السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة
بريك العمري
مقدمة
المقدمة إنَّ الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد قال تعالى {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. قال ابن خلدون: "إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال2، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُول، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصَّها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعَمَروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع
وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق"1. إن تاريخ كل أمة هو سجل حافل بالأحداث والوقائع لهذه الأمة، تظهر فيه عوامل النجاح، وتبرز فيه أسباب الإنتصارات والهزائم، فهو مستشار الخبرات والتجارب الإيجابية والسلبية، يضيء لها طريق المستقبل، فأمة بلا تاريخ أمة بلا مستقبل. ألا وإن أعظم وأوثق تاريخ عرفته البشرية حتى اليوم هو تاريخ هذه الأمة الإسلامية التي اصطفاها الله عز وجلّ وفضَّلها على الأمم قاطبة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2 لذلك فالمستقبل لهذه الأمة بحول الله وقوته. ويمكننا أن نلخص عظمة تاريخ هذه الأمة في ثلاثة أمور: الأمر الأول: كون كتابها ودستورها القرآن العظيم، كلام الخالق عز وجلَّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قد حوى قصص وتواريخ الأمم السابقة من لدن أبي البشر آدم عليه السلام حتى العهد الذي أُنزل فيه: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} 3. ثم هو مصدر أساسي من مصادر تاريخ ذلك العهد، عهد النبوة حتى انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: أنه يحكي تاريخ فترات من الزمن هي أفضل فترات هذه الأمة: "خير النّاس قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم" 4.
الأمر الثالث: اختُص هذا التاريخ بميزة فريدة لم توجد في غيره من تواريخ الأمم الأخرى، ألا وهي خاصية الإسناد المعتمد أساسًا على علم الرجال؛ لأن معظم المؤرخين المسلمين هم في الحقيقة محدِّثون مثل ابن إسحق، وخليفة بن خياط، والطبري، وغيرهم؛ لذلك اهتموا بالإسناد كثيرًا في مروياتهم. ولكي نعرف مدى أهمية الإسناد وتفرُّد المسلمين بعلم الرجال دون غيرهم من الأمم السابقة، نستمع إلى هذين القولين من رجلين مختلفين، أحدهما عالم مسلم، والآخر مستشرق ألماني. فقد أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قوله: "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما يشاء"1. ويقول المستشرق الألماني سبرنجر: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم"2. "فمن أراد أن يتسلل خلال بعض الثقوب ليطعن هذا التاريخ فليطعن قبل هذا جميع أخبار الدنيا منذ نشأتها إلى يومنا هذا، وليطعن كل تراث الإنسانية بما في ذلك الكتب المقدسة السابقة على القرآن الكريم، فإن هذا التاريخ الإسلامي الذي بين أيدينا هو أوثق من كل هذا. ومع ما ذكرنا، إنما هو في جملته محكم مترابط كثير وجوه الإسناد، ولا يعيبه ضعف بعض أسانيده، وضعف الراوي لا يعني أنه كذَّاب، بل إن الراوي الذي عرف عنه الكذب قد يصدق أحيانًا. ومن القواعد المعمول بها أن الرواية الضعيفة ترتفع إلى مرتبة الحسن، وأن الحسن يرتفع إلى الصحيح إذا ساندته روايات أخرى ولو كانت ضعيفة في حالتها
المنفردة، وهو ما يعرف بـ (الصحيح لغيره) تمييزًا له عن (الصحيح لذاته) . ومن أراد أن يطعن هذا التاريخ التليد، وهذا الجهد المشكور في التسجيل فليطعن قبل ذلك أولئك الذين كان عليهم أن يسجلوا كما سجل أسلافنا فلم يفعلوا، ونعني بهم الفرس والروم، فمع هذا البحر الزاخر من المرويات العربية لا نكاد نجد شيئًا يرويه الطرف الآخر، بل أبعد من ذلك كان الرواة المسلمون هم الذين حفظوا لنا أخبار الأكاسرة الفرس قبل الإسلام"1. إننا بهذا الكلام لا ندَّعي الكمال لتاريخنا، فالكمال الإعجازي صفة لا يمكن سحبها على غير القرآن الكريم الذي تعهد الله بحفظه من بين الكتب المقدسة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2. بل إن الحديث النبوي وهو يأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي لم يسلم من عبث العابثين، وكذب المفترين، ولكن الله عزَّ وجلَّ قد هيأ له الجهابذة من علماء الإسلام الذين تصدَّوا لهؤلاء فوضعوا القواعد والأساليب التي ساعدت على كشفهم، كان أهمها التاريخ، قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ"3. وقال حماد بن زيد رحمه الله تعالى: "لم يُستعن على الكذابين بمثل التاريخ"4. والتاريخ باعتماده على الروايات والرواة مثله مثل الحديث لم يسلم هو الآخر من عبث المتطفلين، يقول ابن خلدون: "إن فحول المؤرخين في الإسلام
قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطَّروها في صفحات الدفاتر، وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفَّقوها ووضعوها. واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها، وأدَّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترَّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب الأخبار وخليل"1. "وقد وصلت إلينا هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا، بل على أنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا، وهذا ممكن وميسور إذا تولاَّه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع، وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع، ويجردها عما لم يقع مكتفيًا بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها"2. "لأن الأخبار إذا اعتُمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكَّم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق. وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين، وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلُّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط"3. ولا شك أن عدم تمحيص المؤرخين للأخبار كما فعلوا في الحديث واكتفاءهم بإلقاء العهدة على الرواة المذكورين في أسانيد الروايات ألقى عبئًا
كبيرا على المؤرخ المعاصر المسلم؛ لأنه يحتاج إلى بذل جهد ضخم للوصول إلى الروايات الصحيحة بعد فهم وتطبيق منهج المحدثين، وهو أمر لم يعد سهلا ميسورا، كما كان بالنسبة لخليفة بن خياط، أو الطبري، بسبب تضلعهم في مناهج المحدثين وطريق سبرهم للروايات وتمييزها"1. إن عملية نقد الروايات التاريخية وفق منهج المحدثين عملية ليست سهلة "فإن النظر في الرجال، ودراسة الرواة عملية صعبة شاقة ومجهدة ذهنيًّا وبدنيًّا لما تقتضيه من وقت طويل، ومكلفة ماديًّا وماليًّا، فمراجعها من الكتب قليلة الاستعمال، كبيرة الحجم، غالية الثمن، نادرة الوجود"2. ولكن لابد للمؤرخ المسلم من اقتحام العقبة وتحدي الصعاب إذا أراد لعمله النجاح، ونوى فيه الإخلاص لله عز وجل فإن هذا العمل من أجلّ الأعمال وأفضلها، فحينما يتم تمحيص وسبر الروايات التاريخية وتنقيتها مما علق بها من الشوائب، فإنا نكون قد قمنا بعمل عظيم خدمة لتاريخ أمتنا الإسلامية المجيد، وأنرنا بذلك المستقبل للأجيال القادمة. "إن للمحدثين مناهج وطرقا في نقد الأحاديث ومعرفة الصحيح من الضعيف، والمطلوبُ تطبيق هذه المناهج في نقد الروايات التاريخية المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام؛ لأن هذه الروايات التاريخية تشبه الأحاديث من حيث وجود الأسانيد التي تتقدم المتون مما يمكن الناقد من معرفة الرواة المتعاقبين الذين نقلوا الخبر أو الرواية خلفا عن سلف. وتُستمد المعلومات عن الرواة من كتب علم الرجال التي تختص ببيان أحوال الرواة. فمثلا شرط الصحيح من الحديث هو أن يرويه العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، فشرط الرواية التاريخية الصحيحة
أن كل رواتها المتعاقبين إلى شاهد العيان متدينون تدينًا صحيحًا، وعندهم ملكة الحفظ والتي تمنع وقوعهم في الأوهام والتخليط، وتؤدي إلى ضبطهم للرواية سواء في صدورهم أو كتبهم، يضاف إلى ذلك أن تكون الرواية متفقة مع الروايات الأخرى التي يرويها رواة يتمتعون بتوثيق أكثر، أما إذا خالفتها فهي شاذة مرجوحة، وكذلك أن لا يكون في الرواية التاريخية علة خفية قادحة بصحتها، كالتدليس الخفي، أو الإرسال الخفي، أو الاضطراب في معلومات المتن. وإذا كانت الروايات التاريخية لا ترقى إلى درجة الصحة الحديثية وفق الشروط المتقدمة، فإنه ينظر إلى تعدد طرقها بجمع ما يتعلق بالمسألة التاريخية الواحدة، فإنها تقوى خاصة عند استحالة اجتماع الذين رووها واتفاقهم على الكذب"1. ثم ينظر بعد ذلك في الروايات بعد سبرها ونقدها فيتم "اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها، ثم الحسنة، ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام. وعند التعارض يقدم الأقوى دائما. أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على ألاّ تتعلق بجانب عقدي أو شرعي. أما الروايات التاريخية المتعلقة بالعمران كتخطيط المدن وريازة الأبنية وشق الترع، أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأس من التساهل فيها"2. "فإن هذا العلم - علم الرواية والإسناد - قد وضع أساسا ليقاس بمقتضاه ما روي من حديث نسبه رواته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل ليجيز ما يثبت نقله عنه. فالأمر يتعلق بإرساء قواعد الدين، وتأصيل أصول الإسلام:
عباداته ومعاملاته، وشريعته ومعتقداته. إن هذا وأمثاله من النهج المتشدد إن كان له ما يبرره عند إرساء قواعد الدين فلعله أن يكون تعنتا أن نطبقه بحذافيره على المرويات التاريخية"1. لذلك فإن "اشتراط الصحة الحديثية في كل رواية تاريخية نريد قبولها فيه تعسف؛ لأن ما تنطبق عليه هذه الشروط لا يكفي لتغطية العصور المختلفة للتاريخ الإسلامي، مما يولد فجوات ضخمة في تاريخنا. وإذا قارنا ذلك بتواريخ العالم فإنها كثيرا ما تعتمد على روايات مفردة أو مؤرخين مجهولين، بالإضافة إلى ذلك فهي مليئة بالفجوات، لذلك يكفي في الفترات اللاحقة التوثيق من عدالة المؤرخ وضبطه لقبول ما يسجله مع استخدام قواعد النقد الحديثي في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين. إن اشتراط الأمانة والثقة والدين في المؤرخ ضروري لقبول شهادته على الرجال والأمم وتقويم دورهم التاريخي"2. كما "ينبغي ملاحظة منهج المحدثين عند التعامل مع الرواية التاريخية، فهم يتساهلون في رواية الأخبار التاريخية، كما نلاحظ عند ثقات المؤرخين مثل محمد بن إسحاق، وخليفة بن خياط، والطبري، حيث يكثرون من الأخبار المرسلة والمنقطعة"3. تلك الأخبار هي في الغالب روايات موقوفة على بعض التابعين مثل عروة بن الزبير، وأبان بن عثمان، وبعض صغار التابعين مثل الزهري، وعاصم بن عمرو، ومالك بن دينار وغيرهم، هذه الروايات من وجهة النظر الحديثية ضعيفة لا يحتج بها، ولكن من الجدير ذكره أن هؤلاء التابعين كانوا من الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية، وتدوينها التدوين الأول، وكان تدوينهم لها إما عن طريق كتب أو وثائق وصلت إليهم عن طريق الصحابة أو تابعين عاصروا الصحابة وأخذوا ذلك عنهم، أو عن طريق روايات شيوخهم
من الصحابة. ونظرًا لأن الاتجاه السائد في ذلك الوقت والاهتمام كان منصبّا على الأحاديث النبوية، لذلك تساهلوا المرويات التاريخية، ولم يولوها جلّ اهتمامهم وعنايتهم كما فعلوا اتجاه الأحاديث النبوية، فكانوا يرسلون غالبية الروايات التاريخية عند روايتها، وربما كان لتأليفهم كتبا في السيرة النبوية فيما بعد دورًا في ذلك حيث كانوا يملون على تلاميذهم ويحدثونهم منها دون ذكر السند. لذلك أعتقد أنه يمكن التساهل في الروايات التي ترد عن طريقهم ولا سيما وأنهم موثّقون عند أهل الحديث. "إن مراحل التاريخ الإسلامي كلها بحاجة إلى إعادة تقويمها من وجهة النظر الإسلامية، وقد تبين مدى تغير الصورة التاريخية لفترة من تاريخنا عندما يتناولها بالبحث كتاب مسلمون منصفون، كما حدث في إعادة تقويم الدولة العثمانية وفتح ملفها من جديد. ويبدو لي أن التغير الذي سيحدث في تصورنا للتاريخ الأموي والعباسي وما بعدهما من حلقات حتى تاريخنا المعاصر سيكون كبيرا جدّا، وسيكشف عن مدى الزيف والتحريف الذي أصاب تاريخنا. إنه لا بدَّ من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام إسلامية تؤمن بالله وبرسوله وتحس بدور الإسلام وأثره في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا"1. "والصحوة الإسلامية عليها واجب ضخم تجاه المناهج التعليمية، ومناهج التاريخ بصفة خاصة تعيد صياغتها صياغة إسلامية، باعتبارها هذا جزءا لا ينفصل عن مهمة التربية اللازمة لإعداد الجيل المسلم. والمؤرخون المسلمون مدعوون للقيام بنصيبهم من هذا الجهد الشاق وقد لا يعترف بجهدهم أحد في الوقت
الحاضر بل قد يرميهم المثقفون بالأحجار، ولكنهم بجهدهم يبنون الطريق للمستقبل، والمستقبل للإسلام"1. {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهيداً} 3. إن الكتابة في مجال التاريخ أمر مشوق ومحبب للنفس خاصة تاريخ الإسلام الذي يحكي أمجاد المسلمين الأوائل، وما حققوه من انتصارات أبهرت العالم قديما وحديثا.. ألا وإن قمة ذلك التاريخ وأعظم تلك الانتصارات هو ما كان في مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه التي كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يتواصون بتعلُّمها وتدارسها ودراستها. فهذا الزهري يقول: "في علم المغازي علم الآخرة والدنيا"4. وقد بلغ من حرصهم على تعليم أولادهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه أنهم جعلوها قرينة القرآن الكريم من حيث أولوية التعليم. يقول زين العابدين علي بن الحسين بن علي: "كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه كما نعلم السورة من القرآن"5، وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال: "كان أبي يعلمنا المغازي، ويعدّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بني، هذه مآثر آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها"6. إن علم "التاريخ العسكري من أجدر فروع التاريخ بالدراسة والتعمق،
والتحليل والعبرة، فكما أن جميع العلوم تسخر الآن لتكون معطياتها وسائل قتال بيد الجيوش، فالتاريخ العسكري أحد أبرز العلوم التي تعلم كيفية استخدام تلك الوسائل المادية والمعنوية. يقول بونابرت: من الممكن تعلّم التكتيك والتطورات وعمل المهندسين والمدفعية من الأنظمة والمذكرات، كما نتعلم الهندسة تقريبا، إلا أن معرفة الأجزاء العليا من الحرب لا تكتسب إلاّ بالتجربة، وبدراسة تاريخ الحروب ومعارك كبار القادة"1. لقد نشأ معي حب التاريخ عامة، والسيرة النبوية خاصة منذ الصغر، فلما طلب مني القسم اختيار موضوع بحث الماجستير، قررت أن أختار موضوعا في السيرة النبوية. ولكن بسبب كثرة من كتب في السيرة قديما وحديثا حتى ملئت في ذلك المجلدات المختلفة الأحجام، لذلك وجدت صعوبة بالغة في اختيار الموضوع المناسب، ومكثت أشهرا وأنا أفكّر وأقلّب الصفحات دون جدوى.. وبعد الاستعانة بالله عزّ وجلّ ثم بنصيحة شيخي الفاضل الأستاذ الدكتور/أكرم ضياء العمري حفظه الله الذي وجهني للكتابة النقدية لمرويات السيرة النبوية. وهنا تركزت اتجاهاتي نحو منهج معين بعد شتات، وقصرت المسافة نحو الموضوع المختار بعد طول عناء. ولكن بقيت مشكلة أخيرة وهي: أن زملاءنا الأفاضل في قسم السنة لم يتركوا لنا مجالا واسعا في هذا الاتجاه، حيث إنهم بمجهوداتهم الخيِّرة وبتوجيهات كريمة من أستاذنا الكريم فضيلة الدكتور أكرم العمري، قد غطّوا معظم مرويات السيرة النبوية وخاصّة الغزوات.. وبقيت في حيرة..
ما هو الموضوع المناسب ولم يطرقه الزملاء، وأخذت أبحث في فهارس كتب السير والمغازي القديمة والحديثة، لعلّي أهتدي إلى الموضوع المناسب. وهكذا بدأت أعرض على فضيلة رئيس القسم بعض المواضيع حتى وقع اختياري على موضوع السرايا والبعوث النبوية، حيث وجدت من خلال قراءتي واطلاعي على مَن كتب فيها قديما وحديثا أنه لم يفرد لها كتاب مستقل إلاّ ما كان من المدائني الذي ألَّف كتابا فيها أسماه "كتاب سرايا النبي صلى الله عليه وسلم "، وكتابا آخر باسم "كتاب السرايا" ذكرهما ابن النديم1. ومعلوم أن معظم كتب المدائني فقدت. وجمع أبو تراب الظاهري من الباحثين المعاصرين المرويات الخاصة بالسرايا والبعوث في كتاب أسماه "سرايا النبي صلى الله عليه وسلم"، وذكرها مؤلفو المغازي ضمنا مع مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مثل: الواقدي، وأحمد بن الحارث الخزَّاز، صاحب كتاب "مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه وأزواجه"، ذكر ذلك ابن النديم2. ومن مؤلفي المغازي المتأخرين الشيخ أحمد بن عبد اللطيف نور صاحب كتاب "غزوات الرسول وسرياته"، وعبد المنعم الهاشمي صاحب كتاب "سرايا الرسول". وأفرد لها ابن سعد مجلدا خاصًّا من كتابه "الطبقات" بعنوان: ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه. وكذلك فعل كلٌّ من البيهقي الذي أفرد لها مجلدين من "الدلائل" بعنوان: جماع أبواب مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسراياه. والشامي مجلدّا أسماه "جماع أبواب سراياه وبعوثه صلى الله عليه وسلم ". والحلبي الذي أفرد لها بابا من كتاب "السيرة" عنون له: باب سراياه صلى الله عليه وسلم
وبعوثه. وأفرد لها ابن القيم فصلا في كتابه "زاد المعاد" باسم: سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار. وساقها الذهبي مع المغازي في المجلد الخاص بالمغازي من كتابه الموسوعي "تاريخ الإسلام". أما ابن هشام فلم يفرد لها أجزاء خاصة من كتاب "السيرة" وإنما ذكرها ضمنا في الجزء الثاني حتى الجزء الرابع، وكذلك فعل بقية من كتب في السيرة النبوية. أما من ناحية نقد المرويات التي جاءت عن السرايا والبعوث وفق منهج المحدثين فأعتقد أنه لم يتطرق أحد لهذه الناحية ما عدا ما ورد من الروايات عنها في كتب الصحيحين، وما ورد في كتاب الحافظ نور الدين الهيثمي "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد"، وما ورد في كتب السنن والمسانيد التي حظيت بتخريج أحاديثها من بعض المحققين والعلماء، مثل سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه التي خرّج أحاديثها العلامة الألباني، ومسند الإمام أحمد الذي خرّج أحاديثه كل من البنا، وأحمد الشاكر، وغيرها من كتب الحديث. ولكن الروايات التي وردت في هذه المصادر عن السرايا والبعوث قليلة جدّا لا تكاد تغطي إلاّ جزءا يسيرا منها، أما الجزء الأكبر فكان في بطون كتب السير والمغازي بلا نقد ولا تخريج غير قليل من المحاولات التي قام بها بعض كتّاب المغازي المتأخرين أمثال: ابن كثير، والذهبي، وابن حجر في تعليقاته على بعض الروايات التاريخية في "الفتح" و"الإصابة" وأيضا كان أكثر ما قام به هؤلاء هو عملية التخريج، أما النقد فكان قليلا،لأن معظم الروايات التي جاءت في كتب السير والمغازي كانت بلا سند، وذلك ما مثَّل صعوبة
بالغة بالنسبة لي عند محاولة نقد هذه الروايات. لقد كان عملي في نقد هذه الروايات يمثل محاولة طموحة لما هو أفضل في المستقبل إن شاء الله تعالى ولا أستطيع أن أعترف برضائي التام عنها، ولكنها تجربة مفيدة لي على طريق هذا العلم النافع العظيم الذي أفتخر أن أكون أحد طالبيه المتواضعين. إن كل عمل مخلص لا يخلو من مشاقَّ وصعوبات، تصبح فيما بعد ذكريات جميلة بعد أن تكسب الإنسان خبرة جيدة تفيده في المستقبل. ولقد واجهتني بحمد الله بعض الصعاب والمشاق خلال عملي في هذا البحث، كان أولها عملية اختيار الموضوع، كما أوضحت سابقا، ويا حبذا لو يتم اختيار المواضيع لطلبة الماجستير خاصة بمشاركة الأساتذة في القسم مراعين في توجيهاتهم للطلبة اتجاهاتهم وميولهم التي يمكن أن تتضح خلال السنة التحضيرية، ومن خلال البحوث التي يكلفون بها، وذلك للوصول إلى الموضوعات المهمّة التي لا زالت بحاجة إلى إعادة كتابة أو مزيد بحث. ومن الصعوبات التي واجهتني ندرة المصادر والمراجع التاريخية التي تسلك عملية النقد وفق مناهج المحدثين، كما أن خلو بعض الروايات التي وردت في كتب المغازي والسير من الأسانيد، مثّل صعوبة بالغة بالنسبة لعملية النقد الإسنادي، لذلك لجأت إلى عملية نقد متون تلك الروايات (النقد الباطني) على ضوء منهج النقد التاريخي قدر الاستطاعة، وإن كانت بضاعتي في هذا المجال قليلة جدّا، نظرا لعدم توفر الخبرة اللازمة لي في مجال البحث والتحليل التي تحتاج إلى دراسة متخصصة متأنية، ولمدة كافية من الزمن، وهو الأمر الذي لم يتح لي خلال دراستي الجامعية ولا خلال السنة التحضيرية. لذلك أرجو من الله تعالى، ثم من المسئولين في القسم دراسة هذا الأمر
وتخصيص قسم خاص، أو إضافة مواد تختص بعملية النقد الباطني (النقد التاريخي) والنقد الخارجي (نقد الأسانيد وفق منهج المحدثين) ؛ لأننا بحاجة ماسّة وشديدة للمختصين في هذا المجال الهام والنافع إن شاء الله تعالى لكي نركّز جهودنا في عملية تحرير تاريخنا الإسلامي مما شابه واعتراه من الشوائب والتّرهات التي استغلها أعداؤنا الحاقدون، ولعبوا بها كأورق رابحة يلوحون بها في وجوهنا كلما شاءوا. ومن المصاعب التي واجهتها عدم وجود تراجم لبعض الرواة (جهالة عين) ، أو خلو تراجمهم من الجرح والتعديل الموضح لحال الرواة (جهالة حال) ، "وربما كان ذلك راجعا إلى أن رواياتهم قد اقتصرت على الأخبار دون الحديث، فكانوا يقولون عن أحدهم "إخباري"، ولعلّ في التعبير حطّ من شأنه عن مرتبة المحدّث، وقد نشأ علم الرجال أصلا لخدمة علم الحديث"1. لذلك لم يهتم بهم مصنفو كتب الرجال فلم يوردوا تراجمهم، أو أوردوها موجزة خالية من الجرح والتعديل، فأصبح الجهل فيهم وفي أحوالهم كثير، يقول السبكي: "والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل"2. إن وجود الكثير من التناقضات والاضطرابات حول الواقعة الواحدة نتيجة تعدّد النصوص والروايات حولها جعلني أقف محتارا بينها، أيها أرجح؟ أو كيف أجمع بينها؟ وهل يمكن الجمع أم لا؟ وقد كنت أتوقف عند بعض النصوص حوالي الشهر أو الشهرين متأنيًّا لعلِّي أستنبط منه تفسيرا واقعيّا مناسبا أو حكما ما، وكنت أستعين في كثير من الأحيان بآراء النقاد والبارزين في هذا المجال ممَّن سبقني من جهابذة النقاد المسلمين أمثال: ابن القيّم، وابن حجر، والزرقاني، والشامي، وابن كثير، وغيرهم ممَّا أكسبني بعض الخبرة البسيطة في مجال النقد والتحليل.
كان مسمى هذا البحث (السرايا والبعوث النبوية - دراسة نقدية تحليلية) ، ولكن بعد أن بدأت العمل بجمع المادة العلمية حول السرايا والبعوث كاملة، فتكوَّنت لديَّ مادة علمية ضخمة عن السرايا والبعوث، بحيث ملأت حوالي تسعة ملفات من الأوراق، وهذه الروايات الضخمة لا يمكن استيعاب نقدها وتحليلها خلال مدة هذا البحث، ويكفي أن أشير إلى أن بعض السرايا مثل سرية (عبد الله بن جحش إلى نخلة) ، أو (البعث إلى كعب بن الأشرف) ، أو (بعث الرجيع) وغيرها من السرايا ذات الروايات المتعددة والكثيرة التي يمكن أن تكون كل واحدة منها بحثا مطولا. لذلك رأيت بعد مشورة الأستاذ المشرف أن يتم اختصار البحث جغرافيّا بحيث تتم دراسة مرويات السرايا والبعوث حول المدينة ومكة، وهي أهم وأكبر مناطق مسرح عمليات السرايا والبعوث النبوية، حيث يصبح مسمى البحث بعد التعديل (السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة - دراسة نقدية تحليلية) . وقد بدأت عملي بوضع خطة البحث حيث رتبتها وفق تقسيم موضوعي، صنّفت فيه السرايا والبعوث إلى سرايا اعتراضية، وسرايا المغاوير، وسرايا تحطيم الأوثان، وسرايا تعقبية، وتأديبية، وتحويلية، وبعوث تعليمية، وأخرى دعوية. هذا وقد اشتملت خطة البحث على: مقدمة، وتمهيد، وبابين كبيرين، يحتوي كل باب على فصلين، يندرج تحت كل فصل عدة عناوين رئيسية، وخاتمة. أما المقدمة: فقد اشتملت على سبب اختياري لموضوع رسالتي في السيرة النبوية، وفي موضوع السرايا والبعوث النبوية بالذات، ثم المصاعب والمشاق التي تعرضت لها خلال عملي في البحث. كما اشتملت المقدمة على خطة البحث، ومنهجي في العمل، كما حلَّلت بعض المصادر والمراجع التي استقيت منها في هذا البحث. ثمّ شكر وتقدير.
وكان التمهيد: عبارة عن عرض موجز للسرايا والبعوث النبوية، وخلافات أهل المغازي حولها. وخصصت الباب الأول: للسرايا والبعوث النبوية داخل وخارج المدينة، ويحتوي على فصلين: الفصل الأول: السرايا الاعتراضية - ذكرت فيه السرايا الأولى التي انطلقت لتعلن الحرب على قريش، والتي كانت عبارة عن دوريات قتالية لاعتراض القوافل التجارية القرشية. وفي الفصل الثاني: البعوث ذات المهمات الصعبة أو سرايا المغاوير تحدثت فيه عن بعض فرق المغاوير - التي تكونت من بعض الصحابة المتطوعين لتنفيذ بعض المهمات الصعبة التي كلّفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وتمثّلت في تصفية الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية. ويقع الباب الثاني: (السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة) في فصلين: الفصل الأول: جعلته للسرايا ذات المهمات الخاصة، ويشتمل على بعوث مختلفة، منها سرايا تعقّبية، وسرايا تعليمية، وسرية تأديبية، وأخرى تحويلية. وكان بودي أن أخصص لكل من هذه السرايا فصلا مستقلاّ، ولكن بما أن السريتين الأخيرتين مختلفتان ولا تحتمل كل منهما إفرادها بفصل مستقل، لذلك دمجت الجميع في فصل واحد، ولكنني أفردت كلاًّ منها بمقدمة خاصة بها. وخصصت الفصل الأخير: (لسرايا تحطيم الأوثان) : تلك السرايا التي انطلقت بأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم لتحطّم رموز الوثنية في الجزيرة العربية، فتحدَّثت عن بعثي خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى كل من اللات والعزّى. وبعث
سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة الثالثة الأخرى، ثم بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع صنم هذيل. وهذه البعوث التدميرية للأصنام التي تقع ضمن نطاق البحث الجغرافي، وإلاّ هناك بعوث وسرايا أخرى أرسلت لتدمير كل رموز الشرك في أرض الجزيرة العربية. وقد ضمنت الخاتمة: بأهم النتائج والدراسات التي توصلت إليها في هذا البحث. هذا هو عرض موجز لكل محتويات هذا البحث، وربما يكون قد فاتني بعض السرايا والبعوث النبوية الواقعة ضمن نطاقه الجغرافي، ولكنني اجتهدت بقدر الاستطاعة في حصرها، ولا يخلو الإنسان من العجز والتقصير؛ فإن الكمال لله وحده، ولا يلام المرء مع اجتهاده.
منهج البحث: إن المنهج الذي اتبعته في عملية النقد يستند أساسا على محورين أساسيين: المحور الأول: هو محاولة نقد الأسانيد على ضوء منهج المحدثين، بينما كان المحور الثاني: هو التحليل منصبّا على المتون حيث تمت مناقشتها ما أمكن وفق المنهج التاريخي. وفي البداية قمت بإعداد جداول للروايات في المصادر المختلفة لأجل تنسيق وتنظيم عملية النقد والتحليل للروايات المتضاربة، فعملت جدولا للروايات المتشابهة، وآخر للروايات المختلفة، وجدولا للروايات التي فيها معلومات إضافية. بعد ذلك تم مناقشة وتحليل ومقارنة لهذه الروايات. فالمتشابهة في المضمون والمختلفة الطرق، اعتبرت ذلك دليلا على توثيقها، أما المختلفة فحاولت الجمع بينها أو ترجيح أحدها بعد تحليلها، أما الزوائد والمعلومات الإضافية في بعض الروايات، هذه الزوائد أثبتها وأوضح صاحبها، ومدى قوة زيادته من حيث قوة الراوي لها من عدمه. ثم ما كان من الروايات في الصحيحين فأثبتها دون نقد؛ وذلك لاتفاق العلماء على صحتها، فقط أشير إلى تخريجها من مظانها، كذلك فعلت بالنسبة للروايات التي حكم عليها النقاد من المحدثين والمؤرخين المشهورين، كابن حجر وابن كثير وغيرهما بالصحة والتحسين أو القبول، غير أنني أنقل أقوالهم حولها ما عدا ما حكم عليه الهيثمي، فإنني أتعقبه خاصة في الروايات المتعلقة بأمور شرعية أو عقدية، نظرا لتساهله في التوثيق، وما عدا ذلك فإنني
ربما أنقل قوله دونما تعليق. أما الروايات التي خلت من حكم النقاد سواء القدامى منهم أو المعاصرين، فقد درست أسانيدها وسبرتها وفق منهج المحدثين حيث عملت لها شجيرات للرواة لحصر نقاط الضعف أو القوة في الأسانيد أو لمعرفة اختلاف الطرق، ثم ترجمت للرواة من كتب الرجال معتمدا على كتاب "التقريب" لابن حجر، ومن لم أجده في كتاب "التقريب" نظرت إليه في الكتب الأخرى كـ "ميزان الاعتدال" للذهبي، أو "الكامل" لابن عدي، وغيرها من كتب الرجال. أما بالنسبة لعملية النقد الباطنية (تحليل المتون) فتم بها نقد الروايات الخالية من الإسناد أو التي كان في سندها بعض الضعف، وذلك بمقارنتها مع بعضها، ومناقشة ما جاء فيها من معلومات وفق المنهج التاريخي. هذا ومما يجدر ذكره أني قوَّيت بعض الروايات الضعيفة حديثيّا لمساندة علم الآثار والحفريات لها، كما ضعّفت بعض الروايات لمخالفتها لأصل من أصول الشريعة. وقد نبهت على بعض الأوهام التي كانت في بعض الروايات من غير تنقيص من قدر العلماء والباحثين الذين اعتمدوها مع الإشارة إلى قلة بضاعتي وضعفي في هذا المجال، مع الدعوة الصادقة لإخواني الباحثين والقرّاء الكرام إلى تنبيهي على الأوهام والأخطاء التي ربما وقعت فيها، فالمؤمن مرآة أخيه كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم. وفي عملية التخريج اتبعت منهجا محددا وهو أنني أقوم بنقد وتخريج روايات الخبر كلاّ على حدة، ثم في نهاية الخبر أذكر تخريجه كاملا وحكم النقاد عليه، ثم أتبع ذلك بحكمي عليه، أما إذا كان الخبر صحيحا مخرجا في الصحيحين أو أحدهما، فإنني أذكر ذلك في بداية كلامي على تخريجه، ثم أخرجه بعد ذلك في بعض الكتب الأخرى وخاصة كتب المغازي. وقد يكون
الخبر الواحد مجزءا ورواية كل جزء تختلف عن الأخرى من حيث القوة والضعف، لذلك فإنني أخرج وأنقد كل جزء منها على حدة، ثم أذكر بعض الشواهد التي قد تكون للخبر كاملا. بعد ذلك بدأت في عملية الكتابة، وهي لا تختلف صعوبة عن العملية النقدية من حيث إنها كانت على ثلاث مراحل: ففي المرحلة الأولى: كتبت فيها الروايات بسندها مع ترجمة للرواة في الحاشية. وفي المرحلة الثانية: حذفت تراجم الرواة من الحاشية بعد أن ازدحم البحث بكثرتها، وأبقيت على أسانيد بعض الروايات مع ذكر آراء النقاد فيها، وكنت قد قسمت البحث أثناء الكتابة الابتدائية على مباحث ومطالب تفصّل أحداث كل سرية على حدة من تاريخ السريَّة، وقوتها، ثم سير الأحداث، وأخيرا النتائج. أما في المرحلة الثالثة: فقد اعتمدت مبحث سير الأحداث كأساس للكتابة النهائية، لكوني اعتمدت فيه كتابة الأحداث بأسلوبي الخاص بعد أن طعّمت ذلك ببعض النصوص المقتبسة، كما دمجت فيه بقية المباحث والمطالب وحذفت أسانيد الروايات من المتن، وتراجم الرواة من الحاشية، لكنّي أثبتّ الحكم عليها بعد دراستها في الحاشية، وكذلك نقلت الاختلافات وآراء النقاد في كل مسألة في الحاشية مما كان السبب المباشر لكثرتها. وأتبعت بعض السرايا ببعض الأحكام الفقهية وغيرها المستفادة من الأحداث من بعض الكتب والمصادر التي اعتنت بذلك، مثل "زاد المعاد" لابن القيّم، و"فتح الباري" لابن حجر، وبعض شروح السيرة مثل: "الروض الأنف" للسهيلي، و"سبل الهدى" للشامي، و"شرح المواهب" للزرقاني، وغيرها. وربما ذكرت بعض الأحكام اجتهادا مني كما في بعث معونة، وبعث
عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وغيرها. وقد خرَّجت الأحاديث الواردة أثناء النصِّ مع الحكم عليها إن لم تكن في الصحيحين أو المصادر الحديثية التي عنيت بالنقد قديما وحديثا وإلاّ عزوتها إليها. وعرّفت ببعض الأعلام من الصحابة أصحاب السرايا تعريفا دقيقا يشمل الاسم والكنية والوفاة وغير ذلك، وذلك من كتب تراجم الصحابة كـ "الاستيعاب" لابن عبد البر، و"الإصابة" لابن حجر، ومن كتب الطبقات، كطبقات خليفة، وابن سعد. كما ضبطت الألفاظ التي تحتاج إلى ضبط في الأعلام أو الأماكن عن كتب المعاجم اللفظية مثل: "اللسان"، و"القاموس"، و"النهاية" وغيرها. وعملت على تعريف شامل للمواضع والأماكن والبلدان التي وردت في البحث من خلال المعاجم البلدانية القديمة، مثل "معجم ما استعجم" للبكري، و"معجم البلدان" لياقوت، ثم أتبعت ذلك بتعريف حديث لهذه الأماكن من الكتب الجغرافية التاريخية الحديثة أمثال: "معجم السيرة"، و"معالم مكة" للبلادي، و"المجاز" لابن خميس، وغيرها، وذلك لأن بعض المواضع والبلدان قد تغيرت أسماؤها وصفاتها عمّا كانت عليه فترة أحداث هذا البحث، وربما كان ذلك أحد أسباب طول الحواشي، ولكني أردت ربط الماضي بالحاضر حتى تتضح الصورة كاملة أمام القارىء الكريم. كما وقفت على بعض الأماكن التي كانت مسرحا لأحداث بعض السرايا والبعوث، وقمت بتصويرها، ووصفها وصف المشاهدة. إن كثرة وطول الحواشي في هذه الرسالة كان بسبب أني سقت فيها الروايات الموافقة والمعارضة لما أثبتّه في المتون، ثم قمت بعد ذلك بنقد هذه
الروايات بمقارنتها مع بعضها ومحاولة الجمع بينها إن أمكن ذلك، وفي غالب الأحيان الترجيح فيما بينها مستفيدًا ممَّا قام به النقاد من أهل المغازي المتأخرين أمثال ابن القيم، وابن حجر، والشامي، والزرقاني، ناقلا أقوالهم في أحوال كثيرة، وقد فكرت في جعل هذه الحواشي في ملحق خاص يوضع في آخر الكتاب، ولكني عدلت عن هذه الفكرة لكي أجعل القارىء في الصورة وهو يقرأ في صلب الموضوع بحيث يكون مرتبطا بما يقرؤه؛ لأننا في وقت لا يسمح للقارىء بمراجعة الملاحق والتحقيق في كل هامش على حدة في ملحقه. وبعد: لقد حاولت بهذه الدراسة المتواضعة نقد الأسانيد وتحليل المتون مستنفذا في ذلك جهدي، ومستفرغا ما يسعه اجتهادي، محاولا تتبع خطى النقاد الذين سبقوني في هذا المجال، وصولا إلى الاختيار بقدر المستطاع من مجموع الروايات المتعددة لكل حادثة، إذ كان الاعتماد أساسا على الروايات التي خرّجت في كتب الصحاح، ونقدت في بعض كتب السنن والمسانيد أو التي حكم عليها النقاد القدامى من المحدثين والمؤرخين أمثال ابن كثير، وابن حجر، والهيثمي، وغيرهم بالصحة أوالتحسين، وبالتالي الاستفادة من مناهجهم في نقد الروايات الأخرى لم يحكموا عليها، مع أنني لم أهمل الروايات الضعيفة حديثيّا، بل استفدت منها في الموضوعات التي لا تتعلق بأمور العقيدة والشريعة، ونحتاج إليها لتكملة الإطار التاريخي للحدث مثل تواريخ السرايا والبعوث، وعدد الجند، ووصف ميادين القتال والمعارك، وعدد القتلى، وغير ذلك ممّا لم يرد ذكره في الروايات الصحيحة أو الحسنة، كما أنني أخذت بهذه الروايات الضعيفة كاملة في بعض السرايا والبعوث التي لم يرد حولها روايات صحيحة أو حسنة، ثم حاولت نقدها بمقارنتها ببعضها وفق منهج المؤرخين. لقد اجتهدت في هذه المحاولة قدر استطاعتي أن أحرِّر بعض روايات
تاريخنا الإسلامي والخاصة بأهمِّ وأعظم حقبة منه وهي مرحلة السيرة النبوية العطرة، مما لصق بها من بعض الروايات الضعيفة، معتمدًا الروايات الصحيحة والحسنة قدر الإمكان، وإن كان ذلك الأمر لم يتأت لي في كل فصول البحث. وربما يلاحظ القارىء الكريم أن هناك نقصا في بعض جوانب هذا البحث وتقصيرا في بناء المادة النقدية فيه وخاصة نقد الأسانيد، وإنما كان ذلك لأني حاولت جهدي أن يكون هناك توازن بعض الشيء بين النقد الخارجي (سبر الروايات) والنقد الباطني (نقد المتون) . وعلى كل حال فهي محاولة مبتدئة تحتاج إلى تشجيع ومرونة عند التقويم، ونقد هادف بنّاء يوجهها نحو الأفضل مستقبلا إن شاء الله تعالى؛ لأن المنهج منهج جديد بالنسبة للروايات التاريخية، ولكن أهدافه نبيلة ويحتاج إلى صبر وتؤدة ورعاية وتوجيه وتشجيع، فالوقت ضروريٌّ وهام لنجاحه واستقراره. كما قد يلاحظ القارىء - أيضا - تفاوتا في خواتيم السرايا والبعوث من حيث ذكر النتائج والاستنباطات الفقهية وغير ذلك، وكان مرد ذلك أن الروايات والمعلومات التاريخية تتفاوت كثرة وقلة من حيث أهمية الحدث التاريخي ونتائجه وتعلق بعض تلك النتائج ببعض المسائل والأمور الشرعية والعقدية. فمثلا نرى المعلومات التاريخية تكون غزيرة حول سرية مثل سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة نظرا لأهميتها في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني، ونظرا لما تمخَّض عنها من نتائج مهمة حيث حدث فيها أول صدام بين المسلمين والمشركين، وكسب المسلمون فيها المعركة من قتل وأسر وغنيمة، ثم حصل من قريش من بثِّ تلك الدعايات المغرضة ضد المسلمين، ودفاع الله عزّ وجلّ عن المؤمنين أصحاب السرية في الآيات التي وضحت صحة وسلامة موقفهم. كل ذلك جعل من هذه السرية محور اهتمام وعناية بالغة من قبل الرواة والإخباريين سواء أهل الحديث أو أهل التفسير أو أهل الفقه، ناهيك عن
أهل المغازي والسير مما كان له أكبر الأثر في كثرة الروايات وتشعبها حول هذه السرية في مختلف الفنون، فإذا نظرنا إلى كتب الفقه وجدنا فيها روايات حولها، وإذا فتشنا كتب التفسير وأسباب النزول والحديث طالعتنا الروايات عنها، فضلا عن كتب المغازي المتعددة. بخلاف سرية أخرى مثل سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار، قصر الاهتمام بها حتى انحصر في عدد من أهل المغازي، فنجد أن ما كتب عنها من روايات وما تضمنته من معلومات تاريخية قليل جدّا بحيث لم تغط كل حلقات الخبر التاريخي، وذلك لأنه لم يحدث في السرية شيء يذكر يؤدي إلى نتائج تاريخية تهم الباحثين. وهكذا الحال بالنسبة لبقية السرايا والبعوث تختلف فيها كمية المعلومات التاريخية حسب أهميتها وأحداثها ونتائجها. وهذا الأمر يؤدي - أيضا - إلى تفاوت في عملية النقد بين السرايا، فالسرايا التي حظيت باهتمام بالغ من أهل الحديث والتفسير إضافة إلى أهل المغازي مثل سرية عبد الله بن جحش، نجد النقاد يتسابقون في نقدها وتحليلها، بينما لا نجد لهم أثرا يذكر في سرية مثل سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار. وأعتقد أن ذلك الأمر هو سبب تساهل النقاد من أهل الحديث في عدم نقد الكثير من الروايات والوقائع التاريخية التي ربما اعتقدوا أنها لا تمثل جانبا مهمًّا من حياة الإنسان المسلم مثلما تمثله روايات الأحاديث النبوي ومثلما تمثله وقائع بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى وما نتج عنها من أحكام فقهية وعقدية. والله تعالى أعلم. وختاما أقول: إني وإن حاولت الكتابة وفق منهج المحدثين لا أدّعي أنني متقن لهذا المنهج عالم بكوامنه، غائص في درره، وحائز على جواهره، بل أنا
قليل البضاعة في هذا المجال، فرحم الله امرءا عرف قدر نفسه. وإني وإن حاولت الكتابة بأسلوب العسكريين لا أدّعي أنني عسكري حاذق متقن (للأيدلوجيات) العسكرية والخطط الحربية (والتكتيكية) كما أنه لم يدفعني إلى الكتابة على مثل هذا النحو حب التقليد الأعمى، ولكن موضوع البحث دفعني إلى ذلك دفعا، فالفترة الزمنية التي يعالجها هي أعظم فترة في تاريخنا الإسلامي، والرجال الذين يتحدث عنهم هم خير رجال هذه الأمة على الإطلاق، والجانب الذي يخوض فيه من أعظم جوانب حياة الإنسان المسلم وهو الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام. وبما أن القتال لإعلاء كلمة الله هو قمة الأعمال العسكرية لهذه الأمة، كان لابدّ من محاولة الكتابة بأسلوب يتماشى مع ذلك؛ لأضع أمام القارىء الكريم صورة تاريخية قريبة - بقدر الاستطاعة - من الحقيقة التاريخية لذلك العصر الرائع، وتلك الأحداث الجليلة لأولئك الرجال العظام. وهي محاولة اجتهادية عسى الله أن ينفع بها، ويكتب لها النجاح بعون الله وقدرته.
