الساق على الساق في ما هو الفارياق

الشدياق

تنبيه من المؤلف

تنبيه من المؤلف الحمد لله الموفق إلى السداد والملهم إلى الرشاد. وبعد فإن جميع ما أودعته في هذا الكتاب فإنما هو مبنيّ على أمرين أحدهما إبراز غرائب اللغة ونوادرها فيندرج تحت جنس الغريب نوع المترادف والمتجانس وقد ضمنت منهما هنا أشهر ما تلزم معرفته وأهم ما تمس الحاجة إليه عن نمط بديع ولو ذكر على أسلوب كتب اللغة مقتضباً على العلائق لجاء مملاً وقد راعيت سرده مرة على ترتيب حروف المعجم ومرّة نسقته بفقر مسجعة وعبارات مرصعة. ومن ذلك القلب والأبدال كما في التورور والثورور والتوثور والترتور وتمطي وتمتي وتمطط وتمدد. ومنه إيراد ألفاظ كثيرة متقاربة اللفظ والمعنى من حرف واحد منحروف المعجم نحو الغطش والغمش والبهز والبحز والبغز والحفز تنبيهاً على إن كل حرف يختص بمعنى من المعاني دون غيره وهو من أسرار اللغة العربية التي قل من تنبه لها. وقد وضعت لهذا كتاباً مخصوصاً سميته منتهى العجب في خصائص لغة العرب. فمن خصائص حرف الحاء السعة والانبساط نحو الابتحاج والبداح والبراح والأبطح والأبلنداح والجح والرحرح والمرتدح والروح والتركح والتسطيح والمسفوح والمسمح في قولهم أن فيه لمسمحاً أي متسعاً والساحة والانسياح والشدحة والشرح والصفيحة والصلدح والاصلنطاح والمصلفح والطح والمفرطح والفشح والفطح والفلطحة إلى آخر الباب. ويلحق به ألفاظ كثيرة خفية الاتصال لا تدرك إلا بإمعان النظر نحو الأسجاع والتسريح والسماحة والسنح. ومن خصائص حرف الدال اللين والنعومة والغضاضة نحو البراخدة والتيد والثأد والثعد والمثمعد والمثمغد والثوهد والثهمد والخبنداة والخود والرادة والرخودة والرهادة والعبرد والفرهد والأملود والفلهود والقرهد والقشدة والمأد والمرد والمغد والملد إلى آخر الباب. ويلحق به من الأمور المعنوية الرغد والسرهدة والمجد وغير ذلك. وربما عادلوا في بعض الحروف أي راعوا فيها الإكثار من النقيض فإن حرف الدال يشتمل أيضاً على ألفاظ كثيرة تدل على الصلابة والقوة والشدة. وذلك نحو التأدد والتأكيد والتأييد والجلعد والجلمد والجمد والحديد والسحدد والسخدود والسمهد والتشدد والصفد والصلد والصلخد والصمغد والعجرد والتعجلد والعرد والعربد والعرقدة والعصلد والعطود والعطرد والعلد إلى آخره. ومن خصائص حرف الميم القطع والاستئصال والكسر نحو أرم وأزم وثرم وثلم وجذم وجرم وجزم وجلم وحزلم وحسم وحطم وحلقم وخذم وخرم وخزم وخضم إلى آخر الباب. ويلحق به من الأمور المعنوية حمّ الأمر أي قضي وحرم وحتم وحزم فإن معنى القطع ملحوظ فيها. ويكثر في هذا الحرف أيضاً معنى الظلام والسواد. ومن حرف الهاء الحمق والغفلة والرثء أي قلة الفطنة نحو أله وأمه وبله والبوهة وتفه والتوه والدله والسبه وشده لغة في دهش أو مقلوب منه وعته وعله وغمه ونمه ووره. وقس على ذلك سائر الحروف. ومن هذا الغريب أيضاً كون بعض الصيغ يختص بمعنى من المعاني نحو أجرهدّ وأسمهرّ وكل ذلك مشار إليه في هذا الكتاب فينبغي التفطن له. وقد طالعت كتاب المزهر في اللغة للإمام السيوطي رحمه الله مما ذكر فيه خصائص اللغة نقلاً عن الإمام اللغوي إبن فارس فلم أجده تعرّض لهذا النوع بل ربما أورد من الخصائص أحياناً ما لا ينبغي إيراده كجعله مثلاً إطلاق لفظة الحمار على البليد منها. ومن ذلك الغريب النوادر من الألفاظ وذلك نحو قولي أكهى في صفة الرجل المتقرقف من البرد قال في القاموس أكهى سخن أطراف أصابعه بنفس. ونحو العنقاش للذي يطوف في القرى يبيع الأشياء. والضوطار وهو من يدخل السوق بلا راس مال فيحتال للكسب والذئابة أي بقية الدين. وثرمل يقال ثرمل الطعام لم يحسن أكله فأنتثر على لحيته وفمه.

فاتحة الكتاب

ويتكظكظ وهو أن ينتصب الإنسان عند الأكل قاعداً كلما امتلأ بطنه. ونحو الجلهزة والتلحذ والوزم والأرغال وغير ذلك مما فسر بعضه وترك الباقي فراراً من تكبير جرم الكتاب. والأمر الثاني ذكر محامد النساء ومذامهن فمن هذه المحامد ترقي المرأة في الدراية والمعارف بحسب اختلاف الأحوال عليها كما يظهر مما أثرت عن الفارياقية. فإنها بعد أن كانت لا تفرق بين الأمرد والمحاوق اللحية وبين البحر الملح وبحر النيل تدرّجت في المعارف بحيث صارت تجادل أهل النظر والخبرة وتنتقد الأمور السياسية والأحوال المعاشية والمعادية في البلاد التي رأتها أحسن انتقاد. فإن قيل إنه قد نقل عنها ألفاظ غربية غير مشهورة لا في التخاطب ولا في الكتب فلا يمكن أن تكون قد نطقت بها. قلت إن النقل لا يلزم هنا أن يكون بحروفه وإنما المدار على المعنى. ومن تلك المحامد أيضاً حركات النساء الشائقة وضروب محاسنهن المتنوّعة التي لم يتصوّر منها شيء إلا وذكرته في هذا الكتاب لا بل قد أودعته أيضاً معظم خواطرهن وأفكارهن وكل ما أختص بهن. فاتحة الكتاب هذا كتابي للظريف ظريفاً ... طَلِقَ اللسان وللسخيف سخيفا أودعته كلما وألفاظاً حلت ... وحشوتهُ نقطاً زهت وحروفا وبداهةً وفكاهة ونزاهة ... وخلاعة وقناعة وعُزوفا كالجسم فيه غيرُ عضوٍ تعشق ... المستور منه وتحمد المكشوفا فصَّلته لكن على عقلي فما ... مقياس عقلك كان لي معروفا قعّرته بمحافر الأفكار كي ... يسع الكلام وسمته تجويفا لفقّته وخصفته بيدي فقل ... نِعمَ الكتابُ ملفقاً مخصوفا أفرغت فيه كل حبرٍ راقَه ... وله بريت من اليراع ألوفا وكأنما بيدي قد نمقته ... حتى أتى مستحكماً مرصوفا ألّفته والليل أسود حالك ... فلذاك جاء مسخماً مسجوفا تبلته لك دون طاهي القوم بالرّب ... لات في تزيل منك خُلوفا وتصخ ما بك من طُلاطلة ومن ... ضرَسٍ فتلقم بعد ذاك الفوفا يُغنيك عن مين الطبيب وسحله ... ما من جراه تخازم الحتروفا قد أنبتت غضراء أرض سطوره ... روضاً وجنَّات تروق وريفا فتشمّ منها عرف كل ربحلة ... دهساء يفتن حسنها الغطريفا وترى الملعظة الشناط بجبها ... والفارض القرطاس والسرعوفا ووراءها وأمامها مرمورة ... وغرانق ما أن تزال أنوفا وإذا بدت لك من خلال حروفه ... ردح وثائر فاخطبنَّ رشوفا فإذا عجزت عن المؤونة واستقلت ... وجدت في أعقابهن الهيفا فاختر هداك الله ما تهوى ولا ... تتراخ عن أن تدرك الحرنوفا غيري من الوصَّاف في ذا صنفوا ... لكنهم لم يحسنوا التصنيفا إذ كان ما قالوه مبذولاً ولم ... يتقصَّ منهم واصف موصوفا لكن كتابي أو أنا بخلاف ذا ... نكفي الحفيَّ الحدّ والتعريفا لا عيب فينا غير أنك لا ترى ... ضواً لنا في فننا وحريفا فهو اليتيم المستحيل إخاؤه ... وهو الفريد فكن عليه عطوفا الفضل لي ولصاحب القاموس إذ ... من لجه قولي غداً مغروفا حلبت به رأسي خلافاً للنسا ... عاماً وكل العام كان خريفا لكن تولد في 3 أشهر ... وحبا على عجل وشب لطيفا لم أدرِ رجلته أو مخطته أو ... بصقته أو ألقته ثم كنيفا عانيت فيه من الزجير أجازك ... المولى عناء لا يُكال جزيفا وقطعت سرته على أهل الحجى ... وعلى اسمهم لا يبرحن موقوفا ما كان من ظئر له عندي سوى ... فكري ومع ذا خلته مسروفا قدماً عليه توحمت نفسي ولم ... يك شوقها عن نحوه مصروفا ورشحتُ لذَّات قبيل نتاجه ... حتى إذا باشرت عدت نشوفا أولدت لي ولدين لا لك ثم ذا ... لك ثالثاً لا لي فَعُلْهُ القوفا عهدي إلى ولديَّ أن يتحدَّيا ... أسلوبه وبدفتيه يطيفا ليؤمناه من الحريق احتمي ... أحد عليه لكونه حريفا إني بريء منهما أن يعدلا ... عنه ويتحذا عليه حليفا من كان يرغب فيه فهو موفق ... أو لا فقد ضلَّ السبيل وايفا في الليل يسمع منه غطغطة ... يطيب نعاسه بدوامها وحجيفا

ولرُبَّ نور ساطع يغدو إذا ... قابلته يوماً به مكسوفا وكبير بطن ضاق عنه وفاتك ... ذي شِرَّة عنه يخيم ضعيفا كالزئبق الفرار ينظره ولا ... يستطيع يمسك من قفاه صوفا يهوي هويَّ الريح في الوادي إذا ... ما هيج ثم يسنم الشنعوفا هو خير داحٍ للذي لم يرض من ... لعب الزمان ولهوه خذروفا أن تتله يطربك حسن بُغامه ... أو تُلغه يسمعك منه عزيفا فيه ترى في لبرد مشتى ثم أن ... ثارت خجوجاة السهام مصيفا وإذا ثقلت من الطعام وغيره ... تلقى به من ثقلة تخفيفا وإذا اتخذت حديقة فاغرس بها ... منه كليمات تزدك قطوفا تغنيك عن نصب الخيال بها فلو ... أضحى شظاظاً لصحها لا خيفا إني ضمنت لك الفدور فما ترى ... من بعده عزهاً ولا منجوفا كلا ولا مستثقلاً نوماً ولا ... أرقاً ولا تشكو صدى وعجوفا لا تقدمن على ركوب الصعب إن ... لم تتخذه صاحباً ورديفا حتى إذا تُعتعت أصبح عاصماً ... لك أن تزل فتخطى الخرنوفا إني لا علم والسداد يدلني ... إن الجناب يرى الأبيل مخيفا فاخفه أنت بكل حرف باتر ... قد خط فيه يكفّ عنك كفيفا هو حصرم في طرف من يغتابه ... ما زال أن ذكر اسمه مطروفا وهو الحديد القاطع الماضي الذي ... يبري العظام ويحسم الشرسوفا إن شئت تلبسه على علاته ... فاهنأ به أو لا فدعه نظيفا ولقد أجزتك سفه أو لعقه ... أو أن تخف قيئاً فخذه مدوفا لكن حذار من الزيادة فيه أو ... أن ترتأي استعماله محذوفا إذ ليس فيه من محل قابل ... للحذف أو لزيادة تثقيفا لوكان يعشق جامد لجماله ... لغدا الورى طراً به مشغوفا ولئن نزحت عن الأنام فإنه ... يمشي إليه حيث كان زحوفا وإذا تخاصم كاذبان فلحية ... الأشقى يغدر شعرها منتوفا حتى كأنَّ الشعر من لحييهما ... قطن الحشايا ناعماً مندوفا وحياة رأسك أن رأسي عارف ... إني به لن أستفيد رغيفا كلا ولا أقطا ولا حشفا ولا ... خزّا على وتدي ولا كرسوفا لكن بقرني حكة هاجت على ... إني أعالج مرة تأليفا من كان يؤجر كي يؤلف خطبة ... فهو الخليق بأن يعد عسيفا ما راح من قولي فخذه وما تجد ... من زائف فاتركه لي ملفوفا لا بد أن تجد الصيارف مرة ... بين الدراهم درهماً مزيوفا ولربَّ دينار يجر إليك من ... تهوى بلحيته وليس مشوفا لا يعلقن بزجاج عقلك ما ترى ... فيه من الصدأ القديم كثيفا من كان في بلد لطيفاً طبعه ... يجد الغليظ من المحب لطيفا لا ترفسن ما سرَّ من لأجل ما ... قد ساء بل لا تولهِ تأفيفا إن المصنف لا يكون مصنفاً ... إلا إذا جعل الكلام صنوفا أو ليس أن الضرب مثل الصنف في ... المعنى وقرع عصا إليه أضيفا حاشاك أن تقضي عليّ تهافتاً ... من قبل أن تتحقق التوقيفا فتقول قد كفر المؤلف فاحشدوا ... يا قوم صاحبكم أتى تجديفا فتهيج أرباب الكنائس هيجة ... شؤمى فيخترطوا عليه سيوفا بيني وبينك من صلات مودة ... ما يقطع التفسيق والتسقيفا لا تزبئرّ إلى القتال ولا إلى ... الشكوى ولا تك بيننا قذِّيفا إن كنتُ إحساناً أتيت فدونك ... التحبيذ لي أو لا فلا تقذيفا لا تشتمن أبي ولا أمي ولا ... عرضي ولا تك لي بذاك أليفا إثمي على أنفي يناط مدلدلا ... ما أن يصيب من العباد أنوفا ولربِّ فسيق اللسان مباذئ ... يغدو وقد فسق العفيف عفيفا ونزيه نفس أن يزر ذا زوجة ... ويكون أن ضحكت له عتريفا كلب الكواعب ليس يعدي غيره ... ودواؤه كعب يليه منوفا ماذا على مهدٍ إلى إخوانه ... شيئاً ألذَّ من المدام طريفا سهرُ الليالي محكماً تفصيلهُ ... وهم رقود يحكمون جحيفا أرأيت ذا كرم يردّ ... هدية ويسوم مهديها له تعنيفا أو ليس أن الدهر مازحاً ... يهذي ويأتي المضحكات جنوفا

الكتاب الأول

فأشتق من خرف الجنى ومن ... حصف تهي الأظفار منه حصيفا دع عنك تعبيس الأسود وكن أخاً ... لأبي الحصين مراوغاً يهفوفا من أضحك السلطان صوت ردامه ... فهو الذي في الناس عدَّ عريفا تمت بهذا البيت فاتحتي وقد ... صيرته لبنائها تسقيفا لا تقرأن من بعده شيئاً ولو ... كلفت حرفاً واحداً تكليفا فتكون قد أزلفت ثم تجاوزت ... بك رجلك اليسرى له تاريفا إني أرى كالريح في أذنيك عرف ... نصيحتي راحت سدى وطليفا الكتابُ الأوَّل إثارة رياح مه صه أسكت اصمت أنصت ايبَس أعقَم أسمع ائذن أصخ أصغ أعلم أني شرعت في تأليف كتيّبي هذا المشتمل على أربعة كتب في ليالي راهصة ضاغطة أحوجتني إلى الجؤار قائماً حتى لم أجد لصُنبور أفكاري ما يسدّه عن أن يتبعق على ميزاب القلم في وجوه هذه الصحائف. فلما رأيت القلم مِطواعاً لأناملي والدواة مطواعاً للقلم في نفسي لا بأس إن أقفو القوم الذين بيضوا وجوههم بتسويد الطروس فإن كانوا قد أحسنوا فأنا أعدّ أيضاً من المحسنين. وأن كانوا قد أساءوا فلعل عدد كتبهم يحتاج إلى تكملة فيكون كتابي على كل حال متصفاً بالكمال. لأن ما كمل غيره كان جديراً بأن يكمل نفسه. فمن ثم أتوقف فيما قصدته ولم أتحاشَ أن أودعه من الألفاظ الشائقة الرائقة والمعاني الفائقة الآفقة كل ما خفَّ على السمع، ولذَّ للطبع. مع عملي إنه لا يكاد مؤلف يعجب الناس جميعاً. وكأني بمتعنت يقول في نفسه أو لغيره لو كان المؤلف أجهد قريحته في تأليف كتاب مفيد لا يستحق أن يثني عليه. لكني أراه قد أضاع وقته عبثاً بذكر ما لا ينبغي ذكره جيناً. وحنيناً بذكر ما لا يجدي نفعاً. والجواب عن الأول: ومحترسٍ من مثله وهو حارسُ. وعاد الحيْش يحاس. وحذ من جِذْع ما أعطاك. وشحمتي في قلعي. وأهتبل هبلك. وعين الرضى عن كل عيب كليلة. وعن الثاني: أربع على ظلعك. وأرق على ظلعك. وأرقاً على ظلعك. وقِ على ظلعك. وكأني بآخر يقول حديث خرافة يا أم عمرو. وجوابه وكم من غائب قولاً سليماً. ثم كأني يحوقة عظيمة من الجلاذي والنهاميين والأنهمة والوففة والوفهة والوهفة والأبيلين والزرازرة والقمامسة وأمامهم الجاثليق الأكبر. وأمام هذا العسطوس الأعظم وهو يضجون ويعجبون ويجأرون وينعرون ويلجبون ويصخبون ويزأطون ويلغطون ويتقترون ويتوغرون ويتوعدون ويتهددون ويتذمرون ويتنكرون ويتنمرون ويتشذرون ويتشزرون ويتغذرون وينحمون وينهمون ويلغمون. فأقول لهم مهلاً مهلا إنكم قضيتم عمركم كله في حرفة التأويل فيما يضركم لو أوَّلتم ما تنكرونه في كتابي من أول وهله. وتمحلتم كما هو دأبكم لأن تجعلوا منه حسناً ما يظهر قبيحاً ومستظرفاً ما يلوح من خلال عبارته فاحشاً. فإن أبا نواس قد أوجب عليكم ذلك مذ مئين من السنين بقوله: لا تحظر العفو إن كنت أمرءاً ورعاً ... فإنّ حظركه بالدين إزراء وبقوله: كن كيفما شئت أن الله ذو كرم ... وما عليك إذا أذنبت من باسِ إلا أثنتين فلا تقربهما أبدأ ... الشرك بالله والأضرار بالناس فأما أن قلتم إن عباراته صريحة بحيث لا تقيل التأويل. فأقول لكم إنكم بالأمس كنتم تخطأون وتحضرمون وتهرأون وتلحنون وتلكنون وتغلطون وتوهمون وتعفكون وتلبكون وتلتكون وتلفتون وتعصدون وتخلطون وتخطلون وتهذون وتهذرون وتحصرون وتلخون وتلخلخلون وتعجمون وتجعمون وتقدمونوتلفون وتتبلتعون وتتلهيعون وتلغلغون وتلقلقون وتقلقلون وتترترون وتثرثرون وتحصرون وتفرفرون وتجمجمون وتمجمجون وتغمغمون وتمغمغون وتتغتغون وتثعثعون وتثغثغون وتبعبعون وتبغبغون وتوتغون وتضغضغون وتعيون وتفههون فمتى جاءكم العلم حتى فهمتموها. وإن قلتم أن بعضها وهو السيئ مفهوم وبعضها غير مفهوم. قلت لعل ما لم تفهموه هو الحسنات التي تذهب السيئات فلا ينبغي لكم على أية حالة كانت تحرقوه. ولعمري لو لم يكن من شافع لقبوله وأجرائه عند الأدباء وعندكم آنستم أيضا مجرى كتب الأدب سوى سرد ألفاظ كثيرة من المترادف لكفى. بل فيه من ذكر الجمال وأهله أدام الله عزهن إعظامه وتقريظ مؤلفه حيا ثم تأبينه بعد مفارقته إياهن برغم أنفه.

على إني أعرف كثيرا من الوفهة الكرام المشهود لهم بالفضل بين الأنام لا يتحرجون من قولهم شيء ممجمج وشيء متدملك وشيء مفرَّم وشيء أزَيب وشيء مهدف وشيء قازح وبكبك. ومن ذكر الكعثب والكعثب والكعثم والجلهوم والعركوك والأكثم والأخثم والخشيم والحزنبل والدعكنة والجدجد والنيزج والبوص والنامة والبلغص والقلذم والأكبس والضراطميّ والحضر والهيدب والمحلوس والبوص والعضرط والعضارطي والخميش والجشماء والبداء والفشوش واللطعاء والمهلوسة والمرصوفة والمستودفة والجالقة والحارقة والخبوق والخفوق والغفوق والربوخ والمخربقة والسلقلق والشقآ والمتلاحمة والخجام والخجوم والأتوم والشريم والهوجل والمتكأ والحلقية والمرفوعة والمصوص والمنفاض والميراص والعضوض والمنخار والشفيرة والزخاخة والبخاخة والجخنة والشفلح والعنبلة والجليع ومن العلوز والقنب والنوف والخنتب والأيل والبيظ والثعرورين والحتار والأشعر والطبق والأسكتين والحسكلتين والعنتل والقحقح والمأنة والجعب والطرث والعكبز والمعجرم والعجارم والوبيل والفنجليس والفلطيس والحطاط والكوتعة والجوفان والمتك والحوقلة والكوشلة والقصعة والدلعة ومن الأقماد والتوتيد والأستعناد والتفشخ والشمذ والفهر والأفهار والوجس والنشنشة والاستخلاط والتشيط والهكاع والفخة والسغم والأكسال والعم والزجل والهقق والنيطل والعتر والطروح والعجيز والفنخر والاختضار والترفغ والأصفآد والعصد والحمق والتفعيل والتبازخ والعروة والأسواع والسباع والألهاط والعصد والرفغ والعفل والقرنة والكين والطؤطؤة ومن ذكر الأرزب والبزباز والفاعوسة والخرنوف والمشرح والغضارطي والمصوص والخاق والزردان والطنبريز والفلهم والقباب واللهوم والحجوم والمزخة والنغنغ والخشنفل والمعرنفط والمقرنفط والفوق والقوق والركوة والقحفليز والعفلق وغير ذلك من أدوات النصب ومن البنودة والجعبي والحذافة والنصب ومن البنودة والجعبي والحذافة والمحذفة والخوارة والخفاقة والعزاقة والمحسة والمحشة والخبنفثة والرماعة والصماري والرئم والطبيخة والحماء والعواء والعزلاء والجعماء والسحماء والقنقصة والفرقعة والصفارة والنبور والنباعة والنباغة والوباعة والجوانة والخوانة والصوانة والبرعث والبعثط وغير ذلك من أدوات الجزم ومن الآداف والبيزار والجميع والجعثوم والاذامي والحوقل والمطول والمطول والزلنقطة والخدرنق والسحادل والضبيز والعلعل والدوقل والقسطبينة والفنطيس والشاقول والقهبليس والعردل والقصطبير والجواجز والقزميلة والمتئر والدوسر والسمهدر وغير ذلك من أدوات الجر ومن ذح وذحا ودح ودحبي ورصع ورطأ وشفتن وشكز وضهز وطعز وطنح وعزط وعزلب وقرفط وقنطر وقسبر وقحطر وقمطر ولطز ولمج ولمذ ومشق ومتر ومهج ومعج ونيرج وزخزخ ودعظ. وكنت أحملق في وجوههم عند ذكرهم ذلك فلم أكن أرى عليها حمرة الخجل ولا صفرة الوجل بل كانت ناضرة مستبشرة مبتهجة مسفرة. فإن أبي المنكر إلا عناداً وتقاضاني جدول أسمائهم قلت له هاك أوله يبتدئ بالألف وآخره بالياء. فاحسبوني إذاً وافهاً من هؤلاء. ثم أن شرطي على القارئ ألا يسطر من الألفاظ المترادفة في كتابي هذا على كثرتها. فقد يتفق إن يمر به في طريق واحدة سرب خمسين لفظة بمعنى واحد أو بمعان متقاربة. وإلا قلا أجيز له مطالعته ولا أهنؤه به. على إني لا أذهب إلى الألفاظ المترادفة هي بمعنى واحد وإلا لسموها المتساوية وإنما هي مترادفة بمعنى إن بعضها قد يقوم مقام بعض. والدليل على ذلك إن الجمال مثلا والطول والبياض والنعومة والفصاحة تختلف أنواعها وأحوالها بحسب اختلاف المتصف بها فخصت العرب كل نوع منها باسم ولبعد عهدهم عنا تظنيناها بمعنى واحد. وقس على ذلك أنواع الحلي والمأكول والمشروب والملبوس والمفروش والمركوب. لا بل عندي ولا أخشى من أن يقال أولك عند أنه إذا كان اسمان مشتقين من مادة واحدة وكانا يدلان على معنى واحد كالخجوج والخجوجاة مثلا للريح الشديدة المرّ وإن يكون الاسم الزائد في اللفظ زائدا في المعنى أيضا. إن شئت أذعنت أولا فعاند.

هذا وأني قد ألفته وما عندي من الكتب العربية شيء أراجعه واعتمد عليه غير القاموس. فإن كتبي كانت قد فركتني فاعتزلتها، غير إن مؤلفة رحمه الله لم يغادر وصفا في النساء إلا وذكره. فكأنه كان ألهم أن سيأتي بعده يغوص في قاموسه على جمع هذه اللآلئ في مؤلف واحد منتسق لتكون أعلق بالذهن وارسخ في الذكر. ولولا إني خشيت غيظ الحسان عليَّ َلكنت ذكرت كثيراً من مكايدهن وحيلهنّ ومحالهن لكني إنما قصدت بتأليف التقرب إليهنّ وترضيهن به. وإني آسف كل الأسف على أنهن غير قادرات على فهمه لجهلهنّ القراءة لا لعوص العبارة إذ لا شيء يصعب على فهمهن مما يؤول إلى ذكر الوصل والحب والغرام. فهن يستوعبنه ويتلقفنه من دون تلعثم ولا قصور ولا ترج وحسبي أن يبلغ مسامعهن قول القائل أن فلاناً قد ألف في النساء كتاباً فضلهن به على سائر المخلوقات. فقال إنهن زخرف الكون. ونعيم الدنيا وزهاها. وغبطة الحيوه ومناها. وسرور النفس ومشتهاها وعلق القلب. وقرة العين. وانتعاش الفؤاد. وروح الروح. وجلاء الخاطر. وتعلل الفكر. ولهو البال. وجنة الجنان. وأنس الطبع. وصفاء الدم. ولذة الحواس. ونزهة الألباب. وزينة الزمان.. وبهجة المكان والباءة بل أقول غير متحرج عرف الآلهة إذ لا يكاد الإنسان يبصر جميلة إلا ويسبح الخالق. بذكرهن يلهج اللسان. ولخدمتهن تسعى القدم. وتتحمل الأعباء. وتتجشم المشاق ويهون الصعب ويتجوع الصاب. ويقاسي الضر ولرضائهن يذل العزيز. ويبذل النفيس. ويذال المصون. وإن خلاق الرجل من دونهن حرمان. وفوزه خيبوز وهناؤه تنغيض. وأنسه وحشة. وشبعه جوع. وارتواؤه ظمأ. ورقاده أرق. وعافيته بلاء. وسعادته شقاوة. وطوبى له كالزقوم. والتنسيم كالغسلين. فإذا قدر الله بلوغ هذا الخبر المطرب سماع إحدى سيداتي هؤلاء الجميلات وسرت به وفرحت. ورقصت ومرحت. رجوت منها وأنا باسط يد الضراعة أن تبلغه أيضاً مسامع جارتها. وأملت من هذه أيضاً أن تطالع به صاحبتها حتى لا يمضي أسبوع واحد إلا ويكون خبر الكتاب قد ذاع في المدينة كلها. وكفاني ذلك جزاء على تعبي الذي تكلفته من أجلهن. إلا وليعلمن إني لو استطعت أن أكتب مديحهن بجميع أصابعي وأنطق به بكل من جوارحي لما وفي ذلك بمحاسنهن. فكم لهن علي من الفضل حين بدون في أفخر الحلل ومسن وبأحسن الحلي. ونظرن إليَّ شافنات. حتى أبت إلى حفشي وأنا أتعثر بأفكاري وخواطري. فما كادت يدي تصل إلى قلم إلا وقد تدفقت عليه المعاني وساحت على القرطاس. فأورثنني بين الناس ذكراً وفخراً. ورفعن قدري على قدر ذوي البطالة والفراغ. نعم أن من بينهن من نفست علي بطيفها في الكرى. ولكنها معذورة في كونها لم تكن تعلم إني أتكلف النوم. بعد أن رأت عيني من جمالها ما يبهر العقل ويبلبل البال. فأما إذا تعنت عليّ أحد بكون عبارتي غير بليغة. أي غير متبلة بتوابل التجنيس والترصيع والاستعارات والكنايات. فأقول له أني لما تقيدت بخدمة جنابه في إنشاء هذا المؤلف لم يكن يخطر ببالي التفتازاني والسكاكي والأمدي والواحدي والزمخشري والبستي وابن المعتز وابن النبيه وابن نباتة. وإنما كانت خواطري كلها مشتغلة بوصف الجمال. ولساني مقيداً بالإطراء على من أنعم الله تعالى عليه بهذه النعمة الجزيلة. وبغبطة من خوّله عزَّ وجلَّ عزة الحسن وبرثاء من حرمه منه. وفي ذلك شاغل عن غيره. على أني أرجو أن في مجرد وصف الجمال من الطلاوة والرونق والزخرفة ما يغني عن تلك المحسّنات استغناء الحسناء عن الحلي ولذلك يقال لها غانية. وبعد فإني قد علمت بالتجربة إن هذه المحسنات البديعية التي يتهور فيها المؤلفون كثيراً ما تشغل القارئ بظاهر اللفظ عن النظر في باطن المعنى.

ولعمري انه ليس في هذا الكتاب شيء يعاب سوى وجدانك الفارياق فيه تارة يحشر في سرب الغواني. وتارة يدمق عليهن وهن آمنات في حجالهن أو في حديقة أو في زاوية على السرير. ولكن لم يكن لي بد من ذلك. إذ الكتاب موضوع على قص أخباره وعلم أحواله. فقد بلغني أن كثيراُ من الناس أنكروا وجود هذا المسمى فقالوا أنه من قبيل الغول والعنقاء. وبعضهم قال أنه قد ظهر مرة في الزمان ثم اختفى عن العيان. وذهب غير واحد إلى إنه مسخ بعد ولادته بأيام. ولم يعلم بأي صورة تلبس وإلى أي شكل استحال. وزعم قوم إنه صار من جنس النسناس. وقال غيرهم إنه صار من نوع الجن. وأثبت بعض إنه استحال امرأة. فإنه لما رأي أن المرأة أسعد حالاً من الرجل في هذه الدنيا المسماة دنيا كانت لا يبيت إلا هو جائر إلى ربه بالدعاء لأن يصيره أنثى. فتقبل الله ذلك منه وهو على كل شيء قدير. فرأيت والحالة هذه من بعض ما يجب عليّ أن أعرّف هؤلاء المختلفين فيه بحقيقة وجوه على ما فطر عليه. ما عدا التغيير الذي عرض له عن جهد المعيشة وسوء الحال ومقاساة الأسفار ومخالطة الأجانب والاحتكاك. وعلى الخصوص من تلفيع الشيب. والمجاورة من حد الشباب إلى سن الكهولة. فإذ قد علم ذلك فأقول كان مولد الفارياق في طالع نحس النحوس والعقرب شائلة بذنبها إلى الجدي أو التيس والسرطان ماشٍ على قرن الثور، وكان والده من ذوي الوجاهة والنباهة والصلاح مرحى مرحى إلا أن دينه ما كان أوسع من دنياهما وصيتهما أكبر من كيسهما برحى برحى وكان لطبل ذكرهما دويّ يسمع من بعيد. ولزوابع شأنهما عجاج ثناء يثور في الجبال والبيد. ولتكرير العفاة واعتشاء الوفود لديهما. تعطلت سبل دخلهما. ونزحت بئر فضلهما فلم يبق فيها إلا نزّازات يلقى فيها المخفق المحروم سدادا من عوز. فكانا يجودان به أيضاً من عوز السداد وهّ وه فلذلك لم يعد في طاقتهما أن يبعثاه إلى الكوفة أو البصرة ليتعلم العربية. وإنما جعلاه عند معلم كتاب القرية التي سكنا فيها ويح ويح وكان المعلم المذكور مثل سائر معلمي الصبيان في تلك البلاد في كونه لم يطالع مدة حياته كلها سوى كتاب الزبور وهو الذي يتعلمه الأولاد هناك لا غير أفّ أف وليس قولي إنهم يتعلمونه مؤذنا بأنه يفهمونه. معاذ الله. فإن هذا الكتاب مع تقادم السنين عليه لم يعد في طاقة بشر أن يفهمه غُط غط وقد زاده إبهاماً وغموضاً فساد ترجمته إلى اللغة العربية وركاكة عبارته حتى كاد أن يكون ضرباً من الأحاجي والمعمى رُط رط وإنما جرت عادة أهل تلك البلاد بأن يدرّبوا فيه أولادهم على القراءة من غير أن يفهموا معناه. بل فهم معانيه عندهم محظور تفّ تف وكما أنهم لا يفقهون معنى وحا وميم وقاف مثلاً. فكذلك لا يفهمون عبارة الكتاب المذكور إذا قرأوها طيخ طيخ.

والظاهر أن سادتنا رؤساء الدين والدنيا لا يريدون لرعيتهم المساكين أن يتفقهوا أو يتفقحوا. بل يحاولون ما أمكن أن يغادروهم متسكعين في مهامه الجهل والغباوة أع أع إذ لو شاؤوا غير ذلك لاجتهدوا في أن ينشئوا لهم هناك مطبعة تطبع فيها الكتب المفيدة سواء كانت عربية أو معرَّبة سر سر فكيف ترضون يا سادتنا الا عزة لعبيدكم الأذلة أن تربى أولادهم في الجهل والعمه عزوى عزوى وإن يكون معلموهم لا يعرفون العربية ولا الحط والحساب والتاريخ والجغرافية ولا شيئاً غير ذلك مما لا بدّ للمعلم من معرفته تعزى تعزى فكم لعمري من ملكات براعة وحذق من الله تعالى بها على كثير من هؤلاء الأولاد. غير أنه لفقد أسباب العلم وعدم ذرائع التأديب والتخريج طفئت جذوتها فيهم على صغر بحيث لم يمكن أن يستقبها بهم نتف التحصيل على كبر أوه أوه هذا وإنكم بحمد الله من المتمولين المثرين. لا يعجزكم أن تنفقوا كذا وكذا كيساً على إنشاء مدارس وطبع كتب مفيدة أيه أيه فإن لبطرك الطائفة المارونية دخلا له وقع عظيم، وقدر جسيم، بحيث يمكنه أن يحبي به قلوب طائفته هذه التارزة التي لا هم لها في المنافسة والمباراة في شيء بين من سبقوهم إلى كل علم وفضل هيس هيس وإنما همهم أن يتعلموا بعض قواعد في نحو اللغتين العربية والسريانية لمجرد العلم بها فقط من دون فائدة آه آه إذ لم يعلم إلي الآن أن واحداً منهم ترجم كتابا أو كراسة مفيدة في هاتين اللغتين ولا أن البطرك أمر بطبع كتاب لغة فيهما تغ تغ ولو إنه أنفق نصف دخله في كل سنة على تحصيل أسباب العلم بدل هذه الولائم والمآدب التي يهيئها لزواره. أو لو كان كل من الأمراء والمشايخ الكرام ينفل شيئا معلوما في كل سنة لأجل هذه المصلحة الخيرية أو لو بعث من قبله إلى البلاد الإفرنجية وكلاء يجمعون من ذوي الخير والإحسان فيها مبلغا يخصصه بما نحن بصدده. لأحمد كل من في الشرق والغرب فعله جنح جنح ولكن إذا تعنى أحد سادتنا هؤلاء لأن يبعث إلى إخوانه الإفرنج حنا أو متى أو لوقا لجمع المال فإنما يبعثه لبناء كنيسة أو صومعة آح آح مع أن الإنسان مذ يولد إلى أن يبلغ اثنتي عشرة سنة لا يمكنه أن يدرك شيئا على حقيقته من جهة الكنيسة والصومعة ويمكنه في خلال ذلك أن يتعلم ما يفيده في مدرسة أو كتاب ثع ثع فهل تعدونني يا سادة بإنشاء مكاتب وطبع كتب حتى لا أطبل عليكم هذا الفصل. فإن بقلبي منكم لحزازات حاكة وبصدري عليكم ملامات صاكة أخ أخ لأن خليصي الفارياق في دولتكم السعيدة لم يمكنه أن يتعلم في قريته غير الزبور وهو كتاب حشوه اللحن والخطأ والركاكة اخ اخ لأن معربه لم يكن يعرف العربية وقس عليه سائر الكتب التي طبعت في بلادكم وفي رومية العظمى هع هع ومعلوم أن الغلط إذا تأصل في عقل الصغير شب معه ونمى فلم يعد ممكنا بعد قلعه. فهل من سبب لهذا الشين والعيب سوى إهمالكم وسوء تصرفكم في السياسة المدنية والكنائسية أفواه أفواه. أتحسبون إن الركاكة من شعائر الدين ومعالمه وفرائضه وعزائمه وإن البلاغة تفضي بكم إلى الكفر والإلحاد. والبدعة والفساد مطغ مطغ أم حسبتم أن تلك الأبيات العاطلة قد أفحمت ذلك المسلم العالم عن المجادلة والمناضلة يع يع إما بعروقكم دم يهيجكم إلى حب الكلام الجزل الفخم. وإلى البلاغة والبلة. ونق العبارة على موجب القواعد المقررة. والإفصاح عما يخطر ببالكم دون الحشو المخل. والاعتراض المملّ. والتعقيد المعلّ. والإخلاء المسل. وقولكم في جوز الجملة في جوز الجملة الخ. وجعلكم الفعل الثلاثي رباعيا. وبالعكس. واستعمالهم ما يتعدى منه بالباء متعديا بفي وبالعكس. وأجرائكم المتعدي لازما وبالعكس. والمهموز معتلا وبالعكس وعدم فرقكم بين اسمي الفاعل والمفعول. فتقولون هم محسودون مني أي حاسدون لي وما أشبه ذلك قه قه وليس كتابي هذا درة الثين في أوهام القسيسين حتى أستوعب فيه ذكر أغلاطكم وأوهامكم ايحي ايحي وإنما المفصود من ذلك أن أبين لكم أن أدمغتكم قد سقيت اللحن والركاكة من وقت ذهابكم إلى الكتاب وقراءتكم فيه كتاب الزبور إلى أن تصيروا كهلا ثم شيوخاً دح دح وإنه ما دمتم على هذه الحال فلن يرجى لكم من ابلال ويب ويب.

انتكاسة حاقية وعمامة واقية

ثم أن الفارياق أقام عند معلمه ريثما ختم الكتاب المذكور. وبعد ذلك أوجس منه العلم أن يربكه في مسائل تصعب عليه فينفضح بها. فأشار علي والده بأن يخرجه من الكتاب ويشغله بنسج الكتب في البيت به به فلبث على هذه الحالة مدة طويلة فاستفاد منها ما أمكن لمثله أن يستفيد من تجويد الخط وحفظ الألفاظ بَدْ بد وكان أهل البلاد يفضلون حسن الخط على كل ما تصنعه اليد. فعندهم إن من يكتب خطاً حسناً هو الذي أفق بين أقرانه في الفضل. ومع اشتهار ذلك فلم يكن حاكم البلاد يستخدم من الكتاب إلا من بذأت العين خطه وعاف الذوق السليم كلامه عيط عيط أشعارا بأن الخط لا يتوقف إلا على الحظ. وإن إدارة لا تفتقر إلى تهذيب الكلام. تع تع وإن كثيرا قد نالوا المراتب السامية والمناصب السنية وهم لا يحسنون توقيع اسمهم الشريف حس حس غير أن الفارياق لم يكن قرير العين بهذه الحرفة. إذ كان يعتقد أن الرزق الذي يأتي كشق القلم لا يكون إلا ضيقا وي وي نعم أن كثيرا من الناس قد نالوا العيش الواسع الهني. والخير المتتابع الوفي. من مورد هو بالنسبة إلى شق القلم رحب لكنه بالنسبة إلى شرههم وسرفهم ضيق واه واه غير أن الفارياق وقتئذ كان غراً لا تجربة له ولا خبرة فكان يحكم على العبيد بالقريب. ولا شيء أقرب إلى عين الكاتب من لسان قلمه وعارض قرطاسه. أو أدنى إلى قلبه من الكلام الذي يكتبه واللبيب من قنع بالحرفة التي يتعاطاها ولم يشق عليه أمت الشق ولم يشرئب إلى ما ليس يحسنه شع شع. انتكاسة حاقية وعمامة واقية قد كان من طبع الفارياق كما هو دأب جميع الأحداث أيضا يحاكي في الزي والأطوار والكلام من كان متميزا فيعصره بالفضل والدراية. وإنه رأى ذات يوم قرزاما معتما بعمامة كبيرة مدورة. وكان هذا القرزام يحسب وقتئذ من فحول الشعراء فأحب الفارياق أن يكون له مثل هذه العمامة على صغر رأسه. فكان إذا مشى يميل رأسه منها يمنة ويسرة كالقاضي الذي يخرج في الأسواق بعد صلوة الجمعة ويسلم على الناس. واتفق أن أباه سار مرة إلى دار الحاكم واستصحبه معه وأركبه مهرة له. وكان هو راكباً حصانا. فمكثا هناك أياماً. فعن للفارياق يوما من الأيام أن يركض المهرة في الميدان وكان الحصان مربوطا في جانب. فأجرى المهرة نصف شوط حتى إذا قابلت مربط أليفها التفتت إليه كالمشيرة إن فارسها غير جدير بركوبها بين جياد الأمير. فما كان من الفارياق إلا أن سقط على أم رأسه. وأقبلت المهرة تجري إلى الحصان وغادرته مجندلا على الجدالة. ولو كان فارسا مجيدا لما تركته على تلك الحالة بل كانت تنتظره حتى يقوم.

نوادر مختلفة

ثم أنه قام بعد ذلك يحمد الله على كبر عمامته فإنها هي التي وقت رأسه عن إحدى الشجات العشر وهي القاشرة الحارصة الباضعة الدامية المتلاحمة السمحاق الموضحة الهاشمة المنقلة الآمة الدامغة. ولكنه قام محقوا ويومئذ عرف إن لكبر العمامة فضلا ومزية. وظن أن اتخاذ العمائم الكبيرة عند أهل بلاده إنما هي لوقاية رؤوسهم فقط لا لتحسين وجوههم. فإن العمامة الضخمة تخفي محاسن الوجه وتشوه الوجه الصغير فضلا عن كونها توجع الرأس وتمنع صعود الأبخرة من مسامه كما نص عليه الساعور الأكبر. فإن قيل إذا كان سبب اتخاذ العمائم الكبيرة إنما هو لوقاية الرؤوس لا للزينة والتحسين فمال بال الذين يرقدون ليلا يتعممون. فهل يخافون أن تتدحرج رؤوسهم عن مصادغهم فيسقطوا في مهواة في بيتهم. مع إن فرشهم تكون على الأرض. قلت أن منشأ هذه العادة هو أن نساء تلك البلاد يتخذون في رؤوسهن هذه القرون التي يقال لها هناك طناطير. وهي تكون من فضة أو ذهب في طول الذراع وغلط الرسغ. فإذا بات الرجل مع امرأته حاسر الرأس أو كان على رأسه غطاء رقيق لم يأمن أن تنطحه بقرنها على قرنه فتمنيه بإحدى الشجاج المذكورة. فإن أبيت إلا اللجاجة وقلت ما سبب هذه القرون الحسية. هل هي دليل على التذكير بالقرون المعنوية عند مخالفة الرجل لامرأته. أو عند تقتيره عليها أو أجفاره عنها. أو هي من قبيل الزينة أو من بطر النساء وشرهن بحيث إذا شممن رائحة الأيسار من أزواجهن رأين أن كل مجس من أجسامهن قمين بالحلي والزينة. إذ كن يعتقدن أن المستور منها عن عيون الناس غير مستور عن عيونهن وعيون بعولتهن. وإن كان في المسألة خلاف عظيم، وتحليل وتحريم. وإن في التزين بحلي غير ظاهر للذة عظيمة. فإن مجرد العلم بإحراز شيء ثمين يسر صاحبه. كما لو أحرز إنسان كنزاً في حرز محجوب فإنه يفرح به من غير أن ينظر إليه. قلت إما التذكير بالقرون المعنوية فغير مظنون في نساء تلك البلاد لكونهن من ذوات العرض والتصاون. ولا سيما نساء الجبل. وفضلاً عن ذلك فإن هرواة الزوج ومقامع أهله وأهل امرأته وعيون الجيران أيضاً تمنعها عن الاتصاف بالصفة الزوجية التامة. أما في المدن فإن هذه الصفة أقوى وأفشى. وإنما كان اتخاذ هذه القرون في الأصل مناطاً للبراقع. وكانت في مبدأها صغيرة قصيرة ثم طالت وكبرت بطول الزمن وكبر الدينار. وكلما زاد إيسار الرجل وماله زاد قرن امرأته طولا وضخامة. وهنا فائدة لا بد من ذكرها، وهي أن لفظة القرن من الألفاظ التي اشترك فيها جميع اللغات كالصابون والقطّ والمزج وغيرها. وقد شهرت عند جميع المؤلفين بأنها كناية عن كذا وكذا من طرف زوجها. إلا عند المؤلفين من اليهود فإن الصفة القرنية في كتبهم من الصفات الحميدة. ولذلك فكثيرا ما تسمع في كتاب الزبور ارتفع قرني، وأنت رافع قرني وأني أنطح بقرني وما أشبه ذلك. وفي كلا الاستعمالين غموض وإِبهام. أما غموض استعمال القرن عند المؤلفين من غير اليهود كناية عن خيانة المرأة زوجها فلان هيئة القرن على عضو مخصوص من أعضاء الإنسان. وحقيقته أيضاً لا تدل على حيوان مخصوص. فإن الثور والوعل والتيس والكركدن في ذلك سواء، ولفظه كذلك غير مشتق من فعل يشير إلى خيانة أو ضمد. فما علة هذا الاستعمال، وقد استفتيت في هذه المسألة المشكلة كثيراً من المتزوجين المجرذين. فكلهم كان يتخيف ألواناً عند سؤالي له. ويجمجم في كلامه ويقوم من عندي وقد خجل ووجم. فإن فتح الله الآن على أحد ممن يطالع كتابي هذا في فهم حقيقة ما يراد من هذا الحرف عرفاً واصطلاحاً. وفي بيان سبب استعماله كناية عن الضمد فليتفضل بالجواب منةً وإِحساناً. فأما استعماله من مؤلفي اليهود كناية عن العزة والقوة والمنعة والغلبة فإنه يرد عليه ما ورد على الأول من أن كثيراً من الحيوانات قد اشترك فيه. ومنها ما هو غير ذي قوة ولا بأس. فأنظر اختلاف الناس في لفظة واحدة ومعنى واحد. أما العمامة، فإن اشتقاقها فيما أرى من عم بمعنى شمل لأنها تعم الرأس وهي على أشكال مختلفة. فمنها الحلزوني، والكعكي والإطاري، والمكوري، والمقوّري، والقهقوريّ، والقرطلي والقبعلي. وكلها على أصنافها أحسن من هذه الأجران التي تلبسها رؤساء المارونية في الدين فلينظروا وجوههم في مرآة جلية. نوادر مختلفة

كان للفارياق ارتياح غريزي من صغره لقراءة الكلام الفصيح وإمعان النظر فيه ولالتقاط الألفاظ الغريبة التي كان يجدها في الكتب: فإن أباه قد أحرز كتباً عديدة في فنون مختلفة، وكان أي الفارياق يتهافت منذ حداثته على النظم من قبل أن يتعلم شيئاً مما يلزم لهذه الصنعة. فكان مرة يصيب ومرة يخطئ، مع اعتقاده إن الشعراء أفضل الناس وأن الشعر أجل ما يتعاطاه الإنسان. فقرأ يوماً في بعض الأخبار عن شاعر كان في حداثته أبله مغفلاً، ثم صار أمره إلى أن نبغ فينظم القصائد المطولة وأجاد، فما حكي عنه أنه سكر يوماً فقعد في نحو ناموس وجعل يخطب منه خطبة أبي العِبَر طرد طبك طلندي بك يك نك من البلوعة. وأنه أراد يوماً أن يتسور حائطا ليتناول من بعض الثمر فوقع في فخ كان نصبه صاحب البستان للحيوانات.. وإنه قال يوماً لأمه إن عند فلان خادمة نظيفة غسلت اليوم باب دارها فجاء أسود يلمع. وإنه رأى يوما صبياً قد قلع أحد أضراسه فسار واقترض درهماً وقال للحجام اقلع ضرسي أنا أيضاً فإنه غير قاطع في الأكل. ولعل ينبت لي في مكانه ضرس أحد منه. وقيل له يوما قد دونت عنك حكايات من حمقك كثيرة فقال بودي لو أن أحداً يقرأها علي لأضحك ومرض أخوه يوماً فقال أبوه لزوجته قد أضره الطعام الذي أكله أمس. فقال نعم قد أضر الأكل والخادمة معاً. فقال أبوه ما دخل الخادمة هاهنا. فقال لعلها أعطته ما لم يحب. ورأت أمه على ثيابه دماً فقالت له ما هذا الدم. قال قد وقعت فجرى دمي وهو أحسن. فقد يقال من وقع وجرى منه دم صح وتقوى. وجرح يده بسكين فرمى بها وقال هذي السكين لا تساوي شيئاً. فقال أبوه لو كانت كذلك لما جرحت يدك فقال كل إنسان يجرح يده في الدنيا سواء بسكين أو غيرها. وقال مرة قد رأيت في السوق جبنا أبيض كالزفت. وقيل له لم لا تغسل يدك أغسلها فتعود وسخة في الحال. ولست أقدر على تنظيفها لكون دمي وسخاً. ورأى ذات يوم رجالاً مصلوبين فقال لأمه يا أم إذا عاشت هؤلاء الرجال أيضاً أفيقدر الذين صلبوهم على صلبهم مرة أخرى. وكان قوم يسألون عن منزل شخص فقال أنا أعرف مقرّه. قيل كيف عرفته. قال قد رأيت الرجل يمشي في السوق على رجليه. وقال يوماً من الثمانية إلى التسعة يمضي الوقت أسرع من الستة إلى السبعة. وقيل له أتحب اللحم أكثر من السمك قال أظن أني أحب هذا أكثر. وقال له أبوه إذا كنت تغيب عنا أفتحسن أن تكتب لنا كتاباً. قال نعم أكتبه وأجيء به أوصله إليكم. وسمع أباه يثني على حزٍ اشتراه وكان به فرحاً. فقال قد كانت ساعة سعيدة إنكم لم تشتروه. ورأى أباه يكتب كتاباً فقال له هل تستطيع يا أبت أن تقرأ ما تكتبه. فقال له كيف لا وأنا الذي كتبته. فال أما أنا فلا أستطيع. ورأى أباه يتأسف على طير فقده. فقال له بارك الله في الساعة التي طار فيها. فقال له يا أحمق إنا نتأسف على فقده قال له ولم لم تبنِ له داراً. قال أو يُبني للطائر دار. قال إنما أعني عودين يجعلان من هنا وهناك. ووصف مرة حيوانات رآها فقال ورأيت أيضاً خنزيراً أكبر مني وشكا وجعاً في رجله فقال ليت هذي الرجل تبلى. وكان أبوه يفسر له معنى أنقذ بأن قال له إذا وقع أحد في النار مثلاً وذهبت وأخرجته منها فلذلك هو الإنقاذ. فال ولكنه قد احترق فكيف أنقذه. وعلى فرض إني وضعت هذا السفود في النار ثم أحرجته منها أفيكون ذلك أيضاً إنقاذاً. وفسر له يوماً آخر معنى يلوم فقال إذا أبطأ عليك شخص في شيء وقلت له لِمَ تكاسلت فذلك يكون لوماً. فقال وأقول له أيضاً لمَ كبرت لِم صغرت لِم قصرت. ولامته أمه على نحره عند الكلام فقال لها ألا لا تلوميني ولكن لومي روحي. وأراد أبوه أن يخرج في يوم ماطر ثم عدل خوفاً من المطر. فقال لأمه يا أماه من عمّ الله أنا لم نخرج اليوم فإن الهواء كان طيباً. واشترت له أمه ثوباً فصلته قال لها أو يزول لون هذا الثوب. قالت لا أدري. قال أرجو أن يزول فلعله يصير أحسن. وقالت له أوان الشتاء وهو لابس قميصاً فقط البس ثوبك فوق القميص. فقال لها لا لأني أبرد به أكثر. ولامه أبوه على قراءته بصوت صلق فقال له لم هذا الصلق في القراءة قال لا أقدر أن أصرخ أكثر. وخفي عليه يوماً معنى الزيارة فقالت له أمه إذا سرت اليوم إلى السيدة فلانة لأنظرها فقد زرتها. قال قد فهمت إنك تسيرين إليها كي تخدعيها. وقالت له أمه إن فلانة التي تحسن إليك

قد ماتت فسكت ساعة ثم قال. قد حزنت عليها كما حزنت على موت أمي. الله يبعثها إلى الجنة هي وزوجها حالاً. وقال يوماً لوالده أن معلمنا اليوم قد أشترى قضيباً ليضرب به الأولاد ولكنهم يغضبونه عمداً حتى يضربهم به فينكسر فأستريح أنا أيضاً. وقال لأمه وقد مرضت إذا جئناك بالطبيب ولم يشأ الله أن يشفيك فما الحاجة إلى دواء. لها مرة أخرى استعملي هذا الدواء فلعلك تمرضين. وأراد يوماً أن يوقد النار فقال أردت أن أطفئها فما انطفأت. وقالت له أمه سر إلى فلانة وقل لها لأي شيء تخافين من أمي إنما هي بشر من بني آدم مثلك. فقال أقول لها تقول لك أمي لأي شيء تنفرين منها إنما هي من بني الحيوانات مثلك. وقال مرة في شيء أعجبه تبارك الله من كل عين. وقيل له يوماً أن فلاناً يريد أن يأخذك إلى مدرسته ليلمك. فقال بعثه الله إلى الجنة قال له أبوه أتريد أن تميته. قال فكيف أقول إذاً. قال أطال الله عمره. قال طوله الله. وقال لأمه أتعطينني الليلة من تلك الحلواء. فقالله أن عشنا إلى الليلة. قال نحن نعيش إلى غد فكيف لا نعيش إلى الليل- انتهى. فطالع بذلك أحد الألباء في بلاده وقال له قد ظهر لي أن هذا الكلام أبله مأموه. أو مدله توه. أو مسمه مسبوه. أو عمه مشدوه. أو نمه معتوه. فكيف صار بعد ذلك شاعراً. فقال له يحتمل أن كلامه هذا كان قد تعمده ليضحك به أبويه. أو أنه كان بليد البادرة ولكنه حديد الفاكرة. فإن من الناس من يدهش للسؤال فلا يكاد يجيب إلا خطأ. فإذا أعمل فكرة في خلوة أحسن كل الإحسان. أو أنه قصد بذلك أن يكون نبها مشهوراً بين الناس ولو بحماقة ورقاعة. فإن أكثر الناس يحاول الشهرة بأي وجه كان. فمنهم من يتعاطى الترجمة للكتب والتعليم وهو لا يدري شيا. ولكنه يفرح بأن يضع اسمه في أول الكتاب وبأن يحشيه بعبارات ركيكة وأقوال سخيفة من عنده أو بأن يروي عنه فيقال فلان كذا وكذا ويكون قوله خطأ وهذراً. ومنهم من يتربع في صدر المجلس بين إخوانه وإقرانه ويطفق يحكي لهم حكايات عن بلاد بعيدة ويخلط كلامه ببعض ألفاظ تعلمها من لغة العجم. فيقول لهم مثلا صان فاصون. وباردون موسيو. ودنكوي. وفاري ول. إشارة إلى إنه أطال السياحة في بلاد فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وتعلم لغاتهم وهو يجهل لغته التي نشأ عليها. ومنهم من يتخذ له عمامة كبيرة يضاهي بها بعض العلماء. فإن كبر العمامة يدل على كبر الرأس. وكبر الرأس يدل على جودة العقل وصواب الرأي. ومنهم من يتكلف محاكاة لهجة ما ممن عرفوا بالفصاحة فتراه يتشدف ويجعم ويستعمل ألفاظا ًفي غير محلها. وبعد فلا ينبغي أن يكون الشاعر عاقلاً أو فيلسوفاً. فأن كثيراً من المجانين كانوا شعراء. أو كثيراً من الشعراء كانوا مجانين. وذلك كأبي العبر وبهلول وعليان وطويس ومزبد. وقد قالت الفلاسفة إن أول الهوس الشعر وأحسن الشعر ما كان عن هوس وغرام. فأن الشعر العلماء المتوقرين لا يكون إلا مكرزماً.

شرور وطنبور

فلما سمع الفارياق ذلك زهد في الشعر ورغب عنه إلى حفظ الألفاظ الغربية لكنه لم يلبث أن رجع إلى خلقه الأول. وذلك أن أباه أخذه معه إلى بعض القرى البعيدة ليجبي المال المضروب على سكانها إلى خزنة الحاكم. فأنزله أهلها منزلاً كريماً. وكان بالقرب من منزله جارية بديعة الجمال فجعل الفارياق على صغره ينظر إليها نظر المحب الراني جرياً على عادة الأغرار من العشاق. من أنهم يبتدئون العشق في جاراتهم استخفافاً للطلب واستشفاعاً بالجارية. كما أن عادة الجارات تهنيد جيرانهن وتغميرهم إشارة إلى إنه لا ينبغي البحث عن الطبيب البعيد إذا أمكن التداوي عند القريب. غير أن المحنكين في الحب يبعدون في الطلب ويرودون أنزح منتجع. لأنهم لما جعلوا دأبهم وديدنهم إشباع النفس من هواها كان عندهم السعي في ذلك فرضاً واجباً. ووجدوا في الإبعاد والنصب لذة عظيمة. إذ من فتح فاه رجاء أن تتساقط الأثمار فيع لم يعدّ إلا مع العاجزين. والحاصل أن الفارياق هوى جارته لأنه كان غراً. وإنها هي استهوته وأطعمته لكونها جارة. ولأن منزلته من حيث كونه مع أبيه كانت تميل الناس إليه. غير أن مدة إقامته هناك لم تطل. وأضطر إلى الرجوع مع أبيه وقد بقي كلفاً بالجارية. فلما حان الفراق بكى وتحسر وتنفس الصعداء. ونخره الوجد لأن ينظم قصيدة يعبر بها عن غرامه فقال من جملة أبيات. أفارقها على رغم وأني ... أعادر عندها والله روحي وهي أشبه بنفس شعراء عصره الذين يقسمون أيماناً مغلطة بأنهم قد عافوا الطعام والشراب شوقاً وغراماً. وسهروا الليالي الطويلة وجداً وهياماً. وإنهم ناسمون وقد ماتوا وكفنوا وحنطوا ودفنوا. وهم عند ذلك يتلهون بأي لهوة كانت. ثم أنه لما أطلع أبوه على تلك البيات الفراقية لامه عليها ونهاه عن النظم. فكأنما كان قد أغراه به. فإن من طبع الأولاد في الغالب الخلاف لما يريد منهم آباؤهم ثم أنه فصل من تلك القرية حزيناً كئيباً متيماً مفتوناً. شرور وطنبور قد كان أبو الفارياق آخذاً في أمور ضيقة المصادر. غير مأمونة العواقب والمصاير. لما فيها من إلقاء البغضة بين الرؤس. وشغْب أهل البلاد ما بين رئيس ومرؤوس. فقد كان ذا ضلع مع حزب من مشايخ الدروز مشهور بالنجدة والبسالة والكرم. غير أنهم كانوا صفر الأيدي والأكياس والصندوق والصوان والهميان والبيوت. ولا يخفى أن الدنيا لما كان شكلها كروياً كانت لا تميل إلى أحد إلا إذا استمالها بالمدوَّر مثلها وهو الدينار. فلا يكاد يتم فيها أمر بدونه. فالسيف والقلم قائمان في خدمته. والعلم والحسن حاشدان إلى طاعته. ومن كان ذا بسطة في الجسم وفضلٍ في المناقب فلا يفيد طوله وطوله بغير الدينار شياً. وهو على صغر حجمه يغلب ما كان كبيراً ثقيلاً من الأوطار ولُبانات النفس. فالوجوه المدوَّرة خاضعة له أيّان برز. والقدود الطويلة منقادة إليه كيفما دار والجباه العريضة الصليتة مكبَّة عليه والصدور الواسعة تضيق لفقده.

فأما ما يقال من أن الدروز هم من ذوي الكسل والتواني وإنهم لا ذمة لهم ولا ذمام فالحق خلاف ذلك. أما وسمهم بالكسل فأحرى أن يكون ذلك مدحاً لهم. فإنه ناشئ عن القناعة والزهد. غير أن الصفات الحميدة التي يتنافس فيها الناس متى جاوزت الحد قليلاً التبست بنقيضها. فالإفراط في الحلم مثلاً يلتبس بالضعف. وفي الكرم يلتبس بالتبذير. وفي الشجاعة بالتهور والمغامرة. لا بل الإفراط في العبادة والتديّن يلتبس بالهوس والخبال. هذا ولما كانت الدروز في القناعة إذ لا ترى من بينهم أحداً يقتحم القفار ويخوض البحار في طلب الأزاء وفي التأنق في الملبوس والمطعوم ولا من يُسَفّ للأمور الخسيسة ويدنق فيها. أو من يبشر الصنائع الشاقة ظن فيهم الكسل والتواني. ومعلوم أنه كلما كثر شره الإنسان ونهمُه، كثر نصبه وكده وهمّه. فالتجار من الإفرنج على ثروتهم وغناهم أشقى من فلاحي بلادنا. فنرى التاجر منهم يقوم على قدميه من الصباح إلى الساعة العاشرة ليلاً. وأما أن الدروز لا عهد لهم ولا ذمة فإنما هو محض افتراء وبهتان. إذ لم يعرف عنهم إنهم عاهدوا بشيء ثم نكثوا به دون أن يحسّوا من المعاهد إليه غدراً. أو أن أميراً منهم أو شيخاً رأى امرأة جاره النصراني تغتسل يوماً فأعجبته بضاضتها وبتيلتها وبوصها. فبعث إليها من تملق لها أو غصبها. وأنت خبير بأن كثيراً من النصارى عائشون في ظلهم. ومستأمنون في حماهم. وأنهم لو خُيّروا أن يتركوا مستأمنهم هذا ليكونوا تحت أمن مشايخ النصارى لأبوا. وعندي أن من كان يرعى حرمة الجار في حرمته كان خليقا بكل خير. ولم يكن ليخونه في غيرها. فأما ما جرى من التحزب والتألب بين طوائف الدروز وغيرهم فإنما هي أمور سياسية لا تعلق لها بالدين. فبعض الناس يريدون هذا الأمير حاكما عليهم وبعضهم يريد غيره. وكان أبو الفارياق ممن يحاول خلع الأمير الذي وقتئذ والياً سياسة الجبل. فانحاز إلى أعدائه وهم من ذوي قرابته فجرت بينهم مهاوش ومناوش غير مرة. وآل الأمر بعدها إلى فشل أعداء الأمير. ففروا إلى دمشق يلتمسون النجدة من وزيرها فوعدهم ومناهم. وفي تلك الليلة التي فروا فيها هجمت جنود الأمير على وطن الفارياق ففر مع أمه إلى دار حصينة بالقرب منها لبعض الأمراء.. فنهب الناهبون ما وجدوا في بيته من فضة وآنية ومن جملة ذلك طنبور كان يعزف به أوقات الفراغ. فلما إن سكنت تلك الزعازع رجع الفارياق مع أمه إلى البيت فوجداه قاعا صفصفا. ثم رد الطنبور عليه بعد أيام. فإن من نهبه لم يجد في حمله منفعة ولم يقدر أن يبيعه إذ العازفون بآلات الطرب في تلك البلاد قليلون جداً. فأعطاه لقسيس تلك القرية كفارة عما نهب. فرده القسيس على الفارياق.

قسيس وكيس وتحليس وتلحيس

وكأني بمعترض هنا يقول ما فائدة هذا الخبر البارد. قلت أن وجود الطنابير في الجبل عزيز جداً كما ذكرنا. فإن صنعة الإلحان والعزف بالملاهي يسم صاحبها بالشين. لما في ذلك من التطريب والتصبي والتشويق. والقوم هناك يغلون في الدين ويحذرون من كل ما يلذ الحواس. لذلك لا يشاءون أن يتعلموا الغناء والعزف بإحدى آلات الطرب أو يستعملوا في معابدهم وصلواتهم كما تفعل مشايخ الإفرنج خشية أن يفضي بهم ذلك إلى الإلحاد. فعندهم إن كل فن من الفنون اللطيفة كالشعر والإيقاع مثلا والتصوير مكروه. ولكن لو أنهم سمعوا ما يتغنى به في كنائس مشايخهم المذكورين من الموشحات أو ما يعزف به على الأرغن من اللحون التي ولع الناس بها في الملاعب والمراقص ومحال القهوة استجلاباً للرجال والنساء، لما رأوا في الطنبور إثماً. فإن الطنبور بالنسبة إلى الأرغن كالغصن من الشجرة وكالفخذ من الجسم. إذ لا يسمع منه إِلا طنطنة وفي الأرغن طنطنة ودندنة وخنخنة ودمدمة وصلصلة ودربلة وجلجلة وقلقلة وزقزقة ووقوقة وبقبقة وفقفقة وطقطقة ودقدقة وقعقعة وفرقعة وشخشخة وجرجرة وغرغرة وخرخرة وقرقرة وبربرة وطبطبة ودبدبة وكهكهة وقهقهة وبعبع وبعبعة وزمزمة وهمهمة وحمحمة وغطمطة وتأتأة ودأدأة وضأضأة ويأيأء وقأقأء وصهصلق وجلنبلق وغطيط وجخيف وفحيح وحفيف ونشيش ورنين ونقيق وطنين وعجيج وأرير ودوي وخرير وأزيز وهرير وصريف وصرير وشخب وصي وموا وغاق غاق وغق غق وطاق طاق وشيب شيب ومي ميء وطيخ طيخ وقيق قيق وخازباز وخاق باق. فإين هذا كله هداك الله من طن طن. فإن قيل إن الرغبة عن العزف به إنما هو لكونه يشبه الإلية. قيل فما بال النساء يدخلن الكنائس وعلى رؤوسهن هذه القرون الفضة وهي تشبه فنطيسة الخنزير أجلّك الله عن ذكره. وفنطيسة الخنزير أجلك الله عن ذكره تشبه كذا وكذا. فقد تبين لك إن اعتراضك غير وارد. وإن ذكر الطنبور كان في محله. فإن أبيت إلا العناد وتصديت لأن تخطئني وتعقبني بزلة وبغير زلة. وزمت أن تبدي للناس براعتك في الانتقاد عليّ أمسك عن إتمام هذا الكتاب. ولعمري لو إنك علمت سبب شروعي فيه وهو التنفيس عن كربك وتسلية خاطرك لما فتحت فاك عليّ بالملامة في شيء فقابل الإحسان أصلحك الله بالإحسان وأصبر عليّ حتى أفرغ من غزل قصتي. وبعد ذلك فإن لخاطرك إن تلقي بكتابي في النار أو الماء فافعل. ولنعد الآن إلى الفارياق فنقول أنه أقام مع والدته في البيت يتعاطى النساخة. وأنه لم يلبث أن ورد عليه نعي والده في دمشق. فتفطر قلبه لهذا الفجع وود لو بقي الطنبور عند ناهبه. وكانت أمه تنفرد في كل صباح وتندب زوجها وتتحسر عليه وتذرف المدامع لفقده. فإنها كانت من الصالحات المتحببات لأزواجهن عن خلوص وداد وصدق وفاء. وكانت تظن أن أبنها لا يراها في انفرادها حتى لا يزيد حزنها برؤيتها إياه يبكي لبكائها. لكن الفارياق كان ينظرها في خلوتها ويبكي لوحشتها ووحدتها أشد البكاء. فإذا رجعت كفكف عبراته وتشاغل بالكتابة أو بغيرها. ومذ ذلك الوقت عرف أنه لا ملجأ له بعد الله غير كدّه فعكف على النساخة. غير إن هذه الحرفة مذ خلق الله القلم لا تكفي المحترف بها ولا سيما في بلاد لوقع قرشها طنين ورنين. ولرؤية دينارها تكبير وتعويذ إلا ذلك جود من خطه ورقق من فهمه. قسيس وكيس وتحليس وتلحيس

قرأ الفصل المتقدم ثم أتاه خادمه يدعوه للعشاء فترك الكتاب وقام يستقبل الكأس والطاس والقدح والكوب مما اختلفت أشكاله وتفاوتت مقاديره. ثم أقبلت عليه إخوانه يسامرونه فمنهم من قال له إني ضربت اليوم جاريتي ونزلت بها إلى السوق على عزم أن أبيعها ولو بنصف ثمنها. وذلك لأنها أجابت سيدتها جوابا سخيفا. ومنهم من قال له وأنا أيضا ضربت أبني أشد الضرب لأني رأيته يلعب مع أولاد الجيران ثم حبسته في الكنيف وهو باق إلى الآن فيه. وبعضهم قال وأنا أيضا حرجت اليوم على زوجتي بأن تطلعني على جميع ما يخطر ببالها ويخلع صدرها من الأفكار والهواجس. وبما تحلمه أيضاً في الليل من الأحلام التي تنشأ عن امتلاء الدماغ من بخار الطعام. أومن دخان الغرام قبل النيام. وقلت لها أن لم تخبرني باليقين أضريت بك أبانا القسيس فيكفرك ويحظر عليك ثم يستخرج منك كل ما تكتمين وتضمرين ويطلع على كل ما تسترين وتخفين وتصونين وعلى ما تحذرين منه، وتحرصين عليه، وترتاحين له وتميلين إليه وتكلفين به. وقد خرجت من داري غضبانا متنمرا وجزمت بأن لا أصالحها إِلا إذا كانت تقص عليّ أحلامها. وبعضهم قال إن مصيبتي في بنتي أعظم. وذلك إنها بعد أن تمشطت اليوم وتعصبت وتعطرت وتطيبت وتوسطت وتبرقشت وتزينت وتبرجت، وتزيغت وتضرجت وتزخفت وتزبرجت وتشوفت وتسرجت وتنقشت وترقشت وتزهنعت وتبرقت وتحلفت وتزوقت وتقينت وتزلقت وتزيرقت وتألقت جلست بالشباك لتنظر الواردين والصادرين. فنهيتها عن ذلك فأنصرفت ثم خالفتني فرجعت إلى موضعها. وأوهمتني إنها تخيط هناك بعض ملبوس لها. فكانت كلما غرزت بالأبرة غرزة تنظر نظرتين. فقمت إليها مستشيطاً غيظاً وجبذتها بشعرها الذي مشطته وعقصته فطلع بيدي منه خصلة وهاهي معي. وهيهات إن تنتهي عن غيها ولو نتفت شعرها كله. فإنها كالمهرة الجامحة بغير عنان. لا يردها لكم بالأكف ولا ضرب بعيدان نعم أن من ملأ أعصاله بألوان الطعام وأذنيه بمثل هذا الكلام فلا بد وأن يكون قد نسي. ما جرى على الفارياق من الوقوع الحسي والمعنوي ومن فجعه بنعي أبيه. ومن إقباله على نسخ الكتب من ذلك جودة الخط فمن ثم اضطررت إلى الإعادة. وأزيد هنا أن أقول:

إنه لما شاعت براعته في النسخ أرسل إليه من اسمه على وزان بعير بيعر يستدعيه لنسخ دفاتر كان يودعها كل ما كان يحدث في زمانه. وليس الغرض من ذلك إفادة أحد من العالمين. وإنما كان إمساكاً للحوادث من أن تتفلت من مدار الأيام. أو تنفك من سلسلة الأحوال. فأن كثيراً من الناس يرون أن إحضار الماضي وجعله حالاً منظوراً من الأمور العظيمة. ولذلك كانت الإفرنج حراصاً على تقييد كلما يقع عندهم. فخرج عجوز من بيتها صباحاً وعودها إليه في الساعة العاشرة وهي تقود كلباً لها. والريح عاصفة والمطر واكف لا يفوت أقلامهم ولا يعدو خواطرهم. ففي مقدمة ديوان Lamartine أعظم شعراء الفرنساوية الموجودين في عصرنا وهو ديوان الذي سماه التأمل الشعري ما ترجمته. وكانت العرب يدخنون التبغ في قصبات لهم طويلة وهم ساكتون وينظرون إلى الدخان متصاعداً كأعمدة زرقاء لطيفة إلى أن يضمحل في الهواء اضمحلالاً يشوق الرائي. والهواء إذ ذاك شفاف لطيف إلى أن قال: ثم أن صحي من العرب جعلوا الشعير في مخال من شعر المعزي ووضعوها في أعناق الخيل وهي حول خيمتي. وأرجلها مربوطة في حلق من حديد وهي غير متحركة. ورؤوسها مخفوضة إلى الأرض مظللة بنواصيها الشعثة. وشعرها أشهب براق يخرج منه دخان تحت أشعة الشمس الحامية وكانت الرجال قد اجتمعت تحت ظل زيتونة من أعظم ما يكون. وفرشوا تحتهم على الأرض حصيراً شامياً وأخذوا في الحديث والحكايات عن البادية وهم يدخنون التبغ وينشدون أشعار عنتر وهو من شعراء العرب الذين اشتهروا بالحماسة والرعاية أي رعاية البهائم والبلاغة وقد بلغت أشعاره منهم مبلغ التنباك في الأركيلة. وحين كان يرد عليهم من الأبيات ما يؤثر في حسهم أكثر كانوا يرفعون أيديهم إلى آذانهم ويطرقون برؤوسهم ويصرخون تارة بعد تارة الله الله الله. إلى أن قال في وصف امرأة رآها تبكي عند قبر زوجها وكان شعرها مسدلاً من عند رأسها ملتفاً عليها ومماساً للأرض. وكان صدرها مكشوفاً كله على ما جرت بع العادة عند نساء تلك البلاد من بلاد العرب. وحين كانت تتطأطأ للثم صورة العمامة على رجال القبر أو تصغي أذنها إليه كان ثدياها البارزان يمسان الأرض ويرسمان في التراب شكلهما كالقالب. أهـ صفحة 24 وسائر هذه المقدمة على هذا النمط مع انه سماها مقدور الشعر أي ما قدره الله تعالى على الشعر والشعراء. وفي رحلة شاتوبريان إلى أمريكا وهو أيضاً من أعظم شعراء عصره ما صورته. وكان منزل رئيس الدول المتحدة عبارة عن دار صغيرة مبنية على أسلوب إنكليزي في البناء من دون خفرة عندها من العسكر ولا حشم داخلها. فلما قرعت الباب فتحت جارية صغيرة فسألتها هل الجنرال في البيت فأجابت نعم. فقلت أن عندي رسالة أريد أن أبلغه إياها. فسألتني عن اسمي وصعب عليها حفظه فقالت لي بصوت منخفض أدخل يا سيدي وأورد هذه العبارة باللغة الإنكليزية Walk in sir تنبيهاً على معرفته لها ثم مشت أمامي في ممشى طويل كالدهليز. ثم دخلت بي إلى مقصورة وأشارت إليّ أن أجلس فيها منتظراً الخ صفحة 25. وفي موضع آخر أنه رأى بقرة عجفاء لامرأة من هند أمريكا فقال لها وهو راث لحالها: ما بال هذه البقرة عجفاء؟ فقالت له إنها تأكل قليلاً وأورد هذه العبارة أيضاً باللغة الإنكليزية وهي She eats very little. وفي موضع آخر ذكر أنه كان يرى كسف السحاب بعضها في شكل حيوان وبعضها في شكل جبل أو شجرة وما أشبه ذلك. فإذ قد عرفت هذا فأعلم إن اعتراضك عليّ في إيراد ما هو غير مفيد لك لكنه مفيد لي لا يكون إلا تعنتاً فإن هذين الشاعرين كتبا ما كتباه ولم يخشيا لومة لائم، ولم يعترض عليها أحد من جنسيهما. وقد اشتهر فضلهما وصيتهما حتى أن مولانا السلطان أدام الله دولته أقطع لا مرتين في أرض أزمير إقطاعات عظيمة. ولم يسمع عن ملك من ملوك الإفرنج إنه أقطع شاعراً عربياً أو فارسياً أو تركياً مقدار جريب واحد في أرض عامرة. ولا غامرة. فأما كون وازن بعير بيعر قد حاكى الإفرنج في تاريخه وهو عربي وأبواه أيضاً عربيان وعمه وعمته كذلك عربيّان. فما لم أتيقنه إلى الآن. ولعلي أعلمه بعد إنجاز هذا الكتاب فأخبر به القارئ إن شاء الله. وإنما أرجو أي القارئ ألا يقطع قراءته لجهله سبب هذه المحاكاة وإن يكن العلم به مهماً.

ودونك مثالاً مما كان يكتبه الفارياق في أساطير بعير بيعر. في هذا اليوم وهو الحادي عشر من شهر آذار سنة 1818 قصَّ فلان ابن فلانة بيت فلانة ذنب حصانه الأشهب بعد أن كان طويلاً يكنس الأرض. وفي ذلك اليوم بعينه ركبه فكبا به. فإن قلت ما سبب النسبة إلى الأم دون الأب قلت أن بعير بيعر كان من المتديّنين، المتورعين المتقين. فنسبة الولد إلى أمه أصح وأصدق من نسبته إلى أبيه. فإن الأم لا تكون إلا واحدة بخلاف الأب ولكون الجنين لا يمكنه الخروج إلا من مخرج واحد، ومن ذلك اليوم نظرت سفينة في البحر ماخرة فظُن إنها بارجة قدمت من إحدى مراسي فرنسا لتحرير أهل البلاد، لكنه عند التحقيق ظهر أنها كانت زورقاً مشحوناً ببراميل فارغة وكان سبب قدومه للاستقاء من عين كذا. فإن قيل أن هذا خلاف المعهود، فإن من شأن الكبير أن يبدو للعين عن بُعد صغيراً لا عكسه. قيل أن الإنسان إذا أعطى نفسه هواها رأى الشيء بخلاف ما هو عليه. فمن أحب مثلاً امرأة قصيرة لم ير بها قِصْراً. ومنخلا بمحبوبته في فترة رآها أوسع من صرح بلقيس. فإنا نرى النور الصغير عن بُعدٍ كبيراً. فلا غرو أن يبدو الزورق بارجة أو شونة. فإن القوم هناك ما زالوا يحملون بأن رؤوسهم قد تبرطلت ببراطل الفرنساوية ولحموا عرضهم بعرضهم حتى يروا نساءهم كما قال الشاعر: تصيد ظباؤنا الأسدُ الضواري ... بلحظ أو بلفظ في المسالك وغزلان الفرنج تصيد أيضاً ... بذَيْن معا وبالأيدي كذلك وكان بعير بيعر سُتْهمَا جَعْظَرا أُحرقه. لكنه كان حليماً يجب السلم والدعة. وكان من التغفل على جانب عظيم. فكان مفوضاً أموره المعاشية إلى رجل لئيم شرس الأخلاق عيده به كبر وعنجهية وعجرفة وتفجُّس وغطرسة. وكان تمضي عليه الساعة والساعتان وهولا يبدي ولا يعيد. فيظن الغر أنه معمل فكره في تدبير الدول. أو تلخيص النحل. فقد جرت العادة بأن الرجل إذا كان ذا منزلة رفيعة فإن كان عييا مفحماً عُدّ رزيناً وقوراً. وأن يك مهذاراً عد فصيحاً. فأما أموره المعادية فإنها كانت تعلو وتسفل وتضوي وتجزل وتفتق وترتق بتدبير قسيس ذي دعابة وفكاهة وبشاشة وهشاشة. قصير سمين. أبيض بدين. وكان هذا القسيس الصالح قد تمكن من حريمه تمكناً لا يباريه فيه النسيم. وألقى عصاه عند إحدى بناته وكانت ذات وجه وسيم ومنطق رخيم. وكانت تزوجت برجل قد جُنّ وتخبل فخلته وجنونه واعتصمت بعقوة أبيها فكان القسيس آمراً عليها مطاعاً. ناهياً وزاعاً فكانت كلما دخل فيها شيء أوخرج منها شيء تطالعه به لأنها كانت ممن قفط قطري الدين والدنيا معاً. وكانت تعترف له بجرائرها في الخلوة. وهو يسألها عن كل زلة وهفوة. فيقول لها هل تتذبذب أليتاك ويترجرج ثدياك عند صعودك الدرك أو عند المشي. وهل يحدث فيك هذا الارتجاج من لذة. فقد ورد في بعض الأخبار أن بعض الجلامظة كان يرتاح إلى أي ارتجاج كان. حتى كان كثيراً ما يتمنى أن تتزلزل الأرض من تحته. وتمور الجبال من فوقه. وهل يمثل لك في الحلم ضجيع يكافحك. وخليع يصافحك إذ لا فرق عند الله بين اليقظة والمنام. وأن أعظم الحقائق إنما بني على الأحلام. وهل وسوس إليك الوسواس الخناس فاشتهيت أن تكوني خُنْثَى، أي ذكراً وأنثى لا ذكر ولا أنثى كما تقول العامة. فإن هذا القول لم يرتضه المحققون من الربانيين اللاتين وغير ذلك من الوسائل التي يضيق عن تفصيلها هذا الفصل. وكان أبوها لا يسيء به الظن لما تقرر عنده من أن كل من لبس السواد فهو من الفاطميين أهواءهم عن اللذات الخاصين أنفسهم عن الشهوات حتى أنه نظر يوماً في بعض الكتب هذا البيت وهو: وذموا لنا الدّنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما تدّر لنا ثعل فظن أنه تعريض بهم وتلميح إليهم. فأمر بإحراقه فأحرق وذرى رماده. ورأى يوماً آخر بيتين في كتاب آخر وهما: ما بال عيني لا ترى من بين من ... لبس السواد من العباد نحيفاً ما كان من لحمٍ وشيء غيره ... فيهم فأصلب ما يكون وقوفاُ

طعام والتهام

فأمر أيضاً بإحراق الكتاب. وبعث جواسيس في البلد يتجسسون عن مؤلفه ونودي في الروابي والوهاد. ألا من دل على مؤلف كتاب كذا فإنه يجزي أحسن الجزاء. ويرقى إلى رتبة سنية. فلما سمع المؤلف بذلك اضطر إلى الاختفاء مدة حتى نُسي اسمه. فإن قلت أن هذا الفعل خلاف ما وصفته به من الحلم قلت إن عادة أهل تلك البلاد أن الحلم يكون محموداً في كل شيء إلا في أمرين حرمة العرض وحرمة الدين فأن الأخ ليبسل أخاه إلى الهلكة من أجلهما. ثم أن الفارياق أقام عند هذا الحليم مدة لم يحصل فيها على طائل. وكانت نفسه عزيزة عليه فلم يرد أن يسأله. فمن ثم جمع ذات ليلة حطباً وتبناً كثيراً وأطلق فيهما النار فانبعث اللهيب نحو مقصورة بعير بيعر، فظن أن النار قد سرت في قصره. فاستوشى القيام والقعود فأقبلوا يتسابقون إلى موضع النار. فرأوا الفارياق يزيدها من الحطب الجزل فسألوه عن ذلك فقال أن هذه النار من بعض النيران التي تنوب عن اللسان. وأن لم يكن لها صورة لسان. وإن لم يكن لها صورة لسان. ومن فوائدها إنها تنبه الغافلين وتنذر الباخلين. أن وراءها لقولاً شديداً ولساناً حديداً. فقالوا ويحك إنما هي من بدعك أو يكلم أحد بالنار. لقد سمعنا إن الإنسان يكلم غيره ببوق أو بقرع عصا أو بإشارة إصبع أو بغمز عين أو برمز حاجب أو برفع يد من عند الإبط. فأما بالنار فبدعة وضلال. وكادوا أن يبدعوه ويكفروه وينسبوه إلى التمجس ويطرحوه النار. لولا أن قال قائل منهم. ردوا الجواب على مرسلكم. ولا تفعلوا شيئا عن تهوك. فلما أخبروه بما رأوا وسمعوا. استرآه واستنطقه عن ذاك الأجيج. فقال أصلح الله المولى. وزاده فضلا وطولا. قد كان لي كيس لا ينفعني ولا أنفعه. والأكياس ولما جاء على وزنها ورويها عادة مخالفة لسائر العادات وهي إنها إذا خفت ثقلت. وإذا ثقلت خفت. فلما خف كيسي في جوارك السعيد أي ثقل أحرقته بهذه النار. وإنما جعلتها عظيمة هكذا لأني كنت أتوهمه كرضوى في جيبي. حتى إنه كثيرا ما منعني عن النهوض والخروج لحاجة مهمة فلما سمع قوله ضحك من خرافته ورضخ له من كفه الجامدة شيئا يقابل ما كتبه له الفرياق في أسفاره في الخساسة. فأقبل يحنبش إلى بيته وآلى أن لا يكتب شيئاً بعد ذلك الإ ما طاب موقعه. وجل نفعه. رجاء إن تكون الأجرة على قدر العمل. وهيهات فإن أكثر الناس نفعاً وشغلاً. أقلهم أجراً وجعلا. ومن لم يحسن إلا التوقيع. احل المحل الرفيع. ولقمت يده وقدمه كما يلقم الثدي الرضيع. طعام واِلتهام

بينما كان الفارياق رأسه ورجلاه في البيت كان فكره يصعد في الجبال. ويرتقي التلال. ويتسور الجدران. ويتسنم القصور ويهبط الأودية والغيران ويرتطم في الأوحال. ويخوض البحار. ويجوب القفار. إذ كان أقصى مراده أن يرى غير منزله وناسا غير أهله. وهو أول عناء الإنسان في حياته. فعن له أن يزور أخاً له كان كاتبا عند بعض أعيان الدروز. فسار وحقائبه الأماني. فلما أجتمع به ورأى ما كان عليه القوم من الخشونة والتقشف ومن الأحوال المغايرة لطباعه. أنكر بعضها ووطن نفسه على تحمل البعض الآخر. ولم يشأ وشك الرجوع من دون تقصي معرفتهم. ولو كان رشيدا لصرف نفسه عن هواها من أول يوم. إذ ليس من المحتمل إن أهل مدينة أو قرية يغيرون أخلاقهم وما ربوا عليه لأجل غريب دخل فيهم. ولا سيما إذا كانوا شياظمة ذوي بسطة وبأس. وكان هو قميا. ولكن الإنسان كلما قل شغله كثر فضوله فلا يكتفي بمجرد ما يسمع بإذنه حتى يرى بعينه. وكان الفارياق كلما زاد بهؤلاء القوم خبرة ونقداً. زاد أعراضاً عنهم وزهداً لأنهم كانوا غلاظ الطباع. بهم جفاء وإفظاع. وسخي الوساد والملبوس. ملازمي الضعف والبؤس. وأقذرهم كان طباخ الأمير فإن قميصه كان أنتن من الممحاة. وقدميه أقلتا من الوسخ ما لا تكاد تكشطه عنه المسحاة. وكانوا إذا قعدوا للطعام سمعت لهم زمزمة وهمهمة. وقعقعة وطعطعة. فخلتهم وحوشا على جيفة يثرملون ويرهطون وينهسون ويتعرقون ويتمششون ويتلمظون ويتمطقون ويلوسون ويلطعون ويتنطعون وكل ذلك في فرشطة خفيفة. فكنت ترى في جبهة كل منهم مضمون ما قيل من لفلف. لم يتقصف. فإذا قاموا رأيت الرز مزروعا في لحاهم والوضر متقاطرا من كساهم. فكان الفارياق إذ آكلهم قام جوعانا. ومعت أمعاؤه في الليل. فبات سهراناً. فكان يقول لأخيه عجباً لمن يعاشر هؤلاء الناس. من الأكياس. ما الفرق بينهم وبين البهائم. سوى باللحى والعمائم. لا جرم إنهم عائشون في الدنيا لسد بصائرهم وأفكارهم. ولفتح أفواههم وأدبارهم لا يكاد أحد منهم يظن أن الله تعالى بشرا إلاَّ وكان دونه وما يدرون إن الإنسان ليس له بمجرد النطق فضل على العجماوات ومزية على الجمادات. فإن الكلام إنما هو مادة لصورة المعاني. ولا تنفع المادة وحدها إذا لم تحل فيها الصورة التي هي الوجود الثاني. وقد يقال إن الرقين. تغطي أفن الأفين. وهؤلاء قد حرموا من العقل والنعمة. ورضوا من الكون كله بالنسمة. كيف تطيق إن تعاشر هؤلاء الهمج وفضلك بين الناس قد بلج. فقال له أخوة إن كثيرا ليحسدونني على مكانتي عند الأمير. وإني لكيد حسادي أصبر على العسير كما قيل. وكم أشياء يحسبها أناس ... لفاعلها نعيم وهي بؤسُ ولولا إن يكيد بها حسوداً ... لأنكر ذكرها وبه عبوسُ وفضلا عن ذلك فإن القوم ذوو نخوة ومروءة. وشهامة وفتوة. وإنهم وأن يكونوا سيئي الأدب على الطعام. فهم متأدبون في الفعال والكلام. لا ينطقون بالخنى ولا يعرف بينهم لواط ولا زنا. غير إن الفارياق كان يرى كله في المأدبة فكأنه كان قد تخرج على بعض الإفرنج أو كان فيهم نسبة. فمن ثم استدعى بقريحته على هجوم فلبته. ونادى القوافي لوصفهم فأجابته. فنظم فيهم قصيدة بين فيها سوء حالهم وخشونة بالهم. من جملتها في ثغر كل منهم سكيَّنة ... وسلاحه الماضي فأين المطعمُ ثم عرضها على أخيه وكان مشهوداً له بالأدب. وعلم لغة العرب. فاستحسنها منه على صغر سنه. وأعجب ببراعة فنه. ثم لم يلبث أن اشتهر أمرها وشاع ذكرها. وذلك لأن أخاه من شدة إعجابه بها تلاها على كثير من معارفه فبلغها بعض الحساد إلى أمير الناد. وكان هذا المبلغ نصرانياً فإن الحسد لا يكون إلا عند النصارى. مع أن كثيراً ممن تليت عليهم من الدروز كانوا داخلين في عداد المهجوين.

حمار نهاق وسفر وإخفاق

فلما سمع الأمير بذلك استاء جداً وقال لأخيه. تالله لقد جاء أَخوك آمراً فرياً. كيف يهجونا وهو ضيفنا وقد أنزلناه منزلاً كريما. وسقنا إليه رزقا عميما. لعمر الله لئن لم يتدارك هجوه بقصيدة مدح لأغيظنه. وكان هذا الأمير متصفا بصفات العرب في الفروسية والنجدة. وفي شراء الحمد جهده غير إنه كان يكل الأمور إلى المقدور. ولا يهمه ترتيب حاله. والنظر في ماله. ثم خشي من أن يكون هذا الوعيد أدعى إلى زيارة الهجوم إذا فصل عنه الفارياق وهو مغيظ. فرأى أن الإغضاء أجلب للإرضاء. وإن التملق أوفق للتلفق. فمن ثم سار صديقا له من علماء ملته وفضلاء نحلته إن يصنع مأدبة ويدعوه إليها والفارياق وأخاه. فلما جمعهم النادي. وجيء بالحلواء على أطباق كالهوادي. أقسم الأمير قائلاً والله لا أذوقن من هذا شيئا أو ينظم أبو دلامة يعني الفارياق بيتي مديح ارتجالا. فأبتدر وقال بديها. قد كان طبع أبي دلامة إنه ... يهجو لأن الهجو وفق جنانه لكنما هذا الخبيص نهاه إذ ... مزحت حلاوته بمر لسانه فجن الحاضرون استحسانا لهما. حتى الأمير لم يتمالك إن صافح الفارياق وقبله بين عينيه فانعقدت بذلك المواعدة ورجع كل راضيا. وقفل صاحبنا إلى بيته. وآلى إن لا يعقد فيما بعد ناصيته بذنب أحد من كبراء الناس. وإن يسد أذنيه عن صوت صيتهم غلب على الأجراس. حمار نهاق وسفر وإخفاق

ثم لبث الفارياق يتعاطى حرفته الأولى ومل منها ملل العليل من الفراش. وكان له صديق صدوق يراقب أحواله. فأجتمع به مرة وخاضا في حديث أفضى إلى ذكر المعاش. والتظاهر بين الناس بأحسن الريش فقر رأي كل منهما على إن الإنسان في عصرهما لا يعد إنسانا بفضله ومزيته. بل ببزته وزينته. وإن الناس المولودين من الخز والحرير والقطن والكتان المعلقين في أوتاد حوانيت التجار أعظم قدراً من الناس الماشين العارين عنها. وإن المرء إذا كان ضيق الصدر والرأس بحيث يكون واسع السراويلات واللباس كان هو النبه الآفق المشار إليه بالبنان. المحمود بكل لسان. فأجمعا رأيهما على أن يستبضعا بضاعة ويقصدا ترويجها في بعض البلاد استطلاعا لحال أهلها وتفرجا من كرب بالهما. فاكتريا حمارا لحمل البضاعة وهو لا يستطيع حمل جثته من الهزال والضوى فضلا عن علاوته. ولم يكن قد بقي فيه شيء شديد سوى نهاقة وزعاقة. فالأول للإسعاف. والثاني لمن ينخسه أو يلقي عليه الأكاف. ثم سار وهما يفصلان ثوب النجاح على قامة الآمال. ويقدران بساط الفوز على ندحه الآجال. فما بلغا طيتهما إلا والحمار على شفا جرف هار من رمقة. والفارياق أيضا زاهق الروح من تعبه وقلقله. نادم على ترك القلم الضئيل. مع ما كان ينفث به من الرزق القليل. ويومئذ عرف عاقبة الجشع وتبعة الرثع. وظهر له سفاه رأيه في الشراهة إلى ما يوجب نصب الأبدان. وبلبال الجنان. غير أن اللبيب من استخرج من كل مضرة منفعة. ومن كل مفسدة مصلحة. حتى إن في فقد الصحة لنفعا لمن رشد. وخيراً لمن قصد. إذ العليل وهو ممدود على وسادة. تقصر نفسه عن التمادي في فساده. وفي شهواته المنكرة وأهوائه الموبقة. فتقوى بصيرته والمرض ناهكه. ويملك سداده والألم مالكه. ويرضي الله والناس بما هو سالكه. وهكذا كانت حال الفارياق. بعد مقاساته تلك المشاق. فإنه لما أحس بضنك السفر. ولقي منه ما لقي من الضرر. تبين له إن شق القلم أوسع من حقائب البياعة. وإن سواد المداد أبهى من ألوان البضاعة. وإن في ترويج السلعة لمعرة دونها معرة الغدة والسلعة فجزم بأنه عند الإياب إلى وطنه يرضى بلين العيش وخشنه. ولا يبالي إن يكن ذا شارة رائعة أو طلالة رافعة. أو معيشة واسعة. بحيث لا يجوب أمصاراً. ولا يتلوا حماراً. أما وصف الحمار على أسلوبنا معاشرا العرب فإنه كان زبونا بليداً. حرونا عنيدا. تارزا قديدا. لا يكاد يخطو إلا بالهرواة. وإذا رأى نقطة ماء في الأرض ظنها بحرا ذا طفاوة فأجفل منها إجفال النعام. ووجل كما يوجل من الحمام. وإما على الطريقة الإفرنجية فإنه كان حمارا ولد حمار وأمه أتان من جيل كلهم حمير. وكان لونه يضرب إلى السواد. ومس شعره كمس القتاد مصلهم الأذنيين ولا نشاط. أعسم الرجلين بادي الأمعاط. أدرم أفوه. أد لم أقره. يفركح في بسه. ويرفس عند نخسه. ويكرف ويتمرغ. ويشغ ويبدغ لا تحيك فيه العصا. ولا يعمل فيه الزجر إذا عصى. ولا يتحرك إلا إذا أحس بالعلف وأن يكون زؤانا. ولا تظهر فيه الحيوانية إلا إذا رأى أتانا. فيريك ح سموها واستنانا. ونشاطا وصميانا، حتى كثيرا ما كان يقلب حمله. ويفسد عدله. وفيه خلة أخرى وهي أنه كان دائم الأحداث على قلة إِعمال ضرسه! مواصل الغفق في النجوة والخفق زيادة على نحسه فإن منشأة كان في بلاد يكثر فيها الكرنب والفجل والسلجم. واللفت والقنبيط كبعض بلاد العجم. فلهذا اعتاد على إخراج هذه الرائحة من صغره. وزادت فيه بازدياد عمره. فكان لا بد للماشي خلفه من سد أنفه والإكثار من أفه. وفي كلا الوصفين فإن رفقة هذا البهيم لم تكن أقل أذى من السفر الأليم.

خان وإخوان وخوان

وأنه بعد جولان عدة قرى ليس فيها من مأوى ولا قرى. وبعد مجادلات مع الشارين طويلة. ومحاولات ومصولات وبيلة قنع الفارياق وشريكه من الغنيمة بالإياب. ورضيا باللقاء والعود إلى المآب. وعلما إن البئر الفارغة لا تمتلئ من الندى. وإن التعب في تجارتهما يذهب سدى. فتسببا في بيع البضاعة بقيمتها كيلا يشمت بهما من ينظرهما راجعين بماهيتها. وباتا تلك الليلة خالي البال من القليل والقال. فإن من الناس من لا يعجبه شراء شيء إلا بعد تقليبه. وبعد تحميق بائعة وتكذيبه. فلا بد للبائع من أن يكون عن مثل هؤلاء متصاما متغافلا متعاميا متساهلا. وتلك خلة لم تكن في الفارياق ولا في صاحبه. فإن كلا منهما كان يحاول استمالة الكون إلى جانبه. ثم إنهما رجعا بثمن البضاعة وبالحمار وسلما المال لصاحبه. فعرض عليهما سلعة أخرى فأبيا. وتواعدا أن يجتمعا مرة أخرى للشركة في مصلحة أهم. وآثرا أن تكون في البيع والشراء. وقد جرت العادة بين الناس بأنه إذا تعاطى أحد عملا ولم ينجح به أول مرة لج به الشره إلى معاطاته مرة أخرى. إذ ليس أحد يرضى لنفسه نحس الطالع وشؤم الجد. وإنما ينسب حرفه فيما احترف به إلى بعض عوارض وطوارئ حدثت له. فيقول في نفسه لعل هذه العوارض لا تقع هذه المرة. وعلة ذلك كله اعتماد الإنسان على رشد نفسه وثقته بسعيه والركون إلى حدسه. وقد تهور في ذلك كثير من الخلق. وأكثرهم جنى على نفسه في التهافت على الرزق. خان وإخوان وخِوان ثم إنه بعد مذاكرة طويلة بين الفارياق وصاحبه قرّر رأيهما على أن يستأجرا خاناً مدينة الكعيكات. حيث ترد القافلة منها إلى مدينة الركاكات فاستبضعا ما يلزم لهما من الميرة والأدوات ولبثا قسه يبيعان ويشتريان بما تيسر لهما من رأس المال وذنبه. فلم تمض عليهما وجيزة حتى انتشر صيتهما عند الواردين والصادرين. وعرف رشدها جميع المسافرين. فكان الناس يقصدونهما لاقتصادهما. وكثيراً ما أنتاب خانهما أهل الفضل والبراعة، والوجاهة والاستطالة. حتى كأنه كان حديقة يتفرّج فيها الميكروب.

