابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 352) ، والطبراني في «الكبير» (4891 و4925) ، وفي «الأوسط» (7267) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/227) ، و «ذكر أخبار أصبهان» (1/354) ، وابن عبد البر في «التمهيد» (21/276) ، و «الجامع» (رقم 184) ، والبيهقي في «الشعب» (7/288 رقم 10338) من حديث زيد بن ثابت. وإسناده صحيح، صححه البوصيري في «زوائد ابن ماجه» (3/270- 271 رقم 1454) ، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (4/121) ، وشيخنا الألباني في «الصحيحة» (رقم 404، 950) . وفي الباب عن ابن مسعود: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/220-221) -ومن طريقه ابن ماجه في «السنن» (رقم 257، 4106) -، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» (ص 29) ، والهيثم بن كليب الشاشي في «مسنده» (رقم 317) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/105) ، وابن عدي في «الكامل» (7/2521- 2522) ، والدارقطني في «العلل» (رقم 688) ، و «الأفراد» (ق 207/أ- مع أطراف الغرائب) ، وابن عبد البر في «الجامع» (رقم 1128) بإسنادٍ ضعيف جدّاً عن ابن مسعود مرفوعاً: «من جعل الهموم هماً واحداً؛ كفاه الله همّ آخرته، ومن تشعَّبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديتها وقع» . وفي إسناده نهشل بن سعيد يروي المناكير، وقيل: بل يروي الموضوعات. قاله البوصيري، وقال أبو حاتم في «العلل» (2/122- 123) : «هذا حديث منكر، ونهشل بن سعيد متروك الحديث» ، وبنهشل أعله ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (2/54) . وفي الباب عن أنس: أخرجه الدارمي (229) ، والترمذي (2465) ، والطبراني في «الأوسط» (8883) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (1/33) ، وهناد في «الزهد» (667، 669) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/307) ، وابن عدي في «الكامل» (1/384) ، والبزار والبيهقي في «الشعب» (7/289 رقم 10341) ، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 333) ، وابن الجوزي في «الواهيات» (1329) ، وهو في «السلسلة الصحيحة» (949) . وللحديث شواهد عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن عباس، ومن مرسل سليمان ابن حبيب المحاربي، ومن مرسل محمد بن المنكدر، وهو صحيح بها، وأحسنها حديث زيد المتقدم. =

شعر لسلم بن ميمون الخواص

وقد أنشد سلم بن ميمون الخوّاص (¬1) : أرى الدنيا لِمَنْ هي في يديْهِ ... عذاباً كلَّما كَثُرَت لديه تُهينُ المُكرمِينَ لها بصُغْرٍ ... وتُكرِمُ كلَّ مَنْ هانَتْ عليه على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر في الدعاء لأنس -رضي الله عنه- بالإكثار فقط، بل ضم إليه الدعاء بالبركة (¬2) الذي صدوره منه - صلى الله عليه وسلم - يشمل عدم الافتتان به بحيث يزول محذوره، إذ الدنيا بلاء وفتنة، ففي التنزيل: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] . وفي الأحاديث الإلهية يقول الله -عزَّ وجلَّ-: «ابن آدم ما خلقت هذه الدنيا إلا محنة» (¬3) ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعملون» (¬4) . ¬

= وانظر: «الزهد» لابن أبي عاصم (باب ما ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت همته ونيته الآخرة؛ أتته الدنيا وهي راغمة» (ص 62 وما بعدها) ، و «زهد وكيع» (رقم 359، 360) والتعليق عليه، و «إتحاف السادة المتقين» (6/290) . ومعنى الحديث: إن المشتغل بالسبب معرضاً عن النظر في غيره؛ فمشتغل بأمرٍ واحد، وهو التعبّد بالسبب أي سبب كان، ولا شك أن همّاً واحداً خفيفٌ على النفس جدّاً بالنسبة إلى هموم متعدّدة، بل همّ واحدٌ وثابتٌ خفيف بالنسبة إلى همّ واحد متغيّر مُتشتِّت في نفسه، وللكلاباذي كلام مطول حوله، انظر: «معاني الأخبار» له (ص 333-335) . (¬1) ذكر ذلك أبو نعيم في «الحلية» (8/278) ووقع فيه: «كلما كوت» ؛ وهو خطأ، صوابه المثبت، وفيه -أيضاً-: «سالم بن ميمون الخواص» ، وهو خطأ، صوابه: «سلم» » . له ترجمة في «الجرح والتعديل» (4/267) ، «ميزان الاعتدال» (2/186) ، «السير» (8/179) . وقد وجدت الأبيات عند ابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 438) وذكر تمثّل بعضهم بها. (¬2) انظر: «الأجوبة المرضية» (2/745) ، وسيأتي كلامه في التعليق على آخر رسالتنا هذه. (¬3) أورده الديلمي في «الفردوس» (8051) من حديث ابن عمر. (¬4) جزء من حديث أخرجه بنحوه: أحمد (3/7 و51 و84) ، والحميدي (752) ، وعبد بن حميد (864) ، والترمذي (2191) ، وابن ماجه (4000) ، والنسائي في «الكبرى» (9269) ، وأبو يعلى (1101 و1212 و1213 و1245) من حديث أبي سعيد الخدري، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.

فتنة أمة محمد صلى الله عليه وسلم المال

وقال -أيضاً-: «إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وأنهما مهلكاكم فانظروا كيف تعملون» (¬1) . وقال -أيضاً-: «لكل أمة فتنة، وفتنةُ أمتي المال» (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان (694) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/112) ، والبيهقي في «الشعب» (10294) من حديث أبي موسى مرفوعاً. وأخرجه من حديث أبي موسى موقوفاً: ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/141و 505) ، وهناد في «الزهد» (683) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/261) ، والبيهقي في «الشعب» (10293) ، وأورده الديلمي في «الفردوس» (898) . وأخرجه البزار (1612) ، والطبراني في «الكبير» (10069) ، والدارقطني في «العلل» (791) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/102) من حديث ابن مسعود مرفوعاً، وعزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/22) إلى الطبراني في «الكبير» وقال: «فيه يحيى بن المنذر وهو ضعيف» . وفي (10/237) عزاه من حديث ابن مسعود إلى البزار، وقال: «وإسناده جيد» . (¬2) أخرجه الترمذي (2336) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (7/222) ، والنسائي في «السنن الكبرى» -كما في «تحفة الأشراف» (8/309) -، وأحمد (4/160) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2516) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (12/4431، 4432 رقم 1634، 1635) ، وابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 13) ، وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (5/124، 124- 125 رقم 2020، 2021) ، وابن حبان في «الصحيح» (3223) ، والطحاوي في «المشكل» (4325) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1022، 1023) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (19 رقم 404) ، و «الأوسط» (3319) ، وفي «مسند الشاميين» (2027) ، والحاكم في «المستدرك» (4/318) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (5/2373 رقم 5826) ، والبغوي في «شرح السنة» (5194) ، والبيهقي في «الشعب» (10309) من طريقين عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن ابن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن كعب بن عياض، رفعه. وإسناده قويّ. وله شاهد من حديث أبي هريرة، عند العقيلي (3/970- ط. الشيخ حمدي) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الواهيات» (2/798 رقم 1333) - من طريق علي بن قتيبة، عن مالك، عن موسى الأحمر، عن أبي هريرة، رفعه. وقال على إثره: «ليس له أصل من حديث مالك، ولا من وجه يثبت» ، وأقره ابن الجوزي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وتعقبه شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الصحيحة» (رقم 592) بقوله: «قوله: «ولا من وجه يثبت» ، مردود بحديث كعب بن عياض، فإنه لا علة له، وقد صححه من ذكرنا (وهم الترمذي بقوله: «حديث حسن صحيح غريب» ، والحاكم بقوله: «صحيح الإسناد» ) ، وكذا ابن عبد البر في ترجمة كعب هذا من «الاستيعاب» (3/381) ، وأقرهم الحافظ في «الفتح» (11/253) ، وقال: «وله شاهد عند سعيد بن منصور عن جبير بن نفير مثله» » . قال شيخنا الألباني: «وأقول: هذا لا يصلح للشهادة؛ لأنه من طريق المشهود له، الموصول من طريق جبير نفسه، كما تقدم، فتأمل» . قلت: وأخرجه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 509) بسندٍ صحيح عن ابن مسعود قوله: «إنّ لكل أمّة فتنة، وإن فتنة هذه الأمة الدراهم» . وخص أبو عبد الله القرطبي في كتابه «قمع الحرص بالزهد والقناعة» في (الباب الخامس والثلاثين) لهذا الحديث، وقال في شرحه: «قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: هذا خبر منه - صلى الله عليه وسلم - بأن كل الأمم افتتنت، فأمم منهم افتتنوا عن توحيده بالأصنام فعبدوها، وقوم بالشمس فتألهوها، وقوم بالقمر، وقوم بالكواكب، وقوم نبي كان فيهم وهم اليهود عبدوا عزيراً، وقالوا: ابن الله، ومنهم من افتتنوا بالعجل يعبدونه، والنصارى افتتنوا بعيسى فقال قوم منهم: هو الإله. وآخرون منهم قالوا: هو ابن الله، وجعل فتنة هذه الأمة في حب الدينار والدرهم، فغلب على أكثرهم حب المال، فكدر عليهم عبودية المتكبر المتعال، كما غلب على أكثر الأمم فتنة شرك الأسباب في توحيد رب الأرباب. قلت: وقد احتج بهذا، وما كان في معناه من لا يرى جمع المال واكتسابه، واتخاذه واقتناءه، لما ينشأ فيه من المفاسد، ويحرم صاحبه من الخيرات والفوائد، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن الناس مختلفون بحال في ذلك، وقد كشف هذا حديثان: أحدهما: حديث أبي كبشة الأنماري وسيأتي (ص 113) . والثاني: ما رواه البخاري، وابن ماجه، وغيرهما، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي، وإن منع سخط» . ثم قال - صلى الله عليه وسلم - في تمامه: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله: أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كانت الحراسة، كان في الحراسة، وإن كانت الساقة كان في الساقة، يطلب الموت من مظانه، إن أعطى شكر، وإن منع صبر» [أخرجه البخاري (2886) وغيره] . قال علماؤنا: فميز - صلى الله عليه وسلم - بين عبد المال والهوى، وبين العبد الخالص للمولى، فذلك دعا عليه =

وللخوف من الفتن يُروى -كما عند أبي يعلى وغيره - عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم بعد المئتين الخفيف الحاذ (¬1) الذي لا أهل له ولا ولد» (¬2) . ¬

= بسيىء الدعاء ليرجع إلى المولى، والمخلص خصه بحبذا، وهي درجة المحبوبين الأولياء، فالمال إذا شغل عن ذكر الله، وعن القيام بحقوقه؛ فبئس المال، وإذا لم يمنع عن ذلك؛ فنعم المال، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «نعم المال الصالح للعبد الصالح» . لكن لما كانت سلامة الدين مع ذلك نادرة، والفتن والآفات من ذلك غالبة، تعين التقلل منه والفرار، وأن لا يأخذ المرء منه إلا ما يكفيه عند الحاجة والاضطرار. وقد قال أرباب الفهوم: ما يشغلك عن الله من أهل أو مال، فهو عليك مشؤوم. وقال يحيى بن المتوكل: كنت أمشي مع سفيان الثوري، فمررت برجل بنى بناء وشيده، فقال: لا تنظر إليه، إنما بناه لينظر إليه. وقال هشام بن عروة: كان أبي إذا دخل على من عنده شيء من زينة الدنيا أسرع الرجوع إلى أهله، وقام بالباب، ونادى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} [طه: 131] إلى آخر الآية، ثم ينادي: الصلاة الصلاة، فيقومون فيصلون أجمعون» . (¬1) خفيف الحاذ: أي خفيف الظهر من العيال، والحاذ والحال واحد، وأصل الحاذ: طريقة المتن، وهو ما يقع عليه اللَّبْدُ من ظهر الفرس. انظر: «النهاية» (1/457) ، و «لسان العرب» (3/487) . (¬2) أخرجه أبو يعلى في «مسنده الكبير» -رواية ابن المقرىء، كما في «المطالب العالية» (17/ 617 رقم 4359- ط. العاصمة) ، و «المقاصد الحسنة» (ص203) -، والترقفي في «حديثه» (ق1/ ب) ، وابن أبي حاتم في «العلل» (2/132) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/69) ، والخليلي في «الإرشاد» (2/47 رقم 129) ، وابن عدي في «الكامل» (3/1037) ، والبيهقي في «الشعب» (7/ 292 رقم 10350) ، والخطابي في «العزلة» (ص 36) ، وابن الأعرابي في «الزهد» (ص 61 رقم 106) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (6/55 و18/211) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 197-198 و11/225) ، و «المهروانيات» (رقم 47) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (رقم 1051، 1052) ، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/14) ، جميعهم من طريق روَّاد بن الجرَّاح: ثنا سفيان الثوري، ثنا منصور: ثنا ربعي عن حذيفة، رفعه. وذكره الديلمي في «الفردوس» (2/170 رقم 2852) . وعزاه السيوطي في «الجامع الكبير» (1/519) ، والعراقي في «تخريج أحاديث الأحياء» =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= (2/24) ، والمصنف في «المقاصد الحسنة» (رقم 452) ، والسيوطي في «الدرر» (رقم 206) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (1/464 رقم 1235) لأبي يعلى، وقال السيوطي: «ضعِّف» ، بينما في «الجامع الصغير» (3/397- مع «الفيض» ) : «صحيح» ، وتعقّبه المناوي، وأعله بروَّاد. قال الخليلي: «وهذا لا يعرف من حديث سفيان إلا من هذا الوجه، وقد خطّئوه فيه» . وقال البيهقي: «تفرد به روّاد بن الجرّاح العسقلاني عن سفيان الثوري» ، وقال الخطيب: «هذا حديث غريب من حديث سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة، تفرد بروايته أبو عاصم روّاد بن الجراح عن الثوري، فقد رواه -أيضاً- عنه غيره» . ونقل ابن الجوزي عن الدارقطني قوله: «تفرّد به رواد، وهو ضعيف» ، قال: «وقد أدخله البخاري في «الضعفاء» ، وقال: كان قد اختلط لا يكاد يقوم حديثه، وقال أحمد بن حنبل: حدَّث رواد عن سفيان أحاديث مناكير، وقد روى مطلقاً من غير ذكر المئتين» . قلت: وكلام الدارقطني في «الأفراد والغرائب» (ق 126/أ- ترتيب ابن القيسراني) . وانظر لروّاد وضعفه: «الجرح والتعديل» (2/52) ، «تاريخ بغداد» (4/173- 174) ، «تاريخ دمشق» (18/210) ، «الميزان» (2/56) ، «الكاشف» (1/20) ، «المغني» (1/40) . وقال الذهبي في «الميزان» (2/56) : «قال أبوحاتم: هذا حديث منكر» ، وزاد: «لا يشبه حديثه حديث الثقات، وإنما كان بدوّ هذا الخبر -فيما ذكر لي- أن رجلاً جاء إلى رواد، فذكر له هذا الحديث، فاستحسنه، وكتبه، ثم بعد حدّث به، يظن أنه من سماعه» . وقال في «المغني» (1/233) : «خبر منكر» . وعلَّق جمع من العلماء جناية هذا الحديث بروّاد، منهم -على سبيل المثال-: - الزركشي في «اللآلئ» (ص 68- 69) ، وقال: «والمعروف ما رواه الترمذي (2347) عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أغبط أوليائي عندي المؤمن خفيف الحاذ، ذو حظٍّ في الصلاة» الحديث، وإسناده ضعيف» . - العراقي قي «تخريج الأحياء» (2/24) ، والمصنف في «المقاصد الحسنة» (رقم 452) ، قال: «علته روّاد» ، وقال: «وفي معناه أحاديث كثيرة كلها واهية» ، ثم ساق بعضها، وتكلّم عليها. - وذكره الصَّغاني في «الموضوعات» (ص 15 رقم 98) ، وعزاه محققه -خطأ، وهو شنيع بشيع- للترمذي في «سننه» !! وقال ابن القيم في «المنار المنيف» (ص 127) : «أحاديث مدح العزوبة كلها باطل» . • تنبيه وتحذير: ذكر الخطيب في «تاريخه» (6/198) ، وعنه ابن عساكر (18/211) أن =

أحاديث لم تصح في جواز الترهب أيام الفتن

وفي الباب عدة أحاديث من نمطه (¬1) . ¬

= موسى -وهو ابن إبراهيم بن النضر بن مروان المقرئ، أحد رواة الحديث- قال: «قال أبي: قال العباس: فتكلم الناس في هذا الحديث، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسول الله! حدّثنا رواد ابن الجراح، ثنا سفيان، ثنا منصور، ثنا رِبعي، عن حذيفة عنك، أنك قلت: خيركم في المائتين كل خفيف الحاذ، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق روَّاد بن الجراح، وصدق سفيان، وصدق منصور، وصدق رِبعي، وصدق حذيفة. أنا قلت: خيركم في المايتين كل خفيف الحاذ» ، ولا تلتفت إلى هذه الحكاية، فالأحكام لا تبنى أصالة على الرؤى، فتنبه ولا تكن من الغافلين! وفي الباب عن حذيفة بمعناه من طريق آخر، ولفظ مغاير أخرجه المعافي بن عمران في «الزهد» (رقم 19) -ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (5/187) ، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (3/544 و4/851) عن مكحول عن حذيفة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يتمنّى أبو الخمسة أنهم أربعة، وأبو الأربعة أنهم ثلاثة، وأبو الثلاثة أنهم اثنان، وأبو الاثنين أنهم واحد، وأبو الواحد أنه ليس له ولد» ، وإسناده ضعيف، ومكحول لم يسمع حذيفة. وقال ابن أبي حاتم في (2/132) : «قال أبي: هذا حديثٌ باطلٌ» . وقال في (2/420) : قال أبي: «هذا حديثٌ منكرٌ» . (¬1) ذكر بعضاً منها المصنف في «المقاصد الحسنة» (رقم 452) ، وضعّفها كما قدمناه عنه في الهامش السابق، وقال: «فإن صحّت فهو محمول على جواز التَّرهُّب أيام الفتن» . قلت: وهذا تبويب شيخه ابن حجر في «المطالب العالية» (17/617- ط. العاصمة) على بعضها. وانظر -أيضا-: «الأجوبة المرضية» (2/742-743) . ومن بين هذه الأحاديث: ما أخرجه ابن خلاد في «فوائده» (ق 9) ، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (3/967 رقم 756- بغية الباحث) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/118) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيأتي على الناس زمان يحل فيه العُزبة، ولا يسلم لذي دين دينه إلا من فرّ بدينه، من شاهق إلى شاهق، ومن جحر إلى جحر؛ كالطائر يفرّ بفراخه، وكالثعلب بأشباله، فأقام الصلاة وآتى الزكاة، واعتزل الناس إلاَّ من خير، ولمئة شاة عفراء أرعاها بسلع، أحب إليّ من ملك بني النضير، وذلك إذا كان كذا وكذا» . وإسناده ضعيف، فيه عبد الرحيم بن واقد، قال أبو نعيم: «غريب» . وأخرجه من طرق أخرى ضعيفة جداً عن ابن مسعود مرفوعاً بمعناه وبألفاظ أخرى: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= البزار (4/131-كشف الأستار) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (10/12) ، وتمّام في «فوائده» (1716- الروض) ، والخطابي في «العزلة» (ص 66) ، والديلمي في «الفردوس» (1/ق 90 - زهر الروض) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/198) . وانظر: «الميزان» (2/218- 219) ، «اللآلىء المصنوعة» (2/394-395) ، «تنزيه الشريعة» (2/345-346) . وضعَّفه العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (2/24) ، والمصنِّف في «المقاصد الحسنة» (ص 329) . وعزاه السيوطي في «الجامع الكبير» (1/ق683) للبيهقي في «الزهد» ، والخليلي، والرافعي عن ابن مسعود. قلت: جعل العراقي حديث البيهقي في «الزهد» عن أبي هريرة، وهو كذلك فيه برقم (439) وسنده ضعيف، كما قال العراقي. وأرجى ما ورد عن ابن مسعود في هذا موقوفاً عليه، أخرجه من طرق وبألفاظ: أحمد في «الزهد» (ق 46/أو57/أ) ، والحاكم في «المستدرك» (4/486) ، والمعافى بن عمران في «الزهد» (رقم 13، 14، 20، 21، 22) ، والداني في «الفتن» (2/458 و3/543) ، ونعيم ابن حماد في «الفتن» (1/76) ، وابن أبي الدنيا في «العيال» (442) ، وابن عساكر (33/171) . وفي الباب عن ابن عباس: أخرجه الطبراني في «الكبير» (10/439) ، وتمام في «الفوائد» (رقم 1717- الروض) -ومن طريقهما ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (8/ق 105) -، وابن حبان في «المجروحين» (1/249) ، وسنده مظلم. وانظر له: «الموضوعات» (2/279) ، «الميزان» (2/436) ، «تنزيه الشريعة» (2/211) ، «اللآلئ المصنوعة» (2/178) ، «الفوائد المجموعة» (134) ، «مجمع الزوائد» (4/257، 259) . وعن أبي ذر: أخرجه الحاكم (3/343) ، والطبراني في «الأوسط» (4860) ، ضمن حديث طويل، وسنده ضعيف. انظر «مجمع الزوائد» (7/325) . وعن أنس: أخرجه الحاكم في «تاريخ نيسابور» -كما في اللآلئ-، وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (1/330) -ومن طريقهما الديلمي في «الفردوس» (4/ق 317- الزهر) ، وفيه داود بن عفان وضاع. انظر: «اللسان» (2/421) . وعن أبي سعيد: أخرجه أبو يعلى (990) ، بسندٍ فيه مسلمة بن علي الخشني، وهو متروك. وفي الباب غيرها، انظرها عند: المعافى بن عمران في «الزهد» (16، 17) ، ونعيم بن حماد (2/703) ، وأبي عمرو الداني (3/664) ؛ كلاهما في «الفتن» ، و «الأجوبة المرضية» (2/742) بأسانيد لا أزمة لها ولا خطام، وأورد المعافى بعض المقطوعات في هذا الباب وهي أصح ما ورد في الباب، والله الهادي والموفق للصواب.

وكذا يشمل عدم نفادها من بين يديه، واحتياجه إلى اللئام ممن يفخر ويزهو بها عليهم. قال - صلى الله عليه وسلم - لجرير -رضي الله عنه-: «يا جرير إني أحذِّرك الدنيا وحلاوةَ رضاعها ومرارة فطامها» (¬1) . ولا شك أن من فاز بشمول البركة في ماله كان ممن يغبط على نواله. قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق» (¬2) . وأما المال الذي دعا بالكثرة منه على من لم يُؤمن به، وكذا الذي دعا بالتقلل منه لمحبيه، فهو المباين لما تقدم بكل طريق في الحقوق الواجبة، وكذا المستحبة بل هو المعنيُّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ورُبَّ متخوضٍ في مال الله -عزَّ وجل- ورسوله - صلى الله عليه وسلم - له النار يوم القيامة» (¬3) . ¬

(¬1) أورده الديلمي (8576) من حديث ابن عباس. ثم ظفرت به مطولاً جداً عند ابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/567-571) ، أخرجه بسند مظلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه الطيالسي (369) ، وابن المبارك في «الزهد» (1205) ، والحميدي (99) ، وأحمد (1/ 385) ، والبخاري (73، 1409) ، ومسلم (816) ، وابن ماجه (4208) ، والنسائي في «الكبرى» (5840) ، وابن حبان (90) ، وأبو يعلى (5078) ، والبيهقي في «السنن» (10/88) من حديث ابن مسعود. (¬3) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/364، 378) ، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/85) ، وعبد الرزاق في «مصنفه» (6962) ، وعبد بن حميد (1588) ، والبخاري (3118) ، وفي «تاريخه الكبير» (5/451) ، والترمذي (2374) ، وابن حبان (4512) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (3260) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4890) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1143) ، والطبراني في «الكبير» (24/578) ، وفي «الأوسط» (5318) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/64) ، والبيهقي في «الشعب» (10303) ، والبغوي في «شرح السنة» (2730) ، والخطيب في «تاريخه» (5/191) من حديث خولة بنت قيس. وفي الباب عن أبي هريرة عند: أبي يعلى (6606) ، والطحاوي في «شرح المشكل» (4887) . وعن حمنة عند: الحاكم (4/76) .

حديث أبي كبشة الأنماري الدنيا لأربعة نفر

ومن شواهد ذلك: حديث أبي كبشة الأنماري -رضي الله عنه- رفعه: «إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبدٍ رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يَتقي به، ويصل فيه رحمَه، ويعمل لله فيه حقّاً، فهذا أفضل المنازل؛ وعبدٍ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته، فأجرهما سواء؛ وعبدٍ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربَّه، ولا يصل فيه رحِمه، ولا يعمل لله فيه حقّاً، فهذا بأخبث المنازل؛ وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته فوزرهما سواء» (¬1) . رواه الترمذي وابن ماجه. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/229) ، ووكيع في «الزهد» (240) ، وابن ماجه (4228) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/222) ، وهناد في «الزهد» (586) ، والحسين المروزي في «زوائده على زهد ابن المبارك» (999) ، والفريابي في «فضائل القرآن» (105 و106) ، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (263) ، والطبراني في «الكبير» (22/867) ، وابن الأعرابي في «المعجم» (662) ، والبيهقي (4/189) من طرق عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي كبشة. وسالم لم يسمع من أبي كبشة. وروي الحديث بذكر الواسطة بين سالم وأبي كبشة وهو ابن أبي كبشة - كما عند ابن ماجه (4228م) ، والطبراني في «الكبير» (22/865) ، والبيهقي (4/189) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/79 -80) - من طرق عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن أبي كبشة، عن أبي كبشة. روى البيهقي بإثره: عن علي بن المديني أنه قال: ابن أبي كبشة هذا معروف، وهو: محمد بن أبي كبشة. وذكره البخاري في «تاريخه» (1/176) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/372) ، وقال الحافظ في «التقريب» (8486) : «مقبول» ، فهو لين الحديث، وقد توبع. وقد تابعه أبو البختري سعيد الطائي كما عند: أحمد في «مسنده» (4/231) ، والترمذي (2325) ، ويعقوب بن سفيان الفسوي في «تاريخه» (3/191) ، والطبراني في «الكبير» (22/855 و868) ، والبغوي في «شرح السنة» (4097) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (14/193) من طرق عن سعيد الطائي، به. وقال الترمذي عقبه: «هذا حديث حسن صحيح» .

وكتب أبو الدرداء إلى سلمان -رضي الله عنهما-: يا أخي! لا تجمع ما لا تستطيع شُكرهُ، فإنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يجاء بصاحب الدنيا يوم القيامة الذي أطاع اللهَ فيها وهو بين يدي ماله، وماله خلفه، كلَّما تكفَّأ به الصِّراطُ، قال له ماله: امض فقد أديت الحقَّ الذي عليك، قال: ويجاء بالذي لم يطع اللهَ -تعالى- فيه، وماله بين كتفيه، فيعثره ماله، ويقول له: ويلك هلاّ عملت بطاعة الله -عزَّ وجلَّ- فِيَّ، فلا يزال كذلك حتى يدعوَ بالويل» (¬1) . أخرجه أبو نعيم في «الحلية» . ¬

(¬1) ألحقه المصنف بورقة منفصلة بخطه ووضع علامة على محلّه في الهامش بقوله: «ينظر الورقة» ، ويبدأ الإلحاق من قوله: «وكتب أبو الدرداء ... » إلى قوله: «أخرجه أبو نعيم في «الحلية» » ، وأثبت بعده بخطه: «يتلوه: والحاصل ... » . وقوله: «والحاصل ... » وما بعده بخط أبي الفضل الأعرج، ناسخ الأصل، وسبقت ترجمته. أما هذا الحديث فهو طويل جدّاً، والمذكور قطعة، أخرجه عبد الرزاق في «جامعه» (11/96- 98 رقم 20029) -ومن طريقه ابن الأعرابي في «الزهد» (رقم 111) ، والبيهقي في «الشعب» (7/ 380 رقم 10658) -، وأبو نعيم في «الحلية» (1/214- 215) ، ومختصراً ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/152) عن معمر عن صاحب له: أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان ... الخ، وإسناده ضعيف، للإبهام الذي فيه، وهو منقطع. وأخرجه سعيد بن منصور -كما في «إتحاف السادة المتقين» (8/146) ، ومن طريقه ابن الأعرابي في «الزهد» (رقم 112) ، والبيهقي في «الشعب» (7/379- 380 رقم 10657) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/153-ط. دار الفكر) مطولاً-، وابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 359) مقتصراً، على الشاهد الذي عندنا. وأخرجه مختصراً دون الشاهد: الدينوري في «المجالسة» أول (الجزء الرابع) منه (2/323 رقم 482- بتحقيقي) ، وأعاده برقم (2408) -ومن طريقه ابن عساكر (13/ق 754 أو 47/152- ط. دار الفكر) ، ومطولاً به من طريق أخرى: ابن عساكر (47/152- 153) ، جميعهم عن إسماعيل بن عياش عن مُطعم -وتحرف في مطبوع «الشعب» إلى (محمد) ! فليصحح- بن المقدام الصنعاني عن محمد بن واسع الأزدي قال: كتب أبو الدرداء به. ووقع في مطبوع «ذم الدنيا» : كتب سلمان إلى أبي الدرداء، وهذا خطأ، قال العراقي في «تخريج أحاديث الأحياء» (3/227) : «ليس هو من حديث سلمان، إنما هو من حديث أبي الدرداء ... » ، =