تحليل المصادر إن المصادر التي رجعت إليها في هذا البحث كثيرة ومتنوعة، ولذلك رأيت أن أعطي نبذة عن أهمها وأكثرها استيعابًا لموضوع البحث، إذ لا يتسع المقام لتحليل جميع المصادر التي رجعت إليها، كما أن هذه المصادر مشهورة ومعروفة، وسبق أن تناولها النقاد والمحللون قبلي بالتحليل والتقويم. ولذلك سوف أكتفي باستعراض موجز لها موضحًا مدى الاستفادة التي أفدتها منها. كان أول هذه المصادر وأقدمها مرويات عروة بن الزبير، وتلميذه الزهري، وهذه المرويات متناثرة بين طيات كتب المغازي وغيرها، ولكن كان أجمع هذه الكتب لها والتي استقيت معظم هذه المرويات منه كتاب "دلائل النبوة" لمؤلفه البيهقي. وكتاب "الدلائل" وضعه مؤلفه في دلائل النبوة وبيان ما جرى عليه أحوال صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه. وقد شرح البيهقي منهجه في تأليف كتبه، ومنها هذا الكتاب فقال: "وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصحُّ، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة ممَّا يقع الاعتماد عليه، لا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزًا فيما اعتمد أهل السنة من الآثار. ومن وقف على تمييزي في كتبي بين صحيح الأخبار وسقيمها وساعده التوفيق علم صدقي فيما ذكرته"1. وبالطبع فقد وقعت روايات ضعيفة السند وأخرى
واهية في الكتاب رغم جهد البيهقي النقدي. "ويعتمد البيهقي أساسًا على الصحيحين، وينقل منهما كثيرًا، ويشير إلى ذلك، ثم ينقل عن أبي داود ولا يشير إلى ذلك، كما ينقل عن مسند الإمام أحمد، وموطأ مالك، وسنن ابن ماجه، وسنن النسائي الكبرى، وسنن الدارمي، ويأخذ من مستدرك الحاكم، وعن شيخ الحاكم ابن حبان، كما يأخذ عن مغازي ابن عقبة"1 وهنا مربط فرسنا، فهو ربما اطلع على مغازي موسى بن عقبة فنقل منها هذه المرويات. والله أعلم. وقد حظي كتابه هذا على تقدير العلماء، واتفقت كلمتهم على أنه أشمل كتاب في موضوعه من حيث الدقة والتهذيب والترتيب، فصار مصدرًا أصيلاً، اعتمده العلماء، وصاروا يكثرون النقل منه أو العزو عنه2 "وبالإضافة إلى أن فيه نصوصًا كثيرة لم يسبق نشرها، وأنه نقل من كتب أخرى لم تصل إلينا، فهو خير كتاب صُنف في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته من خلال الأحاديث الصحيحة والأخبار الوثيقة"3. يقول ابن كثير: ("دلائل النبوة" لأبي بكر البيهقي من عيون ما صنّف في السيرة والشمائل) 4. والبيهقي: هو الإمام الحافظ العلامة الفقيه الشافعي المشهور، شيخ خراسان، القانت الورع، صاحب التصانيف، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي النيسابوري، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة في خسرو جرد من قرى بيهق بنيسابور، كان واحد زمانه في الحفظ والإتقان، وحسن التصنيف، كان فقيهًا محدثًا أصوليًّا من كبار أصحاب الحاكم، ومنه تخرج وجمع أشياء كثيرة
نافعة لم يسبق إلى مثلها ولا يدرك فيها، كان من أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي، كان فاضلاً مرضي الطريقة، عاش البيهقي أربعًا وسبعين سنة، وتوفي في عاشر جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ودفن ببيهق"1. وقد كانت معظم مرويات عروة في هذا البحث من طريق ابن لهيعة، وهي في الغالب نسخة معروفة من مغازي عروة من طريق أبي الأسود يتيم عروة، ورواياته على اختصارها إلاَّ أنها غزيرة المعلومات ونستطيع أن نتلمس الدقة وحسن التنظيم خلالها2. ويقدم لنا الزهري معلومات وفيرة ومنظمة ودقيقة في مروياته، ممَّا يدل على إمامته في شأن المغازي، وقد يخالف بقية أهل المغازي لكنه يجبرك بالحجة والبرهان على صواب رأيه وإن كان مخالفًا لإجماع أهل المغازي، مثل مخالفته لأهل المغازي الذين ذكروا أن أبا العاص إنما اعترضته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الزهري ذكر أن الذين اعترضوا أبا العاص إنما هو أبو جندل وأصحابه مستدلاًّ بالتاريخ الذي وقع فيه الحدث. وكانت معظم مرويات الزهري في هذا البحث من طريق تلميذه موسى بن عقبة صاحب أوثق المغازي، ممَّا يعطينا الثقة المطلقة في مروياته3. وقد أفدت من هذه المرويات التي تميَّزت بوجود الإسناد إلى عروة،والزهري، وفي بعض الأحيان يتعداهما الإسناد حتى شاهد العيان، فاستطعت بذلك أن أدرس تلك الأسانيد، وبالتالي أحكم عليها من حيث القوة والضعف.
وعروة هو الابن الثاني لحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته الزبير بن العوام رضي الله عنه ومع أنه أدرك بعض كبار الصحابة، وبعض أمهات المؤمنين كخالته عائشة رضي الله عنها والتي كانت أهم مصادره،إلا أنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعدُّ في الصحابة. بخلاف أخيه عبد الله الذي كان من صغار الصحابة، ومع ذلك فإنه يعتبر من كبار التابعين وفضلائهم، بل من فقهائهم المعدودين، فهو أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين. كان ثقة كثير الحديث عالماً مأمونًا ثبتًا، لم يدخل في شيء من الفتن، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، وهو أوَّل من صنَّف المغازي، قال الزهري: كان عروة بحرًا لا ينزف، ولا تكدَّره الدلاء، أصابته في رجله الأكلة فأرادوا قطعها، فأمرهم أن يقطعوها وهو يصلي، فنشروها وهو قائم يصلي وهو صامت لا يتكلم. توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين1. أما الزهري: فهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، اشتهر بفصاحة اللسان والكرم والسخاء الشديد. اتصف منذ صغره بالجد والاندفاع نحو العلم والوعي العظيم. أخذ علمه من أبناء الصحابة والتابعين الأوائل، وكان أشد الناس تأثرًا به عروة بن الزبير. اشتهر الزهري بالوعي والصدق والأمانة وشدة التدين، كان شديد الحرص على تدوين كل ما كان يسمعه من شيوخه. حظي الزهري باحترام الخلفاء من بني أمية الذين رافقهم بصفة العالم الصادق فلم يرائي أو يتملق، وكان يجهر بالحق عند الحاجة بلا اعتبار للعواقب، قال عنه مالك بن أنس: "ما أدركت بالمدينة فقيهًا محدثًا مثل الزهري". وقال معمر: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قُتل الوليد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه من علم الزهري. توفي رحمه الله سنة أربع وعشرين ومائة2.
ومن أهم المصادر وأغناها لي في هذا البحث ولكل من يبحث في علم السيرة والمغازي، سيرة ابن إسحاق، فكل من ألَّف في المغازي بعده فهم عيال عليه، كما ذكر الشافعي1. حيث كان الاعتماد في هذا البحث على بعض رواياته التي تفاوتت بين القوية الموصولة المسندة وبين الموقوفة على شيوخه، وبين الضعيفة المروية بلا سند، وقد حاولت قدر المستطاع أن أعتمد رواياته الموصولة والتي ربما ترد في بعض المصادر المنقطعة، وتصلها مصادر أخرى، وخاصة مرويات المحدثين عنه كأحمد بن حنبل، وأبي داود، والترمذي، والطبراني، وخليفة بن خياط، والحاكم، والبيهقي، وذلك من طريق ابن بكير عنه. تنوعت المعلومات التي يقدمها ابن إسحاق في هذا البحث، فنجده أحيانًا يقدم لنا معلومات وافرة عن السرية التي يتحدث عنها من حيث التاريخ، والسبب، والهدف، وقوة السرية، وسير الأحداث فيها، والنتائج، وتارة تكون معلوماته أقل وفرة فلا يشير إلى التاريخ، ولا إلى قوة السرية مثلاً، وأحيانًا يشير إشارات عابرة ومقتطفة وموجزة. وعلى كل حال فقد لاحظت على رواياته الاعتدال، فنراه يسوق لنا الرواية بتجرد دون أن يصدر عليها أحكامه أو يفرض آراءه، وقد ساعدني هذا النهج في الحد من اندفاعي الشديد نحو التعليق على كل رواية والتخفيف من ذلك قدر المستطاع. و"يستخدم ابن إسحاق منهجًا لعرض الغزوات الفعلية، يقدم ملخصًا حاويًا للمحتويات في المقدمة ويتبعه خبرًا جماعيًّا مؤلفًا من أقوال أوثق أساتيذه، ثم يكمل هذا الخبر الرئيسي بالأخبار الفردية التي جمعها من المراجع الأخرى
والقوائم كثيرة في المغازي أيضًا"1. وابن إسحاق هو: أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار بن كوثان المديني، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف "إمام في المغازي، لكن مروياته لا ترقى إلى درجة الصحيح، بل الحسن بشرط أن يصرح بالتحديث، لأنه مدلس، وتحتوي سيرته على الحسن والضعيف معا"2. قال عنه الذهبي: صالح الحديث ما له عندي ذنب إلاَّ ما قد حشاه في السيرة من الأشياء المنكرة والمنقطعة3وقد فتَّش أحاديثه ابن عدي فلم يجد فيها ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم كما يخطىء غيره، ولم يتخلف عن الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به4. اختلف في تاريخ وفاته إلى أقوال، ورجح الخطيب ما رواه علي بن المديني وابن خياط من أنه توفي سنة اثنتين وخمسين ومائة5. وسيرة ابن إسحاق لم تصل إلينا كاملة، إنما كان هناك قطعة من السيرة حققها محمد حميد الله، استقيت منها بعض الروايات التي كانت فيها وتتعلق ببعض فصول البحث. وقد كانت معظم روايات ابن إسحاق في هذا البحث مستقاة من سيرة ابن هشام. إن ابن هشام قد أغنانا عن البحث والتنقيب عن السيرة الأصلية بسيرته المشهورة التي هي في الأصل تهذيب لسيرة ابن إسحاق "فقد كان ابن هشام
في تهذيبه للسيرة محققًا للنصوص ومنتقدًا لما وقع لابن إسحاق من هفوات، ومتممًا لما فاته من الروايات ذات الصلة بموضوع السيرة، فجاءت سيرته على أكمل الوجوه وأحسنها اختصارًا واستيعابًا للأحداث الأساسية الهامة في حياته صلى الله عليه وسلم1 إن "سعة انتشار ملخص ابن هشام قللت الحاجة إلى الكتاب الأصلي منذ عهد بعيد، فاليعقوبي المتوفى حوالي (300هـ) يستخدم ملخص ابن هشام هذا2. وابن هشام هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري النحوي، كان مشهورًا بحمل العلم، متقدمًا في علم النسب والنحو واللغة، يحدثنا عنه الذهبي وابن كثير أنه حين جاء إلى مصر اجتمع به الشافعي، وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة. له بعض الكتب في النسب والنحو، ولكن شهرته كانت بسبب ما قام به من عمل علمي دقيق في تهذيب وتنقيح سيرة ابن إسحاق، حتى ليكاد الناس ينسون معه مؤلفها الأول ابن إسحاق، توفي ابن هشام عام (218هـ) 3. ومن أهم ما اعتمدته من المصادر في هذا البحث: "الطبقات الكبرى" لابن سعد المعروف بكتاب الواقدي، وخاصة الجزء الخاص بالمغازي منها، "وابن سعد ثقة يتحرى في كثير من رواياته كما يقول الخطيب البغدادي والعسقلاني، لكنه ينقل عن الضعفاء مثل الواقدي الذي أكثر من النقل عنه حتى اتهمه ابن النديم بسرقة مصنفاته، لكن التدقيق يثبن أن ابن سعد مؤلف له منهجه وأنه يكثر النقل عن الواقدي"4 لكن معلوماته أكثر تنظيمًا ودقة، وتكمل الصورة التاريخية للحدث من حيث التاريخ، والسبب، وسير الأحداث، والنتائج.
وقد سلم ابن سعد من التناقض والاضطراب الذي ربما وقع فيه شيخه الواقدي، وإن كان هو مصدر معظم مروياته كما قلنا، لكننا نجد الاعتدال سمة أحكامه على الحدث التاريخي، ونجده يسوق رواياته عن جمع شيوخه بلفظ (قالوا) كثيرًا، وأحيانًا يسميهم، كما يلخص في بعض الأحيان الروايات المتعددة للحادثة ويسوقها بأسلوبه الخاص، "إن ابن سعد ليضمن نقاء عرضه، لا يقطع وصفه الرئيس أو قصته الأساسية أبدًا بالإضافات التي جمعها بنفسه، كما يفعل الواقدي، ولكنه يضع هذه المادة المضافة في نهاية القصة الأساسية في كل حالة. وكمل ابن سعد أخبار الواقدي منهجيًّا في إحدى الخواص، وهي إجابته في كل غزوة عن الأسئلة التالية: من الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما على المدينة في أثناء غيابه؟ ومن حمل اللواء؟ "1. هذا وقد استفدت من هذا المنهج العلمي في هذا البحث معتمدًا على روايات ابن سعد في الجوانب التي اختص بها وأغفلها الآخرون خاصة الروايات المتعلقة بحملة الألوية في السرايا، وعدد الجند، والإضافات التي جمعها وذيلها نهاية كل سرية وبَعْثٍ ذَكَره. وابن سعد هو أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري، الزهري، مولى بني هاشم المشهور بكاتب الواقدي لملازمته إياه، وثقه أهل الحديث. قال ابن خلكان: كان صدوقًا ثقة. وقال ابن حجر: أحد الحفاظ الكبار الثقات المتحرين، كان كثير العلم كثير الحديث والرواية وكثير الطلب وكثير الكتب، كتب الحديث وغيره من كتب الغريب والفقه، ولكن لم تذكر له غير ثلاث كتب هي: الطبقات الكبرى، والطبقات الصغرى وكتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم توفي ابن سعد سنة ثلاث ومائتين2.
وكان من أهم مصادر البحث الجغرافية "معجم ما استعجم من أسماء المواضع والبلدان" لأبي عبيد البكري، وهو أثر نفيس من صميم التراث الأدبي العلمي، أفدت منه في تحديد الأماكن والمواضع الواردة خلال البحث، وفي ضبطها ضبطًا لغويًّا دقيقًا؛ لأن معجم البكري ليس من المعاجم العامة للبلدان، وإنما هو معجم لغوي جغرافي خاصٌّ بتحقيق أسماء المواضع التي وردت في الشعر العربي، وفي الأحاديث، وفي كتب السير، والتواريخ القديمة، وأيام العرب، ومن أخصّ مزاياه الضبط فإنه لهذا الغرض أُلِّف كما يقول مؤلفه: "فإني لما رأيت ذلك قد استعجم على الناس، أردت أن أفصح عنه بأن أذكر كل موضع مبيَّن البناء، معجم الحروف، حتى لا يدرك فيه لبس ولا تحريف"1. كما أن المعجم يمتاز بالإيجاز غير المُخلِّ، فهو قليل الحشو والفضول، لم يعتن مؤلفه بتفصيل ووصف دقيق للأماكن من حيث طول البلد وعرضه ودرجة حرارته، وذكر مياهه ونباته وحيوانه، وآثاره وأسواقه، كما ورد في بعض المعاجم الجغرافية البحتة مثل "معجم البلدان" لياقوت. لقد حدَّد البكري غرضه في تقدمته بأنه يقوم على الضبط وتصحيح الأسماء أولاً، لا على جمع الأخبار، لذلك قلَّ تعرضه لكثير ممَّا يتعرض له الجغرافي المتخصص. إن تميُّزه بهذه الخاصية يرجع إلى تنوع ثقافة مؤلفه، فالبكري لغوي من الطراز الأول في الأفق الأندلسي، تُحدثنا مؤلفاته النادرة أنه امتاز على أهل عصره بثقافته اللغوية العالية، لقد تلقى العلماء المسلمون قديمًا وحديثًا معجم البكري بالقبول ووثقوا صاحبه، ورفعوه مكانًا عليًّا بين اللغويين وأصحاب المعاجم، واعتمدوا عليه في تحقيق المشكلات، خصوصًا علماء المغاربة والأندلسيين من المحدثين والإخباريين، ومن أشهرهم القاضي عياض في "مشارق الأنوار" والسهيلي في "الروض الأنف"، فقد نقلا عنه كثيرًا في
كتابيهما، أما أصحاب المعاجم اللغوية فمعجم البكري كان عندهم أعظم أصولهم في تحقيق أعلام البلدان العربية وضبطها، وأكثر من انتفع به منهم الفيروز آبادي صاحب "القاموس". والزبيدي صاحب "تاج العروس"، وشيخه محمد الطيب الفاسي صاحب "الحاشية على القاموس"1. والبكري هو أبو عبيد الله بن أبي مصعب عبد العزيز بن أبي زيد محمد بن أيوب بن عمرو البكري من بكر بن وائل، كان من أسرة تبوأت المناصب في الدولة، فجده أيوب بن عمرو تولى خطة الرد بقرطبة زمن الدولة الأموية والقضاء ببلدة لبة، فلما تغلَّب ملوك الطوائف على الأندلس استقل البكريون بأونبة (ولبة) وشليطش وما بينهما من البلاد في كورة لبة على ساحل البحر المحيط غربي أشبيلية، ودامت إمرة البكريين في تلك الناحية نحو أربعين سنة، وكان آخر البكريين حكمًا بأونبة أبو مصعب عبد العزيز والد أبي عبيد صاحب المعجم. كان أبو عبيد من أهل اللغة والآداب الواسعة، والمعرفة بمعاني الأشعار والغريب والأنساب والأخبار. وللبكري مؤلفات كثيرة أشهرها هذا المعجم، وكتاب "اللآلي في شرح أمالي القالي" وكتاب "المسالك والممالك" وكتاب "النبات". توفي أبو عبيد البكري سنة سبع وثمانين وأربعمائة2. كان أهم مصدرين لغويين في هذا البحث هما "لسان العرب" لابن منظور، "والقاموس المحيط" للفيروز آبادي. ونظرًا لما امتاز به الأخير من بعض المميزات التي من أهمها وأعظمها فائدة لهذا البحث هو حسن اختصاره، وتمام إيجازه مع أنه خلاصة ستين سفرًا ضخمًا، لذا أردت أن أترجم له ترجمة
موجزة حيث أفدت من منهجه هذا في التعريف المختصر الموجز للكلمات المبهمة والغريبة التي عرضت خلال هذا البحث. إن "القاموس المحيط" هو المعجم الذي طار صيته في كل مكان، وشاع ذكره على كل لسان حتى كادت كلمة القاموس تحل محل المعجم؛ إذ حسب كثير من الناس أنهما لفظان مترادفان، وذلك لكثرة تداوله وسعة انتشاره، فقد طبقت شهرته الآفاق، وتلقاه بالقبول العلماء والحذاق وهو جدير بذلك. لقد تميَّز المعجم بغزارة مواده وسعة استقصائه، كما كان لطريقته الفذّة ومنهجه المحكم في ضبط الألفاظ أكبر الأثر في تميُّزه عن سائر المعاجم اللغوية، وقد اعتنى بذكر أسماء الأشجار والنبات والعقاقير الطبية، مع توضيح فائدتها، وذكر كثير من أسماء الأمراض، وأسماء السيوف، والأفراس والوحوش والأطيار، والأيام والغزوات، فكان دائرة معارف تحفل بأنواع العلوم واللطائف، وأضاف إلى خاصيته كمعجم لغوي بإيراده أسماء الأعلام والبلدان والبقاع وضبطها بالموازين الدقيقة حتى أضحى وكأنه معجم آخر للبلدان وموضحًا للمشتبه من الأعلام1. وصاحب القاموس هو الإمام اللغوي الشهير أبو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيرازي الفيروز آبادي، كان شيخ عصره في الحديث والنحو، واللغة والتاريخ والفقه. ولد بكازرين بفارس سنة تسع وعشرين وسبعمائة هجرية، وعندما شبَّ تنقل من البلاد الإسلامية في ذلك الوقت عندما كانت البلاد الإسلامية بلا حدود ولا حواجز، ثم استقر به المقام نهاية المطاف في زبيد باليمن، فتلقاه الملك الأشرف إسماعيل بالقبول وبالغ في إكرامه، ثم ولاّه قضاء اليمن كله، وقد كان يلقى الإكرام في كل بلد يمر بها، ويوضح لنا ذلك ابن حجر فيقول: "ولم يقدر له قط أنه دخل
بلدًا إلاَّ وأكرمه متوليها، وبالغ في إكرامه"1، كما يذكر ابن حجر أنه كان سريع الحفظ، حاد الذكاء، بحيث كان يحفظ في اليوم مائتي سطر2. وقد كانت له في كل فن من الفنون الإسلامية مؤلف، فبالإضافة إلى مؤلفاته في اللغة التي كان أشهرها هذا القاموس، فهناك مؤلفات في التفسير والتاريخ والتراجم والحديث والفقه. ويسوق لنا الخزرجي خبرًا يوضح مدى ما كانت تلقاه تلك المؤلفات من التقدير والإجلال والاحترام من جانب العلماء والفقهاء والقضاة، فيذكر أن بعضًا من كتبه المؤلفة رافقه موكب مهيب إلى باب السلطان الذي أجاز بدوره مصنفه بثلاثة آلاف دينار، توفي الفيروز آبادي ليلة الثلاثاء من شوال سنة سبعة عشر وثمانمائة هجرية في زبيد3. ومن أهم مصادر البحث الخاصة بجوانب معينة به مثل العملية النقدية، واستخلاص العبر واختلاف العلماء، وترجيح بعض الروايات مع استنباط الأحكام والمسائل الفقهية، ذلكم المؤلف القيم لابن القيِّم "زاد المعاد في هدي خير العباد" "وقد كان ابن القيم غزير العلم قوي البيان مبرزًا في فنون كثيرة، فنهج في الكتابة عن السيرة منهجًا متفردًا يحقق الهدف الأساسي من وراء دراسة السيرة وهو الهدف التربوي الذي يراد منه تحقيق الأسوة والقدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، في السلم وفي الحرب على حد سواء، وكان من منهجه رحمه الله الاقتصار على ما صحًّ عنده من السيرة دون التطويل في سرد جميع ما قيل في السير والمغازي؛ لأن كتابه هذا لم يكن خاصًّا بالسيرة، وإنما هو في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم عمومًا، فهو كتاب أحكام ومعاملات
وعبادات، وشمائل وآداب، وطب، وغير ذلك من العلوم المتنوعة، وأضاف إلى هذه المباحث كلها موضوع السيرة النبوية، مبينًا فيها المراحل التي مرَّ بها الإسلام في عهده الأول بأسلوب علمي رائع، هادفًا إلى استخلاص العبرة واستنباط الحكم الشرعي، وحاثًّا على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هديه وسيرته. فجاءت مباحثه في السيرة فريدة في نوعها ذات منهج متميز، لأن كتاب السير والمغازي درجوا على سرد وقائع السيرة وما يتصل بها بأسانيدها ومتونها دون العناية بالجوانب التربوية، كما أنهم في الأعمِّ الأغلب ما كانوا يستنبطون الأحكام الفقهية من السيرة النبوية، فجاء ابن القيم فكتب عن السيرة النبوية بمنهج مختلف عمَّا ألفه الناس في تصنيف مباحث السيرة، وهو منهج الاقتداء به والسير على منواله"1. وقد جاءت هذه الدراسة كمحاولة للاقتداء بمنهج ابن القيِّم والاستفادة من آرائه النقدية الفذة خاصة نقده الباطني للمتون بطريقة حكيمة بناءة، ونقاش هادىء رزين ينبىء عن عقلية ناضجة متفتحة وذهن وقَّاد، والاستفادة أيضًا بما استنبطه من المباحث الفقهية والأحكام الشرعية. ولد شمس الدين أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي في بيت علم وفضل في السابع من صفر سنة إحدى وتسعين في قرية زرع من قرى حوران بدمشق، واشتهر بابن قيِّم الجوزية، نسبة إلى المدرسة التي أنشأها يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي، لأن أباه كان قيِّمًا عليها. وصفه الحافظان ابن كثير وابن حجر بالتعبد وقلة التكلف، وقد لازم ابن تيمية ملازمة تامة منذ عودته من مصر إلى وفاته، وكان واسع المعارف عالمًا بالقرآن والسنة وعلومهما، متبحرًا في ذلك، عارفًا باللغة على اختلافها، كما كان على علم غزير بالفرق الإسلامية، ومعرفة ما وقعت فيه من أخطاء. صنَّف
رحمه الله تصانيف كثيرة بلغت نيفًا وستين كتابًا في مختلف العلوم وكان يهدف من تصنيفاته إلى بيان خصائص أهل السنة والجماعة، وبيان الصراط المستقيم والطريق الوسط بين الغالي فيه والجافي عنه. توفي ابن القيِّم رحمه الله ليلة الخميس في الثالث والعشرين من شهر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بدمشق1. كما أن من أهم المصادر الخاصة بعملية النقد واستنباط الأحكام، بل من أهم مصادر البحث الأساسية إن لم يكن أكبرها وأعظمها غَناء، الديوان الضخم الرائع والموسوعة العلمية وأكبر مرجع في علم الحديث والفقه والجامع لعلوم أخرى مختلفة مثل علم التراجم، وعلوم اللغة العربية، وعلم التاريخ والمغازي والسير (فتح الباري شرح صحيح البخاري) للحافظ الفذِّ أحمد بن حجر العسقلاني، "وهو من الشهرة والانتشار وذيوع الصيت بمكان عظيم، فهو أوفى شروح صحيح البخاري على الإطلاق، فقد بذل فيه مؤلفه جهودًا علمية ضخمة لم تجتمع لغيره من علماء عصره، وقد أمضى في تأليفه زمنًا طويلاً يقدر بخمسة وعشرين عامًا وهو يتحرى فيه الصواب، ويحقق ويمحِّص ويعرض على علماء عصره، فخرج هذا الكتاب فتحًا جديدًا في علوم الإسلام، وفنون الحديث وسائر المعارف الشرعية، مما لم يسبق له نظير، ولم يأت بعده مثله إلى اليوم، فقد وفق فيه مؤلفه غاية التوفيق، ووصل في تحقيق مسائله غاية التدقيق، فاجتمعت على الإعجاب به والثناء عليه كلمة العلماء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وكان كاسمه "فتح الباري" فهو اسم طابق المسمى"2.
يقول ابن حجر موضحًا منهجه في هذا السفر العظيم: "أسوق - إن شاء الله - الباب وحديثه أولاً، ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم أستخرج ثانيًا ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات، وكشف غامض، وتصريح مدلس بسماع، ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، منتزعًا كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك. وثالثًا أصِل ما انقطع من معلقاته وموقوفاته، وهناك تلتئم زوائد الفوائد وتنتظم شوارد الفرائد. ورابعًا أضبط ما يشكل من جميع ما تقدم أسماءً أو أوصافًا مع إيضاح معاني الألفاظ اللغوية والتنبيه على النكت البيانية ونحو ذلك. وخامسًا أورد ما استفدته من كلام الأئمة مما استنبطوه من ذلك الخبر من الأحكام الفقهية والمواعظ الزهدية والآداب المرعية، مقتصرًا على الراجح من ذلك متحريًا للواضح دون المستغلق في تلك المسالك، مع الاعتناء بالجمع بين ما ظاهره التعارض مع غيره، والتنصيص على المنسوخ بناسخه، والعام بمخصصه، والمطلق بمقيده، والمجمل بمبينه، والظاهر بمؤوله، والإشارة إلى نكت من القواعد الأصولية، ونبذ من فوائد العربية، ونخب من الخلافات المذهبية بحسب ما اتصل بي من كلام الأئمة واتسع له فهمي من المقاصد المهمة"1. لقد استفدت استفادة كبيرة من منهج ابن حجر هذا سواء ما كان منه فيما يخصُّ نقل أقوال العلماء المختلفة ومحاولة الترجيح أو الجمع بينها، أو ما يخص العملية النقدية للبحث بشقيها المتنية والإسنادية، وكذلك ضبط ما يشكل من الأسماء والأوصاف والمواضع، وأخيرًا كان من المصادر الأساسية في مجال الاستنباطات والأحكام الفقهية.
ولا يفوتني بل أجده من الواجب عليَّ أن أنوِّه بصاحب الفضل على ابن حجر في وضعه هذا الكتاب، بل بصاحب الفضل على العلماء وطلبة العلم والمسلمين كافة في حفظ الصحيح المسند من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب أصحِّ كتاب بعد كتاب الله عزَّ وجلَّ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله الذي رصّعت في الثناء عليه كتب الرجال، وتسابق المترجمون في وصف أحواله، وتشرفوا بنشر أقواله وأفعاله، لذلك فسوف أتكلم عنه بشكل مختصر. لقد التزم البخاري رحمه الله الصحة والدقة والتحري الشديد في وضعه هذا الكتاب العظيم، فلم يورد فيه إلا حديثًا صحيحًا، وهو مستفاد من تسميته إياه "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه" ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحكمية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام، فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة، وقد بذل في تمحيصه وتدقيقه جهدا جبارًا، فها هو يقول: "صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة وجعلته فيما بيني وبين الله"1. ويقول أيضا: "صنفت كتابي الجامع في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته"2. ولكي نعرف قيمة هذا الكتاب نستمع إلى هذه القصة. يقول أبو زيد المروزي: "كنت نائمًا بين الركن والمقام فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي، ولا تدرس كتابي، فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن إسماعيل"3.
هذا وقد اعتمدت ما ورد فيه من روايات خاصَّة بهذا البحث باعتبارها أصح الروايات على الإطلاق، ورجحتها على بعض الروايات الأخرى التي نقلت أحداث البحث. والبخاري: هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي. ولد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة ببخارى. مات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه. أُلهم حفظ الحديث وهو في الكتاب، فلما بلغ ست عشرة سنة حفظ كتب ابن المبارك ووكيع، وعرف كلام أهل الرأي، فلما طعن في ثماني عشرة بدأ في التصنيف فصنَّف كتاب "قضايا الصحابة والتابعين" وكتاب "التاريخ". تنقل بين الشام ومصر والحجاز والعراق في طلب العلم، وكان ممَّا ساعده في قوة التحصيل أنه كان لا يكتب أثناء مجالسة العلماء، وذلك بسبب ما أوتي من قوة الحفظ حيث كان يكتب بعد ذلك من حفظه،يقول محمد بن حمدويه: سمعت البخاري يقول: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف غير صحيح"1. وقد عرف فيه معاصروه من شيوخه وزملائه ذلك النبوغ المبكر والذكاء الحاد وصدق السريرة وقوة الإيمان بالله، فأثنوا عليه الثناء الجميل الذي يطول ذكره، لكني سأذكر بعض ما قيل فيه. قال الحافظ رجاء بن رجاء: هو آية من آيات الله تمشي على وجه الأرض. وكان أبو بكر بن أبي شيبة يسميه البازل يعني الكامل. وكان عبد الله بن المنير أحد شيوخه يكتب عنه ويقول: أنا من تلامذته، وقال فيه أبو حاتم الرازي: لم تخرج خراسان قط أحفظ من محمد بن إسماعيل ولا قدم منها إلى العراق أعلم منه. وسئل الدارمي عن حديث وقيل له: إن البخاري صححه، فقال: محمد بن إسماعيل أبصر مني، وهو أكيس خلق الله، عقل عن الله ما أمر به
ونهى عنه من كتابه وعلى لسان نبيه، إذا قرأ محمد القرآن شغل قلبه وبصره وسمعه وتفكر في أمثاله وعرف حلاله من حرامه. وقال أبو سهل محمود بن النضر الفقيه: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها فكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم وقال صالح بن محمد جزرة: كنت أستملي له ببغداد فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفا. وقال سليم بن مجاهد: ما رأيت منذ ستين سنة أحدًا أفقه ولا أورع من محمد بن إسماعيل. وكلام الأئمة في الثناء عليه كثير لا يتسع له المقام، وأختم ذلك بقول ابن حجر: "ولو قلت أني لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة لفعلت.. ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذلك بحر لا ساحل له". توفي البخاري رحمه الله ليلة السبت، ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين1. كما كان لكتاب ابن حجر الآخر القيِّم في بابه "تقريب التهذيب" أهمية بالغة في عملية النقد الإسنادية من حيث الحكم على الرواة ومعرفة أحوالهم وطبقاتهم، وهذا الكتاب خلاصة تجارب طويلة وممارسة عظيمة لعلم الرجال، قام بها ابن حجر الحافظ الحجة، والخبير المقدم في المسالك العلمية، و"التقريب" المذكور اختصار "لتهذيب التهذيب"2 وضعه استجابة لطلب بعض طلبة العلم الذي التمس منه أن يجرد له الأسماء خاصة. فأجابه ابن حجر إلى ذلك موضحًا منهجه فيه بقوله: "رأيت أن أجيبه إلى مسألته وأسعفه بطلبته، على وجه يحصل مقصوده بالإفادة ويتضمن الحسنى التي أشار إليها وزيادة، وهي أني أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصح ما قيل فيه وأعدل ما وصف به، بألخص عبارة وأخلص إشارة بحيث لا تزيد كل ترجمته على سطر واحد غالبًا، بجمع اسم الرجل واسم أبيه وجده، ومنتهى أشهر
نسبته ونسبه، وكنيته ولقبه مع ضبط ما يشكل من ذلك بالحروف، ثم صفته التي يختص بها من جرح أو تعديل، ثمَّ التعريف بعصر كل راو منهم بحيث يكون قائمًا مقام ما حذفته من ذكر شيوخه والرواة عنه إلاَّ من لا يؤمن لبسه"1. وقد رجعت إلى هذا الكتاب وأفدت منه في تراجم معظم رواة البحث، وبالتالي الحكم على كل راو ومعرفة طبقته، وقد أفدت كثيرًا من منهجه في الحكم على الرواة بدقة وباختصار غير مخلٍّ. ولد قاضي القضاة، وإمام الحفاظ في زمانه أحمد بن علي بن محمد بن شهاب الدين بن حجر العسقلاني المصري المولد والنشأة، الشافعي المذهب في الثامن من شهر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بالقاهرة، واشتهرت أسرته بالعلم والفضل والأدب، فأبوه نور الدين عليٌّ كان عالمًا يصدر الفتاوى ويقوم بالتدريس، وكانت له بالفقه عناية وبالأدب اهتمام، وعمّ أبيه فخر الدين عثمان بن محمد بن عليّ، كان فقيه الشافعية في زمانه. ونشأ ابن حجر يتيمًا، وقد وهبه الله قوة الذكاء وسرعة الفهم، وتوقُّد الحافظة، فكان يحفظ في كل يوم نصف جزءٍ من القرآن الكريم. ونظر ابن حجر منذ صباه في كتب التواريخ حتى مَهَر، وقد أعانه هذا على معرفة الرجال وأحوال الرواة، فصنَّف هذه الكتب القيمة في تراجم الرجال وأعيان الزمان: كـ "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، و"الإصابة في تمييز الصحابة"، و"تهذيب التهذيب" وغيرها. وللأدب كذلك نصيب من عناية ابن حجر فاهتم به وكان شاعرًا، وحبب الله إليه الحديث فشغف به وأقبل عليه، ووقف حياته على دراسته وأكثر الرحلة في طلبه، اتصل بشيوخ عصره، وكان أظهرهم زين الدين العراقي، ونور الدين الهيثمي، فقضى معهما عشرة أعوام كانت خيرًا له ونفعًا. طلب الحديث في
أماكن كثيرة فسمع بالحجاز وهو صغير، وتوجه إلى اليمن فلقي كثيرًا من العلماء والحفاظ الذبن اغتبطوا بوفادته وسروا بقدومه، ثم سار إلى مكة فأدَّى فريضة الحج ثم عاد إلى مصر. وقد تصدَّى ابن حجر للتأليف والتصنيف منذ عهد مبكر من حياته، وقد أكثر من التآليف الجليلة والتصانيف المفيدة، زادت على مائة وخمسين تصنيفًا، كما تصدَّى للإقراء والتدريس في عدة مدارس بالقاهرة. ثمَّ تولى مناصب القضاء فكان قاضي القضاة بالديار المصرية، أكثر من اثنين وعشرين سنة. توفي ابن حجر رحمه الله سنة اثنين وخمسين وثمانمائة1. ولقد كان لبعض الدراسات الحديثة والخاصة بعمليتي النقد بشقيها الخارجي (سبر الروايات وفق مناهج المحدثين) والباطني (نقد المتون على ضوء المنهج التاريخي) والتي سبقت هذه الدراسة الأثر الحميد في توجيهها. فقد استفدت من كتاب الدكتور: أكرم العمري - القيِّم - (المجتمع المدني) بقسميه، وكتاب الأستاذ /أحمد عادل كمال (الطريق إلى دمشق) وكتاب الدكتور /عماد الدين خليل (دراسة في السيرة) ، ومن بعض الرسائل الجامعية التي درست مرويات السيرة النبوية وفق منهج المحدثين مثل: (مرويات غزوة بني المصطلق) للشيخ إبراهيم بن إبراهيم قريبي، و (مرويات غزوة الحديبية) للحافظ الحكمي، و (مرويات موسى بن عقبة) للشيخ محمد باقشيش، كما استفدت من المنهج الأكاديمي العسكري الذي عرضه اللواء الركن /محمود شيت خطاب في كتابه (الرسول القائد) . هذا ولا يسعني في الختام - بعد أن منَّ الله عليَّ بإتمام هذا العمل الذي أرجو أن يكون خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكون في ميزان حسناتي يوم القيامة
إن شاء الله إلاَّ أن أحمد الله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، وأشكره شكرًا وافيًا جزيلاً على إنعامه وفضله وإحسانه. وأشكر من خلقه اعترافًا بفضلهم عليَّ، إذ "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"1 كلاًّ من أستاذي فضيلة الدكتور /أكرم ضياء العمري حفظه الله تعالى المشرف على هذه الرسالة والذي تولاني بفضله وكرمه ورعايته، ونفعني الله به وبعلمه، وأعانني كثيرًا بملاحظاته وتوجيهاته السديدة، حيث لم يبخل عليَّ بوقته الثمين، فكان يستقبلني في منزله المبارك بكل ترحاب وسعة صدر، فجزاه الله عني خيرًا، وأمدَّ في عمره، ونفع بعلمه السديد. كما أشكر القائمين على الجامعة الإسلامية بما أتاحوه لطلبة العلم الوافدين عليها من شرق الأرض وغربها، من فرص مواتية لتلقي العلم الشرعي النافع السديد، والنهل من ينابيع المعرفة الصافية المستقاة من الكتاب والسنة. وأخص بالشكر منهم رئيس الجامعة فضيلة الدكتور /عبد الله بن صالح العبيد حفظه الله. وأشكر أيضًا الأستاذين الفاضلين الأستاذ الدكتور /علي بن محمد عودة، والأستاذ الدكتور /محمد ضيف الله البطاينة. أعضاء لجنة مناقشة هذه الرسالة حيث إنني استفدت من ملاحظاتهما وتوجيهاتهما القيمة. كما أتوجه بالشكر لكل من أعانني على إخراج هذا البحث من موظفي المكتبة المركزية ومكتبة الدراسات العليا، وإلى عميد كلية البحار بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، والدكتور محمد موسى العامودي الذي أعارني بعض المذكرات والمراجع استفدت منها في البحث، وأيضًا الدكتور محمد أسامة عبد الظاهر من مستوصف الجامعة الإسلامية الذي أعارني بعض الكتب الطبية فجزاهم الله عني كل خير. كما أشكر أهل قرية الشامية بمنطقة عسفان لما لاقيته منهم من كرم الضيافة
وحسن الاستقبال أثناء وقوفي على موقع سرية الرجيع القريب من قريتهم، وأخص بالشكر منهم مؤذن مسجد القرية وأبناءه، والإمام وغيرهم من شباب القرية الذين لا تحضرني أسماؤهم الآن وكانوا خير عون لي. وختامًا أرجو من الله العلي القدير أن يجد هذا العمل القبول في السماء والأرض، إنه على ذلك لقدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
"جرت عادة المحدثين وأهل السير، واصطلاحاتهم غالبًا أن يسمُّوا كل عسكر حضره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة، وما لم يحضره بل أرسل بعضًا من أصحابه إلى العدو سرية وبعثًا"1. "وربما سمَّوا بعض السرايا غزوة كما في مؤتة، حيث قالوا: غزوة مؤتة، وكما في سرية الرجيع حيث عبَّر عنها السيوطي في "الخصائص" بغزوة الرجيع، وعن سرية سيف البحر بغزوة سيف البحر، وربما سمَّوا الواحد سرية وهو في الأصل كثير، وربما سمّوا الاثنين فأكثر بعثًا، ومنه قول الأصل كالبخاري بعث الرجيع"2. ولكن ابن حجر ذكر أن ما افترق من السرية يسمَّى بعثًا3. وأخرج البيهقي عن مجاهد قال: قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، وخباب سرية، وبعث دحية سرية وحده4، وقال الشافعي رحمه الله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ورجلاً من الأنصار سرية وحدهما، وبعث عبد الله بن أنيس سرية وحده5. وقال ابن القيم: وكان يبعث بالسرية فرسانًا تارة ورجالاً أخرى6. وذكر الحلبي أنه من ظاهر كلام أهل المغازي أنهم لا يفرقون بين كون إرسال تلك السرايا والبعوث للقتال، أو لغير القتال كتجسس الأخبار، أو تعليمهم الشرائع، كما في بئر معونة والرجيع، أو حتى للتجارة كما في سرية
زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه حيث ذهب مع جماعة بالتجارة للشام فلقيه بنو فزارة فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم1. وقد اختُلِفَ في السرية معنى، وعددًا، فقال في اللسان: "السرية من سرايا الجيوش، فإنها فعيلة بمعنى فاعلة، سميت سرية لأنها تسري ليلاً في خفية لئلا ينذر بهم العدو فيحذروا أو يمتنعوا، يقال: سرَّى قائد الجيش سرية إلى العدو، إذا جرَّدها وبعثها إليهم وهو التسرية"2. ونقل المسعودي3 عن بعض ذوي المعرفة بسياسة الحروب أنها هي التي تخرج بالليل، فأما التي تخرج بالنهار فتسمى السوارب، وذلك قوله عزَّ وجلَّ {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} 4. أما ابن الأثير فذكر أن: "السرية: الطائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو وجمعها السرايا، سُمُّوا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السَّري النفيس، وقيل: سمُّوا بذلك لأنهم ينفذون سرًّا وخفية، وليس بالوجه لأن لام السَّر راء وهذه ياء. وفي الحديث: يرد متسريهم على قاعدهم. المتسري: الذي يخرج في السرية، ومعنى الحديث: أن الإمام أو أمير الجيش يبعثهم وهو خارج إلى بلاد العدو، فإذا غنموا شيئًا كان بينهم وبين الجيش عامة، لأنهم ردء لهم وفئة، فأما إذا بعثهم وهو مقيم، فإن القاعدين لا يشاركونهم في المغنم"5. واتفق أصحاب اللسان، والقاموس، وتهذيب الألفاظ، على أن السرية ما بين خمسة أنفس إلى ثلثمائة6.