وعادة أهل ذلك الصقع أنهم لا يكادون يجتمعون في محل إلا ويتنازعون كاس البحث والمناظرة. ويخوضون في أمور الدنيا والآخرة. فإن أثبت أحد شيئاً نفاه الآخر. وإن استحسنه استهجنه وزعم أنه من المُنكَر. فيتحزب القوم أحزاباً قِدَداً. ويمتلئ المكان صخباً وإددا. وربما انتهى البحث إلى التفاخر بالنسب، والتكاثر بالحسب. فيقول أحدهم مثلاً لقرينه: أترد عليّ وأبي نديم الأمير وأكيله وشريبه وجليسه وأنيسه وخصيصه ونجّيه. لا يقضي ليلة من الليالي إلاّ ويستدعي به لمسارته. ولا يحكم بشيء إلاّ بعد مشاورته. وقد عرف أهلي من قديم الزمان بأنهم سُفراء البلاد، ونواميس الأمجاد. وما أحد من الناس ماجَدَهم ولا شارفهم ولا كاثرهم ولا فاخرهم ولا فاضلهم إلا وعاد ممجوداً ومشروفاً ومكثوراً ومفخوراً ومفضولاً وربما أعملت بعد ذلك الهراوات. وقامت مقام البينات. فيتنمر منهم من لم يكن ويربد من سكر، ومن لم يسكر. فينتهي الأمر إلى أمير الصَّقع. فيبعث عليهم مصادرين ذوي صقع. وويل لمن يكون قد ذكر اسم الأمير وقت الجدال. فإن عفوه حينئذ من المحال. فأما في الحوادث العظيمة فإن المتعدي إذا فرّ من القصاص أُخذ بذنبه أحد أهله أو جيرانه أو ماشيته أو ماعونه وقطع شجره وأحرق منزله. غير أن زمرتنا هذه لم تكن تتعدى حدّ الجدال إلى القتال. فإن الفارياق وصاحبه كانا يقومان فيهم مقام فيصل. فمن هذه الحثيثة كثر الوفود عليهما. وكثيراً ما بات عندهما أصحاب العيال والراح عليهم دائرة. والأغاني متواترة. والوجوه ناظرة والعمائم متطايرة. فكان ذلك داعياً إلى خصام النساء مع بعولتهن. ومن طبع النساء عموماً إنهنّ إذا علمن أحداً يعوق أزواجهنّ عنهنّ أضمون أن يتقربن إلى ذلك العائق ببعض حيلهن. فإن كان ممن يعشقن صفقن له حالاً على المقايضة والمبادلة أخذاً بثأرهن. فجعلهن من كل عضو منه بعلاً. ومن كل شعره خِلاّ. وإن كان ممن تبذأه العين رمينه بداهية وتحيلهن في خلاص بعولتهن منه وردّ بضاعتهن إليهنَّ. غير إن نساء تلك البلاد لا يخاصمن بعولتهن وهن مضمرات خيانتهم أو مستحلاَّتُ استبدالهم. فإنهنَّ ربَيَن على محبة آبائهن وعلى طاعة بعولتهن. وما خصامهن لهم الأعتاب. وكن في العتاب من لذة ولم يسمع عن واحدة منهن إلى الآن إنها خاصمت زوجها لدى حاكم شرعي أو أمير أو مطران. مع أن كثيراً من هؤلاء الأصناف الثلاثة يتمنون ذلك في بعض الأحوال أما للافتخار بأجراء العدل والأنصاف في رعيتهم أو لعلة أخرى. ومن طبع هؤلاء المخلوقات المباركات سلامة النية وصفاء العقيدة والتقرب إلى الرجال لا عن فجور فترى المرأة منهن متزوجة كانت أو ثيبة تجلس إلى جانب الرجل وتأخذه بيده وتلقي يدها على كتفه وتسند رأسها على صدره وتبسم له وتؤانسه في الحديث. وتتحفه ببعض ما تصل إليه يدها. كل ذلك عن صفاء نية وخلوص مودة. وأحسن ما يرى فيهن البلاهة والغِرية فإنهما في النساء من النُكْر والدّهاء. هذا إذا كان في غير ما يشين العرض وينتهك الحرمة. فأما في وقت الجد فلا تصح البلاهة. هذا ولما كان من دأبهن أن يكشفن عن صدورهن ولا يرفعن أثداءهن من صغرهن بشيء أكثرهن هُضْلاً أي ذوات أثداء طويلة. وأكثرهن يعتقد أن في طول رضاع الولد زيادة صحة له. فمنهن من ترضع ولدها عامين تامين. ومنهن من تزيد على ذلك أما محبتهن لأولادهن ورفقهن بهم وشوقهن إليهم فيجلّ عن الوصف. وأعرف كثيراً من البنات كنّ يبكين يوم زواجهن على فراق آبائهن وأمهاتهن وأخواتهن كما يبكي غيرهن في المأتم أو أشد. فأما ما يقال من أن البعولة يأكلون وحدهم دون نسائهم فكلام لا أصل له. وإنما يكون ذلك إذا كان عند الرجل ضيف غريب حتى لو أراد حينئذ أن تقعد امرأته مع الضيف لتأكل معه لأبت ورأت أن ذلك يكون استخفافاً بها وانتهاكاً لحرمتها. وفي الجملة فإنهن لا يُعبن بشيء إلا بالجهل وهن في ذلك معذورات. فأما الجاهلات من الإفرنج فإنهن يضفن إلى الجهل مكراً وخبثاً. وناهيك بذلك من سبَّه. وإني ليحزنني جداً أن أسمع إن هؤلاء المحبوبات قد مللن من هذه الفضائل وتخلقن بأخلاق أخرى. فيجب عليّ والحالة هذه أن أغيِّر ما وصفتهن به من المحامد أو أن آذن للقارئ في أن يكتب على الحاشية كذب كذب كذب أو هذين البيتين: إن النساء حيثما كنّ سوى ... يملن من حيث أتاهنَّ الهوى

محاورات خانية ومناقشات حانية

لا يغرُرَنَّ الغِرّ منهنّ تقي ... ولا هُدى ولا نهى ولا حيَا أو هذين سَرْ مضرب الأرض في طول وفي عرض ... ترى النساء يبعن العرض كالعرض بالرجل يصفقن عند البيَع لا بيَد ... وكل قاض على تسجيله يمضي أو هذين وإذا رأيت من الخرائد غادة ... تبدو وتخفَي فأرجعونَّ وصالها وإذا دعتك لحاجة عنّت لها ... لتكون قاضيها فرج ما..... أو ما قاله دعبل لا يُؤيسِنَّك من مخدرّة ... قول تغلطه وإن جَرَحا عسر النساء إلى مُياسرة ... والصعب يمكن بعد ما جمحا واعلم أن البلاد التي يتجر فيها بعرض النساء بغير مانع إلا بمكس عليه قليل يدفع لبيت المال لبناء معابد وغيرها دون اعتبار لقول من قال أمطعمة الأيتام الخ. يقلّ فيها التغزل بهن. فإن الرجل هناك أيان الرجل خطر بباله أن رؤية الوجه الصبيح تنفي همَّه وتزيل بلباله. وتخف أثقاله. وتنفس عنه كربه وتجلو صدى قلبه وتصفي دمه. خرج فوجد ضالته تنتظره وراء الباب. فلا يحتاج عند ذلك إلى شكوى وعتاب وتواجُد. وإلى قوله أرق على أرق ومثلي يأرق. وكفى بجسمي نحولا إنني رجل. وذبت وجداً وغراماً ونحو ذلك. فأما البلاد التي يحظر فيها هذا فتجد الكلام في النساء متجاوزاً به وراء الحد. ولذلك كان في شعر الإفرنج الأقدمين من المجون ما تجده في كتب العرب. وما إلا لأن هذه البياعة كانت وقتئذ ممنوعة. فلما كثرت قلّ عندهم المجون. أما في الجبل فإنك لا تجد لهم بياعة ولا مجوناً. وحكى عن الفارياق إنه هوى واحدة من أولئك اللائي كن يترددن عليه ولم يكن يحظى إلا بلثم أخمصها فكان إذا أصبح يقول لصاحبه. إن المقبل رجلها ليجل عن ... تقبيل راحة قسِّه وأميره هن الفواتن للخلي فشعرة ... منهن خير من كنوز غروره محاورات خانية ومناقشات حانية لا بأس في أن نذكر هنا مثالاً لما كان يقع بين تلك الزمرة من المحاورات فنقول اجتمعت زمرتنا هذه مرة والكأس تدار عليهم. والسرور يرقص بين أيديهم. فقال أفصحهم مقالاً وألدهم جدالاً إي الناس فيما علمتم أنعم بألاّ وأحسن حالاً فقال من بيده الكأس هو من كان على مثل هذه الحالة. وفي راحته ذي الآلة. فقال له ليس ذلك على الإطلاق. ولم يقع عليه اتفاق. فإن هذه الحالة لا يمكن كونها دائمة. فتكون غبطتها غير تامة. وإنما هي بعض من كل وجز من جُل. وبقي النظر في الباقي. ولا خفاء أن مداومة المدام تورث السقام وتقهي عن الطعام. ولذلك سميت القهوة ولا يعتادها إنسان إلا حلت به الشقوة. فقال آخر إن النعم الناس بإلاّ أَمير يجلس على أريكته وتحفه جماعة من حشمته وحفدته يأتيه رزقه رغداً. ويكفيه رازقه في المعيشة جهداً فإذا أوى إلى حريمه خلا بأزهر امرأة على أوطأ فراش فصدق فيه قولهم. أعجب الأشياء وثْر على وثْر. هذا وإنّ أكله المرازمة. وثيابه الناعمة. وأمره مطاع. وحكمه مقابل بالأتباع. فقال بعضهم ليس كذلك. وما الحقَّ فيما هنالك. فإن الأمير لا يخلو بامرأته إلا وهو مشغول الخاطر مكّدر السرائر إذ لا يزال يفكر في كونه مخوْناً بماله. مغشوشاً من عماله. يأكل رهطه رزقه ويذمونه. ويأتمنهم فيخونونه. ويعطيهم فيبخلونه. وهو مع ذلك مرصود منهم فيما يفعله. منتقد عليه بما يتعلمه. وأنه لا يود السفر ولا يتاح له ويتمنى رؤية غير بلاده. ولا يدرك أمله. فهو يحسد من يمشي في الأرض سبهللاً. ويغبط من يعتسف في الطريق ضللاً.

فقام بعض النقاد. وقال سمعاً يا أهل الرشاد. أن أسعد خلق الله راهب لزم كتابه في صومعته وتفرغ عن الشغل بعقاره وضيعته. فهو يأكل من أرزاق الناس. ويعوضهم عنه دعاء يطفح من أصمار الكأس. ويغنيهم في الدياجي عن النبراس. ويركب ما لديهم من النجائب. فهو كما قيل أكل شارب. ثم ما عليه بعد ذلك أن خرب الكون أو عمر. وإن مات الخلق أو نشر. فقال بعض ذوي الرشاد. ما هذا القول من السداد. فإن الراهب وأمثاله إذا رأى الناس مقبلين على أعمالهم. مشتغلين بأشغالهم. لم يرض الدناءة لنفسه أن يعيش من كدهم. ويستريح على تعبهم وجهدهم. ويتحين أوان رفدهم. بل يود لو كان شريكاً لهم في أتعابهم. أحرى من أن يكون شريكاً في مصوناتهم. هذا إذا كان نزيه النفس. كريم القنس. صادق السعي. ضابط الوعي ثم أن له عند رؤية الرجال مع نسائهم وأولادهم لغصات. وحسرات وأي حسرات. ولا سيما إذا خلا في الصومعة. ورأى أن سمنه ذاهب سدى من غير منفعة. وإن غيره ممن أضواهم الكد والنصب. وأجاعهم الجهد والتعب أقدر منه على بلوغ الأرب. مما أصطلح عليه سائر خلق الله من عجم وعرب. فقال من استوصب مقاله. وأرتاح لما قاله. هذا لعمري هو الحق المبين. فإن الراهب ومن أشبه حري بأن يعد مع الشقيين. وإنما يظهر لي أن أسعد الناس عيشاً هو التاجر يقعد في حانوته بعض ساعات من يومه فيكسب بإيمانه المغلظة في ساعة واحدة ما ينفقه في شهره. يجعل الكاسد من سلعته بتكرير كلامه نافقاً. والدون فائقاً. ثم هو أن آوى إلى منزله ليلاً. أصاب في خدمته دعد وليلى. فهو في نهاره كساب للمال. وفي ليلته منفقة على ربات الحجال. فقال من انتقد كلامه. وتبين ذامه. إن التاجر لا تمكن له هذه العيشة الراضية. ولا تهنؤه هذه النعمة الزافية. إلا إذا كان قازبا ذا معاملات في البلاد القاصية. وركوب للأخطار. واقتحام للأوطار. ومتى كان كذلك نقص من رغده وافر تجشمه وكده. ونغص من لذاته تعدد بغياته. وملا خاطره أشجانا. ما حاوله ليرضى به زبوناً وأخواناً فكلما هبت ريح خشبي على سلعته في البحر. وكلما جشر صبح أوجس من ورود قادم يخبره بشر. أو مالكه تنبي عن تلف وخسر. وكساد وحظر. فهو لا يزال في أعمال نظر. وتجرع آسف وكدر. فقال بعض السامعين إنك لمن الصادقين. أما أنا فلا أود أن أكون ذا اتجار. ولو ربحت في كل يوم مائة دينار. لما يتعقب هذه الحرفة من القيل والقال. والتكذيب والمحال. والمحاولة والمكر. والمداهاة والنكر. فضلاً عن اقتصاري في الحانوت ربع عمري. ولا علم لي بما يجري في وكري. فلعل رقيباً يخالفني إلى داري. وأنا إذ ذاك أكذب على الشاري وأماري وأجامل وأداري. ففي عنقي حبل الإثم بما أفعل في محترفي. وبكوني صرت وسيلة لإرتكاب الحرام في مألفي.

وإنما أظن أن أحق الناس بأن يغبط على عيشته. ويبارك له في حرفته ومهنته. إنما هو الحارث الذي يسعى لنفع نفسه ولغيره فيما يحرثه. فيكسب به صحة بدنه ومؤونة عياله وذلك خير ما يبرئه. وأن زوجه تراوحه على عمله وترفق به في عسره وعطله. أن مرض مرضته بنفسها وقامت بأمر مربعه. وإن غاب رعت له ذمة وباتت تنتظر وشك ورجعه. هذا والتعب يستطيب طعامه. ويسحلي نيامه. إلا ترى أن أولاد ذوي السعي والكد. أصبح أبدانا وأذكى فهما من أولاد ذوي الترفه والجد. وما ذلك إلا لأنهم يرقدون عن نعاس ويأكلون عن جوع ويشربون عن ظمأ. فأجابه أقرب من وليه. إن فيما قلت لنظرا. فأنك لم تر الصورة إلا من جهة واحدة وفاتتك الجهة الأخرى. فلعمري أن الحارث مع كد بدنه. أسير همه وشجنه. وضجيع قلقه وحزنه. إذ هو عبد الناصر. ورقيق الحوادث والأكابر. أن عصفت ريح خشبي على ثمره أن يتساقط فيسقط قلبه معه. وأن كثر المطر أو قل وجل من أن يتلف ما زرعه. وإن مات كبير في بلده. أشفق من كساد ما تحت يده وإن يكن ذا بصيرة وجحى. ساءه ما يرى أهله فيه من العرى والوجى. والذل والاستكانة. والابتئاس والمهانة. وتحسرهم على الطيب من المأكول والناعم من الملبوس. وعلى كونه لا يحسن تربية ولده كما يشاء. ولا يمكنه رؤية بلد غير الذي فيه نشا. فهو مهده وقبره وسجنه وحجره. ومع ذلك فهو غرض لأغراض إمامه في الدين. وعصا يتوكأ عليها منهو فوقه من المثرين. والسائدين والمسيطرين. فما يكاد يتخلص من ورطة أحدهما إلا ويقع في شرك الآخر. ولا يفوته شر إلا واستقبله شر أكبر. وهو مع إِصره وجهله. لا يجد مخلصا له ولا لأهله. ولو أنه رام أن ينهج لأهله منهجا ارتضاه لنفسه واستصوبه. ولم يك على وفق مرام إِمامه وأميرة أو آخر ذي مرتبة. لم يأمن غرامة منهما أو حسم عرتبة. أو قصم رقبة. ولم يلبث إن يرى أصحابه له أعداء واخدانه ألداء. فهو على هذا رهين الخضوع. وأسير القنوع. فقال قرين له. وقد صدق على ما فصله. نعم إن هذا لهو الحق الواضح. وما بعد الرق ذل فاضح.

وإني أرى بعد إمعان النظر والتروي، والتحقق والتحري، إن أسعد الناس حالا رجل رزقه الله مالا. واصلح له بالاً. فجعل دابة السفر في البلاد الغريبة. والمشاهدة للكائنات العجيبة. فهو كل يوم في شأن. وله في كل معان أوطان وإخوان. فقال قائل قد استوعب فحوى مقاله. واعتقد ما ذهب إليه أنه من فنده وضلاله. لقد زعت قصداً. ولم تقل رشداً. أو ليس المتعرض للسفر. بلا عناء وخطر. إذ كثيرا ما يمنيه بأمراض شديدة. تغيير الهواء عليه والأحوال غير المعهودة. واضطراره إن يطعم ما يعافه. ويشرب ما به أدنافه. فيكون آكلا لما يأكل بدنه. ويذهب وسنه. هذه الإفرنج تأتي إلى بلادنا فينغصهم عدم وجود الخنزير فيها. وخلوها عن السلاحف والأرانب وما يضاهيها. إذ يزعمون أنهم يخلطون شحم الخنزير ودمه في كل صبة وحسو وحلواء. ويتخذون من لحم السلاحف مرقا به شفاء من كل داء ويعيبون علينا أن لبننا غير ضيح ولا ممذوق. وخبزنا مملوحا وطعامنا غير مزعوق. وإن ماءنا غير ممزوج بالجير. وخمرنا غير مصبوغة بالعقاقير. وإنا نذبح الحيوانات ذبحا ونأكل لحمها غريضا. وهم يخنقونها خنقا ويأكلونه دائدا أنيضا. وأن جونا غير ذي دجن. ومطرنا غير دائم الهثن. وإن سماءنا غير محلسة وأرضنا غير مطلي وجهها بالرجيع والروث وسائر الأشياء المنجسة. فبقولنا غير مسيخة. وأثمارنا غير مليخة. وإن شتانا لا يدوم ثلثي العام. وصيفنا لا يسمع فيه رعد ذو إرزام. فإذا جاء أحدهم إلى بلادنا ليتعلم لغتنا ومكث بين أظهارنا عشر سنين. ثم رجع وهو من أجهل الجاهلين. أحال الذنب على الهواء. فقال إنه مني منه بالحمى والجوى. أو بالإسهال المفرط. والسعال المقنط. هذا وإن من جهل لسان قوم وهو فيهم لم يمكنه أن يعرف عاداتهم وأخلاقهم. واستوى عنده ظاهرهم وخافيهم. فيرى عندهم ما يرى دون علم. ويسمع ما يسمع من غير فهم. فلم يكن لذي السياحة بد من اتخاذ ترجمان. واعتماده عليه في كل خطب وشأن. ولا يلبث أن يسيء به الظن. ويرى أن له عليه المن. ولو أنه حاول أن يستغني عنه لفاته معرفة الأحوال. وبات بين القوم ذا وحشة وبلبال. وربما حن إلى رؤية أهله. والاجتماع بشمله فأدنفه الحنين. وأضناه بين الخدين. وإنما يطيب السفر ما إذا اتفق إنسان مع ند له نوي. وصديق نجي. وكانا عارفين بلغات كثيرة. وقلوبها خالية من علاقة الحب والبصيرة. وهيهات أن يتفق اثنان على رأي واحد. وإن تتم لذة من دون مانع جاهد. وهم عاصد.

إغضاب شوافن وأنشاب براثن

فقال أقل الحاضرين رشدا وفضلا. وأكثرهم هزلا. يا قوم. إني قائل قولاً ولا لوم. إن أسعد الناس وأحظاهم. وأترفهم وأرضاهم. البغي الجميلة التي تفتح بابها لقاصدها. وتبيح نفسها لمراودها. فإنها تغتنم أنس زائرها وماله. وتتبله بحبها حتى يرى ذله فيها عزاً له. ومتى تمكنت من نفر يبذلون لها العين. ويكفونها مؤونة الأطيبين. فلا تحتاج بعدها إلى البحث عن مراود في المسالك. والتعرض للمكارة والمهالك. فإذا هي شاخت وجدت مما ادخرته في صباها ما تنفق منه عن سعة. وما تكفر به عن سيئاتها السالفة فتعيش في دعة. ويثني عليها الناس بالتوبة الناصعة. والمعيشة الواسعة والإنسان مطبوع على النسيان مطبوع على النسيان. لا يبالي إلا بما هو كائن لا بما كان. ولا سيما إذا كان الحاضر يجدي نفعا جزيلا. ويسرا مأمولا وكفى بأئمة الدين إذا نالوا منها العطايا الوافرة. والصلاة المتواترة. أن ينتشروا عليها أحسن الثناء ويبرئوها منكل فحش وخنى. فلها منهم على كل صلة صلوات. وعلى كل دعوة دعوات. فمن ما رآني في ذلك فليسأل قرينته. ويكظم ضغينته. ريثما أقيم له على ذلك البراهين. ممن غبر وبقي من العالمين. فلما سمعت الجماعة دعواه. ولحنت مغزاه. ضحكوا من هذيانه. ورأوا أن الجواب على بهتانه. على طريقة الجدال إِنما هو من وضع الشيء في غير صوانه. فأضربوا عنه صفحاً. وقالوا له قبحاً لرأيك وشقحاً فلو كان أهل صقع على رأيك لفسدت الأرض. وبار العرض. ولم يبق من الصلاح أثر ولا برض. وإنما اللوم على الكأس التي ذهبت بلبك. وكشفت عن فساد مذهبك. وقبح اربك. ولعلك تهتدي إلى الرشاد إذا أفقت من خمارك. وتبين لك فضاعة هترك واستهتارك. فرأى إن السكوت له اسلم عاقبة من المحاورة والمجاوبة. والمناقرة والمغاضبة. وإن الجمهور يغلب الفرد. وإن كانوا على ضلال. وكان هو على هدى وقصد. فاستف تنفيدهم. وخشي وعيدهم. وتفرقوا ولم يجمعوا رأيهم على أي الناس اسعد. وأي عيش أرغد. إذ رأوا دون كل حرفة نغصاً. ومع كل حالة عنصا. وفي كل أكلة مغصاً، وقد فاتهم من أحوال الناس كثير مما ضاق وقتهم عن ذكره. كما ضاق هذا الفصل عن إحصاء كل ما أوردوه وعن حصره فقف على هذا القدر الذي ذكرته. وسر معي إلى استئناف قصة من غادرته وعليكم السلام. إغضاب شوافن وأنشاب براثن

السجع للمؤلف كالرجل من خشب للماشي. فينبغي لي أن لا أتوكأ عليه في جميع طرق التعبير لئلا تضيق بي مذاهبه. أو يرميني في ورطة لا مناص لي منها. ولقد رأيت أن كلفة السجع اشق من كلفة النظم. فإنه لا يشترط في أبيات القصيدة من الارتباط والمناسبة ما يشترط في الفقر المسجعة. وكثيرا ما ترى الساجع قد دارت به القافية عن طريقه التي سلك فيها حتى تبلغه إلى ما لم يكن يرتضيه لو كان غير متقيد بها. والغرض هنا أن نغزل قصتنا على وجه سائغ لأي قارئ كان. ومن أحب أن يسمع الكلام كله مسجعا مقفى ومرشحا بالاستعارات ومحسنا بالكايات فعليه بمقامات الحريري أو بالنوابغ للزمخشري. فنقول إن صاحبنا الفارياق بعد إقامته مدة على الحالة التي ذكرناها جرى بينه وبين جده من النزاع والمناقشات ما أوجب عليه ترك ما كان فيه واقتفاء طريق آخر من طرق المعاش. فتاح له أن يكون معلما لإحدى بنات الأمراء وكانت ذات طلعة بهية. وشمائل مرضية. تامة الظرف. ناعسة الطرف ولكن ليس المراد بذلك إنها كانت لا تبصر من يحبها كما يكون من به نعاس. وإنما المعنى أنها ذابلته. حتى ولا هذه العبارة مفصحة بما أريد أن أقوله. فإنها توهم إنها كانت ذابلة مع أنها كانت غضة بضة. بل المقصود أن نقول إنها كانت كأنها تنظر عن تحشيف. ولكن مادة حشف لا تعجبني فإن فيها معاني اليبوسة والخساسة والرداءة وشيء آخر تجل الملاح عن ذكره. بل المراد أنها كانت تكسر جفنيها عند النظر. ولا الكسر أيضاً لائق لها. فلا أدري كيف ألحن للقارئ ما أردت. ولعل الأوفق أن يقال أنها كانت ترمي بسهام عن عينها. ولم يكن سنها مانعاً من تتبيل من ينظرها. فأن القلب يعلق بهوى الصغيرة الجداء كما يعلق بهوى الكبيرة الوطباء. إذ ليس كل عشق مؤديا إلى الدعارة. فقد عشق الناس الرسوم والأطلال والآثار. والأشكال والديار. ومنهم من عشق لرؤيته كفاً مخصباً أو عقيصة شعر أو ثوبا أو سراويلات أو تكة أو نحو ذلك. وأعرف من أحب هرة امرأة فكان يلاعبها. ويخيل له الغرام أنه ملاعب صاحبتها. وكثيرا ما كانت تنشب فيه أظفارها وتدميه. وهو يستعذب ذلك ويستحليه. أما لاستعذاب العذاب في هوى المحبوب. أو لاعتقاده أن مداعبة النساء أيضا لا تخلوا من خدش أو دماء. فكون الجرح منهن أصالة أو وكالة إنما هو شيء واحد. وقد سئل أحد العشاق عن مبلغ الوجد منه فقال كنت أرتاح للريح إذا مرت على نتن مقبلة من صوب المحبوب. هذا وأن عشق أهل تلك البلاد أكثره على هذا النمط. أي أن العاشق منهم يكلف بأثر من محبوبه كمنديل أو زهرة أو رسالة وخصوصا بنصة شعر فيشمه ويضمه ويقبله ويعانقه كما قيل الشعر مثل الشَّعر داعية الهوى ... والشَّعر مثل الشعر ذخر يذخر من غاب عنك فلست تنظره سوى ... بالشعر وهو الأكثر فإن قيل أنهم إنما عشقوا ذلك طمعا في وصال الحبيب الذي تفضل بهذه النعم لا كلفا بها من حيث هي هي. قلت ما المانع من أن تعشق الصغيرة طمعا في أن تصير كبيرة. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. وربّ أمل أحلى من فوز. وقد علم أهل الدراية أن من حرمه الله من الجمال لغاية لا يعلمها إلا هو عوضه عنه زيادة قصاص له بحدة الفكر والبصيرة وشدة التصور والتخيل ودقة الحدس فيكون أسرع إلى العشق وأكثر حرصا على أهل الجمال إذ الإنسان كلما بعد الشيء المقصود كان توقانه إليه أكثر وتولعه به أشدَّ. والمراد من ذلك كله أن نقول أن الفارياق كان يعلم من صغره إنه بمعزل عن الجمال. وإنه من صبائه كان يعظم أهله ويميزهن على غيرهن وإن القبيح معذور على عشق المليح كما قال الشاعر: وقالوا يا قبيح الوجه تهوى ... مليحا دونه السمر الرقاق فقلت وهل أنا إلا أديب ... فكيف يفوتني هذا الطباق

قالوا أو أقول إنا عنهم. وقد يكون عشق الصغير كبيرا كما يكون عشق الكبير صغيرا. فإن الصغير لما كان غير ذي رشد يرده عن الاسترسال والتمادي في هواه كان هذا الاسترسال معقبا للجموع دون حد. ألا ترى أن الصغير إذا ولع بشيء من اللعب واللهو فإنه يتهتك فيه وينهمك غاية ما يكون. فكيف به إذا جنح إلى شيء هو أقوى من كل ما يستميل الطبع ويشوق النفس. نعم إن الكبير يقدر منافع ما يقصده من معشوقه أكثر من الصغير ولذلك يكون حرصه عليه أبلغ وطلبه له اكثر. غير إن عزة نفسه وسورة طباعه ونهيته قد تمنعه من أن يسلم عنان مشيئته للهوى. فيكون في طريق ميله وتوقانه تارة مقدما رجلا وتارة مؤخرا أخرى. والصغير متى ما استرسل استسهل. وبعد فقد نذرت على نفسي أن أكتب كتابا. وإن أودعه كل ما راق لخاطري من القول سديدا كان أو غير سديد فإني اعتقدت أن غير السديد عندي قد يكون عند غيري سديدا كما تحقق لدي عكسه. فإن شئت فأذعن أولا فليس هذا الوقت وقت العناد والخلاف. والحاصل أن الفارياق لبث يعلم سيدته الصغيرة وجعل من دأبه أن يتودد إليها بإغضاء النظر على إصلاح غلطها. بل لم يكن يرى إن صاحبة هذا الجمال يجوز ردها. فتأخرت هي في العلم وتقدم هو في الهوس فمما قال فيها. بروحي من أعلمه وقلبي ... أسير هواه لن يستطيع صبراً أغار عليه وجداً من حروف ... يفوه بها فتلثم منه ثغراً والحمد لله على كون اللغة العربية خالية عن الياء الفارسية والفاء الإفرنكية وإلا لزادت غيرة صاحبنا وربما كان ذلك سبباً في جنونه. فإن الغيرة والجنون يخرجان من مخرج واحد كما أفاده المشايخ الراسخون في الزواج. وهنا دقيقة وهي أن بعض العتاول جمع عتول وهو من لا خير عنده للنساء يستثقل المؤنث في الغزل والنسيب فيجعله مذكراً وبعضهم يضمره. وعليه قول الفارياق أعلمه. والظاهر إن المقدر في ذلك لفظة شخص. فيا ليت هذا الحرف كان في لغتنا مؤنثا كما هو في الفرنساوية والطليانية حتى لا يجد الناسب محيدا عن التأنيث. فأما تعليم نساء بلادنا القراءة والكتابة فعندي إنه محمدة بشرط استعماله على شروطه. وهو مطالعة الكتب التي تهذب الأخلاق وتحسن الإملاء. فإن المرأة إذا اشتغلت بالعلم كان لها به شاغل استنباط المكايد واختراع الحيل كما سيأتي ذكر ذلك. ولا بأس بالمتزوجات بقراءة كتابي هذا وأمثاله. لأنه كما إن من ألوان الطعام ما يباح للمتزوجين دون غيرهم. فكذلك هي ألوان الكلام. والظاهر إن اللغة العربية شرك للهوى إذ يوجد فيها من العبارات الشائقة المتصبية ما لا يوجد في غيرها.

الطويل والعريض

فمن قرأت مثلا في شرح المشارق لابن مالك إن مراتب العشق ثمانية أدناها الاستحسان وينشأ عن النظر والسماع ثم يقوى التفكير فيصير مودة وهي الميل للمحبوب. أي المحبوبة. ثم يقوي فيصير محبة وهي ائتلاف الأرواح. ثم يقوى فيصير خلة وهي تمكن المحبة في القلب حتى تسقط بينهما السرائر. ثم يقوى فيصير بحيث لا يخالطه تلون ولا يداخله تغير. ثم يقوى فيصير عشقا وهو الإفراط في المحبة حتى لا يخلو فكر العاشق عن المعشوق أي المعشوقة. وإنه يقوى فيصير تتيما. وفي هذه الحالة لا ترضى نفسه سوى صورة معشوقة، أي معشوقته. ثم يقوى فيصير ولها وهو الخروج عن الحد حتى لا يدري ما يقول ولا أين يذهب وحينئذ تعجز الأطباء عن مداواته. قلت وإن من أنواعه أيضا الصبابة وهي رقة الهوى والشوق. والغرام وهو الحب المستأسر. والهيام وهو الجنون من العشق. والجوى وهو الهوى الباطن. والشوق وهو نزاع النفس. والتوقان وهو بمعناه. والوجد وهو ما يجده المحب من هوى المحبوب أي المحبوبة. والكلف وهو الولوغ. والشغف وهو إصابة الحب الشغاف أي غلاف القلب أو حجابه أو حبته أو سويداءه. والشغف وهو أن يغشى الحب شعفة القلب وهو رأسه عند معلق النياط منه. والشعف وهو بمعناه. والتدليه وهو ذهاب الفؤاد عشقا. لم تتمالك إن تحس بهذه المراتب السنية كلها حالا بعد حال. بخلاف لغات العجم فإنها لا يوجد فيها إلا لفظة واحدة بمعنى المحبة يطلقونها على الخالق والمخلوق. وقد يظهر لي أن كثيرا من الصفات المحمودة في الرجال تكون مذمومة في النساء كالكرم مثلا. فإن كرم الرجل يغطي جميع عيوبه وهو مذموم في المرأة. وقس على ذلك المكر والدهاء والإطراء والفروسية والشجاعة والحماسة والصلابة والخشونة والهمة إلى المراتب السامية والأمور الشاقة والأسفار البعيدة والنيات النائية والمطامع المتعذرة وغير ذلك. والعلة في ذلك كون المرأة تميل بالطبع إلى الشطط ومجاوزة الحد. ودليله في من تميل إلى العبادة والنسك فإنها لا تقف في ذلك على أمد بل تتمادى فيه حتى تتهوس وتتخبل فتدعي المعجزات والكرامات وتعمد إلى الرؤى والأحلام ويخيل لها أن ملكا يناجيها. وهاتفا يناغيها. وإنها تقيم بدعائها الأموات. وتحي الرفات. وربما قتلت أولادها على صغر ابتغاء دخولهم الجنة بغير حساب. أو ولدت توأمين فادعت إنهما من غير أب. وفي من مالت إلى الهوى فإنها تترك أباها وأمها اللذين ولداها وربياها وتقبل تجري في أثر رجل لا تعرف من صفاته شيئا سوى كونه ذكرا. فكل ما كلفت به المرأة كانت فيه اكثر تماديا من الرجل. فكلفهن بالقراءة لا أدري أين يكون مصيره.. والحامل لها هذا الغلو والشطط إنما هو من معرفتها من نفسها إنها أقوى على اللذات من الرجل. فزيادة إطاقتها لذلك زادت في تماديها فيه. ومنه سرى في غيره من الأطوار والشؤون والأحوال الطارئة وفي بعض الغريزية أيضاً وذلك كالكلام والضحك والسبح والحركة. وما قل منه فيها في بعض الأحوال فإنك تراه زائدا في البعض الآخر زيادة فوق القياس. ولعل كلامي هذا يسوء النساء إذا سمعن به وهن بين الرجال. لكني أعلم عين اليقين أنهن يضحكن له في أكمامهن استحسانا وتعجبا. حتى كأني يحسبن إني عشت برهة من الدهر امرأة حتى أمكن لي معرفة سرائرهن. ثم مسخني الله تبارك وتعالى رجلا. أو أني علمت ذلك من هند وسعاد وزينب ومية حين كنت أشبب بهن وأنا فتى وأكذب عليهن بقولي لهن إني حرمت الكرى وأجريت على نواهن عبراً. وإني قد فتن لي. وفارقني قلبي. لأجرم أنه لم يفارقني قط. ولو فارقني مرة لما رجع إلي أبدا. إني طالما أدخلت عليه هموما وأحزانا لم تكن لتهم أحدا من الناس في بلادي إذ كنت أحزن لتعصي معنى من المعاني علي وأحاول اختراع شيء من البديع لم يكن سبقني إليه. ظانا أنه الناس مقام هذه المخترعات التي يزهي بها الكون عصرنا عصرنا هذا فلم يتهيأ لي فكنت أبيت في الليل في يأس وكرب. معاذ الله لم تكلمني وما كلمت هند وإنما عرفت ما عرفت من الأحلام الصادقة إذ كنت أبيت وأنا مخلص لله الإنابة والقنوت فإن لم يصدقني فليبتن ليلة أو ليلتين تائبات قانتات مثلي وأنا ضامن لهن أنه يهبط عليهن من الأحلام الصادقة ما يوقفهن على أمور الرجال. الطويل والعريض

فلنرجع الآن إلى الفارياق فإنه هو أيضا رجع إلى حرفته وهي النساخة وإن كان ذلك على غير مراده. واتفق إذ ذاك إن فتيين من أمراء ذلك الصقع أرادا أن يقرأا النحو على بعض النجاة وكان الفارياق يحضر الدرس وهو مكب على النسخ. وكان أحد التلميذين. بطيئا عن الفهم سريعا إلى الجواب. يتثاءب ويتمطى. ويغرض ويخطا. ويتناعس ويتقاعس ويتفاسأ ويتعاطس. وإذا خيل له أنه فهم مسألة حك تحت إبطه وشم رائحتها وكرف ثم تمطق كما يتمطق من أقطه. ثم عربد من افتتانه. وسلق من وليه بلسانه. وقال ألا قبحا لذوي الخواطر البليدة. والفطن البعيدة. كيف لا يتعلم الناس كلهم فن النحو. وهو أسهل من حك ما تحت الحقو. أما والله لو كانت العلوم كلها مثله، لما غادرت منها كبيراً ولا صغيراً إِلا واستوعبته كله. لكني سمعت أن النحو إنما هو مفتاح للعلوم ولا يعد منها فلا بد وأن يكون غيره أصعب منه. فقال معلمه لا تقل هكذا بل النحو أساس العلوم وكل العلوم مفتقرة إليه افتقار البناء الأساس. ألا ترى أن أهل بلادنا لا يتعلمون سواه ولا يعرجون على غيره. وعندهم أن من تمكن منه فقد تمكن من معرفة خصائص الموجدات كلها. ولذلك لا يؤلفون إلا فيه. وإنما يحصل الخلاف بينهم في تقديم بعض الأبواب على بعض. وفي توضيح ما كان مبهما منه بأدلة وشواهد أو شاذة بيد أن المآل واحد. وهو أن العالم لا يسمى عالما إلا إذا كان متمكناً من النحو مستقصيا لجميع دقائقه. ولا يكاد يستتب أمر إلا به. ولو قلت مثلا ضرب زيد عمر من غير رفع زيد ونصب عمرو فما يكون ضربه حقا ولا يصح الاعتماد على هذا الإخبار. فإن حقيقة فعل الضرب متوقفة على علم كون زيد مرفوعا. وجميع اللغات التي ليس فيها علامات الرفع فهي خالية عن الإفاده التامة. وإنما يفهم بعض الناس بعضا من دون هذه العلامات عن دربة أو اتفاق. فلا معول على كتبهم وإن كثرت ولا على علومهم وإن جلت. وإني وإن كنت قد لقيت منه عرق القربة وكثيرا ما بت وبالي مشغول بعقله من عقله وبداهية من عراقيله فكت آرق ليلي كله ولا أهتدي إلى وجه الصواب فيما عوص علي من ذلك إلا إني استفدت منه فائدة عظيمة جعلتني ممنوناً لبنت أبي الأسود الدؤلي أبد الدهر فإنها هي التي كانت سبباً في استنباطه. قلت وكذا سائر البدائع كان أصل استنباطها مسبباً عن النساءفقال له التلميذ ما هذه الفائدة يا أستاذي. قال قد طالما كان يخامرني الريب في قضية خلود النفس. فكنت أميل إِلى ما قلته الفلاسفة من أنه كل ما كان له ابتداء فهو متناه. فلما رأيت النحو له ابتداء وليس له انتهاء قست النفس عليه فزل عني والحمد لله ذلك الإبهام.

ومثله أو أكثر منه في الصعوبة فن المعاني والبيان. فقال له التلميذ لم أسمع بذكر ذلك قط. قال أما أنا فقد سمعت به وأعرف كل ما يشتمل عليه. وهو المجاز والكناية والاستعارة والتورية والترصيع وغير ذلك مما ينيف على مائة نوع. وبيان ذلك مفصلا يستفرغ آجلاً. وربما قضى الإنسان عمره كله في علم الاستعارات وحدها. ثم يموت وهو جاهلها. أو يكون قد نسي في آخر الكتاب أو الكتب ما عرفه في أوله. وذلك أن من اخترع هذا العلم الجليل لم يكن سلطانا حتى يمكنه إجبار الناس جميعا على متابعته ومشايعته. بل يكون فقيراً بهذا الشيء وشرح الله صدره لتقرير قواعد له فكان لا يقع بصره على شيء إلا وخطر بباله طريقة من طرقه. فإذا نظر الشمس مثلا طالعة قال كيف ينبغي أن يفهم هنا طلوع الشمس هل هو حقيقي أو مجازي وهل هنا عرفي أو لغوي. وكذا لو رأى البقل نابتا في زمن الربيع قال كيف تأويل قول القائل انبت الربيع البقل. فهل يصح إسناد ذلك إلى الربيع وهو إنما نشأ عن دوران الأرض حول الشمس فهو لاشك مسبب عنها. ولا ريب أن مدير الأرض إنما هو الله عز وجل. فيكون قوله انبت الربيع البقل مجازاً بدرجتين. لأن الربيع مسبب عن دوران الأرض ودوران الأرض مسبب عن تقدير الباري تعالى. وكذا قولهم جرت السفينة أو الحجر. ومن المجاز ماله أيضاً ثلاث درجات ومنه ما له أربع. ومنه ما تفوق درجاته درج المئذنة. ومن هذا الدرج ما شكله قرقي ومنه حلزوني ومنه لولبي. ومنه غير ذلك ثم مازال المستنبط يفكر في هذه البدائع حتى أدركه الأجل فمات وبقي عليه أشياء كثيرة لم يحكمها. فقام من بعده من أولع مثله بهذا الفن فاستدرك على سلفه مواضع كثيرة. وظل يباحثه ويعارضه إلى أن قضى نحبه وقد ترك مجالاً لغيره. فجاء من بعده من اصلح بينهما في عدة مواطن وعاب على كل منهما أيضا أمورا. ثم مات ولم ينه ما قصده. فخلفه من صنع به ما صنعه هو بغيره. وهكذا بقيت أبواب النقد مفتوحة إلى عصرنا هذا فمن قال إن هذه العبارة من الاستعارة التبعية. ومن قائل إنها من الترشيحية. قال بعض العلماء الاستعارة تنقسم إلى مصرح بها ومكني عنها. والمصرح بها تنقسم إلى قطعية واحتمالية. والقطعية تنقسم إلى تخييلية وتحقيقية. وتنقسم ثانياً إلى أصلية وتبعية. وثالثا إلى مجردة ومرشحة. وقال بعضهم وهذه تنقسم أيضا إلى عقيونية ومكانية ونبيصية وطعطعية وغميسية ولعلمية ويلمعية وعسعاسية. والعقيونية تنقسم أيضاً إلى فرقعية وقرقعية ومقامقية. والفرقعية إلى جحلنجعية وشنطفية وعطروسية ودمحالية وشينقورية وكربرية. والقرقعية إلى خعخعية وعهعخية وعهخغية وكشعثيجية وكثعظجية. والمكائية إلى معوية وعنترية وصفرية وعصلية وبلكية وصفارية وضغيلية وطرطبية وانقاضية. إلى غير ذلك من التقسيم. ويشترط في خطبة الكتاب أن تكون جامعة لجميع هذه الأنواع. وأن يراعي فيها وفي الكتاب كله نوع الطباق. مثال ذلك إذ قال القائل في فقرة طلع. فلا بد أن يقول فيها أو في الثانية نزل. وإذا قال أكل يقول بعده من غير تراخ تقيأ أو- وفي الجملة فينبغي أن تكون الخطبة عويصة ما أمكن. وأية خطبة لم تكن كذلك كانت عنوانا على ركاكة الكتاب كله فلم يكن جديرا بالمطالعة.

أكلة وأكال

فقال له التلميذ وقد امتقع لونه وهل النحاة أيضا ماتوا ولم ينهوا قواعد هذا العلم. وهل قراءتي له عليك تغني عن إعادته عند غيرك هنا. وهل يجب على الطالب في كل بلد سافر إليه أن يتعلم نحو أهله أم هو علم مرة واحدة. فقال له شيخ إما عن المسألة الأولى فأجيب أنه ما جرى على البيانيين فقد جرى أيضا على النحاة. فقد قال الفراء أموت وفي قلبي شيء من حتى. وقد مات سيبويه وبقي في قلبه من فتح همزة أن وكسرها أشياء. ومات الكسائي وفي صدره من الفاء العاطفة والسببية والفصيحة والتقريعية والتعقيبية والرابطة حزازات. ومات اليزيدي وفي رأسه من الواو العاطفة والاستئنافية والقسمية والزائدة والإنكارية صداع وأي صداع. ومات الزمخشري وفي كبده من لام الاستحقاق والاختصاص والتمليك وشبه التمليك والتعليل وتوكيد النفي وغير ذلك قروح. ومات الأصمعي وفي عنقه من رسم كتابة الهمزة غدة. وفي الجملة فإن معرفة حرف واحد من هذه الحروف إذا تعمد الطالب استقصاءها وجب عليه أن يترك جميع أشغاله ومصالحه ويعكف على ما قيل فيه وأجيب عنه. وما قيل من الأمثال. أعط العلم كلك يعطك جزأه إلا لأجل ذلك. وأما قولك هل يلزم أن تقرأ النحو أيضاً على غير هنا أي في بلادنا فذلك غير لازم. فإن أهل بلادنا كلهم لا يطالعون غير هذا الكتاب الذي تطالعه أنت. بل قل من يطالعه ويفهمه أو يعمل بمقتضى قواعده. وأما عن سؤالك الثالث فأقول إنه لا ينبغي إعادة هذا العلم في كل بلد ولكنك حيثما سرت وأيان توجهت وجدت أُناساً ينتقدون عليك كلامك. فإن عبرت بالواو مثلا قالوا الأفصح هنا الفاء أو باء وقالوا الأولى أم. وفي بعض البلاد إذا علم إنك تنقط ياء قائل سقط اعتبارك من عيون الناس. فقد قرأت في بعض كتب الأدب أن بعض العلماء عاد صديقا له في حال مرضه فرأى عنده كراسة قد كتب فيها لفظة قائل بنقطتين تحت الياء تحت الياء فرجع في الحال على عقبه وقال لمن صار معه لقد أضعنا خطواتنا في زيارته. وهذا هو سبب قلة التأليف في عصرنا. فإن المؤلف والحالة هذه نفسه للطعن والقدح والبلاء. ولا يراعي الناس ما في كتابه من الفوائد والحكم. إلا إذا كان مشتعلاً على جميع المحسنات البديعة والدقائق اللغوية ومثل ذلك رجل فاضل يدخل على قوم بهيئة رئة ورعابيل شماطيط. فالناس لا تنظر إلى أدبه الباطني بل إلى بزّته وزيه. والحمد لله على قلة المؤلفين اليوم في بلادنا، إذ لو كثروا وكثر نقدهم وتخطبهم لكثرت أسباب البغض والمشاحنة بينهم. وقد استغنى الناس عن ذلك بتلفيق بعض فقر مسجعة في رسائل ونحوها كقولك السلام والإكرام. والسنية والبهية. فأخفه ما كان ساكناً. فأما الشعر في عصرنا هذا فأنه عبارة عن وصف ممدوح بالكرم والشجاعة أو وصف إمرأة بكون خصرها نحيلاً وردفها ثقيلاً. وطرفها كحيلاً ومن تعمد قصيدة جعل جل أبياتها غزلاً ونسيباً وعتاباً وشكوى وترك الباقي للمدح. ثم أن التقليد النجيب أستمر يقرأ على شيخه الأديب في النحو حتى وصل إلى باب الفاعل والمفعول فأعترض على أن الفاعل يكون مرفوعاً والمفعول منصوباً. وقال هذا الاصطلاح فاسد لأن الفاعل إذا كان مرفوعاً كان الذي عمل فيه الرفع آخر. والحال أنه هو العامل. وبياته إنا نرى الفاعل في البناء يرفع الحجر وغيره على كتفه فالحجر هو المرفوع والفاعل رافع وكذلك فاعل ال ... فإنه هو الذي يرفع الساق. فقال له المعلم مه مه لقد أفحشت، فكان ينبغي لك التأديب في مجلس العلم فإنه غير مجلس الإمارة. ثم ختم التلميذان قراءة الكتاب ولم يستفيدا شيئاً وكأن الشرح كله كان موجهاً إلى الفارياق. ومذ ذلك الوقت أخذ في تجويد عبارته بمقتضى القواعد النحوية فصار يهوّل بها على رعاع الناس كما يظهر في الفصل الآتي. أكلة وأكال

لا بد لي من أن أطيل الكلام في هذا الفصل امتحاناً لصبر القارئ. فإن أتى على آخره دفعة واحدة من غير أن تحترق أسنانه غيظاً أو تصطك رجلاه غيرة وحمية. أو ينزوي ما بين عينيه أنفة وحشمة. أو تنتفخ أو داجه وَغْرا وهوجاً. أفردت له فصلاً فيه وعددته من القراء الصابرين. ولكون الفارياق في هذا الوقت قد طال لسانه وإن يكن فكره قد بقي قصيراً، ورأسه صغيراً ناقصاً من عند فمحدوته. وقد نذرت على نفسي أن أمشي وراءه خطوة خطوة وأحاكيه في سرته. فإن رأيت منه حمقة جئت بمثلها. أو غواية غويت مثله. أو رشداً قابلته بنظيره قابلته بنظيره وإلا فإني أكون خصمه لا كاتب سيرته أو ناقل كلامه. وينبغي أن يعلق هذا الحكم في أعناق جميع المؤلفين. ولكن هيهات فأني أرى أكثرهم قد زاغ عن هذه المحجة. إذ المؤلف منهم بينا هو يذكر مصيبة أحد من العباد في عقله أو امرأته أو ماله إذا به تكلف لا يراد الفقر المسجعة والعبارات المرصعة وحشى قصته بجميع ضروب الاستعارات والكنايات. وتشاغل عن هم صاحبه بما أنه غير مكترث به. فترى المصاب ينتحب ويولولول ويشكو ويتظلم. والمؤلف يسجع ويجنس ويرصع ويروي ويستطرد ويلتفت ويتناول المعاني البعيدة. فيمد يده تارة إلى الشمس وتارة إلى النجوم. ويحاول إنزالها من أوج سمائها إلى سافل قوله. ومرة يقتحم البحار. وأخرى يقتطف الأزهار ويطفر في الحدائق والغياض. من أصل إلى فرع ومن غوطة إلى ربوة. ما ذلك دأبي فإني إذا أوردت كلاماً عن أحمق انتقيت فيه له جميع الألفاظ السخيفة. وإذا نقلت عن أمير تأدبت معه في النقل ما أمكن. فكأني جالس بمجلسه. أو عن قسيس مثلاً أو مطران أتخفته بجميع اللفظ الركيك والكلام المختل. لئلا يصعب عليه المعنى فيفوت الغرض من تأليف هذا الكتاب. فأعلم إذاً أن الفارياق بعد أن فار دماغه بحرارة النمو زيادة على ما كان له من الرغبة في النظم سارت ذات يوم لقضاء مصلحة له. فمر في طريقة على دير للرهبان. وكان الوقت مساء. فرأى أن يبيت ليلته تلك في الدير فعرج عليه وطرق الباب فبرز له رويهب. فقال له الفارياق هل من مبيت عندكم لضيف فقال له الرويهب. أهلاً به إن لم يكن ذا سيف. ففرج الفارياق بهذا الجواب وعجب من أنه يوجد في الدير من يحسن المساجلة. وإنما قال له الروية بما قال لأن الدير كان ينتابه كثير من أتباع الأمير ليبيتوا فيه منكل سرطم قهقم لهم نهم وحم وخم هقم يسمع له هيقم. فكان أحدهم إذا بات ثمّ ليلة يكلف الرهبان من المطاعم الفاخرة ما لم يعهدوه. لأن هؤلاء الخلق يعيشون عيشة المتقشفين المقترين المتبلغين بأدنى القوت. إذ هم ينظرون إلى الدنيا وإلى لذاتها نظر العدو. فهي عندهم ضرة الآخرة. كلما تباعد عنها الإنسان المخلوق فيها تقرب إلى الجنة. حتى أن الخبر الذي كثيراً ما يأكلونه بغير إدام ليس كخبز الناس. فإنهم بعد أن يخبزوه رقيقاً يشمسونه أياماً متوالية حتى يجف وييبس بحيث يمكن للإنسان إذا أخذ بكلتا يديه رغيفين وضرب أحدهما بالآخر أن يخيف بقرقعتهما جميع جرذان الدير. أو أن يتخذهما متخذ الناقوس الذي يضرب به لأوقات الصلاة. ولا يقدرون على أكله إلا منقوعاً بالماء حتى يعود عجيناً. فأما تقلد تابع الأمير بالسيف فإنما هو تهويل وإنذار بنكال المتهاون به. كتهويل الفارياق على الرويهب بسؤاله. ومن لم يكن له سيف استعار سيف صاحبه. أو أتخذ له خشبة رقيقة في غمد سيف. وليس في استعارة الماعون وغيره عند أهل الجبل من عار بل كثيراً ما يستعيرون حلياً ومعروضاً للعروس يزفونها به وللرجل ثياباً وعمامة يزينونه بها.

ثم أنه لما حان وقت العشاء جاء ذلك الرويهب بصحفة من العدس المطبوخ بالزيت وبثلاثة أصنج من ذلك الخبز وجعلها بين يدي الفارياق. فجلس للعشاء وتناول رغيفا ودقة بالآخر حتى انكسر. فلما التقم أول لقمة نشبت شظية من الخبز في سنه وكادت أن تذهب بها. فجعل يسندها ويسد موضع الخلل منها بالعدس. ولم يكد يتم العشاء حتى اشتدت حرارة العدس في بدنه فجعل يحك بأظفاره وببعض قصد الرغيف حتى تهشم جلده. فساءه ذلك جداً. وقال لقد خلخلت هذه الكسرة سني فلأقلعن سناً من أسنان هذا الدير. ثم إنه اعمل فكرة في نظم بيتين في العدس تشفيا مما ناله منه جريا على عادة الشعراء من انهم يتشفون بعتابهم الدهر مما هم فيه من النحس والقهر والشقاوة والضر. فالتبست عليه لفظة فقام في طلب القاموس فطرق باب جاره وكان من المتحمسين في الدين. فقال له هل عندك يا سيدي القاموس. قال ما عندنا بالدير جاموس بل ثيران. فما حاجتك به الآن. فطرق باب آخر وكان أشد منه خشونة. فقال له هل لك ان تعيريني القاموس ساعة قال اصبر عليّ إلى نصف الليل فإن الكابوس لا يأتيني إلا في هذا الوقت. فمضى إلى غيره وأعاد عليه السؤال. فقال له أي شيء هو هذا القاموص يا ماغوص فرجع إلى صومعته وقال. لابد من نظم البيتين. وسأترك محلا فارغا للفظة فقال: أكلت العدس في دير مساء ... فبث وبي أكال لا يطاق فلولا أنني أعملت ظفري ... لقال الناس ... الفارياق فلما كان نصف الليل والفارياق نائم إذ بأحد الرهبان يقرع عليه الباب. فظن أنه أتاه بالكتاب المطلوب. ففتح له وهو مستبشر بوجدان ضالته. فقال له الراهب قم إلى الصلاة اقفل الباب واتبعني فتذكر عند ذلك ما قاله له جاره من أن الكابوس لا يأتيه إلا في نصف الليل. فقال في نفسه لقد صدق الرجل فإن هذا الداعي أشد على النائم من الكابوس. قبحا لها من ليلة شؤمي لقد كاد الخبز يقلع سني والعدس منافي بالحكة. وما كدت الآن أغفى حتى أتاني هذا القارع الأقرع النحس يدعوني إلى الصلوة أكان أبي راهباً وأمي راهبة أم وجب على الشكر والصلاة من أجل أكلة عدس؟ ولكن سأصبر إلى الصباح.

فلما كان الغد جاءه ذلك الرويهب ليسأله عن حاله إذ كان قد دخل الدير مذ عهد غير بعيد فكان فيه بقية رقة ولطف. فقال له الفارياق سألتك بالله أن تجلس عندي قليلاً. فلما جلس قال له قل لي فديتك أفي كل يوم أنتم تفعلون هذا. فوجم الرويهب فظن به سواء ثم قال أي فعل تعني. قال أكلكم العدس مساء وقيامكم في نصف الليل للصلاة. قال نعم ذلك دأبنا في كل يوم. قال ما الذي أوجبه عليكم. قال التعبد لله والتقرب إليه. قال أن الله تبارك وتعالى لا يهمه أن كان الإنسان يأكل عدسا أو لحما. ولم يأمر بذلك في كتبه. إذ ليس فيه مصلحة لنفس الآكل أو المأكول. قال هذا دأب النساك العباد إذ التقشف في المعيشة ونهك الجسم بالرديء من الطعام وبقلة النوم ينفي الشهوات. قال لا بل هو مناف لما شاءه الله. إذ لو شاء أن ينهك بدنك ويخليه من الشهوات لخلقك ضاويا دنفا. ما قولك في من خلقه الله جميلا. أيجوز له أن يشوه وجهه بأن يبخق عينه أو يخرم أنفه أو يشرم شفته أو يقلع أسنانه كما أردتم قلع أسناني البارحة بخبزكم هذا اليابس. أو أن يسخم سحنته. قال في ظني أنه لا يجوز. قال أليس البدن كله على قياس الوجه. لعمري ما خلق الله الساعد الفعم إلا وهو يريد بقاءه فعما. ولا الساق المجدولة إلا وشاء لها أن تكون كذلك دائما. ولا حلل الطيبات من المآكل للناس إلا وهو يريد أن يأكلوها هنيئا مريئا. نعم قد حرم هذه الطيبات بعض الأديان المشطة. غير أن دين النصارى يحللها. وإنما جاء التحريم من بعض شهارب طعنوا في السن فلم يكن بهم قطم إلى اللحم ولا إلى غيره. ما المانع تناوله كل يوم؟ قال لا ادري وإنما سمعت علماءنا يقولون ذلك فقلدتهم. وأني أقول لك الحق أني مللت من هذه العيشة. فإني أرى جسمي كل يوم في ذبول ونفسي في انقباض. ولو كنت عرفت من قبل ما أصير إليه لما سلكت هذه الطريقة غير إن أبي وأمي فقيران وخشيا أن أكون من ذوي البطالة والتعطل، إذ لا صنائع نافعة في بلادنا يمكن للإنسان أن يتعلمها ويعيش منها فزينا لي الرهبانية. وقالا لي إذا واظبت على طريقة في الدير بضع سنين فربما ترتقي إلى رتبة عالية فتنتفع نفسك وإيانا وما زالا بي حتى أجبتهما ولو لم أجبهما طوعاً لأكرهاني على ذلك. فقال له الفارياق نعم أن الرهبانية هي ملجأ من البطالة فكل من كان عطلاً عن علم أو صنعة يقصدها إلا انك مازلت مثلي حدثا فيمكن لك أن تقصد أحدا من أهل الخير والشفقة فيدلك على ما ينفعك. والله تعالى خلق الأشداق وتكفل لها بالأرزاق. وقد جعل في الحركة بركة هذا وأنت تعلم أن الرهبانية مشتقة منالرهبة وهي خوف الله تعالى. فإذا تعاطيت حرفة وعشت بها بين الناس وتزوجت ورزقت ولداً وخشيت الله فأنت حق راهب. ليست الرهبانية بأكل العدس والخبز اليابس. أليس إن رهبان ديرك بينهم من الخصام والطعن والحقد ما لا يوجد عند غيرهم. فإن رئيسهم لا يزال يحاول إذلالهم وإخضاعهم له. وهم لا يزالون مدمدمين عليه شاكين منه. وبينه وبين رؤساء الأديار الأخرى من الحسد والمنافسة ما بين وزراء الدول. وأكثرهم ينال الرئاسة بالتملق للأمير الحاكم أو للبطرك. فإذا أحس بوشك انقضاء مدته وخشي العزل رأيته يجود بالهدايا والتحف لذوي الأمر والنهي بما لا يجود به أكرم أهل بلادنا. وذلك حتى يقروه على رئاسته. وهؤلاء الرهبان المكرهون على التبلغ بالعدس وعلى التنحس إذا دعاهم أحد لمأدبة سمعت لاستراطهم دويا. فيلفلفون ويلعمظون ويتلمظون ويتكظكظون ويشتفون حتى تجحظ عيونهم. وأضر ما يكون عليّ منهم انك لا تكاد تسلم على أحد منهم إلا ويمد لك يده لتبوسها. ربما كانت نجسة قذرة. فكيف الثم يد من هو أجهل مني ولا غناء عنده في شيء. انظر كم عندنا في بلادنا من دير وعلى كم تشتمل هذه الأديار من الرهبان. ولم أر أحداً منهم نبغ في علم ولا من أثرت عنه مكرمة. بل لا تسمع عنهم إلا ما يشين الإنسان في عقله وعرضه.

مقامة

قد كنت في خدمة بعير بيعر مدة فرأيت أحد هؤلاء الكارزين قد تمكن من ابنته تمكن الزوج من امرأته. فكان يقول لها فيما يسألها عنه هل تتمجمج أليتاك ويترجرج ثدياك؟ فما للراهب ولترعد ألا يا النسوان ورجرجة أثدائهن!؟ وآخر كان رئيسا في دير فعلق بنتا في قرية بالقرب من الدير فلم تلبث أن علقت منه. غير أنه لما كان أخوه وجيها عند الحاكم خاف أبو البنت من أن يخاصمه ويفضحه. بل قد تقرر في عقول الجهلاء من أهل بلادنا أن إفشاء أمر مثل هذا مما يفتضح به عرض أحد هؤلاء النساك حرام. أيم الله أن الستر عليه حرام فإن فضيحته تردع غيره. وأعرف آخر جاء إلى قريتنا متماوتاً وقد طول كمية وأسبل قلنسوته حتى لم يكد يظهر من تحتها إلا فمه ولحيته وتظاهرا بالصلاح والتقوى. ثم أنزل نفسه منزلة خطيب في القوم. فجعل يخطب ويعظ وينذر بصوت جهير. وكان يبكي عند ذلك أشد البكاء ويذرف المدامع إذ كان جعل في منديله الذي يمسح به وجهه شيئاً ذا حرتة لا أدري ما هو. ثم آل أمره إلى أنه يقضي أياماً وليالي مع أرملة حسناء شابة من نساء الأمراء في خلوة استذراعا بأنها تعترف له اعترافا عاما. أي من يوم انتفخ ثديها ونبت شعرها إلى ذلك اليوم. وأعرف آخر كان قد ذهب إلى رومية وكان مغفلا فكان ينام في فراشه بثيابه الرهبانية على طريقته في الدير ويوسخ الملاءة. فكان صاحب المنزل ينهاه عن ذلك. ثم لما رأى أن جميع قسيسي رومية وأعيان أئمتها من البابا إلى الكردينال إلى الراهب ينامون عريانين لا شيء يستر سوءتهم غير ملاء. الكتان الرفيع كفر بهم وصار يستحل الحلال والحرام معاً. فانظر إلى هؤلاء العباد من العباد فإنك لا ترى فيهم إلا خبيثاً منافقا. أو جاهلا مائقا. وندر وجود الصالح بينهم. أما العلم فهو محرم عليهم كلهم. لا بأس في الرهبانية تطوعاً لا بأس إنما هي طريقة محمودة. ولكن بشرط مجاوزة الخمسين سنة. وإن يكون الداخلون فيها من أهل الفضائل والمعارف. يشتغلون بالعلم وبتهذيب إملاء إخوانهم ومعارفهم. ويحضون على مكارم الأخلاق والاتصاف بالمزايا الحميدة. ويؤلفون الكتب المفيدة وينهجون لقومهم المناهج المؤدية إلى الخير والفلاح والفوز والنجاح. لا مثل هؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً من الدنيا سوى التقشف والرثاثة. وناهيك دليلا على جهلهم أني سألت أشدهم تحمسا أن يعيرني القاموس فظنه الجاموس. وآخر ظنه الكابوس. وآخر القاموص. فبادر يا صاح وتخلص منهم هداك الله وإلا فتكون لا من أهل الدنيا ولا من أهل الآخرة. فإن دين الجاهل عند الله ليس بشيء. وإذا بلغت الستين سنة فيها هي الرهبانية بين يديك. فقال له كيف التخلص. قال ألك في الدير متاع فأساعدك على حمله. قال مالي سوى ما تراه عليّ. قال فامض بنا إذا فإن الرهبان الآن عاكفون على الصلاة. فخرجا من باب الدير ولم يعلم بهما أحد. فلما بعدا قليلا هنأ الفارياق صاحبه بخروجه من ربقة الجهل وقال له. لعمري لو كنت كلما أكلت أكلة عدس خلصت راهبا أو رويهبا أو بالحري راهبة أو رويهبة لوددت أن لا آكل الدهر غيره وإن أكل بدني. فجزى الله الدير خيراً. مقامة مقامة في الفصل الثالث عشر قد مضت عليّ برهة من الدهر من غير أن أتكلف السجع والتجنيس واحسبني نسيت ذلك. فلا بد من أن أختبر قريحتي في هذا الفصل فإنه أولى به من غيره. إذ هو أكثر من الثاني عشر وأقل من الرابع عشر. وهكذا أفعل في كل فصل يوسم بهذا العدد حتى أفرغ من كتبي الأربعة. فتكون جملة المقامات فيما أظن أربعاً فأقول.

حدس الهارس بن هشام قال أرقت في ليلة خافية الكوكب. بادية الهيدب. طويلة الذنب ملأى من الكرب. إلى الكرب. فجعلت أنام على ظهري مرة وعلى جنبي أخرى. وأتصور شخصا ناعسا أمامي يتثاءب وآخر ينخر نخرا. وآخر يتهوم سكرا. فإن التصور فيما قالوا يبعث على فعل ما ترغب النفس فيه. وينشط إلى ما تصبو إليه وتشتهيه. ومع ذلك فما اكتحلت غمضا. ولا فتح فمي تثاؤب طولا ولا عرضا. وكان يخيل لي أن أهل الأرض كلهم رقود وأنا وحدي من بينهم ارق. وإن جميع جيراني في سكون وأنا دونهم قلق. فقمت إلى الشراب فحسوت منه حسوة. فلم تك إلا غفوة. كإنما كانت هفوة. فأفقت في أسوأ حال. وشر بلبال. والهموم قد انثالت عليّ من كل جانب. والأفكار متطايرة على كل مقارب ومجانب. فكان يخطر ببالي كل ممكن ومحال ويعاودني ما كنت فكرت فيه من الأحوال مرة منذ أحوال. فلما علمت أن النوم قد ند عني. وإن تناومت. وأنه لابد من ترقب الفجر أن أذعنت وأن قاومت. مددت يدي إلى كتاب أطالع فيه. وقلت إن لم ينمي فينبهني ببعض معانيه. فتناولت أقرب ما وصلت إليه يدي. وأنا غير مؤثر أحد الكتب على غيره في خلدي وإذا به كتاب موازنة الحالتين. وموازنة الآلتين. للشيخ الإمام العالم العامل. الفاضل الكامل. أبي رشد نهية بن حزم. المشهور بالبلاغة في النثر والنظم. وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد من المؤلفين. ولم يجاره فيه كاتب من المجلين. فقد وازن فيه بين حالتي بؤس المرء ونعيمه. وروحه وهمومه. ومنافعه ومضاره. وأحزانه ومساره. منذ كونه طفلاً. إلى أن يصير كهلا. ثم شيخنا قحلا. وقد جعل ذلك في جدولين متقابلين. وأسلوبين متفاضلين. إلا أنه لما الشيخ قدس الله سره. ورفع في أعلى عليين مقامه وقدره. على ما يظهر لي ذا عشية راضية. وسعادة وافية. وهمة ماضية. رجح طرف اللذات على غيرها. واستقل شر الحياة بالنسبة إلى خيرها. حتى أنه زعم أن اللذة تكون عن الفعل والتصور معاً. بخلاف الألم فإن الفكر لا يقع منه موقعا وأنه كان إذا امتثل خودا يداعبها وتداعبه. هزته نشوة طرب مال بها سريره ومركبه وكلكله ومنكبه. بيد إني ارتبت في كلامه في هذا المحل. وقلت سبحان الله لا بد لكل مؤلف من هفوة وإن جل. وذلك إني لما تصورت الشخص المتهوم. والناعس والمتثائب وأنا متناوم. لم يغنني التصور عن الفعل نقيراً. ولا وجدت فيه لذة لا قليلا ولا كثيرا. على أني أذهب إلى ما ذهب إليه بعض المجانين. من أن لذة اليوم لا تكون قبله ولا معه ولا بعده للنائمين. وهي عقدة للطبائعيين لا يمكنهم حلها بلسانهم وأفكارهم. ولا بسنانهم وأظفارهم. غير أن عبارة المصنف كانت من العلم والحكمة بحيث تخلب عقل الناقد الخبير. وتربك في تحري أحد القولين كل نحرير فلما أطلقت النظر فيهما وعاد إلي كليلا وأعلمت حد النقد ورجع مفلولا. عزمت على أن أسجل هذه الأشكال. من بعض ذوي الدراية والجدال. فقلت في نفسي كما أن يدي نالت أدنى الأسفار. كذلك يكون مراوحي عليه أدنى الجار. وكان يسكن بالقرب مني مطران يطري قومه على حليته. ويعظمون فضله وأدبه على طوال لحيته. فقصدته ضحوة النهار. بادي الاستبشار. فرأيته ذا بكلة تروق. وبزة تشوق. فعرضت عليه الجدولين وقلت افتني في هذه القضية. ولك الأجر من رب البرية. فنظر فيهما ثم حرك رأسه. وجعل يرمش ثم يشكو نعاسه. وقال لي ما ترجمته إذ لم يكن ممن تسمو إلي السجع همته ما لحنت مغزاهما. ولا دريت فحواهما ولو كانا بعبارة ركيكة. كان ذلك عليّ أسهل من الجلوس على هذه الأريكة. فقلت أخره في العلم والثقف. تقدمه في الصف. ونقص من عقله وفهمه ما زاد في لحيته وكمه. فلا ستعملن بعده أكثر الناس حمقا وهوجا. وما ذلك إلا معلم الصبيان الهجا وكان في البلد من اتصف بهذه الصفة. وهو مع ذلك ذو كبر وعجرفة. فقصدت محله. وألقيت عليه المسألة. فإذا به قام يصفق بيديه. ويراريء بعينيه. ويقول لقد سقطت على الخبير. واهتديت برأي بصير. إن شئت أن تعرف أي القولين أرجح. وأصدق وأصح. فزن الجدولين دون جلد الكتاب في ميزان. فما رجح منهما فهو الراجح ما اختلف في ذا اثنان. فقمت من عنده غضبان نادما. ولعنت الأرق الذي كان السبب في أن أكون لمعلمي الصبيان مكالما. بعد أن قرأت في غير كتاب وسمعت من ذوي الألباب. أنهم اسخف خلق الله عقلاً. وأكثرهم جهلاً. وأبعدهم عن الفهم وأسفهم إلى الوهم.

سر الاعتراف

فسرت في ذلك اليوم. إلى فقيه من جلة القوم. قد كبر عمامته وكورها. ووسع جبته وزورها. فقلت افتني أيها الفاضل الأحذق. أي القولين عندك أحق وأصدق. فقال أما إذا جئتني مستنفيا. ورمت أن تكون برأيي مستهديا. وبطريقي مقتديا. فإني أقول لك بعد التروي في هذا المذهب المتحوي أنا معاشر الفقهاء من أهل الكلام. القائمين بأحكام الأحكام. وتبيين المتشابه بين الأنام. وان من دأبنا إظهاراً للحق أن نسهب في التعليل. ونكثر من قال وقيل. إِذ لا بد من انتشاء عرف الصواب من الإسهاب. ومن الاهتداء إلى بعض المذاهب. بفرض المستحيل وجعل المعدوم كالموجود الواجب. فعندي أنه لا بد من عد ألفاظ القولين. وإحصاء حروف الجدولين. فما كان منهما اكثر حروفا فهو أرجح وأحسن تأليفا. والله اعلم. ففصلت من عند الفقيه كما فصلت من عند صاحبه السفيه. وقلت إنما اللوم على مستفتيه. ثم قصدت شاعراً كنت أعهده يتلهوق ويتشدق. ويتفصح. ويتمدح. ويتبجح ويتزنح، وقلت له هاك ما تحرز عليه أجراً. ويكسبك بين الناس فخراً فأبن لي أي الأهلوبين أبدع. وبالحق فاصدع قال أما أنا فما لي من خلاق في الدنيا ولا نصيب غير المدح والنسيب. ففي الأول غصتي وفي الثاني لذتي. فاصبر عليّ ريثما أطالع ديواني كله. وأتصفحه جملة. فإن وجدت المديح فيه اكثر من الغزل. كان الخير في الدنيا اقل. فألحقته بصاحبيه الفقيه والمعلم وقلت كم من متكلم مكلم. ثم سرت إلى كاتب الأمير. وكان مشهوداً له بالتحري والتحرير. فأثنيت عليه قبل السؤال مطرئاً. وقلت لم يكن غيرك في ذا مجزئاً. فقال إن سعادتي في الكون هي أن أرضى عن أميري ويرضى عني. وشقاوتي هي أن أغضب منه ويغضب مني. وقد نسيت كل ما جرى عليّ من الغضب والرضى. لكثرة المشادة والمقتضى فإن صبرت عليّ في المستأنف شهراً. لأقيد في دفتري ما ألقاه منه حلواً ومراً. ونفعا وضراً. أفدتك الجواب فاقبل عذراً فصيرته رابع الثلاثة. وقلت لأستشيرن ذا حداثة. فإن أهل المراتب والمناصب قد ذهبت صدارتهم بألبابهم. فلم يبق فيهم خير لقارع بابهم. فجئت الفارياق وهو مكب على النسخ. وفي طلعته مبادئ المسخ. فقد رأيت عينيه غائرتين. ويديه ذاويتين. وعظم خديه نانئاً. وجلده كالظل زائناً. حتى رثيت لحالته. وكدت امسك عن الكلام إشفاقا من بطالته. لكنه لما رآني قام إلي. ثم أقبل عليّ. وقال هل من خدمة اقتضيت سعيي. أو نجوى أو جبت وعيي. فقلت قد أقدمني كذا وكذا. فاكفني ذل السؤال كفيت الأذى. فأخذ رقعة من تحت أسمال. وكتب فيها في الحال أتيتني مستفتياً في أمر ... يعلمه كل امرئ ذي حجر الخير إن قابلته بالشرّ ... في العمر كان قطرة من بحر ألا ترى الأجرب كيف تسري ... عدواه في جميع أهل المصر وليس من ذي صحة ويسر ... عدوى لمن داناه طوال العمر والطفل إذ يثغركم من ضر ... يلقي ويلقىَ عنده في قبر وعند إشعار ونبت ظفر ... ليس له من لذة وسر وكل عضو لقبول الكسر ... أقرب منه لقبول الجبر وما فساده سريعاً يزري ... كالعين لن تصلحه في دهر ونعي طفل لأبيه يفري ... فؤاده وكل عظم يبري وليس في مولده من بشر ... ندّ لحزن موته الأضرّ وما تكون لذة عن فكر ... إذا تحققت ولا عن ذكر وإنما ذا هوس قد يجري ... في خاطر المغفل المغتر فهل تصور الشفاء يبري ... ذا مرض أمرض منذ شهر وهل لمن يبرد وقت القرَّ ... دفء بتذكار أوان الحرّ فليس دنيانا لأهل الخبر ... سوى بلاء دائم وخسر يولد فيها العبد غير حرٍ ... وهكذا يموت رغما فادر قال فلما أخذت الرقعة وتأملت فيها. وتحققت معانيها. علمت أن قوله هو الأسد. وإن قول غيره هذيان وفند. فقلت له بورك في زمن جاد بمثلك. وهدى المستفيدين إلى رشدك وفضلك. وقبحا لأهل الثرا إذ لم يحلوك ارفع الذرى. ثم انصرفت من عنده داعيا ولما قاله واعياً. سرّ الاعتراف

هجع هجع الحمد لله. الحمد لله قد تخلصت من إنشاء هذه المقامة ومن رقمها أيضاً فأنها كانت باهضة. ولم يبقَ لي همّ منها سوى حث القارئ على مطالعتها. وهي وإن تكن خشنة غير مهلهلة كسجع الحريري إلا إنها تلبس على علاتها. وتحمد لإفادتها. وفي ظني أن الثانية تكون أحسن منها. والثالثة أحسن من الثانية. والرابعة أحسن من الثالثة. والخمسين أحسن من التاسعة والأربعين لا من هذا التهويل والتهويل لا تخف. إنما هي أربع لا غير كما وعدتك. والآن ينبغي أن أعصر يافوخي لا ستقطر منه أفكاراً ومعاني حسنة وألفاظاً رائقة مع تجنب الثرثرة. فإن العلماء يسمون ذلك فيما أظن إخلاء. ولكن قف هنا حتى أسألهم. ماذا تسمون الكلام الذي يتدفق بالمعاني ويبلّ قارئه حتى آتيكم به. فإن لم تسموه لي حالاً فلا تلوموني على نقيضه. فإني أنا من الموجود ودأبي أن أبحث عنه لا عن المعدوم. ولما كان اسم الإخلاء موجوداً ونقيضه معدوماً ناسب أن أعدل إليه عن غيره. إلى أن تتواطئوا على اسم ولكن لا بالخناق والتناوش. والنقار والتهاوش. وبالجلاد والجدال. وبالتماسك بالجيوب والأذيال بل بالرزانة والوقار. والأوان والاستبصار. فإن الرزين إذا وضع اسماً لشيء جاء ذلك الاسم رزيناً مثله. فلا يمكن بعد انتقاله إلى آخر. بل ربما وقر بالاسم المسمى وإن يكن مما اتصف بالخفة والطيش. ألا ترى أن كلام الشاعر الرقيق يأتي رقيقاً. وكلام الضخم يأتي ضخماً. كما قيل كلام الملوك ملوك الكلام. وشعر المرأة يأتي خالباً للعقول لاعباً بالألباب مثلها. ويستثنى من هذه القاعدة وضع الولد من قبل أبيه أي مادة توزيع الولد. لا أن الأب يحبل ويلد. وذلك أن الوالد قد يكون قبيحاً ويأتي ولده صبيحاً. وسببه أن الإيلاد لما كان من الأفعال التي لا تتم إلا بمشاركة اثنين أعني رجلاً وامرأة إذ التغليب هنا لا يخلو أيضاً من الإبهام. لم يكن للوالد مطلق التصرف في تهيئة ولده كما شاء. فقد يكون هو عند ذلك مقدراً له شكلاً ارتضاه وتكون أمه حرسها الله مقدرة له شكلاً آخر بحسبما استحسنته وخلع صدرها إذ ذاك. فيأتي الولد خنفشارياً. لا يقال أن الرجل لا يستحضر عند ذلك صورة معلومة لذهوله بشاغل المادة. فإن ذلك لا يصدق على من ألف شيئاً واحداً بخصوصه. فإن طول ألفة الإنسان لشيء تعدل هواه فيه فيباشره برشده وروية. فمثله كمثل الطباخ الشبعان يطبخ خضض الطعام بإتقان وإحكام بخلاف الجائع فإنه يلهوج عمله ويلهوته.

فاعلم إذاً بعد هذا الاستطراد البديع. والعضال المُجيع. أن الفارياق ذهب ذات يوم إلى بعض القسيسين ليعترف له بما فعل وفكر. وقال من المنكر. فقال له القسيس فيما سأله به: قد سمعت عنك إنك كلف بالنظم وبالألحان وهما من أعظم أسباب الفساد والغرام. فهل سول إليك الخناس أن تتغزل في الشعر بامرأة قاعدة النهد. مورَّدة الخد. بينة الكحل. مرتجة الكفل. نحيلة الخصر. مفلجة الثغر. عثلة الساقين. مجدولة الساعدين. سوداء الشعر والحلمتين. نجلاء العينين. مخضبة الكفين. رقيقة الشفتين. مزججة الحاجبين. مدورة السرَّة. ذات عكن مفترة. حلوة الابتسام. مهفهفة القوام. لها رُضاب عذب. ونكهة تسكر الصبَّ. قال قد فعلت ذلك لكني أن أراك إلا حريفي في هذه الصنعة. فقد رأيتك تحسن وصف الحسان أي إحسان. قال ليست حرفتي تلفيق الكلام. وإنما هو شيء عرفته بالقياس والإلهام. فأنكل من تعاطى النظم يملأ دماغه بهذا الوصف المحرَّم. وكيف كان فلا بد من أن تحرق غزلك كله، بالتفصيل والجملة. فإنه يبعث الإغرار على المعاصي. فتجزى به يوم يؤخذ بالنواصي. وتعز التفاصي. قال كيف أحرق في ساعة واحدة ما سهرت فيه ليالي متعددة حرمت فيها من الكرى. وكابدت بها جهداً ولا جهد الشَّرى أو السُّرى. فكنت إذا نظمت البيت من القصيدة يخيَّل إليَّ إني قطعت مرحلة إلى محل المتغزل بها. وعند تمام القصيدة أتصور أني وصلت إليها ولم يبق بيني وبينها سوى فتح الباب. فكان الختام عندي افتتاحاً خلافاً لجميع الشعراء. ولذلك لم أكن أقصد القصائد الطويلة خشية أن تطول عليَّ المسافة بطولها فهل من الرأي السديد أن يحبط عملي كله من أجل الإغرار. وبعد فإني لا أريد أنهم يقرءون كلامي لأنهم أن لم سألوا عنه أهل العلم فيذمه هؤلاء ويخطئونني ويفندونني. إذ لا يرون في كلام الصغير الوضيع حسناً. إن استحسنوه لم يكن جزائي منهم إلا قولهم أخزاه الله وقاتله الله وثكلته أمه ولا أب له ولا أم له. قال أن أبيت إلا الإصرار على العناد. والزيغ عن جادة الرشاد. أمسكت عنك مغفرة ذنوبك. ونددت في الكنيسة بعيونك. قال لا تعجل فإن العجلة من الشيطان. أرأيتك لو مدحتك بقصيدة طويلة تجعلها كفارة عن الذنب. وإن شئت أن أمدح فيها أيضاً جميع الرهبان والراهبات والعابدين والعابدات والزاهدين والزاهدات والناسكين والناسكات والقانتين والقانتات والمفردين والمفردات والمغبرين والمغبرات والمذكرين والمذكرات والذاكرين والذاكرات والمتقين والمتقيات والمتبتلين والمتبتلات والمتهجدين والمتهجدات والساجدين والساجدات والمخبتين والمخبتات والمسبّحين والمسبّحات فعلتَ. فكر ساعة وكأنه رأى أن ليس في التغزل كبير إثم. فإن وصف المرأة مثلا بضخم الكفل وفعومة الذراع وتدملك الثدي إذا كانت في الواقع كذلك إنما هو من قبيل قول القائل البدر طالع عند طلوعه أو السحاب منقشع عند انقشاعه. وإنما يكون افتراء وإنما إذا وصفت بذلك وكانت مسحاء مرداء وكانت تتخذ الحشايا لتحسب عجزاء فصدقها ناظرها في ذلك وقال فيها ما قال مجازفة. فلما تدبر الأمر ورازه بعقله قال. لا ينبغي أن تتخذ مدحي كفارة فأني أخشى أن تمسك بي ولا تعود تطلقني. إذ أرى من قوافيك في الفاعلين والفاعلات إنك مُسَكة عُلقة نشبة لزمة. وإنما تمدح أولياء الله والربانيين الصالحين الذين زهدوا في الدنيا رغبة في الآخرة لوجه الله ولبسوا المسوح ولزموا السهر في طاعة الله وداوموا على التقشف حباً بالله. فمنهم من لم يأكل مدة حياته إلا العدس والخبز جافاً صلباً. فقال الفارياق وأعقبه أيضاً كسر سن وحكة. قِف قِف. قد نسيت أن أذكر لك شيئاً أخطره الآن ببالي العدس. وذلك إني تسببت مرة في إخراج رويهب من ديره وتركه الطريقة، وإنما الذي أغراني بذلك ما قاسيته فيه ففعلت ما تشفياً. فقال ذنبك في التشفي وهو ضرب من الانتقام أكبر من ذنبك في إخراج الرويهب. فإن أكثر الرهبان لا فائدة من إقامتهم في الدير لا لهم ولا لغيرهم. وما عدا ذلك فقد يحتمل أن هذا الرويهب يتزوج ويجعل من ولده رهباناً كثيرين. ولكن إذا مدحت الراهبات فأحذر من أن تذكر لهن أثداء وأعجاز إذ لاشيء لهن من ذلك. فأن طول الاعتكاف والاحتجاب قد صيرهن مخالفات لسائر النساء. ونحن معاشر العباد أعلم بهن. فقال له الفارياق سألتك بالله معبود أهل السماوات والأرض هل جميع القسيسن

قصة القسيس

مثلك في الظرافة والدعابة. قال لا أدري وإنما أدري إني أنا وحدي شقيت بما عرفت وإني لو بقيت جاهلاً مثلهم لكان خيراً لي أن من الجهل لراحة. فقال له وكيف ذلك. قال أعندك للسر مكان حريز. قال أن سري من دمعي فلا أبوح به. قلت بل باح به الآن قال أتريد أن أقص عليك قصتي. قال أكرم بها قال أصخ سمعا. قصة القسيس

ثم طفق يقول. اعلم إني كنت في مبدأ أمري حائكاً. ولما شاء الله تعالى من الأزل أن يخلقني قبيحاً وقصيراً. حتى أن أمي عند نظرها إلي كانت تحمد الله على أنه لم يخلقني بنتاً لم أكن أصلح للحياكة. لأن قصري الفاحش مناني غير مرة في حفرة النول بالبهر والخناق. إذ كان جسمي كله يغيب فيها فينقطع نفسي. مع إن منخري بحمد الله يسعان من الهواء ما يكفي خمسين رثة وخمسين كرشاً. وكثيراً ما كان يغشى علي فيها وأوخذ منها على آخر رمق. فلما قاسيت من هذه الحرفة كل جهد وعناء رأيت أن التسبب ببعض ما يرغب فيه النساء أصلح. فاكتريت لي حانوتاً صغيراً وقعدت فيه فكانت النساء يمرون علي وينظرن إلي ثم يتضاحكن. وسمعت مرة منهن من تقول لو كان الظاهر عنواناً صادقاً على الباطن لكان خرطوم هذا التاجر يشفع له في جثته ويروح سلمته فاعتمدت على كلامها وقلت لعل من القبح سعادة. فقد قيل في الأمثال إن من الحسن لشقوة. ومكثت مدة على هذه الحال من غير طائل. فإن أنفي وقف بيني وبين رزقي. وبلغ كبره من الفحش بحيث أنه لم يدع لغير الأباء والأعراض عني موضعاً. فقعدت يوماً أفكر في خلق الله تعالى هذا الكون. وأقول يا لحكمة الله كيف تخلق في الدنيا إنساناً ثم تخلق فيه شيئاً يمنع رزقه وقوام معيشته. ما الفائدة من هذا الأنف الضخم الذي لا يصلح لشيء إلا لأن تضمن فيه إعجاز قفا نبك. ولمَ لم يقور منه شيء ويكور في جثتي. ومالي أرى بعض الناس جميلاً كالملك وبعضهم قبيحاً كالشيطان. ألسنا جميعاً خلق الله؟ أليس سبحانه يعمهم كلهم بعنايته على خد سوى. أليس الصانع الأرضي إذا أراد أن يصنع شيئاً فإنه يتأنق فيه ويتقنه عند استطاعته ويأتي به من أحسن ما يكون. هل يصور المصور صورة قبيحة إلا لكي يضحك الناس من المصور عنه. العل في ضخم الأنف حسناً أو خيراً أو نفعاً ونحن معاشر المخلوقين لا نعلمه. ثم أقوم إلى المرآة وأتأمل وجهي فيها فأنكره ولا أجد فيه موضعاً للاستحسان فأعود إلى مذهبي الأول وأقول: إن كنت أنا لم أستحسن وجهي فهل يستحسنه آخر غيري. على أن الإنسان يرى ذم غيره فيه حسناً ورذيلته فضيلة أترى في الناس من يروق لعينه القبح. فقد يقال أن السود لا يرون في الأبيض منا حسناً. غير أن لون السواد عندهم عامّ فلذلك يستحسنونه. وما أرى غيري من أقلّ أنفاً كأنفي حتى أطمع في أنه يكون مستحسناً. أما اللون فإني لست من البيض ولا من السود بين اللاعنين ألا ليت أهل بلدتي كانوا كلهم مثلي قنافيين فأتسلى وأتأسى بهم. من أين ورثت هذا الجلمود وأنف أبي كان كأنوف الناس. ليت شعري أين كان عقل أبي حين نقر في رأسه فكر إنشائي في هذا الكون وفي أي طود أو طربال أو منارة كانت أمي تفكر ليلة رواحته على هذا العمل. إلا ليتما غشي عليهما تلك الليلة فما أفاقاً. أو فدرا فما أطاقا. أو سحرا فما تاقا. أو سكرا فماقا. وجعلت أجيل هذه الأفكار في رأسي وأصوغها في قوالب مختلفة وأفانين متنوعة. وإذا بامرأة متنقبة أقبلت عليّ وقد نتأ من تحت نقابها شيء شبيه بالقلة. فظننت إنها جعلت حنجور عطر عند أنفها لتشمه عند مرورها على الجيف في أسواق المدينة. فسألتني عن شيء تريد شراءه فسعرته لها فكأنها استغلته فقالت لي أقصد فإن تسعيرك هذا تسعير فقلت لها وأن شراءك لشرى. فضحكت وقالت لقد أحسنت في الجواب ولكنك أسأت في الطلب فراع حقوق الشركة والجنسية فإني شريكتك ورفيقتك. فكان ينبغي لك أن تحابيني قلت أيّ شركة بيننا أصلحك الله وهذه أول خطوة شرفتني فيها الزيارة. فرفعت النقاب وإذا بأنفها الناتئ يضيق عنه وجهها. وكأنه واجه أنفي ليحييه. فخطر ببالي حٍ ما قيل عن ذلك الغراب الذي كان يخمع وألف غراباً مهيض الجناح. وأن أحد الشعراء لما أبصرهما قال ما كنت أدري ما أراده بعضهم يقول أن الطيور على آلفها تقع حتى رأيت هذين الغرابين. ثم أني بعتها أخيرا ما أردت أن تشتريه. وحاولت أن أقبلها قبلة واحدة تعويضا عما خسرته معها فما أمكن لي. لان أنفينا حالا ما بيننا. ثم ذهبت ومكثت أنا على تلك الحال مدة. فلما تحققت أني لا اصلح للتجارة لان النساء لا يشترين إلا ممن كان فرهدا غيسانياً تبركا بجمال طلعته في إنهن يتمتعن بما اشترين من عنده. وتذكراً لذلك النهار السعيد الذي عرفنه فيه. وإني مذ فتحت الدكان لم أبع إلا لتلك الكرنيفية وكان ذلك بخسارة. عزمت على

الرهبانية فذهبت إلى دير ما وقلت للرئيس. وقد أقدمني الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. فإن الدنيا لا تغني عن الآخرة شيئاً. وأن اللبيب من اتخذ دنياه هذه مجازا إلى تلك. إذ لو كانت هذه وطننا الذي شاءه لنا خالقنا لكنا نعمر فيها طويلا. على أنا نرى أن من الناس من يولد فيها ويعيش يوما واحدا فهذا دليل على أنا لم نخلق لها. وأشباه ذلك من الكلام الذي جرى على ألسنة العباد. فقبلني الرئيس وأعتقد في الفضل. واتفق في اليوم القابل أنه حاول التسور على حائط لينفذ منه إلى بعض بيوت الشركاء فدخلت في إحدى عينيه قاصدة من غصن شجرة فذهبت بها. فرجع غضبان وقد تشاءم بقدومي إلى الدير. إذ كان قد ألف التسور قبل مجيئي بمدة طويلة ولم يعرض له شيء قط فمن ثم طردني من الدير فدخلت ديراً آخر واعدت الكلام الأول. فقبلني رئيسه فأقمت ثم أياماً أقاسي فيها من قشف المعيشة والوسخ ما لا يرضي الله ولا أحداً من العالمين. هذا ما عدا ما كنت أرى من عناد الرهبان وتفرق آرائهم. وطعن بعضهم في بعض وشكواهم الدائمة للرئيس من أمور باطلة. وتكبر هذا عليهم وأثرته بأشياء استخصها لنفسه من دونهم. وتنافسهم فيما يهدي إليهم النساء من نحو منديل وكيس وتكة. وزد على ذلك كله جهل الجميع إذ لم يكن في الدير كله من يحسن كتب رسالة في معنى من المعاني. حتى أن الرئيس نفسه أدام الله عزه لم يكن يعرف أن يكتب سطرا واحدا بالعربية وإنما كان يخط هذه الحروف السريانية المعروفة عندهم باسم كرشوني. وكان هذا الجاهل يتبجح بمعرفته لها ويحمل كل من دخل صومعته على إعظامها. حتى أنه كان يدعو أياً ما كان لزيارته. فكانت الأغرار من الرهبان تعتقد أن ذلك من حسن أخلاقه وكرم طباعه. وكان قد كتب بها على بابه سطراً وعلى الحائط سطراً آخر. فكنت حين انظر ذلك اضحك. وهو من غفلته يظن أني أضحك إعجاباً بها. ومن كان خبا مخاتلا من الرهبان على جهله فإن كثيراً من الناس قد جمعوا بين الختل والجهل كان يقترب غليه استجلابا لرضاه بان يقول له وهو حاسر الرأس تواضعا وخشوعا أكرم عليّ يا سيدي بنسخة من خطك اصلح عليها خطي. فكان ذلك من أحسن ما يدل به عليه. فلما اشتد عليَّ الخطب من عشرتهم وخصوصاً من رداءة الطعام أدمدم وأتضجر. فسمعني يوما طباخ الدير أشكو من قلة السمن في الأرز الذي كان يطبخه في بعض الأعياد العظيمة. وكان عتلا زنيما. فاستشاط مني غيظا وحملني على كتفه كما يحمل الرجل ولده ولكن بلا شفقة. ثم ذهب بي إلى ممار الدير وغطسني في خابية السمن وهو يقول. هذا السمن الذي أطبخ به الأرز الذي لم يعجبك يا صاحب الخرطوم. يا سليل البوم. يا نصيب المحروم. يا ابن اللوم. يا أبا الكبائر والجروم. يا رائحة الثوم. يا ربح السموم. يا علجوم. يا منهوم. يا لهوم. يا وخوم. وصب عليّ قوافي كثيرة غير هذه. فبلغ مني تغطيسه عرضي في السب أكثر من تغطيسة رأسي في السمن. فتملصت منه بعد جهد ودخلت صومعتي حتى أغسل وإذا به يطرق الباب ويعج ويقول. لابد من أن أعصر أنفك فقد دخل فيه من السمن ما يكفي الرهبان أياما. ثم أهوى بيديه على منخري كأنهما كلبتا حداد وجعل يعصرهما أشد العصر. حتى ظننت أن قد زهقت نفسي منهما. فإن الأنف وحده دون سائر ثقوب الجسد محل دخول النفس وخروجها خلافا لقوم. ولذلك يقال تنفس الإنسان. فلما شق عليّ ما قاسيته ولم أجد في الدير من أشكو إليه. إذ الرهبان كلهم يتملقون ويتوددون إليه حتى يشبعهم ولو من الثرتم.

تمام قصة القسيس

خرجت من الدير مبتئسا حزينا قانطا وقد ضاقت الدنيا عليّ برحبها. وقلت أين أذهب بأنفي هذا الذي سد عليّ مذاهب الرزق أم أين يذهب بي هو. فخطر ببالي أن أقصد ديراً بعيداً كنت أسمع عن رهبانه انهم صلاح. وإن بعضهم يحسن الخط العربي ويحب الغريب ويكرم الضيف. فتوجهت إليه فلما سلمت على رئيسه وطالعته بما عزمت عليه أحمد رأيي وهش بي. لكنه لم يتمالك أن نظر إليّ نظر المتعجب مني المستعيذ من شؤم تبعة تلحقه من أنفي فمكث في ديره ما شاء الله أن أمكث. تمام قصة القسيس وجعلت من مدة مكثي هناك بادئ بدئ مداراة الطباخ ومساحنته والثناء عليه. فكان لا يحوجني إلى شيء مما يمكن نيله في الدير. حتى أني جعلت جلّ مقامي في المطبخ. وكنت أحسن أيضاً طبخ ألوان من الطعام لا يعرفها هو فعلمته إياها فكلف بي. فكان رئيس الدير إذا استضافه أحد عزيز عليه أو اشتهى لونا من الطعام بخصوصه كلفني به. فكنت أتأنق له فيعمله ما أمكن حتى حظيت عنده. أعني أني كنت أسامره وأجلس بين يديه. ثم أني تلبست بالصلاح والتقوى بين الرهبان. فكنت أسدل قلنسوتي حتى تبلغ قصبة انفي. ويا ليت العادة جرت بان يستر الأنف بها كله. وكنت إذا مشيت أخفض رأسي إلى الأرض ولا انظر يمينا ولا شمالا إلى المحا. وإذا أكلت أو شربت أو رقدت أو مشيت أو غسلت وجهي أخبر عن ذلك كله حامداً لله ومثنياً عليه. فأقول مثلا: قد خرجت اليوم من صومعتي ولله الحمد أو ولله المجد وهي أحب إلى الرهبان. أو تناولت في هذا الصباح مسهلاً إن كان الله تقبل وما أشبه ذلك مما عرف عند المتظاهرين بالتقوى. حتى اعتقد الرهبان فيّ جميعا الصلاح والفضيلة. وكنت أيضاً قد كتبت بعض صلوات ركيكة للرئيس فأعجب بخطي ومدحني على ذلك. ووعدني بأن يرقيني إلى درجة تليق بي. إذ رآني متميزاً عن الرهبان بالعلم وجودة الرأي. وأخص ذلك بكوني غيدارا الغيدار هو السيئ الظن يظن فيصيب.

