السراج الوهاج لمحو أباطيل الشلبي عن الإسراء والمعراج

التويجري، حمود بن عبد الله

ذكر نبذة الشلبي في الإسراء والمعراج والتنبيه على ما فيها من الضلال والإضلال

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين, وحجة على أهل الزيغ والضلال أجمعين, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيراً. أما بعد فقد رأيت نبذة صغيرة في الإسراء والمعراج, ألفها الدكتور أحمد شلبي الأستاذ بجامعة القاهرة. وزعم أنها دراسة تصحيح للقضاء على الشطحات والخيال, وهي الجزء الثالث من مائة جزء مما سماه «بالمكتبة الإسلامية المصورة لكل الأعمار» وقد نشرتها مكتبة النهضة بالقاهرة, وفيها من التخبيط والتقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنكار ما ثبت عنه في الإسراء والمعراج ما لا مزيد عليه في الضلال والإضلال, وقد تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار». وفيها أيضاً تقرير رأي الجهمية الكافرة في إنكار علو الله على خلقه واستوائه على عرشه الذي هو فوق جميع المخلوقات. فهي في الحقيقة دراسة

إفساد لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالإسراء والمعراج وإثبات علو الله على خلقه وسأنبه على ما فيها من الشطحات والأقوال الباطلة والآراء الفاسدة إن شاء الله تعالى, وأسأل الله تعالى أن يريني وإخواني المسلمين الحق حقا ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل.

الرد على زعم الشلبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد من الإسراء والمعراج قبل أن يبرد فراشه

فصل قال الشلبي في صفحة 4: فقد أسري بالرسول من مكة إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء ثم عاد قبل أن يبرد فراشه. والجواب أن يقال: لم يأت في شيء من أحاديث الإسراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد إلى مكة قبل أن يبرد فراشه, ولم أر أحداً من أهل السير والتاريخ ذكر ذلك ولا شك أن هذا من توهمات الشلبي وتخرصاته فلا يلتفت إليه. وقال الشلبي في صفحة 4: وقد التصقت بالإسراء والمعراج خرافات وأوهام نريد أن نزيلها لنعيد لهذين الحدثين جلالهما وصفاءهما. والجواب أن يقال: أما الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج فكلها حق وصدق, ومن أنكر شيئاً مما جاء فيها وزعم أنها خرافات وأوهام فهو ممن يشك في إسلامه, لأنه لم يحقق الشهادة بالرسالة. ومن تحقيقها تصديق ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب وما وقع له في ليلة الإسراء من ركوب البراق وربطه بالحلقة التي يربط بها الأنبياء وعروجه مع جبريل إلى السموات السبع وما رآه في السموات السبع من الأنبياء, وأنه سلم

عليهم فردوا عليه السلام ورحبوا به ودعوا له بخير, وأنه رأى البيت المعمور ورفع إلى سدرة المنتهى, وأنه رأى جبريل في صورته, وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق, وأنه رأى الجنة والنار, ورأى مالكا صاحب النار وأن مالكا سلم عليه, وأنه صلى بالنبيين في بيت المقدس. إلى غير ذلك مما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رآه في تلك الليلة, وما أخبر به أيضاً عن رفعه فوق السموات السبع إلى المستوى الذي كان يسمع فيه صريف الأقلام, وأن الله تعالى أوحى إليه وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة, فلم يزل يتردد بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام في طلب التخفيف لأمته حتى جعلها الله خمس صلوات وقال: يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة, وفي رواية هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي. فكل ذلك حق وصدق, ومن أنكر شيئاً من ذلك أو شك فيه فهو ممن يشك في إسلامه. وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره عن الحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية أنه قال في كتابه: «التنوير في مولد السراج المنير» وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء

عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبيّ ابن كعب وعبدالرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين وعبدالله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين, منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد. وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الزنادقة والملحدون {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} انتهى كلامه, وما ذكره من إجماع المسلمين على حديث الإسراء يشمل كل ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وقع له في السموات وفي الأرض مما تقدم ذكره قريباً وما لم يذكر ههنا, وكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فإنه يجب الإيمان به وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة, ومن رد شيئاً مما جاء في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج وزعم أنها خرافات وأوهام فإنما هو في الحقيقة يرد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذب أخباره الصادقة ويصفها بالصفات المستهجنة, مع مخالفته لإجماع المسلمين وسلوكه طريق

الزنادقة والملحدين.

الرد على إنكاره ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراق

فصل وقد أنكر الشلبي ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراق في ليلة الإسراء, وزعم أن ذلك من الانحرافات والآراء الشائعة, وزعم في صفحة 12 وصفحة 15 وصفحة 27 أن انتقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلة الإسراء والمعراج كان بطرق ووسائل يعلمها الله على نمط انتقال عرش بلقيس بل على هيئة أشرف وأكمل تتناسب مع خاتم الأنبياء, قال: ومن الممكن أن يطوي الله الأرض فيصبح بيت المقدس متصلاً بمكة ويخطو محمد خطوة واحدة ثم تعود الأرض إلى وضعها الطبيعي فيصبح الرسول ببيت المقدس, قال: والمهم أن وسائل الله سبحانه وتعالى كثيرة لنقل محمد من مكة إلى بيت المقدس في لحظة من الزمان. والجواب أن يقال: أما ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراق في ليلة الإسراء فهو ثابت في عدة أحاديث صحيحة. الأول منها عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه, قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس, قال: فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء, قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين» الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم.

الحديث الثاني: عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجاً ملجماً ليركبه فاستصعب عليه فقال له جبريل: ما يحملك على هذا فو الله ما ركبك أحد قط أكرم على الله عز وجل منه, قال فارفض عرقاً» رواه الإمام أحمد والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب. الحديث الثالث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن مالك ابن صعصعة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتيت بدابة أبيض يقال له البراق فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه ثم انطلقنا» الحديث رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم. الحديث الرابع: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل فلم نزايل ظهره أنا وجبريل حتى انتهينا إلى بيت المقدس» الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي بإسناد صحيح, وقد رواه الترمذي بنحوه وقال: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضا ابن حبان والحاكم والذهبي. وفي الباب عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه وهو

حديث صحيح وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى, وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري وشداد بن أوس وعبدالله بن مسعود وأبي هريرة وأم هانئ رضي الله عنهم, كل منهم روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب على البراق إلى بيت المقدس, وأسانيد أحاديثهم لا تخلو من مقال, وفي الأحاديث الأربعة التي تقدم ذكرها مع حديث بريدة رضي الله عنه الذي سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى تأييد لرواياتهم وتقوية لها. وفيما تقدم ذكره من الأحاديث الصحيحة أبلغ رد على الشلبي وعلى أمثاله من ذوي الجراءة على رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعارضتها بالشبه والآراء الفاسدة, وقد قال ابن كثير في تفسيره: والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناماً من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق, فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين انتهى. وأما زعم الشلبي أن القول بركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراق ليلة الإسراء من الانحرافات والآراء الشائعة. فجوابه أن يقال: إن الانحراف في الحقيقة هو إنكار الشلبي

ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراق في ليلة الإسراء وزعمه أن ذلك, من الآراء الشائعة ومعارضته للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك, فهذا هو الانحراف الشديد, والضلال المبين لأنه يتضمن الرد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيب ما أخبر به عن نفسه من ركوب البراق في ليلة الإسراء, والرد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيب أخباره الصادقة وجعلها من قبيل الانحرافات والآراء الشائعة ليس بالأمر الهين, بل إن ذلك من قواطع الإسلام ومما يبيح الدم والمال. وأما زعمه أن انتقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلة الإسراء والمعراج كان بطرق ووسائل يعلمها الله على نمط انتقال عرش بلقيس. فجوابه أن يقال: قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث صحيحة أن انتقاله من مكة إلى بيت المقدس كان على البراق وأن عروجه إلى السموات السبع وما فوقها كان مع جبريل, فهذا هو الذي يعتقده أهل السنة والجماعة منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم إلى زماننا. ولا عبرة بمن خالفهم من أهل الزيغ والضلال الذين لا يبالون بردّ الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعارضتها بالشبه الباطلة والآراء الفاسدة. وأما قوله: ومن الممكن أن يطوي الله الأرض فيصبح بيت

المقدس متصلاً بمكة ويخطو محمد خطوة واحدة ثم تعود الأرض إلى وضعها الطبيعي فيصبح الرسول ببيت المقدس. فجوابه أن يقال: لا شك أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه لو شاء لطوى الأرض لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء, ولكنه تبارك وتعالى حمله على البراق الذي لم يكن يركبه أحد من بني آدم سوى الأنبياء, وكان جبريل مصاحباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مسراه إلى بيت المقدس وفي عروجه إلى السموات السبع وما فوقها حتى ظهر إلى المستوى الذي كان يسمع فيه صريف الأقلام. وفي هذا من الاعتناء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتشريف والتكريم له ما لم يحصل مثله لأحد من البشر.

الرد على إنكاره ثقب جبريل للصخرة وشد البراق بها

فصل وفي صفحة 26 وصفحة 27 أنكر الشلبي ثقب جبريل للصخرة بأصبعه وشد البراق بها, وزعم أن الروايات في ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراق وفي ثقب جبريل للصخرة بأصبعه وشد البراق بها موضوعة. والجواب أن يقال: قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب على البراق إلى بيت المقدس, وتقدم ذكر الأحاديث الصحيحة في ذلك فلتراجع (¬1). وثبت أيضا أن جبريل خرق الصخرة بأصبعه وشد بها البراق, والحديث بذلك رواه الترمذي والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلة أسرى بي انتهيت إلى بيت المقدس فخرق جبريل الصخرة بأصبعه وشد بها البراق» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه, وفي هذا الحديث الصحيح أبلغ رد على الشلبي وعلى أمثاله من المنحرفين الذي لا يبالون برد الأحاديث الصحيحة ومعارضتها بالشبه والآراء الفاسدة. ¬

(¬1) ص9, 11.

وقد قال ابن كثير بعد سياقه للأحاديث الواردة في الإسراء: «فائدة حسنة جليلة» روى أبو نعيم الأصبهاني في كتاب «دلائل النبوة» من طريق محمد بن عمر الواقدي حدثني مالك بن أبي الرجال عن عمر بن عبدالله عن محمد بن كعب القرظي قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دحية بن خليفة إلى قيصر. فذكر وروده عليه وقدومه إليه, وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل, ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده, قال في هذا السياق عن أبي سفيان: والله ما منعني من أن أقول عليه قولاً أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليّ ولا يصدقني في شيء, قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري به قال: فقلت أيها الملك ألا أخبرك خبراً تعرف أنه قد كذب. قال: وما هو قال قلت: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح, قال: وبطريق إيلياء عند رأس قيصر فقال بطريق إيلياء قد علمت تلك الليلة. قال فنظر إليه قيصر وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق

أبواب المسجد فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن بحضرتي كلهم معالجة فغلبنا فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلاً فدعوت إليه النجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ما نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتي, قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي من زاوية المسجد مثقوب وإذا فيه أثر مربط الدابة, قال: فقلت لأصحابي ما حبس الباب الليلة إلا على شيء وقد صلى الليلة في مسجدنا, وذكر تمام الحديث. قلت: وما ذكر في هذه القصة من ثقب الحجر وأثر مربط الدابة يوافق ما تقدم ذكره في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وهو مما يصدق به المؤمنون وينكره الزنادقة والملحدون. وأما زعمه أن الروايات في ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراق وفي ثقب جبريل للصخرة بأصبعه وشد البراق بها موضوعة. فجوابه أن يقال: لا يخلو الشلبي في هذه الدعوى من أحد أمرين: إما أن يكون له إلمام بمعرفةِ الحديث وما ذكره المصنفون في فن المصطلح بحيث يكون عنده تمييز بين الصحيح من الحديث

والموضوع منه, ولكنه مع ذلك لم يبال برد الأحاديث الصحيحة والحكم عليها بالوضع حيث خالفت رأيه أو رأي من يعظمهم من شيوخه وغير شيوخه, وإما أن يكون جاهلاً بالحديث بحيث لا يعرف الصحيح منه ولا يميز بينه وبين الموضوع وإنما يتكلم في نقد الأحاديث بمجرد الظن والتوهم وكل من الأمرين ذميم جداً وعظيم الخطر, فأما رد الأحاديث الصحيحة ومعارضتها بالشبه والآراء الفاسدة فهو من أفعال الزنادقة والملاحدة الذين لا يؤمنون بالله ورسوله, وأما نقد الأحاديث بمجرد الظن والتوهم فهو من أفعال أهل الحمق والتهور الذين ليس لهم دين يردعهم عن الكلام في نقد الأحاديث بغير علم. ومن اجترأ على رد الأحاديث الثابتة في الصحيحين أو في أحدهما وعارضها بالشبه والآراء الفاسدة فقد نادى على زندقته وإلحاده ومشاقته للرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه لغير سبيل المؤمنين الذين يقابلون ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقبول والتسليم وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

الرد على إنكاره صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء في بيت المقدس

فصل وفي صفحة 19 أنكر الشلبي صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء في بيت المقدس وزعم أن ذلك من الأمور الشائعة والتصوير المنحرف عن الإسراء والمعراج. والجواب أن يقال: قد جاء في عدة أحاديث بعضها صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالأنبياء في ليلة الإسراء, منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط, قال: فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به, وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة, وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي, وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسلام».

ومنها ما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد الأقصى قام يصلي فالتفت ثم التفت فإذا النبيون أجمعون يصلون معه». ومنها ما رواه النسائي في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث الإسراء: «ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء فقدمني جبريل حتى أممتهم» وقد رواه ابن أبي حاتم وقال فيه: «ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيراً حتى اجتمع ناس كثير ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة قال فقمنا صفوفاً ننتظر من يؤمنا فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم فلما انصرفت قال جبريل: يا محمد أتدري من صلى خلفك؟ قال: قلت: لا. قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله عز وجل». والأحاديث التي جاء فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالأنبياء في ليلة الإسراء كثيرة ولكن أسانيد ما لم أذكره لا تخلو من مقال. وفيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما كفاية في إثبات صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء في ليلة الإسراء. وفيهما أيضاً أبلغ رد على الشلبي, وعلى أمثاله من المنكرين لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء في ليلة الإسراء. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى إلى باب

المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ثم أتي بالمعراج فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السموات السبع فتلقاه من كل سماء مقربوها وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم - إلى أن قال - ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة, ويحتمل أنها الصبح من يومئذ, ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء, والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً وهو يخبره بهم. وهذا هو اللائق لأنه كان أولاً مطلوبا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى, ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك, ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس انتهى. وفي كلام ابن كثير رحمه الله تعالى رد على الشلبي وعلى أمثاله من الذين ينكرون صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء في ليلة الإسراء ويعارضون الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ويعتمدون

على الشبه والآراء الفاسدة في معارضتهم الأحاديث الصحيحة.