وقد خالفهم صاحب "فقه اللغة" فذكر أن السرية من خمسين إلى أربعمائة1، وذكر ابن حجر قولاً آخر وهي: أنها من مائة إلى خمسمائة2. ثم نقل عن هؤلاء أقوالاً مختلفة في تعداد الجيوش ومسمياتها، فذكر في "فقه اللغة": أن أقل العساكر الجريدة (وهي قطعة جردت من سائرها لوجه) ، ثم السرية، ثم الكتيبة وهي من أربعمائة إلى الألف، ثمَّ الجيش وهو من ألف إلى أربعة آلاف، وكذلك الفيلق والجحفل ثمَّ الخميس وهو من أربعة آلاف إلى اثني عشر ألفًِا، والعسكر يجمعها3. وفي "تهذيب الألفاظ": الخميس ما زاد على السرية، والهضَّاء: الكثير من الخيل، والهضَّاء: الجماعة من الناس4. ومما نقله المسعودي: "أن ما زاد على الخمسمائة إلى دون الثمانمائة فهي المناسر، وما بلغ الثمانمائة فهو جيش وهو أقل الجيوش، وما زاد على الثمانمائة إلى دون الألف فهو الخشخاش، وما بلغ الألف فهو الجيش الآن لم يبلغ، وما بلغ الأربعة آلاف فهو الجيش الجحفل، وما بلغ اثني عشر ألفًا فهو الجيش الجرَّار، وإذا افترقت السرايا والسوارب بعد خروجها فما كان دون الأربعين فهي الجرائد، وما كان من الأربعين إلى دون الثلثمائة فهي المقانب، وما كان من الثلثمائة إلى دون الخمسمائة فهي الجمرات، وكانوا يسمون الأربعين رجلاً إذا وجهوا العصبة، وقد رأى قوم أن المقنب مثل المنسر وأن كل واحد منهما ما بين الثلاثين رجلاً إلى الأربعين، واستشهدوا على تقاربهما بقول الشاعر:
وإذا تواكلت المقانب لم يزل ... بالثغر منَّا منسر وعظيم وأن الكتيبة ما جمع فلم ينتشر، وأن الحظيرة النفر الذين يغزى بهم العشرة فمن دونهم، والنقيضة جماعة يغزى بهم ليسوا الجيش، وأن الأرعن الجيش الكثير الذي له رعن الجبل، والخميس الجيش العظيم، والجرار الذي لا يسير إلاَّ زحفًا لكثرته، والجرَّار أكثر ما يكون من الجيوش العظمى"1. وقد وافقه في بعض ذلك ابن حجر، إلا أنه زاد "ما بين الخمسمائة إلى الثمانمائة يسمى هيضلة"2. هذا وقد روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، وما هُزم قوم بلغوا اثنا عشر ألفًا من قلة" 3. هذا وقد اختلف أهل العلم من أصحاب المغازي وغيرهم في عدد السرايا والبعوث التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم منذ إعلان الحرب على قريش حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ فكانت عن ابن إسحاق في ذلك ثلاث روايات: رواية نقلها الطبري والمسعودي، ذكرا فيها عنه أن عددها كان خمسة وثلاثين سرية وبعثًا4، بينما ذكر ابن هشام في روايته عنه أنها كانت ثمانية وثلاثين بعثًا وسرية، أورد منها سبعة وعشرين فقط5. أما ابن حجر فذكر أنه عدَّ ستًّا وثلاثين سرية وبعثًا6. وكذلك الواقدي كانت عنه روايتان متقاربتان، حيث ذكر المسعودي،
وابن حجر عنه أنها كانت ثمانية وأربعين1، وذكرها هو في المغازي سبعة وأربعين سرية وبعثًا2، وقد وافقه في ذلك كاتبه ابن سعد في روايته عن جمع شيوخه منهم الواقدي3. وعدَّ خليفة بن خياط في كتابه "التاريخ" إحدى وثلاثين سرية4. وأورد العامري ثلاثة أقوال: الأول: أنها كانت ستًّا وخمسين سرية، وقيل: خمسون. وقيل: ثمانية وثلاثون5. وحكى ابن الجوزي: ستًّا وخمسين سرية6. أما المسعودي فكانت عنه عدّة روايات، حيث رتب في كتابه "التنبيه والأشراف" ثلاثًا وسبعين سرية وبعثًا، ونقل عن بعضهم أنها ست وستون، وعن آخرين: نيف وخمسين7، ونقل عنه ابن حجر، والشامي: أنه عدَّ ستين بعثًا وسرية8. واختلف ابن حجر والشامي في نقلهم عن أبي الفضل العراقي، فذكر ابن حجر أنه بلغها في "نظم السيرة" زيادة على السبعين، بينما ذكر الشامي أنه أبلغها إلى الستين فقط9. وروى الحاكم عن الثقة من أصحابه ببخارى أنه قرأ في كتاب محمد بن
نصر السرايا والبعوث دون الحروب نيفًا وسبعين1. وقد انفرد الحاكم بجعل البعوث والسرايا زيادة على المائة2، قال العراقي: ولم أجد هذا القول لأحد سواه، وقال الحافظ ابن حجر: لعله أراد ضم المغازي إليها3. وقال الشامي: "والذي وقفت عليه من السرايا والبعوث لغير الزكاة يزيد على السبعين"4. وذكر مغلطاي: أن مجموع الغزوات والسرايا مائة5. قال ابن حجر: وهو كما قال6. هذا بالنسبة لأهل المغازي، أما غيرهم من أهل العلم، فقد روى ابن كثير تعليقًا عن بريدة7، والإمام أحمد بن حنبل بسند جيد8، والحاكم، كلاهما عن قتادة9، وعبد الرزاق بسند ضعيف10، عن مقسم11: أنها كانت أربعًا وعشرين سرية.
كما روى الذهبي تعليقًا عن قتادة قال: جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون1. قال المسعودي: "وأرى أن السبب الذي أوجب هذا التنازع المتفاوت في أعداد هذه السرايا أن منهم من يعتدُّ بسرايا لا يعتد بها آخرون، وذلك أنه كانت سرايا في جملة مغازٍ فأفردها بعضهم واعتد بها، وبعض جعلها في جملة تلك المغازي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجَّه في كثير من غزواته سرايا إلى ما يلي البلاد التي حلَّها بعد عزيمة المشركين بخيبر في الطلب على ما قدمنا، ووجه بعد فتح مكة سرايا لهدم الأصنام التي حول مكة فوقع هذا التنازع لأجل ذلك"2. وأضيف إلى ما قاله المسعودي: أن السرايا والبعوث النبوية لو حصرت كلها لفاق عددها العدد الذي ذكره أهل المغازي وغيرهم بكثير، وذلك أنه كانت هنالك سرايا وبعوث لأغراض غير قتالية، فكانت هناك سرايا وبعوث لجباية الزكاة، وأخرى لتنفيذ الحدود، وبعوث قضائية، وأخرى تعليمية، ودعوية، وغير ذلك، والكثير من السرايا المبهمة المنثورة بين طيات كتب الحديث وكتب معاجم الصحابة، ومعاجم البلدان، والمعاجم اللغوية وغيرها. إن ورود الكثير من أخبار هذه السرايا عرضًا في سياق الأحداث، وبإشارات مختصرة، بل وخاطفة في بعض الأحيان، وورود بعضها ضمن بعض الكتب والمصادر غير المتخصصة بالمغازي ككتب الفقه والتفسير، وأسباب النزول، وكتب الأدب وغيرها، كل ذلك أدى إلى هذا التنازع والاختلاف في عدد السرايا والبعوث النبوية.
من جهة أخرى كان هذا النشاط المتدفق من السرايا والبعوث على شكل موجات متعاقبة من جند الإسلام الأوائل دلالة قاطعة على أن دولة الإسلام في المدينة وبقيادة النبي القائد صلى الله عليه وسلم كانت مثل خلية النحل لا تهدأ ولا تكل، عمل دءوب متواصل لتبليغ دعوة الحق إلى الناس جميعًا، وهؤلاء الرجال الأفذاذ جنود الحق الذين لا تأخذهم فيه لومة لائم، والذين كانوا يتسابقون في الخروج تطوعًا وعن طيب خاطر، جنودًا بواسل في هذه السرايا والبعوث غير آبهين بالمشاق والمصاعب والمخاطر، بل كانوا يتحرَّقون لملاقاتها وقهرها طمعًا في الأجر وإعلاء لكلمة الله عزَّ وجلَّ. كما أن هذه السرايا كانت بمثابة تمرينات عسكرية تعبوية، ومناورات حية لجند الإسلام، استعدادًا للغزوات الكبرى التي كانوا يخوضون غمارها مع قائدهم الأعلى المصطفى صلى الله عليه وسلم من حين لآخر. إننا نرى وبوضوح كامل كيف كان معظم الصحابة رضوان الله عليهم مشاركين ضمن هذه السرايا والبعوث قوادًا تارة، وجنودًا عاديين أخرى، فكان ذلك من الخطط (والاستراتيجيات) بعيدة المدى التي كان يعدُّها النبي صلى الله عليه وسلم لتثبيت دعائم الدولة الإسلامية، وإعدادًا منظمًا ودقيقًا لجيوش الفتوحات الإسلامية التي ما فتىء عليه الصلاة والسلام يبشر بها أصحابه بين الفينة والأخرى في أوقات السلم والحرب والخوف والأمن. إنه بنظرة فاحصة في قوَّاد وجنود تلك السرايا والبعوث تطالعنا أسماء لمعت كثيرًا في تاريخ الفتح الإسلامي فيما بعد. مثل قائد فتوحات الشام، أمين الأمة، أبي عبيدة بن الجراح، وسعد القادسية وفاتح المدائن، وسيف الله المسلول أسد العرب خالد بن الوليد، وأرطبون العرب فاتح مصر عمرو بن العاص، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
إذا كانت تلك السرايا بمثابة تدريب عملي حي نابض، بل يمكن اعتبارها بلا مبالغة دورات أركان للقادة الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها فيما بعد. إن هذا الكم الوافر من السرايا والبعوث، والطرق التي كانت تتمُّ بها تنقلاتها المسيرية نحو أهدافها، يدل على أن الجندي المسلم في ذلك الوقت كان يتمتع بلياقة بدنية هائلة مع خفة حركة تشحذها روح إيمانية لتضيف إليها العزم والتصميم اللذين يمثلان الروح المعنوية اللازمة، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية للانتصارات المتوالية التي كان يحققها جند الإسلام في كل معركة، ولا شكَّ أن تلك اللياقة القوية لم تأت من فراغ، أو أنها كانت محض صدفة، فالمتتبع للحياة اليومية التي كان يعيشها جند الإسلام الأوائل، يستطيع أن يعرف لماذا كانوا يتمتعون بتلك اللياقة العالية على الرغم من أنهم لم يكونوا جنودًا نظاميين يخضعون بتدريبات عنيفة، وينتظمون في معسكرات إلزامية في مؤسسات عسكرية نظامية كما هو الحال في عالمنا المعاصر. ولكن بالنظر في حياتهم وتحركاتهم خلال الأربع والعشرين ساعة اليومية يرى أنها كانت عبارة عن تدريب مستمر، فالبرنامج اليومي المنتظم يبدأ مبكرًا مع صلاة الفجر تؤدى جماعة مع قائدهم الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان دائمًا ما يحثهم على أداء هذه الصلاة جماعة وفي وقتها موضحًا لهم ولأمته أنها المفتاح العجيب ليوم مليء بالنشاط والحيوية "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن صلَّى انحلَّت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيِّب النفس، وإلاَّ أصبح خبيث النفس كسلان"1. ثم ينطلق كل منهم إلى عمله الذي تتخلله فترات الصلوات الباقية، حتى إذا ما صلَّوا الصلاة الآخرة (صلاة العشاء) ناموا تطبيقًا لأمر القائد الأعلى،
حتى إذا ما أخذوا قسطًا وافرًا من النوم أوَّل الليل إلى الثلث الأخير منه، قام معظمهم لأداء صلاة التهجد التي تملأ قلوبهم روحانية وتكسبهم مزيدًا من النشاط لأدائها في وقت يكون الجسم فيه مرتاحًا. فبالإضافة إلى أن حركات الصلاة حركات تدريبية رياضية لكل أعضاء الجسم، فإن في الروحانية المتمثلة في اتصال العبد مع خالقه عزَّ وجلَّ في خشوع وطمأنينة، رياضة إضافية للنفس تملؤها إيمانًا ويقينًا، هذا بالإضافة إلى الاستعداد الدائم واليقظة التامَّة امتثالاً لقوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} 1. فكانوا دائمًا يقومون بنشاطات تدريبية مركَّزة تتمثَّل في ركوب الخيل، والسبق، والرماية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحثُّهم على فعل ذلك، بل ويشاركهم فيه، معطيًا من نفسه القدوة، فكان يبزُّ الشباب من الصحابة قوة ومهارة ونشاطًا وحيوية، فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على ناس يتنضَّلون2، فقال: حسن هذا اللهم – مرتين أو ثلاثًا – ارموا وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم بأيديهم، فقالوا: لا والله لا نرمي معه وأنت معه يا رسول الله إذًا ينضلنا. فقال: ارموا وأنا معكم جميعًا، فقال: لقد رموا عامة يومهم ذلك ثمَّ تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضًا"3. وكان صلى الله عليه وسلم يركِّز على تعلم الرماية كثيرًا موضِّحًا أنها خير ما يعدُّ من قوة استعدادية للكفار، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي" 4.
بل وكان عليه الصلاة والسلام يشجعهم على الصناعة الحربية المتمثلة في ذلك الوقت بصناعة الأسهم، وأن الأجر الذي غايته الجنة ينسحب على صاحبها والمتنبل بها، فيروي لنا عقبة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه الذي احتسب في صنعته الخير، ومتنبله، والرامي، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا، وليس من اللهو إلاَّ ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته زوجته، ورميه بنبله عن قوسه، ومن عُلِّم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها" 1. فما أروعه من عصر تمسك فيه الصحابة بالتعاليم القرآنية الربانية، وعضّوا عليها بالنواجذ، وقاموا بتطبيقاتها حرفيًّا في شتى شئون حياتهم، فعزوا واستعلوا على أمم الأرض، شرقًا وغربًا، رغم قلتهم وبساطتهم. وحين ابتعد المسلمون عن تلك التعاليم وألقوا بها وراء ظهورهم ركبهم الذُلُّ والصغار، وتداعت عليهم الأمم من أقطارها بعد أن أصبحوا غثاءً كغثاء السيل. إن المهمات والأهداف التي أُوكلت للسرايا والبعوث النبوية، كانت تتفاوت تبعًا لاختلاف الظروف المحيطة والحادثة، فكانت السرايا الأولى في معظمها عبارة عن دوريات استطلاعية واستكشافية وجسِّ نبض، ثمَّ تطوَّرت إلى سرايا اعتراضية توقع الرعب والفزع في القوافل القرشية، وذلك قبل غزوة بدر الفاصلة، وعندما قويت شوكة المسلمين بعدها، أصبحت مهمَّة بعض السرايا والبعوث تنصب في تصفية الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية المندسين في صفوفها مثل كعب بن الأشرف، والعصماء بنت مروان، وأبي عفك، فكان في قتل كعب ردعًا لليهود، وقتل العصماء وأبي عفك ردعًا للمشركين والمنافقين في المدينة. وعندما انقلبت الأمور (الاستراتيجية) لغير صالح المسلمين بعد أحد،
وعندما طمع الأعراب في خيرات المدينة، واستهانوا بالمسلمين لدرجة أنهم غدروا ببعض البعوث التعليمية كما في الرجيع وبئر معونة، غيَّر تبعًا لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (استراتيجيته) العسكرية، فانتقل بالسرايا من قريش إلى الأعراب لتأديبهم وردعهم، ولكن بطريقة صارمة وسريعة ومباغته. وكان أهم ما يميَّز تلك السرايا هو الهجوم التعرضي، وذلك بأن يتم فيها مهاجمة الأعراب قبل تحشُّدهم وجمع أمرهم بالهجوم على المسلمين. وهكذا ظلت السرايا والبعوث النبوية تؤدي دورها وتقوم بمهامها الخاصة لخدمة أهداف النبي صلى الله عليه وسلم القريبة والبعيدة المدى، فمن دوريات قتالية، إلى سرايا تعقبية، وأخرى تمويهية، حتى إذا ما توطَّد الأمر للمسلمين بعد فتح مكة، اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة كل ما يمتُّ للوثنية بصلة، فبعث السرايا والبعوث من مكة لتحطيم بقية رموز الشرك والوثنية، فانطلقت السرايا لتحطيم العزى، ومناة، واللات وسواع، وذا الخلصة، وغيرها من الأصنام والطواغيت الوثنية. ثم انطلقت السرايا الدعوية إلى كافة أرجاء الجزيرة العربية، تدعو إلى عبادة الله وحده وتزيل من طريق الدعوة كل العراقيل والقوى التي تقف في وجه الدعوة الإسلامية وهي خاضعة للضبط العسكري النبوي، منفذة لكل الأوامر النبوية العليا، والتي يمكن اعتبارها قمة أهداف وممارسات الحرب الفروسية المشرفة التي لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل ولا من بعد، والتي هي أحد دعائم الدعوة الإسلامية، بل أحد أهمِّ الأسباب التي دعت معظم سكان المناطق التي كانت تمرُّ بها هذه السرايا النبوية، ثمَّ الجيوش الراشدية الفاتحة بعد ذلك إلى الدخول طواعية وبحب غامر ورغبة ملحة في الإسلام. لقد أدهشت النتائج السريعة الإيجابية لحركة الفتوح الإسلامية جميع المحللين على اختلاف مشاربهم ودياناتهم، ولكن المحلِّل المنصف المتجرد ستزول دهشته حتمًا عندما يقرأ تلك التعاليم والوصايا النبوية لقوَّاد وجنود السرايا
والبعوث والتي هي نواة حركة الفتوح الإسلامية، وأصبح الذين شاركوا بالأمس في السرايا والبعوث مشاركين اليوم على رأس تلك الجيوش الفاتحة مقتدين نفس النهج، سائرين على نفس الطريق الذي رسمه لهم قائد الأمة المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى تلك الأوامر والتعاليم النبوية صارت تتكرر على ألسنة الخلفاء وقادة جيوش الفتوح فيما بعد. والآن ما هي تلك الوصايا؟ عن بريدة رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل لله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغُلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما للمهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلاَّ أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" 1.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا قال: "انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلُّوا وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين" 1. وعن أبي موسى رضي لله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا" 2. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا أو سرية يقول: إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مؤذنًا فلا تقتلوا أحدًا" 3. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع" 4. وعن عبد الرحمن بن عائذ رحمه الله تعالى قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا قال: تألفوا الناس وتأتوهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم إلى الإسلام؛ فما على الأرض من أهل بيت مدر ولا وبر إلاَّ تأتوني بهم مسلمين أحبُّ إليَّ من أن تقتلوا رجالهم وتأتوني بنسائهم" 5. وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يتمنى ألا يتخلف عن أي سرية أو بعث يبعثه للجهاد في سبيل الله تعالى، وإعزاز دينه، ولكنه كان يفعل ذلك اضطرارًا لدرء المشقة عن المسلمين، وها هو يعتذر عن ذلك، موضحًا حكمة بعوثه وسراياه فيقول: "والذي نفسي بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة
فيتبعوني، ويشق أن يقعدوا بعدي، والذي نفسي بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثُم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" 1. فيا لروعة هذا الاعتذار وسُموِّه، والذي يوضح بطريق غير مباشر، المنزلة العظيمة للشهيد عند الله عزَّ وجلَّ لدرجة أن المصطفى صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يقتل شهيدًا في سبيل الله عدة مرات.
بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول "السرايا والبعوث داخل وخارج المدينة النبوية" ويشتمل على فصلين: 1 – الفصل الأول: السرايا الاعتراضية. 2 – الفصل الثاني: السرايا ذات المهمات الصعبة.
الفصل الأول السرايا الاعتراضية وتشمل: 1- مقدمة. 2- أول السرايا. 3- سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر. 4- سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ. 5- سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة. 6- سرية زيد بن حارثة إلى العيص أو خبر اعتراض أبي بصير وأصحابه لقافلة أبي العاص. 7- سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر (الخبط) .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . [الحج: (40) ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أحرِّق قريشًا، فقلت: ربِّ إذًا يثلعوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نُغزِك، وأنفق فستنفق عليك، وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك". الألباني مختصر صحيح مسلم (ص 523)
الباب الأول: السرايا والبعوث النبوية داخل وخارج المدينة
الباب الأول: السرايا والبعوث النبوية داخل وخارج المدينة الفصل الأول: السرايا الا عتراضية مقدمه ... مقدمة بعد أن استقر المقام بالمسلمين في المدينة النبوية، عاصمة الإسلام الأولى، ومأزره، بدأ العمل الدءوب الشاق لتثبيت دعائم الدولة الإسلامية، التي كانت فتية وفي طور الإنشاء والتكوين. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ على عاتقه النهوض بهذه الدولة، فقام بعدة مبادرات سريعة لحل بعض المشكلات العارضة، وإن كانت في حد ذاتها تمهيدًا (لاستراتيجيات) بعيدة المدى. فعلى النطاق الاجتماعي سن نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ذلك النظام الذي استطاع به أن يحل مشكلة المجتمع المسلم في المدينة والذي تكون من فئات مختلفة ومستويات متفاوتة حتى أصبح بفضل من الله تبارك وتعالى مجتمعًا واحدًا مترابطًا انصهر تدريجيًّا في بوتقة الإيمان فذاب فيها. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} 1. هذه المبادرة – وإن كانت حلاًّ وقتيًّا أملته الظروف الحادثة – لكنها في نفس الوقت تمهيد (لاستراتيجية) أخوة الإسلام، تلك الأخوة التي لا تربط بالدم والعرق والأرض كما تعوَّد العرب في الجاهلية، بل بالدين والعقيدة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 2 وذلك هو شأن الإسلام الذي يعتمد أساسًا على عملية التدرج في تشريع الأحكام والمعاملات بين أفراده.
"إن هذا التآخي جعل المسلمين كرجل واحد يؤمن بعقيدة واحدة، ويعمل لهدف واحد بإمرة قائد واحد"1. أما على النطاق السياسي فقد وضع دستور المدينة (الوثيقة) بموجب معاهدات وأحلاف عقدها بينه وبين مشركي المدينة، ويهودها، وذلك بتنظيم العلاقات بين سكانها على اختلاف عقائدهم، حتى يعرف كل طرف الالتزامات المنوطة به، ولتتحدد معالم الحقوق والواجبات بين الأطراف المختلفة. "لقد نصت المعاهدة على قيادة محمد صلى الله عليه وسلم لسكان المدينة المنورة كافة مسلمين، ومشركين، ويهود، فإليه يرجع الأمر كله، وله أن يحكم في كل اختلاف يقع بين السكان. وبذلك أصبح النبي صلى الله عليه وسلم (قائدًا) في المدينة المنورة. كما نصت المعاهدة على تعاون أهل المدينة في رد كل اعتداء يقع عليها من الخارج، وبذلك توحدت صفوف أهل المدينة وأصبح لهم هدف، هو الدفاع عن المدينة ضد كل اعتداء خارجي. كما أعلنت المعاهدة بصراحة أنه لا يجوز لمشرك من أهل المدينة أن يجير مالاً لقريش، أو نفسًا، وأن اليهود يعاونون المؤمنين في النفقة عليهم ما داموا محاربين، وبذلك أوشك الكفاح بين المسلمين وقريش أن يبدأ"2. لقد كانت نظرته صلى الله عليه وسلم بعيدة حيث استطاع بهذا المعاهدة أن يضمن حياد اليهود ومشركي المدينة في الصراع المتوقع حدوثه بينه وبين قريش وحلفائها، وبالتالي يتفرغ للسياسة الخارجية للدولة التي جعل محورها هدفين سريعين: 1- محاولة كسب حلفاء الإيلاف التجاري القديم إلى جانبه تمهيدًا للهدف الثاني وهو:
2- التعرض لتجارة قريش، وبالتالي إضعافها اقتصاديًّا وصولاً إلى تحطيم معنوياتها العالية وهز صورتها القوية في مجتمع الجزيرة العربية. من أجل ذلك بدأ العمل للحشد العسكري منذ وطئت قدماه صلى الله عليه وسلم دار هجرته المدينة المنورة ونزول قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1. "لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إلى المدينة ويحشد قواته فيها، ويوحد صفوف سكانها على اختلاف ميولهم وأهوائهم ودياناتهم، ويجعلهم كتلة متحدة للدفاع ضد الغارات الخارجية"2 على شكل سرايا اعتراضية كان من أهدافها ما يلي: 1- إعلان الحرب على قريش تنفيذًا لأمر الله عز وجل {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 3. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 4. 2- إشعار أعداء الدولة الإسلامية الفتية "بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم، ذلك الضعف الذي مكَّن قريشًا في مكة من مصادرة عقائدهم، وحرياتهم، واغتصاب دُورهم وأموالهم"5. 3- استهدفت إرباك قريش وحلفائها، وإضعافهم، وتحطيم معنوياتهم بضرب نشاطهم التجاري الذي يمثل عصب حياتهم، وشريان وجودهم6. وذلك يبث الرعب والفزع في نفوسهم بإثارتهم الدائمة فهم يتوقعون هجوم
المسلمين في كل لحظة، مما يشل تفكيرهم، فيسلبهم بذلك مبدأ المبادرة الأساسي في تحقيق أي نصر. 1- تدريب قوات المسلمين على القتال لتتحقق لهم اللياقة الكاملة اللازمة لخوض غمار المعارك الكبرى، فهم في حالة استنفار قصوى منذ بدأت السرايا الأولى، "ومن جهة أخرى جاءت هذه الهجمات أشبه بمناورات حيَّة كان المقاتل المسلم يجس عن طريقها نبض أعدائه ويختبر إمكاناتهم الحربية، ماديًّا، ومعنويًّا، ويمارس مزيدًا من التدريب وتنمية قدراته وطاقته على الصمود"1. 2- عقد المعاهدات مع حلفاء قريش التجارين الذين تخلوا عن حلفهم القديم المسمى بالإيلاف، وبالتالي ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيادة هذه القبائل وعدم نصرتها لقريش حتى يتمكن المسلمون من التعرض لقوافلهم وهي مفتقرة لحماية الحلفاء. 3- المعاملة بالمثل فكما أن قريشًا قد استولت على أموال المهاجرين في مكة، كان في الاستيلاء على قوافلهم نوع من العوض عما فقده المهاجرون من أموال ومتاع، وبالتالي "الحصول على مورد للتموين والتسليح في أعقاب الأزمة المالية التي كان المسلمون يعانون منها في مطلع عهدهم بالهجرة"2 بسبب ما تركوه من مال ومتاع في مكة فرارًا بدينهم وحفاظًا على عقيدتهم وهجرة إلى الله ورسوله "فلا عجب إذا رأينا المسلمين يفكرون جديًّا في استخلاص أموالهم من قريش"3.
أول السرايا
أول السرايا اختلف أهل المغازي في أول السرايا والبعوث. فمنهم من جعلها سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه1 وروى ابن إسحاق بلا سند أن راية عبيدة بي الحارث هي"أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأحد من المسلمين"2 أما غالبية أهل المغازي فقد أجمعوا على أن أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب"3 رضي الله عنه.
وبتحليل الأقوال السابقة نجد أن القول الأول في روايتان مرسلتان في سند إحداهما جهالة عين، أما الرواية الموصولة فإضافة إلى ضعف سندها الموضح سابقًا، ففيها اضطراب في المتن، كما أن الراوى لم ينص صراحة على أنها أول سرية، بل غاية ما ذكره أنه أول أمير أُمِّر وهو أمر محتمل، فربما كان قصده أول أمير يُنصَّبُ رسميًّا بأمر كتابي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ماحدث في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، ويؤيد ذلك ما وقع في رواية البزار: "أول أمير عُقد له في الإسلام"1 وذلك أمر لم يتعوده الصحابة من قبل حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعين قواد السرايا بأمر شفهي منه، وربما كان لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الرواية معاتبًا إياهم: "لأعين عليكم رجلاً ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش" 2 بالغ الأثر عليهم فامتزج العقاب مع التطلع إلى هذا المنصب أو من يفوز به فعلق في أذهانهم وحفظوه. أيضًا كيف تكون سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه هي الأولى مع أن هذه السرية التي خرج فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قد سبقتها، فالمفروض أن تكون هي الثانية في الترتيب لا الأولى. وهناك شيء آخر، فمن خلال سياق الرواية يتضح لنا أن إرسال سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه في السنة الأولى بعد السرية التي خرج فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مباشرة. والمعروف عند أهل المغازي أن سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة
كانت في السنة الثانية قبل بدر بشهرين تقريبًا وأنها هي السبب في غزوة بدر كما يقول بعض كُتَّاب السير والمغازي1. إذًا نخلص إلى القول بأن اضطراب المتن علة أخرى تضاف إلى علة السند. وأعتقد والله أعلم أنه لشهرة سرية عبد الله بن جحش وحيازتها على أوليات مهمة في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني جعلها تطغى على أخبار السرايا التي قبلها والتي لم يحدث فيها صدام مسلح، ولم ينزل فيها قرآن، كما حدث في سرية ابن جحش رضي الله عنه لأجل ذلك كله اعتقد البعض أنها أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ربما أنه جعلها الأولى باعتبار أهميتها وما جرى فيها من أحداث. والله تعالى أعلم. أما القول الثاني فنرى أن مدار رواياته على ابن إسحاق والذي لم يوضح مصدر معلوماته، فإذا علمنا أنه لا يحتج بكلامه عند المحدثين إذا لم يصرح بالتحديث عمن أخذ عنه، فكيف إذا أبهم، ولكن الخبر هنا تاريخي وكان يمكن قبول قوله لولا معارضته لإجماع أهل المغازي. أما رواية ابن عباس فهي ضعيفة الإسناد بوجود عثمان بن عطاء الخراساني وأبيه فيه2. كما أن رواية الزبير بن بكَّار ضعيفة أيضًا؛ لأنها من رواية إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز3. وكان القول الثالث عبارة عن شبه إجماع من أهل المغازي كما رأينا، وإن كانت بعض الروايات وردت من طرق لا تخلو من مقال في نظر النقاد من أهل الحديث، ولكنها صالحة للاحتجاج بها تاريخيًّا، فإن ابن لهيعة وإن ضعف بعد ضياع كتبه واحتراقها فإن روايته عن أبي الأسود في الغالب نسخة معروفة لمغازي عروة، مما يخفف من تخوفنا من عدم ضبطه، كما أن موسى بن عقبة
والزهري إمامان في المغازي، ومرسل الزهري ضعيف عند المحثين، لكن الخبر هنا تاريخي ونستأنس لقبوله بإجماع أهل المغازي عليه حيث لم يخالف إلا ابن إسحاق في تقديمه سرية عبيدة، وابن إسحاق على جلالة قدره وتمرسه في فن المغازي إلا أنه هنا قد خالف شيوخه – مصدر معظم معلوماته في المغازي – وكان يمكن أن نعتبر مخالفته لو أنه وضح لنا مصدر معلوماته وثبت لنا أنها تقوى على معارضة الإجماع، والله تعالى أعلم. هذا وقد حاول بعض أهل المغازي الجمع بين القولين منهم ابن إسحاق نفسه الذي قال: "وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معًا فشبه ذلك على الناس"1. وقد رد القسطلاني عليه فقال: "وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عقد رايتهما معًا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية لأمر اقتضاه، والله أعلم"2. قال الزرقاني معقبًا في شرحه عليه: "فيلتئم القولان"3. وقال ابن حزم: "وكان بعث حمزة، وبعث عبيدة متقاربين، واختُلف في أيهما أسبق"4. وبيَّن الحلبي سبب هذا الاختلاف بقوله: "قال بعضهم: ومنشأ الاختلاف أن بعث حمزة، وبعث عبيدة رضي الله تعالى عنهما كانا معًا أي في يوم واحد في محل واحد، أي وشيعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا كما في
ذخائر العقبي فاشتبه الأمر"1. إضافة لما سبق فإن من الأمور التي تدعونا إلى الاعتقاد بأن سرية حمزة رضي الله عنه هي الأولى، هو أنه عليه الصلاة والسلام قد اجتهد أن تكون سراياه الأولى من المهاجرين دون الأنصار؛ لأن الأنصار لم يتعهدوا بنصرته خارج المدينة، لذلك نراه يرسل في تلك السرايا المهاجرين، وعلى رأسهم أهل بيته وأقاربه ليكونوا أول من يخوض معمعة القتال والمعارك، ليعطي بذلك القدوة الحسنة. وبما أن السرية الأولى سيكون لها مردودات إيجابية أو سلبية في حالتي الظفر أو الهزيمة حرص صلى الله عليه وسلم أن يكون قائدها على قدر عظيم من الشجاعة والإقدام وقوة الشكيمة، خاصة إذا علمنا أن قائد القافلة القرشية رجل معروف في قريش بقوة شكيمته وغطرسته حتى إن أبا جهل كان يلقب بأعز البطحاء فكان لا بد له من ند مثله، وقد اتضحت قدرات هذا الند في مكة عندما استطاع وبجرأة أن يضربه وعلى ملأ من قومه وعشيرته ويعلن إسلامه بين أيديهم دون خوف، بل تحداه أن يرد عليه إن استطاع2، وقد دلت هذه الحادثة بما لا يدع مجالاً للشك بأنه فعلاً أعز فتًى في قريش بلا منازع، فكان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه والذي أصبح بعد إسلامه أسد الله وأسد رسوله، هو أول قائد لأول سرية والله تعالى أعلم. ليتحقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصبو إليه من نتائج إيجابية بعيدًا عن السلبيات المثبطة، وكان له ما أراد عندما رمى أعز البطحاء بأعز قريش. والله تعالى أعلم بالصواب وهو من وراء القصد.
سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر
سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر ... سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى سيف البحر تنفيذًا لأمر الله عز وجل ودعوته لجهاد المشركين انطلقت طلائع الإيمان تبث الرعب في صفوف المشركين، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك قافلة قرشية محملة بالأموال والبضائع وهي في طريق عودتها إلى مكة من الشام، يقودها أبو جهل بن هشام، ويحرسها حوالي ثلثمائة راكب من فرسان قريش1، فجهز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "دورية قتال اعتراضية قوتها" ثلاثون مجاهدًا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد2 وعلى رأسهم أسد الله
وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وفي شهر رمضان من السنة الهجرية المباركة1 ارتفع أول لواء في سبيل الله تبارك وتعالى2، وكان لونه أبيض، وحامله أبو مرثد كناز بن الحصين الغنوي رضي الله عنه حليف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه3. تحركت الدورية في (مسير اقترابي) سريع نحو الهدف المحدد لها وهو ساحل البحر الأحمر، حيث التقت بالقافلة القرشية ناحية العيص في منطقة نفوذ قبيلة جهينة "فالتفوا حتى اصطفوا للقتال"4، وقبل أن يشتبك الطرفان في مواجهة دامية، تدخل رجل من كبار رجالات جهينة في وساطة سلام بينهم، فقام بجولات من المفاوضات المباشرة مع كل طرف على حدة حتى
تمكن أخيرًا من النجاح في مساعيه السليمة "فحجز بينهم مخشى1 بن عمرو الجهني وكان مخشي ورهطه حلفاء للفريقين جميعًا، فلم يعصوه فرجع الفريقان كلاهما إلى بلادهم، فلم يكن بينهم قتال"2 3. وقد كانت نتائج هذه السرية على المعسكر الوثني سيئة للغاية حيث هزت كيان قريش وبثت الرعب في نفوس رجالها، وفتحت أعينهم على الخطر المحدق بهم والذي أصبح يهدد طريق تجارتهم، وبالتالي اقتصادهم. أما المسلمون فقد كانت نتائجها عليهم إيجابية حيث تصاعدت الروح الحماسية بينهم، وأعطتهم بعدًا عميقًا من الثقة بالنفس والجرأة على عدوهم، ذلك الذي استطاعوا ولأول مرة الوقوف في وجهه بقوة أبهرت قريش وأدهشتهم "قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة: يا معشر قريش إن محمدًا قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئًا، فاحذروا أن تمروا طريقه، وأن تقاربوه فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق4 عليكم نفيتموه نفي
القردان1 على المناسم2، والله إن له سحرة، ما رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين وإنكم عرفتم عداوة ابني قيلة3 فهو عدو استعان بعدو"4. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما دار بينهم من حوار نتيجة ردة فعلهم نحو شرارة الإنذار الأولى التي أطلقها تجاههم قال: "والذي نفسي بيده لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم، وهم كارهون، إني رحمة بعثني الله – عز وجل – ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر يحشر الناس على يدي، وأنا العاقب" 5.
سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ
سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ ... سرية عبيدة بن الحرث رضي الله عنه إلى رابغ "وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله".. سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. صحيح سنن الترمذي (2/277) .
عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأبواء غازيًا "يريد قريشًا1 وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة"2 وفاتته القافلة القرشية أحيط علمًا ما يبدو بواسطة أحد عيونها بتوقفها في منطقة رابغ الساحلية فجهز لها (دورية قتال اعتراضية) بإمرة "عبيدة بن الحارث"3 في ستين رجلاً"4 "من المهاجرين الأولين، ولم يكن في تلك الغزوة من الأنصار أحد"5 "وعقد له لواءً أبيض كان الذي حمله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف"6. انطلقت الدورية في (مسيرها الاقترابي) 7 حتى وصلوا إلى رابغ "فلقوا
بعثًا عظيمًا من المشركين1 على ماء يدعى الأحياء من رابغ"2. وهناك حدثت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين والمشركين "وهو أول يوم التقى فيه المسلمون والمشركون في قتال"3 ولكن القتال اتخذ طابع المناوشة بالسهام فقط، فكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "أول العرب رمى بسهم في سبيل الله"4 في تلك المعركة التي لم تستمر طويلاً إذ قرر الفريقان الانسحاب من أرضها. وقد كان انسحاب المسلمين قويًّا ومنظمًا حيث انسحبوا في قتال (تراجعي تعطيلي) 5 بواسطة حامية منهم تغطي انسحابهم حتى هبطوا ثنية المرة، وكان بطل هذا الانسحاب الناجح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي كان له الدور الأكبر في تشتيت وإحباط استعدادات العدو لشن أي هجوم مضاد وذلك بوابل من السهام المزعجة التي قذفها نحوه، والتي كونت (ساترًا دفاعيًا) مهد لانسحاب سليم منظم بالنسبة للمسلمين، وانسحاب متوتر مرعوب بالنسبة للمشركين، هذا وقد فر عتبة بن غزوان، والمقداد بن الأسود يومئذ إلى المسلمين وكانا في حبس قريش قد أسلما قبل ذلك، فتوصلا بالمشركين حتى خرجا إلى
عبيدة وأصحابه"1 2 وقد تحققت في هذه السرية بعض الأوليات المهمة في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني على المستويين العام والخاص. فعلى المستوى العام اعتبرت أول مواجهة عسكرية بين الطرفين، بعد انقضاء سنة كاملة على أول مواجهة انتهت سلميًّا دون قتال. أما على المستوى الخاص فقد حقق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من خلال هذه السرية سبقًا عسكريًا إسلاميًا يسجل في سجله الحافل بالإنجازات على امتداد حياته التي أفناها في سبيل إعلاء كلمة الله منذ أن نطق بالشهادتين فكان ثلث الإسلام3، ثم أهريق على يديه أول دم في سبيل الله4 ومرورًا بمشاركته الجهادية الفعالة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بالقادسية والمدائن وفتح فارس، وبناء الكوفة أول مدينة إسلامية خارج الجزيرة العربية. كما أكدت هذه السرية استمرار سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم التعبوية الخاصة بحشد المهاجرين فقط في الغزوات والسرايا الأولى حتى بدر تنفيذًا لاتفاقية العقبة الثانية.
سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة
سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة ... سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخلة قال الله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . [البقرة: 217]
بعد عدد من الغزوات والسرايا الاعتراضية أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستطلع أخبار قريش ومن ثمَّ وقع تلك الهجمات عليها والتي صارت تهدد تجارة مكة الصيفية. ففي شهر جمادى الآخرة أو رجب – على خلاف بين أهل المغازي1 - من السنة الثانية الهجرية جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم (دورية استطلاع منطقة) 2 قوتها ثمانية مهاجرين3 وأسند قيادتها في أول الأمر إلى أبي عبيدة عامر بن
بن الجراح رضي الله عنه الذي لم يستطع الاعتذار عن المهمة بالكلام تأدبًا وخوفًا من معصية خليله رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يحب مفارقته والبعد عنه، لكنه لم يتمالك نفسه "فلما ذهب لينطلق بكى صبابة1 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم2 حبًّا فيه وجزعًا من مفارقته فاستبقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدعى ابن عمته عبد الله ابن جحش رضي الله عنه3 وكلفه بالمهمة بعد أن أعطاه (كتابًا مكتومًا) وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا4 وقال: "لا تكرهَنَّ أحدا من أصحابك على المسير معك" 5. امتثل القائد المتضبط للأوامر النبوية العليا فسار مع أصحابه بعد أن استوضح عن الجهة التي تقود للهدف غير المعلن6. "فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا حتى تنزل نخلة7
بين مكة والطائف1 فترصَّد بها قريشا تعلَّم لنا من أخبارهم"2. "فلما قرأ الكتاب استرجع3 وقال: سمعًا وطاعة لله ولرسوله"4 "ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"5. فما كان لهؤلاء الجنود المؤمنين الذين استرخصوا حياتهم في سبيل الله أن
يتخلفوا عن أمر رسول الله ص "فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران1 أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه"2 ولأنه لم تكن هنالك وسيلة تنقلهما غير البعير الذي أضلاه، ولأن المهمة سرية لا تحتمل التأخير وأهم عنصر فيها الوقت الذي يعتبر أساسيًّا لعنصر المباغتة استأذنا القائد في التخلف عنه في طلبه حتى لا يكونا سببًا في تعطيل مسير السرية الاقترابي نحو الهدف، لعلهما يجدانه فيلحقا بهم فيما بعد، فأذن لهما "فتخلفا في طلبه. ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا، وأدمًا3، وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم"4 ولكنهم ما لبثوا أن اطمأنوا إليهم بعد الخطة التمويهية الذكية التي قام بها بعض أفراد السرية عندما"أشرف لهم عكاشة بن محصن5
وقد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمار، لا بأس عليكم منهم"1. وفي الحال عقد عبد الله بن جحش رضي الله عنه مع أصحابه مؤتمرًا حربيًّا مصغرًا تداولوا فيه الرأي حول القافلة هل يهجمون عليها؟، ويستغلون هذه الفرصة المواتية من غرة عدو طالما أفلت منهم نتيجة حذره الشديد، ولكن الشهر الحرام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بقتال فيه، أيتركونهم لأجل ذلك؟ ولكن هل راعت قريش الحرمات عندما طردتهم من ديارهم واستولت على أموالهم، وصدتهم عن سبيل الله؟ إذًا فليعاملوهم بالمثل والبادي أظلم، وأخيرًا خرجوا بقرار جماعي حاسم بالهجوم عليهم و"قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم"2 فاشتبكوا معهم في قتال سريع خاطف حيث "رمى واقد بن عبد الله التميمي3 عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله، فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش بالعير وبالأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة"4 فوقف العير والأسيرين"5 قائلاً لهم: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"6 ويصل الخبر إلى قريش فثارت ثائرتها وشنت هجومًا إعلاميًّا مركزًا تخللته دعايات مغرضة ضد المسلمين استغلت فيها التعاليم الإبراهمية التي لا زالت بعض آثارها باقية في المجتمع الجاهلي حتى ذلك الوقت من تحريم
القتال في الأشهر الحرم وغير ذلك. "انتهزت قريش هذه الفرصة للتشهير بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين وإظهارهم بمظهر المعتدي الذي لا يراعي الحرمات"1 "قالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال"2. ونجحت قريش في خطتها تلك بادىء الأمر حيث "كان لدعايتها صدَّى كبير، وأثر ملموس حتى في المدينة نفسها، فقد كثر الجدل والنقاش بين المسلمين أنفسهم، وأنكروا على رجال السرية محاربتهم في الشهر الحرام، واشتد الموقف، ودخلت اليهود تريد إشعال الفتنة"3 حتى ظن أهل السرية أنهم قد هلكوا وسُقط في أيديهم، ولكن الله عز وجل لم يكن ليدع أولياءه تتقاذفهم أهواء ورغبات أعدائه، فهو قد تكفل بنصرهم. ماديًّا ومعنويًّا، فنزلت الآيات البينات ترد وبقوة على دعايات قريش المغرضة موضحة أنه وإن كان الشهر الحرام لا يحل فيه القتال، ولكن لا حرمة عند الله لمن هتك الحرمات، وصد عن سبيله. وهنا اطمأن المسلمون لسلامة موقفهم ورد الله كيد أعدائهم إلى نحورهم "وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين وبعثت إليه قريش"4 "ليفادوا الأسيرين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخاف أن تكونوا قد أصبتم سعد بن مالك وعتبة بن غزوان، فلم يفادهما حتى قدم سعد وعتبة، ففوديا، فأسلم الحكم بن كيسان5 وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع عثمان بن عبد الله بن
المغيرة كافرًا"12. وهكذا "يمكن اعتبار سرية عبد الله بن جحش الجسر الذي اجتازه صراع المناوشات بين الإسلام والوثنية صوب القتال المنظم المكشوف الذي بدأته معركة بدر، ذلك أن هذه السرية كشفت بسبب توغل مقاتليها بعيدًا إلى طريق التجارة المكية اليمنية مدى خطورة الدولة الناشئة على تجارة مكة خاصة، ووجودها الوثني عامة"3. إن الجرأة الشديدة التي تمت بها هذه العملية أذهلت قريش التي لم يدر بخلدها أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستطيعون التوغل إلى هذه الدرجة في منطقة نفوذها، وكان التوغل من منطقة بعيدة عن أعين قريش، وغير متوقعة على الإطلاق، ومما زاد في دهشتها تلك السَّرية التامة، والدقة المتناهية التي تمت بها
العملية، حتى إن عيون قريش لم ترصدها (ومخابراتها) لم تستطع معرفة الوجهة التي قصدتها، وكان ذلك ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطط له بابتكاره أسلوب الرسائل المكتومة للمحافظة على الكتمان وحرمان العدو من الحصول على المعلومات التي تفيده عن حركات المسلمين "ولكتمان أهم عامل من عوامل مبدأ (المباغتة) وهي أهم مبدأ من مبادىء الحرب"1. وبالإضافة إلى ذلك فقد أثبتت هذه السرية بما لا يدع مجالاً للشك بأن جيش النبي صلى الله عليه وسلم قوي يندفع للقيام بأصعب الأعباء والمهمات، ويتحلى بمزايا القتال، وبمقدرته على إنجاز الواجبات بكل كفاءة واقتدار مما يدل على روحه المعنوية العالية. فكم كان موقف قائد السرية رائعًا، يدل على ضبطه العسكري الجيد بإطاعته الأوامر النبوية العليا دون تردد أو تخاذل، وهو بعيد عن مقر القيادة العليا، فما أن قرأ الكتاب حتى امتثل فورا للأمر ونفذه بحذافيره، معطيًا من نفسه القدوة الحسنة، باثًّا في نفوس جنوده الحماس وهو يقول لهم: "من كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. ولا غرو في ذلك، فهو خريج مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم العسكرية. وكم كان موقف جنوده البواسل عظيمًا، عندما امتثلوا جميعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضوا له لم يتخلف عنه منهم أحد، على الرغم من تأكيدات الرسول صلى الله عليه وسلم للقائد بترك الحرية الكاملة لهم في الاختيار. ومن هذا المنطلق تتجلى عدالة الإسلام بإعطاء الأفراد الحرية الكاملة في أمر لم تكن فيه ضرورة إلزامية.
إن النتائج التي تحققت في هذه السرية، اعتُبرت أوليات في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني، فاقتال الذي دار فيها اعتبر أول مواجهة عسكرية دموية بين الطرفين نتج عنها أول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين، وأول غنيمة ينفلّها الله عز وجل للمسلمين، كأول تعويض يقبضه المهاجرون عن أموالهم التي استولت عليها قريش في مكة، والشاهد أن ما تمخض عن هذه السرية من أحداث مهمة أصبح سابقة في التاريخ الإسلامي، مما جعلها تستأثر باهتمام كبير ومركز من أهل المغازي حتى اعتبرها بعضهم أول سرية في الإسلام1. وقد كان موقف قريش التالي لأحداث هذه السرية مزيجًا من الغضب والخوف في آن واحد، لذلك فكرت وبدهاء شديد استغلال الثغرة الناتجة عن الخطأ التقديري الذي وقع فيه أصحاب السرية علَّها تستطيع بذلك أن تشفي غيظها من المسلمين بإثارة العرب ضدهم، فأخذت أبواق دعايتها ترعد، وتبرق تصم الآذان بشتم المسلمين، ووصفهم بأنهم أناس لا يراعون الحرمات، ولا يحترمون التقاليد والأعراف المتعارف عليها بين العرب، وأن ما قاموا به يناقض تعاليمهم التي ينادون بها، وغير ذلك فلما أكثرت قريش وتمادت في غيها نزلت الآيات من فوق سبع سماوات تقريعًا وتوبيخًا لقريش المتشدقة بحماية الحرمات ورعاية الأعراف. قال الله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} 2. "فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن
الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله، حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم بالله، وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنهم إياهم عن الدين1. فمن يدافع عن الحرمات لا بد أن يكون مؤهلا لذلك بأن يكون على الأقل قدوة فيما يدَّعيه، فهلا قومت قريش سلوكها تجاه من فرض وأمر بهذه الحرمات التي يدَّعون أنهم قَيَّمون عليها، وهم يشركون معه في العبادة أحجارًا وأوثانًا لا تنفع ولا تضر. لقد كان في هذا التقريع والتوبيخ الإلهي ما يكفي لردع قريش وكبح جماحها وكتم أبواق دعايتها وبالتالي تعريتها أمام الرأي العام العربي. وكان فيه الطمأنينة والأمان للمسلمين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وراحةُ بال لأهل السرية الذين أسعدهم دفاع الله عز وجل عنهم فطمعوا في الأجر فأنزل الله عز وجل في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء"3. أما موقف اليهود بالمدينة فكان ينم عن حقد دفين وكره للمسلمين الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر، فما حصلت تلك المواجهة بينهم وبين قريش حتى تفاءلوا عليهم بها شامتين، وهم يعتقدون أنها بداية الشرارة لحرب شعواء؛ يكون فيها القضاء تمامًا على المسلمين القلة في ذلك الوقت بالنسبة لقوة قريش وحلفائها الضاربة في الجزيرة العربية. ولكن الله كبتهم، فصار فألُهم شؤمًا
عليهم عندما أعز الله جنده ونصرهم على أعدائهم من المشركين، فتفرغوا بذلك اليهود، وقذف الله الرعب في قلوبهم، وركبهم الذل والهوان حتى خرجوا من المدينة صاغرين. ومما يستفاد في هذه السرية من الأحكام صحة الرواية بالمناولة أو الإجازة بالمناولة. قال السهيلي: "وترجم البخاري على هذا الحديث في كتاب العلم احتجاجا به على صحة الرواية بالمناولة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناول عبد الله بن جحش كتابه، ففتحه بعد يومين، فعمل على ما فيه، وكذلك العالم إذا ناول التلميذ كتابا جاز له أن يروي عنه ما فيه وهو فقه صحيح"1. قلت: قال البخاري في باب العلم: "واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كتب لأمير السرية كتابا"2. قال ابن حجر: "هذا المحتج هو الحميدي، ذكر ذلك في كتاب النوادر له. ووجه الدلالة في هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب، وأمره أن يقرأه على أصحابه ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة ومعنى المكاتبة، وقد سوَّغ الجمهور الرواية بها، وردها من رد عرض القراءة من باب الأولى، وتعقبه بعضهم بأن الحجة إنما وجبت به لعدم توهم التبديل والتغيير فيه لعدالة الصحابة. بخلاف من بعده. حكاه البيهقي. وأقول: شرط قيام الحجة بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوما، وحامله مؤتمنا، والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهم التغيير، والله أعلم"3. ومما يستفاد أيضا: "أن شرع من قبلنا شرع لنا حتى يرد ناسخ، وذلك أن
تحريم القتال في الأشهر الحرم كان حكما معمولا به من عهد إبراهيم، وإسماعيل، وكان من حرمات الله، ومما جعله الله مصلحة لأهله، قال الله تعالى {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} 1. فكان رجب أمانا للسالكين إليها مصلحة لأهلها، ونظرا من الله لهم دبَّره، وأبقاه من ملة إبراهيم لم يُغيِّر حتى جاء الإسلام، ثم أباحته آية السيف في سورة براءة؛ فإن براءة كان فيها نبذ العهد العام وهو أن لا يصد أحد عن البيت جاءه، ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم، وأن لا يحج مشرك، وإباحة القتال في الأشهر الحرم، أي مع بقاء حرمتها فإنها لم تنسخ، قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} 2 فتعظيم حرمتها باق، وإن أبيح القتال3. وفيها أيضا دليل على تسويغ الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم، فإن أصحاب السرية قد أدَّاهم اجتهادهم إلى مهاجمة القافلة دونما أمر منه صلى الله عليه وسلم، ونزل قول الحق سبحانه وتعالى فيه تصويب لاجتهادهم ذلك بعد أن أكثر الناس في تقريعهم ولومهم بناء على دعاية قريش المغرضة ضدهم ... والله أعلم..
خبر اعتراض أبي بصير وأصحابة لقافلة أبي العاص
خبر اعتراض أبي بصير وأصحابة لقافلة أبي العاص ... خبر اعتراض أبي بصير1 وأبي جندل لقافلة أبي العاص (ويلُ أمه مُسعر حرب، لو كان معه أحد) رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفا أبًا بصير البيهقي، دلائل: (4/173) الله ربي العليُّ الأكبر ... مَن ينصرِ الله فسوف يُنْصَر ويقع الأمرُ على ما يُقَدَّر ... "أبو بصير" البيهقي، دلائل: (4/173)
اعتبر بعض أهل المغازي كابن إسحاق1، والواقدي، ومتابعيه2 أن هذا الخبر خاص بسرية اعتراضية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتراض قافلة قرشية مقبلة من الشام، ووافقهم في ذلك بعض المحدِّثين كالشعبي3، والحاكم من المتأخرين الذي ساق الخبر برواية موصولة من طربق ابن إسحاق إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها4. وقد رجح ابن حجر روايته بناء على اتصال سندها على رواية الشعبي التي وصفها بالشذوذ5. وبناء عليه أيضا رجح بعض الباحثين المعاصرين6 رواية الحاكم على رواية الزهري الذي جزم بأن الذي اعترض القافلة القرشية هو أبو جندل، وأبو بصير وأصحابهما الذين كانوا بسيف البحر لما وقع صلح الحديبية7. وكان يمكن اعتبار رواية الحاكم هذه على أساس أنها أقوى الروايات سندا. ولكنهم ذهلوا جميعا عن علتها، وبالتالي تعجلوا بالحكم عليها، حيث
أعتقد أن في الرواية إدراجا في المتن وعلة في السند، أما إدراج المتن فقوله: "وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي وجه السرية للعير التي فيها أبو العاص قافلة من الشام، وكانوا سبعين ومائة راكب أميرهم زيد بن حارثة، وذلك في جمادى الأولى سنة ست من الهجرة ... إلخ"1، فهذا الكلام لم يرد في بقية الروايات عن ابن إسحاق ومنها ما رواه ابن بكير واسطة الحاكم إليه2، فربما كان هذا الكلام مدرجا من أحد الرواة الحاكم فظنه من كلام عائشة رضي الله عنها والله أعلم. أما علة السند فهي أن السند الذي جعله الحاكم لكامل القصة ليس كذلك، فالقصة وردت عن ابن إسحاق عند غير الحاكم مجزأة وبأسانيد مختلفة، والسند الموصول الذي ذكره الحاكم يختص بالجزء الذي يحكي قصة فداء أبي العاص من أسره يوم بدر فقط، وليس لكامل القصة، أما بقية الرواية فليست موصولة، فبعضها عن يزيد بن رومان، وبعضها عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم موقوفة عليهما3 خاصة فيما يتعلق بالعير التي خرج فيها أبو العاص تاجرا واعتراض السرية له والتي لم يرد فيها ذكر عن قائد السرية، بل إن في سياقها ما يؤيد ما ذهب إليه الزهري حيث ذكر أن خروجها كان قبيل الفتح أي في زمن الهدنة، وذكر فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم لزينب: "ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له" 4، فمن المعلوم أن قريشا لم تستأنف رحلاتها التجارية إلى الشام إلا زمن الهدنة، فهل يعقل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعث سرايا لاعتراض القوافل القرشية وهو مرتبط بمعاهدة صلح وتهادن مع قريش، كما أن تحريم المؤمنات على المشركين إنما نزل بعد الحديبية بقوله تعالى {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 5، فلو كان اعتراض أبي العاص قبل الحديبية لما قال
لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وهذا هو الذي جعل ابن القيم، والصالحي يصوِّبون رواية الزهري1، والغريب أن الواقدي ذكر ذلك في روايته على الرغم من أنه أرخ للسرية في جمادى الأولى سنة ست2، والحديبية كانت في ذي القعدة بالإجماع3 حتى الواقدي أرخ لها في ذي القعدة. كما أن في روايته اضطرابا، فهو يذكر أن أصحاب السرية أسروا أبا العاص4. ثم يعود فيذكر أن أبا العاص جاء إلى زينب فاستجار بها5. إذًا.. فأنا أعتقد أن الذي اعترض قافلة أبي العاص هو أبو بصير، وأبو جندل وأصحابهما الذين تحشدوا في منطقة العيص الساحلية6 بعد هروبهم من قريش التي فتنتهم عن دينهم ومنعتهم من تحقيق أمنيتهم في اللحاق بإخوانهم في المدينة، وذلك حسب اتفاقيات صلح الحديبية7 فكانوا "بين العيص وذي مروة من أرض جهينة، على طريق عيرات قريش، مما يلي سيف البحر، لا يمر بهم عير لقرش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها8 ولا زالوا كذلك
حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم1 قادمًا من الشام في نفر من قريش معهم تجارة لهم فسيطروا على القافلة، وأسروا رجالها دون أن يقتلوا منهم أحدًا إكرامًا لصهر أبي العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلقوا سراح أبي العاص، فقدم المدينة على امرأته زينب رضي الله عنها التي كانت عند أبيها منذ أن أذن لها أبو العاص باللحوق به "فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسر أبو جندل، وأبو بصير، وما أخذوا لهم"2. وتروي أم المؤمنين أم سلمة قصة إجارة زينب رضي الله عنها لزوجها أبي العاص فتقول: "فخرجت فأطلعت رأسها من باب حجرتها، والنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح يصلي بالناس، فقالت: أيها الناس، أنا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني قد أجرت أبا العاص، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال: "أيها الناس إني لم أعلم بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم" 3. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس، حيث وضح لهم مكانة أبي العاص منه، وذكر لهم ما أصابه وأصحابه، وأن زوجه زينب قد أجارته "فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه"، فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى رد إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال4 امتثالا لرغبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم. فهم وإن كانوا لا يخضعون لسيطرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العسكرية في عملياتهم الاجتهادية ضد قريش إلا أنهم كانوا يخضعون لأوامره ونواهيه ويحققون رغباته، ثم كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يقدموا عليه بعد شكوى قريش منهم وتنازلهم عن شرطهم السابق الذي اعتقدوا أنهم حققوا به كسبا ضد المسلمين، لكن الله جعله وبالا عليهم، فأسرعوا يتضرعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إلى أبي بصير، وأبي جندل ومن معه ولهم الحرية المطلقة في اللحاق بالمسلمين في المدينة إذا أرادوا، وبذلك فرج الله على المستضعفين من المسلمين. ويذكر الشعبي أن أبا العاص رجع إلى مكة فأدى على الناس ما كان معه من بضائعهم حتى إذا فرغ وأدى "إلى كل ذي حق حقه قام فقال: يا أهل مكة أوفيت ذمتي، قالوا: اللهم نعم، فقال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم قدم المدينة مهاجرًا، فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الأول"1. ويستفاد من هذه القصة من الأحكام جواز إجارة المرأة، قال ابن المنذر:
أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة، إلا شيئا ذكره عبد الملك – يعني ابن الماجشون – صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره، قال: إن أمر الأمان إلى الإمام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة. قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم" دلالة على إغفال هذا القائل ... انتهى. وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال: هو إلى الإمام، إن أجازه جاز وإن رده رُدَّ1. والإجارة حكم شرعي كان يُعمل به في الجاهلية، وقد أقره الإسلام، وتتضح مدى أهميته بوروده بندا أساسيًّا في دستور المدينة الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تأسيسه لدولة الإسلام في المدينة2. وهو حكم عظيم يوضح استعلاء المسلمين على غيرهم من الأمم، وهم فيه سواء لا فرق بين شريفهم ووضيعهم، وذلك على خلاف ما كان عليه الناس في الجاهلية حيث لا يستطيع أن يقوم بالإجارة إلا الشريف منهم، أما في الإسلام "فالمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم على من سواهم"3 قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد هذه الأمة صراحة: "يُجير على أمتي أدناهم"4. كما ورد في ثنايا الخبر ما يفيد أن رسول لله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب رضي الله عنها إلى زوجها بالنكاح السابق دون إحداث نكاح جديد ومهر جديد. وهذه المسألة خلافية بين الفقهاء، حيث يخالف هذا الحديث آخر أخرجه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد، ونكاح جديد".
وقال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها، ثم أسلم زوجها وهي في العدة، أن زوجها أحق بها ما كانت في العدة، وهو قول مالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق1. وقال في مكان آخر: قال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب2. وقال ابن عبد البر: حديث أنه صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول متروك، لا يعمل به عند الجميع، وحديث ردها بنكاح جديد عندنا صحيح يعضده الأصول، وإن صح الأول أريد به على الصداق الأول وهو حمل حسن3. وقال بعضهم: تصحيح ابن عبد البر الحديث أنه ردها بنكاح جديد مخالف لكلام أئمة الحديث كالبخاري وأحمد بن حنبل، ويحي بن سعيد القطان، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم4. وقد اختلف العلماء في تأويل وترجيح أحد الحديثين على الآخر بما لا طائل لذكره هنا. قال ابن حجر بعد أن ذكر أقوالهم في ذلك: وأحسن المسالك في هذين الحديثين ترجيح حديث ابن عباس كما رجحه الأئمة وحمله على تطاول العدة فيما بين نزول آية التحريم وإسلام أبي العاص، ولا مانع من ذلك من حيث العادة فضلاً عن مطلق الجواز5.
سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر
سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر ... سرية الخبط أو بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر "فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، قال: كيف كنتم تصنعون بها؟، قال: نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله". جابر بن عبد الله رضي الله عنه النووي على مسلم (17/84)
تعتبر سرية الخبط، استمرارا لسياسة النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية لإضعاف قريش، ومحاصرتها اقتصاديًّا على المدى الطويل، ولتعويض المهاجرين، ولو جزءًا بسيطًا مما فقدوه من أموال ومتاع استولت عليها قريش عند مغادرتهم وطنهم مكة. ولم توضح لنا غالبية الروايات، وخاصة الصحيحة منها تاريخ محدد لهذه السرية. وقد أغرب الشامي حين ذكر أن جمهور أئمة المغازي حددوا تاريخها برجب في السنة الثامنة الهجرية1؛ حيث لم يقل بذلك غير الواقدي ومن تابعه2. وقد رد كل من ابن القيم، وابن حجر هذا القول باعتبار تلك الفترة فترة هدنة مع قريش، فالظاهر أن ذلك وهم غير محفوظ، بل مقتضى ما في الصحيح أن تكون هذه السرية في سنة ست أو قبلها قبل الهدنة3. وذكر العراقي أن السرية كانت بعد نكث قريش للعهد، وقبل الفتح4، وعلق الزرقاني بعد ذلك: بأنه لا يعتبر قول ابن القيم كون السرية في رجب وهم غير محفوظ5. وعلى تسليم ظاهره، يحتمل أن يكون البعث في أواخر رجب بحيث لا يصلون إلى جهينة ويلقون العير، إلا في شعبان6.
وعلى كل حال فقد حشد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة من رجاله المخلصين في (دورية قتال اعتراضية قوتها) ثلثمائة صحابي1 من المهاجرين والأنصار2 وأسند قيادتها إلى أمين الأمه أبي عبيدة بن الجراح3، وحدد لهم الهدف المنشود وهو رصيد عير المشركين4 ربما قافلة تجارية مساحلة عن طريقها المعتاد، وقد تمر بمنطقة نفوذ قبيلة جهينة على ساحل البحر الأحمر. ونظرا للضائقة الاقتصادية التي كان يمر بها المسلمون في ذلك الوقت، فقد كان تموين هذا الجيش ضعيفا بحيث لم يجد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غير
جراب من تمر زودهم إياه، إضافة إلى أزوادهم الخاصة التي كانت في مجملها قليلة أيضا. (وأثناء المسير الاقترابي) لموقع العمليات، فَنِي زاد السرية العام "فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش، فجُمع فكان مزودي تمر"12 لأجل البركة في اجتماع الأزواد، وحتى يتساوى الكل في القوت فلا يتميز أحد عن أحد. ورغم هذا الإجراء المنضبط من القائد الذكي إلا أن جرابا من تمر وهو مقدار ما تجمع من الزاد الخاص للجيش لم يكن يكفي جيشا مكونًا من ثلثمائة رجل. فكان أبو عبيدة يقوتهم من هذا الجراب كل يوم "قبضة قبضة"3 ثم تمرة تمرة. عندما قارب من الانتهاء، وقد أدرك الجند صعوبة الموقف فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية فصاروا يحاولون الإبقاء على التمرة أكبر وقت ممكن. يقول جابر رضي الله عنه أحد أفراد هذه السرية: "كنَّا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل"4 وكم هو رائع هذا الموقف المدهش حقّا والذي أدهش قبلنا وهب بن كيسان رحمه الله الذي سأل جابرا رضي الله عنه دهشًا: "ما تغني عنكم تمرة؟، فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت"5. ومع ذلك لم يؤثر ذلك على معنويات الجيش، ويستسلموا للأمر الواقع بل فكروا في حيلة يُبقون على أنفسهم حيث اضطروا إلى أكل ورق الشجر. قال جابر رضي الله عنه: وكنا نضرب بعصينا الخبط6، ثم نبله بالماء
فنأكله"1. "فسمى ذلك الجيش جيش الخبط"2، وقد أثر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أحد جنود هذه السرية الشجاعة وهو رجل من كرماء الصحابة المشهورين3فنحر للجيش "ثلاث جزائر4، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه"5. ولم يكن الله عز وجل ليتخلى عن جند له خرجوا في سبيله ابتغاء مرضاته، وطمعا فيما عنده من الأجر، فبينما هم كذلك من الجهد والجوع الشديدين إذ زفر البحر زفرة أخرج الله فيها حوتًا ضخمًا، فألقاه على الشاطىء، ويصف لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مقدار ضخامة هذا الحوت العجيب فيقول: "وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم6، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر7، قال: قال
أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهرا، ونحن ثلثمائة حتى سمِنَّا، قال: لقد رأيتنا نغترف من وقب1 عينيه بالقلال2 الدهن. وتقتطع منه الفدر3 كالثور، أو قدر الثور، فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رجل أعظم بعير معنا
فمر من تحتها1 وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم2. فقال: "ما حبسكم"؟، فقلنا: كنا نتبع عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدابة"3. فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا، قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله"45. وقد أورد بعض شارحي حديث هذه السرية، وبعض أهل المغازي المتأخرين بعض الأمور الفقهية المستفادة من خلال أحداث هذه السرية، قال النووي: في هذا الحديث جواز صدِّ أهل الحرب واغتيالهم والخروج لأخذ مالهم واغتنامه. وأن الجيوش لا بد لها من أمير يضبطها، وينقادون لأمره ونهيه،وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم، قالوا: يستحب للرفقة من الناس وإن قلوا أن يؤمروا بعضهم عليهم، وينقادوا له، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب للرفقة من المسافرين خلط أزوادهم ليكون أبرك، وأحسن في العشرة، وأن لا يختص بعضهم بأكل دون بعض والله أعلم6.
قال ابن حجر: وفي الحديث من الفوائد مشروعية المواساة بين الجيش عند وقوع المجاعة، وأن الاجتماع على الطعام يستدعي البركة فيه1. ومن الفوائد أيضا جواز أكل ورق الشجر عند المخمصة، وكذلك عشب الأرض، قاله ابن القيم2. وفيه أيضا بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا، والنتقلل منها، والصبر على الجوع وخشونة العيش، وإقدامهم على الغزو مع هذا الحال3. وتدل القصة على جواز أكل ميتة البحر، وأنها لم تدخل في قوله عز وجل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 4 وقد قال الله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} 5، وقد صح عن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس وجماعة من الصحابة "أن صيد البحر ما صيد منه، وطعامه ما مات فيه"، وفي السنن عن ابن عمر مرفوعا وموقوفا " أحلت لنا ميتتان، ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" حديث حسن، وهذا الموقوف في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: "أُحل لنا كذا، وحُرِّم
علينا" ينصرف إلى إحلال النبي صلى الله عليه وسلم وتحريمه، فإن قيل: فالصحابة في هذه الواقعة كانوا مضطرين، ولهذا لما هموا بأكلها قالوا: إنها ميتة، وقالوا: نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مضطرون فأكلوا، وهذا دليل على أنهم لو كانوا مستغنين عنها لما أكلوا منها1. قيل: لا ريب أنهم كانوا مضطرين ولكن هيأ الله لهم من الرزق أطيبه وأحله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد أن قدموا: "هل بقي معكم من لحمه شيء؟ " قالوا: نعم، فأكل منه صلى الله عليه وسلم وقال: إنما هو رزق ساقه الله لكم"، ولو كان هذا رزق مضطر لم يأكل منه للضرورة فكيف ساغ لهم أن يدهنوا بوكدها، وينجسوا به ثيابهم وأبدانهم، وأيضا كثير من الفقهاء لا يُجَوِّز الشبع من الميتة، إنما يجوزون منها سد الرمق. والسرية أكلت منها حتى ثابت إليهم أجسامهم وسمنوا وتزودوا منها2. وفيها دليل على جواز الاجتهاد في الوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره على ذلك، لكن هذا كان في حال الحاجة إلى الإجتهاد وعدم تمكنهم من مراجعة النص. وقد اجتهد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة من الوقائع وأقرهما على ذلك، لكن في قضايا جزئية معينة لا في أحكام عامة وشرائع كلية؛ فإن هذا لم يقع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد من
الصحابة في حضوره صلى الله عليه وسلم ألبتة1. ومن الفوائد أيضا جواز نهي الإمام، وأمير الجيش للغزاة عن نحر ظهورهم وإن احتاجوا إليه خشية أن يحتاجوا إلى ظهورهم عند لقاء العدو، ويجب عليهم الطاعة إذا نهاهم2. كما يستحب للمفتي أن يتعاطى بعض المباحات التي يشك فيها المستفتي إذا لم يكن فيه مشقة على المفتي، وكان فيه طمأنينة للمستفتي، قاله النووي3.
الفصل الثاني: البعوث ذات المهمات الصعبة سرايا المغاوير
الفصل الثاني: البعوث ذات المهمات الصعبة سرايا المغاوير مقدمه ... الفصل الثاني البعوث ذات المهمات الصعبة (سرايا المغاوير) ويشتمل على: 1ـ مقدمة. 2ـ بعث سالم بن عمير إلى أبي عفك. 3ـ خبر مقتل المرأة التي تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4ـ البعث إلى كعب بن الأشرف. 5ـ بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي. 6ـ بعث عمرو بن أمية إلى أبي سفيان بن حرب. 7ـ البعث إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق. 8ـ البعث إلى اليسير بن رزام. 9ـ سرية أبي قتادة بن ربعي إلى خضره.
مقدمة لكل دولة أعداء، وهؤلاء إما يكونوا على شكل جماعات منفصلة لها معسكرها الخاص بها، وإما يكونوا مندسين ضمن جماعات مسالمة أو معاهدة، وربما يخضعون لسيادة الدولة نفسها. والأعداء الظاهرون يتم التعامل معهم صراحة وبشكل مباشر ومعلن. أما الأشخاص المندسون في الجماعات غير المعادية فيصعب التعامل معهم مباشرة، نظرا لوقوعهم تحت مظلة العهد المبرم مع قومهم، وتمتعهم بحمايتهم، فيستغلون هذا الموضع لتنفيذ مخططاتهم العدائية ضد الدولة من تحريض، وبثٍّ لأسباب الفرقة والشقاق، مع مؤازرة أعداء الدولة أو موالاتهم. وهذا العدو خطره أكبر بكثير من العدو الظاهر المعلِن للعداء، ويكون التعامل معه فيه نوع من الحيطة، والحذر، والترقب مع تحين الفرص المناسبة للقضاء عليه. وأحسن وسيلة تحقق هذا الغرض هي استعمال الحيلة بشتى أساليبها لاستدراجه بعيدا عن قاعدته الأمنية، أو مباغتته فيها والقضاء عليه دون إثارة انتباه الآخرين. وهذا العمل تقوم به الآن الدول المتقدمة، وتعتبره أسلوبا من أساليب الحرب المطورة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم له قصب السبق في استحداث هذا الأسلوب المتطور، فقد أحسن التعامل مع التوعيات المختلفة مع الأعداء، حيث استطاع عليه الصلاة والسلام بحنكته العسكرية الفذة أن يواجه أعداءه، ويتغلب عليهم بشتى الطرق الممكنة كلٌّ بحسب وضعه. فمن رأى أنه يستطيع القضاء عليه
بأيسر الطرق دونما إراقة دماء كثيرة أرسل إليه (فرقة مغاوير) للقضاء عليه قبل أن يستفحل أمره ويقوى كيده. وهكذا نراه دائم الحذر يحرص دائما على مراقبة أعدائه، وتتبع أخبارهم ونشاطاتهم المعادية أولا بأول، مما يعطينا دلالة واضحة على أنه كان يستخدم الأسلوب المسمى اليوم (بالمخابرات) مع البون الشاسع في الأساليب والإمكانيات. إن فرق المغاوير ونظم المخابرات تحتل اليوم حيزًا كبيرا ومهمًّا في جيوش الدول الحديثة، بل إنها تعتمد عليها في كل الأوقات سلمًا وحربًا لتنفيذ أغراضها ومخططاتها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلجأ لأسلوب تحشيد سرايا يوكل إليها القيام بالمهمات الصعبة، إلا بعد ظهور طائفة من الأعداء عرف بثاقب بصره العسكري المحنك، أنه يمكن القضاء عليهم بطرق ميسرة وتحول دونما إراقة دماء كثيرة، وهو الهدف الذي كان طالما كان يسعى إليه في صراعه مع أعدائه، كما أنها قد تحقق له من النتائج أفضل ما قد تحققه بعض المعارك الميدانية المكشوفة من إثارة الرعب في نفوس الأعداء، وردع كل من حاول منهم القيام بمثل ما قام به أولئك، مع إخماد ما قاموا به من التحريض وإثارة الفتنة في مهدها، والقصاص العادل من الخونة ومثيري الأحزاب. فعدو مثل كعب بن الأشرف مرتبط مع الدولة التي يتفيأ ظلال حمايتها بمعاهدة وخاضع لسيادتها، عندما يقوم بتجاهل كل ذلك، فينقض العهد والميثاق ويوالي أعداء الدولة ألا يعتبر خائنًا لها، ومحاربًا مهدور الدم يجب قتله واستئصال شره. ورجل مثل أبي سفيان بن حرب يخطط لمؤامرة تستهدف حياة النبي صلى الله عليه وسلم
ألا يجب معاملته بالمثل على أقل تقدير. وعدو كخالد بن سفيان الهذلي يؤلب الأعراب ويحشدهم لحرب المسلمين، ألا يكون في القضاء عليه قبل أن يستكمل خطته ويحشد الأعراب فيه تشتيت لشملهم وتجنب خطرهم الداهم وشرهم بأقل قدر ممكن من الخسائر وإراقة الدماء. كما أن في قتل عدوين مثل "سلام بن أبي الحقيق، واليسير بن رزام من زعماء خيبر تمهيدًا للغزو، وحرمانًا لليهود من زعيمين كبيرين لهما رأي وتدبير1 كما يعتبر قتل سلام بن أبي الحقيق قصاصا عادلا لدوره الكبير في تأليب الأحزاب ضد المسلمين. وهكذا نرى أن سرايا المغاوير التي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية، قد حققت أغراضها، وأصابت أهدافها بدقة متناهية على الرغم من قلة رجالها وبساطة إمكانياتها موفرة على دولة الإسلام في المدينة الكثير الكثير من الجهد والعناء، وجنبت المسلمين العديد من المعارك، وحقنت الكثير من الدماء، فإن في "تحطيم قوة العدو قبل أن تكتمل أفضل من تركها تتجمع ثم الصمود لها"2. لقد "استهدفت هذه السرايا إنذار أعداء الدولة الناشئة من غير قريش وحلفائها كاليهود في الداخل وجماعات البدو في الخارج بأن المسلمين قادرون على الرد ومستعدون للتصدي لأي عدوان يستهدف منجزاتهم التي حققوها طيلة أربعة عشر عاما من الجهد والعناء"3.
