السبق التربوي مفهومه ومنهجه ومعالمه في ضوء النهج الإسلامي

خالد بن حامد الحازمي

باب: المبحث الأول: مدخل الدراسة

باب: المبحث الأول: مدخل الدراسة مقدمة ... المبحث الأول: مدخل الدراسة مقدمة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن اهتمام المسلمين بالعلوم المفيدة للإنسان يؤكدها التاريخ الحضاري الحافل بالمنجزات في جميع المجالات التي رصدتها كتب الحضارة والتاريخ. ومن تلك العلوم: الدراسات التربوية والنفسية التي عنيت بالطبيعة البشرية والتي أفردت بالتصنيف والتأليف في أسفار عديدة، معتمدة في ذلك على منهجية تربوية منبثقة من المنهج الإسلامي الذي عني عناية فائقة بالدراسات الإنسانية، وفق توجيهات ربانية من الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وهذا أكسب العلوم التربوية الإسلامية فاعلية في التطبيق والتأثير، في بُعْدٍ عن المناهج الفلسفية الظنية غير القطيعة في دلالاتها ومؤشراتها. وهذا عكس ما يظنه البعض من أن الدراسات التربوية والنفسية هي من موروثات الدراسات الغربية، وهذه مغالطة علمية. كما أن هناك اعتقاداً عند البعض بأن المناهج الغربية حققت تقدماً كبيراً في جميع المجالات، بيد أنها حققت هذا التقدم في المجال التقني فقط، أما فيما يخص المجال التربوي الذي يغرس في المرء الفضائل والمبادئ السليمة في الحياة الاجتماعية والأسرية فقد تدهورت في هذا المجال تدهوراً كبيراً. يؤكد ذلك الواقع المشاهد. ولما أن بريق الحضارة المادية سريع التأثير بمؤثراته المتعددة، أحدث عند الكثير الشعور بتفوق الأنموذج الغربي حتى في الجانب الإنساني، وهذه مغالطة نتيجة الأثر الفاعل للحضارة المادية التي توارت أمامها الهزيمة الساحقة في المجال

الأخلاقي والتربوي، مما أدى إلى تثمين الحضارة الغربية على أساس أنها تمثل الأنموذج الحضاري للسبق التربوي في المجال الاجتماعي والإنساني والتعليمي والخلقي نتيجة غياب الوعي بمفهوم السبق التربوي وأسسه المنهجية ومعالمه التي يمكن أن ندحض بها التصورات الخاطئة. وهذا البحث محاولة لبيان منهج أسس السبق التربوي، ومن ثم تأكيد السبق التربوي للإسلام والمسلمين للعناية الفائقة والمبادئ المتميزة والثابتة لأصوله وأسسه التربوية التي مصدرها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

أهمية الدراسة

* أهمية الدراسة: توضح هذه الدراسة مفهوم السبق التربوي وأسسه التي ينبغي أن ترتكز عليها عملية المفاضلة العلمية، حتى لا ينخدع الإنسان ببريق الحضارة المادية. وبالتالي تظهر أهمية هذه الدراسة في استجلاء أسس السبق التربوي، لتؤكد أن المنهج التربوي الإسلامي له الريادة بخصوصيته الربانية، ولما حققه من تفعيل لمضامينه التربوية، التي عجزت عن تحقيقها عموم التربيات الأخرى. إضافة إلى أن المأمول من هذه الدراسة أن تعطي قناعة بأن منهج التربية الإسلامية هو الذي لا تستقيم الحياة إلا به، وأن التربية الغربية انحصر تقدمها في المجال التقني، في حين أنها فشلت في الجوانب التربوية الإنسانية. ولعل هذا يعطي مؤشراً بأهمية مثل هذه الدراسة ليستفيد منها القائمون على المؤسسات التربوية، باعتبار أنها الركيزة الأساسية في تغيير المفاهيم عند المجتمع.

مشكلة الدراسة

* مشكلة الدراسة: تنطلق مشكلة هذه الدراسة من فقدان معايير السبق التربوي، ومفهومه

الصحيح ومعالمه التي من خلالها يمكن تحديد السابق في مضمار المنجزات التربوية، الأمر الذي أدى إلى اغت-رار البعض بالحضارة الغربية على أساس أنها تمثل الريادة في التقدم التقني والتربوي. وحقيقة الأمر أن المجتمع الغربي قد انحصر تفوقه في المجال المادي التقني، وانحدر في الجانب التربوي نتيجة غياب الدين في حياته. ومن هذه الإشكالية انطلق هذا البحث.

أسئلة الدراسة

* أسئلة الدراسة: يمكن تحديد تساؤلات هذه الدراسة في أربعة أسئلة، وهي: 1- ما مفهوم السبق التربوي؟. 2- ما أسس منهج السبق التربوي التي يقاس عليها؟. 3- أين تكمن معالم السبق التربوي؟. 4- ما أبرز متناقضات التربية الأجنبية مع التربية الإسلامية؟.

حدود الدراسة

* حدود الدراسة: لما أن مجالات السبق التربوي متعددة الجوانب، قد تكون في الوسائل، وفي الوسائط التربوية، وفي المناهج، وفي الأصول التربوية، وفي جوانب أخرى متعددة، الأمر الذي يتطلب دراسات متعددة للوفاء بمتعلقاتها: لتلك الحيثيات سيتم الاقتصار على الجوانب الموضوعية التالية: أسس السبق التربوي، ومعالمه الظاهرة في فهم الطبيعة الإنسانية والأصول المرجعية والأهداف والوسائل. كما يشتمل البحث على مقارنة التربية بالأنموذج الغربي باعتبار أنه واسع الانتشار في العالم.

منهج الدراسة

* منهج الدراسة: لما أن هذه الدراسة وصفية مع شيء من المقارنة فإن من الأنسب استخدام المنهج الوصفي التحليلي، لوصف معالم التربية الإسلامية وتحليل مضامينها، ثم استخدام المنهج المقارن لإبراز تفوق التربية الإسلامية على التربية الغربية وسبقها في هذا المضمار.

باب: المبحث الثاني: مفهوم السبق التربوي ومنهجه

باب: المبحث الثاني: مفهوم السبق التربوي ومنهجه ... المبحث الثاني: مفهوم السبق التربوي ومنهجه مفهوم السبق: السبق: القُدْمةُ في الجري وفي كل شيء. والسابق: هو الذي وصل للشيء أولاً، والعرب تقول للذي يسبق من الخيل: السابق1. فالعبرة في السبق إذاً ليس بالبدء، وإنما بالوصول أولاً، وبتحقيق النتائج، وإن كان البدء محموداً. فالسابق في مضمار الجري ليس لمن رفع قدمه أولاً، وإنما لمن حط قدمه على خط النهاية أولاً. والسابق في البحث العلمي: هو لمن وصل إلى نتائج وأعطى حقائق، لا لمن بدأ أولاً. وإذا تقرر هذا المفهوم عندنا فإن السبق التربوي ليس لأول من دوّن وكتب في التربية كتابات جدلية ليست قطعية، والرد والطعن نافذ فيها ومتحقق في نتائجها، بل السبق لمن وصل أولاً إلى منهج تربوي قطعي متكامل في جميع جوانبه. وهذه الحقيقة التعريفية المعرفية تنير لنا الطريق وتضعنا على أول معالم تحديد السبق، وتحقق لنا أن السبق في المنهج القطعي الصحيح، وليس لغيره. ولكي نحدد السابق لابد من وضع معايير تُعرض عليها أعمال المتسابقين لتحديد السبق التربوي، كما يتضح من العنوان التالي: أسس منهج السبق التربوي: إن تحديد السبق التربوي يعتمد على تعيين أسسه التي يقوم عليها، حتى يكون للأحكام والاختيار اعتبار وميزان وثقة، وهي من مقدمات الدراسات

_ 1 ابن منظور، لسان العرب (10/151) .

المقارنة، ويمكن إيضاح هذه الأسس في النقاط التالية: أولاً: تحقيق نتائج صحيحة: من أهم أسس السبق أن تكون النتائج المتوصل إليها صحيحة سليمة، إذ لا عبرة بالنتائج الخاطئة التي يتم التوصل إليها، أو أنها ضعيفة في مصداقيتها، وربّما النقد حليفها من أتباعها. فهناك عوائق قد تكتنف البحث التربوي، فتعطي نتائج خاطئة، ومن تلك العوائق: 1- عدم نضج النتائج: فبعض الباحثين يدفعه الحماس إلى سرعة التعلق بنظرية مثيرة دون أن يتأكد من صحتها، فيبني عليها بحثه، في حين أن الباحث الدقيق يتأكد أولاً من صحة ما يبني عليه بحثه، ولا يعلن عما في ذهنه إلا بعد اختبار جميع الفروض، والوصول إلى الدليل الحاسم. 2- تجاهل الأدلة المضادة: وذلك بأن يتم التغافل عن الدليل المضاد، أو غير المتفق مع النتائج التي وصل إليها الباحث، من غير مناقشتها، والتأكد من صحتها أو بطلانها، وترجيح الراجح وإسقاط المرجوح. 3- الافتقار للأصالة: إن الافتقار للأصالة والتأثر بالتقليد غير الصحيح يعطي البحث تبعية غير ناضجة، فيعقب ذلك نتائج مفتقرة للمصداقية. 4- ضعف القدرة: عدم قدرة الباحث الحصول على جميع الحقائق المتعلقة بالمشكلة قيد ال-دراسة، وبالتّالي يبني نتائجه على أدل-ة مبتورة ناقصة، لم تستوف جانب

التكامل1. 5- عدم الدقة في الملاحظة: وذلك بإهمال بعض العناصر والعوامل بحجة أن غيرها يكفي عنها، كالاقتصار في دراسة الانحرافات على الدوافع السلوكية من خوف أو حاجة، دون النظر إلى غياب عامل الدين أو ضعفه، والذي يعتبر المنظم الأساسي لسلوك الإنسان وتصرفاته. 6- الخطأ في التوفيق: وذلك بعدم القدرة على الربط بين علاقة السبب والأثر، كمن يربط التسيب الدراسي بالضعف المادي الأسري فقط، أو بنظام المدرسة فقط، دون أن ينظر للأسباب الأخرى. 7- التأثر بالأحكام الشخصية والتحيزات الذاتية المسبقة: فربما يؤدي به ذلك إلى تفسيرات وتحليلات غير صحيحة. ومن جانب آخر فإن مناهج البحث العلمي التجريبي، تشير إلى أن التجارب التي محورها الإنسان يكتنف صحتها شيء من الشك، فيقول أحد المتخصصين: “أما بالنسبة للتجارب التي تتناول الناس، فهناك صعوبة من غير شك في تحديد جميع المتغيرات، أو العوامل التي تؤثر على نتائج التجربة، وإن عزل جميع العوامل التي يمكن أن يكون لها صلة بالتغيرات التي تحدث خلال التجربة، أو التحكم فيها يعتبر أمراً مستحيلاً “ 2. فالإنسان الذي يكون قيد التجربة تتغير مشاعره تبعاً للمؤثرات وبالتالي

_ 1 أحمد بدر، أصول البحث العلمي ومناهج، ص (68-71) . 2 المرجع السابق، ص (294) .