خيرية المال ليست لذاته بل متعلقاته

والحاصل أن خيرية المال ليست لذاته (¬1) ، بل بحسب ما يتعلق به ولو اتفق ¬

= وتعقب محققه العراقي قصور لا يخفى، لا نطيل به. وإسناده ضعيف. محمد بن واسع: عابد ثقة، لكن بُلي برواة ضعفاء، قاله الدارقطني في «سؤالات البرقاني» (رقم 463) . وقال علي بن المديني -فيما نقله المزي في «تهذيب الكمال» (26/ 578) عنه-: «ما أعلمه سمع من أحدٍ من الصحابة» ، فهو مرسل. ومُطعم بن المقدام الصَّنعاني الشامي، وثَّقه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (72) ، وابن حبان في «ثقاته» (7/509) ، وابن معين، وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (8/411) : «لا بأس به» . وانظر: «تهذيب الكمال» (28/74) . وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وهذه عن مطعم وهو شامي، فانحصرت علّة الحديث في الانقطاع، والله اعلم. وهو في «ضعيف الجامع الصغير» (3846) . (¬1) ولهذا قيل: الدرهم حاكم صامت، وعدل ساكت، وخاتم من الله نافذ، وقيل: لهذا المعنى سمي في لغة الفرس ديناراً، أي: الدين أتى به، والدين فارسية معربة. ولما كان ذلك حاكماً عظم الله تعالى وعيد من احتبسه ومنع الناس عن التعامل به فقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية [التوبة: 34] . وذلك أنه يصير بإحباسه إياهما كمن حبس حاكمين للناس بهما تتمشى أمور معايشهم، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ؛ لأنه يؤدي إلى منع الناس التصرف في معاملتهم. فالمال إذا اعتبر بكونه أحد أسباب قوام الحياة الدنيوية فهو عظيم الخطر، وإذا اعتبر بسائر القنيات فهو صغير الخطر، إذ القنيات ثلاثة: نفسية، ومدنية، وخارجة، والخارجة أدونها، وأدون الخارجات الناض -وهو المال في لغة الحجاز-؛ لأنه خادم غير مخدوم، وسائر القنيات خادم من وجه، ومخدوم من وجه؛ لأن النفس يخدمها البدن، والبدن يخدمه المأكل والملبس، وهما يخدمهما المال، فالمال من حقه أن يكون خادماً لغيره من القنيات وأن لا يكون شيء من القنيات خادماً له، وإن كان كثير من الناس لجهلهم يجعلون جاههم وأبدانهم ونفوسهم خدماً للمال وعبيداً. وهم الذين ذمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «تعس عبد الدينار» ، ولعظم موقع المال عند من لا يتجاوز المحسوسات قال -حكاية عن بعض أنبيائه فيما خاطب به أمته-: {اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10] ، ولعظم منافعه في الأمور الدنيوية قال -تعالى-: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، ونبه على حقارة قدره بالإضافة إلى أحوال الآخرة فقال: {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} [المنافقون: 9] ، وخوَّف من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= أعجب باقتنائه فقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55-56] ، وقال -تعالى-: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] . فحق الإنسان أن يعد المقتنيات الدنيوية آلات موضوعة في خان سفر يصلح للانتفاع بها ما دام نازلاً في ذلك الخان، فيتناول منها مقدار البلغة، ويتسلى عنها عند الرحلة، ويستهجن لنفسه أن يكذب ويغضب ويحزن ويرتكب القبائح في سببها. واعلم أن الناض الذي هو العين والورق حجر، جعله الله -سبحانه- سبباً للتعامل به كما تقدم آنفاً وخادماً كما ذكرناه، فقبيح بالحر المتوشح لنيل الفضائل والاقتداء بالبارئ جل ثناؤه، والوصول إلى الغنى الأكبر: أن يتهافت على المال بأكثر مما يحتاج إليه، ويجعل نفسه أقل رقيق له وأخسه، كما قيل: فرق ذوي الأطماع رق مخلد ويكون معكفاً منه على حجر يعبده قال -تعالى-: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف: 138] ، وأرى أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لما سأل الله -تعالى- فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام} [إبراهيم: 35] لم يرد إلا أن يحرسه وذريته عن الأعراض الدنيوية الصارفة عن الله، فمثله -عليه الصلاة والسلام- وأولاده يتنزه أن يشفق من اعتقاد في حجر هو صانعه ويستحق عبادته، وقال في موضع آخر إشارة إلى ما يعم هذا المعنى وغيره: {يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] ، وقال بعض الحكماء: مثل الإنسان وشغفه بهذه الأعراض الدنيوية كراكب في سفينة إلى أفضل بلد، فانتهى إلى جزيرة ذات أسود وأساود، فأمروا بالخروج والتهيء للطهارة، وأن يكونوا على حذر، فرأوا حجراً مزبرجاً مزيناً فشغفوا به، وتباعدوا عن المركب ونسوا مقصودهم ومركبهم، وبقوا لاهين حتى سارت السفينة، فثارت عليهم الأسود والأساود، فلم يغن عنهم حجرهم، فصاروا كما قال -تعالى- عمن هذه حاله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28-29] . وقد تقدم أن المال من الخيرات المتوسطة؛ لأنه كما قد يكون سبباً للشر يكون سبباً للخير، لكن لما كان في أكثر الأحوال يوجب كرامة أصحابه، وتعظيم أربابه، حتى صدق الشاعر في قوله: الناس أعداء لكل مدقع ... صفر اليدين وإخوة للمكثر وحتى قيل: رأيت ذا المال مهيباً. قال - صلى الله عليه وسلم -: «نِعم المال الصالح للرجل الصالح» ، واستصوب قول طلحة -رضي الله عنه- في دعائه: اللهم ارزقنا مجداً ومالاً، فلا يصلح المجد إلا بالمال، ولا يصلح المال إلا بمراعاة المجد. وقال بعض الحكماء: اطلبوا العلم والمال بحق الرئاسة، فالناس خاص وعام، فالخاص يفضلك بما تحسن، والعام بما تملك، واكتسابه من الوجه الذي ينبغي صعب، وتفريقه سهل، كما قال الشاعر: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= له مصعد صعب ومنحدر سهل ومن رام اكتسابه من وجه صعب عليه، فالمكاسب الجليلة قليلة عند الحر العادل، ومن رضي بكسبه من حيث اتفق فقد سهل عليه، والفاضل ينقبض عن اقتناء المال، ويسترسل في إنفاقه، ولا يريده لذاته، بل لاكتسابه المحمدة به، ولا يجمع المال عنده مدّخراً، كما قال الشاعر: لا يألف الدرهم المضروب صرته ... لكن يمر عليها وهو منصرفُ إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ... ظلت إلى طرق المعروف تنصرفُ وغير الفاضل يسترسل في اقتنائه وينقبض في إنفاقه، ويطلب لذاته لا لادخار الفضيلة به. قاله الراغب في «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (274-277) . قال أبو عبيدة: وما ذكره المصنف من أن الخيرية ليست لذاتها دلت عليه نصوص، وهو قول جماعة من المحررين المدققين من العلماء، وهذا التفصيل: - أخرج الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (54) بسندٍ صحيح من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس ابتاعوا أنفسكم من الله من مال الله» . وانظر: «الصحيحة» (271) . - وأخرج أحمد (5/218-219) ، والطبراني في «الكبير» (3300، 3301) وغيرهما من حديث أبي واقد الليثي قال: كنا نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أُنزل عليه، فيُحدِّثنا، فقال لنا ذات يوم: «إن الله -عز وجل- قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة» وإسناده حسن، وقال شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الصحيحة» (1639) : «وللحديث شواهد كثيرة معروفة، فهو حديث صحيح» . أما بالنسبة إلى منعه وحرمانه، فإن ذلك محمود لمن ترتب في حقّه ما حصل مع الزاهدين والصالحين من الصحابة ومن سار على منوالهم، أمثال: أصحاب الصفّة. أخرج أحمد (6/18-19) -ومن طريقه ابن الشجري في «الأمالي» (2/185) -، والترمذي (2368) ، وابن حبان (724) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/287 رقم 482- ط. شاكر) ، والطبراني (18 رقم 798- 800) ، وأبو نعيم (2/17) بسندٍ صحيح عن فضالة بن عبيد، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلّى بالناس خرَّ رجال من قامتهم في الصلاة، لما بهم من الخصاصة (الجوع) -وهم من أصحاب الصُّفة- حتى يقول الأعراب: إن هؤلاء مجانين، فإذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة انصرف إليهم، فقال: «لو تعلمون ما لكم عند الله -عز وجل-، لأحببتم لو أنكم تزدادون حاجةً وفاقةً» . وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2169) ، «رجحان الكفة» (ص 288-289- بتحقيقي) للمصنف =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= في أحاديث ونصوص كثيرة تساعد على هذا التفريق، وذكر المصنف جملة لا بأس بها، وإليك كلام بعض المحررين من العلماء يؤكد أن خيرية المال من أجل الثمرة المترتبة عليه: * قال العز بن عبد السلام في أواخر «قواعد الأحكام» (2/362-365) : «فإن قيل: أيما أفضل، حال الأغنياء أم حالُ الفقراء؟ فالجواب: أن الناس أقسام: أحدها: من يستقيمُ على الغنى، وتفسدُ أحواله بالفقر، فلا خلاف أن غنى هذا خيرٌ له من فقره. القسم الثاني: من يستقيم على الفقر، ويفسده الغِنى، ويحمله على الطغيان، فلا خلافَ أن فقر هذا خيرٌ له من غِناه. القسم الثالث: من إذا افتقر قام بجميع وظائف الفقر، كالرضا والصبر، وإن استغنى قام بجميع وظائف الغنى من البذل والإحسان وشُكرِ الملِك الديّان، فقد اختلف الناس في أي حالي هذا أفضل؟ فذهب قومٌ إلى أن الفقر لهذا أفضل. وقال آخرون: غِناه أفضل، وهو المختار، لاستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من الفقر. ولا يجوز حمله على فقرِ النفس؛ لأنه خلاف للظاهر بغير دليل. وقد يستدل لهؤلاء بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أغلب أحواله الفقر إلى أن أغناه الله -عز وجل- بحصون خيبر، وفدك، والعوالي، وأموال بني النَّضير. والجواب عن هذا: أن الأنبياء والأولياء لا يأتي عليهم يومٌ إلا كان أفضلَ من الذي قبله، فإنّ من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسهُ خيراً من يومه فهو ملعون -أي مطرود- مغبونٌ، وقد خُتِمَ آخر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغنى، ولم يُخرجه غناه عما كان يتعاطاه في أيام فقره من البذل والإيثار والتقلل، حتى أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصُعٍ من شعير. وكيف لا يكون كذلك، وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تمسكه شرٌّ لك» . أراد بالفضل: ما فضل عن الحاجة الماسّة، كما فعل - صلى الله عليه وسلم -. فمن سلك من الأغنياء هذا الطريق، فبذل الفضل كله مقتصراً على عيشٍ مثل عيشِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا امتراءَ أن غنى هذا خيرٌ من فقره. ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: «أتى فقراء المسلمين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، ذهبَ ذوو الأموال بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، يُعتقون ولا نجدُ ما نُعتق، ويتصدّقون ولا نجد ما نتصدّق، وينفقون ولا نجد ما نُنْفِق؟ فقال: ألا أدلكم علىأمرٍ إذا فعلتموه أدركتم به مَن كان قبلكم، وفُتّم به من بعدكم؟ قالوا: بلى، قال: تُسبِّحون الله -تعالى- وتحمدونه وتكبرونه على إثرِ كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين مرة. فلما صنعوا ذلك سمعَ الأغنياء بذلك، فقالوا مثل ما قالوا، فذهب الفقراء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه أنهم قد قالوا مثل ما قُلنا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» » . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يومٍ، وهو خمس مئة عام» ، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «اطّلعت على الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطّلعت على النار، فرأيتُ أكثر أهلها النساء» ، فإن ذلك محمولٌ على الغالب من أحوال الأغنياء والفقراء، إذ لا يتصفُ من الأغنياء بما ذكرناه من أن يعيش عيش الفقراء ويتقرب إلى الله -تعالى- بما فَضَلَ عن عيشه، مُقدّماً لأفضلِ البذلِ فأفضلِهِ إلا الشذوذُ النادرونَ الذين لا يكادون يوجدون، والصابرون على الفقرِ قليلٌ ما هم، والراضونَ أقلّ من ذلك القليل. وتحقيق هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الغنى قائماً بوظائف الفقر، فلما أغناه الله -تعالى- قام بوظائف الفقراء والأغنياء، فكان غنياً فقيراً، صبوراً شكوراً، راضياً بعيش الفقراء، جواداً بأفضل جود الأغنياء. ومن أعمال القلوب: احتقار ما حقّره الله من الدنيا وأسبابها، وتعظيم ما عظّمه الله من الفقر والذل والمسكنة والخضوع والخشوع والغربة وعدم الجاهِ والمال؛ لأن الغنى بالمعارف والأحوال أفضل وألذُّ من الغِنى بالجاه والأموال. والذلُّ لله -عز وجل- عِزٌّ، والفقرُ له غنى، والغُربة لأجله استيطان؛ لأن العبد إذا كان عند سيده فهو في أفضل الأوطان، وإن أعرض عنه ونأى بجانبه، فأعظِم به من خسران» ، ثم قال تحت عنوان (فائدة) وفيها تفصيل لما أجمله المصنف. قال -رحمه الله تعالى-: «لا يفضل الغنى من جهة كونه غِنىً، ولا الفقر من جهة كونه فقراً، وإنما الفضل والخلاف فيما يترتبُ عليهما من الآثار. وقد جمعَ - صلى الله عليه وسلم - بين آثارهما في آخر عمره، فكان متصفاً بأكمل آثار الفقر وأكمل آثار الغنى، فكان جامعاً بين آثارهما التي وقع فيها الخلاف، فقام بمصلحتي السببين اللذين ليسا بمقصودين ولا قُربة فيهما، بل هما وسيلتان إلى مصالح الغنى والفقر» . قال أبو عبيدة: الأحاديث التي ساقها العز جميعها تقدّمت، إلا حديث: «يا ابن آدم! إنك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تمسكه شرٌّ لك» . والحديث أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب بيان أن اليدَ العليا خير من اليد السُّفلى) (1036) عن أبي أمامة، وله تتمة هي: «ولا تُلامُ على كفافٍ، وابدأ بمن تعول، واليدُ العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى» . وفي لفظ: «إن تُعط الفضلَ فهو خير لك، وإن تُمسكه فهو شرٌّ لك، وابدأ بمن تعول، ولا يلومُ الله على الكفاف» . أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة (2/362) وإسناده حسن. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2473) . وفي هذا الحديث فضل الكفاف، وهو قدر حاجة الإنسان، دون زيادة التي تسبب -في الغالب- الطُّغيان، وسيأتي لاحقاً إن الغنى مغلوب بهذه الخصلة الي لا تكاد تنفك عن الإنسان، ما لم يصل إلى أعلى المراتب وأكملها من التيّقظ والمراقبة وهضم النفس، والحرص على التواضع. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وأخرج مسلم (رقم 1053) ، والترمذي (رقم 2348) ، وابن حبان (رقم 670) ، وأحمد (2/ 168) ، والفسوي (2/523) ، والبيهقي (4/196) ، وأبو نعيم (6/129) عن عبد الله بن عمرو رفعه: «قد أفلح من أسلم، ورُزِقَ كفافاً [فصبر عليه] وقنعه الله بما أتاه» . وأخرج البخاري (6460) ، ومسلم (1055، 2969) عن أبي هريرة رفعه: «اللهم ارزق آل محمد قوتاً» لفظ البخاري، ولفظ مسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً» ، وعند أحمد (2/232) مثله، إلا «آل محمد» فعنده بدلها: «آل بيتي» . وزاد السيوطي عليه في «الجامع الصغير» -وأورده بلفظ مسلم-: «في الدنيا» ولا أصل لها. انظر: «السلسلة الصحيحة» (130) . وعند بعضهم: «اللهم اجعل رزقي ورزق آل محمد كفافاً» . وطرقه عند: وكيع في «الزهد» (119) ، والترمذي (2362) ، والنسائي في «الكبرى» -كما في «التحفة» (10/442) -، وابن ماجه (4139) ، وابن أبي شيبة (13/240) ، وأحمد (2/446، 481) ، وابن السني في «القناعة» (51، 52) ، وأبي الشيخ في «أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -» (224-225) ، والبيهقي في «الكبرى» (2/150) ، و «الدلائل» (1/339) ، و «الشعب» (1454) . فهذا الذي أحبّه - صلى الله عليه وسلم - لمحبّيه. قال شيخنا العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الضعيفة» (1/254) -بعد تخريجه لحديثي ابن عمرو وأبي هريرة السابقين- تحت (فائدة الحديث) : «فيه وفي الذي قبله دليل على فضل الكفاف، وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك؛ رغبة في توفر نعيم الآخرة، وإيثاراً لما يبقى على ما يفنى، فينبغي للأمة أن تقتدي به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. وقال القرطبي: معنى الحديث أنه طلب الكفاف؛ فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعاً؛ كذا في «فتح الباري» (11/251-252) . قلت: ومما لا ريب فيه أن الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال، فينبغي للعاقل أن يحرص على تحقيق الوضع الوسط المناسب له؛ بحيث لا ترهقه الفاقة ولا يسعى وراء الفضول الذي يوصله إلى التبسط والترفه؛ فإنه في هذه الحال قلما يسلم من عواقب جمع المال، لا سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه مفاتنه، وتيسرت علىالأغنياء سبله. أعاذنا الله -تعالى- من ذلك، ورزقنا الكفاف من العيش» . قال أبو عبيدة: وانظر في تقرير معنى (الكفاف) عند أحمد (3/102) ، ومن طريقه ابن بشران في «الأمالي» (1073) ، ففيه تحقيق ما خيّر الله نبيه به بين أن يكون نبياً عبداً أو نبياً ملكاً، فاختار =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= عبداً، فلزمه أن يفي لله بما اختاره، والمال إنما يرغب فيه مع مقارنة الدين يستعان به على الآخرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يحتج إلى المال من هذه الوجوه، وكان قد ضمن الله له رزقه بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 32] . وانظر: «شرح ابن بطال على صحيح البخاري» (10/174) ، وقد خرَّجت تخيير الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في تعليقي على «الموافقات» للشاطبي (1/544) ، فانظره، وانظر: «الصحيحة» (1002) . ويعجبني كلامٌ للخطابي في «غريب الحديث» (1/711) عند شرحه لحديث أخرجه البخاري (رقم 2842) ، ومسلم (رقم 1052) ، وغيرهما عن أبي سعيد، وفيه: «إن الخير لا يأتي إلا بالخير، ولكن الدنيا حُلوة خَضِرة» قال: «قوله: «إن الخير لا يأتي إلا بالخير، ولكن الدنيا حلوة خضرة» مَثلٌ يريد أن جمع المال واكتسابه غير محرم، ولكن الاستكثار منه والخروج من حدّ الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المأكل مُسقم والاقتصاد فيه محمود. ونظير هذا من الكلام قول الأحنف بن قيس. وقيل له: الحياءُ خير كله، فقال: «إنّ منه ضعفاً» . يريد أن ما خرج من حدّ الاعتدال لم يكن خيراً، لكن ذلك يستحيل ضعفاً وخوراً، كالجود إذا أفرط صار سرفاً، وكالشجاعة إذا أفرطت صارت تهوراً، وكالحزم إذا أفرط صار جُبناً، إلى ما أشبه هذا» . قلت: كثرة المال سبب للتنافس في الدنيا، ونسيان الآخرة، وحينئذٍ يقع الهلاك، فليست المفاضلة لكثرة المال لذاته، ولا بجمال الأثاث، وحسن المناظر. فقد أخرج البزار (3671- زوائده) ، من حديث أبي جحيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستفتح عليكم الدنيا، حتى تنجَّدَ الكعبةُ» . قلنا: ونحن على ديننا اليوم، قال: وأنتم على دينكم اليوم، قلنا: فنحن يومئذٍ خير أم اليوم؟ قال: «بل أنتم اليوم خير» ، وإسناده جيد، قاله شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «الصحيحة» (1884، 2486) . والخيرية ليست في اللذات والأموال والمظاهر الجوفاء! قال الله -تعالى-: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} [مريم: 74] . جاءت هذه الآية القرآنية الكريمة تشير إلى الأمم السابقة التي أُهلكت -والتي وردت قصصها في القرآن في مواضع أخرى- رداً على أولئك الذين لم يعرفوا التفريق بين المبادئ والأشياء ... أو قدّموا الأشياء والأثاث على هداية المبادئ والقيم والأفكار! قال -تعالى- في الآية السابقة لها: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ايَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ امَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: 73] فجاء الجواب: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ ... } الآية. وقد يمثل القرن الذي نعيش فيه أبعاد هاتين الآيتين الكريمتين ... فأنت إذا دعوت الناس بهداية =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= القرآن حدّثك البعض عن حضارة الآخرين ... ورفاهيتهم. حتى لقد أصبح هذا القرن عند الجميع قرن الرفاهية المادية والتكاثر الشيئي والتسابق في المقتنيات والتطاول في البنيان! بل «لقد غدا فيه الإعلان عن (الأشياء) عِلماً له أصوله ومناهجه ... وغدت أحاديث الناس في المجتمعات اليومية تنصب في معظمها على التزود بالحاجيات المستجدة، وملاحقتها واصطيادها، والتباهي بتكديسها في غرف البيوت وصالاتها حتى ولو لم يكن وراءها أي منفعة! بل غدا «الديكور» هو الآخر علماً له أصوله ومناهجه ... يتهافت الناس على أصحابه من أجل أن يبدوا أحسن أثاثاً ورئياً!! إن الجانب المادي من الحياة ليس سوى تراكم شيئي ... تكديس أثاث بعضه فوق بعض ... ولم يكن بمقدور الأثاث يوماً -مهما كان جميلاً ومتقدماً ومتقناً- أن يقف في مواجهة المصير ... أن يخلّص أمة لم تحسن التعامل مع القيم التي هي أكبر من الأشياء والأثاث و «الديكورات» يخلّصها من مصائرها المفجعة ... من الهلاك النفسي والأخلاقي والصحي والاجتماعي والأدبي الذي يقتحم عليها جدرانها الشيئية كالطاعون، ويكتسحها وأثاثها ورواءها الخارجي من مسرح التاريخ» . وانظر مقالاً قيماً بهذا الخصوص بعنوان: «إشارات قرآنية» للدكتور عماد الدين خليل، في مجلة العربي، العدد (247) رجب (1399هـ) (ص 14-17) ، و «علوم القرآن» (ص 374) للزرزور. إذاً، العبرة في المال بثمرته والنتيجة المترتبة عليه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في «مجموع الفتاوى» (20/143-144) بعد كلام: «وأما نفس وجود السلطان والمال الذي يبتغى به وجه الله والقيام بالحق والدار الآخرة، ويستعان به على طاعة الله، ولا يفتن القلب عن محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر، ولا يصده عن ذكر الله، فهذا من أكبر نعم الله -تعالى- على عبده إذا كان كذلك. ولكن قَلَّ أنْ تجدَ ذا سلطان أو مالٍ إلا وهو مبطأ مثبط عن طاعة الله ومحبته، متبع هواه فيما آتاه الله، وفيه نكول حال الحرب والقتال في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبهذه الخصال يكتسب المهانة والذم دنيا وأخرى» . وقال فيه (20/144) مؤكِّداً أن شأن (المال) تحصيلاً وعدماً يخرَّج على قاعدة (الأمور بمقاصدها) ونصّ كلامه: «فالشرف والمال لا يحمد مطلقاً ولا يذم مطلقاً، بل يحمد منه ما أعان على طاعة الله، وقد يكون ذلك واجباً، وهو ما لا بد منه في فعل الواجبات، وقد يكون مستحباً، وإنما يحمد إذا كان بهذه النية، ويذم ما استعين به على معصية الله أو صد عن الواجبات، فهذا محرم. وينتقص منه ما شغل عن المستحبات وأوقع في المكروهات. والله أعلم» . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وانظر: «القواعد الفقهية الخمس الكبرى والقواعد المندرجة تحتها من مجموع فتاوى ابن تيمية» (ص 129، 158) . وقرر ابن تيمية -أيضاً- في «مجموع الفتاوى» (20/148) أن الزهد الشرعي ليس هو ترك الدنيا، وقد يكون ذمُّها عند الكثيرين من باب الحب الزائد لها، قال -رحمه الله تعالى- بعد كلام: «فأما مجرد مدح ترك الدنيا فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تنظر إلى كثرة ذم الناس الدنيا ذماً غير ديني، فإن أكثر العامة إنما يذمونها لعدم حصول أغراضهم منها، فإنها لم تَصْفُ لأحد قط! ولو نال منها ما عساه أن ينال، وما امتلأت دار حبرة إلا امتلأت عبرة، فالعقلاء يذمون الجهال الذين يركنون إليها ويظنون بقاء الرياسة والمال وتناول الشهوات فيها، وهم مع هذا يحتاجون إلى ما لا بد لهم منه منها، وأكثرهم طالب لما يذمه منها، وهؤلاء حقيقة ذمهم لها ذم دنيوي لما فيها من الضرر الدنيوي، كما يذم العقلاء التجارة والصناعة التي لا ربح فيها، بل فيها تعب، وكما تذم معاشرة من يضرك ولا ينفعك في التزويج بسيئة الخلق، ونحو ذلك من الأمور التي لا تعود مضرتها ومنفعتها إلا إلى الدنيا -أيضاً-» . وانظره -أيضاً-: (28/394) . قال أبو عبيدة: ولذا من الخطإ (ذم المال) بإطلاق، وسيأتي التدليل على ذلك في غير موطن من كلام المصنّف، وقد غالى الصوفية -قديماً وحديثاً- بذلك، وتعقّبهم مجموعة من الأعلام، ومنهم القرطبي في مواطن من «تفسيره» ، منها (3/417-420) ، ونقل كلاماً لابن الجوزي، وسأعمل على ذكر كلامه بتمامه لأهميته، وأضع زياداتي عليه بين معقوفتين، والله المستعان، قال: «لما أمر الله -تعالى- بالكتْب والإشهاد، وأخذ الرهان، كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورِعاعها الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم، ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله، فهو إما أن يتعرّض لمِنَن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلَمتهم، وهذا فعلٌ مذموم منهيٌّ عنه. قال أبو الفرج الجوزي [في «تلبيس إبليس» (ص 176) ] : «ولست أعجب من المتزهِّدين الذين فعلوا هذا مع قِلَّةِ علمهم، إنما أتعجَّب من أقوام لهم علم وعقل، كيف حثّوا على هذا، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل. فذكر المُحاسبي في هذا كلاماً كثيراً، وشيّده أبو حامد الطوسي [هو: أبو حامد الغزالي] ونصره. والحارث عندي أعذر من أبي حامد؛ لأن أبا حامد كان أفقه، غير أن دخوله في التصوّف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه» . قال المحاسبي في كلامٍ طويل له [في كتابه «النصائح» (ص 21) ] : «ولقد بلغني أنه لما توفِّي عبد الرحمن بن عوف قال ناسٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما نخاف على عبد الرحمن فيما ترك. فقال كعب: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن؟ كسب طيباً، وأنفق طيباً، وترك طيباً. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= فبلغ ذلك أبا ذر، فخرج مُغضَباً يريد كعباً، فمرّ بلحي بعيرٍ، فأخذه بيده، ثم انطلق يطلب كعباً، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك، فخرج هارباً حتى دخل على عثمان، يستغيث به، وأخبره الخبر. فأقبل أبو ذر يقصُّ الأثر في طلب كَعب، حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب، فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية، تزعم ألاّ بأس بما تركه عبد الرحمن! لقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: «الأكثرون هم الأقلّون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا» [الحديث صحيح، دون القصة، كما سيأتي مفصلاً] » . قال المحاسبي: «فهذا عبد الرحمن -مع فضله- يوقف في عَرصة يوم القيامة، بسبب ما كسبه من حلال، للتعفف وصنائع المعروف، فيمنع السعي إلى الجنّة مع الفقراء، وصار يحبو في آثارهم حَبْواً» . إلى غير ذلك من كلامه. ذكره أبو حامد وشيّده وقوّاه بحديث ثعلبة، وأنه أعطي المال فمنع الزكاة [سيأتي قول المصنف عن حديث ثعلبة: إسناده ضعيف جدّاً، وتخريجه هناك] . قال أبو حامد: «فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم، لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده، وإن صرف إلى الخيرات، إذ أقل ما فيه، اشتغال الهمّة بإصلاحه عن ذكر الله. فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله، حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه، فهو محجوب عن الله -تعالى-» . قال ابن الجوزي [في «تلبيس إبليس» (ص 178) ] : وهذا كله خلاف الشرع والعقل، وسوء فهم للمراد بالمال، وقد شرّفه الله، وعظّم قدره، وأمر بحفظه إذ جعله قِواماً للآدمي، وما جعل قِوماً للآدمي الشريف فهو شريف، فقال -تعالى-: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] ، ونهى -جلَّ وعزَّ- أن يسلم المال إلى غير رشيد، فقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال، قال لسعد: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» [أخرجه البخاري (56، 2744، 3936، 5668، 5659، 6373، 6733) ، ومسلم (1628) ] . وقال: «ما نفعني مال كمال أبي بكر» [الحديث صحيح، وخرجته بتفصيل في تعليقي على «المجالسة» (151) ] . وقال لعمرو بن العاص: «نعم المال الصالح، للرجل الصالح» . ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيه» . وقال كعب: يا رسول الله! إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. فقال: «أمسك عليه بعض مالك، فهو خير لك» . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= قال ابن الجوزي [في المصدر السابق] : هذه الأحاديث مخرّجة في الصحاح [وهي عند السخاوي، وخرجناها جميعاً في محالها من رسالتنا هذه، ولله الحمد والمنة] ، وهي على خلاف ما تعتقده الصوفية من أن إكثار المال حجاب وعقوبة، وأن حبسه ينافي التوكل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته، وأن خلقاً كثيراً اجتنبوه لخوف ذلك، وأن جمعه من وجهه ليعز، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقلّ، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر، فلهذا خيف فتنته. فأما كسب المال، فإن من اقتصر على كسب البُلَغةَ من حلِّها، فذلك أمر لا بدّ منه، وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نُظِرَ في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة، فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادّخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان، وإغناء الفقراء، وفعل المصالح، أُثيِبَ على قصده، وكان جمعه بهذه النيّة، أفضل من كثير من الطاعات. وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة، لحسن مقاصدهم بجمعه، فحرصوا عليه، وسألوا زيادته. ولما أقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير حُضر فرسه، أجْرَى الفرس، حتى قام [أي: وقف وانقطع عن الجري] ، ثم رمى سوطه، فقال: «أعطوه حيث بلغ سوطه» [أخرجه أحمد (2/156) ، وأبو داود (3072) ، وإسناده ضعيف] . وكان سعد بن عبادة، يقول في دعائه: «اللهم وسّع علي» [سيأتي تخريجه (ص 140) ] . وقال إخوة يوسف: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] . وقال شعيب لموسى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} [القصص: 27] . وإن أيوب لما عُوفي نُثِر عليه رِجْل من جراد من ذهب، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه، فقيل له: أما شبعت؟ فقال: يا رب! فقير يشبع من فضلك؟ [سيأتي تخريجه] . وهذا أمر مركوز في الطباع. وأما كلام المحاسبي فخطأ، يدل على الجهل بالعلم، وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال، من وضع الجهال، وخفيت عدم صحته عنه للحُوقه بالقوم. وقد روي بعض هذا، وإن كان طريقه لا يثبت؛ لأن في سنده ابن لَهِيعة، وهو مطعون فيه. قال يحيى: لا يحتجّ بحديثه. والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين، وعبد الرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين، فقد عاش بعد أبي ذر سبعَ سنين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم، يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة: إنا نخاف على عبد الرحمن!! أو ليس الإجماع منعقداً على إباحة جمع المال من حِلِّه، فما وجه الخوف مع الإباحة؟ أو يأذن الشرع في شيءٍ ثم يعاقب عليه؟ هذا قلّة فهم وفقه. ثم أينكر أبو ذر على عبد الرحمن، وعبد الرحمن خير من أبي ذر، بما لا يتقارب؟ ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده، دليل على أنه لم يسبر سير الصحابة، فإنه قد خلف طلحة ثلاث مئة بُهار، في كل بُهار ثلاثة قناطير. والبُهار: الحمل. وكان مال الزبير خمسين ألفاً ومئتي ألف. [انظر في تحقيق مقدار ماله وتركته في تعليقي على «المجالسة» (رقم 2200) ] . وخلّف ابن مسعود تسعين ألفاً. وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلّفوها، ولم ينكر أحد منهم على أحد. وأما قوله: «إن عبد الرحمن يحبو حبواً يوم القيامة» . فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث، وأعوذ بالله أن يحبو عبد الرحمن في القيامة، أَفَتَرَى من سبق، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن أهل بدر والشورى يحبو؟ ثم الحديث يرويه عُمارة بن زاذان، وقال البخاري [في «التاريخ الكبير» (3/2/505) ] : «ربما اضطرب حديثه» . وقال أحمد: «يروي عن أنس أحاديث مناكير» [وهذه رواية الأثرم عنه. انظر: «الجرح والتعديل» (3/1/366) و «التهذيب» (7/417) ، و «بحر الدم» (رقم 731) ] . وقال أبوحاتم الرازي [في «الجرح والتعديل» (3/1/366) ] : «لا يحتج به» . وقال الدارقطني: «ضعيف» . [كذا في «سؤالات البرقاني» (رقم 401) وزاد: «لا يعتبر به» ، وترجمه في «الضعفاء والمتروكين» (رقم 382) . وانظر: «الميزان» (3/79) ، وفي «التقريب» : «صدوق، كثير الخطأ» ] . وقوله: «تركُ المال الحلال أفضل من جمعه» ليس كذلك، ومتى صحَّ القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء. وكان سعيد بن المسيب يقول: «لا خير فيمن لا يطلب المال، يقضي به ديْنه، ويصون به عِرضه، فإن مات تركه ميراثاً لمن بعده» [سيأتي تخريجه] . وخلّف ابن المسيب أربع مئة دينار، وخلّف سفيان الثوري مئتين، وكان يقول: «المال في هذا الزمان سلاح» [سيأتي عند المصنف] . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وما زال السلف يمدحون المال، ويجمعونه للنوائب، وإعانة الفقراء، وإنما تحاماه قوم منهم، ... إيثاراً للتشاغل بالعبادات، وجمع الهمّ، فقنعوا باليسير، فلو قال هذا القائل: إن التقليل منه أولى، قرب الأمر، ولكنه زاحم به مرتبة الإثم. قلت [القائل القرطبي المفسر] : «ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها، إباحة القتال دونها وعليها. قال - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل دون ماله فهو شهيد» [أخرجه البخاري (2452، 3198) ، ومسلم (1610) من حديث سعيد بن زيد رفعه] » . قال أبو عبيدة: بالنسبة إلى قصة دخول الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- الجنة زحفاً، فلم تثبت، وهذا التفصيل: ورد ذلك في حديث أخرجه أحمد في «المسند» (6/115) ، وعبد بن حميد في «المسند» (3/178 رقم 1381- المنتخب) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (1/129 رقم 264) ، والبزار في «المسند» (3/209 رقم 2586- زوائده) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/384) ، و «الحلية» (1/98) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (10/117) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/13) في طريق عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس، وذكره. وهذا إسناد ضعيف جدّاً، قال المصنف في «الأجوبة المرضية» (2/579- 580) : «ومداره على عمارة بن زاذان، وقد ضعفه النسائي، والدارقطني، وأحمد في رواية الأثرم، بل ذكر ابن الجوزي الحديث في «موضوعاته» من «مسند أحمد» ونقل عنه أنه كذب منكر، قال: «وعمارة يروي أحاديث مناكير» . قلت: عبارة ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/13) : «قال أحمد بن حنبل: هذا الحديث كذب منكر، قال: وعمارة يروي أحاديث مناكير. وقال أبو حاتم الرازي: عمارة بن زاذان لا يحتج به، وقد روى الجراح بن منهال إسناداً عن عبد الرحمن بن عوف، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا ابن عوف إنك من الأغنياء، وإنك لا تدخل الجنة إلا زحفاً فأقرض ربك يطلق قدميك» . قال النسائي: «هذا حديث موضوع، والجراح متروك الحديث» . وقال يحيى: «ليس حديث الجراح بشيء» . وقال ابن المديني: «لا يكتب حديثه» . وقال ابن حبان: «كان يكذب» . وقال الدارقطني: «روى عنه ابن إسحاق، فقلب اسمه فقال منهال بن الجراح: وهو متروك» » ا. هـ. وقال الحافظ ابن حجر في «القول المسدد» (ص 28) : «والذي أراه عدم التوسع في الكلام فإنه يكفينا شهادة الإمام أحمد بأنه كذب، وأولى محامله أن نقول هو من الأحاديث التي أمر الإمام أحمد أن يضرب عليها» . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وقال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (ج 7ص 164) : «تفرد به عُمارة بن زاذان الصيدلاني، وهو ضعيف» . وانظر ترجمة (عمارة بن زاذان) في «الجرح والتعديل» (6/365) ، و «الضعفاء والمتروكين» (رقم 382) ، و «الضعفاء الكبير» (3/315) ، و «بحر الدم» (ص 310) ، و «الضعفاء» لابن الجوزي (2/203) ، و «تهذيب الكمال» (21/243) ، و «تهذيب التهذيب» (7/365) ، و «الميزان» (3/79) ، ولقصة عبد الرحمن بن عوف طرق مدارها على واهين ومتروكين وكذابين، وسأعمل -إن شاء الله تعالى- على ذكرها وبسطها بالتفصيل في جزء لاحق من كتابي «قصص لا تثبت» . وقد ذكرها المصنف في «الأجوبة المرضية» (2/577-581) وقال في خاتمتها: «وبالجملة؛ فقد قال الهيثمي [في «كشف الأستار» (3/209 عقب رقم 2587) ] وأقره العراقي [في تخريج أحاديث الإحياء» (5/2409) ]-رحمهما الله- أنه لا يثبت في دخوله زحفاً حديث» . انتهى. وقد شهد -رضي الله عنه- بدراً والحديبية، ومعلوم أن الله -عز وجل- قال في أهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، فلو ارتكب امرؤ منهم ما لا يجوز -وقد عصمهم الله إن شاء الله من ذلك- فهو مغفور له، هذا مع أن كسبه حلال من تجارته ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «بارك الله لك» ، وفعل ما فعله للفقراء من الخير. ورواية من تقدم ممن طعن فيه لا يقدح في أهل بدر، والله الموفق» . وسبق ضعفها عن ابن الجوزي فيما نقله عنه القرطبي -رحمهما الله- وتكلمت عليها في تعليقي على «المستجاد» للتنوخي (ص 20-21 رقم 9) . قال أبوعبيدة: المهم الآن -وقد طال بك الكلام، فأرجو المعذرة، فإنه لا يخلو من فائدة- أن أُكِّد لك التفصيل، وأنّ (المال) قد يحمد، وقد يذمّ من خلال تحقيق معانٍ كثيرة واردة في أحاديث شهيرة عديدة، وجمعها على وجهٍ حسن مع تعليق متين: العز في (الباب العاشر: الإحسان ببذل الأموال) من كتابه: «شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال» (ص 235- 260) ، والتفصيل يطول، والإحالة المذكورة مُغنية مُشبعة فيما يخص المسألة. بقي بعد هذا كلّه: التأكيدُ على صحة ما قاله المصنف -وهو لبّ رسالته وخلاصتها- مهم، وهو الصواب بلا شك، إذ يستحيل الوقوف على وجه الجمع بين المدح والذم إلاَّ بأن تعرف حكمة المال ومقصوده، وآفاته، وغوائله، حتى ينكشف لك أنه خيرٌ من وجه، وشرٌّ من وجه، وأنه محمودٌ من حيث هو خيرٌ، ومذمومٌ من حيث هو شر، وأنه ليس بخير محض، ولا هو شر محض، بل هو سبب الأمرين جميعاً، وما هذا وصفه فيمدح لا محالة مرّة، ويذم أخرى، ولكن البصير المميّز يدرك أن المحمود منه غير المذموم، وبيانها الاستمداد منه بما يصلح الحال لحفظ الدّين والقوة على الطاعة المفضية به إلى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم، والملك المقيم، ولا بدّ من مطعم، ومشرب، ومسكن، ومنكح، وملبس، فمن المطاعم إبقاء البدن، ومن المناكح إبقاء النسل، ومن البدن تكميل النفس وتزكيتها وتزيينها بالعلم والخُلق، ومن عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال، ووجه شرفه، وأنه من حيث ضرورة البدن إلى هذه الأسباب لتصح العبادة. فمن عرف فائدة ذلك وغايته ومقصده؛ استعمله لتلك الغاية، ملتفتاً إليها غير ناسٍ لها، فقد أحسن وانتفع، وكان ما حصل له من الغرض محموداً في حقّه، فإذاً المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يتّخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة، وهي المقاصد الصادّة عن سعادة الآخرة، ويسدّ سبيل العلم والعمل، فهو إذ ذاك محمود مذموم، محمود بالإضافة إلى المقصود المحمود، ومذموم بالإضافة إلى المقصود المذموم، فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه، وهو لا يشعر. ولمّا كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله، وكان المال مسهّلاً لها وآلة إليها عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية، فاستعاذ بعض الزهاد من شره. واعلم أن المال مثل حيّة فيها سمٌ وترياق، ففوائدها ترياقها، وغوائلها سمومها، فمن عرف غوائلها وفوائدها أمكنه أن يحترز من شرّها، ويستدرّ منها خيرها. أمّا الفوائد فهي تنقسم إلى: دنيوية ودينية، أما الدنيوية؛ فلا حاجة في ذكرها، فإن معرفتها مشتركة بين أصناف الخلق، ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها، وأما الدينية فنحصر جميعها في ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن ينفقه على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على العبادة. أمّا العبادة كالاستعانة على الحج، والصدقة؛ فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال، وهما من أمّهات القربات، والفقير محرومٌ عن فضلهما. وأما فيما يقويه على العبادة، وذلك هو المطعم والملبس والمنكح، فإنّ هذه الضرورات إذا لم تتيسّر كان القلب منصرفاً إلى تدبيرها، فلا يتفرّغ للدّين، وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة، وأخذ الكفاية من الدنيا للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية، فلا يدخل في هذه التنعّم والزيادة على الحاجة، فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط. النوع الثاني: ما تصرفه إلى الناس من صدقة واستخدام ومرؤة ووقاية العرض. أما الصدقة فلا يخفى ثوابها، وأنها لتطفئ غضب الرب، وفضائلها معروفة فلا نطوِّل بذكرها. وأما المرؤة فنعني بها: صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة، وهدية، وإعانة، وما يجري مجراه، فإن هذه لا تسمى صدقة، بل الصدقة ما تسلم إلى المحتاج إلا أن هذا -أيضاً- من الفوائد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= الدينية، إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء، وبه يكتسب صفة السّخاء، ويلتحق بزمرة الأسخياء، فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف، ويسلك سبيل المرؤة، وهذا -أيضاً- مما يعظم الثواب فيه، فقد وردت أخبار كثيرة فيها الحث على الهدايا، والضيافات، وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها، وبيّنتُ قسماً حسناً منها في كتابي «المرؤة وخوارمها» . وأمّا وقاية العرض فنعني به بذل المال لدفع هجو الشعراء، وثلب السفهاء، ودفع شرّهم، وقطع ألسنتهم، وهذا -أيضاً- مع فائدته في العاجلة فهو من الحظوظ الدينية- أيضاً-. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما وقي به المرء عرضه؛ فهو له صدقة» ، فكيف ولا؟ وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة، واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكاره والانتقام على مجاوزة الحدّ في الشرع، وبيّنت هذا في مقدمة كتابي «شعر خالف الشرع» يسر الله إتمامه بمنه وكرمه. وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة، ولو تولاّها بنفسه ضاعت أوقاته، وتعذّر عليه سلوك سبيل الآخرة، بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين، ومن لا مال له افتقر إلى أن يتولىّ بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام، وطبخه، وكنسه البيت، حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه، وكلّ ما يتصور أن يقوم به غيرك، ويحصل غرضك، فأنت مغبون إذا اشتغلت به، إذ عليك من العلم والعمل والفكر والذكر ما لا يتصور أن يقوم به غيرك، فتضييع الوقت في غيره خسران. واعلم أن الزائد من المال الذي يفضل عما يحتاج إليه من الكفاف يجرّ إلى المعاصي فإن الشهوات متقاضية والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، ومن العصمة أن لا يقدر ومتى كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته، فإذا استشعر القدرة عليه انبعثت، والمال نوع من القدرة يحرّك داعية المعاصي وارتكاب الفجور، فإن اقتحم ما اشتهاه هلك، وإن صبر وقع في شدّة، إذ الصبر مع القدرة أشد و (فتنة السراء أشد من فتنة الضراء) . النوع الثالث: أنه يجر إلى التنعم في المباحات، وهذا أقلّ الدرجات فمتى يقدر صاحب المال أن يتناول خبز الشعير، ويلبس الثوب الخشن، ويترك لذائذ الأطعمة كما كان يقدر عليه سليمان -عليه السلام- في ملكه، وأحسن أحواله أن يترك التنعّم بالدنيا لما يعلم من سرعة انقضائها لئلا يمرن عليه نفسه، فيصير التنعّم مألوفاً عنده، ومحبوباً إليه لا يصبر عنه، ويجرّه البعض منه إلى البعض، وإذا اشتد أنسه به ربّما لا يقدر على التوصّل إليه بالكسب الحلال، فيقتحم الشبهات، ويخوض في المراءاة، والمداهنة، والكذب، والنفاق، وسائر الأخلاق المردية، لينتظم له أمر دنياه، ويتيسّر له تنعُمُه، فإنَّ من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بدّ أن ينافقهم ويعصي الله في طلب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= رضاهم، فإن سلم الإنسان من مباشرة المحظورات فلا يسلم عن هذا أصلاً، ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة ويبتني عليه الحسد، والحقد، والرّياء، والكبر، والكذب، والغيبة، والنميمة، وسائر المعاصي التي تخصّ القلب واللسان، ولا يخلو عن التعدي -أيضاً- إلى سائر الجوارح، وكل ذلك يلزم من شؤم المال، والحاجة إلى حفظه وإصلاحه، وهذا لاينفك عنه أحد من أصحاب المال. ثم إنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله -تعالى- وكل ما شغل عن ذكر الله فهو خسرانٌ. ولذلك قال عيسى -عليه السلام-: «في المال ثلاث خصال: أن يأخذه من غير حله. فقيل: إن أخذه من حله؟ فقال: يضعه في غير حقه. فقيل: إن وضعه في حقه؟ فقال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله -تعالى-» . وهذا هو الداء العضال. فإن أصل العبادات ومخّها وسرّها ذكر الله -تعالى- والفكر في جلاله ومصنوعاته، ويحتاج ذلك إلى قلب فارغ، وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته، وخصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود، وخصومة أعوان السلطان في الخراج، وخصومة الأجراء في التقصير في العمارة، وخصومة الفلاحين في خيانتهم، وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل، وتضييعه للمال، وكذلك صاحب المواشي، وهكذا سائر أصناف الأموال، وأبعدها عن كثرة الاشتغال النقد المكنوز تحت الأرض، ولا يزال الفكر متردداً فيما يصرف إليه، وفي كيفية حفظه، وفي الخوف ممن يعثر عليه، وفي دفع أطماع الناس عنه، وأودية أفكار أهل الدنيا لا نهاية لها، والّذي معه قوت يومه في سلامة عن جميع ذلك، وما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن، والغمّ والهمّ، والتعب في دفع الحساد، وتجشّم المصاعب في حفظ الأموال وكسبها، فإذا ترياق الأموال أخذ الضرورة من ذلك مما بيّناه فيما تقدّم ما لا غنى عنه لإصلاح البدن، بتوفيره على العبادة، وصرف الزائد إلى الجيران في الخيرات من الصدقات وغيره، وماعداه آفات. قال أبو عبيدة: يتضح مما مضى أنّ خيرية المال بثمرته، وأنه يراد لغيره ولا يراد لعينه. وقد كشف عن ذلك ابن الجوزي في كلام نقله عنه ابن مفلح الحنبلي في كتابه «الآداب الشرعية» (3/ 469-470) ، قال: «قال ابن الجوزي: وأما التفضيل بين الغني والفقير؛ فظاهر النقل يدل على تفضيل الفقير، ولكن لا بد من تفصيل فنقول: إنما يتصور الشك والخلاف في فقير صابر ليس بحريص بالإضافة إلى غني شاكر ينفق ماله في الخيرات، أو فقير حريص مع غني حريص، إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص، فإن كان الغني متمتعاً بالمال في المباحات فالفقير القنوع أفضل منه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وكشف الغطاء في هذا إنما يراد لغيره ولا يراد لعينه، ينبغي أن يضاف إلى مقصوده، إذ به يظهر فضله، والدنيا ليست محذورة لعينها بل لكونها عائقة عن الوصول إلى الله -تعالى-، والفقر ليس مطلوباً لعينه لكن لأن فيه فقد العائق عن الله -تعالى- وعدم التشاغل عنه، وكم من غني لا يشغله الغنى عن الله -تعالى- كسليمان -عليه السلام-، وكذلك عثمان وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما-. وكم من فقير شغله فقره عن المقصود وصرفه عن حب الله -تعالى- والأنس به، وإنما التشاغل له حب الدنيا، إذ لا يجتمع معه حب الله -تعالى-؛ فإن المحب للشيء مشغول به، سواء كان في فراقه أو في وصاله، بل قد يكون شغله في فراقه أكثر، والدنيا مشوقة الغافلين، فالمحروم منها مشغول بطلبها، والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها. وإن أخذت الأمر باعتبار الأكثر، فالفقير عن الخطر أبعد؛ لأن فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا تجد، ولما كان ذلك في طبع الآدميين إلا القليل منهم جاء الشرع بذم الغنى وفضل الفقر، وذكر كلاماً كثيراً» . وقال القرطبي في «تفسيره» (5/343) [سورة النساء: 95]-ونقل طرفاً منه ابن مفلح في «الآداب الشرعية» على إثر كلام ابن الجوزي السابق وفات المحققان توثيق النَّصين-: «وتعلّق بها -أيضاً- من قال: إن الغِنى أفضل من الفقر؛ لذكر الله -تعالى- المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال. وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغِنى مذموم، فذهب قوم إلى تفضيل الغِنى؛ لأن الغنيّ مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة. وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر، لأن الفقير تارك، والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها، قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة، وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حدّ الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين. قال الماوردي: وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن «خير الأمور أوسطها» . ولقدأحسن الشاعر الحكيم حيث قال: ألا عائذ بالله من عدم الغِنى ... ومن رغبةٍ يوماً إلى غير مرغبِ» قال أبو عبيدة: وكلام الماوردي في «أدب الدنيا والدين» (ص 197- ط. الأميرية، سنة 1344هـ- 1925م) وكلامه من نقل القرطبي السابق: «وقد اختلف الناس ... » إلى آخره بالحرف دون ما يوهمه أنه المعزو له فقط. وانظر: «سياسة النفوس» لسنان بن قرة (ت 331هـ) (ص 55- تحقيق عبد الفتاح الغاوي) ، وسيأتيك في التعليق على (ص 155 وما بعد) تفصيل مطوّل محرّر -إن شاء الله- في التفضيل يؤكد المنوّه به هنا، فانظره فإنه مفيد، والله الموفق للخيرات، والهادي إلى الصالحات.