بعث سالم بن عمير إلى عفك
بعث سالم بن عمير إلى عفك ... بعث سالم بن عمير الأنصاري لقتل أبي عفك1 تُكَذِّبُ دينَ الله والمرءَ أحمَدا ... لَعَمْرُ الذي أَمْناك أنْ بئس ما يُمنيِ حَبَاكَ حنيفٌ آخرَ الليلِ طعنةً ... أبا عفكٍ خُذها على كِبَرِ السِّنَّ أمامة المريدية ابن هشام، سيرة (4/636)
عندما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة دار هجرته بدعوة من الأوس والخزرج الذين آمنوا به وبرسالته ونصروه حتى عُرفوا فيما بعد بالأنصار، ولكن كانت هنالك قلة قليلة منهم بقيت على شركها، وبنو عمرو بن عوف هي إحدى القبائل الأوسية المنضمة إلى حظيرة الإسلام، وقد كانت كغيرها من القبائل الأنصارية، الغالبية العظمى مسلمين، وقليل منهم الذين بقوا على شركهم. وكان من هؤلاء شيخ كبير1 قد عسا2، عظيم الكفر، شديد الطعن على المسلمين، يدعى أبا عفك، وكان قد امتلأ قلبه بالحقد والحسد للمسلمين، وهو يرى التفاف الأوس والخزرج على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وازداد كيده بالإسلام وأهله بعد أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد قوة وتمكينًا في المدينة وما حولها بعد غزوة بدر3، فلم يطق لذلك صبرًا، فأخذ ينشد الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض على عداوته، ويسفه رأي الأنصار لمتابعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناصرته4. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه متمادٍ في غيه، لدرجة أنه يريد تأليب الناس عليه، وإثارة الفتنة والشقاق بين المسلمين ندب الصحابة لقتله قائلاً: "من لي
بهذا الخبيث"1. وهنا يتجلى الإيمان في أروع مظاهره، فلا يتطوع لقتل أبي عفك ذلك الخبيث المرجف إلا رجلٌ من قومه2 شاب مغواري إيماني، من بني عمرو بن عوف، وأحد البكائين في غزوة تبوك، ذلكم هو سالم بن عمير رضي الله عنه3 حيث نذر على نفسه ليقتلنه أو يموت دونه، فقام بإعداد خطة محكمة للقضاء عليه دون أن يشعر به أحد من أشياعه "فأمهل يطلب له غرة4 حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عفك بالفناء، وعلم به سالم بن عمير، فأقبل فوضع السيف على كبده، ثم اعتمد عليه حتى خش في الفراش، وصاح عدو الله"5 فتركه سالم رضي الله عنه مضرجًا بدمائه يخور كالثور، حيث ثاب إليه ناس من أصحابه "ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله، وقبروه"6. متسائلين بدهشة كما يذكر الواقدي "من قتله؟ والله لو نعلم من قتله لقتلناه به"7.
فقالت أمامة المريدية1 في ذلك: تُكَذِّبُ دينَ الله والمَرْءَ أحمدا ... لَعَمْرُ الذي أَمْنَاكَ أَنْ بِئْسَ ما يُمْني حبَاكَ حَنيفٌ آخرَ الليلِ طعنةً ... أبا عفكٍ خُذها على كِبَرِ السِّنِّ2 3
خبر مقتل المرأة التي كانت تسب النبي صلى لله عليه وسلم
خبر مقتل المرأة التي كانت تسب النبي صلى لله عليه وسلم ... خبر قتل المرأة التي كانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم1
ساق ابن إسحاق، والواقدي بسند واحد منقطع1، وابن سعد، والبلاذري تبعا للواقدي2، والخطيب البغدادي3، وابن عساكر4 بسنديهما5 عن ابن عباس رضي الله عنهما هذا الخبر باعتباره سرية لقتل امرأة من بني خطمة6 هجت النبي صلى الله عليه وسلم، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لها فتطوع رجل من قومها7 لقتلها. واختلف سياق القصة عند أهل الحديث، فالطبراني يذكر في رواية أخرجها بسنده عن عمير بن أمية رضي الله عنه أنه كانت له أخت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم
وكانت مشركة فقتلها تطوعا منه دون أن يندبه إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم1. ولأجل ذلك اعتبرها ابن حجر قصتين مختلفتين ووهَّم تبعا لذلك ابن عبد البر لخلطه بينهما2. أما السهيلي فخلط بين روايات أهل المغازي، وروايتي أبي داود والنسائي3 التي أخرجاها بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما وفيها: أن رجلا أعمى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت له أم ولد تكثر الوقيعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلها4. كما أخرج أبو داود أيضا عن الشعبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت5. وإذا نظرنا إلى هذه القصة نجد أن هناك اضطرابا كبيرا في الروايات التي
نقلتها مما يدعونا إلى الاعتقاد باحتمال تعددها، وبسبب ذلك، واستنادا إلى منهجي في هذا البحث فسوف أعتمد إن شاء الله تعالى على رواية التي أعتقد أنها الأصح بين تلك الروايات، وهي رواية ابن عباس رضي الله عنهما في السنن التي ذكرت: "أن أعمى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له أم ولد1 شقية انزلقت في مهاوي الضلال، فأعماها الحقد والحسد للإسلام وأهله، مما جعلها "تكثر الوقيعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسبه، فيزجرها فلا تنزجر وينهاها فلا تنتهي"2 فضاق بها ذرعًا لتماديها في أمر لا يُصبر على مثله، فقرر القضاء عليها على الرغم من حاجته الماسة إليها لضرارته، فضلا عن كونها أمًّا لولده، ولكن الإيمان وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وموالاتهما لا يدانيه حب مهما بلغ "فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول3 فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل4 فلطخت ما هناك بالدم"5. وفي صباح اليوم التالي يصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بجمع الناس، ثم قام فيهم خطيبا كعادته حينما يحدث أمر ما فقال: "أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام" 6.
فما كان من الرجل وهو يسمع مناشدة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بد من إجابته، فقام يتخطى الناس مضطربا حتى قعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت أم ولدي، وكانت بي لطيفة رفيقة، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، ولكنها كانت تكثر الوقيعة فيك وتشتمك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر1 ثم شرح له بالتفصيل كيف قتلها، عند ذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا اشهدوا أن دمها هدر"2. يتضح لنا من سياق هذه القصة مدى الحب الطاغي المسيطر على قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له، فهذا رجل ضرير لديه مثل هذه المرأة الرفيقة به، اللطيفة معه على ما به من الضرارة، علاوة على أنها أم لولديه الصغيرين، ومع ذلك كله قتلها غضبا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم لم تمنعه حاجته الشديدة لها، ولم يغره لطفها ورفقها به، ولم يشفع لها عنده أمومتها لولديه الصغيرين، لأنه ممن كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، وهكذا المؤمن الكامل الإيمان يقدم حبّ الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وموالاتهما على كل شيء آخر حتى لو كان نفسه، قال الله تعالى {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3. ومما نستنبطه من هذا الخبر والذي قبله: أن سابَّ النبي صلى الله عليه وسلم مهدر الدم، فقد ذكر كل من المنذري والخطابي، أنه لا خلاف في أن سابه من المسلمين
يجب قتله، وأما الخلاف إذا كان ذميّا، فقال الشافعي: يقتل وتبرأ منه الذمة، وقال أبو حنيفة: لا يقتل، ما هم عليه من الشرك أعظم. وقال مالك: من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم، وكذلك قال أحمد بن حنبل1. وقال ابن بطال: "اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك: يقتل من سبه صلى الله عليه وسلم إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة، ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي، وأحمد، وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه، وروي عن الأوزاعي ومالك – في المسلم – أنها ردة يستتاب منها، وعن الكوفيين: إن كان ذميًّا عُزِّر، وإن كان مسلما فهي ردة، وحكى عياض خلافا: هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو مصلحة التأليف؟ ونقل عن المالكية: إنه إنما لم يقتل اليهود اللذين كانوا يقولون له السام عليك، لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به، فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل: إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم، وقيل: إنه لم يحمل ذلك منهم على السب، بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم: وعليكم، أي: الموت نازل علينا وعليكم، فلا معنى للدعاء به، كذا في النيل2. وقد حكى ابن تيمية إجماع أهل العلم على قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم مسلما كان أو كافرا3. ومما نستنبطه أيضا: اعتبار قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا اشهدوا أن دمها هدر" سنة في الأصل في إشهاد الحاكم على نفسه بإنفاذ القضاء، قاله الدارقطني"4.
البعث إلى كعب بن الأشرف
البعث إلى كعب بن الأشرف ... بعث محمد بن مسلمة وأصحابه لقتل كعب بن الأشرف "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله" رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن حجر، فتح (6/158)
يقع حصن كعب بن الأشرف جنوب المدينة، وهو الآن جنوب شرق مسجد قباء على يمين الذاهب إلى سد بطحان ويبعد عنه حوالي 2/1كم، وهو مبنى مربع الشكل تقريبا، ومبني من حجارة الجرانيت وهي حجارة حرة المدينة القريبة من الحصن، ويتكون الحصن من عشر غرف تقريبا متقابلة وفي أركانه أبنية ضخمة ربما كانت أبراجا للحصن،كما يقع في ركنه الشرقي بئر يدويه، ربما كانت البئر التي كان يشرب منها أهل الحصن، ويوجد للحصن باب من الناحية الغربية ربما كان بابه الرئيسي، كما يوجد بجانب أحد الغرف آثار سلم هذا وقد تحطمت وتهدمت معظم جدران الحصن وخاصة من الناحية الشرقية أما آثاره الباقية فهي كما ترى في اللقطات المصورة.
كعب بن الأشرف النضري من زعماء يهود المدينة، وأحد كبار أحبارهم1 أضمر الحقد والحسد للنبي صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة التي وصلته فيها أخبار بعثته للناس هاديا ومبشرًا ونذيرًا2. وعند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعقده الحلف الدستوري مع اليهود كان كعب بن الأشرف أحد المشاركين في هذا الحلف مع قبيلته بني النضير، فأصبح بذلك فردا من أفراد الدولة الناشئة في المدينة له حقوق وعليه واجبات بموجب الدستور الموقع من قبل الأطراف المعنية3، إلا أن ذلك لم يردعه عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث "كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش"4. ويستمر كعب متماديا في غيه، فيذكر ابن إسحاق عن جمع من شيوخه5 أنه استنكر مندهشًا النتيجة التي آلت إليها غزوة بدر، وأنه لما تيقن من صدق الخبر "ركب إلى قريش فاستغواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم"6
كما أنه لفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الحق المصدق لما معه من الكتاب، نسي المبادىء والتعاليم التوراتية التي يدَّعي أنه يؤمن بها ويدافع عنها، نسي ذلك أو أنه تناساه عمدا، فشهد لحماة الوثنية قريش بأن وثنيتهم وشركهم خير من التوحيد الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وقد وضح القرآن الكريم ذلك التناقض بقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 2. ولم يكتف كعب بكل ذلك، بل إنه حالف قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدم المدينة معلنًا لمعادة النبي صلى الله عليه وسلم وهجاء المسلمين3 فأصبح بذلك عدوًّا مستأمنًا بعهد لم يرع ذمامه، ومواطنَ دولة خان دستورها، فكان لزاما أن يُعاقب بجريمته، ويلقى جزاء خيانته، وحتى لا يثير قومه فيتحزبوا معه إذا طالبهم بتسليمه أو على الأقل يدبروا أمر هروبه بعيدا فلا تطوله يد العدالة خاصة وهو من كبار زعمائهم، لذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خير وسيلة يتم بها التخلص منه هي بقتله سرًّا دون علم قومه، فندب الصحابة لذلك قائلا: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله" 4 ويتطوع لهذه المهمة الصعبة
مغوار أنصاري من بني عبد الأشهل يذكر بعض أهل السير أنه كان أخًا لكعب من الرضاعة1 إنه محمد بن مسلمة رضي الله عنه2 الذي قام فقال: "يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ " قال: "نعم"، قال: "فأْذن لي أن أقول شيئا3. ويذكره عروة: أن محمد بن مسلمة تشاور مع سعد بن معاذ رضي الله عنه بناء على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتفق معه على خطة استدراجية يطمئن بها كعب إليه فلا يشك بنواياه تجاهه، فقال له سعد: "توجه إليه واشك إليه الحاجة، وسله أن يسلفكم طعاما"4. فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: "إن هذا الرجل قد أراد صدقة، وقد عنَّانا، فلما سمعه قال: وأيضا والله لتملَّنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال: فما ترْهُنني، قال: ما تريد؟، قال: تَرْهُنني نساءكم، قال: أنت أجمل
العرب، أنرهنك نساءنا، قال له: ترهونني أولادكم قال: يُسب ابن أحدنا، فيقال: رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك اللأمة (يعني السلاح) ، قال: نعم"1. وواعده أن يأتيه ومعه أبو نائلة –وهو أخو كعب من الرضاعة-2 وذلك زيادة لاطمئنانه، وثلاثة نفر من الأوس كانوا هم قوة السرية التي توجهت لقتله. وقد اختلفت المصادر في تسميتهم، وعددهم3.
وفي ليلة مقمرة –حددها ابن سعد بأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة1 في حين ذهب جمهور العلماء أن ذلك كان بعد غزوة بدر، وقبل غزوة بني النضير دونما تحديد2- شيَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب السرية إلى بقيع الغرقد، كما يروي ابن إسحاق بسند حسن، ثم وجههم وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم"، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته3. وأقبلوا حتى أتوا حصن كعب بن الأشرف الذي يذكر أهل المغازي أنه حديث عهد بعرس، وأنهم حينما هتفوا به وثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محارب4. وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة5، "قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب"6. وكان محمد بن مسلمة قد اتفق مع أصحابه على كيفية قتله، "فقال: إذا ما جاء فإني قائل7 بشعره فأشمه، ثم أشمكم، فإذا رأيتموني استمكنت
من رأسه فدونكم اضربوه، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفخ منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحًا -أي أطيب-"1. فقال كعب مفتخرًا:"نعم تحتي فلانة هي أعطر نساء العرب"2 فقال محمد بن مسلمة: "أتأذن لي أن أشم رأسك؟، فشمه، ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟، قال: نعم، فلما استمكن منه، قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه"34. "فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: طُرق صاحبنا فقُتل، فذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول، ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه. فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين المسلمين عامة صحيفة"5
"وقد يبدو مقتل ابن الأشرف متسمًا بالغدر، ولكن صاحب النظر الفاحص، والبصيرة النافذة يدرك أن ابن الأشرف معاهد بموجب الصحيفة التي التزم فيها يهود بني النضير مع الآخرين، وأنه بهجائه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو رئيس الدولة بالنسبة لابن الأشرف، وبإظهاره التعاطف مع أعداء المسلمين ورثاء قتلاهم، وتحريضهم على المسلمين يكون قد نقض العهد وصار محاربا مهدور الدم، وأما استدراجه ممن يثق بهم وقتله بالخديعة، فإنه جائز مع المحارب، وقد تم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. هذا وقد ذكر ابن القيم أن قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم جائز بإجماع الخلفاء الراشدين ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف، فإن الصديق رضي الله عنه قال لأبي برزة وقد هم بقتل من سبه: لم يكن هذا لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومر عمر رضي الله عنه براهب، فقيل له: هذا يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل عبد الله بن أُبي وقد قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل، ولم يقتل ذا الخويصرة التميمي وقد قال له: اعدل، فإنك لم تعدل، ولم يقتل من قال له: يقولون: إنك تنهى عن الغي وتستخلي به، ولم يقتل القائل له: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي: إن كان ابن عمتك، وغير هؤلاء، قيل: الحق كان له فله أن يستوفيه، وله أن يسقطه، وليس لمن بعده أن يسقط حقه، كما أن الرب تعالى له أن يستوفي حقه، وله أن يسقط، وليس لأحد أن يسقط حقه تعالى بعد وجوبه، كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتم وغيرهم مصالح عظيمة في حياته زالت بعد موته من تأليف الناس، وعدم تنفيرهم عنه، فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه، لنفروا، وقد أشار إلى هذا
بعينه، وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي: "لا يبلغ الناس أن محمدا يقتل أصحابه". ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف، وجمع القلوب عليه كانت أعظم عنده وأحب إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبه وآذاه. ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل، وترجحت جدًّا قَتَلَ الساب، كما فعل بكعب بن الأشرف فإنه جاهر بالعداوة والسب فكان قتله أرجح من إبقائه، وكذلك قَتَلُ ابن خطل، ومقيس، والجاريتين، وأم ولد الأعمى، فقتل للمصلحة الراجحة، وكف للمصلحة الراجحة، فإذا صار الأمر إلى نوابه وخلفائه، لم يكن لهم أن يسقطوا حقه"1. ولا ريب أن المحاربة بسب نبينا أعظم أذيةً ونكاية لنا من المحاربة باليد ومنع دينار جزية في السنة، فكيف يُنقض عهده ويُقتل بذلك دون السب، وأي نسبة لمفسدة منعه دينارًا في السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسب نبينا أقبح سب على رءوس الأشهاد، بل لا نسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسب، فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينتقض عهده بشيء أعظم منه إلا سبه الخالق سبحانه. فهذا محض القياس ومقتضى النصوص، وإجماع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعلى هذه المسألة أكثر من أربعين دليلا2. وقال الزرقاني: واستشكل قتله على هذا الوجه –وأجاب المنازري: بأنه إنما قتله كذلك لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه وسبه، وكان عاهده أن لا يعين عليه أحدًا، ثم جاءه مع أهل الحرب معينًا عليه. قال عياض: ولا يحل لأحد أن يقول إن قتله كان غدرًا، وقد قال ذلك إنسان في مجلس علي بن أبي طالب فأمر به فضُربت عنقه، وإنما يكون الغدر
بعد أمان موجود، وكعب قد نقض عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمنه محمد ورفقته لكنه استأنس بهم فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان، وقيل: لأن محمد بن مسلمة لم يصرح له بالأمان في شيء من كلامه، وإنما كلمه في أمر البيع والشراء، واشتكى إليه وليس في كلامه عهد ولا أمان1. وساق الخطابي والبيهقي بسنديهما عن عباية بن رافع قصةً مشابهة للقصة التي أوردها عياض، وملخصها أنه ذكر قتل كعب بن الأشرف في مجلس معاوية، فقال ابن يامين: كان قتله غدرًا، فلم ينكر عليه معاوية، فأنكر ذلك محمد بن مسلمة وحلف أن لا يجالس معاوية أبدًا2. وهذه الرواية فيها اضطراب في متنها، فقد روى الواقدي بسنده3 ما يفيد أن هذه القصة وقعت في مجلس مروان بن الحكم الذي كان أميرا على المدينة، كما روى عبد الرزاق في مصنفه موقفا آخر مماثلاً وقع لأبي عبس رضي الله عنه أحد المشاركين في هذه السرية4. مما يدعونا إلى الاعتقاد بضعف الرواية. ولا أظن أن يكون مثل هذا الموقف السلبي يصدر من صحابي جليل كمعاوية. والله تعالى أعلم.. وربما يلتبس على البعض أن قَتْلَ كعب بن الأشرف يتعارض مع بعض الأحاديث الناهية عن الفتك والغدر، ولكن اللبس هنا مرفوع؛ فالغدر لا يكون إلا بإنسان له عهد وميثاق ملتزم بهما غير ناكث لهما، وإلا قيل إن غزو مكة وفتحها كان غدرًا لوجود العهد والميثاف المبرم في صلح الحديبية. وكعب بن الأشرف علاوة على عدم التزامه بميثاق الدولة التي يعتبر أحد أفرادها جاهر بعداوته للمسلمين ولقائد الدولة، وأخذ يحرض عليهم، ولم يقتصر الأمر
بفداحته على ذلك، بل سافر إلى عدوهم وعاهدهم على قتال المسلمين، وكان كل ذلك كافيا لإظهار عداوته، ولكنه عندما رجع إلى المدينة صار يؤذي المسلمين –وهم أفراد مساوون له في الحقوق تحت ظل دولة واحدة غير مكترث ولا عابىء- وذلك بهجائهم والتشبيب بنسائهم، وهو أمر عظيم كانت الدماء تسيل فيه أودية في الجاهلية فكيف وقد أعز الله المسلمين بالإسلام. هذا وقد روي عن ابن إسحاق بسند فيه مجهولان، والواقدي عن شيوخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح من الليلة التي قُتل فيها ابن الأشرف قال: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه"، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة –رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم-فقتله، فكان ذلك سببا في إسلام أخيه حويصة بعد نقاش حاد دار بينهما1. وهذه الرواية إضافة إلى ضعف سندها، خالفتها رواية أخرى ذكرها ابن هشام في سبب إسلام حويصة متأخرة كثيرا عن قصة كعب بن الأشرف2، كما يزيد في ضعفها مخالفتها لأصل من أصول الشريعة، وهو تحريم الذمي المستأمن إلا بحقه من نقض العهد والميثاق، والانضمام إلى صفوف المشركين وغير ذلك كما فعل ابن الأشرف. وإن صحت الرواية فإنه ربما كان ابن سنينة على مثل ما كان عليه كعب، فعلم بذلك حليفه محيصة لقربه منه فقتله إذ لا يمكن أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على اليهود هكذا يقتلونهم بلا ذنب ولا جرم فعلوه إلا إذا كانوا على مثل رأي ابن الأشرف وفعلوا مثل فعلته.. والله تعالى أعلم بالصواب. وعلى كل حال فإن اليهود خافوا خوفا شديدا بعد مقتل كعب بن
الأشرف، فلم يطلع أحد من عظمائهم، وبذلك العمل الجريء أخرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ألسنتهم، ورد كيدهم إلى نحورهم، وكبت حقدهم في صدورهم دون أن تراق دماء كثيرة، فالمجرم المحارب نال جزاءه وعقابه العادل والذي أصبح عبرة وعظة لمن تسول له نفسه من اليهود، أو المشركين في المدينة القيام بمثل ما فعل. ومن خلال سياق أحداث هذه القصة يبدو لنا أمران ملفتان للنظر: أولهما: قول امرأة كعب له: إنك امرؤ محارب. وثانيهما: ردة فعل وفد اليهود الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكون من مقتل زعيمهم كعب، حيث إنهم حينما وضح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعه وما كان يفعل سكتوا ولم ينطقوا بشيء. فهذان اعترافان من أقرب الناس لكعب بجريمته التي استحق عليها القصاص العادل.
بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي
بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وكُنْتُ إذا هَمَّ النبيُّ بكافر ... سَبَقْتُ إليه باللسانِ وباليَدِ "عبد الله بن أنيس"
كان على المسلمين في المدينة أن يواجهوا أعداءهم المتربصين في كل ناحية من نواحي الجزيرة العربية من قريش الموتورين مرورا باليهود الخائنين إلى الأعراب الطامعين في خيرات المدينة، ولكن عين النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تغفل عنهم ولو للحظة حيث كان يرصد تحركاتهم، وسكناتهم، ويتحسس أخبارهم عن طريق شبكة منظمة من العيون والجواسيس المبثوثين في مناطق الأعداء1 والتي ساهمت بشكل كبير وفعال في موضع النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة دائما، فكان باستمرار يسبق الأحداث، ويفاجىء أعداءه بمبادرة عجيبة تقضي على مخططاتهم العدوانية في مهدها. وكان من هؤلاء رجل من أشد الأعراب وشياطينهم يدعى خالد بن سفيان الهذلي كما سمته بعض المصادر والروايات2، بينما ورد اسمه سفيان بن خالد في روايات أخرى3. ومنها ما نسبه إلى جده4، وسماه موسى بن عقبة: سفيان بن عبد الله بن نبيح5، وذكر المزِّي: إنه خالد بن نبيح العنبري6.
وصلت المعلومات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأعرابي بأنه يتحرك –وبنشاط كبير وملحوظ- لحشد عدد كبير من الأحابيش والأعراب ليغزو بهم المدينة، مع إظهاره العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهجائه وشتمه كما ورد في بعض روايات الطبراني عن الحادثة1 وعلى الفور استدعى النبي صلى الله عليه وسلم أحد رجال المهمات الصعبة المعدودين، مغوارٍ من أبطال الصحابة وذي باع وخبرة في هذا المضمار ذلكم هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه2 والذي وصف نفسه في بعض روايات هذا الخبر بأنه لا يهاب الرجال، ولا فَرِقَ3 من شيء قط4 وهذه الصفة هي أهم صفات أفراد فرق المغاوير في جيوش العالم قديما وحديثا، والتي تتطلب مهماتها الجرأة والشجاعة.
إن تخير رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي المغوار لهذه المهمة البابغة الصعوبة يعطي دلالة واضحة على معرفته عليه الصلاة والسلام الشديدة برجاله حيث كان يكل لكل منهم المهمة التي تناسب وضعه وإمكانيته، يعني الرجل المناسب في المكان المناسب، وهو عمل قائم على التخطيط السليم والدقة في الاختيار وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار لهذه السرايا بعض رجاله لا يعني بالضرورة أن بقية الصحابة لا يصلحون لهذه المهمات، فهم جميعا كانوا لا يهابون الموت بل ويتحرقون دائما للشهادة في سبيل الله، ولكن المواقف الحساسة التي تمر بها مثل هذه السرايا تتطلب رجالا فيهم صفات مميزة كعبد الله بن أنيس، وعبد الله بن رواحة، وعبد الله بن عتيك، ومحمد بن سلمة، وعمرو بن أمية وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين. ولنستمع إلى الحوار التالي الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عبد الله بن أنيس رضي الله عنه والذي يعتبر من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام كما يوضح صفة ذلك الأعرابي المخيفة والتي كانت تؤثر حتى في أشد الرجال صرامة وقوة أمثال عبد الله بن أنيس، والذي تبين من خلال هذا الحوار مدى ما كان يتمتع به من رباطة جأش وقوة شكيمة، حيث تحددت أبعاد المهمة الخطيرة التي أنيطت به. قال عبد الله: "دعاني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فقال: "إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة1، فأْته فاقتله، قلت: يا رسول الله انعته لي2 حتى
أعرفه قال: "إذا رأيته وجدت له قشعريرة" 12. بهذه الكلمات الموجزة تزود عبد الله بن أنيس رضي الله عنه معلومات كافية ومهمة عن الهدف المقصود مكانه وصفته، وكانت الخطة المتفق عليها كما يذكر موسى بن عقبة هي أن يتوصل بالناس، ويخبر من لقي أنما يريد خالد بن سفيان ليكون معه3 فضمن بهذا التكتيك الذكي ثقة ابن نبيح، وعدم ارتيابه به إذا لقيه. وقد اختلف في تاريخ خروج عبد الله في هذا البعث بين الواقدي وكاتِبه ابن سعد وهما من حددا تاريخه بدقة من بين أهل المغازي، وكان الاختلاف بينهما محصورا في السنة التي كان فيها، بينما تطابقت أقوالهما في اليوم، والشهر، فقد ذكرا أن عبد الله خرج من المدينة4 يوم الإثنين لخمس خَلَون من المحرم على رأس أربعة وخمسين شهرا عند الواقدي5، وعلى رأس خمسة وثلاثين شهرا عند ابن سعد6، وإذا علمنا مدى التشابه في المعلومات حول هذا البعث بين الاثنين، وأن ابن سعد تلميذ الواقدي فيكون هو مصدر معلوماته هنا، خاصة وأنه لم يُحل على شيوخه كعادته بلفظ (قالوا) ، مما يدعونا إلى الاعتقاد بوجود تحريف في أحد الرقمين، وأعتقد أن ذلك في الرقم الذي ساقه الواقدي؛ لأنه يذكر في روايته حول حادثة الرجيع أنها كانت انتقاما لمقتل الهذلي، وموقعة الرجيع حدثت في السنة الثالثة7 فكيف يكون هذا البعث
بعدها، هذا وقد اختلف المتأخرون من أهل المغازي تبعا لاختلافهما، فمن تابع الواقدي ذكرها في حوادث السنة الخامسة1 ومن تابع ابن سعد ذكرها في حوادث السنة الثالثة2، وذكرها خليفة ضمن السرايا التي كانت سنة خمس3. وينطلق عبد الله في مسيره الاقترابي نحو الهدف، عدته اليقين والتوكل على الله، وسلاحه سلاح الراكب، يقول رضي الله عنه: "فخرجت متوشحا بسيفي حتى وقعت عليه، وهو بعرنة مع ظعن4، يرتاد لهن منزلا، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه"5 فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما أن أؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي، وأنا أصلي أومىء إيماء نحوه، فلما دنوت منه، قال لي: من أنت؟ قلت رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذاك، قال: إني لفي ذاك، فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد6"7. "ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني، قال: "أفلح الوجه"، قلت: قتلتُه يا رسول الله، قال: صدقت، قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته فأعطاني عصا، فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس، قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا:
ما هذه العصا، قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن ذلك، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المختصرون1 يومئذ يوم القيامة، فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات بها فضمت في كفنه، ثم دُفنا جميعا" 23. وهكذا لم تكن المكافأة على هذا العمل العظيم الجريء مادية دنوية كما يتمناه الكثير ممن يقوم بالمهمات الصعبة في جيوش العالم قديما وحديثا، بل
كانت أسمى من ذلك وأعظم فهي وسام شرف أخروي قليل من يناله. تضمن هذا الخبر بعض الأحكام والفوائد منها (صلاة الطالب) / قال الخطابي: واختلفوا في صلاة الطالب، فقال عوام أهل العلم: إذا كان مطلوبا كان له أن يصلي إيماءً، وإذا كان طالبا نزل إن كان راكبا وصلى بالأرض راكعا أو ساجدا1 وكذلك قال ابن المنذر2، أما الشافعي فشرط شرطا لم يشترطه غيره، قال: إذا قل الطالبون عن المطلوبين وانقطع الطالبون عن أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين عليهم فإذا كان هكذا كان لهم أن يصلوا يُومئون إيماء. قال الخطابي: وبعض هذه المعاني موجودة في قصة عبد الله بن أنيس3. وما نقله ابن المنذر متعقب بكلام الأوزاعي فإنه قيده بخوف الفوت، ولم يستثن طالبا من مطلوب، وبه قال ابن حبيب من المالكية4. وقال في عمدة القاري: ومذاهب الفقهاء في هذا الباب فعند أبي حنيفة إذا كان الرجل مطلوبا فلا بأس بصلاته سائرا، وإن كان طالبا فلا. وقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء كل واحد منهما يصلي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي في آخرين كقول أبي حنيفة، وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور. وعن الشافعي إن خاف الطالب فوت المطلوب أومأ وإلا فلا5.
ومنها: جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فعبد الله بن أنيس رضي الله عنه أداه اجتهاده أن يصلي هذه الصلاة، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم مما يدل على جواز الصلاة عند شدة الخوف يالإيماء. وهذا الاستدلال صحيح لا شك فيه، لأن عبد الله بن أنيس فعل ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك زمن الوحي، ومحال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع عليه"1. وفعل الصحابي أيضا حجة ما لم يعارضه حديث مرفوع كذا في الغاية2. ومنها أيضا حديث المخصرة، وقد استحسن البعض المخصرة والتخصر لأجل هذا الحديث. قال الجاحظ: ومما يدلك على استحسانهم شأن المخصرة حديث عبد الله بن أنيس ذي المخصرة وهو صاحب ليلة الجهني، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه مخصرة، وقال: تلقاني في الجنة3. كما ظهر في هذا الخبر دليل من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام فهو قد وصف ابن نبيح لعبد الله بن أنيس وصفًا دقيقًا دون أن يراه حتى إن ابن أنيس عندما رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبا كما وقع في رواية الواقدي: "يا رسول الله ما فرقت من شيء قط، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى آية ما بيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته"4. وفعلاً وجده على الصفة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله: "فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله"5.
بعث عمرو بن أمية إلى أبي سفيان بن حرب
بعث عمرو بن أمية إلى أبي سفيان بن حرب ... اختلف أهل المغازي في هذه السرية، فذكر ابن هشام أنها من زياداته على سيرة ابن إسحاق1، فاستدرك عليه السهيلي ذاكرا أن ذلك وهم منه، فإن ابن إسحاق قد روى الخبر في ذلك بسند متصل إلى عمرو بن أمية2، وكذلك ساق الخبر الطبري عن ابن إسحاق3 مما يدل على وجودها في أصل السيرة، ولكن الطبري يذكر قبل ذلك –وعقب حديثه عن الرجيع وقصة صلب خبيب بن عدي رضي الله عنه ومن غير طريق ابن إسحاق- رواية مختصرة عن عمرو بن أمية أيضا يذكر فيها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش"4، وأنه في أثناء ذلك أنزل خبيبا من خشبته. وقد روى البيهقي مثل ذلك5، ثم من خلال سياقهما لأحداث هذه السرية تبرز لنا قصة عمرو مع جثة خبيب، ولكن بتفصيل أكثر6. وينفرد الواقدي بزيادة ذكر فيها أن سبب بعث عمرو بن أمية كان ردًّا على إرسال أبي سفيان أعرابيًّا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم7، وتابعه في ذلك ابن سعد8.
أما بقية أحداث القصة فتكاد تكون متفقًا عليها عندهم، مما يجعلنا نعتقد أنها قصة واحدة رويت بطرق مختلفة، وإن كان خليفة بن خياط قد فرق بين الحادثين، ولكنه أشار إلى هذه السرية إشارة عابرة1. وكما اختُلِفَ في مهمة السرية اختُلِفَ أيضا في تاريخها، فالطبري وابن هشام وتابعهما البيهقي وابن القيم2 جعلوها بعد حادثة الرجيع مباشرة، أما خليفة فذكرها بعد بئر معونة، ولكنه جعلها من السرايا التي كانت سنة خمس3، وأرَّخ لها ابن حجر بعد وقعة بني النضير حكاية عن الواقدي4، ولكن الواقدي في روايته المنقولة عنه لم يذكر لها تاريخا، وتابعه كاتبه ولكنه ذكرها بعد سرية كرز بن جابر إلى العرنيين التي أرَّخ لها في شوال سنة ست5. يقول عمرو بن أمية رضي الله عنه: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل خبيب وأصحابه وبعث معي رجلا من الأنصار6، فقال: ائتيا أبا سفيان بن حرب فاقتلاه"7 كانت (نقلية هذه الدورية) عبارة عن بعير واحد لعمرو بن أمية كان يحمل صاحبه عليه لعلة كانت برجله، حيث انطلقا في مسير اقترابي حذر حتى وصلا إلى بطن وادي يأجج8 القريب من مكة. وهناك عقلا
بعيرهما في فناء شعب من شعابه، وقال عمرو لصاحبه: "انطلق بنا إلى دار أبي سفيان، فإني محاول قتله! فانظر فإن كانت محاولة، أو خشيت شيئا فالحق ببعيرك فاركبه، والحق بالمدينة فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وخل عني، فإني رجل عالم بالبلد جريء عليه، نجيب الساق"1. ودخلا مكة على حين غفلة من أهلها، وكان عمرو قد أعدَّ خنجرًا حاد النصل لقتال أبي سفيان، فقال له الأنصاري: "هل لك أن نبدأ فنطوف بالبيت أسبوعا2 ونصلي ركعتين"3. فرد عليه عمرو: "أنا أعلم بأهل مكة منك إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم، ثم جلسوا بها، وأنا أعرف بها من الفرس الأبلق4"5 ولكن الأنصاري أصرَّ على رأيه فما زال بعمرو حتى طاف بالبيت سبعا، وصليا ركعتين، ثم خرجا فمرَّا على مجلس من مجالس قريش، فعرف رجل منهم عمرو بن أمية6 "فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية"7 فتبادرتهما أهل مكة "وقالوا: تالله ما جاء بعمرو خيرٌ والذي يُحلف به ما جاءها قط إلا لشر"8. وكان عمرو فاتكًا ذائع الصيت في الجاهلية فحشد أهل مكة جمعهم وخرجوا يشتدون في أثره وأثر صاحبه، وهو يقول له: "النجاء، هذا والله الذي كنت أحذر، أما الرجل فليس إليه سبيل فانج بنفسك"9. وخرجا يشتدان حتى
حتى صعدا في جبل فرجعوا عنهما بعد أن أعجزوهم ثم دخلا غارا في الجبل وباتا ليلتهما فيه بعد أن استترا فيه بحجارة، فلما أصبحا غدا رجل من قريش يدعى عثمان بن مالك التميمي يجمع حشيشا لفرسه، فلم يزل يدنو منهما حتى قام على باب الغار، فقال عمرو لصاحبه: "هذا والله ابن مالك، والله إن رآنا ليُعلمن بنا أهل مكة"1، فيخرج إليه عمرو فيطعنه بالخنجر تحت ثديه، فصاح صيحة أسمع أهل مكة فأقبلوا إليه، ورجع عمرو إلى مكانه، واتبع أهل مكة الصوت مسرعين "فوجدوه وبه رمق، فقالوا: ويلك من ضربك، قال: عمرو بن أمية، ثم مات"2. فشغلوا به عن البحث عنهما، فمكثا في الغار يومين حتى سكن عنهما الطلب، ثم خرجا، وفي التنعيم وهما في طريقهما إلى المدينة مرَّا على خشبة خُبيب فصعدها عمرو وأنزله عنها. يقول عمرو بن أمية رضي الله عنه: "فصعدت خشبته ليلا، فقطعت الشَّرَكَ3 وألقيته فسمعت وجبته خلفي4، فالتفتُّ فلم أر شيئا5. ولكأنما ابتلعته الأرض، فلم يُرَ لخُبيب أثر حتى الساعة"6. وأقبل عمرو يمشي نحو المدينة، وكان صاحبه قد انطلق بالبعير قبله إلى المدينة، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، ولما بلغ عمرو حرة ضجنان7 دخل
كهفًا هناك ومعه قوسه وسهمه، قال عمرو: "فبينا أنا فيه إذ دخل عليَّ رجل من بني الديل بن بكر، أعور طويل يسوق غنما له فقال: من الرجل؟، فقلت: رجل من بني بكر، قال: وأنا من بكر، ثم أحد بني الديل، ثم اضطجع معي فيه، فرفع عقيرته يتغنى ويقول: ولست بمسلم ما دمت حيًّا ... ولست أدين دين المسلمينا فقلت: سوف تعلم! فلم يلبث الأعرابي أن نام وغطَّ1، فقمت إليه فقتلته أسوأ قتلة قتلها أحدٌ أحدًا"2. ثم خرج عمرو مسرعا حتى إذا بلغ وادي النقيع3 لقي جاسوسين لقريش يتحسسان الأخبار فعرفهما، فقتل أحدهما، وأسر الآخر، فقدم به المدينة، فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، ثم قال له خيرا، ودعا له بخير4.