فصل وقد عاد الشلبي في صفحة 27 من رسالته المملوءة بالضلال فأنكر صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء في بيت المقدس. ونقل عن بعض المخرفين أنه قال: المعروف إسلاميا أنه لا عبادة بعد الموت, قال وهناك حديث صحيح يقول: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم نافع أو ولد صالح يدعو له» قال والأنبياء هم من بني آدم وقد انقطع عملهم بوفاتهم إلا من هذه الأشياء الثلاثة. قال وعلى هذا فلا معنى لتصوير الأنبياء يصلون خلف الرسول, قال: وفي الحديث روايات مختلفة عن أمكنة الأنبياء في السموات, فمن منهم في السماء الأولى, ومن في الثانية؟ ... خلاف ظاهر, مع أنه لا ضرورة على الإطلاق لوجودهم في أي منها, فمن المحقق أنهم ماتوا ودفنوا. وأن أرواحهم عند الله. والروح كائن نوراني, ولا يعلم كنهها إلا الله, والجسد قد اختفى تماما في الأرض, ومع قدرة الله على إحياء الأنبياء لاستقبال الرسول, فلا داعي للقول بذلك على الإطلاق وكذلك لا داعي مطلقا لإحياء موسى ليراجع محمداً في عدد الصلوات. والجواب أن يقال: أما إنكاره لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء في بيت المقدس فقد تقدم الجواب عنه في الفصل الذي قبل هذا

الفصّل فليراجع. وأما ما نقله عن بعض المخرفين أنه قال: المعروف إسلاميا أنه لا عبادة بعد الموت. فجوابه من وجهين: أحدهما أن يقال إن صلاة الأنبياء خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست من باب التكليف الذي ينقطع بالموت وإنما هي من باب التلذذ بالأعمال التي كانوا يعملون بها في الدنيا, ومن هذا الباب ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره» رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو يعلى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, ومن هذا الباب أيضاً ما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى إبراهيم وموسى وعيسى وهم يصلون وذلك قبل صلاته بهم وبغيرهم من الأنبياء. ومن هذا الباب أيضاً ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجنة أنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس. رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما, وروى الإمام أحمد أيضاً والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن أهل الجنة أنهم يسبحون الله بكرة وعشياً, والتسبيح قد يراد

به الصلاة وقد يراد به الذكر في غير الصلاة, والأدلة على كل من النوعين كثيرة في الكتاب والسنة والذكر من أفضل الأعمال في الدنيا ومع هذا لم ينقطع هذا العمل عن أهل الجنة فكذلك صلاة الأنبياء وهم في البرزخ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس رضي الله عنه. وإذا كانت الصلاة قرة عين النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا فلا يبعد أن تكون قد جعلت قرة عين للأنبياء في البرزخ وليس ذلك من باب التكليف الذي ينقطع بالموت وإنما هو من باب التلذذ بالذكر والأعمال الصالحة والله أعلم. الوجه الثاني أن يقال: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى بالأنبياء في بيت المقدس وثبت أنه رأى كلاً من إبراهيم وموسى وعيسى وهم يصلون, وثبت أنه مر على موسى وهو قائم يصلي في قبره, فيجب الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومقابلة كل ما ثبت عنه بالقبول والتسليم سواء ظهرت لنا الحكمة في ذلك أو لم تظهر, ولا يجوز الاعتراض على أخباره - صلى الله عليه وسلم - ولا مقابلتها بالرد والإنكار والتشكيك فإن هذا من أفعال الزنادقة والملحدين.

وأما الحديث الذي جاء فيه: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» وقول المخرف إن الأنبياء من بني آدم وقد انقطع عملهم بوفاتهم إلا من هذه الأشياء الثلاثة. فجوابه أن أقول: قد ذكرت قريباً في الرد على المخرف أن صلاة الأنبياء في البرزخ إنما هي من باب التلذذ بالصلاة التي قد جعلت قرة عين للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا, وليس ذلك من باب التكليف الذي ينقطع بالموت. وأما قوله: وعلى هذا فلا معنى لتصوير الأنبياء يصلون خلف الرسول. فجوابه أن يقال: إن صلاة الأنبياء خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء من الأمور الواقعة التي يجب الإيمان بها, وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة قد تقدم ذكر بعضها والإشارة إلى ما لم يذكر منها وفيها أبلغ رد على من أنكر ذلك وزعم أنه لا معنى لصلاة الأنبياء خلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - , ومن أنكر صلاة الأنبياء خلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - , في ليلة الإسراء وزعم أنه لا معنى لذلك فإنما هو في الحقيقة يرد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذب خبره الصادق, وهذا مما

الرد على إنكاره وجود الأنبياء في السموات

يقدح في دين القائل ويوقع الشك في إسلامه. وأما قوله: وفي الحديث روايات مختلفة عن أمكنة الأنبياء في السموات, فمن منهم في السماء الأولى, ومن في الثانية؟ ... خلاف ظاهر مع أنه لا ضرورة لوجودهم في أي منها, فمن المحقق أنهم ماتوا ودفنوا وأن أرواحهم عند الله والروح كائن نوراني ولا يعلم كنهها إلا الله, والجسد قد اختفى تماما في الأرض. فجوابه أن يقال: أما أمكنة الأنبياء في السموات فالعمدة في تعيينها على ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه وقد جاء فيه أن آدم في السماء الدنيا وأن عيسى ويحيى في السماء الثانية وأن يوسف في السماء الثلاثة وأن إدريس في السماء الرابعة وأن هارون في السماء الخامسة وأن موسى في السماء السادسة وأن إبراهيم في السماء السابعة, وقد جاء مثل ذلك في حديث أنس الذي رواه الإمام أحمد ومسلم, وما جاء على خلاف الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم فلا عبرة به. وأما زعمه أنه لا ضرورة لوجودهم في أي منها, أي السموات. فجوابه أن يقال: من أنكر وجود الأنبياء في السموات فإنما هو

في الحقيقة يكذب خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم, وهذا مما يقدح في دين القائل, وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأما قوله: فمن المحقق أنهم ماتوا ودفنوا وأن أرواحهم عند الله. فجوابه أن يقال: إن أرواح الأنبياء هي التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - في السموات وفي بيت المقدس حين صلى بهم وهي رؤيا عين وليست برؤيا منام قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} قال: «هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به» رواه الإمام أحمد والبخاري, قال البغوي والعرب تقول رأيت بعيني رؤية ورؤيا انتهى, وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من رآه من الأنبياء على أشكالهم التي كانوا عليها في الدنيا وأخبر عن صفات بعضهم فقال «أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم» وفي رواية أنه قال: «ولقيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به» وفي رواية أنه قال: «ونظرت إلى إبراهيم عليه السلام فلم أنظر إلى أرب منه إلا نظرت إليه مني حتى

كأنه صاحبكم» وفي رواية أنه قال: «إنه كأحسن الرجال» وقال: «وأما موسى فرجل آدم جعد» وفي رواية: «فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة» وفي رواية: «أنه رجل آدم طويل شعره مع أذنيه أو فوقهما» وفي رواية: «أنه أسحم آدم كثير الشعر شديد الخلق» وقال في هارون: «نصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء تكاد لحيته تصيب سرته من طولها» وقال في يوسف: «إنه قد أعطي شطر الحسن» وفي رواية أنه قال فيه: «إنه قد فضل على الناس في الحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب». وكل ما جاء في هذه الأحاديث فهو مما يصدق به المؤمنون وينكره الزنادقة والملحدون. ومن المعلوم عند العقلاء أن أرواح الأموات تتشكل بشكل أجسادها في الدنيا فيراهم الأحياء في المنام على وفق ما كانوا يعرفونه عنهم في الدنيا من الأشكال والصفات والألوان ويخاطب بعضهم بعضا ويخبر الأموات الأحياء بما حصل لهم بعد الموت من الراحة والمغفرة والنعيم أو التعب والتوبيخ والعذاب, وقد روى أبو عبدالله بن منده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت

ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} قال بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وروى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله تعالى: {والتي لم تمت في منامها} قال: يتوفاها في منامها فتلتقي روح الحي وروح الميت فيتذاكران ويتعارفان قال: فترجع روح الحي إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجلها وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب «الروح» وقد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه وربما أخبره بدين عليه وذكر له شواهده وأدلته, قال وأبلغ من هذا أنه يخبره بما عمله من عمل لم يطلع عليه أحد من العالمين, وأبلغ من هذا أنه يخبره أنك تأتينا إلى وقت كذا وكذا فيكون كما أخبر, وربما أخبره عن أمور يقطع الحي أنه لم يكن يعرفها غيره, ثم ذكر ابن القيم قصصاً كثيرة من رؤيا الأحياء للأموات وإخبار الأموات بما يسألهم الأحياء عنه فلتراجع في أول كتاب «الروح» في المسألة الثالثة وفي آخر المسألة الأولى. ومن أعجب

قصة ثابت بن قيس بن شماس وما أوصى به بعد موته وإجازة وصيته

الأخبار في ذلك ما رواه الطبراني في الكبير عن عطاء الخراساني عن ابنة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أن ثابت بن قيس لما قتل يوم اليمامة أريه رجل من المسلمين في منامه فقال إني لما قتلت بالأمس مر بي رجل من المسلمين فانتزع مني درعاً نفيسة ومنزله في أقصى المعسكر وعند منزله فرس يستن في طوله وقد أكفأ على الدرع برمة وجعل فوق البرمة رحلاً فأت خالد بن الوليد فليبعث إلى درعي فليأخذها فإذا قدمت على خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه أن عليَّ من الدين كذا ولي من المال كذا وفلان من رقيقي عتيق وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه, قال: فأتى خالد ابن الوليد فوجه إلى الدرع فوجدها كما ذكر وقدم على أبي بكر رضي الله عنه فأخبره فأنفذ أبو بكر رضي الله عنه وصيته بعد موته فلا نعلم أن أحداً جازت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس ابن شماس رضي الله عنه, قال الهيثمي في مجمع الزوائد بنت ثابت ابن قيس لم أعرفها وبقية رجاله رجال الصحيح والظاهر أن بنت ثابت بن قيس صحابية فإنها قالت سمعت أبي والله أعلم انتهى كلام الهيثمي, وروى الطبراني أيضا قصة ثابت بن قيس رضي الله عنه مختصرة من حديث أنس رضي الله عنه قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على

شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه, وروى الحاكم أيضاً ما رواه عطاء الخراساني عن ابنة ثابت بن قيس بنحو رواية الطبراني. وإذا كانت أرواح الموتى تتشكل بشكل أجسادها في الدنيا فيراهم الأحياء في المنام على وفق ما كانوا يعرفونه عنهم في الدنيا ويخاطب بعضهم بعضا فبالأولى أن تتشكل أرواح الأنبياء بشكل أجسادهم في الدنيا فيراهم النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤية عين ويخاطبهم ويسلم عليهم ويسلمون عليه ويدعون له ويرى إبراهيم وموسى وعيسى وهم يصلون ويرى موسى وهو قائم يصلي في قبره ويرى الأنبياء في بيت المقدس ويصلي بهم ويشير عليه موسى عدة مرات بالرجوع إلى ربه وطلب التخفيف عن أمته من عدد الصلوات حتى جعلها الله تعالى خمس صلوات في اليوم والليلة, فكل ذلك حق وصدق وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني أرى مالا ترون وأسمع ما لا تسمعون» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال الترمذي: حسن غريب وصححه الحاكم وأقره الذهبي, وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى الملائكة والجن والشياطين, والناس لا يرونهم, وقد رأى جبريل في صورته مرتين, ومن كان بهذه المثابة فلا يمتنع أن يرى الأنبياء في ليلة الإسراء رؤية عين وأن يخاطبهم ويخاطبونه, ومن أنكر رؤيته للأنبياء في ليلة

الرد على زعمه أنه لا داعي لإحياء موسى ليراجع محمدا في عدد الصلوات

الإسراء فإنما هو في الحقيقة يرد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذب أخباره الصادقة وذلك مما يهدم الدين ويبيح الدم والمال. وأما قوله: والروح كائن نوراني. فجوابه أن يقال: ليس على هذا القول دليل من القرآن ولا من السنة وقد قال الله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} ويؤخذ من نص هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز لأحد أن يقول في الروح بغير ما أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله فيها. ومن قال بغير ما أمر الله به في الآية الكريمة فقد أخطأ وتكلف ما لا علم له به, ويلزم على قول المخرف المتكلف أن تكون أرواح الكفار نورانية وهذا من أبطل الباطل. وأما قوله: أنه لا داعي مطلقا لإحياء موسى ليراجع محمداً في عدد الصلوات. فجوابه أن يقال: قد ثبت في أحاديث كثيرة بعضها في الصحيحين وبعضها في صحيح مسلم وبعضها في السنن ومسند الإمام أحمد أن الله تعالى لما فرض على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة نزل حتى انتهى إلى موسى - وهو في السماء السادسة - فقال ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين

صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي فقلت: أي رب خفف عن أمتي فحط عني خمساً فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما فعلت؟ فقلت: قد حط عني خمساً فقال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك, قال: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمساً خمساً حتى قال: يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة» وهذا لفظ إحدى روايات مسلم. وفي رواية في الصحيحين أن الله تعالى كان يضع عنه في كل مرة عشراً وفي المرة الأخيرة أمره الله تعالى بخمس صلوات. وهذه المراجعة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين موسى عليه الصلاة والسلام حق وصدق, وكذلك تردد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام في طلب التخفيف من عدد الصلوات كله حق وصدق. ومن أنكر ذلك أو شك فيه فليس بمؤمن لقول الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} ومن الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بجميع ما أخبر به من أمور الغيب لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا الحق كما أخبر الله عنه بقوله: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا

وحي يوحى} ومن قابل الأخبار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرد والتشكيك فهو ممن يشك في إسلامه, وسواء في ذلك ما أخبر به عما وقع له في ليلة الإسراء وما أخبر به عن غير ذلك من أمور الغيب.

الرد على إنكاره صعود النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات مع جبريل واستفتاح جبريل لأبوابها وقول الملائكة له من أنت ومن معك وجوابه لهم

فصل الثالثة من النقاط التي أنكرها الشلبي وزعم أنها من الأمور الشائعة ومن التصوير المنحرف عن الإسراء والمعراج صعود النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جبريل إلى السموات السبع واستفتاح جبريل لأبوابها وقول الخزان له من أنت ومن معك وهل بعث إلى محمد وبعد الإجابة تفتح الأبواب لهما, وهذا الإنكار مذكور في عدة صفحات من كتيّب الشلبي, فذكره في صفحة 21 وصفحة 28 و29 ونقله في صفحة 24 و25 عن عبدالجليل عيسى وذكر له اعتراضات على حديث الإسراء تدل على استهانته بالحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والجواب أن يقال: كل ما أنكره الشلبي وعبدالجليل عيسى في الصفحات المشار إليها بالأرقام فهو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مخرج في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن مالك ابن صعصعة رضي الله عنه, ورواه البخاري ومسلم أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه, ورواه الإمام أحمد ومسلم من حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه, ورواه البخاري ومسلم من حديث شريك بن عبدالله عن

أنس رضي الله عنه ولم يذكر مسلم لفظه بل قال نحو حديث ثابت البناني, وقد رواه النسائي وابن أبي حاتم من حديث أنس رضي الله عنه, ورواه عبدالله بن الإمام أحمد في زوائد المسند من حديث أنس عن أبي بن كعب رضي الله عنه, ورواه البيهقي في «دلائل النبوة» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, ورواه ابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وبالجملة فكل ما أنكره الشلبي وعبدالجليل عيسى فهو حق وصدق لا يشك في ذلك مسلم له أدنى علم ومعرفة. ومن أنكره ورده فإنما هو في الحقيقة يرد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذب أخباره الصادقة ويستهين بها وذلك من أعظم القوادح في الدين.