تتغير انفعالاته، فيتبع ذلك تغير في تصرفاته. وإن كان هناك ضعف في نتائج التجارب المتعلقة بالمشاعر الإنسانية، فهذا أيضاً لا يعطينا الحق في رفضها البتة، ولكن يمكن أن نسترشد بها كعوامل مساعدة. أما فيما يتعلق بالأبحاث التي مصدرها أو محورها الإنسان ولكن تتعلق بآرائه واتجاهاته في القضايا، فإن لها مدلولاً واعتباراً، إذا طبقت تطبيقاً صحيحاً. وهناك ثمة محور آخر يتعلق بتعميم نظريات تربوية نشأت في بيئة لمواطنيها خصائص دينية وثقافية وعرفية تختلف تماماً عن البيئة الإسلامية، فتؤخذ مأخذ الأمر القطعي الذي لا يقبل التفاوض والجدل، وهذا في الحقيقة أمر خطير، ينحو بالنتائج منحى يبعدها عن الصواب. والنتائج الخاطئة تظل أفكاراً جدلية ترتقي عند فئة، وتسقطها فئات أخرى، بعيدة عن الاستمرارية والديمومة، قريبة من الزوال، والإجماع ليس حليفها. فإبليس - لعنه الله - عندما أمره ربه بالسجود لآدم، استعلى في نفسه، وعصى ربه، وبنى رفضه على مقدمتينِ خاطئتين، فترتب عليها نتائج خاطئة، وهاتان المقدّمتان: أنه خير من آدم، والثانية: أنه مخلوق من نار وآدم من طين. قال تعالى في وصف ذلك: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 1. ثانياً: صحة الأصول المرجعية: ويقصد بالأصول المرجعية، هي ما يستمد منه الباحث انطلاقته المعرفية، وما يُحتكم إليه، سواء في التشريع وفي الأهداف والبواعث أو في المنهجية،

_ 1 سورة الأعراف، آية رقم (12) .

والأساليب، أو في الأسس والزاد المعرفي. وهذه الأصول المرجعية تختلف بين المجتمعات بحسب عقائدهم، وهي تؤثر في السلوك البشري وفي مجال الأبحاث، حيث يستمدّ منها الباحث الأسس العامة والجزئية والأصول المعرفية ويتأثر بانتمائه إليها وبحماسه لها والانتصار لها، وهي تحرك عواطفه نحو الأشياء، فقد يبغض ويكره تأثراً بتوجيهات تلك الأصول المرجعية، بل قد تؤثر في رؤيته التحليلية والتفسيرية للآيات الكونية والاجتماعية. فهناك مثلاً التفسير المادي للإنسان الذي ينطلق من أصل مرجعي هو أن المادة أساس كل شيء، وبالتالي ينظر لهذا المخلوق على أنه مركب فيزيقي عضوي، ولذلك: “فإن علم النفس المعاصر كما هو موجود في الشرق والغرب قائم على مبدأ أساسي هو أن الإنسان في بنائه النفسي محكوم كلياً ببنائه الفيزيقي العضوي المادي، وبناءً على ذلك فسلوك الكائن البشري محكوم بمسألة فِزيقية جوهرها باعث مادي واستجابة فِيزيقية”1. فهذه النظرة تسقط جميع المحركات الانفعالية للإنسان، والتي مبعثها خارج عن التركيب العضوي، من أمور مفرحة سارة، وأمور محزنة، وأخرى تقتلع هدوء الإنسان ليغضب، وأخرى تضرب بانفعالات الإنسان إلى درجة التجمد فيهدأ حياءً من مثيرات وعوامل خارجية عن تركيبته العضوية. ثالثاً: مشروعية السبق: ويقصد به أن يكون موضوع السبق نافعاً غير ضار، مطلوباً غير مرفوض. وهذا يتطلب تحقيق ما يلي: 1- المشروعية في الأدوات المستخدمة لتحقيق السبق.

_ 1 عبد الحميد الهاشمي، صبغة علم النفس بالصبغة الإسلامية، ص (79-80) .

2- المشروعية في المنهج. 3- المشروعية في الهدف. ويمكن إيضاح ذلك فيما يلي: 1- المشروعية في الأدوات المستخدمة لتحقيق السبق: والمقصود أن تكون أدوات البحث مأذوناً بها شرعاً، ولا تُخضع المسائل غير التجريبية على أدوات التجريب، كقضايا الإيمان بالغيبيات، أو تفسير الظواهر الكونية على مقاييس مادية بحتة، مثل: ظواهر الزلازل والبراكين والخسوف والكسوف، إذ يجب أن يرتبط تفسير الآيات الكونية بالمنهج الشرعي، حتى يرتبط الفهم بالحقيقة والمطلوب، ويُربط العلم بالإيمان؛ لأن في عدم ربطها إخلالاً بفكر الإنسان وبتربيته وتنشئته. ومن أدوات البحث التربوي ما يلي: أ - الملاحظة. ب - المقابلة. ج - الاستبانات. د - تحليل المحتوى أو المضمون. هـ- - الأساليب الإسقاطية. و أساليب قياس الاتجاهات. ز - الخرائط والرسوم والوثائق. ح - الوسائل الإحصائية1. وعلى الباحث أن يختار من تلك الأدوات ما يناسب بحثه، مع ملاحظة أن

_ 1 انظر: أحمد بدر، أصول البحث العلمي، ص (30) .

منهج التربية الإسلامية يوجب على الباحث أن لا يعمل بتلك الأدوات في معزل عن المنهج الإسلامي الذي يعتمد في قضاياه الكلية والجزئية على الكتاب والسنة؛ لأنه ما من بحث تربوي يسير في معزل عن منهج التربية الإسلامية إلا ويحيد عن الطريق في النتائج والتحليل. ومثال ذلك: التجارب الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية التي دُرست دراسة معملية في معزل عن الشرع الحكيم نجد أنها حادت عن الطريق، وساهمت في هدم البشرية، بقدر ما حققت من تقدم علمي عالمي، وسيأتي توضيح لذلك في مشروعية الهدف. 2- المشروعية في المنهج: وذلك أن يكون المنهج المتبع منهجاً سليماً بعيداً عن الخداع والتلاعب في جمع المعلومات، وفي طرح النتائج وتحليلها، بل يجب أن يعتمد على مصادر صحيحة سليمة، ويعالجها بمنهجية دقيقة صحيحة، وهذا يتطلب البعد عن المنهج الفلسفي القائم على الأفكار الذاتية اللادينية، والبعد عن النظريات ذات المنطلقات غير الشرعية، والاستخدام العكسي للأدوات البحثية، حيث تمخض سوء استخدام أدوات البحث التجريبي التربوي عن دراسات ميدانية خاطئة، أجريت على بعض الأفراد؛ ولذلك تؤكد مناهج البحث العلمي على خطورة نتائج مثل تلك الدراسات التي تعتمد على منهجية خاطئة. ومن الصعوبات المنهجية التي تواجه الدراسات الميدانية على الإنسان ما يلي: أ - صعوبة التعرف على جميع العوامل المتغيرة التي قد تؤثر في نتائج تجربة ما، فعلى سبيل المثال نجد أنه في أية دراسة خاصة بالأفراد يكاد يكون من المستحيل عزل وضبط كل عامل يحتمل أن يكون له أي تأثير في التغيرات

الحادثة أثناء التجربة. ولو أن تجربة أجريت على إنسان وتحتاج هذه التجربة إلى فترة زمنية كشهر أو أكثر، فإنه في نفس الوقت الذي تجرى فيه الأحداث التجريبية سيكون الإنسان قد نما وتغير من نواح معينة أثناء هذه الفترة، ولن يعود هو نفس الشخص الذي كان عند بدء التجربة، وقد تكون التغيرات دقيقة إلا أنها موجودة مع ذلك بدرجة معينة1. (ثم إن هناك قضية منهجية هامة عند التجريب على المجموعات وهي كيفية اختيار عينة البحث، ومدى تمثيلها لمجتمع البحث) 2. ب - وتعاني التجارب التي تجرى على الإنسان من أثر الإيحاء أو العوامل غير الشعورية، وعادة ما يكون اكتشاف هذه الأخطار غاية في الصعوبة3. ومن جانب آخر فإن مشروعية المنهج تستلزم توازناً بين السبق المادي والحفاظ على الدين والقيم الاجتماعية والخلقية والسلوكية؛ لأن الانخراط في السبق المادي مع عدم الحفاظ على الدين المنظم لشؤون حياة الإنسانية هو تدمير لحياة البشرية، ولا أدل على ذلك مما تعيشه كثير من مجتمعات هذا العصر من التقدم المادي الذي يواكبه التدهور الأخلاقي والاجتماعي والتنكر للدين، فأصبح أفرادها يعانون من الخلل النفسي الذي حطم حياتهم، وأبعدهم عن جادة الطريق وسلك بهم سبيل الهلاك. 3- مشروعية الهدف: بأن يكون القصد من تحقيق السبق النفع لا الضرر، والخير لا الشر؛ لأن التزام هذا الهدف يحقق الخُلُق الرفيع في مضمار التسابق، حيث إن ميدان السبق

_ 1 محمد زيان عمر، البحث العلمي ومناهجه وتقنياته، ص (109-111) . 2 المرجع السابق، ص (110) . 3 المرجع السابق، ص (111) .

قد يكون مشروعاً في ذاته لكنه متعلق بنوايا خبيثة، كمن يخترع ليدمر حياة الإنسان أو يفكر بهدف نشر الرذيلة. فطلب الحقيقة العلمية غير المرتبطة بالالتزامات الشرعية يؤدي إلى تدمير البشرية، فهناك ميادين علمية تؤكد صحة هذا الكلام، فميدان الهندسة الوراثية واحد من هذه الميادين التي اتجهت لمعالجة الجنس البشري بحيث يكون النسل يحمل صفات وراثية محددة مما سوف تعقبه عواقب وخيمة، وكذلك القدرة على استخدام الطاقة الذرية للتخريب اتضحت معالمها في هيروشيما ونجازاكي، والأبحاث في ميادين غازات الأعصاب والميكروبات المميتة قد تطورت الآن إلى مبيدات للبشرية، وقد استخدم الكثير منها في فيتنام، ويظهر الآن ميدان من ميادين الكيمياء الانفعالية التي قد تؤدي في النهاية إلى السيطرة على الإرادة البشرية بواسطة مركبات كيميائية مختلفة1. فهذه النوايا التي صاحبت السبق العلمي اتجهت به نحو التدمير والهلاك، فهل هذا يخدم البشرية؟ وهل هذا نتاج تربية سباقة للخير؟. والبث المباشر، والإنترنت يخدم أهدافاً غير مشروعة بقصد تحقيق عولمة العقل البشري، ليفكر بتفكير واحد ويعيش بطريقة واحدة أو متشابهة، ومظهرها الانحلال الديني والخلقي والاجتماعي، فقد رصدت بعض الدراسات اتجاهاً عالمياً يهدف لعولمة العقل البشرية2. فهل هذا الإنجاز وليد تربية سباقة للخير؟.

_ 1 عطاء الرحمن، التربية العلمية في الدولة الإسلامية، مبادئ وإرشادات، ص (240-241) ، سلسلة التعليم الإسلامي، العلوم الطبيعية والاجتماعية من وجهة النظر الإسلامية. 2 خالد الحازمي، الهدف التعليمي والثقافي لتقنية المعلومات، للمجتمع العربي، ص (26) .