ثم قدر الله رب الموت والحياة أن مات بعض البلدان البعيدة بعض القسيسين الذين يباشرون خدمة الرعية. أي الذين يأكلون ويشربون في بيوت الناس لا في الدير. واللذين يختلطون برعيتهم خلافا لعادة الرهبان. فإن هؤلاء لا يخالطون الناس إلا عند الضرورة. فتسبب رئيس الدير في أن يبعثني إلى ذلك البلد في مكان القسيس المتوفى أي بدلاً منه لا أني دفنت معه. فلما وصلت تلقاني أهل كنيستي بالإكرام والترحيب. فأبديت فيهم الورع والعفة فشاع فضلي بينهم. حتى أن بعض التجار ممن كان حرمه الله من لذة البنين دعاني إلى منزله لأقيم عنده رجاء أن يفتح الله رحم امرأته بسببي كما تقول التوراة فتلد له البنين. وكانت جميلة رشيقة القد قاعدة النهد. تحب الخلاعة واللهو. والقصف والزهو. سبحان الله ما أحد يذكر النساء إلا ويهيج خاطره للسجع فأقمت عنده مدة في أنعم عيش وجدة. ثم عنّ لي أن أغازل زوجته وأناغيها. وأعاشرها وأراضيها. فأجابت إلى مراودتي. ولم تبال بأرنبتي. فإن من طبع النساء الميل إلى الوليّ. والاستغناء عنه بالقصي. وما أدراك ما اعتذرت به إحدى النساء بقولها قرب الوساد. وطول السواد. فبرزت الدنيا لعيني في أحسن صورة. ونسيت ما لاقيت في الدير من المشاق الكثيرة. وقلت لأعوضنّ عليّ ما دامت فرصة الحظ لي ممكنة. وشوارده مذعنة. كل ما فاتني منه أيام كنت حائكا. وطباخا وناسكا. ثم فرضت علي نفسي أنت قسم لذاتي معها على كل يوم غير مرة. كدأب المتزوج بحرة. وعلى الحاضر. وهو الآن أيضاً في حيز الغابر. بحسب البواعث والبوادر. فبدأت بالعدد. حتى بلغت الأمد. وكان الرجل ذا نية سليمة. وشيمة مستقيمة. فلم يكن يسيء بي الظن. ولا يعوقه عن شغله أمر عن. فترك لنا قطوف اللذات دانية. وكؤوس المسرات صافية. ومن العجب. الذي ينبغي أن يدون في الكتب. إنها كانت تخاصم الخادمة في حضرته وغيابه. وتشتمها بين يديه افحش الشتم منعا لارتيابه. ولم تخش منها تبعة. ولا كانت من طردها جزعة. وقد طردت كثيراً من الخوادم لسبب ولغير سبب. بعد سبَّهن كل السب. وحملهن على الحقد والغضب. وذلك من معجزات النساء وبدعهن الغريب الذي يعمي الرجال عن كنه سره العجيب. والحاصل أنى كنت أعجب بحسنها. كما كنت أعجب من فنها. وأني أقمت معها على هذه الحالة في غاية السر. مفنقاً راتعا ولا حظر ومتزوجا ولا مهر. ثم استأنفت عدداً آخر. أطول من ذاك وأكثر. فلما أبطرتني النعمة. وأمنت من الدهر كل نقمة. نقر في رأسي أن أجمع بين الكافين. فإن بكثرة العين قرة العين. وقلما رأيت من انهمك في الأول. إلا وتعاطى الثاني وما أشبه من العقل. وذلك كالقمار والجبخ والفشخ والمجر والإمجار والندب والخطر والرشق والقرع والنجش والصبن والضغو والغذمرة والمحارضة والمناحبة والمراهنة والمجازفة والمحاقلة والمزابنة والاجباء والمداحلة والمعارضة والمنابذة والمبادة والمباخسة والمغابنة والموالسة والتدليس والتطويش والمقاطرة والمعاومة والمراوضة والمواصفة. فهطهبل وطهفل. ومحل وثطهمل. ودجل وزعفل. وابطل وتخبل. وعرقل وتبهلص وتبهلص وبهصل فاجتمعت برجل كنت اسمع عنه إنه يتعاطى هذه الصنعة. وقد تفرغ لها بجد وبذل فيها وسعه. وأوسع فيها بذله. وعقل بها عقله وفي الجملة والتفصيل. من دون قافية وسجع طويل. تعاطيتها معه انتهى سجع القسيس قال فجعلت انفق فيها ما اجمعه من العجائز والإغرار برسم النفوس والأرواح. وأنا مع ذلك مواظب على الصنعة الأولى. بل كان ذلك داعياً لزيارة هيام كل مني ومن بزيعتي. فإنها طمعت ح في الهدايا والصلات كما هو دأب النساء في كل أمر يحدث لأزواجهن وعشاقهن. فبلغ خبر صنعتي هذه الحديثة للجاثليق. فأرسل يطلب مني المال الذي جمعته. فتعللت له بعلل أباها ولم يرضها. فتسبب في إحضاري إليه وضبط ما كان عندي من متاع وغيره. ولم يشق عليّ فقد ذلك كله قدر ما شقَّ عليَّ انقطاع العدد الذي كنت شرعت فيه في بيت التاجر الصالح.

ثم أني تفلت من عكال الجاثليق بعد مدة كادت أن تنسيني لذات الأيام الغابرة. وخرجت في طلب آخر نكاية لذاك فصرت إلى جاثليق من اشدّ الناس عداوة لجاثليقي القديم. إذ العداوة توجد بين الجثالقة، كما توجد بين الزنادقة. فأقمت عنده مدة ثم خشي عليّ أن يرهقني من ذاك سوء فسفرني إلى بلاد بعيدة في سفينة حرب. فما سرنا بعض ساعات حتى تعطل بعض أدوات السفينة وخشي ربانها أن تغرق بهم. فرجع وقد تشاءم بي وقال لبعض الركاب أنه إنما جرى عليه ما جرى من شمختريتي فتعجب إذ بلغني كلامه جداً. لأن أولئك القوم لا يرتسمون ولا يتشاءمون. ولا يتطيرون ولا يتفاءلون. ولا يتحتمون ولا يتيمنون. ولا يتسعدون ولا يتمسحون ولا يقلدون بعود الشبارق ولا يستعلمون نبت العطف. وما عندهم هقعة ولا لجام ولا عاطوس ولا عاطس. ولا كابح ولا كادس. ولا قعيد ولا داكس. ولا بارح ولا سانح. ولا زجر ولا تحزي. ولا عثيرة ولا عيافة ولا طرق ولا عرافة ولا هجيج ولا كهانة. ولا ابنا عيان ولا تنجي. ولا لمة ولا حفوف. ولا لعطة ولا انتجاء. ولا تشوه ولا تعيد. ولا طلاسم ولا تشهق. ولا عزائم. ولا رقي ولا تمائم. ولا الينجلب ولا تولة. ولا حوط ولا غز. ولا تدسيم النونة ولا شد الحقاب. ولا رسع ولا صخبة. ولا قليب ولا كبدة ولا وجيه ولا سلوانة. ولا سلوان ولا نقرة. ولا مجول ولا مهرة. ولا أخذة ولا عوذة. ولا هبرة ولا رأمة. ولا كحلة ولا هنمة. ولا جلبة ولا صرة. ولا قبلة ولا نشزة. ولا قبلة ولا نفرة. ولا صدحة ولا همزة. ولا زرقة ولا عطفة. ولا فطسة ولا صرفة. ولا غضار ولا كرار. ولا بريم ولا حرز. ولا خصمة ولا رتيمة. ولا اسحم ولا صهيم. ولا تذعب ولا صوت اللوف. ولا هامة ولاصفر. ولا أخذة النار ولا تنجيس ولا لحج ولا انكيس. ولا أس ولا شحيثا ولا طلب ولا تول. ولاسحر ولاماقط. ولا عاضه ولا مستنشئة. ولا نفاثات في العقد ولا صدي. ولا شعبذة ولا نيرنج. ولا شعوذة ولا حابل ولا حاوٍ. ويومئذ أيقنت أن القنافي مكروه عند جميع الأمم. وإن أوقية لحم زائدة في وجه الرجل تشفيه وتحرمه. ورطلين في بتلية المرأة يسعدانها ويفيزانها. فزاد تعجبي من هذه الدنيا المبنية على رطلين وأوقية لحم ومع ذلك فلم يمكن لي الزهد فيها. ثم إني سافرت بعد ذلك إلى تلك البلاد وأمنت فيها من مكر أعدائي. واستأجرت بيتاً واتخذت لي امرأة تخدمني. وقد جرت العادة في تلك البلاد وفي بلاد الإفرنج أيضاً بأن يتخذ القسيسون نساء للخدمة. فتأتي المرأة أحدهم صباحا وهو في فراشه الوثير وتقضي له ما يروم منها. فلما ذقت طيب العيش وسوس إلي الوسواس أن أتزوج بنتاً فقيرة لكنها كانت جميلة غير أني لم أكن على يقين من نهود ثدييها ومع ذلك فقد كلفت بها. فطلبت من الجاثليق أن يزيد وظيفتي فأبى. فألححت عليه وهو مصر على المنع وأنا مصر على الاستزادة. ثم ناقشته وراغمته فرأى أن يردني من حيث جئت. فسرت إلى جاثليق محب للجاثليق الأول برؤيتي وأنزلني عنده. فرجعت إلى ما كنت عليه سابقا. وها أنا مترقب فرصة أخرى تمكنني من المقايضة على هذا النحس الآخر أيضاً فإنه جاهل جداً. وعندي أن مبادلة الجثالقة في هذا الزمان العسوف انفع من حجر الفيلسوف. انتهت قصة القسيس وهذا تفسير ما أشار إليه آنفاً من الألفاظ الغربية: أبناعيان: طائران أو خطان يخطهما العائف في الأرض يقول ابناعيان أسرعا البيان أخذة النار بعيد صلاة المغرب يزعمون إنها شر ساعة يقتدح فيها. الأخذة رقية كالسحر أو خرزة يؤخذ بها الارتسام التكبير والتعوذ والتحتم التفاؤل الأسحم الدم تغمس فيه أيدي المتحالفين أس كلمة تقال للحية فتخضع الانكيس في أشكال الرمل كالمنكوس البارح من الصيد ما مرّ من ميامنك إلى مياسرك البريم خيطان مختلفان أحمر وأبيض على وسطها وعضدها.. والعوذة التحزي حزا حزواً وتحزي زجر وتكهن وحزي الطير ساقها وزجرها تدسيم النونة تدسيم نونة الصبي تسويدها كيلا تصيبها العين التذعب تذعبته الجن أفزعته التشهق شهقت عين الناظرعليه أصابته بعين التشوه يقال لا تشوه علي أي لا تصبني بعين التعيد تعيد العاين على المعيون تشهق عليه وتشدد ليبالغ في إصابته بعينه ذكره الفيروزابادي في ع ود

التنجيس اسم شيء من القذر أو عظام الموتى أو خرقة الحائض كان يعلق على من يخاف عليه من ولوع الجن به تنجي تنجي لفلان تشوه له ليصيبه بالعين كنجا له ونجأة بالهمز أصابه بالعين التَوْل تال يتول عالج السحر التُوَلَة السحر أو شبه وخرز تحبب معها المرأة إلى زوجها كالتولة. الجُلبّة العوذة تحرز عليها جلدة الحابل الساحر الحِرز العوذة الحُفوف شدة الإصابة بالعين الحوط خرزات وهلال من فضة تشده المرأة في وسطها لئلا تصيبها العين الخصمة من حروز الرجال تلبس عند المنازعة او الدخول على السلطان الرأمة خرزة المحبة الرَتيْمة كان من أراد سفراً يعمد إلى شجرة فيعقد غصنين منها فأن رجع وكان على حالهما قال أن أهله لم تخنه وإلا فقد خانته وذلك الرتم والرتيمة الرسع رسع الصبي شد في يده أو رجله خرزاً لدفع العين الزجر العيافة والتكهن. الزرقة خرزة للتأخيذ السائح ضد البارح السلوان ما يشرب ليسلي أو هو أن يؤخذ تراب قبر ميت فيجعل في ماء فيسقى العاشق فيموت حبه الخ. السلوانة خرزة للتأخيذ وخرزة تدفن في الرمل فتسود فيبحث عنها ويسقاها الإنسان فتسليه شدة الحقاب الحقاب خيط في حقو الصبي لدفع العين الشعبذة السعوذة الشعوذة أخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين شيحثا كلمة سريانية تنفتح بها الأغاليق بلا مفاتيح الصخبة خرزة تستعمل في الحب والبغض الصدحة وبالضم والتحريك خرزة للتأخيذ الصَرَّة خرزة للتأخيذ الصرفة خرزة للتأخيذ الصِهْمِيْم حلوان الكاهن صوت اللوف نبات له بصلة تسمى الصراخة لأن له في يوم المهرجان صوتاً يزعمون أن من سمعه يموت في يومه الصَفَر حية في البطن تلزق بالضلوع فتعضها أو الخ. الطب مثلثة الرفق والسحر الطرق أن يخلط الكاهن القطن بالصوف إذا تكهن العاضة الساحر والعضة الكذب والبهتان والسحر العاطو ما يعطس منه ودابة يتشاءم بها والعاطس ما استقبلك من أمامك من الظباء العرافة العرَّاف الكاهن والطبيب وصنعته العرافة وقد عرف ككتب العطف نبت يؤخذ بعض عروقه ويلوي ويطرح على الفارك فتحب زوجها العطفة خرزة للتأنيذ العقرة خرزة تحملها المرأة لئلا تلد عود الشبارق الشبارق شجر عال ويقلد الخيل وغيره بعوده للعين العيافة عفتُ الطير أعيفها عياقة زجرتها وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها وأنوائها فتتسعد أو تتشاءم. العيثرة عيثر الطير رآها جارية فزجرها الغز غز الإبل والصبي علقا عليهما العهون من العين غضار وكرار الغضار خزف يحمل لدفع العين وكرار خرزة للتأنيذ تقول الساحرة يا كرار كريه ويا همرة أهمريه أن أقبل فسريّه وإن أدبر فضرّبه الفطسة خرزة لهم للتأنيذ يقلن اخذته بالفطسة بالثؤبا والعطسة القبلة ضرب من الخرز يؤخذ بها القُبْلة ما تتخذه الساحرة لتقبل به وجه الإنسان على صاحبه القُليب خرزة للتأنيذ الكابح ما استقبلك مما يتطير منه الكادِس ما يتطير به من الفال والعطاس وغيرهما والقعيد من الظباء وهو الذي يجي من خلفك ويتشاءم به ونخوه الداكس الكبدة خرزة للحبّ الكَحْلة خرزة للتأنيذ أو للعين اللجام ما يتطير منه اللحج لحجه بعينه أصابه بها اللعطة اسم من لعطه بسهم أو بعين أصابه اللمَّة يقال أصابته من الجن لمة أي مس أو تقليل والعين اللاّمة المصيبة بالسوء الماقط الحازي المتكهن الطارق بالحصى المجول العُوذة المستنشئة الكاهنة المُهرة خرزة كان النساء يتحبِّبن بها النشرة رقية يعالج بها المجنون أو المريض النفاثات في العقد السواحر النُفّرة شيء يعلق على الصبي لخوف النظرة النيرنج أخذ كالسحر وليس به الهامة الصدى وهو طائر يخرج من رأس المقتول بزعم الجاهلية الهبره خرزة يؤخذ بها الرجال الهجيج الخط يخط في الأرض للكهانة الهقعة دائرة في الفرس يتشاءم بها الهمرة خرزة للتأنيذ الهِنَّمة خرزة للتأنيذ الوجيه خرزة م كالوجيهة. قلت الظاهر أنها للوجاهة الينجلب خرزة للتأنيذ أو الرجوع بعد الفرار

الثلج

الحاوي رجل حَوَّاء وحاوٍ يجمع الحيات. قلت هذا غاية ما ذكره صاحب القاموس في ح ي ى والظاهر أنه ووايّ ولكن ضعفه في الواو بقوله قيل ومنه الحية لتحوّيها الخ وقوله يجمع الحيات كأنه لحظ فيه معنى حوى لا يناسب ما قاله في تسير الحِنفش وعبارته. أو حية عظيمة ضخمة الرأس رقشاء ركداء إذا حويتها انتفخ وريدها. فهو صريح هنا في الرقية وقد ذكرت ذلك وما أشبه في كتاب مفرد. الثلج لا غرو أن يجد بعض القارئين كلامي في هذا الفصل بارداً لأني كتبته في يوم عبوس قمطرير. ذي زمهرير. والثلج إذ ذاك ساقط على السطوح. وقد سدّ الطرق ودخل في البيوت والصروح. وكاد يطفئ النار ويذهب بالاصطبار. ويمني بالقمر والقمار. غير أنه لا ينكر أحد أن شارب الثلج أو آكلة أو اللاعب به يحس منه بحرارة وكذلك قارئ كلامي فإنه وأن وجده بارداً فلا بدّ وأن يحتمي عليَّ من هذه البرودة فيكون قد حصل الغرض وهو تسخين دماغه. ولا سيما إذ كان قد بقيت فيه بقية غيظ وحدّة من الفصل المتقدم. ولكني لم أقصد فيما حكيته إلا الصدق. ولو خطر ببالي أن آتي إفكا وعضيهة لا وعيت ذلك في قصيدة وختمتها بدعاء ومدح لأحد البخلاء. ومن ماراني في ذلك فليسأل القسيس نفسه. إلا أن الثلج يخالف كلامي من جهة أنه يسقط على الأسود فيبيضه وكلامي قد سقط على القرطاس فسوّده. وكلاهما في ظني يروق العين وكلاهما يجتمعان في هذه الجهة. وهي أن الثلج لا تطلع عليه الشمس أياماً إلا ويذوب. وكذا كلامي فإنه لا يكاد يبقى منه شيء في رأس القارئ بعد تقمّره أو عند ظهور بوح عليه. وهناك جهة أخرى تضمّهما. وهو أن الثلج بعد سقوطه ينشأ عنه الصحو وانجلاء الجو. وكذلك كلامي فإنه بعد تساقطه من رأسي ينشأ عنه انجلاء جوّ فكري وصحو بالي واستعداده إلى ما يروق ويروع. فعلى كل حال تجد المشابهة هنا في موقعها وعذري في محله. وبعد فأني أرى الأغنياء المثرين يتخذون في ديارهم الفسيحة مساكن للصيف وأخرى للشتاء وكنّا للمبيت وآخر للاستحمام. ومن لم يكن له من غيرهم إلا بيت واحد فغير جدير بأن يزار فيه إلا حين يكون بيته موافقا لوقت الزيارة. أو يكون وقت الزيارة موفقا لبيته. فبناء على ذلك ينبغي للعلماء اقتداء بأكابرهم الأغنياء أن يتخذوا لهم في رؤوسهم الفيحاء مواطن متعددة مختلفة لما يأتي عليهم من الكلام البارد والفاتر والحميم. ففي وقت ثوران الدم وهيجان الطبع يقرءون البارد تقليلاً مما حركهم من بواعث الحرارة. وفي وقت السكون يتلون الحميم. أو بالعكس على مذهب من يداوي الشيء بجنسه لا بضده.

لا يقال أن القارئ يضيع وقته في تمييز البارد والحميم من هذه الفصول. إذ لا يستوعب مضمونها إلا إذا أتى على آخرها. بخلاف سائر الكتب فإنه لا يتعمّد فيها الكلام البارد فهي على منهاج واحد. فإني أقول أن كل فصل من تلك الفصول له عنوان يدل عليه دلالة قطعية كدلالة الدخان على النار. فمن درى العنوان فقد درى الفصل كله. مثال ذلك إذا مرّ بك في أحد الفصول ترجمة البالوعة أو البلوعة أو البلاعة أو البربخ أو الاردبة فلا بدّ لك من أن تفطن إلى أن حماراً من حُمَر الدير قد غطس فيها للتعريب أو الترجمة. إلا أنه لا ينبغي للقارئ إذا درى مَغْزَى الفصل من العنوان أن يضرب عن قراءته. ثم يقول متبجحا بين أقرانه وإخوانه قد قرأت كتاب الساق على الساق وفهمت معانيه كلها. فإن ذلك يكون كقول مقنس قد رأيت اليوم الأمير أعزه الله وكلمته مع أنه لم يكن رأى منه إلا قذاله عن بعد. ولم يتح له يده الشريفة. أو كان ذلك الأمير قد سأله عن شيء فتلعثم في الجواب أو تروي فيه فسب أباه وأجداده ولعنه وتهدده بالصلب أو بسمل عينيه. أو كقول هبنقع المزهو الأحمق المحب لمحادثة النساء قد رأيت اليوم فلانة. ولما أن واجهتني وقفت وتنفست الصعداء. مع أنها تكون قد وقفت لتبصق أو أنها تنفست الصعداء بهراً. بل الأولى أن ينوي القارئ عند افتتاحه هذا الكتاب أن يتصفحه كله من أوله إلى آخره حتى حواشيه وعدد صفحاته. ويعتقد أن لكل مؤلف أسلوباً. وأنه لا يمكن لأحد أن يعجب الناس كلهم. إذ الأهواء متفاوتة والآراء مختلفة. ومن الأسرار التي بقيت مكتومة عني إنك تجد بعض المؤلفين فاتر الحركة غير ذي نشاط ولا مرح. قليل الارتياح إلى ما يبعث على التهاوش والتناوش. متقاعس الهمة عن السبح والحركة. ناظر إلى الحوادث كلها نظر المتوقع لها. وهو مع ذلك إذا أخذ القلم أنبض كل عرق في القارئ وحرك كل ساكن. ومنهم من تراه نزقاً حركا ذا تترع وتسرع وحفد وصميان وأقبال وأديار وسعي وتهافت. ومعاجلة ومبادرة ومزاحمة ومزاهمة ومسابقة ومحاشرة ثم هو أن قال شيئاً سقط من رأسه على ذهن القارئ سقوط الثلج حتى يكاد أن يخمد منه ذكاه. فلما تأملت في ذلك وتحققته ارتبت في كون سقط الثلج ناشئاً عن فرط برودة متكونة في الهواء وقلت بل لعل سببه فرط حرارة حزت في صدر الجو على سكان هذه الأرض. ووافر وغر تكون في حشاه فلفظه عليهم ثلجاً انتقاماً منهم عما يأتونه في الليالي الباردة من المنكرات وذلك أن بعضهم يحاول عكس الطبيعة فيسخن فراشه بأداة فيها نار. وبعضهم بأداة فيها ماء حميم. وبعضهم بأداة فيها ماء شراب. فمن أجل ذلك أسقط الجوّ عليهم الثلج المتراكم منعاً لهم من الخروج من ديارهم لاستعمال هذه الأدوات لكي يستريح من فسادهم ولو يومين. إلا أنه قد أن كثيراً من هؤلاء الناس يتخذون أداة للأداة أو أداة للأداة الأدوات. مثال الأول ما إذا تربع الغني في دسته وتدثر بفروته وقال لغلامه سرْ يا غلام إلى محل كذا وائتني منه بأداة لتسخين فراشي هذه الليلة. فيذهب الغلام يطأ الوحول والثلوج ورجل سيده نظيفة. ومثال الثاني ما إذا كان السيد جواداً سخياً فيبعث غلامه في موكب له أو في آخر مما يستأجر من الطرق. أو إذا كان ذا سيادة وإمارة ويريد أن يكتم سره عن غلامه. لأن لذة الخادم إنما هي القلب في عرض مخدومه وجعل نفسه أولى بالخدومية منه فيستعمل ذلك السيد آخر أو آخرين أو آخر في مكان غلامه. ويكون قد بعث إليهم من قبل بهدية على يد خادمه إظهاراً لمكارمه. أو إنه أعطاهم إياها من بعد. فيكون سقوط الثلج على أي حال كان سبباً في التسخين والحرارة.

النحس

لأنه إذا اعتبُر في حق المخدوم كان سبباً في اتخاذه الأداة. وأن أعتبر في حق الخادم وغيره ممن سد مسده كان موجباً للحسد. وهو من أعظم المؤثرات تسخيناً وإحماء. ومع كونه أي الثلج يرى ساقطاً على كل موضع في المدينة دون أي تمييز دار عن دار فإن لفظه في الحقيقة لا يصيب إلا رؤوس بعض الناس. وكان الأولى أن يطرد حكمه فيعمّ لا مثل أحكام اللفظ الأرضي فإنها تجري على قوم دون قوم. والفرق بين اللفظتين هو أن الثلج لما كان سقوطه أو لفظه من علو إلى سفل كان المظنون به أنه يتصوب على جميع الرؤوس بشدة. فيشمل الكبير منها والصغير والمسفط منها والمسمراط. فأما الأحكام والقوانين الأرضية فمن حيث كان لفظها من سفل إلى أي من رؤوس ناس مسودين إلى رؤوس ناس سائدين. لم يكن من المحتمل أن يكون تبعثها قوياً حتى يبلغ ذوي الرفعة والعلاء الذين يمر السحاب من تحت قذُلهم. ثم أن الثلج مع ما يتبعه في الواقع من الضنك والمشقة لمن ألفه فقد يروق لعين من لم يكن رآه. فقد بلغنا أن بعض الصعاليك كان مرة ضيفاً عند أناس لم يكرموه ولم يحتفلوا به إذ كان دونهم في المعارف والنباهة. وكان بلدهم لا يسقط فيه الثلج البتة. فلما فصل من عندهم إلى بلاد أخرى رأى فيها الرزق وعاين بها الثلج كبر لرؤيته وهلل وأعجب به غاية الإعجاب. حتى زعم أنه منة من الله خصّ بها ذلك الصقع تمزية له على غيره. كما أنه تعالى حرم منها بلد مضيفه الأول. وكذلك كلامي هاهنا. فإنه مع ما فيه من الاستطراد والحشر والألفاظ المضغوطة بين المعاني ومن المغازي المعقودة بالتلميح والتلويح. والتحويل والتمليح. فقد يروق لخاطر من لم يكن قد ألف هذا التخليط بل ربما يجعله الإعجاب به على تحديه ومحاكاته. ولكن هيهات فإن الباب قد أغلق في وجوه المتحدين. على إني لست أزعم إني أول كاتب في الدنيا نهج هذه الطريقة وأسعطها المتناعسين. إلا إني رأيت جميع المؤلفين في سهوة كتبي قد قيدوا أنفسهم بسلسلة نفس من التأليف واحدة. لكنني لا أعلم الآن هل غيروا أسلوبهم أولا. إذ قد مضى عليّ بعد فراقهم أكثر من خمس سنين. فكأن العارف بحلقة واحدة من تلك السلسلة قد عرف سائر الحَلَق حتى أن كل واحد منهم يصدق عليه أمن يسمى حلقياً. بناء على إنه مشى وراء القوم وحذا حذوهم. فإذ قد قرر ذلك فاعلم إني قد خرجت من السلسة فما أنا بحلقي ولا بُسَتْيهّي ولا أكون أمام القوم فإن الثانية أنحس من الأولى. وإنما أنا مستقبل لما استحسنت. آخذ بناصية ما استظرفت. رافض مكلف العادة. النحس لقد أرحت سن القلم من كدم اسم الفارياق قليلاً بعد أن تركته مع القسيس الربيط وتلهيت بالكلام على الثلج لما داخلني من فرط الحدة عليهما معاً. أما على القسيس فلكونه خان صديقه الذي أواه إلى منزله في حرمته. وكان ينبغي له أن يذهب إلى مواجرة أو يفعل كسائر القسيسين من أهل حرفته. إذ لو كان الله تعالى رزق ذلك التاجر ولداً على نيته أي فتح له رحم امرأته كما تقول التوراة لكان أربعة أرباع هذا الولد من القسيس والباقي وهو اسمه من التاجر. فيكون قد أقام نفسه مقام من يربي النغول. مع أن أول ذكر فاتح رحم كما تقول التوراة مبارك ومعظم عند جميع الأمم. ولهذا كان حق الوراثة عند الإنكليز للبكر أي لفاتح الرحم. فكيف يحاول القسيس هنا جمع اللعنة والبركة على رأس مخلوق واحد. إن ذلك إلا محال. وأما على الفارياق فلأنه هو الذي كان السبب في إفشاء هذا السر بما أبداه من العناد والتصلُّف في حفظ أبياته التي لا أشك في أنه أرتكب فيها المين والغلو والمبالغة والمردودة لغير نفع. وهو مع ذك يحسب أنه يحسن صنعاً. فأما مشابهة الولد أباه في الخلق هل دلالة قطيعة على كونه ابنه فغير متفق عليها. فذهب بعض إلى إنها ليست علامة كافية. لأن الأم قد يحتمل في حاله كونها مسافحة أن تكون مفكرة في زوجها ومتصورة له فيأتي توزيع الجنين بحسب هذا التصور. وذهب بعض الأولاد إلى أن الأم وحدها لا فاعلية لها في التوزيع فقد يأتي بعض الأولاد مشابهاً لعمه أو خاله أو لآخر ممن لم تكن أمه قد رأته قط.

والآن ينبغي لي أن أستمر في القصة. وأن أعرضها على مسامع القارئ من دون اجراض أحدنا بغصة. فأقول قد تقدم في أول هذا الكتاب أن الفارياق ولد والطالع نحس النحوس والعقرب شائلة بذنبها إلى التيس. والسرطان واقف على قرن الثور. فأعلم هنا أن النحس على قسمين نحس ملازم ونحس مفارق. فالنحس الملازم ما لزم الإنسان في يقظته ومنامه وأكله وشربه وغدوه ورواحه وفي كل ما يأتيه. والنحس المفارق ما خالف ذلك أعني ما لزم الإنسان في حال دون حال. وأعرف ما يكون لزومه في الأحوال الخطيرة الشأن كالزواج والسفر وتأليف كتاب ونحو ذلك. ثم أن ماهيات النحس الملازم مختلفة أيضاً. فمنه ما يكون كالعقدة المحكاة. ومنه كالربقة ومنه كالمسمار. ومنه كالوتد ومنه كالمشبك. ومنه كالقفل بلا مفتاح ومنه كالغِراء ومنه كالغمجار. ومنه كاللجاذ ومنه كالشراس. ومنه كالدبق والطِبق. أو كالرومة أو الثرْط واللزاق. ومنه كالجلد ومنه كالدم الساري في جميع أوصال الجسد ومفاصله. وجناجنه وسلائله. وسنانه وشلاشله. وترائبه وتراقيه. وشراسيفه وبوانيه. وغضاريفه وحوانيه. وربلاته ومذاخره. وعضلاته ونواشره. وعصبه وبوادره. وأعصاله ومرادغه وسافينه وناعوره. ووريده ووتينه. وأسهريه وأخدعيه. ومريئه وفليقه. وحلقومه وبخاعه. ونائطه ونخاعه. وأوداجه وذفراه. وثقنته وشظاه. ورواهشه وشرايينه. ونسيسيه وأشلائه. وغموده وأشوائه. فنحس الفارياق كان من هذا النوع، غير أنه لا ينبغي ان يفهم هنا أنه كان دموياً أي كثير الدم أو محباً لسفكه أو ولاّجاً فيه. فإنه كان منزهاً عن هذه الصفات كلها. وإنما كان نحسه كالدم من جهة أنه كان ملازماً له في جميع أحواله. فقد حكي وأن يكن كاذباً فعليه كذبه إنه بات ليلة وقد رأى في المنام أنه شرب مثلوجاً عقبه سخيناً فأصبح يشكو من وجع أضراسه شديد ومن بحح في حلقه. وكان يحلم إنه يتهور من قنة جبل أو يسقط عن ظهر جمل فيغدو وظهره متقوّس. وكان إذا حلم أنه أكل الكامخ مغسه في ليلته. أو شرب أجاجاً أو زعاقا قاء. أو أشتم روائح كريهة غثت نفسه. وكان إذا حدثه أحد بأنه رأى في حديقته ربَحْلة رأى هو في المنام ليلته تلك إنه في ويل واد في جهنم أو بئر أو باب لها أو في الموبق واد فيها أو في الفلق جهنم أو جب فيها أوفي بولس سجن فيها أوفي سجين واد فيها أو في أثام واد فيها أو في الحطمة باب لها أو في غي واد فيها أونهر أو في الصعود جبل فيها. وحوله لبيني اسم بنت أبليس اوزلنبور أحد أولاد أبليس الخمسة اومسوط ولد لأبليس يغري على الغضب أو السرحوب شيطان أعمى يسكن البحر أو خنزب شيطان أو السرفح اسم شيطان أو الجم الشيطان أو الشياطين أو نهم شبطان أو هياه من أسماء الشياطين أوالحباب اسم شيطان أو الأزب اسم شيطان أو أزب العقبة اسم شيطان أو الهِراء اسم شيطان موكلّ بقبيح الاحلام أو الولهْان شيطان يغري بكثرة صب الماء في الوضوء أو الخبث والخبائث ذكور الشياطين وإناثها أو السفيف إبليس ويسمى أيضاً المبطل وكنيته أبو مرّة وأبو قترة أو عمرو اسم شيطان الفرزدق أو الفلوط من أولاد الجن والشياطين أو الشيطان والبلأز والقاز والخابل والخناس والوسواس والفتان والأجدع وكان إذا بصر من كوة بيته بكمكامة مكماكة خيّل له في المنام أنه في خافية بها جن أو في البراص منازل الجن أو في البلوقة موضع بناحية فوق كاظمة يزعمون أنه من مساكن الجن أو في البقَّار موضع برمل عالج كثير الجن أو العازف ع سمَّي لأنه تعزف به الجن أو في الحوش بلاد الجن أو في وبار وبار كقطام وقد يصرف أرض بين اليمن ورمال يبرين سميت بوبار بن إرم لما اهلك الله تعالى عاداً ورَّث محلهم الجن فلا ينزلها أحد منا أو في عبقر ع كثير الجن أو في جيهم ع كثير الجن. ولديه الشيصبان قبيلة من الجن أو بنو هنام قبيلة من الجن أو بنو غزوان حي من الجن أو دهرش اسم أبي قبيلة من الجن أو أحقب اسم جني من الذين استمعوا القرآن أو زمزمة قطعة من الجن أو الشق جنس من الجن أو شنقناق رئيس للجن أو العسل قبيلة من الجن أو العسر قبيلة من الجن وهو أيضاً أسم أرض للجن أو السعلاة والعيسجور والشهام ساحرة الجن

أو السعسلق أم السَّعالي أو العضرفوط من دواب الجن أو النظرة الطائف من الجن أو الزوبعة رئيس للجن أو الخافي والخافية والخافيا الجن وكذا الخبل أو التابع والتابعة الجني أو الجنية يكونان مع الانسان يتبعانه حيث ذهب أو العكنكع والكعنكع الغول الذكر أو الخيدع الغول الخداعة أو السلتم والصيدانة والخيعل والخولع والخيتعور والسمرمرة والسَّمع والعولق والعلوق والهيرعة والملد والعفرناة كلها من أسماء الغول أو العتريس الغول الذكر أو التمسح المارد الخبيث أو الدرقم اسم الدجال وهو أيضاً المسيح كسكين أو الغموس المارد من الشيطان والخبيث من الغيلان أو الزبانية جمع زبنية وهو متمرد الأنس والجن ومثله العكبّ أو الحيزبون وكان صاحبنا وهم في هذه فإني لم أجدها في القاموس فكيف يمكن رؤيتها في المنام. واسمها غير موجود في قاموس الكلام. مع أن المص رحمه وزن عليها الحيزبور والخيتعور والقيدحور والعيجلوف والعيطبول والهيجبوس والجيهبوق والزيزفون والجيثلوط والعيضفوط. ثم أنه كان إذا سمع نخبة تكلم رجلا بمنطق رخيم سمع في الليل عزيفاً وهساهس وتهويداً وزيزماً وهدهداً وزهزجاً وزي زي. كلها من أصوات الجن وإذا رأى جارية تردي نصف النهار جاءه في نصف الليل الكابوس والجاثوم والدوفان والنيدل والباروك والدئثان والديثاني. ورأى ليلة ما أن قد زفت إليه عروس فأتاه تجعل تيس وجعل ينطحه بقرنيه فاستيقظ فإذا بقرن رأسه مرضوض. ورأى ليلة أخرى أن قد وجد على شاطئ نهر دنانير ودراهم فمدّ يده وأخذ منها خمسة عشر درهما لا غير. فلما عبر الشط الثاني رأى شيخاً بيده كرة يديرها. فكان كلما أدارها أخذ الفارياق في ظهره وجع شديد كوجع الداء المعروف في بلاد الشام بالوثَّاب. فلما رمى الدراهم من يده من شدة ما أصابه سكن عنه الوجع ورأى ليلة أخرى أن رجلاً مغربياً أتحفه بشيء فتلقفه في الحال مشرقي وذهب به. قال والي الآن لم يرجع به مع انتظاري له كل ليلة. وقس علي ذلك سائر أحلامه. ومما قاله في الحلم نظماً كأن همومي وهي تحت مخدَّتي ... إذا بتُّ تغري بي الهراء لتُذرئة تقول عليّ اليوم كان بُواله ... وإنّ عليك الليل ذا أن تخرّئه وقال أسرّ إذا انقضى يومي لأني ... أرجّي فيه أحلاماً تسرّ فأحلم أنني أسعى وأشقى ... فليلي مثل يومي أو أشرّ وقال أيضاً ويا رب حتى في المنام تروعني ... بأضغاث أحلام تسوء وتزعج فيا ليتني أشقى نهاري وفي الكرى ... أسرُّ برؤيا من أحبّ وأبهجُ

وعنّ له يوما أن يمدح بعض ذوي السيادة والسعادة. فلما حظي بلثم أعتابه الشريفة وأنشده القصيدة رجع القهقري على عادة أهل بلاده من أن الصغير لا يري الكبير قفاه. إشارة إلى أنه لا قذال إلا قذال الكبير. ثم جاءه الحاجب يقول أن الأمير أدام الله دولته. وخلد صولته. وجعل الشمس والقمر نعلا لفرسه. وجعل يومه خيراً من أمسه. وجعل ظله ممدوداً على الأرض ظليلاً. وجعل طرف الكون بتراب نعله مكحولا. وجعل الثريا مقراً لرجليه والعيوق شراكاً لنعليه. وجعل الوجود باسمه مبتهجاً وبابه لكل لائذ رتجاً مرتجى. وجعل- فلم يتمالك الفارياق أن بادرهُ وقال دعني من جَعَل يا جُعل. ماذا يقول الأمير. قال يقول الأمير المعظم. الخطير المكرم. ذو الآلاء الغامرة. والنعم الوافرة. من إذا قال فعل وإذا سئل أعطى فأجذل وأذ تنحنح ألقى الرعب في قلوب أعاديه. وإذا سعل خفقت فرقا أفئدة شانئيه. وإذا مخط ارتج المكان لهيبته. وإذا حبق تزلزل المجلس لحبقته. فقال الفارياق أف لهذه الرائحة الخبيثة ياخبيث قل ما يقوله الأمير. وأرحني من هذا التقعير. لقد برزت على الشعراء بهذا الغلو والإطراء. قال أنه يقول لك أنك قد أحسنت في أبيات القصيدة وأبدعت ما شئت. لأنك شبهته بالقمر والبحر والأسد والسيف الماضي والطود الراسخ والسيل المنهمر مما هو خليق بالاتصاف به. إلاّ في بيت واحد جعلته فيه قواداً. قال كيف ذلك جلّ الأمير عن القيادة. قال نعم انك قلت أنه يجود بالمال والنفائس ويولي الأبكار. وقلت في بيت آخر أنه محمَّد الذكر محمود المناقب وهو غير محمد ولا محمود. وبسبب هذا الخطأ الفاحش حرمك من رؤيته. قال هذه عادة الشعراء انهم لا يزالون يتلمظون بذكر الخرائد والمحامد. وليس المقصود بذلك نسبة القيادة إلى الممدوح. قال هذا غاية ما عندي فلا تطمع بعد في المثول بحضرة أميرنا المبجل. فمن ثم رجع الفارياق محروماً من هذا المغنم الهنيء. وبلغ منه الغيظ أن أضله عن الطريق المستقيم. فسار في طريق آخر وما وصل إلى منزله إلاّ بعد اللتيَّا والتي. وأخذ يفكر في نحس طالعه وشؤم قلمه. فظهر لهوسه أن القلم أنحس شيء يتخذه الإنسان سبباً لمصالحه. وإن أشفى الاسكاف أنفع منه. وأن تقديم النون عليه في قوله تعالى ن والقلم وما يسطرون إن هو إلا إشارة إلى النحس. وإن ما قاله المنجم في طالعه صحيح. فأنه أوَّل المرأة التي زفّت إليه في المنام بالعقرب. والجدي بالتيس الذي كان ينطحه. والسرطان بنفسه إذ رجع القهقري من عند الأمير فكاد أن يعثر بحصير مجلسه السامي لولا أن تمسك ببعض أوتاده الشريفة. وأول الثور بالأمير الممدوح. إلا أن العبارة الأولى وهي قول المنجم نحس المنحوس غير محصورة في حادث واحد. إذ هي تستغرق جميع الأحوال والحوادث كما سيرد بيانه. وذلك أن الفارياق لما سمع من نجيه الذي قايضه على الاعتراف أن المساومة في قيل وقال هي من البياعات الرابحة، والأسباب الناجحة خلج في صدره أن يجرب تنفيق ما عنده من البضاعة المزجاة. إلا أنه لم يعرضها من أولَّ وهلة على أحد المشترين من الجثالقة كما فعل صاحبه. بل أخذ في تقليبها وتفليتها وتمشيطها وتنسيلها من جهة واستشفافها من أخرى. فظهر له أنها قديمة قد ركت بحيث لا يكاد أحد أن يرغب فيها.

واتفق وقتئذ أن قدم عنقاش يفدد على شراء السلع القديمة وعلى إصلاحها أو على مقايضتها أو على صبغها. وأدعى أنه يقدر أن يعيدها إلى لونها الأول وأنه لا يعجزه شيء من أحوالها بحيث أن صاحب السلعة نفسه إذ رآها بعد صبغها وتصليحها يتعجب منها غاية العجب ولا يعود يعرفها. وإنه أي العنقاش لما بلغه في بلاده فساد تلك السلع أقبل حفداً إلى تلك البلاد وهو يحمل خرجاً كبيراً فيه من الأصباغ والأدوات ما يرفأ كل خرق ويعيد كل لون نافض. فسار إليه الفارياق عجلاً إلى المقايضة وواطأه على إبدال ما عنده من السلعة القديمة بأخرى جديدة راقت لعينه. فقد يقال لكل جديد بهجة. ثم قفل إلى منزله مسروراً بصفقته. فلما علم أهله وجيرانه بذلك استشاطوا عليه غيظاً وقالوا. لعمر ربّ الجنود ما جرت العادة في بلادنا بتغيير البياعات ولا بمقايضتها ولا بإصلاحها ولا بصبغها. ثم لم يلبث الخبر أن بلغ مطران الصقع وكان من الضواطرة الكبار. فكأنما كان سكيناً سقط على حلقومه. أو خردلاً دخل خرطومه. فهاج وأزبد. وأبرق وأرعد. وماج واضطرب. وضج وصخب. وألبّ وحزب. وبربر وثرثر. وأقبل وأدبر. وزجر ونهر. ووثب وطفر. وفتل لحيته من الغيظ حتى صارت كالمقرعة. وأغرى كل حنتوف مثله بأن يهيج معه. ونادى يا خيل الله على الكفار. أنهم صالوا النار. كيف تجرأ هذا الشقي المنحوس. المعتوه المهلوس. على أن يذهب مذهباً غير ما نهجه له جاثليقه. وسلكه فيه بطريقة. وكيف أقدم بوقاحته. وصفاقة وجهه وقباحته. على معاملة ذلك العنقاش اللئيم. ومبايعته ما ورثه من آبائه من الزمن القديم. أليس في بلادنا صلب. وادهاق ويلب. هلموا به مُهاناً. اجلدوه عرياناً. اطرحوه نيراناً. ألقموه حيتانا. أطعموه دمانا. اقطعوا منه لسانا. اسقوه الزناني. عليّ به الآن الآن. فابتدر بعض الحاضرين وقال انا آتيك بهذا الجعشوش بأسرع من رد طرفك إليك. ثم وليّ حفداً إلى الفارياق فوجده مكبّا على قراءة الدفتر الذي فيه أثمان السلعة. فتناوله بالسيف فأصاب فروته. ثم سيق الفارياق إلى الجزار المشار إليه. فلما بصر به انتفخت أوداجه واتسع منخراه وتعقدت أسرة جبينه واصفرت شفتاه. ورقص شارباه واحمرت حدقتاه. واحترقت أسنانه ودارت بينهما هذه المحاورة: قال الضوطار ويلك يا مغبون، ما دعاك إلى المساومة في سلعتك؟ الفارياق إذا كانت هي سلعتي كما أقررت فما الذي يمنعني من ذلك؟ الضوطار ضللت. هي سلعتك من حيث أنك ورثتها من آبائك لا من حيث أن لك حق التصرف فيها. الفارياق هذا خلاف العادة والحق فإن ما يرثه الإنسان يحق له التصرف فيه الضوطار كذبت. إنك إنما ورثتها لتحفظها لا لتضيعها ولا لتبادل بها الفارياق هي ميراثي أفعل به ما أشاء الضوطار قبحت إني أنا القيّم عليه الصائن له من الشوائب الفارياق ما بلغنا عن أحد أنه تولى ميراث غيره إلا كان الوارث غير راشد الضوطار غويت. أنك أنت غير رشيد وأنا وليُّك ووصيك وكفيلك ووكيلك وحسيبك الفارياق ما الدليل على أني لست من الراشدين ومن ذا الذي جعلك وصيا وولياً الضوطار زغت. إنما الدليل على غوايتك وضلالك هو أنك تبدلت به متاعا غيره وإما كوني وصيا فإن جميع أمثالي يشهدون لي به كما أني أنا أيضاً أشهد لهم بأنهم أولياء غيرك الفارياق ليس تبديل شيء بآخر دليلاً على الضلال والزيغ إذا كان المبدل والمبدل منه من جنس واحد. ولا سيما أني رأيت لون القديم يوشك أن ينصل وقد ركت رقعته فتبدلته بما هو أزمى وأقوى الضوطار كفرت. إنه غشي على بصرك فما تستطيع أن تفرق بين الألوان الفارياق كيف ذلكولي عينان ناظرتان ويدان لامستان الضوطار عميت. فإن الحواس قد تغش ولا سيما حاسة البصر الفارياق إذا كانت حواسي قد غشت فكيف سلمت حواسك من الغش وأنت بشر مثلي الضوطار حِنت. إني وأن كنت بشراً مثلك لكني وكيل من طرف شيخ السوق. وقد أفادني مما أودع الله فيه من الأسوار العجيبة أن لا يطرأ عليّ غبن ولا إلا وتبينته لأنه هو منزه عن الغش فقال القارياق وكان به فأفأة. وأين شيخ الفسوق هذا ثم إستدرك كلامه وقال إنما أردت شيخ السوق. فلا تكن زيادة هذه الثمانين موجبة لحد الثمانين. الضوطار لعنت. هو بعيد عنا بيننا وبينه أبحار وجبال. غير أن أنفاسه القدسية تسري فينا

الحس والحركة

الفارياق كيف به إذا مرض أو جن مسه طائف من الجن أو أصابه برسام. فكيف يمكنه والحالة هذه تمييز المتاع الردي من الجيد الضوطار هلكت. ما هو ببلو للعوارض لإنه بواب رتاج عظيم وبيده مزلاجان عظيمان لاحكام الباب من قبل ومن دُبُر الفارياق ليس هذا بدليل فأن كل إنسان في العالم يمكنه أن يصير بواباً ذا مزلاجين الضوطار فسقت وفجرت. إنه هو وحده مستبد بهذه الخطة إذ قد فوضت إليه من المالك الآمر الفارياق متى كان ذلك؟ الضوطار صلبت مذ ألفي سنة تقريباً الفارياق أو عاش هذا الشيخ ألفي سنة الضوطار الحدت. إنما إنتقلت إليه بالوراثة الفارياق ممن ورثها أمن ابيه وجده الضوطار نكلت. من إنسان لايعد في أهله الفارياق هذا أمر عجيب كيف يرث الإنسان شيئا من رجل غريب فإن الغريب إذا مات عن غير وارث انتقل ماله إلى بيت المال فهو أولى به من رجل على حدته الضوطار عذبت. هذا سر ليس لك أن تبحث فيه الفارياق ما الدليل على كونه سراً الضوطار أفحشت. هذا هو الدليل. وعند ذلك قام عجلاً وأتى بكتاب وأخذ يقلب فيه من أوله إلى آخره حتى يجد فيه مطلوبه إذ لم يكن كثير الدراسة له. إلى أن وجد عبارة مضمونها أن المالك كان احب مرة رجلاً فوهبه هبات شتى من جملتها كأس وطست وعصا في رأسها صورة ثعبان وجبة وتبان ونعلان وباب له مزلاجان. وقال له قد وهبتك هذه كلها فأستعملها واهناً بها الفارياق لعمري ليس في هذه الهبة ما يدل على سره هذا وقت مات كل من الواهب والموهوب له وفقد الموهوب كله. فكيف لم يبق إلا المزلاجان فقط وقد ضاع الباب وهما لا ينفعان من دونه شيئا الضوطار فندّت. لم يبق لنا في غير المزلاجين من حاجة الفارياق بحق هذين المزلاجين عليك يا سيدي إلا ما أريتني الكأس مرة في العمر وحسب. ولك عليّ بعد ذلك إلا مرة التامة. فلما ضغط الضوطار بين السلب والإيجاب استشاط وغراً وهم أن يلحق الفارياق بالباب والكأس لولا أن دعاه داع إلى اللوس. فقام ناشطاً ووكل به الأوغاد وكان وقتئذ يتضور جوعاً فرأى أن رؤية قعر القدر في المطبخ أشهى إليه من النظر إلى وجه الفارياق. فتغافل عنه فتملص الفارياق من هذه الورطة وأقبل يهرول إلى الخرجي وقال له.. لقد خسرت تجارتي معك فإن البضاعة كادت تمنيني بمبضع. فأبتغي منك الإقالة. أولاً فإن يكن عندك في الخرج رأس يلائم جثتي حين تعدم هذا فأرني إياه ليسكن روعي. إذ لا يمكن لي أن أعيش بلا رأس. فأما أن لم يكن في الخرج غير اللسان فما لي به حاجة هذا متاعك فضمه إليك. فقال له الخرجي ما هكذا حق التعامل ينبغي أن تصبر على ما يلحقك من تبعة الصفقة كما هو دأب جميع المتابعين عندنا. وتلك من بعض خواص هذه التجارة. ولكن لا تخف فإن من خواصها أيضا أن تقي الواقي لها وتحفظ المحافظ عليها. فيكون له بها غنى عن الرأس إذا نقف وعن العينين إذا سملتا وعن اللسان إذا استل. وعن الساقين إذا غمزتا بالدهق. وعن اليدين إذ غلتا بالكبل. وعن العنق إذا وقصت. والكبد إذا فرصت. قال ما أرى ما ترى فإن الأسف لا يحي مائتا والندم لا يرد فائتاً. فإن يكن عندك مخزن آمن فيه من العدو على السلعة فآوني إليه. وإلا فهذا فراق بيني وبينك. فأطرق الخرجي ساعة ثم دخل به حجرة صغيرة وأغلق الباب. وأخذ يمتحن الفارياق كما سيرد بيانه في الفصل الآتي: الحس والحركة

قد جرت عادة الناس جميعا بأن يقولوا إذا أحبوا شيئا أو اشتاقوا إلى شيء أن قلبي يجب هذا الشيء. أو يحس بمحبة هذا الشيء. أو يشتهي ذلك الشيء. ولست أدرى علة هذا الاستعمال. فإن القلب إنما هو عضو في الجسم من جملة الأعضاء فلا يمكن أن تكون حاستيها كلها مجموعة فيه. وبيانه أنّ من أحبّ مثلاً لوناً من الطعام بخصوصه فلينظر في أدوات الأكل الباعثة على اشتهائه. ومن أحبّ امرأة فلينظر في الأداة الباعثة على اشتهائها. وما يميل إليه الطبع وهو غير محتاج إلى أعمال أداة ظاهرة وذلك كحب الرئاسة والسعادة والدين ينبغي أن يحمل على الرأس. إذ هي أمور معنوية لا علاقة لها بتلك البضعة أي القلب. وكما أن الطحال الذي هو وزير الميمنة لا تعلق له بهذه الأمور. فكذلك كان وزير الميسرة أي القلب. إلا إنه لما كانت حركة القلب أسرع من غيره لكونه أقرب إلى الرئة التي هي حرز التنفس. ظن الناس أن القلب أصل في جميع أهواء الإنسان وأشواقه. ومن عاداتهم اجتنابا للبحث عن كثرة الأسباب والعلل والتيقن للحقائق أن يقتصروا على سبب واحد من الأسباب المتعددة. وينسبوا إليه كل ما تسبب عن غيره. كما تنسب الشعراء مثلاً دواعي النحس إلى الدهر ودواعي البين والفراق إلى الغرب. وبناء على هذا الاعتقاد أي نسبة الأهواء كلها إلى القلب أراد الخرجي أن يمتحن الفارياق ليعلم هل نبض فيه حبّ السلعة الجديدة نبضاً قويا أو لا. فجعل يقول له هل تحس في قلبك بأن السلعة الجديدة خير من الأولى. وهل يضطرب فرحاً وسروراً عند ما تسمع بذكرها؟ وهل ينبسط ويتسع وينشرح عند خطور هذه ببالك. وينقبض ويضيق ويتضام عند ذكر تلك. وهل عند قراءتك دفتر الأثمان يخيل لك أن قد طبع فيه أي في قلبك كل حرف من حروف الدفتر. حتى لو أعوزك وجوده سدّت تلك الحروف مسدّه وهل يضطرم ويتوقد مرة ويذوب ويضمحل أخرى. ثم يعود أقوى مما كان عليه كالسمندل المعروف. وهل تحس أيضاً بأن ناخساً ينخسه. وواخزاً يخزه وعاصره يعصره. وراهصاً يرهصه. وممزقاً يمزقه. وضاغطاً يضغطه. فقال له الفارياق أما الاضطراب والخفقان فإنه دائماً على مثل هذه الحالة. وهو عرضة لذلك في حالتي الفرح والترح فأن أدنى شيء يؤثر فيه. وأما التوقد والذوبان فلا أدري. فقال المراد بالتوقد هنا والنخر والعصر الحمية والتحمس والتهوس وتخيل ما هو معدوم موجوداً وما هو موهوم يقيناً. ومثل ذلك مثل من يسافر في فلاة لا ماء فيها فيبلغ منه الظمأ أن يتصور السراب ماء وشعاع الشمس نقزاً. ولا يزال يمنى نفسه بوجدان الماء حتى يقطع المفازة. فإن شدة التخيل والتهوس تعين الإنسان على تحمل المكاره والمشاق. فيكون رازحاً تحت ثقلها وهو يحسب إنه المتكئين على الأرائك. فيستوي بذلك عنده المجاز والحقيقة والمحسوس وغبر المحسوس. حتى يحب الصفر خواناً والنعش عرشاً والخازوق أو الصليب منبراً. وربما كان ذا زوجة وعيال فيتخذهم متخذ الماعون من الخزف فيغادرهم ويجري في البلدان القاصية لترويج السلعة. ويستغني عن أهله وإخوانه ورهطه بما لديه في الخرج فيحمله على كتفه مستبشراً مسروراً ويضرب في مناكب الأرض طولاً وعرضاً. فكل من مر به من عباد الله عرض عليه الشركة والمضاربة. ولا يزال دأبه كذلك حتى يقضي نحبه وطوبى له أن مات على هذه الحالة. الخرج الخرج. ما لنا سواه من حرفة ولا شغل. السلعة السلعة. ليس لنا غيرها من جعل. ثم طفق يبكي وينتحب. فلما أفاق بعد حين سأله الفارياق هل عندكم معاشر الخرجيين سوق وشيخ للسوق؟ قال لا. قال ومن يقوم لكم المتاع قال كل منا يقوم متاعه كل منا يقوم متاعه بنفسه ولا يحتاج إلى آخر. فتعجب الفارياق وقال في نفسه أن في هذا لعجباً.

نوح الفارياق وشكواه

فإن قوماً من هؤلاء الصعافيق لهم شيخ سوقٍ وما لهم خرج. وقوماً لهم خرج وليس لهم شيخ ولكن لعل صاحبي هذا على الحق. إذ لو لم يكن كذلك لما تكلف حمل الخرج من أقصى البلاد وتجشم أخطار السفر وغيره ثم نخره الخناس أن الخرجي ربما لم يجد محترفاً في بلاده فجاء بما عنده لينفقه في بلاد أخرى. فإن تاجراً لو استبضع من بلده مثلاً خزاً أو كرباساً إلى بلد آخر لم يحكم له بأنه قدم إلى هذا البلد حباً بأهله. فقد جرت العادة بأن المتسببين يطوفون في كل الأقطار. ثم فكر في أن أناة الخرجي وما هو عليه من الرزانة والصبر لا بد وأن يكون قرينها الرشد والحزم بخلاف النزق والطيش فإنه لا يكون إلا قرين الغواية والضلال. فمن ثم حكم بأن الخرجي كان على هدى وذلك لإتاحه وحلمه. وإن المطران كان من الضالين لحدّته وتترعه. ثم قال للخرجي قد وعيت يا سيدي كل ما أوعيته أذني. وما أرى الحق إلا معك. وأني مشايعك ومتابعك وحامل للخرج معك. ولكن أجرني من هؤلاء الصعافيق فأنهم كالأسود الضارية لا تأخذهم في خلق الله رأفة ولا شفقة. وعندهم أن أهلاك نفس غيرةً على الدين يكسبهم عند الله زُلْفَى. وقد تمسكوا بظاهر أقوال من الإنجيل فيما رأوه موافقاً لغرضهم وزائداً في جاههم وسلطانهم. فيقولون أن المسيح بقوله ما جئت لألقي على الأرض سلماً لكن سيفاً إنما رخص لهم في إعمال هذه الأداة في رقاب الناس رداً لهم إلى طريقة الحق. وقد نبذوا وراء ظهورهم خلاصة الدين وجوهره ونتيجته. وهي الألفة بين جميع الناس والمحبة والمساعدة وحسن اليقين بالله تعالى. وما صعب على من زاغ وعمي عن الحق أن يستخرج من كل كتاب وحياً كان أو غير وحي ما يوافق غرضه وفساد عقيدته. فإن باب التأويل واسع. أيجوز الآن الأمير الجبل إذا شاخ ولم يعد التدثرُّ بالثياب يدفئه أن يتكوى ببنت عذراء جميلة أي يتدفأ بها ويصطلي بحر جسدها كما فعل الملك داود. أم يجوز له إذا حارب الدروز وانتصر عليهم أن يقتل نساءهم المتزوجات وأطفالهم ويستحيي أبكارهم لتفجر بهن فحول جنده. كما فعل موسى بأهل مدين على ما ذكر في الفصل الحادي والثلاثين من سفر العدد. أم يجوز له أن يتزوج بألف امرأة ما بين ملكة وسرية كما فعل سليمان. أم يجوز لأحد من القسيسين أن ينكح زانية ويولدها النغول كما فعل النبي هوشع. أم يسوع لأحد من الولاة أن يقتل من أعدائه كل رجل وكل امرأة وكل طفل رضيع كما فعل شاول بالعمالقة عن أمر رب الجنود. حتى أن الرب غضب عليه لعدم قتله خيار الشاه والأنعام لإبقائه على أجاج ملك العمالقة وندم على أنه ملكه على بني إسرائيل فقام صموئيل وقطع الملك قطعاً أمام الريفي جلجال. هذا وأني قد قرأت في فهرست التوراة المطبوعة في رومية في حرف الهاء ما نصه: ينبغي لنا أي لأهل كنيسة رومية أن نهلك الهراطقة. أي المبتدعين أو المشاحنين. واستشهدوا على ذلك بما كان يجري بين اليهود وأعدائهم من القتال والفتك والاغتيال على ما سبق ذكره. فإن يكن دين النصارى يحلل قتل الرجال والنساء والأطفال والفجور بالأبكار من النساء ويبيح التوثب على عقار الغير من دون دعوة إلى الدين بل مجرد عتوّ وظلم كما كان يحلله دين اليهود فلا يسبب نسخه إذن وأبطال أحكامه لكن دين النصارى مبني على مكارم الأخلاق وغايته من أوله إلى آخره إبقاء السلم بين الناس وحثهم على الصلاح والخير. وإلا فلنرجع يهوداً. فلما سمع الخرجي ذلك رأى أن وراء هذا الكلام لباقعة. فحرص على إنقاذ الفارياق من أيدي العتاة. وارتأى أن يبعثه إلى جزيرة تسمى الملوط استئماناً فيها. فركب الفارياق في سفينة صغيرة سائرة إلى الإسكندرية. فلما أن سارت به غير بعيد هاج البحر وأضطرب بالسفينة فلزم صاحبنا فراشه من الدوار. وطفق يشكو من ألم البحر وينوح قائلاً: نوح الفارياق وشكواه

ويلي من السفر وما أشتق منه ما كان أغناني عن مقاساة هذا الضر الأليم. ما كان أغناني عن هذه المساومة التي سامتني هذا الكرب العظيم. ماذا وسوس إليّ حتى دخلت بين الظواطرة ولا عائدة لي من هذا الفضول الذميم لقد ولدت في الدنيا وعشت زماناً ولم يخطر ببالي ما أختلف فيه عبام وبعيم. فلأي شيء دخلت في هذه المضايق وتورطت في هذا الشر العقيم. هل كان يعنيني ما تهاتر عليه أهل المشرقين من فساد رأيهم وخلقهم اللئيم. لهفي على القلم وأن يكن في شقه شق وحول مجاجه الونيم. لهفي على الحمار الذي كان يزقع ويرفس من لي بذلك البهيم. لعله الآن أحسن حالاً مني ولعله في نعيم مقيم وأنا اليوم بما فرطت مُليم. من لي بالخان والأخوان فيهم كل بزيع نديم زمان لا شغل إلا معاقرة المدام والتطريب والترنيم. ليتني قلت ما قال الناس وعبدت معهم البعيم. أستغفر الله قد كفر صاحبنا ليس كل الوقت وقت جدال ومناقشة خصيم. لقد نصحني المطران بقوله أن الحواسّ قد تغش في الضئيل والجسيم. والغبي والحكيم والجاهل والعليم. إنه يعرف الحق ويقول غيره خوف كل عتل زنيم. إذ الجاهلون لا يعجبهم إلا التضليل والتهييم. ألم يقل لي أنك لا تقدر على تجديد القديم. وعلى تقويم ما لا يستقيم. نعم أن الحواس تغش وسيان في ذلك السفيه والحليم. والكريم واللئيم. ثم وقف قليلاً حتى يورد أمثلة على هذا وإذا به يقول. إن القبيحة الشوهاء إذا نظرت وجهها في مرآة تقول أن كنت شوهاء عند بعض فإني حسناء عند آخرين. ولذلك قال صاحب القاموس الشوهاء العابسة والجميلة ضدّ. وأن القناف إذا نظر جلمود أنفه قال يحتمل أن بعض الحسان يرغبن فيه وما يرين به أمتاً ولا عوجاً. وإن سادتنا القباح من الملوك والملكات وذوي السعادة والجدّ لا يصورهم المصورون إلا حساناً. وهم لا ينظرون أنفسهم في العناس إلا كما صورهم المصورون. وإننا لنرى الشمس طالعة ولما قد طلعت كما يقول الرياضيون. ونرى العصا في الماء معوجة وهي غير ذات عوج. وأن السراب يرى الشخص أثنين. وأن بعض الألوان يبدو بلونين. وإن السحرة يخيلون للناظرين أنهم يمشون على الماء ويدخلون في النار ولا يحترقون. ومن يك في سفينة ماخرة قابلة ديار وعقار فإنه يرى ما يقابله في الأرض متحركاً ماشياً وهو ساكن ثابت. ومن يعقد في شباك مناوح لشباك آخر مساو له في الارتفاع فإنه ينظره أعلى من شباكه. ولعل صاحبي الخرجي كان بكاؤه لداع غير داعي السلعة. فإنه يبلغني عن اللاعبين واللاعبات في الملاهي إنهم يبكون ويضحكون أيان شاءوا فلعل البكاء عندهم من الصنائع التي يتعلمونها على صغر. ماذا يفيدوني الخرج الآن. أأدعوه ويتركني. أأحبه ويبغضني. أأحمله وينبذني. فلما أبتدأ هذه السفاهة التي تعد عند الخرجيين كفراً. وعند السوقيين تسبيحاً. وعند المتوسطين بينهم سفاهة ناشئة عن الجزع. إذ الناس لم يتفقوا إلى الآن إلا على الخلاف مادت به السفينة ميدة شديدة يحسبها الخرجيون انتقاماً من الرب. والسوقيون عارضاً من العوارض. فجعل يصرخ ويقول ألا يا شيخ السوق عفواً بحق لحيتك التي عند الحلاقين إلا ما أجرتني. يا خرج. يا سلعة يا دفتر. يا ضواطرة. يا صعافقة. يا نساجي السلعة. يا صياغيها. يا مسديها يا ملحميها يا منيريها يا مطرزيها يا موشيها يا رقاميها يا رفائيها يا شصاريها يا خياطيها يا كافيها يا شراجيها يا نشاريها يا طوائيها يا قساميها يا لفافيها يا ملفقيها. تدار كوني بحقهم قد هلكت. فما كاد يتم هذا الدعاء إلا ومالت به السفينة ميلة تدحرج بها رأسه الصغير كالبطية. فجعل يصرخ ويستغيث ويقول لقد عدّيت عن التفديد. هذا أثره ظهر من أول الطريق فكيف يكون في آخره. ثم غشي عليه وصار يهذي ويقول الخر الخر. فسمعه أحد الركاب يكرر ذلك فظن أنه يشكو من أحد الأخبثين في فراشه. فلما لم يجد شيئاً قال هو يهذي من الألم وتركه. ثم قدر الله أن سكن البحر وصفا الجو وظهرت بعد ساعات أرض الإسكندرية. فجاء ذلك الرجل وبشر الفارياق برؤية الأرض. فقام متجلداً وغسل وجهه وبدل ثيابه. فلما خرجوا من السفينة سبقهم الفارياق وما كاد يطأ الأرض حتى تناول منها حصاة وألتقمها وقال هذه أمي. وإليها أمي. فيها ولدت وفيها أموت. ثم أنه توجه إلى خرجي كان في المدينة وأدى إليه كتاب توصية من الخرجي الآخر ولبث عنده ينتظر سفينة تسافر إلى تلك الجزيرة.

عرض كاتب الحروف

فلنهنئه بوصوله سالماً آمناً ولنقدم عرض حال للسدة الأميرية. والحضرة الملكية. حضرة بطريرك الطائفة المارونية كائناً ما كان. ثم نعرج قليلاً على السوقيين والخرجيين ونذكر الفرق بينهم. عرض كاتب الحروف

قد تفلت الفارياق من ناديكم. وانملص من بين أياديكم. وعنجر في وجوهكم جميعاً وأصبح لا يخاف لكم وعيداً وبقي الآن أن أذكركم ما أشططتم به من الظلم والطغيان والجور والعدوان على أخي المرحوم أسعد. إذ أودعتموه السجن في داركم الوزيرية بقنوبين نحو ست سنين. وبعد أن أذقتموه جميع ضروب الذل والهوان والبؤس والضنك في صومعة صغيرة لزمها فلم يكن يخرج منها إلى موضع يبصر فيه النور أو يستنشق الهواء اللذين يمن بهما الخالق على الأبرار والفجار من عباده قضى نحبه وما كان سجنكم له إلا لمخالفته لكم في أشياء لا تقتضي عذاباً ولا عتاباً. وما كان لكم عليه من سلطان ديني ولا مدني. أما الدين فإن المسيح ورسله لم يأمروا بسجن من كان يخالف كلامهم وإنما كانوا يعتزلونهم فقط. ولو كان دين النصارى نشأ على هذه القساوة الوحشية التي اتصفتم بها الآن أنتم رعاة التائهين وهداة الضالين لما آمن به أحد، إذ لا أحد من الناس يصبو إلا إذا كان يرى الدين الذي خرج إليه خيراً من الذي خرج منه. وكل إنسان في الدنيا يعلم أن السجن والتجويع والإذلال والتوعد والتأويق والتشنيع ليس من الخير في شيء. وناهيك أن المسيح ورسله أقرَّوا ذوي السيادة على سيادتهم وأمرتهم. ولم يكن دأبهم إلا الحضَّ على مكارم الأخلاق والأمر بالبر والدعة والسلم والأناة والحلم. فأنها هي المراد من كل دين عرف بين الناس. وأما المدني فلان أخي أسعد لم يأت منكراً ولا ارتكب خيانة في حق جاره أو أميره أو في حق الدولة. ولو فعل ذلك لوجب محاكمته لدى حاكم شرعي. فإساءة البطرك إليه إنما هي إساءة إلى ذات مولانا السلطان. لأننا جميعاً عبيد له مستأمنون في أمانه وحكمه. وكلنا في الحقوق سواء إذ البطرك ليس له حق في أن يخطف من بيتي درهماً واحداً لو شاءه فإني له أن يخطف الأرواح وهب أن أخي جادل في الدين وناظر وقال أنكم على ضلال فليس لكم أن تميتموه بسبب هذا. وإنما كان يجب عليكم أن تنقضوا أدلته وتدحضوا حجته بالكلام أو الكتابة إذا أنزلتموه منزلة عالم تخشون تبعته. وإلا فكان الأولى لكم أن تنفوه من البلاد كما كان هو يطلب ذلك. بل أصررتم على عتوكم في تنكيله وزعمتم إن فراره من داركم مرة لنجاة نفسه كان زيادة في جناية وجريرته فزتم تجبراً عليه وظلماً. وكأني بكم معاشر السفهاء تقولون أن إهلاك نفس واحدة لسلامة نفوس كثيرة محمدة يندب إليها. ولكن لو كان لكم بصيرة ورشد لعلمتم أن الاضطهاد والإجبار على شيء لا يزيد المضطهد وشيعته إلا كلفاً بما اضطهد عليه. ولاسيما إذا علم نفسه إنه على الحق وإن خصمه القاهر له على ضلال. أو أنه متحل بالعلم والفضائل وقرينه عطل عنها فقد فاتكم على هذا العلم الديني والسياسي. وعرضتم عرضكم للقذف والتسويد. وذكركم للمقت والتنفيذ. ما دامت السماء والأرض أرضاً. وإن أخي رحمه الله وأن يكن قد مات فذكره لن يموت. وكلما ذكره ذاكر من أهل الرشد والبصيرة ذكر معه أيضاً سوء فعلكم وأفحاشكم وغلو وجهلكم وشناعتكم وقد لعمري أخرج عنكم بموته من شيعتكم هذه المتوحمة على سفك الدم أكثر مما لو بقي حياً. وحسبك بالخواجه ميخائيل ميشاقه الأكرم وبغيره من ذوي الفضل والبراعة مثالاً. ألم تأخذكم يا غلاط الأعناق رأفة في شبابه وجماله. ألم تتأثر قلوبكم التارزة لصفرة وجهه حين حجبتموه عن النور والهواء. وحين ذوت غضاضة جسمه وبضاضته. وحين لم يبق ترارته غير الجلد والعظم وبخلتم عليه أيضاً أن تطلقوه بهما. ألم تشفقوا عليه إذ رأيتم أنامله قد ضنيت لعوز ما كان يتمتع به حمر ديركم ولقد طالما والله أخذت القلم فخطت ما يعجب به الملوك. ولقد طالما واللًه صعد المنبر فخطب فيكم ارتجالا والعرق يتصبب من جبينه ذاك الصليت. ولا شد ما ابكي سامعيه تذكيرا وتزهيداً. وطالما ألف وعرب لكم كتبا ركيكة وعلم حمقى رهبانكم وأخرجهم من ظلمات الجهل. ألم يغز وجوهكم الصفيقة ما كان يترقرق في وجهه من ماء الحياة فكان أشد خفراً من مخدرة. وإنه كان عزيزا في أهله مكرما عند الأمراء محبباً إلى الخاصة والعامة. نزيه النفس. كريم الخلق فصيح اللهجة. أنيس المحضة أمثله يحبس ست سنين ويذل وينكل ويموت والله يعلم بأي شيء مات. ما بال الكنائس الفرنسوية والنمساوية والإنكليزية والمسكوبية والرومية الأرثوذكسية والرومية الملكية والقبطية واليعقوبية والنصطوية والدرزية

والمتوالية والأنصارية واليهودية لا تفعل هذه الفظاعة والشناعة التي تفعلها الكنيسة الماورنية. أم هي وحدها على الحق والناس أجمعون على الباطل. ألستم تزعمون أن ملك فرنسا هو مجير الدين وناصره. والناس من أهل مملكته الكاثوليكيين ما زالوا يطبعون كتبا ينددون فيها بعيوب رؤساء كنيستهم وقبائحهم وسفاهتهم وفحشهم وشراهتهم وإلحادهم. بل أن كثيراً بل أن كثيرا منهم قد ألفوا تواريخ خاصة بما كان عليه الباباوات من الفسق والفجور وسوء التصرف. وبكفرهم بخلود النفس والوحي وبإلهية المسيح. فمنهم من قال أن البابا ارمديوس الثامن ويعرف بدوق صفوي رقي إلى درجة بابا وهو عامي. ومنهم من قال أن مجمع ياسيل إنما كان انعقاده لخلع البابا يوجين وإنهم حكموا عليه بالعصيان والارتشاء والشقاق والبدع ونكث اليمين. ومنهم من قال أن البابا نيقولاس الأول كان قد حرم كنتيار مطران كولون لمخالفته له في المجمع الذي عقد في متز سنة 864. فكتب المطران المذكور رسائل إلى جميع كنائسه يقول فيها. إن المولى نيقولاس الذي اتخذ له لقب بابا ويحسب نفسه أنه بابا وسلطان معاً وأن يكن قد حرمنا فقد علونا على سفاهته. ومنهم من قال إن أمبروسيوس حاكم ميلان حصل على درجة مطران مع أنه كان غير صحيح الاعتقاد بدين النصارى. ومنهم من قال أن البابا يوحنا الثامن أرسل نواباً من طرفه إلى القسطنطينية. فعقدوا ثم مجمعا اجتمع فيه أربعمائة أسقف وكلهم حكموا ببراءة فوتيوس وإنه جدير برتبة مطران. ومنهم من قال أن البابا اسطفانوس السادس أمر بأن تنبش جثة فرموسيوس أسقف بورطو من القبر لأنه كان قد أثار شغبا على سلفة البابا يوحنا الثامن ثم حكم عليه حالة كونه ميتا يقطع رأسه وثلاث من أصابعه وألقيت جثته في طيبر. وأن البابا سرجيوس كان قد استوزر ثاودورة أم ماروزيا التي تزوجت بمركيز طوكساني. وأنه أي البابا ماروزيا هذه ولداً رباه عنده داخل قصره من دون محاشاة أحد من أهل رومية. ثم تزوجت ماروزيا بعد ذلك بهون ملك أولس وعلمت على قتل البابا يوحنا العاشر لانه كان يهوى أختها. فخنقته بين فراشين واستبدت بالأمر. ثم احتالت أن ولت ليو هذه الرتبة ثم قتلته في السجن بعد أشهر. ثم ولت من بعده رجلا خامل الذكر فولي بعض سنين ثم عزلته ونصبت يوحنا الحادي عشر وهو ابنها من سرجيوس الثالث وكان قد أتي عليه أربع وعشرون سنة لا غير. وشرطت عليه أن لا يباشر من الأحكام إلا ما كان مختصا برتبة الباباوية. وإنها سمت زوجها ثم تزوجت بسلفها ملك لومباري وفوضت إليه الحكم. فقام أحد ولدها من زوجها الأول وشغب عليها أهل رومية وحبسها وابنها البابا في أنجلو. وإنه ولي بعده اسطفانوس الثامن. غير إنه لما كان بغيضا عند الرومانيين لكونه من جرمانية شوهوا وجهه فلم يقدر بعدها على الظهور بين الناس. ثم انتخب ابن ولد ماروزيا المسمى اكطافيانوس وله من العمر ثماني عشرة سنة وسمي من بعد ذلك يوحنا الثاني عشر. وكان خليعا ماجنا فحاشا مستهترا منهمكا في اللذات وهوى النفس مولعا بركوب الخيل والفروسية. وإنما لم يخل ذلك بأمور الكنيسة لان اكثر الدول والكنائس كان على هذه الحال. وأن أوثو الإمبراطور لما علم أن هذا البابا قد أضمر العصيان وكان أهل إيطاليا قد استدعوا حضوره لإصلاح ما اختل من أحوالهم توجه من بافيا إلى رومية. وبعد أن استتب له الأمر في المدينة عقد مجمعا حضر فيه البابا بنفسه وكثير من أمراء جرمانية ورومية وأربعون أسقفا وسبعة عشر كردينالاً وذلك في كنيسة مار بطرس. وشكى البابا بحضرتهم أجمعين أنه فسق بعدة نساء وخصوصا أيتنت التي ماتت وهي نفساء. وأنه قلد مطرانية طودى لغلام كان سنه عشر سنين لا غير.

وأنه كان يبيع الرتب والدرجات الكنائسية بيعا وسمل عيني أشبينه في المعمودية سملاً. وجبّ أي خصى أحد الكرادلة أو الكردينالات جباً. ثم قتله. وأنه لم يكن يؤمن بالمسيح وغير ذلك مما أوجب على الإمبراطور خلعه ونصب ليو الثامن في مكانه. إلا أنه لم يكد الإمبراطور يخرج من رومية حتى هاج البابا عليه أهل المدينة. وعقد مجمعا خلع فيه ليو الثامن وأمر بقطع يد الكردينال الذي كتب الشكوى عليه. وقطع أيضا لسان الكاتب الذي كان يقيد الحوادث وأنفه واثنتين من أصابعه. ثم قتل البابا يوحنا الثاني عشر وهو معانق لامرأة. وكان القاتل له على ما قيل زوجها. ثم أن القنصل كريستنيوس ابن البابا يوحنا العاشر من ماروزيا جيش أهل رومية على اوثو الثاني وسجن بندكتوس وكان من حزب الإمبراطور فمات في السجن. فلما بلغ ذلك مسامع أوثو وليّ يوحنا الرابع عشر. فقام عليه بونيفاس السابع الذي كان ولي الرئاسة من قبل القنصل وقتله. وبقي القنصل مستقلاً بتدبير الأمور ومباشرة الأحكام إلى أن قام غريغوريوس ابن أخت الإمبراطور وخلع اوثو الثالث. ثم احتال عليه الإمبراطور وضرب عنقه وأمر بأن تعلق جثته من القدمين. وسملت عينا البابا يوحنا الخامس عشر الذي أنتخبه الرومانيون وقطع أنفه ثم رمي به من ذروة قلعة صانت أنجلو. ثم عرضت الرئاسة الباباوية على البيع فاشتراها كل من بندكتوس الثامن ويوحنا التاسع عشر واحداً بعد واحد. وكانا أخوي مركيز طوسكاني ثم اشتريت لولد سنه عشر سنين وهو بندكتوس التاسع. ثم انتخب باباوان آخران وكان أحدهما يكفّر الآخر ويحرمه. ثم اصطلحا على أن يتقاسما دخل الكنيسة فيما بينهما وأن يعيش كل منهما مع سرّيته. ومنهم من قال أن كنيسة رومية أصدرت مرة منشوراً حكمت فيه على بعض ملوك فرنسا بان يطلق امرأته ويباشر دواعي التوبة سبع سنين. وإنه لما شهر المنشور في المملكة سقطت حرمة الملك من عيون الناس فتجنبته الخاصة والعامة حتى لم يبق عنده غير خادمين. ومنهم من قال أن البابا غريغوريوس السابع عقد مجمعاً في رومية على آنري الرابع سلطان جرمانية وقال فيه. قد خلعت آنري عن ولاية النمسا وإيطاليا وأعفيت جميع النصارى من الطاعة له ونقضت عهدهم له. ولست آذن لأحد في أن يخدمه باعتبار إنه ملك ذو سلطان. وأن آنري لما ضاق بذلك ذرعاً اضطر إلى الذهاب إلى رومية. فلما قدم على البابا وجده خاليا بالكنتس ماتيلدة في كانوزا فوقف السلطان يستأذن في الدخول لدى الباب ولم يكن معه أحد يخفره. فلما دخل المقام الأول اعترضه بعض حشم البابا ونزعوا عنه حلته الملكية وألبسوه ثوباً من الشعر. ووقف أيضاً ينتظر الأذن في صحن القصر حافياً وكان ذلك في قلب الشتاء. ثم ألزم أن يصوم ثلاثة أيام قبل تقبيل قدم البابا. فلما انقضت الأيام الثلاثة دخل به إلى مجلس البابا فوعده بالعفو بشرط أن ينتظر ما يحكم به عليه في مجلس اغوسبرغ. إلى أن قال ثم مات البابا المذكور وخلفه رئيس دير سُمَّي اوربانوس الثاني. وكان مثل سلفه في العتو والتجبر. فمن ثم جعل يحرض ابني آنري على قتال أبيهما. وهذه ثاني مرة هاج البابا فيها الأبناء على آبائهم. فقاما عليه وأودعاه السجن ثم فرَّ منهومات في لياج مسكينا ذليلاً. ومنهم من قال أن آنري السادس ولد فريدريك الثاني سار إلى رومية ليتوجه البابا سيلستانوس. ولما كان الإمبراطور متطأطأ لتقبيل قدمه وعلى رأسه تاج الملك رفع البابا رجله ورفس بها التاج عن رأسه فوقع على الأرض وكان سن البابا وقتئذ ستاً وثمانين سنة. ومنهم من قال أن بعض الباباوات وأظنه اينوصنت الثالث حرم الملك لويس وأباه. غير أن مطارين فرنسا نسخوا حكمه وأمروا بإلغائه. وأن البابا اينوصنت الرابع عقد المجمع الثالث عشر الإمبراطور فريدريك الثاني وذلك في سنة 1345 وحكم عليه فيه بكفره وبأنه كان يتسرى بجواري مسلمات. فناضل عن الإمبراطور خطباؤه وحزبه وردَّوا على البابا أنه افتض بنتاً وارتشى غير مرة. ومنهم من قال أن البابا المذكور أغرى طبيب الإمبراطور المشار إليه بأن يدس له السم في طعامه. وأن البابا لوقيوس الثاني ولي مرة حصار رومية بنفسه ومات من رمية حجر على رأسه. وأن البابا إكليمنضوس الخامس عسر كان يجول في فينا وليون لجمع المال ومعه عشيقته. وإن راهباً من الدومينيقيين سم الإمبراطور آنري عن أمر البابا وذلك في القربان

الفرق بين السوقيين والخرجين

وإنه في سنة 1200 تزاحم باباوان على الرئاسة وجمع كل منهما حزبه للقتال وعلى راية كل صور المفاتيح. وأن أحدهما تصرف في آنية كنيسة مار بطرس وأنفقها في أهبة الحرب. وأن البابا أوربانوس كان يعذب كل من خالفه من الكرادلة أو الكردينالات وفي ذلك الوقت أنكرت دولة فرنسا رئاسة البابا واستبدت أساقفتها بأمور رعيتهم. ومنهم من قال أن البابا يوحنا الثالث والعشرين شكي بأنه سم وباع الوظائف الكنائسية وقتل عدة أبرياء. وأنه كان كافراً ولوطياً معاً. فمن ثم خلع بحضرة الإمبراطور. إلى غير ذلك مما يضيق عنه هذا الكتاب فإني لم أضعه في الدين وإنما أوردت ما مرّ بك على سبيل الاستطراد. فإن كان ما قاله هؤلاء المؤلفون من الفرنساويين حقاً كان أبرّ من هؤلاء الأئمة وأتقى. إذا لم يُشْكَ قط بأنه لاط أو زنى أو سم أحداً أو هاج الأبناء على آبائهم ليقتلوهم. أو أنه اختلس آنية الكنائس أو طغى وتجبر على سلطانه أو ارتشى. وإنما هي مماحكات جرت بينه وبين بطركه على أشياء غير مقيسة ولا معدودة ولا موزونة ولا مكيلة. فأنت تقول مثلاً أن دركات قنو بين المؤدية إلى سجَّين ثلاث. وهو قال ثلاثمائة. وأنا أقول ثلاثة آلاف. فما مدخل السجن هنا والعذاب. وإن كان ما قالوه كذباً وافتراء كان ذلك أدعى إلى تنكيلهم والاقتصاص منهم. لافترائهم على أحبار الله وخلفائه فواحش لن يستطيع عباد الفتيش أن يأتوا بأفظع منها. مع أنا لم نر أحد منهم عُذب أو نفي استفز من داره أو أنف من محضره. بل قد طبعت كتبهم المرة بعد المرة. وسعرها في الأسواق كسعر كتب العلم. ولعل قائلا أن عرضك هذا موجه إلى البطرك المتولي الآن وهو من أهل الفضل والمكارم وليس هو الذي سجن أخاك وقتله وإنما سلفه. قلت عندي علم ذلك. غير أنه ما دام هو يعتقد بأن ما فعله سلفه كان صواباً فهو شريك له ولا يلبث أن يعامل من يقتدي بأخي معاملة سلفه. وكذلك يعم اللوم جميع المطارنة والأساقفة والقسيسين والرهبان أن كانوا يصوبون ما فعله البطرك المتوفى. وكنت أود لو أختم هذا العرض بعتاب أوجهه إلى حضرة المطران بولس مسعد ابن خالي وخال أخي وكاتب أسرار البطرك. ولكني خشيت الآن من الإطالة. وفيما قلت ما يغني اللبيب. الفرق بين السوقيين والخرجين

اعلم أن للسوقيين شهرة عظيمة في جميع الأقطار. وذلك أنهم احتكروا السلعة منذ القديم في مخازن لهم. وقالوا كل من لم يشتر من مخازننا أنزلنا به القصاص. ثم أنهم أخفوا دفتر أسعار البياعات عن المشترين وغالوا بثمن الأصناف وأشطوا. فكانوا يتقاضون من المشتري أضعاف القيمة. ثم اتخذوا لهم معامل ومخازن في جميع الأمصار وجعلوها مظلمة خالية عن الكوى ومنافذ النور. فكانوا يبيعون منها من غير أن يبدو حقيقة لون السلعة ورقعتها. وكانوا يجعلون ما يبيعونه من أصنافها ملفوفاً مظروفاً فيأخذه الشاري وينطلق به ولا يرى منه شيئا. وكان عندهم من النساجين والخياطين والرفائين والصباغين ما يفوق العدد. فكان هؤلاء يصنعون لهم كل ما يأمرونهم به. واتفق في بعض السنين أن وقع موات ذريع في الماشية وأمحلت البلاد فقلّ الصوف والحرير عندهم وكادت الانوال والمعامل تتعطل. فارتأى رجل منهم من أهل الحصافة والحذق أن يستعمل الشعر وبعض أصناف الحشيش بدل ما أعوزهم من الحرير وغيره. وجاء عمله هذا متقنا محكما حتى اشتبه على أكثر الناس. ثم أن نفراً من المعسرين الذين حملهم الضنك في المعيشة على توسيع دائرة الفكر والنظر في الأمور والتمييز لها فإن جل العلماء والمستنبطين من الصعاليك ذهبوا يوماً إلى بعض المخازن لشراء ما لزم لهم وجاءوا بما اشتروه إلى منازلهم ملفوفا مصوناً على العادة. وكان أحدهم يهوى إمرأة يريد أن يتزوج بها وقد اشترى لها منديلاً. فلما أهداها إياه بحضرتهم وكانت ذات استشراف واستطلاع واستكشاف للمستور كما هو شأن سائر النساء. أخذت المنديل وقبل أن تشكره على معروفه أدنته من نور السراج إذ كانت زيارتها له في الليل. فرأت فيه خللاً كبيراً مع أن النور كان طفيفاً يوشك أن ينطفئ. وإذا بها صرخت تقول بئس من باعك هذا أنه قد غبنك. إن فيه خللاً مثل الذي قد فتنك. فلما سمعوا ذلك تنبهوا فأخذ بعضهم ينسل حاجته. وصار الآخر يقيس ثوبه على قامته وهلمّ جرّا. فظهر لهم أن البضاعة ليست على وفق مرادهم. لأن من ذهب ليشتري حاجة بلون أحمر وجدها سوداء. ومن أراد ثوباً طويلاً وجده قصيراً. ومن أراد حريراً وجده كرباساً فرجعوا بها في الغد إلى الباعة وقالوا لهم قد بعتمونا ما لم نرده. وأوردوا لهم عللاً وأسباباً للإقالة. فقال صاحب المنديل لقد كدتم تسودون وجهي عند محبوبتي البيضاء. وكادت تغاضبني لما أتحفتها من سقط المتاع لولا إنها طمعت فيما يكون خيراً منه. فقالت لهم الباعة إنما بعناكم ما طلبتم ولكن على أبصاركم غشاوة فلستم تبصرون اللون ولا الرقعة ولا تعرفون المقادير ولا المقاييس. فقال من اشترى الثوب كيف يمكن أن يجهل الإنسان قامته ويعرفها آخر غيره. وقال صاحب اللون الأسود إنما أردت اللون الأحمر وها أن ثوبك أسود ورفيقاي هذان يشهدان لي وما هو واضح لكل ذي عينين. فقال له البائع أنت أعمى لا تميز الألوان ثم ذهب ليأتيه بلماك ليكحله به فأبى ذاك وقال لا بل أنت عمه أعمى. وقال من أشترى الكرباس بدل الحرير هب أن البصر يغش أفيخفي اللمس على الأعمى. فلج بينهم الجدال والعناد وملئوا المكان صخباً وضجيجاً. وفيما هم على ذلك إذا برجل أقبل يسعى وهو يلهث بُهراً وقد اندلع لسانه ووضع يديه على كشحيه. فما كاد يدخل الحانوت حتى سقط لا يستطيع حراكاً وغدا يئن ويقول آه امرأتي آه امرأتي. ثم غشي عليه ساعة. فلما أفاق أدار نظره يمينه ويسره فرأى غريمه. فلم يتمالك أن وثب من مجثمه وقال. يا أهل الفساد. ومروجي الكساد. ومسببي الفتن بين المرء وزوجته ومفرقي الأب عن ابنه وابنته. وغابني الأغرار من الشارين ومبرقعي وجوه المبصرين. كيف حلّ لكم من الله أن تغشوني وتبيعوني ما لا حاجة لي به. إني أتيتكم بالأمس أطلب منكم أن تبيعوني لحماً لأتخذ منه مرقاً لزوجتي لأنها عليلة مذ أيام. فبعتموني كسر خبز وقلتم لي إنه لحم غريض. فلما أوقدت النار لأطبخه إذا به خبز فباتت امرأتي من غير أن تذوق شيئاً وقد أصبحت لا حراك بها بلسانها. فهي لا تزال تلعن تلك الساعة التي رأتني فيها قبل الزواجز وتسب القسيس الذي كان السبب فيه. وقد حلقت إنها إذا برئت من مرضها لتأمرن النساء جميعاً يكن مع أزواجي ضجعاً مفسلات مناشيص وكأنه لما قال ذلك فار دمه في دماغه فوثب من مكانه وكاد أن يبطش بالبائع. لولا أن تداركه بعض الصنّاع في الحانوت.

الكتاب الثاني

فلما تملص البائع من يديه صعد منبراً وقال. أيها الخصماء. ولا تعجلوا إلى اللوم فإنه من دأب اللؤماء. أن عيونكم قد غشي عليها فهي تبصر الأحمر أسود. وذوقكم قد فسد فعندكم أن اللحم خبز مُفْتاد. وعقلكم قد رك وحرض فأنتم تحسبون الحرير قطناً. والجوهر عهنا. فما ينصفنا إلا قيم السوق فهلموا إليه وإلا فأنتم من أهل الكفر والفسوق. فلما سمعوا مقالته وعلموا أن محاكمته لهم عند شيخ السوق شطط لكونه أضعف منهم بصراً وبصيرة لهرمه. التهبوا غيضاً فجعلوا يركسون الأمتعه ويشوشونها ويبعثرونها ويمزقون كل ما قدروا عليه ويطئون ما أمكن لهم وطؤه ويكسرون كل ما أصابوا من معد وصندوق وكؤوس وأكواب وخرجوا وهم سامدون. ثم تواطئوا على أن يعتقدوا مجلساً تلك الليلة ليدبروا في أمورهم. فلما كان المساء اجتمعوا وقالوا قد اتضح لنا إن هؤلاء الباعة ظالمون غابنون. وإن حواسنا لم تر الشيء إلا على ما هو عليه. فشكراً لله ولصاحبة المنديل التي هدتنا إلى هذا. فتعالوا نستقلّ بأمورنا ونعمل لنا مخازن ومعامل كما عملوا هم. ثم اتخذوا لهم شيعة وأخدانا وأصحاباً وأعواناً. وأسقطوا عنهم من السعر ما أمال إليهم كثيراً من الناس. وقالوا لهم أن عهدنا إليكم أن نبيعكم البضاعة بمرأى أعينكم ولمس أيديكم وذوق ألسنتكم. ومن لم يرض شيئاً اشتراه فإنا نبدله له بما هو خير منه. ثم بحثوا عن الدفتر ونشروه في جميع البلاد واستعملوا لذلك وسائل مختلفة. وقالوا للناس هاؤكم الدفتر النور. والدستور الأكبر. فلا تشتروا منا حاجة إلا على مقتضى تسعيرة. ولا تذهبوا إلى شيخ السوق فإنه هالك في غروره. فرضي الناس بما اشترطه هؤلاء على أنفسهم. وانفصلوا عن الشيخ المذكور وعن حزبه. وغدا كل من الحزبين يكذب حريفه ويسوئ عليه ويخطئه ويسفه ويحمرّه ويفنده ويحرفه ويلعنه ويكفره ويؤثمه ويفسقه. وسبحان من يداول الأيام بين الأنام. الكتاب الثاني دحرجة جلمود قد ألقيت عني والحمد لله الكتاب الأول وأرحت يافوخي من حمله. وما كدت أصدق أن أصل إلى الثاني فإني لقيت منه الدُّوار. ولا سيما حين خضت البحر مشيعاً للفارياق تفضلاً وتكريماً. إذ لم يكن مفروضاً عليّ أن أرافقه في كل مكان وقد مضى عليّ حين بعد وصوله إلى الإسكندرية والتقامه الحصاة من الأرض ولسان قلمي يتمطق وثغر دواتي مطبق حتى عاد إلى نشاطي فاستأنفت الإنشاء ورأيت أن أبتدئ هذا الكتاب الثاني بشيء ثقيل ليكون عند الناس أكثر اعتباراً وأطول أذكاراً. وكما إني ابتدأت الكتاب الأول بما يدل على إلمامي بشيء من العلويات إن كنت لما تنس ما مر بك، استحسنت الآن أن آخذ في شيء من السلفيات لأجل المطابقة. هذا ولما كان الحجر من الجواهر المنيعة المفيدة راق لي أن أدحرج منه هنا جلموداً من أعلى قمة أفكاري إلى أسفل حضيض المسامع. فإن وقفت تنظر إلى تصوبه من دون أن تتعرض له. وتحاول توقيفه مرَّ بك كما تمر السعادة عليّ. أي من غير أن يصيبك منه شيء. وإلا أي من استسهلت حبسه عن منحدره كر عليك ودفعك تحته. والعياذ بالله مما وراء هذا الدفع. فأنظر إليه ما هو متحرط للسقوط. هاهو متصوب فالحذر الحذر. قف بعيداً وأسمع من دويًه ما يقول. أن من نظر بعين المعقول إلى هذه الدنيا وإلى ما أختلف فيها ائتلف من الأحوال والأطوار والجوار والأعراض. والأوطار والأغراض. والعادات والمذاهب. والمراتب والمناصب. وجد أن كل شيء يمر عليه منها يفوق كنهه إدراكه ويفوت تأمله. وأن حواسنا وأن تكن قد ألفت أشياء لم تغادر الألفة عليها محلاً للتعجب منها. إلا أن تلكم الأشياء لا تنفك في نفس الأمر عن كونها معجبة محيرة ومن تبصر في أدنى ما يكون منها حق التبصر رأى نفسه كمن قد أهمل أداء فرض تعين عليه. أنظر مثلاً إلى اختلاف ضروب النبات في الأرض فكم فيه من الأزهار البديعة الصنعة العجيبة الكينة من دون أن نعلم لها منفعة خصوصية. وإلى اختلاف أنواع الحيوان من دبابات وهوام وحشرات وغيرها. فإن منها ما هو حسن الشكل ولا فائدة منه ومنها ما هو قبيحه والحاجة إليه ماسة. وأنظر في السماء إلى هذه النجوم درارئها كوكب درّي ويضم متوقد متلألئ. وخنسها الخنس الكواكب كلها أو السيارة أو النجوم الخمسة إلخ. وبيانياتها الكواكب البيانيات التي لا تنزل بها الشمس ولا القمر.

وتوائمها توائم النجوم واللؤلؤ ما تشابك منها. وبروجها معروف وتنينها التنين بياض خفي في السماء يكون جسده في ستة بروج وذنبه في البرج السابع الخ. ومجرتها باب السماء أو شرجها. ورجمها النجوم التي يرمى بها. وأعلاطها أعلاط الكواكب الدراري التي لا أسماء لها: وإناثها الإناث صغار النجوم. وخسانها النجوم لا تغرب كالجدي والقطب وبنات نعش والفرقدين. وأنوائها النوء النجم مال للغروب أو سقوط النجم في المغرب مع الفجر وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق. التي يرجع البصر عنها وهو كليل. وإلى اختلاف سجن الناس ورؤوسهم. فإنك لا تكاد ترى سحنة بشر تشبه سحنة آخر غيره. ولا تجد بين رؤوسهم أي عقولهم رأساً يشبه غيره. فمن عباد الله هؤلاء من أختار المخالطة والمقارفة. والمحاشرة والمزاحمة والمضاغطة والمصادمة. والمباراة والمعاجمة. والملاهسة والمداحمة. والمجاحسة والمداغمة. والمزاعمة والمداهمة. والمساومة والمزاهمة. على اختلاف فيها. وذلك كالتجار والنساء. ومنهم من قابلهم بضد ذلك فاختار العزلة والانفراد كالنساك والزهاد. ومنهم من جعل دأبه التهافت على اليمين والافتراء. والغلو والإطراء. كالشعراء والمستأجرين لمدح الملوك فيما يطبعونه من هذه الوقائع الإخبارية -ومنهم من قابلهم بضده فآثر الصدق والتحري- والتحقيق والتروي. والقول الفصل والمطابقة بين الماضي والحاضر والآتي. وذلك كأهل الفلسفة والحكمة والرياضة. ومنهم من يعمل النهار كله ويكد بكلتا يديه وكلتا رجليه وربما لم ينطق بكلمة واحدة. وذلك كأصحاب الصنائع الشاقة، ومنهم من لا يحرك يده ولا رجله ولا كتفه ولا رأسه وإنما ينطق في بعض أيام الأسبوع بكلمات ثم يقضي سائر الأيام مستريحا متنعما -مترفها متترفا- وذلك كالخطباء والوعاظ والمرشدين إلى الدين. ومنهم من يفتك ويبطش ويجرح ويقتل كالجند. ومنهم من يعالج ويداوي ويشفي ويحي كالإساءة وأولياء الله تعالى أهل الكرامات والمعجزات. ومنهم من يستأجر للتطليق. ومنهم للتحليل. ومنهم للإيلاد. ومنهم للإلحاد. ومنهم للتفريق. ومنهم للتأليف بين الآحاد. ومنهم من يتكوى في بيته فلا يكاد يخرج منه إلا لضرورة. ومنهم من يصعد الجبال والأدقال. والمنابر والأشجار. ومنهم من يهبط الأودية والبواليع والمراحيض. ومنهم من يسهر الليالي في تأليف كتاب. ومنهم من لا يذوق النوم حتى يحرقه. ومنهم من يسود ومن يساد. ومنهم من يقود أو يقاد. ومع هذا التنافي والتباين فمآل مساعيهم وحركاتها كلها إلى شيء واحد. وهو إدخال الإنسان خنابتيه غداة كل يوم في رائحة كريهة قبل أن يستنشق روائح الأزهار. ويتمتع بمتوع النهار. وأعجب من جميع ما مر بك من هذه الأحوال حالتا أصحابنا السوقيين والخرجيين. فإن حرفتهم لما كانت لا تتوقف إِلا على استعمال أداتين فقط. أي المخيلة والقسم دون افتقار إلى آلة أخرى. وكان مورد أقوالهم. ومصدر جدالهم. ومبنى انتحالهم. وجلّ رأس مالهم قولهم يحتمل أن يكون هذا الشيء من باب المجاز الإسناد أو اللغوي. أو من مجاز المجاز أو الكناية. أو من حمل النظير على النظير. أو النقيض. أو من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم أو بالعكس. أو من قبيل ذكر البعض. وإرادة الكل أو بالعكس أو من نوع أسلوب الحكيم. أو من باب التهكم. أو من طاقة التلميح. أو من كوّة الالتفات. أو من خرق الحشو. أو من خرت الإدماج. أو من خصائص الاكتفاء. أو من شق الاحتباك. أو من سم عكس التشبيه. أو من خلل سوق المعلوم مساق غيره. أو من فتخات التجريد. أومن فرجة الاستطراد. أو من ثقوب التورية. لم يكن من اللائق بهم أن يخلطوا هذه الأوّات وتلك اللوَّات بشيء. من العرّادات العرّادة شيء أصغر من المنجنيق. والدبابات الدبابة آلة تتخذ للحروب فتدفع في أصل الحصن فينقبون وهم في جوفها. الدراجة الدبابة تعمل لحرب الحصار تدخل تحتها الرجال. المنجنيق. المنجنيق آلة ترمي بها الحجارة كالمنجنوق معربة والمنجليق المنجنيق والنفَّاطات النفّاطة أداة من نحاس يرمي فيها بالنفط. والخَطّار المنجنيق والذي يطعن بالرمح. والسبطانات السبطانة قناة جوفاء يرمي بها الطير. والضبر جلد يغشى خشباً فيها رجال تقرَّب إلى الحصون للقتال.