كلمات لكعب في موضوع المال

صدور صِلةٍ أو نحوها من الكافر فيه كان حظه فيه ما خُول فيه من صحة ومال وشبههما. وقد رُوي عن كعب الأحبار قال: «إني لأجد في بعض الكتب: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكلَّلت رأسَ الكافر بالأكاليل، فلا يصدع ولا ينبض منه عرق» (¬1) . وفي التنزيل: {وَلَوْلآ (¬2) أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ ¬

(¬1) أخرجه هناد في «الزهد» (رقم 428) ، وابن أبي الدنيا في «المرض والكفارات» (رقم 103) ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/381) ، والواحدي في «الوسيط» (4/483) ، وأورده القرطبي في «تفسيره» (16/88) . وظفرت عند ابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/ 303-304 رقم 515) بجملة أقوال لكعب في موضوع (المال) وبعضها شاهد لما في هذا الأثر، أسند -رحمه الله تعالى- عنه ما نصّه: المؤمن الزّاهد، والمملوك الصالح آمنان من الحساب، وطُوبى لهم، كيف يحفظهم الله في ديارهم!. وقال كعب: إن الله إذا أحب عبده المؤمن زَوَى عنه الدنيا ليرفعه درجات في الجنة، وإذا أبغض عبده الكافر أو المنافق بسط له في الدُّنيا حتى يسفِّله درجات في النار. وقال كعب: إن الله -تعالى- يقول لعباده الصابرين الراضين بالفقر: أبشروا ولا تحزنوا، فإن الدنيا لو وَزنت عند الله جناح بعوضةٍ مما لكم عندي، ما أعطيتهم منها شيئاً. وقال كعب: إذا اشتكى إلى الله عبادُه الفقرَ أو الحاجة، قيل لهم: أبشروا ولا تحزنوا، فإنكم سادة الأغنياء، والسابقون إلى الجنة يوم القيامة. وقال كعب: كانت الأنبياء بالفقر والبلاء أشد فرحاً منكم بالرخاء، وكان البلاء عليهم مضعفاً، حتى إنْ كان أحدُهم ليَقْتُلُه القملُ، فإذا رأى رخاءً ظن أنه قد أصاب ذنباً. وقال كعب: من تضعْضَع لصاحب الدنيا والمال تضعضَع دينه، والتمس الفَضْل عند غير المُفْضِل، ولم يصب من الدُّنيا إلا ما كتب الله له، وإن الله ليُبْغِض كل جَمَّاع للمال مَنَّاع للخير مستكْبِر، ويبغض كل حَبْرٍ سمين. وقال كعب: قال موسى: يا بني إسرائيل! تلبسون ثياب الرهبان، وقلوبكم قلوب الجبارين والذئاب الضواري، فإن أحببتم أن تبلغوا ملكوت السماء، فأميتوا قلوبكم لله. وانظر: «الحلية» (6/5) ، «مدح التواضع» (رقم 22) لابن عساكر. (¬2) في المخطوط: «ولا» !!

أحاديث في أن الله يزوي الدنيا عن عبده المؤمن وهوانها عليه سبحانه

بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] ، ومعناها: لولا أن تميل الدنيا بالناس فيصير الخلق كفاراً لأعطى الله الكافرَ في الدنيا غاية ما يتمنى منها، لقلَّتها عنده، ولكنه عزّ وجلَّ لم يفعل ذلك لعلمه أن الغالب على الخلق حب العاجلة (¬1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى كافراً منها شربة» (¬2) . ¬

(¬1) نقل المصنف تفسير الآية من «الوسيط» للواحدي (4/71-72) . (¬2) أخرجه أحمد في «الزهد» (129) ، وابن ماجه (4110) ، والترمذي (2320) ، والطبراني في «الكبير» (5820) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1439) ، والعقيلي في «الضعفاء» (3/46) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/253) ، والحاكم (4/306) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (رقم 128) ، وابن عدي في «الكامل» (5/1956) ، والبيهقي في «الشعب» (10465، 14066) من حديث سهل ابن سعد، وقال الترمذي: «هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه» . وفي إسناده عند الترمذي: عبد الحميد بن سليمان، وهو ضعيف، وتابعه زكريا بن منظور كما عند ابن ماجه، وهو ضعيف -أيضاً-. وعزاه المصنِّف في «المقاصد الحسنة» (رقم 897) للطبراني، والضياء في «المختارة» من حديث سهل، وتكلم على طرقه، وبيان ما فيه، وقال: «ولو صح الحديث لكان متوجّهاً» . قلت: يريد أنه صحيح باعتبار طرق أخرى، وهو كذلك، منها: ما أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (509) عن عثمان بن عبد الله بن رافع أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حدّثوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... وذكره، وإسناده لا بأس به في الشواهد. ومنها: حديث ابن عباس، عند أبي نعيم (3/304 و8/290) بسند فيه الحسن بن عمارة، وهو متروك. ومنها: مرسل عمرو بن مرة، أخرجه هناد رقم (800) ، وإسناده صحيح. ومنها مرسل الحسن البصري، أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (620) ، وإسناده حسن. ومنها حديث ابن عمر، أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (رقم 1439) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/92) بسند صحيح غريب. ومنها حديث أبي هريرة، أخرجه ابن عدي (6/2235) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (رقم 1440) بسند فيه صالح مولى التوأمة. وأخرجه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/299 رقم 504) عن أبي الدرداء قوله، وفيه: «فرعون» ، بدل: «كافر» ، ورجاله ثقات. =

وقال -أيضاً-: «إن الله -عزّ وجلَّ- يحمي عبدَه المؤمن الدنيا، كما يحمي أحدُكم مريضَه الطعامَ والشراب» (¬1) . ¬

= وانظر: «السلسلة الصحيحة» (686، 943) ، وشواهد أخرى له في: «زهد هناد» (رقم 578) ، و «الشعب» للبيهقي (10469- 10470) . (¬1) أخرجه أحمد (5/427) ، وفي «الزهد» له (ص 11) ، وابن أبي شيبة (14/57) ، والترمذي عقب (2036) ، وأبو يعلى (6865) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1397) ، وابن حبان (669) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 483) ، والطبراني في «الكبير» (19/17) ، والحاكم (4/207) ، والبغوي في «شرح السنة» (4065) ، والبيهقي في «الشعب» (10450) من حديث محمود بن لبيد، مرفوعاً، وإسناده قوي. وأخرجه -أيضاً- البخاري في «التاريخ الكبير» (7/185) ، والترمذي (2107) ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» (ص 11) ، وابن حبان (668) ، وابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (38) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 483) ، والطبراني في «الكبير» (19/17) ، والحاكم (4/207، 309) ، والبيهقي في «الشعب» (10448) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (4/52) من حديث محمود بن لبيد، عن قتادة بن النعمان. وقال الترمذي عقبه: «هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث عن محمود بن لبيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرسلاً» . وقال الحاكم: «والإسنادان عندي صحيحان» . وأخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (1397) ، والطبراني في «الكبير» (4296) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/288 رقم 484) ، والبيهقي في «الشعب» (10449) من حديث محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، وإسناده ضعيف. وأخرجه الحاكم (4/208) عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري، مرفوعاً. وأخرجه أبو يعلى (6865) -ومن طريقه ابن الأثير في «أسد الغابة» (4/52) - عن محمود ابن لبيد، عن عقبة بن رافع، وإسناده ضعيف، فيه ابن لهيعة. وصح لفظه عن حذيفة قوله -أيضاً-، أخرجه هناد في «الزهد» (593) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/276، 276-277) . وبعضهم رفعه. أخرجه ابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 210) . وانظر: «مجمع الزوائد» (10/285) ، و «العلل» (2/108) لابن أبي حاتم، وقال المصنف في «الأجوبة المرضية» (2/742) : «وثبت من طرق ... » وذكره.

وقال -أيضاً-: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء بمَ أخذ المال، أمِن حلالٍ أم من حرام» (¬1) . وإلى قريب من هذا الجواب أشار شيخُنا -رحمه الله- فإنه قال في «فتح الباري» : «فإن قيل كيف دعا لأنس وهو خادمه بما كرهه لغيره، فيحتمل أن يكون مع دعائه له بذلك قرنه بأن لا يناله من قِبَل ذلك ضررٌ؛ لأن المعنى في كراهية اجتماع كثرة المال والولد إنما هو لما يُخشى في ذلك من الفتنة بهما، والفتنة لا تُؤمن معها الهلكة» ، انتهى كلام شيخِنا (¬2) . ويتأيّد بقول أنس -رضي الله عنه-: «أنه - صلى الله عليه وسلم - ما ترك خير آخرةٍ ولا دنيا إلا دعا له به» . وإلى الفرق بين المالين الذين أحدهما وبالٌ، والآخر نوالٌ؛ أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة» . وفي رواية: «هم الأخسرون» (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه بنحوه: أحمد (2/435) ، والدارمي (2536) ، والبخاري (2059) ، والنسائي (7/243) ، والمروزي في «السنة» (214) ، وابن حبان (6726) ، والبيهقي (5/264) ، وفي «الدلائل» (6/535) ، وفي «الشعب» (5566) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (12/327) ، والبغوي في «شرح السنة» (2033) من حديث أبي هريرة. (¬2) انظر: «فتح الباري» (11/138) . (¬3) أخرجه الدارمي (1619) ، وأحمد (5/152، 157، 166) ، وابن أبي شيبة 13/244، والبخاري (1460) ، ومسلم (990) ، والنسائي في «الكبرى» (10958- 10964) ، وابن ماجه (4130) ، ووكيع في «الزهد» (166) ، والطيالسي (444) ، وابن منده في «الإيمان» (1/222- 223) ، والبزار في «مسنده» (3975- 3977، 3993، 4071) ، وابن خزيمة (2251) ، وابن حبان (3331) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 395- 407) ، والطبراني في «الأوسط» (4049) ، وابن بشران في «الأمالي» (رقم 136) ، والبيهقي (4/97، و10/189) ، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 330) ، من حديث أبي ذرّ بلفظ: «الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا مَن قال بالمال: هكذا وهكذا وهكذا» . وفي الباب عن أبي هريرة عند: أحمد (2/309، 340، 358، 391، 399، 525) ، وابن ماجه (4131) ، وهناد (608) . =

وفي لفظٍ: «هلك المُثْرُون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا -فحثى بين يديه وعن يمينه وعن شماله- وقليلٌ ما هم» (¬1) . وإلى هذا الفرق أشار القاضي عياض في «الشفا» (¬2) ، فإنه عقد فصلاً (¬3) لما يختلف الحالان في المدح به، والتفاخر بسببه، والتفضيل لأجله، ومثّل لذلك بكثرة المال، وقال: «فصاحبه على الجملة معظّم عند العامة لاعتقادها تَوَصُّلَه به إلى حاجته، وتمكن أغراضه بسببه، وإلا فليس فضيلةً في نفسه» . فمتى كان المال بهذه الصورة، وصاحبه منفقاً له في مهمّاته، ومهمَّات من اعتراه وأمّله، وتصريفه في مواضعه، مشترياً به المعالي، والثناء الحسن، والمنزلة من القلوب، كان فضيلةً في صاحبه عند أهل الدنيا. وإذا صرفه في وجوه البرِّ، وأنفقه في سُبُل الخير، وقصد بذلك الله -تعالى- والدار الآخرة، كان فضيلة [في صاحبِه] (¬4) عند الكلّ بكل حالٍ. ومتى كان صاحبه ممسكاً له، غير موجّهه وجوهه، حريصاً على جمعه؛ عاد ¬

= وعن ابن مسعود عند ابن حبان (3217) ، وهناد في «الزهد» (609) . وانظر: «العلل» للدارقطني (6/239-241) . (¬1) أخرجه أحمد (3/31 و52) ، وعبد بن حميد (888) ، وابن ماجه -مختصراً- (4129) ، وأبو يعلى (1083) ، وهناد في «الزهد» (609) من حديث أبي سعيد الخدري، وفي إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف. ويشهد له ما عند أحمد (2/309، 525) من حديث أبي هريرة. والحديث حسن بهذا الشاهد، قاله شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الصحيحة» (2412) . (¬2) انظر: «الشفا» (ص 110- ط. ابن رجب و1/201- ط. الفارابي و1/216- شرح القاري و1/468- شرح الخفاجي) . (¬3) هو (الفصل التاسع) وعنونه بـ: (ما يتعلّق بالمال والمتاع) . (¬4) ما بين المعقوفتين ساقط من «الشفا» بطبعاته وشروحه، وأثبته ناسخ الأصل في الهامش، وبعده (صح) ، ولم يشر شراحه إلى وجوده في بعض النسخ، كعادتهم.

كثره كالعدم (¬1) ، وكان منقصةً في صاحبه، ولم يقف به على جَدَد السَّلامة (¬2) ، بل أوقعه في هُوَّة (¬3) رذيلة البُخل، ومذمة النَّذالة. ¬

(¬1) كذا في طبعة ابن رجب والشروح، قال القاري: «كثره: بضم الكاف وتكسر، أي: رجع كثيره، وفي نسخة: كثرته -بفتح الكاف وتكسر- وأما قول التلمساني: ويصح بفتح الكاف والراء، وضم الثاء، فلا يصح. (كالعدم) بمنزلة يسيره، أو مشبَّهاً بعدمه، حيث لم ينتفع به، فيكون كمن لا مال له» . وقال: «يعني: إن المال الذي لم ينفقه ولم يتصدق به قد تساوى فيه مع غيره ممن لا مال بيده، إذ لا فائدة في عين المال، بل فيه الوبال في المآل» . قلت: لأنّ صاحبه بمثابة الخازن لغيره، الحارس لنعمته، يستعجل الفقر الذي هرب منه، ويفوته الغنى الذي طلبه، فيعيش عيش الفقراء، ويحاسب عليه حساب الأغنياء. يفني البخيل بجمع المال مدته ... وللحوادث والوارث ما يدعُ كدودة القزِّ ما تبنيه يهلكها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفعُ أفاده الخفاجي في «نسيم الرياض» (1/470) . (¬2) أي: لم يحصل له ما يسلم به من النقص والوبال والذم، و (الجَدَد) -بفتح الجيم ودالين مهملتين، أولاهما مفتوحة-: وهي الأرض الصلبة. وفي المثل: (من ملك الجدد أمن العشار) ، فالمراد به الطريق المسلوكة، وهكذا هو مضبوط في النسخ، وارتضاه البرهان -رحمه الله تعالى-، فمن قال أنه وهم؛ فقد وهم، وأما ضبط بعضهم له بضم الجيم والدال على أنه جمع جديد؛ فلا وجه له، وفي بعض الحواشي: أنه بضم الجيم وفتح الدال على أنه جمع جدّة كمدة ومدد؛ أي: طرق، ومنه قوله -تعالى-: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} [فاطر: 27] ؛ أي: طريق، وهو صحيح -أيضاً-، ومنه: ركب فلان جده في الأمر؛ أي: رأى فيه رأياً ظاهراً، ولم يقف على أمر يوصله للسلامة، وهو عدم الجمع، أو صرف ما جمعه في مصارفه، فعدل عن طريق السلامة، فهلك. (¬3) (في هوة) بضم الهاء، وتشديد الواو، وهي: الأهوية بالحفرة العميقة، وهو مضاف لقوله: (رذيلة البخل) ؛ أي: أوقعه في وهدة دنائته وخسته التي حفرها لنفسه، وفيه استعارة مكنية وتخييلية، فشبه السماحة بطريق يسلم سالكها، ويأمن من كل عثرة، وشبه ضده بحفرة يقع فيها من أتاها. من «نسيم الرياض» (1/471) . قلت: والمثل (من ملك الجدد ... ) : من كلام أكثم بن صيفي في خطبة بديعة له لبني تميم، أوردها ابن حمدون في «تذكرته» (3/343) ، وهي في «البصائر والذخائر» (1/154) ، «نثر الدر» (6/391) .

فضل المال ليس لنفسه بل للتوصل به إلى المنافع

فإذاً التمدح بالمال وفضيلته عند مفضِّليه ليست لنفسه، وإنما هو للتوصل به إلى غيره، وتصريفه (¬1) في متصرفاته، فجامعه إذا لم يضعه مواضعَه، ولا وجّهه وجوهه غير مليء (¬2) بالحقيقة، ولا غني بالغنى (¬3) ، ولا مُتَمدَّحٍ (¬4) عند أحدٍ من العقلاء، بل هو فقير أبداً (¬5) ، غير واصل إلى غرضٍ من أغراضه، إذ ما بيده من المال الموصِّل إليها (¬6) لم يسلَّط عليه، فأشبه خازنَ مالِ غيرِه ولا مال له، فكأنه ليس في يده منه شيء (¬7) ، والمنفق مليءٌ غنيٌّ بتحصيله فوائدَ المال، وإن لم يبقَ في يده من المال شيء» (¬8) . ¬

(¬1) تحرفت في ط الفارابي إلى: «وتعريفه» ! (¬2) أي: غير غني، أو: غير ثقة. (¬3) كذا أثبتها الناسخ، وصوابه: «بالمعنى» ، وكذا في جميع النسخ والشروح، والمراد: أنه غني بمجرد الصورة والمبنى لا المعنى، فكأنه فاقد لا واجد. (¬4) كذا في الأصل وشرح الخفاجي «نسيم الرياض» (1/471) وقال: «بفتح الدال» وفي سائرها: «ممتدح» ، قال القاري (1/217) : «وفي نسخة: ولا متمدح، أي: ولا ممدوح» . (¬5) على حد قول المتنبي: ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فَعَلَ الفقرُ (¬6) بتشديد الصاد أو تخفيفها، مع الكسر، وعندهما: «لها» ، وأفاد القاري: أنه في نسخة، كما هو مثبت. (¬7) كما قيل: إذا كنت جماعاً لمالك ممسكاً ... فأنت عليه خازن وأمينُ تؤدّيه مذموماً إلى غير حامد ... فيأكله عفواً وأنت دفينُ ولمحمود الوراق: تمتع بمالك قبل الممات ... وإلا فلا مال إن أنتَ متا شقيتَ به ثم خلفته ... لغيرك بُعداً وسُحقاً ومقتا فجادوا عليك بزور البكاء ... وجدتَ عليهم بما قد جمعتا وأرهنتهم كل ما في يديكا ... وخلُّوك رهناً بما قد كسبتا (¬8) هذا كله توطئة لبيان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة للمال عدماً ووجوداً.

من كرمه - صلى الله عليه وسلم -

قال: «وانظر (¬1) سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وخُلقه في المال تجده قد أوتي خزائنَ الأرض ومفاتيح البلاد وأُحلّت له الغنائم، ولم تحل لنبيٍّ قبله، وفتح عليه في حياته - صلى الله عليه وسلم - بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق (¬2) ، وجُلِب (¬3) إليه من أخماسها، وجِزيتِها، وصدقاتها، ما لا يُجبى للملوك إلا بعضه، وهادته (¬4) جماعةٌ من ملوك الأقاليم، فما استأثر بشيءٍ منه، ولا أمسك منه درهماً، بل صرفه مَصَارفَه، وأغنى به غيرَه، وقوّى به المسلمين، وقال: «ما يسرّني أنّ لي أُحُداً ذهباً يبيت عندي منه دينارٌ، إلا ديناراً أرصِده لدَيْنٍ» (¬5) ، انتهى، والله الموفق. وأيضاً فالناس مُختلفون، فمنهم من تُصلِحه الدنيا ويصلُح عليها، ولا يزدادُ بها إلا فضلاً وتواضعاً، كما نشاهده في أفرادٍ. وقد كان قيس بن سعد الأنصاري -رضي الله عنهما- يقول: اللهم ارزقني مالاً وفِعالاً، فإنه لا يَصلح المالُ إلا بالفِعال، ولا الفِعالُ إلا بالمال، اللهم إنه لا ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفي جميع النسخ والشروح: «فانظر» . (¬2) اليمن فتحها علي -رضي الله تعالى عنه- في سنة عشر من الهجرة، والشام فتح منها دومة الجندل فتحها عبد الرحمن، والعراق فتح منها البحرين، وقدم أهلها على النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما فصل في السير والتواريخ، ومن لم يقف على هذا قال: إنها إنما فتحت في زمن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي مفاتيحها ووعد بفتحها، وذكرت في غير ما حديث، بينتُ ذلك بتطويل في دراسة مفردة لي عن (العراق وأحاديث الفتن) ، وستنشر -إن شاء الله تعالى- قريباً. (¬3) كذا في الأصل، وفي سائر النسخ والشروح: «وجلبت» . (¬4) أي: أهدت إليه - صلى الله عليه وسلم -، وليس المراد المفاعلة، وفي نسخة «وهادته» فيما أفاد القاري. (¬5) أخرجه بنحوه الطيالسي (2372) ، وهناد في «الزهد» (رقم 628) ، وأحمد في «مسنده» (2/ 256 و349) ، والبخاري (2389، 6445، 7228) ، وفي «التاريخ الكبير» (1/255) ، ومسلم (991) ، وابن ماجه (4132) ، وابن حبان (6350) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 408، 412، 413، 414، 434) ، والبيهقي في «الشعب» (10432) ، وفي «الدلائل» (1/338) من حديث أبي هريرة. وادخار المال لقضاء الدَّين إحسان إلى الغريم بإعداد حقه، قاله العز في «شجرة المعارف والأحوال» (ص 247) .

يصلحني القليل، ولا أصلح عليه (¬1) ، وكذا هو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: «إن الجود من شيمةِ أهل ذلك البيت» (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (14/ق456-457) من طريق الدينوري في «المجالسة» (رقم2210) قال: ثنا ابن أبي الدنيا: نا محمد بن سلام قال: كان قيس ... وذكره. وأخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 54) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (7/ق124) - حدثنا عبد الرحمن بن صالح العجلي، وأبو بكر الشافعي في «الغيلانيات» (رقم1085) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخه» (7/ق 125 أو 20/264- ط. دار الفكر) -؛ كلاهما عن أبي أسامة -وهو حماد بن أسامة- عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن سعد بن عبادة كان يدعو ... وذكره. وأخرجه الطبراني في «مكارم الأخلاق» (رقم 176) . وأخرجه من طرق عن أبي أسامة به: ابن أبي الدنيا في «قرى الضيف» (رقم 21) ، والدارقطني في «المستجاد من فعلات الأجواد» (رقم 41، 43) ، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (3/614) ، والحاكم في «المستدرك» (3/253) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (7/ق 124 أو 20/125، 263- ط. دار الفكر) . وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع، عروة لم يدرك سعداً، فإن عروة ولد في أوائل خلافة عمر. وأخرجه ابن حبان في «روضة العقلاء» (262- 263) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه ... وذكره. وأخرجه الدارقطني في «المستجاد» (رقم42) عن أحمد بن بشير مولى عمرو بن حُريث: نا هشام، به. وأخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 53) ، و «قرى الضيف» (رقم 21) ، وأبو بكر الشافعي في «الغيلانيات» (رقم 1087) -ومن طريقه الدارقطني في «المستجاد» (رقم 44) -، عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن يحيى -وهو ابن أبي كثير-، به. وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل. والخبر في: «البيان والتبيين» (2/147و3/284 و4/77- 78) ، «العقد الفريد» (2/336) ، و «التهذيب» (3/475) ، و «الإصابة» (2/30) . (¬2) ساقه المصنف في كتابه: «الجواهر المجموعة» (ص 78- 80 رقم 149، 150) مطولاً، قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وكان قيس بن سعد بن عبادة في سرية الخبط مع أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهم-، فحصل لهم جَهد، فنحر لهم قيسٌ تسع ركائب! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الجود لمن شيم ذلك البيت» ، ثم قال: «وروينا هذه القصة مطوَّلة، ولفظها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة بن الجراح في سرية فيها المهاجرون والأنصار، وهم ثلاث مئة رجل إلى ساحل البحر، إلى حي من جهينة، فأصابهم جوع شديد، فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمراً بجُزُرٍ يوفيني الجزر ها هنا وأوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول: واعجباه لهذا الغلام! لا مال له يدين في مال غيره. فوجد رجلاً من جهينة، فقال قيس: بعني جَزوراً أوفيك وسقةً من تمرٍ بالمدينة. فقال الجهني: والله ما أعرفك، فمن أنت؟ فقال: أنا سعد بن عبادة بن دُليم. فقال الجهني: ما أعرفني بنسبك! وذكر كلاماً. فابتاع منه خمسَ جزائر، كُل جَزورٍ بوَسقٍ من تمرٍ، يشترط عليه البدويُّ تمر ذَخرةٍ مصلَّبة من تمر آل دُليم، يقول قيس: نعم. قال: فأشهد لي. فأشهد له نفراً من الأنصار، ومعهم نفر من المهاجرين. قال قيس: أَشْهِدُ من تُحب. وكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال عمر: ما أشهدُ بهذا، يدين ولا مال له، إنما المال لأبيه. فقال الجهني: والله ما كان سعد ليحبسنَّ ابنه في وسقةٍ من تمر وأرى وجهاً حسناً، وفعالاً شريفاً. فكان بين عمر وقيس كلام، حتى أغلظ لقيس. وأخذ الجُزر، فنحرها لهم في مواطن ثلاثة، كلَّ يوم جزوراً. فلما كان اليومُ الرابع نهاه أميره، قال: أتريد أن تخفر ذمَّتك ولا مال لك؟ فقال قيس: يا أبا عبيدة، أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة ولا يقضي عني وسقةً من تمرٍ لقومٍ مجاهدين في سبيل الله -عزّ وجلّ-؟ فكاد أبو عبيدة أن يلين له، وجعل عمر يقول: اعزم، فعزم عليه، فأبى أن ينحر. وبقيت جزوران، فقدم بهما قيس المدينة ظهراً يتعاقبون عليها. وبلغ سعداً ما أصاب القوم من المجاعة، فقال: إن يكن قيس كما أعرف فسينحر للقوم. فلما قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم؟ قال: نحرت. قال: أصبت. قال ثم ماذا؟ قال: نحرتُ، قال: أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نُهيت. قال: من نهاك؟ قال: أبو عبيدة أميري. قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي، وإنما المال لأبيك. فقلت: أبي =

من كرم التابعين

ويُروى عن الحسن والحسين أنهما قالا لعبد الله بن جعفر -رضي الله عنهم-: إنك قد أسرفت في بذل المال. فقال: بأبي أنتما وأمي، إن الله قد عودني أن يتفضّل عليَّ وعوّدتُه أن أتفضّل على عباده، فأخاف أن أقطعَ العادةَ فيقطع عني (¬1) . وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: أنت مِتلافٌ، فقال: مَنعُ الجودِ سوءُ الظنِّ بالمعبود (¬2) . ¬

= يقضي عن الأباعد، ويحمل الكلَّ، ويطعم في المجاعة، ولا يصنع هذا بي؟ قال: فلك أربع حوائط، أدناها حائط منه خمسين وسقاً. قال: وقدم البدوي مع قيس، فأراه وسقته، وحمله، وكساه. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل قيس فقال: «إنه من بيت جُود» . وقال الأعرابي لسعد حين قدم: والله ما مثل ابنك ضيَّعت ولا تركت بغير مال، فإنك سيدٌ من سادات قومك. نهاني الأمير أن أبيعه فقلت: لِمَ؟ قال: لا مال له. فلما انتسب عرفته، وتقدمت لما أعرف أنك تسمو إلى معالي الأخلاق وجسيمها، وأنك غير مذمومٍ لمن لا معرفة له لديك» . انتهى. قال أبو عبيدة: أخرج هذا الحديث -مطولاً ومختصراً-: الواقدي في «المغازي» (2/775) وابن أبي الدنيا في «قرى الضيف» (رقم 19) ، والدارقطني في «المستجاد» (رقم 47، 48، 50) ، وابن جرير في «التاريخ» (2/147) ، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (3/1290) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (49/409-410، 411، 411-412، 414، 415) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (24/43) من عدة مخارج، وطرقه لا تسلم من كلام، وبمجموعها ينهض هذا الحديث للاحتجاج، ويصل لدرجة الحسن لغيره. وانظر كلام العلماء عليه في: «تخريج العراقي على أحاديث الإحياء» (3/362) ، «الإصابة» (5/476) ، «فتح الباري» (8/81) ، وفي «زاد المعاد» (2/159) تنبيه على عدم ثبوت ما ورد من كثرة نحر قيس بن سعد للجزر، وعبارته: «ولا يعقل أن تصل رواحله وحده إلى هذا العدد الكثير» . قلت: اللهم إلا أن يكون اشترى ذلك من غير العسكر، كما نبه عليه ابن حجر. (¬1) أخرجه البيهقي في «الشعب» (7/437 رقم 10884) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (27/292) . (¬2) الخبر ذكره الغزالي في «الإحياء» (8/190- مع «الإتحاف» ) ، والقلعي في «تهذيب الرياسة» (372) ، والجهشياري في «الوزراء والكتاب» (ص 215) ، والنويري في «نهاية الأرب» (3/205) ، والتنوخي في «المستجاد» (رقم 97- بتحقيقي) . =

وقال أكثم بن صيفي -حكيم العرب-: «ذلِّلوا أخلاقَكم للمطالِب، وقودوها للمحامل (¬1) وعلّموها المكارم، ولا تقيموا على خُلق تَذُمُّونه من غيركم، وصِلوا من ¬

= ولفظه: «قال محمد بن عباد المهلبي: دخل أبي على المأمون، فوصله بمئة ألف درهم، فلما قام من عنده تصدق بها، فأُخبر بذلك المأمون، فلما عاد إليه عاتبه في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين! منعُ الموجود من سوء الظن بالمعبود، فوصله بمئتي ألف أخرى» . وأورده أبو الوفاء ريحان الخوارزمي في «المناقب والمثالب» (ص 180 رقم 583) بمثل ما عند المصنف، وفيه: «الموجود» بدل: «الجود» . وأخرجه الدينوري في «المجالسة» (2647- بتحقيقي) : حدثنا أحمد بن عبدان: نا محمد بن منصور قال: «قال المأمون لمحمد بن عبد الله بن طاهر: بلغني أن فيك سرفاً ... » وذكره بنحوه، والخبر أورده ابن عبد ربه في «العقد الفريد» (1/188- 189) ، وابن قتيبة في «عيون الأخبار» (3/196) ، والبيهقي في «المحاسن والمساوئ» (ص 188) ، والجاحظ في «المحاسن والأضداد» (ص 57) ، وابن حمدون في «التذكرة الحمدونية» (2/317) ، والزمخشري في «ربيع الأبرار» (3/703) ، والأبي في «نثر الدر» (7/184) ، وكلهم أورده بنحوه، من كلام محمد بن عباد المهلبي للمأمون، وليس من كلام أبيه. والخبر أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (33/319) -ومن طريقه ابن كثير في «البداية والنهاية» (10/304) - وهو بين المأمون ومحمد بن عباد -أيضاً-، وفيه مبالغة في المقدار الذي أعطاه المأمون لمحمد بن عباد المهلبي، ففيه: أنه أعطاه ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وبعد أن أعجب المأمون قوله، أعطاه ألف ألف، وألف ألف، وألف. والخبر في «البصائر والذخائر» (5/ 179) ، و «الفاضل» للمبرد (35) ، و «محاضرات الراغب» (1/586) ، و «غرر الخصائص» (284) ، و «كتَّاب بغداد» (51) . وورد القول «منع الموجود سوء ظن بالمعبود» من قول جعفر، وفي «محاضرات الراغب» (1/750) حديث نبوي!! وفي «غرر الخصائص» (284) ، و «التمثيل والمحاضرة» (440) ، و «الفصول المهمة» (1/113) من قول علي -رضي الله عنه-، وهكذا كتب الأدب، الأخبار فيها مضطربة، والآثار مع الأحاديث متداخلة، وما اعتنيت ببعضها إلا بسبب هذا الأمر، وينبغي للفطن والحريص على دينه أن يحسن الأخذ منها، مع التنبّه والتيقّظ والتحفظ، فلمشارب أصحابها أثر بارز في الغلو والمدح والقدح، فليكن ذلك على بالك، والله الهادي. (¬1) كذا في الأصل، وفي «العقد الفريد» : «للمحامد» .