الرد على إنكاره كون السماء سقفا للأرض

فصل وقد اعترض الشلبي على استفتاح جبريل لأبواب السموات باعتراضات لا تصدر من إنسان يحترم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعلم أن أقواله وأخباره حق وصدق, وحاصل اعتراضاته التشكيك فيما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما وقع له في ليلة الإسراء والتلبيس على ضعفاء البصيرة. ففي صفحة 28 قال: إن الرواية تصور السماء سقفا كسقف البيت. والظاهر من كلامه في هذه العبارة أنه ينكر أن تكون السماء سقفاً للأرض كسقف البيت وأن تكون لها أبواب يستفتحها جبريل. والجواب أن يقال: إن كلام الشلبي في هذه العبارة مخالف لنصوص القرآن ولإجماع أهل العلم من سلف الأمة وأئمتها. فأما مخالفته لنصوص القرآن فإن الله تعالى أخبر أنه جعل السماء سقفا للأرض وامتن بذلك على عباده فقال تعالى في سورة البقرة: {الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء} وقال تعالى في سورة المؤمن: {الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء} وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} وقال تعالى في سورة الطور: {والسقف المرفوع} وقال تعالى في سورة ق: {أفلم ينظروا إلى

السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج} فمن أنكر أن تكون السماء سقفاً للأرض كسقف البيت فقد كذّب بما أخبر الله به في كتابه وذلك كفر يبيح الدم والمال. وأما مخالفته للإجماع فقد قال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر ابن المنادي - وهو من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد - قال: أجمعوا على أن الأرض بجميع أجزائها من البر والبحر مثل الكرة, قال وكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء كالنقطة في الدائرة, يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء على قدر واحد, فيدل ذلك على بعد ما بين السماء والأرض من جميع الجهات بقدر واحد فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء انتهى. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية»: حكى ابن حزم وابن المنادي وأبو الفرج ابن الجوزي وغير واحد من العلماء الإجماع على أن السموات كرة مستديرة. وقال أيضاً في تفسير سورة الرعد عند قوله: {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها} الآية. يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمد بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن

الأرض بعداً لا تنال ويدرك مداها, فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها مرتفعة عليها من كل جانب على السواء, وبعدما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام, ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام وسمكها خمسمائة عام. وهكذا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة انتهى. وقال إياس بن معاوية الإمام المشهور قاضي البصرة من التابعين: السماء على الأرض مثل القبة, ذكره عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه.

الرد على زعمه أن جبريل وصل إلى مكان لا يستطيع أن يتقدم إليه

فصل وفي صفحة 21 وصفحة 29 زعم الشلبي أن جبريل وصل إلى مكان لا يستطيع أن يتقدم إليه فقال لمحمد: تقدم أنت أما أنا فليس لي أن أتقدم خطوة واحدة بعد ذلك. والجواب أن يقال: لم يرو هذا في شيء من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما أتى به الشلبي من كيسه, وقد ثبت في الصحيحين من حديث الزهري قال: أخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام» فهذا المستوى هو آخر ما وصل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في عروجه إلى ربه, ولم يذكر في هذا الحديث الصحيح ولا في غيره من الأحاديث الصحيحة أن جبريل وصل إلى مكان لا يستطيع أن يتقدم إليه ولا أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: تقدم أنت وأما أنا فليس لي أن أتقدم خطوة واحدة, فهذا من التقول على جبريل وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية للبخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار».

الرد على إعتراضاته على استفتاح جبريل لأبواب السموات

فصل ومما اعترض به الشلبي على استفتاح جبريل لأبواب السموات قوله في صفحة 29 إنه تصوير مادي محض يؤخذ عليه ما يلي: أولاً: ليست هناك أبواب صلدة تدق. ثانياً: إذا فرض وكانت هناك أبواب فإن الحواجز لا تمنع الملائكة من الرؤيا أو النفاذ, فلا معنى لقول الملاك الواقف بالباب مَن الذي يدق الباب أو مَن الذي يستفتح فإنه يستطيع أن يراه. ثالثاً: جبريل يروح ويغدو بالوحي منذ مطلع البشرية فهو بالتأكيد معروف لكل الملائكة, وهل يوقف أمام الباب كل مرة؟! رابعاً: السؤال الثاني وهو: «من معك» يفهم منه أن الملاك يرى أن شخصا مع جبريل فلماذا لم ير جبريل, وقد أخطأ واضع الحديث وكان عليه أن يقول: هل معك أحد, ولو فعل ذلك لرددناه أيضاً لأنه سؤال لا معنى له, وهل يسئل جبريل هذا السؤال كل مرة في ذهابه وإيابه.

والجواب أن يقال: هذه الاعتراضات الفاسدة مردودة بقول الله تعالى في صفة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وما ينطق عن الهوى} ومن كان مؤمنا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حق الإيمان فإنه لا يرد شيئاً من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - برأيه ولا برأي غيره ولا يقابلها بالاعتراضات والافتراضات والأسئلة التي تدور على الشك والتشكيك فيما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وإنما يقابلها بالقبول والتسليم واعتقاد أن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأخباره كلها حق لا مرية فيه, وفي الأحاديث الصحيحة من أحاديث الإسراء والمعراج أبلغ رد على اعتراضات الشلبي وتشكيكاته في استفتاح جبريل لأبواب السموات. وقد زعم في الرابع من اعتراضاته أن الحديث موضوع. والجواب أن يقال له ما قاله الله لأمثاله من أهل المكابرة والعناد: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} وقد ثبت استفتاح جبريل لأبواب السموات في عدة أحاديث صحيحة. منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه وهو في الصحيحين, ومنها حديث أنس عن أبي ذر رضي الله عنه وهو في الصحيحين,

ومنها حديث شريك بن عبدالله عن أنس رضي الله عنه وهو في الصحيحين, ومنها حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم. وقد جاء ذلك أيضاً في عدة أحاديث في غير الصحيحين. وما كان بهذه المثابة فإنه لا يقدح فيه ويجعل الأحاديث الواردة فيه من قبيل الموضوعات إلا من هو مصاب في دينه وعقله.

الرد على زعمه أن الرواد الأمريكيين قد وصلوا إلى القمر

فصل وفي صفحة 30 زعم الشلبي أن الرواد الأمريكيين قد استطاعوا أن يصلوا إلى القمر ويهبطوا عليه, وقال: وإننا نتساءل هل وقفوا يستفتحون أبواب السماء, ومن الذي فتحها لهم. والجواب أن يقال: إن البشر أضعف وأعجز من أن يصلوا إلى السماء الدنيا التي قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة, وهم عن اختراق السماء أعجز وأعجز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن كثفها مسيرة خمسمائة سنة, فأما فتح أبواب السماء لأعداء الله فهو من المحال كما سيأتي بيان ذلك بالنص الصريح في الآية الكريمة من سورة الأعراف. وليست السماء فضاء كما يزعمه أهل الهيئة الجديدة من الإفرنج ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من جهال المسلمين والذين ينتسبون إلى العلم وليسوا من أهله. وإنما هي بناء شديد كما أخبر الله عنها بذلك في قوله: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} وقال تعالى: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها} وقال تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} وقال تعالى:

{الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء} وقال تعالى: {الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء} والآيات في هذا المعنى كثيرة, وأخبر تعالى أن للسماء أبواباً فقال جل ذكره: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} وقال تعالى: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} وقال تعالى: {وفتحت السماء فكانت أبواباً} وقد تقدم قريباً حكاية الإجماع على أن كرة الأرض في وسط كرة السماء كالنقطة في الدائرة, وروى الإمام أحمد من حديث العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة» ورواه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه. وإنما أنكر أهل الهيئة الجديدة ومقلدوهم وجود السماء الشديدة البناء لأنهم لم يروها بالتلسكوبات المكبرة للأحجام والمقربة للبعيد, وذلك لبعدها الشاسع عن الأرض فظنوا لجهلهم وقلة عقولهم أنه ليس فوق الأرض سوى الفضاء, وكذبوا بما لم يحيطوا

بعلمه, وفيما ذكرته من الآيات والإجماع أبلغ رد عليهم, والآيات والأحاديث في الرد عليهم كثيرة جداً, وليس هذا موضع ذكرها وقد ذكرت طرفا منها في كتابي المسمى: بـ «الصواعق الشديدة على أهل الهيئة الجديدة» فلتراجع هناك, وقد قرر أهل الهيئة الجديدة من الإفرنج أن بين النجوم السيارات والنجوم الثوابت بعداً مهولاً وخلاء مجهولاً, وهذا البعد المهول هو الذي حال بينهم وبين رؤية السماء الدنيا التي قد جعل الله الكواكب زينة لها وإذا كانت قدرة البشر عاجزة عن رؤية السماء الدنيا بسبب البعد المهول فهي عن الوصول إليها بالمركبة الفضائية أعجز وأعجز. وإذا علم هذا فمن زعم أن الرواد الأمريكيين قد وصلوا إلى السماء الدنيا فهو ذاهب العقل وإن ظن في نفسه أن له عقلاً أو ظن الناس أن له عقلاً فلا شك أنه ظن خاطئ, وأسوأ منه في ذهاب العقل من زعم أن الرواد الأمريكيين قد ارتفعوا إلى السماء الدنيا ثم دخلوها بمركبتهم فهذا لا يقوله إلا مبرسم يهذو هذيان المجانين, وقد أخبر الله تعالى أن أبواب السماء لا تفتح للكافرين الذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها كما تقدم النص على ذلك في الآية من سورة الأعراف, ومعنى قوله: {لا تفتح لهم أبواب السماء} أي لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا كما أخبر بذلك

النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما, وإذا كانت أبواب السماء لا تفتح لأرواح الكفار إذا ماتوا فبطريق الأولى أن لا تفتح لأجسامهم ومراكبهم في حال حياتهم, ومن المحال أن يرتفعوا عن الأرض مسيرة خمسمائة سنة فضلاً عن أن يرتفعوا عن الأرض مسيرة ألف سنة وأن يخترقوا السماء التي هي بناء شديد كثافته مسيرة خمسمائة سنة, ومن شك فيما أخبر الله به عن شدة بناء السماء وما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بعدها عن الأرض وعن غلظ سمكها وكثافته وصدق مع ذلك مزاعم أعداء الله وقابل كذبهم وتدجيلهم بالقبول والتسليم فهو ممن يشك في إسلامه, وقد توصل أعداء الله تعالى إلى تضليل المسلمين بالمزاعم الكاذبة والتدجيل والتمويه واستحوذوا بذلك على الفئام الكثيرة والجم الغفير من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل. فأما القمر فإن قيل: إنه في السماء الدنيا كما ذكر ذلك بعض المفسرين فوصول الرواد الأمريكيين إليه محال كما تقدم التنبيه على ذلك, وتكون دعواهم الوصول إليه كذبا وتدجيلا وتمويها على الناس, وإن قيل إنه في فلك دون السماء كما يقول ذلك المنجمون - فقد ذكر ابن منظور في لسان العرب عنهم أنهم قالوا في الفلك

إنه سبعة أطواق دون السماء قد ركبت فيها النجوم السبعة في كل طوق منها نجم وبعضها أرفع من بعض يدور فيها بإذن الله تعالى - ففي الوصول إليه على هذا القول احتمال بعيد, ومما يدل على تعذر الوصول إلى القمر أن الله تعالى أخبر في عدة آيات من القرآن أنه سخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى, وقال تعالى: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} قال الراغب الأصفهاني السبح المرّ السريع في الماء وفي الهواء يقال سبح سبحاً وسباحة واستعير لمرّ النجوم في الفلك نحو: {وكل في فلك يسبحون} ولجري الفرس نحو {فالسابحات سبحاً} ولسرعة الذهاب في العمل نحو: {إن لك في النهار سبحاً طويلاً} انتهى, وقال تعالى: {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} قال الراغب الأصفهاني الدأب إدامة السير, وقال ابن منظور في لسان العرب الدءوب المبالغة في السير, وقال ابن كثير في قوله: {دائبين} أي يسيران لا يفتران ليلاً ولا نهاراً, وقال في موضع آخر أي لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة, وقال القرطبي يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران. قلت: إذا كان القمر يسير دائباً ولا يفتر ويمر في الفلك مراً

سريعاً فإنه يتعذر الوصول إليه والهبوط عليه لأن المركبة الفضائية عاجزة عن اللحوق به لسرعة سيره. وأيضاً فإن الرواد الأمريكيين قد أتوا بأحجار سود زعموا أنها من أرض القمر وزعموا أن في أرضه تراباً وأحجاراً تشبه ما على الأرض من التراب والأحجار, وهذا يدل على كذبهم وتدجيلهم في زعمهم أنهم قد وصلوا إلى القمر وهبطوا عليه لأن الله تعالى قد أخبر أنه جعل القمر نوراً, والنور لا يكون في التراب والأحجار التي تشبه ما على الأرض لأنها لا تضيء بنفسها ولا تقبل الضوء من الأشياء المضيئة وتعكسه على ما يقابلها, وإنما يكون النور في الأشياء المضيئة بنفسها أو الأشياء التي تقبل الضوء من الأشياء المضيئة وتعكسه على ما يقابلها. وأيضاً فإن الرواد لو كانوا صادقين في زعمهم الوصول إلى القمر لكانوا يكثرون الرحلة إليه للاستكثار من المعلومات عنه ولكان رؤساؤهم وأغنياؤهم يحاولون الوصول إليه والاطلاع عليه لأن النفوس مجبولة على حب الاطلاع على الأشياء التي لم ترها ولم تكن تعرفها, وفي توقف الرواد عن الرحلة إلى القمر وتركهم لها بالكلية دليل على أنهم لم يصلوا إليه ولم يهبطوا عليه.

وقد قابل الشلبي أكاذيب الرواد وتدجيلهم بالقبول والتصديق, وأما أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عما وقع له في ليلة الإسراء فقد قابله بالإنكار والتكذيب والمعارضة بالآراء الفاسدة والتشكيك والقدح في الأحاديث المروية في الصحيحين وغيرهما, وهذا يدل على أنه مصاب في دينه وعقله, وقد تقدم ذكر ما أنكره من النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والجواب عن أقواله السيئة في معارضتها فليراجع ما تقدم. وقد قال الله تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} وهذه الآية الكريمة مطابقة لحال الشلبي غاية المطابقة.