والقَفْع جُنَّة من خشب يدخل تحته الرجال يمشون به في الحرب إلى الحصون والجُلاهق الذي يرمي به ونحوه البراقيل والبنادق. والَحسَك أداة للحرب من حديد أو قصب فيلقى حول العسكر تعمل على مثال الحسك المعروف. والقُرْدُمانّي قباء محشو يتخذ للحرب وسلاح كانت إلا كاسرة تدخرها في خزائنهم والدروع الغليظة. والتجفاف آلة للحرب يلبسه الفرس والإنسان. واليَلب التِرَسة أو الدروع من الجلود. والسَرْد اسم جامع الدروع. والدَرَق التروس من جلود بلا خشب ولا عقب ونحوه الحجف. والحرشف الرجالة وما يزيّن به من سلاح. والعَتَلات العَتَلة العصا الضخمة من حديد لها رأس مفلطح يهدم بها الحائط. والمِنْسَفات المِنسفة آلة يقلع بها البناء. والفَلقَ مقطرة السجّان وهي خشبة فيها خروق على قدر سعة الساق والَخنازر الَخنزرة فأس عظيمة يكسّر بها الحجارة. والعذراء شيء من حديد يعذّب به الإنسان لا قرار بأمر ونحوه. والمقاطِر المقطرة خشبة فيها خروق على قدر سعة أرجل المحبوسين. والمراديس المِرداس آلة يدك بها الحائط والأرض. والدَهَق خشبتان يغمز بهما الساق. والصاقور الفأس العظيمة. والمَلاطِس المِلْطس المِعول الغليظ. والمَقاريص المقراص السكين المعقرب الرأس. والملاوظ المِلوظ عصا يضرب بها. والمقامع المِقمعة خشبة يضرب بها الإنسان على رأسه. والمقافع المقفعة خشبة يضرب بها الأصابع. والحَدّأة الفأس ذات الرأسين. والمِنقار حديدة كالفأس. والمهامِز المِهْمزة المقرعة أو عصا. والعرافيص العِرْفاص السوط يعاقب به السلطان. والمخافق المخفقة الدِرّة أو سوط من خشب. ولا بالرماح الطاعنات والسيوف الباترات والنبال الصاردات والنصال المدميات والمقادع المولمات والمقارع المضنيات والصلب المهلكات والخوازيق النافذات والأغلال المصلصلات والنيران المتأججات والغارات والغزوات والنكايات والكبسات والاستلابات والافتضاضات والاثكالات والعداوات والمشاحنات وآخر الجميع بالركاكات. فكم لعمري من دم سفكوا. وجند أهلكوا. وعرض هتكوا. وحرمة انتهكوا. وذي أهل ربكوا. وعزب همكوا. ونساء أيّموا وأولاد يتموا. وبيوت خرّبوا. وأموال نهبوا. ومصون أذالوا. وحرز نالوا. ومستور فضحوا. وحرام أباحوا. فهل فعل ذلك من قبلهم شَدَنة. الأنصاب الأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ عليها ويذبح لغير الله تعالى. والكعَبَات الكعبات أو ذو الكعبات بيت كان لربيعة كانوا يطوفون فيه والربّة كعَبة لَمذحِج. وبُسّ بيت لغطفان بناها ظالم بن أسعد لما رأى قريشاً يطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة فذرع البيت وأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة فرجع إلى قومه فبنى بيتاً على قدر البيت ووضع الحجرين فقال هذان الصفا والمروة واجتزأ به عن الحج فأغار زهير بن جناب الكلبي فقتل ظالماً وهدم بناءه. وعَبَدة مَرحَب صنم كان بحضرموت. والعَبْعَب صنم. والغَبْغَب صنم. ويَغُوث صنم كان لمذحج. والبُجّة والسجّة صنمان. وسَعْد صنم كان لبني ملكان. وود صنم ويضم. وآزر صنم. وباَجر صنم عبدته الأزدويكسر. وجِهار صنم كان لهوازِن. والدوَّار صنم ويضم. والدارِ صنم سمّي به عبد الدار أبو بطن. وسُعَير صنم. والأُقَيْصِر صنم. وكَثْرَى صنم لجديس وطسم كسره نهشل بن الرئيس ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. والضمار صنم عبده العباس بن مرداوس ورهطة. ونَسْر صنم كان لذي الكلاع بأرض حمير. والشمس صنم قديم. وعُمْيانِس صنم لِخَولان كانوا يقسمون له من أنعامهم وحروثهم. والفِلسْ صنم لطيء. وجُرَيش صنم كان في الجاهلية. والخلصة صنم كان في بيت يدعى الكعبة اليمانية لخثعم. وعوْض صنم لبكر بن وائل. وإِساف صنم وضعه عمر بن لَحيّ على الصفا. ونائلة صنم آخر وضعه على المروة وكان يذبح عليهما "في قول". والُمحرَّق صنم لبكر بن وائل. والشارقِ صنم في الجاهلية. والبعل صنم كان لقوم الياس عم. وسواع صنم عبد في زمن نوح عم فدفنه الطوفان فاستشاره إبليس فعبد وصار لهذيل وحُجّ إليه. والكُسْعة صنم. والعَوْف صنم. وذي الكفَّين صنم كان لدوس. ومناف صنم

ويعوق صنم لقوم نوح أو كان رجلاً من صالحي زمانه فلما مات جزعوا عليه فأتاهم الشيطان في صورة إنسان فقال أمثله لكم في محرابكم حتى كلما صليتم ففعلوا ذلك به وبسبعة من بعده من صالحيهم ثم تمادى بهم الأمر إلى أن اتخذوا تلك الأمثلة أصناماً يعبدونها. والأشهل صنم ومنه بنو عبد الأشهل لحيّ من العرب وهُبل صنم كان في الكعبة. وياليل صنم. والبَعيم صنم والتمثال من الخشب والدمية من الصبغ. والأسحم والأسحم ونهُمْ صنم لمزينة وبه سموا عبد نهم. وعائِم صنم. والضَيْزن صنم. والمدان صنم. والجبهة صنم. واللات صنم لثقيف سمى بالذي كان يلتّ عنده السويق بالسمن ثم خفف وهو في حديث عروة الرَّبة. وذي الشرى صنم لدَوْس. والعزَّى صنم أو سَمُرَة عبدتها غطفان أول من أتخذها ظالم بن أسعد فوق ذات عِرْق إلى البستان بتسعة أميال بنى عليها بيتاً وسماه بساً وكانوا يسمعون فيها الصوت فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلمخالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة. ومناة صنم. واِلالاهة الحية والأصنام والهلال والشمس ويثلث كالاليهة. والطاغوت اللات والعزّى والكاهن والشيطان وكل راس ضلال والأصنام وكل ما عُبد من دون الله. والزَوْن الصنم وما يتخذ ويعبد- والموضع تجمع فيه الأصنام وتنصب وتزيَّن. والجِبْت الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه وكل ما عُبد من دون الله تعالى. أو عبدة الشمس والقمر وزحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد وفُرْدود والفرقد والذِيْخ والكَتَد والعوائذ والحَضار والأحور والزُبْرة والأظفار والعُذر والمعَرَّة والأعيار والنثرة والجوزاء والبرجيس والتياسين والمَيْسان والسُنَّيق والشَرَطين والفارطين والأثافي والعيوق والعوهقين والصرفة والطرفة والأبيض والضباع والهقمة والهنعة والردف والمغلف والناقة والنسقين والسماكين وشُهَيل والشولة والعوكلين والمِرْزَمين والسلم والبُطَين والقدر والحية والتحايي والخراتين والخِباء وسُهَي والشاة والعَوَّاء وكُوَيّ.

فكان يجب عليهم أن يجمعوا رأيهم على أمر واحد ويقولوا من حيث أن حرفتنا لا تحتاج بحمد الله إلى قياس وعدد كحرفة الطبيعيين والمهندسين والرياضيين. فإنهم أيّان طلب المناقش منهم دليلاً بادروا حالاً إلى البرهان بالمقادير والمساحة والحساب. فانصبوا أنفسهم وأنفس سائليهم. كان حقاً علينا أن ننهج منهاجاً مريحاً يقرّبنا ومُعاملينا إلى الغرض المقصود. وهو أن نيسر أسباب تعلم هذه الحرفة لكل مضطر إليها منهم. فمن شاء بعد ذلك أن يلبس قباء أوجبة مع سراويلات من تحتها أو تبان فليصنعها هو بأي لون أعجبه وبأي شكل راق له. إذ ليس من الرشد أن يعترض الإنسان إنساناً آخر في كيفية لبسه أو في ذوقه ومنامه. لأن أبن آدم من يوم يستهل بالبكاء إلى أن يبلغ أربع عشرة سنة يعيش مستغنياً عنا مفتقر إلى ما رسمنا به عليه. إذ الغريزة تهديه إلى ما يلائمه ويصلح له. إلا ترى أن الطفل إذا خُلي وطبعه لم يلبس الكتان الرفيع في الشتاء وإن كان مطرّزاً. ولا الفرو في القيط وأن كان مزركشاً. وأنه متى جاع طلب الأكل. ومتى نعس نام. وأن طربته بجميع آلات الطرب والأنغام. ومتى ظمئ شرب. ومتى تعب استراح فهو في غنى عنا من أصل الفطرة. حتى أنه يمكنه بحول الله تعالى أن يعيش مائة وعشرين عاماً وشهراً من دون رؤية وجه أحد منا أو مشاهدة تاجه وحلته الفاخرة وخاتمه النفيس وعصاه المفضضة. فلندع الناس إذاً في دعتهم وسلامتهم وشغلهم. ولا نتطفل عليهم ولا نكلفهم ما لا طاقة لهم به. إذ لو شاء الله أن يخرج الطفل إلينا لأوحى إليه أن يسأل أبويه من وقت ترعرعه عن أسمائنا ومقامنا. وعما نحن عليه من المماحكة والجدال، والقيل والقال، والتشاحن والتشاجر، والتناقر والتنافر، والتلاعن والتهاتر، والتدابر والتهاجر، وأحسن من تركه على هذه الحالة ما إذا عنينا بتأديبه وتربيته وتهذيبه وتعليمه صنعة تنفعه في تحصيل معيشته والديه. كالقراءة والخط والحساب والأدب والطب والتصوير. وما إذا نصحنا له أن يسعى في خير أبويه نفسه وخير أبويه ومهارفه وجنسه وكل من صدق عليه أنه إنسان بقطع النظر عن هيئات اللباس وتفاوت الألوان والبلاد. لأن اللبيب الرشيد لا ينظر إلى الإنسان إلا لكونه متصفاً بالإنسانية مثله. ومن أعتبر الأمور الطارئة عليه كالألوان والطعام والزي فإنه يتباعد عن مركز البشرية كثيراً. وإنما يتم حسن صنيعنا هذا كله ما صنعناه حسبة لوجه الله تعالى. غير طالبي الجزاء والهدايا. ولا النذر والعطايا. لأن كثيراً من الأطباء يداوون المعسرين مجاناً. فترى أحدهم يغادر طعامه وفراشه ويذهب إلى مريض محموم أو به جدري أو طاعون احتساباً عند الله. إذ الناس كلهم عيال على الله. وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله. هذا ما كان ينبغي أن يقولوه. وهذا ما أقوله أنا. تأمل في خرجي أقبل يطوف البحار والأمصار. ويجول في الجبال والقفار. ويعرّض نفسه ونفس من ينحاز إليه للسب والقذف والعداوة والمشاحنة وما ذلك ألا ليقول للناس أنه أعرف منهم بأحوالهم. وإذا سُئل عن دواء لعين رمدت أو ساق قرحت أو أُدرة انتفخت أو إصبع دميت. أو إذا قيل له ما ترى في من كثرت عياله، وقلّ ماله، وعّظه زمانه، وجار عليه سلطانه، فمني بالجوع، وحرم الهجوع. وأصبح يمشي والناس ينظرون جهوته، ويتجنبون خلطته. ولا يستعملونه ولا يستخدمونه، لما تقرر في عقولهم من أن الفقير لا يحسن عملاً. وقد أصبحت أولاده يبطون ويتضورون وامرأته تشكو وتسترحم ولا راحم لها لكون شبابها قد ذهب في تربية أولادها. أو قيل له هل عندك من مأوى لضيف عرير، ما له من نصير؟ قال ما جئتكم لهذا وإنما قدمت إليكم لأنظر في أنوالكم التي تنسجون عليها بضاعتكم وفي ألوانها التي لا تشاكل ما عندي في الخرج من اللون الناصع، وما أن يهمني النظر فيما فيه راحتكم وإنما الراحة فيما به تعبكم. ولو تعطلت جميع معاملكم لاقتصاركم على لوني الذي أبرزه لكم راموزاً وعنواناً واستوجبتم بذلك لوم التجار والحراث والحكام لم يكن عليّ في ذلك من شيء.

وهذا سوقي يضع إحدى عينيه على فم جاره والأخرى على عينيه. ثم يغلّ يديه ورجليه. ويقول له اليوم يجب عليك أن تتنحس. لأن شيخ السوق أصبح متخماً يشكو وجعاً في معدته وأمعائه وأضراسه وهو نحس. فينبغي أن نجانسه ونمسك معه. لا يحل لك لليوم أن تنظر. لأن الشيخ المشار إليه أضربه طوال السهر البارحة مع ندمائه ونديماته فغدا وبإحدى عينيه الكريمتين رمد أو عمش. لا يحل لك اليوم أن تعمل بيديك. ولا أن تحرك رجليك. ولا أن تسمع بأذنيك. أو تستنشق بمنخريك لأن السوق اليوم لم تقم والبياعات لم تنفق. ثم هو إذا قيل له أفلا تصلح بين زيد وزوجته فقد خاصمته بالأمس بعد أن جاءت من حانوتك العالي وتماسكا بالشعور وحلفت المرأة لتمنينه بحيزبون أو لتشكونه إلى أحد أصحابك الضواطرة الكبار. أو أن عمرا قد حبس منذ يومين لكونه دان بعض الأمراء ولم يمكن له أن يحاكمه ويستوفي منه حقه. ففلّهُ القاضي وأركبه حماراً في الأسواق ووجهه إلى دبه الحمار. أو أن فلاناً قد مرض ولزم فراشه لأنه ناقش بعض خدّام الأمير فنكل به الأمير ضرباً بالعصي على رجليه وصفعا بالنعال على القذال. فغدا لا حراك به وقد ورمت رجلاه وانتفخ قفاه. لم يكن منه إلا قوله ما دام السوق وشيخه سالمين فالدنيا كلها سالمة. والمصالح مستتبة والسوق مرفوعة وقائمة. والبطون ملئى والأفواه لاقمة. والأضراس خاضمة والمعد هاضمة والأيدي غانمة. والأفراح دائمة. والخيرات متراكمة. والرؤساء حارمة. والعناية عاصمة. والقادمات بالبذور متزاحمة. والوقوف شاملة عامة. وثغور الأماني باسمة. والسلامة خاتمة. إلى السوق. إلى السوق. فهو حرز العلوق. وذخر الحقوق. في الصندوق. في الصندوق. فهو أولى من الصبوح والغبوق. وقد طالما والله امتلأ هذا الصندوق ذهباً وجواهر ثم افرغ على تهاتر وترهات ومباحث فارغة وأمور سخيفة. فقد بلغنا أن بعض ضواطرة السوق انفق في مدة ست سنين قضاها بالبحث والجدال على شكل قبعة كذا وكذا بدرة من المال. وتفصيل ذلك أنه نظر نفسه ذات يوم في المرآة وكان قد تعلم مبادئ الهندسة والهيئة. فرأى رأسه مدورّاً كالبطيخة فراق له أن يتخذ قبعة مدورة على هيئة رأسه. لأن المدور يلائم المدور كما تقرر في الأصول. فرآه بعض مزاميله من سوق آخر وكان اعظم منه قدراً ووجاهة وأوفر علماً. فسخر منه وقال له من وسوس إليك يا ابن قبعة، حتى لبست هذه القبعة. مع إن شكل رأسك مخروط. فقال له قد ضللت بل هو أكثر استدارة من رأسك كما يشهد لي بذلك شيخ السوق. قال كذبت بل هو مخروط وأن كنت كثير العنس إليه وإني أهدي من شيخك وأقوم طريقاً. قال كفرت وعميت عن معرفة نفسك فأنى لك أن تعرف غيرك. قال تبدعت بل أنت عمه كمه وقد حمقت وسفهت في عدم قبولك النصح. فاليوم ترى الناس المدور من المخروط. والسارط من المسروط. ثم لجّ بينهما العناد وتقابضا بالازياق والجيوب والإقلاع. ثم بالجمم ثم بالأعراض.

سلام وكلام

فمزق كل منهما عرض صاحبه أي عدوه. ثم صاحا واستغاثا وتشاكيا لدى الحاكم وتباهلا وتهاترا. فلما ثبت للحاكم أن فعلهما فعل الشبازقة رأى أن مداومتهما بغرامة رابية، أولى من حصرهما في الزاوية. فانصرف كل منهما وقد غرم كذا وكذا بدرة. ثم أن الضوطار الأول اتخذ له بعد ذلك قبعة بين بين. أي نصفها مدور ونصفها مخروط بحيث لا يقدر على تمييزها إلا الجهبذ النحرير، والناقد الخبير وآب إلى حانوته كمن قفل من غزوة أو اسر الدحية "رئيس الجند" أو كذلك الديك الغالب. وأول ما أطل على السوق أمر جميع القبعيين أن يخرجوا لملاقاته بالتقليس لا بالتلقيس. فخرجوا على تلك الحالة وهم يضجون ويقولون: اليوم عيد القبعة. اليوم عيد الفرقعة. يا أمععة يا أمعة. فبصر بهم أعوان الحاكم في ذلك الصقع فظنوا أنهم خلعوا ربقة الطاعة. وشقوا عصا الجماعة. فبادروهم بآلات الاز والبحز والبخز والبزّ والبغز والبهز والجرز والجلز والحزّ والحفز والخز والدغز والرز والرفز والزز والشخز والشرز والشفز والشكز والضخز والضفز والطعز والعرز والقحز والقلز واللبز واللتز واللزّ واللكز واللقز واللمز واللهز والمحز والمرز والمهز والنحز والنخز والنغز والنكز والنهز والوخز والوكز والوقز والوهز والهبز والهرز والهمز والرهز. حتى جعلوهم عبرة للمعتبر. وفرّ الضوطار بقبعته وقد أوقع قومه في الخزي والعار مما أصاب الرجال من الرزء ولحق النساء من الزيادة. ومع ذلك كله فلم يجده شيخ السوق المستعز به شيا. بل ظل مكبّاً على تعاطي الأفيون لطول أرقه وتبييته. وقد سد أذنيه ببعض أوراق دفاتر السوق لئلا يسمع صراخ المستجيرين به أو يوقظه أحد من سباته. فهو راقد إلى هذا اليوم أي يوم تدوين هذه الواقعة. فإن أفاق فللقارئ أن يقيد ذلك في آخر هذا الفصل فقد تركت له محلا. انتهت دحرجة الجلمود والحمد لواجد الوجود سلام وكلام

عمت صباحا يا فارياق؟ كيف أنت؟ وكيف رأيت الإسكندرية؟ هل تبيَّنت نساءها من رجالها فإن النساء في بلدكم لا يتبرقعن. وكيف وجدت مآكلها ومشاربها وملابسها وهواءها وماءها ومنازلها وإكرام أهلها للغرباء؟ ألم يزل برأسك الدوار؟ وعلى لسانك هجو الأسفار؟ قال: أما موقع المدينة فأنيق لكونه على البحر. وقد زادت بهجة بكثرة الغرباء فيها فترى روس ناس مغطاة بطراطير وأخرى بطرابيش. وأخرى بكمام وغيرها بمقاعط. وأخرى ببرانس وغيرها بعمائم. وأخرى بأصناع وغيرها بعصائب. وأخرى بعمارات وغيرها بمداميج. وأخرى بنصاف وغيرها بقبعات. وأخرى بقلانس وغيرها ببراطل. وأخرى بسبوب وغيرها بأراصيص. وأخرى بأراسيس وغيرها بخنابع. وأخرى بقنابع وغيرها بدنيات وأخرى بصواقع وغيرها بصمد وأخرى بصوامع. وغيرها بمشامذ وأخرى بمشاوذ. وغيرها ببرانيط على شكل الشقيط والشبابيط والضفاريط والضماريط والقلاليط والعضاريط والعذافيط والعماريط والقماعيط. ومنهم من له سراويلات طويلة مفرسخة تكنس ما خلفه وما قدَّامه ومنهم من لا سراويلات له فبعثطه باد والناس يتمسحون بما أمامه. ومنهم من له تبّان. ومنه من له إتب. ومنهم يؤثر ومنهم بهميان ومنهم برجل "السراويل الطاق" ومنهم بأندرورد ومنهم بدقرارة أودُقرور. ومنهم من يركب الحمير والبغال. وغيرهم على الخيل والجمال. والإبل في ازدحام والناس في التطام. فينبغي للسائر بينهم أن لا يفتر على الدعاء بقوله اللهم أجِر. اللهم أحفظ. اللهم ألطف. توكلت على الله. استعنت بالله. أعوذ بالله. فأما براقع النساء فهي وأن كانت تخفي جمال بعضهن إلا تريح العين أيضاً من قبح سائرين. غير أن تستر القبيحات اكثر. لأن المليحة لا يهون عليها إذا خرجت من قفصها أن تطير في الأسواق من دون أن تمكن الناظرين من رؤية ملامحها. لينظروا حسنها وجمالها ويكبروا لافترارها. فيقولوا ما شاء الله. تبارك الله. جل الله. الله الله. حتى إذا رجعت إلى منزلها اعتقدت أن جميع أهل البلد قد شغفوا بها حباً. فباتت تنتظر منهم الهدايا والصلات. والأشعار والمواليات. فكلما غنى مغن أنصّت إلى غنائه وسمعت اسمها يتشبب به. فإذا بكرت في اليوم القابل إلى الأسواق ورأت الناس مكبين على أشغالهم تعجبت من بقائهم أصحاء قادرين على السعي والحركة. فزادت لهم في كشف مسافرها، وقسامتها، ومحاجرها وفتنتهم بإشاراتها وإيمائها. ورأرأتها وإيبائها ورمزها ولمزها. وهجلها وعمزها وعنجها ودلالها. وتيهها وعجبها. وزهوها وشكلت. وتدعبها وتصعيرها. ودعجلتها ودغنجتها وتبغنجها ودهمجتها. وشزرها وخزرها وشنفها وحدلقتها وشفونها وإزلاقها. واستشفافها. واستيضاحها واستشرافها. وخلاعتها وخُيَلائها. وتمايلها وتهاديها. وتغدّنها وتعاطفها. وتثنيِّها وتاودها. وتدكلها وتخودها. وتذيلها وتعيلها. وتفتلها وتقتلها. وتذبلها وترفلها. وتبخترها وتخطلها. وتفختها وتدهكرها. وتبهكنا وتهذخرها. وتخلعها وتفككها. وميحها وحككها. وتدأديها وتغطرفها. وتوذفها وتغضفها. ودألها ووهازتها. وألها وهوادتها. وخيزلاها وخيزراها. وزأنباها وأوزّاها. ومطيطائها وكردَحائها. وهبيخاها وعِجّيساها. وهربذاها وحيداها. وهبصاها وجيضاها. وفنجلاها وهبلاها. وخبقاها ودفقاها. وعرقلاها وهمقاها. وعميثليتها وقمطراها. وسبطراها وتبدحها وترنحها. وخندفتها وخزرفتها. وخظرفتها وبادلتها. وبجدلتها وبهدلتها. وذحذحتها وحرقلتها. وحركلتها وهركلتها. ورابلتها ورهبلتها. وقهبلتها وكسملتها. وقندلتها وحنكلتها. وعردلتها وهيقلتها. وخذعلتها ودريحلتها ووكوكتها ووذوذتها. وزوزكتها ورهوكتها وفرتكتها. ومككتها ورهدنتها. وكتكتتها وبرقطتها. وقرمطتها وحرقصتها. وزهرمتها وحذلمتها. ودعرمتها وزهلقتها. وترهيها وتعمجها. وتبهرسها وتهترسها. وتغطرسها. وتكدسها وترهوكها وتهالكها وتهكيلها. وتفركها وتومزها. وتهيمها وأنفها. ورسمها وزوفها. وزيفها وهوجلها. وحتكانها وعيكانها. وزيكانها وزوكانها. ورفلانها وملدانها وزيفانها وذالانها. وريسانها وكتفانها. وميسانها وتزابيها. وهمدانيها وتثرطلها. وتعذقلها وتخزلجها. وحقطها وأبطها. وبفزها وقفزها ونقرها مقبلة مدبرة. وزاد طمعها أيضاً في الهدايا قال وقد نظمت في البرقع بيتين ما أظن أحداً سبقني إليهما وهما:

لا يحسب الغِرُّ البراقع للنسا ... منعاً لهن التمادي في الهوى إن السفينة إنما تجري إذا ... وُضع الشراع لها على حكم الهوا فأما رجالها فأن للترك سطوة على العرب وتجبراً. حتى أن العربي لا يحل له أن ينظر إلى وجه تركي كما لا يحل له أن ينظر إلى حرم غيره. وإذا أتفق في نوادر الدهر أن تركياً وعربياً تماشيا أخذ العربي بالسنة المفروضة. وهي أن تمشي عن يسار التركي محتشماً خاشعاً ناكساً متحاقراً متصاغراً متضائلاً قافاً متقصياً متقفصاً متثمصاً متحمصاً متحرفصاً مكتزاً متكاولاً متازحاً متقرعفاً مقرعفاً متقفعاً متكنبثاً مقعنصراً متقوصراً مستزمراً معرنفطاً مقرنفطاً متجعثباً متجعثناً مرزئماً مرمئزاً مقمئناً مكبئناً متحنبلاً متقاعساً مراعزاً مكردحاً متعصعصاً متزازئاً مقرنبعاً مدنقساً مطمرساً مطرمساً متكرفساً منقفشاً معقفشاً متحوياً معرنزحاً متخشلاً آزماً لازباً كاتعاً كانعاً متشاجباً مصعنباً مجربزاً متدخدخاً. فإذا عطس التركي قال له العربي رحمك الله. وإذا تنحنح قال حرسك الله. وإذا مخط قال وقاك الله. وإذا عثر عثر الآخر معه إجلالاً له وقال نعشك الله لا نعشنا. وقد سمعت أن الترك هنا عقدوا مجلس شورى استقر رأيهم فيه لدى المذاكرة على أن يتخذوا لهم مركباً وطيئاً من ظهور العرب فأنهم جربوا سروج الخيل وبراذع الجمال وراكفها وأقتاب الإبل وبواصرها وحصرها وسائر أنواع المحامل من: كِفْل مركب للرجال. وشِجار مركب يتخذ للشيخ الكبير ومن منعته العّلة من الحركة. وحدج مركب للنساء كالمحفّة. وأجلح هودج ماله رأس مرتفع. وحوف شيء كالهودج وليس به. وقرّ مركب للرجال والهودج. ومحِفّة مركب للنساء. وفرفار مركب من مراكب النساء. وحِمْل هودج. وحِلال مركب النساء. وكدن مركب لهن. وقعْش مركب كالهودج. ومحارة شبه الهودج. وقعَدة مركب لهن. وكتر الهودج الصغير. ومثرة ج مواثر مراكب تتخذ من الحرير والديباج. ورجازة مركب أصغر من الهودج. وعريش كالهودج. وعبيط مركب. وحِزْق مركب شبيه بالباصر. وبُلبُلة هودج للحرائر. وحِقل هودج. وتوأمة من مراكب النساء ج توأمات. وفودج الهودج ومركب العروس. ومن رحئل وعجلة وعرش وشرجع ومزفة ومنصة وسرير ونعش فوجدوها كلها لهم. ورأيت مرة تركياً يقود جوقة من العرب بخيط من الكاغد وهم كلهم يقودون له. أستغفر الله مرادي أن أقول ينقادون له ولم أدر ما سبب تكبير هؤلاء الترك هنا على العرب. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عربياً والقرآن أنزل باللسان العربي والأئمة والخلفاء الراشدين والعلماء كانوا كلهم عرباً غير إني أظن أن أكثر الترك يجهل ذلك فيحسبون أن النبي صلى الله عليه كان يقول شويله بويله أو بقالم قبالم أو غطالق قاب خي دلها ... طغالق باق يخ بلها صفالق باه خشت وكرد ... فصالق هاب دركلها دخا زاوشت قلدي نك ... خدا شاوزت قردلها اشكارهم كبي والله ... قلاقلها بلابلها لا والله. ما هذا كان لسان النبي ولا لسان الصحابة والتابعين والأئمة الراشدين رضي الله عنهم أجمعين إلى يوم الدين آمين وبعده آمين. فأما ماؤها فما أحسن رأسه وأنجعه. إلا أنه قذر الذنب تنجسه حيوانات الأرض بأجمعها. وطيور السماء بجملتها. حتى أن سمك البحر إذا أصابته هيضة طفر إلى رأس هذا الذنب فألقى فيه ما أثقله. فأما أكلها فالفول والعدس والحمص والزن والدوسر والقريناء والخرفي والجلبان والباقلي والحنبل والدجر والخلر والبلس والبيقة والترمس والخرم والشبرم واللوبياء وكل ما يحبنطي به البطن. وذلك أن أهلها لا يرون في الخمائص حسناً. حتى أن النساء فيما بلغني يتخذون معجوناً من الجعل ويأكلنه في كل غداة لكي يسمن ويكون لهن عكن مطويات.

واضطر ما لاقيت فيها قيعر قيعار. قدم إليها من بعض البلاد الحميرية وتعرف بجماعة من النصارى فيها. فصار يدخل ديارهم ويسامرهم. فلما لم يجد عند أحدهم كتاباً أقام نفسه بينهم مقام العالم فقال إنه يعرف علم الفاعل والمفعول وحساب الجمل. وأتخذ له كتباً بعضها من غير ابتداء وبعضها بغير ختام وبعضها مخروم أو ممحو. فكان إذا خاطبه أحد في شيء عمد إلى بعض هذه الكتب ففتحه ونظر فيه ثم يقول. نعم أن هذا الشيء هو من الأشياء التي اختلف فيها العلماء. فإن بعض مشايخنا في الديار الحميرية يتهجاه كذا. وبعضهم في الديار الشامية كذا. ولما يستقر رأيهم عليه فإذا استقر فلابد من أن يخبروني به. قال الفارياق وقد سمعت مرة من استفزه باعث من الشغل يسأله عن الوقت. فقال له ساعة وخمس دقائق أما الساعة فقد اشتق منها الساعي وعيسى. أما الساعي فلكون السعي كله يتوقف على الساعات. إذ لا يمكن لأحد أن يعمل عملاً خلوّاً من الوقت فإن جميع الأفعال والحركات محصورة في الزمان كانحصار- ثم أدار نظره ليشبهه بشيء فرأى كوزاً لبعض الصبيان. فقال كانحصار الماء في هذا الكُزّ. ثم رأى زنبيلاً لصبي آخر فقال أو كانحصار غداء هذا الولد في هذا الزّبيل. وأما عيسى فلكونه اشتمل على جميع المعارف والعلوم اشتمال الساعة على الدقائق. ثم أن قولي خمس دقائق معناه أربعة بعدها واحد أو ثلاثة قبلها اثنان ولك أن تعكس. وإنما قالوا خمس دقائق ولم يقولوا خمسة طلبا للتخفيف والعجلة في الكلام. فإن بطول الألفاظ يضيع الوقت. وقولي دقائق هو جمع دقيقة وهو مشتق من الدقيق للطحين. إذ بينهما شبه ومناسبة بجامع النعومة. ثم أن هناك ألفاظا كثيرة تدل على الوقت وهي المساء والليل والصبح والضحى والظهر والعصر والدهر والأبد والحين والأوان والزمن. أما الستّ الأولى ففيها فرق وأما الأخيرة فلا. فأعترضه رجل من أولئك الكبراء وقال قد رابني يا أستاذنا ما قلت. فإن كلا من جاريتي وستها لها فرق. فضحك الشيخ من حماقته وقال له أن كلامي هنا فيما حواه الزمان لا فيما حواه المكان. فسأله آخر قائلا أين جامع النعومة هذا الذي ذكرت أن فيه الدقيق. فضحك أيضاً وقال أعلم أن لفظة جامع تسمى عندنا معاشر العلماء اسم فاعل أي الذي يتولى فعل شيء أياً كان. لكني طالما عزمت على أن أناقشهم في هذه التسمية لان من يموت أو ينام مثلا لا يصح أن يقال فيه أنه فاعل الموت أو النوم. فقولي جامع على القاعدة المعلومة عندنا هو اسم لمن جمع شيئاً. حتى أن الكنيسة يصح أن يطلق عليها لفظ الجامع لأنها تجمع الناس. فلما قال ذلك اكفهرت وجوه السامعين. قال فسمعت بعضهم يجمجم قائلا: ما أظن الشيخ صحيح الاعتقاد بدين النصارى. فقد أصابت أساقفتنا في حظرهم الناس أن يتبحروا في العلوم ولا سيما علم المنطق الذي يذكره شيخنا. فقد قيل من تمنطق تزندق ثم أنصرف عنه الجميع مدمدمين. وسأله مرة قسيس عن اشتقاق الصلاة. فقال هي مشتقة من الأصلاء. لأن المصلي يحرق الشيطان بدعائه. فقال له القسيس إذا كان مأوى الشيطان سقر مذ ألوف سنين ولم يحترق فكيف تحرقه صلاة المصلي. فتناول بعض الكتب ليقتبس منه جواب ذلك فإذا به يقول قال أحد علماء الرهبان: الاحتراق على نوعين. احتراق حسي كمن يحترق بالنار. ومعنوي كمن يحترق بحب العذرة. ثم وقف وتأوه قائلاً: قد أخطأ سيدنا الراهب. لأن العذراء يجب مدها. فقال: القسيس وقد حنق عليه كيف يجب مدّها إذا لم تشأ. قال ويلي عليك أنت الآخر لا تعرف المدّ والقصر في الكلام وأطفال الحارة في بلادنا يعرفون ذلك. قال بلى أن اقتصار الكلام مع من يخطّي الرهبان مزية. ثم تولى من عنده مدمدماً. قال الفارياق وقال لي مرة قد يظهر لي ان حق استعمال دعا إذا أريد به معنى الصلاة أن يتعدى بعلي. فيقال دعوت عليه كما يقال صليت عليه. قال فقلت له لا يلزم على كون فعل يوافق فعلاً آخر في معناه أن يوافقه في التعدية. فغصَّ بذلك ولم يفهمه. وشكا إليه مرة رجل من معارفه إسهالاً آلمه. فقال له يغالطه أو يسليه أحمد الله على ذلك ليتني مثلك. قال كيف هو أن طال قتل وأسال الجسم كله. فقال له أنه منّة من الله. ألم تسمع كل ملهوف يقول يا رب سهل. فقال التاجر أنا ما عنيت التسهيل بل الإسهال. فقال هما بمعنى واحد لأن افعل وفعّل كلاهما يأتيان للتعدية. كما تقول أنزلته ونزّلته. ولأن كلاَ

من التسهيل والإسهال فيه معنى السهولة. وكتب مرة إلى بعض المطارين العظام. المعروض يا سيدنا بعد تقبيل أردافكم الشريفة. وحمل نعالكم المنيفة اللطيفة. الظريفة النظيفة الرهيفة العفيفة الموصوفة المعروفة المخصوفة. قال فقلت له ما أردت بالإرداف هنا. فقال هي في عرف المطران بمعنى الراحة. ثم لم يلبث أن بعث إليه وذلك المطران ببركة وكتاب أطرا فيه على علمه وفضائله جداً فمما كتب إليه. قد قدم عليَّ مكتوبكم الأبنى وأنا خارج عن الكنيسة فما قرأته حتى دخلت الصومعة وأولجت فيها. فلما أتيت على أخراه علمت أنك صاحب الفضول. مؤلف الفصول. جامع بين الفروع والأصول. طويل اللسان. قصير اليدان "عن المحرمات" واسع الجبين. عميق الدين. عريض الصدر. مجوف الفكر. وكتب في آخره. أطال الله بقاك. وقباك وهناك ومناك. والسلام ختام والختام سلام. والبركة الرسولية تشملكم أولاً وثانياً إلى عاشراً. فجعل يبدي هذا الكتاب لجميع معارفه وخصوصاً لمن كانوا خرجوا من عنده مغضبين لتقريره عن لفظة الجامع. فلما وجدوها في كلام المطران زال عنهم الأشكال والريب في صحة استعمالها. وزاد الرجل عندهم وجاهة وجلالاً. فأما سؤالك عن كرم أهل هذه البلدة فأنهم كانوا في ظهور آبائهم على غاية من السماحة والجود. إلا أنهم لما برزوا إلى عالم التجارة وخالطوا أصحاب هذي البرانيط أخذوا عنهم الحرص والبخل واللآمة والرثَع. بل برزوا على مشايخهم. وإنهم إذا ضمهم مجلس لم يكن منهم إلا الحديث عن البيع والشراء. فيقول قد جاءني اليوم جندي من الترك في الصباح ليشتري شيئاً فتطيرت من صاحبه واستفتاحه. إذ لا يخفى عنكم أن الجندي يستدين ولا يقضى دينه. وإذا تكرم بنقد الثمن فما يعطي التاجر إلا نصفه. فقلت له ما عندي مطلوبك يا أفندي. وإنما أردت تفخيمه بهذا اللقب ليتأدب معي. فما كان منه إلا أن دخل الحانوت وبعثر البضاعة كلها وأخذ ما أراد منها وما لم يرد. ثم ولي وهو يسبني. فيقول آخر وأنا أيضاً جرى لي مع سيدة من نساء الترك واقعة. وذلك أنها بكرت عليَّ اليوم وهي تنوء بحليّها. وأقبلت باسمة أليّ وقالت هل عندك يا سيدي حرير مزركش. قلت وقد استبشرت عندي. فقالت أرني المتاع فأريتها إياه. فتداركتني بالخف وقالت أمثلي يري هذا. أرني غير ذلك: فأريتها ما أعجبها فأخذته وقالت أبعث معي من يقبض الثمن. فبعثت غلامي فتبعها حتى دخلت دار كبيرة وأمرت حاجبها بضرب الغلام وإيلامه. إلا أن الحاجب لما كان من الترك ورأى الغلام أمرد لم يطاوعه قلبه على ضربه لكن أنفذ فيه أمر سيدته بما أوصل من الأذى والألم وهكذا ينقضي نهارهم بالمكروه وليلهم بذكره. وأظن أن التاجر يطرب بمجرد ذكر البيع والشراء وإن لم يكن فيه ربح.

انقلاع الفارياق من الإسكندرية

فأما ما جرى لي بعد وصولي فإني نزلت عند خرجي من أصحاب صاحبي الأول. فتبوأت حجرة بالقرب من حجرته. فكنت أسمعه كل ليلة يضرب امرأته بآلة فتبدي الأنين والحنين والرنين والخنين. فكان يهيجني فعله إلى البطش به. وكثيراً ما فكرت في أن أقوم من فراشي لكني خشيت أن يصيبني ما أصاب ذاك الأعجمي المتطبب الذي جاور قوماً من القبط. وإنه ذات ليلة صراخ امرأة من جاراته فظن أن لدغتها عقرب وذلك لكثرة وجود العقارب في بيوت مصر. فقام إلى قنينة دواء تأبطها وأقبل يجري. فلما فتح الباب وجد رجلا على امرأة يعالجها بإصبعه كما هي عادة القوم فلما رأى الطبيب ذلك دهش فوقعت القنينة من يده وانكسرت. وكان هذا الخرجي أبيض اللون أزرق العينين مع صغر واستدارة فيهما دقيق أرنبة الأنف مع عوج في قصبته غليظ الشفتين. وإنما تكلفت لوصفه لك ليبقى نموذجاً عندك تقيس عليه جميع من تراه من الخرجيين وغيرهم. وكان قد أتخذ فوق سطح منزله هرماً صغيراً مرصوفاً من قناني الخمر الفارغة. فكان سطحه أعلى سطوح الجيران. قال ثم عنّ له يوماً أن يكلفني إنشاء خطبة في الخرج في مدح الخرج لكي أتلوها في مخطب صغير كان قد استأجره. فلما فرغت منها عرضتها عليه فذهب بها إلى قيعر قيعار. فقال له ما مرادك أن تصنع بهذه الأحجيَّة الخرجية. فقال يتلوها منشئها على الناس فما رأيك فيها. قال هي حسنة إلا أن عيبها هو أن لا يفهمها أحد إلا أنا وهو. ونحن قد قرأناها فلا موجب لإعادتها. فعدل عن ذلك. قال وأتفق لي وأنا مقيم عنده إني خرجت في عشية من عشايا الصيف البهيجة أمشي وحدي وبيدي نسخة الدفتر. ولما كان رأسي قد حفل بالأفكار فيما أنا عليه من فرقة الأهل والأحباب وذكر الوطن. والتغرب عنه لغير سبب من أسباب المعاش سوى لخصام سوقي وخرجي على قال وقيل. أوغلت في المشي فانتهيت إلى ظاهر المدينة وكان يتبعني رجل قد رأى نسخة الدفتر فأضمر ليمنينني بداهية. فأقبل إليّ يكلمني ثم عطف بي يمنة ويسره وهو يعللني بالكلام حتى انتهينا إلى مكان خال. فتركني هناك وقال لي أن عليّ أقضي هنا مصلحة. فحاولت الرجوع إلى مقري وإذا بسرب عظيم من الكلاب جرت وهي تنبحني ودنت مني. فهوَّلت عليها بالكتاب فهجمت عليَّ هجمة السوقي على الخرجي. ثم تحاصوا جسمي وثيابي والكتاب فبعضهم عضَّ وبعضهم أدمى وبعضهم جرّ. وبعضهم تهدد في المرة الثانية. فما كدت أتملص من بين أيديهم إلا وثوبي وجلدي ممزق. وقد مزّق الدفتر أيضاً أوراقه وجلده. فلما رجعت إلى منزلي ورآني الخرجي على هذه الحالة لم يكترث بشأني أو أنه لم يرني من فرط اشتغاله بالخرج. وإنما علم أني رجعت خلوا من الدفتر فأعتقد أني أعطيته لأحد. ففرح بذلك جداً ورغب في أن يجعلني عنده في مصلحة خرجية. لكن رأى من الواجب أن يشاور صاحبه فمن ثم كتب إليه في شأني. فأبى ذاك وقال لا بد من تسفيري إلى الجزيرة. لأن النية استقرت على هذا من قبل. وما حسن تغيير النيات. فعزم مضيفي على إجراء ذلك وها أنا منتظر السفينة. انقلاع الفارياق من الإسكندرية من نحس صاحبنا أنه عند سفره إلى تلك الجزيرة لم تكن خاصية البخار قد عُرفت عند الإفرنج. فكان سفر البحر موكولا إلى الريح إن شاءت هبّت وإن شاءت لم تهب. كما قال الصاحب بن عباد فإنما هي ريح لست تضبطها ... إذ لست أنت سليمان بن داود

فمن ثم ركب الفارياق في سفينة ريحية من هذا النوع وكان في مدة السفر يتعلم بعض ألفاظ من لغة أصحاب السفينة مما يختص بالتحية والسلام. من جملة ذلك دعاء يقولونه عند شرب الخمر على المائدة وهو قولهم طابت صحتك. إلا أن لفظ الصحة عندهم يقرب من لفظ جهنم فكان يقول طابت جهنمك. فكانوا يضحكون منه وهو يسبُّهم بقلبه ويقول. قاتل الله هؤلاء العلوج إنهم يقيمون في بلادنا سنين ولا يحسنون النطق بلغتنا. فيلفظون السين إذا سبقها حركة زايا وحروف الحلق وغيرها محالة ونحن لا نضحك منهم. وقد سمعت أن بعض قسّيسيهم الذين لبثوا في بلادنا سنين رام مرة أن يخطب في القوم فلما صعد المنبر أرتج عليه ساعة إلى أن قال: "أيها الكوم كد فات الوكت الآن ولكني أهتب فيكم نهار الأهد الكابل إن شاء الله". ثم سار إلى بعض معارفه من أهل الدراية والعلم والتمس منه أن يكتب له خطبة يحفظها عن ظهر قلبه أو يتلوها تلاوة. وحشد الناس إليه فلما غصت بهم الكنيسة صعد المنبر فقال (بسم الله الرهمن) ثم كأنه انتبه من غفلته وعرف أن ذلك لا يرضي النصارى وأن الكاتب إنما كتب ذلك على طريقته. فاستدرك كلامه وقال: لا لا ما بديّش أكول مسلماً بيكول الإسلام بسم الله الرهمن الرهيم بل كما تكول النسارى بسم الآب والابن والروه الكدس. يا أولادي المباركين الهادرين هنا لسماء هتبتي. وكبول نسيهتي وموهزتي. أن كنتم هدرتم وكلبكم مشكول بلزات الآلم. أهبرني هتي أكسر من هتابكم فلا يتدجر أهد من تُوله ولا يتألّم. وإلا فهزي فرسة سنهت لي اليوم. أزكر فيها النساء والرجال تزكير من لا يكشي اللوم. وأنزرهم يوم الهشر والهساب. يوم لا ينفع مال ولا أسهاب. ولا سُهال ولا جواب. إيلموا رهمكم الله أن الدنيا زايلة. ومتامهها باتله. وهالاتها هايله. ومهاليها سافله فكونوا منها على هَزَر. ولا يدلكم ما آجب منها وما سرّ. أسرفوا أنها نزركم ولا تالكوا بها وتركم. أفهسوا فيها كلبكم كبل أن تسندوا روسكم إلى المهدّة. ووازبوا إلى السماوات في الديك والشدة. كدموا للكنايس نزوركم ولو كليله وإستهينوا بالكديسين هال الفتيله. لتنكروا من المهن والمسايب. وتتفسوا من الكرنب والنوايب أهترموا كسيسيكم وأساكفتكم ووكروهم وأكتدوا بهم. وأركبوهم ولا هزُ وهم ترشدوا بسايهم وركسهم ودابهم يا أيَّها النسارى أن ديننا هو ألهك. وواده هو الأسدك. وكبره هو الأكدك وسوكه هو الأنفك. لا تكالتوا هؤلاء الكرجيّين. الزين إندسّوا فيكم مزهين. يتزببون في أدلالكم عن الزرات المستكيم. بما يزهرون لكم من الورا والكُلُك الهليم. إلا أنهم هم الزياب الكاتفة المتردية بلباس الهملان. الجايلون في كل كتُر وسُك ينسبون إلينا الزيك والبهتان. وهم أزيك من سلك تريكا. وأكزب من كش سديكا. وكان رفيكا. إلى أن قال أيها الكاركون في الهتايا. تجنبوا ما يفدي بكم إليها فإن آكبتها إليكم بلايا ورزايا. ألا فأسرموا أزبابها سرماً. وكاوموا أركابها أزما. وأستاسلوا جزروها رهزا. وأكلاوا مكوياتها تنالوا ركزاً. الأزباب الأزباب.

فأكتأوا الأزباب حتى تهلسوا في يوم الهساب. من الكساس والأزاب "أي اقطعوا الأسباب حتى تخلصوا في يوم الحساب من القصاص والعذاب" ومع ذلك فلم يصفه أحد من السامعين بل استمر إلى آخر الخطبة على هذا النمط. إلاّ أن المرأة لبيبة كانت قد تزوجت مذ عهد قريب لما سمعت الفقرة الأخيرة غضبت وقالت: ألا لا بارك الله في يوم رأينا فيه وجوه هؤلاء العجم فقد احتكروا خيراتنا وأرزاقنا. وأفسدوا بلادنا وسابقوا ناسا إلى تحصيل رزقهم من أرضنا. وعلّموا من عرفهم منا البخل والحرص والطيش والسفاهة. وما لعمري حصلوا على هذا الغنى الجزيل إلاّ لجشعهم وشحهم. فقد سمعنا أن الرجل منهم إذا جلس على المائدة مع أولاده يأكل اللحم ويرمي بالعظام إليهم ليتمششوها. ولكونهم حراميين غبيين في البيع غشاشين. وقد بلغني أن إخوانهم في بلادهم أنجس منهم وأفسق. وهذا النجس الآن يغري بعولتنا بارتكاب الفاحشة لتخلوا له الساحة فيفعل ما يشاء. فإني أعلم عين اليقين أن هؤلاء المنابريين إنما بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وأنهم ليعلمون الناس الزهد في الدنيا والجبّ وهم أحرص الثقلين عليها وأقرب الخلق إلى البغال. فما جزاؤه الآن إلا قطع لسانه حتى يعرف ألم القطع. لعمري أن الإنسان لا يهون عليه أحياناً أن يقلم أظفاره لكونها منه. ولذلك كانت أخواتنا نساء الإفرنج يربين أظفارهن ويفتخرون بها مع إنها لا يلبث أن تنبت. فكيف يجوز قطع ما يعمّر به الكون "طيب الله أنفاسك يا حديثة عهد بالزواج وعتيقة نقد للاعلاج. ليت النساء كلهن مثلك وليتني الثم شفتيك". ثم لما خرج القسيس من الكنيسة إذا بالناس جميعاً اهرعوا لتقبيل يده وذيله وشكروه على ما أفادهم من المعاني البديعة بقطع النظر عن غيرها. لما تقرر في عقولهم من أن خواص دين النصارى أن تكون كتبه ركيكة فاسدة ما أمكن. لأن قوة الدين تقتضيه لتحصل المطابقة كما أفاده المطران إثناسيوس التتونجي الحلبي البشكاني الشلاّقي الشولقي الإنقافي النشافي المقسقسي اللطاعي النطاعي المصنوي الحُتفلي الأرشمي الثرتمي القديحي التخممي الأمعي في بعض مؤلفاته المسمى بالحكاكه في الركاكه. قال الفارياق وإذ قد ابتلاني الله بعشرة اللئام فلا بد ليمن مجاملتهم ومخالفتهم إلى أن يمنّ عليّ بالنجاة منهم. قلت وحيث قد مرّ ما قاله الفارياق في سفرته الأولى فلا موجب الآن لإعادة ذكره شكواه هنا من ألم البحر. وإنما نقول إنه في خلال معاناته ومقاساته حلف لا يركبن بعدها في شيء من مراكب البحر. من الجفاء السفينة الخالية ذكره صاحب القاموس في المهموز. والمرْزاب السفينة العظيمة أو الطويلة. والزبزب ضرب من السفن. والبارجة السفينة الكبيرة للقتال. والخليج سفينة صغيرة دون العَدَوْلّي. والطراد السفينة الصغيرة السريعة. والمُعبّدة السفينة المقيرة. والغامد السفينة المشحونة كالآمد. والدسراء السفينة تدسر الماء بصدرها ج دُسُر. والزرزور المركب الضيق. والزَنَبريّ الضخم من السفن. والقرقور السفينة الطويلة أو العظيمة. والكار سفن منحدرة فيها طعام. والهرهور ضرب من السفن. والقادس السفينة العظيمة. والبوصي ضرب من السفن. والصلغة السفينة الكبيرة. والنهبوغ السفينة الطويلة السريعة الجري البحرية ويقال لها الدونيج معرب. وذات الرفيف سفن كان يعبر عليها وهي أن تنضد سفينتان أو ثلاث للملك. والشقدف مركب م بالحجاز. والحراقة ج حراقات سفن مرامي نيران. والزورق السفينة الصغيرة. والبراكية ضرب من السفن. والعدولية سفن منسوبة إلى عدولي بالبحرين أو- والجرم زورق يمني. والخن السفينة الفارغة. والشونة المركب المعد للجهاد في البحر. والتلوي ضرب من السفن صغير ذكره في ت ل و. والجفاية السفينة الخالية ذكره في ج ف ي. والخلية السفينة العظيمة أو التي تسير من غير أن يسيرها ملاح أو التي يتبعها زورق صغير. والشذا ضرب من السفن. والركوة الزورق الصغير. والقارب السفينة الصغيرة. والرمث خشب يضم بعضه إلى بعض ويركب في البحر. والطوف قرب ينفخ فيها ويشد بعضها إلى بعض كهيئة السطح يركب عليها في الماء ويحمل عليها.

والعامة عيدان مشدودة تركب في البحر ويعبر عليها في النهر ويقال لها أيضا العامة. وإنه بعد وصوله إلى مرسى الجزيرة اعد له فيه مكان حسن لتطهير أنفاسه به مدة أربعين يوما. إذ قد جرت العادة عندهم بأن من قدم إليهم من البلاد المشرقية وقد استنشق هواها فلا بد وأن ينثره في المرسى قبل دخوله البلد. فأقام فيها يأكل ويشرب مع اثنين من أعيان الإنكليز ممن ركبوا في السفينة. وطاب له العيش معهما قد ساحا في بلدان كثيرة من المشرق وأخذا عن أهلها الكرم. ثم بعد انقضاء المدة جاء الخرجي وأخذه إلى منزله بالمدينة وكان المذكور قد فقد زوجته من يوم نوي تسفير الفارياق إليه. فلزم الحداد والتقشف. ولزمته الكآبة والتأسف. وأن لا يأكل غير لحم الخنزير أعلى الله شأنك عن ذكره. وإنما أمر طباخه بأن يتفنن فيه. فيوما كان يطبخ له رأسه. ويوما رجليه. ويوماً كبده. ويوماً طحاله. حتى يأتي على جميع آرابه ثم يستأنف من الرأس. وأنت خبير بأن نصارى الشام يحاكون المسلمين في كل شيء ما خلا الأمور الدينية. فمن ثم كان لحم الخنزير عندهم منكراً. فلما جلس الفارياق على المائدة وجاء الطباخ بأرب من هذا الحيوان الكريه ظن أن الخرجي يمازحه باراءته إياه شيئاً لم يعرفه. فامتنع أن يأكل منه طعماً في أن ينال من غيره. وإذا بالخرجي قضى فرض الغداء وشرع حالاً في الصلاة والشكر للباري تعالى على ما رزقه. فقال الفارياق في نفسه قد خطأ والله صاحبي. فإنه وضع الشكر في غير موضعه إذ الثناء على الخالق سبحانه لأجل فاحشة أو أكل سحت لا يجوز. وفي اليوم الثاني جاء الطباخ بعضو آخر. فالتقمه وشكر عليه أيضاً. فقال الفارياق للطباخ لم يشكر الله صاحبنا على أكل الخنزير. قال ولم لا وقد أوجب على نفسه أن يشكر له على كل حال وعلى كل شيء كما ورد في بعض كتب الدين. حتى أنه كان يقضي هذا الفرض بعد أن يبيت مع زوجته. قال وهل شكر له على موتها. قال نعم فإنه يعتقد أنها الآنفي حضن إبراهيم. قال أما أنا فلو كان لي امرأة لما أردت أن تكون في حضن أحد. ثم أن دولة الخنزير اعتزت وعظمت. ومصارين الفارياق ضويت وذوت. فكان يقضي النهار كله على الخبز والجبن. ثم بلغه أن خبز المدينة يعجن بالأرجل ولكن بأرجل الرجال لا النساء فجعل يقلل منه ما أمكن. حتى اضَّر به الهزال. وصدئت أضراسه من قلة الاستعمال. فوقع منها اثنان من كل جانب واحد. وهذا أول أنصاف فعله الجوع على وجه الأرض. إذ لو كانا وقعا من جانب واحد لثقل أحد الجانبين وخفّ الآخر فلم تحصل الموازنة في حركات الجسم. أما المدينة فإن القادم إليها من بلاد الشرق يستحسنها ويستعظمها. والقادم إليها من بلاد الإفرنج يحتقرها ويستصغرها. واعظم ما حمل الفارياق فيها على العجب صنفان صنف القسيسين وصنف النساء. أما القسيسون فلكثرتهم فأنك ترى الأسواق والمنازة غاصة بهم. ولهم على رؤوسهم قبعات مثلثة الزوايا لا تشبه قبعات السوقيين في الشام. وسراويلهم أشبه بالتباين فأنها إلى ركبهم فقط. وسيقانهم مغطاة بجواريب سود. والظاهر أنها عظيمة لأن جميع القسيسين في هذه الجزيرة معلفون سمان. وقد جرت العادة عندهم أيضاً بأن القسيسين وأهل الفضل والكمال من غيرهم يحلقون شواربهم ولحاهم. وإنما يجب على القسيسن خاصة أن يلبسوا سراويلات قصيرة مزنقة حتى يمكن للناظر أن يتبين ما وراءها. فأما النساء فلاختلاف زيهن عن سائر نساء البلاد المشرقية والإفرنجية. ولأن كثيراً منهن لهن شوارب ولحى صغيرة ولا يحلقنها ولا ينتفنها. وقد سمعت إن كثيراً من الإفرنج يحبون النساء المتذكرات. فلعل هذا الخبر الغريب بلغ أيضاً مسامعهن. كيف لا وأهواء الرجال لا تخفى عن النساء. والحسن فيهن قليل جداً. وانتقادهن إلى القسيسين غريب. فإن المرأة منهن تؤثر قسيسها على زوجها وأولادها وأهلها جميعاً. ولا يمكن أن تتخذ طعاماً فاخراً من دون أن تهديه باكورته حتى كل منه أكلت هي.

وقد بلغني أن امرأة سوقية متزوجة أي من حزب شيخ السوق رأت رجلاً جميلاً من الخرجيين فاستخسرته فيهم. وقالت لو دخل هذا الرجل كنائسنا لزادت به بهجة ورونقا. فأرسلت إليه عجوزاُ تدعوه إليها فلبّى الفتى دعوتها. لأن عداوة السوقيين والخرجيين إنما هي مقصورة على الضواضرة والنجشيين والمحترفيين لا مبلغ لها عند الرجال والنساء. ففاضت معه في الحديث إلى أن قالت له كنت تتبع طريقنا فإني أمكنك من نفسي ولا امنع عنك شيئاً. فقال لها الشاب أما الذهاب إلى الكنيسة فأهون ما يكون عليّ لكونه قريبة من منزلي. وأما الاعتقاد فكليني إلى نيتي. فإني آنف من هذا الاعتراف الذي يكلفكم به القسيسون من أهل كنيستكم. وليس من طبعي الكذب والتدليس حتى اعترف للقسيس بالصغائر واكتم عنه الكبائر كما يفعله كثير من السوقيين. أو اذكر له ما لم أفعله وأخفي عنه ما فعلته. فتأوّهت المرأة عند ذلك وأطرقت وهي تفكر وتحرك رأسها. ثم قالت لا بأس أنَّا ليكفينا منك الظاهر كما أفادنيه قسيسي. ثم تعانقا وتعاشقا وجعل يتردد عليها وعلى الكنيسة معاً. حتى أن الزواني في هذه الجزيرة متهوسات في الدين. فإنك تجد في بيت كل واحدة منهن عدة تماثيل وصور لمن يعبدونه من القديسين والقديسات. فإذا دخل إلى إحداهن فاسق ليفجر بها قلبت تلك التماثيل فأدارت وجوهها إلى الحائط لكيلا تنظر ما تفعله فتشهد عليها بالفجور في يوم النشور. قال ومن خصائص أهل هذه الجزيرة إنهم يبغضون الغريب ويحبون ماله وهو غريب. فإن مال الإنسان عبارة عن حياته ودمه وذاته. حتى أن الإنكليز إذا سألوا عن كمية ما يملكه الإنسان من المال قالوا كم قيمة هذا الرجل. فيقال قيمته مثلاً ألف ذهب. فكيف يتأتَّى لأحد أن يبغض آخر ويحب حياته؟ وإنهم يتجاذبون كل غريب قدم إليهم. فيأخذه واحد منهم بيده اليمنى ليريه النساء. ويمسكه الآخر ليريه الكنائس والدولة لمن غلب. ومن خصائصهم أيضاً إنهم يتكلمون بلغة قذرة طفسة منتنة بحيث إن المتكلم يشم منه رائحة البخر أول ما يفوه. والرجال والنساء. في ذلك سواء. وإذا استنكهت امرأة جميلة وهي ساكتة نشيت منها عرفاً ذكياً. فإذا استنطقتها استحالت إلى بخر. ومنها أنه إذا أصيب إحدى النساء بداء في أحد أعضائها ذهبت إلى الصائغ وأمرته بأن يصوغ لها مثال ذلك العضو من فضة أو ذهب لتهديه للكنيسة. ومن كانت معسرة صاغته من الشمع ونحوه. ومن ذلك إن حلق اللحى والشوارب مندوب وحلق ما سواهما محرم. حتى أن القسيسين يلحّون على النساء في السؤال كثيراً حين يعترفن لهم عن قضيتي النتف والحلق ويحرزونهن من ارتكاب ذلك. ومنها أن لأهل الكنائس عادة أن يخرجوا في أيام معلومة بما في كنائسهم من الدمى والتماثيل على ثقلها وضخمها. يحملونها على أكتاف المتحمسين في الدين فيجرون بها في الشوارع وهم ضاجون. وأغرب من ذلك أنهم يوقدون أمامها الشموع حين يود كل إنسان أن يؤدي إلى كهف في بطن الأرض من شدة توهج الشمس. وغير ذلك كثير مما حمل الفارياق على العجب. لأن أهل بلاده مع كونهم سوقيين ولهم حرص زائد على عداوة الخرجيين لا يفعلون ذلك. وحين ثبت أن الخرجيين هم على هدى إلاّ في أكل الخنزير. وإن السوقيين على ضلال ما عدا استحسان نسائهم لغيسانّي الخرجيين. إلا أنه ليس من طريقة في الدنيا إلا وفيها ما يحمد وما يذم. وإن الإنسان تراه في بعض الأمور عاقلا رشيدا وفي غيرها جاهلا غويا. فسبحان المتصف وحده بالكمال. وإنما ينبغي للناقد المنصف أن ينظر إلى الجانب الأنفع ويقابله بغيره. فإن رأى نفعه أكثر من ضره حكم له بالفضل. لا أن يمني نفسه بأن يجد شيئاً من الأشياء كاملاً. قال الشاعر: ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

منصة دونها غصة

هذا وكما أن الجوع اسقط من فم صاحبنا الضرس المستجيع ضرسين. كذلك أسقطت مشاهدة تلك الأمور من رأسه اعتبار السوقيين وبني عمَّهم من كلا الجانبي الدين والرشاد. فظهر له أن أفعالهم أحرى أن تكون أفعال المجانين. فلهذا ضاق صدره في بلادهم وعيل صبره. مع احتياجه إلى الطعام الطيّب الذي كان ألفه في الشام والي لباس يليق به. فإن الخرجي أفاده أن المفددين على السلع الخرجية لا ينبغي لهم التحفل بالملبوس. إذ المقصود من الخرج إنما هو حمله فقط. مع إن السوقيين يحسبون إن الخرجيين يستجلبون إليهم المفددين بالمال والهدايا. فلهذا كان الفارياق دائم الحزن والأسف. فلم يمكنه وقتئذ أن يتعلم لسان الخرجيين وإنما تعلم منهم بعض ألفاظ تخص ترويج السلعة فقط. هذا وقد كان عند الخرجي المذكور خريجيّ لئيم. شكس الأخلاق أصفر الوجه. أزرق العينين أرنبة الأنف كبير الأسنان. رأى الفارياق يوما ينظر من طاقة له إلى سطوح الجيران فنزغه الشيطان أن يسّمر الطاقة، فلما رآها الفارياق مسمرة تفاءل بأنها خاتمة النحس، وهكذا كان، فإنه مرض بعدها بأيام قليلة فأشار الطبيب الخرجي بأن يسفره إلى مصر. فسافر من ثم ومعه كتاب توصية إلى خرجي آخر. منصّة دونها غصّة ما زال البحر بحراً. ما برحت الريح ريحاً. ما أنفك طالع الفارياق هابطاً. ما فتئ لسانه فارطاً. فلما بلغ إلى الإسكندرية وجد في محل الخرجي القديم خرجياً فيها. فتخلّف عمن تقدمه وخبثت ريحه بين أقرانه. والحامل له على ذلك إنه رأى هواء البلاد شديد الحرارة عليه فأرتاي أن يتخذ له هرمين يتسلقهما حين يحتر كما كان سلفه أتخذ هرماً من الدنان. فأفرغ عليهما من اللجين ما يسيل به واد. فشاع إسرافه هناك ومله أصحابه ثم سافر الفارياق من الإسكندرية إلى مصر وادي كتاب التوصة للخرجي. فأنزله في دار رفيق له وكانت محاتذية لدار رجل من الشاميين كان يجتمع عنده كل ليلة جماعة من المغنين والعازفين بآلات الطرب. فكان الفارياق يسمع الغنا من حجرته. فهاج به الوجد والغرام. وتذكر أوقاته بالشام. وحين وصبا إلى مجالس الأنس. وخيل له أنه انتقل من عالم الجن إلى عالم الإنس. وأسفرت له الدنيا عن لذات مبتكرة. وشهوات مدَّخرة. وأفراح صافية. وأماني وافيه. فنسي ما كابده في البحر من الدُوار والفواق وفي الجزيرة من الجوع وتسمير الطاق. وما أصابه من بحُح التفديد. وترح التقليد. ورأى لدولة مصر بهجة ورونقاً. وفي عيشها رغداً مغدقاً. فكان الناس كلهم مُعْرسون أو مفاخرون ومنافسون.

ولنسائها كياسة وظرفاً وجمالاً. ولطفاً وليناً ودلالاً. وتيهاً واختيالا. يخطرون في الطرق بالحبر كالمنشئات فيجعلن مجموع الهّم على القلب في شتات. وما أنا بأول واصف لهن إنهن خلاّبات للعقول. غلاّبات للفحول. فقد وصفهن بذلك كل ناظم وناثر. وذكر محالهن كل من حاولهن من الأكابر والأصاغر. وفي المثل السائر. تراب مصر من ذهب. وغيدها نِعم اللُعب. وإنها لمن غلب. واعجب ما يرى من احوالهن. حين يخرجن من حجالهن. ويتفلتن من عكالهن، ما إذا ركبن الحمير الفارهة العالية. واستوينا فوقها على منصة مضخمة بالغالية. فترى عرفهن قد ملأ الخياشم. وحور أعينهن يذكر الناس بحور جنات النعيم. فكل من ينظر حورية منهن يكبّر عند رؤيتها. ويستصغر الدنيا بجمال طلعتها. ومنهم من يهلل لالتفاتتها. ويسّبح عند حركتها. ومنهم من يتمنى أن يكون ممسكا بركابها. أو ماسا لجلبابها. أو حاملاً لنعالها. أو رافعا لأذيالها أو بطانة لحبرتها أو بوابا لحجرتها. أو رسولا بينها وبين عاشقها. أو تبعا لتبعها ومرافقها. أو مشاطا يسوي فرقها. أو خياطا يرقع خرقها. أو صائغا يصوغ لها سوارا. أو حدادا يصنع لها مسمارا. أو بلاَّنياً يدلك بدنها. أو هناً آخر يداني هنها. وهي من فوق تلك المنصَّة تتعزز وتتمنع. وتشفن وتتطلع. فترمي هذا بنظرة فتدميه. وذاك بغمزة فتصيبه وتسبيه. فتعطل على التجار أشغالهم. وتبلبل من ذوي البطالة بالهم. حتى كان الحمار من تحتها يعرف قدر من حمل. ويدري ما غرض من كبّر وهلّل. فهو لا ينهق ولا يسمع له شخير ولا يكرف كسائر الحمير. بل يسمد على الخيل كبرا. ويمشي الخيلاء زهوا. وفخرا. أما قائد الحمار فإنه يرى أن قائد الجيش دونه في المنزلة. وإن الناس لفي افتقار إليه فهو لابدَّ له من عائد وصلة. كيف لا وهو الموصوف بالسياسة والقيادة والفراسة. وهنا قضية نسيت أن أذكرها. فلا بد من أن أقيدها. في هذا الموضع وأحررها. وهي أن القلوب برؤية المتبرقعات أولع منها برؤية المسفرات وذلك أن العين إذا رأت وجههاً جميلاً وأن يكن رائعاً شائقاً غاية ما يمكن فإن المخيلة تستقر عليه وتسكن. فأما عند تبصر الوجه المحجوب مع اعتقاد القلب بأن صاحبه من الجنس المحبوب. ولا سيما إذا قام الدليل عليه بحلاوة العينين، وبالهدب وبزجج الحاجبيين، فإن المخيلة تطير بالأفكار عليه ولا تجد لها من أمد تنتهي إليه. فيقول الخاطر "انتهى السجع لأنه ملأ الصفحة" لعل هذا الوجه. أثعُبانيّ الاثعبان والاثعباني الوجه الفخم فيحسن وبياض. أو ذوانسبات يقال في وجهه انسبات أي طول وامتداد. أو هو مصُفح المصفح من الوجوه السهل الحسن. أو مثُعمدّ المثعمد من الوجوه الظاهر البشرة الحسن السنحة. أو مدنَّر يقال دنَّر وجهه تدنيراً تلالا. أو ملوّز الملَّوز من الوجوه الحسن المليح. أو مخروط المخروط من الوجوه ما فيه طول. أو ساجع الساجع الوجه المعتدل الحسن الخلقة. أو عنميّ الوجه الحسن الأحمر. أو فدغم الفدغم الوجه الممتلي الحسن. أو ذو كلثمة الكلثمة اجتماع لحم الوجه بلا جهومة. أو مَسنون يقال رجل مسنون الوجه مملّسة حسنه سهله. ولعله جامع لجميع سمات الوسامة فاشتمل على خدين اسيلين اسجحين أو مكتّلين وفي كل خدّ إذا ضحكت غمزة أو هزمه أو شجرة أو عكوة أو غرمة أو فحصة أو فيهما. علطة العلطة واللعطة سواد تخطه المرأة في وجهها زينة. أو في كل منهما خال عمّ حسنه وعزَّ فتنه. أو فيهما أوفي أحدهما خداد "ميسم في الخد" أو ترخ "الشرط اللين". أو وَحْص أو عُد أو ظبظاب. الوحص بثرة تخرج في وجه الجارية المليحة والظبظاب بثر في وجوه الملاح ومثله العُد. واشتمل أيضاً على ثغر منصب. ذي شنب ورتل وحبب. ثغر منصب مستوى النبتة والشنب ماء ورقة وبرد وعذوبة في الأسنان أو نقط بياض فيها أو حدّة الأنياب كالغرب تراها كالمنشار والرتل بياض الأسنان وكثرة مائها والحبب تنضد الأسنان وما جرى عليها من الماء كقطع القوارير. أو على تفليج في ثنايا من الدّر. ذات أُشُر ووَشْر أُشُر الأسنان وأُشَرها التحزيز الذي فيها خلقة أو مستعملاً يقال أشرت المرأة أسنانها وأشرتها والوشر تحديد المرأة أسنانها وترقيقها.

أو أن لها عترة. تتهالك في حبها عترة. العترة أُشَر الأسنان ودقة في غروبه ونقاء وماء يجري عليه- والريقة العذبة وهي أيضاً نسل الرجل ورهطه وعشيرته. الأدنون ممن مضى وغبر. أو أن بذقنها نونة تعوذ بسورة ن. أو أن شفتها ريّا أو حوّاء أو نكعة أو أن فيها لعساً أو ذبباً. أو يتصّبب منها العسل تصبّباً. أو أن فيها ثُرْملة. تشفي من الوله. الثرملة النقرة في ظاهر الشفة العليا والنكعة من الشفاه الشديدة الحمرة. أو أن في طُرْمتها طِرْماً. الطُرمة النبرة وسط الشفة العليا والطرم الشهد والزبد والعسل. أو أن لها تُرْفة. أشهى واعزّ من الترفة. الترفة هنة ناتئة وسط الشفة العليا خلقة وهي أيضاً النعمة والطعام الطيب والشيء الطريف تخص به صاحبك. أو أن لها عُرْعَرة. على مثلها تهون الغرغرة. العرعرة بين المنخرين أو خَوْرِمة. تطيب بها النفس عن الخُرّمة. الخورمة مقدم الأنف أو ما بين المنخرين والخرّمة واحدة الخرّم وهو نبت كاللوبيا بنفسجي اللون شمه والنظر إليه مفرح جداً ومن امسكه معه احبّه كل ناظر إليه ويتخذ من زهره دهن ينفع لما ذكره. أو نثرة. عليها تنثر البدرة. النثرة الخيشوم وما والاه أو الفرجة بين الشاربين حيال وتزّة الأنف. أو أن لمرافعها غَفْراً. يكسر شوكة الاجرا. المراعف الأنف وحواليه والغفر زئبر الثوب. أو أن لها خُنْعُبة. تشدّ العظام الوربة. الخنعبة النونة أو الهنة المتدلية وسط الشفة العليا أو الشق ما بين الشاربين حيال الوترة ويقال فيه أيضاً الخُنْبعة. أو عَرْتُبة. تصح بها القلوب الوصبة. العرتبة الأنف أو ما لان منه أو الدائرة تحته وسط الشفة أو طرف وترة الأنف. أو عَرْتمة. هي للحسن سمة. العرتمة مقدم الأنف أو ما بين وترته والشفة أو الدائرة عند الأنف وسط الشفة العليا ومثلها الهرثمة. أو أن على ملامظها وملامغها لَغَماً. ينفي سدماً. ويشفي سقماً. الملامظ ما حول الشفة والملاغم ما حول الفم كالملامج واللغم الطيب القليل. أو لعل لها نبرة هي تمام النضرة. النبرة في وسط النقرة في ظاهر الشفة والنضرة الحسن. أو تفرة. يطيل الصب عليها زفرة. التفرة مثلثة الاول النقرة في وسط الشفة العليا. أو حثرمة. تذر القلوب بها مغرمة. الحثرمة الدائرة تحت الأنف وسط الشفة العليا أو الأرنبة أو طرفها. أو وتيرة تفدى بألف وثيرة. الوتيرة حجاب ما بين المنخرين. أو أن لها خيشومة يبرئ كمها. ويطري ومها. الخيشوم من الأنف ما فوق نخرته من القصبة وما تحتها من خشارم الرأس والومه شدة الحرّ. أو قسامة. يمضي بها العاشق أقسامه القسامة الحسن والوجه- أو الأنف وناحيتاه أو وسط الأنف الخ. أو أن لها ذلفا يصحّ دنفاً الذلف صغر الأنف واستواء الأرنبة أو صغره في دقة أو غلط واستواء في طرفه ليس بحدّ غليظ. أوخنساً تغيب له الخنّس. الخنس تأخر الانف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة وهي خنساء والخنّس الكواكب كلها أو السيارة. أو كان أنفها مُصفحاً. المصفح من الأنوف المعتدل القصبة. أو أشم. الشمم ارتفاع قصبة الأنف وحسنها واستواء أعلاها وانتصاب الأرنبة. أو أن به قَنى. قنى الأنف ارتفاع أعلاه واحديداب وسطه وسيوغ طرفه أو نتوء وسط القصبة وضيق المنخرين هو أقنى وهي قنياء. أو أن به غُرْضَين. يلهيان عن التغريض واللُجَين. غرضا الأنف ما انحدر من القصبة من جانبيه جميعا والتغريض أكل اللحم الغريض والتفكه. أو أن لها ناظرين. نفديهما بالناظرين. الناظران عرقان على حرفي الأنف. أو ناحرتين. نذيل لهما النحور والمقلتين. الناحرتان عرقان في اللَحى وضلعان من أضلاع الصدر أو هما الواهنتان والترقوتان. أو حافزا. يشرح قلباً حالزاً، ويتلحز له الشاعر تلحزاً. الحافز حيث ينثني من الشديق وقلب حالز ضيّق والتحلُّز فيك من أكل رمانة حامضة ونحوها شهوة لذلك كالتلزّح. أو أن خنَّابيتها. تحوم القلوب عليها. الخناتبان طرفا الانف.

أو أن صامغين. هما قرة العين. وريّ الغين الصامغتان والصماغان والصمغان جانبا الفم وهما ملتقى الشفتين مما يلي الشدقين وهما أيضاً السامغان لغة في الصاد والغين العطش. ويا ليت شعري هل يتكوّن فيهما صمغ شهد حتى سميا بهذا وهل هما منطبقان أو منفتحان وهل يتلحَّز لهما الشاعر المسكين كما تلحّز من الحافزين الله اعلم. ثم يقول أو أن لها حترة. يديم الصبّ إليها حَترة الحترة مجتمع الشدقين والحتر تحديد النظر. فهل من تلزّح معه. أو أن لها ماضغين. يعوّذان من العين. الماضغان أصول اللحين عند منبت الأضراس أو غُنْية. تهنَّد الخليَّ سَنْبه. الغنبة على ما في القاموس واحدة الغُنَب وهي دارات أوساط أشداق الغلمان الملاح. لكني رأيت ربّة البرقع أولى بها فلا عكاس ولا مكاس على هذا الاختلاس. والتنهيد التصبي والتشويق والسنبة والدهر. ولعل عارضها. يتيَّم معارضها. العارض صفحة الخد وجانب الوجه. أو أن لها علاطاً يشغف من ناظره نياطا. العلاط صفحة العنق والنياط الفؤاد. أو بُلدة. تفتن أهل البلدة. البلدة نقاوة ما بين الحاجبين وثغرة النحر وما حولها أو وسطها. أو أن لها محاجز. تباع لها المحاجز. المحجر من العين ما دار بها والمحاجر الثانية ما حول القرية. أو اسارير. يعنو لها من جلس على السرير. الأسارير محاسن الوجه والخدّان والوجنتان. أو أن طُْليتها تبري الطلياء. الطلية العنق أو أصلها والطلياء قرحة كالقوباء. ولديديها اللدود. اللديدان صفحتا العنق دون الأذنين واللدود وجع يأخذ في الفم والحلق. ولزيزيها اللز، اللزيز مجتمع اللحم فوق الزور واللز الطعم. ومفاهرها أعز إِلى ذي مغبة من الفهيرة. المفاهر لحم الصدر والفهيرة محض يلقي فيه الرضف فإذا غلا ذرَّ عليه الدقيق وسيط. وأن سالفتيها تغنيان عن السلاف. السالفة ناحية مقدم العنق من لدن معلق القرط إلى قلت الترقوة. ونحرها عن نحر النهار. نحر النهار والشهر اوله. وترائبها عن الأتراب. الترائب عظام الصدر أو ما ولي الترقوتين منه والأتراب وأحدها ترب وهو اللِدة. ويصح أن تكون أيضاً بكسر الهمزة مصدر أترب الرجل أي كثر ماله فليسأل القائل عن أيهما أراد. إلى غير ذلك من الاحتمالات التي لا بدّ منها لحصيف العقل المستحكم الرأي. وإنما أطلت الكلام هنا لكوني ناقلاً له عمن تبصر الوجه المحجوب. ودهش عن الإصابة فسأل فمه سعابيب.

وصف مصر

وغاية ما أقوله أنا إن من شاعر امرأة ليلاً ولم يرها كما جرى لسيدنا يعقوب عمَّا وقع له ما وقع لصاحبنا هذا المكثر من اللعلاّت والأنات والأوّات. ولقائل أن يقول أن هذه القضية معكوسة في شأن المرأة اللابسة. فأن النظر إذا وقع عليها وهي متسترة وقفت معه المخيلة عند حدّ ما. بخلاف العريانة فإن المخيلة والقلب عند النظر إليها يطيران عليها ولا يقفان على حدٍّ فالمخيلة تتصور أشياء والقلب يشتهي أشياء أخرى. وللمجيب أن يقول أن ذلك إنما نشأ عن الفرق الحاصل بين الوجه والجسم. فأن الجسم من حيث كونه أكبر من الوجه اقتضى طيران المخيلة إليه: وحومان القلب عليه. وردّ هذا القول جماعة منهم الصباباتي والمباعليّ والألغزي وأبو إِرَّبان كبر الجسم هنا ليس سبباً للطيران والحومان. إذ لو لم يبدُ منه إلا موضع واحد لكفى. فبقي الأشكال غير مدفوع. وأجيب بأن العلة في ذلك إنما هي لكون الجسم جسماً والوجه وجهاً. وسفه هذا القول فأنه تحصيل للحاصل وقيل إنما هو لكون الوجه محلاً لأكثر الحواس. ففيه مخزن الشم والذوق والبصر وقريب منه مخزن السمع. وارتضاه جماعة منهم العزهي والتيتاي والذَوْذخي. وردّ بأن هذه الحواس لا مدخل لها هنا. فأن المراد من كونية المرأة لا يتوقف عليها أصالة فهي مستغنى عنها. وقيل إنما هو لكون الجسم يحوي أشكالاً كثيرة ففيه الشكل القمقمي والرماني والقرموطي والأطاري والخاتمي والقبي والعمودي والهدفي والصادي والميمي والمدرج والمخروط والهلاليّ ومنفرج الزاوية. وردّ بأنه كقول من قال أنه كبر من الوجه وجوابه كجوابه. وقيل إنما هو لكون العادة الأغلبية هي أن يكون الوجه حاسراً والجسم مستوراً. فإذا رأى الإنسان ما خالف العادة هاجت خواطره وطارت أفكاره. وقيل غير ذلك والله أعلم. ويحتمل إن هذه القاعدة التي استدركت ذكرها غير صحيحة فيا ليتني نسيتها فأن ذكرها أوجب المناقشة بين العلماء. والحاصل أن الغرام البرقعي لما باض وفرخ في رأس الفارياق غردت أطياره عليه لأن يتخذ له آلة لهْو. فما عتم أن تأبَّط له طنبوراً صغيراً من السوق وجعل يعزف به في شباك له مطلّ على دار رجل من القبط وكان عند الخرجي خادم مسلم قد عشق ابنة القبطي فغار عليها من الطنبور فسعى بالفارياق إلى سيده قائلاً إذا سمع المارون في الطريق صوت الكنبور من دارك ظنوا أنها دسكرة أو حانة أو ثكنة "مركز الأجناد ومجتمعهم على لواء صاحبهم الخ" لا دار للخرجيين. لأن هذه الآلة لا يستعملها غير الترك. فشكوه الخرجي على ذلك وأستصوب ما قاله وأوعز إلى الفارياق بإلغاء الآلة فألغاها وجعل يفكرِّ في التملص من أيدي هذه الزمرة التي لم يبرح آذاها واصلاً منكل شباك سواء في الجزيرة والأرض ثم بعد أيام قليلة هرب الخادم بالبنت وتزوج بها بعد أن أسلمت والحمد لله رب العالمين. وصف مصر

قد وصف مصر كثير من المؤرخين المتقدمين ومدحها جمّ غفير من الشعراء الغابرين وها أنا اليوم واصفها ومادحها بما لم يسبقني إليه أحد من العالمين فأقول إنها مصر، من الأمصار. أو مدينة من المدن أو مدورة من المدر. أو كورة من الكور أو قصبة من القصب. أو بحرة من البحر. أو ماهة من الماهات أو قرية من القرى أو قارية من القواري أو عاصمة من العواصم أو صقع من الأصقاع أو دار من الديار أو بلدة من البلاد أو بلد من الأبلاد. أو قطر من الأقطار أو شيء من الأشياء. غير أن أهلها يقولون إنها مصر الأمصار ومدينة المدن وعاصمة العواصم وشيء الأشياء إلى آخره. وما أدري فرق ذلك وكيف كان فيها مدينة غاصة باللذات السائغة متدفقة بالشهوات السابغة توافق المحرورين من الرجال خلافا لما قاله عبد اللطيف البغدادي. يجد بها الغريب ملهى وسكناً وينسى عندها أهلا ووطنا ومن خواصها أن ما يذهب من أجسام رجالها يدخل في أجسام نسائها فترى فيها النساء سمانا كالاقط بالسمن على الجوع والرجال كالحشف بالشيرج على الشبع، ومنها أن أسواقها لا تشبه رجالها البتة. فإن لأهلها لطافة وظرافة وأدبا وكياسة وشمائل مرضية وأخلاقاً زكية وأسواقها عارية عن ذلك رأسا. ومنها أن ماءها لا يشبه عيشها أي خبرها. فإن الأول عذب والثاني تافه. ومنها أن العالم فيها عالم والأديب أديب والفقيه فقيه والشاعر شاعر والفاسق فاسق والفاجر فاجر. ومنها أن نساءها يمشين تارة على الأرض كسائر النساء وتارة على السقف وعلى الحيطان. ومنها تذكر المؤنث وتأنث المذكر مع أن أهلها متقنون للعلم وأي إتقان. ومنها أن حّماماتها لا تزال تقرأ فيها سورة أو سورتان من القرآن فيها ذكر الأكواب والطائفين بها. فالخارج منها يخرج طاهرا وجبنا. وأعجب من ذلك أن كثيرا من رجالها ليس لهم قلوب. وقد عوض الواحد منهم عن قلبه بكتفين وظهرين وبأربعة أيدي وأربعة أرجل. ومن ذلك أن كثيرا من البنات اللائي يغسلن اقمصتهن في بعض مجاري النيل يتعممن بقمصانهن بعد غسلهن ويمشين عريانات. ومنها أن قوماً منهم بلغهم أن نساء الصين يتخذون أو بالحري يُتخذ لهن قوالب من حديد لتصغير أرجلهن عن المقدار المعهود. فجعلوا يشذبون أصابعهم واعتقدوا أن اليد إذا كان بها أربع أصابع فقط كانت أخف للعمل وأنفع لصاحبها. مع أن الأصابع والكفوف عندهم ليست مما يكسى حتى تقضي عليهم بزيادة النفقة. كما هو شأن الإفرنج الذين لا يغادرون عضوا من أعضائهم إلاّ ويكسونه احتفالا به وتفخيماً له أو حذراً عليه من العدوى. ومن ذلك أي من الخواص لا من الأعضاء أن البنات اللائي يُستخدمن في الميري لحمل الآجر والجبس والتراب والطين والحجر والخشب وغير ذلك، يحملنه على رؤوسهن وهن فرحات جامحات رامحات سابحات صادحات مادحات مازحات. غير آحات ولا ترحات ولا دالحات ولا رازحات ولا كالحات ولا نائحات. ومن كان نصيبها من الآجرّ نظمت عليه موالاً أجريّا. أو من الجبس غنت له أغنية جبسية. كإنما هن سائرات في زفاف عروس.

من ذلك أن فيها دوانين عظيمين يقال لكل منهما الديوان المخدّمي. فالديوان الأول قيمته رجل يجهز للرجال ما يلزمهم لتبريد فرشهم من هو. والديوان الثاني وهو دونه في القدر والشأن قيمته امرأة تجهز ما يلزمهم لتسخنهم من هي. وأصل منشئ الديوان الأول عجميّ. وقد صار الآن من الشهرة والنباهة عند العرب بحيث إنك لا تزال تسمع بذكره والثناء عليه في كل مقام ولا يكاد يخلو منه مجلس أنس أو غناء أو أدب. ومن ذلك أن البرنيطة فيها تنمى وتعظم. وتغلظ وتضخم وتتسع وتطول وتعرض وتعمق. فإذا رأيتها على راس لابسها حسبتها شونة. قال الفارياق وكثيراُ ما كنت أتعجب من ذلك وأقول: كيف صح في الإمكان وبدأ للعيان أن مثل هذه الروس الدميمة. الضئيلة الذميمة. الخسيسة اللئيمة. المهينة المُليمة. المستنكرة المشئومة. المستقذرة المهوعة. المستقبحة المستفظعة. المستسمجة المستشنعة. المسترذلة المستبشعة. تقل هذه البرانيط المكرمة. وكيف إنماها هواء مصر وكبرها إلى هذا المقدار. وقد طالما كانت في بلادنا لا تساوي قارورة الفراش. ولا توازن ناقورة الفراش. وكيف كانت هناك كالتراب. فأصبحت هنا كالتبر. يا هواء مصر يا نارها يا ماءها يا ترابها ضيري طربوشي هذا برنيطة وأن يكن أحسن منها عند الله والناس وأفضل. وأجل وأمثل. وللعين أبهى وأكمل. وعلى الرأس أطبق. وبالجسم أليق. وغير ذي قرون تتملق لتتلمق. ويرزق عليها لترزق. قال فلم يغن عني النداء شيئاً وبقي راسي مطربشاً. وطرف دهري مطرفشاً. ومن ذلك أن قوماً من الهُككاء المهاكيك فيها يمرأون ويبرقعون لحاهم ويزاحمون ذوات البراقع على مورد الإناثية. فتراهم يتحففون ويهجلون ويتبازون ويوكوكون ويوزوزون ويباغمون وهم أقبح خلق الله. ومن ذلك أن لضابط البلد شفقة زائدة على أهلها تقرب من حد الظلم. وذلك أنه يأمر جميع السالكين قي طرقها ليلاً أن يتخذوا لهم فوانيس وإن كانت الليلة مقمرة. خفية أن يعثروا بشيء في أسواق المدينة فيسقطوا في هوة أو جبّ فتنكسر أرجلهم أو تندق أعناقهم. ومن وجد ليلاً يطوف من غير ذوي البرانيط وليس بيده فانوس غُلّت رجله إلى يده. ويده إلى عنقه. وعنقه إلى حبل. والحبل إلى وتد. والوتد إلى حائط. والحائط إلى ناكر ونكير. وتصلية سعير. ومن ذلك أن لبني حنا فيها أسلوباً في الكتابة لا يعرفه أحد إلا هم. ولهم حروف كحروفنا هذه إلا أنها لا تقرأ إلا إذا أدخلها الإنسان في عينه كذلك رأيتهم يفعلون. ومنها أنه إذا مات منهم أحد فلا يزال أهل الميت يندبونه وينوحون عليه حتى يؤوب إليهم ووطبه ملان من الطريخ. ومن خصائصها أيضاً أن البغاث بها يستنسر والذباب يستصقر. والناقة يستعبر. والجحش يستهمر. والهر يستنمر. بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة. ومن ذلك أن كثيراً من أهلها يرون أن كثرة الأفكار في الرأس يكثر عنها الهموم والاكدار أو بالعكس. وأن العقل الطويل يتناول البعيد من الأمور. كما أن الرجل الطويل يتناول البعيد من الثمر وغيره. وأن تلك الكثرة سبب في الإقلال. وهذا الطول موجب لقصر والآجال. وأوردوا على ذلك براهين سديدة قالوا أن العقل في الرأس كالنور في الفتيلة. فما دام النور موقداً فلا بد وإن تنفذ الفتيلة ولا يمكن إبقاؤها إلا بإطفاء النور. أو كالماء في الوادي. فإذا دام الماء جارياً فلابد وأن ينضب أو ينصب في البحر فمتى حُقن بقي. أو كالفلوس في الكيس. فما دام المفلس أي صاحب الفلوس يمدّ يده إلى كيسه وينفق منه في ما عنده. إلا أن تربط يده عن الكيس أو يربط الكيس عن يده. أو كالتيس النازي. فإنه إذا دام نزوه نزفت مادة حياته فهلك فلا بد من نجفه. فمن ثم اصطلحوا على طريقة لتوقيف جريان العقل في ميدان الدماغ حيناً من الأحيان ليتوفر لهم في غيره. وذلك بشرب شيء من الحشيش أو بمضغة أو بالنظر إليه أو بذكر اسمه فحين يتعاطونه تغيب عنهم الهموم ويحضر السرور. وتولي الأحزان. ويرقص المكان. فمن يرهم على هذه الحالة ودّ لو يكتُب في زمرتهم ويدخل في دائرتهم وأن يكن قاضي القضاة. ومن ذلك أن طرقها لا تزال غاصة بالإبل المحملة فينبغي للسائر فيها إذا رآها مقبلة أن يخلي لها الطريق. لا فلا يأمن أن يفقد إحدى عينيه. وقد ينشأ عن هذا الزحام فوائد كما في حكاية المرأة التي سارت مع أمها لتحضر عرس أختها فطالعها من محلها.

في لا شيء

في لا شيء قد كنت أظن أني تركت الفارياق وأخذت في وصف مصر أستريح فإذا هو هي إياها. فينبغي لي الآن إن أمكث في ظل هذا الفصل الوجيز قليلاً لانفض عني غبار التعب ثم أقوم إن شاء الله تعالى. في وصف مصر قد قمت حامداً لله شاكراً فأين القلم والدواة حتى أصف هذه المدينة السعيدة الجديرة بالمدح من كل من رآها. لأنها بلد الخير ومعدن الفضل والكرم. أهلها ذوو لطف وأدب وإحسان إلى الغريب. وفي كلامهم من الرقة ما يغني الحزين عن التطريب. إذا حيَّوك فقد أحيوك. وأن سلموا عليك فقد سلموك. وإن زاروك زادوك شوقاً إلى رؤيتهم. وإن زرتهم فسحوا لك صدورهم فضلاً عن مجالسهم. أما علماؤها فإن مدحهم قد أنتشر في الآفاق. وفات فخر من سواهم وفاق. بهم من لين الجانب ورقة الطبع وخفض الجناح وبشاشة الوجه ما لا يمكن المبالغة في إطرائه. لكل نوع من الناس عندهم إكرام يليق به سواء كان من النصارى أو غيرهم. وربما خاطبوهم بقولهم يا سيدي ولا يستنكفون من زيارتهم ومخالطتهم ومعاشرتهم خلافاً لعبادة المسلمين في الديار الشامية. وبذلك لهم الفضل على غيرهم. وكأن هذه المزية وهي حسن الخلق ورقة الطبع أمر مركوز في جميع أهل مصر. فإن لعامتهم أيضاً مخالقة ومجاملة. وكلهم فصيح اللهجة بين الكلام سريع الجواب. حلو المفاكهة والمطارحة. وأكثرهم يميل إلى هذا النوع الذي يسمونه الأنقاط. وكأنه المجارزة وهي مفاكهة تشبه السباب وهو أشبه بالأحاجي. فإن من لم يكن قد تدرب فيه لا يمكنه أن يفهم منه شيئاً وأن يكن شاعراً. وكلهم يحب السماع واللهو والخلاعة وغناؤهم أشجى ما يكون. فلا يمكن لمن ألفِه أن يطرب بغيره. وكذلك آلاتهم فإنها تكاد تنطق عن العازف بها. وأعظمها عندهم هو العود وقل اعتناؤهم بالناي. ولهم في ضرب العود طرق وفنون تكاد تكون من المغيبات. غير أني أذمّ من غنائهم شيئاً واحداً. وهو تكرير لفظة واحدة من بيت أو موال مراراً متعددة حتى يفقد السامع لذة معنى الكلام. ولكن أكثر ما يكون ذلك من المتطفلين على الفن. وبعكس ذلك طريقة أهل تونس فإن غناءهم أشبه بالترتيل وهم يزعمون إنها كانت طريقة العرب في الأندلس. ومما ينبغي أن يذكر هنا أن النصارى المولودين في بلاد الإسلام الناهجين منهج المسلمين في العادات والأخلاق هم أبداً دونهم في الفصاحة والأدب والجمال والكياسة والظرافة والنظافة إلا أنهم أنشط منهم على السفر والتجارة والصنائع وأكثر أقداماً وجلداً على تعاطي الأعمال الشاقة. وذلك أن المسلمين أهل قناعة وزهد وفي النصارى شره عظيم إلى اتخاذ الديار الرحيبة وقنية الخيل النجيبة والجواهر النفسية. والمتاع الفاخر لا حد لها. فإذا دخلت دار نصراني من المتمولين بمصر رأيت عنده عدة خوادم وخادمين ونحو عشرين قصبة للتبغ من أغلى ما يكون. وقد نصفها من الأراكيل الثمينة. وثلاث غرفات مفروشات بأحسن ما يكون من القماش. وآنية فضة للطعام والشراب والرائحة وأسرة عالية وطيئة وثياباً فاخرة وغير ذلك. ومع هذا فلا تجد عنده كتاباً ولو أن مشترياً شاء أن يشتري شيئاً من تاجر مسلم لوجد سعره أرخص من بضاعة النصراني بربع الثمن ولكن وجود هذه الشراهة إنما هو في الغالب عند النصارى الغرباء. فأما القبط فأنهم أشبه بالمسلمين. وقل من تعاطى المتجر منهم.

في أشعار أنه انتهى من وصف مصر

أما دولة مصر إذ ذاك فإنها كانت في الذروة العليا من الأبهة والعزّ والفخر والكرم والمجد. فكان للمتسمين بخدمتها مرتب عظيم من المال والكسي والشحن مما لم يعهد في دولة غيرها وكان وأليها يولي المراتب العلية وسِمات الشرف السنية لكل من المسلمين والنصارى ما عدا اليهود خلافاً لدولة تونس فإن شرفها عمّ الجميع: ومع عظم ما كان يكسبه التجار وأصحاب الحرف وما يناله أهل الوظائف من الرزق العميم فكانت الأسعار بمصر رخيصة جداً فلهذا كنت ترى الناس قصريّهم وعميّهم مقبلين على الشغل واللهو معاً. فالبساتين غاصة بأهل الخلاعة والقصوف ومحال القهوة مجمع للأحباب. والأعراس مسموع فيها الغناء وآلات الطرب من كل طرف. والرجال يخطرون بالخز والديباج. والنساء ينؤن بما عليهن من الحليّ. والخيل والبغال والحمير مسرية ومكسوة بالحرير المزركش. إلا أن صاحبنا الفارياق لم يكد يدخل أرضاً سعيدة إلا ويخرج منها وقد تغير حالها. فأرجع معي الآن لنخلصه من أيدي الخرجيين. فإني تركته يحاول ذلك منذ حين. في أشعار أنه انتهى من وصف مصر قد غادرنا أي أنا وجماعة المؤلفين الفارياق يحاول أن ينفض الخرج عن ظهره. وإني الآن من دونهم علمت أنه بات ليلة وهو يفكر في أن كل شيء أثبتته الصنعة فلا بد من أن تقلقله الأحوال فمن عزم على القلقلة. فخرج في الصباح من معزفه وأخذ يطوف في الأسواق. ويحرك كتفيه عند كل خطوة ويقول: ى قلبنَّه لا طرحنّه. لا ركسنّه لا بدحنّه. أنه أنقض ظهري أي قرح أي عقر. هل أنا اليوم حمار لحمار يالنكر. فرآه بعض الظرفاء وهو يحرك منكبيه فقال لا بد لهذا من شأن فأقبل إليه ولطف له المقال حتى استخرج سرّه من سرّته. وعلم حاله وسبب سفرته. فقال له لا عليك فأن مصر حرسها الله معدن الخير والبركة. ولكن لا بدّ للفوز بذلك من حركة. قال وأي حركة أعظم مما ترى. قال بل الأمر دون ذلك. ألك إذن واعية. وفكرة مدركة وقدم ساعية. قال أجل. قال فأسمع إذاً ما أقول لك. إن بهذا المصر شاعراً مفلقاً من النصارى له وجاهة ونباهة عند جميع الأعيان. قال ما هذه صفة شاعر وما أرى كلامك إلا متناقض الطرفين فكيف فك هذا المعمى وتأويل هذه الأحجية. قال لا تناقض فأنه شاعر بالطبع لا بالصنعة. والفرق بين ذلك أن الشاعر بالصنعة هو من يكتسب بشعره فيمدح هذا ويكذب على هذا حتى ينال منهما شيئاً. فأما الشاعر بالطبع فإنما هو الذي يقول الشعر لباعث من البواعث دون تكلّف وانتظار للجائزة. قال ليس هذا الفرق مما ذكره الآمدي. قال أبعث الآمدي إلى آمد وأسمع مني. قال قد أمَّدته فما الرشد. قال نصحي لك أن تكتب كتاباً إلى هذا العلامة وتلمس منه فيما تطري به مواجهته فإذا تكرم بذلك فأذكر له. حٍ ما أنت تعانيه واستنجد به. فلا بد من أن يجيبك. فإنه رجل متصف بمكارم الأخلاق ويجب دغدغة الافتخار. ولا سيما أنه يرغب في مجالسة ذوي الأدب وتيسير أسباب معيشتهم. فتلطف إليه في المقال. وأنا ضامن لك أن تفوز منه بالآمال. فشكره الفارياق على نصيحته ورجع إلى محله راضياً مستبشراً. فلما جنَّ الليل أخذ القلم والقرطاس وكتب ما نصه.