رابعاً: تحقيق القُدْمة: وهو الوصول إلى الشيء أولاً، بحسب ميدان مناط السبق، سواء في مضمار الجري أو البحث العلمي، أو في غيرهما، ومثال تحقيق القدمة: لو أن باحثاً بدأ في موضوع معين في بداية شهر محرم من عام 1418هـ- واستكمل بحثه بمقدمات صحيحة ونتائج سليمة وذلك في نهاية شهر شوال لعام 1418?. وفي نفس الوقت بدأ باحث آخر في نفس الموضوع ولكن بعد الأول بشهر. واستكمل بحثه بمنهجية سليمة، ونتائج صحيحة قبل الأول بشهر، فإن السبق هنا يكون للثاني بالرغم من أنه بدأ بعد الأول، لكنه أنجز وأتم البحث قبله. فإذاً تحقيق القدمة الزمنية أس في عملية السبق لابد منها. ***

باب: المبحث الثالث: معالم السبق التربوي

باب: المبحث الثالث: معالم السبق التربوي ... المبحث الثالث: معالم السبق التربوي تتعدد معالم السبق التربوي بحسب القضايا الكلية أو جزئياتها، وبحسب الميادين التربوية وتعددها في التعلم والتعليم، وفي الطبيعة الإنسانية، وفي الأهداف التربوية، أو في وسائطها وغير ذلك. ولما أن هذا المبحث بل هذا البحث لا يمكن له تغطية كل الميادين التربوية فإنه سيقتصر على أهمها وهي: أ - الطبيعة الإنسانية. ب - الأصول المرجعية. ج - الأهداف والبواعث. د - الوسائل المنهجية. أولاً: الطبيعة الإنسانية: إن الله تعالى عندما خلق الإنسان جعل فيه خصائص تساعده على الحياة، وتجعله سيد نفسه في الاختيارات التي تظهر أمامه، وزوده بقدرات وخصائص بعضها فطري، وبعضها مكتسب، تحقق له إنسانيته التي أرادها الله تعالى له، والتي هي: 1- القابلية: عندما خلق الله تعالى الناس جعل عندهم قابلية التجاوب والاختيار، وقابلية الحب والكره، والولاء والعداء، وقابلية التجانس والتنافر، والتدابر والتقارب، والإقدام والإحجام؛ وذلك ليتمكن هذا الإنسان من تحمل مسؤولية التكليف، واستحقاق المحاسبة، والجزاء والثواب فيما بعد، قال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا

وَتَقْوَاهَا} 1. أي: عرفها وأفهمها حالهما وما فيهما من الحسن والقبح. قال مجاهد: عرفها طريق الفجور والتقوى والطاعة والمعصية. قال الفراء: عرفها طريق الخير وطريق الشر.2. 2- الإرادة: لم يجعل الله سبحانه وتعالى عند الإنسان القابلية والاستعداد للتحول من اتجاه لآخر فقط، وإنما جعل له أيضاً الإرادة في ممارسة الخير والاستمرار على الفطرة التي فطر عليها، أو الانحراف عنها إلى طريق الهلاك والضلال. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 3. وهذه الإرادة تنقسم عند الإنسان إلى قسمين: (أ) - إرادة جازمة: وهي التي يجب وقوع الفعل منها، إذا كانت القدرة حاصلة. فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل. (ب) - إرادة غير جازمة: وهي التي لا يقع الفعل منها، مع وجود القدرة على الفعل. فمتى وجدت الإرادة والقدرة التامة على الفعل، ولم يقع لم تكن الإرادة جازمة4. والإرادة هي: عمل القلب الذي هو ملك الجسد، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: “ القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده،

_ 1 سورة الشمس: أية رقم (8) . 2 الشوكاني، فتح القدير (5/449) . 3 سورة الشمس: آية رقم (9-10) . 4 ابن تيمية، الفتاوى (10/722) .

وإذا خبث الملك خبثت جنوده “1. ولعل هذا مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: “ إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب “ 2. وهذه الإرادة التي زود بها الإنسان، تجعل له قوة تجاه الفعل أو الترك، وبالتالي يقع على كاهل التربية تنشئة وتحفيز الإرادة الجازمة نحو السلوك المستقيم وفق المنهج الإسلامي، وبأساليبه المتقررة. ويؤكد تلك الإرادة ما جاء في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 3. فالفلاح يأتي نتيجة الإرادة الجازمة نحو فعل الخير وسلوكه، والتدسية تأتي نتيجة الإرادة غير الجازمة في اتباع الخير وسلوكه. 3- القدرات: لقد زود الله تعالى الإنسان بالوسائل والمدارك التي تمكنه من معرفة ما يحيط به، إذ إن الإنسان لا تكفيه القابلية والإرادة في الاختيار والتفعيل ما لم تكن هناك وسائل يستطيع باستعمالها أن يهتدي إلى الحق، فزوده الله تعالى بمدارك حسية يكشف بها ما يعرض أمامه، فيعرف بها معالم الطريق وهديه، وهذه الوسائل متنوعة متعددة بتعدد خصائص الأشياء وما يعرض للإنسان من محسوسات، فبعضها لا تدرك إلا بحاسة السمع مثل الأصوات والبعض لا يدرك إلا بحاسة البصر، مثل رؤية الأشياء في أشكالها وأحجامها، والبعض لا يدرك إلا

_ 1 المرجع السابق (10/726) . 2 البخاري (2/74) ، برقم (2051) ، ومسلم (3/1219-1220) ، برقم (107-1599) . 3 سورة الشمس: آية رقم (9-10) .

بحاسة اللمس فقط، كالخشونة والنعومة والحرارة والبرودة، ويقاس على ذلك بقية الحواس. قال تعالى مبيناً أهمية تلك الحواس في إدراك الحق، وخطر من لم يسخرها ويفعلها في مصالح معادة: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. وإضافة إلى تلك الحواس كرمه بالعقل، الذي يعقل به الأشياء ويعرفها، ويفكر به، ويرجح به المنافع على المضار، وقد جاء في الحديث “ والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس” 2؛ ولذلك خاطب الإسلام الإنسان عن طريق عقله بالتأمل والتفكر فيما يحيط به ليهتدي ويعرف أن لهذه المخلوقات خالقاً يجب أن يعبد على الوجه الذي أراده الله تعالى وفق ما جاء به الشرع الحكيم: “لأن الاعتماد على الجانب العقلي وقوى الإدراك المختلفة لدى الإنسان فقط ليس مأمون العواقب، وذلك أن ثمّة عوامل ودوافع نفسية وغير نفسية تقوم بدورها في توجيه المعارف، وبالتالي يكون تأثيرها في الحكم العقلي الصادر عنها، كالأهواء والشبهات والشهوات”3. وبهذا يتضح أن الله تعالى زود الإنسان بقدرات يكتسب بها المعرفة، ولكن يجب أن لا تنعزل عن الشرع وتعمل في منأى عنه حتى لا تضل ولا تشقى؛ لأن هناك معارف غيبية لا يمكن معرفتها إلا من خلال التشريع الإلهي.

_ 1 سورة الأعراف: آية رقم (179) . 2 مسلم (4/1980) برقم (14/2553) . 3 محمد عبد الله عفيفي، النظرية الخلقية عند ابن تيمية، ص (157) .

4- القوى: لقد زود الله تعالى الإنسان بقوى تجعله متحركاً متجاوباً مع ما يحيط به، ولولا هذه القوى لأصبح الإنسان كالحيوان في حركة آلية رتيبة. فبعض هذه الدوافع يعمل للمحافظة عليه بالدفاع عنه، والبعض يعمل على المحافظة عليه بإشباعها. مثل: الدافع إلى العمل والسكن والتكسب والزواج، فهذه دوافع للمحافظة عليه، والغضب والغيرة والخوف للدفاع عمّا يضره للمحافظة عليه، وهذه القوى ثلاثة أنواع، منها: اثنتان فطريتان، وثالثة جمعت بين الفطرة والاكتساب، يقول ابن تيمية: إن قوى الأفعال في النفس إما جذب وإما دفع1. ويقول ابن قيم الجوزية: للقلب قوتان: قوة الطلب، وقوة الهرب، وكأنّ العبد هارب لمصالحه هارب من مضاره2. ويشير ابن حجر إلى أن في كل إنسان ثلاثة قوى: أحدها الغضبية وكمالها الشجاعة، وثانيهما: الشهوانية، وكمالها الجود، وثالثهما: العقلية، وكمالها النطق بالحكمة3. فاقتضت حكمة الباري اللطيف الخبير أن جعلت في الإنسان بواعث ومستحثات تؤزه أزاً إلى ما فيه قوامه وبقاؤه، ومصلحته، وتَرِدُ عليه بغير اختياره ولا استدعائه، فجعل لكل واحد من هذه الأفعال محركاً من نفس الطبيعة يحركه ويحدوه عليه4. وبالاستقراء يمكن تقسيم القوى المحركة للطبيعة البشرية إلى ثلاثة

_ 1 ابن تيمة، الفتاوى (15/420) . 2 ابن قيم الجوزية، الطب النبوي، ص (191) . 3 ابن حجر، فتح الباري (10/457) . 4 ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة (1/276) .

أقسام: اثنتان فطريتان، وثالثة جمعت بين الفطرة والاكتساب، حسب التوضيح التالي: (أ) : القوة الجاذبة: هي القوة الجالبة للملائم، وهي الشهوة، وجنسها: من المحبة والإرادة، ونحو ذلك1 وبدونها يفقد الإنسان اندفاعه للعمل والتكسب والحركة والاختلاط، ومن تلك الشهوات: شهوة حب المال، والذرية، والنساء، ونحو ذلك، وهي مركوزة في النفس البشرية، ولولا هذه الدوافع الشهوية، لسكن الإنسان فلا حراك له، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} 2. والدوافع منها ما يكون الإنسان واعياً بها، فاهماً إياها، منتبهاً إليها وهي ما يطلق عليها الدوافع الشعورية. وهناك دوافع غير منتبه لها، ومع هذا تحرك سلوكه، دون علم منه، وهي ما يطلق عليها الدوافع غير الشعورية3. والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد هذه الدافعية الشهوية، ولكنه نظم للإنسان أسلوب ممارستها بشكل يحفظ للإنسان قواه ونشاطه بما يضمن له الاستقرار النفسي، ويضمن للآخرين عدم التصادم مع الدوافع الفردية، وهذا ما عنت به التربية الإسلامية من تنظيم لهذه الدوافع الشهوية، من خلال المنهج الإسلامي الذي احتوى ما يكفل للفرد إشباع شهواته وفق معايير أخلاقية واجتماعية تكفل للجماعة حقوقها دون ما تعارض بينهما، وهذا ما افتقرت إليه التربيات الأخرى.

_ 1 ابن تيمية، الفتاوى (15/340) . 2 سورة آل عمران: آية رقم (14) . 3 نبيل محمد السمالوطي، الإسلام وقضايا علم النفس، ص (86، 87) .