الرد على تقريره مذهب الجهمية الحلولية والمعطلة

فصل وقال الشلبي في صفحة 30 وصفحة 31: تتجه الرواية إلى تصوير الله عز وجل كأنه في مكان يسعى له محمد وجبريل, وهذا التصوير يخالف المبادئ الإسلامية التي تقرر أن الله في كل مكان, أو أنه منزه عن المكان, والآيات القرآنية التالية توضح ذلك تمام الوضوح قال تعالى: {وسع كرسيه السموات والأرض} , {إني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} , {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} وعلى هذا فإن هذا التصوير مردود تماماً بنص القرآن الكريم وبحكم الفكر الإسلامي. والجواب أن يقال: إن الرواية في صعود النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جبريل إلى المستوى الذي قرب فيه من ربه عز وجل وسمع فيه صريف الأقلام وكلمه الله وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة ثم خففها الله وجعلها خمساً بعد المراجعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلب التخفيف والتردد بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام. رواية ثابتة في الصحيحين وفيها دليل وتأييد لما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من أن الله تعالى فوق جميع المخلوقات

تكفير الجهمية

مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق بائنون منه, وفيها أيضاً أبلغ رد على الجهمية الذين ينكرون علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه, وعلى الحلولية الذين يقولون إن الله في كل مكان. وأما قول الشلبي: إن هذا التصوير يخالف المبادئ الإسلامية التي تقرر أن الله في كل مكان. فجوابه أن يقال: ليس هذا القول الباطل من المبادئ الإسلامية وإنما هو من أقوال الحلولية من الجهمية. وهو من شر الأقوال التي تخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة على إثبات علو الله تعالى على خلقه ومباينته لهم, ومن زعم أن الله تعالى في كل مكان فقد زعم أنه يكون في الحشوش والأماكن القذرة, تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وقد أبان الشلبي في هذا الموضع عن معتقده الباطل وأنه من الحلولية من الجهمية الذين صرح كثير من أكابر العلماء بتكفيرهم وأخرجهم بعض العلماء من الثنتين وسبعين فرقة من فرق هذه الأمة, والكلام في تكفيرهم مذكور في كتاب السنة لعبدالله بن الإمام أحمد وغيره من كتب السنة, وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية:

ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنـ ... ـهم بل حكاه قبله الطبراني فذكر أن خمسمائة من العلماء تقلدوا القول بتكفير الجهمية, والأدلة على تكفيرهم مذكورة في كتب السنة وليس هذا موضع ذكرها. وأما قوله: أو أنه منزه عن المكان. فجوابه أن يقال: هذه الجملة صريحة في نفي استواء الرب تبارك وتعالى على العرش وعلوه على جميع المخلوقات, وليس في هذا القول الباطل تنزيه للرب تبارك وتعالى وإنما فيه التعطيل ونفي صفات الكمال عن الله تعالى. وأما استدلال الشلبي بالآيات الثلاث على ما ذهب إليه من القول بالحلول فهو استدلال في غير محله, فأما الآية الأولى وهي قوله تعالى: {وسع كرسيه السموات والأرض} فهي من أوضح الأدلة على علو الرب تبارك وتعالى فوق جميع المخلوقات ومباينته لجميع خلقه لأن كرسيه الذي وسع السموات والأرض هو موضع قدميه والله تعالى فوق العرش, والعرش فوق الماء, والماء فوق الكرسي وبينه وبين الكرسي مسيرة خمسمائة عام, قال ابن

عباس رضي الله عنهما: «الكرسي موضع قدميه والعرش لا يقدر أحد قدره» رواه عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وعثمان ابن سعيد الدارمي في الرد على بشر المريسي وإسناد كل منهما صحيح على شرط مسلم, ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه, وفي رواية لعبدالله بن الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع قدميه وما يقدر قدر العرش إلا الذي خلقه» وروى ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس» قال: وقال أبو ذر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض» وروى ابن مردويه عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» , وروى عثمان بن سعيد الدارمي بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «ما بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء مسيرة

خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام والعرش على الماء والله تعالى فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه» ورواه البيهقي في كتاب «الأسماء والصفات» وابن عبدالبر في «التمهيد» بنحوه, وهذا الأثر له حكم المرفوع لأن فيه إخباراً عن أمور غيبية, والأمور الغيبية لا تقال من قبل الرأي وإنما تقال عن توقيف, وقد ذكر الله تعالى استواءه على العرش في سبعة مواضع من القرآن, والعرش فوق جميع المخلوقات, والله تعالى فوق العرش, وقال تعالى: {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} وقال تعالى: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة} وقال تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} وقال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} والآيات والأحاديث الدالة على علو الرب تبارك وتعالى فوق جميع المخلوقات كثيرة جداً, وفيما ذكرته ههنا كفاية في الرد على الشلبي الجهمي الذي حمل آية الكرسي على غير محملها واستدل بها على ما ذهب إليه من الحلول ونفي العلو وهو خلاف ما تدل عليه من علو الرب تبارك وتعالى ومباينته لجميع خلقه. وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {إني قريب أجيب

دعوة الداع إذا دعان} فليس فيها ما يتعلق به الشلبي الجهمي حيث استدل بها على ما يوافق مذهب القائلين بأن الله تعالى في كل مكان أو أنه منزه عن المكان, فالأول قول الحلولية من الجهمية. والثاني قول المعطلة منهم. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً, وإنما المعنى في الآية أن الله سبحانه قريب من قلب الداعي ويكون ذلك بتقريبه قلب الداعي إليه كما يقرب إليه قلب الساجد, فالساجد يدنو قلبه من ربه وإن كان بدنه على الأرض, قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وهذا المعنى متفق عليه بين أهل الإثبات الذين يقولون إن الله فوق العرش, وقال البغوي في الكلام على قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} فيه إضمار كأنه قال: فقل لهم إني قريب منهم بالعلم لا يخفى عليَّ شيء, وقال القرطبي قوله تعالى: {فإني قريب} أي بالإجابة, وقيل بالعلم, وقيل قريب من أوليائي بالأفضال والإنعام, قلت: ولا منافاة بين هذا الأقوال فإنه سبحانه قريب بالعلم وبالإجابة وبالإفضال والإنعام على أوليائه, وقال ابن كثير هذا كقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} وقوله لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} والمراد من

ذكر الإجماع على أن الله تعالى على العرش وهو مع الخلق بعلمه

هذا أنه تعالى لا يخيب دعاء داع ولا يشغله عنه شيء بل هو سميع الدعاء ففيه ترغيب في الدعاء وأنه لا يضيع لديه تعالى انتهى. وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} فالمراد أنه تعالى معهم بعلمه وهو على العرش فوق جميع المخلوقات, وقد نقل الإجماع على هذا غير واحد من أكابر العلماء. قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل فيما رواه القاضي أبو الحسين في «طبقات الحنابلة» عن أبي العباس أحمد بن جعفر بن يعقوب الفارسي الإصطخري قال: قال أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها, فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة, زائل عن منهج السنة وسبيل الحق - ثم ساق الإمام أحمد أقوالهم في هذه العقيدة إلى أن قال - وخلق سبع سموات بعضها فوق بعض وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض, وبين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء إلى سماء

مسيرة خمسمائة عام والماء فوق السماء العليا السابعة, وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء, والله عز وجل على العرش, والكرسي موضع قدميه, وهو يعلم ما في السموات والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى وما في قعر البحار ومنبت كل شعرة وشجرة وكل زرع وكل نبات ومسقط كل ورقة وعدد كل كلمة وعدد الحصى والرمل والتراب ومثاقيل الجبال وأعمال العباد وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم ويعلم كل شيء, لا يخفى عليه من ذلك شيء, وهو على العرش فوق السماء السابعة ودونه حجب من نور ونار وظلمة وما هو أعلم به, فإن احتج مبتدع ومخالف بقول الله عز وجل: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} وبقوله: {وهو معكم أينما كنتم} وبقوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} إلى قوله: {هو معهم أينما كانوا} ونحو هذا من متشابه القرآن, فقل إنما يعني بذلك العلم لأن الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا ويعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان انتهى. وقال أبو عمر ابن عبدالبر أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} هو على العرش وعلمه في كل

مكان. وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله انتهى, وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في «القاعدة المراكشية» ثم قال: فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف إذ لم ينقل عنهم غير ذلك إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وذكر شيخ الإسلام أيضاً في «شرح حديث النزول» قول الله تعالى في سورة الحديد: {وهو معكم أينما كنتم} وقوله تعالى في سورة المجادلة {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} الآية, ثم قال: وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه, وقد ذكر ابن عبدالبر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولم يخالفهم فيه أحد يعتد بقوله وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم. ثم ذكر الشيخ ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وهو معكم أينما كنتم} قال: هو على العرش وعلمه معهم, وروى أيضاً عن سفيان الثوري أنه قال: علمه معهم، وروى أيضاً عن الضحاك بن مزاحم في قوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} إلى قوله {أينما

كانوا} قال هو على العرش وعلمه معهم. وذكر أبو عمر الطلمنكي إجماع أهل السنة والجماعة على أن لله عرشاً وعلى أنه مستو على عرشه, وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه, قال: فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله: {وهو معكم أينما كنتم} ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء, قال: وقال أهل السنة في قوله: {الرحمن على العرش استوى} الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز انتهى, وقال أبو عمر الطلمنكي أيضاً أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله على عرشه بائن من خلقه انتهى. وذكر الذهبي في كتاب «العلو» عن أبي طالب أحمد بن حميد قال: سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال الله معنا وتلا: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} فقال: قد تجهم هذا, يأخذون بآخر الآية ويَدَعون أولها, هلا قرأت عليه: {ألم تر أن الله يعلم} فعلمه معهم, وروى ابن بطة في كتاب «الإبانة» عن المروذي قال: قلِت لأبي عبدالله إن رجلاً قال أقول كما قال الله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره فقال أبو عبدالله هذا

كلام الجهمية, بل علمه معهم فأول الآية يدل على أنه علمه, وقال حنبل بن إسحاق قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل ما معنى قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} و {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} إلى قوله: {إلا هو معهم أينما كانوا} قال علمه. وكلام أكابر العلماء بنحو هذا كثير جداً, وفيما ذكرته ههنا كفاية في الرد على الشلبي الجهمي, وبيان مخالفته لما أجمع عليه الصحابة والتابعون وأئمة العلم والهدى من

بعدهم في معنى قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} الآية وأن المراد بهذه المعية معية العلم, ومن استدل بالآية على أن الله تعالى في كل مكان أو أنه منزه عن المكان فهو من الجهمية الذين كفرهم العلماء وأخرجهم بعض الأئمة من الثنتين والسبعين فرقة من فرق هذه الأمة. وأما قول الشلبي: وعلى هذا فإن هذا التصوير مردود تماماً بنص القرآن الكريم وبحكم الفكر الإسلامي. فجوابه من وجهين: أحدهما: أن يقال: إن المردود بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم هو قول الشلبي الجهمي أن الله تعالى في كل مكان أو أنه منزه عن المكان, فالأول قول الحلولية من الجهمية, والثاني قول المعطلة منهم, وكل من القولين باطل وضلال وكفر بالله العظيم لما فيهما من إنكار علو الرب تبارك وتعالى فوق جميع المخلوقات واستواءه على العرش ومباينته لجميع خلقه فلا يخالطهم ولا يمتزج بهم. وقد ذكرت قريباً بعض النصوص الدالة على علو الرب تبارك وتعالى فوق جميع خلقه وأشرت إلى ما لم أذكره منها وهي كثيرة جداً في الكتاب والسنة. الوجه الثاني: أن يقال: إن الفكر الإسلامي هو الذي يدور مع نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها وهو الذي يقرر علو الرب تبارك وتعالى فوق جميع المخلوقات واستواءه على العرش ومباينته لجميع خلقه, فأما القول بأن الله تعالى في كل مكان أو أنه منزه عن المكان فهو من أفكار الجهمية وليس من أفكار المسلمين, ومن زعم أنه من الأفكار الإسلامية فقد قلب الحقيقة وافترى على الإسلام والمسلمين.

الرد على زعمه أن الله تعالى تجلى لرسوله

فصل وزعم الشلبي في صفحة 16 وصفحة 17 وصفحة 18 أن الله تجلى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - في المعراج. والجواب أن يقال: معنى التجلي في اللغة الظهور, قال الزجاج: {تجلى ربه للجبل} أي ظهر وبان. ذكره ابن الجوزي في تفسيره وابن منظور في لسان العرب. وقال القرطبي: في تفسيره تجلى: معناه ظهر, وإذا علم هذا فقد اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء, فأثبتها طائفة ونفاها آخرون وهو الصحيح لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك؟ قال: «نورٌ أنَّى أراه» قال المازري معناه أن النور منعني من الرؤية كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائي وبينه انتهى. وفي رواية لمسلم قال: «رأيت نوراً» قال النووي: معناه رأيت النور فحسب ولم أر غيره انتهى, وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه رد لقول الشلبي: إن الله تعالى تجلي على رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الرد على تخبيطه في فرض الصلاة

فصل وفي صفحة 16 ذكر الشلبي أن الله تعالى فرض على رسوله وعلى أمته الصلاة خمس مرات في اليوم, أو فرضها خمسين صلاة فتضرع الرسول لربه سائلا, هل تقوى أمتي على هذا التكليف, فتفضل الله وجعلها خمساً رحمة منه وإشفاقاً, وقال نحو ذلك في صفحة 33. والجواب أن يقال: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الله تعالى فرض الصلاة أول ما فرضها خمسين صلاة في اليوم والليلة وبعد المراجعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلب التخفيف جعلها الله خمس صلوات في اليوم والليلة, ولم تكن خمساً من أول الأمر كما قد توهم ذلك الشلبي في صفحة 33 معتمداً على اعتقاده المخالف لما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما قوله: وإشفاقاً. فجوابه أن يقال: إن الله تعالى لا يوصف بالإشفاق, لأن الإشفاق هو الخوف وهو من صفات المخلوقين فالله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين, وقد قال نعيم بن حماد شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه كفر. وهذا الذي قاله نعيم بن حماد هو قول أهل السنة

والجماعة قاطبة.