أهدي سلاماً لو تحمله النسيم لعطر الآفاق. ولو جعل للبدر هالة لما اعتراه المحاق. ولو مزجت به الصهباء لما أعقب شربها صداعاً. ولو أستفّه مريض أو لقمه لما لقي برجاء وأوجاعاً. ولو عُلق على شجرة لزهت في المحال أوراقها ولو في الخريف. ولو سقيه الروض لانبت من كل زهر بهيج طريف. ولو جعل على أوتار عود لأطربت دون عازف. ولو تُغنَّي به في مجلس لا غنى عن المشموم والمعازف ولو علّق في الآذان لكان شنوفاً. ولو صقل به سيف كليل رهيفاً. ولو مثل لكان حدائق ورياضاً. وسلسلاً ومحاضاً. ولو نيط بالعمائم. لا غنى عن التمائم. ولو تختم به ولهان لأجزأه مُجزأ السوان. ولو كتب على رجام لا لهي الثاكل عن النواح أو على خصر هيفاء لقام لها مقام الوشاح. أو على أنف مزكوم لنا أحوجه إلى السعوط أو على ساق أعرج لكان له من قفزه يبق وفروط. أو على لسان أبكم لانحلت عقدته. أو على كف بخيل لهان عليه في البذل ذهبه وفضته. أو على أجاج لعاد فراتا. أو على رمل لأنبت الريحان نباتاً. وتحيات فاخرة. ذكية عاطرة. أرق من النسيم. وأحلى من التسنيم. وأشهى من العافية على بدن السقيم. وأجلى للعين من الأثمد وأغلى للناقد من المسجد. وأصفى من الماء الزلال. وأعلق بالقلب من أمل الوصال. وأشغل للبال من هوى ذي دلال. وأزهر من نور الصباح وأزهى من نور الأفاح. وأعبق من شذا الراح. وأثمن من الجوهر النفيس وأعز عند البستي من التجنيس. وعند أبي العتاهية من الزهديات. وعند أبي نواس من الخمريات. وعند الفرزدق من الفخريات. وعند جرير من الغزليات. وعند أبي تمام من الحكم. وعند المتنبي من جزل الكلم. تهدي إلى الجناب المكرم. المقام المحترم. ملاذ الملهوفين. مستغاث المضيمين. ثمال المظلومين. ملجأ المهضومين. منهل القاصدين. مورد الطالبين. أدام الله سعده. وخلد مجده. وبعد يا سيدي فأني قدمت هذه الديار وأنا حامل لخرج قد أنقض ظهري وعمل به صبري. ولم أجد من يزحزحه عني ولو قليلاً. ولست أجد بنفسي إلى التخلص منه سبيلاً. وقد هديت إلى نور معروفك في جنح هذا العماس. وأُنبئت إنك أنت وحدك معتقي من هذا الإرتباس. دون سائر الناس. فهل تسمح لي بأن أزور ناديك الكريم. وأبث إليك مشافهة ما بي من البث المقيم والضر الأليم. فأنك أهل لأن تأخذ بيد من لا ناصر له وأن تصطنعه لك بالتفاتة تحقق أمله. وتنيله ما أمله. وإن تتخذه لك ما عاش رهين شكرك ممنون برّك. فهو يرجو ذلك منك رجاء من لاذ بعقوبة فخرك. فإن رأيت أن تفعل فذلك من إحسانك وطول امتنانك. والسلام. وكتب عنوانه يشرف بأنامل سيدي الأكرم الأحسب الأفخم الأوحد الأفضل الأسعد الأمثل الأرشد الأكمل الأمجد الأجلّ الخواجا فلان أدام الله بقاه بالعز والنعم.

فيما أشرت إليه

فلما بلغت هذه الرسالة إلى الخواجا المذكور وطالع ما شرح السلام من التشابيه المتكلفة لم يتمالك أن ضحك منها وقهقه وقال لبعض جلسائه ممن ألمّ بالأدب: سبحان الله قد رأيت أكثر الكتاب يتهوسون في إهداء السلام والتحيات للمخاطب كأنما مهدون له عرش بلقيس أو خاتم سيدنا سليمان. فتراهم يشبهونه بما ليس يشبه. ويغرقونه في الأغراق ويغلونه في الغلوِّ حتى يأتي مبلولاً محروقاً. وربما جاءوا بفرقتين متماثلين في المعنى كقول صاحب هذه الرسالة الآن ثمال المظلومين ملجأ المهضومين. ثم إذا انتقلوا من السلام إلى الغرض أجادوا الكلام إلى الغاية. وما أدري ما الذي حسن لأرباب فن الإنشاء أن يضيعوا وقتهم بهذه الاستعارات والتشبيهات المبتذلة وبنظم الفقر المتماثلة في المعنى أن العالم يتأتى له أن يبدي علمه بعبارة واحدة إذا كانت رشيقة اللفظ بليغة المعنى. وهذه ألف ومائتا سنة قد مضت وما زلنا نرى زيداً يلوك ما لفظه عمرو. وعمرا يمضع ما قاله زيد. فقد سرى هذا الداء في جميع الكتاب أما تفخيم المخاطب في العنوان بالأجل والأمجد والأسعد والأوحد وما أشبه ذلك فله وجه. وذلك أنه لم تجر العادة في بلادنا بأن يكون تبليغ الكتب على يد البريد. وإنما تبعث مع أشخاص ليست لهم خبرة بالطرق ولا بالديار فإنها كما لا يخفى عاطلة عن التسمية خطّا. فإذا حملها رجل لا يعرف القراءة طفق يسأل كما من لقبه في الطريق عن اسم المخاطب فأن لم يكن العنوان دالاً عليه التبس على القارئ فإن كثيراً من الناس مشتركون في الأسماء وإن كانوا مختلفين في المكارم والأخلاق وفضلاً عن ذلك فقد يتفق أن مبلغ الكتاب بعد أن يكون قد سأل غير واحد عن اسم المخاطب ووجدهم كلهم أميين. وبعد أن يكون قد أضاع نصف نهاره في البحث عن الطريق فلا يكاد يهتدي إليه إلا ويجد عونا يترصده حتى إذا لمحه تلقفه وبعثه إلى أحد الجهات التي أراد. فيبقى الكتاب عنده ثم ينتقل منه إلى غيره. وربما لقي غيره ما لقيه هو فينتقل الكتاب إلى آخر وهلم جرّا فكان لا بد من الاستقصاء من العنوان عن صفات المخاطب فقال له جليسه إذن يجب يا سيدي أن يذكر في العنوان جميع الصفات فيقال للمخاطب مثلاً إذا كان جميلاً كيِّساً غنياً رشيق القد كبير العمامة عريض الحزام. الجمل الكيس الغني إلى آخره. فقال أما وصف إنسان بالجمال والغني فهو من الموبقات لهز وأما بغير ذلك ككبر العمامة وعرض الحزام فليس من الصفات المخصصة إذ الناس في ذلك سواء. وما خالف ذلك فما أولاه بالاستعمال وستراه عن قريب مستعملاً إن شاء الله. وهو وأن يكن أحياناً من المضحكات وذلك كان تصف رجلاً مثلاً بالزبيبة والكثيفة والحنطاوية والشرنبثية والكرنيفية والزلهبية والزخزبية والسنطبية والعرزبية والعشجبية والعظيبية والجحوظية والأزطية والسناطية والفُسحمية والجهضمية والبرطامية والحثرمية إلا أنه أحسن من إيقاع اللبس في صفات المخاطب فقد بلغني أن كثيراً من الكتب التي تضمنت مقاصد مهمة لما لم يدل عنوانها بالنص والتوثيق على ذات المرسل إليه فُتحت ليعلم صاحبها. فكانت سبباً في ضرر المرسل والمرسل إليه انتهت محاورتها. وأعلم هنا أن الخواجا المذكور لما بلغته لاوكة الفارياق كان مريضاً فلهذا لم يجبه على الفور فبقي الفارياق ينتظر جواباً أياماً حتى أعتقد أن سجعه كله ذهب باطلاً. إذ لم يكن يعلم السبب وكان في خلال ذلك دائم الفكر والقلق فإنا الان أدعه في هذه الحالة منتظر الجواب. وأدع صاحبه يتداوي حتى يطيب. وأعرّج قليلاً على منازل الألقاب وألقاب المنزلة المتعارفة وقتئذ بشرط أن تسمحوا لي بأن أنتقل إلى فصل آخر وهو: فيما أشرت إليه

حد اللقب عند المشرقيين إنه هنة ناتئة أو زنمة أو علاوة رائدة متدلدلة تناط بكونية الإنسان. وعليه قول صاحب القاموس العَلاقي الألقاب لأنها تعلق على الناس. وعند المغربيين أي الإفرنج أنه جُليدة تكوَّر في الجسم. وشرح ذلك أن الهنة يمكن قطعها واستئصالها مع السهولة وكذا الزنمة وكذا العلاوة يمكن ركسها وقلبها. فأما الجليدة فلا يمكن فصلها على الجسم إلا بإيصال الضرر إلى صاحبه. وحاشية ذلك إذ الشرح لا بد له من حاشية ولولاها لم يفهم له معنى. أن الزمنة عند أهل الشرق غير موروثة إلا ما ندر فإن لكل قاعدة شذوذاً. والجليدة عند الإفرنج متوارثة كابراً عن صاغر. مثال ذلك لقب الباشا والبيك والأفندي والأغا بل الملك إنما هو محصور في ذات الملقب به فلا ينطلق منه إلى ولده. فقد يمكن أن يكون أبن الوزير أو الملك كاتباً أو نوتياً. فأما عند الإفرنج فلا يصح أن يقال لابن المركيز مركيز أو مركيزيّ. وقد يجتمع مطلق الزنمة والجليدة في جهة بقطع النظر عن كون الأولى متناهية والثانية غير متناهية. وذلك أن أصل منهما في الغالب أكال يحدث في أبدان ذوي الأمر والنهي لهيجان الدم عليهم. فلا يمكن تسكين هذا الهيجان وحك هذا الأكال إلا بأحدث الهنة والجليدة وبيانه أن الملك إذا غضب مثلاً على زيد من الزيدين لذنب اقترفه. ثم بعث إليه ذلك الزيد بشفيع عريان ليترضاه سكن هذا الاستشفاع ثورة ذلك الغضب. وأختلط الكيفية الهيجانية بالماهية العربيَّة فأنتجتا جليدة لمن كان يخاف سلخ جلده. فتحلى بها بين أقرانه حلية موبدة ولم يخف من تداول القرون عليه. والغالب في الجليدة أن تحتاج إلى جسمين. جسم مغضوب عليه وجسم شافع فيه. والغالب في الهنة أن تحتاج إلى جسم واحد فقط ومن الهنات هنات كنائسية وهي على نوعين ترابية وهوائية فالترابية ما كان لها مستقر أو أصل في التراب فتنمى فيه وتثمر وذلك كأن يكون جاثليق من الجثالقة مستقراً في دار أو دير وله إمرة على الناس يؤدون إليه عشوراً ونحوه فهو يأمر فيهم وينهي ويقضي بحسب الإقتضاء أو بحسب ما يعنّ له ولا بدّ وإن يكون عنده كاتب يعي أسراره وطباخ يشد فقاره وخازن يخزن ديناره وسجن يحبس فيه من خالفه في رأيه أو أنكر عليه أطواره. وما أشبه ذلك والهوائية عكس ما تقدم وذلك كهنة المطران إثناسيوس التتونجي صاحب كتاب الحكاكه في الركاكه فإن سيّده قلدّه في هذه المهنة ليحكم بها في المدينة طرابلس الشام غير أنه ليس في هذه المدينة أحد من أهل مذهبه حتى يؤدي إليه عشوراً أو يطبخ له طعاماً أو يكتب له رسالة فهو متقلد بها لمجرد الزينة فقط جرياً على عادة لبعض المتقدمين الذين كانوا يطلقون هنة الأمير على راعي الحمير. وزنمة الملك على شيخ قرية عَفِك. والغرض من ذلك كله انفراد شخص عن غيره بصفة ما. وإذ قد عرفت ذلك فأعلم أن الخواجا والمعلم والشيخ ليست ألقاباً معدودة في الهنات ولا في الجليدات إذ ليس في تحصيلها ما يحتاج إلى شفيع أو اختلاط أكاليّ بماهية عربية. وإنما هي خرقة تستر عورة الاسم الذي أطلق على المسمى وهي غير مخيطة فيه ولا مكفوفة ولا مشرجة ولا ملفوفة. بل هي كالبطاقة شدت إلى لابسها ليعرف بها سعره. إلا أنه كثيراً ما يقع الغلط في إلصاقها بمن ليس بينه وبينها من علاقة. فأهل مصر مثلاً يطلقون لفظة معلم على نصارى القبط. وكلهم غير معلم ولا معلم إذا قلنا أنه مشتق من العلم. فأما إذا كان اشتقاقها من العلامة بلا مشاحّة. ولفظة خواجا على غيرهم وأصل معناها كالمعلم فبقي الاعتراض في محله. فأما لفظ الشيخ فأنه في الأصل صفة من أسنّ. ثم أطلق على من تقدم في العلم وغيره مجازاً عمن تقدم في السن. فإن الطاعن في السن يستحصف عقله ويستحكم رأيه وأن أنكره النساء. فنُقلت مزيَّته إلى من باشر العلم. والذي يظهر لي بعد التأمل أن في الهنات والجليدات لضرراً عظيماً على من تحلى بها وخلا عنها، الدليل الأول أن المتصف بها يعتقد بمجاميع فلبه أنه أفضل من غيره خَلقاً وخُلقاً. فينظر إليه نظر ذي القرن إلى الأجمّ. ويستكفي بهذه السعة الظاهرة عن إدراك المناقب المحمودة والمزايا الباطنة، ويخلد بها إللا البلاد واللذات الموبقة. الثاني أنه لو نشبت فيه ربقة زحل يوماً من الأيام ودارت به دوائره فإن لم يجد ذات جليدة مثله لم يمكنه الجلد مع غيرها. وربما كان يهوى جارية عنده جميلة

طبيب

في المطبخ أو في الإسطبل فيحرمه منها أبوه أو منصبه أو أهله أو أميره فيقع تعطيل على أهل الجمال. وهو أمر مكروه بل قد جزم بتحريمه جميع العلماء. الثالث أنه قد يتفق أن يتزوج بذات جليدة معسرة مثله غير موسرة. فإذا ولدت له أولاداً لم يمكنه أن يحضر لهم شيخاً يعلمهم في داره. ويستحي أن يبعثهم إلى المكتب ليتعلموا مع جملة أولاد الناس. فتغدو أولاده من العجماوات ويتسلسل ذلك في ذريتهم إلى ما شاء الله. الرابع أن الهنة والجليدة تقضيان على المتصف بهما بنفقات لاقّة. وتكاليف شاقة. تقضي به التفريط والإسراف. والتهالك والأشراف. وربما أوصلته أخيراً إلى أنشوطة حبل من مسد. الخامس أن الإنسان من أصل الفطرة ليس له هنة ولا جليدة فأحداثهما فيه بعد ذلك أمر مغاير للطبيعة. أو في الأقل من الفضول أو من البطر. وهناك أدلة أخرى أضربنا عن إيرادها خوف الأطالة. فقد تبين لك أن الخواجا المشار إليه كان غير ذي هنة ولا جليدة. ولعله كان يحصل على أحدهما لولا ميله بالطبع إلى الأدب. ولكن لكل شيء آفة. طبيب مصح الله ما بك من السقم يا خواجا ينصر أو مسح أو مزج. على حدّ من قرأ الصراط والسراط والزراط. ومن قال اجعلي فديتك بصاقاً أو بساقاً أو بزاقاً. إنك غادرت الفارياق في وسواس وبلبال. فهو ينتظر الجواب منك في الغدوّ والآصال. قال أني ليحزنني كثيراً أن قد بلغني كتاب صاحبك وأنا محموم موجع الرأس فلم يمكن لي أن أعجل إليه بالجواب. وكان بودي لو أفعل ذلك مع ما كنت أعانيه غير أن الطبيب رسول عزرائيل منعني من الحركة. ولكن لا بدّ من أن تسمع قصتي مع هذا القرنان. وهي أني أتخمت يوماً من أكلة برغل أخذتها بحذافيرها فأصبحت وبي غثيان. وأتفق أن زارني في صباح ذلك اليوم بعض المراء الذين ينبغي أن يقال لما أثبتوه نعم في موضع لا ولما نفوه لا في موضع نعم. فرآني على تلك الحالة فقال ما بك؟ فأخبرته الخبر. فقال عليك بكبيبي الساعة فهو أمهر الأطباء لأنه قدم من باريس منذ أيام. ولولا ذلك لما اتخذته طبيباً لي ولأهلي. قلت من عادتي أن أصبر على المرض الخفيف أياماً وأستعين على معالجته بالاحتماء والتوقي، فقد يكون في ذلك ما يغني عن العلاج. فإني أرى هؤلاء الأطباء يعالجون الأمراض بالخرص والتخمين. فما يهتدون إلى العلة والمعلول إلا بعد أن تبلغ الروح الحلقوم. فيجربون مرة دواء ومرة أخرى غيره. قال لولا أن المرض قد بلغ منك ما قلت هذا الكلام فلا بد من إحضاره الآن. وما زال بي حتى بعثت إليه خادمي حياء وخجلاً. ثم خطر ببالي أن الأدِب عندنا من فرط كرمه قد يجبر المأدوب على الأكل. وربما ألقمه بيده ما تعافه نفسه. ولكن لم أسمع أن أحدا تكرم بأن يجبر غيره على علاج. فلم أتمالك أن ضحكت. قال ما أضحكك. قلت لاشيء. قال ما أحد يضحك من لاشيء فلا بد وأن يكون هناك شيء. قلت فكرت في ذلك الطبيب الذي عاد مريضاً فقال لأهله آجركم الله في مريضكم. فقالوا أنه لم يمت بعد. قال يموت أن شاء الله. فضحكت. قال لا عليك فإن هذا الطبيب ليس مثال ذاك. وبعد فإنك عزب ليس لك أهل حتى يقول لهم ذلك.

إنجاز ما وعدنا به

ثم ماعتم الخادم أن جاء به وهو أشد مني مرضا ونحولا. فالظاهر إنه لم يكن له شغل حتى يخرجه من داره. فلما أن دخل جس نبضي ونظر إلى لساني ثم زوى ما بين حاجبيه وأطرق إلى الأرض وهو يهسّ أي يحدث نفسه. ثم رفع رأسه وقال لخادمي هات الطست. قلت ما تريد أن تفعل وأنا صاحب جثتي أفلا تشاورني. قال أنه الفصد أو الرمس. قلت هداك الله يا شيخ إنها آكلة برغل مع اللحم مما تسميه الناس كبيبة. قال أنا أعرف، إنكم يا أهل الشام كلكم تموتون بهذه الكبة. فقد شيعت بها حين كنت في بلادكم أكثر من مائة جنازة. نعم هي الكبة. قلت في عجانك أن شاء الله. قال لا تدخل الكبة في عجيني مطلقا. فالتفتُّ إلى الأمير وضحكت فظهر لي أنه هو أيضا لم يفهم. وفي الاختصار فإنه ما زال هو والأمير يخطئان رأيي حتى استلمت للهلكة ومددت يدي. فأعمل فيها مبضعة أعمال السكين في بطيخة. فخرج الدم متبعقا حتى دخل في عينيه أطلق يدي وذهب ليغسل وجهه. ثمجاء بعد هنيهة وقد غشي عليّ. فتداركني خادمي بماء الزهر وغيره والأمير ناظر إلى دخان تبغه والطبيب يسارّه. فلما أفقت ربط يدي وخرج مع الأمير وقالا احترز لنفسك فأنا نعودك عن قريب. فقلت في نفسي لا أعادكما الله. فلما كان الغد جاء الطبيب متأبطا أعشابا. فقلت ما هذه الأعشاب. قال حقنة. قلت تكفيني واحدة. قال أن الأمير يقول لك ينبغي أن تحقن أن لم يكن لنفعك فلا كرامة. فقلت في نفسي لا بأس بإكرامه في الحقنة. إلا أنه قد خالف العادة مرة أخرى فإن عادة المزور أن يحلف الزائر باسم الله واسم ملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر وبالبعث، أن يأكل أو يشرب شيئا على اسمه. وهذا زائر يلحُّ علي بالاحتقان. ثم استعملت الحقنة. ثم وافاني اليوم القابل ومعه حقه. فقلت وما بيدك. فقال مسهل مما أصنعه للأمير. فاستنفقه. ثم جاءني في الغد وليس بيده شيء. فاستبشرت وقلت له وقد وهنت مني القوى بقوة المسهل. قال ينبغي أن يتخذ اليوم حماما في غاية السخونة لكي تعرق، وقد جربته في ذوي الأمير فوجدته بعد المسهل أنفع ما يكون. ثم تولى هو بنفسه تسخين الماء وأنزلني في مغطس كنت اتخذته لنفسي. فلما دخلته لفحني حرّه حتى غشي علي بعد أن سمط جلدي. فأخرجت منه على رمق من الحياة. فتداركني خادمي بالمشمومات حتى أفقت. ثم جاءني في الغد وليس بيده شيء ففرحت أيضا وقلت لعله قد نفذ ما في وطاب علاجه، وكان الحمام آخر ما عنده. فسألني عن حالي. فقلت هو كما ترى. قال عليل. قلت وأي عليل. قال ينبغي أن تفصد. فسقط عليَّ كلامه كجلمود صخر حطه السيل من عل. وقلت كأنك تهم بإعادة ما صنعته أولا فمتى ينتهي هذا الدور؟ قال لا بد أن أحد هذه العلوج "جمع علاج" يزيل ما بك. قلت أجل أما الأول فهو أنت، وأما الثاني فهو دمي أو روحي. ثم تجلدت وتمنعت وقلت له قل الأمير إني والحمد لله عزب فلأي سبب يحاول تسفيري سريعا فلم يفهم. وقال إني أريد أن أقصدك لا أن انقل عنك. قلت فأنا لا أريد فأرحني أراحك الله. فأولاني كتفه وولى ثم لم يلبث أن بعث برقعة الحساب وتقاضاني فيه خمسمائة قرش. فإنه زعم أن عنده ناسا في الريف من الفلاحين يجمعون له تلك الأعشاب مع أنها مما ينبت على حيطان ديار القاهرة. وما كفاه ذلك حتى توعدني بأني تأخرت عن قضائه كما تأخرت عن الفصد الثاني يرفع القضية إلى ديوان قنصله. فنقدته المبلغ المذكور بتمامه، وقلت لا بارك الله في الساعة التي أرتنا وجوه العجم وأدبارهم. وها أنا اليوم والحمد لله أحسن حالا ومرادي أن اجتمع بصاحبك، ولكن لا بد من إكرامه قبل الزيارة. ثم أمر غلامه بأن ينتقي تختا من الثياب الفاخرة وأن يتوجه بها الفارياق فإنه كان وقتئذ مبرنطاً، ثم كتب له رسالة وجيزة مع أبيات قليلة تتضمن استدعاءه إلى مجلسه في اليوم القابل وتفصيل ذلك يأتي في الفصل التالي. إنجاز ما وعدنا به

كان للفارياق صاحب من الديار الشامية يتردد عليه. فلما وفد الخادم بالرسالة وتخت الثياب كان هو حاضرا. فقال للفارياق أنا أذهب معك إلى الخواجا ينصر فقد سمعت بذكره غير مرة واحبّ أن أراه. فقال له الفارياق ولكن لعل في الازواء إساءة أدب في حق المزور. فإن المدعو لا يليق به أن يستصحب أحداً معه. قال لابأس فإن هذه عادة الإفرنج فأما في مصر فيمكن للمدعو أن يستصحب أياً شاء. وللمستصحب أيضاً إذا لقي واحداً في الطريق من معارفه أن يستصحبه ولهذا أيضاً أن يستصحب آخر وللآخر آخر حتى يصيروا سلسلة أصحاب بحيث لا يكون في السلسلة حلقة أنثوية. وكلهم يكلمون المزور من دون محاشاة وينالون منه الإكرام ويترحب بهم. ولا يمكن أن يسأل أحداً منهم فيقول له وأنت ما حاجتك وأيّ كتاب وصاة عندك إليّ. وما اسم زوجتك أو أختك وما سنهن. وفي أي حارة يسكن كما تفعل أصحابك الإفرنج. فلا تخش من الرجل جبهاً. وبعد فإن لنا عليه دالة الأدب. فهي تغنينا عن دالة النسب. فأجابه إلى ذلك وسارا إليه معاً. والفارياق يرفل بثيابه وقد اتخذ له عمامة كبيرة. فتذكر يومئذ عمامته بالشام وسقطته تلك المشؤومة. فلما أستقر بمجلس المشار إليه بعد الترحيب والتلقي بالبشر والبشاشة. وبعد معاقبة أوحشتنا لآنستنا. ومداركة آنستنا لا وحشتنا، ومواترة سلامات طيبين، وموالاة طيبين سلامات، كما جرت العادة عند الخاصة والعامة. قال الخواجا للفارياق. قد سرّ قدومك إلى هذه الديار والله سبحانه وتعالى قد اسبغ عليَّ نعمته لأشركك فيها. فقد قال الشاعر: قالوا البعال ألذّ شيء يشتهي ... فأجبتهم هذا ضلال بيّن إسداء معروف إلى ذي حاجة ... أشهى وأبقى وهو أمر هيّن على أني لا أقول أن بك حاجة إليّ لكني لحنت من شكواك انك محتاج إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع. وقد وجب عليّ القيام بما يسليك ما أنت معانيه. سواء كان ذلك بالمواساة أو بالنصيحة. ولاسيما إنه قد ظهر لي إنك منشم في طلب العلم. وقد عانيت القريض. ولكن في كلامك ما انتقدته عليك. وليس هذا وقت نقد وتقييد. وإنما أسألك أي كتاب من الأدب قرأت. فابتدر صاحبه وقال قرأ كتاب بحث المطالب فقال له لقد عجلت في الجواب. فإن هذا الكتاب في النحو لا في الأدب. ألا إنكم يا تلاميذ الجبل تحسبون أن من قرأ هذا الكتاب فكأنما قد استوعب العربية كلها دون افتقار معه إلى شيء من كتب اللغة والأدب والشروح. وإن الطالب منكم إذا أراد أن ينمق كتابا أو خطبة فإنما يستعمل بعض أسجاع مبتذلة ساكنة الروّي. خيفة أن يلتبس عليه المرفوع بالمنصوب. ويتطالل إلى بعض استعارات باردة. وتشبهات جامدة. حشوها الألفاظ الركيكة والمعاني المتقلقلة مندون معرفة ما يستعمل من الفعل ثلاثيا أو رباعيا. وما يتعدى به من حروف الجرّ.

أبيات سرية

فعند قوله هذا تذكر الفارياق قول المطران لقيعر قيعار وأولجت فيها. فذكرها للخواجا المذكور فغلب عليه الضحك حتى فحص الأرض برجله. ثم قال نعم وإني لفي كتب الكنيسة كلها أغلاطا فاضحة من هذا النوع. فقد قرأت في كتاب منها عن بعض الرهبان إنه كان من التواضع على جانب عظيم حتى إنه كان كلما مرّ عليه رئيسه يقوم وينتصب عليه، أي له. وعن آخر أنه بلغه عن راهبة ما أنها كانت ذات كرامات ومشاهدات. فكان يستمني دائما أن يراها، أي يتمني. وعن آخر أنه كان خرج من ديره وغاب عنه مدة طويلة ثم رجع فوجد رئيسه الأول قد مات وولى رئاسته أحد أصحابه. وأنه بعد أن تفاوضا وتباشرا قلده الرئيس خدمة تهبيب الرهبان ليلاً. أي إيقاظهم من هب إذا قام. وعن بعض المطارنة إنه كان إذا وعظ في الكنيسة ينتعظ له كل من يسمعه، أي يتعظ. وغير ذلك مما لا يحصى بل قد ورد في الإنجيل وكلام الرسل كلام فاسد المعنى ومنشاه فيما أظن جهل المعربين. فمن ذلك ما ورد في إنجيل متى خطابا عن المسيح عم. إحذروا لا يضلكم أحد فإنه سيأتي باسمي كثيرون قائلين أنا هو المسيح فلا تصدقوهم. والمراد أن يقال أن كثيراً ينتحلون أسمي فيدعي كل منهم بأنه هو المسيح. وشتان ما بين الكلامين. وفي رسالة ماربولس إلى طيموتاوس. ولتكن الشمامسة أزواج زوجة واحدة. ومقتضاة اشتراك الشمامسة في بضع واحد. معاذ الله أن يكون كلامي هذا ازدراء بالدين وإنما أوردت ذلك شاهدا على جهل من عرب وألفّ من أهل ملتنا. نعم أن بعض المطارنة قد ألفوا تآليف مفيدة جودوا عباراتها وحرروا معانيها. إلا أن الجمهور من أهل الكنيسة جهال أغبياء لا يعجبهم إلا الكلام الفاسد الركيك. ولقد أفضى بنا هذا الاستطراد إلى غير الغرض. فلنعد إلى ما كنا بصدده وهو إسعافك أيها الخدين بما يريحك من حمل الخرج. هل لك في أن تكون كاتبا عند رجل من السراة الأغنياء يريد أن ينشي ممدحاً يكتب فيه بلغات مختلفة مساعيه ومعاليه. فيكون شغلك فيه في كل يوم بيتين أو أكثر بحسب الاقتضاء. قال فقلت إني يا سيدي ما بلغت من العلم ما يؤهلني إلى هذه الرتبة. ونحن في هنا في بلد العلم والأدب فأخشى أن يصدى لي قوم يزيفون كلامي ويخطئونني. فأخجل والله بعدها من أن انظر إلى وجه مخلوق من البشر. فإني رجل أحب الخمول وإن بضاعتي في ذلك لمزاجاة. قال لا تخش من ذلك فإن أهل مصر وإن كانوا قد تقصوا حد العلم وبرعوا في الفضل والأدب على غيرهم. إلا أنهم لا يتعنتون على الناظم أو الناثر بلفظة يخل فيها عفوا. أو بمعنى يخطي فيه سهواً. فإنهم أهل سماح ومياسرة. على أن من نبغ في الشعر أن لم يلق من ينتقد قوله مرة ومن يخطئه أخرى فلا يمكنه أن يصل إلى مرتبة الشعراء المجيدين. ولو بقي ينظم أبياتا ويودعها سمعه فقط لما عرف الخطأ من الصواب قط. فلا يكاد أحد يصيب إلا عن خطأ. وقد جرت العادة بين الشعراء بأن ما يستهجنه بعضهم من المعاني والألفاظ يستحسنه البعض الآخر. فلا يزال الشاعر والمؤلف بين أثنين عاذل وعاذر. ومخطئ ومصوب. ومفسق ومبري. ومعترض ومناضل. وراتق وفاتق. وممزق ورافئ. وخارق وراقع. وحاضر ومسوغ. ومضيق وموسع وقائل لم وقائل لأن. حتى ترجع حسناته سيئاته. وتتداول الناس أبياته. وقد طالما حاول الشهرة أناس بالقول المردود. والكلام المقصود. فمنهم من نظم أبياتا مهملة أي عارية عن النقط فأهملت. ومنهم من التزم فيها الحبك بأن يجعل في أول بيت منها حرفا من حروف اسم الممدوح فتركت وألغيت. ومنهم من جعل دابة التجنيس والتوريات البعيدة فردت وزيفت. واكتفوا من ذلك بمجرد الشهرة بين قومهم ولم يبالوا بالتعرض للَّوم والتفنيد. وإني أعيذك من أن تعدّ في جملة هؤلاء. فإني رأيت في إنشائك نزوات أفكار لطيفة تدل على قريحة جيدة. وسليقة متوقدة. وبعد فمن ذا الذي ما ساء قط. قال فقال والله أن لك عليّ لمنتين عظيمتين الأولى عنايتك بمعاشي. والثانية تنشيطك إياي إلى النظم. فقد كنت جزمت بأن لا أقول الشعر إلا مكتوما عن الناس وها أنا لك يا سيدي من الشاكرين. وبكرمك من الزائرين. ثم انصرف من عنده داعيا له وقد اضمر مفارقة الخرجي في اليوم القابل. أبيات سرية

لم يكن لصاحبنا الفارياق عند الخرجي من الأثقال إلا جثته فقط. فلذا تأبَّط طنبورة ووضع دواته في حزامه وقال له. قد أعانني الله واراني طريقا غير التي طرقتها لي أنت وحزبك الخرجيون. فأنا اليوم مفارقك لا محالة. قال كيف تفارقني وما أسأت إليك في شيء. قال هذا الطنبور يشهد عليك بأنك سؤتني. قال أن العازف به لا تقبل له شهادة فكيف تصح شهادته هو مع كونه سببا في جرح شهادة صاحبه. قال بل تصح كما صحت شهادة حجر آبائك. وإنه لينطق بمساويك كما نطقت أتان جدك. وبدك حصون عنقاشيتك كما دك المدن برق ربيبك. قال ما هذا الكلام. قال وحي والهام. قال لا باس في تعزف به فقد علمت إن الخادم عن حسد شكاك. قال بل أني عازف به عند من يقولون لي زد ويعاد وأحسنت والله. لا عند عجم لا يذكرون اسم الله إلا في الابتهال. قال قد خلطت واشططت. قال قد فرطت وقسطت. قال انك كنود. قال انك من اليهود ثم ولى عنه وهو سامد الرأس جاحظ العينين من الغيظ. وسار واكترى محلا آوى فيه الطنبور وتوجه إلى المدح فما استقر به المجلس إلا وورد بشير إليه وبيده رقعة فيها بيتان يراد ترجمتهما. فلما عرضا على مترجمي اللغات العجمية وأديت ترجمتها إلى جهبذ الممدح انتهت النوبة أخيرا إلى الفارياق. فأخذ القلم وكتب: ركب السريّ اليوم خير جواده ... يا ليته منا امتطى أكتافا إذ ليس فينا رامح أو رافس ... بل كلنا يغدو به رفافا فلما قابل الجهبذ هذين البيتين بالأصل وجدهما يشتملان على المعنى اشتمال البطن على الجنين أو الأمعاء على العفج. مع عدم الحشو بالألفاظ التي يستعملها الشعراء غالبا لسد ما في أبياتهم من الخلل. فأعجب بهما جداً وقال. هما حريان بأن يفضلا على الترجمة العجمية. فإني لا أرى فيها إلا معاضلة ألفاظ ولكن لعل هذه عادة القوم فدعهم وعادتهم. غير أنه لما أشتهر البيتان عند أهل النقد اعترض بعض أن قوله رامح أو رافس من الألفاظ المترادفة فتكون الأولى أو الثانية لغواً. فالأولى أن يقال جامح أو رامح وفيه مع ذلك سجع. وأجيب بأن للفظة رامح معاني كثيرة منها الثور له قرنان واسم فاعل من رمح إذا طعن بالرمح أو صار ذا رمح. ورمح البرق لمع ورد بأن الثور ليس له مدخل هنا بقرينه. فإن الناس لا تركب الثيران وإن أشار إليه المتنبي في الغبب. واسم الفاعل بمعنى طاعن لا يناسب المقام. لأن المركوب لا يكون طاعناً. ثم ورد في اليوم القابل بشير ثان معه رقعة فيها بيتان آخران فقال الفارياق: قام السري مبكراً لصبوحه ... فارتجت الأرضون من تبكيره أو ما ترى ذي الشمس من شباكه ... مدّت إليه شعاعها لسروره فاعترض على البيت الثاني إنه غير لفق للأول. وأجيب أنه متفرغ عليه ومرتبط به. لأن الأرضين لما ارتجت وخشي العالمون سطوته ترضته الشمس بشعاعها. ورد بأن ترضي الشمس كان متراخيا عن ارتجاج الأرضين فلا يفيد. وأجيب بأن الترضي حاصل على أي حال كان. فإن الشمس لا يمكنها أن تطلع قبل وقت الطلوع. وضحك قوم من هذا التعليل. ثم ورد في اليوم الثالث بشير آخر فقال الفارياق: نام السريّ مهنئاً بالأمس لم ... يخطر بخاطره الشريف هموم إن نام نامت أمة الثقلين أو ... أن قام قامت والكري جريم فأعترض على لفظة الثقلين إنها ثقيلة. وإن أمة حقها أن تكون أمتا. ورد بأن اللفظة خفيفة ولا عبرة في كونها مشتقة من الثقل. ثم ورد في اليوم الرابع بشير آخر فقال: شرب السريّ فحلّ شرب المُسْكر ... فأستغن عن فتوى الفقيه المنكر وإذا أصر على الخلاف محرّم ... فاعمد إلى حدّ الحسام الأبتر فاعترض عليه أنه مبالغة قبيحة تفضي إلى الكفر وتعطيل الشرع. وأجيب عنه بأنه طبق الأصل. ثم ورد في اليوم الخامس بشير آخر فقال: خرج السرّ مع السرّية ماشيا ... غلسا إلى الحمام كي يتنعما من كان يدعك مرّة جسميهما ... خَلقُت يداه على المدى أن تلثما

فأعترض عليه أن الأولى أن يقال ماشيين. ورد بأنه لا محظور منه فأن السري هو الأصل بدليل تغليب ماشيين. ثم أعترض أن الأفصح أن يقال جسمهما أو أجسامها. وأجيب بأن الأفصح لا ينفي الفصيح ثم قيل إنه ارتكب ضرورة بحذف حرف الجر في المصراع الأخير إذ حق الكلام إن يكون خلقت يداه بأن. على أن تثنيه اليد هنا لا معنى لها فإن الداعك لا يدعك بكلتا يديه. وأجيب بأنه لا مانع من حذف الجر مع أن. وأن التثنية للإيذان بأن كل الجوارح مخلوقة لخدمة الممدوح. ثم ورد في اليوم السادس بشير آخر فقال: خلع السري اليوم نعليه على ... مثن عليه مبالغ في مدحه فاستبشروا يا عصبة الشعراء من ... هذا السخاء بيمنه وبسحنه فاعترض عليه بأن اليمن والسنح بمعنى واحد. وأجيب بأنه كقول الشاعر وألفى قولها كذبا ومينا. ثم ورد في اليوم السابع بشير آخر فقال: حكّ السري اليوم أسفل جسمه ... بأظافر ظفرت بكل مؤمّل فالناس بين مصّفر ومرتل ... ومدفّف ومزمر ومطبّل فأعترض عليه صرف أظافر. وأجيب بأن ذلك غير محظور لا سيما وقد وليها قوله ظفرت. ثم ورد في اليوم الثامن بشير آخر فقال: طوبى لمن في الناس أصبح حالقاً ... رأس السريّ الأحلس الملحوسا لا زال محفوظاً بلطف الله ما ... حلتتله شعراً شريفاً موسى فأعترض عليه بأن الملحوس غير وارد في صفة الرأس. وأجيب بأنه لا بأس به هنا للجناس. ثم قيل أن محفوفاً مع ذكر الرأس ثقيلة. وأجيب بأنها خفيفة بالنسبة إلى رأس السري. قلت وكان الأولى أن يعاب عليه قوله طوبى لمن. فأنه مطلق لا يفيد أن السري حلق رأسه في يوم معين. غير أن الجناس في المصراع الثاني شفع في البيت كله. ثم ورد في اليوم التاسع بشير آخر فقال: بَسَم الزمان عن المنى وتنوّرا ... لما أستحم سريناً وتنورا إن المعالي من أسافله زهت ... والشعر بالشعراء أكسب مفخرا فأستحسن هذان البيتان جداً لما فيهما من المطابقة والجناس التام وغيره إلا قوله مفخراً. ثم ورد في اليوم العاشر بشير آخر فقال: قحب السري وأي شهم ماجد ... بين البرية مثله لا يقحب ذي سنة فرضت على كل الوري ... أن المخالف منهم ليصلب فعيب عليه لفظة قحب وأجيب بأنها فصيحة بمعنى سعل. ثم ورد في اليوم الحادي عشر بشير آخر فقال: عطس السري فكلنا يبكي دماً ... وأرتاعت الأرضون والأفلاك حرس الإله دماغه عن عطسة ... أخرى تموت برعبها الأملاك ثم ورد في اليوم الثاني عشر بشير آخر فقال: فسى الأمير فأيّ عرف عاطر ... في الكون فاح وأيّ مسك ديفا يا ليت أعضاء العباد جميعهم ... تغدو لنشوة ذا العبير أنوفا فعيب عليه قوله فسّى. إذ التكثير هنا لا معنى له. وأجيب بأن القليل المنسوب إلى السري كثير. وعليه بظلام للعبيد. فإن أدنى ما يكون من الظلم في حق الباري تعالى كثير. ثم ورد في اليوم الثالث عشر مبشر فقال: حبق السري اليوم في وقت الضحى ... والجو أدكن ليس يسفر عن شرق فتعطرت أرجاؤنا بأريجه ... فكان من حبق له عرف الحبق فأستحسنا لما فيهما من التجنيس: ثم ورد في اليوم الرابع عشر مبشر آخر فقال: قد أسها اليوم السري فكلنا ... فرح ففي إسهاله التسهيل قاستبضعوا خزاً إليه مطرزاً ... وتسابقوا أن البطيء قتيل فأستحسن البيت الأول للجناس. وعيب عليه قوله مطرزاً. إذ التطريز هنا لا موجب له بل فيه إيلام. وأجيب بأنه طبق الأصل. وأن حق الترجمة أن لا تزيد على الأصل المترجم منه في المعنى ولا تنقص عنه ولا سيما في الأمور المهمة الخطيرة. وقد كان يجب أن يعاب عليه قوله فكلنا فرح وأن علله بقوله ففي إسهاله التسهيل. إذ المتبادر أن التسهيل مسبب عن حتف الممدوح وكأنه الجناس شفع فيه.

مقامة مقعدة

ثم أن الفارياق بعد انقضاء هذه المدة الذكية رأى من الواجب أن يزور صاحبه ويخبره بما جرى له. فلما تشرف بمجلسه سأله الخواجا عن حاله. فقال له قد كنت أود يا سيدي أن أزورك قبل الآن لكن خشيت أن يعلق بناديك أثر من الرائحة التي شملتني. فقال له لا ضير في ذلك ولا سيما إذا تعودت عليها. وإن ناديّي لا يبرح كل يوم يعبق به أمثاله من زيارة أمثال السري وهذا شأن أم دفار. ولكن كيف حالك من جهة المعيشة. قال قد اكتريت لي داراً صغيرة واشتريت حماراً. واتخذت خادمة لتصلح لي الدار. وخادماً ليصلح الحمار. وأنا الآن بجاهك وفضلك في أحسن حال. ثم أنصرف من عنده داعياً له. "سر بيني وبين القارئ" قد كان طبيب الجزيرة نصح للفارياق أن بجانب النساء أي يبتعد عنهن لا أنه يلصق بجنبهن فإن في قربهن حيناً له فألفى قوله كذباً وميناً. مقامة مقعدة لا يمكن لي أن أبيت الليلة مستريحاً حتى أنظم اليوم مقامة. فقد عودت قلمي في هذا الموضع موالاة السجع. وترصيع الفقر الرائعة للعقل الرائقة للسمع الشائقة للطبع. فأقول: حدّس الهارس بن هشام قال: بينما أنا أمشي في أسواق مصر وأسرح ناظري في محاسنها. وأتهافت على النظر إلى جمال شوافنها. فتداركني جمال مدائنها. فالطأ بقرار حائط واضباً بآخر. وأجعل يدي تارة على عيني وتارة على ما هو أصغر منها أو أكبر. إذ أومأ أليّ فتى من حانوت له. عليه لوائح هيبة ومنزلة وحوبة في الترائب متخلله. غير متحلله. فقال أن شئت أن تصعد إلى هنا إلى أن ينفض زحام الأبل. وتنساغ غصّة هذا الأزْل الأزِل. فأنك لدينا من المقربين. وأني بإكرامك لقمين. فزجدت دعوته كدعوة الداعي بحيّ على الفلاح. وقلت ما يأبى السماح. إلا من فاته الصلاح. وعمه عن النجاح. كيف لا وقد أوشكت جوارحي أن تعود مجروحة. وضاقت بأحمال أبلكم الأرض وهي فسيحة. فأبتسم ابتسامة أسفرت عن لحن للقول سريع، وطبع إلى إيلاء المعروف ذريع. ثم صعدت إليه فوجدت عنده نفراً عليهم عمائم مختلفة. ولهم وجوه مؤتلفة. فلما سلمت متودّداً. وتبوأت ما بينهم مقعداً. قال رب الحانوت هل لك في أن تنتظم معنا في سلك جدال قد شغلنا من الضحى. وجعلنا له الآذان كثِقال الرحي. فهو دائر على كل منا بالمناوبة. ومستدرك خاتمه بأوَّله بالمعاقبة. دون درك ومعاقبة. إذ ليس فيه إفضاء إلى البحث في الأديان. وإنما هو أمر مباح لكل إنسان. فقلت أن كان مرجعه إلى العقل فقد كلفتموني أدّا. وشططتم في انتظامي معكم جداً. إذ لست بصاحب أسفار، بل حليف تطواف وأسفار. وإن كان إلى الطبع فأنه بي لطبعاً سليماً، وخُلقاً قويماً. قال هذا الثاني هو مركز دائرته. وفيصل محاورته. قلت فأملأ إذني من جدالك. وألق عليّ أعذال عَدلك.

قال أعلم، فرج الله عنك كل غم، أني والحمد لله من المسلمين المؤمنين بالله وبرسوله. وبوحيه وتنزيله. وأن صاحبي هذا الودود. وأشار إلى أحد القعود، هو من النصارى والآخر من اليهود. والآخر أمَّعة ما له اعتقاد ولا جحود. وإنّا قد تنازعنا كاس البحث في الزواج. وأفضنا فيه كما تفيض من عَرَفات الحجّاج. أما النصراني فإنه يزعم أن طلاق المرأة مفسدة من أعظم المفاسد. ومندمة تمني المطلق بالنغص والمكايد. ووجه الفساد على مقتضى زعمه، وقدر فهمه إن الزوجة إذا علمت إنها تكون عند زوجها كالمتاع المنتقل، وكثوب المبتذل، موقوفة على بادرة تفرط منها. أو هفوة تنقل عنها لم تخلص له سريرتها ولن تمحض له مودتها. بل تعيش ما عاشت في انقباض وإيجاس ووحشة وابتئاس ونكد ويأس وتدليس والبأس وإذا أنزلته منزل مبتاعها واعتقدت أن متاعه غير متاعها وأنه لا يلبث أن يلاعنها أو يبارئها أو يخالعها أو يكسوها ثياب التحمَّة ويقول لها ألحقي بأهلك أو استفلحي بأمرك. أو أنت عليَّ كظهر أمّي أو حبلك على غاربك. وعودي إلى كناسك. عند أهلك وناسك. فما أنت لي بأهل. وما أنا لك ببعل. لم تحرص على حاجة ولا على سر. ولم يهمّها ما ينزل به من الشرّ. وربما خانته في عرضه وماله. وكادت له مكيدة فضحته بها بين أقرانه وأمثاله وهناك محذور آخر أدهى وأنكر وأنكى وأضر. وأمضّ وأمرّ. وهو أن المرأة إذا فركت زوجها بأن رأت منه ما تخاف غائلته. لم يهمها أن تربي عيّله أو تستكفي عائلته. فإن المرأة لا تحب ولدها إلا إذا أحبت بعلها. ولا تحب بعلها إلا إذا أدام وصلها وآتاها سؤلها ومن كان له زوجة لم يُولها فؤاده ولم ينخل لها وداده فاتخذته عدواً خصيماً. لا أليفاً حميماً فهو جدير بأن يرثي له شامته. ويرجع عنه سامته فإن صدره والحالة هذه مورد الشجون، ورأسه منبت القرون، ومنزله منزل الاكدار وحالته في الجملة حالة أهل النار. إلا أني أعترض على مذهب من حظر الطلاق، وتقيد بزوجته دون إطلاق، بأن الزوجة إذا علمت أن جسم زوجها أدغم فيها. واصبح سره في فيها. فصارا فردا لا زوجا. سواء هبطا وهذه أو صعدا أوجا. وأنه لا يفك هذا الالتحام إلا بمقراض الحِمام. ولا تحل عقدة هذه الكنية إلا بانحلال جميع أجزاء الطينة. وإنها إذا مرضت مرض هو معها. وإذا رأت رأيا فلا بد من أن يواطئها عليه ويجامعها. نشزت عليه وتنمرت. وطغت وتجبرت. فتارة تسومه شراء لباس وحلي وتارة تتعنت بأمر تذيقه فيه الصلى. فويل له إذا حبا. ثم ويلان إذا أبى. وإن غاب عنها ليلة قامت قيامة كيدها عليه. وأن تشاغل عنها بأمر له فيه نفع جرت جميع المضار إليه. فدأبه التودد إليها والتملق والمداراة والترفق ومجاملته لها إذا جفت ومخالقته إياها إذا أنفت وتأنثه معها إذا تذكرت وتصعصعه منها إذا تشزرت وهل يطيب عيش لمن علم أنه طوع لهوى غيره. وإن لا مناص له من ضيره. فأما شأن الأولاد. وهو الداعي إلى تحمل هذا الكباد، فإن الزوجين إذا كانا على حالة النفور والعناد. والخلاف واللحاد. لم تكن تربيتهما لولدهما الإغراء بالاقتداء بهما. وتدريبا على الفساد بسببهما. فيكون إهمالهم من غير تربية عند طلاق أمهم أولى. وإن الوفاق هو المصلحة الأولى. على أنا نعلم من التجربة منذ سن تعالى الزواج وحببه أن المرأة إذا علمت أن لزوجها استطاعة على طلاقها. وتملصا من وثاقها. حرصت على أن تتحبب إليه وتلاينه. وتياسره وتخادنه. وتخالقه وتداريه وتتلافاه وتراضيه. وتجامله وتسانيه. خفية أن يتنغص عيشها بفراقه. أو تحرم من خلاقه. فإن لم يحصل بينهما الوفاق فالطلاق الطلاق.

تفسير ما غمض من ألفاظ هذه المقامة ومعانيها

ورأى صاحبنا هذا اليهودي قريب مما رأيت. فلا يخالف إلا في أسباب الطلاق وهي كيت وكيت فأما صاحبنا الأمعة. فإنه متردد في هذه القضية المنكعة. فتارة يقول أن الطلاق ادعى إلى الراحة. وتارة إنه موجب لنكد العيش وصفق الراحة وطورا يزعم أن المتعة أو الزواج إلى أجل مسمى أوفق. حتى إذا انقضى يجدد العهد بينهما ويوثق. إلى أن يتفارقا عن تراض. ويقضيا لهما وعليهما ولا قاض. فهو أخف على الثبج. وأنفى للحرج وإن يكن يفعله بعض الهمج. وحيناً يقول بل التسري اسرّ. وأهنأ واقر. أن لم يكن من القرينة مفرّ. وآونة يختار الاقتصار على خويدمة رعبوبة. وآونة على وحدة العزوبة. والتناول مما تفيزه به الفرص المرقوبة. وأخرى على جب الآلة. إن كان الجب ينجي من الحبالة. قال وذلك إني صعدت في درجات هذه الخطة ونزلت في دركاتها. وعانيت ضروبا من أخطارها وهلكاتها. فوجدت عند كل درجة منها مهواة تغيب فيها الأحلام. وتضيع الإفهام. وتهن القوى ويستطاب التوى. ويصغر كل عظيم من البلا: حتى كأنّ هذه الحاجة ليست من الحوج في شيء. وما لها به من صلة لحيّ فهي داء لا أسى له. وثوب قشيب مسموم يسر ناظره وحامله. لكن يقرح أوصاله ومفاصله. وكل أمر في الدنيا فإنما يصح قياسه على عقول الكيسي من الناس. ويعالج بالصبر أو اليأس إلا هذه الحوبة فإن المرجع فيها إلى الطباع. ولا يفيد معه رشد ولا زماع. ثم أنّ أنين الثكلى. وقال وإني أزيد على ما قاله الأمعة قولا. ولا أخشى من أحدكم عذلا. فأقول ولكم تصدعت قلوب من ذلك الصدع. واشتقت من ذلك الوماح مشاقّ لا يطيقها طبع. وكم من رؤوس لأجله دعكت ورضت. وعقول أفنت وحرصت. وأعناق دقت. وعيون لقتّ. وأسنان هثمت. وأنوف شرمت. وشعور ندفت. ولحي نتفت. وأيد قطعت. وأنساب ضيعت. وكتائب كتب كُتبت. "حاشية من جملتها هذا الكتاب" وخيل ركضت. وسيوف ومضت.. ورماح شرعت. وأحزاب تترعت. وجبال دكت ونسفت وبيوت أقوت وعفت. وأملاك حربت. وملوك استخربت. وبلدان خربت. بل أمم تهالكت وفنيت. وقرون اندرجت ونسيت. ثم تأوه وقال وسلعة نفدت ودنانير نقدت. قال الهارس فعلمت أنه قد صدعه الصدع بماله وعظة بلهاته عند تغلغله فيه وإيغاله. ولذاك كان يفيض في حديثه ويخوض فيه. ليعلم هل من مصاب مثله وعنده علم ما يشفيه. ثم التفت إليّ مستعبرا. وقال وأنت فما ترى؟ قلت والله أنها لإحدى الكبر. ومعضلة تفيض لها العبر. قد طالما ارتبك فيها العالم النحرير وضل عن علمها اللبيب الخبير لا جرم أن معرفة الأفلاك وكواكبها وايشاء معادن الأرض وعجائبها وأسرارها وغرائبها. لأهون عليّ من أن أقول في هذه المسألة نعم أو لا فما أرى إلا سكوتي عناه أولى ثم بيناهم يوجبون ويسلبون ويوجزون ويسهبون إذا بالفارياق مرّ علينا راكباً على حمار فاره. سامد سامه. فلما بصرت به قلت له نزال نزال. وحيّ على هذا العدال. فما نرى غيرك جديرا بإيضاحه. وبشفائنا من صماحه. قال في أي أمر مريج كنتم تخوضون. وعن أي نكر مشيج انتم تجيضون. قلنا له في الزواج فهلم العلاج. فابتدر على ارتجال. مسألة الزواج كانت ثم لا ... تزال طول الدهر أمراً معضلاً أن يكون الطلاق يوماً حللا ... للزوج أيان ابتغاه فعلا فليس عندي رشد أن تحظلا ... زوجته عنه ولا أن تُعضلا أن لم يصيبا للوفاق سبلا ... فدعهما فليفعلا ما اعتدلا أيان شاء طلقا وانفصلا قال فضحكنا من افتخاره ما لم يذكر في الكتب. وقلنا له إلى حمارك عن كثب. فما نرى رأيك إلا بدعا. ولقد أسأت إِجابة بعد أن أصبت سمعا. ثم تفرقنا كما اجتمعنا وعجبنا مما سمعنا. تفسير ما غمض من ألفاظ هذه المقامة ومعانيها

ليس في لغتنا هذه الشريفة ولا في أمة أخرى من الأمم لفظة تدل على فاعل ومفعول أو فاعلين اشتركا في فعل واحد للذتهما ونفعهما. واحتاجا إلى من يدخل عليهما ليتعرف منهما أي رفع ونصب يجري بينهما. وبيانه أن لفظة الزواج عندنا معناها ضمّ واحد إلى آخر حتى يصير كل واحد منهما زوجا لصاحبه. ولكن من دون قيد مكان ولا زمان، فلو تزوج زيد بهند في سهل أو على قمة جبل أو كهف في يوم الأحد أو الاثنين أو السبت بشرط التراضي بأن يكتب الرجل للمرأة صكا مؤذنا بزواجه بها أو يشهد على ذلك رجلين لصحّ. هكذا كانت سنّة السلف المتقدمين من الأنبياء وغيرهم كما هو مسطور في تواريخهم. بل لم يكونوا يقيدون أنفسهم لا بالصك ولا بالشهود أما لفظ النكاح فمعناه إحراز امرأة على أي وجه كان. وذلك لأن عرب الجاهلية لم يكن عندهم آداب للنكاح والطعام وغيرهما حتى جاء الشرع فعرفه وميز الحلال من الحرام منه. قال أبو البقاء في الكليات-ولكن لم أجده في فصل النون فإن رأيته في غيره أنجزت ما وعدت به، وكنت أريد استشهد بكلامه على أن اسم النكاح لم يزل إلى الآن مستعملا وإنه في كتب الفقه أكثر من أن يحصى. وهو حجة على من أنكره من النصارى وعلى من استعاذ من ذكره. وإنما استعملته العلماء من دون محاشاة لأسباب. الأول أنه استعمل قديما من الجاهلية فأثبتته العاقلية. الثاني لوروده في القرآن. الثالث لاشتماله على أربعة أحرف وفاقا للطبائع والعناصر والجهات، الرابع لورودها في أسرار سور القرآن. فالنون في ن والقلم وما يسطرون والكاف في كهيعص أو الألف في ألم والحاء في حمز الخامس أنك إذا قلبت هذه اللفظة بدا لك منها معنيان شريفان. الأول اسم فاعل من حي والثاني فعل أمر من كان، وبه برزت الموجودات إلى العيان. وتجلت الحقائق لذوي العرفان. السادس لخفة اللفظ وحلاوته، السابع لكون أوله يدل على آخره وآخره على أوله. وقد سمي هذا النوع بعضهم دلالة الأول على الآخر وبالعكس. قال وفائدته إنه لو استشهد القاضي أحدا على فاعله فنطق بالنون والكاف ثم غشى عليه أو على القاضي تلحزا لذلك. عرف من بقي غير مغشي عليه بالمجلس القاضوي ما أراده القائل. وكذلك لو طرأ عليه عند أداء الشهادة ما قطعه عن الكلام شوقا وهيبة فلم يسمع منه إلا الألف والحاء لدل هذا الجزء الأخير مع قلة حروفه على جميع ما يراد من المدلول. قلت وهو تعليل بديع غير أن هذه التسمية لا توجد في كتب البيانين والبديعيين. ولست أحب الألفاظ الطويلة فالأولى أن ينحت له لفظ من تلك الجملة بحيث يسلم الطرف. فإن قلت بل قد استعملت ألفاظا طويلة جداً في وصف البرنيطة بقولك المستقبحة المستفظعة مع أنه كان يمكنك أن تصفها بألفاظ قصيرة. قلت كان ذلك من باب مراعاة النظير. فإن طول البرنيطة يقتضيه. فأما مدلول اللفظ الذي نحن بصدده فإنه قصير. ثم أني كنت ابتدأت كلاما في أول هذا الفصل ولم أنهه فإن القلم زلق بي إلى معنى آخر على عادته. وأظن أن الجناب الرفيع أو الحضرة السنية لم يفهماه فمن ثم أقول الآن. إنه إذا كان المراد من الزواج أن كلاّ من الزوجين يزاوج صاحبه لنفسه لا لأهل البلد والمعارف والأصحاب كما كان عليّان يأكل فخذ الدجاجة لأمّ عليّ. لم يكن من المعقول أن يدمق عليهما ذو قبعة فيقول للمرأة لا تتزوجي هذا لكونه لم يسمّ بطرس ثم يقول للرجل لا تتزوج هذه لأنها لم تسمّ مريم. أو أن يقول هذا يوم الأحد لا يصح فيه الزواج. وهذه حجرة لا يحل فيها البعال. وإلا لصح أن يقول لهما أرياني الميل في المكحلة. ومثل هذا الكلام لعمري لا يليق لأحد أن يقوله أو يكتبه. ثم أن المرأة هي من الأشياء التي لكثرة تكرر النظر إليها كالشمس والقمر لم يود العقل حق اعتبارها. وبيانه أن الله عز وجل خلق المرأة من الرجل لتكون بمنزلة معين له على مصالحه المعاشية ومؤنس له في وحشته وهمومه. إلا أنّا نرى أن هذه العلة الأصلية كثيرا ما تستحيل عن صيغتها الأولوية. حتى أن بلاء الرجل وهمه ووحشته ونحسه وشقاوته وحرمانه بل هلاكه يكون من هذه المرأة. فتنقلب تلك الإعانة إحانة.

وتلخيصه أن الإنسان ولد في هذه الدنيا محتاجا إلى أشياء كثيرة لازمة لحفظ حياته وذلك كالأكل وذلك والشرب والنوم والدفء. وإلى أشياء أخرى غير لازمة للحيوة وإنما هي لتقويم طبعه حتى لا يختل. وذلك كالضحك والكلام واللهو وسماع الغناء واتخاذ المرأة. إلا أن هذا الأخير مع كونه جعل في الأصل لتقويم الطبيعة. إذ يمكن للرجل أن يعيش حينا ما من دونه. فقد غلب على سائر اللوازم المعاشية التي لابد منها. ألا ترى أن من يحلم بامرأة يجد منها في الحلم ما يجده في القيظة. وليس كذلك من يحلم بأنه أكل عسلاً أو شرب سلافاً. بل وقوع هذا نادر جداً حتى للجائع والعطشان. وقد طالما رضيت أصحابنا الشعراء بطيف الخيال من المحبوب. وما أحد منهم رضي على جوعه بأن يبعث إليه ممدوحه بكأس مدام في الحلم أو ثريدة. وإذا تناول الإنسان طعاما طيبا لونا كان أو لونين بقي عدة ساعات مكتفيا بما ناله غير مفكر في القدرة ولا فيما يقتدر فيها. حتى يعاوده الجوع فيطفق حٍ يفكر في تناول طعام آخر. ولكن لم يسمع عن أحد من الناس في حالتي الجوع والشبع إنه كان كلما رأى طائرا في الجو اشتهى على سفوده في البيت حتى يسترطه. أو أنه كان لا يزال يبصص في دكاكين الطباخين والبدالين والزياتين ويلاوص من ثقوب أقفالهم ومن خصاص أبوابهم وشقوق حيطانهم على ما عندهم من أصناف المأكول. نعم أن الجائع في بلادنا يحسب كل مستدير رغيفا كما يقال. وفي بعض بلاد الإفرنج ربما حسب أيضاً المستدير والمطاول وذا شق كظلف الشاة وذلك لتفتنهم في أشكاله. غير أن الجائع إلى النساء ليس له شكل ينتهي إليه. وكذلك قضية الشرب فإن الظمآن بعد أن يروي غليله بالماء فإذا جيء إليه بكأس من التسنيم عافه. وكذلك البردان المحتاج إلى الدفء فإنه متى لبس ما يدفئه من الثياب ويجمله بين الناس لم يتطايل بعد ذلك إلى كل ثوب ينظره في دكاكين التجار معرضا للبيع. ولو رأى مثلاً قوس قزح أو روضة مدبجة بالأزهار البهيجة لم يتمن أن تكون ألوانها في سراويله أو قميصه. وإنما يراها ويستحسنها مجرد استحسان من دون أن يشغل بها خاطره ولبه. ولا يحلم ليلته تلك إنه رأى روضة أنيقة أو يتصور وهو متوسد على فراشه إنها لو كانت حيال مخدته لزاد ذلك في تنعيمه أو عمره. وقس على ذلك المنام إذا نام كفايته على فراش غير وطئ فإن منظر الفراش الوثير بعده لا يهمه. والحاصل أن الإنسان عقلا في يافوخه يدله على ما ينفعه ويضره ويسؤوه ويسره. وأن في كل من معدته وحلقومه ميزانا قويما يزن به ما هو محتاج إليه من الطعام والشراب. وبه يدري مضمون قولهم ربّ أكلة حرمت أكلات. فأما في أمر المرأة فالقانع العزوف يغدو شرهاً رغيباً. والرشيد غوياً. والحليم سفيهاً. والمهتدي ضالا. والحكيم عمها. والعالم جاهلا. والفصيح عيياً وبالعكس. والصبور جزوعاً ولا عكس. والفتى شيخاً ولا عكس. والغني فقيرا وبالعكس. والفظ لطيفاً ولا عكس. والسمين نحيفا وبالعكس. والمعافى مبتلى ولا عكس. والمتثبت متغشمراً وبالعكس. والبخيل كريما ولا عكس. والساكن متحركا وبالعكس. والطرد عكسا وبالعكس. وهلم جرا. وإذا رأى امرأة تبغضه فربما أحبها. أو تجفوه كلف بها. أو تعرض عنه تعرّض لها. أو تتملق إليه وتمثله فتن بها. أو ترميه بحقيبتها على ثقلها جُنّ بها إلا ولو حضر مجلسا كان فيه. امرأة وضيئة حسنة نظيفة. وهيّئة حسنة الهيئة. ومُخبأة الجارية المخدرة لم تتزوج بعد. وذبأة الجارية المهزولة المليحة الخفيفة الروح. وجرباء الجارية المليحة. وخدبة ضخمة. وخرعوب الشابة الحسنة الخلق الرخصة أو البيضاء اللينة الجسيمة. اللحيمة الرقيقة العظم. وخنبة الجارية الغنجة الرخيمة. ورطبة معروف. وسرهبة المرأة الجسيمة الطويلة. وشطبة الطويلة الحسنة الخلق. وشِطبة الجارية الحسنة الغضة الطويلة. وشنبا ذات شنب وقد ذكر تحت البرقع. وصقبة الطويلة التارة. وصهباء الصهب حمرة أو شقرة في الشعر كالصهبة والصهوبة. وعجباء المرأة يتعجب من حسنها. وقباء الدقيقة الخصر الضامرة البطن. وكبكابة المرأة السمينة. ومكدوبة النقية البياض. وكاعب التي نهد ثديها. ولعوب الحسنة الدلّ. ووطباء العظيمة الثدي والوطب الثدي العظيم. وهدباء الكثيرة شعر الهدب.

وذات صلوته الصلت الجبين الواضح وقد وصلت ككرم. وصموت الخلخالين غليظة الساقين لا يسمع لهما حسّ. وخوثاء الحدثة الناعمة. وبلجاء البلجة نقاوة ما بين الحاجبين هو ابلج وهي بلجاء. ومبهاج حسنة. وجائعة الوشاح ضامرةالبطن ومثله غرثى الوشاح وخدلجة المرأة الممتلئة الذراعين والساقين. ودعجاء الدعج سواد العين مع سعتها. ورجراجة ورجراجة يترجرج عليها لحمها. وزجاء الزجج محركة دقة الحاجبين في طول والنعت ازج وزجاء. ومعذلجة المرأة الممتلئة الناعمة الحسنة الخلق. ومفلجة الأسنان الفلج تباعد ما بين الأسنان. وبيدح بادن ونحوه بلدح. ودحوح عظيمة. وذات سجاحة سجح الخدّ سهل ولان وطال في اعتدال. ودملحة الضخمة التارّة. وصلدحة عريضة وكذا سلطحة وصلطحة. وفقاح المرأة الحسنة الخلق. ووضاحة البيضاء اللون الحسنته. وبيدخة تارّة. وبلاخية عظيمة أو شريفة. وصمخة المرأة الغضة. وطباخية الشابة المكتنزة. وفتخاء الإخلاف وفتخاء الإخلاف ناقة فتخاء الإخلاف ارتفعت إخلافها قبل بطنها. ذم وفي المرأة والضرع مدح. وفرضاخة ضخمة عريضة أو طويلة عظيمة الثديين. وقفاخ المرأة الحادرة الحسنة الخلق. ولبُاخية لحيمة. وهبيخة الناعمة التارة. وبخنداة المرأة التامة القصب كالبخندي. وبرخداة الجارية الناعمة التارة. ومبرندة الكثيرة اللحم. وثأدة المكتنزة الكثيرة اللحم. وثوهدة السمينة التامة الخلق وكذا الشهودة والفوهودة. وثهمد السمينة العظيمة. وجداء الصغيرة الثديين. وجيداء الطويلة الجيد الدقيقته. وبضة المتجرد بضة عند التجرد. وخبنداة جارية خبنداة تامة القصب أو تارة ممتلئة أو ثقيلة الوركين وساق خبنداة مستديرة ممتلئة. وخريد الخريد البكر لم تمسس أو الخفرة الطويلة السكوت الخافضة الصوت المتسترة كالخريدة والخرود. "تنبيه المرأة الجشوب الدردحة الضمزر اللهبرة العكبرة القعسوس الجباعة الثدمة أكثر دلاّ وغنجا من جميع هؤلاء". ورخودّة اللينة العظام السمينة. ورعديد رخصة. ورهيدة الشابة الرخصة الناعمة. وعبرد الجارية البيضاء الناعمة ترتج من نعمتها. وعضاد المرأة الغليظة العضد. وعُمُدّة الشابة الممتلئة شباباً كالعمدانية. وغادة المرأة الناعمة اللينة البنية الغيد. وغيداء المتثنية لينا. ومقصدة المرأة التامة العظيمة تعجب كل أحد والتي إلى القصر. ومأدة الجارية الناعمة. وممسودة مجدولة الخلق. وأملُود المرأة الناعمة اللينة. وناهِد كاعب. وبهيرة السيدة الشريفة والصغيرة الضعيفة وكذا البهيِلة. وبشيرة جميلة. ومبشورة الحسنة الخلق واللون. وتارّة ممتلئة الجسم. وتُرّة الحسناء الرعناء. وجحاشرة الضخمة الحادرة الجسيمة العبلة المفاصل العظيمة الخلق. وجهراء مؤنث الاجر وهو الحسن المنظر والجسم التامه والأحول المليح الحولة. وحادرة السمينة أو الحسنة الجميلة. وأحْوَريَّة البيضاء الناعمة. وحواريَّة الحوريات نساء الأمصار. وحوراء الحَوَران يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها وتستدير حدقتها وترق جفونها وبيض ما حواليها أو الخ. وذات تدهكر ترجرج. وُمَدهْمَرة المرأة المكتلة المجتمعة. ومزنَّرة طويلة جسيمة. وزَهراء المرأة المشرقة الوجه. ومسبورة الحسنة الهيئة. ومسمورة الجارية المعصوبة الجسد غير رخوة اللحم. وشغفر المرأة الحسناء. وصيّرة الحسنة الصورة. وعبقرة تارة جميلة. وعبهرة الرقيقة البشرة الناصعة البياض والسمينة الممتلئة الجسم كالعبهر والجامعة للحسن في الجسم والخلق. وعجنجرة المكتلة الخيفة الروح. ومُعصر التي بلغت شبابها وأدركت أو دخلت في الحيض أو راهقت العشرين. وغَرّاء بيضاء وكذا فراء. وذات افترار افتر ضحك ضحكاً حسناً. وفزراء الممتلئة لحماً وشحماً أو التي قاربت الإدراك. وقفاخرية النبيلة العظيمة من النساء. ومرمورة المرمورة والمرمارة الجارية الناعمة الرجراجة. وَمشرة الأعضاء ريّا. ومطرة لازمة للسواك أو للتنظف والاغتسال. وذات مكرة المكرة الساق الغليظة الحسناء.

وممكورة المطوية الخلق من النساء والمستديرة الساقين أو المدمجة الخلق الشديدة البضعة. وماريّة بيضاء براقة "من مار". وذات نَضرة حسن وبهجة. ووثيرة الوثيرة الكثيرة اللحم أو الموافقة للمضاجعة. "تنبيه المرأة الربسة الدِعفصة الدنْقصة القُنْبُصة الصَعْلة الطهْمل الضلْفع الضوكعة الرعصاء القشوانة الكوراء أكثر دلاّ وغنجا من جميع هؤلاء". وهُدَكر المرأة التي إذا مشت حركت لحمها وعظامها. وهَيْدَكُور الكثير اللحم والشابة الضخمة الحسنة الدل كالهُدكورة. وبلز المرأة الضخمة أو الخفيفة. وعكموزه الحادرة التارة. وغمازة الجارية الحسنة الغمز للأعضاء. وكناز كثيرة اللحم صلبة. وآنسة الجارية الطبية النفس. وبَيْهس الحسنة المشي. وخروس البكر في أول حملها. وخَنْساء تقدم ذكرها تحت لبرقع. ومُركس الجارية طلع نهدها فإذا أجتمع وضخم فقد نهد. وعَيطَموس المرأة الجميلة أو الحسنة الطويلة التارة كالعطوس. وعلطميس الجارية التارة الحسنة القوام. وعانس التي مكثها في أهلها بعد إدراكها حتى خرجت من عداد الأبكار. وقدموسة ضخمة عظيمة. وقرطاس الجارية البيضاء المديدة القامة. وكنيسة المرأة الحسناء. ولعساء من في لونها أدنى سواد. ولميس اللينة الملمس. وعشه المراة الطويلة القليلة اللحم أو الدقيقة عظام اليد والرجل. وخربصة المرأة الشابة التَّارّة. ودخُوص الجارية الممتلئة شحما. ورخصه معروف. وبضاضة بضة الرخصة الجسد الرقيقة الجلد الممتلئة. وخريضه الجارية الحديثة السن الحسناء البيضاء التارة. ورضراضه في معنى رجراجه. وغضة غضيضة الطرف الغضة الناضرة والغضيض من الطرف الفاتر. وفارض ضخمة. وفضفاضة الجارية اللحيمة الجسيمة الطويلة. ومفاضة الضخمة البطن. وخوطانة وخوطانية كالغصن طولا ونعمة. وسبطة الجسم حسنة القدّ. وشطة حسنه القوام طويلة. وشناط المرأة الحسنة اللون والقوام. وذات عنط وعيط طويلة العنق حسنته. وذات شناظ مكتنزة اللحم كثيرته. وملعظة الجارية السمينة الطويلة الجسيمة. وبتعاء الشديدة المفاصل والمواصل من الجسد. وبريعة فائقة الجمال والعقل. وبزيعة ظريفة مليحة كيسّة. ومتلع الحسناء لأنها تتلع رأسها تتعرض للناظرين إليها. وسنيعة الجميلة اللينة المفاصل اللطيفة العظام. وشبعى الخلخال والسوار ضخمة تملاهما سمنا وشموع مزاحة لعوب. وصمعاء الصغيرة الأذن والأذن الصغيرة اللطيفة المنضمة إلى الرأس. وضرعاء عظيمة الضرع. وفرعاء تامة الشعر. ولعة عفيفة مليحة. ولاعة التي تغازلك ولا تمكنك "قلت لأنها تلوع مغازلها بذلك". وأنوف طيبة رائحة الأنف. وخنضرف المرأة الضخمة اللحيمة الكبيرة الثديين. وذلفاء تقدم ذكر الذلف تحت البرقع. وذات سجف السجف دقة الخصر وخماصة البطن. وسرعوف المرأة الطويلة الناعمة. وسيفانة الطويلة الممشوقة الضامرة. وظريفة الظرف إنما هو في اللسان أو حسن الوجه والهيئة أو يكون في الوجه واللسان أو البزاغة وذكا القلب أو الحذق أو لا يوصف به إلا الفتيان الازوال والفتيات الزولات لا الشيوخ ولا السادة. وقرصافة القرصافة من النساء التي تتدحرج كأنها كرة. وقصاف المرأة الضخمة. ولفاء واحدة اللفّ للجواري السمان الطوال. وحسنة المعارف والموقفين المعارف الوجه وما يظهر من المرأة والموقفان الوجه والقدم أو العينان واليدان ومالا بد لها من اظهاره. ومهفهفة ضامرة البطن دقيقة الخصر. وهيفاء الهيف ضمر البطن ورقة الخاصرة. وبراقة الحسناء لها بهجة وبريق كالإبريق. وبهلق المرأة الحمراء جداً. وحاروق نعت محمود للمرأة عند الجماع. وخرباق الطويلة العظيمة أو السريعة المشي. ورشيقة حسنة القد لطيفته. ورقراقة التي كان الماء يجري في وجهها. وروقه حسناء تعجب. وسوقاء الطويلة الساقين أو الحسنتهما. وعبقة المرأة التي إذا تطيبت بأدنى طيب لم يذهب عنها أياما. وعاتق الجارية أول ما أدركت. وعشنقة طويلة ليست بضخمة ولا مثقلة. وغبرقة العينين واسعتهما شديدة سواد سوادهما.

وغرانق امرأة غرانق وغرانقه شابة ممتلئة. وذات غرنقة غزل بالعينين. وذات لمة غرانقة ناعمة تفيئها الريح. وفنق جارية فنق ومفناق منعمة. ولبقة الحسنة الدلّ واللبسة. وملصقة الضيقة المتلاحمة. ولهفة شديدة البياض. "تنبيه المرأة الطرطبة المتخبخبة الرغابة العكباء ذات الحردبة والسنطبة البلعثة الخرثاء الخنظوب العكبرة المثدنة الخطلاء أكثر دلاّ وغنجاً من جميع هؤلاء". وممشوقة خفيفة اللحم. ورودكة حسناء في عنفوان شبابها. وضبرك المرأة العظيمة الفخذين. وضحكاكة قصيرة مكتنزة. وضنأكة الصلبة المغصوبة اللحم. ومعروركة متداخلة. وعكوكة القصيرة الملززة أو السمينة. وعضنك اللفاء التي ضاقملتفى فخذيها مع ترارتهما. وعاتكة المرأة المحمرة من الطيب. ومفلك التي إستدار ثديها. ومكماكه المكامكه والكمكامه القصيرة المجتمعة الخلق. وهبركه الجارية الناعمة. واسيلة الخدّين الأسيل من الخدود الطويل المسترسل. ومبتلة الجميلة كأنها بتل حسنها على أعضائها أي قطع والتي لم يركب بعض لحمها وفي أعضائها استرسال. وبهكلة المرأة الغضة الناعمة. وجمول جملاء الجمول الثمينة والجملاء الجميلة والحسنة الخلق من كل حيوان. وخدلة المرأة الغليظة الساق المستديرتها أو الممتلئة الأعضاء لحماً في دقة عظام كالخدلاء. وخَله المرأة الخفيفة. ودحمله الضخمة التارة. ودمحله السمينة أو الحسنة الخلق. ومكسال نعت للجارية المنعمة لا تكاد تبرح من مجلسها مدح. ورخينة رخمت الجارية صارت سهلة المنطق فهي رخيمة ورخيم. ورقيمة ورقيمة المرأة العاقلة البرزة وفي برز امرأة برزة بارزة المحاسن أو متجاهرة كهلة جليلة ألخ. وميسان الضحى مدح ونحوه نووم الضحى. وحسنة الخفيين أي صوتها وأثر وطئها يقال إذا حسن من المرأة خفاياها حسن سائرها. وغانيه المرأة التي تطلب ولا تطلب أو التي غنيت بحسنها عن الزينة. "تنبيه المرأة القرزح القيلع الحنجل الحزمل الحمكه الخنثل الجبله الجهبله الحنكله القيعله أكثر غنجاً وتدعباً من جميع هؤلاء". وسيأتي تتمة وصف الحسان في الفصل السادس عشر من الكتاب الرابع إذ لم يبق لي من حراك وقوة لذلك وأحسب القارئ نظيري. وإنما أقول. نعم لو كان في ذلك المجلس السعيد جميع هؤلاء الحسان على اختلاف ألوانهن لودّ أن ينظمهن كلهن في تلك واحد ويجعله في عنقه كسبحة أولياء الله المفردين. ومن ما رآني في ذلك رجعته إلى قصة سيدنا سليمان عليه السلام. فإنه مهما أوتي من الحكمة. وما أدراك ما الحكمة. فقد كانسلكه يشتمل على ألف امرأة. منهن ثلثمائة سُريّات والباقي سُريّات. فكان له في كل يوم امرأتان ونصف وكسور ألا ولو إنه أي الرجل رأى الشمس طالعة والبدر بازغاً والكواكب مضيئة لكان أول ما يخطر بباله أن يقول. لقد تزينت هذه السماء بهذه النيران البهية. فمتى تزن حجرتي بواحدة من أخواتهن أو باثنتين أو بثلاث أو بعشر أو بالسبحة كلها. واو رأى غوطة أو ربوة أو جبلين متناوحين أو نوْفا أو حُشّة أو هدفاً أو شقباً أو قوزاً أو دعصا أو كوثلاً أو خوطاً يتأوّد أو بحراً يتموج أو عوطباً أو طاووساً أو تفاحاً أو رماناً عقد درّ منظوم أو شيئاً آخر يروق العين لسبق وهمه إلى امرأة. بل ربما تصور واحدة لم يكن قد رآها قط ولا وجود لها في الأعيان ولو رأى سفينة ماخرة في اليم وعليها شراعها لشبهها بامرأة ترفل بثيابها في الطرقكما كان دأب أحد الخرجيين المتورّعين. ولو رأى حمامتين تتزاقان وتتلاسنان قالليت لي الآن من أن أزقها وتزقني والأسنها وتلاسنني وأنقرها وتنقري. ولو رأى أبو بُرائل بين ضغادره يلقمهن مما لديه ويصفق لهن بجناحيه ويجثئل إليهن ويتجفل ثم يحلج بينهن لو أن يكون نظيره. وحسبك بذلك من دناءة وإهانة لهذه الصورة البشرية التي يقال فيها إنها خلقت على مثال الخالق تعالى عن التبيه والنظير. إلا ولو إنك ألقيته في جب سيدنا يوسف، وفي فلك سيدنا نوح، وفي بطن حوت سيدنا يونس، وعلى ناقة سيدنا صالح، ومع أصحاب الكهف، لصرخ قائلاً المرأة المرأة، ومن لي بالمرأة ولو أنزلته في: بُنانة الروضة المعشبة. ورقمة الروضة وجانب الوادي أو مجتمع مائه. ودقيرة الروضة الحسناء العميمة النبات.

ووديفة الروضة الخضراء. وغلباء الحديقة المتكاثفة. وعلجوم البستان الكثير النخل. ومخرفه البستان. وحديقه الروضة ذات الشجر. وفي حجرة وعلية وغرفة ومقصورة وخدر وَحَجلة ومِنصَة. وسدار شبه الخِدر والموصد الخدر. وحُشّة القبة العظيمة. وجنبذة كالقبة. وعرش الخيمة والبيت الذي يستظل به كالعرش. وكرح بيت الراهب ومثله الركح. وكوخ البيت المسنم من قصب. وصومعه بيت للنصارى. ورِيْع الصومعة. وفنزر بيت يتخذ على خشبة طولها نحو ستين ذراعاً للربيئة وبهو البيت المقدم أمام البيوت. وحلة جماعة بيوت الناس أو مائة بيت والمجلس والمجتمع. وفسطاط السرادق من الأبنية ومثله المضرب. وكبس بيت من طين. وحفش البيت الصغير جداً. وجنز البيت الصغير من الطين. وخصّ البيت من القصب أو -. وردهه البيت الذي لا عظم منه. ومجلوُه البيت الذي لا باب فيه ولا ستر. ووَأم البيت الدفيء. وأُقنه بيت من حجر. وطراف البيت من أدم. ووسوُط بيت من بيوت الشعراء وهو أصغرها. وطنف السقيفة تشرع فوق باب الدار. ونزل ما هيئ للضيف أن ينزل عليه. ومغنى المنزل الذي غنى به أهله ثم ظعنوا أو عامّ. ومعهد المنزل المعهود به الشيء. ومعان المباءة والمنزل. وندِيّ مجلس القوام نهاراً أو -. ومُرْتبَع الموضع يرتبعون فيه في الربيع. ومصيف ومشتى معروف. ودكسرة بناء كالقصر حوله بيوت أو -. ومشرقة موضع القعود في الشمس بالشتاء. ومضحاة أرض مضحاة لا تكاد تغيب عنها الشمس. وظُلّة شيء كالصفة يستتر به من الحر والبرد. ومشربه الغرفة والعلية والصفة. وسُعنه الزَفْن أو مطلق المظلة. ومظلة الكبير من الأخبية. وساباط سقيفة بين دارين تحتها طريق. وعرزال بيت صغير يتخذ للملك إذا قاتل ألخ. وكن البيت. وقيطون المخدع. وسَرب الحفير تحت الأرض وديماس الكن والسرب والحمام. وبُرج معروف. وصهْوة البرج في أعلى الرابية. وصرح القصر وكل بناء عال. وعقر البناء المرتفع. وطربال كل بناء عال. وأزج ضرب من الأبنية. وإيوان الصفة العظيمة كالأزج. ورواق بيت كالفسطاط أو سقف في مقدّم البيت. وأجم كل بيت مربع مسطح وبضمتين الحصن. وكعبة الغرفة وكل بيت مربع. وأُطُم القصر وكل حصن مبني بحجارة وكل بيت مربع مسطح. ووشيع عريش يبني للرئيس في المعسكر. وسنيق بيت مجصّص. وجوسق القصر. ودوشق البيت ليس بكبير ولا صغير أو البيت الضخم. وقهقور. بناء من حجارة طويل. وبغبور الحجر الذي يذبح عليه القربان للصنم. وزور مجلس الغناء. وبُدّ بيت للصنم. وزون الموضع تجمع فيه الأصنام وتنصب وتزين. ومسجد معروف. وكنيسه معروف. وفهْر مدارس اليهود تجتمع إليه في عيدهم. أو-. ومدارس الموضع يقرأ فيه القرآن ومنه مدارس اليهود. وفي كوكبان حصن باليمن رصع داخله بالياقوت فكان يلمع كالكواكب. والجَوْسق دار بنيت للمقتدر فيدار الخلافة في وسطها بركة من الرصاص ثلاثون ذراعاً في عشرين. وقصر النعمان الذي بناه السنمار هو رجل إسكاف بنى قصرأ للنعمان بن امرئ القيس فلما فرغ ألقاه من أعلاه لئلا يبني لغيره مثله أو هو غلام لاحيحة بنى أُطعمة فلما فرغ قال له لقد أحكمته قال إني لا عرف فيه حجراً لو نزع لتقوض من عند آخره فسأله عن الحجر فأراه موضعه فدفعه أحيحة فدفعه أحيحة من الأطم فخرّ ميتا. والجعفريّ قصر للمتوكل قرب سرّ من رأى. والمارد حصن بدومة الجندل. والأبلق حصن بتيماء قصدتهما الزباء فعجزت فقالت تمرد مارد وعزّ الأبلق. وصرواح حصن بناه الجن لبلقيس. ودار الخيزران بمكة بنتها خيزران جارية الخليفة. وقصر بهرام جور من حجر واحد قرب همذان. وقصر غفراء بالشام. والبديع بناء عظيم للمتوكل بسر من رأى. وزُعيرة حصن قرب الكرك. وقصر عسل بالبصرة. والند حصن باليمن. والغُفر حصن بها. وسمدان حصن بها عظيم. والشخب حصن بها. وثربان حصن بها. وهِرّان حصن بها. وشواحط حصن بها. والموَْهبة حصن بها. والظُفير حصن يماني صنعاء.

ولسيس حصن باليمن. والنجير حصن قرب حضرموت. وغمدان قصر باليمن بناه يشرخ بأربعة وجوه أحمر وأبيض وأصفر وأخضر وبنى داخله قصراً بسبعة سقوف بين كل سقف أربعون ذراعاً. لما أنفك أن يصرخ ويقول المرأة المرأة. ومن لي بالمرأة. ولا عيش إلا مع المرأة. ولو أنزلته في شعب بوان إحدى الجنان الأربع. وصنعاء د باليمن كثيرة الأشجار والمياه تشبه دمشق. والسُغْد بساتين نزهة وأماكن مثمرة بسمرقند. والشَعْران جبل قرب الموصل من أعمر الجبال والفواكه والطيور. والوهط بستان ومال كان لعمرو بن العاص على ثلاثة أميال من وجّ كان يعرش على ألف ألف خشبة شراء كل خشبة درهم. وبَلنْسية د شرقي الأندلس محفوف بالجنان لا ترى إلا مياهاً تدفع ولا تسمع إلا أطياراً تسجع. ومَرْسية د إسلامي بالمغرب كثير المنازه والبساتين. وثمانين بلد بناه نوح عليه السلام لما خرج من السفينة ومعه ثمانون نفساً. وجابلص د بالمغرب ليس وراءه أنسي. والراهُون جبل بالهند هبط عليه آدم عماء. والجوديّ جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح عماء. وقاف جبل محيط بالأرض أو زمرد وما من بلد إلا وفيه عرق منه وعليه ملك إذا أراد الله أن يهلك قوماً أمره فحرّك فخسف بهم. والقِيق جبل محيط بالدنيا ومثله الفِيق. والساهرة أرض يجردها الله يوم القيامة. لما إنفك يصرخ ويقول المرأة المرأة. ومن لي بالمرأة. ولا عيش إلا مع المرأة. بل لو صعد إلى المِشريق باب للتوبة في السماء. وطوبى شجرة في الجنة. وعليّين في السماء السابعة تصعد إليه أرواح المؤمنين جمع علِي. والضُراح البيت المعمور في السماء الرابعة. وبرقع اسم للسماء السابعة أو الرابعة أو الأولى. والحاقورة اسم للسماء الرابعة. والصاقورة اسم للسماء الثالثة. والغُرفة السماء السابعة وكذا عروبا وفيها سدرة المنتهى. وعِقيون بحر من الريح تحت فيه ملائكة من الريح معهم رماح من الريح ناظرين إلى العرش تسبيحهم سبحان ربنا الأعلى. والأعراف سور بين الجنة والنار. لأخذ يزعق بمجامع حلقومه ويقول المرأة المرأة. فإني ما دمت بشراً لا بد لي من المرأة. ولوأريته من الغرائب. السكينة شيء كان له رأس كرأس الهر من زبرجد وياقوت وجناحان. والكلواذ تابوت التوراة. وقُرْطي مارية هي مارية بنت أرقم أو ظالم كان في قرطها مائتا دينار أو جوهر قوّم بأربعين ألف دينار أو درّتان كبيضتي حمامة لم ير مثلهما قط فأهدتهما إلى الكعبة. وقنطرة خُرز إذا أم أزدشير بسمرقند بين أيدج والرباط من عجائب الدنيا طولها ألف ذراع وعلوها مائة وخمسون أكثرها مبني بالرصاص والحديد. وتابوت تاحة هي تاحة بنت ذي الشُفْر قال إبن هشام حفر السيل عن قبر باليمن فيه امرأة في عنقها سبع مخانق من در وفي يديها ورحيلها من الأسورة والخلاليل والدماليج سبعة سبعة وفي كل أصبع خاتم فيه جوهرة مثمنة وعند رأسها تابوت مملوء مالاً ولوح فيه وعند رأسها تابوت مملوء مالاً ولوح فيه مكتوب باسمك اللهم إله حمير أنا تاحة بنت ذي شفر بعثت مئرنا إلى يوسف فأبطأ علينا فبعثت بمد من ورق لتأتيني بمد من طحن فلم تجده فبعثت بمد من ذهب فلمتجده فبعثت بمد من بحري فلم تجده فأمرت به طحن فلم أنتفع به فانتقلت فمن سمع بي فليرحمني وأية امرأة لبست حلياً من حلي فلا ماتت إلا ميتتي. وذا الفقار سيف العاص بن منبه قتل يوم بدر وكان كافراً فصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم صار إلى عليّ. والكشوح من السيوف السبعة التي أهدتها بلقيس إلى سليمان عليه السلام. والحِنّ حيّ من الجن منهم الكلاب السود البهم أو سفلة الجن وضعفاؤهم وكلابهم أو خلق بين الإنس والجن. وأورام الجوز قرية فيها أعجوبة وهي أن المجاورين لها من القرى يرون فيها بالليل ضوء نار في هيكل فيها جاءوه لا يرون شيئاً. والرئيّ جني يرى فيُحب. وفرس قاين الذي يقال له هِجْدَم يقال أول من ركبه ابن أدم القاتل حمل على أخيه فزجر الفرسفقال هج الدم فخفف. والعصافير شجر يسمى من رأى مثلي له صورة كالعصافير كثيرة بفارس.

والنسناس جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة وفي الحديث أن حيّا من عاد عصوا رسولهم فمسخهم الله نسناساً لكل إنسان منهم يد ورجل من شق واحد ينقزون كما ينقز الطائر ويرعون كما ترعى البهائم وقيل أولئك انقرضوا والموجود على تلك الخلقة خلق على حدة أو ثلاثة أجناس ناس ونسناس ونسناس أو النسنانس الإناث منهم أو هم أرفع قدراً من النسناس أو هم يأجوج ومأجوج أو هم قوم من بني آدم أو خلق على صورة الناس وخالفوهم في أشياء وليسوا منهم. ودُعْموصا رجل زناء مسخه الله وعَبّودا عبد أسود أول الناس دخولا الجنة. وعامرين جدرة أول من كتب بخطنا. ومرامرا أول من موضع الخط العربي. وابا عروة رجل كان يصيح بالأسد فيموت فيشق بطنه فيوجد قلبه قد زال من موضعه. وطخمورث ملك من عظماء الفرس ملك سبعمائة سنة. والوضاح رجل ملك الأرض وكانت أمه جنية فلحق بالجنّ. والرابظة ملائكة هبطوا مع آدم وبقية حملة الحجة لا تخلو الأرض منهم. واليبروح اصل اللفاح شبيه بصورة إنسان. وسكينة اسم البقة الداخلة انف نمرود. وطاخية نملة كلمت سليمان عم. وعليجوف اسم النملة المذكورة في القرآن. والتخس دابة بحرية تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين على السباحة وتسمى الدلفين. والجساسة دابة تكون في الجزائر تجس الأخبار فتأتي بها الدجال. والرخ طائر كبير يحمل الكركدن. والكركدن دابة تحمل الفيل على قرنها. والزبعري دابة تحمل الفيل بقرنها. والعقام سمك وحية تسكن البحر ويأتي الأسود من البر فيصفر على الشط فتخرج إليه العقام فيتلاويان ثم يفترقان فيذهب كل منهما إلى منزله. وبنت طبق سلحفاة تبيض تسعا وتسعين بيضة كلها سلاحف وتبيض بيضة تنقف عن حية. والفلتان طائر يصيد القردة. والبلت طائر محترق الريش أن وقعت ريشة منه في الطير أحرقته. والسمندل طائر بالهند لا يحترق بالنار. والتهبط طائر اغبر يتعلق برجليه ويصوت كأنه يقول أنا أموت أنا أموت. والأنن طائر كالحمام صوته أنين أوه أوه. والزماح طائر يأخذ الصبي من مهده. والهديل فرخ على عهد نوح عم مات عطشا أو صاده جارح من الطير فما من حمامة إلا وهي تبكي عليه. والقرقفنة طائر يمسح جناحيه على عيني القنذع الديوث فيزداد لينا. والفقنسَّ طائر عظيم بمنقاره أربعون ثقبا يصوت بكل الأنغام والألحان العجيبة المطربة يأتي إلى رأس جبل فيجمع من الحطب ما شاء ويقعد ينوح على نفسه أربعين يوماً ويجتمع إليه العالم يستمعون إليه ويتلذذون ثم يصعد إلى الحطب ويصفق بجناحيه فينقدح منه نار ويحترق الحطب والطائر ويبقى رماداً فيتكون منه طائر مثله ذكره ابن سينا في الشفاء. لمد عنقه وجعل أصابعه في أذنيه وأذن صارخا. هاي هاي المرأة المرأة. أروني المرأة. ما يجزئيني شيء عن المرأة. ولو أنك لاعبته. بالجنابي لعبة للصبيان. وحدبدبي لعبة للنبيط. والطبطابة خشبة عريضة يلعب بها الكرة. والقرطبي ضرب من اللعب ونوع من الصراع. والكبكب لعبة. والكوبة النرد أو الشطرنج. والهباب لعبة للصبيان. وكتكتي لعبة. والبحيثي لعبة بالبحاثة أي التراب. والكثكثى لعبة بالتراب. والطثّ لعبة للصبيان يرمونه بخشبة مستديرة تسمى المطثة. واللوثة خرقة تجمع ويلعب بها. والأنبوثة لعبة يدفنون شيئا في حفير فمن استخرجه غلب والشطرنج معروف. والخريج لعبة يقال لها خراج خراج. والفنزج رقص للعجم. والقجقجة لعبة يقال لها عظم وضاح. والكجة لعبة يأخذ الصبي فيدورها كأنها كرة. والكجكجة لعبة تسمى أست الكلبة. والجماح تمرة على رأس خشبة يلعب بها الصبيان. والجمح رمي الصبي الكعب بالكعب حتى يزيله عن مكانه. ودحندح لعبة للصبية لها فيقولونها فمن أخطاها قام على رجل وحجل سبع مرات. والدّاح نقش يلوح للصبيان يعللون به ومنه الدنيا داحة. والرجاجة حبل يعلق ويركبه الصبيان. والدباخ لعبة. والدماخ لعبة للاعراب. والمطخةّ خشبة يلعب بها الصبيان. والطريدة لعبة تسميها العامة المسَّة والضبطة فإذا وقعت يد اللاعب من آخر على بدنه أو رأسه أو كتفه فهي المسّة وإذا وقعت على الرجل فهي الآسن. والنَرْد معروف

والمواغدة لعبة وأن تفعل كفعل صاحبك. والباقر لعبة. والبقيري لعبة. والجعري لعبة الصبيان وهو أن يحمل الصبي بين أثنين على أيديهما. والحاجورة لعبة تخط الصبيان خطا مدورا ويقف فيه صبي ويحيطون به ليأخذوه. والدكر لعبة للزنج والحبش. والسحارة شيء يلعب به الصبيان. والسدر لعبة للصبيان. والعرعرة لعبة للصبيان. والشعارير لعبة. والمنجار لعبة للصبيان أو الصواب الميجار. والتوز خشبة يلعب بها بالكجة. العرز عرز لفلان قبض على شيء في كفه ضاما عليه أصابعه يريه منه شيئا لينظر إليه ولا يريه كله. والقفيزي لعبة للصبيان ينصبون خشبة ويتقافزون عليها. والنفاز لعبة لهم يتنافرون فيها أي يتواثبون. والبكسة الكجة. والحوالس لعبة للصبيان. والدسة لعبة. والدعسكة لعب للمجوس كالرقص. والفسفسي لعبة لهم. والفاعوس والفاعوس لعبة لهم. والبوصاء لعبة لهم يأخذون عودا في رأسه نار فيديرونه على رؤوسهم. والرقاصة لعبة. والحوطة لعبة تسمى الدارة. والخطة لعبة للأعراب. والضبطة لعبة لهم. والتضرفط وهو أن تركب أحدا رجليك من تحت إبطيه وتجعلهما على عنقه. والمقط مقط الكرة ضرب بها الأرض ثم أخذها. والضريفطية لعبة لهم. والمرصاع دوامة الصبيان وكل خشبة يدحى بها. واليرمع الخذروف وقلوبع لعبة لهم. والجحفة اللعب بالكرة. والخذروف شيء يدوره الصبي بخيط في يده فيسمع له دويّ ويسمى أيضا الخذرة والقرصافة والخذروف أيضا طين يعجن يعمل شبيها بالسكر يلعب به الصبيان. والزحلوفة تزلج الصبيان من فوق التل إلى أسفله والعياف لعياف والطريدة لعبتان لهم. وقاصة قرصافة لعبة لهم. والحزقة ضرب من اللعب. والدبوق لعبة. والزحلوقة الارجوحة. والشفلقة لعبة وهوان يكسع إنسانا من خلفه فيصرعه. والعفقة لعبة. والعقة التي يلعب بها الصبيان. والقرق لعب السدر. والكرك لعبة لهم. ودبى حجل لعبة. والدخيلياء لعبة لهم. والدرقلة لعبة للصبيان. والدركلة لعبة للعجم أو ضرب من الرقص أو هي حبشية. والفئال لعبة للصبيان يخبون الشيء في التراب ثم يقسمونه ويقولون في أيها هو. والفيال لعبة لفتيان العرب. والدمة لعبة. والدوامة التي يلعب بها الصبيان فتدار وتسمى أيضا المرصاع. والمرغمة لعبة لهم. والشحمة لعبة لهم. وعظم وضاح لعبة لهم. والمهزام عود يجعل رأسه نار يلعبون به. والبرطنة ضرب من اللهو كالبرطمة. والتون خرقة يلعب عليها بالكجة. والطبن لعبة لهم. والقنين لعبة يتقامر بها. والكبنة لعبة. والدَمَة لعبة للصبيان. والمجذاء خشبة مدورة تلعب بها الأعراب. والمخاساة خاساه لاعبه بالجوز فردا أو زوجا. والقزة لعبة. والقلة عودان يلعب بها الصبيان. لشحر فاه وشحاه وعجاه وزاد صراخا وضجيجا وهو يقول المرأة المرأة. إلا فلاعبوني بالمرأة. ولو إنك طربته. بالرباب معروف. والعرطبة العود أو الطنبور أو الطبل أو طبل الحبشة. والكوبة البربط والطبل الصغير المخصر. والدريج شيء كالطنبور يضرب به. والصنج شيء يتخذ من صفر يضرب أحدهما على الآخر وآلة باوتار يضرب بها معرّب والصيار صوت الصنج. والونج ضرب من الاوتار أو العود أو المعزف. والعود معروف. والمزمار ما يزمر به ويقال أيضا الزمخر والزنبق والصلبوب والنقيب والقصابة والهبنوقة. والمزهر العود يضرب به. والشبور البوق ويقال له ايضا القبع والقشع والقنع والصور. والطنبور معروف. والكنارات العيدان أو الدفوف أو الطبول أو الطنبور. والكوس الطبل. والبربط العود. والشياع مزمار الراعي. والهيرعة اليراعة يزمر بها الراعي. والدف معروف. والمستقة آلة يضرب بها الصنج ونحوه. والعركل الدف والطبل. والصغانة من الملاهي معرّبة. والطبن الطنبور أو العود. والقنّين الطنبور. والكران العود أو الصنج. والونّ الصنج. لظل فاغرا فاه وهو يزعق ويقول المرأة المرأة. إلا فطربوني بالمرأة. ولو اطعمته. الجُواذب طعام يتخذ من سكر ورز ولحم.