وبذلك انتهت هذه المهمة التي وإن كانت لم تحقق هدفها الأساسي، وهو قتل أبي سفيان لأمر أراده الله ولا راد لقضائه، ولكنها حققت بعض الأهداف التي من أهمها إدخال الرعب في نفوس قريش وزعمائها على الخصوص وإعلامهم بأن المسلمين قادرون على الوصول إليهم حتى في بيوتهم. وإن ما قام به عمرو بن أمية رضي الله عنه خلال هذه السرية إن صحت الروايات حولها يعتبر اجتهادا منه أقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
البعث إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق
البعث إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق ... البعث إلى أبي رافع سرية عبد الله بن عتيك وأصحابه لقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق لله دُرُّ عِصابةٍ لاقَيتَهم ... يا بنَ الحقيقيِ وأنت يا بن الأشرف يَسْرُونَ بالبِيض الخِفافِ لكم ... مرحًا كأُسدٍ في عَرينِ مغرف حتى أَتَوْكُم في مَحِلِّ بلادِكم ... فَسَقَوْكُم حتفًا ببَيض ذفف مستبصرين لنصرِ دينِ نبيِّهم ... مستَضْعِفِين لكلِّ أمرٍ مجحف حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ديوان حسان بن ثابت (165)
أبو رافع عبد الله بن أبي الحقيق، أو سلاّم بن أبي الحقيق1 اختلفت المصادر في ذلك، فمنها ما سماه عبد الله2، ومنها ما سماه سلاّم، ومنهم من نسبه إلى أبيه دون ذكر اسمه3، والبعض نسبه إلى كنيته فقط4، ولكن الأكثر على أنه سلاّم بن أبي الحقيق5. كان من زعماء اليهود بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة بعد نقضهم العهد والميثاق معه6 فتوجه مع بقية زعماء بني النضير إلى خيبر، فدان لهم يهودها7، ومع ذلك كانوا دائما يتطلعون إلى الفرص السانحة للثأر من المسلمين والعودة مرة ثانية إلى المدينة، ورأوا أن هذا الهدف صعب المنال ما
لم يتم القضاء على قوة المسلمين المسيطرة في المدينة وما حولها، وأن ذلك لن يكون إلا بعمل ضخم منسق ضد المسلمين، فقوة اليهود وحدها لا تكفي لذلك، ومن خيبر بدأوا اتصالات موسعة وسفارات متعددة كان الهدف منها تحزيب أكبر قوة ممكنة من العرب تغزو المسلمين في عقر دارهم وتستأصلهم، وقد تم تقسيم خطة العمل بين هؤلاء الزعماء لهذا الغرض، فكان سلام بن أبي الحقيق –كما يذكر عروة- له اليد الطولى في تحزيب قبائل غطفان النجدية الكبيرة وحلفائها من "مشركي العرب يدعوهم إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعل لهم الجعل1 العظيم"2. ولما انقضى أمر الخندق وبني قريظة بعد أن انفض الأحزاب عن المدينة بغيظهم لم ينالوا خيرا، وقُتل حُيي بن أخطب النضري شريكُ أبي رافع القوي في تحزيب الأحزاب –مع بني قريظة- فنال بذلك القصاص العادل الذي أفلت منه سلام بن أبي الحقيق حيث كان بعيدا في قومه في حصون خيبر فأصبح بالنسبة للمسلمين مجرم حرب خطيرا هاربًا لابد من القضاء عليه حتى لا يقوم بتحركات مماثلة في المستقبل تهدد أمنهم وسلامتهم. وكانت الأنصار كما أشار أهل المغازي3 يتنافسون فيما بينهم تفانيًا في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} 4. فلما أصابت الأوس كعبَ بن الأشرف بمبادرة بطولية من جانبهم، فحققوا بذلك سبقا إسلاميًّا على منافسيهم من الخزرج الذين بَدَوْا متحفزين للقيام بدور مماثل، فما أن ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن أبي الحقيق حتى سارعوا إلى التطوع للانخراط
في هذه المهمة الشاقة على صعوبتها وما يحيط بها من أخطار، فالرجل بعيد عن قاعدة الإسلام: المدينة، وهو في مَنَعة من قومه وحصونهم وحلفائهم من غطفان، ومن أجل ذلك تخيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً منهم فيهم بعض الشروط المناسبة لهذه المهمة الصعبة، فكان عبد الله بن عتيك رضي الله عنه1 قائدًا لهذه السرية حيث تذكر بعض المصادر أنه كان يتقن العبرية بطلاقة –إضافة إلى صلته السابقة بأبي رافع2. واهتمت روايات أهل المغازي بتسمية بقية أفراد السرية على خلاف بينها في بعضهم3، وقد اختلف أهل المغازي في تاريخ هذا البعث اختلافًا كبيرا فروى البخاري تعليقا عن الزهري قال: "هو بعد كعب بن الأشرف"4. أما ابن إسحاق الذي أخذ روايته عن الزهري، فحدد
تاريخها بعد الخندق، وقريظة مباشرة1، وحددها الواقدي كعادته بدقة فقال: "خرجوا ليلة الإثنين في السَّحَّر لأربعٍ خلون من ذي الحجة على رأس ستة وأربعين شهرا وغابوا عشرة أيام" ولكنه يعقَّب في نهاية روايته "ويقال: كانت السرية في شهر رمضان سنة ست"2 وهذا هو التاريخ الذي اعتمده كاتبه ابن سعد تاريخا للسرية3، وذكرها الطبري في حوادث السنة الثالثة4 ونقل المتأخرون من أهل المغازي أقوالا في تاريخها متعددة لم ينسبوها لأحد وحاول بعضهم الجمع بينها أو الترجيح5. وعلى كلٍّ انطلق هؤلاء المغاوير الشجعان ببسالة لإنجاز مهمتهم، ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد صداها على مسامعهم "لا تقتلوا وليدًا ولا امرأة"6 حتى إذا ما دَنوا من الحصن الذي يقيم فيه أبو رافع "وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم7"8.قال قائد السرية عبد الله بن عتيك لأصحابه:
"اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل"1 فأقبل عبد الله –وكان قد فكر بحيلة يستطيع بها خداع البواب فيدخل دون أن يفطن إليه فلما دنا من الباب" تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته2. وقد دخل الناس فهتف البواب: يا عبد الله3 إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب4، قال عبد الله: "فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن5 فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات، ولا أسمع حركة خرجت، قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة6 فأخذته ففتحت به باب الحصن"7، "فجعلت كلما أفتح بابا أغلقت عليَّ من داخل، قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إليَّ حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت؟ "8 وهنا يتذكر عبد الله رضي الله عنه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هو ضرب على غير هدى كخبط عشواء لربما أصاب بعض عياله أو نسائه، لأجل ذلك صاح به ليعرف مكانه "أبا رافع، قال: من هذا؟ "9 يقول عبد الله: "فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئا وصاح، فخرجت
من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟، فقال: لِأُمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبلُ بالسيف"1. "قال: فعمدت له أيضا فأضربه أخرى فلم تغن شيئا فصاح وأقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، فإذا هو مستلقٍ على ظهره فأضع السيف في بطنه ثم أنكفىء عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه فانخلعت رجلي2 فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل3 فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية"4 "فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز"5 "قال فقمت أمشي ما بي قلبة6 فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم"7 "فحدثته، فقال: ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها قط"89. وهكذا تم بهذا العمل الجريء الشجاع القضاء على مجرم حرب خطير
كان له دور بارز ومميز في تحزيب الأحزاب ضد المسلمين، فنال بذلك القصاص العادل الذي يستحقه بالفعل، فلو أراد الله عز وجل ونجحت مخططات الأحزاب لكان في ذلك القضاء المبرم على المسلمين ولكن الله سلَّم، وفشلت مخططاتهم وهزمهم الله وحده وقتل الله حُييَّ بن أخطب مع بني قريظة، ثم قضى على أبي رافع بمبادرة بطولية من الخزرج فتخلص المسلمون من عدوين خطيرين كان في بقائهما تهديد كبير لأمنهم وسلامتهم. وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصرَّ، وقَتْلِ من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، أو ماله أو لسانه، وجواز التجسيس على أهل الحرب وتطلُّب غِرتهم، والأخذِ بالشدة في محاربة المشركين، وتعرُّضِ القليل من المسلمين للكثير من المشركين، والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتماده على صوت الناعي بموته1. ومما يستفاد من الحديث أيضا النهي عن قتل النساء والولدان إلا إذا كانوا من قوم مبيّتين، وهي مسألة خلافية حيث فيها هذا الحديث وحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هم منهم"2. قال الشافعي: فكان سفيان بن عيينة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هم منهم" إباحة لقتلهم، وأن حديث ابن أبي الحقيق ناسخ له، قال: وكان الزهري إذا حدَّث بحديث الصعب بن جثامة أتبعه بحديث ابن كعب بن مالك. قال الشافعي رحمه الله: وحديث الصعب بن جثامة في عمرة النبي صلى الله عليه وسلم
فإن كان في عمرته الأولى فقد قتل ابن أبي الحقيق قبلها وقيل في سنتها، وإن كان في عمرته الآخرة فهو بعد أمر ابن أبي الحقيق غير شك، ولم نعلمه رخص في قتل النساء والولدان، ثم نهى عنه، ومعنى نهيه عندنا والله أعلم عن قتل النساء والولدان أن يقصد قصدهم بقتل وهم يُعرفون مميَّزِين ممن أمر بقتله منهم"1. وما أشار إليه الشافعي وجيه لأن التبييت من نتائجه عدم التفريق بين الرجال والنساء والأطفال لحدوثه في الظلام، ولأجل المباغتة التي هي عنصر أساسي للتبييت، أما حديث أبي رافع فهو لإنسان مخصوص بعينه ومعروف، فلا يجوز قتل من سواه إذا اجتُهِد في الخلوص إليه، ومعرفة مكانه وهو ما حدث من الصحابي الذي قتله، والله أعلم. وقد علق البيهقي على إمكانية حدوث النسخ بين الحديثين من عدمه بأن ساق رواية ابن إسحاق التي ذكر فيها أن قتل ابن أبي الحقيق كان بعد الخندق، قال: "ثم غزا بني المصطلق في شعبان سنة ست، ثم خرج في أول ذي القعدة معتمرًا عام الحديبية". قال الشيخ: ثم كانت عمرته التي تسمى عمرة القضاء، ثم عمرة الجعرانة ثم عمرته سنة حجته كلهن بعد ذلك، وقتل ابن أبي الحقيق كان قبلهن، فكيف يكون نهيه في قصة ابن أبي الحقيق عن قتل النساء والولدان ناسخًا لحديث الصعب ابن جثامة الذي كان بعده2.
البعث إلى اليسير بن رزام
البعث إلى اليسير بن رزام ... بعد أن نجحت سرية المغاوير الخزرجية باغتيال أبي رافع زعيم يهود خيبر بعد حُيي بن أخطب اختارت اليهود رجلا شجاعًا منهم ليكون أميرا عليهم. اختلفت المصادر التاريخية في اسمه واسم أبيه، فمنها ما سماه أُسير بن زارم1، وقيل: ابن رزام2، ويقال: ابن رقرام3، ولكن الأكثر على أنه اليُسير بن رزام4. وما أن تقلد اليسير مهام منصبه كزعيم اختير تقديرًا لشجاعته حتى أصرَّ على أن يثبت لهم أنه أهل لهذا الاختيار فقرر إكمال مهمة سلفه والقيام بمحاولة جديدة لحشد اليهود وحلفائهم غطفان وتوجيه طاقاتهم لمباغتة المسلمين في عقر دارهم5. ولكن عين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنام عن أعداء الإسلام المتربصين ولا تغفل عن تحركاتهم العدوانية ضد قاعدته الحصينة. حيث وصلته الأخبار من أحد عيونه في خيبر بنوايا اليُسير ونشاطاته المشبوهة ضد المسلمين كما يذكر الواقدي6. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستوثق من تلك الأخبار، فيذكر ابن سعد
أنه أرسل (دورية استطلاع منطقة) 1 صغيرة إلى خيبر قوتها ثلاثة أفراد بإمرة قائد خيبر بمنطقة خيبر وأهلها هو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه2. انطلقت الدورية في رمضان ووصلت خيبر سرًّا وهناك وزع القائد أفرادها على حصونها الرئيسية-الشق، والنطاة، والكتيبة. فدخلوا مع الناس يسمعون منهم ويرون بأعينهم حال أهل خيبر وما يتكلمون به، خلال أيام رجعوا بعدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقرير مفصل يؤكد المعلومات السابقة، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ثانية إلى خيبر، ولكن هذه المرة على رأس3 فرقة مغاوير تطوعية قوتها ثلاثون رجلا من بينهم عبد الله بن أنيس رضي الله عنه4 للإفادة من شجاعته وخبرته في هذا المجال. و"في شوال سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم"5 كما أرخها
الواقدي وكاتبه ابن سعد، بينما ذكرها خليفة ضمن السرايا التي كانت خمس1. انطلقت السرية إلى هدفها في خيبر بعد الاتفاق على خطة استدراجية مغايرة تماما لخطة الفرقة الخزرجية التي قتلت أبا رافع، ومشابهة لخطة الأوسية التي قتلت كعب بن الأشرف، وكانت ترتكز أساسا على تقرير الدورية الاستطلاعية الذي ورد فيه معلومات دقيقة عن اليُسير وشخصيته فوضعت الخطة بناء على ذلك "فأتوه فقالوا: إنا أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك على خيبر"2. تردد اليُسير في البداية، ولكنهم ما زالوا به يغرونه ويمنُّونه حتى طمع فيما قالوا، وشاور اليهود فخالفوه في الخروج، ولكنه أصرَّ عليه فخرج في رفقة ثلاثين يهوديًّا لحراسته ركب كل منهم مع رديف من المسلمين أفراد السرية، وحمل عبد الله بن أنيس اليُسير على بعيره. "فلما بلغوا قرقرة ثبار3 وهي من خيبر على ستة أميال ندم اليُسير4
فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس، ففطن له عبد الله، فزجر بعيره، ثم اقتحم يسوق بالقوم، حتى إذا استمكن من اليُسير ضرب رجله فقطعها، واقتحم اليُسير وفي يده مخرش1 من شوحط2 فضرب به وجه عبد الله فشجه شجة مأمومة3، وانفكأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله، غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدًّا، ولم يصب من المسلمين أحد وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في شجة عبد الله بن أنيس فلم تقح، ولم تؤذه حتى مات45.
سرية أبي قتادة بن ربعي إلى خضرة
سرية أبي قتادة بن ربعي إلى خضرة1
وقع الخلاف بين أهل المغازي في هذه السرية، فذكر الواقدي أنها كانت سرية (تعرُّضية) بقيادة أبي قتادة بن ربعي1 رضي الله عنه، وذكر فيها مشاركة عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنهما2 الذي جاء يستعين رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحه، فأرسله مع هذه السرية إلى غطفان نحو نجد3 لعله يصيب مهر زوجته، وفعلاً غنموا في تلك السرية نَعَمًا كثيرة وغنما بحيث كانت سُهمَانهم اثني عشر بعيرا4، وقد أخرج الهيثمي رواية عن الإمام أحمد مشابهة تماما لرواية الواقدي5. وكذلك أخرج الإمام مسملم في صحيحه6 رواية مشابهة غير أنه لم يذكر فيها اسم الصحابي المستعين برسول الله صلى الله عليه وسلم7، ولكن هناك بعض القرائن الدالة على وحدة القصة مثل التاريخ الذي ذكره الواقدي للسرية لا يتعارض مع
إمكانية رواية أبي هريرة رضي الله عنه للخبر في الصحيح1. كما أن منطقة عمليات السرية وهدفها الذي توجهت إليه يكاد يكون واحدا في كلا الروايتين، ففي رواية الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى بني عبس، وفي رواية الواقدي أنه بعثهم إلى غطفان نحو نجد، ومعلوم أن بني عبس من غطفان ومسكنهم في نجد2 فرواية الصحيح أخص وأدق من رواية الواقدي. وكذلك كون المرأة من الأنصار في الروايتين، وتقارب قيمة المهر المدفوع فيهما هو مائتا درهم في رواية الواقدي، وأربع أواق في رواية الصحيح، وقد صرح ابن حجر في "الإصابة" في رواية مختصرة ولكنها مماثلة لرواية الصحيح –خاصة فيما يتعلق بقيمة المهر- أنه ابن أبي حدرد نفسه3. فكل هذه القرائن4 تعطينا بعض الدلائل التي يمكن بواسطتها الحكم بوحدة القصة، وبالتالي ترجيح رواية الواقدي الموافقة للصحيح على رواية ابن إسحاق الضعيفة من الناحية الحديثية5 والتي يذكر فيها أن هذه السرية سرية استطلاعية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغابة6 بقيادة عبد الله بن أبي حدرد نفسه، وذلك
لاستطلاع خبر رجل من جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس –أو قيس بن رفاعة- كان قد أقبل "في بطن عظيم من جشم حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة، يريد أن يجمع قيسًا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عبد لله بن أبي حدرد قد استعان برسول الله صلى الله عليه وسلم في صداق امرأة تزوجها وأصدقها مائتي درهم، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعينه به، فلما أقبل هذا الرجل بقومه، استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه ورجلين معه في هذه السرية، وفي الغابة تطورت المهمة وباجتهاد من أصحاب السرية من الاستطلاع إلى هجوم ليلي مكثف على حاضر القوم بعد قتل صاحبهم رفاعة بن قيس فنجحوا في ذلك وفر الأعراب بنسائهم وأطفالهم وما خف من أموالهم تاركين نَعَمًا كثيرة خلفهم1. وساق الطبري الروايتين تحت عنوان (سرية وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان أميرها أبو قتادة) 2. أما بقية أهل المغازي فمنهم من تابع ابن إسحاق3، ومنهم من تابع الواقدي4. وفرق بنهما ابن سيد الناس، فساق روايتي ابن إسحاق والواقدي في مكانين مختلفين من كتابه باعتبار أنهما سريتان منفصلتان5. بينما جمع الشامي كعادته بين روايات أهل المغازي وأهل الحديث، واعتبرها حادثة واحدة6. أما الحلبي فبعد أن ساق الروايتين ذكر أن البعض اعتبرها قصة واحدة، ثم علق على ذلك بقوله: "ولا يخفى أن السياق في كل يبعد كونهما واحدة"7.
الباب الثاني: السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة
الباب الثاني: السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة الفصل الأول: السرايا ذات المهمات الخاصة السرايا التعقبية سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار ... الفصل الأول: "السرايا ذات المهمات الخاصة" وتشتمل: سرايا تعقبيَّة – وهي: 1) سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى الخرَّار. 2) سرية كرز بن جابر رضي الله عنه لمطاردة المفسدين من الأعراب. 3) سرية حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه لمطاردة هبَّار بن الأسود وصاحبه. 4) سرية أبي عامر الأشعري رضي الله عنه إلى أوطاس. وبعوث تعليمية، ودعوية –وهي: 1) بعث الرجيع. 2) بعث بئر معونة. 3) بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة –دعوية. وسرايا ذات مهمات أخرى –مثل: 1) سرية عبد الله بن غالب الليثي إلى بني الملوح –تأديبية. 2) سرية أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم –تحويلية.
مقدمة وتتوالى البعوث والسرايا النبوية على اختلاف مهماتها وأهدافها والتي تصب جميعا في بوتقة واحدة وهي بوتقة العقيدة، وتصهر لصالح خدمة الدعوة الإسلامية، كان منها سرايا تعقيبية اختلفت أهدافها وظروفها، منها ما كان لمطاردة الفارين من وجه العدالة مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لتعقُّب كرز بن جابر الفهري وأصحابه الذين أغاروا على سرح المدينة. ويمضي الزمن وتشاء قدرة الخالق عز وجل أن يكون المُتَعَقَّب متعقِّبًا، فهذا كرز بن جابر رضي الله عنه بعد أن يسلم يقود سرية مطاردة لتعقب المفسدين في الأرض من عكل وعرينة الذين قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم وفروا بلقاحه فيظفر بهم كرز رضي الله عنه ويقدِّمهم للعدالة الشرعية. وكان منها سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم لمطاردة هبَّار بن الأسود وصاحبه اللذين تعرضا لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي أعقاب هزيمة هوازن وثقيف في حنين يجهِّز رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية مطاردة تعقُّبية بقيادة أبي عامر الأشعري رضي الله عنه ويأمرهم بمطاردة فلول الهاربين من ميدان المعركة والقضاء عليهم قبل تجمعهم مرة ثانية حيث ينجح في مهمته ويستشهد في أرض المعركة. وقد كانت هذه السرايا التعقُّبية في أغلب الأحيان عبارة عن دوريات
صغيرة القوة خفيفة الحركة، أوكلت إليها مهمات سريعة، وكان يتم تجهيزها بسرعة ومن أماكن مختلفة في بعض الأحيان من ميادين القتال، وقد تنجح هذه الدوريات في أهدافها القصيرة المدى (الوقتية) وربما لا تحقق ذلك، ولكنها على الراجح كانت تحقق الأهداف البعيدة المدى والتي يتمثل بعضها في إثارة الرعب في صفوف الأعداء وإشعارهم بيقظة المسلمين التامة لهم، وردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على أي فرد من المسلمين في المستقبل، كما أن في دوريات المطاردة الميدانية بالغ الأثر في القضاء المبرم على فلول الأعداء الهاربين من أمام المسلين حتى لا يستطيعوا التحشد ثانية ضد المسلمين.
عندما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعقُّبه كرز بن جابر1 الذي أغار على سرح المدينة2، واستاقه معه –وادي سفوان من ناحية بدر3، وقد فاته كرز بالسرح، استنتج صلى الله عليه وسلم بذكائه العسكري المعروف أنه لن يستطيع اللحاق به بقوات قد تكون بطيئة الحركة نوعا ما في سيرها الاقترابي، لذلك جهَّز على الفور "دورية تعقُّبية"4 صغيرة، قوتها "ثمانية رهط من المهاجرين"5 وأسند القيادة فيها إلى رجل من أصحابه، معروف عنه سرعة البديهة في المناورة، وقد سبق له أن حقق نجاحا ملموسا على مستوى السرايا الاعتراضية
التي سبقت هذه السرية، ذلكم هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه و"عقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهراني1"2. وفي الحال3 انطلقت الدورية في إثر كرز بن جابر ومن معه لعلها تلحق بهم قبل أن يدخلوا منطقة نفوذ قريش وحلفائها الواقعة بعد الخرَّار الذي حذَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجاوزته. ولكن كرزًا تمكن من الإفلات أيضا فلم يستطع سعد الإمساك بهم حتى منطقة "الخرَّار من أرض الحجاز"4 التي رجع منها.
امتثالاً لأمر القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
سرية كرز بن جابر لمطاردة المفسدين من الاعراب
سرية كرز بن جابر لمطاردة المفسدين من الاعراب ... سرية كرز بن جابر الفهري لمطاردة المفسدين من عكل وعرينة (تعقُّبية) {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]
في السنة السادسة الهجرية باتفاق أهل المغازي1 قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من الأعراب اختُلف فيهم وفي عدتهم، ففي رواية عن أنس أنهم كانوا "رهطا من عكل ثمانية"2، وقيل: بل من عرينة3، وذكر ابن إسحاق أنهم "من قيس كبة من بجيلة"4، وشذَّ عبد الرزَّاق فذكرهم من بني فزارة5 ووقع في رواية أخرى عن أنس "قال: كانوا أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل"6، وصوَّبه ابن حجر، وذكر أن ذلك لا يخالف الرواية الأولى لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبلتين وكان من أتباعهم فليس ينسب7، وكان هؤلاء الأعراب بهم هزال شديد من الجوع8 "فبايعوه على الإسلام"9. "ثم
قالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا"1. فأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة2 وأكرمهم3، ونظرا لكونهم كانوا بادية أهل ضرع، ولم يكونوا أهل ريف4 -كما ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم5- لم يستطيعوا التأقلم مع جو المدينة وهوائها، فأصابهم داء اختلف فيه، ففي رواية عند مسلم أنه وقع في المدينة داء يسمى الموم وهو البرسام6، وفي البخاري7 "فاجتووا المدينة"8. وفي رواية أخرى "فاستوخموا الأرض9 فسقمت أجسامهم"10،
وذكر أحمد: أن الوخم الذي شكوا منه هو من حمى المدينة1. وفي رواية ابن إسحاق "فاستوبئوا، وطحلوا"23، ولكن ابن القيم جزم بأن ذلك المرض "كان الاستسقاء"4، وذلك بناء على الأعراض التي ظهرت عليهم حيث عظمت بطونهم، واصفرت ألوانهم5، وكذلك الوصفة الدوائية6 التي وصفها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما شكوا إليه ما أصابهم فقال:
"أفلا تخرجون مع راعينا1 في إبله2، فتصيبون من ألبانها وأبوالها؟ قالوا:
بلى، فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فصحُّوا"1. فعَدَوا على الراعي فقتلوه –بعد أن مثَّلوا به2 وهربوا بالإبل "فجاء الخبر في أول النهار"3 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى وجه السرعة، قام بتجهيز دورية قتالية تعقُّبية، قوتها عشرون4 شابًّا أنصاريًّا وأسند القيادة فيها إلى كرز بن جابر الفهري رضي الله عنه5 وزوَّدهم بقائف لاقتفاء الأثر6، اختزالا للجهد والوقت، لأن إهدارهما لا يتناسب مع
الحالة الأمنية التي تتطلب سرعة القبض على هؤلاء المجرمين المفسدين في الأرض، والاقتصاص منهم فورا وبحزم؛ نتيجة ما قاموا به من إخلال وزعزعة بالأمن، وغدر وخيانة ونكران للجميل، إضافة إلى ارتدادهم عن الإسلام. انطلقت الدورية في (مسير اقترابي سريع ومتقن) 1، يتقدمُّها القائف، وكما هو مخطط له تم القبض على العصابة في وقت وجيز جدًّا "فما ترجَّل النهار حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وَمَا حَسَمَهم، ثم أُلقوا في الحرة يستسقون، فما سقوا حتى ماتوا"2. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "فرأيت الرجل منهم يكدم3 الأرض بلسانه حتى يموت"45. وقد ذكر بعض أهل العلم أن الله تعالى أنزل فيهم قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 6.
وقد يتصور البعض أن هذا العقاب كان جائرا وشديدا، لكن بالنظر إلى ما قام به هؤلاء من جرائم، وقياسا لما فعلوه من أعمال لا يقرها العقل؛ فضلا عن الدين الذي تمرَّدوا عليه وارتدوا عنه، فنقول: إن العقاب الذي نالهم كان عادلا وكان الجزاء من جنس العمل فهم قد ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا وسرقوا ومثَّلوا وحاربوا الله ورسوله واستهانوا بكل المبادىء والقيم الإنسانية. وفي القصة من الفوائد: مشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها، وقد اختلف في طهارة أبوال الإبل وغيرها من مأكول اللحم. فاحتج مالك وأحمد وطائفة من السلف ووافقهم من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والأصطخري والروياني بهذا الحديث على طهارة بول الإبل، ويقاس عليها مأكول اللحم من غيرها، وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلها من مأكول اللحم وغيره. واحتج ابن المنذر بقوله: توزن الأشياء على طهارة حتى تثبت النجاسة، قال: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام لم يصب إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل. قال: وفي ترك أهل العلم بيع الناس أبعار الغنم في أسواقهم واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديما وحديثا من غير نكير دليل ظاهر. قال الحافظ: وهو استدلال ضعيف، لأن المختلف فيه لا يجب إنكاره فلا يدل ترك إنكاره على جوازه فضلا عن طهارته. وقد دلَّ على نجاسة الأبوال حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوه وأهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسِّرين". وكان القاضي أبو بكر بن العربي الذي تعلق بهذا الحديث ممن قال بطهارة أبوال الإبل، وعورض بأنه أذن لهم في شربها للتداوي.وتعقب بأن التداوي ليس حال ضرورة بدليل أنه لا يجب،فكيف يباح الحرام بما لا يجب؟ وأجيب بمعنى أنه
ليس بحال ضرورة، بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره، وما أبيح لضرورة لا يسمى حراما، وقد تأوله لقوله تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1 فما اضطر إليه المرء فهو غير محرم عليه كالميتة للمضطر، والله تعالى أعلم. قال الحافظ: وما تضمنه كلامه من أن الحرام يباح ولا الأمر واجب غير مسلَّم، فإن الفطر في رمضان حرام، ومع ذلك فيباح لأمر جائز كالسفر مثلا. وأما قول غيره: ولو كان نجسا ما جاز التداوي به لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". رواه أبو داود من حديث أم سلمة، فجوابه أن الحديث محمول على حالة الاختيار. وأما في حالة الضرورة فلا يكون حراما كالميتة للمضطر، ولا يردُّ قوله صلى الله عليه وسلم في الخبر "إنها ليست بدواء، إنها داء" في سؤال من سأل عن التداوي بها فيما رواه مسلم، فإن ذلك خاص بالخمر ويلتحق بها غيرها من المسكر. والفرق بين المسكر وغيره من النجاسات أن الحديث باستعماله في حالة الاختيار دون غيره، ولأن شربه يجرُّ إلى مفاسد كثيرة، لأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء فجاء الشرع بخلاف معتقدهم. قاله الطحاوي بمعناه. قال الشيخ تقي الدين السبكي: كان في الخمر منفعة في التداوي بها، فلما حرِّمت نزع الله الدواء منها، وأما أبوال الإبل فقد روى ابن عباس –رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم". والذَّرب- بذال معجمة فساء المعدة. فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه، وبهذا الطريق يحصل الجمع بين الأدلة والعمل بمقتضاها2.
وذكر ابن القيم: أن الصواب هو طهارة بول مأكول اللحم، فإن التداوي بالمحرمات غير جائز، ولم يؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم، وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة، وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة1. وفيها من الفوائد أيضا: قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة، إن قلنا إن قتلهم كان قصاصا، وعلى مقاتلة الجاني بمثل ما فعل أي المماثلة في القصاص وليس ذلك من المثلة المنهي عنها، فإن هؤلاء قتلوا الراعي وسملوا عينيه، ثبت ذلك في صحيح مسلم، وعلى أن الجنايات إذا تعددت، تغلَّظت عقوباتها، فإن هؤلاء ارتدوا بعد إسلامهم، وقتلوا النفس ومثلوا بالمقتول، وأخذوا المال، وجاهروا بالمحاربة. وفيها: ثبوت حكم المحاربة في الصحراء، وأما القرى ففيه خلاف، كما أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم، فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدًّا، فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهذا مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد. وفيها: جواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب وفي غيره، قياسا عليه بإذن الإمام. وفيها: العمل بقول القائف، وللعرب في ذلك المعرفة التامة2.
سرية حمزة بن عمرو الأسلمي لمطاردة هبار بن الأسود
سرية حمزة بن عمرو الأسلمي لمطاردة هبار بن الأسود ... بعد انتهاء معركة بدر بفوز ساحق للمسلمين على مشركي قريش وقتل من قُتل من أشرافهم وصناديدهم، وأسر من أُسر منهم، كان من بين الأسرى أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته الكبرى زينب رضي الله عنها1. فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب رضي الله عنها في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها عليه حين بنى بها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القلادة تأثر كثيرا فطلب من آسريه أن يطلقوه لها ويردوا عليها مالها ففعلوا إكراما لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه، أو وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلَّي زينب إليه"2 فلما قدم أبو العاص مكة أوفى بوعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم3، فأمر زينب باللحوق بأبيها فأخذت تتجهز للسفر. فلما فرغت من جهازها خرجت "مع كنانة أو ابن كنانة4 فخرجوا في أثرها، فأدركها هبَّار بن الأسود،
فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها، وأهريق دمًا1"2. ويذكر ابن إسحاق أن رجلا يدعى نافع بن عبد قيس الفهري قد شارك هبّارا في التعرض لزينب وترويعها3. تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصاب زينب رضي الله عنها فكان يقول: "هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ" 4، ثم أرسل زيد بن حارثة رضي الله عنه ليأتيه بها وأعطاه خاتمه كعلامة بينهما "فانطلق زيد فلم يزل يتلطف، حتى لقي راعيًا فقال لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص، قال: فلمن هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فسار معه شيئا، ثم قال: هل لك إن أعطيتك شيئا تعطه إياها ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم، فأعطاه الخاتم وانطلق الراعي فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل، قالت: وأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا، فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما جاءته قال لها: اركبي بين يدي على بعيري، فقالت: لا، ولكن اركب
أنت بين يدي، فركب وركبت وراءه حتى أتت المدينة"1. وظلت زينب رضي الله عنها متأثرة نتيجة تلك السقطة "فلم تزل وَجِعةً حتى ماتت من ذلك الوجع فكانوا يرون أنها شهيدة"2. وتوفيت رضي الله عنها سنة ثمان من الهجرة3، فكان أن أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دم هبَّار وصاحبه يوم فتح مكة وذلك لعداوتهما لله ورسوله ولما تسببا فيه من موت زينب رضي الله عنها، ثم جهَّز صلى الله عليه وسلم سرية تعقيبية بإمرة حمزة بن عمرو الأسلمي4 وبمشاركة أبي هريرة رضي الله عنه، وبعثهم في طلب هبَّار وصاحبه اللذين هربا من مكة، وأصدر أوامره إلى أفراد السرية بتحريقهما بالنار إن قدروا عليهما، ولكنه عاد فتراجع عن التحريق، فلما أتى أصحاب السرية لتوديعه عليه الصلاة والسلام قال لهم: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما" 5، وانطلقت السرية لتنفيذ المهمة6، ولكنها لم تنجح في القبض عليهما، وأفلت هبَّار وصاحبه فلم تصبها السرية.
وظل هبَّار هاربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وجه. ولكنه ما أن علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعفو عن كل من جاءه مسلما معتذرا، حتى أسرع لمقابلته حيث لقيه منصرفه من الجعرَّانة1 كما يذكر الواقدي2. وهناك وقف على رأسه معلنًا إسلامه واعتذاره عما بدر منه تجاه ابنته، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل منه3.
فيا له من موقف رائع تجلَّت فيه سماحة الإسلام بأبهى صورها ومعانيها، ولا غرابة في ذلك، فهو نبي الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم. ورد في ثنايا ههذه القصة بعض الأحكام، أوردها ابن حجر وغيره، منها حكم التحريق بالنار، قال ابن حجر: واختلف السلف في التحريق فكره ذلك عمر، وابن عباس، وغيرهما مطلقا سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حالة مقاتلة أو كان قصاصا، وأجازه علي، وخالد بن الوليد وغيرهما. وقال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم، بل على سبيل التواضع، ويدلُّ على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمى، وقد حرَّق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرَّق خالد بن الوليد بالنار أناسا من أهل الردة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها. قاله الثوري والأوزاعي. وقال ابن المنير: لا حجة فيما ذُكر للجواز لأن قصة العرنيين كانت قصاصا أو منسوخة كما تقدم، وتجويز الصحابي معارَض بمنع صحابي آخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقا للظفر بالعدو، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان كما تقدم. وأما حديث وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم، وهو نسخ لأمره المتقدم سواء كان بوحي إليه أو اجتهاد منه. وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه. وقد اختلف في مذهب مالك في أصل المسألة، وفي التدخين، وفي القصاص بالنار1. وقال البغوي: فأما تحريق الكافر بعد ما وقع في الأسر، وتحريق المرتد، فذهب عامتهم إلى أنه لا يجوز إنما يقتله بجزِّ الرقبة2. أما الخطابي فقال: إنما يكره إذا كان الكافر أسيرا قد ظفر به وحصل في
الكف، وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرم النار على الكفار في الحرب، وقال لأسامة: "أَغِر على أُبني صباحا وحرّق". ورخَّص سفيان الثوري والشافعي في أن يرمى أهل الحصون بالنيران، إلا أنه يستحب أن لا يرموا بالنار ما داموا يطاقون إلا أن يخافوا من ناحيتهم الغلبة فيجوز حينئذ أن يقذفوا بالنار1. - وفي الحديث جواز الحكم بالشيء اجتهادا ثم الرجوع عنه. - أيضا استحباب ذكر الدليل عند الحكم لرفع الإلباس. - كما يستفاد منه جواز الاستنابة في الحدود ونحوها. - كما أن طول الزمان لا يرفع العقوبة عمن يستحقها. - كراهة قتل مثل البرغوث بالنار. - نسخ السنة بالسنة وهو اتفاق. - مشروعية توديع المسافر لأكابر أهله، وتوديع أصحابه له أيضا. - جواز نسخ الحكم قبل العمل به، أو قبل التمكن من العمل به، وهو اتفاق إلا عن بعض المعتزلة فيما حكاه أبو بكر بن العربي، وهذه المسألة غير المشهورة في الأصول في وجوب العمل بالناسخ قبل العلم به. وقد اتفقوا على أنهم إن تمكنوا من العلم به ثبت حكمه في حقهم اتفاقا، فإن لم يتمكنوا فالجمهور أنه لايثبت. وقيل: يثبت في الذمة كما لو كان نائما ولكنه معذور. ذكر هذه الأحكام ابن حجر في الفتح2. ويستفاد أيضا من هذا الحديث تحقيق بشريته صلى الله عليه وسلم فهو بشر كغيره من البشر
يعتريه الغضب والحزن والتأثر لمصاب أبنائه وأقاربه، ولكن ذلك لا يخرجه عن طوره ولا يطغيه عن الحق، فغضبه لا يعدو لحظات يتراجع بعدها، فيفيض رحمة ورأفة، فها هو بعد أن يصدر أوامره الشريفة لأصحاب السرية بتحريق الرجلين قصاصا لما ارتكبوه من محاربة الله ورسوله، يتراجع عن ذلك فينهاهم عن التحريق، لأن النار لا يعذب بها إلاَّ الله عز وجل. وفي ذلك أيضا أدب رفيع مع الله سبحانه وتعالى وتواضع له. ثم ها هو عليه الصلاة والسلام يعفو ويصفح عن هبَّار رغم فظاعة وجرم ما ارتكبه، ومع من؟ مع أقرب الناس إليه. ولكن الغضب والحنق الشديدين يتحولان في لحظة إسلام هبَّار إلى رحمة وإلى تسامح وإلى فرح غامر بإسلام رجل كان كافرًا، محادًّا لله ورسوله. وهذه هي تعاليم الإسلام السمحة التي تقول: إن الإسلام يجُبُّ ما قبله" يطبقها المصطفى صلى الله عليه وسلم بحذافيرها جاعلا عن نفسه القدوة لأمته، فيا له من موقف رائع عظيم مليء بالدروس والعبر.
سربة أبي عامر الأشعري إلى أوطاس
سربة أبي عامر الأشعري إلى أوطاس ... سرية أبي عامر إلى أوطاس (مطاردة تعقُّبية)
"لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين"1 أرسل سرية مطاردة تعقُّبية2 بقيادة أبي عامر الأشعري3 رضي الله عنه وكان ضمن أفرادها أبو موسى الأشعري4 وأبو سعيد الخدري5 رضي الله عنهما، وذلك لمطاردة الفارين من هوازان وجشم الذين كان على رأسهم دريد بن الصِّمة الجشمي6 -للإجهاز مبكرًا
على أي تحشد آخر لهم مضاد للمسلمين، حيث التقوا بهم في وادٍ يسمى أوطاس1، وهناك دارت معركة قوية بين الطرفين قتل فيها دريد بن الصِّمة. "وهزم الله أصحابه"2 بعد أن "أفضى فيهم إلى الذرية"3 1 قال عياض: هو واد في دار هوازن، وهو موضع حرب حنين. وهذا الذي قاله ذهب إليه أهل السير، والراجح أن أوطاس غير وادي حنين، ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عسكرا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس، كما يدل عليه حديث الباب، ثم توجه هو وعساكره إلى الطائف. ابن حجر، فتح (8/42) . وقال البكري: أوطاس –بفتح أوله، وبالطاء والسين المهملتين، واد في ديار هوازن وهناك عسكروا هم وثقيف، إذ أجمعوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتقوا بحنين. البكري، معجم ما استعجم (1/212) . وذكر الحربيّ: أن بأوطاس قصورا، وأبياتا، وحوانيت، ويركة، يسرة، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرضع في تلك الناحية، وثمّ مسجد يقال له مسجد عائشة رضي الله عنها، بناه عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عم المنصور. أما البلادي فقال: أوطاس سهل يقع على طريق حاج العراق إذا أقبل من نجد قبل أن يصعد الحرة، فالحاج إذا تسهل من كشب مرّ بطريق وجزة الشمالي، ثم في غمرة وبها بركة تنسب إلى زبيدة، ثم يجزع وادي العقيق –وليس هذا بعقيق المدينة- ثم يسير في أوطاس ساعة، فهي ضفة العقيق اليسرى، ثم يصعد الحرة، فَيَرِدِ الضريبة الميقات، فهي شمال شرقي مكة، وشمال بلدة عشيرة، وتبعد عن مكة قرابة (190) كيلا على طريق متعرجة. البلادي، معجم المعالم الجغرافية في السيرة (34) . 2 من رواية البخاري عن أبي موسى. ابن حجر، فتح (8/41) قال: واختلف في قاتله، فجزم محمد بن إسحاق بأنه ربيعة بن رفيع –بفاء مصغَّر- ابن وهبان بن ثعلبة بن ربيعة السلمي، وكان يقال له: ابن الذعنة –بمعجمة ثم مهملة، ويقال: بمهملة ثم معجمة- وهي أمه. وقال ابن هشام: يقال اسمه عبد الله بن قبيع بن أهبان، وساق بقية نسبه، ويقال له –أيضا- ابن الذعنة وليس هو ابن الذعنة المذكور في قصة أبي بكر في الهجرة. وروى البزار في مسند أنس بإسناد حسن ما يشعر بأن قاتل دريد هو الزبير بن العوام، ولفظه "ولما انهزم المشركون انحاز دريد بن الصمة في ستمائة نفس على أكمة فرأوا كتيبة، فقال: خلوهم لي، فخلوهم، فقال: هذه فضاعة ولا بأس عليكم، ثم رأوا كتيبة مثل ذلك فقال: هذه سليم، ثم رأوا فارسًا وحده، فقال: خلوه لي، فقالوا: معتجر بعمامة سوداء، فقال: هذا الزبير بن العوام، وهو قاتلكم ومخرجكم من مكانكم هذا، قال: فالتفت الزبير فرآهم فقال: علام هؤلاء ههنا؟ فمضى إليهم وتبعه جماعة فقتلوا منهم ثلثمائة، فحزَّ رأس دريد بن الصمّة فجعله من يديه. ويحتمل أن يكون ابن الذعنة كان في جماعة الزبير فباشر قتله فنُسبب إلى الزبير مجازا. ويقال: إنه لما قتل ابن عشرين، ويقال: ابن سنتين ومائة سنة. ابن حجر، فتح (8/42) . وروى البيهقي بإسناده إلى الشافعي قال: قتل يوم حنين دريد بن الصمة ابن خمسين ومائة سنة في شجار لا يستطيع الجلوس، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر قتله.البيهقي، سنن (9/92) . 3 رواه أحمد عن الأسود بن سريع ولفظه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية يوم حنين فقاتلوا المشركين فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاءوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حملكم على قتل الذريّة؟ " قالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين. قال: "وهل خياركم إلا أولاد المشركين ... ". الحديث. البنا، الفتح (14/65) وقال عنه: ورجاله رجال الصحيح. كما رواه البيهقي، سنن (9/130) .
وسبوا نساءهم،1 وأصيب قائد السرية إصابةً قاتلةً إذ "رماه جشمي2 بسهم فأثبته في ركبته"3. قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ابن أخي أبي عامر: "فانتهيت إليه فقلت: يا عم4 من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له، فلحقته، فلما رآني ولَّى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي ألا تثبت فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه5 الماء"6، وكأن الجرح قد التهب على أبي عامر التهابا حادًّا عرف منه قرب
منيته1، فأوصى ابن أخيه أن يقرىء النبي صلى الله عليه وسلم منه السلام ويطلب منه أن يستغفر له، وذلك بعد أن استخلفه على قيادة السرية "فمكث يسيرا ثم مات"2. ويرجع أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل عليه بيته، حيث يصف لنا الحالة التي وجد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعرف مدى ما كان عليه من الزهد وشظف العيش، وهو الذي لو أراد لحيزت له الدنيا بأسرها. يقول أبو موسى: "دخلت عليه وهو في بيت على سرير مرمل3، وعليه فراش وقد أثَّر رمال السرير بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنبيه، فأخبرته بخبرنا، وخبر أبي عامر، وقلت له: قال: قل له: يستغفر لي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ، ثم رفع يديه ثم قال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر، حتى رأيت بياض إبطيه ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك، أو من الناس. فقلت: ولي يا رسول الله فاستغفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما" 4 5.
البعوث التعليمية والدعوية
البعوث التعليمية والدعوية مقدمة ... مقدمة كان الأعراب حول المدينة يتحينون الفرص المواتية للنيل من المسلمين والقضاء عليهم إما بغزو المدينة قاعدتهم، أو الانتقام ممن ظفروا به منهم خارجها. ولما عجزوا عن تحقيق هدفهم الأول نتيجة السرايا التعرُّضية التي كان يرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأديبهم ومباغتتهم في ديارهم أو قتل زعمائهم، كما حدث لخالد بن سفيان الهذلي، لذلك سعوا للهدف الثاني لسهولته. أما قريش فكانت تعد العدة للكرة مرة أخرى على المسلمين تكون فيها استئصال شأفتهم والقضاء عليهم نهائيًّا. ولم يغب كل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائد العسكري العبقري –فكانت الدوريات الاستطلاعية إضافة إلى عيونه المبثوثين تأتيه بالأخبار والمعلومات عن تحركات أعدائه من قريش والأعراب أوّلاً بأوَّل. وهو ما يسمى الآن بنظام الاستخبارات العسكرية. وذلك يؤكد أن المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعده لم يخوضوا حربًا عشوائية غير مخطَّطٍ لها مع أعدائهم، إنما حربًا ذات خطط "سوقية وتعبوية" منظمة. وكان من تلك السرايا والدوريات سرية استطلاعية لجمع المعلومات عن قريش وتحركاتها، وعن الأعراب وتجمعاتهم. وإن كانت المصادر التاريخية تجزم بأنها كانت بعثة تعليمية أُرسلت بطلب من بعض الأعراب المدَّعين الإسلام والذين غدروا وأوقعوا بأصحاب السرية عند ماء الرجيع –الذي عرفت السرية به فيما بعد- ويمكن الجمع بين المهمتين كما أوضح البعض1.