حيث تجد أن رواد مدرسة التحليل النفسي يختصرون عدد الغرائز حتى إن البعض أوصلها إلى اثنتين فقط، هما: غريزة الحياة أو الغريزة الجنسية، وغريزة الموت أو العدوان، والبعض حاول تفسير طبيعة سلوك الإنسان من خلال غريزة واحدة: هي غريزة السيطرة، والبعض يعزو سلوك الإنسان إلى الشعور بالنقص ومحاولة التعويض1. والواقع أن هذه التفسيرات الأحادية الاتجاه قد وقعت في انشطار الشخصية، نتيجة قوقعة الغرائز في اتجاه دون الاتجاه الآخر، وأنها أهملت جوانب أخرى، مما يجعل البناء التربوي على هذا الفهم يسير في منأى عن الصواب، وفي منحى نحو الفهم الخاطئ للطبيعة البشرية، مما أدى إلى ظهور نظريات أخلاقية وتربوية خاطئة، كالنظرية النفعية للسلوك الإنساني. (ب) : القوة الدافعة: وهي القوة المانعة للمنافي، وجنسها من البغض والكراهة2، وهي ما تسمى بالقوة الغضبية. التي تتولد من بغض الشخص لأمر من الأمور، أو كرهه له. وهناك من يقسمها إلى قسمين: 1- بسيط مثل: الخوف والكره. 2- مركب مثل: الغيرة والدهشة3. ولو حرم الإنسان هذه القوى الدافعة لتبلد إحساس الإنسان، فلا يغار على عرضه، ولا يدافع عن نفسه، وربما أقصى ما يفعله للدفاع عن النفس

_ 1 أحمد محمد عامر، أصول علم النفس العام، ص (188-193) ، نبيل محمد السمالوطي، الإسلام وقضايا علم النفس، ص (93) . 2 ابن تيمية، الفتاوى (15/430) ، انظر: ابن حجر، فتح الباري (10/457) . 3 أحمد محمد عامر، أصول علم النفس العام، ص (209) .

الهروب فقط. ولهذه القوة الدافعة فوائد عظيمة، إذ يتولد عنها الشجاعة، والبغض في الله، والدفاع عن الإسلام، والدفاع عن العرض، ونحو ذلك. والتربية الإسلامية تؤكد هذه القوة الدافعة، ولكن توجهها بما يحقق مصلحة الفرد والجماعة، فالله سبحانه وتعالى يخاطب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يغلظ على الكافرين والمنافقين في حربهم؛ لأن الموقف يتطلب القوة الغضبية الدافعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 1. وفي جانب آخر يحث المؤمنين على كظم الغيظ، بل والارتقاء إلى درجة أعلى، وهي العفو، ثم الإحسان، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 2. وهذا يعني أن بوسع المرء أن يكظم غيظه ويعفو عمن ظلمه، ويحسن لمن أساء إليه، وهذا يعطي توجيهاً للتربية أن تعمل على إكساب المتربين قدرات سلوكية تمكنهم من الارتقاء إلى الفضائل الخلقية؛ وذلك لقدرة الإنسان على التغير نحو الأحسن والأفضل من خلال قدرته على التحكم في غرائزه. بعكس التربيات الأخرى التي ترى أن سلوك المرء حتمي كالمدرسة الوضعية التي خرجت بمبادئ موجزها في الآتي3: 1- السلوك الإجرامي هو في جوهره أمر حتمي.

_ 1 سورة التوبة: آية رقم (73) . 2 سورة آل عمران: آية رقم (134) . 3 نبيل السمالوطي، علم اجتماع العقاب (2/63) .

2- إذا كانت إرادة الجاني منعدمة، تنعدم بالتالي المسؤولية الجنائية. 3- وبناء على عدم ثبوت المسؤولية الجنائية، ينعدم الأساس الذي يقوم عليه العقاب. 4- أن المدرسة الوضعية أحلت المسؤولية الاجتماعية بدلاً من المسؤولية الجنائية؛ وذلك من خلال ما يطلق عليه البدائل العقابية، ومنها أن يقوم المجتمع باستئصال المجرمين، أو إبعادهم أو إصلاحهم من خلال كل الأساليب العلمية الممكنة. وقد وقعت المدرسة الوضعية في حتمية السلوك وإنكارها لإرادة المجرم أو اختياره، كما أنها جعلت المجرم منفعلاً وليس فاعلاً، أي أنه يستجيب للمؤثرات الخارجية كالآلة1. وهناك من يرى أن السلوك الإجرامي مأخوذ بالوراثة2 وهذه النظريات الخاطئة تقلل من أهمية التربية في إحداث السلوك الإيجابي، وتعطي العقوبة صورة القسوة لشخص مسلوب الإرادة، وهذا ما ينتفي مع منهج التربية الإسلامية التي ترى أن للإنسان قدرة وإرادة ويستطيع أن يتحكم فيها، وللتربية تأثير على ترويض انفعالاته ودوافعه، وبالتالي يجب أن يكون للتربية الدور الفاعل في الإصلاح، ويجب على المنحرف أن يتحمل تبعات سلوكه، مما يجعل العقوبة حقّاً شرعيّاً يجب تطبيقها. وهذا يؤكد عمق التربية الإسلامية في فهم الطبيعة السلوكية للإنسان، مما تولد عنه أساليب تربوية ملائمة لحقيقة الإنسان وفطرته وطبيعته، وهذا ما افتقرت إليه التربيات الأخرى.

_ 1 المرجع السابق (2/65) . 2 انظر كتاب: السلوك الإجرامي والتفسير الإسلامي، عبد المجيد سيد أحمد منصور، (1/133-136) .

وهذه القوى الجاذبة والدافعة لو فقدها الإنسان لكان كالحيوان، ولو تركت دون توجيه لأكل الناس بعضهم بعضاً، ولأسرف الإنسان في استغلالها في البطش والملذات، ولجمع صفة الحيوان (الافتراس من الحيوانات المفترسة، والتبلد الإحساسي من الحيوانات الأليفة) . إذاً لهذه القوتين فوائد عظيمة لا يستطيع الإنسان أن يحقق إنسانيته بدونها، ولا يستطيع أن يحقق العبودية التي أرادها الله تعالى منه بدونها، ولكن نجد أن هاتين القوتين افتقرت لقوة ثالثة تكون سيدة عليهما وضابطة لهما، لها حق القيادة والرئاسة، وأن تكون مفطورة في الإنسان للتفاعل مع القوتين الأخريين، ولابد أن تكون قابلة للتوجيه الخارجي حتى تكتسب صفة العلو والسيطرة. والتي يمكن إيضاحها في الفقرة التالية. (ج) : القوة الضابطة: هي تلك القوة التي تسيطر على القوتين السابقتين، وتوجهها التوجيه الصحيح، وتكون عادلة، فلا تئدهما، فيصبح الإنسان عاجزاً لا حراك له، ولا تطلقهما فيصبح الإنسان أنانياً كالحيوان، فيخرج عن إنسانيته. وهذه القوة لابد وأن تكون مغروسة في الإنسان أصلاً حتى يقبلها، وتتغذى بغذاء خارجي، فتأخذ صفة العلو على القوتين السابقتين، فتتسلم زمام القيادة. وهذه القوة الضابطة هي القوة الروحية الشرعية. وهي ذات مقدمتين: الأولى سابقة وهي الفطرية، والثانية لاحقة، كما يتضح مما يلي: 1- فطرية: لقد بيّن منهج التربية الإسلامية أن الإنسان يولد على الفطرة كما يتضح من نصوص الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي

فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. وقال صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه” 2. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن ربهم “ 3. وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة الناس4. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع”5. وفي النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل، في الاعتقاد والإرادات، وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة6. ففي الإنسان قوة فطرية تقتضي قبول الحق واعتقاده، والسير وفق منهجه المتضمن للأوامر والنواهي، فلا يحيد عن ذلك إلا مكابر جاحد للحق والاعتقاد نتيجة أثر الأسرة والمجتمع عليه. 2- مكتسبة: وهذه القوة ليست مغروسة بتفاصيلها في فطرة الإنسان، ولكن لديه قوة تقتضي قبولها والبعد عمّا هو ضدها، وبالتالي احتاجت إلى التشريع الذي يكملها، ويصحح اعوجاجها المكتسب من البيئة؛ لأن الإنسان لا يولد عالماً

_ 1 سورة الروم: آية رقم (30) . 2 البخاري (1/424) ، برقم (1385) ، ومسلم (4/2047) ، برقم (22-2658) . 3 مسلم (4/2197) ، برقم (13-2865) . 4 ابن حجر، فتح الباري (3/248) . 5 ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل (8/458) . 6 المرجع السابق (8/458) .

بتفاصيل وعموميات الشريعة، وإنما عنده الاستعداد لإرادتها وقبولها. قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1. وبالتالي: فإن العامل المكتسب في القوة الضابطة هو التشريع الإلهي الذي اختتمه الله تعالى برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمتضمن للأوامر والنواهي التي تضبط القوة الجاذبة والقوة الدافعة. ففي مجال القوة الجاذبة جعل الله تعالى في النفوس شهوات تؤزه أزاً لإشباعها، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} 2. وفي نفس الوقت جاءت الشريعة لتضبط هذه الدوافع الجاذبة، لتسير وفق مصالح الفرد والجماعة، فمقابل شهوة المال أباح الله الملكية الفردية، وما يتحقق بها من عمل وتكسب بالبيع والشراء والسعي في مناكب الأرض، وفق ضوابط تناولها الفقه الإسلامي في كتاب البيوع. وأمام شهوة النساء ليحصل التكاثر وامتداد التناسل أباح الله تعالى الزواج حتى أربع زوجات، وضبط ذلك بعقود شرعية، وحرم عليه الزنا لحفظ حقوق الجماعة والفرد، ومصالح أخرى عديدة، ويقاس على ذلك بقية القوى الجاذبة. في حين نجد أن المنهج التربوي غير الإسلامي افتقر لهذا الضابط الثالث، مما نجم عنه الاضطراب والقلق النفسي، بين قوى جاذبة وقوى دافعة، دون وجود القوة الضابطة التي تحكم سير تلك القوتين، وتوجهها التوجيه الذي يحقق مصالحها.

_ 1 سورة النحل: آية رقم (78) . 2 سورة آل عمران: آية رقم (14) .