والقبيب الإقط خلط رطبة بيابسة. والكباب معروف. والسنوت الزبد والجبن والعسل وضرب من التمر. واللفيتة العصيدة المغلطة أو مرقة تشبه الحيس. والنفيتة طعام اغلظ من السخينة. والعلاثة سمن واقط يخلط. والغبيثة لت الاقط بالسمن كالعبيثة. والسكباج معروف. والطباهجة اللحم المشّرح. والنابجة طعام جأهلي. والاخيخة دقيق يعلج بالسمن أو الزيت. والقفيخة طعام يعالج بالتمر والاهالة. والكامخ ادام. والثريد معروف. والرشيدية طعام معروف فارسيته رشته. وارّهيدة البُرّ يدق ويصب عليه لبن. والشهيدة البرق المشوي. والقديد اللحم المشرّر المقدّد. والحنيذ حنذ الشاه شواها وجعل فوقها حجارة محماة لينضجها فهي حنيذ. والزماورد طعام من البيض واللحم ويسمى أيضا الميسر. والبرابير طعام يتخذ من فريك السنبل والحليب. والبورانية طعام ينسب إلى بوران بنت الحسن بن سهل زوج المأمون. والجاشرية طعام. والجعاجر ما يتخذ من العجين كالتماثيل فيجعلونها في الربّ إذا طبخوه. والحريرة دقيق يطبخ بلبن أو دسم. والحَكر والحَكر السمن بالعسل يلعقهما الصبي. والمَخْبور الطعام المدسّم والخُبرة والثريدة الضخمة- والطعام واللحم وما قدم من شيء وطعام يحمله المسافر في سفرته وقصعة فيها خبز ولحم بين أربعة أو خمسة. والخزيرة شبه عصيدة بلحم. والصحيرة اللبن الحليب يغلي ثم يصب عليه السمن. والغذيرة دقيق يحلب عليه لبن ثم يحمى بالرضف. والفرفور سويق من ثمر الينبوت. والمُرّيّ ادام الكامخ. والمضيرة مريقة تطبخ باللبن المضير. والنجيرة لبن يخلط بطحين أو سمن. والوغير لبن يغلي ويطبخ. والخاميز مرق السكباج. والخنيز الثريد من الخبز الفطير. والمُرزز الطعام المعالج بالرز. والبسيسة لت الاقط المطحون بالسمن. والحميسة القلية. والحَيس تمر يخلط بسمن واقط فتعجن شديدا. والكسيس لحم يجفف على الحجارة فإذا يبس دق فيصير كالسويق. والهريسة معروف. والبَوش طعام بمصر من حنطة وعدس يجمع في زنبيل ويجعل في جرة ويطين ويجعل في تنور. والجشيش السويق وحنطة تطحن جليلاً فتجعل في قدر ويلقى فيه لحم أو تمر فيطبخ. والرشرش السمين من الشواء. والقميشة طعام من اللبن وحب الحنظل ونحوه. والمكرشة طعام من اللحم والشحم في قطعة مكورة من كرش البعير. والكوشان طعام من الرز والسمك. والآمص الآمص والاميص طعام يتخذ من لحم عجل بجلده أو مرق السكباج المبرد المصفى من الدهن. والخبيص طعام من التمر والسمن ويسمى أيضا البَروك. والعمص ضرب من الطعام. والكريص طبخ الحماض باللبن فيجفف فيؤكل في القيظ. والمَصوص طعام من لحم يطبخ وينقع في الخل أو يكون من لحم الطير خاصة. والآقط شيء يتخذ من المخيض الغنمي. والمبرقط طعام يفرّق فيه الزيت كثيرا. والبهط الارز يطبخ باللبن "معرب". والخليط الجدي إذا سلخ فشوي. والسميط الجدي إذا نزع شعره فشوي والسُرَيْطاء حسا كالحريرة. والسويطاء مرقة كثر ماؤها وثمرها أي بصلها وحمصها وسائر الحبوب. والتشييط لحم يشوي للقوم. والخديعة طعام لهم. والخذيعة طعام بالشام من اللحم مشتق من خذع أي حزّز وقطع والمخذّع الشواء. والخَلْع لحم بالتوابل في وعاء من جلد أو القديد المشوي في وعاء بإهالته. والرصيعة البُريدق بالفهر ويبلّ ويطبخ بالسمن. والوضيعة حنطة تدق فيصيب عليها السمن فيؤكل. والثميغة ما رقّ من الطعام وأختلط بالوَدَك. والخطيفة دقيق يذر عليه اللبن ثم يطبخ. والصفصفة السكباجة. والطِحْرف حسا رقيق دون العصيدة. والموخِف طعام من أقط مطحون يذر على ماء ثم يصب عليه السمن. والألوقة طعام طيب أو زبد برطب. والحروقة طعام أغلظ من الحسا. والمدققة من الطعام "مولدة". والروذق الحمل السميط وما طبخ من لحم وخلط بأخلاطه. والزريقاء الثريدة بلبن وزيت. والسليقة الذرة تدق وتصلح أو الأقط خلط به طراثيث وما سلق من البقول ونحوها. والسويق معروف. والشُبارق ما أقتطع من اللحم صغاراً وطبخ.

والوشيق لحم يقدد حتى ييبس أو يُغلى إغلاءة ثم يقدد ويحمل في الأسفار. والوليقة طعام يتخذ من دقيق ولبن وسمن. والدليك طعام من الزبد واللبن أو زبد وتمر ونبات وثمر الورد الأحمر يخلفه ويحلو كأنه رطب الخ. والربيكة أقط بتمر وسمن. والسهيكة طعام. والفريك طعام يفرك ويلت بسمن وغيره. واللبيكة أقط ودقيق أو تمر وسمن يخلط. والوديكة دقيق يشاط بشحم. والبكيلة دقيق بالرب أو بالسمن والتمر. والحذَل حب شجر ويختبز. والطَفَيشَل نوع من المرق. والعَوْكل ضرب من الأدام. والزَوْم طعام لأهل اليمن من اللبن لذيذ. وأبا عاصم السويق والسكباج. والهُلام طعام من لحم عجل بجلده أو مرق السكباج المبرد المصفى من الدهن. والسخينة طعام رقيق يتخذ من دقيق. والكُبان طعام من الذرة لليمنيين. والتلبينة حساء يتخذ من نخالة ولبن وعسل. والجَليهة تمر يعالج باللبن. والأرة القديد ولحم يغلي بالخل إغلاءة فيحمل في السفر. والآصية طعام كالحسي بالتمر. والأطرية طعام كالخيوط من الدقيق. والكدي لبن ينقع فيه التمر تسمن به البنات. ولو أطعمته من أنواع الكمأة الذُبَح والفرحانة والقرحان والغرد وبنات أوبر والجماميس والفقع والبرنيق والذعلوق والقعبل والعرجون والعرهون ومن أنواع السمك القباب والهازبي والكنعت والكنعد والخباط وهي أولاده والبينيث والمدج والأدح والقد والغوبر والزمير والزنجور والأشبور والطنز والأنقليس والجوفي واللخم واللحم وأبامَرينا. والصلنباح سمك طويل دقيق. والحافيرة سمكة سوداء. والجرّي سمك طويل أملس لا يأكله اليهود وليس عليه فصوص. والصرصران سمك أملس. والغارَّة سمكة طويلة. والقيصانه سمكة صفراء مستديرة. والشبوط سمك دقيق الذنب عريض الوسط لين المسّ صغير الرأس كأنه بربط. والجنيس سمكة بين البياض والصفرة. والضلعة سمكة صغيرة خضراء قصيرة العظم. والحفة سمكة بيضاء شاكة. والعُفة سمكة جرداء بيضاء طعم مطبوخها كالأرز. والخذاق سمكة لها ذوائب كالخيوط. والحاقول سمك أخضر طويل. والقتن سمكة عريض قدر راحة. والغلاء سمك قصير. والهف السمك الصغار الهاربة. والبلم صغار السمك. والصحناة أدام يتخذ من السمك الصغار. والصير الصحناة أو شببها والسميكات المملوحة يعمل منها الصحناة. والحريد السمك المقدد. والقريب السمك المملوح ما دام في طراءته. والطريخ سمك صغار تعالج بالملح. والحساس سمك صغار تجفف. والنشوط سمك يمقر في ماء وملح. والأربيان سمك كالدود. والصعقر بيض السمك. والسكل سمكة سوداء ضخمة. والزجر سمك عظام والبال سمك العظيم. والأطوم سمكة بحرية غليظة. والجيذرة سمكة كالزنجي الأسود الضخم. والبنيك دابة كالدلفين. والجمل سمكة طولها ثلاثون ذراعاً. واللياء سمكة تتخذ منها الترسة الجيدة وهو أيضاً شيء كالحمص شديد البياض توصف به المرأة. والتخس تقدم ذكرها في الغرائب. ومن المحار: السلج أصداف بحرية فيها شيء يؤكل. والدُلاّع ضرب من محار البحر. والقرثع دويبة بحرية لها صدفة. والجمحل لحم يكون في جوف الصدف. ومن أنواع الخبز: الطرموث جبز الملة ومثله المفتأد والمضباة والطرموس والإصطكمة والأصطكمة. ومن الغرائب هنا أن صاحب القاموس أورد التي بالكسر بعد أش م والتي بعد ص ط م. والزلحلحة الرقيقة من الخبز وكذا الصرقة. واللوح خبز شبه القطائف. والأنبخاني خبزة أنبخانية ضخمة. والخبرة الثريدة الضخمة. والمشطور الخبز المطلي بالكامخ. والسلجن الكعك. والخنيز الثريد من الخبز الفطير. والرشرش اليابس الرخو من الخبز كالرشراش. والهشاش الخبز الرخو اللين. والمربقة الخبزة المشحمة ونحوها المرولة. والسرقاق الخبز الرقيقز والضغيفة خبز الأرز المرقق. والمُلّى الخبزة المنضجة. ومن أجناس اللبن: السمعج اللبن الدسم الحلو ومثله السملج والسمهج والسهمجيج. والقطبية لبن المعز والضأن يخلطان أو لبن الناقة والشاه. والشميط ما لا يدري أحامض هو أم حقين من طيبه.

والجُلعطيط والجُلعطيط اللبن الرائب الثخين ومثله لبن عُجْلط وعثلط وعذلط وعكلط وعلبط. تقدم نحوي بغيض كان يتكلم بالأعراب إلى لبان فقال يا لبان أعندك لبن عثلط علبط عجلط فقال له اللبان تنصرف أو تُفع. والكفخة الزبدة المجتمعة البيضاء. واللياخة الزبد الذائب مع اللبن. والقشدة الزبدة الرقيقة. والقلدة القشدة والتمر والسويق يخلص به السمن. والنهيد الزبد الرقيق. والعكيس اللبن الحليب تصب عليه الأهالة. والثميرة اللبن الذي ظهر زبده. والنخيسة لبن العنز والنعجة يخلط بينهما. والأمخاض الحليب ما دام في الممخضة. الحالوم ضرب من الأقط أو لبن يغلظ فيصير شبيهاً بالجبن الطري. ومن الحلواء الوطيئة تمر يخرج نواه ويعجن بلبن والأقط بالسكر والكعك. والعبيبة طعام وشراب من العُرفط حلو. والبرت السكر والضيح العسل والمقل. والملخ عسل في جلنار المظ. واليعقيد طعام يعقد بالعسل. والفارد أبيض السكر وأجوده. والقنْد عسل قصب السكر. والفانيذ ضرب من الهواءز والصقْر عسل السُرطب والدبس. والأكبر شيء كأنه خبيص يابس ليس بشديد الحلاوة يجيء به النحل والفالوذ م ويسمى أيضأ الرعديد والمزرع والزليل والكمص والمزعفر والماذيُّ العسل الأبيض أو الجديد أو خالصه وجيده. والمسيرة حلواء واللوزينج معروف "معرب". والوخيز ثريد العسل. واللواص الفالوذ والعسل. والسرطراط الفالوذ أو الخبيص. والمجيع تمر يعجن بلبن. والقطائف معروف. والكُرسُفيُّ نوع من العسل. والطرم الشهد والزبد والعسل. والمن كل طل ينزل من السماء على شجر أو حجر يحلو وينعقد عسلاً ويجف جفاف الصمغ الخ. والزلابية حلواء معروف. ومن الثمر. الصربة شيء كراس السنور فيه شيء كالدبس يمص ويؤكل. والعتُرب شجر كالرمان يؤكل. والبوت شجر نباته كالزعرور. والرعثاء عنب له حب طوال. والجُوحِ البطيخ الشامي. والصدح ثمرة أشد حمرة من العُنّاب. والملاحي عنب أبيض طويل ونوع من التين. والعنجد الزبيب أو ضرب منه. والفرصاد التوت أو حمله أو أحمره. والقثَد نبت يشبه القثاء أو الخيار. والكشد حب يؤكل. والمريد التمر ينقع في اللبن. والمغد ثمر يشبه الخيار. والحناذ المشمش. والصفرية تمر يماني يجفف بُسراً فيقع موقع السكر في السويق. والضمير العنب الذابل. والزنْبار التين الحلواني. والسُّكّر من أحسن العنب. والزعراء ضرب من الخوخ. والشَّعْراء ضرب منه أيضاً. والمغْثر شيء ينضجه الثمام والعُشَر والرِمْث كالعسل وكذا المِغْفر. والغوْفر البطيخ الخريفي أو نوع منه. والقُبر عنب أبيض طويل. والمرْمار الرمان الكثير الماء لا شحم له. والنَهِر العنب الأبيض والكُلافيّ عنب أبيض فيه خضرة. والجَوْزة ضرب من العنب. والمِشْلوز المشمش الحلو. والبلس ثمر كالتين. والضغابيس صغار القثاء أو نبات كالهليون. والميس نوع من الزبيب. والكشمش عنب صغار لا عجم له ألين من العنب. والضُرُوع عنب أبيض كبار الحب. والأقماعي عنب أبيض يصفرّ أخيراً حبه كالورس. والميعة شجرة كالتفاح لها ثمرة بيضاء أكبر من الجوز تؤكل ولبّ نواها دسم يعصر منه الميعة السائلة "في قول". والغاف شجر له ثمر حلو جداً. والباسِق ثمرة طيبة صفراء. والرازقي العنب المُلاّحي. لزاد شحر فمٍ وزعيقاً ولغطاً وزياطاً وضجيجاً وهو يقول المرأة المرأة. إلا فلحسوني المرأة. ولو أنك سقيته من الشراب: الرحيق ممزوجاً بالبند الرحيق الخمر أطيبها أو الخالص أو الصافي. والبند الذي يسكر من الماء. والسَلْسل ممزوجة بالسلسل السلسل الماء العذب ومن الخمر اللينة. والمسطار مزاجها العضْرس المِسْطار الخمر الصارعة لشاربها والعضرس الماء البارد العذب والثلج. والإسْفِنط مزاجها النقر الإسفنط المطيب من عصير العنب أو ضرب من الأشربة أو أعلى الخمر. والنقر الماء الصافي العذب. والخرطوم ممزوجة بالماء الزلال الخرطوم الخمر السريعة وماء زلال كغراب سريع المرّ في الحلق بارد عذب صاف سهل سَلِس.

والمعتَّقة مزاجها الفُرات المعتقة الخمر القديمة والفرات الماء العذب جداً. والمثلِّث شراب طبخ حتى ذهب ثلثاه. والفضيخ عصير العنب وشراب يتخذ من بُسر مفضوخ. والفُقد شراب من زبيب أو عسل الفُقدُد. والمقديّ شراب من عسل. والداذِيّ شراب الفساّق. والجمهوريّ شراب مسكر أو نبيذ العنب أتت عليه ثلاث سنوات. والخُسْرواني شراب. والسَّكَر الخمر ونبيذ يتخذ من التمر. والغُبَيْراء السكركة وهي شراب من الذرة. والمِزر نبيذ الذرة والشعير. والكسيس نبيذ التمر. والبِتْع نبيذ العسل المشتد أو سلالة العنب. والسُقرْقَع شراب يتخذ من الذرة أو من الشعير والحبوب. والجعة نبيذ الشعير. والفقاع هذا الذي يشرب لما يرتفع في رأسه من الزبد. والباذق ما طبخ من عصير العنب أدنى طبخة فصار شديداً. والخليطين ما ينبذ من البسر والتمر معاً أو من العنب والزبيب أو منه ومن التمر نحو ذلك. والصريّ الماء من البسر الأحمر والأصفر يصبونه على النبق فيتخذون منه نبيذاً والعَكيّ سويق المقل. والأطواق لبن النار جيل وهو مسكر جداً سكراً معتدلاً ما لم يبرز شاربه للريح فإن برز أفرط سكره ألخ. والصَّعْف شراب من العسل أو يشدخ العنب فيطرح ثم يغلي. والنبق دقيق يخرج من لبّ جذع النخلة حلو يقوي بالدبس ثم يجعل نبيذاً. والسليل الشراب الخالص. والمعْمول المعمول من الشراب ما فيه اللبن والعسل. والطلاء الخمر وخائر المنَّصف وهو الشراب طبخ حتى ذهب نصفه. لعربد وزاد صراخاً وصياحاً وهو يقول المرأة المرأة. إلا فاسقوني المرأة. بل لو سقيتهمن الفحفاح والكوثر. ومن رحيق مختوم. مزاجه من تسنيم. وجعلته في جملة من يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكاس من معين. وفاكهة مما يتخيرون. ولحم طير مما يشتهون. في سدر مخضود. وطلح منضود. وظل ممدود. وماء مسكوب. وفاكهة كثيرة. لا مقطوعة ولا ممنوعة. وفرش مرفوعة. وعنده جنتان. ذواتا أفنان. فيهما عينان تجريان. فيهما من كل فاكهة وزجان. من دونهما جنتان. مدها متان. فيهما عينان نضاختان. فيهما فاكهة ونخل ورمان. فيهن خيرات حسان. فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام. والحب ذو العصف والريحان. بين متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان. بين متكئين على فرش بطائنها من إستبرق. وعلى فرش موضونة. يسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا. عيناً فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً. عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة. لما رأيته والحالة هذه راضياً من دون المرأة. فأعوذ بالله من هذا الإنسان ومع ذلك أي مع كون وجود الطعام والشراب للرجل الزم من وجود المرأة إذ الأول مخلوق لحفظ الحياة والثاني لتقويم الطبيعة على ما سبق ذكره. فإن وجود المرأة أصعب منهما وأكثر تعذراً وأغلى سعراً. إذ الطعام والشراب يوجدان في كل مكان وزمان. حتى إن أهل سقر لهم طعام من الزقوّم والمهل والضريع. وشراب من غسلين. وظل من يحموم ولكن ليس لهم نساء من مارج من نار أو من الشياطين ولا وجود للمرأة أيضاً في السفينة ولا في دير الرهبان إلا نادراً. ولا لراكب فرس أو حمار أو جمل أو بغل. ولا لساع على القدم. ولا لمباشر الحرب ولا لمسجون. ولا لقبيح الخلقة إلا إذا كان جميل الدينار والجلاء. ولا لشاعر مملق وإن تملقهن وسهر الليالي في وصف محاسنهن والتشبب بها. ولا لمن به تشويليه وترويلية وزلقية وزُمالقية وزهلقية وتيتائية وإذليلائية ونعنعية وهلوكية وشكازية وثيتلية وعنينية وحريكية وطمسلية ومنجوفية وحصورية وسرسية وعجيرية وذوذخية وحوقلية وهوذلية ووخواخية وعذيواطية وعضيوطية وثتية وثموتية وصفيطية ومجائية وعتولية. فإن قيل أن الأدرم لا خبز له أيضاً. قلت يمكن أن يدق له الخبز ناعماً فيمضغه ويجتزئ به. ولكن كيف السبيل إلى مضغ المرأة مع التيتائية وأخواتها.

في ذلك الموضع بعينه

ثم إنه كما وقعت البلبلة عن ذات المرأة وحارت العقول في السر الذي أودعه الله فيها. من جهة أنه أول الأسباب في عمران الكون وخرابه. إذ لا يكاد يحدث في العالم خطب جليل إلا وتراها من خلله واقفة وراءه أو بالحري مضطجعة. كذلك حصل التشويش والتخليط في أسمها. فالمرأة في لغتنا الشريفة مشتقة من مرؤ الطعام إذ صار مريئاً هنيئاً حميد المغبة. إلا إنها كثيراً ما تكون طعاماً ذا غصة وشجا وتخمة وتختير وتخثير. ثم أن همزها للوصل ووصلها للهمز. وجميعها من غير لفظ المفرد وهو متعدد. وفي بعض اللغات هي ويل الرجل. وفي بعضها سوأة. فإما الزوجة وهي المفهوم منها إنها امرأة أو نصف رجل فقد خصت ترضياً لها بأسماء كثيرة. من ذلك القرينة واشتقاقها معلوم. والعازية واشتقاقها من عزب أي بعد لأنها تعزب عن أبويها إلى زوجها أو بالعكس أو عنه إلى غيره. والحُرمة واللحاف لأنها تدفئ الرجل بحر جسدها كما سيأتي والحدادة والنضر العِرس والحليلة واللباس والجثل والحال والخضلة والشاعة والحنة والربض والنعل ولست أرضي بهذه فالأولى محوها. ومن الغريب إنها سميت لباساً ولحافاً ولم تسمّ سروالاً. قال بعض العلماء إذا أراد الله أن يقضي خيراً على الأرض قيّض له امرأة فكانت الوسيلة إلى إجرائه. وإذا أراد الشيطان أن يقضي شراً توسل إليه أيضاً بامرأة. وقد اختلفوا في تأويل هذا القول. فالخرجيون على أن دخول المرأة في قضية ملك الإنكليز كان للخير المحض. والسوقيون على إنه كان للشر الجهنمي. وكذلك قضية ملكتي الإنكليز وقضية إيرين زوجة ليو الرابع وثيودورة زوجة ثاوفيليوس. وغير ذلك مما لا يحصى. وأعلم هنا إنه لم تجر العادة بأن يتخذ من النساء بابا أو مطران أو رئيس جيش أو رئيس سفينة أو قاض. وذلك لاتقاء بأسهن وسطوتهن. فإن الرجال مستعبدون للنساء بالطبع خلواً من هذه المراتب العلية فكيف بهن إذا ولينها. فإن قيل أن الإفرنج يتخذون منهن ملكات ويفلحون. قلت قد تقرر عندهم أنه إذا كان رئيس الدولة أنثى كانت إدارة الأحكام والعمل كله لذكر. ولعل ذلك من مشاكل الأمور الأنثوية فإن هذا التعليل يصدق أيضاً على كون البابا وغيره يتخذ من النساء. ولعلي قد أطلت الكلام هنا على النساء مع أنه ربما يوجد فيهن قصار غير جديرات بالطويل منه. فينبغي لي الآن تطليقهن والعود إلى ما كنت بصدده. وسأعود إليهن في موضع آخر إن شاء الله. في ذلك الموضع بعينه لم يطاوعني القلم على الانتقال من هذا الموضع الشهي إلى الكلام في الفارياق وأمثاله. بل لعله هو نفسه يروم ذلك إيثاراً له على ذاته. فلا بد إذاً من الرجوع إلى وصف النساء من دون اعتذار إليه فأقول: قال بعض الفحول من العلماء أن المرأة أشرف من الرجل وأفخم وأنبل وحلم وافضل واكرم. أما وجه كونها أشرف فلأن شاهدي تأنيثها واقفان في محل مرفوع. بحيث يمكن لها أن تراهما أو تريهما أيان شاءت من دون تطأطئ رأس وانحناء. وفي ذلك من العز والشرف ما لا يخفي. ألا ترى أن بعض الأدباء قال أن من عزّ لا أن يقولها الإنسان وهو رافع رأسه. ومن ذلّ نعم أن يقولها وهو خافضة. أما شاهد الرجل فهما منكوسان في محل منخفض بحيث لا يقدران يرهما إلا إذا تطأطأ انحنى. وأما وجه كونهما أفخم فلأن ساقيها اللتين هما عمودان لهيكل الجسم، وبطنها الذي هو منبت لتكوّن النسمة. وعجزها الذي هو مورد الإعجاز. تكون أفخم من ساقي الرجل وبطنه وعجزه. وأما وجه كونها أنبل فلأنها تنبل بما يلقى إليها مدة تسعة أشهر. وأما وجه كونها احلم فلأنّ سِمة الحلم ترى في شاهدي تأنيثها. وأما وجه كونها أفضل فلأنها خلقت من الرجل وعقبه. وهو خلق من تراب. لكنها إذا ماتت "معاذ الله من ذلك" تستحيل إلى تراب كالرجل لا إلى أصلها الذي أخذت منه أي لا تصير رجلا ولا ضلعا وأما وجه كونها أكرم فلأنها ارق فؤاداً وأرحم قلباً وألين طبعاً. فإذا رأت أحدا محتاجاً إلى شيء من عندها لمتضن به عليه. وناهيك ما جاء عن مادح السيدة زبيدة إذ قال: أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب فلما أنكر الوصفاء عليه ذلك وهّموا بضربه انتهرتهم وأحسنت إليه لعملها أنه لم يخطئ الوصف.

القسم الأول في تهبئة الجواهر

وقال فحل آخر أن المرأة تعمّر في الغالب أكثر من الرجل. وسبب ذلك إنها لما كانت مفطورة على اللين والطفولة والنعومة كان لها أن تتلقى ما يستقبلها من الحوادث بالصبر والتأني. فتكون به ميلعا أي تارة تميل إلى هذا الشق وتارة إلى ذلك. فمثلها كمثل الغصن الرطيب يميل مع الريح فلا ينقصف. فأما الرجل فإنه لما كان مفطوراً على القسوحة واليبوسة فمتى دهمه أمر تصلب له واقتسح فلا يلبث أن يعطب به. فمثله كمثل الشجرة اليابسة إذا قويت عليها الريح. قال ومن خواصها أيضا أن الخمرة لا تبلغ منها قدر ما تبلغ من الرجل واختلفوا في تغليل ذلك. فذهب قوم إلى أن في دم المرأة قوة جاذبية تغلب على الخمر فتجذبه سفلا فلا يصعد إلى دماغها. وزعم بعض أن المرأة نوعاً من الخمر يسمى رضاباً وهو فيها قوي جداً. بحيث إذا خالطه الشراب أيّ شراب كان ذهب بقوته. والقطرة من هذا النوع تباع أحيانا ببدرة وأحيانا برأس إنسان أو بعنقه. ومن خواصها أن شعرها يكون أطول من شعر الرجل. وشعرها أبلغ من شعره. وشعورها أدق. ومشاعرتها أنفع. أما الأول فلم يختلف فيه اثنان. وأما الثاني فلأنها إذا قالت شعراً فإنما تقوله في رجل فهو يعجب الرجال ويبلغ منهم بالطبع. ويعجب النساء بالطبع والصنعة أيضا. ولعل ذلك مشكل آخر من المشاكل الأنثوي. فإني أرى هذا التعليل يصدق على الرجل فإنه يقول الشعر في امرأة. ويمكن أن يجاب بأن الشاعر المجيد أكثر شعره يكون في غير الغزل. وذلك كاختلاق مدح يفتريه على أمير. أو وصف مجلس أنس أو حرب ونحوه. وأما الثالث فلأنها إذا مرت مثلا بحانوت بزاز ورأت بزّاً شفافاً اترنجي اللون. فأول ما تلمحه تقول لك هذا يصلح لليّل. وربما كان فكرك وقتئذ في كتاب تطالعه أو في شراء حمار تركبه. وإذا رأت ديباجا اخضر قالت بيديها هذا يصلح للشتاء. أو كتانا ابيض فاخرا خصصته بالصيف. ثم إذا مرت بدكان جوهري أو إذا تهوّست أنت وأخذتها إليه قالت لك على الفور هذا الحجر الماس يصلح لأن يجعل فصاً في خاتم للبنصر. وهذه الياقوتة في خاتم للخنصر. وهذه الزمردة في خاتم للمتوسطة. وهذا الفيروزج في خاتم للسبابة. وهذه الفريدة في خاتم للإبهام. وهذه اللآلئ الكبيرة لقلادة في العنق. وهذه الصغيرة لسوار. وهذه السلاسل الذهب المرصعة توضع في العنق مع القلادة وتدلى إلى الخصر يعلق بها ساعة من ذهب. وهذه الشنوف للشتاء وتلك الخفيفة للصيف. وهذه المتوسطة للربيع والخريف. وفكرك لم يزل مشغولا بالحمار فإن قيل أن الكاف في فكرك خطاب مطلق لكل قارئ وربما تشرف كتابك هذا بمطالعة أمير أو غيره من السادة العظماء فلا يصح توجيه الخطاب إليه. لأن الأمير لا يفكر في الحمير. قلت قد ورد في سفر التكوين في الفصل السادس والثلاثين أن عانة من ولد سعير الحوري كان يرعى حمير أبيه زبيون وكان أميراً. بل قد علق عليه في بعض النسخ جلا دوك وهو اعظم من الأمير. ثم أنها أي المرأة لم تلبث حالة كونها ناظرة إلى تلك الجواهر أن تقسم أهل المصر جميعا إلى خمسة أقسام. القسم الأول في تهبئة الجواهر من التِجاب ما أذيب مرة من حجر الفضة. والمشخلبة خزر بيض تشاكل اللولوا أو الحليّ يتخذ من الليف والخرز وقد تسمى الجارية مشخلبة بما عليها من الخرز وليس على بنائها شيء. قلت وفي محفوظي أن ابن الأثير حكاها بتقديم الخاء على الشين دون هاء. والضبئ حبُّ اللولو. والقَصَب ما كان مستطيلاً من الجواهر..... والدر الرطب والزبرجد الرطب المرصع بالياقوت. واليَشَب حجر معروف. والبَهْت حجر معروف. والكبريت الياقوت الأحمر والذهب أو الجوهر معدنه خلف التُبّت بوادي النمل وفي ت ب ت تبَّت كسكر بلاد بالمشرق ينسبها إليها المسك الأذفر. والياقوت معروف. والدَهْنَج جوهر كالزمرد. والزِبْرج جوهر أو الزينة من وشي. والزبردج الزبرجد. والصليجة سبيكة الفضة المصفاة. والمرجان م وتعريفه في القاموس أنه صغار اللولوا. والخَرايد الخريد اللولوة لم تثقب. والفريد الشذر يفصل بين اللولو والذهب ج فرائد والجوهرة النفيسة والدر. والجُذاز حجارة الذهب. والبلَّور جوهر معروف. والتِبرْ الذهب والفضة أو فتاتهما قبل أن يصاغا فإذا صيغا فهما ذهب وفضة أو ما استخرج من المعدن قبل أن يصاغ ومكسر الزجاج وكل جوهر يستعمل من النحاس والصفر.

القسم الثاني في عمل الحلي

والسيراء الذهب الخالص. والشَذرْ قطع من الذهب تلقط من معدنه بلا إذابة أو خرز يفصل بها النظم أو هو اللولوا الصغار. والشَمَّور الماس. والعَّمرة الشذر من خرز يفصل بها النظم. والنضار الجوهر الخالص من التبر. والخرَز الجوهر وما ينظم. والفِلِزّ نحاس أبيض أو جواهر الأرض أو ما ينفيه الكير من كل ما يذاب منه منها. والهِبْرزِيّ الذهب الخالص. والترامِس الجُمان. والحُصُّ اللولوة ونحوها الخوضة. والخلاص ما أخلصته من الذهب والفضة. والدليص ما الذهب. والخضض خرز بيض صغار يلبسها الصغار. والثعثع اللولو والصدف. والجزع الخرز اليماني الصيني. والزيْلع ضرب من الودع. والينع ضرب من العقيق. والزُخرف الذهب وكمال حسن الشيء. والصريف الفضة الخاصة. والسفائق السفيقة الضريبة الدقيقة الطويلة من الذهب والفضة ونحوهما. والعقيق معروف. والخضْل اللولو والدر الصافي وخرز معروف. والحُوْمة البلور. والجُمان اللولو أو هنوات أشكال اللولو من فضة أو خرز بيض بماء الفضة. والمينا جوهر الزجاج. والمهو اللولو وحصى أبيض والمهاة البلورة. والنهاء الزجاج ويقصر أو القوارير وحجر أبيض أرخى من الرخام- وضرب من الخرز. القسم الثاني في عمل الحليّ من البؤبؤ رأس المكحلة. والأربة القلادة. والأرنب حلي. والمعْقب القرط ومثله الرعثة ج رعاث. والحِجّة خرزة أو لؤلؤة تعلق في الإذن. والدملج معروف. واليارج القلب أو السوار. والجانح الجانح من الدر نظم يعرّض أو كل ما جعلته في نظام. والداح سوار ذو قوى. والسنيح الدر أو خيطه قبل أن ينظم فيه والحلي. والوشاح كرسان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر وأديم عريض يرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها. والوضح حلي من الفضة. والفتخة خاتم كبير في اليد أو الرجل أو حلقة من فضة كالخاتم. والخلدة السوار والقرط. والزارد المخنقة. والعضاد الدملج كالمعضاد. والعقد معروف. والقلادة ما جعل في العنق. والمنجد حلي مكلل بالفصوص وهو من لؤلؤ وذهب أو قرنفل..يأخذ من العنق إلى أسفل الثديين يقع على موضع النجاد. والمسجور من اللؤلؤ المنظوم المسترسل. والسفيرة قلادة بعري من ذهب وفضة. والشعيرة هنة تصاغ من فضة أو حديد على شكل الشعيرة ألخ. والعِترة قلادة تعجن بالمسك والأفاويه. والعَمْر الشنف. والتقصار القلادة ج تقاصير. والكسبر المسك من العاج كالسوار. والقفاز -أو ضرب من الحلي لليدين والرجلين. والحِبس سوار من فضة يجعل في وسط القرام. والسلس - أو القرط من الحلي. والشمس ضرب من القلائد. والقداس شيء يعمل كالجمان من الفضة. والكبيس حلي مجوف محشو طيباً. والقلادة المكرسة وهي أن ينظم اللؤلؤ والخرز في خيط ثم يضمّا بفصول بخرز كبار. والنقرس شيء يتخذ على صنعة الورد تغرزه المرأة في رأسها. والخربصيص القرط والحبة من الحلي. والخرص حلقة الذهب والفضة أو حلقة القرط أو الحلقة الصغيرة من الحلي. والحوط خيط مفتول من لونين أسود وأحمر فيه خرزات وهلال من فضة تشده المرأة في وسطها لئلا تصيبها العين. والسمط قلادة أطول من المخنقة. والعلطة القلادة. والقرط الشنف أو المعلق في شحمة الإذن. واللط القلادة من حب الحنظل المصبُّغ. والأنواط المعاليق. والرصيعة حلية السيف المستديرة أو كل حلقة مستديرة في سيف أو سرج أو غيرهما. والشنف القرط الأعلى أو معلاق في قوف الإذن أو ما علق في أعلاها. والنطفة القرط واللؤلؤة. والوقف سوار من عاج. والخراق السوار الغليظ. والحِلْق خاتم من فضة بلا فص أيضاً خاتم الملك. والمخنقة القلادة وكذا المزنقة والمعنقة. والخوق حلقة القرط والشنق. والدسيق كل حلي من فضة بيضاء خالصة. والزُّنق كل رباط تحت الحنك. والسَّوذق السوار والقلب. والطارقيَّة قلادة. والطوق معروف. والقلقيّ ضرب من القلائد. والمسَك السورة والخلاخيل. والجديل الوشاج. والحبلة ضرب من الحلي. والحِجْل الخلخال. والمرسلة قلادة طويلة تقع على الصدر أو القلادة فيها الخرز.

القسم الثالث في عمل الطيب واتخاذ المشموم

والسدل السمط من الدر يطول إلى الصدر. والأشكال حلي من لؤلؤ أو فضة يشبه بعضه بعضاً يقرط به النساء الواحد شكل. والطِّمل القلادة كالطميل لأنها تطمل أي تلطخ بالطيب. والقبل شيء من عاج مستدير يتلألأ ويعلق في صدر المرأة. والقِرمل ما تشده المرأة في رأسها. والأكليل شب عصابة تزيّن بالجوهر. والمحال ضرب من الحلي. والنخل ضرب من الحلي. والتهاويل الألوان المختلفة وزينة التصاوير والنقوش ألخ. والبريم حبل للمرأة فيه لونان مزين بجوهر. والتوائم توائم اللؤلؤ ما تشابك منها. والتومة اللؤلؤة والقرط فيه حبة كبيرة. والخاتم معروف. والعصمة القلادة. والكرم القلادة ونوع من الصياغة في المخانق أو بنات كرم حلي كان يتخذ في الجاهلية. والأنظام كل خيط نظم خرزاً. والثكنة القلادة. والجمان سفيفة من أدم ينسج وفيها خرز من كل لون تتوشحه المرأة. والبُرة الخلخال. والريّ القلادة أو التي توضع في عنق الغلام. والونيّة العقد من الدر أو اللؤلؤ. إلى الخشل رؤوس الأسورة والخلاخيل. القسم الثالث في عمل الطيب واتخاذ المشموم من الأناب المسك أو عطر يضاهيه. والجلاب ماء الورد. والزرنب طيب أو شجر طيب الرائحة. والكركب نبات طيب الرائحة. والملاب عطر أو الزعفران. والشث نبت طيب الريح. واليلنجوج عود البخور. والرَّباحيّ جنس من الكافور. والمُرَنَّج أجود عود البخور. والرَيْحان نبت طيب الرائحة أو كل نبت كذلك. والشيح نبت طيب الرائحة. والصياح عطر أو غسل. والنَضُوح طيب. والسليخة عطر كأنه فشر منسلخ ودهن ثمر البان قبل أن يرتب. واللبِيْخة نافجة المسك. واللخْلَخلة طيب م. والسُّعْد طيب م. والرَّنْد شجر طيب الرائة والعود والآس. والزَّباد م ويسمى الزُهْم. والعَبْد نبات طيب الرائحة. والقِنْديد العنبر والكافور والمسك وطيب يعمل بالزعفران. والندّ طيب م. والحَنِيذ دهن والغسل والمطيب. والكاذي شجر لهورد يطيب به الدهن. والبهار نبت طيب الريح. والخطّار دهن يتخذ من الزيت بأقاويه الطيب. والجمُرْة الوَرْس وأشياء من الطيب. والذَريرة عطر. والزبْعر نبت طيب الرائحة. والإذخر حشيش طيب الريح. والساهرية عطر. والضيّمُران الريحان الفارسي. والمُطيَّر العود أو المُطرَّي منه. والظَّفار شيء من العطر كأنه ظفر مقتلف من أصله. والعَبير الزعفران أو أخلاط من الطيب. والعبْهر النرجس والياسمين ونبت آخر. والعطر الطيب. والعمَار الريحان يزيَّن به مجلس الشراب. والعنبر روث دابة بحرية أو نبع عين فيه. والغَرّاء نبت طيب أو هو الغُرَيْراء. والفاغرة طيب أو الكبابة. والقُطْر العود الذي يتبخر به. والكافور نبت طيب نوره كنور الأقحوان والطلع أو وعاؤه وطيب م يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين ألخ. والنِسْرين ورد م. والعجوز ضرب من الطيب. والبلسان شجر صغار كشجر الحنّاء لا ينبت إلا بعين شمس ظاهر القاهرة يتنافس في دهنها. والقلسان نبات طيب الرائحة. والقَنِس نبات طيب الرائحة ويسمى أيضاً الراسن. والهَبَس الخِيْريّ ويقال له المنثور والنمام. والمَرْدَقوش طيب تجعله المرأة في مشطها. والحُص الوَرْس والزعفران. والسَعيط البان ودهن الخردل. والقُسْط عود هندي وعربي. والضياع ضرب من الطيب. والميعة عطر كالمائعة. والنقوع صبغ فيه من أفواه الطيب. والعوف نبات طيب الرائحة. والخلاق ضرب من الطيب. والرحيق ضرب من الطيب. والبُنك طيب م. والسُّك طيب يتخذ من الرامك. والمسك المشموع أي المخلوط بالعنبر. والتتل ضرب من الطيب. والرعلة أكليل من ريحان وآس. والسنبل نبات طيب الرائحة. والقندول شجر بالشام لزهره دهن شريف. والمندل العود أو أجوده كالمندلي. والبشام شجر عطر الرائحة. والبهرمان العصفر والحناء. والثِومَة شجرة أطيب رائحة من الآس. والجيهُمان الزعفران وكذا الريهُقان. والخزامي خيريّ البر. والضُّرم شجر طيب الريح. والمكتومة دهن يجعل فيه الزعفران أو الكتم. واللطيمة المسك. والمنشم عطر شاق الدقّ أو قرون السنبل.

القسم الرابع في عمل الآنية والأدوات والمتاع والفرش

والنمّام نبت طيب. والمهضومة طيب يخلط بالمسك والبان. والأشنة عطر أبيض مما يلتف على شجر البلوط والصنوبر. والبان شجر لحب ثمره دهن طيب. والجفن شجر طيب الرائحة. والحنُّون الفاغية أو نور كل شجر. والرقون الحنِا والزعفران. والكثنة شيء يتخذ من آس وأغصان خلاف تبسط وينضد عليها الرياحين أصله كثنا أو هي نوردجة من القصب والأغصان الرطبة الوريقة تحزم ويجعل جوفها النور قلت ونحوها الكنثة. والميسوسن شيء تجعله النساء في الغسلة لرؤوسهن. والغالية طيب م. والفاعية النمامة وزهر الحناء والأفعاء الروائح الطيبة. والفاغية نور الحناء أو يغرس غصن الحناء مقلوباً فيثمر زهر أطيب من الحناء فلذلك الفاغية. والكباء عود البخور أو ضرب منه. والكاذي دهن ونبت طيب الرائحة. واللوّة العود يتبخر به. والندا شيء يتطيب به كالبخور. القسم الرابع في عمل الآنية والأدوات والمتاع والفرش من الغرَب جام من الفضة. والشفارج الطبق فيه الفيحات والسكرجات. والصراجية آنية للخمر. والمطافح المغارف. والبهار آناء كالأبريق. والطرجهارة شبه كاس يشرب فيه ونحوه الطرجهالة والفنجانة ويقال للفنجانة الصغيرة سوملة. والشوارف وعاء الخمر من خابية ونحوها. والأكواب والاباريق والقوارير والكؤوس والطاس والصحون والعتد والخروس والصيعان والدنان والصحاف والقصاع والزلح والقواري والحفان والعلاب والبواطي والمآكل والقعاب والنواجيذ والعساس والعسس والفدام والعسوف. والجهمة القدر الضخمة. والهيطلة القدر من صفر. والمرجل القدر من الحجارة والنحاس. والكفت القدر الصغيرة. والهلجاب القدر العظيمة وكذا البساط. والتأمورة الإبريق والحقة والثميمة المشدودة الرأس. والقعن الجفنة يعجن فيها. والجام م ونحوه الصاع. والمكوك طاس يشرب به. والعيزار ضرب من أقداح الزجاج. والسعوف الأقداح الكبار وأمتعة البيت وكل شيء حاد وبلغ من مملوك أو علق أو دار فهو سعف وبالتسكين السلعة. والورسيّ من أجود أقداح النضار. والزوراء إناء من فضة. والفاثور الطست أو الخوان من رخام أو فضة والناجود والباطية. والمهضومة الخوان من فضة. والديسق خوان من فضة. والقرقار إناء. والمثبنة كيس تضع فيه المرأة مرآتها واداتها. والعكم نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها. والقشوة قفة من خوص لعطر المرأة. والجؤنة سفط مغشى بجلد ظرف للطيب. والعتيدة الطبلة أو الحقة يكون فيها طيب الرجل والعروس وكذا الشريط. والدرج حفش النساء الواحدة بهاء. والصوان ما يصان فيه الثوب. والتخت وعاء تصان فيه الثياب ونحوه العيبة والمبناة. والأسطان آنية الصفر. والأبزن حوض يغتسل فيه وقد يتخذ من نحاس. والشجاب خشبات منصوبة توضع عليها الثياب. والغدن الغدان القضيب تعلق عليه الثياب. والقفدانة غلاف المكحلة وخريطة من أدم للعطروغيره. والحناجيد الحنجود قارورة للذريرة ووعاء كالسفط الصغيرة ونحوه الحنجور. والبَزّ الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها. والعقار متاع البيت ونضده الذي لايبتذل إلا في الأعياد. والثقل كل شيء نفيس مصون. والبتات الجهاز ومتاع البيت ونحوه المحاش والاثلة والشذب والزلزل والأهرة والرهاط والسفاطة ويقال لقماش البيت خاش ماش وقاش ماش وقر بشوش. والنجد ما ينجد به البيت من بسط وفرش. والنضد السرير ينضد عليه. والنضيدة الوسادة وما حشي من المتاع. والبورية الحصير المنسوج. والمور متكأ من أدم. والعَبقريّ ضرب من البسط. والرفرف ثياب تتخذ منه المحابس وتبسط- والفراش والوسادة والبسط. والزليّة البساط. والنَّمَط ضرب من البسط. والمِسْخيّة نوع من البسط. والارض بساط ضخم من صوف أو وبر. والنُّسُج السجادات. والزرابي النمارق والبسط أو كل ما أتكي عليه، الواحد زربيّ. والرّحال الطنافس الحيرية. والنمارق الوسادة والمثيرة والطنفسة. والدرنوك ضرب من البسط. والوراك ثوب يزين به المورك وهو الموضع الذي يجعل عليه الراكب رجله. والبراطل البرطلة المظلة الضيقة. والظلل الظلة الغاشية وشيء يستتر به من الحر والبرد.

القسم الخامس في عمل الثياب

والمماطر الممطر ثوب صوف يتوقى به من المطر كالممطر. والأزفان الزفن ظلة يتخذونها فوق سطوحهم تقيهم من حر البحر ونداه. والسُّرادقات السرادق الذي يمد فوق صحن البيت والبيت من الكرسف ولابد كذلك من اتخاذ النسيفة للحمام وهي حجارة سود ذات نخاريب يحك بها الرجل. ثم تزين تلك الدار السعيدة بالفسيفساء والسرنج. الفسيفساء ألوان من الخرز تركب في حيطان البيوت من داخل والسرنج شيء من الصنعة كالفسيفساء وبسرر مرملة أي مزينة بالجواهر ونحوها وبحجلات ومنصات وبأرائك وعروش وكراسي وطوارق من العاج "عظم الفيل". والساج شجر. والشيزي خشب أسود للقصاع أو هو الآبنوس أو الساسم أو خشب الجوز والسمر شجر معروف. والنضار خشب للأواني. والعيزار شجر. والضبُّار شجر البلوط. والساسم شجر اسود أو الأبنوس. والثوع شجر جيلي يسمو. والشوحط شجر تتخذ منه القسيّ أو ضرب من النبع. والضبر شجر جوز البر. والصومر شجر الباذورج. والصَّنار الدُلب. والسَّلام شجر. قيل لأعرابي السلام عليك قال الجثجات عليك قيل ما هذا جواب قال هما شجران مرّان وأنت جعلت عليّ واحداً فجعلت عليك الآخر. والكنهبل شجر عظام. والبقس شجر كالاس ورقا وحبا أو هو الشمشاذ. والنشم شجر للقسي. والضّال السدر البري وشجر آخر. والبقش شجر يقال له بالفارسية خوش ساي. والنبش شجر كالصنوبر ارزن من الآبنوس. والشحس شحر صلب. والميس شجر عظام. والوعس شجر يعمل منه البرابط والأعواد. والقطف شجر جبلي خشبه متين. ثم تزين بقوارير من البلور. والقطر ضرب من النحاس. والقلز النحاس الذي لا يعمل في الحديد. والفلز نحاس ابيض تجعل منه القدور المفرغة أو والبلنط كجعفر شيء كالرخام إلا أنه دونه في اللين. والبلق حجارة باليمن تضيء ما وراءها كالزجاج. والحكك حجر أبيض كالرخام. والنهاء حجر أبيض أرخى من الرخام. والمُهْل اسم يجمع معدنيات الجواهر كالفضة والحديد ونحوهما. والهيصم ضرب من الحجارة أملس. ثم تمام زينة هذا المكان الشريف وثاب محشو بالعشر والحريملة. الوثاب السرير والفراش. والعشر شجر يحشى في المخاد ويخرج من زهره وشعبه سكر. والحريملة شجرة تنشق جراوها عن ألين قطن ويحشى به مخاد الملوك غير أني ارتكبت هنا غلطا فاحشاً في تأخيري في ذكر الفراش وهو أول ما يخطر ببال المرأة عند دخولها بلداً وهنا تم أثاث الدار. وفكرك لم يزل مشغولا بالحمار. القسم الخامس في عمل الثياب الثُرقبيّة وهي ثياب بيض من كتان مصر. والجلباب القميص وثوب واسع للمرأة. والسَّكب ضرب من الثياب. والسَّلاب الثياب السود. والقصب ثياب ناعمة من كتان. واللّبيبة ثوب كالبقيرة. والنقبة ثوب كالإزار. والبظماج ما كان أحد طرفيه مخملاً أو وسطة مخمل وطرفاه منيَّران. والمعرّجة المخططة في التواء. والموثوجة ثياب رخوة الغزل والنسيج. والهبرج الموشى من الثياب. والمترحة المترح من الثياب ما صبغ صبغاً مشبعا. والوجيح الصفيق من الثياب. والخوخة ضرب من الثياب اخضر. والوليخ ثوب من كتان. والثفافيد ضرب من الثياب. والجماد ضرب من الثياب. والمعضدة المعضد ثوب له علم في موضع العضد. والفرند ثوب م. والمقرمدة ثوب مقرمد مطلي بشبه الزعفران. والمجسدة المصبوغة بالزعفران. والمقدية ثياب م. والهردية المصبوغة بعروق الهُرد. واللاذة ثوب حرير صيني. والبقطرية الثياب البيض الواسعة. والحصير ثوب مزخرف موسى إذا نشر أخذت القلوب مآخذه لحسنه. والخسروانية نوع من الثياب. والدَّثار ما فوق الشعار من الثياب. والسَّابرية الثياب الرقيقة الجيدة. والمسيرة المسير ثوب فيه خيوط. والصُّدرة ثوب م. والصَّدار ثوب رأسه كالمقنعة وأسفله يغشي الصدر. والعبقرية عبقر بلدة ثيابها في غاية الحسن. والمعجز ثوب تعتجر به المرأة وثوب يماني. والعشارية ثوب عشاريّ طوله عشرة أذرع. والعُقار ضرب من الثياب احمر. والقبطرية ثياب كتان بيض. والمرمر ضرب من تقطيع ثياب النساء. والمنيرة المنسوجة على نيرين. والباغزية ثياب من الخز أو كالحرير. والتوّزية منسوبة.

والممرعزة المرعزي الزغب الذي تحت شعر العنز. والمطرزّة المعلمة. والمفروزة ثوب مفروز له تطاريف. والقرمزية المصبوغة بالقرمز. والقهز ثياب من صوف احمر كالمرعزي وربما يخالطها الحرير. والتنسية تنيّس دتنسب إليه الثياب الفاخرة. والمدمقسة الدمقس الابريسم أو القزّ أو الديباج أو الكتان. والقَسيّة منسوبة إلى قسّ من أرض مصر. والكرباس ثوب من القطن الابيض. والملسلسة الموشّاة المخططة. والنرسيّة نرس ة بالعراق. والمورّسة المصبوغة بالورس. والأكياش الثوب الذي أعيد غزله مثل الخز والصوف. والماجشون الثياب المصبغة. والمقفصة المخططة كهيئة القفص. والمحرّضة المصبوغة بالإحْريض للعصفر. والعَرضي جنس من الثياب. والمِعرَّض ثوب تجلى في الجارية. والريطة كل مُلاءة غير ذات لفقين كلها نسج واحد وقطعة واحدة أو كل ثوب ليّن رقيق. والسجلاَّط ثياب كتان موشية وكأن وشيه خاتم. والسُّمْط ثوب من صوف وبالكسر الثوب ليست له بطانة طيلسان. والمقطعات القصار من الثياب- أو برود عليها وشي. والمردّعة التي فيها أثر طيب. والصَّديع ثوب يلبس تحت الدرع. والمضلعّة المسيرة المخططة وما جعل وشيها على هيئة الأضلاع. والنِصْع ثوب أبيض. والموشعة المعلمة. والشُرافّي ثياب بيض. والشَّفّ ويكسر الثوب الرقيق. والبُنْدقية ثياب كتان رفيعة. والمحقّقة المحكمة النسيج. والُخزْرانق الثياب البيض. والدّبيْقة دبيق د بمصر. والرتاق ثوبان يرتقبان بحواشيهما. والرزاقية ثياب كتان بيض. والمزبرقة المصبوغة بحمرة أو صفرة. والعلقة ثوب بلا كمين- أو الثوب النفيس. والِلفّاق ثوبان يلفق أحدهما بالآخر. والمحبّكة الموثقة المخططة. والمِجّول ثوب النساء. والخَمّلة الثوب المخمل كالكساء ونحوه كالخميل. والخال الثوب الناعم وبرد يمني. والدِرَقْل ثياب كالأرمنية. والمُمَرْجِل ثياب فيها صور المراحل. والمُمَرْجَل ضرب من ثياب الوشي "أورد صاحب القاموس التي بكسر الجيم في رج ل والتي بفتحها في مادة على حدتها. والمرملة المرقرقة. والسحّل ثوب أبيض من قطن ونحوه المسحل. والمسلسَلة ثوب مسلسل فيه وشي مخطط. والعقل الثوب الأحمر. والمفلفلة الموشاة كالفلفل. والقسطلانية ثياب منسوبة إلى عامل. والوصيلة ثوب مخطط يماني. والمهلهلة الرقيقة. والآمية منسوبة. والمُبرَم جنس من الثياب والثوب المفتول الغزل طاقين. والجهرمية ثياب منسوبة من نحو البسيط أو هي من الكتان. والمرسمة المخططة. والمرقمة المخططة والرقم ضرب من الوشي أو الخز أو البرود. والعَقْم المرط الأحمر أو كل ثوب أحمر. والقدم ثوب أحمر. والقِرام ثوب ملون من صوف رقم ونقوش أو ستر رقيق كالمِقْرم. وأبي قلمون ثوب رومي يتلون ألوانا. والملحم جنس من الثياب. والنِّيْم كل ليّن من عيش أو ثوب. والاخني الثوب المخطط. والدفني ثوب مخطط. والأرُجوان ثياب حمر. والسبنية ثياب من حرير فيها أمثال الأترج. والشتُّون اللينة من الثوب. والشاذكونة ثياب غلاط مضربة تعمل باليمن. والمُعرجنَة المصور فيها أشكال العرجون. والمعينة ما كان في وشيها ترابيع صغار كعيون الوحش. والمفننة ثوب مفنن فيه طرائق ليست من جنسه والمفوهة المصبوغة بالفوه "عبارة القاموس في فوه والفوه كسكر عروق رقاق طوال حمر يصبغ بها ألخ. وفي فوي الفوة كالقوة عروق يصبغ بها". والقُوهيّ ثياب بيض. والنهنه ثياب الرقيق النسج. والملهْلهة الملهله من ثياب كالمهلهل. والموجهة ما كان لها وجهان. والمحشأ كساء غليظ أو أبيض صغير يتزر به أو أزرار يشتمل به. والسبيجة كساء أسود. والخسيج كساء من صوف. والأضريح كساء أصفر والخز الأحمر. والمسبَّح الكساء القوي الشديد ونحوه المشبح. والسَّيْح الكساء المخطط كالمسيح. والبجاد كساء مخطط. والبُرجُد كساء غليظ. والجُودياء الكساء. والأغْثر ما كثر صوفه من الأكسية. والخميصة كساء أسود مربَّع له علمان. والمرط كساء منصوف أو خزج مروط. والشملة كساء دون القطينة. والطمل الكساء الأسود والثوب المشبع صبغا.

والماري كساء صغير له خطوط مرسلة. والشرعبيّ ضرب من البرود. والعصب ضرب من البرود. المكعب الموشى من البرود والأثواب والثوب المطوي الشديد الأدراج. والخلاج ضرب من البرود المخططة. والشيح برد يمني. والقُرْدح ضرب من البرود. والسعيدية ضرب من برود اليمن. والسنَد ضرب من البرود. والبقير برد يشق فيلبس بلا كمين كالبقرة. والحبرَ ضرب من برود اليمن مفردة حبرة كعنبة. والحبير البرد الموشى والثوب الجديد. والسيراء نوع من البرود فيه خطوط صفر أو يخالفه حرير. والمطير ضرب من البرود. والقِطر ضرب منها. والمشيز المخطط بحمرة. والمريَّش البرد الموشى. والفُوف ضرب من برود اليمن وبرد مفوَف رقيق أو فيه خطوط بيض. والنصيف الخمار ومن البرد ما له لونان. والبركة برد يمني. والمَرْجل برد يمني. والمرحَّل ما فيه تصاوير رحل. والتَّحَمة البرود المخططة بالصفرة. والأتحميّ برد معروف. والمسهم البرد المخطط. والقطيفة رداء مخمل والمُطرَف رداء من خز مربع له أعلام. والجنية رداء من خز. والجِيمْ الديباج. والسُّندس ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج. والأسْتَبرق الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق. والمشجر المشجر من الديباج ما كان فيه نقش كهيئة الشجر. والسَّبّ شقة رقيقة كالسبيبة. والطريدة شقة مستطيلة من الحرير. والسرق شقة الحرير الأبيض أو عامة. والبت الطيلسان من خز ونحوه. والسُّدُوس الطيلسان الأخضر. والطلس الطيلسان الأسود. والطاق الطيلسان أو الأخضر. والساج الطيلسان الأخضر والأسود. والصُتية الملحفة أو ثوب يمني. والشَوْذر الملحفة والأتْب. والدُّواج اللحاف الذي يلبس. والمشْمال ملحفة. واللِفاع الملحفة أو الكساء أو النطع أو الرداء وكل ما تتلفع به المرأة والمُرجَّل أزار خز فيه علم. والمُدارة الإزار الموشي. والحَقْو الإزار ومثله الخصار. والصداد ما اصطدمت به المرأة وهو الستر. والفُوَط ثياب تجلب من السند ومآزر مخططة. والدِّثار ما فوق الشعار من الثياب. والحُلَل واحدتها حلة وهي أزار ورداء وبرد أو غيره ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة. والسِّريال القميص أو الدرع أو كل ما لبس. والفُرْطَق لبس م. واليَلْمَق القباء معرب يلمه. والقرْقر لباس المرأة. والقُرْزح لباس كان لنسائهم. والمفضل المفضل والمفضله والفُضل الثوب الذي تتفضل فيه المرأة أي تتوشح. والحقاب شيء تعلق به المرأة الحُلي وتشده في وسطها كالحَقب. والنِّطاق شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها فترسل الأعلى على الأسفل إلى الأرض والأسفل ينجر على الأرض ألخ. والمِجَن الوشاح وقد تقدم في باب الحلي. والأتب برد يشق فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين والبقيرة ودرع المرأة. والجَوْب درع المرأة أي قميصها. والأصدة قميص يلبس تحت الثوب. والخَيْلع القميص بلا كمّ. والرادعة قميص قد لُمع بالزعفران أو بالطيب. والقُمُص السنبلانية أي السابغة الطول أو منسوبة إلى بلد بالروم. والشعار ما تحت الدثار من اللباس وهو يلي شعر الجسد ويفتح. والقِدْعة المجول وهي الدُرّاعة الصغيرة. والجيْد المدرعة الصغيرة. والغلالة شعار تحت الثوب كالغُلة. والهفاف الهفاف من القميص الرقيق الشفاف كالهفاف. والشليل الغلالة تلبس الدرع. والقَرْقل قميص للنساء أو ثوب لا كمّين له. والغِطاية ما تغطت به المرأة من حسو الثياب كغلالة ونحوها. والفَرْوة معروف. والسَبنْجُونة فروة من الثعالب. والشعْراء الفروة. والُستُقة فروة طويلة الكم. والخَيْعل الفرو أو ثوب غير مخيط الفرجين أو درع إلخ. والمِعْقَب الخمار للمرأة. والنَّقاب ما تنقب به المرأة. والخِمار النصيف وهو العمامة وكل ما غطى الرأس. والوصاوص البراقع الصغار. والمِقْنعة ما تقنع به المرأة رأسها والقناع اوسع منها. والعِصابة ما عُصب به والعمامة. والسِيْدارة الوقاية تحت المقنعة والعصابة. والعَمارة كل شيء على الرأس. والعَمَر منديل تغطي به الحرّة رأسها. والخنبعة مقنعة صغيرة للمرأة.

والبُخْنَق خرقة تتقنع بها الجارية فتشد طرفيها تحت حنكيها لتتقي الخمار من الدهن والدهن من الغبار والبرقع والبرنس الصغيران والصَّقاع البرقع- وخرقة تقي الخمار من الدهن كالصوقعة ونحوها الغفارة. والقُنْبع خرقة تخاط شبيهة بالبرنس والخنبعة أو شبهها. والقُنزعة التي تتخذها المرأة على رأسها كالقنذعة. والهُنْبُع شبه مقنعة للجواري وقد خيط مقدمها والقُرْزل الشيء تتخذه المرأة فوق رأسها كالقنزعة. والجُنة خرقة تلبسها المرأة تغطّي رأسها ما قَبَل ودبر غير وسطه وتغطي الوجه وجنبي الصدر وفيه عينان مجوبتان كالبرقع. والتسّاخين الخفاف وشيء كالطيالس. والجَراميق الجرموق الذي يلبس فوق الخف. والكوْث القَفْش الذي يلبس في الرجل أي الخف القصير. والران كالخف إلا أنه لا قدم له وهو اطول من الخف. والَجورب لفافة الرجل وجوربته البسته اياه. والقُفّاز شيء يعمل لليدين يحشى بقطن تلبسهما المرأة للبرد أو ضرب من الحليّ إلخ. وتمام هذا كله ثلثمائة وخمسة وستون حِبْساً ومثلها مقارم. الحِبس سوار من فضّة يجعل في وسط القِرام. والمقرمة محْبس الفراش ومثلها سراويل من الأرنبانيّ الخزّ الأدكن. والسّنا ضرب من الحرير. والأرْدن ضرب من الخز. والطارُوني ضرب منه والطران الخز. والقتَيِن الخز المطبوخ الأبيض. والبِرس القطن أو شبيه به أو قطن البرديّ. والشريع الكتان الجيد. والقَز الابريسم وهو الدمَقْس ويقال أيضاً الدقمس والمدقس.

وقد زل بي القلم أيضاً زلة ثانية فإن السراويل يجب تقديمها على جميع ما سواها ليطابق الذكر الفكر. ثم أنك إذا أخذتها إلى ساحات المدينة وأسواقها حيث تزدحم الناس فأول ما تلمح فرهداً غسّانياً غيسانيا تقول هذا يصلح لأن يكون زير نساء ولأن يركب الجياد ويتقلد السيف ويعتقل الرمح ويطعن به. أو غلاماً مترعرعاً قالت هذا يصلح لأن يربى في المدرسة الزيرية حتى ينبغ. أو كهلاً قالت وهذا جدير بأن يقعد في بيته ويتعاطى الغزل والنسيب ليجهّز ما يلزم لتلاميذ المدرسة منه. أو شيخاً همّاً هرماً قالت وهذا قمين بأن يكون مشيراً في الأمور التي تعسر على الأغرار من الخرّيجين فيكفيهم النصب في إيشائها. فإن لم يلف عنده الرأي السديد فليدرج في كفن ويرمس هذا وفكرك لم يزل مشغولا بالحمار أو بالا كاف. فأما وجه كون مشاعرتها أنفع فلأنه قد جرت عادة من شاخ من ذوي الأمر والنهي إنه إذا جفّ دمهم وضوى لحمهم حتى لم يعد التدثر بالثياب يدفئهم شاعروا واحدة من هؤلاء النواعم فاستغنوا بحرها عن حرارة الدثار والنار والأبازير والأحسن في ذلك أن تكون جارية عذراء. وقد اختلفوا في علة الحرارة ومأتاها. فبعضهم على أن نفسها من فيها هو الذي يدفئ المقرر. وأعترض بأن هذا النفس لا بدّ وأن يختلط بالشنب فيبرد. وغيرهم على أن منفذ الحرارة إنما هو من المسام التي ينبت فيها الشعر. فإن المرأة لما كانت مفتوحة المسام كان صعود الحرارة منها ابلغ. بخلاف الرجل فإن مسامه مسدودة بما له من الشعر. ورد بأن الأمرد مثل المرأة في كونه مفتوحها ولم يقل أحد بأن مشاعرته تدفئ. وذهب بعض إلى أن الحرارة إنما هي النفس من انفها. وقال قوم من المتهافتين على الجناس إنها من موضع آخر. قال في القاموس تكوّى الرجل بامرأته تدفّأ واصطلى بحر جسدها. قلت ومع حرص المؤلف على جميع الألفاظ الغريبة النادرة لم يذكر فعلاً يدل على اصطلاء المرأة بحرارة جسد الرجل. ولهذا أي لأجل أن جسم المرأة من الحرارة ما لا يوجد في جسم الرجل كان أخف ما يكون من الدثار يدفئها ولو في الصّر. والرجل إذ ذاك يُكهى ويقفقف ويقرعبّ ويتقرقف. ومثله غرابة أن أكلها يكون أقل من أكل الرجل ولحمها أكثر من لحمه. قال المتكلمون ووافقهم على ذلك الأطباء النطاسيّون. أن مما فضل الله سبحانه المرأة به أن جعل فيها قوة حج الخصم وهداية الضال إلى الدين القويم. وأوردوا على ذلك شاهداً ما جرى لذلك المعتزلي مع امرأته. وذلك أن بعض المشاهير من علماء المعتزلة الذين يزعمون أن أفعال العبد ليست مخلوقة لله كان يجادل أهل السنة ويورد لهم من الأدلة والبراهين على تأييد مذهبه ما يربكهم به. فانبرت له امرأة لبيبة سُنّية وقالت لقومها زوجوني به فأخصمه في ليلة واحدة أن شاء الله فبات معها تلك الليلة على الحادة. حتى إذا قضى لها ثم تنقل بعده وتطوع وظن أنه استحق الثواب وخلق بالاغتماض. قالت له وأين الرابع والخامس والعاشر ياشِرواض. فتجلد لآخر ثم قال قد نفذ ما في الوطاب. فلا ملام ولاعتاب. قالت أمثلك من يبدي هذا الاعتذار. وأنت تقول أن الأفعال غير مخلوقة للواحد القهار. قال قد نبهت من كان غافلاً. وهديت من كان ضالاً. أني عديت عن مذهبي القديم. وقد هداني الله إلى الصراط المستقيم. قلت ويعلم من كتب التاريخ أن المرأة لها أعظم مدخل في دخول النصرانية في بلاد الإفرنج. قال بعض الظرفاء من الأدباء أن المرأة إذا رامت أن تشتري حاجة أو تستقصي أحداً شيئاً لم يلزمها أن تنقد البائع أو القاضي مالاً. وإنما تنقده العين من العين. قال ولذلك جاء هذا الحرف بالمعنيين. بخلاف الرجل فإنه إذا أراد قضاء شيء أيا كان ولاسيما النشنشة فلا بد وأن يحل عقدته بنفاثات الدرهم أو الدينار. وإنها أيضاً إذا توحمت على شيء تحبه وهي حبلى ظهر ذلك الشيء المتوحم عليه في الولد. فينبغي للأب أن يتفقد ولده ليعلم أي شكل من الأشكال بدا في أجسامهم. وما أنكره منها فليمتلكه قال وان القدرة الخالقية قد أوجدت لها من النبات وغيره أشكالاً كثيرة تقر بها عينها وينشرح صدرها إذا نظرتها أو لمستها وليس للرجل شيء من هذه الخصائص.

رثاء حمار

وإن امرأة واحدة إذا كانت في مجلس قد اجتمع فيه عشرون رجلاً أمكن لها أن تهنَّدم كلهم أجمعين. فتتصبى هذا بلفظة. وذلك بلحظة. وذا بغمزة. وذاك بهجلة. وآخر بخزرة وغير بتحشيفة وآخر باسجادة. وغير بزفرة. وآخر بالتفاتة. وغيره بليّة جيد. وآخر بشمّة. وغيره بنزنزة. وآخر بعضّة على لسانها. وغيره باخراجه ونضنضته. وآخر بضم شفتيها وانفاصمهما. وغيره بعَرض عارضها. وآخر بتفيء شعرها. وغيره بابتسامة. وآخر بضحكة. وغيره يقهقهة. فيقوم الجميع عنها راضين. وابرع ما تكون المرأة ما إذا جلست بين زمرة من الفتيان يغازلونها ويداعبونها ويتملقونها. قال ومن خصائصها أيضاً إنها تعرف ما في قلوب الرجال. فلذلك تفْتنهم بوكوكتها وحركتها وتعمدهم وتصبيهم. وتتبلهم وتشجيهم. وتحسَّرهم وتبلبلهم. وتطربهم وتشغلهم. وتعبدهم وتهندهم وتتيّمهم وتهيّمهم. وتشوقهم وتروعهم. وتعوقهم وتلوعهم. وتؤرّقهم. وتيبيهم. وتشرقهم وتشبيهم وتخلبهم وتسحرهم. وتحربهم وتبهرهم. وتبيعهم وتشتريهم. وتجيعهم وتصديهم وتقلبهم وتفأدهم. وتراهم وتصدرهم. وتكبدهم وتطلحلهم. وتمعدهم وتفخذهم. وتبطنهم وتستههم. فأما ما قبل في خصائص فرنستها من أنها تحسن أعمال البيت كالخياطة والتطريز وغيره فمذكور في كثير من الكتب فعليك بمراجعتها. انتهى الكلام. الآن على المرأة بغير مراء على أن عندي منه ما عند الفراء من حتى. قال بعض معاتيه العلماء المرأة كلها شرّ. وشر ما فيها أنه لا بد منها. قلت وهو كحلم جحي نصفه صدق ونصفه كذب. فالصادق منه قوله إنه لا بد منها. رثاء حمار أهلاً بك يا فارياق أين أنت وفيم كنت هذه المدة الطويلة -في نظم الأبيات السرية- ولكن هذا معلوم عندي ولم أسألك إلاّ عن أمر حديث- قد فجعت بالأمس بحمار لي وسألت عنه الجيران فلم يقل أحد منهم أنه سرقه. فاكتريت منادياً بدرهم فجعل ينادي في الأسواق ألا قد فرّ اليوم حمار الفارياق وخلى قيده في الوتد فهل منكم من رآه. فلم يجبه أحد إلاّ بقوله ما أكثر الحمير الآبقة اليوم من بيوت مواليها. فلما عاد إليّ بهذه البشرى بلغ مني الغيظ كل مبلغ. وآليت أن لا انظر بعدها في وجه حمار سواء كان حقيقيا أو مجازياً. فقد قال بعض أئمة اللغة أن من خصائص لغتنا هذه الشريفة دون غيرها أن يقال للرجل الجاهل حمار. ثم أخذت ارثيه بهذه الأبيات وهي: راح حمار وخلى القيود في الوتد ... وما رأى أثره في الناس من أحد فهل أنا راكب من بعده وتداً ... أم مجزئي قيده لو كان من مسد أم كيف أدخل داراً كان لي سكناً ... فيها وأنزل عندي مُنْزل الولد سرهدته بيدي كالطفل من شفق ... كالطفل من شفق سرهدته بيدي وجثته بشعير لا يخالطه ... ماس ولا عسجد خوفاً من الدرد وكان يوقظني منه النهاق إذا ... استثقلت نوماً بصوت مطرب غَرد كم حاد بي عن مضيق حين أبصر من ... حول الجمال تبلّ الأرض بالزبد وسار بي في طريق بلّ جانبها ... أهل الجمال بماء الورد وهوندي وكم جرى فأرها إذ لاح عن بعد ... زفاف خود إليها بالغ الأمد وإذ تبين نعشا للجنازة لم ... يمرر به مع اليم النخس في الكتد ما ضل يوما عن استقراء معلفه ... أكان في روضة غنّاء أم جَرَد وما شكا قط من وخز ولا ضعف رج ... لاه عن جوب وعَث طال أو جدد شلت يدا من به ولىّ وغادرني ... امشي وانشب في أوحال ذا البلد أعالم أنني من بعده جزع ... وإن فرقته نار على كبدي وأن صوت المنادي اليوم يزعق أن ... البس إكافك في جنح الدجى وعُد لا يغررنك رغد أنت واجده ... عند الحرامي خصمي فيك من حسد قائما ذا لحين أنت تعلمه ... ما دام شهرا على طرف ولا عَتَد يفديك كل حمار ندّ من بطر ... أوضحّ من لغب أو خار من جهد أو حار من شبق قلاّب جحفلة ... كرّاف بول قديم جفّ كالقدد مصنبع الرأس ممشوق القوائم لم ... يحرن إذا سُمته خَسْفا ولم يجد ألية إنه بالطرق أعْرف من ... مولاه أن لم يَعُقه القيد ذو العقد يا ليت لي خصلة من ذيله أثراً ... أرنو إليها كما يرني إلى الخرد

قالت فقلت له قد ضاع شعرك في الحمار العادي، كما ضاع الدرهم في المنادي. قال أما الدرهم فقد ضاع حقاً وأما الحمار فلا. قلت كيف ذلك والدار منه بلقع. قال من عادتي إني إذا فقدت شيئا وذكرته في الشعر خيّل لي أني عُوّضت عنه. فإن لم اذكره بقيت متحسراً على فقده. قلت أو يقوم النثر مقام النظم قال ربما يقوم عند بعض الناس. فقد بلغني أن كثيرا من المؤلفين كانوا يحاولون إدراك أوطار حرمهم منها قلة ذات اليد فألفوا فيها كتبا واستغنوا بها عنها. قلت من قال ذلك؟ قال هم قائلوه. قلت هذا محض كذب فإني الفّت في النساء كذا وكذا رسالة وما خطر ببالي قط إني عُوّضت عن واحدة ممن وصفت. قال ولم الفّتها إذاً. قلت لم يكن لي من شغل ولا حركة، ووجدت الزمان عليّ ولا سيما الليالي من دون مباشرة شيء ما فلفقت ما كان يخطر ببالي. قال وهلاّ تفرح الآن بتأليفك إذا قرأته أو إذا سمعت أن الناس يقرءونه. قلت بل اضحك من سخف عقلي وقتئذ. فإني قد عرّضت عرضي لأسن القادحين فضلاً عن كوني أضعت أوقاتي عبثاً فيما لم يجدني نفعاً. وقد بلغني أن كثيراً من المتزوجين ساءهم ما قلته في النساء وذكر مكايدهن فاستظهروا عليّ بجماعة من العلماء عابوا عليّ تبويب كتبي وخطّأوني في عبارتها. وكنت أيضا حكيت كلاما عن بعض النساء بلفظه فقالوا لا ينبغي أن يحكي الكلام بلفظه في الكتب وغير ذلك مما ندّمني كثيرا. قال قد سمعت أن الناس لا يزالون يعادون المؤلف حال حياته. فإذا مات حرصوا على كلمة يأثرونها عنه كما قال الشاعر. ترى الفتى ينكر فضل الفتى ... ما دام حيّاً فإذا ما ذهب لجّ به الحرص على نكتة ... يكتبها عنه بماء الذهب قلت وما نفع هذا الحرص لمن مات. قال لا نفع منه غير إني أرى أن في النظم للذة عظيمة. ولا بدّ وأن يكون النثر أيضاً مثله فإنهما كليهما يخرجان من مخرج واحد أفلا تقول بصحة ذلك. قلت إني أقول باللذة في التأليف من جهة أن المؤلف يعرف شيئا جهله غيره. ولا شك أن في معرفة الحقائق لذة. غير أنه يقابلها من الألم ما يرجحها. وذلك أن المؤلف إذا عرفت مثلاً حقيقة وأراد أن يعرّف غيره إياها وجد اكثر الناس قد صُّموا عن سماعها. ومثل ذلك مثل طبيب نصوح رأى أهل بلدة يستحمون بالماء البارد في حال كونهم محمومين. فنصح لهم أن لا يفعلوا ذلك فأبوا وقالوا أن هذه البرودة تزيل الحرارة. فهو من جهة أنه عارف بالحقيقة مسرور. ومن جهة إنه يرى غيره في ضلال عنها محزون. وسروره لنفسه لا يوازن حزنه على غيره. ألا ترى أن أهل العلم كلهم ضعاف ضاوون قليلو الكلام والنوم والأكل والضحك. وأن الجهال سمان تارّون أصحاء كثيرو الأكل والنوم وغيره مما جعل لتقويم الطبيعة. قال فما بال الأطباء سمان أيضا وهم بمنزلة العلماء في كونهم يعلمون من المنافع ما يجهله غيرهم. قلت أن الكبيب لا يرى الناس حين يأكلون ويشربون ويباعلون. وإنما يراهم حين يمرضون فلا تحزنه أفعالهم. فأما العالم فإنه في كل وقت ومكان يرى من العامة ما يدل على ضلالهم وجهلهم. فلا يمكنه والحالة هذه إلا أن يتأسف على ما هم فيه من الغباوة. والغفلة. قال أفتقولون إذا بالجهل. قلت هنيئاً لمن رضي به. قال وما قولك في الشعر. قلت ان كان هو لمصلحة أي لشيء يعود إلى القيام بأودك فنعم هو. وإن يكن عن مجرد هوس وميل إلى التجنيس والترصيع أيان رأيت امرأة جميلة أو وردة روضة كما هو داب اكثر الشعراء يتكلفون للنظم في كل ما لاح لهم أو كرثائك الحمار الآن فتركه أولى. قال ولكن احسن الشعر ما جاء عن هوس أي عن السليقة لا بالتكليف. فإني حين أمدح السريّ أجد في ضم لفظة إلى أخرى ما يجده المعُاني لضم نقيضين مختلفين. وليس كذلك ما نظمته في الحمار. فإني نظمت فيه هذه المرثية في ساعة من الزمن. قلت لكن الناس لا ينظرون إلاّ الظاهر. فقصيدتك في الحمار يسمونها حمارية. وأبياتك في السري سرية.

ألوان مختلفة من المرض

قال أن كان الأمر كما ذكرت فلم رغبت عن تأليف ولكن لا في النساء فإن ذلك أمر مستفيض. قلت إما أولاً فلان المؤلف يوقع نفسه في كلاليب ألسنة الناس فيمزقون عرضه وجلده كما ذكرت لك آنفاً. والثاني فإن حقيقة اسم المؤلف غير محمود. فهو عند من يعلم حقيقة معناه بمعنى الملفق واكثر الناس يضحكون من هذا الحرف. فيحسبون أنه من التأليف بين شخصين. وإنما يقولون لمن تعاطى ذلك شيخ. وهو أيضاً مكروه عند بعض الناس وخصوصاً عند النساء. وأحسن الألقاب هنا فيما أرى عند النصارى قسيس وعند المسلمين بيك. أما القسيسين فلأن كل الناس تلثم يده وتتبرك بذلك. وأن المرأة من القبط لتغسل رجلي القسيس بيديها بماء الزهر ثم توعي ماءهما في زجاجة. وإنه متى جاع حمل أمعاءه إلى دار أحد من معارفه فاستقبلته زوجته بالبشاشة والإكرام فزعبها أي زعب. وإذا شاء أن يبقي في بيته لعارض من العوارض بعث غلامه بعلامة إلى أحد البيوت فجاءه منها بغداء ينظم فيه شعراء عصرنا قصائد. فأما البيك فإنه وأن يكن مقامه بين الناس كريماً إلا إنه لا يمكنه أن يبلغ من البيوت ما يبلغه القسيس. إذ لا يتأتى له أن يمشي وحده. فلا بد وأن يمشي معه اثنان عن اليمين والشمال وهما وأن اظهرا له الخضوع والاحترام ففي قلوبهما منه حزازات تبعثهما على مراقبته والتعنت عليه اللهم إلا إذا تزيّا بزي خادم له وقحٍ فظاهر اللباس يجبئ عنه العين. قال هيهات أن أصير قسيساً. هيهات أن أصير بيكاً. أما حرفة القسيس فإنها لا تصلح لي لأني لا أحب الركاكة. وأما صفة البيك فإني لا أصلح لها فإن القدرة الأزلية لم ترتض لي منذ الأزل بالبوكية للبيكية. وما بقي أمامي إلا الشيخية. قد توكلت على الله قلت إني مفارقك على أن تخبرني بما سيحدث لك في شيخيتك. قال سأفعل ذلك أن شاء الله. ألوان مختلفة من المرض ثم لازم الفارياق نظم الأبيات وهو حريص على الاتسام بسمة الشيخ فعنّ له أن يقرأ النحو على بعض المشايخ لما إنه رأى ان القدر الذي كان تعلمه منه في بلاده لا يكفي لممدح السري. وفي ذلك الشهر الذي نوى فيه القراءة أصيب برمد أليم. فلما أفاق شرع في العلم فقرأ على الشيخ مصطفى كتباً صغيرة في النحو والصرف. ثم اشتد به داء الديدان الذي سببه فيما قيل أكل اللحم. نيّاً. وتلك عادة مشهورة عند أهل الشام. فكان يتمعص منه وقت القراءة والشيخ يظن أن ذلك من اختلاف المسائل وكثرة التعليل حتى قال له مرة سبحان الله ما أحد قرأ عليّ هذا الفن إلا ويتمعص. فقال له ليس التمعص كله يا سيدي الشيخ من زيد وعمرو. فإن لجماعة الديدان أيضاً مدخلاً. فإني لا آكل شيئاً إلا وسبقوا معدتي إليه. قال لا بأس عليك عسى أن يخف عنك ببركة العلم. واتفق للفارياق وقتئذ أن سأله أحد معارفه أن يقرأ على الشيخ المذكور ذلك الكتاب الذي تقرأه النصارى في الجبل. وهو كتاب بحث المطالب. فلما ختمه التمس من الشيخ أن يكتب له إجازة إقرائه في بلاده. فكتب له إجازة وعرضها على الفارياق. فحين تصفحها رأى فيها خطأ في اللغة والإعراب. فاستأذن من شيخه أن يوقفه على الغلط فلما وقف عليه قال سأكتب له غداً أخرى. ثم كتب له إجازة غيرها فلما أمعن الفارياق فيها النظر إذا بها كالأولى. فنبه شيخه على ما فيها. فقال له اكتب له أنت عني ما شئت فكتب له ما اعجب به على أن الشيخ كان مضطلعا بفن النحو غاية ما يكون. فكان يقضي ساعة تامة في شرح جملة غير تامة. إلا لم يكن يزاول الإنشاء والتأليف فكان علمه كله في صدره وعلى لسانه ولا يكاد يخرج منه إلى القلم شيء.

دائرة هذا الكون ومركز هذا الكتاب

ثم بعد قراءة النحو على النسق المذكور راجع الفارياق وجع العينين. فلما أفاق رأى أن يقرأ شرح التلخيص في المعاني. فشرع فيه مع الشيخ احمد. فلم يسرْ فيه قليلا حتى أصابته الحكة ولم يكن قد عرفها في مبادئها فلهذا استمر على القراءة. حتى إذا كان الشيخ آخذ مرة في شرح مسألة معضلة ثارت الحكة في بدن الفارياق فجعل يحك بكلتا يديه. فألتفت إليه الشيخ فرآه منهمكاً في الحك فقال. له ما بالك تحك وأنت على ما يظهر لي غير منتبه لقيل وأجيب هل نحن الآن في محاكمة الألفاظ أو في محاكمة الأعضاء. قال لا تؤاخذني يا سيدي فإني أرى لذة الحك مانعة لي من التنبه لغيره. قال أوبك الحك قال لعلها هي فنظر الشيخ إلى يديه فقال هي والله فينبغي أن تفتصر في بيتك وتطلي جسمك بخراء الكلاب فليس لها من علاج سواه. فلزم الفارياق بيته وجعل يطلي بدنه كل يوم بالخراء المشار إليه ويقعد في الشمس ساعات حتى لقي من ذلك عذاب الهون. ثم لما أفاق رجع إلى القراءة وبعد أن ختم الكتاب عاودته ضريبة الرمد ثم نقر في رأسه أن يفرأ شرح السلم للأخضري في المنطق فشرع في قراءته على الشيخ محمود فأصابته الهيضة وهي الداء المسمى في مصر بالهواء الأصفر فبقي ثلاثة أيام لا يعي ولا يعقل من الدنيا شيئاً ولا يقدر على النطق. سوى أنه سمعه خادمه مرة يهذي ويقول كلية. موجبة كبرى. فظن أنه يستعظم مصيبته فيقول أنها كبرى. ولم يكن أحد أصيب بهذا الداء في مصر. فلما مضت ثلاثون يوماً أنتشر في البلد وعمّ بلاوه والعياذ بالله فكان يموت به كل يوم ألوف. ووقتئذ عرف الفارياق أنه كان المقدم في هذه البلية وغيره التالي كما تقول المناطقة. وأن الديدان التي كان يقاسي منها هي التي عجلت له بهذا الداء فجعل هوبها. فجعل أي الفارياق يركب حماره ويطوف في الأسواق وكأنه آمن من المقدور. "حاشية لم يكن هذا الحمار ذلك الذي أستحق الرثاء. والتأبين بل كان ممن يحق له التفريظ. فسار إلى قرية في الريف ومعه خادمه وخادمته. فعلم به بعض ولاة البلاد فأستدعى به وبالخادم والخادمة. وقال له لبيب هل هذا وقت الموت أو وقت الإيلاد حتى جئت بهذه الجارية هنا. قال أنا مدّاح السريّ وقد أتيت لأسرح ناظري في نظرة الريف فأجيد مدحه بعد موت من يموت. فقد ضقت بالمدينة ذرعاً وخشيت على قريحتي العقم. قال ما هذه وأشار إلى الخادمة. قال هي أخت هذا يعني الخادم. قال وما هذا. قال خوليّ هذا يعني الحمار. فألتفت الأمير إلى الخادم فرأى عليه طلاوة. فقال له من حيث أنك شاعر السريّ أو شعروره فلا تثريب عليك. وإنما ينبغي أن تترك الخادم هنا فأنه يصلح لخدمتي. قال لك على الإمرة فخذه فاستبد به الأمير تلك الليلة وسأله عن الفارياق ملحاً. فقال له الخادم والله يا سيدي إنه رجل طيب غير إني أظن أنه أعجمي فإني لا أكاد أفهمه حين يتكلم بلغتنا. فلما أصبح الصباح تأهب الفارياق للرجوع فلم يجد الحمار. فظن أنه لحق الأول. فجعل يبحث عنه فوجده قد خرج مع حمار آخر من حمر الأمير إلى سهل وهو تحته يزقع وينخر. فلما أن رآه على حاله المفعولية غلبه الضحك فقال قد ورد الحديث أن الناس على دين ملوكهم. إلا أنه لم يقل أحد قط أن الحمير على مذهب أصحابها. ولكن بالعير ولا بالمعير. ثم رجع إلى الدار فوجد خادمه وخادمته ينتظرانه. وقال له الخادم قد سرحني الأمير فأنه لم يرني أهلاً لخدمته إلا ليلة واحدة وها أنا الآن حر. ثم أن الفارياق بعد أن هنا الأمير ومرّأه رجع إلى مصر وكان البلاء قد خف. فسأل عن شيخه المنطقي فقيل له أنه حي لم يقض من القضايا فرجع إليه وأتمَّ ما كان أبتدأ به فلما بلغ آخر درجة من المسلم عاودته ضريبة الرمد فلزم بيته. فلما أفاق رأى أن يتعلم شيئاً من الفقه وعلم الكلام. فبدأ بالكنز وبالرسالة السنوسية فمرض- فرآه بعض معارفه من الفرنساوية فسأله عن سبب ضعفه فأخبر الخبر. فقال له أنا أشفيك منه بأذن الله ولكن على شرط أن تعلم أبني العربية. فقال حباً وكرامة فشرع مذ ذلك الوقت في تعليمه وفي تعاطي الدواء من عند أبيه. ولكن لا بدّ لتفصيل ذلك من فصل على حدته. دائرة هذا الكون ومركز هذا الكتاب

كان هذا الرجل طبيباً مشهوراً بمصر. ولكن شهرته في دائه أكثر منها في دوائه. وذلك أنه كان قد تزوج جارية تارّة على كبر سنّه فأولدها بنتاً وصبياّ. ثم عجز عن أداء حقها فجعل دأبه الملاطفة لها والتملق. وتلك عادة الرجل مع المرأة من أنه كلما قصر أعتابها وإرضائها في الحقوق الزوجية زاد حرصه عليها وكلفه بها وتردّ به لها. توهم أن هذا يسد عند المرأة مسد ذلك. وكذا حالته معها إذا كان يخونها ويرأم أخرى. كما أن دأب المرأة أن تزيد هشهشتها وعروبيتها لزوجها بزيادة إشباعه إياها وأطفاف الكيل لها. أو تملقها له إذا كانت تخونه. وبناء على ذلك قال الطبيب لزوجته يوماً من الأيام. يا هذي أنني أرى أن قد صدئ مفتاحي عن قفلك. وأن سنك وترارتك تقتضيان أن تتخذي لك آلة رصاعية لتتلهى بها حتى يحين حيني فتتزوجني بآخر. وإلا فإني أخاف أن تتركيني وتطيري من عندي كما يطير الحمام. وقد يهون علي أن أخسر منك شيئاً واحداً ولا أخسرك بجملتك. فإنك أم ولدي ومحل سرِّي من كبدي، فلا أطيق فراقك. فاختاري لنفسك من شئت آتك به بقرنيه. فضحكت المرأة عند ذلك. ثم فال ومن حيث أني معروف في هذا البلد بأني طبيب فإذا رأى الجيران رجلاً فلا يكون عليك شبهة. فضحكت المرأة أيضاً لقوله رجالاً. قال فإن الناس يقرعون باب الطبيب ولو في نصف الليل وهنا ضحكت أيضاً. ثم تمادى في الكلام معها إلى أن قال ولا تظني أني أنا وحدي تفردت بهذه العادة. فأن أمثالي من أهل بلادي يفعلون كذلك وهنا قهقهت. فلما فرغ من بقية خطبته على هذا النسق ظنت زوجته أولاً أنه قصد بذلك أن يستطلع سرّها ويتصيدها بزلة. فبكت من شدة الغيظ وقالت له أزعمتني بغيّا حتى تقابلني بمثل هذا الكلام وتسيء بي الظن. فال حاشا لله من ذلك. وإنما تكلمت معك بمقتضى الطبع فتدبري قولي بعد حين وردِّي علي الجواب. فانصرفت المرأة من حضرته وهي واجمة مرتابة. ثم مضت عليهما أيام غير قليلة والرجل لا يهارش ولا يعاظل. ولا يلاعب ولا يباعل. فقلقت جداً لهذه الحال. وضاق صدرها عن صبر الاعتزال. وأخذت تفكر فيما قال زوجها. فتبعلت له من الأيام وتبرجت وتعطرت وقصدت غرفته وهي تقول في نفسها. اليوم يكون برزخ الحالتين، وفيصل الحدّين. فإن لم تكن منه مباعلة ذكرته بما قال. فتلقاها بالبشر والبشاشة وأجلسها بجانبه وعرف أنها كرعت. إذ رأى قد علت عينيها خمرة وهما ترارئان وفي صوتها تهدّج أي رعشة واضطراب. فلما استقرت بادرها بالكلام بأن قال هل تبصّرت فيما قلته لك منذ أيام. قالت نعم ولكن أما عندك فضلة تغنيني عن هذا الأمر. قال ما عندي والله من وشل ولا فضلة. ولا ثمد ولا ثملة. ولم يبق لي أمل لا صلاح شأني في ناعوظ ما لا في لحم السقنقور ولا في شحم الورلدلكا ولا في الزنجبيل ولا الفلفل ولا التامول ولا القاقلة ولا الراسن ولا الفوفل ولا القرنفل ولا السنبل ولا المصطكي ولا الجوزبّوا ولا الهال ولا الرازياخ ولا في عاقر قرحا ولا في حب الصنوبر ولا الحمص ولا الكابلي ولا البليلج ولا دارفلفل ولا السمسم ولا الخولنجان ولا البسباسة ولا دهن البلسان ولاخصي الثعلب ولا في بيض العصافير ولا فيدهن السوسن ولا في القلقاس ولا في اصل النرجس منقوعا في الحليب ليلتين ولا في الكرفس مدقوقا بزره بالسكر والسمن ولا في لبس الثوب المورَّس ولا في أكل اصل اللوف ولا في الضجع معصورا ماؤه في اللبن الرائب ولا في البورق مدوفا بالعسل أو في دهن الزنبق ولا في البندق الهندي ولا في الهمقاق مقلوا ولا في علك البطم والينبوت ولا في المسك مدوفا بدهن الخيري ولا في البهمن ولا في الجزر ولا في الهليون ولا في الاملج ولا في البسفار ذانج ولا في اخضر الباقلي بالزنجبيل ولا في القلقل مدقوقا بالسمسم معجونا بالعسل ولا في صمغ الكندلي ولا في المُقل ولا في ثمر البطم ولا في التحير بخفيف لحم الرخم مخلوطا بخردل سبع مرات ولا في حب الزّلم ولا في لب القرطم ولا في معك العنم ولا في الموز ولا في مسح دماغ الخفاش بالأخمصين ولا في لحم الحمام ولا في قرفة القرنفل وإلا لما ضننت عليك بشيء لما تعلمين من فرط محبتي لك.

معجزات وكرامات

فقالت له إذا كان الأمر يا سيدي كما ذكرت فإني اختار قسيسا. قال أي وسواس وسوس إليك هذا الاختيار الذي ليس من الخير في شيء قالت أما أولا فلأن الناس لا يسيئون به الظن إذا رأوه داخلاً إليّ كل يوم. والثاني انه يقال ان مادّة القسيس متوفرة فيه. قال قد غويت ومع ذلك فإني أخشى منه على ولديّ فإنه ربما يغريهما بخلافي حالة كوني مخالفا له في معتقده فالأولى أن تختاري آخر. قالت أنت طبيب تعرف الصحيح من العليل والقوي من الضعيف فاختر لي ما تشاء فإني أرضى بكل ما ترضى به أنت. قال بارك الله فيك. ثم قبّلها من فرحه ووعدها بإنجاز عدته في اليوم القابل. وما كاد يسفر الفجر إلا وهو فوق حماره يقصد بعض أصحابه. فلما اجتمع به قال له أن لي عندك حاجة جئت التمسها منك. قال قل لي ما بدا لك. قال علي شرط أن لا تخيّبني. قال سأبذل مجهودي كله أن شاء الله في قضائها. فأخذ يده حٍ توثيقا للعهد ثم قال له أني أريد أن تكون خليفتي في زوجتي. فقال له الرجل هل بدا لك سفر عن مصر وأن تترك زوجتك هنا قال لا وإنما تكون خلافتك عني في حضوري. فاستاء الرجل وقال أو خامرك ريب في صداقتي لك حتى أضمرت استطلاع سرّي. وخفي أمري. فعند ذلك صرَّح له بالقضية وألح في القدوم معه. ولما قدما انعقد البيع بحضرة كلّ من الزوج والزوجة وتم التراضي. وصار الرجل مذ ذلك الوقت يتردد على دار الخلافة وبقي ذلك مدة. ثم أن الزوجة لما ملتّه كما هي عادة النساء وظهر له ذلك من قلة احتفالها به مرة ومن اعتذارها إليه أخرى. جرى هو أيضاً على عادة الرجال من أنه أفشى سرّها لصاحب له. فجرى هذا أيضا على جدد أمثاله وجعل يتودد إليها وقام عنده مقام الأول. ثم ملته فأفشى سرها، ثم جاءها آخر فقبلته. ثم آخر وآخر حتى صاروا جماعة عظيمة. ثم تراجع إليها أحبّاؤها الأولون وانهمكت في التبديل والتغيير حتى صارت دار الطبيب كالمشرعة. ولم تكن هذه القضية قد شهرت في مبادئها عند الجيران إذ كانوا يظنون القوم يأتون ليتداووا من علل بهم. ولكنها علمت بعد ذلك. وكان سببه أن الطبيب اتخذ له دارا أخرى خارج البلد ليصيف فيها وترك امرأته في الدار الأولى والزائرون على ما كانوا عليه من الورود والصدور فتنبه ح الناس لذلك. وفي هذا الوقت أي ورود الخلق إلى هذا المغنم البارد كان الفارياق المسكين يتردد على منزل الطبيب ليعلم ابنه ويتداوى. فظن الناس أنه من جملة الزائرين. وتقلدوا إثمه في أعناقهم إلى يوم الدين. فإنه كان معطلا وفعله ملغى عن العمل. وبقي على تلك الحالة مدة من دون أن يرى فائدة من العلاج فكأن الطبيب أراد أن تطول المدة عليه إلى غاية تعليم ابنه. فمن ثم اقتصر الفارياق عن التردد إليه وتداوى عند غيره وشفي. وفي خلال ذلك سافر إلى الإسكندرية لمصلحة ما. فاجتمع فيها بواحد من الخرجيين الصالحين. فسأله هذا أن يرجع معه إلى مصر ليعلم عنده بعض تلاميذ فأجابه إلى ذلك. وإنما رغب فيه لكون الخرجيين لا يؤخرون اجرة من يعمل لهم. وفي أثناء هذا عنّ له أن يقرأ علم العروض. فأخذ في قراءة شرح الكافي على الشيخ محمد. فما كاد يختمه حتى فشا الطاعون بمصر فاشتد بالمولى الخرجي الحرص على حياته إبقاء للمصلحة الخرجية كما زعم. فمن ثم رأى أن يتباعد عن وهدة الفخ قليلاً لكيلا ينطبق عليه فيفجع الخرجيون أمثاله بفقده سببا في فقد غيره. إذ قد تقرر عندهم ان شدة الحزن تميت. فجعل الفارياق مع الخريجين الخِرّيجيين ومع رجل لبيب ذي خبرة بالعلاج المانع من عدوى الطاعون. ثم استصحب ما لزم له وفرّ إلى الصعيد، وتفصيل ذلك في الفصل الآتي. معجزات وكرامات

كان عند الخرجي المذكور خادمة رعبوبة من أهل بلاده. فلما عزم على الفرار رأى أن يغادرها في منزله لتصون حاجته فيه. وإِنما أبى أن يستصحبها معه لأنه كان متزوجا بامرأة هي دونها في الحسن. كما جرت العادة في بلاد الإفرنج من أن الخادمة غالبا تكون فوق مخدومتها في القسامة والجمال ودونها في الدراية والمعارف. فوقع في خاطر زوجته أنه إذا نشبت فيها عوالق الفخ أولا ربما اتخذ زوجها تلك الخويدمة في فراشها وطاب عنها نفسا. وإن أول شيء تتعلمه البنت من أمها قبل زواجها هو منع الأسباب التي تبعث زوجها على الاستغناء عن شخصها أو عن ذكرها. ولذلك كان من عادة نساء الإفرنج أن يهدين إلى بعولتهن صورهن وأن كانت شنيعة ليجعلوها في قمصهم. أو خصلا من شعورهن وان تكن حمراء ليتختموا بها. ثم بدأ مشكل آخر وهو أن الخادمة إذا بقيت وحدها في الدار لم تأمن من أن يتسور عليها أحد في الليل فيقع المحذور. ويحمي التنور. ويكسر المجبور. ويمد المجزور. ويطم المحفور. ويذال المذخور. ويحرث البور. وتفك الطلاسم عن المسحور. ويفتق المشصور. ويسمد الصعبور. ويوسع الصنبور. ويبعثر المطمور. وتذلّل العبسور. ويصدع الفاثور. ويخرب القهقور. وينقر في الناقور فتتثلم شوكة الزنبور. فارتأى بعد أن رفع يديه بالابتهال إلى الله تعالى أن يضم إليها رجلا من أهل بلاده نحيفا قشعوماً اعتقاد انه لا يقدر على ارتكاب شيء من الأفعال التي جرّت هذه القوافي المتعددة. وذلك من جملة الأغلاط الفاضحة التي اشتهرت بين الناس أعني أهم في الغالب من دون مراجعة النساء والاستشهاد بقولهن إن النحيف لا يقدر على ما يقدر عليه السمين. وكان الأولى أن لا يستبدوا في ذلك. فمكث القشعوم مع الخادمة في أهنأ عيش.