الرد على زعمه أن الآيات الكبرى هي المجموعة الشمسية والمجموعات الأخرى

فصل وقال الشلبي في صفحة 16: وفي رحلة المعراج رأى الرسول آيات كبرى وليست عندنا تفاصيل عن هذه الآيات, ويحتمل أنه رأى العوالم الكبرى في الكون كالمجموعة الشمسية والمجموعات الأخرى ولم يتحدث عنها الرسول لأن العقل البشري آنذاك ما كان يمكنه أن يتقبلها. والجواب أن يقال: قد ذكر ابن جرير في تفسيره قولين لأهل التأويل في المراد بالآيات الكبرى أحدهما: أنه رأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق, وهذا القول ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه البخاري في صحيحه وابن جرير في تفسيره من طريق علقمة عنه, والقول الثاني: أنه رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح, وهذا أيضاً ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه مسلم في صحيحه من طريق زر بن حبيش عنه, وروى الترمذي عن مسروق أن عائشة رضي الله عنها قرأت: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} ثم قالت: «إنما هو جبريل لم يره في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سد الأفق» وروى الإمام أحمد والترمذي والحاكم في مستدركه عن

ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: {ما كذب الفؤاد ما رأى} قال: «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي تلخيصه. وفي هذه الرواية جمع بين ما في رواية علقمة ورواية زر عن ابن مسعود رضي الله عنه وعلى هذا يكون القول في تفسير الآية واحداً والله أعلم. وأما قول الشلبي: ويحتمل أنه رأى العوالم الكبرى في الكون كالمجموعة الشمسية والمجموعات الأخرى. فجوابه أن يقال: هذه المجموعات المزعومة اسم لا مسمى له, وإنما تدور الأقوال فيها على التخرصات والتوهمات ومعارضة الآيات والأحاديث الصحيحة الدالة على جريان الشمس في فلكها ودورانها حول الأرض ودءوبها في ذلك, وعلى التخرصات والتوهمات ومعارضة الأدلة الدالة على وقوف الأرض وسكونها ومعارضة إجماع المسلمين وأهل الكتاب على ذلك, وقد ذكرت الأدلة الدالة على جريان الشمس وسكون الأرض في كتابي المسمى بـ «الصواعق الشديدة, على أهل الهيئة الجديدة» فلتراجع هناك, والقول بأن الشمس لها مجموعة تدور حولها وأن هناك

تحريم القول في القرآن بغير علم

مجموعات أخرى وأن الشمس ساكنة وأن الأرض تدور حولها كله من خرافات أهل الهيئة الجديدة من الإفرنج وسخافاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان وإنما هي من وحي الشيطان وتضليله, وقد قلدهم في ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين وشيوخ وأساتذة ودكاترة فضلاً عن غيرهم, وقد بلغ الجهل بكثير منهم إلى معارضة الآيات والأحاديث الدالة على جريان الشمس ودءوبها في السير والدوران حول الأرض وحملها على ما يوافق آراء أهل الهيئة الجديدة وتخرصاتهم, وكذلك قد ردوا الأدلة الدالة على وقوف الأرض وسكونها وإجماع المسلمين وأهل الكتاب على ذلك بما تلقوه عن أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم من المنتسبين إلى العلم من المسلمين. وقد استدل بعض المنتسبين إلى العلم على سير الأرض ودورانها حول الشمس بقول الله تعالى في سورة النمل: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} وقد أخطئوا في تأويل الآية والاستدلال بها على ما زعموه من سير الأرض ودورانها حول الشمس وقالوا في القرآن بغير علم وضلوا وأضلوا كثيراً من الناس وقد ورد الوعيد الشديد لمن قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم وذلك فيما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن

النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وفي رواية له: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: هذا حديث حسن, قال: وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم انتهى. والذين استدلوا على سير الأرض ودورانها حول الشمس بالآية المذكورة قد قالوا في القرآن بغير علم وتعرضوا للوعيد الشديد لمن فعل ذلك. وهلاّ قرءوا ما قبل الآية المذكورة وما بعدها حتى يعلموا أنهم مخطئون تائهون وأن مرور الجبال وسيرها إنما يكون يوم القيامة. قال الله تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكُل أتوه داخرين * وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون * من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} فالآيات كلها واردة في الخبر عما يكون في يوم القيامة من النفخ في الصور والفزع

ومرور الجبال وسيرها والمجازاة على الأعمال إن خيراً فخير وإن شراً فشر, وقد أخبر الله تعالى عن سير الجبال يوم القيامة في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً} وقوله تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نفساً * فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا} الآيات وقوله تعالى: {فإذا النجوم طمست * وإذا السماء فرجت * وإذا الجبال نسفت * وإذا الرسل أقتت * لأي يوم أجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذ للمكذبين} وقوله تعالى: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً * يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً * وفتحت السماء فكانت أبواباً * وسيرت الجبال فكانت سراباً} وقوله تعالى: {القارعة ما القارعة * وما أدراك ما القارعة * يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش} وقوله تعالى: {إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة * إذا رجت الأرض رجاً * وبست الجبال بساً * فكانت هباء منبثاً * وكنتم أزواجاً ثلاثة} فدلت هذه

الرد على نسبته الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الكتمان وعلى غضه عن الصحابة والتابعين وأئمة الهدى والعلم من بعدهم

الآيات مع الآيات من سورة النمل على أن سير الجبال ومرورها مثل مر السحاب وذهابها بعد ذلك بالكلية إنما يكون يوم القيامة لا في الدنيا. وأما قوله: ولم يتحدث عنها الرسول لأن العقل البشري آنذاك ما كان يمكنه أن يتقبلها. فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بكل ما وقع له وما رآه في ليلة الإسراء والمعراج, فأخبر أنه أتي بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبه فسار به حتى أتى بيت المقدس فربطه بالحلقة التي يربط بها الأنبياء, ثم دخل المسجد فصلى فيه ركعتين, ثم أتي بإناء من خمر وإناء من لبن فاختار اللبن, وأخبر أن جبريل خرق الصخرة بأصبعه وشد بها البراق, وأخبر أيضاً أن جبريل عرج به إلى السموات السبع وأنه كان يستفتح عند كل سماء فيقال له: من أنت؟ فيقول: جبريل. فيقال له: ومن معك؟ فيقول: محمد. فيقال له: وقد أرسل إليه؟ فيقول: نعم قد أرسل إليه فيفتح لهما, وأخبر أيضاً أنه رأى عدداً من الأنبياء في السموات السبع وأنه سلم عليهم فردوا عليه السلام ورحبوا به ودعوا له بخير, وأخبر أيضاً أنه رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في

السماء السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور, وأخبر أيضاً أنه رأى البيت المعمور وأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه, وأخبر أيضاً أنه رفع إلى سدرة المنتهى وأن نبقها مثل قلال هجر, وأن ورقها مثل آذان الفيلة, وأخبر أيضاً أنه رأى الجنة والنار وأنه أدخل الجنة فإذا فيها جبال اللؤلؤ وإذا ترابها المسك, وأخبر أيضاً أنه رأى مالكاً خازن النار فسلم عليه مالك, وأخبر أيضاً أنه عرج به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام - أي أقلام القدر بما هو كائن - وأخبر أيضاً أن الله تعالى فرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة فلما نزل وانتهى إلى موسى أشار عليه أن يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف عنه وعن أمته, وأخبر أيضاً أنه لم يزل يتردد بين ربه وبين موسى حتى جعلها الله خمساً في العمل وخمسين في الأجر, وأخبر أيضاً أنه لما حانت الصلاة صلى بالأنبياء وأن ذلك كان في بيت المقدس فكل هذا قد أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الثابتة عنه. وقد تلقاه من سمعه من الصحابة رضي الله عنهم بالإيمان والتسليم, وكذلك كل من بلغه ذلك من الصحابة والتابعين وأتباعهم من المؤمنين إلى زماننا فكلهم تلقوه بالإيمان والتسليم, ولم يتوقف عن قبوله إلا أهل الشذوذ والمخالفة من

العصريين ومنهم الشلبي وأمثال له كثير, ولا شك أن هؤلاء قد أصيبوا في دينهم وعقولهم, فأما المجموعة الشمسية والمجموعات الأخرى المزعومة وهي التي يسمونها العوالم الكبرى فليس لها وجود إلا في أذهان أهل الهيئة الجديدة من الإفرنج وفي أذهان أتباعهم من جهلة العصريين الذين يصدقون مزاعم أعداء الله ويتلقون كل ما جاء عنهم من التخرصات والتوهمات بالقبول والتسليم ويقدمون أقوالهم الباطلة على ما جاء في كتاب الله تعالى وما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وما أعظم البلاء على الدين وأهل الدين من هؤلاء الذين قد ذكرت بعض أفعالهم السيئة, والله المسئول أن يطهر الأرض منهم ومن كل من عارض أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخباره برأيه وتفكيره أو بتفكير غيره من الناس وآرائهم. الوجه الثاني: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ترك أمته وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لهم منه علماً, رواه الإمام أحمد والطبراني عن أبي ذر رضي الله عنه. قال الهيثمي: ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبدالله بن يزيد المقري وهو ثقة. وقد رواه الطبراني أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح, وفي هذين الحديثين أبلغ رد على من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى العوالم الكبرى ولم يتحدث عنها

ويلزم على هذا القول الباطل نسبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الكتمان لبعض ما ينبغي التحدث عنه. الوجه الثالث: أن يقال: إن كلام الشلبي في هذه الجملة مشتمل على الغض من الصحابة ونسبتهم إلى ضعف العقول بحيث لا يمكن أن يتقبلوا التحديث عن العوالم الكبرى. وهذا من ظن السوء بالصحابة رضي الله عنهم, ويلزم على هذا الظن الكاذب ترجيح عقول أتباع الهيئة الجديدة ومقلديهم من العصريين على عقول الصحابة رضي الله عنهم, وهذا لا يقوله إنسان يعقل ما يقول, والصحابة رضي الله عنهم منزهون عن ظنون الشلبي وأمثاله من متشدقة العصريين وضلالهم, وقد كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم الناس إيماناً بأقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخباره وأشدهم مسارعة إلى تقبل ما يحدثهم به عن الأمور الغيبية فلو أنه رأى العوالم الكبرى التي زعموها وحدث الصحابة عنها لسارعوا إلى تصديقه وقبول ما يخبرهم به, وقد أخبرهم أنه رأى الجنة والنار ورأى جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق ورأى سدرة المنتهى ورأى البيت المعمور إلى غير ذلك مما رآه وما وقع له في ليلة الإسراء والمعراج وقد تقدم ذكره في الوجه الأول, وكل واحد مما رآه وما وقع له أعظم بكثير من العوالم الكبرى التي زعموها,

وقد قابل الصحابة رضي الله عنهم أخباره كلها بالإيمان والتسليم, فأبعد الله من عاب الصحابة ورماهم بضعف العقول. الوجه الرابع: أن يقال: إن إثبات العوالم الكبرى والتحدث عنها مبني على التخرص واتباع الظن. والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن التحدث بما يتحدث به أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم من التخرص عن العوالم الكبرى التي زعموها, والصحابة رضي الله عنهم منزهون عن تقبل التخرصات التي يهذو بها أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم, وإنما يتقبل ذلك أهل العقول الضعيفة من العصريين الذين هم أتباع كل ناعق.

الرد على إنكاره حياة موسى البرزخية

فصل وفي صفحة 31 وصفحة 32 وصفحة 33 قال الشلبي: خامساً موسى وتخفيف الصلاة, تصور الرواية موسى عليه السلام حياً, وتصوره في السماء السادسة أو السابعة وتصوره يسأل محمداً صلوات الله وسلامه عليه, ماذا فرض الله عليك وعلى أمتك فيقول خمسون صلاة في اليوم والليلة فيقول له موسى ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, ويستجيب محمد ويعود مرة أخرى وثالثة ورابعة ... على ما مر ذكره, واعتقادي أن هذه القصة من الإسرائيليات التي ترمي إلى وضع موسى في موضع المعلم لمحمد وصاحب الفضل على المسلمين وكأنه أعرف بأمة محمد من محمد, وقد تسربت رائحة الإسرائيليات من الروايات المتصلة بهذا الموضوع, فقد جعلت بعض الروايات موسى في السماء السابعة وجعلته يقول عندما رأى محمداً يتخطى السماء السابعة إلى ما فوقها, رب لم أكن أظن أن ترفع علي أحداً, ثم إن الروايات تقسو في تصوير اعتراض موسى لمحمد وعبارتها هي, عندما عاد محمد احتبسه موسى وهو تعبير لا يليق بسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والجواب أن يقال: أما قوله إن الرواية تصور موسى حياً.

فجوابه أن يقال: أن موسى وسائر الأنبياء أحياء عند ربهم حياة برزخية أعلى وأكمل من حياة الشهداء الذين قال الله فيهم: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} وقال تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به إلى السماء عدداً من الأنبياء في السموات السبع وسلم عليهم فردوا عليه السلام ورحبوا به ودعوا له بخير, وهذا يدل على أنهم أحياء عند ربهم حياة برزخية, والأحاديث الواردة في ذلك ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضها في الصحيحين وبعضها في غيرهما, وفيها أبلغ رد على من أنكر الحياة البرزخية للأنبياء. وأما قوله: وتصوره في السماء السادسة أو السابعة. فجوابه أن يقال: قد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه رأى موسى في السماء السادسة, وجاء مثل ذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه, وجاء مثل ذلك فيما رواه البيهقي في «دلائل النبوة» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وجاء مثل ذلك فيما رواه ابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه,

الرد على إنكاره سؤال موسى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عما فرض الله عليه وعلى أمته وإنكاره إشارة موسى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعة ربه وطلب التخفيف من عدد الصلوات

والعمدة في هذا على ما ثبت في الصحيحين عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه وما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه, وما سوى ذلك فهي شواهد لما جاء في الصحيحين. وأما قوله: وتصوره يسأل محمداً ما فرض الله عليك وعلى أمتك فيقول خمسون صلاة في اليوم والليلة فيقول له موسى ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, ويستجيب محمد ويعود مرة أخرى وثالثة ورابعة ... على ما مر ذكره. فجوابه أن يقال: كل ما ذكره الشلبي في هذه الجملة فهو واقع وثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن أنكره فإنما هو في الحقيقة ينكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذب خبره الصادق, وهذا من أفعال أهل الزيغ والزندقة. وأما قوله: واعتقادي أن هذه القصة من الإسرائيليات التي ترمي إلى وضع موسى في موضع المعلم لمحمد وصاحب الفضل على المسلمين وكأنه أعرف بأمة محمد من محمد. فجوابه أن يقال: أما قصة الإسراء والمعراج فهي ثابتة في الصحيحين من حديث أنس بن مالك ومالك بن صعصعة وأبي ذر رضي الله عنهم فمن أنكرها أو أنكر شيئاً منها أو اعتقد أنها قصة

الرد على إنكاره فضل موسى على الأمة المحمدية لما بذله من النصيحة والمشورة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعة ربه وطلب التخفيف من عدد الصلوات