نتيجة لذلك تضاربت القوى الجاذبة الفردية مع حقوق المجتمع، وتضاربت القوى الدافعة مع مصالح المجتمع وحقوقه، فما استطاع البشر أن يضعوا لأنفسهم تلك القوة الضابطة العادلة المتوافقة مع الفطرة. والمتأمل في الحراك الاجتماعي برمته، وفي القوانين الاجتماعية يجد أن هناك قوى تدفعه وتجذبه؛ لتؤثر في حراكه الأفقي والرأسي، وكلما كان المجتمع منقاداً للقوة الضابطة كان ذلك الحراك الاجتماعي في نسق يضمن له السير المعتدل، بل حتى في حركة الكواكب يلاحظ الإنسان ذلك، فحركة الأرض وحركة من على الأرض لولا قوة الجاذبة الضابطة لتطايرت المخلوقات من على كوكب الأرض. وهكذا نجد تميز التربية الإسلامية بقوة الضبط لقوى النفس البشرية، لتسير في خط معتدل يحقق لها التوازن بين مطالب النفس الروحية والمادية، وبين مطالب الفرد ومطالب المجتمع، وهذا ما افتقرت إليه التربيات. ثانياً: الأصول المرجعية: تتجاهل الدراسات الغربية الأصول المرجعية؛ لعدة أسباب: 1- قلة الرصيد العلمي الذي يمكن الانطلاق من خلاله، والمنحصر في كتابات الفلاسفة الإغريقيين: سقراط وأفلاطون وأرسطو. 2- تحريفهم للكتب السماوية (التوراة - والإنجيل) مما أفقدهم أهم رافد معرفي (الدليل) . 3- الجهل الذي ساد أوروبا في القرون السابقة للنهضة الحضارية المادية المعاصرة. 4- الانطلاقة من معتقدات مرجعية فاسدة باطلة منها: أ - أن الطفل يولد بضمير معين مصحوب بغريزة صارمة هي - الخطيئة

الأصلية - أي أن الطفل أو الإنسان مفطور على الفساد والانحلال؛ ولذلك لا فائدة من التربية الأخلاقية1. في حين نجد أن المنهج الإسلامي يقرر أن الطفل يولد على الفطرة، وهي الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: “ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” 2. ب - عزل الدراسات الإنسانية عن الوحي، مما جعلها تدور في حلقة مفرغة، فأعياها ذلك الوصول إلى حقيقة فهم الإنسان، يقول أبرز من كتب عن الإنسان من الغربيين الكسيس كاريل: فإن فقر الخطط الكلاسيكية يعزى إلى الحقيقة - وذلك بالرغم من اتساع مدى أفق معرفتنا - والتي مؤداها أننا لن نفهم أنفسنا؛ لعدم بذلنا جهداً نافذاً كافياً، ومن ثم يجب أن نفعل ما هو أكثر من مجرد النظر إلى ناحية واحدة من نواحي الإنسان في حقبة معينة من تاريخه، وفي أحوال معينة من حياته، يجب أن نفهمه في جميع وجوه نشاطه، ما كان واضحاً منها عادة، أو ما يبقى في حيز الفكر. فقد صور الكسيس كاريل فقر الدراسات الإنسانية في معرفة الإنسان، ثم يبين أن العلاج محصور في العلم التجريبي فقط، حيث يقول استكمالاً لما سبق. ومثل هذه المعلومات يمكن فقط الحصول عليها بالتأمل الدقيق في حاضر وماضي جميع اكتشافات قوانا العضوية والعقلية، كذا بالفحص التحليلي والتركيبي لبنيتنا وعلاقتنا النفسية والكيميائية والعقلية3. فهو لم يلتفت للمصادر الدينية البتة، وهذا يعتبر قدحاً في مصداقية النتائج

_ 1 ماجد عرسان الكيلاني، اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية، ص (15) . 2 البخاري (1/424) ، برقم (1385) ، واللفظ له، ومسلم (4/2047) . 3 الكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، ص (51) .

الدراسات الإنسانية. ونتيجة عزل الدراسات الإنسانية عن الوحي، أصبح البحث الاجتماعي الغربي يهتدي بافتراضات تنزل بالدين إلى مستوى النظم الوضعية الكثيرة في المجتمع؛ وبسبب هذه الافتراضات لم يسمح البحث مطلقاً بالنظر في التأثيرات الأعلى من النظم، والأوسع للدين في المجتمع1. كما أن عدم أصالة الأصول المرجعية جعل الفكر الغربي تجاه الإنسان في حيرة وقلق، حيث لا يستطيع أن يجيب عن الكثير من الأسئلة التربوية التي يمكن أن يجيب عنها منهج التربية الإسلامية. يقول الكسيس كاريل: إننا لا نعرف كيف يمكن أن يزداد الإحساس الأدبي؟ وحتى الآن لا نعرف أي البيئات أكثر صلاحية لإنشاء الرجل المتمدن وتقدمه؟ وكيف نحول دون تدهور الإنسان وانحطاطه في المدنية العصرية؟ 2. ثالثاً: البواعث والأهداف: إن للبواعث والأهداف تأثيراً عظيماً وفاعلاً في الاتجاه التربوي وميادينه، والتي يمكن إيضاحها فيما يلي: 1- البواعث: يعتبر الباعث من أقوى العوامل المؤثرة في سلوك الإنسان وتصرفاته، فهو يحفز الإنسان للعمل، ويكسب سلوكه نمطاً معيناً، وبنوع الباعث تتباين التصرفات، فقد تهدف مجموعة من الناس إلى الحصول على المؤهل الجامعي، ولكن الباعث عند أحدهم الكسب المالي، وعند آخر المكانة الاجتماعية، وعند آخر رفع الجهل عن النفس وعن الآخرين. وقد يكون عند آخر ليباهي به الناس.

_ 1 إلياس بايونس، علم الاجتماع والواقع الاجتماعي المسلم، ص (57) . 2 الكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، ص (18-19) .

فبالرغم من أن الفعل والهدف واحد إلا أن اختلاف البواعث غَيَّر القيمة الخلقية لتلك الأهداف بحسب باعثها. والإسلام اهتم بأمر البواعث اهتماماً كبيراً، ساعياً لتصحيحه والسير به نحو ما ينفع الإنسان، وهو الذي يعبر عنه بالنية، قال صلى الله عليه وسلم: “ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه” 1. وقال صلى الله عليه وسلم: “ومن تعلم العلم ليباهي به العلماء ويجاري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم” 2. وبواعث الدراسات الغربية ليست ذات نوايا طيبة، بل تحمل في طياتها بواعث خبيثة، فبعد الثورة الفرنسية على الكنيسة التي أعاقت البحث العلمي والفكري، تحت النظام الإقطاعي نجحت أوروبا في نقل العلوم وترجمتها، ورأت أوربا أن العلم الطبيعي هو مفتاح السيطرة على العالم، ومن ثم تتحقق السعادة للإنسان الأوربي. وبعد التقدم النسبي في هذا المضمار رأى العالم الغربي لإكمال عقد السيطرة على العالم هو فهم الفرد والمجتمع، حتى يمكن السيطرة على فكره ومقدراته وإخضاعه لهيمنتهم، وهذا يتطلب أمرين: أ - تكثيف الدراسات التربوية والاجتماعية والنفسية على الإنسان، فظهر علم النفس الاقتصادي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الحربي، وعلم النفس التربوي. ب - إخضاع هذه العلوم للبحث التجريبي قياساً على نجاح التجريب في

_ 1 البخاري (1/13) ، برقم (1) ، ومسلم (3/1515) ، برقم (155-1907) . 2 ابن ماجه (1/96) ، برقم (260) .

العلوم الطبيعية، وبالتالي كفرت بكل ما لا يمكن تجريبه، فكفرت بأنعم الله الغيبية، وظهرت العلمانية والإلحادية1. بل ومن بواعث الدراسات الغربية الاجتماعية التوصل إلى معرفة كيفية تمزق الشعوب وكيفية تمزيقها. 2- الأهداف: يكتنف الهدف من التقدم الذي أحرزته الحضارة الغربية الانحراف الخاطئ والمدمر؛ بسبب المفاهيم الخاطئة التي تسير في منأى عن التشريع الإلهي: فمن المفاهيم الخاطئة التي أدت إلى انحراف الأهداف، النظرة العدوانية لآيات الله الكونية وحوادثها، فقد أشار فيلب. هـ. فينكس: أن الطبيعة عدو للإنسان، بما يحدث من زلازل وبراكين وحرائق وعواصف، وبالتالي فإن الطبيعة ميدان للقتال، والبقاء فيه للأقوى، وأن قانون الحياة هو الحرب الدائمة، وعن طريق الصراع يزول غير القادرين؛ ولأن الطبيعة عدو للإنسان تقدمت الإنسانية هذا التقدم الكبير، والحضارة هي نتيجة انتصار الإنسان على الطبيعة وقهرها، والثقافة تتعارض مع الطبيعة، والهدف من الكفاح الإنساني أن يخلق دنيا جديدة، معارضة للطبيعة، يعمل فيها الإنسان على هدم كل ما يتصف بالوحشية من قوة وحيوان، أو إخضاعه لقوة الإنسان وعظمة الإنسان2. فالهدف من التعامل مع الطبيعة هو قهرها باعتبار أنها عدوة للإنسان، وهذه النظرة لها مؤثراتها التربوية على الأهداف، سواء في مجال البحث العلمي، أو في مجال التعامل السلوكي؛ لأن النظرة العدوانية للأشياء تربي في النفس البشرية الكراهية والحقد، والتعامل الصارم الذي لا يقبل الرحمة، إضافة إلى عدم

_ 1 إسماعيل راجي، إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الاجتماعية، ص (24-25) . 2 فيلب. هـ. فلسفة التربية، ص (289-292) .

معرفة الحكمة الإلهية من آيات الله الكونية عندما تكون في خدمة الإنسان، وعندما تكون لعقاب الإنسان أو تخويفه ليرجع إلى ربه. ولكن المنهج الإسلامي يقدم لنا مفهوماً مغايراً تماماً لعلاقة الإنسان بما يحيط به، مما يحقق للإنسان منهجاً تعاملياً راقياً مع المصادر الطبيعية، سواءً استفاد منها الإنسان أو لم يستفد، وتربي فيه إيماناً قوياً بخالقه سبحانه وتعالى، ويتعامل في نفس الوقت مع الأحداث والكوارث معاملة تجلب له توازناً سلوكياً، وتوجهاً خلقياً وتعبدياً مع ربه تعالى، ومع مخلوقاته وآياته المبثوثة في الكون، ومن تلك التوجيهات الربانية في هذا الصدد قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ.وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} 1. ولذلك فهم علماء المسلمين لما يحدث في الطبيعية من أمور غير معتادة أن ذلك تخويف من الله تعالى للإنسان ليرجع إلى الله عز وجل، ويترك طغيانه وجبروته، يقول ابن قيم الجوزية عن الزلازل: “ فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة، والإقلاع عن المعاصي، والتضرع إليه والندم، كما قال بعض السلف وقد زلزلت الأرض: أن ربكم يستعتبكم، وقال عمر بن الخطاب وقد زلزلت المدينة، فخطبهم ووعظهم، وقال: لئن عادت لا أساكنكم فيها”2. فهكذا تحدث التربية الشرعية مفاهيم تربوية لمتغيرات الكون، فتربي في المرء الصلاح والفهم الصحيح بما يُحدث فيه رغبة في سلوك الاستقامة والتعامل البناء وفق أهداف صحيحة.

_ 1 سورة الرعد: آية رقم (12-13) . 2 ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة (1/221) .

رابعاً: الوسائل المنهجية: لقد فصل الغرب بين الإنسانيات وبين العلوم الاجتماعية؛ وذلك بسبب اعتبارات منهجية، جعلت الدراسات الإنسانية خارج نطاق العلم، بإعفائها من دقة الموضوعية، فأصبحت الإنسانية عرضة لهجمات النسبية، والشك والذاتية، وقد ساعد ذلك على مزيد من التآكل في تأثيرها، وأعجز قوة موادها عن تحديد مجرى الحياة والتاريخ1. ويتضح ذلك من استعراض الأدوات والتجريب والأصول التاريخية للعلوم التربوية، وأثر ذلك على الوسائل المنهجية: 1- منهج تفسير الأعلى عن طريق الأدنى: يقوم المنهج الغربي على معتقدات استسلم لها الكثير منهم، ومن ذلك: الاعتقاد بأن الفرق بين الإنسان والحيوان محصور في درجة التعقيدات، فالإنسان أعقد من الحيوان؛ ولذلك فإن أسلم طريقة لدراسة الإنسان هو بحثه من خلال الأدنى؛ وهو الحيوان، حتى ترتقي إلى ميدان الإنسان؛ ولذلك نجد أن البحوث تركز في دراساتها السلوكية على الحيوان لتعميمها على الإنسان مثل دراسة بافلوف. ويقول فيلب.?. فينكس عند شرحه للتحليل التلخيصي: “لا يوجد اختلاف في النوع بين الحيوان والإنسان، ولكن هذا الاختلاف هو في درجة التعقيد؛ ولذلك عند فهم الأفراد البشريين لا نفقد شيئاً أساسياً إذا ما درسنا الأشكال الدنيا البسيطة من الحيوان، وهذه هي الطريقة العلمية الأساسية: نحلل المعقد بأنّ ننظر أولاً فيما يشبهه، مما هو أبسط منه؛ ولذلك فأفضل الطرق لدراسة

_ 1 إسماعيل راجي الفاروقي، إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الاجتماعية، ص (30- 31) .