"ورغم ما حدث في الرجيع، فإن وفود المسلمين لدعوة الأعراب لم تنقطع أبدا، إذ لا بدّ من تبليغ دعوة الإسلام مهما غلت التضحيات"1، حيث يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية تعليمية أخرى إلى أعراب نجد بمبادرة من أبي براء ملاعب الأسنة أحد زعماء نجد والذي طمأن خوف النبي صلى الله عليه وسلم من فتك الأعراب بهم بإجارته لهم، ولكن إجارة أبي البراء لم تردع ابن أخيه عامر بن الطفيل الذي أوقع بالقراء بمعاونة الأعراب من سليم وفتكوا بسبعين من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة آلمته كثيرًا، ولكنها لم تثبطه أو تقعده عن متابعة برامجه الدعوية والتعليمية. وتستمر سياسته الدعوية لا تغيِّرها الظروف والمناسبات، فالدعوة إلى الله عز وجل وهي الأساس الذي بنى عليه دولة الإسلام، لا تتأثر بالظروف الحادثة إيجابا أو سلبا، لأنها كانت تتم وفق تخطيط مسبق ومدروس ومنظم بعناية فائقة –فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الفاتح المظفر على أكبر أعداء الدعوة- لا يلهيه ظفره عليهم ولا يطغيه فتحه لأعظم معاقل الوثنية في الجزيرة ولا تنسيه فرحة رجوعه لمسقط رأسه غانمًا موفورًا هدفه الأسمى وغايته النبيلة، فيبادر إلى بثِّ السرايا والبعوث الدعوية حول مكة بعد فتحها مباشرة. منها بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة ذلك البعث الذي كثر الحديث حوله، وتفنَّن الرواة والإخباريون في تفسيراتهم وتبريراتهم الخاطئة عنه مستندين إلى خلفيَّات جاهلية لا تنسجم مع روح الإسلام، وما تربَّي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نبذ أدران الجاهلية الدَّفينة، وقد حاول بعض المتأخرين ممن عنوا بالمغازي استنادا على رواية الصحيح تفسير الواقعة باذلين في ذلك جهدهم للوصول إلى التفسير الصحيح –فكان أفضل ما وصلوا إليه أن خالدًا تأوَّل واجتهد فأخطأ. والله تعالى أعلم بالصواب.
بعث الرجيع
السرايا التعليمية بعث الرجيع1 ولستُ أُبالي حين أُقْتَلُ مُسلمًا ... على أي شْقٍّ كان لله مصرعي وذاك في ذات الإله وإن يَشَأ ... يُبارِك على أوصالِ شِلْوٍ مُمَزَّع خُبيب بن عدي رضي الله عنه. البخاري، الصحيح (5/41) .
نتيجة للتحركات المعادية التي ظهرت على الأعراب في أعقاب غزوة أحد، وتحسبًا من هجوم قرشي مباغت، بعث رسول الله صص دورية قوتها عشرة أفراد1 بقيادة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح رضي الله عنه2.
وقد اختلفت الروايات في تحديد واجب السرية، فرواية الصحيح تذكر أن السرية كانت استطلاعية، كما يفيده اللفظ "عينًا"1، بينما تذكر بعض الروايات أنها كانت عبارة عن دورية قتال هدفها بنو لحيان2، ويكاد يجمع أهل المغازي على أن مهمة السرية كانت تعليمية بحتة3، وينفرد الواقدي منهم بتوضيح سبب ذلك4. وقد حاول بعض المتأخرين الجمع بين الروايات وجعل م همة السرية ازدواجية مع إمكانية ذلك5، فهي استطلاعية لرصد نشاط قريش والأعراب
المتزايد عقب أُحد وتحركاتهم المشبوهة، وتعليمية تلبيةً لرغبة بعض الأعراب الذين أظهروا الإسلام وطلبوا بعض المعلمين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفقهوهم في الدين ومع اتفاق أهل المغازي في مهمة هذه السرية اختلفوا في تحديد تاريخها، فمنهم من ذكرها بعد أُحد ضمن أحداث السنة الثالثة الهجرية1. ومنهم من حددها بشهر صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا، يعني في بداية السنة الرابعة2. وحددها البعض بمنتصف شهر صفر آخر السنة الثالثة3. وعلى كل حال انطلقت الدورية في مسير اقترابي حذر كما تذكر بعض الروايات4 "حتى إذا كانوا بالهدأة5- وهو بين عسفان ومكة- ذُكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان6 فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل7، كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرًا –تزودوه- من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم8.
فلما رآهم عاصم انسحب بأصحابه إلى مكان مرتفع تجنبا للاشتباك المباشر –الذي كان فيه القضاء التام عليهم- فاللحيانيون يفوقونهم في العدد والعدة بكثير. وما أن وصل القوم حتى أحاطوا بهم، ثم أخذوا يفاوضونهم على الاستسلام المشروط بالأمان إن هم نزلوا إليهم دون مقاومة، ولكن عاصم بن ثابت رضي الله عنه قائد السرية رفض ذلك العرض بشدة معطيا من نفسه القدوة لأصحابه وهو يقول: "أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كاف ر، اللهم أخبر عنا نبيك"1. وعلى الرجيع حصلت ملحمة جهادية رائعة في معركة غير متكافئة، سقط خلالها الأبطال عاصم وستة من رفاقه شهداء في سبيل الله بعد أن قاوموا ببسالة شديدة، لكن إرادة الله عز وجل جعلت الهذليين الكثر والمهرة في الرمي يصطادونهم بنبالهم التي حصدوهم من كل جانب. "وبقي خبيب وزيد، ورجل آخر2، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم"3، ومعهم العذر في ذلك، لأن رفضهم الاستسلام هو حكم بالقضاء المبرم عليهم، ففضلوا الإبقاء على أنفسهم تحيُّزًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأملا في مدد أو نجدة تأتيهم من عنده تكون فيها قوة لاستئناف قتال يكون فيه ولو بعض التكافؤ ضد بني لحيان4، لكن اللحيانيين، وكما توقع عاصم من قبل غدروا بهم "فلما استمكنوا منهم حلُّوا أوتار قسيهم
فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجرَّروه وعالجوه أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل1، وكان خبيب هو قَتَلَ الحارث يوم بدر2. فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي3. فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيتُه فزِعت فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله4 نعم هذه هي أخلاق الإسلام التي أدهشت الكفار قديما وحديثا، لأنهم تعودوا على الانتقام العشوائي، ولا غرو في ذلك إذا كانوا يستقون أخلاقهم من قانون الغاب، بينما صدر أخلاق المسلمين القرآن الذي من مبادئه {وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. وهذه المرأة التي أسلمت فيما بعد2 ذكرت ما شاهدته من خبيب حيث تقول: "ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلاّ رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين. ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سنّ الركعتين عند القتل هو. ثم قال اللهم أحصهم عددا"3. ثم قتلوه رضي الله عنه وهو يحمس نفسه بأبيات يذكر فيها غربته وتألب المشركين عليه4. "وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية فقتله بأبيه أمية بن خلف، قتله نسطاس مولى بني جمح"5. ويذكر ابن إسحاق بإسناد معضل أن أبا سفيان قد سأله مختبرا ثباته: "أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في
مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي"1. هذه الرواية2 على ضعفها حديثيًّا إلا أننا نستأنس بها تاريخيًّا على مدى الحب المتمكن في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له، ذلك الحب الذي لا يتزعزع حتى في أصعب اللحظات حراجة، وهكذا نراهم يفدونه بأنفسهم أن تصيبه شوكة آمنا في بيته, وهو بين يدي أعدائهم يعاينون الموت، فما أخلصها من تضحية، وما أعظمه حبًّا أدهش أعداءهم في ذلك الوقت، يقول أبو سفيان في سياق الرواية السابقة "ما رأيت من الناس أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا"3. وقد استجاب الله عز وجل "لعاصم بن ثابت يوم أصيب، فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حُدثوا أنه قتل ليؤتَوا بشيء منه يعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر4 فَبُعِثَ على عاصم مثل الظلة من الدَّبر5. فحمتهم من رسولهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا6. وهكذا فقدت الدعوة إلى الله بعض فرسانها، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم و"المسلمون لفقدانهم عاصما وصحبه، ولمصرع أسيرهم على هذا النحو
الفاجع، فقد خسروا فريقا من الدعاة الأكفاء يحتاج إليهم الإسلام في هذه الفترة من تاريخه"1. وفي الحديث من الأحكام ما ذكره ابن حجر وغيره حيث قال: إن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكّن من نفسه ولو قُتل، أنفة من أنه يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك، وقال سفيان الثوري: أكره ذلك. وفي الحديث الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله. وفيه الدعاء على المشركين بالتعميم، وإنشاء الشعر وإنشاده عند القتل. ودلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه. وفيه أن الله يبتلي عبده المسلم بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه. ومن فوائد الحديث استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيًّا وميتًا، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل، وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لِما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه2. وفي الحديث: إثبات كرامة الأولياء. وما أكرم الله به خبيبا من إطعامه له القطف من العنب في زمان وحين لا يوجد منه بمكة حبة ولا ثمرة، وهذه المكرمة شبيهة بما قصّ الله تعالى من شأن مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} 3، وإبلاغ الله
سلامه إلى رسوله، وهما دلالتان واضحتان مثلهما جائز في إبان النبوة1. وقال ابن بطال: "هذا يمكن أن يكون الله جعله آية على الكفار وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته، فأما من يدَّعي وقوع ذلك اليوم بين ظهراني المسلمين فلا وجه له، إذ المسلمون قد دخلوا في الدين وأيقنوا بالنبوة، فأي معنى لإظهار الآية عندهم؟ ولو لم يكن في تجويز ذلك إلاّ أن يقول جاهل: إذا جاز ظهور هذه الآيات على يد غير نبي فكيف نصدقها من نبي، والفرض أن غيره يأتي بها لكان في إنكار ذلك قطعا للذريعة، إلا أن يكون وقوع ذلك مما لا يخرق عادة ولا يقلب عينا، مثل أن يكرم الله بإجابة دعوة في الحين ونحو ذلك مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الولي، ومن ذلك حماية الله تعالى عاصمًا لئلا ينتهك عدوه حرمته"2. قال ابن حجر: "والحاصل أن ابن بطال توسط بين من يثبت الكرامة ومن ينفيها فجعل الذي يثبت ما قد تجري به العادة لآحاد الناس أحيانًا، والممتنع ما يقلب الأعيان مثلا، والمشهور عن أهل السنة إثبات الكرامات مطلقا، لكن استثنى بعض المحققين منهم كأبي القاسم القشيري ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك، وهذا أعدل المذاهب في ذلك، فإن إجابة الدعوة في الحال، وتكثير الطعام والماء، والمكاشفة بما يغيب عن العين، والإخبار بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جدًّا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخرق الآن فيما قاله القشيري، وتعيين تقييد قول من أطلق أن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي، ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له من ذلك يكون من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله بأن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب،
فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهي، كان ذلك علامة ولايته، ومن لا فلا، وبالله التوفيق1. وفيه أيضا مشروعية الصلاة عند القتل، قال في سياق رواية الصحيح: "فكان أول من سن الركعتين عند القتل"2 قال السهيلي: "وإنما صار فعل خبيب سُنة حسنة، والسنة إنما هي أقوال من النبي صلى الله عليه وسلم وأفعال، وإقرار؛ لأنه فعلها في حياته صلى الله عليه وسلم فاستحسن ذلك من فعله، واستحسنه المعلمون مع أن الصلاة خير ما ختم به عمل العبد"3. قال الحلبي: "وكان ابن سيرين رحمه الله إذا سئل عن الركعتين قبل القتل قال: صلاهما خبيب رضي الله تعالى عنه وحجر، وهما فاضلان، ويعني بحجر: حجر بن عدي رضي الله تعالى عنه"4. وقال: "واستدل أئمتنا بقصة خبيب هذه على أنه يستحب لمن أشرف على الموت أن يتعهد نفسه بتقليم أظفاره وأخذ شعر شاربه وإبطه وعانته، ولعل ذلك كان بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأقرَّه"5.
بعث بئر معونة
بعث بئر معونة1 (سرية القُرَّاء) وفي منظر رائع لا يتصوره العقل البشري المُجَرَّد عن الإيمان تتحقق إحدى معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فما أن وجد الرجل مسَّ الرمح في جوفه حتى صاح وهو ينضح ماء الحياة على وجهه ورأسه فَرِحًا: الله أكبر، فزت وربِّ الكعبة.
استمرارا لمنهجية نشر الإسلام ورسالته، ورغم ما أصاب الدعوة في صميم عملها بفقدان عدد من خيرة فرسانها في الرجيع، فقد واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بث الدعاة ونشر الدعوة إلى الله في كل مكان في الجزيرة العربية، حيثما وجد بصيصًا من الأمل لقبولها وانتشارها، "إذ لا بدَّ من تبليغ دعوة الإسلام مهما غلت التضحيات"1. فلما قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد من قبائل رعل وذكوان وعُصية السلمية، وذكروا أن فيهم إسلاما وطلبوا منه معلمين يفقهونهم في الدين، ويعينونهم على المشركين من قومهم بزعمهم2. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيز بعثة تعليمية قوامها سبعون معلمًا3 من خيرة
الصحابة ومثقفيهم حتى إنهم كانوا يسمون القرَّاء لمثابرتهم على التحصيل العلمي حيث كانوا "يقرأون القرآن، ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء"1. وأسند القيادة إلى المنذر بن عمرو الساعدي رضي الله عنه2، كما ذكر أهل المغازي3، ثم وجههم إليهم. وفي شهر صفر من السنة الثالثة، أو الرابعة على خلاف بين أهل المغازي4
انطلقت البعثة في مسيرها الاقترابي بحذر يتقدمهم دليل من أهل المنطقة كما تذكر رواية مرسلة عن عروة1. حتى إذا ما وصلوا بئر معونة –وهي منطقة تماس حدودية بين أراضي قبيلة بني عامر وحرة بني سليم- عسكروا بإزائها، ومن هناك بعثوا حرام بن ملحان رضي الله عنه2 أحد أفراد البعثة إلى الأعراب في مهمة استطلاعية وتمهيدية لمهمة البعثة الأساسية، وذلك بمبادرة منه تطوعية إذ قال لهم: "أتقدمكم فإن أمَّنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلاَّ كنتم مني قريبا"3. فتقدم نحو البيوت بعد أن أمَّنوه حيث وجه خطابه لهم –كما وقع في رواية عن أنس رضي الله عنه فيها بعض الضعف4 "يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم أني أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله"5. ولكن الأعراب كانوا أشدَّ كفرا ونفاقا وغدرا، فتنفيذا لخطة التآمر الدنيئة التي دبروها مع قائدهم عامر بن الطفيل العامري، وبينما حرام "يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومأوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه"6، وفي منظر رائع لا يتصوره العقل البشري المجرَّد عن الإيمان، تتحقق إحدى معجزات النبي صلى الله عليه وسلم7، فما أن وجد الرجل مسَّ الرمح في جوفه حتى صاح وهو ينضح ماء
الحياة على وجهه ورأسه فرحا "الله أكبر، فزت وربِّ الكعبة"1. ذلك المشهد العظيم والذي لم يعهده المشركون من قبل، جعل قاتله يسلم2 متعجبا من رَدَّة الفعل التي لم يك أحد من الحاضرين يتوقعها من رجل يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم يكتف الأعراب بذلك بل تبعوا أثره حتى وجدوا أصحابه فأحاطوا بهم من كل جانب ودافع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عقيدتهم السمحة التي جاءوا لنشرها بين من غدروا بهم، ولكن هول المفاجأة وكثرة الأعراب المستعدين لخيانتهم المدبَّرة سلفا لم تتح لهم الفرصة في قتال متكافىء، فسقطوا شهداء على أرض بئر معونة إلاّ رجلا أو رجلين منهم3، حيث سطروا بدمائهم الزكية ملحمة من أروع الملاحم الجهادية في تاريخ الإسلام بعد أن كسبوا رضوان الله عليهم. فهذا الروح الأمين عليه السلام يخبر "النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم"4، قال أنس رضي الله عنه: "فقرأنا فيهم قرآنا ثم إن ذلك
رفع "بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا"1. فيا لها من منزلة عظيمة تتوق إليها نفس كل مسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه بمصيرهم، ويصف أنس رضي الله عنه شدّة تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصابهم: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على شيء قط ما وجد على أصحاب سرية بئر معونة، أصحاب سرية المنذر بن عمرو، فمكث شهرا يدعو على الذين أصابوهم في قنوت صلاة الغداة"23. ومن الطبعي أن يتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصابهم، فقد كانوا من خيرة أصحابه، ومن فرسان الدعوة المعدودين، وقد كان فقدهم في وقت كانت دعوة الإسلام بحاجة ماسَّة لخدماتهم، كما أن الطريقة التي تم فيها قتلهم تعصر القلب ألمًا وحزنًا عليهم، فهي طريقة شائنة لم تتح لهم الفرصة في قتال فروسي مشرف. "إن هذه النازلة ملأت قلوب المسلمين غيظا، وهم لم يضيقوا بخسائرهم فحسب، بل الذي أحرج مشاعرهم في هذه الحادثة أنها كشفت عمَّا تخبئه
الوثنية في ضميرها من غلّ كامن على الإسلام وأهله، غلٍّ عاصف بكل مبادىء الشرف والوفاء"1 التي اشتهر بها العرب في الجاهلية وزادها الإسلام قوة وعزًّا، لكن حقد الوثنية الدفين على الإسلام ورجالاته طغى على هذه المبادىء في قلوب أصحابها فأعمى بصائرهم وبصيرتهم. ومن فقه هذه القصة ما بوَّب له البخاري بقوله: باب القنوت قبل الركوع وبعده، ثم ذكر الأحاديث الخاصة بهذه القصة2. قال ابن حجر: القنوت يطلق على معان، والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام، قال الزين بن المنيّر: أثبت بهذا الترجمة مشروعية القنوت إشارة إلى الردّ على من رُوي عنه أنه بدعة كابن عمر، وفي الموطأ عنه: أنه كان لا يقنت في شيء من الصلوات، ووجه الردِّ عليه ثبوته من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرتفع عن درجة المباح. وهل هو قبل الركوع أو بعده خلاف؟ قال ابن حجر: ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع. وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح. ذكر ابن العربي: أن القنوت ورد لعشرة معان فنظمها شيخنا الحافظ زين الدين العراقي فيما أنشدنا لنفسه إجازة غير مرة: ولَفْظُ القنوت اعدُدْ معانيه تجد ... مزيدًا على عشرة معانٍ مرضية دعاء، خشوع، والعبادة، طاعة ... إقامتها، إقراره بالعبودية سكوت، صلاة، والقيام وطوله ... كذاك دوام الطاعة الرابح القنية3
وقال النووي: مذهب الشافعي رحمه الله: أن القنوت مسنون في صلاة الصبح دائما، وأما غيرها فله فيها ثلاثة أقوال: الصحيح المشهور أنه إن نزلت نازلة كعدو وقحط وعطش وضررٍ ظاهر في المسلمين، ونحو ذلك قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة، وإلا فلا. والثاني: يقنتون في الحالين. والثالث: لا يقنتون في الحالين. ومحل القنوت بعد رفع الرأس من الركوع في الركعة الأخيرة. وفي استحباب الجهر بالقنوت في الصلاة الجهرية وجهان: أصحهما يجهر ويستحب رفع اليدين فيه ولا يمسح الوجه. وقيل: يستحب مسحه. وقيل: لا يرفع اليد واتفقوا على كراهية مسح الصدر. والصحيح أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص، بل يحصل بكل دعاء. وفيه وجه: أنه لا يحصل إلاَّ بالدعاء المشهور: اللهم اهدني فيمن هديت.. إلى آخره، والصحيح أن هذا مستحب لا شرط له، ولو ترك القنوت في الصبح سجد السهو. وذهب أبو حنيفة، وأحمد، وآخرون إلى أنه لا قنوت في الصبح. وقال مالك: يقنت قبل الركوع. ودلائل الجمع معروفة1. كما أن من فقه هذه القصة معرفة كيفية موت الشهيد، فقد ورد في ثنايا القصة أن حرام بن ملحان رضي الله عنه عندما طعن بالرمح لم يتألم كما هو معروف ومشاهد في مثل هذه الحالة، بل بالعكس من ذلك صاح فرحًا: الله أكبر، فزت وربِّ الكعبة. وهذا الموقف الخارق للعادة يدعونا للتساؤل: هل يتعرض الشهيد لألم الموت؟ وتأتينا الإجابة الشافية من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن
هو إلاّ وحي يوحى: "ما يجد الشهيد من مسِّ القتل إلاَّ كما يجد أحدكم من مسِّ القرصة" 1. نعم فللشهيد منزلة خاصة عند الله، فجزاء الثمن الباهظ الذي يدفعه وهو روحه رخيصة في سبيل الله عز وجل لم يبخسه أعدل العادلين حقه فكافأه بست جوائز كل واحدة منها تعدل الدنيا وما فيها، فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلَّى حلَّة الإيمان، ويزوَّج من الحور العين، ويشفَّع في سبعين إنسانا من أقاربه" 2. هذا بالإضافة إلى العلامة المميَّزة المشرفة التي يأتي بها يوم القيامة. عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول- الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مجروح يجرح في سبيل الله، والله أعلم بمن يجرح في سبيله، إلاَّ جاء يوم القيامة، وجرحه كهيئته يوم جرح: اللون لون الدم، والريح ريح مسك" 3. كما أن حياة الشهداء لا تنتهي بمجرد موتهم، بل هم أحياء يرزقون ويتنعمون عند ربهم، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 4.
بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة
بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ... سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة (دعوية) (فلم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا)
عقب فتح مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وبعوثه حولها لإخضاع قبائل الأعراب الحليفة لقريش، والتي كانت تكوِّن كتلة الأحابيش التي شاركت ضمن الجيوش القرشية التي خاضت بدرا وأحدا والخندق ضد المسلمين، وذلك إكمالا لإحكام سيطرة المسلمين على المنطقة ونشر الدعوة فيها، وفتح الطريق أمامهم إلى الطائف ثاني أكبر معاقل الوثنية في الجزيرة العربية آنذاك، والتي كانت تمثل حاجزا أمام نشر الدعوة الإسلامية فيها. وكان من تلك البعوث (دورية قتال) دعوية، هدفها بني جذيمة1، يذكر أهل المغازي أن قوتها كانت حوالي ثلثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار2، ورجال من بعض القبائل العربية المسلمة كسليم، وبني مدلج بن مرة3، وكان بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم مثل عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر، وأبي قتادة، وسالم مولى أبي حذيفة4، جنودا ضمن أفراد هذه الدورية التي أُسندت القيادة فيها إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه. وفي شهر شوال من السنة الثامنة الهجرية، قبيل الخروج إلى حنين، كما يذكر أهل المغازي5، تحركت الدورية في مسيرها الاقترابي نحو هدفها.
ويذكر ابن إسحاق في روايته المنقطعة: أن بني جذيمة لما سمعوا بخبر السرية استعدوا للقتال ولبسوا السلاح1، وعلى الغميصاء2 تقابل الجيشان، فدعاهم خالد إلى الإسلام "فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا"3. ونظرًا لما هذه الكلمة من ماضٍ سيء في تاريخ الإسلام، حيث كانت تطلق في مقام الذم للمسلمين الأوائل بمكة، والاستهزاء بهم من قِبَلِ المشركين، ونظرا لدقة الموقف وحراجته والذي يتطلب سرعة الخاطر في إعطاء القرار الحاسم من أي قائد يحرص على نجاح مهمته، فقد تأوَّل خالد بن الوليد رضي الله عنه "الذي كان يعرف الكلمة وظروف استعمالها"4، كلمتهم تلك على أنها استهزاء وسخرية بالمسلمين "فجعل يقتل منهم ويأسر"5ثم إنه أمر بعد فترة بقتل الأسرى باعتبار أنهم كانوا مستهزئين بالإسلام، فرأى أنه لا بدَّ وأن يثخن فيهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم من الأعراب. ولكن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر، وبعض الصحابة رضي الله عنهم كما تذكر روايات أهل المغازي6، لم ينقادوا لأمر خالد رضي الله عنه وخالفوه في اجتهاده، ورأوا أن بني جذيمة قد "عبروا عن إسلامهم بما يعرفون"7، وكان أكثرهم معارضة له عبد الرحمن بن عوف،
وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، حيث قال عبد الله رضي الله عنه: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره"1. ويذكر الواقدي أن بني سليم قتلوا كل من كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم، فكان عدد قتلى بني جذيمة قريبا من ثلاثين رجلا2، منهم رجل غير جذيمي ساقته منيته وأودى به عشقه لامرأة جذيمية إلى مصيره المحتوم3. وعند رجوع السرية من مهمتها رفع المعارضون لخالد تقريرا مفصلا بما حدث للقائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي عبَّر عن إنكاره لفعل خالد بقوله: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"4. قالها مرتين. ووقع في رواية ابن إسحاق المنقطعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه بمال فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال وزادهم فوق ذلك إحسانا إليهم وتطييبا لنفوسهم56.
وقد ذهب أهل المغازي بعيدا في تفسيراتهم للواقعة، فأخذوا يسوقون الروايات الضعيفة المُشْعِرِةِ بإدانة خالد رضي الله عنه، وأنه فعل ذلك إدراكا لثأر قديم مع بني جذيمة1، ولو أننا تأملنا في هذه الحادثة بعمق –وذلك ما يجب علينا كباحثين مسلمين، حيث لا بدَّ لنا من الإحاطة الكاملة بكل جوانب القضية –لظهرت لنا عدة تساؤلات منها على سبيل المثال: .. ما مدى صحة الروايات التي ساقها أهل المغازي تفسيرًا للخبر؟ ربما كان بعض هذه الروايات أو تفسيراتها دسًّا من بعض الرواة غير العدول على خالد رضي الله عنه. ..لماذا أثيرت كل هذه الضجة حول هذه الحادثة؟ ولماذا خالد بالذات الذي أثيرت حوله. ما هو التفسير الصحيح للخبر؟ وهنا مربط الفرس، حيث لا بدَّ لمن يتعرَّض لتفسير الخبر أن يتجرد عن العواطف والاتجاهات المسبقة، ولا بدَّ له من دراسة النوازع الشخصية لكل أفراد الحادثة، بدءا من خالد رضي الله عنه، إلى أفراد القبيلة، ومعرفة الظروف والملابسات التي أحاطت بالحادثة.
فهناك شخصية خالد قائد الجيش وما يتطلبه منه الموقف من حزم وسرعة بديهة وتصرُّف عاجل، وهناك على ما أعتقد قلة خبرته الفقهية الضرورية لإصدار الأحكام الاجتهادية قياسا مع الصحابة الذين أنكروا عليه، كعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، لسابقتهم في الإسلام، وحداثة عهده به1. وهناك شخصية أفراد القبيلة وماضيهم المليء بالغدر والفتك2، والذي بعرفه خالد جيدا. وهناك الأهم، وهو تصرفهم أثناء الحادثة، قوم مدجَّجون بالسلاح، مستعدون للقتال، وفجأة عند ما ظهر عليهم المسلمون قالوا: صبأنا صبأنا. وكانت هذه اللفظة متداولة في مكة، وتطلق على كل من أسلم حديثا على سبيل الذم والاحتقار، فكان واجب القيادة يحتم على خالد سرعة الحسم، فربَّما أنه رأى في تقديره الشخصي وما أدَّى إليه اجتهاده أنهم لو كانوا قد أسلموا لما لبسوا السلاح، واستعدوا للقتال وهم يعرفون أن المسلمين قريبون منهم ويسمعون أخبارهم. وما خبر فتح مكة بالخبر الذي يخفى، وربما أنه اعتقد أنهم لو أسلموا لكانوا عرفوا النطق بالشهادتين، وهي الوثيقة الوحيدة التي تفرق بين المسلم والكافر3 أو ربما أنه ظن أنهم قالوا كلمتهم تلك احترازا وخوفا من
السيف1. وقال الخطابي: "وقد يحتمل أن يكون خالد إنما لم يكفَّ عن قتالهم بهذا القول من قِبَلِ أنه ظنَّ أنهم عدلوا عن اسم الإسلام إليه أنفة من الاستسلام والانقياد فلم ير ذلك القول منهم إقرارا منهم بالدين"2. كما أنني أعتقد –والله أعلم- أنه قد جرى اجتهاده بالنسبة للأسرى قياسا على أسرى بدر، وما جرى حولهم من عتاب الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، فربما أنه ظنَّ أنهم أسرى كفّار، لا بدَّ من أن يثخن فيهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم من المشركين. فكل هذه الاحتمالات وما يصاحبها من أمور دقيقة وملابسات شائكة، تجعل أي قائد في مثل موقف خالد رضي الله عنه في موضع شكٍّ في مثل من هم في موقف بني جذيمة، فجرى اجتهاده الذي لامه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المسألة تتعلق بأرواح أناس بَدَرَ منهم شبهة تدرأ القتل عنهم "وإنما نقم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد موضع العجلة، وترك التثبت في أمرهم أن يتبين المراد من قولهم: صبأنا"3. وأخيرا لو كان الأمير سيئًا للدرجة التي وردت في بعض الروايات التي لا تصلح للاحتجاج بها لضعفها الشديد ونكارتها، والتي استغلها بعض الحاقدين على الإسلام ورجالاته الأفذاذ، مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه، سيف الله المسلول، الذي دوّخ الكفرة والمشركين بانتصاراته الباهرة –لحدث بعد هذه الحاديثة أمران مهمان جدا لا بدّ من حدوثهما في مثل هذه المسائل الخطيرة وهما: أولا: نزول آيات قرآنية تشجب تصرف خالد وتعاتبه عليه كما حدث
في سرية أضم وقصة محلم بن جثامة مع عامر بن الأضبط1. ثانيًا: محاسبة خالد ومعاقبته على فعلته أو على أقل تقدير عزله من قيادة الجيش والسرايا بعد تلك الحادثة، وذلك أمر لم يحدث مطلقا. وحتى يكتمل حديثنا عن هذه المسألة نعرج على رأي الفقهاء فيها، قال ابن بطال: لا خلاف أن الحاكم إذا قضى بجور أو بخلاف قول أهل العلم أنه مردود، لكن ينظر، فإن كان على وجه الاجتهاد فإن الإثم ساقط، وأما لضمان فيلزم عند الأكثر مع الاختلاف هل يلزم ذلك عاقله الحاكم أو بيت المال؟ وقال الثوري وأهل الرأي وأحمد وإسحاق: ما كان في قتل أو جراح ففي بيت المال. وقال الأوزاعي والشافعي وصاحبا أبا حنيفة: على العاقلة. وقال ابن الماجشون: لا يلزم ضمان2. قال ابن حجر: والذي يظهر أن التبرؤ من الفعل لا يستلزم إثم فاعله، ولا إلزامه الغرامة، فإن إثم المخطىء مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود3. وقال الخطابي: الحكمة في تبرئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهدا أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله4. وفي نهاية المطاف نقول: إن خالد بن الوليد رضي الله عنه قد ائتمنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم على دماء المسلمين وأعراضهم، ومن بعده صاحبُه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلا يمكن أن يقتل أحدًا من الناس دون حقٍّ إلاَّ متأولاً. قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما بلغه قتل خالد لمالك بن نويرة1.
سرايا ذات مهمات خاصة
سرايا ذات مهمات خاصة مقدمه ... مقدمة دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم على إرسال سراياه وبعوثه بانتظام وفق خطط مدروسة، وكانت هذه السرايا والبعوث تؤدي مهماتها وتنجز أعمالها الموكلة إليها، فمن سرايا استطلاع إلى سرايا قتالية وبعوث اعتراضية وأخرى تعرُّضية. ولكن كانت هناك بعض السرايا ترسَل لتؤدي مهمات محددة قد لا يكون فيها استطلاع ولا تعرُّض واعتراض، مثل سرية أبي قتادة بن ربعي رضي الله عنه إلى أضم التي بعثها إلى تلك المنطقة لتحويل أنظار قريش وحلفائها عن نية رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى مكة حيث يظن ظان أنه يريد مهاجمة تلك المنطقة. وهذه العملية تسمى اليوم بالعمليات الاستعراضية التضليلية، وذلك يعطينا دلالة قوية على ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وفطنته العسكرية، فهو دائم الابتكار، حاضر البديهة في مواجهة أعدائه، لا يدع مجالا ولا أسلوبا يستطيع التغلب فيه عليهم ومباغتتهم إلاَّ عمل به، وكان دائما يردد قولته المشهورة: "الحرب خدعة"1. ولكن خُدَعَه وأساليبه العسكرية لا تخرج عن نطاق الحرب الفروسية المشرفة، لا كما يفعل غالبية قادة الجيوش في العالم قديما وحديثا، فكان دائما ما يوصي جنوده بالضبط العسكري التام، وعدم خرق الأعراف والتقليد الإنسانية الخيِّرة، فكان يشدد على عدم الاعتناء على الآمنين والضعفاء من الشيوخ والنساء والأطفال، بل كان يغضب عندما يسمع أو يرى بعض التجاوزات غير الخارقة من بعض جنوده وقواده، ويحاسبهم على ذلك، لأن
هدفه من الحرب كان ساميا للغاية، غايته إعلاء كلمة الله عز وجل، ونشر العقيدة الإسلامية، ولأجل ذلك كان النصر والتأييد دائما حليفه وحليف جيوشه وسراياه، والمدد من الله ينزل عليهم دائما وبأشكال وصور مختلفة، تارة بالملائكة كما في بدر وحنين، وأخرى بالسيل ينجيهم من أعدائهم. فهذا غالب بن عبد الله الليثي يغير على جموع الأعراب الكديد في سرية تأديبية فيقتل منهم ويسلب ويسوق ماشيتهم، فلا يستطيع بنو الملوح اللحاق به وبأصحابه على الرغم من قصر المسافة بينهم، لأن المدد جاءهم من الله. ولكن في هذه المرة على صورة سيل عارم يضرب جنبات وادي قديد من غير مطر ولا رعد ولا برق، فينظرون إليهم بحنق شديد وهم يسوقون نَعمهم لا يستطيعون إدراكهم، لأن بينهم جنديا من جنود الله أرسله مددًا وعزًّا لأصحاب السرية ومزيدًا من الذل والهوان والغيظ للمشركين. والفرق شاسع بين الفريقين لأن {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} 1.
سرية عبد الله بن غالب الليثي إلى بني الملوح
سرية عبد الله بن غالب الليثي إلى بني الملوح ... سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد أَبَى أبو القاسم أَنْ تعرّ بي ... في خطل نباته مغلولب صُفْرٌ أعالِيه كَلَوْنِ المُذَهَّبِ ... الطبراني، المعجم (2/179) . (تأديبية)
نتيجة للتحركات المشبوهة والمعادية من الأعراب المحيطين بالمدينة، فضلا عن قطعهم الطريق أمام الدعاة المسلمين، فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحملة واسعة ومكثفة لتأديب هؤلاء الأعراب، قاد خلالها عدة غزوات، وبعث أصحابه في سرايا تعرضيَّة1 تأدبية، كان منها سرية بقيادة غالب بن عبد الله الليثي2، وقوة بضعة عشر رجلا3، إلى بني الملوح4. القاطنين في منطقة الكديد الواقعة بين عسفان وقديد5.
وكانت مهمتها بناء على الأوامر الصادرة لهم من القيادة العليا هي مباغتة بني الملوح بشنِّ غارة مفاجئة ومركَّزة عليهم1. خرجت السرية ميممة شطر الهدف2 وفي منطقة قديد3 أثناء مسيرهم الاقترابي التقوا برجل من قبيلة ليث يدعى الحارث بن البرصاء الليثي، فألقوا القبض عليه فقال محتجًّا: "إنما جئت أريد الإسلام، ما خرجت إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"4. فرد عليه القائد: "إن كنت إنما جئت مسلمًا فلن يضرك رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك فسنوثق منك"5.
ثم أمر بشد وثاقه، ودفع به إلى أحد أفراد السرية1، وقال له: "امكث معه حتى نمرَّ عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه"2. ثم انطلقوا في طريقهم حتى وصلوا منطقة الكديد عند غروب الشمس، فكمنوا في الوادي، ثم أرسلوا جندب بن مكيث الجهني رضي الله عنه3 أحد أفراد السرية للاستطلاع، واستكشاف أحوال القوم. يقول جندب رضي الله عنه: "فخرجت حتى آتي تلاًّ مشرفا على الحاضر4، فأسندت فيه، فعلوت على رأسه، فنظرت إلى الحاضر، فوالله إني لمنبطح على التل إذ خرج رجل منهم من خبائه، فقال لامرأته: إني لأرى على التل سوادًا ما رأيته في أول يومي، فانظري إلى أوعيتك هل تفقدين منها شيئا، لا تكون الكلاب جرَّت بعضها، قال: فنظر، فقلت: لا والله ما أفقد شيئا، قال: فناوليني قوسي وسهمين، فناولته، قال: فأرسل سهما، فوالله ما أخطأ جنبي5 فأنزعه فأضعه، وثبتُّ مكاني، قال: ثم أرسل الآخر، فوضعه
في منكبي، فأنزعه فأضعه، وثبتُّ مكاني، فقال لامرأته: لو كان ربيئة1 لقوم لقد تحرك، لقد خالطه سهماي لا أبا لك، إذا أصبحت فابتغيهما، فخذيهما، لا يمضغهما عليَّ الكلاب. قال ثم دخل"2. ويرجع جندب إلى أصحابه الذين وضعوا خطة الهجوم بناء على ملحوظاته التي ضمَّنها تقريره عن مهمته التي أثبت من خلالها أن جند الإسلام الأوائل كانوا على قدر كبير من الشجاعة والقوة ورباطة الجأش، وقوة الاحتمال3. واتفقوا على شعار (أمت، أمت) كلمة تعارف بينهم4. وفي وجه السَّحر وبعد أن اطمأن بنو الملوح وناموا، شنُّوا عليهم هجوما فجريًّا خاطفًا ومباغتًا أفقدهم توازنهم مما أمكنهم من السيطرة على المدافعين منهم بسهولة، حيث قتلوا بعضهم، ثم استاقوا ماشيتهم وتوجهوا قافلين بسرعة، حيث مروا بابن البرصاء وصاحبه فاحتملاهما معهم، ولكن الليثيين ما لبثوا أن نظموا صفوفهم بسرعة بعد زوال آثار الهجوم المباغت عنهم، وتبعوهم بقوة تعقُّبية كبيرة، حتى إذا ما أدركوهم في منطقة قديد ليس بينهم إلا الوادي فقط يقطعونه ليطبقوا عليهم بما لا قبل لهم به إذ بالعناية الإلهية تتدخل في آخر لحظة لإنقاذهم من الخطر المحدق بهم. يقول جندب رضي الله عنه: "فأرسل الله الوادي بالسيل من حيث شاء تبارك وتعالى من غير سحابة نراها، ولا مطر، فجاء بشيء ليس لأحد به قوة، ولا يقدر أن يجاوزه، فوقفوا ينظرون إلينا، وإنا لنسوق نعمهم، ما يستطيع منهم رجل أن يجيز إلينا، ونحن نحدوها5 سراعًا، حتى فُتناهم، فلم يقدروا
على طلبنا"12. لقد أثبتت هذه السرية القوة، والجلد، ورباطة الجأش، والشجاعة النادرة، والتحكم في الأعصاب، والأحاسيس، التي كان يتحلى بها جند الحق والإيمان، وطلائع الجهاد الإسلامي، إن الروعة لم تكن تتجلى في قوة وجلد ذلك الجندي الشجاع المؤمن جندب بن مكيث رضي الله عنه فحسب، بل في رباطة الجأش العظيمة التي تميَّز بها وهو يواجه سهمين قويين من رام قنَّاص ماهر، استقرا في جسمه وخالطاه، ومع ذلك ثبت كالطود3 ولم يتزعزع، وكأنه قطعة من التل الذي كان منبطحا عليه، حتى إن الأعرابي تراجع عن شكه واثقًا أن ما رماه لم يكن كائنًا حيًّا، فلو كان كذلك لتحرك من مكانه على الأقل كما ذكر لزوجته. ولم يعلم ذلك الأعرابي أن الإيمان إذا تمكن من قلب الإنسان، فإنه يسمو به في روحانية عجيبة، وشفافية نادرة تسيطران عليه فتملكان عليه حسَّه وأحاسيسه. إن قوة الإيمان تحرك في الجسم البشري قواه وطاقاته الكامنة، وتنفق فيه قوة عجيبة من التحكم والسيطرة والتحمل. وذلك ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأشداء على الكفر والكافرين، وهذه القصة إحدى الشواهد القوية على ذلك.
وقد تحققت في السرية بعض الكرامات التي يجعلها الله عز وجل لأوليائه الصالحين عندما يكونون في حاجة ماسة للعون الإلهي، فيمدهم بهذه الكرامات لنصرهم على أعدائهم وحمايتهم ممن يريد الشر بهم، وهذا الأمر ليس قاعدة، وإنما يظهرها الله في بعض الأحيان لتكون عبرة وعظة وتثبيتا للمؤمنين إلى جانب مهمتها الأساسية. إن هذه المكرمة مع الفارق الكبير تشبه المعجزة التي أجراها الله عز وجل على يد نبيه موسى عليه السلام، قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ِإنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. وقد تكررت مثل هذه الكرامات لبعض الصحابة مثل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه، الذي جاز بجنده مياه الخليج العربي إلى جزيرة دارين، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، الذي جاز هو وجيشه نهر دجلة إلى المدائن ففتحوها بإذن الله، إن هذه الكرامات هي من جنود الجبار عز وجل، يرسلها في الوقت المناسب لتكون نصرًا وتثبيتًا للمؤمنين، وخذلانًا للكافرين وما يعلم جنود ربك إلا هو.