قصة ثعلبة بن حاصب

رغِب إليكم وتحلّوا بالجود يُلبسكم (¬1) المحبة، ولا تعتقدوا البخل فَتَسْتَعجلوا (¬2) الفقرَ» (¬3) . ومنهم دنيء الأصل رديء الطباع، واثق بما في يديه، فهذا لا يُصلحُه المال، ولا يصلح عليه. ولذلك لما سأل ثعلبةُ بن حاطبٍ- وليس هو بالبدري، إنْ صحَّ الحديث- رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! ادعُ الله أن يرزقني مالاً، قال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويحك يا ثعلبةُ! أما تحبُّ أن تكون مثلي، فلو شئتُ أن يُسيّر ربي معي هذه الجبال ذهباً لسارت» . فقال: ادع الله أن يرزقني مالاً، فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطينَّ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، قال: «ويحك يا ثعلبة! قليلٌ تطيق شكرَه، خيرٌ من كثيرٍ لا تؤدي حقّه» . أو قال: لا تطيقه-. فقال: يا نبي الله! ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال: «اللهم ارزقه مالاً» . قال: فاتخذ غنماً فبورك له فيها، ونمت حتى ضاقت به المدينة، فتنحَّى بها، وكان يشهد مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، ولا يشهد صلاة الليل، ثم نمَت، وكان لا يشهد إلا من الجمعة إلى الجمعة، ثم نمَت، فكان لا يشهد جمعة ولا جماعة. ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفي «العقد الفريد» : «يكسبكم» . (¬2) كذا في الأصل، وفي «العقد الفريد» : «فتتعجَّلوا» . (¬3) نعت الجاحظ في «البيان والتبيين» (1/365) (أكثماً) بأنه: «من الخطباء البلغاء، والحكّام الرؤساء» . قلت: وهو أحد المعمّرين، أدرك الإسلام، وذهب في قومه إلى المدينة ليسلم، لكنه مات في الطريق، له ترجمة في «الإصابة» (1/110) ، «المعمرين» (14) ، «الوافي بالوفيات» (9/199) . والخبر المذكور موجود في «العقد الفريد» (1/189- ط. دار الكتب العلمية) ، وقال: «أخذه الشاعر، فقال: أَمِنْ خَوْفِ فَقْرٍ تعجَّلْتَه ... وأخَّرْتَ إنفاقَ ما تَجْمعُ فَصِرْتَ الفقيرَ وأنتَ الغَنِيُّ ... وما كنتَ تَعْدو الذي تَصنعُ»

تحقيق ضعف القصة

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويح ثعلبة بن حاطب» . ثم إنه أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الصدقة، فبعث رجلين فمرّا على ثعلبة، فقالا: الصدقة، فقال: ما هذا إلا جزية، فقدما المدينة، فلما رآهما النبي - صلى الله عليه وسلم - قال -قبل أن يكلماه-: «ويحَ ثعلبة بن حاطب» . قال: فأنزل الله في ثعلبة: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} الآية [التوبة: 75] . أخرجه الطبراني والبيهقي في «الدلائل» و «الشعب» ، وابن أبي حاتم، والطبري، وابن مردويه، والباوردي، وابن السكن وابن شاهين، والعسكري، وآخرون من حديث علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامةَ الباهلي -رضي الله عنه-، وسنده ضعيف جدّاً (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/250) ، والطبري في «تفسيره» (10/189) ، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/1847-1849 رقم 10408) ، والطبراني في «الكبير» (7873) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (3/84-85) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/494 رقم 1402) ، والواحدي في «الوسيط» (2/513-514) ، و «أسباب النزول» (ص 252) ، والبيهقي في «الدلائل» (5/280، 290) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (12/9) ، وعلقه الثعلبي في «الكشف والبيان» (5/71-72) من طريق معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد الألهاني، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة، رفعه. وإسناده ضعيف جدّاً، كما قال المصنف -رحمه الله-. فيه معان بن رفاعة: لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به. وعلي بن يزيد الألهاني: قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالثقة. وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال الدارقطني: متروك. والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن: قال الإمام أحمد: روى عنه علي بن يزيد أعاجيب، وما أراها إلا من قِبَل القاسم. وقال الأثرم: ذكر لأبي عبد الله حديث عن القاسم الشامي عن أبي أمامة: أن الدباغ طهور؛ فأنكره وحمل على القاسم. وقال ابن حبان: كان القاسم أبو عبد الرحمن يزعم أنه لقي أربعين بدرياً، كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعضلات، ويأتي عن الثقات بالمقلوبات، حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها. قال الذهبي: قد وثقه ابن معين من وجوه عنه. وقال الجوزجاني: كان خياراً فاضلاً، أدرك أربعين من المهاجرين والأنصار. وقال الترمذي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: منهم من يضعفه. =

من الناس من لا يصلحه إلا الغنى

ويؤيد كون الناس مختلفين ما يُروى عن عمرَ، وأنسٍ، وغيرهما من الصحابة -رضوان الله عليهم-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله -عزَّ وجلَّ-: إن من عِبادي من لا يصلح إيمانُه إلا بالغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك» (¬1) الحديث. ¬

= وقد أنكر كثير من العلماء هذه القصة وقالوا ببطلانها، وهذا ما وقفت عليه، سارداً أسماءهم ومراجع كلامهم طلباً للاختصار: ابن حزم في «المحلى» (11/208) ، والبيهقي، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (1/284- ط. دار الكتب العلمية) ، والقرطبي في «تفسيره» (8/210) ، والذهبي في «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 66) ، والعراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (4/1954) ، والسهيلي في «الروض الأنف» ، والزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (2/85-86) ، والهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/35) ، وابن حجر في «الفتح» (3/266) ، و «الإصابة» (1/198) ، و «تخريج الكشاف» (4/77 رقم 133) ، والسيوطي في «لباب النقول» (ص 173) ، والمناوي في «فيض القدير» (4/527) ، وشيخنا الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1607، 4081) . وعزاه السيوطي في «الجامع الصغير» للباوردي، وابن قانع، وابن السكن، وابن شاهين، وزاد في «الدر المنثور» (4/246) عزوه إلى الحسن بن سفيان، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والعسكري في «الأمثال» ، وابن منده، وعزاه الزيلعي إلى ابن مردويه، وكذا ابن كثير. (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا مطولاً في أول كتابه «الأولياء» رقم (1) ، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (2/232) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/319) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/31) من طريق أبي عبد الملك الخشني بن يحيى، عن صدقة، عن هشام الكناني عن أنس، رفعه، وإسناده ضعيف جدّاً. أبو عبد الملك الخشني اسمه: الحسن بن يحيى، قال ابن الجوزي عقب الحديث عنه -وسمّاه-: «قال يحيى بن معين: ليس بشيء» . وقال الدارقطني: «متروك، وصدقة فمجروح» . ورواه الخشنيُّ به، وقال في أوله: «قال الله -تبارك وتعالى-: من أهان لي وليّاً ... » ، وفيه مثل اللفظ السابق. أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (ص 121) ، وأبو صالح الحربي في «الفوائد العوالي» (ق 17/2) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/23) ، وأبو بكر الكلاباذي في «مفتاح المعاني» =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= (ص 377- 378) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (7/96) ، والضياء في «المنتقى من مسموعاته بمرو» (ق 76- 77) . وتوبع الخشني على هذا اللفظ، فأخرجه البغوي (5/21- 23 رقم 1249) من طريق عمر بن سعيد الدمشقي: نا صدقة، به. ولفظهما: « ... وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يُصلح إيمانَه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يُصلح إيمانَه إلا الفقرُ، ولو أغنيته لأفسده ذلك» ، وهو الذي أورده المصنف بحروفه، والحديث في الدواوين المذكورة مطول جداً. وعزى ابن حجر في «الفتح» (11/342) حديث أنس إلى أبي يعلى، والبزار، والطبراني، وقال: «في سنده ضعف» . قلت: ضعفه شديد، فمداره على صدقة بن عبد الله السمين. قال البخاري وأحمد: «ضعيف جداً» . وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (1/188) -وعزى الحديث للطبراني-: «والخشني، وصدقة: ضعيفان، وهشام الكُناني: لا يُعرف، وسئل ابن معين عن هشام هذا: من هو؟ قال: لا أحد. يعني: أنه لا يعتبر به» . واضطرب فيه عمر بن سعيد -وهو متروك-، فكان يقول مرة: عن صدقة، أخبرني عبد الكريم الجزري، عن أنس، أخرجه الطبراني في «الأوسط» (609) مختصراً، وقال: «لا يرو هذا الحديث عن عبد الكريم إلا صدقة، تفرد به عمر» . ولم يعزه في «المجمع» (10/270) من حديث أنس إلا للطبراني في «الأوسط» . وعزو ابن حجر له إلى أبي يعلى، والبزار؛ فيه نظر، فالذي عند أبي يعلى حديث ميمونة، وليس فيه هذا اللفظ. وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (7/95) من طريق سلامة بن بشر -وهو صدوق-: نا صدقة، عن إبراهيم بن أبي كريمة، عن هشام الكناني، عن أنس، بنحوه. وإبراهيم هذا، ترجمه ابن عساكر، وأورد الحديث في ترجمته، واقتصر على قوله: «حدث عن هشام الكناني، روى عن صدقة بن عبد الله السمين» ، وقال على إثر الحديث: «رواه الحسن بن يحيى الخشني البلاطي، عن صدقة، عن هشام، ولم يذكر فيه (إبراهيم بن أبي كريمة) » . قلت: فهو مجهول. =

وفي لفظٍ في حديث أوّله: «من عادى لي ولياً ... » : «يقول الله -عزّ وجلّ-: وربما سألني وليي المؤمن الغنى فأصرفه عنه إلى الفقر، ولو صرفته إلى الغنى كان

_= وفي الباب عن ابن عباس، سيأتي في الذي يليه، وهو الذي عند الطبراني. بقي التنبيه على حديث عمر الذي أشار إليه المصنف، فأقول -وبالله المستعان-: أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخ دمشق» (6/15) -ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/31) - ولفظه: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد! ربُّك يقرأ عليك السلام، ويقول: إنّ من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفْقرتُه لكفر، وإنّ من عبادي من لا يصلُح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيته لكفر،....» . وهو عند الديلمي في «الفردوس» (8098) من حديث عمر -أيضاً-. وإسناده ضعيف، فيه يحيى بن عيسى النَّهشليّ الفاخوري الجرَّار الرَّمليّ، قال ابن معين في «تاريخ الدوري» (2/651) : «ليس بشيء» ، وقال ابن حبان في «المجروحين» (3/126- 127) : «كان ممن ساء حفظه، وكثر وهمُه، حتى جعل يخالف الأثبات فيما يروي عن الثقات، فلما كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به» . وقال ابن عدي في «الكامل» (7/2673) : «عامة رواياته مما لا يتابع عليه» واللذان دونه، قال شيخنا الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1774) عنهما: «لم أجد من ترجمهما» . وعلَّق الكلاباذي (ت 384هـ) في «بحر الفوائد» المشهور بـ «معاني الأخبار» (ص 382- 383) على الحديث، ففصل ما أجمله المصنف لما قال: «ويؤيّد كون الناس مختلفين» ، فقال: «وقوله: «إن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، لو أفقرته لأفسده ذلك» هذا -أيضاً- من نصيحته له، وذلك أن الله -تعالى- إنما أحب المؤمن لإيمانه؛ لأنه لما أحبه كتب في قلبه الإيمان، وحببه إليه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، فهو -عز وجل- يصرفه عما يخل بإيمانه؛ لئلا يخرج في حبه إياه شيء، وقد خلق الله عباده على طبائع مختلفة وأوصاف متفاوتة، فمنهم القوي، ومنهم الضعيف، ومنهم الرقيق، ومنهم الكثيف، ومنهم الوضيع، ومنهم الشريف. فمن علم الله -تعالى- من قلبه ضعفاً لا يحتمل الفقر أغناه، إذ لو أفقره إياه فهو -عز وجل- يغنيه، فيقربه بذلك منه، ويدنيه، فيصونه بغناه من أن ينصرف بحاجته إلى سواه ... » ، قال: «فإذا كان الفقر لبعض الناس منسياً، صرف الحق عمن عرف ذلك منه الفقر؛ لأنه لا يحب أن ينساه حبيبه، كما يكره أن ينظر إلى غيره قريبه، وكذلك من علم أن لا يصلح إيمانه إلا الفقر أفقره؛ لأنه -تعالى- يعلم أن الغنى يطغيه، وأن الفقر لا ينسيه، بل يشغل لسانه بذكره، والثناء عليه، وقلبه بالتوكل عليه، والالتجاء إليه» .

قصة الأبرص والأقرع والأعمى

شرّاً له، وربما سألني وليي المؤمن الفقر فأصرفه إلى الغنى، ولو صرفته إلى الفقر لكان شرّاً له» (¬1) . وقصة الأبرص والأقرع والأعمى (¬2) في مجيء الملَك إليهم وسؤاله إياهم ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/145-146 رقم 12719) بهذا اللفظ من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/270) : «رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم» . وضعّفه ابن حجر في «الفتح» (11/342) -أيضاً-، وأوله عند البخاري في (الرقاق) (باب التواضع) (رقم 6502) ، وجمع شواهده ابن حجر في «الفتح» (11/341-342) ، والسيوطي في «القول الجلي» -مطبوع ضمن «الحاوي» -، وشيخنا الألباني في «الصحيحة» (1640) . (¬2) أخرج البخاري (3464، 6653) ، ومسلم (2964) ، وابن حبان (314) ، والبيهقي (7/ 219) من حديث أبي هريرة أنه سمع رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن ثلاثةً في بني إسرائيل: أبرص، وأقرَع، وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص، فقال: أيُّ شيء أحبُّ إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلدٌ حسنٌ، قد قذرني الناس. قال: فمسحه، فذهب عنه، فأُعطي لوناً حسناً، وجِلداً حسناً، فقال: أيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: الإبل -أو قال: البقر، هو شكَّ في ذلك؛ أن الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل، وقال الآخر البقر-، فأُعطي ناقةً عُشًراء، فقال: يُبارَكُ لك فيها. وأتى الأقرع، فقال: أي شيءٍ أحبُّ إليك؟ قال: شعرٌ حسن ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس. قال: فمسحه، فذهب، وأعطيَ شعراً حسناً. قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: البقر، فأعطاه بقرةً حاملاً، وقال: يبارَكُ لك فيها. وأتى الأعمى، فقال: أي شيءٍ أحبُّ إليك؟ قال: يَرُدُّ الله بصري، فأُبصر به الناس. قال: فمسحه، فردَّ إلله إليه بصرهُ، قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الغنم. فأعطاه شاةً والداً. فأُنتج هذان، ووُلِّدَ هذا، فكان لهذا واد من الإبلِ، ولهذا وادٍ من بقر، ولهذا وادٍ من الغنم. ثم إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكينٌ تقطّعت بي الحِبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيراً أَتبلَّغ عليه في سفري. فقال له: إن الحُقوق كثيرةٌ. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً، فأعطاك الله؟ فقال: ورِثتُ لكابرٍ عن كابرٍ. فقال: إن كنت كاذباً؛ فصيرك الله إلى ما كنت. =

عن الأحبِّ إليهم، وزوال ما بهم ونولِهم ما اختاروه من الأموال، ثم مجيئه إليهم بعد ذلك واحداً بعد واحد، ٍ في هيئة فقيرٍ مسكينٍ يلتمس نائلهم، فجحد كلٌّ من الأبرص والأقرع ما كان فيه قبل ذلك من الفاقة والعلة، ولم يعطِه شيئاً، وشكر الأعمى نعمةَ الله عليه فيما آتاه، وفوّض إلى الفقير أن يأخذ ما أحبَّ، فقال له: أمسك، فإنما ابتليتم فقد رضي عنك، وسَخِط على صاحبيك. وكذا رُوينا في «المجالسة» (¬1) من طريق هشام، عن الحسن أنه قال: قد كان الرجل يدَع المالَ إلى جنبه، ولو شاء أتاه فأصاب منه حلالاً، وإنه لمجهود شديد الجهد، فيقال له: رحِمك الله ألا تأتي هذا المال فتصيب منه، فيقول: لا إني والله ما ¬

= وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثلما قال لهذا، فرد عليه مثلما ردّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً؛ فصيَّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجلٌ مسكينٌ، وابن سبيل، وتقطّعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري. فقال له: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك» . وقوله: «بدا لله» بتخفيف الدال، بغير همز؛ أي: سبق في علمه، فأراد إظهاره، ومثله قوله -تعالى-: {الآن خَفَّفَ اللهُ عنْكُم وعلِمَ أن فِيكُم ضَعْفاً} [الأنفال: 66] ؛ أي: عَلِمَ عِلْمَ الظهور، وليس المراد أنه ظهر له بعد أن كان خافياً؛ لأن ذلك محالٌ في حقِّ الله -تعالى-، ووقع في رواية للبخاري ومسلم: «أراد الله أن يبتليهم» ، «وهذا هو المحفوظ، وفي إسناد الأولى: (عبد الله بن رجاء) ، وهو الغداني، وفي حفظه كلام. قال الحافظ في «التقريب» : «صدوق، يهم قليلاً» ، ونسبة البداء إلى الله لا يجوز. ومال الحافظ إلى أن الرواية الأولى من تغيير الرواة، وظني أنه من الغداني كما ألمحت إليه، والرواية المحفوظة لم يستحضر الحافظ أنها عند المصنف، فعزاها لمسلم وحده!» . أفاده شيخنا الألباني -رحمه الله- في «مختصر صحيح البخاري» (2/446) . (¬1) انظر «المجالسة» للدينوري (7/20 رقم 2860- بتحقيقي) ، والأثر أخرجه أحمد -ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (6/269) - عن صفوان بن هشام، وأحمد -ومن طريقه البيهقي في «الزهد الكبير» (29) - عن روح؛ كلاهما عن هشام، به.

أدري لعلي إن أتيتُه فأصبت منه شيئاً أن يكون فساد قلبي وعملي، فلا يقربه حتى يموت بجهده ذلك. وبهذا الحديث يقيد إطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا» (¬1) ، وما أشبهه من الأحاديث التي في التنفير عنها، ولذلك كان أنس -رضي الله عنه- يقول: «اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى» (¬2) . وصحّ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له» (¬3) . وقال -تعالى-: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلاَّ} [الفجر:15] يقول سبحانه: ليس كل من كثّرتُ عليه الدنيا أكون قد أكرمتُه، ولا كل من قدّرتها عليه أكون قد أهنته، بل قد أوسعها على أعدائي إملاءً واستدراجاً، وقد أُقدِّرُها على ¬

(¬1) سبق تخريجه (ص 135) . (¬2) قطعة من حديث تقدم (ص 147) ، وأوله: «يقول الله -عزّ وجلَّ-: إنّ من عبادي ... » ، وبيَّنَّا ضعفه هناك. (¬3) لم نجده بهذا اللفظ إلا أن الإمام مسلماً أخرج في «صحيحه» (2999) بلفظ: عن صهيب قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاءُ شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيراً له» . وهو عند أحمد (4/332 و6/15، 16) ، وابن حبان (2896) ، والطبراني (7316، 7317) ، والبيهقي (3/375) ، وفي «الشعب» (9949) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (596) ، وأبي نعيم في «الحلية» (1/154) . وفي الباب عن أنس عند أحمد (3/117، 184 و5/24) ، وابن حبان (728) . وعن سعد عند الطيالسي (211) ، وأحمد (1/173) ، والبغوي في «شرح السنة» (1540) ، والبيهقي (3/375-376) بأسانيد حسنة وصحيحة.

الابتلاء بالسراء والضراء

أوليائي صيانةً وحمايةً وحفظاً (¬1) . وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله قسَمَ بينكم أخلاقَكم وأرزاقَكم، وإن الله يعطي الدنيا من أحبّ ومن لا يحب، ولا يعطي الدِّين إلا من أحبّ» (¬2) ، وقد يُوسِّعُها على أوليائه كمن أسلفتُ الإشارة بهم، ويُقدِّرُها على خلقٍ من أعدائه كفقر الكفار. والمؤمن لا بدّ أن يُبتلى تارةً بالسراء ليشكر، وتارةً بالضرّاء ليصبر، فإن الإنسان صبّار شكور، وأما الفاجر فهو كنود يُعدّد المصائب وينسى النعم، وقد قال -تعالى-: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:17] ؛ أي: تدعو النار من أدبر عن الحقّ، فتقول: إليّ يا مشرك، إليّ يا منافق، إليّ يا فاسق، إليّ يا ظالم، {وجَمَعَ ¬

(¬1) انظر: «تفسير الطبري» (24/376- هجر) ، «الوسيط» (4/483) ، «الوجيز» (2/1200) ؛ كلاهما للواحدي، «الكشاف» (4/210) ، «تفسير ابن كثير» (4/540) ، «المحرر الوجيز» (15/441) . (¬2) أخرجه مرفوعاً وموقوفاً: أحمد (1/387) ، والمروزي في «زيادات الزهد» (1134) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/313) ، وفي «الأدب المفرد» (275) ، وأبو داود في «الزهد» (رقم 157) ، والبزار (3562) ، والشاشي في «مسنده» (877) ، والطبراني في «الكبير» (8990) ، والإسماعيلي في «المعجم» (2/726- 727 رقم 342) ، والدولابي في «الكنى» (1/141) ، والواحدي في «الوسيط» (4/483-484) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/164 و5/35) ، والحاكم (1/33) -وصححه، ووافقه الذهبي-، والبيهقي في «الشعب» (607، 5524) ، والأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (رقم 72- ط. زغلول) ، والبغوي في «شرح السنة» (2030) ، وابن عدي في «الكامل» (5/1158) من طرق عن عبد الله بن مسعود، وأوله: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ... » وفيه زيادة على المذكور. وقال الدارقطني في «العلل» (5/271) : «والصحيح موقوف» . وعزاه السيوطي في «المعجم الكبير» (1/172-173) إلى العسكري في «الأمثال» . قال أبو عبيدة: نعم، الموقوف على ابن مسعود -وهو عند البخاري، وأبي داود، والمروزي، والطبراني- أصح إسناداً، لكن الموقوف له حكم المرفوع، ويعضده شاهدان آخران، فيهما ما في تتمته من غير هذا القسم، انظرهما في «السلسلة الصحيحة» (2714) . وظفرت بما أخرجه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 519) عن عبيد بن عمير قال: «الدنيا هيّنة على الله، يعطيها من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب» ، وإسناده صحيح.

تفسير آيات في خلق الإنسان

فَأَوْعَى} [المعارج: 18] أمسَكَه في الوعاء، ولم يُنفقه في طاعة الله، فلم يؤدّ زكاةً، ولا وصَل رحِماً، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج: 19] ضجوراً شحيحاً جزوعاً من الهلع، وهي شدّة الحرص وقلة الصبر، والمفسرون يقولون: تفسير الهلوع ما بعده، وهو قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج: 20-21] إذا أصابه الفقر لا يصبر ولا يحتسب، وإذا أصابه المال منعه من حقِّ الله، ثم استثنى الله -عزَّ وجلَّ- من ذلك الموحدين فقال: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} [المعارج: 23] يقيمونها في أوقاتها، لا يَدَعونه آناء الليل والنهار؛ يعني: المكتوبة (¬1) . وسُئل عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أهُم الذين يصلّون أبداً؟ قال: لا، ولكنه الذي إذا صلّى لم يلتفت عن يمينه وعن شماله (¬2) ، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24] ؛ يعني: الزكاة المفروضة، {لِّلسَّآئِلِ} [المعارج: 25] ، وهو الذي يسأل، {وَالْمَحْرُوم} [المعارج: 25] الفقير الذي لا يسأل، يتعفّف عن السؤال (¬3) . ¬

(¬1) من قوله: أي: «تدعو النار ... » إلى هنا، من: «الوسيط» للواحدي (4/353) بالحرف. (¬2) أخرجه ابن وهب في «تفسيره» -ومن طريقه الطبري في «تفسيره» (23/268- 269) - قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرنا حيوة عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير: أنه سأل عقبة بن عامر الجهني، وذكره. وأخرجه الثعلبي في «الكشف والبيان» (10/40) من طريق حيوة، به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» (4/353) من طريق ابن لهيعة، عن يزيد، به. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/266) وعزاه للطبري، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وهو ليس في مطبوع «تفسير ابن أبي حاتم» ، ولا مطبوع «تفسير ابن المنذر» ! وأبو الخير هو: مَرْثَد بن عبد الله اليزني، ثقة فقيه، وسائر الرواة ثقات مصريون. وإسناده صحيح. (¬3) إلى هنا انتهى نقل المصنف من «الوسيط» مع تصرفه في سياق أثر عقبة، إذ أسنده الواحدي.

فائدة يرحل إليها

والحاصل أنه -سبحانه- بيّن أن الإنسان إذا أصابه خير لتَوسِعَةِ الرزق مَنَعَ، وإذا أصابه شرٌّ لضيقِ الرزق جزَعَ، إلا القائمين بالواجبات؛ فإنهم يُبتلون بالخير فلا يمنعون، بل يُعطُون غيرَهم ويحسنون لمن دونهم، ويُبتلون بالشرِّ فلا يَجزعون بل يصبرون، فهم يتواصَوْن بالصبر ويتواصَوْن بالمرحمة، إذا قدَروا رحموا اليتيم والمسكين والضعيف، وإن أُصيبوا صبروا على فرائض الله وأمره، {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] ؛ أي: امتحناهم بالنعم وبالمصائب (¬1) . والفاجرُ إن أُصيب جَزَع، وإن قَدَر ظلم، فهذا التفصيل ونحوه هو الصواب، دون إطلاق الجواب على أنه يمكن الفرق بين المالين بخلاف هذا -أيضاً-، وذلك بأن يقال: لا يلزم من الكثرة التي دعا بها لأنسٍ وجود مالٍ مدّخر، بل لعلها مالٌ يتجدّدُ له في كلِّ يوم من ربحٍ وغيرِه، وهو ينفده أولاً فأولاً، بخلاف التي دعا بها لغيره نفياً وإثباتاً. ثم رأيت في «مسند أحمد» ما يؤيد هذا، قال أحمد: حدثنا ابن أبي عدي، عن حُميد، عن أنس قال: دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سُلَيمٍ فأتته بتمرٍ وسمنٍ، فذكر الحديث. وفيه قول أم سليم له: خادمُك أنس ادعُ له، وفيه أنه ما ترك خير آخرةٍ ولا دنيا إلا دعا له به. وقال: «اللهم ارزقه مالاً وولداً، وبارِك له فيه» (¬2) ، قال أنس: فما من الأنصار إنسانٌ أكثرُ مالاً مني، وذكر أنسٌ أنه لا يملك ذهباً ولا فضةً غير خاتمه. وهذه الفائدة رحلة، وحينئذٍ فلا ينافي ما ورد من دعواته - صلى الله عليه وسلم - المتفق عليها وهي: «اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً» (¬3) . ¬

(¬1) انظر: «تفسير الطبري» (23/264- ط. هجر) ، «الوجيز» (2/1133) ، «المحرر الوجيز» (15/96) ، «اللباب» (19/365) . (¬2) سبق تخريجه (ص 146) . (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (13/240) ، ووكيع في «الزهد» (119) ، وأحمد (2/232، 446، =

من كرم عائشة رضي الله عنها

وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ -رضي الله عنها -كما أخرجه الترمذي وغيرُه مما صحّح الحاكم إسناده-: «يا عائشة! إن أردتِ اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلفي ثوباً حتى ترقعيه» (¬1) . والمروي في «الترمذي» وغيره عن أبي أمامة -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

= 481) ، وفي «الزهد» (1/40) ، والبخاري (6470) ، ومسلم (1055) ، والترمذي (2360) ، وابن ماجه (4139) ، والنسائي في الرقاق من «الكبرى» -كما في «تحفة الأشراف» (10/442) -، وأبو الشيخ في «أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -» (ص 268) ، وابن حبان (6334) ، وابن السني في «القناعة» (رقم 59-62) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/18) ، وأبو نعيم في «الأربعين على مذهب المتحققين» (رقم 7) ، والبيهقي في «السنن» (2/150 و7/46) ، وفي «الشعب» (1454) ، وفي «الدلائل» (1/ 339 و6/87) من حديث أبي هريرة. (¬1) أخرجه بنحوه الترمذي (1780) -وقال: «حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان» . وقال: «وسمعت محمداً يقول: صالح بن حسان منكر الحديث وصالح بن أبي حسَّان الذي روى عنه ابن أبي ذئب: ثقة» -، وأبو يعلى -مختصراً- (4610) ، وابن سعد في «الطبقات» (6/76) ، والحاكم (4/312) -وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» -، وابن بشران في «الأمالي» (رقم 134) ، وابن عدي في «الكامل» (4/1370) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/139-140) -، وابن السني في «القناعة» (رقم 64- 66) ، وابن الأعرابي في «الزهد» (رقم 89) ، والبيهقي في «الشعب» (5/157 رقم 6181) -وقال: «تفرد به صالح بن حسَّان، وليس بالقوي» -، والبغوي (12/44-45 رقم 3115) ، وأبو نعيم في «الأربعين على مذهب المتحققين» (رقم 39) ، و «ذكر أخبار أصبهان» (1/89) من حديث عائشة. وأورده الديلمي (8614) . والحديث مداره على صالح بن حسَّان. قال أحمد عنه: «ليس بشيء» ، وقال ابن أبي حاتم، وابن معين وأبو داود: «ضعيف الحديث» ، وقال النسائي: «متروك الحديث» . انظر: «تهذيب الكمال» (13/30-31) . وأورده الذهبي في «الميزان» (2/156) من منكراته، بينما أعله في «التلخيص» بالورّاق! ‍وهو متابع، ولم يعزه السيوطي في «الدر المنثور» (4/192) إلا للحاكم والبيهقي، وفاته الترمذي، وهو أعلى وأشهر!

أنه قال: «إن أغبط أوليائي عندي لَمؤمنٌ خفيفُ الحَاذِ، ذو حظٍّ من الصلاة، أحسنَ عبادةَ ربه، وأطاعَه في السرِّ، وكان غامضاً في الناس لا يُشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً فصبر على ذلك، ثم نفض يده، فقال: عُجّلَتْ منيّتُه، قلّت بواكيه، قلَّ تراثُه» (¬1) . وهكذا كان حال السلف فيما يتجدّد لهم من مالٍ (¬2) . ¬

(¬1) ‍ () أخرجه الطيالسي (1133) ، والحميدي (909) -ومن طريقه الخطابي في «العزلة» (ص 120) -، ووكيع في «الزهد» (133) ، وأحمد في «مسنده» (5/252 و255) ، وفي «الزهد» له (ص 11) ، وابن ماجه (4117) ، والترمذي (2347) ، والروياني في «مسنده» (رقم 1205، 1219) ، وابن الأعرابي في «الزهد» (رقم 102، 104، 105) ، وأبو بكر النجاد في «حديثه» (ق14/ب) ، والحاكم (4/123) ، وابن عدي (5/223) ، وابن أبي الدنيا في «التواضع والخمول» (13) ، والطبراني في «الكبير» (7829، 7860) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/25) ، والشجري في «أماليه» (2/201) ، والبيهقي في «الزهد» (196-198) ، والآجري في «الغرباء» (ص 53) ، والنقاش في «فوائد العراقيين» (رقم 20) -ومن طريقه أبو طاهر السلفي في «الفوائد الحسان» (ق 3/أ) -، والبغوي في «شرح السنة» (4044) من ثلاثة طرق عن أبي أمامة مرفوعاً، وفيها ضعف شديد، ففي الأولى: عبيد الله بن زحر، وعلي بن زيد، وفي الثانية: صدقة بن عبد الله ضعيف جداً، وأيوب بن سليمان مجهول، والثالثة: مسلسلة بالضعفاء، وأشد شيء فيها العلاء بن هلال، منكر الحديث، وفيها هلال بن عمر ضعيف، وأبوه مجهول. وللحديث شواهد لا يفرح بها سبق الكلام عليها بتفصيل، ولله الحمد والمنّة. وأورده الدينوري في «المجالسة» (4/509) برقم (1756) من كلام ابن سنان العوفي. (¬2) أورد كثيراً من أحوالهم في النفقة والكرم جمع، وأفرد ذلك غير واحد بمصنفات طبع منها غير كتاب، مثل: البُرجلاني له «الكرم والجود وسخاء النفوس» ، وأبو هلال العسكري له «فضل العطاء» (قيد التحقيق بقلمي) ، والدارقطني له «المستجاد» ، والحربي له «إكرام الضيف» ، والتنوخي له «المستجاد من فعلات الأجواد» (قيد الطبع بتحقيقي) ، وطبع سابقاً مرتين، ولابن المبرد «المستزاد على المستجاد» ، وطبع له «إتحاف النبلاء بأخبار وأشعار الكرماء والبخلاء» ، و «مراقي الجنان بالسَّخاء وقضاء حوائج الإخوان» ، وللمناوي «الدر المنضود في ذم البخل ومدح الكرم والجود» ، وللمصنِّف «الجواهر المجموعة» ، وطبع -أيضاً- «الكرم والجود والسخا» لأسعد الصاغرجي، و «نوادر الكرام في الجاهلية والإسلام» لإبراهيم زيدان. =

من كرم الليث بن سعد

قالت أم ذَرَّة -فيما أخرجه ابن سعد-: أُتيت عائشةَ -رضي الله عنها- بمئة ألفٍ، ففرّقَتْها وهي يومئذٍ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقتِ أن تشتري بدرهمٍ لحماً تفطرين عليه؟! فقالت: لو كنتِ أذكرتني لفعلتُ (¬1) . وكان دخْلُ الإمام الليث بن سعد -رحمه الله- في السنة ثمانينَ ألف دينارٍ، ¬

= وللمحدِّثين نصيب أكبر في هذا الباب، والمفقود منه غير قليل. وانظر: «معجم الموضوعات المطروقة» (2/1036- 1037) . وللمصنف كلمة مجملة في «الأجوبة المرضية» (2/588 و3/1002) نحو المذكورة هنا. (¬1) أخرجه الدارقطني في «المستجاد من فعلات الأجواد» (ص 60 رقم 36) : حدثنا عباس ابن عبد السميع الهاشمي: نا أحمد بن الخليل، نا أبو النضر: نا سليمان بن المغيرة، عن هشام بن عروة قال: حدثتنا أم ذرة -وكانت تدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - - قالت: دخلت على عائشة، وعندها مئة ألف درهم، فجعلت تقسم حتى ما بقي منها شيء، ثم قالت: ... وذكره، وإسناده حسن. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (8/67) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/47) من طريق محمد بن خازم: ثنا هشام بن عروة، عن ابن المنكدر، عن أم ذرة بنحوه. وأخرجه الدارقطني -أيضاً- «في المستجاد من فعلات الأجواد» (ص 61 رقم 37) ، والحاكم في «المستدرك» (4/13) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/47، 47-48، 49) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (59/192) من طريق هشام بن عروة؛ عن أبيه، «أن معاوية بن أبي سفيان بعث إلى عائشة مرة بمئة ألف،....» وذكره بنحوه بأسانيد، بعضها صحيحة. وذكر مصعب بن عبد الله الزبيري في «نسب قريش» (ص 295) -ومن طريقه أبو القاسم البغوي في «مسند علي بن الجعد» (رقم 1673) - قال: محمد، وأبو بكر، وعمر بنو المنكدر بن عبد الله بن الهُدير بن محرز بن عبد العُزَّى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة، وكان المنكدر خال عائشة، فشكا إليها الحاجة فقالت له: أول شيء يأتيني أبعث به إليك، فجاءتها عشرة آلاف درهم، فبعثت بها إليه، فاشترى المنكدر جارية من العشرة آلاف، فولدت له محمداً وأخويه. ونحو المذكور: أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (رقم 754) ، وأحمد في «الزهد» (ص 165) ، وابن السني في «القناعة» (رقم 29) . والخبر في «التذكرة الحمدونية» (2/307) -وفيه أن معاوية هو المرسل! -، و «إحياء علوم الدين» (3/363) ، و «الجواهر المجموعة» (رقم 139) للسخاوي، و «المحاسن والمساوئ» (ص 186) -وفيه: «أم ذر» !! -، و «المستجاد» للتنوخي (ص 17 رقم 4- بتحقيقي) . وانظر: ما ذكرناه في (مقدمة التحقيق) (ص 14) .

من كرم الشافعي

وما وجبت عليه زكاةٌ قطّ، بل كان يُنفِدها أولاً فأولاً، بحيث يعطي الألف دينار دفعةً، والخمس مئة ونحو ذلك (¬1) . وأما إمامنا الشافعيُّ -رحمه الله- فإنه قَدِم مرةً من اليمن إلى مكة ومعه عشرون ألف دينارٍ، فضرَب خيمةً خارجاً من مكةَ، وأقام حتى فرّقها كلّها (¬2) . ¬

(¬1) المذكور مأخوذ من «الإحياء» (8/186-187- شرحه «إتحاف السادة المتقين» ) بتصرف، وأورد الزّبيدي قصصا ً وحكايات تدلل على غاية جود الليث وكرمه، وقال (8/187) : «وروى محمد بن رمح قال: كان دخل الليث في كل سنة ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله عليه زكاة درهم قط. وقال شعيب بن الليث: يستغلُّ أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفاً، تأتي عليه السنة وعليه دين. وقال أبو سعيد بن يونس: وكانت غلّته من قرية قرقشندة على أربعة فراسخ من مصر، وبها كانت ولادته» . قال أبو عبيدة: وانظر قصصاً في إعطائه وكرمه في: «المعارف» (ص506) لابن قتيبة، و «المجالسة» (4/27 رقم 1179- بتحقيقي) ، و «شعب الإيمان» للبيهقي (رقم 10949، 10950، 10951، 10952، 10960) ، و «تاريخ بغداد» (13/7، 8) ، و «الحلية» (7/319) ، و «وفيات الأعيان» (4/130) ، و «المستجاد من فعلات الأجواد» (ص 162-163 رقم 88 - بتحقيقي) ، و «تهذيب خالصة الحقائق» (1/259) ، و «السير» (8/148-149) ، و «الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية» (1/242- ضمن «مجموعة الرسائل المنيرية» ) ، و «الجواهر المجموعة» (ص 94 رقم 170، 171) للمصنف، و «مراقي الجنان» (ص 250- 253) لابن عبد الهادي. (¬2) اختصر المصنف الخبر، وأسنده مخرِّجوه إلى الربيع قال: سمعتُ الحميدي يقول: قدم الشافعي -رحمه الله- من صنعاء إلى مكة، بعشرة آلاف دينار، فضرب خباءة في موضع خارج من مكة، ونثر الدنانير على ثوب، ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض ويعطيه، حتى صلى الظهر، ونفض الثوب وليس عليه شيء. أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (9/130) : حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم: ثنا عبد الملك بن محمد بن عدي قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الحميدي يقول: ... فذكره بنحوه. وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/451- 452- رقم 10960) ، وفي «مناقب الشافعي» (2/220) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الحميدي يقول: «قدم الشافعي ... » وذكره بنحوه. =

وأرسل إليه أمير المؤمنين هارون الرشيد مرةً بخمسةِ آلاف دينارٍ، فلما وصلت إليه استدعى بالحجَّام فأخذ من شعره، فأعطاه خمسين ديناراً، ثم أخذ رقاعاً فصرَّ من تلك الدنانير صُرراً، ففرقها في القرشيين الذين هم في الحضرة، وصرَّ لمن يعرفه من أهل مكة حتى ما رجع إلى بيته إلا بأقل من مئة دينارٍ (¬1) . ولو سردتُ أحوال الصحابة فمَنْ بعدهم من الأئمة والخلفاء والملوك وسائر الناس في ذلك إلى وقتنا هذا لكان شيئاً عجباً (¬2) ، ولكن قد ذكرتُ من ذلك جملةً ¬

= والخبر أخرجه التيمي الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (2/641) ، من طريق محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن الربيع، عن الحميدي، بنحوه. وفيه «عشرون ألفاً» -كما عند المصنف- بدل «عشرة آلاف» . والخبر أورده الطرطوشي في «سراج الملوك» (1/389) ، بنحوه، والتنوخي في «المستجاد» (رقم 96- بتحقيقي) ، وذكره القشيري في «الرسالة» (ص 114) ، والغزالي في «الإحياء» (8/189- مع «الإتحاف» ) ، والذهبي في «السير» (10/38) ، والفخر الرازي في «مناقب الشافعي» (ص313) ، وابن حجر في «توالي التأنيس» (ص123) -وتكلم على اختلاف ألفاظه-، والمصنف في «الجواهر المجموعة» (172) ، والمناوي في «مناقب الشافعي» (ص 120) . • فائدة: قال البيهقي: «وقال غيره: عن الربيع في هذه الحكاية: وفرق المال كله في قريش، ودخل مكة» . (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص166-167) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/131) ، والبيهقي في «مناقب الشافعي» (2/226) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (51/ 271) ، وذكره النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/57) ، والذهبي في «السير» (10/38) ، وابن حجر في «توالي التأنيس» (ص 123) ، والمناوي في «مناقب الشافعي» (ص 119) . وانظر: «بلوغ الأماني» (25-26) ، إذ ورد ذكر لمحمد بن الحسن في الخبر في رواية ابن أبي حاتم، والله الموفق والعاصم. (¬2) إذ فيها ما يدلل على أنهم أجود من السحاب، وهي شاهد عدل على طبائع وسجايا الصحابة والصالحين، وقد قيل: إن الله خص العرب بالاختيار؛ لتوفّر (الكرم) و (الصدق) فيهم، والأول عماد (المعاملات) ، والثاني عماد (العبادات) . ونحن اليوم نعد إعطاءهم تبذيراً! ولذا أتى على أصحاب هذه الأخبار بضعة قرون، وقلَّ أن قام بعدهم من جرى على طريقتهم، وإذا حلَّلنا نفسية أهل تلك القرون =

في كتابي المسمى بـ «الجواهر المجموعة» (¬1) ، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: «لقد رأيتنا وما صاحب الدينار والدرهم بأحق به من أخيه المسلم، ثم لقد رأيتنا بأخرةٍ الآن والدينار والدرهم أحب إلى أحدِنا من أخيه المسلم» (¬2) . وما أحسن قول القائل (¬3) : ¬

= بميزان عصرنا ما استطعنا إلا التسليم مع بالغ الدهشة، ولعلّنا نعد فعلهم (سفهاً) !! حاشاهم، فإن لكل عصر موازين لأمواله قد لا تشابه عصراً آخر، والقمة في التصور والتطبيق كان في حال السلف وفعلهم، وتأمّل ما ذكره المصنّف جيداً، فإنّ به ومن خلاله نستطيع أن نضع كل شيء في مكانه، والتطبيق العملي للسلف -فيما أشار إليه المصنّف- هو الأنموذج العلمي الناصع لفهم نصوص الكتاب والسنة، وقد أحسن المصنف في تأييد ما ذهب إليه من تفصيل بتأكيد ما كانوا عليه من فهم وعمل. (¬1) تتمة اسمه: «والنوادر المسموعة» ، وهو مطبوع سنة 1421هـ عن دار ابن حزم، بتحقيق الأستاذ محمد خير رمضان يوسف في (454) صفحة. وانظر عنه: كتابي «مؤلفات السَّخاوي» (رقم 182- الطبعة الثانية) ، وهي مزيَّدة ومنقَّحة. وما أشار إليه مذكور فيه (ص70، وما بعدها) . (¬2) أورده المصنف في «الجواهر المجموعة» (128) دون آخره: «ثم لقد رأيتنا ... » ، ولم يعزه فيه لأحد -أيضاً-، ثم وجدته مسنداً هكذا عند البيهقي في «الشعب» (رقم 10870) من طريق سعدان ابن نصر -وهو ليس في «جزئه» المشهور المطبوع-: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن نافع، عن ابن عمر. وإسناده صحيح. • تنبيه مهم: ورد هذا القول عن ابن عمر -أيضاً- ثم قا ل-رضي الله عنه-: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم ... » كما في رواية البيهقي في «الشعب» (10871) -أيضاً-، وقد خرّجت الحديث المذكور في تعليقي على «إعلام الموقعين» (5/77-78) ، ولله الحمد والمنّة. (¬3) أول بيتين في «المناقب والمثالب» (ص232 رقم 729) منسوبان لحاتم الطائي! وليسا في «ديوانه» ، وهما ليسا له. والصحيح أنهما لبكر بن النّطاح، وهما في «ديوانه» (239) ضمن (شعراء مقلّون) و (2/421) ضمن (أشعار اللصوص) ، والثاني وقبله آخر في «ثمرات الأوراق» (126) لأبي دلف العجلي، وهما بلا نسبة في «العقد الفريد» (1/198- ط. دار الكتب العلمية) ، و «روضة العقلاء» (213) ، والثاني -غير منسوب أيضاً- في «بقية الخاطريات» (61) . وأول اثنين عند الكلاباذي في «بحر الفوائد» (ص 331) ، وقبلهما: «أنشدني أبو القاسم الحكيم -رحمه الله- ... » ، وعقبهما في بيان (شرف الفقر) : «وكفاك بفضل بينهما أن ذا المال يحتاج إلى التطهير، ولولا التدنس به لم تطهره الزكاة» .