إسرائيلية فلا شك أنه زائغ القلب فاسد الاعتقاد. وليس فيما دار بين موسى عليه السلام ومحمد - صلى الله عليه وسلم - من المراجعة في طلب التخفيف من عدد الصلوات ما يرمى إلى وضع موسى في موضع المعلم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما قد توهم ذلك الشلبي, وإنما ذلك من باب المشورة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والنصيحة له ولأمته وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة» رواه مسلم وغيره من حديث تميم الداري رضي الله عنه, وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يشيرون على النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور فيقبل مشورتهم ويعمل بما يرى فيه مصلحة عامة أو خاصة. ولا شك أن نصيحة موسى عليه الصلاة والسلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومشورته عليه بالرجوع إلى ربه وطلب التخفيف من عدد الصلوات أولى بالقبول لما يترتب على ذلك من التيسير على الأمة كلها, وقد جعل الله تعالى في نصيحته ومشورته خيراً كثيراً. فجزى الله نبينا وجزى موسى عن هذه الأمة خير الجزاء. وأما قوله: إن القصة ترمي إلى وضع موسى صاحب الفضل على المسلمين. فجوابه أن يقال: أما كون موسى عليه الصلاة والسلام

صاحب فضل على الأمة المحمدية كلها بما بذله من النصيحة والمشورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجع ربه في طلب التخفيف من عدد الصلوات فهذا لا ينكره إلا مكابر جاحد للمعروف والفضل العظيم الذي قد شمل الأمة كلها, وهذه المكابرة ناشئة عن رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج وتكذيب ما أخبر به عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قد بذل له النصيحة والمشورة في طلب التخفيف من عدد الصلوات, وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وفي رواية لأحمد «من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل» وروى الإمام أحمد أيضاً والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, قال وفي الباب عن الأشعث بن قيس والنعمان بن بشير: قلت قد روى الإمام أحمد حديث الأشعث بن قيس رضي الله عنه بمثل الرواية الأولى عن أبي هريرة رضي الله عنه, وروى حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما بمثل الرواية الثانية عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وإذا علم هذا فليعلم أيضاً أن الشلبي قد جمع في كلامه بين أمرين ذميمين أحدهما عدم الشكر لله تعالى على ما منّ به من تخفيف عدد الصلوات وجعلها خمساً في العمل وخمسين في الأجر. وذلك لأنه لم يشكر صنيع موسى عليه الصلاة والسلام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث بذل له النصيحة والمشورة بأن يراجع ربه ويطلب منه التخفيف لأمته من عدد الصلوات, ومن لم يشكر المعروف العظيم لموسى عليه الصلاة والسلام فهو لم يشكر الله تعالى على فضله وامتنانه بالتخفيف. الأمر الثاني: رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج وتكذيب ما جاء فيها من الأخبار الصادقة. وهذا أمر خطير جداً, قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى, من رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة. رواه القاضي أبو الحسين في «طبقات الحنابلة» من رواية الفضل بن زياد القطان عن أحمد. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» وفي هذا الحديث دليل على أن من رد شيئاً مما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه حلال الدم

الرد على زعمه أن رائحة الإسرائيليات قد تسربت من الروايات في الإسراء والمعراج

والمال, ومن لم يؤمن بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما رآه في ليلة الإسراء والمعراج وما دار بينه وبين موسى عليه الصلاة والسلام من المراجعة في طلب التخفيف من عدد الصلوات فلا شك أنه داخل في عموم هذا الحديث الصحيح. وأما قوله: وكأنه أعرف بأمة محمد من محمد. فجوابه أن يقال: لا يخفى ما في هذه العبارة من الجفاء والبعد عن التوقير والاحترام لنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام, وهذا إنما ينشأ عن ضعف الإيمان بالله ورسله, ويقال أيضاً: إن موسى عليه الصلاة والسلام وغيره من أنبياء بني إسرائيل كانوا يعرفون الأمة المحمدية بما يجدونه فيما أنزل الله عليهم من الكتب. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الله كتب في الألواح - يعني التي أنزلت على موسى - ذكر محمد وذكر أمته وما ادخر لهم عنده وما يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم, رواه ابن جرير. وأما قوله: وقد تسربت رائحة الإسرائيليات من الروايات المتصلة بهذا الموضوع فقد جعلت بعض الروايات موسى في السماء السابعة وجعلته يقول عندما رأى محمداً يتخطى السماء السابعة إلى ما فوقها, رب لم أكن أظن أن ترفع علي أحداً.

الرد على جفائه وبعده عن التوقير والاحترام لنبي الله موسى

فجوابه من وجوه: أحدها أن يقال: قد جاء في الإسراء والمعراج أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضها في الصحيحين وبعضها في صحيح مسلم, وهي من رواية ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه, ومن رواية أنس عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه, ومن رواية أنس عن أبي ذر رضي الله عنه, فمن أنكر هذه الأحاديث أو أنكر شيئاً مما جاء فيها أو قال إنها أحاديث إسرائيلية أو إنها قد تسربت إليها رائحة الإسرائيليات فلا شك أنه فاسد الاعتقاد لأنه إنما ينكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذب أخباره الصادقة, ومن كان كذلك فهو ممن يشك في إسلامه لأنه لم يحقق الشهادة بالرسالة, ومن تحقيقها تصديق أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد تقدم قريباً حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه أن عصمة الدم والمال مشروطة بالتوحيد والإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به. والوجه الثاني أن يقال: إن الرواة لأحاديث أنس بن مالك ومالك بن صعصعة وأبي ذر رضي الله عنهم كلهم ثقات, فمن زعم أن رائحة الإسرائيليات قد تسربت إلى رواياتهم في الإسراء والمعراج فقد افترى عليهم وعلى رواياتهم مع ما ارتكبه من تكذيب أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعلها من قبيل الإسرائيليات, وما أعظم هذا وأشد خطره.

الوجه الثالث أن يقال: ما جاء في بعض الروايات أن موسى عليه الصلاة والسلام كان في السماء السابعة فهو غلط من بعض الرواة, وقد جاء في حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه وفي حديثي أنس عن مالك بن صعصعة وأبي ذر رضي الله عنهم أن موسى عليه الصلاة والسلام كان في السماء السادسة وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في السماء السابعة, والعمدة على ما جاء في هذه الأحاديث الصحيحة ولا عبرة بما خالفها من الروايات التي قد وقع فيها الغلط والتخليط. الوجه الرابع أن يقال: ليس في غلط بعض الروايات في تعيين مكان موسى عليه الصلاة والسلام في السموات ما يدل على أن رائحة الإسرائيليات قد تسربت إلى الروايات الصحيحة, فهذا من ظن السوء بالروايات الصحيحة وبرواتها. وأما ما جاء في رواية شريك بن عبدالله عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب لم أكن أظن أن ترفع علي أحداً. فجوابه أن يقال: هذا مما اضطرب فيه شريك بن عبدالله وساء حفظه فيه ولم يضبطه, وقد جاء في الصحيحين من حديث

الرد على سوء فهمه لبعض الروايات

أنس بن مالك رضي الله عنه عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أتى السماء السادسة إذا هو بموسى عليه الصلاة والسلام فسلم عليه فرد السلام ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح قال: «فلما تجاوزته بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي» فهذا هو الثابت المعتمد لا ما جاء في حديث شريك, وأيضاً فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد رفع إلى السماء السابعة كما جاء ذلك في الأحاديث الصحيحة التي تقدم ذكرها في الوجه الثالث, وفي رفع إبراهيم على موسى أبلغ رد على ما جاء في رواية شريك عن أنس رضي الله عنه. وأما قوله ثم إن الروايات تقسو في تصوير اعتراض موسى لمحمد, وعبارتها هي: عندما عاد محمد احتبسه موسى وهو تعبير لا يليق بسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه من وجهين: أحدهما أن يقال: ليس المراد بالاحتباس هنا حبس الإيذاء والإهانة كما هو الظاهر من عبارة الشلبي حيث زعم أن ذلك لا يليق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنما المراد به طلب التريث عنده قليلاً ليسأله عما فرضه الله عليه وعلى أمته, وقد كان لهذا

الاحتباس أثر عظيم وكان فيه خير كثير للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولجميع أمته حيث أشار موسى عليه الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجع ربه ويطلب منه التخفيف من عدد الصلوات ففعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة مرات كلها بإشارة موسى عليه الصلاة والسلام حتى جعلها الله تعالى خمس صلوات في العمل وخمسين في الأجر, فهذا من ثمرة احتباس موسى عليه الصلاة والسلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين مر به, ولا ينكر فضل هذا الاحتباس وعظم ثمرته إلا من هو مصاب في دينه وعقله. الوجه الثاني أن يقال: إن التعبير الذي لا يليق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو ما فعله الشلبي من رد أخباره الصادقة وتكذيبها وجعلها من قبيل الإسرائيليات, فهذه هي القسوة الرذيلة في الاعتراض على النبي - صلى الله عليه وسلم - , وهي قسوة تزيل عصمة الدم والمال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الرد على إعتراضاته على قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع موسى

فصل وفي صفحة 32 وصفحة 33 أورد الشلبي اعتراضات له على ما أشار به موسى عليه الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف من عدد الصلوات. فالأول من اعتراضه قوله عن القصة: إنها تصور الله سبحانه وتعالى في مكان محدد يمشي له محمد ويعود لموسى ثم يرجع إليه. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والجواب أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من إنكار علو الله على خلقه واستوائه على عرشه فوق جميع المخلوقات, وهذا قول الجهمية الذين كفرهم علماء السلف وأخرجهم بعض العلماء من الثنتين والسبعين فرقة من فرق هذه الأمة. وقد أبان الشلبي في هذا الموضع وفي صفحة 30 وصفحة 31 من كتيّبه أن معتقده معتقد الجهمية الذين يقولون إن الله في كل مكان, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث صحيحة أنه أخبر أن جبريل عرج به حتى انتهى به إلى سدرة المنتهى, وفي بعض الروايات أنه عرج به حتى ظهر

لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام وأنه - صلى الله عليه وسلم - لما فرض الله عليه الصلوات نزل به جبريل حتى انتهى إلى موسى عليه الصلاة والسلام فسأله عما فرضه الله عليه وأشار عليه بالرجوع إلى ربه وسؤاله التخفيف من عدد الصلوات فعرج به جبريل إلى ربه, وفي حديث شريك بن عبدالله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: فعلا به إلى الجبار تعالى وتقدس, ثم لم يزل - صلى الله عليه وسلم - يتردد بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام يعرج به جبريل إلى ربه ثم ينزل به حتى ينتهي إلى موسى عليه الصلاة والسلام حتى جعلها الله خمس صلوات في العمل وخمسين في الأجر, وفي هذه الأحاديث الصحيحة أبلغ رد على الشلبي وعلى إخوانه من الجهمية الذين ينكرون علو الرب تبارك وتعالى فوق جميع المخلوقات.

فصل الثاني من اعتراض الشلبي على قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع موسى عليه الصلاة والسلام قوله: إنها تصور الله على غير ما هو معروف عنه من وفرة المنح ومن الكرم العظيم فهي تصوره ينقص الخمسين إلى خمس وأربعين ثم ينقصها في جولة أخرى إلى أربعين ثم إلى خمس وثلاثين, قال: ونحن نصرخ في وجه من يقول هذا القول بأن كرم الله تصوره آياته: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} و {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} ولا يمكن إلا في خيال مادي أن تتم صورة المساومة التي وردت في الرواية فينقص الله خمس صلوات في كل مرة ثم ينقص خمسة أخرى أو عشرة, تعالى الله عن ذلك. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها أن يقال: إنه يجب على المسلم التسليم لما جاء عن الله تعالى وما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز الاعتراض على شيء مما جاء عن الله تعالى ولا على شيء مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , ومن اعترض على شيء من ذلك فلا شك أنه زائغ القلب فاسد العقيدة.

الوجه الثاني أن يقال: إن في تردد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام في طلب التخفيف من عدد الصلوات أعظم تشريف وتكريم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان في كل مرة يعرج إلى ربه ويدنو منه ويكلمه ربه ويخفف عنه, وهذا الفضيلة لم تكن لأحد من بني آدم سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولو فرضت الصلوات خمس مرات من أول الأمر لَمَا حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - كثرة العروج إلى ربه والدنو منه وكثرة تكليم الرب له, ولله تعالى فيما قضاه من كثرة تردد نبيه - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين موسى عليه الصلاة والسلام حكم وأسرار لا يحيط بعلمها إلا الله تعالى, وقد قال تعالى: {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} وفي هذه الآية الكريمة أبلغ رد على اعتراضات الشلبي على أفعال الرب تبارك وتعالى مع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وكثرة ترديده له في طلب التخفيف من عدد الصلوات. الوجه الثالث أن يقال: من منح الرب تبارك وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وكرمه العظيم عليه ما خصه به من كثرة الصعود إليه والدنو منه وسماع كلامه ومن وفرة منح الرب تبارك وتعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته وكرمه العظيم عليهم أنه خفف عنهم عدد الصلوات التي كان قد فرضها عليهم يوم خلق السموات والأرض خمسين فجعلها خمساً في العمل وخمسين في الأجر, وهذه نعمة عظيمة لا يعرف

قدرها كثير من الناس. الوجه الرابع أن يقال: أتدري أيها الجهمي من أنت تصرخ في وجهه, إنك تصرخ في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو الذي أخبر عن نفسه أنه كان يتردد بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام ويسأل ربه التخفيف عنه وعن أمته. وأن الله تعالى كان يحط عنه في كل مرة خمساً وفي رواية عشراً حتى جعلها الله تعالى خمساً في العمل وخمسين في الأجر, ولا يخفى ما في صراخ الشلبي من سوء الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقابلة أخباره الصادقة بالرد والتكذيب, وهذا مما يزيل عصمة الدم والمال. الوجه الخامس أن يقال: قد وقعت المراجعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه عز وجل عدة مرات في طلب التخفيف عنه وعن أمته من عدد الصلوات حتى انتهى التخفيف إلى خمس صلوات في اليوم والليلة, وقد زعم الشلبي أن هذا من صور المساومة, وهذا من سوء أدبه مع الرب تبارك وتعالى ومع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث شبههما بالتجار الذين يساوم بعضهم بعضاً في السلع, تعالى الله عما يقول الظالم الجاهل بالله علواً كبيراً, وتنزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول السوء الذي أطلقه عليه الجاهل المتهور.

فصل الثالث من اعتراض الشلبي على قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع موسى عليه الصلاة والسلام قوله: إنها ترمي إلى وضع موسى في موضع المعلم لمحمد, ومحمد خاتم الأنبياء وأفضلهم وإمامهم ومعلم البشرية والرسول الذي أرسل للناس جميعاً. والجواب عن هذا الاعتراض قد تقدم قريباً قبل هذا الفصل بفصلين فليراجع (¬1). ¬

(¬1) ص78 - 79.

فصل الرابع من اعتراض الشلبي على قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع موسى عليه الصلاة والسلام قوله: تضع هذه الرواية موسى كأنه يعرف أمة محمد أكثر من محمد. والجواب عن هذا الاعتراض قد تقدم قريباً قبل هذا الفصل بفصلين فليراجع (¬1). ¬

(¬1) ص82.