السلوك الإنساني نجدها فيما يجري من بحث على الحيوانات الدنيا”1. والحقيقة أن الاستفادة من التجارب على الحيوان يمكن أن تكون في المجالات العضوية الطبية، ولكن في المجال السلوكي يصعب ذلك للمفارقات الكبيرة بين الإنسان والحيوان، من حيث العقل، والتفكير، والإرادة والملكات المتعددة عند الإنسان، وإن كان هناك خط مشترك بين الجنسين في النمو والتوالد والحركة، ولكن ذلك لا يعطينا الحق المطلق في تطبيق التجريب السلوكي، بل إذا كنا نؤمن بأن ما يمكن أن يجرب على بيئة اجتماعية إنسانية، قد يعطينا نتائج متباينة لو طبقت نفس التجربة على بيئة إنسانية أخرى، لعوامل التأثير المختلفة، مثل: الدين، المفاهيم، والأهداف، والتقاليد، فكيف يمكن أن توضع نتائج تجريبية على الحيوان لتطبق على الإنسان؟. 2- التجريب في الدراسات الإنسانية: إن العلوم الطبيعية يمكن ملاحظتها بالحواس، ويمكن فصل مكوناتها عن بعضها، كما يمكن قياسها بالحواس أو بالمقاييس المادية، وهذا دعا الغربيين إلى تعميم التجريب على كل مجالات المعرفة، فاعتقد الغربيون أن ما كان ممكناً في العلوم الطبيعية يمكن أن يطبق في العلوم الاجتماعية والتربوية، فأخضع الإنسان للتجريب بهدف فهم السلوك البشري وبالتالي يمكن توجيه حركته، ومن ثم إخضاع المجتمع للسيطرة والتوجيه، والحقيقة “أن مادة السلوك الإنساني على عكس مادة العلم الطبيعي ليست ميتة، بل حية، إنها ليست عديمة التأثر بمواقف الملاحظ وأهوائه، إنها لا تكشف عن نفسها على ما هي عليه في الواقع لكل باحث أو لكل الباحثين، فمواقف الناس ومشاعرهم وأحكامهم وآمالهم، تميل

_ 1 فيلب. هـ. فينكس، فلسفة التربية، ص (698) .

إلى أن لا تكشف عن نفسها لمن يلاحظها دون تعاطف معها”1. فالموظف يعمل، وقد يجتهد ويتفانى في مهنته، ولكن ما هو سرّ اجتهاده؟ للترقية، لزيادة الراتب، الإخلاص لله تعالى فيما أوكل إليه..؟ أسئلة كثيرة لا يستطيع العلم التجريبي أن يكتشفها ويجيب عنها، بل ربما يُظهر الموظف تفسيراً لجهده معلناً بأنه للإخلاص فقط، ولكن يخفي أمراً آخر، وهو الحصول على مركز معين مثلاً. فكيف يكشف لنا العلم التجريبي هذه الزوايا في السلوك البشري؟. ولكن يمكن للعلم التجريبي أن ينجح في العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية إذا كان في ضوء المنهج الإسلامي، فالموظف الذي ذُكر آنفاً حسب البحث التجريبي العلمي الغربي لا يستطيع أن يجيب عن التساؤل السابق، ولكن لو سار في ظل المنهج الإسلامي لأجاب إجابة عالية في درجة الصحة؛ وذلك بأن يُنظر إلى السلوك العام لهذا الموظف من حيث استقامته ومنهج تعامله مع الآخرين، ودرجة تدينه وورعه عبر سجله الوظيفي الملاحظ غير المكتوب. فهذا يعطينا مؤشراً نسترشد به ولا نحكم به قطعاً على هذا الموظف. لم يدرك المشتغلون بالعلوم الإنسانية من الغربيين أن تركيبة الإنسان لا يمكن ملاحظة كل جزئياتها؛ لأن ليس كل عناصر التركيبة البشرية مادية خالصة يمكن قياسها. فهناك نمط من المعنويات والمشاعر والروحانيات التي لا يمكن دراستها دراسة تجريبية معملية، كما هو في المواد الطبيعية أو العلوم الطبيعية المادية. كما أن هذه الجوانب غير المادية في الإنسان تتغير في الفرد الواحد، وتختلف من مجتمع لآخر أيضاً، بل الدين والعادات والهوى له أثر كبير في

_ 1 إسماعيل راجي الفاروقي، إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الاجتماعية، ص (27) .

تكوينها وتغيرها، وهذا يُكَوِّن عجزاً معملياً للقياس الكمي التجريبي، وتبعاً لذلك قدم الغرب نظريات يعتريها الخطأ، فباتت غير عملية في فهم السلوك البشري، ولم تثبت جدواها. فالمنافقون عاشوا مع المسلمين في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعرفهم الصحابة من خلال سلوكياتهم إلا مَنْ بينهم المصطفى صلى الله عليه وسلم. فالإنسان قد يتقمص مشاعر ومسالك سلوكية ويبطن غير ذلك فكيف تقاس هذه المشاعر وتخضع للتجريب كما هو حال المنافقين؟. إن المشاعر الإنسانية لمجموعة من البشر قد تكون متقاربة لدرجة الاتحاد، فتكون متماثلة في درجة الصدق أو الإيثار كما هو حال الأنصار الذين وصف الله تعالى لنا مشاعرهم وأفعالهم - قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. ومن مشاعر الكفار اختلاف قلوبهم مع أن ظاهرهم الاجتماع والاتحاد، قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} 2. فحسب المقاييس البشرية الظاهرية أنهم كتلة واحدة، والحقيقة خلاف ذلك تماماً. فكيف يمكن قياس مثل هذه المشاعر بالمقاييس التجريبية؟ وقد تبيّن أن مظاهر الكفار خلاف مشاعرهم، وبالتالي يمكن القول لولا أن الله تعالى علمنا هذه الحقيقة كيف نتوصل إليها؟.

_ 1 سورة الحشر: آية رقم (9) . 2 سورة الحشر: آية رقم (14) .

ويمكن القول: إن التربية في البيئة الواحدة تُكَوِّن عناصر ومشاعر متشابهة ومتناسقة لدرجة الاتحاد، وهذا ما حصل في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فتكونت منهم مشاعر متشابهة نتيجة وحدة العقيدة وسلامتها، ومتانة التربية، ولكن تظل الفروق الفردية موجودة بما لا يحدث تصدعاً في البيئة الاجتماعية، فتجد الرجل يتصدق بماله وآخر بأكثر ماله، وآخر بنصفه وأقله. 3- الأساس التاريخي للعلوم التربوية والاجتماعية: من خلال الاستقراء يتضح أن الدراسات الغربية في مجال التربية نشأت منذ العصر اليوناني القديم على يد سقراط، وأرسطو، وأفلاطون، واتصفت بصفتين: أ - قلتها ونضوب معلوماتها. ب - عدم مصداقيتها وجدليتها. أي أنها تعالج القضايا التربوية بأسلوب فلسفي جدلي غير قطعي الدلالة، مع افتقاره إلى صحة المنهجية وسلامتها، وإلى الأصول المرجعية الصحيحة. ولم يضف الخلف الغربيون إلى أسلافهم اليونانيين جديداً، بحيث تنقل تلك الاتجاهات الفلسفية إلى علوم قطعية، ذات قوانين وضوابط، وبالتالي فإن هذا الميدان لم يزل حتى اليوم يكتنف أكثره الفقر العلمي، وضعف المصداقية لأبحاثه ودراساته الإنسانية. “وأما فروع المعرفة التي يسميها الغرب العلوم الاجتماعية لا يكاد عمرها يتجاوز القرن الواحد، وفي كثير من الجامعات تضم هذه العلوم خمسة فروع هي: علم الاجتماع، وعلم الإنسان، وعلوم السياسة والاقتصاد، والتاريخ، وعلم النفس”1.

_ 1 إسماعيل راجي الفاروقي، إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الاجتماعية، ص (23) .

باب: المبحث الرابع: مقارنة التربية الإسلامية بمتناقضات التربيات الأخرى

باب: المبحث الرابع: مقارنة التربية الإسلامية بمتناقضات التربيات الأخرى ... المبحث الرابع: مقارنة التربية الإسلامية بمتناقضات التربيات الأخرى إن التربية الأجنبية المعاصرة تعيش اليوم في جو مفعم بالتناقض والازدواجية، وأصبحت تعيش مأزقاً سلوكياً حرجاً، بينما التربية الإسلامية عندما طبقت بكاملها من لدن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنجبت جيلاً فريداً من نوعه في عبادته، وأخلاقه، وعلاقاته، في السلم والحرب، وفي المنشط والمكره، فقدم الأسلاف للخلف نموذجاً رائعاً لا يزيغ عنه إلا هالك، ليظهر بذلك سبق الإسلام في معالجة قضايا الإنسان التربوية، التي لا تستقيم حياة الناس إلا بمنهجه. وفيما يلي عرض لمظاهر التناقض والازدواجية التي تعيشها التربية غير الإسلامية مع بيان سلامة منهج التربية الإسلامية1. 1- الفردية في مقابل الروح الجماعية: ويقصد بالفردية التمركز حول الأنا، والاعتقاد بأن الفرد هو الوحدة الأساسية الهامة في كل قرار2، فهناك من ينادي بحقوق الفرد على حساب المجتمع وتمثله التربية الماركسية، ومنهم من ينادي بحقوق المجتمع على حساب الفرد، وتمثله التربية الاشتراكية، في حين نجد أن الإسلام عيّن حقوقاً فردية وحقوقاً جماعية لا تناقض بينهما، ووضعت قواعد عامة لمقابلة المستجدات، وحل ما قد يحدث من تعارض بين حقوق الفرد والمجتمع، فجاءت القاعدة الفقهية العامة: “يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام”3.

_ 1 انظر: ماجد عرسان الكيلاني، اتجاهات معاصرة في التربية الخلقية، ص (104-125) . 2 المرجع السابق، ص 104. 3 أحمد بن محمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، ص (197) .

2- كرامة الإنسان في مقابل إنجازات الفرد وممتلكاته: وهي تعني أن قيمة الفرد ليس بآدابه وأخلاقه وإنما بإنجازاته وممتلكاته المادية، بصرف النظر عن منهجه وسلوكه. في حين نجد أن الإسلام ينطلق في تقييمه للإنسان من التكريم، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 1. ثم التسوية بين البشر في الأساس التكويني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} 2. ثم التفرقة بقدر الطاعة لله تعالى، وبحسب الإيمان والعلم والتقوى. قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 3. وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} 4. ثم إن وسائل التفرقة بين الناس في منهج التربية الإسلامية لا تولد العداء، بل تولد التنافس في الطاعة والخير، وتولد الاحترام بين أهله، وهذا ما عجزت أن تحققه التربيات الأخرى. وهنا لا ننفي بعض التصرفات السلوكية من بعض أفراد المجتمع المسلم في تقيمهم للآخرين بحسب مكانتهم المادية والاجتماعية بصرف النظر عن تمسكهم بالدين وتعاليمه، فهذه التصرفات نابعة من قصور معرفي وإدراكي عند أولئك، وليس في منهج التربية الإسلامية.