ملأتُ يديَّ من الدُّنيا مراراً ... فما طَمِعَ العَواذِلُ في اقتصادي ولا وجبَتْ عليّ زكاةُ مالٍ ... وهل تجبُ الزكاةُ على جوادِ بذرتُ المالَ في أرض العطايا ... فأصبحَتِ المكارمُ من حصادي ولو نلتُ الذي يهواه قلبي ... لوسّعتُ المعاشَ على العباد ويُستأنَس لما أشرت إليه بكون مال المرء النافع في الحقيقة هو الذي يقدمه بين يديه (¬1) ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - وقد سأل أصحابَه: «أيكم مال وارثِه أحبّ إليه من ماله؟» . قالوا: يا رسولَ الله! ما منا أحدٌ إلا ومالُه أحب إليه من مال وارثه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اعلموا ما تقولون» . قالوا: ما نعلم إلا ذاك يا رسولَ الله، قال: «ما منكم رجلٌ إلا مالُ وارثه أحبُّ إليه من ماله» . قالوا: كيف يا رسولَ الله؟، قال: «إنما مالُ أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» (¬2) . ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه: «أمالُك أحب إليك أم مال مواليك؟» ، ¬

(¬1) لا يكون ذلك إلا بترويض النفس، والاستشعار أن الصدقة لا تُنقص المال، بل تزكّيه وتنمّيه. أخرج مسلم (رقم 2588) عن أبي هريرة رفعه: «ما نقصت صدقة من مال» . واعلم أن من جبلّة الإنسان الشح بالمال، فأراد الشرع أن يقلع ذلك بمثل هذه القناعة، ولذا كان بعض السلف يعطي السُّؤال ويقول لهم: «مرحباً بمن يوفّر مالنا لدارنا» نقله القرافي في «الذخيرة» (3/5) . وأخرج ابن خزيمة (2457) ، وأبو عبيد (904) ، وابن زنجويه (1331) ؛ كلاهما في «الأموال» ، والبزار (943- زوائده) ، وأحمد (5/350) ، والطبراني في «الأوسط» (1038) ، والحاكم (1/417) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/187) ، و «الشعب» (3474) من حديث بريدة مرفوعاً: «ما يُخرج رجل صدقته حتى يفُكَّ بها لحيَيْ سبعين شيطاناً» . وإسناده صحيح. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (1268) . وورد في الباب موقوفاً على أبي ذر، أخرجه ابن أبي شيبة (3/111) ، وابن المبارك في «الزهد» (649) ، وابن زنجويه (1332) ، والبيهقي في «الشعب» (3475) ، والراوي له عنه راشد بن الحارث مجهول، فالإسناد ضعيف. وانظر: «فيض القدير» (5/642، 644- ط. دار الكتب العلمية) . (¬2) أخرجه بنحوه أحمد (1/382) ، والبخاري (6442) - مختصراً، وفي «الأدب المفرد» (153) ، والنسائي (6/273) ، وأبو يعلى (5163) ، والشاشي (836) ، وابن حبان (3330) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/128) ، والبيهقي (3/368) ، والبغوي (4057) من حديث ابن مسعود.

قلت: لا، بل مالي، قال: «فإن لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو أعطيت فأمضيت، وسائره لمواليك» (¬1) ، فقلت: أما والله لئن رجعت لأقلنَّ عددها. وشاهد ذلك في «الصحيح» ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأمضى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» (¬2) . أو تكون الكثرة المدعو بها لأنس هي الكثرة من المواشي، وكذا من الزرع والغرس، الذي قال - صلى الله عليه وسلم - فيه -كما في «صحيح مسلم» وغيرِه- من حديث جابرٍ وغيرِه: «ما من مسلمٍ يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو بهيمة أو شيء -وفي لفظٍ: «أو طائر» - إلا كان له به صدقةً» (¬3) . وذلك كان أكثر أموال الأنصار، ¬

(¬1) أخرجه مطولاً البخاري في «الأدب المفرد « (953) ، والطبراني في «الكبير» (18/870) ، والحاكم (3/612) ، والبغوي في «معجم الصحابة» (5/3 رقم 1961) ، والبيهقي في «الشعب» (3336) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (24/58) من حديث الحسن البصري، عن قيس بن عاصم المنقري السعدي، وعزاه الهيثمي في «المجمع» (3/107) إلى الطبراني، وقال: «وفيه زياد الخصاص وفيه كلام وقد وثق» . قلت: كذا فيه «الخصاص» ! وصوابه «الجصاص» بفتح أوله وهو جيم، خلافاً لما في مطبوع «المعجم» وغيره، ضبطه ابن ناصر الدين في «التوضيح» (2/365) ، وترجمه الخطيب في «تاريخ بغداد» (8/474) ، وتكلم فيه غير واحد. وفي «مصنف عبد الرزاق» (4/30 رقم 6868) عن ابن جريج قال: «حُدثت أن رجلاً من بني نهدٍ قال:....» وذكر الحديث. وأخرجه مختصراً -دون ذِكر موطن الشاهد-: أحمد (5/61) ، والطيالسي (1085) ، وابن سعد في «الطبقات» (7/36) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1163) ، والبزار في «مسنده» (1378- زوائده) من طرق، عن قيس بن عاصم. (¬2) أخرجه أحمد (2/368) ، ومسلم (2959) ، وابن حبان (3244، 3328) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/321) ، والبيهقي (3/368) ، وفي «الشعب» (3333) ، وابن عبد البرّ في «التمهيد» (2/5) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه أحمد (3/147، 229) ، والبخاري (2320، 6012) ، ومسلم (1553) ، والترمذي (1382) ، وأبو يعلى (2851) ، والبيهقي (6/137) ، والبغوي (1649) من حديث أنس بن مالك.

تحقيق روايات حديث أنس بكثرة المال والولد

الذي قال -رضي الله عنه وعنهم-: أنه من أكثرهم مالاً. ويؤيده قوله -كما مضى قريباً- أنه لا يملك ذهباً ولا فضة غير خاتمه، وكذا يستأنس له بما ورد أنه كان له بستانٌ يحمل في السنة مرتين، وكان فيه رَيحان يجيء منه ريح المسك. وفي «الأدب المفرد» (¬1) للبخاري من حديث سِنانٍ، عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل علينا (أهل البيت) فدخل يوماً فدعا لنا، فقالت أم سليم: خويدمك! ألا تدعو له؟ قال: «اللهم أكثر مالَه وولدَه، وأطل عمرَه واغفر له» ، فدعا لي بثلاثٍ، فدفنت مئة وثلاثة، وإن ثمرتي لتطعِم في السنة مرتين، وطالت حياتي حتى استحييت من الناس، وأرجو المغفرة. وجاءه قيّمُه في أرضه فقال: يا أبا حمزة عطِشَت أرضك، فتردَّى -أي: لبس رداءَه- ثم خرج إلى البرية، ثم صلى ما قضى الله له، ثم دعا، فثارت سحابة وغشيَت أرضَه، ومطَرت حتى ملأت صهريجاً (¬2) له، وذلك في الصيف فأرسل بعض أهله، فقال: انظروا أين بلغت، فإذا هي لم تَعدُ أرضه (¬3) . وشبيه قصة أنس -رضي الله عنه- هذه ما صحَّ في «مسلمٍ» من حديث عبيد ابن عُمير الليثي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بينما رجل بفلاةٍ من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسقِ حديقة فلانٍ، فتنحى ذلك ¬

(¬1) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (رقم 653) ، وقد سبق تخريجه مطولاً بطرقه ورواياته. (¬2) كذا جاءت مجوّدة بخط الناسخ أبي الفضل الأعرج، وهي بخط السخاوي في «جواب ... » الملحق بآخر رسالتنا هذه «صهريزة» مجوّدة. (¬3) أخرجه بهذا اللفظ: ابن أبي الدنيا في «مجابو الدعوة» (رقم 79) -ومن طريقه اللالكائي في «السنة» (رقم 110- 111) ، وابن بشكوال في «المستغيثين بالله تعالى» (رقم 19- ط. دار الكتب العلمية، ورقم 20- ط. دار المشكاة) -، والبيهقي في «الدلائل» (6/148) من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس. وإسناده حسن. وبنحوه عند ابن سعد (7/21) من طريق ثمامة، عن أنس.

السحاب فأفرغ ماءَه في حرّة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كلَّه، فتتبع الماء، فإذا رجلٌ قائم في حديقته، يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان -للاسم الذي سمع في السحابة- فقال له: يا عبدَالله! لِم تسألني عن اسمي فقال: إني سمعتُ صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلانٍ لاسمك فما تصنع فيها؟! قال: أما إذا قلتَ هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثُلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأردّ فيه ثلثاً» (¬1) . والمال الآخر هو النقد المدّخر وغيره، ثم إن مَنْ كره المال؛ إنما كرهه للحساب عليه، فإنه لا تزول قدماه حتى يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه (¬2) ، ولذا جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- مرفوعاً: «يا ابن آدم ما تصنع بالدنيا! ¬

(¬1) أخرجه الطيالسي (2587) ، وأحمد (2/296) ، ومسلم (2984) ، وابن حبان (3355) ، وابن منده في «التوحيد» (رقم 47) ، والطبراني في «الدعاء» (2/1262 رقم 988) ، والنقاش في «فنون العجائب» رقم (23، 24- بتحقيقي) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/133) ، و «الشعب» (3 رقم 3406) ، وأبو نعيم (3/ 275- 276) ، وفي «ذكر أخبار أصبهان» (2/192) ، واللالكائي في «السنة» (رقم 31، 32- الكرامات) ، والقشيري في «الرسالة» (162) ، وابن حجر في «الأمالي المطلقة» (7) ، من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه الترمذي (2416) ، وأبو يعلى (5271) ، والبزار في «البحر الزخار» (1435) ، والطبراني في «الكبير» (9772) ، وفي «الصغير» (1/269) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (12/440) ، وفي «الموضح» (2/33) ، وابن عدي في «الكامل» (2/353) ، والبيهقي في «الشعب» (1784) ، وفي «الزهد» له (717) ، والآجري في «أخلاق العلماء» (116) ، وابن النجار في «ذيل تاريخ بغداد» (3/176) من حديث عبد الله بن مسعود، وفي إسناده حسين بن قيس الرحبي المعروف بحنش، وهو ضعيف. وقال الترمذي: «هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين يضَعَّف في الحديث من قِبل حفظه» . وقال البزار عقبه: «وهذا حديث لا نعلمه، يروى عن ابن مسعود إلا من هذا الوجه، وقد تقدم ذكرنا لحسين بن قيس بلينه» . والحديث حسن بشواهده، ومنها حديث معاذ بن جبل، وحديث أبي برزة الأسلمي. وانظر تتمة تخريجه في تعليقنا على «المجالسة» (1/299 رقم 7) .

فضل الفقراء

حلالُها حساب، وحرامُها عذاب» (¬1) . وكون الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يومٍ وهو خمس مئةِ عامٍ، وإن كان ورد أنه يُخَفّف على المؤمنين (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه الديلمي في «الفردوس» (رقم 8192) من طريق الدارقطني في «الأفراد» عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: «يا ابن ادم! ما تصنع الدنيا! حلالها حساب، وحرامها عذاب» . وإسناده واهٍ جداً، فيه عمر بن هارون البلخي، قال ابن مهدي وأحمد والنسائي: «متروك الحديث» ، وقال يحيى: «كذاب خبيث» ، وقال أبو داود: «غير ثقة» ، وقال ابن المديني والدارقطني: «ضعيف جداً» ، وقال صالح جَزَرة: «كذّاب» . وانظر: «الميزان» (3/228) . وعزاه في «كنز العمال» (3/236 رقم 6325) للحاكم في «تاريخه» عن أبي هاشم الأيلي، عن أنس. وأخرجه ابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 17) ، ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (7/371 رقم 10622) بسند منقطع عن علي موقوفاً بلفظ: «حلالها حساب، وحرامها النار» . وضعَّفه العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» ؛ كما في «إتحاف السادة» للزبيدي (8/120 و10/25) موقوفاً، وقال عن المرفوع: «لم أجده» !! وأخرجه ابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 211) عن الحسن قوله، وهو الأشبه، ولكن إسناده ضعيف، فيه أبو عباد الزاهد، لا يحل الاحتجاج به؛ كما قال ابن حبان في «المجروحين» (3/158) . وفي الباب عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال ابن الجوزي في «سيرة عمر» (ص 141) : «عن الحسن: أن عمر أُتي بشربة عسل، فذاقها، فإذا ماء وعسل، فقال: «اعزلوا عني حسابها، اعزلوا عني مؤنتها» » . وذكره الأبياري في «الورع» (ص22) ، وقال قبله: «في قول الصديق أو غيره» . وأخرجه ابن شبة في «تاريخ المدينة» (3/803-804) ، بلفظين آخرين، آخرهما: «..استسقى، فأتي رجل بقدح من زجاج -أو قال: من قوارير- فيه عسل، فقال -أي: عمر-: «ما رأيت كاليوم إناءً أحسن ولا شراباً أحسن» . ثم قال: «شراباً هو أيسر في المسألة من هذا» ؛ فأتي بماء فشرب. ونحوه في «الزهد» (ص 119) لأحمد، و «الزهد» (رقم 618) لابن المبارك، و «الزهد» (94، 95) لأبي داود، و «الطبقات الكبرى» (3/319) لابن سعد، و «مناقب عمر بن الخطاب» (ص 142) لابن الجوزي، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (رقم 618) لعبد بن حميد بأسانيد بعضها حسن. (¬2) سبق تخريجه.

من فضائل أبي الدرداء

وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: بُعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا تاجر، فأردت أن تجتمع لي التجارةُ والعبادةُ؛ فلم تجتمعا، فرفضتُ التِّجارة، وأقبلتُ على العبادة. و [الله] (¬1) الذي نفس أبي الدرداء بيده! ما أحبُّ أنّ لي اليوم حانوتاً على باب المسجد لا تخطئني فيه صلاة أربحَ فيه كل يوم أربعين ديناراً، وأتصدَّقُ بها كلَّها في سبيل الله -عز وجل-. قيل له: يا أبا الدرداء! وما تكره من ذلك؟ قال: شدة الحساب. وفي لفظ: أحبُّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. رواهما أبو نعيم في «الحلية» (¬2) . ¬

(¬1) مثبتة في الهامش بخط السّخاوي ضمن الإلحاق، وهي غير موجودة في «الحلية» . (¬2) أخرجه بتمامه أبو نعيم في «الحلية» (1/209) . وأخرج القسم الأول منه إلى قوله (وأقبلت على العبادة) : هناد في «الزهد» (رقم 660) ، وابن سعد في «طبقاته» (7/391- 392) ، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/16 و13/316) ، وأحمد في «الزهد» (138) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/209) ، وابن عساكر في «تاريخه» (47/107، 107-108، 108) . وأخرج القسم الثاني منه إلى قوله: (وأتصدق بها كلها في سبيل الله) : أحمد في «الزهد» (ص 170) ، وأبو داود في «الزهد» (رقم 255) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/209) . وأخرج القسم الثاني والثالث منه: أبو نعيم في «الحلية» (1/209) ، وابن عساكر في «تاريخه» (47/108) . وإسناد القسم الأول: الأعمش عن خيثمة قال: قال أبو الدرداء. ورواته ثقات، وهو منقطع، ولذا قال ابن عساكر عقبه: «هذا مرسل» . وإسناد أبي داود للقطعة الثانية: الأعمش عن بعض أصحابه، عن أبي الدرداء. وهو ضعيف، ولعل المبهم هو خيثمة، إلا أن إسناد أحمد وأبي نعيم (عبد الله بن بُجير، عن أبي عبد رب، عن أبي الدرداء) . وأبو عبد رب هو الدمشقي الزاهد، مقبول، أي: إذا توبع. وعبد الله بن بَحِير، كذا الصواب، وليس (ابن بجير) -بالجيم، وثقه ابن معين، واضطرب فيه =

رؤيا لعوف بن مالك

وعنده -أيضاً- عن عوف بن مالك -رضي الله عنه- أنه رأى في المنام قُبَّةً من أدم، ومرجاً أخضرَ، وحول القبة غنم رُبوضٌ تجترّ، وتبعَرُ العجوة. قال: فقلت: لمن هذه القبة؟ فقيل: لعبد الرحمن بن عوف، قال: فانتظرنا حتى خرج، فلما خرج؛ قال لي: يا عوف! هذا الذي أعطانا الله بالقرآن، فلوا أشرفتَ على هذه البنية (¬1) لرأيت ما لم تَرَ عينُك، ولم تسمع أُذُنك، ولم يخطر على قلبك، أعدَّه اللهُ لأبي الدرداء؛ لأنه كان يدفع الدنيا بالراحتين والنحر (¬2) . ولكن كان سفيان الثوريُّ -رحمه الله- يقول: «لأن أخلف عشرة آلاف درهمٍ ¬

= كلام ابن حبان. فهذا الإسناد لين. أما إسنادا أبي نعيم وابن عساكر: فعن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة قال: قال أبو الدرداء. وقال عنه ابن عساكر: «منقطع» وهو كذلك. بقي إسناد الأثر بتمامه فهو كالإسناد السابق، إلا أن خلافاً وقع فيه على المحاربي، فمنهم من رواه عنه، وجعله (عن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن أبي الدرداء) ، وهذا موصول، ولعل هذه الطرق تشهد لبعض ما فيه. (¬1) كذا مجوّدة بخط السّخاوي، وكذا في أصل «تاريخ دمشق» ، وفي مطبوع «الحلية» : «الثنيَّة» . (¬2) من قوله السابق: «وعن أبي الدرداء ... » إلى هنا من إلحاق بخط السخاوي في هامش الأصل، وأثبت في محله «ينظر الورقة» ، وأثبت الهامش مطولاً -وهو من ضمن النماذج المرفقة عن النسخة المعتمدة في التحقيق-، وتممه السخاوي في هامش الورقة التي قبلها، وكتب عقبه بخطه: «يتلوه: ولكن كان سفيان» . وهذا الخبر، أخرجه أحمد في «الزهد» (167) -ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (1/210) - وابن أبي الدنيا في «المنامات» (رقم 24- ط. ليئة) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/158) -، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (1647) ، وابن عساكر (47/158) ، من طريق ليث بن سعد عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جُبير بن نفير، عن عوف به. وإسناده حسن. وأبو الزاهرية حُدَير بن كريب: صدوق. وانظر في (تأويل المرج) كتاب ابن قتيبة «تعبير الرؤيا» (رقم 148) وتعليقي عليه.

يحاسبني اللهُ عليها أحبّ إليَّ مِن أنْ أحتاجَ إلى الناس» (¬1) . ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك إن تذرَ ورثتك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس» (¬2) . وكذا قوله لكعب بن مالك حين استشاره في الخروج مِن مالِه كلِّه: «أمسك عليك بعضَ مالِك فهو خيرٌ لك» (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/381 و8/271) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/14) ، والذهبي في «السير» (7/241) من طريق حذيفة بن قتادة المرعشي قال: قال لي سفيان الثوري: ... فذكره. وأورده الزمخشري في «الكشاف» (1/247) عن السلف، وعلل ذلك في رواية لأبي نعيم (6/380) ، فقال: «إن عامة من داخل هؤلاء -أي: الأمراء- إنما دفعهم إلى ذلك العيال والحاجة» . وكانت له بضاعة مع بعض إخوانه، وكان يقول: «ما كانت العدة -المال المعد- في زمان أصلح منها في هذا الزمان» ، ونحوه ما في «الحث على التجارة» (رقم 18) ، وسيأتي قريباً أنه كان يعتبر المال سلاحاً. (¬2) أخرجه مالك في «الموطأ» (1495) ، والطيالسي (195) ، والدارمي (3196) ، والشافعي في «السنن المأثورة» (536) ، وابن أبي شيبة (11/199) ، وأحمد 1 (/179) ، والبخاري (56، 3976، 5668، 6373) ، ومسلم (1628) ، وأبو داود (2864) ، وابن ماجه (2708) ، والترمذي (2116) ، والنسائي (6/241) ، وابن سعد في «الطبقات» (3/144) ، والبزار (1085) ، والمروزي في «السنة» (150) ، وابن حبان (4249، 6026) ، وأبو يعلى (747) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (302) ، وفي «الآحاد والمثاني» (217) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/379) ، والبيهقي (6/268) ، والبغوي (1459) ، وابن عبد البرّ في «التمهيد» (8/376) من حديث سعد بن أبي وقاص. (¬3) أخرجه مطولاً ومختصراً: أحمد في «مسنده» (3/456 و6/389) ، والبخاري (2950، 3889، 6690) ، ومسلم (2769) ، وأبو داود (3317، 3318) ، والترمذي (3102) ، وابن ماجه (1393) ، والنسائي (7/22) ، وفي «الكبرى» (5619) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (9744) ، وأبو عوانة (4/81) ، وابن حبان (3370) ، والطبري في «تفسيره» (12/64-ط. هجر) ، وابن خزيمة (2442) ، والطبراني في «الكبير» 19/ (96) ، والبيهقي (2/370) من حديث كعب بن مالك. وفي الباب عن أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه، أراد أن يتصدّق بجميع ماله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجزئك من ذلك الثلث» . أخرجه مالك في «الموطأ» (2/481) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (16397) ، وأحمد (3/452 -453) ، والدارمي (1/390) ، وأبو داود (3319، 3320) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/385) ، وابن حبان (3371) ، والطبراني في «الكبير» (4509) ، والبيهقي (4/181) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (6/378) . =

من جمع المال ليكف نفسه عن غيره

وقال الثوريُّ مرةً لمن عاتبه في تقليب الدنانير: دعنا عنك فإنه لولا هذه لتمندلَ الناس بنا تمندلاً (¬1) . وفي لفظٍ عنه: أنه قال لمن عاتبه على بضاعةٍ له يقلّبها: لولاها لتمندل بي بنو العباس (¬2) ، بل جاء عنه أنه قال: المال في هذا الزمان سلاح المؤمن (¬3) . ¬

= • فائدة: دل الحديث على الحث على أن يبقي المالك لنفسه عند الصدقة والإنفاق في سبيل الله بعضاً من ماله يقيم به حياته، وحياة من يعول، وهذا حال جل السّلف، قال شيخنا الألباني -رحمه الله- في «السلسلة الصحيحة» (2/103) بعد كلام: «من المقطوع به أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما من أغنياء الصحابة لم ينفقوا أموالهم كلها، بل ماتوا وقد خلفوا لورثتهم أموالاً طائلة، كما هو مذكور في كتب السيرة والتراجم» انتهى. قال أبو عبيدة: قد يقال أنه ثبت أن أبا بكر -رضي الله عنه- قد تصدق بكل ماله، وعمر -رضي الله عنه- بشطر ماله. والواقع أن هذا من أبي بكر كان في ظروف صعبة مرت بالمسلمين حثَّ فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الإنفاق، وقبل من كل ما أتى به. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الإنفاق يكون من كل واحد بحسب حاله ومقدار إيمانه فترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر يفعل ذلك لعلمه بحاله، وأن ذلك وسط بالنسبة إلى قوة إيمانه وحرصه على التضحية في سبيل دينه. قال النووي: «مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو يصبر على الإضاقة والفقر. فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه» . وانظر في المسألة: «الفروع» (2/651) ، «المبدع» (2/442) ، «المغني» (3/83-84) ، «الإنصاف» (3/267) ، «مراقي الجنان بالسخاء وقضاء حوائج الإخوان» (ص331- 332) ، «فيض القدير» (3/475) ، «الملكية في الشريعة» (3/13) . (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 70) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/381) ، وأورده المزي في «تهذيب الكمال» (1/ق513) ، والذهبي في «السير» (8/241) . وانظر: التعليق الآتي. (¬2) سبق في الذي قبله، وأخرجه البيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (رقم 549، 550) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/369، 381) ، والدينوري في «المجالسة» (رقم 2427-بتحقيقي) ، ولفظه: «أحبُّ أن يكون صاحب العلم في كفاية، لأن الآفات سريعة، وألسنة الناس إليهم أسرع، وإذا احتاج؛ ذلّ. ولولا هذه البضيعة التي معي لَتَمْندَل الملوك بي، وإذا رأيت القارىء يلزم باب الملوك، فاعلم أنه لص» والخبر -مفرقاً ومجموعاً- في «السير» (7/241، 254 و8/241) ، و «تهذيب الكمال» (1/ ق513- المأمون أو 11/168- ط. الرسالة) ، و «العقد الفريد» (2/337) . واللفظ الذي أورده المصنف عند الزمخشري في «الكشاف» (1/247) ومنه نقله المصنف. (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 78، 85) والخلال في «الحث على التجارة» =

ونحوه قولُ سفيان بن عيينةَ -رحمه الله-: من كان له مال فليُصْلحه، وفي لفظٍ: فليتجر وليكتسب، فإنكم في زمانٍ من احتاج فيه إلى الناس، فإن أول ما يبذله دِينه (¬1) . وكأنَّ السُفيانَين -رحمهما الله- أشارا إلى ما يُروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا كان آخر الزمان لا بدَّ للناس فيها من الدراهم والدنانير، يُقيم الرجل بها دينه ودنياه» (¬2) . ¬

= (رقم20) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/381) ، وأورده الذهبي في «السير» (8/241) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (1/513) بلفظ: «كان المال فيما مضى يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن» ، وهو أحد لفظي ابن أبي الدنيا. وعزاه الزمخشري في «الكشاف» (1/247) للسلف، وذكره ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (181) عن سفيان الثوري. ونقله القرطبي في «تفسيره» (3/420) ، عن الثوري، وقال قبله: «وخلف مئتين، وكان يقول....» . وانظر في خبر (المئتين) : «الحث على التجارة» (رقم 18) للخلال، «الحلية» (6/381) ، «تلبيس إبليس» (ص 181) . (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 71) عن سفيان قوله: «من كان معه شيء، فقدِر أن يجعله في قرن ثور؛ فليفعل، فإنَّ هذا زمان إذا احتاج الرجل فيه إلى الناس، كان أول ما يبذل دينه» . وهو عند المزي في «تهذيب الكمال» (1/ق513) في (ترجمة الثوري) لا (ابن عيينة) ، وكذا في «العقد الفريد» (2/341) وأورده الزمخشري في «الكشاف» (1/247) ، هكذا: وكانوا -أي: السلف- يقولون: «اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دِيْنُه» . وقال الزبير بن بكار في «الموفقيات» (167) : سمعت سفيان بن عيينة وقد قيل له: ما أشد حبك للدراهم؟ قال: «ما أحبّ أن يكون أحد أشد حباً لما ينفعه مني» . (¬2) أخرجه بهذا اللفظ: الطبراني في «الكبير» (20/رقم660) من طريق بقية عن عبد الجبار الزبيدي، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن حبيب بن عبيد، قال: رأيت المقدام ... وذكر قصة، وفيها رفع المقدام لهذا اللفظ. =

ونحوه: «يأتي على الناس زمانٌ من لم يكن معه أصفر ولا أبيض (¬1) لم يتهنَّ بالعيش» (¬2) . ¬

= وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/64-65) ، فقال: «وعن حبيب بن عبيد قال: كانت للمقدام ... » وذكره، وقال: «رواه أحمد هكذا! ‍والصواب أنه ليس في إسناد أحمد (حبيب بن عبيد) ، وإنما هو عند الطبراني، وأورد الهيثمي سائر طرقه، وقال: «ومدار طرقه كلها على أبي بكر بن أبي مريم، وقد اختلط» . قال أبو عبيدة: أخرجه أحمد في «المسند» (4/133) : حدثنا أبو اليمان، قال: نا أبو بكر بن أبي مريم، قال: كانت لمقدام بن مَعدي كَرِب جاريةٌ تبيع اللبن، ويقبض المقدامُ الثمن، فقيل له: سبحان الله أتبيعُ اللبنَ وتقبضُ الثمن! فقال: نعم، وما بأسٌ بذلك، سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا ينفعُ فيه إلا الدِّينار والدِّرهم» . وخولف أحمد، خالفه محمد بن يزيد الآدمي -وهو ثقة-، فرواه عن أبي اليمان، به، وجعله من قول (المقدام) دون ذكر القصة، ولفظه: «يأتي على الناس زمان لا ينفع فيه إلا الدينار والدرهم» . أخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 83) ، حدثني محمد بن يزيد، به. وإسناده ضعيف، لضعف أبي بكر بن أبي مريم، ولأنه لم يدرك المقدام. نص على عدم إدراكه: ابن حجر في «أطراف المسند» (5/392) ، و «إتحاف المهرة» (13/468 رقم 17017) ، وذكر فيه عقبه رواية الطبراني التي فيها الواسطة وهي (حبيب بن عبيد) !. وللحديث لفظ آخر يأتي. • تنبيه: عند الطبراني: «بها دينه» وفي الأصل: «فيها دينه» !! ولم يعزه في «كنز العمال» (3/ 238 رقم 6333) باللفظ الذي أورده المصنف إلا للطبراني في «الكبير» . (¬1) كذا مثبتة بخط الناسخ أبي الفضل الأعرج، وأثبتها السخاوي بخطه في «الجواب» المرفق بآخره: «أحمر» ، وما أثبتناه هو الموجود في مصادر التخريج، وهو كذلك في «المقاصد الحسنة» (ص 216) . (¬2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (20 رقم 659) ، وفي «الأوسط» (2269-ط. الحرمين) ، وفي «الصغير» (7) ، وفي «مسند الشاميين» (1461) ، وأبو نعيم في «الحلية» من طريق بقية بن الوليد، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن حبيب بن عبيد، عن المقدام بن معدي كرب، به. وإسناده ضعيف، مداره على أبي بكر بن أبي مريم. =

الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه

«الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه، من جاء بها قُضيت حاجته، ومن لم يجئ بها لم تُقضَ حاجته» (¬1) إلى غير ذلك، مما ينتشر الكلام بسببه؛ بل يُروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما يخشى المؤمنُ الفقرَ؛ مخافة الآفاتِ على دينه» (¬2) . ¬

= وانظر: «مجمع الزوائد» (4/65) . وقال المصنف في «المقاصد الحسنة» (ص 216 رقم 492) : «وهو غريب» ، وقال: «ومما قيل: إذا أردت الآن أن تُكرما ... فأرْسِل الدِّينار والدِّرهما فليس في الأرض وما فوقها ... أقضى لأمرٍ يُشتَهى منهما» (¬1) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6/316 رقم 6507) من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف، وفيه أحمد بن محمد بن مالك بن أنس، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في «المجمع» (4/ 65) . ولم يعزه في «كنز العمال» (3/ 238 رقم 6332) إلا للطبراني في «الأوسط» . وفي الباب نحوه عن وهب بن منبه، أسنده ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 80) ، والدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (2/1117، 1118) ، وهو أشبه، وذكره عنه الذهبي في «السير» (4/ 548) وغيره. (¬2) ليس عليه نور النبوة، ولم أظفر بمن عزاه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بهذا اللفظ ولكني وجدت نحوه، وهذا التفصيل: أخرج الرافعي في التدوين في «تاريخ قزوين» (1/434- 435) بسندٍ مظلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله -تعالى- جعل لكل شيء آفة تفسده وأعظم آفة تصيب أمتي حبهم الدنيا وجمعهم الدينار والدرهم، يا أبا هريرة لا خير في كثير، ممن جمعها إلا من سلطه الله على هلكتها في الحق» . وذكره صاحب الفردوس (رقم 614- ط. الريان أو 641- ط. دار الكتب العلمية) ، وذكره الهندي في «الكنز» ولم يعزه إلا للرافعي عن أبي هريرة، ولـ «الفردوس» عن أنس. وذكره المتقي الهندي -أيضاً- في «الكنز» (رقم 6251) بلفظ: «لكل شيء آفة تفسده، وأعظم الآفات آفة تصيب أمتي حبهم الدنيا وحبسهم الدينار والدرهم، يا أبا هريرة لا خير في كثير من جمعها، إلا من سلط الله على هلكتها في الحق» . وعزاه لإسحاق والديلمي عن أبي هريرة، ولم أظفر به في «زهر الفردوس» ، ولا في مطبوع «مسند إسحاق» (مسند أبي هريرة) ، وانفرادات الديلمي أمارة الضعف. =

وكان سعيد بن المسيّب -رحمه الله- يقول: اللهمّ إنك تعلم أني لم أجمع المال إلا لأصون بها حسَبي وديني (¬1) . وعن ابن أبي الزناد وقيل له: أتحبّ الدراهم وهي تُدنيك من الدنيا. فقال: هي وإن أدنتني منها لقد صانتني عنها (¬2) . ¬

= وظفرتُ بألفاظ أخرى بأسانيد لم تثبت، مثل: ما أخرجه ابن بشران في «الأمالي» (رقم 412) ضمن حديث عن أبي سعيد الخدري في آخره: «إن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة» . وما أخرجه الخليلي في «فوائده» (رقم 46) ، و «مشيخته» -كما في «كنز العمال» (43169) - ضمن حديث عن أبي هريرة، في آخره: «الموت الأحمر الحاجة بعد الغنى» . (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 55) -ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (2/173) - عن عبد الرحمن بن زياد -وهو ابن أنعم الإفريقي، ضعيف- عن يحيى بن سعيد، به. وأخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 103) عن الليث بن سعد، عن سعيد بن يحيى -كذا- عن سعيد بن المسيب، به، وهو من هذا الطريق عند الدينوري في «المجالسة» (رقم 2211) ، إلا أن عنده: عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد. ويحيى بن سعيد: هو ابن قيس الأنصاري، سمع سعيد، ورواه عنه جماعة غير المذكورين. ثم ظفرت به على الجادة عن الليث به، عند أبي نعيم في «الحلية» (2/173) ، والبيهقي في «الشعب» (2/92 رقم 1252) . وأخرجه من طرق عن الثوري به -أيضاً-: الخلال في «الحث على التجارة» (رقم 52) ، والبيهقي في «الشعب» (رقم 1253) ، وابن عبد البر في «الجامع» (2/13) . وأخرجه الخلال في «الحث على التجارة» (رقم 51) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/173) من طريقين: عن عباد بن عباد، عن يحيى بن سعيد، به. وإسناده صحيح. وأورده ابن عبد البر في «بهجة المجالس» (1/169) ، والذهبي في «السير» (4/238) ، وابن حمدون في «تذكرته» (8/98 رقم 227) ، والأصبهاني في «سير السلف» (ق 113/ب) ، والمصنف في «الأجوبة المرضية» (2/744- 745) . (¬2) أخرجه الدينوري في «المجالسة» (رقم 2212) -ومن طريقه ابن عساكر (ص 282- ترجمة عبد الله بن ذكوان أبي الزناد) أو (9/ق 187) -، وأورده الذهبي في «السير» (5/448) ، والمزي =

تفضيل كثير من الشافعية الغني الشاكر على الفقير الصابر

وأورد الزمخشريُّ في «الكشاف» (¬1) عند قوله -تعالى-: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] ، شيئاً من هذا. وروينا في «المجالسة» (¬2) عن الثوريِّ -أيضاً- أنه قال: «والله ما وضع رجلٌ يده قط في قصعة رجلٍ إلا ذلَّت له رقبته، وما أعرف موضعاً لعشرة دراهم لا، ولا لسبعٍ ولا لخمسٍ ولا لدرهم» . وقد مال كثيرٌ من الشافعية إلى تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر (¬3) ، ¬