فصل الخامس من اعتراض الشلبي على قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع موسى عليه الصلاة والسلام قوله: كيف يتصور العقل محمداً - صلى الله عليه وسلم - ذاهباً وعائداً عدة مرات بناء على طلب موسى, والابن لا يطيع أباه إلى هذا المدى مهما كان في ذلك من خير إليه. والجواب أن يقال: أما العقل السليم فإنه لا ينكر نصيحة موسى عليه الصلاة والسلام لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإشارته عليه أن يراجع ربه ويطلب منه التخفيف عنه وعن أمته من عدد الصلوات, ولا ينكر أيضاً ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تردد بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام عدة مرات إلى أن انتهى التخفيف من عدد الصلوات, فكل هذا ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , والعقل السليم لا ينكر شيئاً مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يتلقاه بالقبول والتسليم, وأما العقل السقيم الذي قد رانت عليه ظلمات البدع والشبه والشكوك فإنه لا يقيم وزناً للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يبالي بردها وإنكارها ومقابلتها بالاعتراضات والآراء الفاسدة, وهذا ما فعله الشلبي في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة من كتيّبه المملوء بالجهل والضّلال.

الرد على بعض اعتقاداته الفاسدة

فصل وقال الشلبي في صفحة 33 واعتقادي أن الصلوات فرضها الله من أول الأمر خمساً في العمل وخمسين في الأجر. والجواب أن يقال: هذا اعتقاد فاسد لمخالفته لما جاء في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى فرض الصلاة في أول الأمر خمسين وأن موسى عليه الصلاة والسلام أشار على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجع ربه ويطلب منه التخفيف عنه وعن أمته ففعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة مرات حتى جعلها الله تعالى خمساً في العمل وخمسين في الأجر.

الرد على تشكيكه في بعض أحاديث الصحيحين

فصل وقال الشلبي في صفحة 33 وصفحة 34: وكم عانى المفكرون المسلمون من أشياء وضعها الوضاع وتقبلها بعض المسلمين وراحوا يدافعون عنها بحماسة متصورين أن الشك في حديث واحد من أحاديث البخاري أو مسلم يسقط كل أحاديث البخاري أو أحاديث مسلم, قال وأنا أعرف أن حديث الغرانيق والسحر وغيرهما وردت في هذه الكتب المهمة. ثم قال: أقرر أن هناك أحاديث موضوعة وجدت طريقها إلى البخاري أو مسلم ولكنها قليلة جداً, والحكم بوضعها لا يمس من قريب أو بعيد باقي الأحاديث. والجواب أن يقال: إن البلاء كل البلاء من المفكرين الذين يعتمدون على أفكارهم الخاطئة وآرائهم الفاسدة ويعارضون بها الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لا يبالون بردها وتكذيبها وجعلها من قبيل الموضوعات والإسرائيليات وقد قال الله تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وهذه الآية الكريمة مطابقة لحال الشلبي وعمله في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء

الرد على زعمه أن أحاديث الغرانيق قد ورد في الكتب المهمة

والمعراج ومعارضتها بأفكاره الخاطئة وآرائه الفاسدة. وأما قوله وأنا أعرف أن حديث الغرانيق والسحر وغيرهما وردت في هذه الكتب المهمة. فجوابه أن يقال: إن البخاري ومسلماً لم يرويا حديث الغرانيق ولم يُرْوَ في غيرهما من كتب الصحاح والسنن والمسانيد وإنما رواه بعض المؤرخين والمفسرين بأسانيد ضعيفة جداً لا يعتمد على شيء منها لأنها مرسلات ومنقطعات. وأما حديث السحر فإن أراد به حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلاً من اليهود سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله. فالجواب أن يقال: هذا حديث ثابت قد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما والإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه, ولا ينكره إلا جاهل أو مكابر. قال القاضي عياض في كتابه «الشفاء» بعدما ساق حديث عائشة رضي الله عنها من طريق البخاري: هذا الحديث صحيح متفق عليه وقد طعنت فيه الملحدة وتذرعت به لسخف عقولها وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع وقد نزه الله الشرع والنبي عما يدخل في أمره

لبسا وإنما السحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته. وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته أو يقدح في صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا, وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ولا فضل من أجلها وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر, فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان انتهى, وقد أثر السحر في بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مرض منه أياما ثم شفاه الله منه, فأما قلبه وعقله فلم يصل إليهما السحر بل صانهما الله وحماهما, وأما بدنه فهو عرضة للأسقام والآلام كسائر البشر وذلك لا يحط من قدره شيئاً بل يزيده أجراً وثواباً يوم القيامة, قال القاضي عياض: قد استبان من مضمون الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه لا على قلبه واعتقاده وعقله وأنه إنما أثر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه وأضعف جسمه وأمرضه, ويكون معنى قوله يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن, أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن كما يعتري من أخذ

الرد على زعمه أن في الصحيحين أحاديث موضوعة

واعتُرض, ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون من السحر, ويكون قول عائشة في الرواية الأخرى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله من باب ما اختل من بصره كما ذكر في الحديث فيظن أنه رأى شخصاً من بعض أزواجه أو شاهد فعلا من غيره ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره, لا لشيء طرأ عليه في ميزه, وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له وتأثيره فيه ما يدخل لبسا ولا يجد به الملحد المعترض أنسا انتهى. وأما قوله: إن هناك أحاديث موضوعة وجدت طريقها إلى البخاري أو مسلم. فجوابه أن يقال: هذا قول باطل وخطأ كبير فليس في الصحيحين شيء من الأحاديث الضعيفة فضلاً عن أن يكون فيهما شيء من الأحاديث الموضوعة, ولكن الشلبي وأمثاله من المنحرفين عن الصراط المستقيم قد جعلوا أفكارهم الخاطئة وآراءهم الفاسدة ميزاناً للأحاديث، فإذا كان الحديث مخالفاً لأفكارهم وآرائهم لم يبالوا برده والتشكيك فيه ولو كان صحيح الإسناد ثابتاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وإذا كان موافقاً لأفكارهم وآرائهم بالغوا في تثبيته والاعتماد عليه ولو كان ضعيفاً أو موضوعاً وقد رأيت هذا العمل السيئ في

عدة كتب من كتب العصريين, ومنه ما في كتيب الشلبي من رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج لكونها كانت مخالفة لرأيه وتفكيره, وقد أجمع العلماء على صحة الصحيحين ووجوب العمل بهما, قال النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» اتفق العلماء على أن أصح الكتب المصنفة صحيحا البخاري ومسلم, وقال وأجمعت الأمة على صحة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما انتهى. وقال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح في «علوم الحديث» أول من صنف الصحيح البخاري وتلاه مسلم بن الحجاج, وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز, وذكر الشيخ أبو عمرو أيضاً اتفاق الأمة على تلقي ما اتفق عليه البخاري ومسلم بالقبول, قال: وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري واقع به, وذكر أيضاً أن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول انتهى. وقال النووي في شرح مسلم: اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول, ونقل النووي عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه قال: جميع ما حكم مسلم بصحته فهو مقطوع بصحته والعمل

النظري حاصل بصحته في نفس الأمر, وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع, ونقل النووي أيضاً عن إمام الحرمين أنه قال لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما انتهى. وذكر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه «علوم الحديث» عن الحافظ أبي نصر الوائلي السجزي أنه قال: أجمع أهل العلم الفقهاء وغيرهم أن رجلاً لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صح عنه ورسول الله قاله لا شك فيه أنه لا يحنث والمرأة بحاله في حبالته. وقال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» في ترجمة البخاري: كتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه وكذلك سائر أهل الإسلام انتهى. وفيما قاله ابن الصلاح والنووي وإمام الحرمين وأبو نصر السجزي وابن كثير أبلغ رد على قول الشلبي أن هناك أحاديث موضوعة وجدت طريقها إلى البخاري أو مسلم. وهذا القول الباطل مخالف لإجماع أهل العلم على صحة الصحيحين ووجوب العمل بأحاديثهما وإذا ضم شذوذه عن أهل العلم ومخالفته لإجماعهم

إلى ما سبق ذكره من رده لأحاديث الإسراء والمعراج وتشكيكه فيها ومعارضتها برأيه وتفكيره فإن الأمر يكون أعظم وأشد خطراً عليه لأنه يجتمع له مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع اتباعه لغير سبيل المؤمنين وقد قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}.

الرد على زعمه أنه يفند الإسرائيليات وينقي منها الفكر الإسلامي وبيان أنه إنما كان يفند الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعارضها بأفكار الزنادقة والجهمية

فصل وقال الشلبي في صفحة 34: ومن العجيب أننا عندما نحاول أن نفند الإسرائيليات وننقي منها الفكر الإسلامي يتصدى لنا بعض المسلمين الذين وضعوا أنفسهم حماة للإسرائيليات دون أن يشعروا. والجواب عن هذا من وجوه أحدها: أن يقال: إن الشلبي لم يفند في كتيّبه شيئاً من الإسرائيليات وإنما فند الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج, وإنما سماها الشلبي إسرائيليات لمخالفتها لرأيه الفاسد وتفكيره الخاطئ فهو في الحقيقة يفند أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذب أخباره الصادقة ويجعلها من قبيل الإسرائيليات وهذا عنوان على زيغ قلبه وانتكاسه, ومن فند شيئا من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كذب شيئاً من أخباره زالت عنه عصمة الدم والمال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الوجه الثاني: أن يقال: إن الفكر الذي اعتمد عليه الشلبي

وزعم أنه نقاه من الأحاديث التي زعم أنها إسرائيليات وهي أحاديث صحيحة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه ليس فكراً إسلامياً وإنما هو من أفكار الزنادقة والجهمية, فأما ما فيه من أفكار الزنادقة فهو رده للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج وتكذيبها ومعارضتها بالشبه والشكوك والأقوال الباطلة. وقد تقدم الرد على كل جملة من أقواله الباطلة التي عارض بها الأحاديث الصحيحة, وأما ما فيه من أفكار الجهمية الكافرة فهو زعمه أن الله في كل مكان أو أنه منزه عن المكان, وهذا القول الباطل مذكور في صفحة 30 من كتيّبه المشئوم, وقد تقدم الرد عليه في أثناء الكتاب فليراجع (¬1). الوجه الثالث: أن يقال إن الذين تصدوا للرد على الشلبي وعلى أمثاله من المعارضين للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المفندين لها بالشبه والشكوك والأفكار الخاطئة والآراء الفاسدة قد أحسنوا غاية الإحسان وأصابوا فيما قاموا به من نصر السنة والرد على أعدائها والدفاع عن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمايتها من معاول الهدم والتخريب, فجزاهم الله عن جهادهم في سبيل الله أعظم الجزاء وكثر في المسلمين من أمثالهم, وليسوا من حماة الإسرائيليات ¬

(¬1) 51 - 62.

كما زعم ذلك الشلبي وإنما هم من حماة أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنصار سنته.

الرد على زعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى العوالم الكبرى وأن مكة صغرت لذلك في نفسه

فصل وقال الشلبي في صفحة 35: من الدروس المهمة المتصلة بالإسراء والمعراج أن الله سبحانه وتعالى أتاح للرسول عليه السلام بها فرصة أن يرى العوالم الكبرى فصغرت بذلك مكة في نفسه وما بها من رجال وعتاد, وماذا تكون مكة ومن بها بالقياس إلى هذا العالم الفسيح. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها أن يقال: قد تقدم الرد على ما زعمه من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للعوالم الكبرى في أثناء الكتاب عند قوله في صفحة 16 من كتيبّه وفي رحلة المعراج رأى الرسول آيات كبرى إلى آخر كلامه فليراجع الرد عليه (¬1). الوجه الثاني: أن يقال من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في ليلة الإسراء ما سموه بالعوالم الكبرى وهي المجموعة الشمسية والمجموعات الأخرى التي زعموها فعليه إقامة الدليل على ذلك ولن يجد إلى الدليل سبيلاً, وقد ذكرت في الرد على ما ذكره الشلبي في صفحة 16 من كتيّبه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «رأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق» رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه, وروى مسلم ¬

(¬1) ص66 - 75.

عنه رضي الله عنه أنه قال: «رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» وروى الإمام أحمد والترمذي والحاكم عنه رضي الله عنه أنه قال: «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» وروى الترمذي أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قرأت: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} ثم قالت: «إنما هو جبريل لم يره في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سد الأفق» فهذا هو المروي عن الصحابة رضي الله عنهم في تفسير قوله تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} فأما العوالم الكبرى التي زعموها فلم يأت لها ذكر في القرآن ولا في السنة وقد قال الله تعالى: {وما كان ربك نسيا} وقال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقد جاء في آيات كثيرة من القرآن أن الله تعالى سخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأنه سخرهما دائبين وأن النجوم مسخرات بأمره. ولم يأت في القرآن ولا في السنة أن منها عوالم كبرى. فهذا القول من الخرافات المبنية على التخرص واتباع الظن وقد قال الله تعالى: {وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

ذكر الأحاديث في فضل مكة وعظم شأنها عند الله تعالى

«إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وحيث أنه لا دليل مع الشلبي على ما زعمه من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للعوالم الكبرى فإن زعمه يكون افتراء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} قال أبو قلابة هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة, رواه ابن جرير. الوجه الثالث: أن يقال: من زعم أن مكة صغرت في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الإسراء والمعراج فعليه إقامة الدليل على ذلك ولن يجد إلى الدليل سبيلاً, وقد روى الترمذي وابن حبان في صحيحه عن عبدالله بن عدي بن حمراء الزهري قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا على الحزورة فقال: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح, وقد رواه ابن ماجه وقال فيه: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي» وروى الترمذي أيضاً والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو رواية الترمذي وابن حبان عن عبدالله بن عدي بن حمراء, وفي رواية للبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عام الفتح بالحجون فقال: «والله إنك لأخير أرض

الله وأحب أرض الله إلى الله تعالى لولا أني أخرجت منك ما خرجت» وروى الترمذي أيضاً وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكة: «ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وصححه الحاكم والذهبي, ورواه أبو يعلى بنحوه قال الهيثمي ورجاله ثقات, وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من زعم أن مكة صغرت في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الإسراء والمعراج, ولا شك أن هذا من الافتراء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم ذكر الآية من سورة الأعراف وفيها وعيد شديد للمفترين, وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتواتر عنه أنه قال: «من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار». وأما قوله وماذا تكون مكة ومن بها بالقياس إلى هذا العالم الفسيح. فجوابه أن يقال: إن الله تعالى قد فضل مكة على سائر بقاع الأرض وجعلها حرماً آمناً وجعل فيها بيته الذي جعله قياماً للناس ومثابة وقبلة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وجعل حجه أحد أركان الإسلام الخمسة, والآيات في فضلها وتعظيمها كثيرة معلومة, وقد روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس

رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله حرم هذا البيت يوم خلق السموات والأرض وصاغه حين صاغ الشمس والقمر وما حياله من السماء حرام» ويشهد لهذا الحديث ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة» وهذه الفضائل المذكورة خاصة بمكة وليس للشمس ولا للمجموعات الأخرى المزعومة شيء منها. فمن استصغر مكة واستخف بشأنها فقد خالف ما جاء في القرآن والسنة من تعظيمها والرفع من شأنها, وماذا يكون العالم الفسيح والعوالم الكبرى التي زعموها بالقياس إلى فضل مكة وشرفها وعظم شأنها عند الله تعالى وعند المسلمين.