_ 1 سورة الإسراء: آية رقم (70) . 2 سورة الحجرات: آية رقم (13) . 3 سورة الحجرات: آية رقم (13) . 4 سورة المجادلة: آية رقم (11) .

3- المساواة في مقابل التنافس: فقد أفرزت التربية الغربية طبقتين: أ - طبقة المحافظين الذين يعودون إلى طبقة الدارونية الاجتماعية والاقتصاد الحر، والتحلل من المسؤولية نحو المحتاجين، وعدم التألم من الاستغلال والظلم. ب - طبقة الرادكاليين: المطالبين بالمساواة والرعاية والضمانات الاجتماعية1. في حين نجد أن التربية الإسلامية تضمن للأفراد حقوقهم، وتغرس بينهم التنافس في فعل الخيرات، بما يغرس فيهم التراحم والتواد. 4- الهيمنة في مقابل الحرية: إن التربية الغربية أفرزت تناقضاً شعورياً عند الفرد بما يشاهده ويشعر به، بل ويمارسه، من استخدام العنف للهيمنة على القضايا والمقدرات الاقتصادية والبشرية بالحروب والمذابح، والتجويع المفتعل، والنكسات الاقتصادية، والتلوث والقنابل النووية، ومقابل ذلك المناداة بالحرية الفردية والجماعية، وهذه قضية حادثة متضاربة. في حين نجد أن التربية الإسلامية بمنهجها الرباني تؤكد حرية الفرد والمجتمع المنضبطة بضوابط شرعية، وتجعل الهيمنة في يد السلطان الحاكم، وفي يد الوالدين، وفي يد المعلم، ولكنها تضبط هذه الهيمنة بضوابط شرعية تحقق المصلحة الفردية والجماعية، فيتولد لدى أتباع المنهج الإسلامي الاستقرار النفسي والاجتماعي. ومن أمثلة ذلك في منهج التربية الإسلامية أن الزوج له سلطة الهيمنة في المنزل، ولكن هذه السلطة ذات ضوابط، لا تعطيه حق التعسف ومنع الزوجة من حريتها، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ

_ 1 ماجد عربيان الكيلاني، اتجاهات معاصرة في التربية الخلقية، ص (107-108) .

وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} 1. وفي نفس الوقت قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} 2. وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 3. وهذا يعطي الزوج حق الرئاسة، ويكفل للزوجة حقوقها بما يضمن لها إنسانيتها وحريتها. وبالنسبة للحاكم (السلطان) فله حق الولاية وما يتبعها من سلطة ومسؤولية، قال صلى الله عليه وسلم “فالإمام راع ومسؤول عن رعيته” 4. وهذه المسؤولية تخول له القيام بتبعاتها من حفظ الدين وتنفيذ الأحكام وحفظ حقوق الرعية وتحصين الثغور5. كما أن هذه الولاية تحتم على الرعية الطاعة، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: “إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مُجَدَّع الأطراف” 6. وقال صلى الله عليه وسلم: “من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصي الأمير فقد عصاني” 7. وهذه الطاعة مقيدة، قال صلى الله عليه وسلم: “على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة” 8.

_ 1 سورة النساء: آية رقم (34) . 2 سورة البقرة: آية رقم (228) . 3 سورة النساء: آية رقم (19) 4 البخاري (1/284-285) برقم (893) ، مسلم (3/1459) برقم (20-1829) . 5 انظر: الأحكام السلطانية للماوردي، ص (18) . 6 مسلم (3/1467) ، رقم (36-1837) . 7 المرجع السابق (3/1466) ، برقم (32-1835) . 8 المرجع السابق (3/1469) ، برقم (38-1839) .

5- العنصرية مقابل العالمية: المنهج التربوي اليهودي هو المسيطر والمهيمن على منحى التربية الغربية، وهي تسير في توجهاته ووفق تطلعاته، ومن معتقدات اليهود التي تربوا عليها العنصرية، فهم يرون أن لهم مكانة خاصة، دونها جميع الأجناس، وأنهم شعب الله المختار، مهما كان سلوكهم، وأفعالهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وهم يعتقدون أنهم مميزون عن شعوب العالم في كل شيء، في الأجساد والأرواح والمصير، فهم يزعمون أنهم خلقوا على الصورة البشرية استحقاقاً لذلك، أما الشعوب الأخرى فمن أجل أن يسهل على اليهود تسخيرهم للخدمة، ولكي يأنس الأسياد بالعبيد1. وقد وصف الله تعالى عقائد هؤلاء القوم في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} 2. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} 3. وقال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 4. ويقابل هذه التربية العنصرية الدعوة إلى التسامح، وحفظ الحقوق بهتاناً وزوراً؛ وذلك لتحقيق مآرب من وراء ذلك. وبالتالي فإن الناشئ في هذا الجو المفعم بالتناقض يخلق لديه توتراً نفسياً وخوفاً وشكوكاً وعدوانية تجاه العالم. في حين نجد التربية الإسلامية تربي في أفرادها العدل البشري والتمايز

_ 1 وفاء صادق، أخلاق اليهود وأثرها في حياتهم المعاصرة، ص (25) . 2 سورة البقرة: آية رقم (111) . 3 سورة البقرة: آية رقم (80) . 4 سورة آل عمران: آية رقم (75) .

بالتقوى والعمل الصالح لا بالجنس، والدم واللون والمكان والزمان، وهذا يرتضيه كل فرد؛ لأنه عين العدل، ومطمع الفطرة السوية، وفي نفس الوقت تجد الإسلام دعوة عالمية لكل بشر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. فهي دعوة للناس جميعاً دون تمايز بالألقاب والأجناس والأموال، ففاطمة بنت قيس القرشية تتزوج من أسامة بن زيد وهو مولى أسود اللون2 رضي الله عنهما وصهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم صحابة إجلاء في كوكبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3. فهذه التربية الإسلامية تركت آثاراً عظيمة عميقة في الفرد والمجتمع الإسلامي لِتُكَوِّن منهم بناءً موحداً كالجسد الواحد فيما بينهم، ويحبون الخير للناس مؤكدين ذلك في نوايا فتوحاتهم أنها ليست للاستيلاء على مقدرات الأمم وإذلالاً لها، بل لإخراجها من الكفر إلى الإسلام، ففي فتوحاتهم لم يقتلوا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً4. 6- الاغتراب في مقابل الانتماء: تساعد التربية الغربية المعاصرة الطلاب للتكيف حسب متطلبات الثقافة المادية الجارفة دون النظر إلى الجانب الأخلاقي، ويوصف هذا الإسهام بالواقعية

_ 1 سورة يونس: آية رقم (57) . 2 الحديث في صحيح مسلم (2/114) ، برقم (36-1480) . 3 سورة الحجرات: آية رقم (13) . 4 عن عالمية التربية الإسلامية، انظر: كتاب التربية الإسلامية والمشكلات المعاصرة، عبد الرحمن النحلاوي، ص (106-112) .

والمعقولية، وفي نفس الوقت يجد المربون غربة في الأهداف المادية وفي الوسائل، وفي عدم الالتزام بالغايات العليا للتربية. وتتمثل الأزمة الثقافية المعاصرة في عجز المربين عن بلورة التزام أخلاقي عميق ومستمر، يمكن أن يبعث الحيوية في الحياة اليومية، ويسبغ عليها صفة الشرعية. والمربون يعكسون الألم والكرب الناتجين عن الاغتراب، وهم يعلنون الفساد والانحطاط الكامنين في هذه الثقافة، ويدركون الأبعاد التاريخية والثقافية، وكذلك مخاطر الحلول السطحية التي يتم طرحها1. فهذا الانتماء للمنهج التربوي بحكم المعايشة والولاء له، مع الشعور بالخواء الأخلاقي يحدث في النفس انفصاماً واضطراباً بين حنينه وولائه لمنهجه، وبين حياته المادية والثقافية التي لا تتوافق مع الفطرة البشرية، فيتولد عن ذلك ما يسمى بالغربة. أما منهج التربية الإسلامية، فلا تناقض فيه بين منهجه وبين الفطرة البشرية ولا بين الأهداف والوسائل، فالأهداف كلها تنطلق من تحقيق العبودية لله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2. وأما الطريق والمنهج فقال تعالى عنه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. ومما أكدته القواعد الأصولية: أن الوسائل لها أحكام المقاصد4.

_ 1 ماجد عرسان الكيلاني، اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية، ص (119) . 2 سورة الذاريات: آية رقم (56) . 3 سورة يوسف: آية رقم (108) . 4 عبد الرحمن بن سعدي، القواعد والأصول الجامعة، ص (9) .

ومن جهة أخرى فإن المنهج الإسلامي لا يأمر بشيء إلا والفطرة الإنسانية السليمة والعقل الصحيح يقبله ويرضاه، ولا ينهى الإسلام عن أمر إلا والفطرة المستقيمة والعقل اللبيب يستقبحه ولا يرضاه، وهذه المواءمة بين التشريع والفطرة والعقل تخلق انسجاماً تربوياً ونفسياً لدى معتنقي الإسلام. 7- التغيير والواقع: تواجه التربية المعاصرة مشكلة وتناقصاً في القيام بوظيفتين متناقضتين: الأولى: العمل على تحطيم الواقع الذي لا يتناسب مع حاجات المرحلة ومتطلباتها. والثانية: العمل على استشعار الاستقرار والرضى بالواقع القائم الذي يقصر من مقاصد التربية1. فهذه أزمة تواجه المنهج التربوي، بين قبول الواقع الذي لا يتلاءم مع الفطرة وتكذيب النفس وإخداعها باستشعار الرضي الكاذب وبين أهمية التغير وإصلاح البنية التعليمية بما يزيح الأزمة التربوية. فهذه الأزمة التناقضية لا تجدها في التربية الإسلامية وفي مناهجها؛ لأن الأسس الإسلامية ثابتة لا تتغير مثل: القواعد الكلية والمبادئ العامة والأحكام الجزئية التي ورد فيها نص فإنها لا تتغير ولا تتبدل، بينما تظهر المرونة في القدرة على وضع الحلول التي تطرأ في حياة الناس، وذلك بتوجيه العلماء للنظر والاجتهاد في المسائل والحوادث الجزئية التي تستجد وفق ضوابط شرعية2. ومن جانب آخر جعل للتغيير إطاراً عاماً لا يجوز الخروج عنه أو عليه، بأن لا يكون متعارضاً مع أصول الشريعة أو يلحق ضرراً بأطراف التغيير، وأن

_ 1 ماجد عرسان الكيلاني، اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية، ص (120) . 2 حسين مطاوع، مصادر النظم الإسلامية، ص (127) .