= في «تهذيب الكمال» (14/482) في ترجمة (أبي الزناد) وأثبت الناسخ قبلها بحرف دقيق (ابن) وكذلك هي بخط المصنف في «جوابه» المرفق بآخر رسالتنا هذه. والخبر -غير معزو- في «الكشاف» (2/247) ، وتحرف فيه إلى (صابتني) بدل (صانتني) فليصحح! ثم ظفرت به في «الموفقيات» (167) معزواً لابن أبي الزناد! وكذا في «الأجوبة المرضية» (2/745) . (¬1) انظر: الكشاف (1/247) . (¬2) انظر: «المجالسة» (6/330 رقم 2722) ، وأخرجه -أيضاً- أبو نعيم في «الحلية» (7/59) مختصراً، والذهبي في سير أعلام النبلاء (7/243) ، وساقه الزمخشري في «ربيع الأبرار» (4/352) مختصراً مقتصراً على آخره. (¬3) اعتنى العلماء عناية شديدة في (المفاضلة بين الغنيّ الشاكر والفقير الصابر) ، وألفوا في ذلك المؤلّفات، والخلاف في المسألة ليس بمشهور بين المذاهب المتبوعة، وإنما الميل على حسب المشارب، ولجمع من أرباب المعاني والذوق مصنفات مفردة فيها انتصار ظاهر كتفضيل مطلق الفقر! ومن المخطوطات المحفوظة في مكتبة لا له لي للحارث المحاسبي «الرد على بعض العلماء من الأغبياء حيث احتج بأغنياء الصحابة!» . انظر: «تاريخ سزكين» (1/642) . ولمحمد بن علي المكي: «المفاخرة بين الغني والفقير» محفوظ في مكتبة العباسية بالبصرة، ولابن زبر «تشريف الفقر على الغنى» ، بينما لابن المنذر «تشريف الغني على الفقير» ، ثم ظفرت في «لسان الميزان» (5/28) أن ابن الأعرابي رد عليه بـ «تشريف الفقير على الغني!» ، وللكلاباذي «شرف الفقر على الغنى» ، ذكره في كتابه «معاني الأخبار» (ص 331) ، قال: «وقد أفردنا لشرف الفقر وأهله كتاباً جامعاً يشتمل على الأخبار والآثار المروية فيه، والحجج الكثيرة من جهة الخبر والنظر، ومعنى الأخبار التي وردت في الغنى ... » ، وللسرمري: «فضل الفقر على الغنى» وكذا لعلي بن محمد المصري، فيما أفاده كحالة في «معجم المؤلفين» (7/179) ، وللطرطوشي: «الكلام في الفقر والغنى» ، ولأبي حيان: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= «الفصل بين الغنى والفقر» ولأبي يعلى الفراء: «تفضيل الفقر على الغنى» وهو من المفقودات على حسب ما ذكره الدكتور محمد أبو فارس في كتابه: «القاضي أبو يعلى الفراء وكتابه الأحكام السلطانية» (ص 245) . وطبع في هذا الباب مجموعة من الكتب، من مثل: «عقد الدرر والآلئ في بيان فضل الفقر والفقراء وفضل السؤال!!» للبناني، و «المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر» ، للبيركلي (ت 981هـ) . ونسب ابن جزَيّ في «القوانين الفقهية» (ص 471) إلى أكثر الفقهاء أنهم ذهبوا إلى أن الغني أفضل، خلافاً لأكثر الصوفية! وحكي عن أحمد روايتين، ولذا ذكر هذه المسألة أبو الحسين ولد القاضي أبي يعلى في كتابه «التمام» (2/302-305) قال: «مسألة: الفقير الصابر خير من الغني الشاكر في أصح الروايتين: وفيه رواية ثانية: الغني الشاكر أفضل، وبه قال جماعة منهم ابن قتيبة. وجه الأوّلة: اختارها أبو إسحاق [ابن] شاقلا، والوالد السعيد، قوله -تعالى-: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] ، فسرها أبو جعفر محمد بن الحسين: يجزون الغرفة، قال: الجنة بما صبروا، قال: على الفقير في الدنيا. وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» . فقالت عائشة: ولم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً، يا عائشة، لا تردي المسكين، ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقرِّبيهم، فإنَّ الله يقرِّبك يوم القيامة» . فمن الخبر دليلان: أحدهما: أنه سأل الله -تعالى- المسكنة في حياته ووفاته، فلولا أنها أعلى منزلة من الغنى لم يسألها. والثاني: قوله: «يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً» ، وليس هذا إلا لفضيلتهم على الأغنياء، إذ لو لم يكن كذلك لم يستحقوا السبق. وروى أبو برزة الأسلمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن فقراء المسلمين ليدخلون الجنة قبل أغنيائهم بمقدار أربعين خريفاً، حتى يتمنى أغنياء المسلمين يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا فقراء» . وروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في أصحابه، فقال: «أي الناس خير؟» . فقال بعضهم: غني يعطي حق نفسه وماله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نِعْم الرجل هذا، وليس به، ولكن خير الناس مؤمن فقير يعطي على جهد» . ولأن الله -تعالى- خصّ بالفقير من اصطفاه من أهل صفوته، وجعله كرامة لأهل عقد ولايته، وحظاً لمن ارتضاه من أهل معاملته، وسبباً للإقبال عليه بطاعته، فإن الله به اصطفاه من الدناة والأدنا من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= ربع أوليائه بالصبر عليه -كذا-، والرضا عليه في العلو على سائر الناس لتكون كل أمورهم ومصالحهم راجعة إليه، ليقوم لهم بها على إرادته وعنايته، ويستخرجها من وجوهها إليهم بقدرته، تنزيهاً لجوارحهم عن الحركات عند وقوع الحاجات والفاقات وعن الملك والدنيا، وتركها لغداء أو عشاء. ولأن الفقر صفة للحق، يصف الفقراء، والغنى صفة للدنيا تصف الأغنياء، فعلى قدر ميلان القلب إلى الفقر وأهله يكون موصوفاً بالحق والإخلاص، وعلى قدر ميلان القلب إلى الغنى وأهله، يكون موصوفاً بالدنيا والإخلاص -كذا-، وحب الفقر وأهله من أخلاق المرسلين، وإتيان مجالسه من علامات الصالحين، ولا يخضع العبد لله إلا مع الفقر، ولا يصيب الإرادة إلا بمجالسة الفقراء، ولا يرى آثار الحقّ إلا مع الفقراء. وليس من صفة الفقراء موافقة الأغنياء، ولا من صفة أهل المعرفة موالفة أهل الغفلة، فالفقر دواء النبيين، وجلباب المرسلين، وأعلام الصفوة المختارين، وزين المؤمنين، وتاج المتقين، وجمال العابدين، وسرور الزاهدين، ولذة الصابرين، ولباس الراغبين، ورأس مال الصديقين، وغنيمة العارفين، ومعقل الصالحين، وحصن المطيعين، وعون الورعين، وحطّاط للخطيات، ومكفّر للسيئات، ومعظّم للحسنات، ورافع الدرجات، ومبلغ إلى الغايات. ومطفئ الغضب المحبب عن طريق الله الأعظم، ومخوّف الأغنياء من الضر والعدم، حتى ساءت ظنونهم بربهم، وارتابوا بوافي مواعيده بعد تصديقهم، فعبدوا الدنيا خوفاً من زوالها عنهم، وركنوا إليها بكلَّتهم، فعادوا فيها ووالوا، وأحبوا وأبغضوا» . قال أبو عبيدة: انتهى ما أورده أبو الحسين من تفضيل الفقراء على الأغنياء، ولي ملاحظات: الأولى: بالنسبة إلى حديث «اللهم أحيني مسكيناً ... » فهو حسن لغيره، خلافاً لمن ضعّفه، وليس فيه دلالة على فضل الفقر، وهذا البيان، والله الموفق: ورد هذا الحديث عن أربعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- وهم: أنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت. أما حديث أنس: فقد أخرجه الترمذي في «الجامع» (رقم 2352) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/141-142) -، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/12) ، و «الشعب» (رقم 1453، 10507) من طريق الحارث بن النعمان الليثي عنه، به. وعزاه شيخنا الألباني في «الإرواء» (3/359) إلى أبي الحسن الحمامي في «الفوائد المنتقاة» (9/205/251) ، وأبي نعيم في «الفوائد» (5/217/1) . وعزاه العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (2/207) للترمذي عن عائشة!! وليس صحيحاً، وإنما هو من مسند أنس، ولعائشة قصة فيه، وقد ورد عند العراقي في الكتاب نفسه: (3/235 و4/ 193) من مسند أنس، على الجادة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وإسناده ضعيف جدّاً، بسبب الحارث بن النعمان. فقد ضعّفه جهابذة الجرح والتعديل؛ مثل: البخاري، فقال: «منكر الحديث» ، وقال العقيلي: «أحاديثه مناكير» ، وقال النسائي: «ليس بثقة» . واعتمد ابن الجوزي على مقولة البخاري فحكم بوضع الحديث!! وتعقبه السيوطي بقوله في «الآلئ المصنوعة» (2/325) : «وهذا لا يقتضي الوضع» . وقال -أيضاً-: «وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» فأخطأ» -كما في «كنز العمال» -. وقال في «التعقبات على الموضوعات» (رقم 44- بتحقيقي) : «حديث أنس أخرجه الترمذي والبيهقي في «الشعب» ، والحارث لم يجرح بكذب، بل قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي، ومن يوصف بهذا يحسّن حديثه بالمتابعة» . والخلاصة أن الحكم على الإسناد السابق، هو ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني في «التلخيص الحبير» (3/109) : «إسناده ضعيف» ، ولكنه يقبل الجبر. وقال الترمذي عنه: «غريب» ، أو «حسن غريب» ، كما نقله ابن حجر في «الأجوبة عن أحاديث المصابيح» (رقم 14) . وأما حديث أبي سعيد الخدري، فقد رواه عنه عطاء بن رباح، ورواه عن عطاء اثنان، هما: أولاً: أبو المبارك، ورواه عنه يزيد بن سنان، كما عند: ابن ماجه في «السنن» (رقم 4126) ، وعبد بن حميد في «المسند» (رقم 1000- المُنتخب) ، والرافعي في «التدوين في أخبار قزوين» (1/473) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/111) ، وابن النجار في «ذيل تاريخ بغداد» (3/45) ، والسلمي في «الأربعين» (رقم 5) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/141) ، والذهبي في «الميزان» (4/ 569) ، وأبي بكر بن أبي شيبة -كما قال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (2/324) -، وقال -أيضاً-: «هذا إسناد ضعيف، أبو المبارك لا يعرف اسمه، وهو مجهول، ويزيد بن سنان التميمي أبو فروة: ضعيف» . قلت: أما أبو المبارك، فذكره ابن عبد البر في «الاستغنا في الكنى» (1901) -ولم يسمّه- وقال: «ليس بالمشهور» ، وقال الذهبي: «لا يُدرى من هو» ، وقال -أيضاً-: «لا تقوم به حجَّة لجهالته» . وأما يزيد بن سنان، فقد ضعفه علي بن المديني وأحمد بن حنبل، وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى ابن أيوب المَقْبري: «كان مروان بن معاوية يُثبته» ، ولعل كلمة الفصل فيه ما قاله أبو حاتم: «محلُّه الصدق، وكان الغالب عليه الغفلة، يُكتب حديثه، ولا يحتج به» ، فهذا جرح مفسَّر، وهو الغفلة، وليس لتهمة فيه، وعليه فقوله مقدّم على قول النسائي فيه: «متروك» . ومن الجدير بالذكر أن البخاري قال عنه: «مقارب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= الحديث، إلا أن ابنه محمد يروي عنه مناكير» . وقال تلميذه الترمذي: «ليس بحديثه بأس، إلا رواية ابنه محمد عنه، فإنه يروي عنه المناكير» . وقال ابن عدي: «ولأبي فروة هذا حديث صالح» . وعليه فإن قول ابن الجوزي في «موضوعاته» : «هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو حاتم الرازي: أبو مبارك رجل مجهول، قال يحيى بن معين: ويزيد بن سنان ليس بشيء. وقال ابن المديني: ضعيف الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث» ليس بجيد، إذ نص عبارة أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (9/446) في أبي المبارك: «هو شِبه مجهول» . ونقلها عنه ابن حجر: «هو شبيهٌ بالمجهول» . أما يزيد بن سنان، فقد سبق تحرير حاله، وعليه فلا يحكم على الحديث بالوضع بمجرد وجود مجهول فيه، وغاية ما يقال عنه: «إسناده ضعيف» . وقد ردّ الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (1/45) ترجمة (الأسود بن عمران البكري) مقولة من قال عن حديث فيه رجل مجهول: «في إسناده مقال» ، ولذا تعقّب الزركشي ابن الجوزي فقال في «تخريج أحاديث الرافعي» : «وأساء ابن الجوزي بذكره له في «الموضوعات» » ، نقله السيوطي في «الآلئ» (2/325) ، وقال في «التعقبات» (44- بتحقيقي) : «وحديث أبي سعيد له طريق آخر، أخرجه ابن ماجه، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي، والبيهقي في «الشعب» » . قلت: غاية ما في الحديث السابق أبو المبارك، وهو بين المجهول والمستور، وطبقته من التابعين، وقد حسّن ابن رجب وابن كثير الحديث الذي فيه تابعي، ويكون مستوراً، هذا منهجهم الذي مشوا عليه، ويعلل الحديث -كما هو معروف- بالأعلى لا بالأدنى. أما الطريق الأخرى التي أشار إليها السيوطي، فهي: ثانياً: يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، ورواه عنه ابنه خالد، كما عند: الطبراني في «الدعاء» (رقم 1426) ، والحاكم في «المستدرك» (4/322) ، وابن عدي في «الكامل» (3/884) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/13) ، و «الشعب» ، وأبي الشيخ، والديلمي -كما في «المقاصد الحسنة» (ص 153) -. وصححه الحاكم، وأقره الذهبي، والبيهقي، كما تقدم عن السيوطي. والحقّ أن خالداً فيه ضعف، قال أحمد فيه: «ليس بشيء» ، وقال النسائي: «غير ثقة» ، وقال أبو داود: «متروك الحديث، ضعيف» ، وقال الدارقطني: «ضعيف» ، وقد اتهمه ابن معين بالكذب، وهو من المتشدّدين بالجرح كما هو معلوم. ومع هذا فقد وثّقه أحمد بن صالح، وأبو زرعة الدمشقي، والعجلي، وله متابعٌ، فقد أخرجه الطبراني في «الدعاء» (1425) ، قال: حدثنا عبد الله بن سعد بن يحيى الرّقي: ثنا أبو فروة يزيد بن محمد بن سنان الرُّهاوي: حدثني أبي، عن أبيه، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد، به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= قلت: فيه مجموعة من الضعفاء هم: 1- عبد الله بن سعد 2- يزيد بن محمد بن سنان 3- محمد بن يزيد 4- يزيد بن سنان، والرابع فيه ضعف كما تقدم. ولعله رواه عن أبي المبارك، ثم سمعه من عطاء نفسه، فإنه ولد سنة تسع وستين، وتوفي سنة خمس وخمسين ومئة، وعطاء ولد سنة سبع وعشرين، وتوفي سنة أربع عشرة ومئة، فسنّه تتحمل السماع منه، لا سيما أنه لم يُرمَ بوصمة التدليس. وأما الثالث فليس بالقوي؛ والثاني ترجمه ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو إلى الجهالة أقرب؛ وأما الأول فلم أظفر به. هذا مع أن عطاءً لم يسمع من أبي سعيد شيئاً، وإنما رآه يطوف بالبيت. كما قال ابن المديني في «العلل» (رقم 88) ، ولا يستشكل هذا من تصريح عطاء بالسماع من أبي سعيد في بعض طرق الحديث؛ لأن في الطريق إليه ضعفاً، كما بيّناه. وقد ذكر شيخنا في «الصحيحة» (308) طريقاً أخرى له، أخرجها عبد بن حميد وحسنها! والحق أنها ليست لهذا الحديث، وقد نبه على ذلك في «الإرواء» (3/363) ، ولهذا حذفها من الطبعة الجديدة. وأما حديث عبادة بن الصامت، فقد أخرجه تمام في «فوائده» -كما في «الآلئ المصنوعة» (2/325) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (15/ق 128) -، والطبراني في «الدعاء» (رقم 1427) -ومن طريقه الضياء المقدسي في «المختارة» (ق 65/1-2) - من طريق بقية بن الوليد، عن الهِقْل بن زياد، عن عُبيد بن زياد الأوزاعي، عن جُنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، به. وفيه بقية، وهو مدلّس تدليس التسوية، فلا بد من التصريح بالسماع بطبقات السند كلها. وقد وقع هذا في سند «المختارة» ، وسائر رواته ثقات، ولهذا قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (145) : «رجاله موثوقون» ، وأقره الزّبيدي في «إتحاف السادة المتقين» (6/289) . قلت: وفيه عُبيد بن زياد الأوزاعي، قال ذهبي العصر المعلِّمي اليماني في تعليقه على «الفوائد المجموعة» (ص 241) : «مجهول» . وكذا قال شيخنا الألباني في «الإرواء» (3/362) . ونقل السيوطي في «اللآلئ» (2/325) عن أبي سعيد، عليِّ بن موسى السُّكري الحافظ النيسابوري أنه قال عنه: «شامي، عزيز الحديث، قيل: إنه ثقة» . وقال -أيضاً-: «ووجِدَ بخطّ أبي الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر الحافظ: حدثنا محمد بن يوسف بن بشر الهَروي: أخبرني محمد ابن عوف بن سفيان الطائي، قال: عُبيد بن زياد الأوزاعي الذي روى عنه الهِقل بن زياد، سألتُ عنه بدمشق، فلم يعرفوه. قلتُ له: فالحديث الذي رواه هو منكر؟ قال: لا، ما هو منكر، ما ينكر إلا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم أمتني مسكيناً» » . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وقد تابع بقية: موسى بن محمد، فأخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/12) من طريق محمد ابن إبراهيم الحلواني: حدثنا موسى بن محمد مولى عثمان بن عفان قال: حدثنا الهِقْل بن زياد به. ولم أظفر بترجمة لموسى بن محمد هذا. وأما حديث ابن عباس، فقد أخرجه الشيرازي في «الألقاب» -كما في «الآلئ المصنوعة» (2/326) ، و «التعقبات على الموضوعات» (44) -. وفي إسناده طلحة بن عمرو، وهو متروك، كما قال أحمد والنسائي وابن الجنيد، وبه أعلّه المعلمي في تعليقه على «الفوائد المجموعة» (241) ، وشيخنا الألباني. والخلاصة: إن سند الحديث ضعيف جداً. والحديث بمجموع هذه الطرق يصل إلى مرتبة الحسن لغيره، أما من ضعّفه من السابقين فإما بالنظر إلى سندٍ بخصوصه، أو إلى حديث صحابي بعينه، أو استنكار المتن، وظنّ التعارض بينه وسائر النصوص. وإليك طائفة من أقوال المحدثين في الحكم عليه: - قال العلائي في «النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح» (45) : «وهو حديث ضعيف، لكن لاينتهي إلى أن يكون موضوعاً» ، وهذا مخالف لما قاله شيخنا الألباني في «الإرواء» (3/362) : «وقد جزم العلائي بصحته» !! - قال ابن تيمية في «أحاديث القصاص» (101) : «يروى لكنه ضعيف لا يثبت» ، وهذا مخالف لما نقله ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/109) ، والسيوطي في «الدرر المنتثرة» (رقم 103) عنه، قالا: «وهذا الحديث سئل عنه الحافظ ابن تيمية، فقال: إنه كذب، لا يعرف في شيء من كتب المسلمين المرويّة» ، فإن قول ابن تيمية «يروى» يدلل على أن أصلاً له عنده، وهذا ما صرح به في «مجموع الفتاوى» (18/326) ، قال: «هذا الحديث، قد رواه الترمذي، وقد ذكره أبو الفرج في «الموضوعات» وسواء صح لفظه أم لم يصح ... » ثم تكلم عن معناه. - ونقل العجلوني في «كشف الخفاء» (1/181) عن ابن حجر أنه قال في «التحفة» : «إن الحديث ضعيف، ومعارض بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من المسكنة» . - وضعّف ابن رجب الحديث في «اختيار الأولى» (ص 113) بقوله: «مع أن في إسناد الحديث ضعفاً» . - وصحح الحديث الحاكم، ووافقه الذهبي، والبيهقي في «الشعب» كما تقدم. وحسّنه الترمذي، فيما نقل ابن حجر، وكذا الزرقاني في «مختصر المقاصد» (رقم 153) . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= - وحكم ابن الجوزي على الحديث بالوضع! فأسرف، ولذا تعقبه الزركشي، والسيوطي، وغيرهما. - والصواب فيما ظهر لنا من خلال جمع طرق الحديث أنه حسن لغيره، وهذا أدنى أنواع الحديث الذي يستدل به، ويقبل الاحتجاج، وينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الجزم، والله أعلم. يبقى بعد هذا كله: الكلام على معنى المسكنة الواردة في الحديث، وقد بيّنها جماعة من العلماء، وإليك أقوال بعضهم: - قال الداودي في «الأموال» (ص 348) بعد سياق الحديث: «فإن ثبت هذا في النقل، فمعناه: أن لا يجاوز به الكفاف، أو يريد الاستكانة إلى الله -تعالى-» . - وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (18/382) في شرحه لهذا الحديث: «فالمسكين المحمود هو: المتواضع الخاشع لله، ليس المراد بالمسكنة عدم المال، بل قد يكون الرجل فقيراً من المال، وهو جبّار، فالمسكنة خُلُق في النفس، وهو التواضع والخشوع، واللَّين ضد الكبر ... » . - وذكر ابن الأثير في «النهاية» (2/385) هذا الحديث، وقال في شرحه: «أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبّارين المتكبرين» ، ثم وجدت هذا المعنى عند الخطابي في «شأن الدعاء» (ص 194- 195) . - وبنحو هذا قال تاج الدين السبكي، فنقل عنه ابنه في «طبقات الشافعية» (3/134) ما نصه: «وكان -رحمه الله- يقول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أحيني مسكيناً» : إن المراد به استكانةُ القلب، لا المسكنة التي هي أن يجد ما لا يقع موقعاً من كفايته. وذكر ذلك في باب الوصية من «شرح المنهاج» وسمعتُه منه كذا وكذا مرات، لا أُحصي لها عدداً» . ثم عقّب عليه بما يُؤيّده بكلامٍ بليغٍ حسن، فقال: «وكان -رحمه الله- يشدّد النكير على من يعتقد ذلك، والحق معه -رضي الله عنه- فإن من جاءت إليه مفاتيح خزائن الأرض، وكان قادراً على تناول ما فيها كلّ لحظةٍ، كيف يوصف بالعدم؟ ونحن لو وجدنا من معه مال جزيل في صندوق من جوانب بيته، لوسمناهُ بسمةِ الغَناءِ المفرط، مع العلم بأنه قد يُسرقُ أو تغتاله غوائلُ الزمانِ، فيُصبح فقيراً، فكيف لا يُسمّى من خزائن الأرض بالنسبة إليه أقرب من الصندوق بالنسبة إلى صاحب البيت؟! وهي في يده بحيث لا تتغيّر، بل هو آمن عليها، بخلاف صاحب الصندوق، فما كان - صلى الله عليه وسلم - فقيراً من المال قط، ولا مسكيناً. نعم، كان أعظم الناس جؤاراً إلى ربه وخضوعاً له، وأشدَّهم في إظهار الافتقار إليه، والتّمسكُن بين يديه» . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= والخلاصة مما تقدم: إن الحديث حسن، وعليه فمعناه صحيح، لا يخالف أصول الإسلام، ولا سائر النصوص، ولا قواعد الشريعة، والله -تعالى- أعلم. الثانية: حديث دخول الفقراء قبل الأغنياء الجنة، صحيح ثابت، سبق تخريجه. الثالثة: حديث ابن عمر الأخير غريب، قال محقق كتاب «التمام» عنه: «لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من كتب الحديث» . قلت: ورد نحوه في «الأربعين حديثاً في الفقراء» للسّلفي، ولكن النسخة التي وقفت عليها غير مسندة، وهي من محفوظات المكتبة البلدية بالإسكندرية. وأورده الديلمي في «الفردوس» (2893) من حديث ابن عمر رفعه: «خير الناس مؤمن فقير يُعطي جهده» ، ولم يعزه في «كنز العمال» (6/341، 469 رقم 15947، 16586) إلا له. الرابعة: لم يذكر أبو الحسين ابن القاضي أبي يعلى سائر أدلة مفضلي الفقر على الغنى، ونقول تتمة لما ساقه: احتج من فضّل الفقر بعدد من الآيات الكريمة منها قوله -تعالى-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، وقوله -تعالى-: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] ، فالآية الأولى تبين أن الصابرين يجزون بغير حساب، والفقير صابر على الحاجة والشدة والعوز.. والآية الثانية تبين أن سبب ذهاب الطيبات والحسنات في اليوم الآخر هو التمتع بالدنيا، وهو الغنى أو لازمه. وقد أجاب القرافي عن الاستدلال بالآية الأولى: بأن الأغنياء يساوون الفقراء في الصبر على الإيسار، وبذل المال، ومخالفة الأهواء. ويجاب عن الاستدلال بالآية الثانية بأنها في الكفار واستمتاعهم في الدنيا على وجه غير مشروع، وبقية الآية واضحة في ذلك: « ... فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ» [الأحقاف: 20] . واحتجوا -أيضاً- بأن الفقير أيسر حساباً، وأقل سؤالاً: من أين اكتسب؟ وفيما أنفق؟ وقد سبق بيان تخريج الحديث. وأجاب القرافي عن هذا الاستدلال بقوله: «إن السؤال يقع نعيماً لقوم، وعذاباً لقوم ... فلا يضر الغني الشاكر السؤال، بل ينفعه» . فلا تعني قلة السؤال علو المنزلة، كما لاتعني كثرته نزول الدرجة، فالمهم هو نتيجة الحساب وثمرة السؤال. واحتجوا -أيضاً- بأن الفقراء أكثر أهل الجنة، ويدخلونها قبل الأغنياء. وأجاب عن ذلك القرافي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= بقوله: «إن الفقراء أكثر في الدنيا فهم أكثر في الجنة، ولا يلزم من ذلك علو الدرجة، ولا يلزم من سبقهم للدخول أن تكون درجتهم أعلى، أو مساوية» . انظر: «الذخيرة» (13/331-333) . وأورد السرخسي في «شرح الكسب» (ص 120- 121) مناظرة في المسألة، وجهها على تفضيل (الفقر) على (الغنى) ، قال: «وحكي أن غنياً وفقيراً تناظرا في هذه المسألة، فقال الغنيّ: الغنيُّ الشاكر أفضل، فإن الله -تعالى- اسْتَقْرَضَ من الأغنياء، فقال -عز وجل-: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] ، وقال الفقير: إن الله -تعالى- إنما استقرضَ من الأغنياء للفقراءِ، وقد يُستقرضُ من الحبيب وغير الحبيب، ولا يُستقرضُ إلاَّ لأجل الحبيب» ، ثم وجه التفضيل بقوله: «يوضِّحه أن الغني يحتاج إلى الفقير، والفقيرَ لا يحتاج إلى الغني؛ لأن الغنيّ يلزمه أداء حقّ المال، فلو اجتمع الفقراء عن آخرهم على أن لا يأخذوا شيئاً من ذلك، لم يُجبروا على الأخذ، ويُحمدون شرعاً على الامتناع عن الأخذ، فلا يتمكن الأغنياءُ من إسقاطِ الواجب عليهم عن أنفسهم، والله -تعالى- يُوصلُ إلى الفقراء كفايتهم على حسب ما ضَمِنَ لهم. فبهذا تبيّن أن الأغنياء هم الذين يحتاجون إلى الفقراء، والفقراء لا يحتاجون إليهم بخلاف ما ظنّه من يعتبرُ الظاهر، ولا يتأمّلُ في المعنى. فاتَّضح بما قررنا أن الفقيرَ الصابرَ أفضلُ من الغنيِّ الشاكر، وفي كلٍّ خير» انتهى. ويجاب عليه: بأنه عند احتمال وقوع هذه الصورة الخيالية، يضعُ الغنيُّ زكاتَه في بيت المال، وتبرأ ذمته بذلك تمام البراءة، وكم في الدنيا من فقراء يتلهفون على الفَلْس والدرهم؟! ولا يتعيّن في الزكاة تقديمُها لفقيرِ بلدِ المال. فالصورة هنا خيال في خيال، لا يصح أن تُساق في ترجيح دليل أو استدلال؟! وأمّا من فضّل الغنى على الفقر، فقد احتج -أيضاً- بمجموعة من النصوص، أسوق أولاً تتمة كلام القاضي أبي الحسين في «التمام» (2/305) . قال: «ووجه الثانية: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من غنى يبطر، ومن فقر مترب» . وقال -عليه السلام-: «من طلب الدنيا حلالاً واستعفافاً عن المسألة، وسعياً على عياله، وتعطفاً على جاره، جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان» » . انتهى كلامه. قال أبوعبيدة: الحديثان -عندي- لم يثبتا، والثاني منهما أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (4/330 رقم 3465) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/110 و 8/215) ، والبيهقي في «الشعب» (7/298 =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= رقم 10374) ، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 328) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وهو كما قال أبو نعيم على إثره: «غريب من حديث مكحول، لا أعلم له راوياً عنه إلا الحجاج» . قلت: الحجاج هو ابن فُرافِصة، صدوق عابد يهم، والراوي عنه محمد بن صبيح بن السّماك الواعظ، قال ابن نمير: صدوق، وقال مرة: ليس حديثه بشيء، كذا في «الميزان» (3/584) . ومكحول لم يسمع أبا هريرة، فهو منقطع. وعزاه العراقي في «تخريج الإحياء» (5/414- مع «إتحاف السادة» ) إلى أبي الشيخ في «الثواب» -أيضاً- وضعفه، ولم يعزه في «كنز العمال» (4/13 رقم 9255) إلا لأبي نعيم في «الحلية» ! وأخرج الديلمي والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/68) من حديث أبي هريرة رفعه: «من طلب مكسبة من باب الحلال، يكفّ بها وجهه عن مسألة الناس وولده وعياله، جاء يوم القيامة مع النبيين والصديقين» هكذا -وأشار بأصبعه السبابة والوسطى-. وإسناده ضعيف جدّاً، فيه أبو مقاتل حفص بن سلم الفزاري واهٍ بمرة، وكذّبه وكيع بن الجراح. وضعّفه العراقي في «تخريج الإحياء» (2/89) ، وعزاه السيوطي في «الجامع الكبير» (1/799) إلى الخطيب والديلمي فقط، وكذا في «إتحاف السادة المتقين» (5/414) . وانظر: «زوائد تاريخ بغداد» (6/269- 270) . وأما الحديث الأول، فقد ظفرتُ به عند الخطابي: أورده في «شأن الدعاء» (ص 194) -دون إسناد- هكذا: «اللهم إني أعوذ بك من فقرٍ مُربٍّ أو مُلبٍّ» . وقال: «المُلِبُّ: المُقْعِدُ المُلْزِق بالأرض. يقال: أَرَبَّ بالمكان، وأَلَبَّ به، إذا أقام، وهذا كقول الناس: قد لَزِق فلان بالتراب، إذا افتقر. قلت: وليس هذا بخلاف» . ونحوه في «النهاية» (2/181) لابن الأثير (مادة: ربب) ، وأورد الحديث هكذا: «اللهم إني أعوذ بك من غنى مبطر، وفقر مُرِبٍّ» . أو قال: «مُلبٍّ» . وهناك أدلة مبسوطة عند من فضّل (الغنى) عدا ما ذكره أبو الحسين، ونجمل ذلك بقولنا: وقد احتج من فضل الغنى بعدد من الآيات الكريمة منها قوله -تعالى-: {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] ، وقوله -سبحانه-: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 8] ، وقوله -جل من قائل-: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268] ، وقوله -سبحانه وتعالى-: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] ، فهذه الآيات تبين أن الغنى فضل من الله ونعمة، ووسيلة للإنفاق في سبيل الله، وأن الفقر من الشيطان. وليس هذا فقط، فقد سمى الله المال خيراً في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= قوله -تعالى-: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ... } [البقرة: 180] ، والخير يسعى إليه، ويحرص عليه ... بل إن الآيات الكريمة تقرر أن إيتاء المال والإمداد به من نعم الله على عباده المؤمنين، يؤتيه لهم عندما يقبلون عليه بالعبادة والتوبة والاستغفار ... قال -تعالى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} [نوح: 10-12] . واحتجوا -أيضاً- بعدد من الأحاديث النبوية منها نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال، واستعاذته من الفقر، وقوله صلوات الله عليه وسلامه: «نعما المال الصالح للرجل الصالح» ، وسبق تخريجه. ثم قالوا: إن كل ما يتصور في الفقر من الصبر والرضا يتصور في الغنى بالإيثار، والصبر على بذل المال وإنفاقه والتضحية به. وليس كل ما يتصور في الغنى من القربات يتصور في الفقر. قال أبو عبيدة: كلٌّ من الطرفين قال حقاً، اللهم إن استثنينا الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يكثر ذكرها في هذه المسألة، وكان ينقص كلٌّ منها العدلَ! والصواب التفصيل. قال ابن جزي في «القوانين الفقهية» (ص 472) : «ولا يصح التفضيل إلا بعد تفصيل، وهو أن من كان يقوم بحقوق الله في الغنى، ولا يقوم بها في الفقر، فالغنى أفضل له اتفاقاً، ومن كان بالعكس فالفقر أفضل له اتفاقاً ... وإنما محل الخلاف فيمن كان يقوم بحقوق الله في الحالتين. والحقوق في الغنى هي أداء الواجبات، والتطوع بالمندوبات، والشكر لله، وعدم الطغيان بالمال. والحقوق في الفقر هي الصبر عليه، وعدم التشوف للزيادة، واليأس مما في أيدي الناس، ولله در غنيّ شاكر، أو فقير صابر، وقليل ما هم» . وهذا التفصيل هو الصواب. قال ابن القيم في «بدائع الفوائد» (3/162) : «وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل» قال: «فأجاب فيها بالتفصيل الشافي ... » وذكر مسألتنا، وقال: «فأجاب بما يشفي الصدور، فقال: أفضلهما أتقاهما لله، فإن استويا في التقوى، استويا في الدرجة» . قال أبو عبيدة: وفصّل ابن القيم هذا الإجمال في مجموعة من كتبه، مثل: «المدارج» (2/ 442) ، و «طريق الهجرتين» (ص 626) ، و «عدة الصابرين» (ص 125، 142، 146، 230) من (الباب العشرين) حتى (الباب الرابع والعشرين) ، وهو الأخير من الكتاب، ولا يتسع المقام للبسط أكثر من هذا، ولكني سأقتصر على زبد من كلامه فيها ذكره لأمثلة تؤكد ما رجحناه من أن (التفضيل في التفصيل) ، قال -رحمه الله تعالى-: «مَثلُ الدنيا مثلُ البحر، الذي لا بد للخلق كلهم من ركوبه، ليقطعوه إلى الساحل الذي فيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= دورهم وأوطانهم ومستقرهم، ولا يمكن قطعه إلاَّ في سفينة النجاة. فأرسل الله رسله لتعرف الأممُ اتخاذ سفن النجاة، وتأمرهم بعملها وركوبها، وهي: طاعة رسله، وعبادته وحده، وإخلاص العمل له، والتشمير للآخرة وإرادتها، والسعي لها. فنهض الموفَّقون وركبوا السفينة، ورغبوا عن خوض البحر، لما علموا أنه لا يُقطع خوضاً ولا سباحة. وأما الحمقاء، فاستصعبوا عمل السفينة وآلاتها والركوب فيها، وقالوا: نخوض البحر، فإذا عجزنا قطعناه سباحة -وهم أهل الدنيا- فخاضوه، فلما عجزوا عن الخوض أخذوا في السباحة حتى أدركهم الغرق. ونجا أصحاب السفينة، كما نجوا مع نوح -عليه السلام- وغرق أهل الأرض. ومثالها: مثال إناء مملوء عسلاً، رآه الذباب، فأقبل نحوه، فبعضه قعد على حافة الإناء، وجعل يتناول من العسل، حتى أخذ حاجته ثم طار. وبعضه حمله الشَّرَه فرمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه، فلم يدعه انغماسه فيه أن يتهنَّأ به إلاَّ قليلاً، حتى هلك في وسطه. ومثل الدنيا مثل حبّ نثر على وجه الأرض، وجعلت كل حبة في فخ، وجعل حول ذلك الحَب حَبٌّ ليس في فخاخ، فجاءت الطير، فمنها من قنع بالجوانب ولم يرم نفسه في وسط الحب، فأخذ حاجته ومضى، ومنها من حمله الشَّره على اقتحام معظم الحب، فما استتم اللقط إلاَّ وهو يصيح من أخذه الفخ له» . وقال -رحمه الله تعالى-: «وقد خلق الله الغنى والفقر ليبتلي بهما عباده أيهم أحسن عملاً، وجعلهما سبباً للطاعة والمعصية، والثواب والعقاب، قال -تعالى-: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] » . وقال بعد كلام: « ... فالذهب، والفضة، والمساكن، والملابس، والمراكب، والزروع، والثمار، والحيوان، والنساء، والبنون، وغير ذلك، كل ذلك خلقه للابتلاء والامتحان، ليختبر خلقه أيهم أطوع له وأرضى، فهو الأحسن عملاً. وهذا هو الحق الذي خلق به وله السماوات والأرض وما بينهما، وغايته الثواب والعقاب، وفواته وتعطيله هو العبث الذي نزَّه الله نفسه عنه، وأخبر أنه يتعالى عنه. فقال عزَّ من قائل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116] . والمقصود أنه -سبحانه- جعل الغنى والفقر ابتلاء وامتحاناً للشكر والصبر، والصدق والكذب، والإخلاص والشرك. قال -تعالى-: {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [المائدة: 48] ، وقال -عز وجل-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15] . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= والمال إن لم ينفع صاحبه ضرَّه ولا بد. وكذلك العلم والملك والقدرة، كل ذلك إن لم ينفعه ضرَّه، فإن هذه الأمور وسائلُ المقاصد يتوسَّل بها إليها في الخير والشر، فإن عطلت عن التوسل بها إلى المقاصد والغايات المحمودة توسل بها إلى أضدادها. فأربح الناس من جعلها وسائل إلى الله والدار الآخرة، وذلك الذي ينفعه في معاشه ومعاده. وأخسر الناس من توسَّل بها إلى هواه ونيل شهواته وأغراضه العاجلة، فخسر الدنيا والآخرة ... » . وقال -أيضاً- بعد كلام طويل: «ومسألة المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر مسألة كثر فيها النزاع بين الأغنياء والفقراء، واحتجَّت كل طائفة على الأخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار. ولذلك يظهر للمتأمل تكافؤ الطائفتين، فإن كلاًّ منهما أدلت بحجج لا تُدفع. والحق لايعارضُ بعضه بعضاً، بل يجب اتباع موجب الدليل أين كان. وقد أكثر الناس في المسألة من الجانبين، وصنفوا فيها من الطرفين، وتكلم الفقهاء والفقراء والأغنياء والصوفية وأهل الحديث والتفسير، لشمول معناها وحقيقتها للناس كلهم، وحكوا عن الإمام أحمد فيها روايتين، ذكرهما أبو الحسين في كتاب «التمام» فقال: مسألة الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر في أصح الروايتين. وفيه رواية ثانية: الغني الشاكر أفضل. وبها قال جماعة، منهم ابن قتيبة. ووجّه الأولى واختارها أبو إسحاق بن شاقلا، والوالد السعيد. والتحقيق أن يقال: أفضلهما أتقاهما لله -تعالى-. فإن فُرض استواؤهما في التقوى: استويا في الفضل. فإن الله -سبحانه- لم يفضِّل بالفقر والغنى، كما لم يفضل بالعافية والبلاء، وإنما فضَّل بالتقوى، كما قال -تعالى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... } [الحجرات: 13] . والتقوى مبنية على أصلين: الصبر والشكر. وكلٌّ من الغني والفقير لا بدَّ له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم، كان أفضل. فإن قيل: فإذا كان صبر الفقير أتم، وشكر الغني أتم، فأيهما أفضل؟ قيل: أتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله. ولا يصحُّ التفضيل بغير هذا ألبتة. فإن الغني قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره. وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره. فلا يصح أن يقال: هذا بغناه أفضل؛ ولا هذا بفقره أفضل. ولا يصح أن يقال: هذا بالشكر أفضل من هذا بالصبر، ولا بالعكس؛ لأنهما مطيتان للإيمان لا بد منهما. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= بل الواجب أن يقال: أقومهما بالواجب والمندوب هو الأفضل. فإن التفضيل تابع لهذين الأمرين، كما قال -تعالى- في الأثر الإلهي: «ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه. وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه» . فأيُّ الرجلين كان أقوم بالواجبات وأكثر نوافل، كان أفضل. فإن قيل: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو خمس مئة عام» . قيل: هذا لا يدل على فضلهم على الأغنياء في الدرجة وعلو المنزلة وإن سبقوهم بالدخول؛ فقد يتأخر الغني والسلطان العادل في الدخول لحسابه، فإذا دخل كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع، كسبق الفقير الخفيف في المضائق وغيرها، وتأخر صاحب الأحمال بعده. فإن قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرضت عليه مفاتيح كنوز الدنيا فردَّها وقال: «ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ... » . قيل: احتجّ بحال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل واحدة من الطائفتين. والتحقيق أن الله -سبحانه وتعالى- جمع له بين كليهما على أتم الوجوه. وكان سيد الأغنياء الشاكرين، وسيد الفقراء الصابرين. فحصل له الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، ومن الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه. فمن تأمل سيرته وجد الأمر كذلك؛ فكان أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر» . وقال -أيضاً- بعد كلام طويل جداً ما نصه: «وأي غنيّ أعظمُ مِن غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض، وعرض عليه أن يجعل له الصفا ذهباً، وخُيِّر بين أن يكون ملكاً نبياً وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً. ومع هذا فجُبيت إليه أموال جزيرة العرب واليمن، فأنفقها كلها ولم يستأثر منها بشيء، بل تحمَّل عيال المسلمين ودَيْنهم. فإذا احتجَّ الغني الشاكر بحاله - صلى الله عليه وسلم -، لم يمكنه ذلك إلا بعد أن يفعل فعله. كما أن الفقير الصابر إذا احتجَّ بحاله - صلى الله عليه وسلم -، لم يمكنه ذلك إلاَّ بعد أن يصبر صبره، ويترك الدنيا اختياراً لا اضطراراً. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفَّى كل مرتبة من مرتبتي الفقر والغنى حقها وعبوديتها. وأيضاً فإن الله -سبحانه- أغنى به الفقراء، فما نالت أمَّته الغنى إلا به. وأغنى الناس من صار غيره به غنياً» . وتكلَّم -أيضاً- على الآفات التي تعترض كلاً من (الفقير) و (الغني) ، فقال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= «وسرُّ المسألة: أن طريق الفقر والتقلل طريق سلامة مع الصبر، وطريق الغنى والسَّعَة في الغالب طريق عطب. فإن اتَّقى الله في ماله، ووصل به رحمه، واخرج منه حق الله -وليس مقصوراً على الزكاة، بل من حقه إشباع الجائع، وكسوة العاري، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج والمضطر- فطريقه طريق غنيمة، وهي فوق السلامة. ومَثَل صاحب الفقر كمثل مريض قد حُبِس بمرضه عن أغراضه، فهو يُثاب على حسن صبره على حبسه. وأما الغني فخطره عظيم في جمعه وكسبه وصرفه. فإذا سلم كسبه وحسن أخذه من وجهه وصرفه في حقه، كان أنفع له. فالفقير كالمتعبِّد المنقطع عن الناس، والغني المنفق في وجوه الخير كالمعين والمعلم والمجاهد. والمقصود بهذا الفصل، أنه ليس الفقراء الصابرون بأحق به - صلى الله عليه وسلم - من الأغنياء الشاكرين، وأحقُّ الناس به أعلمهم بسنته، وأتبعهم لها، وبالله التوفيق» . قال أبو عبيدة: ونختم كلامنا على هذه المسألة بملاحظات: الأولى: كلام ابن تيمية في (التفضيل) هو (التفصيل) . نقله عنه تلميذه البار ابن القيم، وتقدم ذلك عنه، ونحيل الأخ القارئ على «مجموع الفتاوى» (11/21، 69، 119-121، 195) ، و (14/ 305-306) ، فانظره فإنه مفيد. الثانية: أخرج أبو نعيم في «الحلية» (7/283) أثراً فيه بيان الخلاف في هذه المسألة، وهو أقدم ما وقفت عليه فيها، مع التنويه إلى أنّ ابن تيمية قال في «مجموع الفتاوى» (11/119) : «وأما الصحابة والتابعون فلم يُنقل عنهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر» . أخرج ابن المبارك في «الزهد» (رقم 564) ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» (ص 273) ، وابن الأعرابي في «الزهد» (رقم 90) بسنده إلى الفضل بن ثور قال: قلت لأبي سعيد -يعني: الحسن البصري-: رجلان طلب أحدهما الدنيا بحلالها، فوصل بها رحمه، وقدم فيها لنفسه، ورجل رفض الدنيا؟ قال: أحبهما إليّ الذي رفض الدنيا. قلت: يا أبا سعيد هذا طلبها بحلالها، فأصابها، فوصل بها رحمه، وقدم فيها لنفسه. قال: أحبهما إليَّ الذي جانبها. وأسند أبو نعيم في «الحلية» (7/283) : «عن عمر بن السكن قال: كنتُ عند سفيان بن عيينة، فقام إليه رجل من أهل بغداد فقال: يا أبا محمد! أخبرني عن قول مطرِّف: لأن أعافى فأشكر أحبُّ إليَّ من أن ابتلى فأصبر، أهو أحبُّ إليك أم قول أخيه أبي العلاء: اللهم رضيتُ لنفسي ما رضيتَ لي؟ قال: فسكت سكتة ثم قال: قول مطرِّف أحبُّ إلي. فقال الرجل: كيف وقد رضي هذا لنفسه ما =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= رضيه الله له؟ فقال سفيان: إني قرأت القرآن، فوجدت صفة سليمان -عليه السلام- مع العافية التي كان فيها: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] ، ووجدت صفة أيوب -عليه السلام- مع البلاء الذي كان فيه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] ، فاستوت الصفتان. وهذا معافى، وهذا مبتلى. فوجدت الشكر قد قام مقام الصبر، فلما اعتدلا؛ كانت العافية مع الشكر أحبَّ إليَّ من البلاء مع الصبر» انتهى. وأورد القرطبي في «تفسيره» (15/215-216) مثله، وقرر قولة سفيان، وردَّ على صاحب «قوت القلوب» فيما عكر به عليه بكلام جيّد، ينظر. ونقل ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/468-469) من «تاريخ نيسابور» مناظرة لصاحبه -وهو أبو عبد الله الحاكم- مع شيخه عبيد الله بن محمد بن نافع بن مكرم الزاهد (ت 384هـ) حول الفقر والغنى، أيهما أفضل، وفيها: «إنما يتفاضل الناس بإيمانهم» ، وهذا الذي تبناه ابن تيمية، فيما نقلناه لك. وانظر لمن فضّل (الغنى) الآيات: النساء: 95-96، سبأ: 37، ص:44، وتفسيرها -على الترتيب- عند القرطبي: (5/343، 14/306، 15/215، 216) . ولمن فضّل (الفقر) الآيات: البقرة: 268، ص: 24، عبس: 1-4، وتفسيرها -على الترتيب- عند القرطبي: (3/329، 15/215، 216، 19/213) . الثالثة: سبق أن ذكرنا مصادر الشافعية وغيرهم في (المفاضلة) عند تقديمنا لهذا الجزء. وانظر «فتاوى ابن الصلاح» (ص 47-50، 52) ، «الفتاوى الحديثية» (ص 44-45) لابن حجر الهيتمي، وللعز بن عبد السلام في «قواعد الأحكام» (2/362-365) ، كلمة مهمة في (المسألة) تقدمت بتمامها في التعليق على (ص 118) ، وقال في «شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال» (ص 255-256) في شرحه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو. ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» أخرجه البخاري (6427) وغيره، قال: «مدح - صلى الله عليه وسلم - المال في حق من صرفه في جهات القُربات؛ لأنه صار وسيلة إلى القُرب من الله، ولأن الصدقات تكفر الخطيئات، وترفع الدرجات. فمدح المال بـ «نِعم» : الحاوية للمدح العام لما ذكرته، وما جاء من ذم الدنيا ومتاعها وزينتها وزخرفها، فإنما جاء لأنه شاغل عن طاعة الله، مُلْهٍ عن ذكر الله وشكره، حاملٌ على الطغيان في أغلب الأحيان. فلذلك غلب ذم الدُّنيا ومتاعها لغلبة أدائها إلى ذلك. وندر مدحها لندرة من يصرفها في مصارفها. وقد جعل الله إنفاق ذلك قربة إليه ومُزلفاً لديه فقال: {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} [التوبة: 99] ، وقال: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] » . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= الرابعة: وللشاطبي في «الموافقات» (5/366-367- بتحقيقي) كلمة قوية جداً، فيها تأكيد للقول بالتفصيل من خلال جمع ما ورد في الباب حول المال، ثم ذكر حال الصحابة في ذلك، وجعل هذه المسألة تحصيل حاصل ثمرة لهذا الأصل، قال بعد كلامٍ عن الدنيا وملذّاتها بما فيها المال: «ولأجله كان الصحابة طالبين لها، مشتغلين بها، عاملين فيها؛ لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها، وعلى اتخاذها مركباً للآخرة، وهم كانوا أزهد الناس فيها، وأورع الناس في كسبها؛ فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى لجهله بهذا الاعتبار، وحاش لله من ذلك، إنما طلبوها من الجهة الثانية؛ فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم، كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى؛ فكان ذلك -أيضاً- من جملة عباداتهم، رضي الله عنهم، وألحقنا بهم، وحشرنا معهم، ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه. فتأمل هذا الفصل؛ فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفي أحوال أهلها، وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة؛ فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه؛ كما يفهمون طلبها على غير وجهه؛ فيمدحون ما لا يمدح شرعاً، ويذمون ما لا يذم شرعاً. وفيه -أيضاً- من الفوائد: فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق، ولا الغنى أفضل بإطلاق، بل الأمر في ذلك يتفصل؛ فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموماً، وكان الفقر أفضل منه، وإن أمال إلى إيثار الآجلة؛ بإنفاقه في وجهه، والاستعانة به على التزود للمعاد؛ فهو أفضل من الفقر، والله الموفق بفضله» . قال أبو عبيدة: ينبغي للمؤمن العاقل الفهم عن الله -تعالى- وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتشبه بالسلف الصالح في أخذ المال والتمتع بملذات الدنيا، ولا يتشبه بالبهائم التي لا تعقل. الخامسة: وأخيراً، من أجمع ما وقفتُ عليه في هذه المسألة مبحث عزيز، فيه تأصيل وتدليل، ينصر (التفصيل) في (التفضيل) ، وضعه العلاّمة أحمد بن نصر الداودي في آخر كتابه «الأموال» (ص 171- 178- ط. المغربية، أو ص 341-352- ط. دار السلام- القاهرة) وعليه مؤاخذة، سيتعقبه المصنف (السخاوي) في كلامه الآتي، وصدر كلامه بقوله على المسألة: «أتى من النص في ذكر الكفاف، وذكر الفقر والغنى، ما فيه لمتأمله من العلماء بيان وشفاء أن الفضل في الكفاف، وأن الفقر والغنى محنتان من الله، وبليتان يبلو بهما أخيار عباده ليبدي صبر الصابرين، وشكر الشاكرين، وطغيان المبطرين، واستكثار الأشرين. وإنما فيه إشكال على الجاهلين والمقصرين، ومن لم يتأمله من الراسخين. يقول الله -تعالى-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] ، وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ =

فهذا ما فتح الله -عزّ وجلّ- به في الجمع بين هذين الحديثين. وقد استروح الدّاودي المالكي (¬1) -رحمه الله- فقال في حديث الدعاء لأنس ¬

= الْقُرْانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، فوضع قوم الكتب على تفضيل الغنى على الفقر. وألّف آخرون على تفضيل الفقر على الغنى، وأغفلوا الحض على الوجه الذي يجب الحض عليه والندب إليه، وأطنبوا في ذلك، وعنف بعضهم بعضاً، وطعن بعضهم على بعض. وأرجو لمن صحت نيته، وخلصت لله طويته، وكانت لوجهه مقالته، وكان معه من العلم ما يسوغ له المقال والاستنباط أن يتغمده الله بعفوه، ويجازيه على نيته، ويصفح عن غفلته. إذ الناس ليسوا بمعصومين، ولا بد لهم من السهو والغفلة في بعض الأحايين، والله -جل وعلا- يؤيد بالتوفيق من يشاء فيما يشاء، ولن تجتمع بفضله هذه الأمة على ضلالة» . وأخذ في سياق الآيات والأحاديث والآثار، في كلام بديع له، يأتي طرف منه في الهامش الآتي، والله الهادي. وانظر: «فتح الرحيم الرحمن شرح لامية ابن الوردي، المسماة «نصيحة الإخوان ومرشد الخُلاّن» » (ص 100-103) . (¬1) قال في كتابه «الأموال» (176- ط. مركز إحياء التراث المغربي أو ص 349 -350-ط. دار السلام) : «ولم يأت في شيء من الحديث فيما علمناه أن النبي -عليه السلام- كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو بذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف، ويستعيذ من فتنة الفقر، ومن فتنة الغنى. ولم يكن يدعو لأحد بالغنى إلا بشريطة يذكرها في دعائه» . ثم قال -رحمه الله تعالى-: «وما روي أنه قال: «اللهم من آمن بي وصدق بما جئت به، فأقلل له من المال والولد» ، فهذا لايصح (!!) في النقل، ولا في الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك في المال وحده لكان محتملاً أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه بالولد، فكيف يدعو أن يقل المسلمون؛ لأن في ذهاب النسل قلتهم وذهابهم، وما يدفعه العيان فمدفوع عنه - صلى الله عليه وسلم -. وأيضاً فأحاديثه لاتتناقض، فيكف يذم فقر معاوية، ويأمر كعب بن مالك وسعداً، أن يبقيا ما ذكر من المال ويقول «إنه خير» ثم يخالف ذلك» . وقد ثبت أنه دعا لأنس بن مالك فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته» . قال أنس: فلقد أحصت ابنتي أني قدّمتُ من ولدي مقدم الحجاج البصرة مئة وبضعاً وعشرين نسمة لدعوة رسول الله وعاش بعد ذلك سنتين وولد له، وبقي نعم ذريته بعده، فلم يدع له بكثرة المال إلا وقد قرن =

أنه يدل على بطلان الحديث الآخر قال: «وكيف يصحُّ ذلك وهو - صلى الله عليه وسلم - يحضُّ على النكاح والتماس الولد» ؟ ‍‍! انتهى. والحكم عليه بالبطلانِ مع ما أسلفتُه من طرقه باطلٌ، نعم هو لا يقاوِم حديث

_= ذلك بقوله: وبارك له فيما أعطيته، فإن قيل: فأي الرجلين أفضل؟ المبتلى بالفقر أو المبتلى بالغنى، إذا صلحت حالةُ كل واحد منهما؟ قيل: السؤال عن هذا لا يستقيم إذ قد يكون لهذا أعمال سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبه، ويكون لصاحبه أعمال يفضل بها من يساويه في تلك الحالة، وقد يكون هذا الذي صلح حاله على الفقر قد لا يصلح حاله على الغنى، ويصلح حاله الآخر على الفقر والغنى، وقد تختلف حالتهما في غير ذلك. فإن قيل: فإن كان كل واحدٍ منهما تصلح حالته في الأمرين وهما في غير ذلك من الأعمال متساويان، وأدى الفقير ما يجب عليه في فقره من الصبر والعفاف والرضى، وأدى الغني ما يجب عليه من الإنفاق والبذل والشكر والتواضع، فأي الرجلين أفضل؟ فعِلْم هذا عند الله، مع أن قوماً ذهبوا إلى تفضيل الفقير لحديث: «إن الفقراء يدخلون الجنة وأصحاب الجدّ محبوسون للحساب» . وقالوا: إنما يحبس هذا للتفاخر والتكاثر، وأما من أدى حقَّ الله في ماله، ولم يرد به التفاخر والتكاثر، وأهلك منه ما قدر له في حقه، وأرصد بباقيه الحاجة إليه؛ فليس أولئك منه السبق لشيء. ويدل على هذا ما ثبت عن النبي -عليه السلام- أنه قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحقِّ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها» . وفي حديثٍ آخر: «رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحقِّ، ورجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار» . فقد بيَّن - صلى الله عليه وسلم - أنه لا شيء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبيِّن عن الله معنى ما أراد، ولو كان من كانت هذه حالته مسبوقاً في الآخرة لما حضَّ الرسول -عليه السلام- على أن يتنافس في عمله ولا وصفه بهذه الصفة» . فما أورده المصنف عن الداودي هو لفظ نقل ابن حجر في «الفتح» (11/138) عنه، ولعله منقول من «شرحه على صحيح البخاري» ، وهو من مصادر ابن حجر كما في «معجم المصنفات الواردة في فتح الباري» (ص 232 رقم 680) ، ومما كتبته في التعريف به فيه: «صرح عبد السلام المباركفوري في «سيرة الإمام البخاري» (196) أنه رأى نسخة قديمة منه، كان يملكها الشيخ نذير حسين الدهلوي» ، ولعله من تصرف ابن حجر -كعادته- في النقل، إذ وجدتُ ابن بطال في «شرحه على صحيح البخاري» (10/171) ساقه كما أثبتناه، وعنده كلام الداودي برمته، وقال عنه: «أحسن ما رأيت في هذه المسألة» ، أي: التفصيل بين الغني والفقير.

تحقيق استعمال العرب لـ (عقرى، حلقى) وغيرها من العبارات التي ظاهرها الدعاء

أنسٍ في الصحة، ولو لم يمكن الجمع بينهما بحيث زال التضاد -إن شاء الله- بين الخبرين وأُعمِلا معاً، كان القول بأن أحدَهما كافٍ أصح. ولذلك تعقّب الداوديَّ شيخُنا -رحمَه الله- وقال: «إنه لا مُنافاةَ بينهما -يعني بين الحضِّ على النكاح والتماسِ الولد، وبين الدعاء بعدم حصُول الولد والمال معاً- لاحتمال أن يكون وردَ في حصول الأمرين معاً» . قال: «لكن يعكِّر عليه كراهيتُه لغير أنس ما دعا به له ... » (¬1) ، ثم أجاب عنه بما أسلفتُه معزوّاً إليه. فإن استُشكِل -أيضاً- دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - على من لم يؤمن به بكثرةِ المال والولد وطول العمر بمن يشاهَدُ من الكفار والمُقلّين منهما معاً، بحيث يكون أشقى الأشقياءِ، فهو من اجتمع عليه فقرُ الدنيا وعذاب الآخرة، وهو الذي خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وكذا بمن يهلك قبل الطعن في السنِّ -أيضاً-، والحالُ أن دعاءَه - صلى الله عليه وسلم - مجابٌ، أمكن أن يقال: لعلّه - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد حقيقة الدعاء عليهم، إنما أراد منه تنفير من يحبهما معاً من محبيه على الوجه المذموم كما تقدم. ونحوه القول في غالبِ من دعا عليهم - صلى الله عليه وسلم - من الكفار ممن تخلّف دعاؤه فيهم بأنه لم يُرد بذلك إهلاكهم، وإنما أراد ردعهم ليتوبوا. وقد قيل في «عقرى حلقى» : أن ظاهره الدعاء لكنه غير مراد، وكذا قيل في «ويل أمه» و «لا أبا له» ، و «ترِبت يداه» ، و «قاتله الله» ونحو ذلك. ويحتمل أن يقال: لعله أراد قوماً مخصوصين في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، أو يقال بالفرق بين من صدر منه الدعاء عليه بطريق التعيين وبين من اندرج في العموم، لا سيما بعد نزول قولِه -تعالى-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ¬

(¬1) انظر: «فتح الباري» (11/138) .

بعض أدعية النبي صلى الله عليه وسلم

فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ، فقد صحّ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحدٍ أو يدعو لأحدٍ قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده: «ربنا لك الحمدُ، اللهم أنج الوليدَ بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيَّاش بن [أبي] ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهمَّ اشْدُدْ وطْأَتَك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (¬1) يجهرُ بذلِك. وكان يقول في بعض صلاتِه في صلاة الفجر: «اللهمّ العن فلاناً وفلاناً» لأحياء من العرب، حتى أنزل اللهُ -عزَّ وجلَّ- {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية [آل عمران: 128] (¬2) . ويستأنس له بقول شيخِنا -رحمه الله- في حديث: «أيّما مؤمن سببتُه أو جلدتُه؛ فاجعل ذلك كفارةً له يوم القيامة» (¬3) ، ما أظنه يشمل ما وقع منه بطريق ¬

(¬1) أخرجه الشافعي في «مسنده» (1/94) ، وابن أبي شيبة (2/316) ، والحميدي (939) ، وأحمد (2/239، 418) ، والبخاري (1006، 2932، 3386، 6200) ، ومسلم (675) ، وابن ماجه (1244) ، والنسائي (2/201) ، وأبو يعلى (5873) ، وابن خزيمة (615) ، وأبو عوانة (2/283) ، والبيهقي (2/197، 244) ، والبغوي (636) من حديث أبي هريرة. ومعنى: «واجعلها» ؛ أي: العقوبة، سنين، أي: القحط سبع سنين، دعا عليهم بالقحط دون الهلاك، طمعاً في إيمانهم رحمة عليهم، وما بين المعقوفتين سقط من الأصل ومن «الجواب» المرفق -وهو بخط السخاوي-، وأثبتُّه من مصادر التخريج. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4027) ، وفي «التفسير» (1/132) ، وأحمد (2/93، 104، 118، 147) ، والبخاري (4070) ، والترمذي (3004) ، والنسائي (2/203) ، وفي «الكبرى» (578، 11075) ، وأبو يعلى (5547) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (1389، 1392) ، والطبري في «التفسير» (7818) ، والطحاوي في «المشكل» (567، 568) ، و «شرح معاني الآثار» (1/242) ، والطبراني في «الكبير» (13113) ، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (303) ، والواحدي في «أسباب النزول» (ص 116، 117) ، وابن خزيمة (622) ، وابن حبان (1987، 1988) ، والبيهقي (2/198) من حديث ابن عمر. (¬3) أخرجه الحميدي (1041) ، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (6/71) ، وعبد الرزاق في «مصنفه» (20294) ، وأحمد (2/243) ، والدارمي (2765) ، والبخاري (6361) ، وفي «التاريخ =

التعميم لغير معيّن، حتى يتناول مَن لم يدرك زمنه - صلى الله عليه وسلم -. بل قال شيخُنا (¬1) -أيضاً- في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اجعل فناءَ أمتي قتلاً في سبيلك بالطعن والطاعون» (¬2) ، إذ استُشكل بأن أكثر الأمة إنما يموتون بغير الطعن ¬

= الكبير» (4/109-110) ، ومسلم (2601) ، وعبد بن حميد (998) ، وأبو يعلى (6313) ، وابن حبان (6515) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (6006-6010) ، والطبراني في «الأوسط» (2330، 8775) ، والبيهقي (7/60 -61) ، والبغوي في «شرح السنة» (1239) ، والخطيب في «الموضح» (1/294) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (2/205- 206) ، وعبد الغني بن سعيد الأزدي في «الأوهام التي في مدخل أبي عبد الله الحاكم» (ص 90-91) من حديث أبي هريرة. (¬1) كلامه الآتي في «بذل الماعون في فضل الطاعون» (الفصل الرابع: ذكر الجواب عن إشكال أورده بعضهم على هذا الحديث يريد القدح فيه، مستنداً إلى أن أكثر الأمة يموتون بغير الطعن والطاعون، فلو ثبت الحديث لماتوا كلهم بأحد الأمرين) ، منه (ص 123 وما بعد) . (¬2) أخرجه أحمد (3/43 و4/238) ، والبخاري في «الكنى» (9/14) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2503) ، و «الجهاد» (189) ، وابن حبان في «الثقات» (7/357) والدولابي في «الكنى» (1/18) ، والحربي في «الغريب» (1/274) ، والطبراني في «الكبير» (22/992، 793) ، والحاكم (2/93) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (6/384) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/2057 رقم 5170 و5/2839 رقم 6702) ، وابن منده في «الصحابة» -ومن طريقه ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 120-121) ، من حديث أبي بردة أخي أبي موسى الأشعري. ونقل ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 121) عن شيخه العراقي قوله: «هذا حديث رجاله ثقات، وكريب بن الحارث ذكره ابن حبان في «الثقات» وروى له هذا الحديث، إلا أنه جعله عن أبي بردة، عن أبي موسى، وظن أنه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وإنما هو أخوه، ولذا ذكره في (الطبقة الثالثة) من «الثقات» فوهم» . قال أبو عبيدة: نعم، رجاله ثقات، سوى كريب بن الحارث، لم يوثقه غير ابن حبان، وترجمه البخاري (4/1/231) ، وابن أبي حاتم (3/2/168) وسكتا عنه. وأخرجه -أيضاً- أحمد (4/395) ، والطيالسي (534) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 211) ، والبزار (3040- زوائد) ، والطبراني في «الأوسط» (1418) ، والصغير (351) ، وابن بشران في «الأمالي» (3/ ق 18) ، والبيهقي في «الدلائل» (6/384) من حديث أبي موسى الأشعري، على =

والطاعون: «يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - دعا لأمته بطريق التعميم، فاستجاب الله دعاءَه في بعضهم فيكون من العامّ المخصوص، ويحتمل أن يكون أراد - صلى الله عليه وسلم - بلفظ «أمتي» طائفةً مخصوصةً كأصحابه مثلاً، أو صفةً مخصوصةً كالخيار مثلاً، فيكون من العامّ الذي أُريد به الخصوص. والأول قد يوجّه بأنَّ الصَّحابة لم يموتوا كلُّهم بالأمرين ولا بأحدهما فقط، وكذلك الخيار؛ فإنَّ الكثير منهم يموتون بغيرِهما، وقريبٌ من الأول دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين بالمغفرة، مع أنه ثبت بالأدلة القطعية عند أهل السنة أن طائفةً منهم يُعذّبون، ثم يخرجون من النار بالشّفاعة. وفي عكس ذلك دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُهلِك أمتَه (¬1) بالغرق، وأن يرفع عنهم الرّجم من السماء والخسف من الأرض، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه أُجيب إليها ثم وقعت بعدُ، فدلّ على أن المراد بنفي ذلك عن الأمة نفيه عن الجميع، وأن وقوعه لبعضهم لا يقدح في صحة الحديث؛ لصلاحيّة اللفظ لإرادة الكلِّ والبعض. وكذا يقال في الحديث المسؤول عنه، وحديث الطاعون (¬2) -أيضاً-: اللفظ صالحٌ لإرادة الكلِّ والبعض، فدل الواقع على أن المراد البعض فيهما، كما دلَّ الواقع في حديث الغرق ونحوه على أن المراد الكلّ، ثم إنه ليس المراد بالكلِّ ¬

= اختلاف شديد في إسناده، تكلم شيخنا الألباني في «الإرواء» (6/70) على بعضها، وصحح الحديث بمجموع طرقه، وفي الباب عن عائشة وابن عمر -رضي الله عنهم-، وصرح ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 323) في موطن آخر بصحته. (¬1) بعدها في «بذل الماعون» (ص 124) -ومنه ينقل المصنف-: «بِسَنة عامة، وأن لا يهلكهم ... » ، وقد سقطت على ناسخ أصل كتابنا هذا، وتصرف المصنف في كلام شيخه ابن حجر الآتي على وجه فيه اختصار، وتقديم وتأخير، فاقتضى التنويه، وسيأتي سياق الأحاديث الدالة على ما ذكره هنا، وما سيذكره قريباً، والله الموفق. (¬2) المذكور قريباً: «اللهم اجعل فناء أمتي ... » .

جميع الأمة من أولها إلى آخرها، وإنما المراد به جميع من يكون موجوداً في عصرٍ من الأعصار في جميع البلاد من الأمة المحمدية، بحيث تنقرض أمة الإجابة ولا يبقى مثلاً من الناس إلا أمة الدعوة. وهذا لا يقع إلا بعد وقوع الآيات ونزول عيسى ابن مريم، وقبض أرواح من يوحّد إذ ذاك من أهل التوحيد، فلا يبقى على وجه الأرض من يقول لا إله إلا الله، فأولئك تقوم عليهم الساعة، كما ثبت في الحديث الصحيح (¬1) . وأما ما قبل ذلك فللعلماء فيه اختلافٌ في مسألة: «هل تخلو الأرض من قائم لله بالحجّةِ؟» (¬2) ، ليس هذا موضع إيراده. وممن نحى إلى أن المراد بالأمة في حديث الطاعون الصحابة أبو العباس القرطبي في «شرح صحيح مسلم» (¬3) ، وتُعقب بأنه قد مات جمع كثيرٌ من الصحابة ¬

(¬1) أخرج مسلم (148) عن أنس رفعه: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» . وأخرج البخاري (7067) ، ومسلم (131) وغيرهما من حديث ابن مسعود: «من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء» ، وأورد ابن حجر في «الفتح» (13/85) ألفاظاً عديدة تدلل على ما ذكره المصنف، وأفرد أبو عمرو الداني في «الفتن» (4/807) : (باب ما جاء أن الساعة تقوم على أشرار الناس) ، فانظره. (¬2) تجد جواز الخلو عند أشراط الساعة آخر الزمان عند الكرماني في «شرحه على صحيح البخاري» (2/38 و4/194 و13/92) ، وسبقه الجويني في «البرهان» (2/1346) ، وأجاز الخلو الجماهير، والصواب أنه فرض لكل عصر، وتحمس له السيوطي في رسالته «الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض» وهي مطبوعة، انظر منها (ص 67، 97 وما بعد) ، وراجع التفصيل وتأصيل المسألة: «مجموع فتاوى ابن تيمية» (20/204) ، «المسودة» (472) ، «إعلام الموقعين» (4/32- بتحقيقي) ، «الاعتصام» (3/313- بتحقيقي) ، «الإحكام» (4/233) للآمدي، «جمع الجوامع» (2/398- مع «شرح المحلي» ) ، «تيسير التحرير» (4/240) ، «إرشاد الفحول» (ص 253) ، وغيرها كثير. (¬3) المسمى: «المفهم لما أُشكل من تلخيص كتاب مسلم» (5/612- ط. دار ابن كثير) ، قال: «إن الطاعون مرضٌ عامٌ يكون عنه موت عام، وقد يُسمّى بالوباء، ويرسله الله نقمة وعقوبة لمن يشاء من عصاة عبيدِه، وكَفرتهم. وقد يُرسله شهادةً، ورحمة للصالحين من عباده، كما قال معاذ =

بغير الطعن والطاعون، وأُجيب: بأنه إذا ساغ تخصيص عموم الأمة بالصحابة، ساغ تخصيص الصحابة بطائفة منهم، ولكن قد استَبعد التقيُّ ابنُ تيمية أصل الجواب في

_= في طاعون الشام: إنه شهادةٌ ورحمةٌ لكم، ودعوة نبيكم. قال أبو قلابة: يعني بدعوة نبيكم: أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا أن يجعل فناءَ أمته بالطّعن والطّاعون. كذا جاءت الرواية عن أبي قلابة بالواو. قال بعض علمائنا: والصحيح بالطعن، أو الطاعون، بأو التي هي لأحد الشيئين. أي: لا يجتمع ذلك عليهم. قلتُ: ويظهر لي: أن الراويتين صحيحتا المعنى، وبيانه: أن مُرادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته المذكورة في الحديث إنما هم أصحابه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لجميع أمته ألاّ يهلكهم بسَنة عامة، ولا بتسليط أعدائهم عليهم، فأجيب إلى ذلك، فلا تذهب بيضتهم، ولا معظمهم بموتٍ عامٍ، ولا بعدوٍّ على مقتضى هذا الدعاء. والدعاء المذكور في حديث أبي قلابة يقتضي أن يفنى جميعهم بالقتل والموت العام. فتعيّن أن يصرفَ الأول إلى أصحابه؛ لأنهم هم الذين اختار الله لمعظمهم الشهادةَ بالقتل في سبيل الله، وبالطاعون الذي وقع في زمانهم، فهلك به بقيتُهم. فعلى هذا: قد جمع الله لهم كلا الأمرين. فتبقى الواو على أصلها من الجمع، أو تحمل (أو) على التنويعية والتقسيمية. والله -تعالى- أعلم» . قال أبو عبيدة: لي تعليقات: الأولى: العالم الذي أبهمه أبو العباس القرطبي في «شرحه تلخيصه صحيح مسلم» -وليس كتابه شرحاً لأصل «الصحيح» كما توهمه عبارة المصنف- هو القاضي عياض، وعبارته في «إكمال المعلم» (7/133) هذا نصها: «الصحيح من الرواية أنه -عليه السلام- أخبره جبريل أن فناء أمته «بطعن أو طاعون» ، فقال: «اللهم فناء بطاعون» ، قال: «وهذا الذي يوافق حديثه الآخر: «أن لا يجعل بأسهم بينهم، وأن لايسلط عليهم عدواً من غيرهم» » . الثانية: قول المصنف الآتي: «وقد يعترض عليه، بأنه قد مات جمع كثير من الصحابة بغير ... » إلى آخره هو بالحرف في «بذل الماعون» (ص 128) لابن حجر. الثالثة: مقولة أبي قلابة «يعني بدعوة نبيكم ... » فيها: «أو» بين «بالطعن» و «الطاعون» بالتنويع والتقسيم لا بالجمع! أخرج ذلك أحمد (5/248) ، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 9) ، ولفظه: «قال أبو قلابة: فلم أدر ما دعوة نبيكم؟ حتى بلغني الحديث: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني سألت ربي أن لا يجمع أمتي على ضلالة، ولا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فأبى عليّ، فقلت: فحُمّىً إذاً أو طاعون» . قال أبو قلابة: فعرفتُ تأويل دعوة نبيكم» .

حمله على الصحابة فقط، وقال (¬1) : «متى سلِّم ذلك، تطرَّق إلى كلِّ حديث أضيف إلى الأمة» ، نعم قد جزَم به شيخُنا (¬2) . فقال: «والحقُّ أن أصل الدَّعوة للصَّحابة، ولا منْع (¬3) من إلحاق غيرهم بهم في الفضل المذكور» ، وأيَّده بما يضيق المحلُّ عن إيراده (¬4) . وحديث الغرَق المشار إليه هو في «صحيح مسلم» من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، أنه - صلى الله عليه وسلم - أقبل ذات يومٍ من العالية، حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع ركعتين، وصلّينا معه، ودعا ربّه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدةً، فسألتُ ربي أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسَهم بينهم فمنعنيها» (¬5) . ¬

(¬1) فيما نقله المنبجي في «الجزء الذي جمعه في الطاعون» ، أفاده ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 129) ، وجزء المنبجي هذا محفوظ في الظاهرية، وهو في (27) ورقة، وقال عنه ابن قاضي شهبة: «وهو يدل على حفظ وفضل، وفيه فوائد كثيرة» ، وسبب تأليفه لما رأى في طاعون سنة 764هـ حدوث بدعة، وهي أدعية مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرؤيا، أفاده حاجي خليفة في «كشف الظنون» (876، 1574) . وانظر: «الأعلام» (7/41-42) للزركلي. (¬2) يريد الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-. (¬3) كذا في الأصل! وفي مطبوع «بذل الماعون» (ص 129) : «يمانع» . (¬4) انظر: «بذل الماعون» (ص 129 وما بعد) . (¬5) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/175، 181- 182) ، ومسلم (2890) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (10/320-321، 11/459) ، و «المسند» ، وعمر بن شبة في «تاريخ المدينة» (1/68) ، وأبو يعلى في «المسند» (734) ، والبزار (3/328) برقم (1125) ، والدورقي في «مسند سعد» (39) ، وابن حبان (7237) ، والمفضل الجندي في «فضائل المدينة» (ص 42) ، وابن خزيمة، وابن مردويه، وأبو الشيخ -كما في «الدر المنثور» (3/17- 18) ، والواحدي في «الوسيط» (2/284) ، والبيهقي في «الدلائل» (6/526) ، والبغوي في «شرح السنة» (4014) ، وفي «تفسيره» (2/104) ، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 7) من طرق عن عثمان بن حكيم الأنصاري، قال: أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص.

وفي الباب عن أنس (¬1) ، وثوبان (¬2) ، وخبّاب بن الأرتّ (¬3) ، وابن عباسٍ (¬4) ، ومعاذ بن جبل (¬5) ، وأبي بصرة الغفاري (¬6) -رضي الله عنهم-. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/146، 156) ، والنسائي في «الكبرى» -كما في «تحفة الأشراف» (1/242) -، وابن خزيمة (1228) ، والطبراني في «الصغير» (1/8) ، والحاكم (1/413) ، وأبو نعيم (8/326) ، والضياء في «المختارة» (2220) ، وهو صحيح. (¬2) سيأتي لفظه عند المصنف قريباً، وهناك تخريجه. (¬3) أخرجه أحمد (5/108-109) ، وعبد الرزاق في «التفسير» (2/210) ، والنسائي في «المجتبى» (3/216-217) ، و «الكبرى» (1241، 1242) ، والترمذي (2175) ، وابن حبان (7236) ، وابن جرير في «التفسير» (7/144) ، والطبراني في «الكبير» (3621) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (13/319) ، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 8) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (14/321) ، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (3/18) إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه. (¬4) سيأتي لفظه عند المصنف قريباً، وهناك تخريجه. (¬5) أخرجه أحمد (5/240، 243، 248) ، وابن أبي شيبة (10/318-319) ، وابن ماجه (3951) ، وابن خزيمة (1218) ، والحربي في «غريب الحديث» (3/960) ، والطبراني في «الكبير» (20 رقم 306) ، وفي «مسند الشاميين» (1131) ، والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص 380-381) ، وإسناده صحيح. وعزاه ابن كثير في «تفسيره» (3/267) إلى ابن مردويه. (¬6) أخرجه أحمد (6/396) ، والطبراني في «الكبير» (2171) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/24) من طريق أبي هانئ الخولاني، عن رجل، عن أبي بصرة الغفاري، رفعه. قال الهيثمي في «المجمع» (1/177 و7/222) : «وفيه راوٍ لم يُسمَّ» . قال أبو عبيدة: وفي الباب عن جمع آخرين، هذا ما وقفتُ عليه منهم على عجلة، والله الموفق: * حديث خالد الخزاعي: أخرجه البزار (3289) ، وابن جرير (7/144) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2333) ، والطبراني في «الكبير» (4112-4114) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (2 رقم 2446، 2447) . وعزاه ابن حجر في «الإصابة» (2/257) إلى أبي يعلى، والحسن بن سفيان، وقال: «رجاله ثقات» ، وحسنه في «مختصر زوائد البزار» (2/164-165) . وانظر: «المجمع» (7/222) . =

ولفظ حديث ثوبان: «وإني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنةٍ عامةٍ، وأن لا يُسلّط عليهم عدوّاً من غيرهم، وأن لا يُلبِسَهم شيعاً ويذيق بعضَهم بأس بعضٍ، فقال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُردُّ، وإني أعطيتُك لأمتك أن لا أهلكَهم بسنةٍ عامةٍ، وأن لا أُسلِّط عليهم عدوّاً من غيرهم فيستبيح بيضتهم، حتى يكون بعضهم يهلِكُ بعضاً» (¬1) . ¬

= * حديث أبي هريرة: أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (4 رقم 7415) ، والبزار (3290) ، والطبراني في «الأوسط» (1883) ، وعزاه ابن كثير في «تفسيره» (3/269-270) إلى ابن مردويه. وقال الهيثمي في «المجمع» (7/222) : «رجاله ثقات» . وقال ابن حجر في «مختصر زوائد البزار» (2/164) : «صحيح» . * حديث حذيفة بن اليمان: أخرجه ابن أبي شيبة (10/318 و11/459) بسندٍ حسن إلا أن فيه تدليس ابن إسحاق. وعزاه ابن كثير (3/266) لابن مردويه في «تفسيره» . * حديث عبد الله بن عمر: أخرجه أحمد (5/445) ، والبغوي في «شرح السنة» (4013) ، وقال: «هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه» ، وعزاه في «الدر المنثور» (3/18) للحاكم، قال: «وصححه» . وقال ابن كثير (3/266) : «إسناده جيد قوي» . (¬1) أخرجه الطيالسي (991) ، وابن أبي شيبة (11/458) ، وأحمد (5/278، 284) ، ومسلم (2889) ، وأبو داود (4252) ، والترمذي (2176) -وقال: «حديث حسن صحيح» -، وابن ماجه (3952) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (456) ، و «السنّة» (1/125) ، والطبري في «التفسير» (7/144) ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي في «جزء فيه أحاديث أيوب السختياني» (رقم 19، 21، 22) ، وابن حبان (7238) ، والطبراني في «الأوسط» (8392) ، وفي «مسند الشاميين» (2691) ، والحاكم (4/449) ، والبيهقي (9/181) ، وفي «الدلائل» (6/526- 527) ، والبغوي في «شرح السنة» (4015) ، وأبو نعيم في «الدلائل» (ص 469- 470) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1113) ، وأبو عمر الداني في «الفتن» (4) من حديث ثوبان. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (3/17) إلى عبد بن حميد في «تفسيره» . =

وعند ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام من «تفسيره» في هذه الآية من حديث ابن عباسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دعوت اللهَ عزَّ وجلَّ أن يرفعَ عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوتُ اللهَ أن يرفع عنهم الرَّجم من السماء، والخسفَ من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً ويذيقَ بعضَهم بأس بعضٍ، فرفع الله عنهم الخسف والرَّجم، وأبى أن يرفع الآخَرتَين» (¬1) . ونحوه عند البخاري عن جابر قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذُ بوجهك» {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: «أعوذ بوجهك» {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «هاتان أهون وأيسر» (¬2) . ¬

= وكان معمراً يرويه بسند حديث ثوبان، إلا أنه يجعله من (مسند شداد بن أوس) ، كما عند عبد الرزاق في «التفسير» (2/210-211) ، وأحمد (4/123) ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي في «جزء فيه أحاديث أيوب السختياني» (رقم 18، 23) ، وإبراهيم الحربي في «غريب الحديث» (3/ 957) ، والطبري في «التفسير» (7/144) ، والبزار (3291- زوائده) ، وأبي عمرو الداني في «الفتن» (رقم 6) ، وعزاه ابن كثير إلى «تفسير ابن مردويه» ، وقال: «إسناده جيد قوي» . وقال ابن حجر في «الفتح» (8/293) : «إسناده صحيح» . وقال الهيثمي في «المجمع» (7/221) : «رجال أحمد رجال الصحيح» . وانظر: «السلسلة الصحيحة» (رقم 2) . (¬1) عزاه ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 124- 125) إلى ابن مردويه، ومنه نقله المصنف، وهو في «الفتح» (8/293) ، و «الكافي الشاف» (2/32) -أيضاً- معزواً له -وسكت عنه-، وكذا فعل كل من: ابن كثير في «تفسيره» (3/269) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (7/284) . وظفرت به -مختصراً- عند الطبراني في «الكبير» (11 رقم 12274) بسند فيه محمد بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ. وانظر: «المجمع» (7/222) ، وصح عنه بعضه موقوفاً عند ابن أبي حاتم في «التفسير» (رقم 7412) . (¬2) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/309) ، وعبد الرزاق في «تفسيره» (2/211) ، والحميدي =