أما ما كان من الخريجيين فإن مخرجهم أي مربيهم وكل بهم ذلك الرجل اللبيب. وأوعز إليه في أن يحظرهم عن الخروج عن الخروج وأن لا يدع أحداً من أقاربهم يدخل إليهم وأن يستخدم رجلاً ليشتري لهم ما يلزم من الخارج ولا يستلم منه شيئاً إلا بعد أن يغمسه في الحل أو يبخره بالشيح. وغير ذلك مما عرف في اصطلاح الإفرنج لمنع أسباب الوباء. وكان هذا الوكيل من مشاهير علماء ملته. وكان في مبدأ أمره كافراً لا يعتقد بدين من الأديان. لكنه كان حميد الخصال حسن الأخلاق. غير أن كفره حال بينه وبين رزقه فأضطر إلى أن ينحاز إلى الخرجيين من أهل بلاده ففرحوا بهدايته كثيراً وأحسنوا إليه إحساناً وفيراً فأنقلب هزله جداً وتمكنت منه الوساوس والأوهام حتى أعتقد أخيراً أنه أهل للكرامات والمعجزات. فكان يتمنى أن يسنح له فرصة لذلك. وأتفق في هذا الأوان أن مات بالطاعون ذلك الخادم الذي كان يشتري لوازم الدار. فلما جاء الدفانون ليحملوه أعترضهم الوكيل من داخل الدار فخافوا أن يخالفوه لكونه من الإفرنج فأنه لهم عند أهل مصر حرمة زائدة. ثم أنه مضى إلى موضع منفرد وجثاً على ركبتيه وهو يدعو الله سبحانه وتعالى لأن يحقق له صدق عقيدته. ثم فتح الباب وخرج وألقى نفسه على جثة الميت وجعل فمه في أذنه وهو يناديه قائلاً: يا عبد الجليل "اسم الميت" أني أدعوك باسم المسيح ابن الله لأن تعود من ظلمة الموت إلى نور الحياة. ثم أصغى ليستمع الجواب فلم يجبه أحد. فأشار إلى الدفانين أن اصبروا. ثم سار إلى ذلك الموضع الذي صلىّ فيه أولاً. وغير ركعته بأن جعل فمه بين فخذيه وهو يجمجم في الدعاء وذلك على منوال الياس النبي حين صلىّ لإنزال المطر بعد أن قتل أنبياء بعل. وكان عددهم أربعمائة وخمسين نبياً على ما ذكر في الفصل الثامن عشر من سفر الملوك الأول. إلا أن بين الداعيين فرقاً. وهو أن النبي صلى هكذا بعد القتل وصاحبنا هذا قبل الأحياء. وكان الأولى أن يرفع عبد الجليل إلى غرفة كما فعل النبي المذكور بابن الأرملة التي كانت تعوله. وكان دعاؤه إلى الله لإحيائه أن قال أيها العرب الهي أجلبت الشر أيضاً على هذه المرأة بقتل ابنها الخ. ثم أنه شبح يديه حتى صارت جثته على شكل صليب. ثم قام ناشطاً مسروراً وأسرع في أن ألقي جثته على الميت وأعاد في أذنيه كلامه الأول. فلما لم يجبه أحد ورأى الميت لم يزل مفتوح الفم مطبق الجفنين ولم يمشِ مرة هنا ومرة هناك ولم يعطس سبع عطسات كما عطس أبن المرأة الذي أحياه النبي اليشع على ما ذكره في الفصل الرابع من سفر الملوك الثاني، ذهب إلى المطبخ وأمر الطباخ بأن يصنع له مرقة على الفور. فلما صبت المرقة أقبل بها إلى عبد الجليل وجعل يفرغ منها في حلقه وذلك مشغول عنه بناكر ونكير. فلما أعياه أمره أمر الدفانين أن يحملوه وقال ما عليّ ذنب في كوني لم أرد أن أبعثه وإنما الذنب عليه. ثم أقبل إلى حجرة الفارياق وقال له لا تؤاخذني يا خليلي بعجزي عن أحياء الخادم فإن زمن الانتشار لمّا يبلغ. ولكني لا أتراخى في عقيدتي بأن أفعل ذلك المرة الآتية إن شاء الله.

الكتاب الثالث

فلما سمع الفارياق ذلك أضطرب باله وثار دمه غيظاً وحزناً. فأصابه في ذلك اليوم الداء الفاشي فخرج تحت أبطه سلعة كالأترجة وحمّ وأخذه صداع أليم. فأما الوكيل فلم يصبه شيء. وذلك من الأسرار التي يعجز عن إدراكها الحكماء. ثم أن الفارياق كان حال مرضه يفكر فيما جرى عليه وهو وحيد غريب لا مؤنس عنده يسليه. ولا طبيب يداويه. وكان يقول في نفسه إذا مت على هذه الحالة فمن عساه يتمتع بكتبي هذه التي سهرت الليالي على نسخها. نعم أن الموت على كل حال صعب مكروه غير أن موت الفتى مثلي غريباً أصعب وإني قد ابتليت والحمد لله في هذه المدينة بجميع أنواع الأدواء المصبوغة بلون الحمام. فإذا فسح الله الآن في أجلي فلا أفارق هذه الدنيا إلا قرير العين بنجل يرثني. وأن لم يكن عندي من حطام الدنيا غير الكتب. كيف لا وقد جاء عن أبي شلوم ولد سيدنا داود أنه نبي له جداراً ليذكر به بعد موته إذ لم يكن له خلف. فلا تزوجنّ فإن لم يأتني خلف فالطوب بمصر كثير. اللهم يسر. غوثك يا كريم. يا رحمان. يا رحيم. ثم لما كان يمعن النظر في حال الزواج ويتصور مشاقه وشدائده التي يرى أودّاءه ومعارفه يقاسونها ويئنون من باهظ حملها، يرجع عن عزمه ويسخر من استحالة عقله وضعف فهمه لضعف جسمه ثم يعتذر لنفسه بأن كل إنسان إذا عاش مدة حياته على رأي لم يوافق رأي الجماعة وكان يعتقد وهو حيّ صحيح الجسم معافى أنهم كلهم على ضلال وأنه هو وحده على هدى فإذا أدركه ضعف جسم لم يلبث أن يتغير عقله فيميل عن مذهبه الأول. كما جرى لبيون الفيلسوف ولكثير غيره من الحكماء والفلاسفة. ثم أن الله تعالى تدارك الفارياق برحمته. ومنّ عليه بالشفاء من علته. فقام من فراشه كأنما قام من جدته وأقبل على الطنبور يعزف به ويغني فدعه الآن على الحالة ولا تنغص عليه عيشته. وشمر أذيالك معي لنطفر فوق هذا الأجيج المتأجج أمامنا فيما يلي هذا. الكتاب الثالث إضرام أتون أو ما كفى بني آدم ما هم فيه من الشفاء والعناء. والجهد والبلاء. والمشقة والنصب واللاواء والتعب. والحرمان والنحس والقنوط والتعس. يجبل بهم في الفُرْث والوحم ويولدون في الأوجاع والألم. ويرضعون في الضرر. ويفطمون في الخطر. ويحبون فيعثرون. ويدرجون فيتدهورون. ويمشون فيكلّون. إذا جاءوا خاروا أو وهوا. وإذا أكلوا أتخموا ويحروا. وإذا ظمئوا ضووا. وإذا شربوا غلثوا وغنثوا وخثروا. وإذا أرقوا ذابوا قلقاً وكمداً. وإذا ناموا ذهب العمر منهم سدى. وإذا هرموا ملهم أهلهم وأخواتهم. وإذا احتضروا حسروهم تحسيراً ربما أحانهم. ثم هم بين ذلك في تحصيل أسباب المعاش ساعون. وفي التظاهر باللباس والزينة معنون. منهم متهافت على امرأة تكون له أهلاً. وذو الأهل همّه بزوجه. وتربية ولده طفلاً وكهلاً. فإذا مرضو مرض. وإذا حزنوا حزن وجرض. وويل له أن تكن زوجته بَزْراً أو كانت عاقراً وذماً. ورأى لغيره من المتزوجين بنين ذوي طلعة ناضرة وشمائل سارّة. فيقول في نفسه إنما لذة الدنيا البنون. وأني ميت بلا خلف وأيّ منون. وكم من سقوط ظفرٍ وهن الجسم كله. وكم لقلع ضرس ذهب الصبر أو جلّه. ما عدا الأدواء المتعضلة. والعلل المتأصلة. وتخالف الأزمان وحول الأحوال. وتعاقب الأحزان ودوْل الحال. على هذا الجسم الواني البال. ففي الشتاء يكون عرضة للريح والزكام والبلغم والرطوبات. والبوال والعفونات. وفي الصيف للصفراء أو الحمى والصداع. والترهل والاستنقاع. وفي الربيع لهيجان الدم وتبيغه ونزغته. وفي الخريف لتحرك السوداء وأذى الهواء وندغته. ثم إن منهم من يولد ويعرض من العيوب والأمراض. الجَنأ أشراف الكاهل على الصدر. أو الفسأ خروج الصدر ونتوء الخثَلَة. والفطأ دخول الطهر وخروج الصدر. والحدب معروف. والحسبة أن يبيض جلد الرجل من داء فتفسد شعرته فيصير أبيض وأحمر. والحصبة بثر يخرج بالجسد. والشبّ داء م. والضُبُوب داء في الشفة. والطنَب طول في الرجلين في استرخاء وطول في الظهر. والعكَب غلظ في الشفة واللحمى. والغَضْبَة بخصة تكون بالجفن الأعلى خلقة. والغِضاب داء أو الجُدَري. والغَلَب غلظ العنق. والقَلَب انقلاب الشفة. والقُلاب داء القلب. والقُوَباء الذي يظهر في الجسد ويخرج عليه. والكَنَب غلظ يعلو الرجل واليد.

والكَوَب دقة العنق وعظم الرأس. والناقبة داء للإنسان من طول الضجعة: والجوَت عظم البطن في أعلاه أو استرخاء أسفله. والخَوَ استرخاء البطن: والضَّمَج آفة تصيب الإنسان وهو أيضاً هيجان المابون. والعِناج وجع الصلب. والفحج تداني صدور القدمين في المشي وتباعد العقبين والفجج والفخج أقبح منه. واللَّخُج أسواء الغمص. والمَحَج استرخاء الشدقين. والجَلحَ انحسار الشعر عن جانبي الرأس. والصفح عرض فاحش في الجبهة. والنَّطف علّة يُكوى منها الإنسان. والفركحة تباعد ما بين الإليتين. والفطَح عرض الرأس والأرنبة. والفلح شق في الشفة السفلى. والقادح أُكال في الأسنان. والقلح صفرة في الأسنان. والكسح الزمانة في اليدين والرجلين. واللَّجح اللخص في العين. والمرح شدة سيلان العين وفسادها: والمَسَح احتراق باطن الركبة لخشونة الثوب أو اصطكاك الربلتين ومثله المشح: والوذح احتراق في باطن الفخذين. والبزخ خروج الصدر ودخول الظهر. والزُلخَّة وجع يأخذ في الظهر. والفتخ استرخاء المفاصل أو عرض الكف والقدم وطولهما. والنفُاّخ نفخة الورم من داء يحدث. والجَرَد عدم الشعر. والدَّرد ذهاب الأسنان. والردّة تقاعس في الذقن. والسُوداء داء من شرب الماء. والقَود طول العنق والظهر. والكُباد وجع الكبد. واللهْد داء في أرجل الناس وأفخاذهم. والاَدَر الآدر والمادور من ينتفق صفاقة فيقع قُصبُه في صَنْفه الخ. وفعله كفرح. والبجَر خروج السرّة وعظم البطن. والبَخَر النتن في الفم. والباسور م ج بواسير. والحَثر البثور وحثرت العين خرج في أجفانها حب احمر. والحدرة قرحة تخرج ببياض الجفن. والحُصْر والحَصَر الحصر احتباس ذي البطن وبالتحريك ضيق الصدر والبخل والعّي في المنطق. والحَفَر سلاق في أصول الأسنان. والحُمرة ورم من جنس الطواعين. والمحُنجر داء في البطن. والاُخضير داء في العين. والذهر اسوداد الأسنان ومثله التذبير. والزَّحير استطلاق البطن. والزَّعر تفريق الشعر وقلته. والزَّور عِوَج الزور والأزور من به ذلك والناظر بمؤخر عينيه. والشَّتر انقلاب الجفن من أعلى وأسفل وانشقاقه أو استرخاء أسفله. والصَّعَر صغر الرأس. والصَّفر داء في البطن يصفّر الوجه. والظَّفَر داء في العين. والظَّهر داء الظهر. والعَوَر معروف. والتقطير عدم استمساك البول. والقَصَر يبس في العنق. والمَعَر قلة الشعر. والناسور علة في المآ وعلة في حوالي المقعدة وعلة في اللثة. والكُزاز داء من شدة البرد. والسُّلاس ذهاب العقل. والفقاس داء في المفاصل. والفطس انفراش الأنف في الوجه. والقعِس خروج الصدر ودخول الظهر ضد الحدب. والقفس عظم الروثة. والقَتْعسة شدة العنق في قصرها كالأحدب. والكَسسَ قصر الأسنان أو صغرها أو لصوقها بسنوخها. والنَّقْرس ورم ووجع في مفاصل الكعبين وأصابع الرجلين. والهَوَس طرف من الجنون. والحَمَش دقة الساقين. والخفش صغر العينين وضعف البصر خلقة أو فساد في الجفون بلا وجع أو أن يبصر بالليل دون النهار. والدَّوَش ظلمة البصر وضيق العين. والرّمَش حمرة في الجفون مع ماء يسيل. والطَّرش أهون الصمم. والطشاش داء كالزكام. والعُطاش داء لا يروي صاحبه. والعَمَش ضعف البصر مع سيلان الدمع في أكثر الأوقات. والمدش رخاوة عصب اليد وقلة لحمها ودقتها. والنمَّش نقط بيض وسود أو بقع تقع في الجلد تخالف لونه. والبخَصَ لحم ناتئ فوق العينين أو تحتها كهيئة النفخة والتبخص انقلاب الأجفان. والبرص معروف. والتعَّص وجع العصب من كثرة المشي. والحاصَّة داء يتناثر منه الشعر. والحوَصَ ضيق في مؤخر العينين أو في إحداهما. والخَوَص غؤور العينين. والخَيْص صغر إِحدى العينين. والرَّمُص وسخ ابيض يجتمع في الموق. والشَّوصْة وجع في البطن أو ريح تعتقب في الأضلاع أو ورم في حجابها والغمَص ما سال من الرمص. والقَبَص وجع يصيب الكبد من التمر على الريق وضخم الهامة. والقِرْماص قصر الخدين. والقفص حموضة في المعدة من شرب الماء على التمر وحرارة في الحلق.

واللَّحَص تغضن كثير في أعلى الجفن. واللَّخَص كون الجفن الأعلى لحيما. واللَّصصَ تقارب المنكبين والأسنان. والماصة داء يأخذ الصبي من شعرات على سناسن الفقار إلخ. والمَعَص التواء في عصب الرجل. والمغَصَ معروف. والوقص قصر العنق. والحَرَض فساد المعدة والبدن والمذهب والعقل. والهَرض الحصف يخرج على البدن من الحرّ. والخبُاط داء كالجنون. والاذوطَّية الاذوط الناقص الذقن. والاسطية الأسط الطويل الرجلين. والسرطان ورم سوداوي يبتدئ مثل اللوزة واصغر فإذا كبر ظهر عليه عروق حمر وخضر شبيه بأرجل السرطان لا مطمع في برئه وإنما يعالج لئلا يزداد. والضَّرط خفة اللحية ورقة الحاجب. والضَّوط عوج في الفم. والطرط خفة شعر العينين والحاجبين والأهداب. والقطط قصر الشعر وجعودته. والمَرَط خفة الشعر. والمَعَط عدم الشعر. والجَحْظ خروج المقلة أو عظمها. والبَثَع ظهور الدم في الشفتين وانقلاب الشفة عند الضحك. والجَلَع عدم انضمام الشفتين. والخَلع التواء العرقوب. والرَّسَع فساد في الأجفان. والرَّمع اصفرار في وجه المرأة من داء يصيب بظرها. والزَّلع شقاق في ظهر القدم كالسلع. والزَّمع الزيادة في الأصابع. والصُّداع وجع الرأس. والصَلعَ انحسار شعر مقدم الرأس. والتصوّع تشقق الشعر. والقَرَع معروف. والقفع ارتداد أصابع الرجل إلى القدم. والقُلاع داء في الفم. والقَمَع فساد في موق العين واحمرار أو بثرة تخرج في أصول الأشفار والكَتَع رجوع الأصابع إلى الكف. والكَثَع احمرار الشفة وكثرة دمها حتى تكاد تنقلب. والكَلعَ شقاق ووسخ في القدم. والكَوَع إقبال الرثغين على المنكبين. واللَّخَع استرخاء الجسم. واللطَعَ بياض في باطن الشفة إلخ. والوَكع إقبال الإبهام على السبابة من الرجل. والهَنعَ انحناء في القامة. والبَثَغ ظهور الدم في الجسد. والذَلَغ انقلاب الشفة. والفَدَغ التواء في القدم. والفَوَغ ضخم في الفم. والوبَغَ هبرية الرأس. والجنف الجنف في الزور دخول أحد شقيه وانهضامه مع اعتدال الآخر. والَحشَفة قرحة تخرج بحلق الإنسان. والَحنفَ الاعوجاج في الرجل. والَخنَف انهضام أحد جانبي الصدر أو الظهر. والسأف تشقق وتشعث ما حول الأظفار. والسَّعْفة قروح تخرج على رأس الصبي ووجهه. والشأفة قرحة تخرج في اسفل القدم فتكوى فتذهب وإذا قطعت مات صاحبها. والشَّنَف انقلاب الشفة العليا من أعلى. والطَّرفة نقطة حمراء من الدم تحدث في العين من ضربة وغيرها. والغَضَف استرخاء في الأذن. والغَدَف كثرة شعر الحاجب. والكُتاف وجع الكتف. والكلف شيء يعلو الوجه كالسمسم-وحمرة الوجه كدرة تعلو الوجه. والأرقان آفة تصيب الزرع والإنسان كاليرقان. والبَخق اقبح العور. والبهق بياض رقيق ظاهر البشرة إلخ. والَحوْلق وجع في حلق الإنسان. والحَماق الجري أو شبهه. والُخناق داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرئة. والرَّوَق أن تطول الثنايا العُلي السُفل. والسُّلاق بثر يخرج على أصول اللسان أو تقشر في أصول الأسنان وغلظ في الجفان والشَّدَق سعة الشدق. والشَّمق مرح الجنون. والغَمَقة داء يأخذ في الصلب. والفتَقَ علة في الصفاق. والفَوقَ ميل الفم والفرج. واللَسَق لسوق الرئة بالجنب عطشا. والمَشَق أن تصيب إحدى الربلتين الأخرى. والوَدَق نقط حمر تخرج في العين تشرق به أو لحمه تعظم فيها أو مرض فيها ترم منه الأذن. والسَّكك عيب في الأذن. والساهك حكّة العين. والشاكّة ورم في الحلق. والشوكة داء وحمرة تعلو البدن. والفَرَك استرخاء اصل الأذن. والفكك انفراج المركب استرخاء. والألَل قصر الأسنان وأقبالها على غار الفم كالليل. والبَدَل وجع في البأدلة. "اللحمة بين الإبط والثندوة" ووجع المفاصل واليدين. والبُوال داء يكثر منه البول. والثَّعَل تراكب الأسنان. والثَّلَل تساقط الأسنان. والحَذَل حمرة العين وانسلاق وسيلان دمع. والحِقْل داء في البطن. والخَلَل استرخاء ووجع في العصب. والحَوّل معروف. والخَبَل فساد الأعضاء والفالج.

والخَزلَ الكسرة في الظهر. والخُمال داء في المفاصل. والدَّحَل عظم البطن. والدَخَل ما داخلك من فساد في عقل أو جسم. والسَّبَل غشاوة العين من انتفاخ عروقها الظاهرة. والسَّغَل السَغِل الصغير الجثة الدقيق القوائم أو المضطرب الأعضاء أو السيئ الخلق والغذاء أو المتخدد المهزول وقد سغل كفرح في الكل. والسَّلال م كالسِلّ. والسَّوْلة استرخاء البطن وغيره. والصَّحَل البحح. والضَّعَل دقة البدن من تقارب النسب. والطَّحَل داء الطحال. والطُلاطلة سقوط اللهاة حتى لا يسوغ له طعام ولا شراب. والعَفَل شيء يخرج من قبل النساء كالإدرة. والعَقَل اصطكاك الركبتين. والعاقبيل ما يخرج على الشفة غبّ الحمى. والغَمَل فساد الجرح من العصاب. والقبل إقبال إحدى الحدقتين على الأخرى. والنَّملة بثرة تخرج من الجسد بالتهاب واحتراق ويرم مكانها يسيراً ويدبّ إلى مكان آخر. والأطام حصرة البول والبعر من داء. والجُحام داء في العين. والجُذام معروف. والخَشَم تغير رائحة الأنف من داء فيه. والرَّحَم وجع الرحم. والسَرَم وجع الدبر. والضَّجم عوج في الفم والشدق والشفة والذقن والعنق. والعسم يبس في مفصل الرسغ تعوّج منه اليد والقدم. والغَمَم سيلان الشعر حتى تضيق الجبهة والقفا. والفَقَم تقدم الثنايا العليا فلا تقع على السفلى. والقعم ميل وارتفاع في الاليتين. والكَزَم قصر في الأنف. والكشَمَ نقصان في الخلق وفي الحسب. والمُوم أشد الجدري. والبَطن داء البطن. والثَّفن داء في الثَّفِنة وهي من الإنسان الركبة ومجتمع الساق والفخذ. والدَّنَن انحناء في الظهر ودنو وتطامن في الصدر والعنق. والزَّمن العاهة ونحو الضَّمن. والتسونّ استرخاء البطن. والقَعَن قصر فاحش في الأنف. والآهة والماهة الآهة الحصبة والماهة الجدري. والجَلَه انحسار الشعر عن مقدم الرأس. والشَّوه طول العنق وقصرها ضد. والفوَه سعة الفم. والقَرَه قره في الجسد كالقلح في الأسنان. والقَمَه قلة شهوة الطعام كالقَهَم. والمَرَه فساد العين لترك الكحل. والبله قلة الفطنة. والتَّلهَ الحَيرة والوله وهو ذهاب العقل حزناً. والدَّلَه ذهاب الفؤاد من هّم ونحوه. والبَزا انحناء في الظهر عند العجز أو أشراف وسط الظهر على الإست. والجِحْو سعة الجلد واسترخاؤه. والجِلا دون الصلع. والجِوى داء في الصدر. والحصاة اشتداد البول في المثانة حتى يصير كالحصاء. والحَقْوة وجع البطن من أكل اللحم. والخَذَى استرخاء الأذن وانكسارها. والرثَيْة وجع المفاصل واليدين والرجلين أو ورم في القوائم أو منعك الالتفات من الالتفات من كبر أو وجع. والشَّرَى بثور صغار حمر حكاكة. والشَّغا اختلاف نبتة الأسنان بالطول والقصر والدخول والخروج. والضوى دقة الجسم وقلة خلقة أو الهزال. والطَّنى طنى لزق طحاله ورئته بالأضلاع من الجانب الأيسر. والفَغا ميل في الفم. والقعا هو ان تشرف الأرنبة ثم تقعي نحو القصبة. والقطى داء في العجز. واللقَوْة داء في الوجه. واللَّوى وجع في المعدة واعوجاج في الظهر. وغير ذلك من العيوب كأن يكون الإنسان قشعوماً او مقرقماً أو زَعبلا أو سقعطري أو نغاشيا أو إزْبا أو دميما. ومن الأدواء التي لم يُعرف لها بعدُ اسم. ومحال أن تحيط بها كلها حالة كونها غير مستقصاة هذه الثمانية والعشرون حرفا. واصعب ما فيها واضرّ الهُكاع والتشويل. وقد زاد معاصرونا على ذلك الداء الزَرْنبي مما خلت عنه لغتنا الشريفة. وأعود فأقول ألم يكف بني آدم أن مدى عمرهم قصير. وهّمهم فيه طويل كثير. وأمرهم عسير. لكل منهم من العناء والجهد واللوعة ما يكفيه وآخرين معه. فطالب العلم يسهر الليالي في تبيين مشاكل وإِيضاح مسائل. وذو الصنعة يقضي نهاره كله مكباً على عمله ذا سخط حتى ينال كفافه فقط. وذو الإمارة مشغول البال بأحكامه وسياسته. والرئيس ذو هّم برئاسته. والملك موجس من وزرائه أن يتحالفوا عليه فيسقوه ما به هلاكه.

والوزراء خائفون منه أن ينتقم عليهم فتدور بهم أفلاكه. والتاجر يبكر إلى محترفه وهو مشفق من كساد بضاعته. والطبيب يخشى أن ترشد الناس فيستغنوا عن براعته، فتعفن عقاقيره، وتأجن مياه زجاجاته ويفسد ذروره، وسفوفه ولعوقه وجوره. والقاضي يستعيذ من قدوم من تفتنه من الغيد بجمالها. وتربكه في مسائل غير مذكورة في كتابه فيعلق بحبالها. ويتحير من أحوالها. والربّان يحذر من عصف الأرياح. والزاجل من شب نار الحرب التي وقودها الأرواح. فكلما رأى سلطانه متغيراً، وخاطره مكدراً، قال اللهم اكفني غير الدهر. واجعل هذا الكدر عارضا يزول قبل العصر. فإني أرى في وجه ملكي وأميري سيمياء القتال، والرسم بمنازلة الأبطال. وأنا ذو صاحبة وعيال، وأملاك وأموال. اللهم اكفف السنة الأجانب عن القدح فيه. والقِ في قلوبهم رعبه وامح من صدره ما يوغره ويزفيه. والحارث يوجل من كثرة الأمطار، وهبوب الإعصار. والمعلم من رغبة الناس عن العلم إلى الجهل. والمتعلم من عقبة الكتاب. وعاقبة الكتاب، الشافه لما عنده من ثمد الجلد، والحاضر له عن اللهو والدد. والمغنّي والعازف بآلات الطرب من وقوع الغلاء، أو استيلاء الحزن على قلوب الأغنياء. واللاعب من اهتداء الناس إلى الجد. والشاعر من إلفائه ممدوحه كالحجر الصلد، أو محبوبه ذا جفاء وصد. والمؤلف مثلي من مجانين "أي يشفق من مجانين لا انه هو منهم" يتصدون له فيحرقون كتابه، ويخرّقون إِهابه. والزوج من فرار زوجته وكساد ابنته. وهما من بخله وحرمانهما من ثروته. والقسيس من كتب الفلاسفة. والفلاسفة من وعيد القسيس وبوادره العاصفة، ورعوده القاصفة. وفي الجملة فكل ذي حرفة يخاف نفعها عن جانبه. وكل يدعو الله لصلاح حاله ولو بفساد حال صاحبه. إذ لا تكاد تتم مصلحة من هذه المصالح المذكورة إلاّ وينجزّ معها مفسدة بالضرورة. كما قال أبو الطيب المتنبي مصائب قوم عند قوم فوائد. ومع ذلك فكل يزعم أنه محق فيما سأله. جدير بنوال ما أمله. وان لغته في ذلك عند الحق سبحانه وتعالى، اصدق مقالا. نعم أعود فأقول، وإِن طال المقول: أو ما كفى الناس الخوف من الموت يفاجئهم وهم في دعة واطمئنان، أو يفجعهم بفقد ما لديهم عزيز من أهل وولد وأخوان، وخلان وحيوان؟ إذ بعض الناس يكلفون بالخيل والطير والسنانير والكلاب. كلفهم بالأهل والأصحاب. أو الرعب من أن يسقط أحدهم عن ظهر دابته فتندق عنقه. أو تسري النار في بيته فيحترق تالده وطريفه فيعدم رزقه. أو يقع في تيّار فيجفأ به إلى ما شاء الله. أو تخسف به الأرض. أو يخرّ عليه السقف من فوق. أو تبلغه الوكة من مسافة مائتي فرسخ فتقلقه وتورقه وربما أبكته دماً. أو يأتيه سارق فيسرق متاعه الذي هو قوام معيشته. أو يفقد ما في كيسه أو هميانه في الطريق. أو ينشب في عينيه عود فيعطلها. أو تتشنج به عضلة فيعد بعدها من سقط المتاع. أو يأكل شيئاً ضارّاً فيودي به أو شراباً مسموماً فيسقط أمعاؤه وأرابه. أو يرى جميلة فيؤرقه جمالها فيصبح وهو هائم متيّم يشكو للطبيب من سقامه، وللشاعر من غرامه. فلا هذا يطعمه ويمنيه. ولا ذاك ينفعه ويشفيه. أو قبيحة فتدهمه مرعبة ويلازمه القمة عن المأدبة أو تنبحه الكلاب وتخرق ثيابه فيبدو وذمه. أو يسيل دمه أو يكون جالسا يوما على التخت، فيسمع له صريف التحت فيسود وجهه بين إخوانه وعترته وأهل قريته وكورته وربما نبزوه بالخضفي أو الغضفي أو النضفي أو الخبقي أو الخفقي أو العفقي أو الغفقي أو الحصمي أو الخضمي أوالردّمي أو يقع عليه الكابوس ليلاً فيقف جريان دمه على قلبه فيهلك ليلته.

نعم ألم يكفيهم هذا كله حتى طفق بعضهم يجهَّز على بعض كتائب الحدس والتخمين ويجرّد عليه مقانب الخرص والتزكين. فاقبل منهم على قوم برماح الطعن مشرّعة. وبسيوف اللعن مبضّعة. وبنصال الجدال فائدة مارقة. وبنبال الجلاد صاردة خاسقة. فقال بعض إِلا أن درجات السماء مائة وخمس. فقال غيره إِلا إنها مائة وأربع. فقال آخر لقد كذبتما واستوجبتما قطع اللسان وسمل العينين وسلّ الأنثيين. وإنما هي مائة وست. ثم قام آخر وقال إلا أن دركات سقر ستمائة وست وستون. فقام غيره وقال إلا إنها ستمائة وخمسون. فقال آخر لقد كذبتما وألحدتما وضللتما واستوجبتما غلّ اليدين والرجلين ونتف الشعرين. إنما هي ستمائة وسبع وستون. ثم قام آخر وقال إلا أن قرن الشيطان ثلاثمائة وخمسة وخمسون ذراعاً. فقال آخر هذا إفك واضح، وبهتان فاضح. بل هو ثلاثمائة وستة وخمسون. فقال آخر وكسور. مقال آخر إلا إنه من حديد لكونه ثقيلاً على الناس يعنيّهم فأجابه غيره إلا إنه من ذهب لكونه يضلّهم ويغويهم فقال آخر بل هو من اليقطين لأنه ينمي ثم يذوي. ويكبر ثم يصغر. ويطول ثم يقصر. ثم قام آخر على رأس سلم عالٍ وقال بصوت جهير إلا أن يكون أيها الناس لجليدة ينبغي قطعها بحجر محدّد لا كبير ولا صغير. فقال آخر بل بسكّين ماض لا طويل ولا قصير. فقال آخر لقد سفهتما إنما هي عزيزة علينا، كريمة لدينا. لا يصح قطعها بحجر ولا سكين. ولا خدشها بشيء ولو من رقين. فإنما هي متصلة بالوريد ومنعقدة بالوتين. ومن قطعها فقد كفر. واستوجب نار سقر. فقال آخر بل قطعها واجب فإنها من الزوائد. فاعترضه القائل بعدم القطع أنا لا نرى شيئاً غيرها فما وجه تخصيصها بالقطع. قال بل الشوارب تحفى والأظفار تقلّم. فال ولكنها بعد ذلك تنبت وتلك لا. إنما دليلي القطعي على وجوب القطع عدم نفعها لصاحبها. قال لم يخلق الله شيئاً عبثاً من غير نفع. فال بل خلقك إياك لغير فائدة. قال لا بل أنت مخلوق عبثاً. ثم حشد كلّ من الفريقين بخيله ورجْله. وتلاقى كل من الجيشين بسلاحه ومحله. فمن بين قارع بحد الحسام، ورامِ بالسهام، وباطش بيده وقاذع بلسانه. وهائجٍ بقلمه. فالرؤوس متناثرة. والدماء جارية والأعضاء متطايرة. والعرض مهتو والحرمات مهتكة والمال مسلوب والديار مخربة. والحزازات في الصدور كامنة. والمشاحنة ظاهرة وباطنة. والخيل مسرجه. والكماة مدججة والطرق معطلة. والأرض ممحلة. والفرص للانتقام مرقوبة. والدعوات في الليالي مشوبة.

يا أيها الناس اعتبروا بمن فات كيف صار إلى الرفات. وإن منهم من كان يذكر اسمه في حياته بالبركات. فأصبح يذكر باللعنات. ومنهم من كان يحسب في قومه سراجاً وهاجاً. ومنهم من كان يأكل حتى ينتفخ بطنه وتجحظ عيناه، ويتلجلج لسانه وترتخي شفتاه. فصار الآن الدود يأكله. وبعض الحشرات يستوبله يا أيها الناس. وجمهوركم في سباق والباقي في نعاس. فرار من غرور النفس وحدار من قرور الرمس. وبدار إلى تقديم عمل يقربكم إلى الله. ويلأم بعضكم ببعض وأنتم في الحياة. أتموتون وفي قلوبكم الحقد على خصمكم. وفي أفواهكم اللعن على مخالفكم في زمعكم. ألم يقل لكم الحق كونوا يا عباد على الأرض إخواناً فإنكم من أب واحد وأمّ واحدة وأنكم جميعاً لميتون. سواء كنتم ذوي وجوه سمر أو حمر أو صفر أو سود أو بيض أنكم كلكم بشر إنكم كلكم فانون. إنكم ناظرون ولامسون وسامعون وشامون وطاعمون. ما بال الجُليديّ منكم يشنأ اللاجليدي. والحديدي منكم يمقت اليقطيني أفلا تتوادعون. ألم أظهر لكم في طلوع الشمس وغروبها. وفي بزوغ الكواكب ومغيبها. وفي سكون الريح وهبوبها. وفي خمود النار وشبوبها. وفي زخر المياه ونضوبها. وفي صروف الدهر وخطوبه. وهمومه وكروبه. وفي سواد الشعر ومشيبه. وفي هرم الجسم وشحوبه. وفي الأزمان إذا توالت. والأحوال إذا حالت. والدول إذا دالت. وفي الغياض إذا أبهجت. والرياض إذا دبجت. والأشجار إذا أورقت وجردت. والأطيار إذا زقزقت وغردت. وفي اللسان إذ نطق. والقلم إذا مشق. ليس لعمري بين الوحوش الضارية والطيور الكاسرة ما بينكم من العداوة والبغضاء. والضغن والشحناء. اذكروا يوم أن صعد خطيبكم المنبر. وعبس وبسر. وتوعد وتنكر. وخطأ وكفر. وحض على القتال وذمر. ثم دعا فأستغفر واستخار الله وأستبشر فأغرتم على جيرانكم وانتهكتم حرمات إخوانكم وفرقتم بين ورضيعها. والمرأة وضجيعها وبين الأب وولده وسبَدَه ولبده. اذكروا يوم أن حشد رئيسكم إليه أعوانه وهاج أهله وأخدانه على ان يخون سلطانه. وأي خيانة وما ذلك إلا لمخالفته له في الحزر والتقدير والتأويل والتعبير والتخريج والتفسير. اذكروا يوم أن أعلمتم أنفسكم بعلائم الجهاد الجهاد وقلتم هذه حرب الله هذا قتال لرضى رب العباد هذا يوم كسب الثواب والنجاة من العذاب فأفيضوا إلى العدو من البر والبحر واغتنموا عند الله أجر هذا البّر اذكروا يوم أن تنازعتم على لون طعام تأكلونه. وشكل شراب تشربونه ورحضة جسم تغسلونه ونوع فراش تتوسدونه ورقعة ثوب تلبسونه ووجه كلام تعفكونه ومتاع تستعملونه للخلاف في هذه الدنيا فطرتم أم بالخصام والمعادة أمرتم ما بال علماء الرياضة والهندسة والتنجيم لا يختلفون في أدلتهم وأن اختلفوا لم يشبّوا النار لتحقيق نحلتهم وأنتم تشبونها عند كل فرصة تسنح لكم ووهم يسبق إليه فكركم وكان الأولى أن تتواطئوا على رأي واحد كما تواطأ أولئك وإن تُسنوّا لعباد الله مصالحهم لا أن تدخلوهم في هذه الملاحك وتربكوهم في هذه المرابك وأن تهدوهم إلى أقوم المسالك لا أن تلبسوا عليهم في هذه الحوالك. دعوهم يشتغلوا بأسباب معيشتهم ولا تكلفوهم إدراك ما فوق طاقتكم وطاقتهم وأعملوا أنتم أيضاً بأيديكم ساعتين إذا علمتم بألسنتكم النضناضة ساعة وأجمعوا أمركم عند تفرق أهواكم على الألفة والطاعة أنسيتم ما جاء في الزبور الذي به تلهجون وتهذّون وتذبرون وهو قوله ما أحسن الأخوة أن تكن جميعاً في بيت واحد كالدهن النازل على اللحية لحية هارون إلا ولا تحرموا ما حلل الله لكم من الطيبات ولا تتلاوصوا إلى معرفة ما لغيركم من الهفوات ولا تبيعوا أملاك السماوات وأنتم على الأرض من ذوي البطالة والترّهات.

العشق والزواج

ليس على السوقي أن يتزوج من حرج ولا على الخرجي أن يتزوج سوقية من مرج فإن اختلاف الحرز فيما لا يعلم لا يكون مانعاً للفوز بهذا المغنم الذي من تعلم ومن لم يتعلم. أو لم تعلموا أن الأرحام من الرحمة اشتقت. وإلى المصاهرة شقت. وعلى الأنساب انطبقت. وإلى التآخي والتآلف خلقت. وبالتواد اختصت. ولا تتهاز فرص الحظ فُرصت. فما لكم عنها تتباعدون. وتتقاعسون وتتفاعدون ولم أنتم هؤلاء في بحر الشك والظن تسبحون وتستبضعون تجارة الخوص وتربحون لا يسمع الله دعاء أحد منكم في الشرق إلا إذا كان يستصوبه أهل الغرب. ولا يفيزكم بالآخرة إلا إذا تألفتم في الدنيا على هذا الضرب. فليصافح إذاً أخضر الرأس منكم أسوده ومدّوره ذو القُبعة مخروطه ذا اللبدة وليُصْف كل منكم لأخيه نيته ووده. ويحفظ له عهده. وإذ قد اتفقتم على المخلوق فلا تختلفوا على الخالق. فهو رب المغارب والمشارق. وأنه ليريد أن المشرقي منكم إذا سافر إلى الغرب يرى أهله فيه له أهلاً. وشمله شملاً فأقبلوا النصيحة وأسمعوا ما يمر بكم بعدها من العبارات الفصيحة والمعاني المليحة في هذا الفصل الذي سميته. العشق والزواج قد ذكرت في آخر الكتاب الثاني أن الفارياق ابتلاه الله بأمراض كثيرة وكتب وفيرة ثم أنجاه منها جميعاً. وأنه بعد أن رأى نفسه معافى منها اطمأن خاطره وأخلد إلى الغناء. والآن ينبغي أن أذكر ختام هذه النوبة وعاقبة هذه الحوبة ذلك أن الدار التي كان فيها الخريجيون كانت محاذية لدار بعض التجار وكان له بنت تحب السماع واللهو والطرب وترتاح إلى الغناء جداً فكانت إذا سمعت الفارياق يغني أو يعزف في غرفته تصعد إلى سطح دارها وتنصت إلى أن يفرغ فتنزل إلى حجرتها. فلما علم الفارياق أن صعودها كان لأجله أذ لم أحد غيره يظن به التعرض لها صبت إليها نفسه ونزغه فيها نازغ من الهوى غير إنه كان من طبعه النفور من الزواج حتى أنه كان يحسب المتزوجين أشقى الناس لأن الحالة الزوجية لا يبدو منها في الغالب سوى صعوباتها ومشاقها. وكان إذا قيل له فلان تزوج تأخذه به رأفة ويرثي له كما يرثي لمن دار به تيا شديد أو رزئ برزيئة كبرى فتنازغ فيه حٍ عاملاً الهوى والحذر فرجحت كفه الأولى الثاني فرأى أن مجرد النظر أولى من التعرض بإشارة تدل على أنه ذو صبوة وهيام ومكثا على ذلك مدة وهو أحذر من القر لي حتى إذا كان يوم ورآها تمسح محاجرها بمنديل أما من حرّ الشمس أو من غيره أعتقد بمجامع قلبه أنها تمسح دموعها شوقاً إليه فانفتقت بنائق الصبر من صدره وهاج به الوجد لإزالة حذره وقال في نفسه أيقابل أحد غيره دموع باكية بالأعراض. وهل وراء الدموع غير الهوى كيف لا تذيبني وما قلبي بجامد، ولا أنا بمخلد! وقد علمت أن أعظم لذات الحياة ما إذا وجد الإنسان له خدينا نويّا. وقرينا صفيا. وإنا غريب محتاج إلى مؤنس في وحشتي، ورفيق في وحدتي. ومن مؤنس مثل الزوجة. وأي خير في العزوبة لمن رزقه الله قوته وحوجه. وبمثل هذه الخواطر السريعة وطّن نفسه على تحمل أعباء الهوى من أي جهة كانت. فمن ثم فتح باب الإشارة بينهما. فمن بين توضع على القلب مرة وعلى أخرى. وأصبح تقرن بأخرى. وذراعين تشبحان مع تنفس وزفير. وشفتين تضمان. ورأس يهز وغير ذلك مما يتعلل به المبتدئون في الحب. فأما المتناهون فلا يرضيهم إلاّ الهصر بالفودين كما نص عليه الأستاذ امرئ القيس.

ودامت دولة الإشارة بينهما أياماً مديدة من دون كلام. فلما أعجزت الأيدي وسائر الجوارح عن ترجمة ما في القلب وخصوصاً لبُعد ما بينهما احتالا على أن يجتمعا في مكان بحيث يرى المحب حبيبه. فلما بصر بها عن قريب وجدها والفضل لمخترع الزي المصري عنْدلة جزْلة. إذ لو كانت متردية بالزي الإفرنجي لما عرف هل كان ما في صدورها عِهْنا أو بِرْسا أو قطنا. أو خُرْفعا أو عُطْما. أو بَيْلما. أو قِشْبرا أو حريراً أو نَوْذلا أو كان ما وراءها عُظامة أو لحماً وشحماً فال وهاتان الصفتان أعني العندلية والجزلية أحسن ما يراد من المرأة فإن الأولى تشفع في الكون الأمامي والثانية في الكون الخلفي قلت وقد جاء عن سيدنا سليمان عليه السلام مدح العندلية بقوله في الفصل الخامس من سفر الأمثال فليروينك ثدياها في كل حين. ولقائل أن يقول أن العهن وأخواته مع وجود اليد والجتّ إذا جمع الجسمين مكان لا يمنع من تحقق الصفتين المذكورتين. والجواب أن ذلك محظور غالباً في البلاد المشرقية ولا سيما من أول مرة فأما عند غيرهم فلا محظور منه ولذلك شاع استعمال العظامات عندهم بلا نكير. ثم حيث تقدم لنا في الكتاب الأول وصف الحمار على أسلوب إفرنجي فلا بأس هنا أيضاً في وصف الرجل قُبيل الزواج على النسق المذكور فنقول. أنه مدة تعلله بغبطة الزواج وتلحزه من لذاته، لا يخطر بباله شيء من مستأنف آفاته. وإنما يخطر في حدسه ويقول في نفسه أن حالتي لا تكون كحالة معارفي وجيراني الذين تزوجوا وأخطأتهم الأماني إذا هم لم يؤدوا الزواج حقه. ولم يأخذوا في أسبابه بالثقة. لأن منهم من باعل، وهو غير كفو لهذا العمل. أما لصفر راحته، أو لعدم سماحته، أو لمبانية سنة عن سن زوجته أو لضعف في آلته. أو لأنه من الزمالقية على شفا. أو لأن جاره كان يخالفه إلى عطنه. أو لأن أمه كانت رقيباً على امرأته. أو لأن أمامه كان ضيزناً له على مائدته. فلذلك ثار بينهما النقار، وطال النفار. فقُدّ القميصان من قُبُل ومن دُبُر. ونتف الشعران والصخب كثر وخدش الجلدان خدشاً بالظُفُر. وأنتن الريحان من فوق السرر. أما أنا فإني بحمد الله خال عن هذه الخلال. فلا تحول لي مع زوجتي حال. ولا تزاحمني فيها الرجال. ولا يعتريها مني ملال. فرضاي رضاها. ومناي مناها. وما أنا بأدرم ولا أبخرز. ولا أحدب ولا أخنب. وأن لي يدين أعمل بهما ورجلين أسعى عليهما. وأن يكن بي عيب في خلقي يستره عني حسن خُلُقي. فإني لا أعارضها في طعامها. ولا في لباسها ومنامها. بحيث تنام إلى جني. وتتخذ من الملبوس ما يليق بها وبي. فما يمنعني من اتخاذ قرينة. تكون على هذه الصفة الميمونة. حتى إذا سمع الناس بأن زوجي عَرُوب وعرضها عندي مصون ووجهها عن المراود محجوب، حسدوني على هذه النعمة السابغة فكان لي كل غصة من العيش سائغة ولا يخفى كم في كيد الحسود من لذة، لا تتقاعس عنها إلا لذه ما عدا ارتياح النفس إلى الجنس الأنيس.

الذي قربه للقلب وللكرب تنفيس. وأن امرأ يقاسي النهار جهده، ثم يبيت في الليل وحده. من دون ضجيع له تنفخ في أنفه وتسخن دمه من أمامه ومن خلفه. لجدير بأن يحصى مع الأموات. ويلقي بين الرفات. هذا وأني أستغني برضبها عن الشراب. وبشم شعرها عن المسك والملاب. فأنهم قالوا أن الرائحة الأنثوية تستنشق من منابت الشعر وبها نشوة الحواس. سواء كان في المغابن أو في الرأس. وأجتزئ بحر جسدها عن الوقود للاصطلاء. وبالرنوّ إليها عن الأثمد والجلاء. فيتوفر عليّ كل يوم في الأقل درهم أنفق نصفه على الحمام كل غداة فيبقى لي النصف الآخر وذلك خير عمم. وغني أتم فأما ما يقال في كيد النساء، وأعناتهن الرجال بما يعز على الأسا، فليس ذلك على عمومه ولا تقرر حكم وأستثني أمور من تعميمه. فلعلي أول من أخرجه هذا الاستثناء وسنّ للأعزاب على الزواج الثناء. كيف لا وأنا ذو فصاحة وتبيان ودهاء وجنان. فما يعييني شيء من نكرها. ولا تخفى عني خافية من أمرها فأعارضها وأحجها. وأريها أن لي عليها قفية تضطرها إلى طاعتي وتحوجها فإن قلت لها اليوم يصوم فيه المباعلون، ويتبتل المفاعلون. قالت أنا أول من صام، وآخر من نام. وأن قلت لا يجمل بالمحصنة أن تتبرج. قالت ولا أن تتغنج. وإن قلت أن حق الزوجة على زوجها في كل أسبوع مرة. قالت وتبقى أيضاً عفيفة حرة. وأنقلت ليس الحليّ بلازم للعرس. قالت ولا الديباج شر لُبْسٍ. وفي الجملة فإن عيشي معها يكون رغيداً. وحالي سعيداً. وحظي مديداً. وطعامي مريئاً. وشرابي هنيئاً. وثوبي وضيئاً. وفرشي وطيئاً. وبيتي مأنوساً ومتاعي محروساً. وطرفي قريراً. وشأني مذكوراً وسعيي ميموناً. وقصدي مأموناً فحيّ هضل الزواج. بلعوب مغناج. طلعتها علاج من الألفاج وضجعتها أنهاج. إلا الأفلاج. انتهى. وأنا أقول أن مما غُرس في هذه الطينة البشرية اللثية أن الرجل متى وطّن نفسه على الزواج حبّب الله إليه زوجه على أية حالة كانت حتى يراها أحسن الناس خُلقاً وخَلقاً. لا بل يرى نفسه أنه قد ترفع عن أقرانه. وتمزّى على إخوانه، حتى يستخسّ ما كان من قبل يستعظمه. وأنه قد صار إنساناً جديداً يجدر بأن يجدد له وجه الأرض. وبناء على ذلك لم يعد الفارياق يرضي بالأغاني والأشعار المتعارفة بل أستبدل الأولى بأخرى جديدة من نظمه. ونظم خلال ذلك قصيدتين حاول فيهما اختراع أسلوب غريب فجاءنا طيخيتين كما سترى ذلك ولو استطاع أن يخترع كلاماً جديداً يعبر به غرامه وحديث شأنه لفعل. وكان إذا رأى رجلاً متزوجاً يهيب به وينشده: أنا في حلبة الزواج المجليّ ... إنما أنت فسّكل قاشور أن قدمي يفوز عما قريب ... إنما قدحك السفيح يبور أو عزباً قال له يا أيها الأعزاب أني رافض ... دين العزوبة فاقتدوا بمثاليا ليس الغِنى إلا البعال فبادوا ... يا قوم واستغنوا بمثل بعاليا وتهوّس يوماً لأن ينظم ديواناً يشتمل على أبيات مفردة تهافتا على أحداث شيء غريب فنظم أربعة أبيات ثم مسك. وهي ساعة البعد عنك شهر وعام ... الوصل يمضي كأنما هو ساعه أتنجم الليل الطويل صبابة ... وتنجمي لنجوم ذي تفليك ويخفق مني القلب أن هبت الصبا ... ويذكرني البدر المنير محياك ألا ليتشعري كم يقاسي من ... النوى وأنحائه قلب يذوب تجلدا ومن الفضول هنا أن نقول أنه كان يقول لخطيبته أنك ملأت عيني قرة. وأني أراك أحسن الخلق. وأنا ليغبطنا الناس. وأنك تغنيني عن الغنى. وأني بقربك سعيد. ويبعدك عميد. وإنّا نكون أبداً كما نحن الآن. وأنك ذات ملاحة تشغل الخليّ. وأني أغار عليك من النسيم يفيء شعرك هذا الدجيّ. وأنّا لجسمان في روح واحد أو روحان في جسم واحد. وإنك لترين مني كل يوم محّباً جديداً. وإني لأرى فيك كل وقت حسناً حديثاً. وأنا نكون قدوة للمتزوجين والعاشقين. إلى غير ذلك من الكلام المتعارف عند أمثاله. قال خير أيام الإنسان في حياته هي المدة التي تتقدم الزواج والتي تليه. قلت ومبلغها عند الإفرنج شهر يسمونه قمر العسل وهو بعد الزواج. ومبلغها عندنا معاشر العرب شهران يقال لهما قمرا العَسل. حتى إذا امتلأت الخلية عادت كل نحلة زنبورا ورجع كل شيء إلى أصله.

وأقول أن المحبة مما غرس في الطبيعة البشرية من يوم الوضع في المهد إلى يوم الوضع على النعش. فلا بدّ لهذا المخلوق الآدمي من أن يحب ذاتا من الذوات أو شيئاً من الأشياء أو معنى من المعاني. وكلما زاد حبه في قسيم منها نقص في قسيمه الآخر. وقد يكون إحداها سبباً في زيادة حبّه للآخر. مثال ذلك من كلف بالشعر أو الغناء أو التصوير فكلفه هذا يكون باعثاً له على حب الذات الجميلة. ومن كلف بالعلم والقتال والفخر والسيادة فلابد وان تقل رغبته في النساء بل ربما لهي عنهن بالكلية. ومن كلف بالخيل المطَّهمة والسلاح النفيس فقد يكون كلفه هذا شائقاً له إلى حب الذات أولا. وعدّ بعضهم من هذا النوع السراباتية وهم المنظّفون للمراحيض. وأسقطه غيرهم بدليل إنها حرفة يحتاج إليها الإنسان لتحصيل معاشه لا كلف من هوى النفس. فهذه ثلاث حالات متسببة عن ثلاثة أسباب. وهناك أيضاً ثلاث أحوال أخرى باعتبار القلة والكثرة وما بينهما. الأولى متعادلة وهي ان يحب المحبّ محبوبه كنفسه. فلا تطيب نفسه بشيء ولا تهنئة لذة إلا إذا كان محبوبه مشاركا له في تلك اللذة. وذلك صفة الرجل قبل زواجه وبعيده. ولا تخلو هذه الصفة عن الرشد والبصيرة. الثانية المتعدية أي المجاوزة للمتعادلة. وذلك كان يحب المحبوب حبيبه اكثر من نفسه. وذلك صفة الأب والأم في حبّ ولدهما وصفة بعض العشاق. أما الأب فإنه يفدي بروحه ويحرم نفسه من اللذات والمسرات حتى يمتّعه بها. فإذا رأى نفسه عاجزا عن الأكل والبعال ورأى ابنه يأكل ويباعل لذَّ له ذلك وهو مع هذا غير خال أيضاً عن الرشد والتمييز. فأما العاشق فإنه يؤثر معشوقه على نفسه غير أن أفعال تكون مختلة في غير محلها ووقتها. والثالثة معلومة وهي أن يحب الإنسان محبوبه مع إيثار نفسه عليه وهو الأغلب. وهناك أيضاً ثلاث أحوال أخرى مكانية وهي القرب والبعد والتوسط. ولها تأثيرات مختلفة بحسب اختلاف طباع الناس فالصادق الود يحب في حالتي القرب والبعد على حدّ سوى. بل ربما كان البعاد مهيجا له إلى زيادة الشوق والغرام. وما احسن قول من قال في هذا المعنى. كأن الهوى شمس أبي إن يردها ... مهاة نوىً لا بل تزيد بها حرا

فأما الطرف الشنق فإنه لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا. وثلاث أخرى زمانية وهي الصبي والشباب والكهولة. فمحبة الصبي أسرع وأعلق. ومحبة الشباب أحرّ وأقوى. ومحبة الكهل أقر وأدوم. الكهل يقدر محاسن محبوبه ومنافعه أكثر. ومحبته له تكون أمرّ وأحلى. فالمرارة لعلمه إنه قد عرّض نفسه للوم اللائمين وعذل العاذلين من الأحداث والأغرار. ولإشفاقه دائما من ملل محبوبه إياه. فقلبه أبدا واجب. وهمّه بشأنه ناصب. والحلاوة لزيادة معرفته بقدر محبوبه كما تقدم. ولكون هواه والحالة هذه راهناً متمكناً فهو يعتقد بمجامع قلبه إنه ساع في أسباب سعادته وحظه. ولها أيضاً ثلاث حالات أخرى باعتبار الاستطاعة وعدمها اعني اليسر والعسر وحالة ما بينهما. أما الموسر فإن محبته أبرد وأحول. لأن غناه يحمله على استبدال محبوبه والتنقل من حال إلى حال. فلتحذر النساء المحصنات هذا الصنف من الناس وإن ماس بهن ماسه. إلا إذا كنا لا يخفن على سرّهن وعرضهن. لأن الغني يستحيل إفشاء الأسرار. كما يستحيل خزن الدينار. وعنده أن كل شيء عبد درهمه. وطوع نهمه. فأما الفقير فإن محبته أشط وأشذ وألوع. لأن فقره من حيث كان مانعاً له من إزالة الموانع التي تحول بينه وبين محبوبه لا يلبث أن يفضي به إلى اليأس أو الخبال أو الانتحار. فأما المتوسط فإن حبَّه اعدل واصَّح. ولها أيضاً ثلاث حالات أخرى وهي الذل والعزّ والمساواة فالذل غالبا صفة العاشق والعزّ صفة المعشوق. ومن أعجب أنواع المحبة الحبّ المختلط بالبغض. وذلك كأن يهوى رجل امرأة وهي تهوى غيره وتتمنع عليه. فيهيج به وجده إلى وصالها تشفياً منها. فإن فاز به غلبت محبته على كراهيته وإلا فلا ولا يزال هذا دأبه حتى يسلو عنها الغلب وان المحب لا يسلو محبوبه إذا عامله بالصد والحرمان إلا إذا ظفر بآخر شبيه له في خلقه وخلقه وهيهات ذلك فأما بواعث المحبة فقد تكون عن نظرة واحدة تقع من قلب الناظر موقعاً مكيناً فتخلج فيه من محركات الوجد والشوق ما تخلجه عشرة مدة مديدة وعندي أنه لا بد وأن يكون المحبّ قد تصوّر في عقله سابقاً صفات وكيفيات من الحسن فصبا إليها حتى إذا شاهدها حقيقة في ذات من الذوات كما كان تصورها علق بها قلبه وخاطره فكان وخاطره فكان كمن وجد ضالة ينشدها وقد تكون المحبة عن طول سماع عن شخص فيسترسل السامع إليه شيئاً فشيئاً حتى يكلف به. وأكثر أسباب المحبة النظر والعشرة. واعلم أن كثيراً من الناس قد عشقوا الصور الجميلة في الذكور والإناث لغير دعارة وفسق. وإنما هو ارتياح نفس ووجد بال. ويؤيده ما ورد في الأثر من عشق فكتم فعفّ فمات شهيداً. والعاشق في هذه الحالة يرضى من معشوقة بأدنى شيء. فالقبلة عنده وفتح وغنيمة. قال الشريف الرضي سلوا مضجعي عني وعنها فإننا ... رضينا بما يخبرن عنا المضاجع قلت لو كان لي تصرف في هذا البيت لقلت عنها وعني. وقال ابن الفارض رحمه: كم لات طوع يدي والوصل يجمعنا ... في بردتيه التقى لا نعرف الدنسا وهذا العشق يسمى عند الإفرنج العشق الأفلاطوني نسبة إلى أفلاطون الحكيم ولا حقيقة له عندهم وإنما هو مجرد تسمية. ويعرف عندنا بالهوى العُذري. نسبة إلى عُذرة قبيلة في اليمن لا إلى عذرة الجارية أي بكارتها وافتضاضها وشيء آخر منها. ويروي عن مجنون ليلى إنها أتته يوماً وجعلت تحدثه فقال لها إليك عني فإني مشغول بهواك. وللمتنبي في هذا المعنى فشُغلتُ عن رد السلا ... م فكان شغلي عنك بك

وأحقّ النساء بان تُعشَق وتعزّز التي جمعت إلى حسن خلقها الأدب وحسن المنطق والصوت واسعد الناس حالاً من كان له حبيب يحبه كما جاء في بعض المواليات المصرية. فإنه والحالة هذه يقدم على اصعب الأعمال واعظم المساعي. ويباشرها دون أن يشعر بها. لا فكره أبداً مشغول بمحاسن حبيبه. فلو رفع صخرة في هذه الحالة على عاتقه بل فنداً لتوهم إنه رافع نعال محبوبه أو بالحري رجليه. ثم أنه مع ما يلحق المحبة من طوارئ التنغيص والخيبة والحرمان وخصوصاً مضض الغيرة فإن عيش الخلي لا خير فيه. لان الحب يبعث على المروءة والنخوة والشهامة والكرم ويلهم المحب المعاني اللطيفة والخواطر الدقيقة. ويكسبه الأخلاق المرضية. ويستوحيه إلى عمل شيء عظيم يذكر به اسمه ويحمد شأنه ولا سيما عند محبوبته. وقلما رأيت عاشقاً به جفاء وفظاظة أو رثاء وبلادة أو دناءة وخساسة. وقال بعض العزهين وأظنه من التيتائيين. لو لم يمنع من عشق امرأة شيء بعد التعفف والتوّرع سوى الاضطرار إلى حبها لكفى لان الإنسان متى علم إنه مسخّر لحب شيء ومكلّف به ملّه بالطبع ونفر منه. قال فيكون حب المرأة على هذا مغايراً للطبع. هذا إذا كان الرجل شهماً عزيز النفس عالي الهمة. فأما الأوباش من الناس فلا معرفة لهم بقدر أنفسهم فهم يتساقطون على حب المرأة حيثما عنّت لهم وكيفما اتفق. قلت هو كلام من لم يذق الحب أو من كان مفرّقاً ولو سمع أنثى تقول له يوما احمل يا روحي هذا الحمل من الحطب على رأسك. أو احبُ يا عيني على أستك كالولد الصغير للبّاها حاملا وزحنقفاً. ثم أن للعشاق مذاهب مختلفة في العشق فمنهم من يهوى ذات التصنع والتمويه والعجب. ومنهم من لا يعجبه ذلك وإنما يؤثر الحسن الطبيعي. وأن يكون في محبوبته بعض الغفلة والبلاهة وإلى هذا أشار المتنبي بقوله: حسن الحضارة مجلوب بتطرئة ... وفي البداوة حسن غير مجلوب ومثل الأول مثل من يقدم له لون من الطعام وبه قمة فيحتاج إلى التفحية والتقيت ومثل الثاني مثل من به سيْفَيَّنة وسرْطميَّة فلا يمنعه عدم التفحية والتوابل من أن يلسو ويلوس ويلثى ثم يلحس قعر الجفنة بعد فراغه منها. فأما رغبة بعض الناس في الغفول والبلاهة فإنها مبنية على أن المحبّ لا يزال يقترح من محبوبته أشياء كثيرة تبعث إليها الحاجة. فمتى كانت ذات دهاء وذكاء خشي أن تمله وتحرمه. ومنهم من يزيد في المرأة غراماً إذا كانت ذات عزة وشرّة ومعاسرة فيكون استرضاؤها ادعى إلى النشاط والسعي. وهذا يفعله في الغالب من يتفرغ للهوى ويتصدى له من كل جهة. ومنهم من يعشق المرأة لاتسامها بسمة الشرف وسيادة أو وجاهة. وذلك دأب ذوي الطموح والاستطاعة. ومن هذا الصنف من إذا رأى المرأة امرأة وضيعة تشبه امرأة شريفة عشقها لأجل حصول المشابهة فقط. ويقال لأهل هذا المذهب المشبهية. وهو في النساء اكثر فإن المرأة لا تكاد ترى رجلاً إلا وتقول لعله يشبه بعض الأمراء الغابرين أو الحاضرين أو الآتين ومنهم من يعشق من بها ذلة وانكسار وملاينة. وذلك شأن ذوي الرفق والرقة. ومنهم من يعشق من على طلعتها آثار الحزن والكآبة والفكرة. وهو مذهب ذوي الحنين والطرب. ومنهم من يعشق ذات البشر والطلاقة والأنس. وهو خلق المحزونين المبتئسين. فإن النظر إلى مثل هذه ينفي الهم. ويجلو الكرب والغم. ومنهم من يعشق من بها مرح ونزق وطيش وثرثرة وقهقهة. وهو دأب السفهاء والجهلاء. ومنهم من يعشق المرأة لأدبها وفهمها وحسن كلامها ومحاضرتها وسرعة جوابها. وهو مذهب العلماء والأدباء. ومنهم من يعشق من تكون كثيرة الحليّ والتأنق في الملبوس كثيرة الغنج والتمويه وهو طريقة ذوي السرف والشطط. ومنهم من يعشق الماجنة المتهتكة المستهترة. وهو شأن الفساق الفجار. ومنهم من يعشق الخيتعور الشهوانية المتلعجة الطفسة. وهو خلق من مبلغ منه العُهر كل مبلغ. ومنهم من يعشق اللاّعة الخريدة العفيفة ابتغاء أن يفسدها ثم يتباهى بذلك بين أقرانه. فإذا رضيت له ملها أو أرادها أن تكون على غير تلك الحال وهو عندي شرّ من عاشق المتوهجة. ومنهم من يحب اجتماع هذه الصفات المختلفة كلها في محبوبته بحسب اختلاف الأحوال. هذا في الخُلق فأما في الخَلق فالنحيف يهوى السمينة وبالعكس. والأسمر يحب البيضاء وبالعكس. والطويل يحب القصيرة وبالعكس. والأملط يحب الكثيرة الشعر وبالعكس.

أما النساء فأحب الرجال إليهن الفارس الأبتع. الشجاع الأروع. فأما الغنى والفقر فلا ضابط لهما فإن الغني يتهافت على حب الفقيرة كما يتهافت على حب الغنية. بل البخيل من الأغنياء يؤثر حب الفقيرة طمعاً في أن يرضيها بالقليل من المال. والغالب أيضاً إيثار حب الجيل الغريب للاستطلاع على ما عنده من الغرائب التي تتصور المخيلة وجودها فيه دون غيره. إلا إذا منع مانع جهل بلغته فحٍ يحصل للمخيلة انقباض في تماديها. وكما أن لطف النساء وقلفطتهن تعجب الرجال ولا سيما في الفراش كذلك كان يعجب النساء من الرجال تراتهم وشيْظميتّهم. فلا تكاد امرأة ترى رجلاً على هذه الصفة إلا وتقول في قلبها عند هذا كفايتي وغنائي. وقد لحظت العرب هذا المعنى باشتقاقهم الطول من الطول. غير أن النساء على الأعم بجنين اللذات من كل مجني ويكرعن من مواردها ما ساغ وما أغص فمثلهن كمثل النحلة تجني من الزهر وان يكن على المدمن. فأما الغيرة فهي خلق طبيعي في كل بشر إذا كان سليم الذوق. فإن الإنسان يغار على متاعه من أن ينتهكه غيره فكيف على حرمته. وما يقال من أن الإفرنج ليس لهم غيرة على نسائهم فليس على إطلاقه. فإن منهم من يقتل زوجته ونفسه معاً إذا علم منها خيانة. نعم إنهم يتساهلون معهن في أمور كثيرة ربما تعدّ عند المشرقيين قيادة. إلا إنها في نفس الأمر وقاية من الخيانة. إذ قد تقرر عندهم أن الرجل إذا حظر امرأته عن الخروج وعن معاشرة الغير أغراها بالضَمْد. بخلاف ما إذا أرضاها بهذه اللذات الخارجية. ثم أنه لما علم اجتماع المستعسلين أي الفرياق والبنت خلافاً للعادة المألوفة ذاقت أمها من ذلك مرارة الصاب فاستشارت بعض أمرها فقالوا لها لسنا نرضى بمصاهرة هذا الرجل لأنه من الخرجيين. وأنت من أعزّ بيت من السوقيين وهما لا يجتمعان. فقالت لهم ليس هو من جرثومة الخرجيين بل هو دخيل فيهم. قالوا لا فرق في ذلك رائحة الخرج ساطعة منه وقد ملأت خياشيمنا وحذروها منه غاية التحذير. مع أني قد حذرتهم وأمثالهم في الفصل الذي مرّ من هذا الفصول. فلما علمت البنت بذلك نبض فيها نبض الخلاف وقالت ليست وقالت ليست هذه الفروق من مصالح النساء. وإنما هي مصلحة من أتخذها وسيله للمعاش والجاه. والمقصود من الزواج إنما هو التراضي والوفاق بين الرجل والمرأة. وأن أبيتم ذلك فها أنا أنذركم إني لست من السوقيين في شيء. فرأت أمها أن تغيب بها أياماً عن ذلك المحل رجاء أن يبعثها البعد على السلوان. فهاجت ح جميع عواطف الهوى في كل من العاسل والمعسول. وإليه أشار أبو نواس بقوله: دع عنك لومي فإن اللوام أغراء.

القصيدتان الطيخيتان

فلما رأت الأم أن لا إشارة تمنع البنت من الاشتيارة. ولا جَزْر يكفّها عن الجزر رجعت إلى منزلها واستدعت بالفارياق وقالت له: قد علمت أن السوقيين لا يبغون مصاهرتك. فإن كان عزمك على أن تتزوج ابنتي ينبغي لك أن تتسوق ولو يوماً واحداً. قال لا بأس، فعلى هذا تسوق يوم عقد الزواج وقرت عين كل منها ومن البنت. ثم أحضرت آلات الطرب ليلاً وأديرت الكؤوس وزها مجلس الأنس والسرور. والفارياق مواظب فيه على خدمة إدارة الكأس ومعيد على العازفين الأطراء وقوله آه وأيه واوه. حتى إذا كلت يداه ولسانه ورأى أن عزم الشْرب أن يسهروا الليلة كلها إلى الصباح أنسل من بينهم وصعد إلى السطح لكي يستريح. وكانت الليلة مقمرة من ليالي الصيف. فلما أبطأ عليهم ظنوا أنه تفلت أنه من الإرْبة فأخذوا في التفتيش عليه كما يفتش على امرأة فالك أو فارك. فلما وجدوه وعلموا أن نيته مخالفة لنيتهم أخلوا له ولعروسه حجرة وهموا بالانصراف. فقالت الأم لا أو تنظروا بأعينكم البصيرة. وسبب ذلك أن عادة أهل مصر في الغالب هي أن يتزوج الرجل المرأة من دون أن يعاشرها ويعرف أخلاقها. وإنما ينظر إليها نظرة واحدة بات تناوله مثلاً فنجان قهوة أو كاس شراب بحضرة أمها. فإن أعجبته خطبها من أهلها وإلاّ كف رجله عن زيارتهم. ومنهم من يتزوج ولم يكن رأى امرأته قط. وذلك بأن يبعث إليها أمّه أو عجوزاً من أقاربه ومعارفه أو قسيساً فيصفونها له بمقتضى ذوقهم وخبرتهم. والغالب أن أمّ البنت ترشي القسيس ليجيد صفة بنتها فيرغب الرجل في التزوج بها. ومنهم من يتزوج امرأة قاطنة في بلاد بعيدة فيبعث إلى أحد معارفه في تلك الجهة ليصفها له في كتاب ثم يستخير الله ويرتبق. ومع ذلك فإن عيش هؤلاء المتزوجين على هذا النمط يكون هنيئاً. فأما في بلاد الشام فعادة أهل المدن كعادة أهل مصر وعادة أهل الجبل مغايرة. فإن الرجل هناك يتمكن من رؤية المرأة ومعرفة أخلاقها. هذا ولما كان الفارياق قد تعدّى حدود العادة بمصر في كونه اجتمع بالبنت مراراً عديدة في حضور أمها وفي غيابها. أرادت أمها أن تنفي العار بإظهار علامة البكارة. حتى يشيع خبر براءة البنت في جميع البلاد. فإن أكثر الناس لا شغل لهم إلاّ الكلام. فاجتمعت تلك الزمرة وراء الباب بعد أن جمعوا العروسين. وطفق الواحد منهم ينادي ويقول افتح الباب يا أبا مزلاج. فظن الفارياق أنه يريد الدخول عليهما ليعلمه كيف يكون العمل. ففتح له فقال له ما هذا الباب وإنما أردت باب الفَرج. فرجع إلى عروسه وإذا بآخر يقول لجِ القبَّة يا ولاّج. وآخر ثجّر الطعنة يا بجّاج. وغيره ارو الصدى يا ثجّاج. وآخر أزل الزَغَب يا حلاج وغيره أفرغ السجل يا خلاج - أسرع الوطء يا زلاج- املأ الوطب يا زمّاج- ملل الملمول يا مّعاج- اغطس في اللجة يا غاطس- افقس البيضة يا فاقس- أجلِ المسواك يا وامس- تسوّر السور يا معافس- روّض المهرة يا فارس. ومازالوا به حتى شام أبا عُمَيْر وناول أمها البصيرة. فتهللت منهم الوجوه فرحاً وحبوراً. وصفقت الأيدي استبشاراً وسروراً. ونطقت الألسن بالتبرئة. وختموها بالتهنئة. ثم انصرفوا وكأنهم قد قفلوا من غزوة غانمين. وكادت الأم تطول عن الأرض شبراً لهذا الفتح المبين. القصيدتان الطيخيّتان ما كنت أول عاشق بين الورى ... تبع العشيقة من أمام ومن ورا ورأى البكاء له معينا شافيا ... يوما ويوما أضحك المستعبرا ويكون مصروع الغرام مزبّبا ... متكسّسا مستقبلا مستدبراً ومحنبشا ومجّمشاً ومدهفشا ... ومكنّصا ومزنجرا ومعنجرا ومرنمّا ومغنّيا ومصفّرا ... ومشببا ومطبلا ومزمرا وفيينة متثائباً متمّطيا ... وفيينة متقاعسا مقعنصرا وإذا رأى رأيا رشيدا كان في ... إبرامه مترهئا متأخرا فالعشق عقل العقل عن صيّوره ... حتى يضل عن الصواب ويبطرا قد كنت أعْجب أن يقولوا شاعر ... ذو جِنَّة وأخال ذلك مفترى حتى لَقِيتُ صُوَيحْبيّ كليهما ... فإذا هما من طينة قد صُوّرا خُلِق الجمال لعين صبّ جنّة ... ولقلبه نارا تزيد تسعّرا لا غرو أن يغدو لحمرة وجه من ... يهوى وقد حمل الغرام محمّرا يا ليت يغني المرء يوما واحدا ... عنهن من شيء يباع ويشترى

الثانية

ليت الجمال لهن مثل الملح في ... قدر الطعام مهوَّعا إن كثّرا بل ليتهن خلقن اقبح ما يرى ... كيلا نهيم تحيّرا وتخيّرا ليت الكواعب كن هُضْلا حبذا ... الطرطبّ مع لا يا كبادي منظرا يا ليت ذي الهيفاء درْدحة وذي ... الدهساء فَلْحَسه فيهنئنا الكرى ليت العيون النجل ضيقة وما ... في الثغر من در نظيم صُفَّرا يا ليت كانت كلذ ساق فعْمة ... عود الشُكاعي بل أدق وأظمرا يا ليت لم يَصلُت جبين فوقه ... شعر كلَيْل كل غِرٍ غررا يا ليت ما في الجيد من عَنَط بدا ... وقصا لأعيننا وشيّاً منكرا والحسن أن القبح أحسن ملمحا ... إذ ليس يبكي العين ما منه يُرى فلأيّ داعٍ كان شغل عقولنا ... وقلوبنا بهوى الوثائر أكثرا ولمَ اختُصصن بكل علق مضنّة ... وبكل حلي فاخر دون الورى وبمَ ارتفعن على الرجال تطاولاً ... ولهنّ تحتُ تقدما وتأخرا والى مَ تصطبر الفحول وقد طغت ... أفعالهنَّ تحيّر المتصبرا منا خرجن وعقلنا يخرجن إذ ... يدخلن أو يخرجن سفّه من مرى ولأي شيء لم يكن قود على ... من لحظها قلب المتيم قد فرى ولأي شيء حل رشف الريق من ... ثغر الرشوف وكان ذلك مسكرا وعلى مَ تعتز الشنِاط على شج ... يمسي ويصبح بالغرام محسرا سلها هل التنور فار كما انبغى ... في كل شهر أم تأخر اشهرا أين المعالي والمكارم أين من ... فخر الأنام بعزّه وتجبرا يقتاده اسم الخود أن ذكرت له ... طوعاً وكرها وهو يهزم عسكرا وإذا تجشأ ساعة في وجهه ... من أي سمّ قال أنشي عنبرا ولربما عشق الكبير فجُنّ من ... ريح من الحسناء تفعم منخرا ولو ان ذا القرنين جاري كيدها ... لرأى إلى قرنيه قرنا آخرا لولا النساء لما رأيت مخطّأ ... ومسفّها ومفسقا ومفجّرا ومفلسّا ومجبَّها ومُعنّنا ... ومكشخنا ومجرّسا ومعزّرا ومتيما ومهيما ومسهما ... ومدّمما ومذّمما ومشّهرا ولما تناثرت الجماجم في الوغى ... تحت السنابك وهي توري المغفرا ولما عفت دول بهنّ لهَت فبيّتها ... الدمار فأصبحت تحت الثرى أمْلت عليّ حوادث الأمم التي ... غبرت فقلت مقال من قد حرّرا يا رب قد فتن النساء عقولنا ... فامسح محاسنهن قبحا يزدرى أو فاجعلن غشاوة تغشى على ... أبصارنا أوْ لا فأعم المُبصِرا أو فانصُنا أو فابصُنا أو فالصِنا ... أو فاخصِنا طبعا بصاء بالحرى الثانية لمن أشكو وقلبي الي ... وم من أكبر أعدائي لمن أشكو وعقلي الي ... وم معقول بأهوائي وطرفي مُبسل لبّي ... ولبي جالب دائي ولوّامي من كانوا ... إذا غبت أودّائي ولا وأي من الألو ... عن الألى من اللائي وقد أفسد آرابي ... جميعا بعضها اللائي رأى نار الهوى تذكو ... لإحراق وإصلاء فما بالي بإصلائي ... تلظيها وأسلائي يقول الحتف من لمج ... وكوني ميت أحياء أحبّ إليّ من عيشي ... يوماً عيش تيتاء حياة الصَر تكدير ... وصفوتها بأصفاء وما ينجع نصح فيه ... لو كان بأتلاء فهل من حكَم ما بيننا ... يقروا بإفتاء عواديه ودعواه ... بإصباحي وإمسائي وثورته ورثأته ... لأخزاي وأختائي طغا خطبي فما لي الي ... وم من آس وأسوائي فأسواي لا ينفك ... من لهج بأسواء فلا يشغلكم هجوي ... وتقريظي وإطرائي فراسي اليوم إمرة ... لداعي نكس أهوائي فلا مطمع في رشد ... خليع رقّ أغوائي إذا وقصت به عنقي ... فلا تشكوا لأذمائي وأن شجت به رأسي ... فلا تبكوا لإدمائي وأن هثمت به سنّي ... فلا تعموا عن المائي وأن بُخفت به عيني ... فلا تكروا لإعمائي جرى المقدور من قدم ... بتضليلي وأشقائي فلو شاء لأبقاني ... معافيً أي إبقاء ولو شاء لأعماني ... عن لقاء سوقاء

الأغاني

دعوا ذا الوجد يشقيني ... ويمنيني بإشفاء وهذا العشق يضنيني ... ولا تعنوا بإشفائي فذا عظمي وذا جلدي ... وذا شأني وإنشائي فما يدخل ما بيني ... وبين هوى بأحشائي سوى فظّ فضولي ... زنيمٍ شر مشاء إذا أسمعكم عتْباً ... فعدوني من الشاء ولا تبقوا على طوقي ... وجلبابي وأعضائي فإن الفدْم مَن يسمع ... ذا عذْل بإغضاء وإن الحر من يُسمع ... عَتْباً تِلو إرضاء الأغاني يا بدر مالك ثان ... في حسنك الفتّان فأرحم فتى ولهان ... مبلبل البال عذّب بما ترضاه ... إلا الجفا أخشاه قد طال ما أصلاه ... وأنت لي سالي يا يوسف الحسن ... حوشيت من سجن هددت بالحزن ... أركان آمالي من ذا الذي أغراك ... بصد من يهواك الطرف منه باك ... وجسمه بالي حتام ذا الهجران ... والصد والحرمان حسن بلا إحسان ... كالريّ بالآل محبك الواجد ... منك الرضى فاقد يا ليتني واجد ... اتهام عذّالي أضناني السهد ... وعزني الوجد ما القصد ما القصد ... سواك يا غالي يا فاتن العشاق ... باللحظ والأحداق تبارك الخلاق ... لحسنك الكالي أفديك بالمال ... والروح واللآلي رضاك أشهى لي ... من طول آجالي غيره ما ترى عيني مثيلك ... يا رشا فأرحم قتيلك لم يرم إلا سلامك ... ثم أن شئت جميلك كل ما فيك مليح ... كبدي منه جريح بليت تفدي مقامك ... والهوى فيها صحيح أنت لي يا بدر سالي ... وأنا للهجر صالي من يذق يوماً غرامك ... لم يذق طعم الليالي يا رشا صد دلالا ... وجوابي منه لا لا أسمع العبد كلامك ... وراقب المولى تعالى فيك تعبيدي وذليّ ... وهيامي أصل ضلي ليت من غيري رامك ... يبتلي بالهجر مثلي ضقت بالهجران ذَرْعا ... ولشوقي كان أدْعى لم أزل أرعى ذمامك ... وذمامي لست ترعى أن يكن وصل فعِدْني ... فيك قد أحسنت ظني أسأل الله دوامك ... فهو لي أشهى تمني يا مليك الحسن طرّاً ... يعرض المملوك أمرا أدْعُه يوماً غلامك ... أن له أجريت ذكرا طال بالباب مثولي ... والتفات منك سولي من رأى يوماً قوامك ... راح صبّا ذا نحول إنما بدري غزال ... فأتني منه الدلال يا عذولي دع ملامك ... إنما العشق حلال غيره اللقا طبيبي يا من لي سبيت ... والهوى نصيبي من يوم انتشيت أن في شحوبي شكوى لو رثيت ... يا صنو القضيب ما هذا الجفا يوسف الجمال ذا الهوى صعب ... تهت بالدلال شانك العجب أن تسل عن حالي ينفع العتب ... أو بقيت سالي لم يفد دوا من حمل الصدود صرفت في ذا الحال ... من مطل الوعود صار جسمي بال أدمعي شهودي واشتغال البال ... ليس من محيد عن حكم الهوى قد رثى لي اللاحي لما عادوني ... وعلا نواحي مما آدني وجهك الصباحي ضلاّ زادني ... يا زين الملاح أنعم باللقا مُرْ بما تشاه تلقني مطيعاً ... تلقني فداه جهد المستطيع ولعي أذكاه شكلك البديع ... جسدي أضناه منك قول لا من يجد كوجدي يدرِ قصتي ... ليس غير الوعد منك حصتي بعض هذا الصد أصل غصتي ... أنا فيك وحدي مبتلي أنا غيره يا فاتر الجفون ما بدأ لك ... حتى جفوت عاشقاً جمالك ويا قضيب البان ما أمالك ... عن مغرم مؤمل وصالك عذب بما ترضاه يا غزالي ... إلا الجفا شماتة العذال أنعم بوصل منك يوماً بالي ... أنعم طول العمر ربي بالك علامَ تجفوني وما لي ذنب ... وما لقلبي عن هواك قلب بحق من أولاك ما تحبّ ... دعني أقبل مرة أذيالك لم يبق لي على الصدود طَوْق ... وعال صبري عنك هذا الشوق وليس لي إلى سواك توق ... وهل لعيني أن ترى أمثالك

غيره

أحرمت طرفي في الليالي غمضا ... وقلت أرضى علَّه أن يرضى يا هل ترى صدك عني فرضا ... فمن بقتلي يا رشا أفتى لك ناشدتك الله أنلني سولي ... وكن رفيقاً بي يا مأمولي يكفي الذي تراه من نحولي ... يعيذ رب العرش منه حالك غيره يا بدر قل لي هذا الهجران ... تغوي إليه أم أمنيّه جُدْلي بوصل يا غصن البان ... توجر عليه أو في النيّه ما القصد إلا يوماً مرآك ... فالصبُّ صار في بليه لا تخش عذلاً ممن أغراك ... فهو أمار بالأذّيه نعمت بالاً أنعم بالي ... يا ذا الجفون الهنديه وطبت حالا طيّب حالي ... فلي شجون في الطويه فقت الأناما بما حويت ... من الخصال الملكيه ومنك راما عبد سبيت ... بهذا الدلال قرب الطيه كم ذا المطال ولا وصال ... ليست ترام ذي السجيه هذي الفعال يا ربّ الخال ... وذا الغرام لي منيّه أنت المراد دون الأنام ... لا ندّ لك في البريه فما سعاد بين الوسام ... أنت مَلَك أو حوريه غيره إلى هنا يا بدر لي أنت المنى ... كلُّ جنى منك الرضى إلاّ أنا يا فاتني بالدّل لما تخطر ... وشاجني إذ جزت شزر أتنظر قد شاقني منك المحيا الأزهر ... واستاقني وجدي إلى حدّ المنّا بي كلّما ألقاك عني معرضا ... وجد نما لكن جسمي أمرضا يا ذا اللمى حتام لا تبدي الرضى ... صل مغرماً ألبسته هذا الضنا سبحان من آتاك ذا الحسن الفريد ... كم قد فتن صبّا به أمسى عميد أنت الحسن والشوق في قلبي يزيد ... أن الشجن للعظم مني أوهنا كُلّفت في ذا العشق تبريح الجوى ... حتى تفي لكن هيهات الوفا هل منصفي مما به يقضي الهوى ... أو مسعفي خدن على نيل المنى يا بدر لا تسمع مقال العاذل ... وأرع الولا ناهيك وجدي قاتلي فقت الملا حسناً ففق بالنائل ... جُد بالطلا من فيك يا حلو الجنى غيره إذا أمر الهوى رابك ... فلا تفتح له بابك ولا تشغل به دابك ... يسمك الحزن والهما أتيتُ العشق من بابه ... وعللت بأكوابه فما قد ذقت من صابه ... دعاني لم أذق طُعما هو العشق له مبدا ... ولا تلقى له حدّا يذيق العاشق السهدا ... ويبلي الجلد والعظما أيا من قد كوى قلبي ... بهذا الدل والعجب إذا لم تستمع عتبي ... فمن أشكو له السقما تناهى بي الذي أجد ... من الشوق الذي يَقِد فدتك الروح والجسد ... فكن يوماً معي سلما لقد أفرطتَ في هجري ... وملكت الهوى أمري فلا والله ما أدري ... أسحراً كان أم حلما عسى أو علّ أن تشفى ... عليلاً منك يستشفى ونيران الهوى تطفى ... فقل تطفا وخذ مهما غدا مضناك يا حبّ ... له صبر ولا قلب ودمع فيك منصب ... لأن يُسقى بفيك ألما غيره طيري لا غير لا أسلو عنه ساعة ... يا أهل الخير هلاّ رعتم من راعه دمعي سكْب ونار شوقي لا تخبو ... ولي قلب للهوى يبدي الطاعه أنا الهائم عن حبِّ السوى صائم ... ليلي قائم لا أغفى فيه ساعه أشكو الوجدا ولم تزد إلا صداً ... فأرحم عبداً قد نوَّعت أوجاعه مالي صبر وكيف صبري يا بدر ... وذا الهجر أشقى نفسي الطمّاعه طغا الهجران وما يشفي الصب الولهان ... مثل السلوان لكن نفسي نزّاعه أراني البين أنواع الضنا والحين ... وعشق الزين مني فوق الإسطاعه دوام الصد لم يترك للمضنى جد ... ولين القد ينشي فيه أطماعه غيره لو لم تدم بلوايا ... لم تستمع شكوايا ولا درى مبكايا ... من في الهوى يلحاني أكثرت من صدودي ... يا مخلفا وعودي لم ترعَ لي عهودي ... ولم تسل عن شأني أعرضت عني كبرا ... وكان وصلي أحرى لقد عدمت الصبرا ... من فرط ما دهاني حملتني أثقالاً ... وطبت عني بالا قل لي نعم أو لا لا ... فلمطل قد أضناني

العدوى

يا مفرد الجمال ... يا بدر أحسن حالي شمتّ بي عذّالي ... أما كفى أشجاني سبحان من قد أبدع ... هذا المحيا الأروع والحسن طرا أودع ... في طرفك الفتّان أن الهوى هوان ... تضنى به الأبدان ما أختاره إنسان ... إلا وكان العاني مولاي يا مولانا ... يا منتهى منايا لا تتخذ سوايا ... وتسلني بثاني العدوى قد تقدم في المقامة الأولى أن عدوى الشر أفشى من عدوى الخير. وأن الأجرب قد يعدي أهل المصر جميعاً بخلاف الصحيح فأنه لا يعدي أحداً من جيرانه. وهذا يرى أيضاً في الأمراض العقلية والقلبية. وشاهده على ما قالوه أن معلميَّ الصبيان لكثرة معاشرتهم ومخالطتهم إياهم تركّ عقولهم ويأفن رأيهم. وكذلك المكثرون من مخالطة النساء فإن قلوبهم ترقّ وطباعهم تتخنث. فيتجردون عن تلك الشهامة والبسالة المختصة بالحردين من الناس. وقد أعرف كثيراً من أبناء جنسي الذين عاشروا الإفرنج لم تسترق طباعهم منهم إلا الرذائل دون الفضائل. فصار أحدهم لا يقوم عن المائدة إلا وقد مسح الصفحة التي أكل منها مسحاً لا تحتاج معه إلى غسل. وإذا حضر مجلساً أنحى على أحد شقيه وزقع زقعة يدوي منها المجلس. وربما غسلها بعد ذلك بقوله سكوزي أي أعذروني. ومنهم من يلبس هذه النعال الإفرنجية. ويطأ بها وسادتك هذه العربية أو يرخي شعره كشعر المرأة وأول وما يستقر به مجلس ينزع قبعته ويطفق يزرع في حجرتك ما يتناثر من هِبْريتَه. ومنهم من إذا ضمه مجلس بين إخوانه ومعارفه أو غيرهم ورأى فيه أديبين يتساجلان أو يرويان النوادر الغربية أخذ في التصفير. ولكن تصفيراً مختلاّ خلاسياً إي غير إفرنجي محَت ولا عربي حَتْم. إذ لم يكن قد عاشر القوم مدة طويلة تمكنه من تحصيل هذا الفن الجليل. ومنهم من يمد رجله إذا قعد في وجه جليسه. ومنهم من يأتيك زائراً ولا يبرج ينظر في كل هنيهة إلى ساعته إشارة إلى أنه كثير الأشغال جم المصالح. مع أنه يلبث عندك حتى يراك تهوم من النعاس. أو يراك قد حملت وسادتك وقلت شفى الله مريضكم. كما قال الأخفش لمن عادوه في مرضه. مع أن الإفرنج فضائل كثيرة لا تنكر. منها أنهم يرون في استعارة المتاع والماعون والكتب وغيرها عيباً. ومنها أنه إذا زار أحدهم خليلاً له ورآه مشغولاً رجع على عقبيه من حيث جاء فلا يقعد ينتظره حتى يفرغ من شغله. بل لو وجده متفرغاً خفف عنده ما أمكن. وإذا رأى على مائدته كراريس أو صحفاً لم يتلقفها ليقرأها ويفهم مضمونها. ومنها أنه إذا كان للمزور منهم ولد مريض أو كانت زوجته قد وضعت أو مرضت فلا يترك مريضه ويقعد مع الزائر للسلام والكلام فيما لا طائل تحته. ومنها أن أحدهم لا يتزوج امرأة إلا بعد أنيراها ويعاشرها. وأنهم يبوسون أيدي النساء ووجوه بناتهنّ وما يرون في ذلك معرّة وانحطاط قدر. وإنه ليس عندهم أوشن ولا ضيْفن ولا مُزّوٍ. ولا يقول أحدهم لصاحبهم أعرني منديلك طي أمخط فيه أو آلتك كي أحتقن بها. ومنها تساهلهم مع المؤافين وحملهم ما يصدر منهم من الجهل والخطأ محْمَل السهو أو الأغراب. فلا يتعنتون مثلاً على من قال فلان شمّ النرجس وحبق. أو حبق وشم النرجس. أو شم فحبق أو ثم حبق. والمؤلفون عندنا لا يجوزون ذلك. وفي كتاب ألفه أحد معارفي من الديار الشامية باللغة الإنكليزية في أحوال تلك البلاد وأخلاق أهلها. بعد أن وصف عرساً حضره في دمشق ذكر أنهم ختموا العرس بأغنية لم يزل ذاكراً لها بحروفها. وقد رأى تفضلاً منه أن يترجمها إلى اللغة المذكورة. وهي في الحقيقة مرثية في امرأة أذكر منها بيتين وهما: بالله يا قبر زالت محاسنها ... وهل تغير ذاك المنظر النضر ما أنت يا قبر بستان ولا فلك ... فكيف يجمع فيك الزهر والقمر ومع ذلك فإن الإنكليز حملوا روايته على الأغراب ولم يخطئه أحد منهم بقوله كيف يمكن لأهل الشام الموصوفين بسلامة الذوق واستقامة الطبع أن يختموا أعراسهم بالمراثي المبكية.

ولكن لو كانت روايته هذه في اللغة العربية وبلغت مسامع أهلها لعقدوا عليه مجلسين أحدهما عامي والآخر خاصي ففي العامي يقول أحدهم ما شاء الله يا خي مرثية في ختام العرس أسمعوا يا ناس وتعجبوا من حذق هذا الراوي. فيقول الآخر أي والله مرثية بدل الغناء عمركم يا ناس سمعتوا كلام زي دا. فيقول غيره لا حول ولا قوة إلا بالله ما لقيش المغفل دي إلا الرثاء يجعله في ختام العرس. فيقول آخر حسبنا الله ونعم الوكيل يمكنش غفله أعظم من دي أهل العرس يختموا فرحهم بمرثية وما يتطيروش. فيقول غيره الله على دي الراوي هو مغفّل ولا مجنون حتى يكذب على الناس الكذب دا ويملأ كتابه بالهجس والكلام الفارغ. فيقول آخر يا سلام دا الله أغرب ما سمعت أن الناس يستعملوا النواح عوض الغناء والبكاء عوض الضحك والصفع على القفا بدل المصافحة باليد. فيقول غيره ولكن الناس دول اللي قروا كتابه حمير ولا مجانين ما كانش فيهم واحد يقول له "إذا كان نصرانياً" يا خواجا "أو إذا كان مسلماً أو مستسلماً" يا أفندي أهل بلادك يتطيروا ويتشاءموا كثيراً فيما يصحش أن الرثاء عندهم يستعمل في الأعراس. فيقول الآخر سبحان الله هو حمار ضحك على حمير يا خي خلونا منه. فيقول غيره لا إله إلا الله نحب نعرف السيرة أيه أن كان كلامه دا جدّ ولاّ مزح. فيقول آخر مزح أزاي اللي هو طابعه في كتاب سنباع في الدكاكين ومصور عليه صورته بسيف وحمايل وأزرار. فيقول غيره بقا نقول أزاي يبقى الإنكليز يبلغوا كل شيء يستغرفه في حلقهم الغريب اللي عنده سيف بأزرار وحمايل. فيقول آخر أظن الإفرنج كلهم يصدقوا الخرافات. فيقول آخر ياخي دا باب واسع أول الكلام وآخره غفلة من الراوي وحماقة من السامعين. إلى غير ذلك من الانتقاد والتعنت. فأما في المجلس الخاصي فإن القضية تبلغ فيه مبلغاً أعظم من ذلك وأخطر فإنهم يصورونها في صور فتاوى علمية وأجوبة فقهية فيستفتي أعظم أدباء المجلس قائلاً: ما قول أمام الأدباء، وتاج الألباء. في مؤلف زعم أن أهل الشام يستعملون المراثي في ختام أعراسهم. فهل تقبل له شهادة أو لا؟ الجواب. لا تقبل له شهادة عندنا على ذنب حمار. وان باع كل نسخة من كتابه عند الإفرنج بدينار. صورة استفتاء آخر: ما قول عمدة المصنفين، وقدرة المؤلفين، في مدّع ادعى انه سمع بكلتا أذنيه مرثية تنشد في ختام عرس في الشام الشريف. فهل يصدق كلامه وتجوز مطالعة كتابه أو لا؟ الجواب. لا يصدق ولا يوثق بما رآه بعينيه لا في الليل ولا في النهار. ولا بما سمعه بأذنيه وان كانتا كأذني الحمار. استفتاء آخر: ما قول من كلامه مزيل للإيهام، وموضح للإبهام، في كاتب أودع في كتاب ألفّه كثيراً من الروايات الهذاهذية والحكايات الاقناسية. وزعم في جملة ما قاله أن أهل الشام ينشدون المراثي في ختام أعراسهم. فهل يحمل كتابه كله على هذا الكذب أولا؟ الجواب. من كذب في قضية معلومة مثل فأحرى به أن يكون كاذبا في سائر القضايا فالأولى حمل كتابه كله على الكذب. استفتاء آخر: ما قول اجل النقاد. وحجة ذوي الرشاد، في رجل ألّف كتاباً ذكر فيه أنه يعرف كثيراً من الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء. وإنهم له أصحاب وخلان وانساب وأخوان. ثم ذكر في موضع من الكتاب أنه حضر عرسا في دمشق المحروسة كان مزينا بالزهور والرياحين، والمغنيات والمغنين. وكان ختام ما غنّوا به مرثية قيلت في امرأة. فهل على فرض كونه كاذباً في هذه تشفع له معرفته بالوزراء في تصديقه بغيرها؟ الجواب. ما هو بصادق في هذه ولا في غيرها ولا تشفع له معرفته بالأمراء في شيء كما ورد. لن تنفع الراوي الأفّاك نحلته ... بأنه يعرف الأعيان والأمرا استفتاء آخر: ما قول من لا يعلو قول على قوله، ولا يقطع أمر إلا بفصله، في رجل ذي رُواء، وسراويلات مفرسخة من أمام ومن وراء، ألف كتاباً ضمنه ما سمعه وما رآه في بلاده. وكان من جملة ذلك قوله إنه رأى عروساً تزف وتنشد بين يديها مرثية في امرأة. فهل يعتمد على رُوائه بالأخذ في روايته؟ الجواب. ليست الرواية من الرواء. ولا يعتمد على زيّه في الإخبار عن ميته وحيّه، كما ورد: لن تنفع الراوي الأفاّك حليته ... ولا سراويله أن فاه أو سطرا

استفتاء آخر: ما قول عمدة الأنام، عفا عنه الملك العلام في رجل تصدقه العجم. وتأخذ بكلامه في كل أمر أهّم. وتقّر عيون نسائهم بالنظر إلى لحيته، وسراويلاته وحليته. وكشرته وجلقته. وخرعته وجلعته. فيخلبهنَّ خلباً. ويأسرهنَّ غراما وحبا. ألف كتاباً أودعه من أخبار أهل بلاده أي بلادنا ما شاقهنَّ وأعجبهنَّ. وشهاهنَّ وعرّبهنّ. فمن جملة ذلك إنه شهد محفلاً حفيلاً، وعرسا جليلا، قد زين بالأنوار الزاهرة، والوجوه الناضرة، والمآكل القدية، والمشارب الهنية. والمشموشات الذكية. فلما شرع في زفاف العروس إلى بعلها. واستبشرت الوجوه بفتح قفلها، وإذا بمنشدين ومنشدات. ومطربين ومطربات. وقفوا بين يدي العروس. وعلى وجوههم سيماء الحزن والعبوس. وشرعوا ينشدون مرثية طويلة. في امرأة توفيت مذ سنين غير قليلة. فهل يصدق وصفه ويشفع له فيه خلبه الأعاجم وصرفه. وحزبه منهم وحلفه. وقدامه وخلفه. الجواب؟ لا يؤخذ بكلامه فيما افتراه. وإن كان له أخدان من العجم على عدة شعرات قفاه كما ورد. لن تنفع الراوي الأفّاك شيعته ... من الأعاجم لا يدرون ما هذراً مع أن كلام المؤلف لم يضرّ بأهل بلاده شيئاً يوجب التحزب عليه. فغاية ما يقال فيه انه نسبهم إلى وضع الشيء في غير محله. ولكن هذه عادتهم في التعنيت فلا يكاد يسلم منهم مؤلف. ولو أن صاحب هذا الكتاب المذكور قال للإنكليز أنَّ الرجال في بلاده يلبسون الليف والخوص. والنساءَ يتزينَّ بالخسف والشقف. ويتكلمن وأفواههنَّ مطبقة. وينظرن وعيونهنَّ مغمضة. ويسمعن وآذانهنَّ مسدودة. ويرقدن ساعة في الضحى. ونصف ساعة في الظهر. وساعة وربعاً في العصر. وساعتين إلا ربعاً في المساء. وثلاث ساعات إلا في الليل. لعدّوا ذلك منه أغراباً. ومن هذا القبيل أي من قبيل استراق الإنسان مذام عشيرة دون محامده كان إظهار البصيرة أي علامة البكارة المشار إليها. فأنها عدوى سرت إلى نصارى المشرق من اليهود على ما ذكر في كتبهم. مع أن لهذا الجيل أيضاً فضائل كثيرة عرفوا بها من قديم الزمان إلى الآن. منها درايتهم بجمع الأموال والجواهر ومعاطاتهم الحرف الحقيقة اللطيفة كالصيرفية والنقد والقرض. وصبغ ما هو قديم من الثياب حتى يأتي جديداً. ومن ذلك حبّ بعضهم بعضاً بحيث أن الغريب فيهم من جنسهم لا يحتاج إلى أن يتكفف ما في أيدي الناس ممن سواهم. ولا يخاف أن يعوزه المال وهو بين ظهرانيهم فيتقوّت بالجذور. أو يكون خلطاً فقبيح عرضه للأجانب. بل يلقي في كل بلد نزله وكان فيه أناس من جيله أهلاً وسكناً. ومنها أنهم قد اصطلحوا على لغة يعتبرون بها عما يخطر ببالهم من المصالح المعاشية. ولا فرق بين يهودي من أقصى المغرب وآخر من أقصى المشرق في الأخلاق والأطوار والعادات والرأي. بخلاف النصارى فإن النصراني المشرقي إذا قدم إلى بلاد النصارى الغربيين فأول ما يحيونه عند رؤيتهم له قولهم هذا يهودي أو تركي. ثم هو إذا أحتاج إلى مبيت أو طعام من عندهم أبلغوه إلى رئيس ديوان البوليس فصانه هناك في موضع لا نور فيه ولا هواء إلى أن يقضي عليه القاضي. كما جرى هذه السنة على أمير القفّة الذي قدم من دير القمر إلى باريس. وأن يكن موسراً وجاء بلادهم للتفرغ عليها غبنه منهم وخدعه من خدع وسرقه من سرق وقامره من قمر حتى يرجع إلى وطنه منتوفاً مسلوخاً.