يكون هذا التغيير لا يقل عن درجة الإباحة، وهذا فيما يتعلق بالأمور المادية في حياة الناس. أما فيما يتعلق بالتغيير الخاص بإزالة منكر أو تحقيق معروف فله ضوابط شرعية كقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه “1. 8- الفصل بين الدين والعلم: إن أشد أزمات التربية الغربية المعاصرة فصلها الدين عن العلم وعن الحياة، فالدين مكانه الكنائس لا يتجاوز ذلك البتة، والعلم قائم على التجريب فقط، وكل ما لا يخضع للتجريب لا يعتد به، والوحي عندهم ليس له مكان في مجال العلم التجريبي، فهما يسيران في خطين متنافرين، وكذلك الحياة تحكمها اللذة والنفعية، ونشاط الإنسان تحركه الغرائز فقط. فهذه الفواصل أحدثت أزمة تربوية ونفسية واجتماعية كبيرة جداً، فأفرزت العلمانية. فالعلم في مفاهيم تلك التربيات أنه: “مجموعة من الأفكار والخبرات التي أصبحت المظهر الأساسي المميز للحضارة الحديثة” ويعرف أيضاً العلم بأنه مجموعة متشابكة من النظريات2 وجوهر العلم هو الملاحظة والتجريب3. فهذه المفاهيم للعلم نحت بالتربية الغربية منحى أبعد أفرادها عن الطريق السوي، وحقق لأتباعها خواء روحياً، وأوردهم مهاوي القلق النفسي مع محاولة الهروب عن هذه المصائب باستخدام المخدرات والمسكرات، وعن طريق الملاهي التي حاربها الإسلام.

_ 1 مسلم (1/69) ، برقم (78-49) . 2 فيليب فينكس، فلسفة التربية، ص (507) . 3 المرجع السابع، ص (517) .

وأما في التربية الإسلامية، فإن الدين هو المهيمن على حياة الإنسان، وهو الإطار الذي يجب أن يسعى الإنسان في حدوده، والعلم أساس الدين وأساس السلوك البشري، ومصدره الأساسي من الله تعالى، ومن فروعه النظر والتأمل والاستفادة من نتائج التجارب الحياتية في أمور الناس. وهذه العلاقة المترابطة بين العلم والدين ولحياة أنتجت منهجاً تربوياً متماسكاً.

باب: التعقيب

باب: التعقيب ... تعقيب: إن هناك أساسيات ودعامات تعتبر مَحَاوِرَ رئيسة لفهم الإنسان، فإذا اختلف الباحثون التربويون فيها اختلفت تفسيراتهم لسلوك الإنسان وهي: 1- ما أصل الإنسان؟. 2- ما هي وظيفته ودواعي خلقه؟. 3- ما هي أبرز خصائصه النفسية، والفطرية؟. والدراسات الغربية التربوية والنفسية تختلف مع المنهج الإسلامي في الإجابة عن هذه التساؤلات. وهذه الدراسات الغربية النفسية والتربوية عندما افتقرت إلى فهم هذه الأساسيات نحت بالدراسات النفسية منحى حاد بها عن الطريق، فأدى هذا إلى: أ - افتقار المنظور الشمولي للإنسان، حيث نظرت للإنسان من حيث الجسد، ومن حيث القدرات والحاجات، وأهملت الجانب الروحي الإيماني الذي هو أساس متين للاستقرار النفسي والسلوك البشري. ب - اهتمت بالسعي نحو الدراسة النفسية التي تحقق أهداف الإنسان المادية، فظهرت النظرية النفعية، ونظرية اللذة التي تجعل علاقة الإنسان مع الغير مبنية على ما يحققه الإنسان من منافع مادية، وإشباع للذاته وشهواته. ج - افتقاد الأسس المرجعية الإلهية (القرآن الكريم والسنة النبوية) . د - انحراف الباحثين مثل فرويد، وداروين في دراستهما للإنسان لفقدانهم معرفة أصل الإنسان وخصائصه النفسية من منظور شرعي. هـ- - جهل الباحثين الغربيين بمعرفة السلوكيات الفطرية للإنسان التي بيّنها الله تعالى في القرآن الكريم، وأوضحها صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة. و افتقار هذه الدراسات للمعيار الصحيح الذي تقيس عليه السلوكيات

البشرية، إذ إن المعيار عندهم هو ما يتفق مع غالبية أعضاء الجماعة، وما لا يتفق معهم يعتبر انحرافاً. فعدم اختلاط المرأة بالرجال يعتبر انحرافاً، ويعبر عن سلوك غير سوي. وعدم اتخاذ صديق، أو صديقة يعتبر سلوكاً شاذاً نتيجة عقد نفسية. أما في الإسلام فالمعيار واضح نظرياً وتطبيقياً، فنظرياً يمثله القرآن الكريم، وتطبيقياً يمثله سلوك النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يعتبر تطبيقاً للقرآن الكريم، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “ فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن “ 1. ز - نتيجة الفقر السابقة، حاولت الدراسات الغربية فهم سلوك الإنسان من خلال المقاييس والاختبارات استناداً إلى قاعدتين: - أن العلم لا يقوم إلا على التجريب والقياس. - أن موضوع الدقة العلمية هو القياس. وهذا صحيح إلى حد ما باعتبارين: 1- باعتبار العلوم الطبيعية: وفي بعض قضايا علم النفس التجريبية مثل: التعلم والتعليم، ولكن كثيراً من سلوكيات الإنسان لا نستطيع أن نعمم عليها مقاييس محددة، لاختلاف بواعث السلوك الواحد فضلاً عن سلوكيات الإنسان المتعددة. فالصدق مثلاً: بواعثه متعددة، الخوف من كشف الحقيقة، أن لا يقال عنه كاذب، عدم المبالاة، حب طاعة الله والخوف منه. 2- ثم إن هناك سلوكيات تختلف في درجتها عند الإنسان بين الفينة والأخرى، مبعثها قوة الإيمان وضعفه؛ لأنه يزيد وينقض عند الإنسان، كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة.

_ 1 مسلم (1/512-513) برقم (139-746) .

فيقوى إيمان الإنسان فيندفع نحو فعل الخيرات، ويضعف تارة، فيقصر، فكيف يخضع هذا السلوك لمقياس ثابت. ولذلك فإن الدراسات التربوية والنفسية الغربية التي اهتمت بالطبيعة البشرية وسلوكيات الإنسان لم تصل إلى تقنينات نستطيع أن نجعل منها تعميمات كقوانين الكيمياء والفيزياء. هذا من جهة، ومن ناحية أخرى إذا ربطنا الدراسات التربوية والنفسية المعاصرة بالعصر اليوناني فإنها أسبق تاريخياً. وأما إذا ربطناه بجانب الدقة وصحة المقدمات والأصول والنتائج فإن السبق التربوي للإسلام. ولا شك أن الفوز والسبق لا يثبت لمن بدأ وإنما لمن وصل أولاً، وهذا هو المعتمد عند العقلاء. وأما جانب الاستفادة من الدراسات الغربية في مجالات التربية وعلم النفس، فيحتاج الأمر لدراستها من منظور إسلامي، وتقرير ما يصلح منها. وهذا يحتاج إلى مواصفات دقيقة فيمن يتولى هذا العمل، منها ما يلي: 1- الفهم الجيد لما يتعلق بالطبيعة الإنسانية من القرآن الكريم والسنة النبوية. 2- الاطلاع على جهود العلماء المسلمين في هذا الميدان. 3- الاطلاع على أصول تلك الأبحاث الغربية من مصادرها الأصلية لا من خلال النقولات التي ينقلها الكُتَّاب والمؤلفون عن تلك الأصول. 4- تصفية تلك الدراسات والبحوث الغربية، وأخذ النافع منها، وترك السقيم منها. ****

باب: النتائج والتوصيات

باب: النتائج والتوصيات أولاً: النتائج ... النتائج والتوصيات أولاً: النتائج: من أبرز نتائج هذه الدراسة ما يلي: أن السبق التربوي هو القُدْمَةُ والوصول أولاً لحقائق ثابتة ومتكاملة. للسبق التربوي أسس علمية معتبرة لابد من توفرها، وهي: 1- تحقيق نتائج صحيحة. 2- صحة الأصول المرجعية. 3- مشروعية السبق. 4- تحقيق القُدْمَة. تنطلق التربية الإسلامية في مفهومها للطبيعة الإنسانية من أن الله تعالى زود الإنسان بخصائص فطرية ومكتسبة تحرك قواه، والشريعة ضابطة لها، مما يحقق للإنسان قدراً كبيراً من الاستقرار النفسي. افتقار التربيات الوضعية للضابط الشرعي، مما جعل القوى الشهوية تحرك الإنسان دون ضابط يوجهها ويضبطها. تعتمد التربية الإسلامية على أصول مرجعية ربانية، هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما حقق لها التفوق والسبق التربوي. يعود تجاهل الدراسات الغربية للأصول المرجعية لأسباب، وهي: 1- قلة الرصيد العلمي في المجال التربوي، والمنحصر في جهود الفلاسفة والمنظرين. 2- تحريفهم للكتب السماوية. 3- الانطلاق من معتقدات مرجعية خاطئة. من أبرز المعتقدات التربوية الخاطئة في الدراسات الغربية:

1- أن الطفل يولد بضمير معين، مصحوب بغريزة الخطيئة، أي أن الأصل فيه الفساد. 2- التركيز التربوي في الطبيعة الإنسانية على الجانب الجسدي، والحاجات المادية، وإهمال الجانب الروحي. 3- أن الهدف من التعامل مع الطبيعة هو قهرها؛ لأنها عدوة للإنسان. تنظر التربية الإسلامية إلى كل مولود أنه يولد على الفطرة والانحراف طارئ عليه، وأن الله تعالى سخر الطبيعة للإنسان. وهذه المفاهيم وأمثالها حققت السبق التربوي الإسلامي. تميزت التربية الإسلامية بعالميتها، في حين تميزت التربية الغربية بالشعوبية والمادية. إخضاع العلوم الاجتماعية لمنهج العلوم الطبيعية في التجريب عند الغرب، دون مسلمات شرعية، قياساً على النجاح الذي تحقق في الميدان التقني والتجريبي. أن تلك المفاهيم الخاطئة في الدراسات الغربية والتي يقابلها مفاهيم إسلامية صحيحة حققت السبق والتفوق القطعي للميدان التربوي الإسلامي.

ثانيا: التوصيات

ثانياً: التوصيات: بناءً على هذه الدراسة وما توصلت إليه من نتائج، فإن من أهم التوصيات ما يلي: إبراز السبق التربوي للمنهج الإسلامي من خلال وسائط التربية المختلفة. أهمية تدريس خصائص منهج التربية الإسلامية وما تميزت به عن غيرها من التربيات الأخرى بهدف تحقق الآتي: 1- غرس الوعي لدى أبناء المسلمين بذلك. 2- عدم الاغترار بالحضارة المادية الغربية.

3- أن السبق لا يقتصر على الجانب المادي فقط. 4- إكساب الدارس القدرة على التصدي للدعايات المغرضة ضد المنهج الإسلامي. 5- العناية بإبراز الجانب التربوي المتردي في المجتمعات غير الإسلامية وخاصة الغربية. 6- أن تتبنى الجامعات، والمراحل الثانوية من التعليم العام إبراز التفوق التربوي للمنهج الإسلامي. 7- إعداد دراسات مكثفة في ميدان السبق والدراسات المقارنة ونشرها عبر وسائل النشر المختلفة. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1