ولعبد الرزاق من حديث أُبيِّ بن كعبٍ، في قوله تعالى: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قال: الرّجم، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: الغرق (¬1) . وبحديث سعدٍ تَعقَّب شيخُنا رحمه الله قولَ بعضِ شرّاح «المصابيح» أن جميعَ دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مستجابةٌ، وقال: «إن في قوله غفلة عن الحديث الصحيح، وهو «سألت اللهَ ثلاثاً» وذكرَه» . ونحوه قولُ القاضي عِياض في «الشفا» : «قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل لأمته أشياء من أمور الدين والدنيا، أُعطي بعضَها ومُنِع بعضها» (¬2) . انتهى. ويُساعِد شيخَنا من أجاب عن استشكالِ ظاهِر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابةٌ» (¬3) بما وقع لكثيرٍ من الأنبياء من الدعوات المجابة، ولا سيما نبينا - صلى الله عليه وسلم - ¬

= في «مسنده» (1259) ، ونعيم بن حماد في «الفتن» (1730) ، والبخاري (4628، 7313، 7406) ، والنسائي في «التفسير» (1/470-471) ، وفي «الكبرى» (7731) ، والترمذي (3065) ، وابن خزيمة في «التوحيد» (1/27) ، والطبري في «تفسيره» (11/422) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (4/1311 رقم 7410، 7411) ، وابن حبان (7220) ، وأبو يعلى (1829) و (1967) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (3000) ، والإسماعيلي في «مستخرجه» -كما في «الفتح» (8/292) -، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 313) ، والبغوي في «شرح السنة» (4016) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/26) ، وفي «الاعتقاد» (ص 89) ، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 14) من حديث جابر بن عبد الله. (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (4/1309 رقم 7398) مطولاً، وعزاه ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 125) إلى عبد الرزاق -ومنه ينقل المصنف- وهو غير موجود في مطبوع «تفسيره» . (¬2) الشفا (1/433- مكتبة الفارابي، أو 2/365- مع «نسيم الرياض» ) . (¬3) أخرجه مالك (1/214- تنوير) ، وأحمد في «مسنده» (2/275، 381، 409، 426) ، والبخاري (6304، 7474) ، ومسلم (199) ، والترمذي (3602) ، وابن ماجه (4307) ، والدارمي (2806) ، وهناد في «الزهد» (182) ، وابن المبارك في «الزهد» (1621، 1624) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (رقم 1173) ، وابن راهويه في «المسند» (68، 69) ، والآجري في «الشريعة» (ص 341) ، وابن منده في «الإيمان» (892، 913) ، وابن خزيمة في «التوحيد» (2/265) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1039-1041) ، والطبراني في «الأوسط» (1748) ، وتمام في «فوائده» (1123) ، =

في فضائل الدعاء

بقوله: أن المرادَ بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة، فحالهم فيها بينَ الرجاء والخوفِ (¬1) . وكذا من قال: إن المراد بأنَّ لكلٍّ منهم دعوةً عامةً مستجابةً في أمته، إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يُستجاب، ومنها ما لا يُستجاب. وبالجملة فالمقام خطِرٌ، وإذا كان ورَد في حقِّ المسلمين قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من رجلٍ مسلمٍ دعا اللهَ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةٌ، إلا أعطاه بها إحدى خصالٍ ثلاثٍ: إما أن يُعجّل له دعوَته، وإما أن يدّخر له في الآخرةِ، وإما أن يدفعَ عنه من السوء مثلها» (¬2) . ¬

= والجركاني في «جزئه» (رقم 12) ، وأبو عوانة (1/90) ، والبغوي (1235- 1237) ، والفسوي (1/400) ، والبيهقي (8/17) ، وفي «الشعب» (313) ، و «الأسماء والصفات» (ص 213) ، واللالكائي في «السنة» (رقم 1767- 1768، 2039- 2041) من حديث أبي هريرة. (¬1) انظر في تقرير معنى الحديث: «لكل نبي ... » : «مجموع فتاوى ابن تيمية» (8/336) ، «الموافقات» (5/310-314- بتحقيقي) ، وفيه تقرير الشاطبي بناءً على رواية صحيحة للحديث بلفظ: «اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ... » . أخرجه أحمد (1/281، 295) ، والطيالسي (2711) ، وأبو يعلى (2328) في «مسانيدهم» ، وابن شاهين في «جزء من حديثه» (رقم 15) ، والبيهقي في «لدلائل» (5/481) بسندٍ جيد من حديث ابن عباس. صحة الإيثار في أمور الآخرة، إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أُعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا، ويعكر على هذا أن دعوته - صلى الله عليه وسلم - ليست مخصوصة به، بل لأمته، فلا يحصل فيها معنى الإيثار المذكور. وانظر لتأكيد توجيه المصنف: «الأجوبة المرضية» للمصنف (3/1121- 1122) ، «السلسلة الصحيحة» (2538) . (¬2) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد « (710) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (10/201) ، ومن طريقه وغيره: ابن عبد البر في «التمهيد» (5/343-344، 344، 345) ، وأحمد (3/18) ، وعبد ابن حميد في «المنتخب» (937) ، والطحاوي في «المشكل» (2/336 رقم 882- ط. مؤسسة الرسالة) ، وأبو يعلى في «المسند» (1019) ، والطبراني في «الدعاء» (35، 36، 37) ، و «المعجم الصغير» (2/92) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (3406) ، وابن شاهين في «الترغيب والترهيب» =

وقال - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده ما أذِن الله لعبدٍ في الدعاء حتى أذِن له في الإجابة» (¬1) ، فكيف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فضلاً عن نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -. ¬

= (رقم 142) ، والبزار في «مسنده» (3143، 3144- زوائده) ، والحاكم في «المستدرك» (1/493) ، والبيهقي في «الدعوات الكبير» (329) ، و «الشعب» (1129، 1130) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 311، 312) ، وعبد الغني المقدسي في «الترغيب في الدعاء» (رقم 22) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (21/75) من حديث أبي سعيد الخدري. وإسناده جيد. (¬1) أخرجه الطبراني في الدعاء (39) ، وأبو نعيم في الحلية (3/263) من حديث أنس بن مالك، وقال عقبه: «هذا حديث غريب، تفرد به حبيب كاتب مالك، عن محمد [بن عمران] ، عنه» . وأورده الديلمي في الفردوس (6269) من حديث أنس. وحبيب بن أبي حبيب بن إبراهيم كاتب مالك، متروك. انظر ترجمته في: «تهذيب التهذيب» (1287) لابن حجر، وفيه: «قال النسائي وأبو حاتم: متروك الحديث، وقال ابن حبان: أحاديثه كلها موضوعة، وقال أبو داود: كان يضع الحديث» . وانظر له: «الكامل» (2/411- 414) ، و «الكاشف» (1/145) . ثم ظفرت له بطريق أُخرى عن أنس: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/322) ، والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (1/242) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/171) ، وعبد الغني المقدسي في «الترغيب بالدعاء» (رقم 15) ، ولفظه: «ما كان الله -عز وجل- ليفتح لعبد بالدعاء، فيغلق عنه باب الإجابة، الله -عز وجل- أكرم من ذلك» . وسند واهٍ بمرة، فيه الحسن بن محمد البلْخي، قال العقيلي: «منكر الحديث» ، وقال عن هذا الحديث: «ليس له أصل» ، وأقره السيوطي في «اللآلئ» (2/354) . وقال ابن عدي عن البلخي: «ليس بمعروف، منكر الحديث عن الثقات» ، وقال ابن حبان: «يروي عن حميد الطويل وعوف الأعرابي الأشياء الموضوعة» . انظر: «المجروحين» (1/238) ، «الميزان» (1/519) ، «تنزيه الشريعة» (2/321) . ثم وجدت له عن أنس طريقاً ثالثة ضمن حديث فيه: «من أُلهم الدعاء لم يحرم الإجابة» . أخرجه عبد الغني المقدسي في «الترغيب في الدعاء» (رقم 17) وفيه أبو نصر الليث بن محمد المروزي، أحد المجاهيل. وفي الباب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أعطى الذّكر، ذكره الله -تعالى-....» ، وفيه: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= «ومن أعطى الدُّعاءَ أُعطي الإجابة، لأن الله -تعالى- يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 90] ... » وله تتمة. أخرجه الطبراني في «الصغير» (2/92) ، و «الأوسط» (رقم 7023- ط. الحرمين) -ومن طريقه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/247- 248) ، ومن طريقهما ابن الجوزي في «الواهيات» (2/ 355) -، والبيهقي في «الشعب» (8/434-435 رقم 4211) من طريق محمد بن إسحاق المروزي: حدثنا محمود بن العباس: ثنا هشيم، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عنه -رضي الله عنه-. وأوله عند الطبراني: «من أعطىأربعاً أُعطي أربعاً ... » . وضعّفه البيهقي، وفصل الهيثمي في «المجمع» (10/149) بقوله: «فيه محمود بن العباس، ضعيف» . وقال ابن الجوزي على إثره: «هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تفرَّد به محمود بن العباس، وهو مجهول» . قلت: إسناده واهٍ جداً، ولذا قال الذهبي في «الميزان» (4/77-78) في ترجمة (محمود بن العباس) : «عن هشيم بخبر كذب، لعله واضعه» . وأقره ابن حجر في «اللسان» (6/3) . وأما محمد بن إسحاق بن موسى المروزي فقد أورد الخطيب الحديث في ترجمته، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وأخرجه البيهقي في «الشعب» (8/433-434 رقم 4210) بنحوه، وفيه عبد العزيز بن أبان، قال البيهقي عنه: «متروك» . وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: «ما كان الله ليأذن لعبده في الدعاء ويغلق عنه باب الإجابة» . أخرجه ابن شاهين في «الترغيب والترهيب» (رقم 152) . وإسناده واهٍ -أيضاً-، فيه بكر بن خنيس، يروي الموضوعات، واتّهمه ابن حبان بالوضع، وفيه ضرار بن عمرو، لا شيء، وكان يجعله عن يزيد الرقاشي، عن أنس، كما عند الكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص34) . وأرجى ما وجدته في هذا الباب: ما أخرجه ابن أبي شيبة (6/22) ، وعبد الرزاق (10/442 رقم 19644) ، والبيهقي في «الشعب» (1142، 1143) ، وعبد الغني المقدسي في «الترغيب في الدعاء» (رقم 16) من طريقين عن أبي الدرداء قال: «أكثروا من الدعاء، فإنه من يُكثر قرع الباب أوشك أن يُفتح له» ، وهذا حسن بمجموع الطريقين عن أبي الدرداء قوله، والله أعلم. وظفرت بنحوه عن ابن مسعود قوله -أيضاً-.

ولا يدفع ذلك ما ورَد التصريحُ منه بعدم الإجابة فيه، وعلى كلِّ حالٍ فقد استُغْنِيَ بما أبديتُه من الأجوبة عن التقيُّد في ورطةِ هذا، والله الموفق (¬1) . تمَّ الكتاب بحمد الله وعونِه وحُسن توفيقِه، وذلك على يد الفقير المعترف بالتقصير، أبو الفضل الأعرَج (¬2) ، له ولمن دعا له بالمغفرة، ولجميع المسلمين. وكان الفراغُ منه عام ثمانين وثماني مئة، وصلى الله على سيدنا محمد، وآلِه وعترته الطيبين الطاهرين، وسلّم تسليماً أبداً (¬3) . ***** ¬

(¬1) للمصنف في مواطن من «الأجوبة المرضية» كلام فيه نحو ما قرره هنا، قال في (2/ 743- 745) بعد أن أورد النصوص: «لا معارضة بين دعائه - صلى الله عليه وسلم - لأنس -رضي الله عنه- بكثرة المال وبين دعائه لمن يحب بقلّة المال؛ لإمكان أن يقال: ليس المالان في الموضعين على حد سواء» . وذكر فوائد المال المعتبرة، قال: «وإنما يحب المؤمن المال لهذه الأشياء» ، قال: «وإذا تأمّلت قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وبارك له فيه» ظهر لك به تقوية ما قررته خصوصاً. ومن جملة استمرار البركة: عدم إنفاذها من بين يديه واحتياجه إلى اللئام ممن يفخر ويزهو بها عليه، وبالله التوفيق» . (¬2) تقدمت ترجمته عند التعريف بالنسخة المعتمدة بالتحقيق. (¬3) فرغتُ من النظر فيه والتعليق عليه ضحى يوم الأربعاء السابع من جمادى الآخر، سنة 1424هـ. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

جواب في الجمع بين حديثين

جواب في الجمع بين حديثين، هما: داءه صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك بكثرة المال والولد، وحديث دعائه بذلك على من لم يؤمن به ويصدقه تأليف الشيخ العلامة محمد بن عبد الرحمن السخاوي - رحمه الله تعالى - (831 - 902)

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدأن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فهذا جواب عن توفيق بين حديثين، لم أره منشوراً من قبل، وهو في موضوع (المال) ، إذ هو توفيق بين دعائه - صلى الله عليه وسلم - لأنس بكثرة المال، ودعائه - صلى الله عليه وسلم - لبعض أحبابه بقلته. والمادة التي فيه شبيهة مع ما في «السر المكتوم» بل تكاد تكون مختصرة له، فالأحاديث والآثار والأقوال والنقولات متطابقة، ولذا جعلته عقب «السر المكتوم» . وللسخاوي -رحمه الله تعالى- أجوبة متعددة في هذا الموضوع، نشر منها غير واحد في «الأجوبة المرضية فيما سئل عنه من الأحاديث النبوية» (¬1) . وفيها كثير من النقولات المتشابهة مع ما في «السر المكتوم» ، مع زيادة في أحدها كادت أن تنحصر في القسم الذي نقلته في (توثيق نسبة «السر المكتوم» للسخاوي) . وهذا الجواب -الذي ننشره لأول مرة- خالٍ من عنوان، وهو مذكور في فهارس دار الكتب المصرية، تحت: «جواب في الجمع بين حديثين، هما: دعاؤه لأنس بن مالك بكثرة المال والولد، وحديث دعائه بذلك على من لم يؤمن به ¬

(¬1) انظرها فيه (2/577-589، 739-745 و3/998-1002) .

ويصدّقه» ، وهكذا أثبت على طرته بخط متأخر جدا ًعنه، وهذا الجواب من محفوظات دار الكتب المصرية، تحت رقم (210- مجاميع) في (6) ورقات، في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة (19) سطراً، أوله: «الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، ... » ، وآخره: « ... والله الموفق، قاله وكتبه محمد السخاوي الشافعي، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، آمين» . وهذه النسخة بخط السخاوي المعروف، وقد ألحق بخطه في الهوامش زيادات، ووضع بعدها (صح) . ولا يبعد عندي أن يكون هذا الجواب هو أصل «السر المكتوم» ، ثم بدا له -فيما بعد- أن توسَّع فيه، ولا سيما بعد أن طلب منه الملك الأشرف قايتباي (¬1) ذلك، ويقوي هذا الاحتمال الوقوف على تأريخ كلٍّ منهما، وهذا ما لم نقف عليه. ثم ظهر لي عكس هذا الاحتمال، وتقوى عندي، ذلك أن السخاوي -رحمه الله- أشار في أول جوابه هذا أنه ألفه بطلب من الملك الأشرف، لكنه أبهمه، ولم يسمِّه، وقال ما نصُّه: «والتمس (أي الملك الأشرف) من المملوك (أي: السخاوي) ، فكتب ذلك باختصار، لكونه فهم أنّ الغرض حين سمَّى القاصد، إنما هو بيان مرتبة الحديث الثاني، ومن أخرجه، ثم تبيَّن له حقيقة المراد، فقال على سبيل الغرض على المشار إليه، لا قصداً للتطويل لديه، غير معترض لما كتبه أولاً في تخريج الحديث ... » . نستفيد من هذا: أن الملك الأشرف طلب اختصاراً لجواب ورد عليه للسخاوي، يريد منه صحة الحديث الثاني -إنْ ثبت- وجواب الجمع فقط، وهذا ¬

(¬1) انظر ما زبرناه في مقدمة التحقيق لـ «السر المكتوم» .

نسخة أخرى لهذا الجواب

يشعر أن «السر المكتوم» ألفه قبل هذا الجواب، ووقف عليه الملك الأشرف، وطلب منه اختصاره، ففعل السخاوي في هذا الجواب، هذا ما بدا لي، والله أعلم بالصواب. * نسخة أخرى لهذا الجواب: وظفرتُ -بعد بحث شديد- في «الفهرس الموجز لمخطوطات مؤسسة علال الفاسي» (2/124-125 رقم 932) على نسخة في المؤسسة المذكورة برقم (4172) في (26) ورقة! ضمن مجموع (ق 11-37) بخط مغربي، سمّاه المفهرس هكذا: «جواب عن سؤال حول حديث: «اللهم من أحبني فارزقه الكفاف» » ، ولا أدري هل هو نسخة أخرى من «السر المكتوم» (¬1) ، أم نسخة أخرى من هذا الجواب، أم جواب آخر للسخاوي في الموضوع نفسه، إذ هذا الموضوع أشغل السخاوي كثيراً، وكان له فيه جهود متعددة. * عملي في التحقيق: ويتلخص عملي في هذا الجواب على ضبط نصه، ودقّة مقابلته على المثبت بخط صاحبه السخاوي، وأحلت في تخريج الأحاديث والآثار وتوثيق النصوص على ما علقته على «السر المكتوم» ، فقد بذلتُ في ذلك -ولله الحمد والمنة- جهداً أرجو الله أن يكون مميزاً، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتي، وأن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، والإحسان في العلم والتعلُّم والبحث، وأن يجنبني الخطأ والزلل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وكتب أبو عبيدة بعد عشاء يوم السبت 12/جمادى الآخرة/1424هـ ¬

(¬1) إذ عدد ورقاته يحتمل ذلك.

صورة

صورة

مقدمة الجواب

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. برزت الإشارة بالإيماءات مع صريح العبارة من علاّمة مطيق منطيق، وفهّامة متحقق بالتدقيق والتحقيق، مارس كثيراً من العلوم، ونافس بفكره الصافي في فنَّيِّ المنطوق والمفهوم، وظهرت سيادتُه وانتشرت رئاسته، واغتبط الملوك ببهجته ونضارته، وارتبط الغنيُّ فضلاً عن الصعلوك بساحته -زاده الله -تعالى- من فضله، وأبقاه لنشر العلم والتنويه بأهله، وختم له بالحسنى، ورفعه إلى المحل الأسنى- إلى استشكال الجمع بين دعائه - صلى الله عليه وسلم - لخادمه سيدنا أنس بن مالك -رضي الله عنه-، حسبما اتفق عليه الشيخان بكثرة المال والولد مع كونه -كما روي من أوجه يرتقي بها إلى الحُسن- دعا بذلك على من لم يُؤمن به ولم يُصدّقه، والتُمس من المملوك الجواب فكتب ذلك باختصار لكونه فهم أن الغرض حين سمى القاصد إنما هو بيان مرتبة الحديث الثاني ومَنْ أخرجه، ثم تبين له حقيقة المراد. فقال على سبيل الغرض على المشار إليه، لا قصداً للتطويل لديه، غير متعرضٍ لما كتبه أولاً في تخريج الحديث: الجواب كما ظهر لي أنه يقال: ليس المالان في الموضعين على حدٍّ سواء، فالذي دعا لخادمه بالكثرةِ منه هو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: «لا خير فيمن لا يُحبُّ المال ليصلَ به رحمه، أو يؤدّي به عن أمانته ويستغني به عن خلق ربه» (¬1) . والمعنى في هذا كما قال العسكري: إنه لا خير فيمن يُحبُّ المال لغير هذه الخصال، وإنما يحبُّ المؤمنُ -يعني: الكامل- المالَ لهذه الأشياء (¬2) ، ونحوه قول سعيد بن المسيّب -رحمه الله-: «لا خير فيمن لا يجمع المالَ فيقضي دينَه ¬

(¬1) مضى تخريجه (ص 83) . (¬2) نقله عنه السخاوي في «الأجوبة المرضية» -أيضاً- (2/744) .

أحاديث في مدح المال الصالح للرجل الصالح

ويصل رحمَه، ويكفّ به وجهَه» (¬1) . ولذلك يروى -كما أخرجه أحمد وابن منيع في «مسنديهما» - من حديث عمرو بن العاصي -رضي الله عنه-، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمرو نعمّا بالمال الصالح للمرء الصالح» -وفي لفظ: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (¬2) . وأخرج الديلمي عن جابر -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «نعم العون على تقوى الله المال» (¬3) . وعند الطبراني في «الأوسط» عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «قيل يا رسول الله من السيد؟ قال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام-، قالوا: فما في أمتك من سيد؟ قال: بلى، رجل أعطي مالاً حلالاً، ورزق سماحة، وأدنى الفقير، وقلّت شكاته في الناس» (¬4) . فمن تكون الدنيا في يديه ويؤدِّي الحقوقَ منها، ويتطوَّع بالأمور المستحبة فيها، ولم تكن عائقة له عن الوصول إلى الله تعالى، ولا لها في قلبه مزيَّة، ولا يفخر بها خصوصاً على من دونه، يكون ذلك زيادة له في الخير. وكم من غنيٍّ مُتَّصفٍ بذلك وأزيد منه مثل سليمان -عليه السلام-، وعثمان ابن عفّان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة الفياض أحد العشرةِ -رضي الله عنهم-. بل قد حُملت خزائنُ الأرض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى صاحبيه أبي بكرٍ وعمرَ -رضي الله عنهما-، فأخذوها ووضعوها في مواضعها، وما هربوا منها لكونهم قد استوى عندهم الماء والمال، والذهب والحجر، كما عُرف من سيَرهم وأحوالِهم (¬5) . ¬

(¬1) مضى تخريجه (ص 84) . (¬2) مضى تخريجه (ص 84) . (¬3) مضى تخريجه (ص 85) . (¬4) مضى تخريجه (ص 86) . (¬5) هذا الكلام منقول عن الغزالي في «الإحياء» (4/204- ط. دار إحياء الكتب العربية) .

أحاديث في ذم المال وذم الدنيا

على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر في الدعاء لأنس -رضي الله عنه- بالإكثار فقط، بل ضم إليه الدعاء بالبركة الذي صدوره منه - صلى الله عليه وسلم - يشمل عدم الافتتنان به، بحيث يزول محذوره، إذ الدنيا بلاء وفتنة (¬1) . ففي الأحاديث الإلهية يقول الله -عزَّ وجلَّ-: «ابن آدم ما خلقت هذه الدنيا إلا محنة» (¬2) ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعملون» (¬3) . وقال أيضاً: «إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وأنهما مهلكاكم فانظروا كيف تعملون» (¬4) . وقال -أيضاً-: «لكل أمة فتنة، وفتنةُ أمتي المال» (¬5) . وكذا يشمل عدم نفادها من بين يديه، واحتياجه إلى اللئام ممن يفخر ويزهو بها عليه (¬6) . قال - صلى الله عليه وسلم - لجرير -رضي الله عنه-: «يا جرير إني أحذِّرك الدُّنيا، وحلاوةَ رضاعها، ومرارة فطامها» (¬7) . ولا شك أن من فاز بشمول البركة في ماله كان ممن يغبط على نواله. قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلَّطه على هلكته في الحق، ... » (¬8) . ¬

(¬1) نحوه في «الأجوبة المرضية» (2/745) . (¬2) مضى تخريجه (ص 105) . (¬3) مضى تخريجه (ص 105) . (¬4) مضى تخريجه (ص 106) . (¬5) مضى تخريجه (ص 106) . (¬6) نحوه في «الأجوبة المرضية» (2/745) . (¬7) مضى تخريجه (ص 112) . (¬8) مضى تخريجه (ص 112) .

نوع المال الذي دعا صلى الله عليه وسلم بالكثرة منه على من لم يؤمن به

وأما المال الذي دعا بالكثرة منه على من لم يُؤمن به، وكذا الذي دعا بالتقلُّل منه لمحبِّيه، فهو المباين لما تقدَّم بكل طريق في الحقوق الواجبة، وكذا المستحبة، بل هو المعنيُّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وربَّ متخوضٍ في مال الله -عزَّ وجل- ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ له النار يوم القيامة» (¬1) . ولو اتفق صدور صِلةٍ أو نحوها من الكافر فيه كان حظه منه ما خُوِّل فيه من صحَّةٍ، ومالٍ، وشبههما. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة» (¬2) . وقال -أيضاً-: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء بمَ أخذ المال، أمِن حلالٍ أم من حرام» (¬3) . وإلى قريب من هذا الجواب أشار شيخُنا رحمه الله، فإنه قال في «فتح الباري» (¬4) : «فإن قيل: كيف دعا لأنس، وهو خادمه بما كرهه لغيره؟! فيحتمل أن يكون مع دعائه له بذلك قرنه بأن لا يناله من قِبَل ذلك ضررٌ، لأن المعنى في كراهية اجتماع المال والولد إنما هو لما يُخشى في ذلك من الفتنة بهما، والفتنة لا تُؤمن معها الهلكة» انتهى كلام شيخِنا. ويتأيّد بقول أنس -رضي الله عنه-: «أنه - صلى الله عليه وسلم - ما ترك خير آخرةٍ ولا دنيا إلا دعا له به» (¬5) . وإلى الفرق بين المالين -الذين أحدهما: وبالٌ، والآخر: نوالٌ- أشار - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) مضى تخريجه (ص 112) . (¬2) مضى تخريجه (ص 134) . (¬3) مضى تخريجه (ص 136) . (¬4) انظره: (11/138) . (¬5) مضى تخريجه (ص 136) .

دعاء بعض الصالحين بكثرة المال

بقوله: «إن المكثرين هم الأقلُّون يوم القيامة» ، وفي رواية: «هم الأخسرون» (¬1) . وفي لفظٍ: «هلك المُثرُون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا -فحثى بين يديه وعن يمينه وعن شماله- وقليلٌ ما هم» (¬2) . وأيضاً فالناس مُختلفون، فمنهم من تُصلِحه الدنيا ويصلُح عليها، ولا يزدادُ بها إلا فضلاً وتواضعاً، كما نشاهده في أفرادٍ. وقد كان قيس بن سعد الأنصاري -رضي الله عنهما- يقول: اللهم ارزقني مالاً وفِعالاً، فإنه لا يَصلح المالُ إلا بالفِعال، ولا الفِعالُ إلا بالمال، اللهم إنه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه (¬3) . وهذا هو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: «إن الجود من شيمةِ أهل ذلك البيت» (¬4) . ويُروى عن الحسن والحسين أنهما قالا لعبد الله بن جعفر -رضي الله عنهم-: إنك قد أسرفت في بذل المال. فقال: بأبي أنتما وأمي، إن الله قد عوَّدني أن يتفضّل عليَّ، وعوّدتُه أن أتفضّل على عباده، فأخاف أن أقطعَ العادةَ فيقطع عني (¬5) . وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: أنت مِتلافٌ، فقال: مَنْعُ الجودِ سُوءُ الظنِّ بالمعبود (¬6) . وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب: «ذلِّلوا أخلاقَكم للمطالِب، وقودوها للمحامل، وعلِّموها المكارم، ولا تقيموا على خُلقٍ تذمَّونه من غيركم، وصِلوا من ¬

(¬1) مضى تخريجه (ص 136) . (¬2) مضى تخريجه (ص 137) . (¬3) مضى تخريجه (ص 141) . (¬4) مضى تخريجه (ص 141) . (¬5) مضى تخريجه (ص 143) . (¬6) مضى تخريجه (ص 143) .

رغِب إليكم، وتحلّوا بالجود يُلبسكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل فتستعجلوا الفقرَ» (¬1) . ومنهم دنيء الأصل، رديء الطباع، واثق بما في يديْه، فهذا لا يُصلحُه المال، ولا يصلح عليه. كما يُروى عن أنس وعمرَ وغيرهما من الصحابة -رضوان الله عليهم-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يقول الله -عزَّ وجلَّ-: «إن من عِبادي من لا يَصلح إيمانُه إلا بالغنى، ولو أفقرتُه لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يَصلح إيمانُه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك» (¬2) ... الحديث. على أنه يمكن الفرق بين المالين بخلاف هذا -أيضاً-، وذلك بأن يقال: لا يلزم من الكثرة التي دعا بها لأنسٍ وجود مال مدّخر، بل لعلها مالٌ يتجدّدُ له في كلِّ يوم من ربحٍ وغيرِه، وهو ينفده أوَّلاً فأوَّلاً، بخلاف التي دعا بها لغيره نفياً وإثباتاً. أو يكون المدعو بها لأنس هي الكثرة من المواشي، وكذا من الزرع والغرس، الذي قال - صلى الله عليه وسلم - فيه -كما في «صحيح مسلم» وغيرِه- من حديث جابرٍ وغيرِه: «ما من مسلمٍ يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو بهيمة أو شيء -وفي لفظٍ: «أو طائر» - إلا كان له به صدقةً» (¬3) . وذلك كان أكثر أموال الأنصار، الذي قال -رضي الله عنه وعنهم-: أنه من أكثرهم مالاً. ويستأنس له بما ورد أنه كان له بستانٌ يحمل في السنة مرتين، وكان فيه رَيحان يجيء منه ريح المسك. ¬

(¬1) مضى تخريجه (ص 145) . (¬2) مضى تخريجه (ص 147) . (¬3) مضى تخريجه (ص 163) .

كرامة لأنس في الاستسقاء

وجاءه قيّمُه في أرضه فقال: يا أبا حمزة عطِشَت أرضك، فتردَّى -أي: لبس رداءَه- ثم خرج إلى البرية، ثم صلى ما قضى الله له، ثم دعا فثارت سحابة فجاءت وغشيَت أرضَه، ومطَرت حتى ملأت صهريزة له، وذلك في الصيف فأرسل بعض أهله، فقال: انظروا أين بلغت، فإذا هي لم تَعدُ أرضه (¬1) . والمال الآخر، هو: النقد المدّخر وغيره، ثم إن من كره المال إنما كرهه للحساب عليه، وكون الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يومٍ، وهو خمس مئةِ عامٍ (¬2) ، ولكن كان سفيان الثوريُّ -رحمه الله- يقول: لأن أخلف عشرة آلاف درهمٍ يحاسبني اللهُ عليها أحبُّ إليَّ من أن أحتاجَ إلى الناس (¬3) ، ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك إن تذرَ ورثتك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس» (¬4) . وقال الثوريُّ مرةً لمن عاتبه في تقليب الدنانير: دعنا عنك فإنه لولا هذه لتمندلَ الناس بنا تمندلاً (¬5) . بل جاء عنه أنه قال: المال في هذا الزمان سلاح المؤمن (¬6) . ونحوه قولُ ابن عيينةَ -رحمه الله-: من كان له مال فليُصْلحه، فإنكم في زمانٍ مَنْ احتاج فيه إلى الناس؛ فإنَّ أول ما يبذله دِينه (¬7) . وكأنَّ السُفيانَين رحمهما الله أشارا إلى ما يُروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا كان آخر الزمان لا بدَّ للناس فيها من الدراهم والدنانير، يُقيم الرجل فيها دينه ¬

(¬1) مضى تخريجه (ص 164) . (¬2) مضى تخريجه (ص 24) . (¬3) مضى تخريجه (ص 169) . (¬4) مضى تخريجه (ص 169) . (¬5) مضى تخريجه (ص 170) . (¬6) مضى تخريجه (ص 170) . (¬7) مضى تخريجه (ص 171) .

ودنياه» (¬1) . ونحوه: «يأتي على الناس زمانٌ من لم يكن معه أصفر ولا أحمر (¬2) لم يتهنَّ بالعيش» (¬3) . «الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه، من جاء بها قُضيت حاجته، ومن لم يجىء بها لم تُقضَ حاجته» (¬4) . إلى غير ذلك، مما ينتشر الكلامُ بسببه. بل يُروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما يخشى المؤمنُ الفقرَ؛ مخافةَ الآفات على دينه» (¬5) . وكان سعيد بن المسيّب -رحمه الله- يقول: اللهمّ إنك تعلم أني لم أجمع المال إلا لأصون بها حسَبي وديني (¬6) . وعن ابن أبي الزناد وقيل له: أتحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟! فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها (¬7) . وقد جنح إمامنا الشافعي -رضي الله عنه- إلى تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر (¬8) ، فهذا ما فتح الله -عزّ وجلّ- به في الجمع بين هذين الحديثين. وقد استروح الدّاودي المالكي (¬9) -رحمه الله- فقال في حديث الدعاء ¬

(¬1) مضى تخريجه (ص 171) . (¬2) كذا بخط السخاوي، وفي مصادر التخريج: «ولا أبيض» ، وانظر تعليقنا (ص 172) . (¬3) مضى تخريجه (ص 172) . (¬4) مضى تخريجه (ص 173) . (¬5) مضى تخريجه (ص 173) . (¬6) مضى تخريجه (ص 174) . (¬7) مضى تخريجه (ص 174) . (¬8) فصَّلت الكلام على هذه المسألة على وجه حسن -إن شاء الله تعالى- في تعليقي على «السر المكتوم» انظره (ص 175 وما بعد) . (¬9) في كتابه «الأموال» (ص 176- ط. مركز إحياء التراث المغربي، أو ص 349-350- ط. =

بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم

لأنس: أنه يدل على بطلان الحديث الآخر، قال: وكيف يصحُّ ذلك وهو - صلى الله عليه وسلم - يحضُّ على النكاح والتماس الولد؟! ولذلك تعقّب الداوديَّ شيخُنا (¬1) -رحمَهما الله- وقال: «إنه لا مُنافاةَ بينهما، يعني بين الحضِّ على النكاح والتماسِ الولد، وبين الدعاء بعدم حصُول الولد والمال معاً، لاحتمال أن يكون وردَ في حصول الأمرين معاً» . قال: لكن يعكر عليه كراهيتُه لغير أنس ما دعا به له، ثم أجاب عنه بما أسلفتُه معزوّاً إليه. فإن استُشكِل دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - على من لم يؤمن به بكثرةِ المال والولد بمن يشاهَدُ من الكفار المُقلّين منهما معاً، والحالُ أن دعاءَه - صلى الله عليه وسلم - مجابٌ، أُمكِنَ أن يقال: لعلّه - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد حقيقة الدعاء عليهم، إنما أراد منه تنفير من يحبهما معاً من محبيه على الوجه المذموم كما تقدم. ونحوه القول في غالبِ من دعا عليهم - صلى الله عليه وسلم - من الكفار، ممن تخلّف دعاؤه فيهم، بأنه لم يُرِدْ بذلك إهلاكَهم، وإنما أراد ردعَهم؛ ليتوبوا. وقد قيل في (عقرى) و (حلقى) أن ظاهره الدعاء لكنه غير مراد، وكذا قيل في (ويل أمه) و (لا أبا له) ، و (ترِبت يداه) ، و (قاتله الله) ونحو ذلك. ويحتمل أن يقال: لعله أراد قوماً مخصوصين في زمنه - صلى الله عليه وسلم - أو يقال بالفرق بين من صدر منه الدعاء عليه بطريق التعيين، وبين من اندرج في العموم، لا سيما بعد نزول قولِه -تعالى-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ، فقد صحّ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على ¬

= دار السلام) ، وانظر ما نقلناه عنه في هامش (ص 193) . (¬1) يريد: الحافظ ابن حجر، وكلامه في «فتح الباري» (11/138) .

أحدٍ أو يدعو لأحدٍ قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده: «اللهم أنج الوليدَ بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن [أبي] (¬1) ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهمَّ اشدد وطأتك على مضر، واجعلها [عليهم] سنين كسني يوسف» (¬2) يجهرُ بذلِك. وكان يقول في بعض صلاتِه في صلاة الفجر: «اللهمّ العن فلاناً وفلاناً» لأحياء من العرب، حتى أنزل اللهُ -عزَّ وجلَّ-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية (¬3) . ويستأنس له بقول شيخِنا (¬4) -رحمه الله- في حديث: «أيّما مؤمن سببتُه أو جلدتُه، فاجعل ذلك كفارةً له يوم القيامة» (¬5) : «ما أظنه يشمل ما وقع منه بطريق التعميم لغير معيّن، حتى يتناول مَن لم يدرك زمنه - صلى الله عليه وسلم -» . انتهى. على أنه قد جاء في «صحيح مسلم» من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، أنَه - صلى الله عليه وسلم - أقبل ذات يومٍ من العالية حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع ركعتين، وصلّينا معه، ودعا ربّه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدةً، فسألتُ ربي أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسَهم بينهم فمنعنيها» (¬6) . ¬

(¬1) سقط من الأصل، وهو بخط المصنف، وأثبته من مصادر التخريج، وانظر التعليق على (ص 196) . (¬2) مضى تخريجه (ص 196) . (¬3) مضى تخريجه (ص 196) . (¬4) في «بذل الماعون» (ص 132 وما بعد) . (¬5) مضى تخريجه (ص 196) . (¬6) مضى تخريجه (ص 201) .

نهاية الجواب

وفي الباب عن أنس (¬1) ، وثوبان (¬2) ، وخبّاب بن الأرتّ (¬3) ، وابن عباسٍ (¬4) ، ومعاذ بن جبل (¬5) ، وأبي بصرة الغفاري (¬6) -رضي الله عنهم-. وبه تَعقَّب شيخُنا (¬7) -رحمه الله- قولَ بعض شرّاح «المصابيح» أن جميعَ دعوات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مستجابةٌ، وقال: «إن في قوله غفلة عن الحديث الصحيح، وهو «سألت اللهَ ثلاثاً» (¬8) ... » وذكرَه. ويُساعِد شيخَنا من أجاب مَنِ استشكل ظاهِر قولِه - صلى الله عليه وسلم -: «لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابةٌ» (¬9) بما وقع لكثيرٍ من الأنبياء من الدعوات المجابة، ولا سيما نبينا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إن المرادَ بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة. وكذا مَنْ قال أن المراد بأنَّ لكلٍّ منهم دعوةً عامةً مستجابةً في أمته، إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعواتُ الخاصة فمنها ما يُستجاب، ومنها ما لا يُستجاب. وبالجملة فالمقام خطِرٌ، وما قلتُه أوّلاً من الاحتمالات أنسب، وآخرها أحسنها، وليس المسؤول بأعلم من السائل، والله الموفق. قاله وكتبه محمد السخاوي الشافعي غفر الله ذنوبه وستر عيوبه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، آمين. ***** ¬

(¬1) وضع المصنف فوقه حرف (س) : إشارة إلى أنه عند النسائي. وسبق تخريجه (ص 202) . (¬2) وضع المصنف فوقه حرف (م) : إشارة إلى أنه عند مسلم. وسبق تخريجه (ص 203) . (¬3) وضع المصنف فوقه حرف (ت) : إشارة إلى أنه عند الترمذي. وسبق تخريجه (ص 202) . (¬4) وضع المصنف فوقه رمز (طب) : إشارة إلى أنه عند الطبراني في «الكبير» . وسبق تخريجه (ص204) . (¬5) وضع المصنف فوقه حرف (ق) : إشارة إلى أنه عند ابن ماجه. وسبق تخريجه (ص 202) . (¬6) أهمله المصنف، لم يضع عليه حرفاً أو رمزاً كالذي قبله! وسبق تخريجه (ص 202) . (¬7) في «بذل الماعون» (ص 132 وما بعد) . (¬8) وهو المتقدم قريباً. (¬9) مضى تخريجه (ص 205) .

§1/1