الرد على تصرفه في كلام ابن كثير بالزيادة والنقص والافتراء عليه

فصل وقال الشلبي في صفحة 22 وصفحة 23: ومن الذين تدارسوا هذه الأحاديث ابن كثير, وقد وصف بعض ما ورد من أحاديث حول الإسراء والمعراج بالاضطراب وحدد ما ينبغي أن يعتقده المسلم في موضوع الإسراء والمعراج وما ينبغي أن يتركه. وفيما يلي كلمات ابن كثير: وإذا حصل الوقوف على هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها يحصل مضمون ما اتفقت عليه, والحق أنه عليه السلام أسري به من مكة إلى بيت المقدس وهناك صلى ركعتين ثم عرج به إلى السماء وفرض الله عليه الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده, وذلك القدر هو ما ينبغي أن يقنع به المسلم ويستبعد ما سواه (تفسير ابن كثير جـ5 ص 245) وواضح أن كلام ابن كثير يقرر ما يلي: 1 - الإسراء تم من مكة إلى بيت المقدس دون ذكر الوسيلة. 2 - صلى الرسول ركعتين بدون ذكر أنه أمَّ الأنبياء. 3 - عرج به إلى السماء بدون حاجة إلى دق باب ووقوف أمام الأبواب.

4 - فرض الله عليه الصلاة خمسين ثم خففها إلى خمس تفضلا منه بدون وساطة موسى عليه السلام وبدون تعدد للذهاب والعودة. 5 - يقرر ابن كثير ضرورة استبعاد ما سوى ذلك وضرورة تركه تماماً وهذا هو ما نراه. والجواب أن يقال: إن الشلبي قد نقص من كلام ابن كثير وزاد فيه جملة ليست منه ونسبها إليه. وسأذكر كلام ابن كثير وأتبعه بالرد على كلام الشلبي إن شاء الله تعالى ليعلم ما فيه من الخيانة والافتراء على ابن كثير رحمه الله تعالى. قال ابن كثير في أول تفسيره لسورة الإسراء بعد إيراده للأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج «فصل» وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى بيت المقدس - إلى أن قال - والحق أنه أسري به يقظة لا مناماً من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ثم أتى بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرّقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السموات فتلقاه من كل سماء مقربوها وسلم

على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم حتى مر بموسى الكليم في السادسة وإبراهيم الخليل في السابعة ثم جاوز منزلتيهما حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام - أي أقلام القدر بما هو كائن - ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة, ورأى هنالك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق, ورأى البيت المعمور, وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة, ورأى الجنة والنار وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفا بعباده وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها, ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة, ويحتمل أنها الصبح من يومئذ ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء, والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه, والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً وهو يخبره بهم, وهذا هو اللائق لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب

العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به إخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة وذلك عن إشارة جبريل له في ذلك ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى, وقد ذكر فيه مضمون ما جاء في الأحاديث التي ذكرها قبل الفصل الذي نقلت بعضه, ومن مضمونها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرى به من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق وفي هذا رد على الشلبي حيث زعم أن ابن كثير قد قرر أن الإسراء تم من مكة إلى بيت المقدس دون ذكر الوسيلة. ومن مضمونها أيضاً ربط الدابة عند الباب. وفي هذا رد على الشلبي حيث أنكر ثقب الصخرة وربط البراق فيها. وأما عروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات صحبة جبريل وأن جبريل كان يستفتح أبواب السموات ويقف عندها حتى تفتح له, وأن الله تعالى فرض الصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - خمسين ثم لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يتردد بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام في طلب التخفيف عنه وعن أمته حتى جعلها الله خمساً في العمل وخمسين في الأجر فقد جاء النص على ذلك كله في أحاديث كثيرة ذكرها ابن كثير في أول تفسيره لسورة الإسراء, وقد ذكر مضمونها في الفصل الذي

نقلت بعضه واكتفى بذكر المضمون فيه عن ذكر النصوص, فلا بد إذاً من عرض كلامه في الفصل على نصوص الأحاديث التي ذكرها قبله وتطبيقه على النصوص, فأما الاقتصار على ما ذكره في الفصل ومعارضة نصوص الأحاديث الصحيحة به فهو من أفعال الزنادقة الذين همهم التلبيس على الجهال والتشكيك في الأحاديث الصحيحة وجعلها من قبيل الموضوعات والإسرائيليات. وهذا هو ما فعله الشلبي في كتيّبه المشئوم. وأما قوله: إن ابن كثير يقرر ضرورة استبعاد ما سوى ذلك وضرورة تركه تماماً. فجوابه أن يقال: هذه الجملة - وهي قوله وذلك القدر هو ما ينبغي أن يقنع به السلم ويستبعد ما سواه - ليست في كلام ابن كثير وقد أضافها الشلبي إلى كلامه ونسبها إليه, وهذا من الافتراء على ابن كثير, وقد جاء الوعيد الشديد على الافتراء. وتقدم ذكر ذلك في الفصل الذي قبل هذا الفصل فليراجع. والواقع في الحقيقة أن الشلبي هو الذي قرر استبعاد ما جاء في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج وقرر ضرورة ترك ذلك تماماً, وقد ملأ كتيّبه المشئوم من هذا التقرير الباطل, وما أعظم ذلك وأشد خطره لما فيه من المشاقة لله

ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع غير سبيل المؤمنين وقد قال الله تعالى: {ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم} وقال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}.

الرد على ما نقله عن عبد الجليل عيسى من التقول على علماء الحديث والطعن في الأحاديث الصحيحة والحسنة باختلاف الروايات

فصل وقال الشلبي في صفحة 23 وصفحة 24: ومن العلماء الثقات المعاصرين الذين تدارسوا أحاديث الإسراء والمعراج فضيلة الأستاذ الشيخ عبدالجليل عيسى عضو مجمع البحوث الإسلامية, وقد ذكر أن أحاديث الإسراء والمعراج وردت في البخاري في سبع روايات مختلفة وقرر أن اختلاف الروايات في حديث ما ينفي عنه عند علماء الحديث صفة الحديث الصحيح والحسن. والجواب أن يقال: ما قرره عبدالجليل عيسى وتلقاه عنه الشلبي بالقبول والتسليم من أن اختلاف الروايات في الحديث ينفي عنه صفة الصحيح والحسن عند علماء الحديث فهو من التقول على علماء الحديث, وإنما يذكر الطعن في الأحاديث الصحيحة باختلاف الروايات فيها عن الزنادقة من المتقدمين والمتأخرين ولا عبرة بهم, وقولهم في رد الأحاديث الصحيحة من أجل اختلاف الروايات والألفاظ مردود لمخالفتها لما جاء عن كثير من الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم أنهما كانوا يروون الحديث بالمعنى ولا يرون بذلك بأساً, وقد روى الخطيب في كتاب «الكفاية في علم الرواية» عن أبي سعيد رضي الله عنه قال كنا نجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عسى أن نكون عشرة نفر نسمع

الحديث فما منا اثنان يؤديانه غير أن المعنى واحد, وروى أيضاً عن محمد بن سيرين قال كنت أسمع الحديث عن عشرة, المعنى واحد واللفظ مختلف, وروى أيضاً عن هشام بن عروة عن أبيه قال قالت لي عائشة رضي الله عنها: يا بني إنه يبلغني أنك تكتب عني الحديث ثم تعود فتكتبه فقلت لها أسمعه منك على شيء ثم أعود فأسمعه على غيره فقالت: هل تسمع في المعنى خلافاً قلت: لا. قالت: لا بأس بذلك, قال ابن الصلاح في كتابه «علوم الحديث» والأصح جواز ذلك - أي رواية الحديث بالمعنى - إذا كان قاطعاً بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين, وكثيراً ما كانوا ينقلون معنى واحداً في أمر واحد بألفاظ مختلفة, وما ذاك إلا لأن معولهم كان على المعنى دون اللفظ انتهى. وروى الخطيب في كتاب «الكفاية» عن أزهر بن جميل قال: كنا عند يحيى بن سعيد ومعنا رجل يتشكك فقال له يحيى: يا هذا إلى كم هذا. ليس في يد الناس أشرف ولا أجل من كتاب الله تعالى وقد رخص فيه على سبعة أحرف, قال الشافعي: وإذا كان الله عز وجل برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ قد يزل لتحل لهم قراءته وإن اختلف لفظهم فيه

ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى ما كان سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يحل معناه, قال السخاوي في «فتح المغيث»: وسبقه لنحوه يحيى بن سعيد القطان فإنه قال القرآن أعظم من الحديث ورخص أن تقرأه على سبعة أحرف, وكذا قال أبو أويس سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال إن هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث إذا أصبت معنى الحديث فلم تحل به حراما ولم تحرم به حلالاً فلا بأس به, واحتج حماد بن سلمة بأن الله تعالى أخبر عن موسى عليه السلام وعدوه بألفاظ مختلفة في شيء واحد كقوله: {بشهاب قبس} و {بقبس أو جذوة من النار} وكذلك قصص سائر الأنبياء عليهم السلام في القرآن وقولهم لقومهم بألسنتهم المختلفة وإنما نقل إلينا ذلك بالمعنى, وقد قال أبي بن كعب كما أخرجه أبو داود كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بـ {سبح اسم ربك} وقل للذين كفروا والله الواحد الصمد, فسمى السورتين الأخيرتين بالمعنى انتهى. وكلام العلماء من الصحابة ومن بعدهم في جواز رواية الحديث بالمعنى كثير, وفيما ذكرته ههنا كفاية في الرد على من تقوّل على علماء الحديث وزعم أن اختلاف الروايات في الحديث ينفي عندهم صفة الصحيح والحسن.

الرد على ما ألصقه بالأحاديث الصحيحة من الصفات الذميمة

وقال الشلبي في صفحة 36: أيها المسلم لم يعد هناك مجال للشطحات والخرافات التي تقلل من جلال هذا الحدث العظيم, وقد سجلت لك أدق الآراء. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها أن يقال: إن الشطحات والخرافات ليست في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هي في كلام الشلبي وأمثاله من دعاة الضلال الذين يعارضون الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بآرائهم الفاسدة وأفكارهم الخاطئة ولا يبالون بردها واطراحها وإلصاق الصفات الذميمة بها كقول الشلبي في كثير من الأخبار التي جاءت في أحاديث الإسراء والمعراج إنها شطحات وخرافات وأوهام وموضوعات وإسرائيليات وانحرافات وآراء شائعة وتصوير مادي محض, هكذا زعم وافترى وضل عن سبيل الله تعالى وشاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتبع غير سبيل المؤمنين, وسيحمل أوزار الذين يغترون بخداعه وشبهه وآرائه الفاسدة وسمومه التي نفثها في كتيّبه المشئوم, قال الله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي

هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الوجه الثاني: أن يقال: إن الأخبار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج لم تقلل من جلال الإسراء والمعراج وإنما الشلبي هو الذي بذل جهده في التقليل من جلال الإسراء والمعراج وذلك بإنكاره لكثير مما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة وجعله ذلك من قبيل الشطحات والخرافات, وهذا مما يوقع الشك في إسلامه لأن معارضته للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على أنه لم يحقق الشهادة بالرسالة إذ لا بد في تحقيقها من تصديق أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقابلتها بالقبول والتسليم, قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} ومن لم يؤمن بكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب فليس بمعصوم الدم والمال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الوجه الثالث: أن يقال: إن الشلبي لم يسجل أدق الآراء في الإسراء والمعراج, وإنما سجل أخس الآراء وأبعدها عن الصواب

وذلك بتهجمه على الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمعراج وإنكاره لكثير مما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة وجعله ذلك من قبيل الشطحات والخرافات وإلصاق الأوصاف الذميمة بما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مبثوثة في كتيبّه المشئوم, وقد تقدم ذكرها في الوجه الأول, ومن تأمل كلامه لم يشك أنه مصاب في دينه. والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به. وأسأله سبحانه وتعالى أن يريني وإخواني المسلمين الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل.

إنكار ما وضعه الشلبي في كتيبه من التصاوير الوهمية وتصوير أحد الوعاظ وبعض الحاضرين عنده

فصل وفي صفحة 6 وضع الشلبي صوراً وهمية لصبيان أهل الطائف الذين آذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورموه بالحجارة حين ذهب إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله تعالى, ووضع أيضاً في صفحة 13 صورة وهمية لعرش بلقيس, ووضع أيضا في صفحة 20 صوراً لأحد الوعاظ وبعض الحاضرين عنده. وأقول: إن الشلبي قد ارتكب أموراً محرمة في وضعه التصاوير في كتيّبه المشئوم. أحدها: الكذب في وضع التصاوير الوهمية لصبيان أهل الطائف وعرش بلقيس لأنه لم ير الذين وضع لهم الصور. ومن صور أناساً لم يرهم أو صور شيئاً لم يره فلا شك أنه قد ارتكب الكذب والتزوير في تصويره, والكذب والتزوير من كبائر الإثم, وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك في أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. الثاني: استحلال تصوير ذوات الأرواح, وتصويرها من أظلم الظلم ومن كبائر الإثم, وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصورين وأخبر أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة, وأخبر عن الله تعالى أنه قال: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي» والأحاديث في الوعيد

الأمر بطمس الصور

الشديد على التصوير كثيرة جداً, وقد ذكرتها في كتابي «إعلان النكير على المفتونين بالتصوير» فلتراجع هناك. الثالث: مخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطمس الصور والاستهانة بالتشديد المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صناعتها, وقد قال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة, الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فأما الأمر بطمس الصور فقد رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبي الهياج الأسدي - واسمه حيان بن حصين - قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» وفي رواية لمسلم: «ولا صورة إلا طمستها» ورواه النسائي بهذا اللفظ. قال النووي في الكلام على هذا الحديث. فيه الأمر بتغيير صور ذوات الأرواح انتهى. وأما التشديد في صناعة الصور فقد رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وعبدالله بن الإمام أحمد في زوائد المسند عن أبي

محمد الهذلي - ويقال له أيضا أبو مورع - عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فقال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا قبراً إلا سواه ولا صورة إلا لطخها» فقال رجل أنا يا رسول الله فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع فقال علي رضي الله عنه أنا أنطلق يا رسول الله قال: «فانطلق» فانطلق ثم رجع فقال يا رسول الله لم أدع بها وثنا إلا كسرته ولا قبراً إلا سويته ولا صورة إلا لطختها ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد: إسناده حسن. فليتأمل الشلبي وغيره من المتهاونين بتصوير ذوات الأرواح ما جاء في هذين الحديثين وليحذروا عاقبة المخالفة لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - والارتكاب لنهيه والاستهانة بتشديده. وهذا آخر ما تيسر إيراده في الرد على شطحات الشلبي وخرافاته, والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. قال ذلك كاتبه الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبدالله بن حمود

التويجري, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 17/ 3/ 1405 هـ

§1/1