سرية أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم
سرية أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم ... سرية أبي قتادة إلى بطن أضم (تحويلية، تمويهية، استعراضية1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء/94]
في السنة الثامنة الهجرية1 وقبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة2، قام بعملية استعراضية مرسومة القصد منها تحويل انتباه قريش وحلفائها عن خطته لغزوها3. حيث أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم (سرية تحويلية) "إلى أضم وادٍ من أودية أشجع"4 يشير الواقدي إلى أنها كانت بقوة ثمانية أفراد منهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي5 ومحلَّم بن جثَّامة الليثي6، وكانوا تحت قيادة أبي
قتادة بن ربعي رضي الله عنه1. فخرجوا حتى إذا توسطوا وادي أضم، مرَّ بهم رجل أشجعي يقال له عامر بن الأضبط2 على جمل له ومعه زاده ومتاعه، فسلم عليهم بتحية الإسلام فأمسك عنه القوم. "وحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره، ومتاعه"3 ويذكر الواقدي4: أنهم لم يلقوا جمعًا، فانصرفوا راجعين حتى انتهوا إلى ذي خشب5، فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة، فيمموا شطر مكة حتى لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بالسقيا6. وتلاحقت أحداث الفتح، ثم غزوة حنين، وبينما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الظهر، إذ "عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها، وهو بحنين، فقام إليه الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، يختصمان في عامر بن أضبط الأشجعي، عيينة يطلب بدم عامر، وهو يومئذ رئيس غطفان، والأقرع بن حابس يدفع عن محلم بن جثامة لمكانه من خندف، فتداولا
الخصومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"1 "ثم ارتفعت الأصوات، وكثرت الخصومة واللغط"2، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم عامر بن الأضبط الأشجعي: هل لكم أن تأخذوا منا خمسين بعيرا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة؟ فقال عيينة بن بدر: والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحرقة3 مثل ما أذاق نسائي". "فقام رجل من بني ليث يقال له ابن مكيتل، وهو قصد من الرجال4، فقال: يا رسول الله، ما أجد لهذا القتيل مثلاً في غرة الإسلام5، إلا كغنم وردت فرميت أولادها فنفرت أخراها، اسنن اليوم، وغيِّر غدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيرًا الآن، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة؟ فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية، قال قوم محلم: ائتوا به حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجاء رجل طوال ضرب اللحم6 في حلة قد تهيأ فيها للقتل"7، "فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان، فقال: يا رسول الله إني قد فعلت الذي بلغك وإني أتوب إلى الله، فاستغفر لي يا رسول الله. فقال رسول الله: أقتلته بسلاحك في غرة الإسلام: اللهم لا تغفر لمحلم. بصوت عال" 8 "فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه"9. قال راوي الحديث: "فأما نحن بيننا فنقول: قد استغفر له، ولكنه أظهر
ما أظهر ليدع الناس بعضهم من بعض"1 2 وقد ذكر أصحاب المغازي أنه نزل فيه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا..} 3 4.
كما أخرج ابن إسحاق بسند فيه مجهول1، عن الحسن قال: "فو الله ما مكث محلم بن جثامة إلا سبعا حتى مات فلفظته –والذي نفس الحسن بيده- الأرض. ثم عاد والله فلفظته، فلما غل قومه عمدوا إلى صدَّين2 فسطحوه3 بينهما، ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه، فقال: والله إن الأرض لتطابق على من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم فيما أراكم منه"4.
الفصل الثاني: سرايا تحطيم الأوثان
الفصل الثاني: سرايا تحطيم الأوثان مقدمه ... الفصل الثاني: سرايا تحطيم الأوثان ويحتوي على: 1- مقدمة. 2- بعث خالد بن الوليد إلى العزَّى. 3- سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة. 4- سر ية عمرو بن العاص إلى سواع. 5- بعث خالد بن الوليد وأبي سفيان بن حرب إلى اللات.
مقدمة بعد أن كان العالم غارقًا في سبات عميق يتخبط في ليل حالك الظلام، وهو يتمرغ في أدران الجاهلية والشرك يبحث عمن يخرجه من الظلمات إلى النور يبعث الله عز وجل الغيث بعدما قنطوا، فكانت الرسالة المحمدية الحنيفية التي كان عليها فطرة البشر منذ خُلقوا وأُخذ عليهم العهد والميثاق بذلك. لكنهم نقضوا العهد وخانوا الميثاق بتحريض من الشياطين أعدائِهم. وصدق الله القائل في حديث قدسي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" 1. فهؤلاء قوم نوح يُعرضون عن عبادة الله عز وجل ويعبدون ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا وهم رجال صالحون كانوا فيهم، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عبدت2. ويواصل الشيطان نشاطه في الأرض أينما وجد له أرضًا خصبة ولقي له أتباعا وجنودًا من الإنس والجن، فلما حدث الطوفان وبعد سنين طويلة انتقلت هذه الأصنام بطريقة ما إلى العرب3.
فصارت ودٌّ لكلب بدومة الجندل "وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع"1. أما بقية القبائل العربية وخاصة القريبة من مكة عاصمة الشرك والوثنية قي الجاهلية فقد "اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحُجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده"2. وكان من أشهر هذه الطواغيت بل وأعظمها في نظر العرب –بعد الكعبة- الثلاثة التي ذكرها الله عز وجل في سورة النجم، قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 3. "ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئا من الأصنام إعظامهم العزى ثم اللات ثم مناة"4. وقد بلغ من تعظيمهم إياها أنهم كانوا إذا طافوا بالكعبة يقولون: "واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى"5. حتى إذا تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية السابقة من سورة النجم إلى آخر السورة ثم سجد سجد معه المشركون ظنًّا منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير موقفه من آلهتهم المزعومة والتي كان موقفه منها سابقا متدرجًا من الإنكار القلبي قبل
بعثته إلى الإنكار القولي بعد البعثة والذي استمر طيلة الفترة المكية. ولكن بعد أن استعلى الإسلام باندحار الشرك في الجزيرة العربية تدريجيًّا حتى سقوط مكة عاصمة الوثنية في أيدي المسلمين جاء دور الإنكار الفعلي نحو تلك الأوثان والتي غيَّرها وأزالها من حول الكعبة بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم. ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره"1. ثم بث سراياه وبعوثه لإزالة كل رموز الشرك والوثنية من أرض الجزيرة العربية فكان منها بعثان بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى كلِّ من العزى، ثم اللات، وسرية إلى مناة الثالثة الأخرى بقيادة سعد بن زيد الأشهلي، وأخرى لتحطيم سواع بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وغيرها من البعوث والسرايا التي انطلقت لتطهير أرض الجزيرة من الأوثان، قال تعالى {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 2.
بعث خالد بن الوليد إلى العزى
بعث خالد بن الوليد إلى العزى ... بعث خالد بن الوليد لهدم وتحطيم العزى (يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك)
العُزَّى بضم المهملة وفتح الزاي، اشتقوها من اسم الله تعالى العزيز سبحانه وتعالى عما يشركون، قالوا: العزى تأنيث الأعز، مثل الكبرى تأنيث الأكبر، والأعز بمعنى العزيز، والعزى بمعنى العزيزة1. "وكانت العرب وقريش تسمي بها عبد العزى"2. وقد اختُلف في صفتها ولمن كانت من العرب، فقيل: كانت شجرة بنخلة3 لغطفان يعبدونها4، وقيل: بل كانت بيتًا ببطن نخلة5. قال ابن دريد: كانت بيتًا بالطائف6. وأخرج أبو نعيم، والبيهقي عن أبي الطفيل، وابن الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها كانت بيتا على ثلاث سمرات7. ولكن سعيد بن جبير يقول: العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه8. ويروي الطبري نقلا عن الواقدي، قال: "هو صنم لبني شيبان، بطن من سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بن عبد العزى يقولون: هذا صنمنا"9. ولكن ابن إسحاق، وابن سعد والكلبي يقولون: كانت سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم، وإن آخر مَن سدنتها منهم دبية بن حرمي السُّلمي10.
قال خليفة: كانت بيتا عظيما لقريش، وكنانة، ومضر كلها1. وكان أول من وضعه من العرب كما تذكر الروايات هو ظالم بن أسعد، أو سعد بن ظالم الغطفاني2. ويذكر ابن الكلبي: أنها كانت لها مكانة عظيمة عند العرب عامة وقريش خاصة، حيث كانوا يزورونها ويهدون إليها ويتقربون عندها بالذبائح، وقد بلغ من تعظيمهم لها أن قريشا حمت لها شعبًا من وادي حراض يقال له سقام يضاهون به حرم الكعبة، كما جعلوا لها منحرًّا خاصًّا ينحرون فيه هداياها يقال له: الغبغب3. فلم تزل العزى كذلك حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم فعابها وغيرها من الأصنام ونهاهم عن عبادتها، فاشتد ذلك على قريش فأخذت تدافع عن آلهتها بكل ما تملك من قوة، وأعلنت الحرب على المسلمين من أجلها، بل إن أبا سفيان بن حرب قال يوم أحد للمسلمين مفتخرًا بها: لنا العزى ولا عزى لكم، فرد عليه المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم. ويوم جاء الحق وزهق الباطل –يوم الفتح الأعظم- يومها تساقطت تلك الأصنام المحيطة بالكعبة المشرفة على يد نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم ثم بث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وبعوثه لتحطيم بقية معاقل الشرك والوثنية منها سرية قوتها ثلاثون فارسًا كما يذكر الواقدي4 بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، توجهت إلى الطاغوت الأعظم منزلة ومكانة عند قريش وسائر العرب العزى، وقد اتفق أهل المغازي على أنها كانت بعد الفتح ولكنهم اختلفوا في تحديد تاريخها
بدقة، حيث ذكرها ابن إسحاق ومن تابعه بعد سرية خالد إلى بني جذيمة1. وذكرها الواقدي وابن سعد قبلها وحدداها بخمس ليال بقين من شهر رمضان2. وذكر مغلطاي أن ذكر ابن إسحاق لها بعد سرية بني جذيمة فيه نظر من حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد وجد على خالد في أمر بني جذيمة، ولا يتجه إرساله بعد ذلك في بعث3. قال الشامي: إن صح ما ذكره ابن إسحاق من كون سرية خالد لهدم العزى بعد سرية بني جذيمة فوجهه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي عنه وعذره في اجتهاده4. انطلق خالد بن الوليد رضي الله عنه وأصحابه لإزالة ذلك الطاغوت من الوجود نهائيًّا، وعندما وصلت السرية إلى العزى قام إليها خالد "فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها"5 وهو يردد: "كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك"6. ثم رجع خالد وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم تقريره بإنجاز المهمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استدرك على قائد السرية كما يذكر الواقدي وكاتبه في روايتهما: "هل رأيت شيئًا؟، قال: لا"7 فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئًا"8.
فرجع خالد وهو متغيظ حنق على عدم إنهاء مهمته على الوجه المطلوب، فلما وصل إليها ونظرت السدنة إليه عرفوا أنه جاء هذه المرة ليكمل ما فاته في المرة السابقة فهربوا إلى الجبل وهو يصيحون "يا عزى خبليه، يا عزى عوريه. فأتاه خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها"1. فقدم إليها خالد رضي الله عنه بشجاعته الإيمانية المعروفة، وضربها بالسيف حتى قتلها" ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: "تلك هي العزى"2 3. وقد يبدو هذا الخبر غريبا بعض الشيء وقد حاول الزرقاني تفسيرة، فقال:
أمرتهم بتجديدها أو تخبرهم أنها لو قطعت شجراتها أو كسرت حجارتها لم تزل عظمتها، وفي خروجها لخالد ثانية آية أخرى؛ لأنها لم تكن مشاهدة1.
سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة
سرية سعد بن زيد الأشهلي1 إلى مناة {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم/20]
قال الله تعالى {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1. مناة بفتح الميم والنون الخفيفة2 اسم صنم كانت على ساحل البحر الأحمر مما يلي قديدا3 في منطقة تعرف بالمشلل4. وكانت للأوس والخزرج وغسان ومن دان بدينهم، يعبدونها ويعظمونها في الجاهلية ويهلون منها للحج، وقد بلغ من تعظيمهم إياهم كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة تحرجًا وتعظيمًا لها حيث كان "ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة"5. ولم تزل هذه عادتهم حتى أسلموا " فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا
ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية"1. قال الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 2. وقد كان أول من نصبها لهم مؤسس الشرك في الجزيرة العربية ومبتدع الأوثان محرف الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام الخزاعي عمرو بن لحي3. ولما كان الفتح الأعظم في السنة الثامنة من الهجرة سنة تحطيم الأوثان وبالتحديد في الرابع والعشرين من شهر رمضان4 بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجلا من أهلها سابقا الذين كانوا يعظمونها في الجاهلية وهو سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه على رأس سرية قوتها عشرون فارسًا5 وكان واجب السرية هو إزالة مناة من الوجود نهائيًّا.
انطلق زيد ومن معه في مسير اقترابي سريع لإنجاز المهمة المحددة حتى وصل إليها فقابله سادنها متسائلاً: ما تريد قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها"1. فصاح بها السادن صيحة الواثق: "مناة دونك بعض عصاتك"2 ولكن صيحته ذهبت أدراج الرياح، فلم يأبه سعد رضي الله عنه بكل ذلك ويضربها ضربة إيمانية قاتلة قضت عليها، ثم يقبل على الصنم مع أصحابه "فهدموه ولم يجدوا في خزانتها شيئا، وانصرف راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم3 4. وتزول مناة من الوجود كما زالت من قبل من القلوب، ويطوف الأنصار بين الصفا والمروة من غير جناح ولا حرج. ومن الأمور العجيبة المضحكة ما ذكره الذهبي عن بعض المخرفين من مشركي الهند أنهم كانوا يعتقدون في صنمهم المسمى (سومنات) أنه هو مناة "وأنه تحوَّل بنفسه في أيام النبوة من ساحل جدة، وحصل بهذا المكان ليُقصد ويُحج معارضة للكعبة"5 "وكانوا يقولون: أنه يرزق ويُحيى ويُميت
ويسمع ويعي، يحجون إليه ويتحفونه بالنفائس ويتغالون فيه كثيرا، فتجمع عند هذا الصنم مالّ يتجاوز الوصف، وكانوا يغسلونه كل يوم بماء وعسل ولبن وينقلون إليه الماء من نهر حيل مسيرة شهر، وثلاثمائة يحلقون رؤوس حجاجه ولحاهم، وثلاثمائة ويغنون"1. وسومنات هذا كان في معبد شهير في الهند في مدينة كُجرات على شاطىء بحر العرب، وكان المعبد مبنيًّا على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص والذهب المرصعة بالأحجار الكريمة. أما سومنات الصنم نفسه فكان من حجر طوله خمسة أذرع، ثلاثة مدورة ظاهرة واثنتان في البناء وكان في حجرة مظلمة تضيئها قناديل الجوهر الفائق، كما كان عنده سلسلة ذهبية وزنها مائتا منِّ، وعنده خزانه فيها عدة الأصنام الذهبية والفضية المرصعة بالجواهر، وعلى رأس الصنم تاج لا يُقوَّم يندهش منه الناظر، وله من الوقف ما يزيد على عشرة آلاف قرية. وقد أصبحت كل تلك النفائس العظيمة غنيمة للمسلمين من جند البطل المسلم فاتح الهند السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي الذي سار بجيش ضخم قوامه ثلاثون ألف فارس غير المتطوعين والرجالة، فقطعوا القفار والمفاوز وقاسوا المشاق حتى وصلوا إلى هذا الصنم وحطموه بعد أن هزموا المدافعين عنه شر هزيمة وأحرقوا الصنم حتى صار كلسًا وألقيت النيران في المعبد2، وكانت الهنادك يعتقدون أن سومنات مانعهم من المسلمين وأنه لا يلبث أن ينزل بهم غضبه الشديد، ولكنهم ما لبثوا أن تحسروا وسُقط في أيديهم وهم يرونه صريعًا مَهينًا، وكان كهنته قد توسلوا إلى السلطان ألا يمس معبودهم ويعطونه ما شاء من مال، ولكنه أبى فإنه لم يخرج لطلب المال وإنما خرج لإعلاء كلمة الله وهدم هذه الأصنام التي تعبد من دون الله"3.
سرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع
سرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع ... بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع1 {وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} [نوح/23]
قال الله تعالى مخبرًا عن قوم نوح {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1. وسواع المذكور ضمن هذه الأصنام: هو اسم صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار بعد ذلك لقبيلة هذيل المضرية2. روى البخاري تعليقا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما وَدٌّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع"3. ويوضح لنا ابن الكلبي كيف صار سواع صنمُ قوم نوح صنمًا لهذيل بعد كل تلك السنين الطويلة، فيذكر أن مبتدع الأوثان للعرب عمرو بن لحي الخزاعي كان له قرين من الجن، فأتاه يوما وأخبره أن أصنام قوم نوح المشهورة قد دفعها الطوفان إلى ساحل جدة4 وطمرتها الرمال، وأمره أن يستخرجها ويخرج بها إلى تهامة في موسم الحج ويدعو العرب إلى عبادتها5 ففعل وكان ممن أجاب دعوته قبيلة مضر، فدفع إلى رجل من هذيل سواعًا حيث نصبه لهم في منطقة يقال لها رهاط، وكانت سدنته منهم بني لحيان6 وكان سواع هذا
حجرًا على صورة امرأة كما ذكر الواقدي1. وظل هذا الوثن منصوبا تعبده هذيل وتعظمه حتى إنهم كانوا يحجون إليه2 حتى فُتحت مكة ودخلت هذيل فيمن دخل في دين الله أفواجا. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه لتحطيم سواع. ويحدثنا قائد السرية عن مهمته، فيقول: "فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟، قلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِمَ؟، قال: تُمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك وهل يسمع أو يبصر، قال: فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا شيئًا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟. قال: أسلمت لله"3. وهكذا تم القضاء على سواع الذي لم يجد من يدافع عنه بقوله: "ولا تذرن سواعًا".
بعث خالد بن الوليد،وأبي سفيان بن حرب إلى اللات
بعث خالد بن الوليد،وأبي سفيان بن حرب إلى اللات ... بعث أبي سفيان بن حرب وخالد بن الوليد لهدم وتحطيم اللات {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ..} [النجم/19]
قال الله تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ} 1 قرأها الجمهور بتخفيف التاء2 وقرأها ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم، وتابعهما بعض التابعين3 بتشديد التاء، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان اللات رجلا4 يلت السويق الحاج"5. وقد اختلفوا في مكانه بالتحديد فقيل: بالطائف، وقيل: بنخلة، وقيل: بعكاظ، والراجح الأول6. أما صفته فقد ذكر ابن إسحاق وغيره: أنه عبارة عن صخرة بيضاء مربعة منقوشة، عليها بيت له أستار وكسوة، وحوله فناء، وله سدنة
وحجبة1، وكان معظما عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون به على من عداهم من العرب، وكانوا يسيرون إلى ذلك البيت ويحرمون واديه يضاهئون به الكعبة2. ويذكر ابن الكلبي: أن قريشا وجميع العرب كانوا يعظمونها أيضا وبها كانت العرب تسمى زيد اللات، وتيم اللات3وهكذا ظلت اللات طاغوتا من طواغيت العرب المعظمة حتى ظهر الحق، وانتشر الإسلام ودخل العرب في دين الله أفواجا، ومنهم ثقيف التي أرسلت وفدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون الصلح، والقضية حين رأوا أن قد فتحت مكة، وأسلمت عامة العرب"4.
كان وفد ثقيف وهم يحاورون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون في قرارة أنفسهم أنه لا بقاء لطاغوتهم اللات بعد هدم العزى، وتكسير هبل وإساف ونائلة، بل كانوا يتوقعون أن يكلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمها، لذلك حاولوا ي ائسين مساومة رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبقاء الربَّة –كما يسمونها- مدة من الزمن علهم يمهدون لذلك الأمر الخطير الذي كان في اعتقادهم فيه جرح لمشاعر ثقيف التي تعلقت بحب الرَّبة وتعظيمها كل هذه السنين، ومن ثم يحاولون إقناع ثقيف بقبوله كأمر واقع لا بد منه، وإن كانوا لحداثة عهدهم بالإسلام يخافون من انتقام الرَّبة لمجرد علمها بنيتهم في هدمها. "قالوا له: أرأيت الرَّبة، ماذا تصنع فيها؟، قال: اهدموها، قالوا: هيهات، لو تعلم الرَّبة أنك تريد هدمها قتلت أهلينا"1. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض مساومتهم بإصرار موضحًا لهم بالحسنى ربَّتهم الجاهلية اعتقاد زائف لا يسمح الإسلام باستمراره بعد الآن، وأن ما يخافون انتقامه وغضبه إنما هو حجر جامد لا يضر ولا ينفع، بل لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الأذى. وبعد محاورات وتداول للرأي فيما بينهم اقتنع الوفد، وأذعنوا لتعاليم الإسلام بل قاموا بأداء بعض تكاليفه والتي كانوا يساومون رسول الله صلى الله عليه وسلم على تركها2. وكان ذلك مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيتصدقون، ويجاهدون إذا أسلموا" 3.
ولكنهم مع ذلك تحرجوا من تولي هدمها بأنفسهم وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يهدمها بعد رحيلهم1. وفعلا جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، ومشاركة المغيرة بن شعبة2 رضي الله عنه، وأبي سفيان بن حرب رضي الله عنه3. وبعثهم في أثر الوفد4. وبينما نجحت مساعي الوفد في إقناع ثقيف بالدخول في الإسلام وأخبروهم بمصير اللات، وإذا بالسرية قد وصلت إلى الطائف "ودخل المغيرة بن شعبة في بضعة عشر رجلا يهدمون الربة"5، كما يذكر الواقدي،وذلك تحت حراسة مشددة من قومه بني معتب الذين قاموا دونه "خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة"6. وخرجت ثقيف عن بكرة أبيها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى الأبكار من خدورهن، وكانوا لقرب عهدهم بالشرك
"لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة ويظنون أنها ممتنعة"1. وكان المغيرة رضي الله عنه رجلا فيه دعابة وظرف فقال لأصحابه "والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين2 ثم سقط يركض، فارتج الطائف بصيحة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة قد قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطا"3وقالوا مخاطبين أفراد السرية: "من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها فوالله لا تستطاع أبدا، فوثب المغيرة بن شعبة، وقال:قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع4 حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه"5. لقد كان المغيرة رضي الله عنه محقًّا في قوله ذلك، فالإنسان العاقل اللبيب لا يتصور أن يكون ربه حجرا أصم لا يعقل أو يسمع، ولكنها سخافة الجاهلية وأدرانها التي تذهب بالعقول اللبيبة، فالحمد لله على نعمة الإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. أكمل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ومن معه هدم الطاغية حتى سووها بالأرض، وكان سادنها واقفا على أحر من الجمر ينتظر نقمة الربة وغضبها على هؤلاء العصاة، فما أن وصلوا إلى أساسها حتى صاح قائلا كما يذكر الواقدي "سترون إذا انتهى إلى أساسها يغضب الأساس غضبًا يخسف بهم"6.
فلما سمع المغيرة رضي الله عنه السخف قال لقائد السرية: "دعني أحفر أساسها فحفره حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليتها، وأخذوا ثيابها، فبُهتت ثقيف"1. وأدركت الواقع الذي كانت تحجبه غشاوة على أعينهم. تقول عجوز منهم وهي تتأوه حزنًا وحسرة "أسلمها الرضاع وتركوا المصاع"2. وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمدوا الله عز وجل على نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه"3. وتم القضاء على ثاني أكبر طواغيت الشرك في الجزيرة العربية، وحل محلها بيت من بيوت الله عز وجل يوحد فيه الربُّ الذي لا إله إلا هو، وذلك بتوجيه كريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبي العاص4 رضي الله عنه عامله على الطائف حيث أمره "بأن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم"5 6 ولله الحمد.
هذا وقد أخرج البيهقي بسند ضعيف1 عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى من اللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل دعوهم إلى الإسلام؟، فقالوا: لا، قال: خلوا سبيلهم حتى يبلغوا مأمنهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتين الآيتين {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 2، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} 3 4. وفي القصة وما قبلها من الفقه: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة ألبتة. وهذا حكم المَشَاهِد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تُعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. أو أعظم شركا عندها وبها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة
بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم فصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين1. ومنها أيضا جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام، بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها كلها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح الإسلام، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها، وقضى منها دين عروة والأسود. وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا، وله أن يقطعها للمقاتلة، أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين. وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها، فالوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله، فلا يصح الوقف على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له، ويحج إليه، ويعبد من دون الله، ويتخذ وثنا من دونه، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومن اتبع سبيلهم2.
الخاتمة
الخاتمة تناولت هذه الرسالة (السرايا والبعوث النبوية حول مكة والمدينة) وهي دراسة نقدية تحليلية، وتقع في: مقدمة، وتمهيد، وبابين يقع تحت كل باب منهما فصلان. تحدثت في كل فصل عن نوع من أنواع السرايا والبعوث النبوية. أما المقدمة: فقد أشرت فيها إلى فضل وأهمية علم التاريخ، وضرورة نقد المرويات التاريخية وفق منهج المحدثين، مستعينا ببعض الاقتباسات لبعض كبار المؤرخين المسلمين كابن خلدون، وبعض المؤرخين المعاصرين مثل الأستاذ الدكتور أكرم العمري، والأستاذ أحمد عادل كمال. وأما التمهيد: فقد ذكرت فيه الخلاف الشديد بين أهل المغازي في عدد السرايا والبعوث النبوية، وسبب ذلك الخلاف، كما سقت الخلاف في معنى السرية والبعث، وقوة السرية، ثم تطرقت إلى المهام التي أنيطت بها تلك السرايا والبعوث، ثم ذكرت الوصايا والتعاليم النبوية التي كانت تزود بها تلك السرايا والبعوث من قبل القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم. وفي الباب الأول، وفي فصل (السرايا الاعتراضية) : رجحت رواية الغالبية من أئمة المغازي على أن أول سرية كانت سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. كما أخذت بقول الواقدي في أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأبواء إنما كان لاعتراض قافلة تجارية لقريش، ومن ثمَّ أرسل عبيدة بن الحارث في سرية لملاحقتها. واعتمدت رواية جندب بن عبد الله رضي الله عنه الصحيحة في سرية
نخلة، كما نوَّهت بالابتكار النبوي في هذه السرية والمتمثل في الرسالة المكتومة التي أعطاها لقائد السرية. ثم تحدثت عن الأوليات التي تمخضت عن السريتين، وذكرت بعض الأحكام الفقهية المستفادة من سرية نخلة. وقد أوردت خبر اعتراض قافلة أبي العاص التجارية، مع أنه لا يدخل ضمن نطاق البحث موضوعيًّا مرجِّحًا قول الزهري بأن الذي اعترضها هو أبو بصير وأصحابه وليس سرية اعتراضية كما ذكر بقية أهل المغازي، وقد ناقشت الروايات التي ذكرت خلاف ذلك سندًا ومتنًا، وبيَّنت ما وقع فيها من ذهول، ثم ذكرت ما وقع في القصة من الأحكام الفقهية. وفي سرية الخبط: تساءلت لماذا لم يوضح جابر بن عبد الله رضي الله عنه أحد أفراد السرية لهم حكم ميتة البحر؟ وهو الذي مرَّ بتجربة مماثلة في غزوة بواط، وعرف الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم وهل يعني ذلك أن هذه السرية كانت قبل الغزوة التي ذكرها أهل المغازي متقدمة كثيرا على سرية الخبط؟ كذلك عرَّفت بحوت العنبر الذي وجده أصحاب السرية على ساحل البحر تعريفا علميًّا دقيقا وذلك من الكتب القديمة والحديثة المختصة، وبالاتصال مع بعض المختصين في كلية البحار بجامعة الملك عبد العزيز بجدة ثم ذكرت بعض الأحكام المستفادة من أحداث السرية. وفي الفصل الثاني الذي جعلته (لسرايا المغاوير) : تحدَّثت عن النجاح الباهر الذي وافق مهماتها رغم صعوبتها البالغة موفرة على دولة الإسلام في المدينة الكثير من الجهد وحقنت الكثير من الدماء التي كانت ستسيل لو بقي مثل هؤلاء الأعداء يُنفِّذون مخططاتهم العدوانية ضد المسلمين. هذا وقد اعتمدت الرواية الأصح سندا بين الروايات التي تحدثت عن المرأة
التي كانت تهجو النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها زوجها، وأومأت إلى احتمال تعدد القصة، كما ذكرت الخلاف في حكم قتل سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم ضمن الفوائد الفقهية المستفادة من القصة. وفي سرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي: أشرت إلى وقوع تحريف في التاريخ الذي ساقه الواقدي للسرية بناء على النقد الباطني للرواية، ثم ذكرت بعض الأحكام الفقهية، منها حكم صلاة الطالب التي صلاها عبد الله بن أنيس رضي الله عنه اجتهادًا منه وأقرَّه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، كما أشرت إلى الاعتقاد بوجود شبكة منظمة من العيون والجواسيس كانت تمد النبي صلى الله عليه وسلم بالمعلومات الدقيقة والسريعة عن الأعداء حيث يضع خططه المضادة بناء على تلك المعلومات ممَّا كان له أكبر الأثر في تشتيت وعرقلة مخططاتهم العدوانية ضد المسلمين. وفي البعث إلى كعب بن الأشرف: اعتمدت على الروايات الأصح سندا من بين الروايات الكثيرة المتعددة التي تشير إلى عداوة كعب للمسلمين، وذلك بعد غربلتها ومقارنتها ونقدها، كما سقت الاختلاف بين أهل المغازي في صلته السابقة ببعض أفراد السرية التي توجهت لقتله، ثم ذكرت بعض الأحكام المستفادة، وقد ضعفت الرواية التي ذكرها ابن إسحاق في إسلام حويصة بناء على ضعف سندها ومخالفتها لأصلٍ من أصول الشريعة. أما في بعث عمرو بن أمية الضمري إلى أبي سفيان: فقد أثبت اختلاف أهل المغازي في هذا البعث، وقارنت بين رواياتهم المختلفة، ثم رجحت أن القصة واحدة لكنها رويت بطرق مختلفة. وفي البعث إلى أبي رافع: أشرت إلى الخلاف الكبير في تاريخ البعث من أهل المغازي وخلافهم في أسماء قوة البعث، ثم ذكرت بعض الأحكام المستفادة، وأشرت إلى الخلاف في حكم التبييت بين الفقهاء.
أما في البعث إلى اليسير بن رزام: فقد ذكرت اختلاف المصادر التاريخية في اسم اليسير، كما أشرت إلى الاختلاف في قائد البعث بين عروة بن الزبير وبقية أهل المغازي. وأثبت سرية أبي قتادة بن ربعي إلى خضرة في البحث مع أنها لا تدخل ضمن نطاقه الجغرافي لأجل الخلاف فيها بين أصحاب المغازي، وذكر ابن إسحاق لها على أساس أنها سرية توجهت إلى الغابة القريبة من المدينة. هذا بالنسبة للباب الأول. أما الباب الثاني: فكان الفصل الأول منه (للسرايا ذات المهمات الخاصة) : التي تنوعت مهماتها من سرايا تعقبيَّة، وبعوث تعليمية ودعوية، وسرايا تأديبية، وأخرى تحويلية، وهكذا. أما السرايا التعقُّبيَّة: فقد رجحت روايتي ابن عبد البر وابن حزم التي تذكر أن سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرَّار كانت لتعقب كرز بن جابر وأصحابه الذين أغاروا على سرح المدينة فلحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم فاتوه فجهز هذه السرية لمتابعة مطاردتهم. وفي سرية كرز بن جابر لتعقب المفسدين: ذكرت اختلاف أهل المغازي في القبيلة التي ينتمي إليها هؤلاء الرهط الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد حاولت جهدي التعريف بالمرض الذي أصابهم من خلال الكتب الطبية المختصة القديم منها والحديث، مع مناقشة الاختلافات في ذلك ومحاولة الترجيح، وقد اقترحت إقامة مركز في الجامعة لدراسة وبحث الأدوية الطبية النبوية بحثًا علميًّا لتعريف الناس بقوة وعظمة تلك الوصفات الدوائية الربانية، ثم ذكرت بعض الأحكام المستفادة. وفي سرية أبي عامر إلى أوطاس: عرَّفت بهذا الوادي تعريفًا وافيًا، كما
أشرت إلى الخلاف الكبير في اسم قاتل أبي عامر الأشعري، بعد أن أثبت الروايات المختلفة في الحاشية، وأشرت أيضا إلى الخلاف في قاتل دريد بن الصمَّة. وفي سرية حمزة بن عمرو الأسلمي لمطاردة هبَّار وصاحبه: ذكرت الخلاف في اسم صاحب هبَّار، وترجيح ابن حجر لأحد الأقوال، ثم ذكرت ما قاله بعض الأئمة للجمع بين ما ذكر في إحدى روايات الخبر من أفضلية زينب رضي الله عنها وبين الأحاديث الدالة على فضل فاطمة رضي الله عنها، وأشرت إلى الخلاف في قصة إسلام هبَّار وترجيح ابن حجر لرواية الواقدي على رواية ابن أبي نجيح في ذلك. وفي تخريج حديث السرية قسمته إلى ثلاثة أقسام، خرَّجت كل قسم على حدة ثم ذكرت الأحكام المستفادة. وفي سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة: اعتمدت على رواية الصحيح في سياق الأحداث، وأعرضت عن روايات أصحاب المغازي الضعيفة والمشعرة بإدانة خالد بن الوليد رضي الله عنه كما أشرت إلى الروايات العديدة التي تحكي قصة الرجل العاشق للجذيمية، ثم ناقشت روايات أهل المغازي وتفسيراتهم للحادثة وبيَّنت ضعفها ونكارتها، ثم أتبعت ذلك بذكر بعض الأحكام المستفادة. وفي سرية أبي قتادة إلى أضم: رجحت قول الواقدي في أن تلك السرية كانت عملية استعراضية لصرف انتباه قريش عن خطة النبي صلى الله عليه وسلم لغزو مكة المكرمة، كما أشرت إلى الخلاف في اسم الرجل الذي نزلت فيه الآية المذكورة في السرية. وأخيرا قسمت عملية التخريج قسمين بحسب الروايتين اللتين عليهما مدار الخبر. أما في سرية غالب بن عبد الله إلى بنو الملوح: أشرت إلى الخلاف في اسم
الرجل الذي دفع إليه أصحاب السرية أسيرهم، ثم تحدثت عن الكرامة التي أكرمهم بها الله فنجاهم من القوم الكافرين بعد أن كادوا يطبقون عليهم. وفي الفصل الثاني (سرايا تحطيم الأوثان) : فتحدثت في بعث خالد بن الوليد إلى العزى، عن موقعها، وصفتها، ومكانتها عند العرب، وذكرت الخلاف في سدنتها، ثم الخلاف في تاريخ البعث، وعند تخريجي للخبر أوردت كلام النقاد في الوليد بن جميع الذي عليه مدار معظم روايات الخبر. وفي بعث سعد بن زيد إلى مناة: نبهت إلى عدم ورود روايات مسندة حول الخبر حيث كان الاعتماد على أقوال الإخباريين بعد نقدها، ثم تحدثت عن صفة الصنم وأهله ومكانته، ثم أشرت إلى الخلاف في قائد البعث بين أهل المغازي. وفي بعث عمرو بن العاص إلى سواع: أوردت نفس الملحوظة حول عدم ورود روايات مسندة للخبر، ولذلك تم الاعتماد على روايات أصحاب المغازي الغير مسندة، ثم بيَّنت كيفية انتقال هذا الصنم وغيره من أصنام قوم نوح إلى العرب، وذكرت ملاحظة حول تأييد علم الآثار الحديث لهذه القصة وإن كانت ضعيفة سندًا، ثم ذكر الخلاف الكبير حول المكان الذي كان فيه الصنم. أما في بعث خالد إلى اللات: فذكرت الخلاف في أصل اللات، وفي مكان ذلك الصنم ومن هم سدنته، ثم تحدثت عن صفته وأهله، وعن تاريخ البعث، ذكرت خلاف أهل المغازي في ذلك. وأخيرا ذكرت ما يستفاد من القصة من أحكام. هذا بالنسبة للنتائج الخاصة، أما النتائج العامة فيمكن تلخيصها فيما يلي: 1-إن السرايا الاعتراضية لم تكن لقصد النهب والسلب –كما يدَّعي بعض المستشرقين، وإنما كانت تنفيذًا لأمر الله عز وجل بالقتال، وتحطيم قوة العدو الاقتصادية تدخل ضمن هذا الإطار، كما أن ذلك كان بمثابة المعاملة
بالمثل، فكما أن قريشا سلبت المسلمين أموالهم ودورهم في مكة، أفلا يحق للمسلمين أن يفعلوا ذلك بقريش وهم في حالة حرب دائمة معها؟. 1- سرايا المغاوير: لم تكن الأساليب التي اتبعتها تدخل ضمن الأساليب غير الشريفة كالغدر والخيانة، وإنما كان ذلك جزاء الغدر والخيانة ونقض المواثيق التي قام بها أولئك الأعداء المتربصون، والحرب خدعة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ومخادعة مثل أولئك الأعداء للقضاء عليهم فيها حقن لدماء كثيرة وتوفير لجهد كبير. كما أن تلك الفرق الشجاعة كانت تتمتع بضبط عسكري نادر، بحيث لم ينقل عنها أي اعتداء على النساء والأطفال الأبرياء تنفيذًا للأوامر والتعاليم النبوية العليا رغم صعوبة ذلك على المنفذين للظروف والملابسات الشائكة التي كانت تحيط مثل تلك الأعمال. 2- سرايا تحطيم الأوثان: انطلقت لتنفيذ المهمة الأساسية لدعوة الإسلام الخالدة وهي إزالة كل رموز الشرك والوثنية من أرض التوحيد والحنيفية السمحة. وقد كانت قصص تحطيم تلك الأصنام فيها عبرة وعظة وتوضيح لضعف الإنسان إذا ما عاند فطرته السليمة التي بعثه الله عليها وركن إلى هواه، فهؤلاء السدنة وغيرهم من المتعلقين بتلك الرموز البالية، والأحجار الصَّماء الواهية لا يزالون متشبثين بها حتى آخر حجر يهوي منها، وكأن الغشاوة التي على عيونهم والرَّان الذي على قلوبهم قد بلغ منهم مبلغه، فلا يبصرون حتى يروا العذاب الأليم. هذا ولقد ظهرت من خلال أحداث بعض السرايا بعض المعجزات النبوية وبعض الكرامات لبعض الصحابة. فمن المعجزات النبوية ما كان من صفة الأعرابي المخيفة التي وصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يره من قبل، فلما أراد
النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي، قال له: صفه لي يا رسول الله، فوصفه له وصفا دقيقا، يقول عبد الله بن أنيس رضي الله عنه فلما رأيته هبته، وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله. كما كشفت قصة بئر معونة عن معجزة نبوية أخرى، وهي كيفية موت الشهيد التي أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث القرصة. أما الكرامات التي تحققت لبعض الصحابة فهي كما يلي: في سرية الخبط: وعندما أشرف أصحاب السرية على الهلاك من شدة الجوع، إذ بالعناية الإلهية تخرج إليهم حوتا ضخما فتلقيه على الساحل فيأكلون منه حتى رجعوا إلى المدينة. والسيل يكون مددًا لأصحاب سرية عبد الله بن غالب الليثي يحول بينهم وبين بني الملوح بعد أن أدركوهم. وفي سرية الرجيع: خبيب بن عدي رضي الله عنه يأكل عنبا وما بمكة ثمرة قط يومئذ، وهو محبوس في بيت من بيوتها ومقيد بالحديد داخل غرفة من غرفه. والدَّبر تحمي جثة عاصم بن ثابت رضي الله عنه من المشركين الذين أرادوا العبث بها. وأيضا تميَّزت بعض السرايا والبعوث ببعض الابتكارات العسكرية الفذة، ففي سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخلة استُخدم أسلوب الرسائل المكتومة وهو أسلوب متطور يعد من أفضل (التكتيكات) الراقية لنظم الاستخبارات العسكرية. وقد كان عليه الصلاة والسلام يستخدم نظام المخابرات بشكل دقيق ومنظم في معظم السرايا والبعوث، بما كان متاحًا من أساليب في ذلك الوقت، ولكنها كانت تؤدي دورها بنجاح وتؤتي ثمارها تفوقًا تعبويًّا وسوقيًّا في نتائج
السرايا والبعوث. ويمكن أن نرى ذلك واضحًا في سرية عبد الله بن رواحة إلى اليسير بن رزام، وسرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وغيرها من السرايا والبعوث النبوية. وإن نظام فرق المغاوير الذي استحدثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه للتعامل مع الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية يعد في حد ذاته ابتكارا عسكريًّا ذكيًّا استطاع به القضاء على مثل هؤلاء الأعداء بيسر وسهولة دون ما خوض في معارك يسقط فيها الكثير من الجانبين. ومن الأساليب التي استخدمها صلى الله عليه وسلم في سراياه وبعوثه (نظام تتبع الآثار) لضمان سرعة النتائج، كما حدث في (سرية كرز بن جابر) لتعقب العرنيين، وهذا الأسلوب وإن لم يكن من الأساليب المبتكرة في ذلك الوقت وإنما مجرد استخدامه في تلك السرية يدل على سرعة بديهته عليه الصلاة والسلام وحسن تصرفه باستخدامه الأسلوب المناسب والمتاح للوضع المناسب له، وفي الوقت المناسب. هذا ولله مزيد الشكر، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات. وصلى الله وسلَّم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.