التورية

فكيف تركت نصارى الشرق جميع هذه الصفات التي اتصفت بها اليهود وتعلموا منهم تلك الخصلة التي لا يتأتى عنها إلا الغصة والحسد فهل يسوغ للغني في مذهب من المذاهب أن يأخذ دنانيره في يديه ويبعث بها في عين الفقير الصعلوك حالة كونه لا يملك منها قراضة. أو للشبعان أن يلوّح بثريدته للجائع اللامس. فإن قلت أن ذلك أمر طبيعي وإن العلامة إنما يراها في الغالب المتزوجون فلا وجه للحسد. قلت لو كانت هذه العادة طبيعية لكنّا نراها مستعملة عند جميع الأمم. وهؤلاء الإفرنج الذين هم أكثر دراية وعلماً في الطبيعيات لا يستعملونها. لا بل يفنّدون مستعملها ويقولون أن العُقْر يكون غالباً سبباً في العُقْر وأن العروس منهم أول ما يحسّ بالأنشوطة قد عقدت في عنقه يأخذ عروسه ويعتزل بها في ناحية لا يبصره فيها أحد من خلق الله مجانية لأسباب الحسد، الموجب للنغص والكمد. فلا يرون أن سرور شخص يكون سبباً في حزن جماعة. وإنما قلت الأنشوطة لأن عقد الزواج عندهم تنحل بأسباب كثيرة. فأما قولك أن العلامة إنما يراها المتزوجون فلا وجه للحسد فهو كلام من حاول المغالطة والتوريب والمؤاربة. أو هو ولا مؤاخذة بما أقول كلام من لا بصرة له ولا خُبر. فقد أجمع العلماء كلهم المتبلغ منهم والمقتر والمتكفف والمعتر والعريان وذو الرعابيل والمسجون والمكبل والمشكو والمرغم أنفه على أن المتزوِّج أضيق عيناً بالحسد من العزب. وذلك أن كل إنسان يظن أن غيره في حرفته أسعد منه حالاً فلا يفكر إلا في وجه أسعديته دون أشقويته. ولما كانت ليلة الدخول بالعروس من الليالي الغراء وأن تكن حالكة كانت مظنة لأن تنشى الحسد في صدر الخبير بها دون تذكر لما يعقبها. وفي المثل وما ينبئك مثل خبير. هذا وأني أستميح العفو من الجناب الأكرم. المقر الأفخم. حضرة الصيْر المكرم. عما أريد أن أسأله عنه على وجه الاستفادة لا الانتقاد فأقول. من أين تعلم يا ذا البصيرة أن تلك البصيرة التي يخضب بها المنديل ويعقد على علم إيذاناً ببكارة البنت هي علامة البكارة. أفليس من الممكن أن يكون ليلة الدخول بها قد فار التنور، وفاض المسجور أو بقيت منه عقابيل، دبج المنديل؟ أو يكون الرجل قد ذبح عصفوراً أو جرح أحد أصابعه إذا كان هو الذي سبق اقتطاف تلك الوردة؟ أو تكون البنت قد ادخرت فيذلك الصوان شيئاً من الدم. فإن قلت أن الرجل يعرف ذلك بمجرد التذوق، قلت لعمري ولعمر أبيك أن تلك الساعة ليست وقت وعْي ومعقول، بل وقت دهشة وذهول. ولا سيما إذا وقف وراء الباب جماعة يضجّون ويعجُّون. ويلحقون ويلجوُّن فأفِد الجواب عن ذلك. وها أنا منتظره من هنا وهنالك. التورية

من عادة أمثالي من المؤلفين أن يقهقروا أحياناً ويطفروا فوق مدة من الزمان يلفقوا واقعة جرت قبلها بأخرى بعدها. وذلك يسمى عندهم التورية أي جعل الشيء وراء. وانهم أيضاً يبتدئون بذكر صفات الشخص الذي بنوا عليه مؤلفهم منذ ابتدائه مناغاة محبوبته إلى وقت خفوته في الزواج. ويذكرون خلال ذلك أموراً طويلة مملة وذلك كصفوة وجهه عند لقائها وتغير حركات نبضه وبهره وعيَّه عن الجواب وبعثه إليها عجوزاً وكتاباً واجتماعه بها في مكان كذا وزمان كذا. وكتخيفها ألواناً عند قوله لها الفراش، الضم، العناق، الساق على الساق، الرضب، الملاسنة، البعال وما أشبه ذلك وربما أساءوا الأدب أيضاً في حق الأب والأم. فأنهم كثيراً ما يصرحون بأن الأم ترضى بأن تكون ابنتها فتنة لناظريها. وتتساهل معها في تنهيد زمرة من الرجال لتقاسمها منهم شطراً. وأن الأب من حيث أن حجره في حجر امرأته لا في رأسه لا يمكنه منع تلك الأسباب. وأن الخدمة لا يكونون إلاّ ذوي حَذْل مع المرأة على الرجل. فالخوادم للإقتداء بسيرة سيدتهن والخادمون للطمع فيها. وفي الجملة فأنهم يجعلون بيت البنت المعشوقة دسكره وماخوراً وحابوراً ومنبتاً لجميع أنواع الفساد والحيل والمكائد وكل من أخواني هؤلاء المؤلفين يخترع حيلة من رأسه ويعزوها إلى غيره. أما الطفرة إلى وراء فعندي أنه لا بأس بها إذا كان المؤلف رأى مذهب التأليف قد سدّ أمامه ثم يعود إلى ما كان عليه. وأما تبليغ الرجل إلى سرير عروسه ثم أطباق الكتاب عليهما من دون ملاوصة لمعرفة أحوالهما بعد ذلك فلست أرضى به. إذ لا بدّ لي من أن أعرف ما جرى عليهما بعد الزواج. فأن كثيراً من النساء اللائي يحسَبْن إناثاً قبل تولي هذه الرتبة الشريفة يصرن بعدها رجالاً كما أن الرجال تصير نساء. من أجل ذلك رأيت أن أتتبع الفارياق بعد زواجه أكثر من تتّبعي إياه قبله. إذ الكلام على أثنين أدعى إلى العجب منه على واحد. فأما الإسفاف للأمور الخسيسة والدعلقة والدنوق من شأني. فأذن لي إذاً يا سيدي ورخصي لي يا سيدي في أن أستعمل الطفرة وأقول.

سفر وتصحيح غلظ أشتهر

أن الفارياق حين كان مرتقباً بربقة الحب قبل الزواج كان قد أستدعى به أحد الخرجيين في الجزيرة البُخْر أي في الجزيرة التي يتكلم أهلها بلغة منتنة. ليكون عنده بمنزلة معّبر للأحلام بأجرة أكثر مما كان له عند الخرجي بمصر. فمن ثمَّ عزم على السفر وطالع به خطيبته قبل الدخول بها بمدة. فقالت لا بأس فإن للرجل حقاً على امرأته أن يستصحبها حيث شاء. وأن كل بقعة من الأرض تكون لها في صحبته مغنى ووطناً. ثم أخبر أمها بذلك فرضيت. فلما وقع بالزواج وأحكمت عقدته قال الفارياق لزوجته ينبغي لنا الآن أن نتأهب للسفر. لأن أحلام الخرجي قد تكاثرت في رأسه ويخشى أن يفوته تعبيرها. فقالت أو ذلك من جدّ؟ هل جرت عادة النساء بأن يسافرون عقب الزواج ويعرضن أنفسهن للعقم والخطر؟ أليس في مصر مندوحة عن الغربة والسفر؟ كيف أفارق أخواني وأهلي وأذهب إلى بلاد مالي بها من صديق ولا خدين!؟ قال ما غرّرت بك ولا قلت لك شيئاً غير ما قلته من قبل. قالت ما كنت لا علم من الزواج ما أعلمه الآن. فقد شبهه الناس بالسعوط الذي يعطيه الطبيب اللنائم أو السكران حتى يفيق. قد علمت الآن أنَّ المرأة لم تخلق للسفر وإنما خلق السفر لها. قال: أني وعدت الرجل بأن أسافر إليه فلا بدَّ من إنجاز الوعد: فقد يقال في المثل أن الرجل يربط بلسانه لا بقرنه. ومع ذلك فإن خرجيّنا هذا مسافر معنا بامرأته فأنت مثلها. قالت ما أنا كزوجة الخرجيّ فإني الآن حديثة الصبغ وفي برزخ البكر والمتزوجة. ولم أسأم بعدُ من الأرض حتى أدخل إلى البحر. فلما علمت أمها بذلك الحت عليها في السفر. فقالت دعوني إذاً أستشير طبيباً لاُ علم هل سفر البحر يضر بالمتزوجة حديثاً أولاً. فجيء بالطبيب فلما سمع كلامها ضحك وقال. إنكم يا نصارى الشرق تنذرون للكنائس رجاء أن يمنّ عليكم صاحب الكنيسة بالحبل أو الشفاء من بعض الأمراض وأما نحن فنذر للبحر. فإن النساء عندنا حين ييأسن من الحبل يقصدن ظهر هذا الولي ويلتمسن بركته. فمنهن من ترجع حبلي بفذّ ومنهن من تضع توأمين. ولا سيما إذا كان ربان السفينة ذا رفق بالنساء يطعمهن ما يشتهين. فقال الفارياق في نفسه اللهّم أجعل ربان سفينتنا عنيفاً شرساً نكداً شكساً فظاً عسراً. فلما سمعت ذلك سكن روعها ومالت إلى السفر. فمن ثمَّ أخذوا له الأهبة وسافروا إلى الإسكندرية. أما السفر من بولاق في القنج فأنه من أعظم اللذات التي ينشرح لها الصدر فإن النيل لا يكون إلا ساجياً. ورئيس القنجة يقف قبالة كل قرية ليتزودوا منها الدجاج والفاكهة الطريئة واللبن والبيض وغير ذلك. وناهيك بماء النيل عذوبة ومصحة. فالراكب في إحدى هذه القنج لا يزال طول نهاره آكلاً مسروراً قرير العين بما يراه نضرة الريف وخصب القرى. حتى يودّ أن تطول مدة سفره فيه وأن كان في قضاء أمر مهم. فأغتنم الفارياق حٍ هذه الفرصة وأمعن في قضاء الأعذبين ونسي مصر ولذاتها. ونعيمها وحمايتها. ورَمَدها وآفاتها. والكتب ومشايخها. والأخراج وتخاتخها. والمكاتب وبرابخها. والطنبور وأوتاره. والحمار وفراره. والطبيب وقنزعيته. وصاحب المعجزة وهجرعيته والسرى ورائحته. والوباء وجائحته. وما زال على هذه الحالة حتى وصل إلى الإسكندرية شبعان ريان. وقد تزود ما يقوم بحاجة البطالة في البحر الملح. وفاز ونجح أي فوز وأي نجح. سفر وتصحيح غلظ أشتهر

كان الخرجي رفيق الفارياق في السفر قد كتب كتاباُ من مصر إلى بعض معارفه بالإسكندرية ليهيئ له نُزلاً. فلما وصلوا إليها أقاموا فيه مدة ينتظرون ورود سفينة النار التي تسافر إلى الجزيرة. وكانوا جميعاً يأكلون على مائدة واحدة ويتفاوضون في المصالح الخرجية وفي السفر وغيره. وكانت زوجة الفارياق لا تدري شيئاً سوى بيت أهلها. ولا تتكلم في أمر إلا فيما جرى لها مع أمها أو لامها مع الخادمة أو لهذه معهما وكانت إذا أخبرت مثلاً بأن الخادمة ذهبت إلى السوق لتشتري شيئاً تخللت كل جملة بضحكة طوياة. فاقتضى لأخبارها من الوقت نحو ما كان اقتضى للخادمة من الذهاب والإياب وسبب ذلك أن النبات في مصر لا يعاشرن أحداً سوى الخوادم وأهل البيت. أما أمهاتهنّ فلا يطالعنهن بشيء من أمور الدنيا مخافة أن تنجلي الغشاوة عن أبصارهن فيعرفن ما يراد منها. فمن ثم كان تحصل معارفهن كلها من الخوادم لا غير ولما كنّ هؤلاء يرين أن أخبار النبات بما يهوين ويملن إليه بالطبع خيراً لهن عظيماً. فإذا رأت إحداهن مثلاً فتى جميلاً بادرت من ساعتها إلى البنت وقالت لها: قد رأيت اليوم يا سيدتي شاباً مليحاً ظريفاً لا يصلح إلا لك. وأنه حين نظرني وقف وشخص أليّ وكأنه يريد أن يكلمني. وأخاله عرف إنك أنت سيدتي. فإذا رأيته المرة الآتية كلمته. وأشباه ذلك عن الكلام مما يجعل البنت ذات ضلع معها إذا غضبت منها الأم. ولا يخفى أن البنات إذا كنّ جاهلات بالقراءة والكتابة وحسن المحاضرة وبآداب المجلس والمائدة وغيرها، فلا بدّ وأن يتعوّضن عن هذا الجهل بمعرفة الحيل والمكايد التي يتخذنها وسيلة لما يرمن. فإن البنت إذا اشتغلت بقراءة فمن من الفنون أو بمطالعة الكتب صرفها ذلك عن استنباط الحيل. فأما إذا لم يكن لهن شغل غير ملازمة البيت وليس فيه غير الخادمة فأنّ أفكارهن وأهواءهنّ كلها تنجمع إلى مركز واحد وهو اتخاذ الخادمة وسيلة لهن وسنداً. فكلامها عندهنّ أصدق من كلام أمهاتهنّ. فالأولى عندي أنا العبد الحقير أن تشغل البنت بإحدى الفنون والعلوم النافعة سواء كان ذلك عقلياً أو يدوياً. ألا ترى أن الأنثى مفطورة على حب الذكر والذكر على الأنثى؟ فجهل البنات بالدنيا غير مانع لهن من معرفة الرجال واستطلاع أحوالهم. بل ربما أفضى بهنّ هذا الجهل إلى التهافت عليهم والانقياد إليهم من دون نظر في العواقب بخلاف ما إذا كن تأدّبن بالمحامد والعلم اللائق بهن فإنهن ح يعرفن ما يعرفن من الرجال عن تبصر وتدبر. وهناك قضية أخرى وهي أن النساء إذا علمن من أنفسهن أنهنّ أكفاء الرجال في الدراية والمعارف تترّسن دونهم بمعارفهنّ وتحصنّ بها عند تطاول الرجال عليهنّ. بل الرجال أنفسهم يشعرون بفضلهنّ فيرتدعون عن أن يهتكوا حجاب التأدب معهنّ. مثال ذلك إذا أجتمع غلام وبنت في خلوة وكان الغلام قد قرأ ودرى والبنت لم تعرف شيئاً غير ذكر اللباس والزينة والخروج إلى البستان. لم يلبث الغلام أن يتعدى طور الأدب معها لاعتقاده أنها لم تخلق في الدنيا إلا لقضاء وطره منها. بخلاف ما رآها ذات رأي رشيد. وقول سديد. وفكرة مصيبة. وفهم للأمور البعيدة والقريبة. وحسن محاضرة وجواب عتيد. ومعارضات ومماتنات. فأنه والحالة هذه يهابها ويحترمها. وليس كلامي هذا مخالفاً لما قلته في إغضاب الشوافن. وإنشاب البراثن. وإنما العبرة باختلاف وسائل العلم. والمراد من هذا الاستطراد كله أن نقول أن زوجة الفارياق وإن يكن قد فاتها كثير من معلومات الرجال والنساء فقد أبدت من المعارضة لأمها عند تصادم مصلحة الزواج بمفسدة خرجية الفارياق ما أفحم المجادل، وأبكم المناضل. لكنها بقيت في غير ذلك جاهلة. فإن الفارياق لما كان ذات يوم على المائدة أخبره الخرجي بقدوم سفينة النار وحثه على التأهب للسفر. فسمعت بذكر سفينة النار فقالت ما معنى هذا. فقال لها الخرجي هي سفينة ذات ألواح ودُسُر وإنما تسير بقوة بخار النار. قالت وأين النار؟ قال في قمين بها. قالت يا للداهية كيف أسافر في سفينة فيها قمين وأعرض نفسي للنار؟ أليس السفر من هنا إلى الجزيرة يكون في القنج كسفرنا من بولاق؟ قال أن القنج لا تصلح للبحر الكبير. قالت أما أنا فلا أسافر ويسافر من يريد أن يحترق. فترضاها الخرجي وزوجته فأبت.

فلما حان الرقاد اضطجعت في الفراش وأدارت وجهها إلى وجه الحائط: وهذا هو المقصود من هذا الفصل تنبيها للناس على أن هذه العادة هي من جملة العادات التي أخطأا استعمالها إذ ليس في الأدبار شيء يدل على الغيظ. بل الإقبال هو المظنة له فإن المرأة إذا واجهت زوجها عند الاضطجاع وقطبت وجهها في وجهه وزوت ما بين حاجبيها، أو شمخت أو سدّت منخريها أو غمضت عينيها كيلا تشم رائحة وتبصر سحنته أو غطتهما بيدها أو بكمها أو منديل كان ذلك إشارة إلى غيط. فأما في تولية الدبر فلا علامة تدل عليه. فإن قلت أنها إذا واجهته ربما غثت نفسها من نفسه. إذ الرائحة الكريهة لا بد وأن تفعم المناخر وأن سُدّت فلا محيص عنه بالأدبار قلت الأولى أن تستلقي فيندفع المحذور. وبعد فأن الدبر هي من الأشياء التي طالما عُني الناس بتفخيمها وتكبيرها وتعظيمها حسّا ومعنى. أما حسّا فلأنهم اتخذوا لها الزناجب والمنافج والمرافد والرفائع والأعاجيز والغلائل والمرافق والعُظامات والحشايا والأضاخيم والمصادغ إجتذاباً لقلوب الناظرين وفتنة لعقول العاشقين. فكيف يكون شيء واحد مستعملاً وسيلة للرضى والغضب معاً فهو خُلْف بين، وأما معنى فلأن العلماء والأدباء وسادتنا الشعراء ما زالوا يتغزلون بها ويتنافسون في عرضها وسعتها، حتى أن بعضهم قال من رأى مثل جبّتي ... تشبه البدر إذا بدا بدخلي اليوم خصرها ... ثم أردافها غدا وقال عمر بن كلثوم وما كمة يضيق الباب عنها ... وخصر قد جُننت به جنونا

ولقائل هنا يقول أن الشاعر لم يصف الخصر إلا بكونه موجباً لجنونه. وأن الإشارة إلى كونه نحيلاً بناء على جنون الناس به إذا كان كذلك غير ناصّة وأخرى أن يكون هذا المفهوم الضمني جاريا على وصف كل عضو. إذ لو قال وما كمة جننت بها جنونا لعلم بالبديهية إنها تملأ الباب ويفضل منها شيء ويا ليت شعري هل الألف واللام للعهد الجنسي أو الذهني. وهل الإمام الزوزني تعرّض لشرح ذلك، ثم أنه من أهّم ما يشغل بال المرأة ويسهرها الليالي، هو تفتن ناظرها بتفخيم ذلك الموضع الرفيع العالي. وربما لهيت عن وجهها وسائر جسدها وغادرته بلا زينة من فرط اشتغالها به ولو تضّمر وجهها وذوت غضاضة بدنها لمرضٍ أو كبر فقلّ اعتمادها على محاسنها لم تبرح معتمدة عليه ومتعهدة له. فهو رأس مال الخلب والتشويق وما من امرأة إلا وتتمنى أن يكون لها عين في قفاها لتكون ناظرة إليه ومتعهدة له دائما. ولقد يهون عليها أن تقف ساعة أو تمشي ساعتين أو ترقص ثلاثاً ولا أن تقعد هنيهة خشية من أن يخشان أو يضمر. وإنها حين تنظر إلى عطفها وهي ماشية أو راقصة فما هو إلا رمز إلى ما ورائه. وأن تهدكرها وتبهكنها هما أنشب مصلاة يعلق بها قلب الرجل. وذلك لأنها تعلم أن الحكمة الخالقية رسمت من الأزل بأن تكون كثرة اللحم والشحم في ذلك الموضع. بالنسبة إلى سائر البدن لا بالنسبة إلى دكاكين اللحامين، شائقة للملوك والسلاطين والأمراء والقضاة والأئمة والقسيسين. والأحبار والموابذة والهرابذة والعلماء والبلغاء والخطباء والأدباء والشعراء والعطارين والصيادلة والعازفين بآلات الطرب ولسائر الناس. لا لأنهم يتخذون من لحمه كبابا أو من شحمه إِهالة. أو يستصبحون عليه أو يتخذون من جلده كُوْبه. ولكن ملأ لعيونهم وشرحاً لصدورهم. فإن عين ابن آدم مع كونها ضيقة لا يملأها ما هو أوسع منها وأكبر بألف مرة. وإشعارا لهم بأن حكمتهم في هذه الدنيا وتنطّسهم وعزهم ومجدهم وأن علت على الأطواد الشامخة والجبال الشاهقة فما هي إلا سافلة عن حضيض هذا الموضع ألاَ وإنها تعلم إنك إذا جلست مثلا حد هؤلاء الأعزة الكرام أمام بعض المناصع على سرير مذهب. وضربت عليه قبّة ممّوهة مزخرفة منمنمة منقشة مزوقة مكسوة بالحرير والديباج ومكللة بالزهور والرياحين. استنكف أن يقعد هناك نصف ساعة. على أنه لا يستنكف أن يقعد عامة نهاره وليله لذلك المقام المنيف. وهو حاسر الراس، مشعث، الشعر، حافي الرجل، فاغر الفم مندلع اللسان، سائل اللعاب: محملق العينين، مشمر الذيل، شابح الذراعين معوجّ العنق مؤلّل الأذنين، في أقبح هيئة يمكن للإنسان أن يتصورها في حق ذي مقام. حتى لو سمع نأمة من هناك لظن أن السلطان قد بعث إليه بالات الملاهي يهنئه على هذا الفوز العظيم، والمغنم العميم، وتصوّر في باله ان صوت العود لم يكن بأشجى من غيره إلا لكون هذه الآلة قد صنعت على مثال شطر ذلك الموضع ولو كان كالشطرين لسُمع له منطق بإعراب. وأن شكل القبة مأخوذ منه. ورائحة الندّ تروى عنه، وإن العرب من زيادة شغفهم به الحقوا حروفه بالأفعال السداسية الدالة على طلب الفعل أو التي يعتبر فيها الشيء كونه على حال مّا من الأحوال، وإن فردسة صدور الرجال وعرض ظهورهم لا تجدي نفعاً مع عرضه. وأن المعالي في السَّراة متى تلح لهم ذات تأكيم يعدن مسافلا، وإن هذه الحقيبة مع ثقلها سواء كانت حاملة كما ذهب إليه بعض الشعراء، أو كانت محمولة كما هو في الواقع فليس ثقلها إلا كثقل كيس ذهب على حامله. وإنها أسخن الأعضاء جميعاً في الشتاء إذ لا تحتاج إلى تدفئة وإبردها في الصيف. وإنها مع كونها اول ماس للأرض عند القعود فلا تزال انعم من الخدين. وأملس من اللديدين، فلهذا كانت لذة تقبيلها للمقبّل العذريّ اعظم من لذة تقبيل الذقن والأنف والعين والجبين. وأن الناس لها أسماء الملوك والسلاطين، وذوي السيادة والمعالي وأئمة الدين. وعند قوم "أقول واستغفر الله" تذال لها الأسماء الحسنى، على أن تسبيحهم كل يوم أن يقولوا ربنا تقدّس اسمك. ألا وإنها تعلم أن كثيراً من البهائم أعقل من الناس أو أسعد حالا من أصل الفطرة. فإن الذكر من الحيوان غير الناطق لا يهيج على هبرتين من اللحم في أنثاه مع احتوائهما على القبل والدبر إلا في وقت معلوم.

وهذا الذكر من الحيوان الناطق لا يزال هائجاً عليهما مزبداً لا غماً راغياً متزغّماً هادراً محمحماً مبقبقاً زاغداً مُلْعباً جالباً لاجباً وربما جنّ أيضاً. وما ذلك إلا لمجرد وهم أنهما بأهدافهما تعينانه على خسق الهدف من قُبُل وإلا فما سبب هذا الجنون. نعم وتعلم أيضاً أن هذا الموضع مع كونه في حيّز الجسم الأسفل فهو، موازٍ لخط الرأس ارتفاعاً إشارة إلى أن تسفله لا يحط من قدره ورفعته. حتى لو فُرض أنه جعل عند الرجلين لبقيت له هذه المنزلة والاعتبار بعينه. حتى أن بعض النساء يرين أن كشفه أوْلى من كشف الفم لأنه أقلُّ أذى منه. إذ لم يعلم إلى أن أحداً قُتل بفلتة منه فأما فلتات اللسان القتّالة فلا تعدُّ ولا تحصى. وبناء على ذلك كن يتعمّدن الخروج في اليوم الراح وهو عندهنَّ من الأعياد المباركة، وبعضهن يرين إنه جدير بالحلي والزينة والتنقيش سواء كان ظاهرا او مستورا. قال بعض السّتاهين. يا سائلي عن أي جز ... ء في المليح اجملُ لقد روى استأذنا ... نصف الجمال الكفل قال وذلك لاشتماله على أشكال كثيرة، لأنك إذا اعتبرت ذروة الرانفة وحدها ظهر لك الشكل المخروط، وإذا اعتبرتها مزدوجة بالأخرى تبّين لك نصف دائرة أو شكل هلالّي، وإذا نظرت من نقطة العيسب إلى غاية ما يوازيها من سطح الشق الواحد بدا لك المستوى أو المسطح، أو منه إلى مادون ذلك قابلك المقبّب والخط المنحني، وإذا اعتبرته مع الإكباب واجبك المجوّف وهلم جرّا. وليس من سائر أعضاء البدن من الأشكال ما لهذا. قلت ما أشوق قول الشيخ ناصيف اليازجي الأديب المشهور. وتموّجت أردافها فأخو الهوى ... بين اضطراب الموجتين غريق.

ثم أن الظاهر من وجود اسم المرفد في لغتنا هذه الجليلة، ومن قول صاحب القاموس المخدّم رباط السراويل عند اسفل رجل المرأة، أن لباس نساء العرب قديماً كان كلباس نساء الشام الآن. أو لعله كان خاصّاً بالحواريات غير أن قول المتنبي، وأعفّ عما في سراويلاتها، يفيد التعميم، بناء على تغزّله بالباديات كما أشار إليه بقوله، وفي البداوة حسن غير مجلوب، وقد تقدم، قال القاموس الدبر بالضم وبضمتين نقيض القبل ومنكل شيء عقبه ومؤخره- والإست والظهر، قلت أسماء حروف هذه اللفظة لها معانٍ وهذه الحروف كيفما قلبتها ظهر لك منها أيضاً معنى، وكذا إذا جمعت بين كل حرفين منها، وعددها بحساب الجّمل مزدوج إشارة إلى ازدواج الجهتين، كما أن الضمتين إشارة إلى الثقل والرزانة، ومادتها من اغرز الموادّ، وهل وضعها مؤخر عن المؤخر أو متقدم عليه أو اشتقاقها من قولهم جئتك دبر الشهراي آخره واشتقاق هذا منها خلاف، والظاهر أن الأمور المعنوية الاعتبارية مشتقة من الحسّية وبقي الخلاف في اشتقاقها من عقب الشيء، وقد ورد في القرآن ولّوا الأدبار، وأنكرها المطران أتاسيوس التوتنجي في كتاب الحكاكه، واعلم إن العرب قد وضعت للدبر ما ينيف على تسعين لفظة ما بين اسم ولقب وكنية. فمن أسمائها ما تقدم في إثارة الرياح ومن بعض كناها أمّ سُوَيد وأمّ العِزْم وأمّ خنَّوْر. فلولا أنهم أنزلوا منزل الأسد والسيف والخمر في البأس الفتك والإسكار لما خصّوها بذلك لا يَرد هنا ما قاله ذلك الأعرابي في السنّور لعنه الله ما أكثر أسماءه وأقّل ثمنه. فإنّا نقول إن قلة ثمن الحيوان لكثرة وجوده لا يقدح في قيمته ومنافعه. وإن كثرة أسمائه هي من حمل النظير على النظير لحصول المشابهة بينه وبين أمّ أمَّ سويد. من جهة أن السنّور هو من الحيوانات الكثيرة النتاج. ومن طبعه اللعب والهراش وإن يكن يعقبه غير مرة خدش وإدماء. وخمش وإصماء. وحمش وإعماء. وله تحمّل على المكاره والأذى حتى قيل أن له سبعة أرواح ولا يعجزه صعود شرف ولا هبوط هوة. وإنه إذا شمّ رائحة شيء أعجبه من الطعام تسلق على الجدار ودخل أضيق مكان حتى يظفر به. وإنه إذا مرَّت عليه يد نفَّش ذنبه واخذ في خرخرة وهينمة تفصح عن رضاه باللمس. ومن طبعه أيضاً النظافة والأكل خفوة حياء أو خوفا. فإن أبيت إلا المشاحة كما هو دابك من أول هذا الكتاب بأن قلت ما بال أسماء الداهية والعجوز إذاً كثيرة وأسماء الشمس والقمر قليلة إذا كانت التسمية مبنيّة على جلالة المسمى أو نفعه. قلت أما كثرة أسماء العجوز فباعتبار أنها كانت صبية أو أنها تكون ذريعة لها. وأما الداهية فباعتبار خشيتها. والإجلال قد يكون عن خشية كما يكون عن مقة. فأما الشمس والقمر فأسماؤها كثيرة جداً غير إنها لم تشتهر عندنا وليس ذلك بأول ظلم فعله الناس في حق اللغة كما بيَّنته في كتاب آخر ثم هذه جملة الأسماء والصفات التي وضعت لامّ ام سويد وقد بذلت الجهد في استقرائها وهي الأثيثة الخبنْداة الراجح الرَّجاح الرَّداح الدُلَخة البهَيْر الشَوْترة العَجِزة العَجْزاء والمُعجَّزة الدَّهاس الدَهساء البَوْصاء اللفَّاء الركراكه الزكزاكه الوكواكه الضِبرك الضنَّاك العَضنَّك الوَرْكاء الوَركانة الثَّقال الجزلة السجلاء المكفال الهركولة المؤكَّمة الألياء الأليانة ومن الغريب أن صاحب القاموس ذكر الأستة والسّتاهي ولم يتكرم علينا بمؤنثهما فإنا أنبتهما هنا عن أذنه: ومن ذلك نفج الحقيبة. ذات الأهداف. ذات التأكيم ذات الرضراض من نسوة بلاخ. ولك أن تقول بَلخاء وأن يذكرها الفيروز أبادي إلا بمعنى الحمقاء. هذا ما عدا ما يشير إلى هذه الغبطة والسعادة من الألفاظ إشارة صريحة نحو الجعباء الضخمة الكبيرة. الجَلَنْباء السمينة وكذا الخُنضبة والخَضْعَبة والكبْكابة والحوثاء والوَعثة. الخِدَبّة الضخمة. الدِخْدبة المكتنزة. السَرْهَبَة الجسيمة. الطُباخيَّة الشابة المكتنزة. اللبُاخيَّة اللحمية وكذا الدعِكاية. المُبرْندة الكثيرة اللحم ومثلها الهُدكورة. الثَأدة المكتنزة الكثيرة اللحم. الثَهْمَد السمينة العظيمة. الرَجْراجة التي يترجرج عليها لحمها. الضَّمْعَج المرأة الضخمة التامة. البَيْدَج البادن وكذا البَلْدج. الدَّحوح العظيمة. الدُمْلحة الضخمة التارة.

وليمة وأبازير متنوعة

الصَلدحة العريضة. البيدحة التارّة. المُرمورة الناعمة الرجراجة. الدخوص الممتلئة شحما. الرَّضراضة الرجراجة. البلِز الضخمة. الدَحملة الضخمة التارة. الدُمحلة السمينة ومثلها الجَمُول. الرَّبلة العظيمة الرَبَلات. القِصاف العظيمة. المُزنَّرة الطويلة الجسيمة. المُلعَّظة السمينة الطويلة الجسيمة. الهَيْكَلة العظيمة. الضُناكة الصُلبة المغصوبة اللحم. الكِناز الكثيرة اللحم الصلبة. المُنِزّزة المتصلبة المتشددة. المُلزّزة المجتمعة الخلق الشديد الأسر. الخَنْضَرف الضخمة اللحيمة الكبيرة الثديين. القَبْبَلِس المرأة الضخمة ومثلها المُثْخنة. الشخيصة الجسيمة. الدَّيَّاصة اللحيمة القصيرة. العانك السمينة. العَبِيلة الغليظة. المألة السمينة الضخمة. الوَرِهة ورهت المرأة كثر شحمها. وخَظية بظية سمينة مكتنزة. وغير ذلك مما لا يمكن استقصاؤه. فهل لجناب مولانا القاضي المكرم ولأميرنا المعظم نصف هذه الأسماء والنعوت. انتهى البرهان على الخطأ في استعمال هذه العادة. وأقول الآن إنه لما كان ما كان من الأدبار المشار إليه ترضاها الفارياق في الصباح للسفر وأعانه على ذلك الخرجي وامرأته ووعدوها برؤية أشياء بديعة في الجزيرة تنسيها مكاره الفراق. فرضيت بعون الله وحسن توفيقه وسافروا في سفينة النار. وقد لطف الله تعالى بأن ألقى القسوة في قلب الربّان عليها. فكان إذا سمعها تئن من الألم يغضب ويزمجر ويتسخط على النساء وسفرهن. غير أن بعض الخدمة وكان جميلاً حاول ان ينوب عنه فلم يتمّ له ذلك لقصر المسافة إذ كانت عبارة خمسة أيام. وهي في البرّ كافية لتصبيّ خمس وعشر نساء متزوجات وخمس عشرة أرملة. ثم وصلوا إلى معتزل الجزيرة وأقاموا فيه ثلاثين يوماً وبعد ذلك دخلوا البلد ونزل كل منهم منزلاً لائقاً به. وليمة وأبازير متنوعة وأخذ الفارياق وزوجته يطوفان في شوارع المدينة وهما في زي أهل مصر. وقد اتخذ هو سراويل واسعة يلتفّ عليه أسفلها من أمام ومن وراء عند المشي. والتحفت هي ببرنس ليغطي كميها إذا كانا يكنسان الأرض. فجعل المارّون وأصحاب الدكاكين يتعجبون منهما ولم يكونوا يعرفون زوجته إنها امرأة. فكان بعضهم يقول أرجل هذا أم امرأة وبعضهم يتعقبها. وبعضهم يلمس أثوابها ويحدق في وجوههما ويقول ما رأينا كاليوم قطّ شيء لا هو رجل ولا هو امرأة فصادفهما رجل من حذّق فقهاء الإنكليز يقال له استيفن. فتفرس فيها فعرف أن الفارياق رجل وأن الفارياقية امرأة. فتقدّم إليهما وقال لهما هل لكما يا رجل ويا امرأة أن تتغدّيا عندي اليوم الأحد القابل. قال أفضلت قال إن داري في عِبْر البحر في محل كذا فهلمّا إلينا في الصباح قبل الغداء.

فلما كان يوم الأحد ركبا في زورق وقصدا منزله فوجداه قد استعد للخروج فكأنه أراد أن يأتي ببعض معارفه للفرجة على ضيفيه والظاهر إنه سكر في الطريق أو عند أصحابه فلم يعد. فلما رآهما قال لهما قد وجب عليّ أن أذهب في قضاء مصلحة. ولكن هذه زوجتي وبناتي فاستأنسا بهن ريثما أعود ونتغدى جميعاً قالا لا بأس ثم قعدا مع زوجته. وكان في المجلس شابّ من الإنكليز يناغي إحدى بنات الفَرضي وهو آخذ بيدها. ثم جعل يبوسها بحضرة أمها والزائرين. فاصفرّ وجه الفارياق واحمرّ وجه زوجته وبرقت أسّرة الأم. فقالت الفارياقية لزوجها كيف يبوس البنت هذا الفتى وما يستحي منا. فقال لها ليس البوس عند الإفرنج مما يعاب. فإن الزائر منهم إذا دخل بيت أحد من أصحابه تعيّن عليه أن يبوس زوجته وبناته جميعاً ولاسيما إذا كان في يوم عيد. على أن عندهم قد بمعنى ما يراد بعدها ولكن هذه عادتهم. قالت ولكن هلاّ يستحي منا حال كوننا غريبين عنه. قال إذا كان الشيء مباحاً كانت إباحته أمام القريب على حد سواء. أو لعل الرجل قد ظنانّا لا نعرف هذه الصنعة في بلادنا. قالت ما اجهل من ظن هذا فإن القبلة عندنا لا تكون إلا مع زفير وتنهد ومص وشم وتغميض العينين. فأما هذا فإني أراه يرفّ من إحساسٍ فعل المستخفّ بما تحت يده. قال قد يظهر لي من القاموس إن المكافحة والملاغفة والمثاغمة واللثم والفَغْم والكعْم والتقبيل إنما هو بوس الرجل المرأة من فمها أو التقامه له بمرّة فقالت حيّي الله العرب أئمة القبلة والقُبلة. فإن التقبيل الجبين كما يفعل هؤلاء لا معنى له. ولكن لم كان التقبيل في غير الفم والخدّ خالياً عن اللذة التي يحسّ بها المقبّل في هذين الموضعين؟ قال لأن الظمآن لا يرتوي من وضع فمه على أعلى القلة أو على جنبها. قالت فعلى ذكر الظمأ لم تصف الشعراء الريق مرة بأنه حلو ومرة بأنه يروي الظمأ وهو خُلف؟ قال لعل ذلك من مشكلات الشعر أو من المعضلات النساء. قالت فعلى ذكر المشكلات والمعضلات هل يستطيب العاشق شرب الرضاب من غير الفم؟ قال أما عند بعض العرب فلا يبعد وإما عند الإفرنج فينكرونه حتى من الفم. بل لا يعرفونه له اسما غير البصاق. قالت فعلى ذكر اختلاف الأسماء ما يقال لهذه الأمّ التي ترتاح إلى رؤية ابنتها على مثل هذه الحالة هل يقال لها قواده. قال إنما القيادة في الأصل صفة الرجل إذا كان يقود على حرمه. قالت أن وقوع هذا الأمر في شأن الأم أكثر منه في شأن الرجل. إذ الأمهّات تنشرح صدروهن عند مشاهدة عاشق لإحدى بناتهن. لان الأم عند رؤيتها عاشق بنتها تعتقد أن العاشق لا يرى في البنت جمالاً إلا ويراه في أمّها حالة كونها هي الأصل. وانه لا يكاد يحب الفرع دون محبته لأصله. ثم تماديا في الحديث حتى حان الظهر فأقبلت بنات الفرضي وبيدها كسرة خبز وقطعة جبن وجعلت تأكل وهي واقفة. ثم تولت وجاءت أخرى وفعلت مثلها. وكان للفقيه المذكور سبع بنات وعدة صبيان. فلما مضى ساعتان بعد الظهر قالت الأم للمدعوّين لعلكما جعتما فإن وقت الغداء قد فات. زوجي أبطأ. قالا ننتظره إلى أن يجيء. فلما صارت الخامسة أطن جرس الأكل ليجتمع المتفرقون من أهل البيت كما هي عادة ذوي العيال من الإنكليز. ثم مضت ساعة وأعيد إطنان الجرس ومازالت الساعات تمضي حتى نجزت الساعة الحادية عشرة. وفي خلال ذلك كانت الأم تتفقد المطبخ وتسار البنات كأنما نزل بهن نكبة البرامكة. فقال الفارياق لزوجته إن لم نذهب الآن لن نجد بعدها زورقا ولا مبيت في هذا العبر يصلح بنا. ثم نهضا ومسّيا على صاحبة البيت وركبا في زورق ودخلا البلد عند نصف الليل فتعشيا في بعض المطاعم عشاء في ضمنه غداء.

ثم لما كان بعض أيام قليلة قالت زوجة الفارياق له رأيت في هذا البلد أحوالاً غريبة. قال ما هي؟ أني أرى الرجال لا ينبت في وجوههم الشعر ولا يستحيون. قال كيف ذلك؟ قالت لم أرَ في وجه أحد منهم لحية ولا شاربا فهل هم كلهم مرد. قال أجهلت إنهم يحلقون وجوههم بالموسى في كل يوم، قالت لأي سبب، قال حتى يعجبوا النساء فإنهن يحبن الخد النقي الناعم قالت لا بل المرأة يلذها من الرجل كل ما دل على الرجولية، وكثرة الشعر في وجه الرجل هي كعدمه في وجه المرأة. قال وما معنى قولك انهم لا يستحيون هل طلب أحد منهم منك فاحشة. قالت ما وقع ذلك بعد، وإنما أراهم يحزّقون سراويلاتهم حتى تبدو عورتهم من ورائها، قال وذلك مما يلذ للنساء على مقتضى تقريرك. قالت نعم أن هذا الزي أقر لعين النساء من زي العرب. فإنه يظهر الفخذين والساقين والبطن والعجز غير أن المغالاة في التزنيق مخلة بالأدب عند من لم تتعوّد عليه وان يكن في نفس الأمر أحسن وأفتن. ولكن ما شأن هؤلاء القسيسين فإني أراهم أكثر مغالاة من العامة بتبابينهم هذه القصيرة فهذا لا يليق برتبتهم. وأقبح من ذلك حلقهم شواربهم مع أن الشوارب هي زينة لوجه الرجل كما أن اللحية زينة لوجه الشيخ. فما الذي أغراهم بهذه العادة وهم ليسوا متزوجين حتى يعجبوا نساءهم؟ لعمري لو أن أحداً منهم ذهب إلى مصر لظنه الناي بعض هؤلاء المخنثين المدعوّين خَوَلا الذين ينتفون شعر وجهوههم ويتحففون تشبيها بالنساء فأخزى الله كل رجل يتخنث قال فقلت وكل امرأة تتذكر. قالت نعم وكل من يتبع العادات الفاسدة. أنظر العادة هنا كيف جعلت حلق الشعر علامة على الفضل والكمال وعندنا هو سمة النقص والفساد.

قال صدقت ولكن أريد أن أسألك عن شيء من حيث أن الكلام أفضى بنا إلى ذكر ما يشوق الرجل وما يشوق المرأة من الرجل. ومن حيث إني أراك قد نشّمت في علم هذه الفروق فقولي لي بحق السطح "وكان من عادته إذا سألها عن أمر مهم أن يحلفها بسّر السطح الذي كانت تصعد عليه قبل الزواج" وأصدقيني فيما تقولين هل لذة المرأة حين تنظر إلى جسم الرجل كلذة الرجل حين ينظر إلى جسم المرأة؟ قالت هما سيّان ولعل الأولى أعظم. قال فقلت كيف ذلك والرجل لا نعومة لبدنه ولا ملوسة. وقد خصت المرأة بمحاسن كثيرة خلا عنها الرجل وذلك كرقة البشرة ودقة الأصابع وتسوية البنان والأنامل وقد شبهت بالعِسْوَدّة والأساريع والعُذْفوط والعَنَم. وكالدَّسْع ولين الكَعْس والرواحب وتغطيه الرواهش باللحم بحيث يبدو في كل أشجع نونة. وكلطف اليدين وصغر الرجلين ورخاصتها. وامتلاء الرسغين والكعبين وسهولة المشطين. ونعومة العرْش والعسيب، وجدل الذراعين ومكر الساقين وعظم الحماتين ودملجة الداغصتين. وضخم الوركين والماكمتين والفخذين والبتلية والبطن. وكنحول الخصر ولطف الكتفين وانحطاط المنكب وصقل الترقوة والترائب والمفاهر. وكالعَنَط والعَطف وصلاتة الجبين وطول الشعر. وكونها رخيمة ذات نشر خالية عن الحارّ والرَّيش والغفر والسُّربة والاْسب وكون أذنها صمعاء حشرة تدمرية أو مقذَّذة أو مؤلَّلة مصْنعَّة. وما أحلاها يا عيني مشنفّة. وأعظم من ذلك كله وأبدع بروز النهدين ونهودهما. وحَجْمهما ونفجهما. وتكعبهما وتكعثبهما واصرائبابهما وتأوّبهما وتقعبهما وتكُّبهما. واكتيتابهما وتقببهما وتأتبهما وتزيبهما. وتدملكما وتدملقمها وتزلّقهما. وسملكتها وصعلكتهما. وزهلهما وتضافطنهما وتدملجهما وتمذجهما وتصعنجهما ورتوبهما ونبوتهما. وخظوّهما وتَوبهما. ونتوبهما وكعوبهما. وتموكهما ودموكهما. وبزوغهما وصبوغهما. وشخوصهما ودخوصهما ونعوجهما وتكوّفهما وتقبيهما، وتخذّيهما وتكظّيهما. وتوهّجهما وتعلجهما، وتصدرهما وتضبيرهما، وانتبازهما وتكوزهما، وتعرزّهما وتلززهما، وتملهما وتشرزهما، وتعلدهما وتمغدهما، وتأصصهما وتدلصهما، واجعانهما وتنشزهما، وتجبنهما وتشزنهما، وتكتلهما وتململهما وتزيمهما وتركركهما وارتكاكهما وتشويكهما وترهرهما وتلّوههما. واندماجهما وانفراجهما وإقبالهما وأعبالهما. وارتبازهما واكتنازهما، ونّصهما وعصهما. ودَأضهما وضَنَطهما وقد قيل لهما من جملة اسماء كثيرة المرازان لاحتمال رَوْزهما باليد أو الفكر. وشبّها بالرمان والقُرموط. وشبهّت حلمتاهما بالسعدان. وقد -قالت قف هنا فقد أسهبت في وصفهما وفاتك أحسن ما يراد منهما قلت أفيدي. قالت لو جئت بكلمة تدل على التقامهما أو قطفهما لكانت خيرا من كثير من هذه الصفات، قلت ليس الذنب عليّ في ذلك فإني لم أجد هذه الدرة في القاموس. ثم قلت هذا وان المرأة إذا كان في وجهها شعر ناعم أو زغب ولا سيما على شفتها تستحب عند جميع الناس. فأما الأجرد منا أو السناط والأزطّ فمكروه عند الله والناس، قالت أما أوَّلا فلانّ المرأة من حيث كانت تعلم أنه لاشيء في الدنيا يسَّد عندها مسد الرجل كان يشوقها منه أدنى شيء، حتى لو نطقت مثلا أمام امرأة بالرَّ بعد قولك أعوذ بالله من الشيطان لسبق وهمها إلى الرجل، فعلاها على الفور الاصفرار أو الاحمرار بحسب توجيهات خواطرها إليه وكذا لو ابتدأت بنطق الرَّ بعد قولك بسم الله. اللهم لطفك وعصمتك. هذا قرحان الطبع وقريحته فكيف بيانعه. ثم قالت أما الصفات الحسنة الموجودة في المرأة دون الرجل على ما ذكرت أنت وشبب به الشعراء وتباهى به المصورون فعدم وجودنا فيه ليس بمانع من أن يحبَّ لأن المرأة تعلم أنه لاشيء يقر عينها غير الرجل فوجوده على أية صفة كانت مشوّق لها كما ذكرت آنفاً. ألا ترى أن نساء السودان رجالهنّ أبلغ من حب النساء لبعولتهن في بلادنا وغيرها. ومثل ذلك مثل من عنده كتب كثيرة فيها حكايات ونوادر مختلفة. ومثل آخر ما عنده إلا كتاب واحد يطالعه. فصاحب الكتب الكثيرة تراه منتقلا من كتاب إلى آخر حتى يأتي على آخرها وما علق بذهنه منه شيء. ثم يملّ من إعادة قراءتها. وصاحب الكتاب الواحد من حيث كان يعلم إنه إذا فرغ من كتابه لا يجد آخر فإذا طالع صفحة منه لن ينتقل منها إلا بعد أن يمعن النظر فيها. ويحدّس في معانيها. ويحفظها ويعيها

ويترسمها ويتذكرها. ويتمثلها ويتدبرها. ويمتحنها ويتوقمها. ويتصورها ويفلّيها ويطفّلها. وإنما ضربت لك المثل بالكتب لأني أراك مبتلى بالمطالعة وعندي أمثال كثيرة غير ما ذكرت. وبعد فإن في الرجل محاسن كثيرة ذاتية ليست في المرأة. منها فردسة صدره والزَّبب عليه. وارتفاع كتفيه وسعة صدره وشطط قوامه وشبح ذراعيه وكثرة العضل فيها وعظم يديه وكونه قوياً شديداً جلدبا زخزبا شصلبا شنزبا عرزبا عصلبا كنثبا قسباقزبا قعنبا هقبقبا إصليتا صفتيتا مصتيتا صنتيتا قنعاتا علنكدا قسودا أزبر جحاشرا ذيمريا سبطرا قبعنرا عبهرا عشنزرا قوعسا صثمُلاّ عَنَبلا جرهاما بهمة حسميا شظيما عجرما عرزما عرضما عردمانا عشرَّما فسحما شرنبثا قاهيا قنعاسا مجلجلا ذا جهارة وجشة. فهذه كلها نعدّها نحن النساء محاسن في الرجل. وفيه محاسن أخرى اعتبارية وهي صعوده المنبر مثلاً خاطباً. وركوبه الجواد وتقلده السلاح. وما أحسن الرجل إذا مشى وسيفه يمسّ الأرض. ثم قالت لو كنت أعرف القراءة والكتابة لألّفت على الرجال والنساء أكثر مما ألّف في جميع العلوم ذلك الشيخ الذي ذكرت لي اسمه سابقا وقد نسيته لكونه ميتاً. قلت هو الإمام السيوطي رحمه الله. قالت نعم أكثر من السيوطي ومن جميع السوطيين. قلت ومن السوطيين أيضاً. قالت ولكن الذنب على من غادرني بغير تعليم. لان العرب يزعمون أن علم القراءة مفسدة للنساء. وإن المرأة أول ما تستطيع ضم حرف إلى آخر تجعل منهما كتابا إلى عاشقها. مع أنها لو خليت وطبعها كان لها من حيائها وحشمتها عاضل أشدّ من الأب والزوج. بخلاف ما إذا حُظرت وحُجرت فإنها لا تنفك تحاول التملص والتغطي مما حُصرت فيه. فمثلها كمثل الماء كلما زاد انبعاثاً وجرياناً زاد صفاء وانسياغاً. أو كمثل السائر المسرع فإنه كلما زاد إسراعاً زاد حسّه ببرودة الهواء اكثر. قال فقلت في نفسي والله لقد أحسنوا لو أنها تعلمت القراءة والكتابة لما بقي في شعري بيت إلا وشطّرته وخمسته على غير ما قصدت. اللهم انقل معارفها إلى معارفها إلى ما يفيد واكفني شرّ المزيد.

الحرتة

حاشية من مرادف القوي الشديد أو الصلب الشديد وما في معناهما العتعت الكنبث الكندث المكلث المليث المغث العُضافج العفضج العُلَّج الهَمرَّج الصلودح الصلنقح الصمحمح الصميدح الكردح الكلدح الدحوح المجلندي الجلعد الجلمد الصلخد الصمقد الضهيد العربد العصلد الأقود الذفرّ الذمرّ الذيمري الزبرّ الزمرّ الصمعريّ الضَّبير الضبطر الضبغطري العيزار العشنزر القبعثري القناصر الكُماتر التيز الجليز الجلافز الخزاخز التُّرامز الدَّخْر الضبارز العضمَّز العلكز العلنكز الفيز الكلز الملزَّز الحُمارس الدخنس الدُراهس الدَلَهْمس المتشمسْ العترَس العكندَس العَمَرس القلمَّس القناعِس الهكَلسَّ الهملَّس الفُرافِص الكيص المتخمَّط الضَّبنَطي الضفطّ المعلّط الضَّليع الصَّنق الدمكمك الصَّمكيك الصَّملك العبَنَّك العَراك الجنعدل الحوّل العَرَنْدل العُنُثل الكمتلّ الكُنبل الكَنهدل النبتل البُهصم الدلظم المرجم الضرغامة العردم الفيم القرشم الهيزم الهيصم. الحرتة قد كان الكلام في الفارياق حالة كونه فردا مبرما فكيف به وقد صار الآن زوجاً. فأرى الآن تركه على الحالة الزوجية أولى. لأن حديثهما هذا كان في الليل فلا ينبغي التكدير عليهما فيه إلى أن يصبحا ويذهب هو إلى معبره أي موضع التعبير لذي عين له. ولعل الجناب الكريم أيضا متأهب بعد حُرتة هذه الأبازير إلى الفراش. فارقد هنيا. وإن حلمت ليلتك شيا فابلغه مسامع الفارياق فإنه أصبح اليوم من كبار المعبرين. الأحلام

ها هو الفارياق جالسا على كرسي وأمامه مائدة عليها كتب كثيرة ليسبينها صفحة من الطعام، وبين أصابعه قلم طويل وبين أصابعه قلم طويل وبين يديه دواة فيها حبر كالزفت. وقد شرع في تفسير أحلام رآها رئيس المعبر في منامه. الحلم الأول رأى الهالج المشار إليه إنه سافر إلى بلاد الهند فوجد فرسا في الطريق طاعنة في السن ولا سرج عليها. فلما رأته الفرس دنت منه ووقفت وهي تحمحم فجاوزها بعض خطي وإذا بها جرت وراءه فلما أدركته وقفت أيضاً فقال إن لهذه الفرس شأناً. أنى أريد أن أمسك بناصيتها لأنظر ماذا يكون من أمرها. فلما مسّها تطأطأت له كالمشيرة إليه أن اركب ولا تخف لعدم السرج. فركبها حيث كان قد أعيا من المشي وسار غير بعيد. وإذا هو بدكان سروجي فنزل عنها واشترى لها سرجا ثم ركب وسار في مضيق حرج فيه أشجار كثيرة. فنشب في رأسه بعض أغصان الشجر ومنعه من السير. فحاول أن يتقدم فلم يمكن له وأشفق أن يهمز الفرس للإقدام فوقف يتفكر فيما عرض له وهو متعجب جدّاً. واتفق انه مدّ يده وقتئذ ليحك رأسه فإذا به قد نبت له ستة قرون، اثنان من أمام على كل صدغ واحد واثنان من خلف واثنان في الوسط، وكان ذلك الغصن مشتبكا بها كلها. فتوصَّل إلى أن قطع الغصن من الشجرة لكنه بقي ناشبا في القرون. ثم سار وهو على هذه الحالة فكان كل من رآه يتعجب منه ويقول انظروا هذه القرون الستة في رأس هذا الرجل، وهو غير مكترث بهم، حتى إذا دخل في مأزق مظلم تشرف عليه صخور وجنادل صدم بعض الصخور أربعة من القرون. فانكسرت وسقطت وبقي له قرنان من أمام فقط، ولكن كان أحدهما يميل إلى الثاني ويماسه ثم صارا يتحاكان ويصطكان وكلما اصطكا سمع لهما صوت عظيم، فأقبلت الناس من بعيد تنظر إليه وتتفرج عليه. فلما ضاق بهم ذرعا ورأى كثرة الزحام مانعة له من السير عزم على الرجوع، فأبت عليه الفرس ذلك وصارت تثب وتطفر قدما وكلما ركلها برجله ازدادت وثبا وتقدما. فنظر إليها كالمتعجب منها فإذا بلونها قد تغير عن اصله. فقال في نفسه لعل هذه الفرس غير الدابة التي ركبتها أولا، فنزل عنها ليكشف عن سنها. فلما أراد أن يضع يده في حنكها رفسته وكدمته كدمة شديدة غشى عليه منها. قال فكانّ الفرس حين أبصرته مجندلا مصروعا رقت له فجعلت تنفخ في منخريه وتلحس مواضع القرون المكسورة منه حتى أفاق قليلاً. فطفق يئن ويجأر بالدعاء إلى الله لان ينجيه مما ألمّ به. فأشارت إليه الفرس برأسها أن اركب لنرجع من الطريق التي أتينا منها. فقام متجلداً وركب فلما وصل إلى ذلك الموضع الحرج نبتت فيه تلك القرون المكسورة وعادت كما كانت فكان يلمس عليها وهو سائر. فلما أمسى عليه المساء نزل في خان ليبيت فيه ليلته تلك. وأمر صاحب الخان بان يُعنى بدابته ويحضر له ولها عشاء. ولما انتبه صباحا وجد السرج قد سرق. فقال لصاحب الخان قد فقدت عندك سرج فرسي وما يتأتى لي أن أركبها بدونه. قال بل أنت مبطل فيما تدعيه فإنك حين قدمت كنت معرورياً لها. فلجّ بينهما الخصام وتماسكا بالجيوب. فلما علم انه لا ينتفع بشيء رضي من الغنيمة بالإياب. وقام إلى الفرس وركبها وبقي سائراً إلى المساء فوجد خانا آخر في الطريق فبات فيه. فلما اصبح الصباح وأراد أن يركب لم يجد اللجام. فجرى له مع صاحب الخان هذا ما جرى له مع ذلك ثم بات الليلة الثالثة في محل آخر وعند الصباح وجد فرسه بلا ذنب. وبقي كلما بات ليلة فقد عضوا من أعضاء الفرس حتى بلغ مدينته ساعيا على القدم وغابت عنه الفرس بالكلية. فأما القرون فزال منها أربعة بزوال الفرس وبقي منها الاثنان المتقدمان.

الحلم الثاني

لما ألقي هذا الحلم القرني على الفارياق أخذ يعبث بشاربيه على عادته ويفرك جبينه بيده ويزوي ما بين عينيه. إلى أن اهتدى إلى تعبيره فكتب بجانبه ما صورته. هذا ما عّبر به العبد الذليل المسمى بالفارياق لجناب المولى المكرم السيد ذاهول بن غافول عن حلمه الذي رآه في منامه. إن الفرس كناية عن امرأة. والمشي والإعياء كناية عن العزوبة. والسرج كناية عن أدب المرأة. واللجام عن عرضها. والمكان الحرج كناية عن الولائم والمآدب والزيارات التي يتجشمها المتزوج ويدخل فيها رأسه ورأس امرأته. والغصن كناية عن بعض المدعوين الذين ينشبون في الزوجة. والقرون كناية عن الحالة الزوجية التي يكون عليها الرجل والمرأة. ونبتها واضمحلالها كناية عن تغيير تلك الحالة ورجوعها إلى ما كانت عليه. ومبيته في الخانات عن سفره بزوجته. وغياب الفرس كناية عن فقدها. وباقي الحلم مفهوم بالفحوى والله أعلم. فلما أخذ التعبير وأمعن النظر فيه مليا رجع إلى الفارياق عجلاً وعلى طلعته آثار الغيظ وقال: أن في تعبيرك خطأ من وجوه. الأول أن عبارتك موجزة بخلاف عادة المعبرين. والثاني أن الفرس ليست كناية عن المرأة فإن المرأة عندنا لا تكون دون الرجل أي تحته بل هي أعلى منه. فيجب أن يكون تعبيرك بحسب اصطلاحنا لا بحسب اصطلاحكم. والثالث أن اللجام لا يكون كناية عن عرض المرأة فإن اللجام إنما يوضع في الفم وعرض المرأة لا يكون في فمها. ولكن ينبغي الآن أن تدع هذا وتأخذ في تعبير الحلم الثاني. فاجتهد في التحرير والإسهاب. فعسى أن تصيب وتحرز الثواب. الحلم الثاني

التعبير

رأى صاحب المعبر أطال الله بقاه. وعظم مقامه بين الهاجلين وأعلاه. أنه أراد يوماً أن يكتب خطبة يتلوها على القوم في يوم عيد. فأخذ القلم والقرطاس وكتب حرفاً واحداً وإذا بامرأة تدعوه من حجرتها ليجوربها. فترك الكتابة وحفد إليها. فلما حوربها ورجع رأى أن قد ضُمّ إلى ذلك الحرف حرف آخر بحبر غير حبره. فقال في نفسه ترى من دخل حجرتي وخط هذا الحرف الذي ناسب ما أردت من المعنى. ثم أخذ القلم وكتب حرفاً وإذا بامرأته تدعوه ليربط لها شراك نعلها. فقام إليها وفعل ما أمرته به ورجع فوجد حرفاً آخر قد أضيف إلى الثلاثة الأولى حتى تمت به الكلمة فزاد تعجبه من ذلك. ثم أخذ القلم وكتب كلمة تامة وإذا بامرأته تدعوه أيضاً ليمشطها الكُعْكُبة أو والله أعلم المقدّمة. فقام ومشطها برفق ولين ثم رجع كلمة تامى أضيفت إلى كلمته متلائمة بها. فأخذ القلم وكتب كلمتين فدعته امرأته ليجمرها. فترك الكتاب وقام ولما رجع وجد كلمتين ناميتين. فلما تكامل له سطر دعته أمرته ليعقد لها عظامتها. ثم رجع فوجد سطراً بجملته. حتى إذا تكامل له صفحة دعته امرأته أيضاً ثم رجع فوجد صفحة كاملة. وعند انتهاء الكراس وجد كراساً وقس على ذلك إلى أن كمل الكتاب. وكانت امرأته قد فرغت من تفلخها وزينتها. فحمل الكتاب إليها وأخبرها بما جرى له ففرحت بذلك فرحاً لا يوصف. وقالت له إنما حصل هذا ببركة خدمتك لي ومساعدتك إياي على إلباسي. فينبغي يا عزيزي أن تواضب عليها. فلما كان في الغد فعل ما فعله أمس من الكتابة والخدمة ووقع له فيهما عين ما وقع أولاً. فزاد سرور كل منهما به. فلما حان العيد صعد إلى المنبر وتلا الكتاب الأول فأدهش السامعين ببلاغته وانسجام عبارته ودقة معانيه، حتى إذا فرغ أخذ الناس يطرون عليه ويقولون له ما طرق مسامعنا كلام أبلغ من كلامك قط. فقال لهم هذا بيُمن الشراك فلم يفهموا ثم رجع إلى بيته مبتهجاً متهللاً وأخبر زوجته بما جرى. فقال له أن نصحني لك يا عزيزي أن تهجد في الخدمة والكتابة فإذا تكامل لك خمسون كتاباً نقصد بها بعض البلدان البعيدة فتتلوها هناك. لأنه لا يمكن لك في هذا البلدان أن تتلو خطبة إلا في يوم عيد والأعياد هنا غير كثيرة. ويكون من الخسران أن تبقي هذه الكتب الجليلة غير متلوّة. فقال لها الرأي ما رأيت. ثم أنهما للسفر إلى بعض البلاد المشرقية. ومعهما تلك الكتب قد ضمنت صناديق من خشب الساج نفسية وأنفقا عليها مبلغاً جزيلاً. فلما بلغا طيتهما اكتريا لهما داراً رحيبة مطلة على الحدائق الناضرة. وأرسل منادياً ينادي في الأسواق أن أحضروا يا قوم خطبة المولى ذاهول بن غافول في يوم كذا وساعة كذا. ليسمعكم من المعاني البديعة ما لم يطرق مسامعكم قط. فحشدت إليه الناس أفواجاً أفواجا ولما استقروا في المجلس صعد سلما كان قد نصب له فيه. وفتح ذلك الكتاب الأول الذي كان أعجب به قومه وإذا به ممحو لم يشترك إلا على الحروف التي كتبها بيده. فحاول أن يصل بعضها ببعض ليستخرج منها معنى ما فلم يمكن له. فنزل عن المنبر خجلاً وهكذا انتبه من نومه. التعبير هذا ما يعبره الفقير الفارياق للمولى ذاهول بن غافول. أن ما توهمته من ضم الحروف والكلمات والسطور والصفحات والكراريس والأسفار إلى كلامك الذي أعجب به قومك لم يصلح في غير بلادك لارتباطه بربط العظامة والشراك. والله أعلم فلما بلغت هذه العبارة للمشار إليه أقبل إلى الفارياق وهو يخبط الأرض برجله ويشمخ بأنفه قائلاً. هذا التعبير أفسد من التعبير الأول. وهذه العبارة أخصر من تلك فلا يكاد أحد يفهم ما نقول. وإذا تعبير الأحلام غامضاً مبهماً كالأحلام فلا موجب معبرين وتكليف الناس قراءة ما لا يفهم. فقال له الفارياق هكذا جرت العادة في بلادنا التي هي معدن الأحلام ومنبت التعبير. فإن رؤوسكم لم تكتسب هذه الخاصية إلا من رؤوسنا. ولولا حلماً واحداً. قال فكأن الرجل أنتبه من غفلته وسكن من ثورته. ثم قال قد بقي عليك الآن حلم واحد فهاكه. الحلم الثالث

التعبير

رأى صاحب المعبر أطال الله مدة نياته عن الهالجين. وحقق أحلامه مع الفالجين. أن قد نصب له ذات يوم سلّم عال يشتمل على مائة درجة ليصعد إليه ويخطب القوم من أعلاه. فلما حلق لحيته وشاربيه ولبس ثيابه السلّمية أرسل من جمع القوم إلى موضع معيّن. وكانوا كلهم قد علموا بذلك من قبل وسبقوه إليه لما انه لبث ساعة امرأته حتى تقوم من الفراش فيرعّمها ويعانقها قبل توجهه. ثم تأبط كتابه وأقبل يجري إلى ذلك المحشد العظيم ولم يلتف يمنة ولا يسرة. فلما بلغ الموضع ورأى السلّم منصوباً والناس مجتمعين حوله كاد يطير من الفرح. فقال في نفسه هذه فرصة ما سمح الزمان لغيري بمثلها. فسأردّ اليوم هؤلاء القوم إلى بيوتهم بقلوب مثل قلبي وأخلاق كأخلاقي. ولو لم أعمل من الصالحات غير هذا لكفى. فقد كُتب اجري عند الله. ثم تمادى في الأفكار. وثمل من الاستبشار. واستقبل السلم وهو مدهوش. وما كاد يصل إليه إلا وقد مدّ رجله متفشّخاً إلى أول درجة منه دون أن يسلم على أحد من الحاضرين. ثم افتتح الخطبة بقوله الحمد لله الذي أمر بنصب السلم وارتضاه له عرشاً. فسمع أحد القيام هذا الاستهلال فأنكره. وقال لمن يليه ما أظن خطيبنا اليوم إلا معتوهاً. فلست أشاء أن أسمع منه أكثر من هذا ثم ولىّ. فصعد الخطيب الدرجة الثانية وقال: وجمع الناس هذا المحفل المبارك وكلهم فارش أذنيه للاستماع فرشاً. فسمع كلامه آخر من الوقوف فقال هذه الفقرة شرّ من الأولى. فإني لا أبالي بكون السلّم عرشاً أو نعشاً وإنما لإذني أن أفرشها ثم ولىّ. وما زال الخطيب يقول عند صعود كل درجة فقرة ركيكة مثل هذه وينفضّ عنه شخص وهو غير منتبه لما شمله من الفرح الذي أذهله من رؤيتهم حتى بلغ درجة المائة وقد انفض الناس كلهم عنه. فلما استقر عليها التفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً. فقال في نفسه قد الفت خطبتي وجمعت لها القوم. وهاهم قد تولوا وبقيت الخطبة معي فما لي لا أتلوها جهراً في هذا الموضع الشريف المترفع عن نجاسات الأرض وقذرها. فإن لم يسمعوها هم يسمعها الله وملائكته. فإنه يقال كلما بعد الإنسان عن الأرض زاد تقربه إلى السماء. ولست أرى موضعاً يصلح للخطب أكثر من هذا. ولعلَّ أحداً من المارين يلتقط كلمة مما أقول فتكون سبباً في خلاص نفسه ونفوس ذويه وجيرانه ومعارفه. فإن لفظة واحدة من فم واحد قد يكون فيها الموت والحياة.. ومن العيب أن أعود إلى زوجتي وأقول لها أن الخطبة بقيت غير متلوة. ثم انه مسح عرقه واصلح صوته وثيابه بعد أن جعل الخطبة على الكتاب وجثا يصلي قليلاً ويدعو الله لأن يلهم أحداً من الناس أن يمرّ به ويسمعه ثم قال ناشطاً مسروراً وقال. اسمعوا يا أخوتي الأحباء وأنصتوا اليوم لما أنا قائلة لكم. واتفق وقتئذ إن مر به رجل من الشعراء الغاوين. فلما سمعه يقول ذلك ولم ير عنده أحداً وقف وقال من أطلع هذا المجنون إلى رأس هذا السلّم. وأين اخوته الذي يخاطبهم أم عساه يكلم الجنّ في الهواء أن في هذا لعجبا. ثم صاح به انزل يا راجل ولا تعرض نفسك للهزء والسخرية إذ ليس يسمعك من عباد الله أحد. فلم ينتبه له الخطيب لأنه كان شاخص البصر نحو السماء. فاعتقد الرجل بأن به لمماً. فأراد أن ينزله بأية وسيلة كانت وأخذ في قطع أوتاد السلم وإطنابه. فلم يشعر إلا والسلم قد تقوض وسقط معه الخطيب وكتابه على رأسه أي على رأس الشاعر. فتهشم كل منهما وتحطم. التعبير لا ينبغي للخطيب أن يكون ثرثاراً. وإن داوم المولى الطرّاد على الثرثرة فلا يأمن منان يسقط سقطة تدق بها عنقه والله اعلم. فكان هذا التعبير أنكى له وأقهر مما تقدم وذلك لنهيه عن كثرة الكلام ولو جازة العبارة. فلما كان بعد أيام جاءه برقعة فيها ما صورته: حلمت أن رجلاً من أصحابي قد أهدى إليّ قنبيطا مما ينبت في سهل الأردنّ. فاتخذت منه عشاء وبت فرأيت أني دككت أسوار مدينة في الجو تشبه مدينة أريحا في حصانتها ومناعتها. فكتب الفارياق بجانبه. إذا ما تعشَّى القُنَّبِيط جراضم ... رمى الجوَّ من برج أسته بجلاهق فيفعم ثقْبي منخريه عجاجها ... فيرجع أيضاً سبكها كالبنادق

إصلاح البخر

فطالع امرأته بذلك فقالت لعلّ الرجل قد ألف الآن هواء البلاد فإني أراه ابتدأ يصيب. وقد ذهبت عنه تلك الحدة التي كانت تظهر سابقا في حركاته وكلامه. فسأجربها أنا الآن بنفسي في حلم رأيته البارحة. ثم أخذت رقعة وكتبت فيها. رأت السيدة ورها زوجة السيد ذاهول بن غافول ان بيدها قفلاً مصقولاً مجلوّاً ذا ثقوب كثيرة. وبيد زوجها مفتاح ذو ثقب واحد وقد صدئ. فكتب الفارياق تحته: المرء والمرأة سيان في الميل ... إلى العشق وحبّ السفاح لكنّ ذا مفتاحه يهي ... وتلك مأمون لها الانفتاح فلما اطلّعت على المعنى قالت لزوجها هذا ما خطر ببالي قبل تعبيره. فما أقربه الآن إلى الصواب فخذ هذه الرقعة الأخرى. فتناولها الفارياق وإذا فيها: رأت السيدة ورها إن قد كتبت على جبين زوجها عدد اثنين. فلما ابصر نفسه في المرآة حاول أن يمحوهما. فبادرته وأمسكت يده فلم يقدر إلا على محو واحد فقط ولكن بقي الأخر غير ظاهر ظهوراً بيناً. فكتب تحته: فرض علي الزوج أن يكفي حليلته ... في كل ليل ونفل بعده يُرضي فإن تبدَّل لفظ الفَرض بالرفض ... تبدَّلت هي معنى العِرض بالعَرض فاستحسنت البيتين جداً ثم ناولت زوجها رقعة أخرى كتبت فيها. رأت السيدة ورها سيدة السيد ذاهول بن غافول أنها ترى الأسود بعينها اليمنى أبيض. والأبيض بعينها اليسرى اسود. فكتب تحته: رضاء الزوج صعب أي صعب ... ولاسيما إذا رأت المعَنّى فتنظر فيك كل الحسن قبحا ... وتنظر فيه كل القبح حسنا فاستظرفتهما وقالت لزوجها أراه يحسن تعبير الأحلام النسائية القصيرة. فاحلم لي الآن يا عزيزي حلماً قصيراً واكتبه في رقعة وأنا أنا وله إياها لننظر هل يستمر على هذه الطريقة معك أو لا. فلما كان الغد جاءته برقعة فيها. رؤى في المنام شيء مطاول. ثم ظهر لعين الرائي مستديراً ثم مطاولاً ثم مستديراً وهلم جرّا. فكتب الفارياق تحته. قد كنت أحسب هيئة الدنيا ... نظير الفرج إذ في القدر يشتبهان حتى استبانوا أنها كالإست ت ... ويراً فقلت تقارب الشَبهان فلما أطلع زوجته عليهما ضحكت وقالت أراه لا يتأدب إلا معي. وأنه ليشمّ الأمور النسائية شما فإن هو إلا زير نساء. ولكن لا بأس في أن تجربه بحلم آخر وبعد ذلك نرى ما الذي ينبغي أن نصنعه معه. فلما كان الغد جاءه برقعة فيها. قد رأيت أن يدا خطت على صدغي عدد ثلاثة ثم توارت. فمددت يدي إلى صدغي لأحكه فمحت من العدد سنّين فصار الباقي واحدا ذا عوج. فكتب الفارياق تحته. تكلفني زوجي ثلاثا ولم أطق ... سوى صرعة العجز من ذاك لامني فقلبي وطرفي لا يملان بتّة ... كمهبلها لكن ذلك لا يغني فأخذ الجواب واقبل يهرول إلى امرأته. فلما اطلعت عليه ضحكت وقالت إنه لا يزايد معك إلا جنونا وسفاهة. فينبغي الآن أن تدعه حتى حين وقم أنت إلى الصرعة. فقاما إليها واستراح الفارياق منهما أياما. إصلاح البخر

كان قد بلغ مسامع حاكم الجزيرة أن الفارياق قدم إليها لتعبير الأحلام وإنه خبير بهذا الفن جداً. وأن به ملكة أيضا على إصلاح البخر. فبعث إليه ذات يوم بعض حجاّبه يقول لهان الحاكم يدعوك إليه لمسألة مهمة فلابد من أن تفد عليه. فلما حانت الساعة توجه الفارياق إليه وهو موجس من أن يكون الحاكم قد حلم حلما حكيماً جليلا يعسر عليه تعبيره. لأن العظماء لا يحلمون إلا الأحلام العظيمة. فهم منزهون عن جلاهق القنّبيط ووهي المفتاح والصرع وغير ذلك من الأحوال الخسيسة اللائقة بالصعاليك. فلما مثل بمجلس الحاكم قال له قد بلغني قدومك إلى هذه الجزيرة عند الخرجي. وإنه قد ضايقك بكثرة أحلامه وما كفاه ذلك حتى علم زوجته أيضاً أن تحلم مثله. فهل لك الآن في تعاطي مصلحة لدينا تخفف عنك أحلامه وتثقل كيسك. قال ما هي يا سيدي؟ قال إن عندنا في هذه الجزيرة قوما بخرا لا يطيق أحد أن يفهم منهم شيئا إذا تفوهوا لشدة بخرهم. وقد سمعت انك قادرا على علاجهم فهل لك في إصلاحهم ولك عندنا مكافأة الحسنة. قال الأمر إليك يا سيدي ولكني كاهن المعّبر. قال أنى باعث الآن إلى الخرجي من يخبره بذلك فلا تخش منه ضيرا. قال جزاك الله خيراً أنك أهل للخير والفضل. ثم انصرف من حضرته من غير أن يرجع القهقري. لان حكام الإفرنج لا ينكرون على الرجل أن يروا منه قفاه أو ظهره أو بطنه لا بل بطونهم أظهر من ظهورهم. فلما بلغ إلى منزله واخبر زوجته بذلك وكانت قد ابتدأت تتهجى قالت. بورك من يوم أني رأيت فيه بدكان جوهري عقدا نفسياً. وكأني رأيت عليه حروفاً ظهر لي أنها ك س ب ال ب خ ر فهل يخرج منها معنى. قال يخرج منها معنى أني اشتريه لك من الدراهم التي تحصل لي من وظيفة البخر. قالت نعم فإني كنت أسمع أمي تقول لأبي أن الرجل إذا بذل رأس ما يتحصل بيده من الأموال في شراء حلي ولباس لزوجته بارك الله له في ذنبها. أي في ذنب الأموال لا في ذنب امرأته. قال فما الفائدة إذاً من هذا البذل إذا لم تشمل البركة الطرفين؟ قالت لزيادة جمال زوجته. قال أما أنا فراض بما فيك من الحسن الطبيعي فلمن هذه الزيادة. قالت هي تزيدك حباً إليّ. وتبعث غيرك أيضا على أن يحسدوك عليّ. ويتمنوا لو أني كنت لهم. قال اللهم اكفني شر المزيد. ولكن لابد من شراء العقد. فهو أولى من انحلال العقد. فوعدها بذلك فاتعدت بحمد الله ولمست جيدها. فلما مضى الشهر وقبض المرتب له أنجز لها وعده. فقالت هو من دراهم البخر ولكنه أحسن من الندّ. لقد قسم الله بيننا أعدل قسمة خذ أنت دراهم الهُلج واعطني دراهم البخر. فقد رضيت بهم. قال فقلت لها لا تقولي بهم ولكن بها. فإن بهم يرجع إلى البخر. قال فهي نمت بكلام لم اسمعه كله وإنما سمعت من آخره قولها وأي ضرر من هم. فقلت لها وأي حيزبون أنت. فالتفتت إلى الباب فلم تر أحداً فقالت أين الزبون؟ ثم استمر الفارياق في الوظيفتين المذكورتين معبراً ومصلحاً مدة مكنته من حل مشاكل زوجته. وأتخذ له متاعاً فاخراً وآنية وصار يدعو ويصنع لهم ولائم.

وكان للحاكم عادة أن جميع المعروفين في خدمته إلى ليلة عيد يرقص فيها الرجال والنساء بحضرته. وكان من جملة المدعوّين الفارياق وزوجته. فلما رأيت الرجال يرقصون وهم مخاصرون للنساء قالت لزوجها. هل هؤلاء النساء أزواج هؤلاء الرجال قال منهن هكذا ومنهن بخلاف ذلك. قالت وكيف يخاصرونهن إذاً. قال هذه عادة القوم منا وفي سائر بلاد الإفرنج. قالت وبعد المخاصرة ما يكون منهم. قال لا أدري ولكن بعد انفضاض الناس يذهب كلّ إلى منزله. قالت أشهد بالله أنه ما خصر رجل امرأة إلاّ وباطنَها. قال لا تسيئي الظن إنها عادة قد مشوا عليها. قالت نعم هي عادة ونِعْمت العادة. ولكن كيف يكون إحساس المرأة حين يلمسها رجل جميل في خصرها. قال فقلت لا أدري إنما أنا رجل لا امرأة. قالت ولكن أنا أدري أن الخصر إنما جعله الله في الوسط مركزاً للإحساس الفوقي والتحتي. ولذلك كانت النساء عند الرقص والقرص في أي موضع كان من أجسامهن يبدين الحركة من الخصر ثم تنفست الصعداء وقالت يا ليت أهلي علموني الرقص. فما أرى فيه لأنثى نقص. فقلت لو فتحت الصاد في كل من المصراعين لكان بيتاً مطلقاً. فقالت يا للفضيحة بين الأنام. أتقول هذا الكلام في مثل هذا المقام. قلت هيت إلى البيت. فقد كفاني ما سمعت الليلة وما رأيت. قالت لا بد من أن أرى ختام الرقص. قال فلبثنا إلى الصباح ثم انصرفت بها فكانت تقول وهي سائرة نساء مع رجال راقصات. رجال مع نساء راقصون. راقصات راقصون راقصات. فقلت فاعلات فاعلون فاعلون فاعلات. قالت الرجال والنساء والبنون والبنات. كيف- متى- أين. ثم وبعد أيام ورد على الفارياق حلم مشكل في وحش ذي قرون وأذناب كثيرة وشيات وبقع شتى في جلده. وأراد صاحب المعبر أن يعرف تأويل كل قرن وسرّ كل بقعة. إيشاؤه فذهب إلى منزله مبتئساً متسخطاً. فقالت له زوجته ما بك قال همّ ونكد. قالت ما سببه قال كلما تخلصت من ورطة وحلت في أخرى شر منها. قد كنت من قبل مداحاً للسري بما لم أرد ثم صرت عشير المجانين. ثم معبّر الأحلام. ثم مصلح البخر. وكل ذلك على غير ما أورم فما أنكد هذه المعيشة وأضيق هذه الدنيا عليّ. أليس في الأرض مندوحة عن هذا. قالت خفف عليك يا سيدي أن كل إنسان في الدنيا له نصيب من الحزن والهم. حتى المرأة أيضاً لا تخلو من الهمّ فدأبها كل يوم أن تزجج حاجبيها. وتكحل عينيها. وتورد خدّيها. وتخفف خطو قدميها. وتنظر في المرآة مائة مرة كيلا شعرة قد انفردت عن سائر شعرها. ثم تخاطب نفسها في المرآة وتضحك وتتبسم وتُهلس وتغمز وتلوي جيدها وعطفها وتتنفس الصعداء وغير ذلك لتعلم كيف تبدو منها هذه الأفعال في عيون الناس. قال فقلت أهذا وقت الجد أم الهزل أنا أقول لك أن للوحش أذناباً وقروناً وشيات لا تحتمل التأويل وأنت تذكرين الغمز والابتسام والتكحيل. قالت ليس في كل يوم يأتيك وحش مثل هذا وإنما هّم النساء في كل صباح ومساء ضربة لازب. وحسبنا بالغربة هّماً وحزناً.

قالت أما أنت قريرة العين هنا وقد تمتّعت بالحرّية في الخروج وحدك. وفي رؤية الناس وفي رؤيتهم لك بما لم تعديه من قبل في دولة البرقع والحبرة. قالت إنما ينغصني كوني لا أستطيع أن أبلغ أهل مصر أي النصارى منهم قبطيهم وشاميهم ما يراد من الزواج مما لم يعرفوه بعد فإنهم يحسبون أن الله تعالى إنما خلق المرأة لمرضاه الرجل في فراشه وخدمته بيته فترى طلعة الرجل منهم إذا جاء منزله وواجه امرأته كطلعته حين غاب عنها سواء. وإنه ليقعد بعيداً عنها قعدة المستريب المتفكّن. وإذا نظر إليها فما ينظر إلا إلى شعرها ليرى به شعث أو لا. ثم هو لا يصلحه لها أمام الناس إذا شعثته الريح وغيرها. ولا يلبسها ولا يأخذ بذراعها إذا تماشيا بل قلما يمشي معها إلا إذا سارت لتنظر أهلها غيرة عليها من أن يكلمها أحد في الطريق أو يراها فترجع حبلى من النظر بفذّ ومن الكلام بتوأمين. فإذا حضر الطعام تعشى وهو ساكت وجم كأنما يأكل شيئاً مسموماً. وربما كلفها غسل رجليه قبل النوم أو تكبيسهما حتى يجيئه النعاس. وفي خلال ذلك يرمش ويرضك ويتثاءب ويتمطى. ثم يرقد دون عفز ولا حفز. وكلما كان عيد لأحد مناجيف الرهبان تابل عنها ويلزمها أن تقول له بحضرة الناس نعم يا سيدي. وأحسنت يا سيدي. وربما كان ذلك السيد سيداً عملَّساً. أو كان من أكبر الحمقى وكانت هي رشيدة لبيبة فلا يسعها إلاّ أن تتبعّل له. ولا يمكنها إذا رأت منه غواية أن ترده إلى طريق الصواب. فقد تقرر في عقول النَّوكي المآفيك أن عصيانهن طاعة لله. حتى إذا وقع منكوساً على أم رأسه رجع إلى امرأته باللوم والتبكيت. قال قلت قد روى عن النخعي إنه قال من أشرا الساعة طاعة النساء. فقالت كأني بالإفرنج قد حشروا أو يحشرون الليلة. ثم استمرت تقول وأقبح من هذا كله أن الرجل عندنا إذا كان كهلاً لا يستحي أن يتزوج ببنت لم يأت عليها بعدُ نصف عمره. فإذا استقرت عنده شرع في تربيتها وتنبيتها وتوليدها من ذي أُنُف وعاملها بالنفاق والدهان. فقد يكون خبيثاً فاجراً ويوهمها إنه ذو صلاح وتقوى يتّورع من اللهو والسماع وعشرة الفتيان الكيّسين. وما يخطر بباله أن مغايرة السنّ بين الرجل وامرأته هي أعظم الأسباب الباعثة لها على فركه. بل يعتقد أن مجرد كونه فاعلاً وكونها مفعولاً يقضي له بالمزية والفضل عليها. فقلت ان دعوى الفاعلية ما أراها إلاّ باطلاً. فإن المفاقمة والمباضعة وأخواتها تدّل على إن الفعل مشترك بين أثنين. وإنما الأفضلية باعتبار البادئ. قالت ليس الابتداء متعيناً على واحد دون الآخر فأيهما بدأ صحَّ. فلا مزية لأحدهما على صاحبه. هذا وكم من مرة لمجرد هذا الوهم يغادر الرجل امرأته وحدها في البيت ويقضي ليلته عند أحد أصحابه. فيتعاطى معه المدام حتى يسكر ويذهب ما عنده من قليل العقل. فلا يقدر على الرجوع إلاّ إذا حمل بين أثنين كالجنازة. ثم هو لا يفرق بين أن تكون زوجته حبلى أو غير حبلى. فتراه يكلمها وهي في تلك الحالة بعين الكلام الذي كان يكلمها بهمن قبل. وربما دمق عليها كالضاغب فمناها بمرعبة. أو اسمعها الضَّبَعْطَي والضَّبَغْطَي والضَبَغْطَرَى وأية ودُخْدُخ وهَجاجَيْك وهذاذيك. أو كان عليها دَبُوقاء أو لزاقاً وطبَاقاء أو عَباقاء أو عَياباً أو عَباماء.

سفر ومحاورة

فنهاية رفقة بها وشفقته عليها إنما هو أن يشتري لها جارية أو يستخدم وصيفة. وليس المقصود مجرد تخفيف الشغل عنها وإنما المقصود جعل الأمَةَ أو الخادمة رقيبة عليها حتى لا تخونه في عرضه. ولا أقول في ماله لأنه لا يخرج من البيت إلا بعد أن يقفل صناديقه. مع أن الجارية لا تكون إلاّ ذات ضلع مع سيدتها عليه وان شتمتها بين يديه وإهانتها: لأنها لا يهمها كون سيدتها تحب واحداً من الرجال أو أثنين أو عشرة. بل يهمها أن تنال عندها الطيب من المأكول والمشروب. فإذا كانت زلّة سيدتها كما يقال تحت يدها أدلَّت عليها بتلك الزلة وتجرأت على أن تطلب منها ما تشاء. لا بل تتمنى أن سيدتها تكثر من العشاق ما استطاعت. لأنها تؤمل منهم الصلة والإحسان. ومعلوم إنه كلما كثرت العشاق كثرت الصلات. وبعدُ فإن من طبع النساء في كل زمان ومكان الارتياح إلى شواغل الهوى وبواعث العشق وان يرين أهل الدنيا كلها مسترسلين إليها ومنهمكين فيها فالجارية التي تكون عند سيدة حرّة على فرض صحة ذلك لا تلبث أن تغاضب سيدتها حتى تغري زوجها ببيعها فيقع نصيبها عند أخرى غير حرّة. غير أن الرجال مغفلون. نعم هم مغفلون. فأما تبجحهم بكونهم يشترون لأزواجهم حلياً في ربيع يُسْرهم فذلك عائد إلى خبرهم. لأنهم لا يلبثون أن يسلبونهن إياها في خريف عسرهم وأفلاسهم. فأية امرأة ترضى لنفسها بان تقعد في بيتها كالفرس المسرج المعدَّ للركوب وهي محرومة من معاشرة الناس. قال فقلت والله ما قلت كلاماً أحسن من هذا. وهذه آثار النجابة بدت تسطع من طباعك فحيّاك الله وبيّاك. قالت وما بياك قلت ليس بشيء. قالت ولكنها عندي حسنة للازدواج. قلت كأنك تقولين إنه من قبيل تزويج لفظة بأخرى فيشم منه رائحة الزواج. قالت نعم الزواج سارَّ حتى في الألفاظ. قلت ولكن بقي لي عليك اعتراض وهو انك عرّضت في أول خطبتك هذه البليغة التي أفادتني اكثر من خطب صاحب المعّبر بأني اصلح شعرك وثيابك أمام الناس. أو بأنه يلزمني أن أفعل ذلك وهو مما فات فكري. قالت انك لمَّا تفعله ولكن ستفعله أن شاء الله عن قريب. فأني أراك تقدر النساء ولا تبخسهن حقهن وإني واحدة من عباد الله هؤلاء. سفر ومحاورة

ثم لما كان الغد ذهب الفارياق إلى المعبر وهو موجس من تعبير الوحش. فجاءه الرئيس يقول قد عنّ لي أن أسافر إلى أرض الشام لأجل تغيير الهواء. فإن هواء ذلك القطر والأحلام فيه تصح ويسهل تعبيريها. وأني أراك مثلي ضعيف القوى ناحل الجسم فتجهز للسفر فعسى الله أن يوفق لنا أسبابه ونعود بخير. فاستأذن الفارياق الحاكم في ذلك فأذن له كرماً وتفضيلاً. فأقبل على زوجته يودعها ويقول: عهدي إليك يا زوجتي بادئ بدء أن تتذكري السطح فيبعثك على حفظ العهد والوداد. وأن تعني بأمر الذي أغادر عندك معه كبدي. وإذا أتاك فاسق بنبأ عني فتثبتي. إي إذا قال لك غداً أحد ممن حسدني عليك قد مات زوجتك في البحر وأكله الحوت ولم يبق في علم الوجود سوى أسمه فلا تركني إليه قبل أن يرد إليك كتاب مني تعتمدين عليه قالت ولكن تكتب لي إذا كان الخبر صحيحاً. قال فقلت يكتبه لك صاحب المعبّر. ولكني أرجو أن أصل سالماً وتقر عيني برؤية أهلي وأهلك وأبلغهم سلامك. قالت إلا تعين لي مدة لإرسال الكتاب. قلت شهرين. قالت هذا دهارير أية امرأة تصبر شهرين. قلت نحن سائرون في سفينة الريح فإن الطبيب قال لصاحب المعبر أنها أوفق من سفينة النار لما في هذه من رائحة الفحم التي تضر بالمصدورين. قالت أفعل ما بدأ لك ولكن أحذر من أن تفيق وتهوى غيري. قلت إنما أحذر من الثانية لا من الأولى. قالت لا بل مني فأحذر. قلت إنما عنيت أني أحذر من الهوى. قالت نعم إياك وإياه فأنه يزيدك ضني. قلت ليست البلاد التي نقصدها مظنّة لذلك. كهذه الجزيرة. قالت النساء والرجال في جميع البلاد سواء. ولا سيما أنك الآن في زي غريب والنساء كلهن تهافتن على الغريب. كما أن الرجال يتهافتون على الغريبة. قلت قد فهمت هذا التعريض غير أن المرأة المصونة إذا دخلت بين جيشين تخرج كما دخلت. قالت نعم تدخل امرأة. قلت وأين المصونة أراكِ حذفتها. قالت في زمن الفِطَحْل. قلت وما الفطحل. قالت دهر لم يخلق الناس فيه بعدُ. قلت من أين علمت هذه اللفظة الغربية. قالت سمعتك مرة تقولها فحفظتها وهو دليل على التهافت على الغريب. ثم سكنت مفكرة ثم ضحكت. فقلت لها ممّ تضحكين أمن الفطحل؟ قالت لا وغنما ذكرت حكاية عن امرأة سافر عنها زوجها فضحكتُ. قلت وما هي قلت كانت امرأة متزوجة برجل يربيها في بعض أحواله ولم تكن على يقين مما رابها منه. وأتفق أنه سافر عنها فحزنت لفراقه لكنها ظلت واحدة عليه. فجعلت مرة تدعو له وأخرى تدعو عليه. وقالت وأن كان بريئاً بلغته دعواتي الصالحة وإلا فيلحقه غيرها. فقلت هل في نيّتك إذاً أن تحاكيها. قالت معاذ الله أن أدعو. قلت قولي لك أو عليك حتى يفهم المعنى. قالت عليك قلت لله أنت ما أرى لي من يديك منجي. فالتفتت إلى الباب وقالت ما جاء أحد. قلت دعيني بحقك من الزبون ومن جاء فأنا الآن على جناح السفر. قالت سِرْ في أمن الله ولا ترتَبْ فإن للهزل وقتاً وللجد وقتاً وعرض المرأة هو من الأخير. قلت وهذا أيضاً كلام موجه كأنك تقولين أنه ليس من الأمور المقدمة. قالت ألا كن مطمئناً سواء كان من هذا أو ذاك فإنك ستجدني كما فأرقتني إن شاء الله. قال فوّدعتها والدمع هامل على جيدها وبكت هي أيضاً لفراقي فإنها كانت أول غيبة عنها. وكان من خلقها إذا بكت أن تبدو في طلعتها لوائح وجد شائقة. وملامح حسن رائقة. والنساء أشوق ما يكون إذا بكين. ولكن لا يكن كلامي هذا باعثاً على ضربهنّ شلت يدا من مسهن عن غضب. قال فتزايد بكائي لبكائها وأحسست ح بلوعة الفراق.

ثم أقلعنا وما كادت تغيب الأرض عنا حتى ثارت لواعج الأشواق في صدري وخطر ببالي كل ما قلته لي مصبوغا بالوسواس والهواجس. قال ومن كان حِلْس بيته لم يفارقه ولم تبرح رائحة زوجته منخريه لم يدرِ ما ألم الفراق بعد ليالي الوصل والعناق. ولا سيما إذا جرى ذلك أول مرة. فينبغي إذاً أن أصور لخاطر صاحبنا هذا الحلسيّ المغفومي بعض ما يقاسيه المحب من لوعة البين. عسى أن يرق فيدعو لجميع النائين عن أحبابهم بقرب الوصل وجمع الشمل فأقول: أن الفراق طالت مدته أم قصرت قربت طيّته أم بعدت عبارة عن فصل أحد المتواصلين وحرمانه من أنس صاحبه. وقد تكون لوعته اشد من لوعة الموت لأن فراق الميت مقرون بالأسف والتحسّر. وفراق الحيّ بهما وبالغيرة أيضا. وهي في مقابلة اليأس المتسبب عن فراق الميت بل هي أشد مضضا منه. هذا في حق المتزوجين المتحابين فأما في حق الكارهين فلا آسف ولا حسرة على كلا الحالين. ثم أن المحب المفارق إذا فارق حبيبه ورغد عيشه في غير وطنه. من طعام لذيذ يأكله أو مسامرة مطربة أو سماع غناء يتلذذ بهما أو رؤية أشياء بديعة ووجوه ناضرة سنيعة تقرّ بها عينه. فأول ما يخطر بباله إنما هو حبيبه النائي فيقول في نفسه ألا ليته الآن حاضر عندي ليشاركني في هذا النعيم. فإني احسبه اليوم محروماً منه بل ربما كان على قلبه غشاوة من الحزن والكمد. فكيف يتأتى لي أن ألهو وأفرح وهو محزون. وكيف يمرئني الطعام ويسوغ لي الشراب وهو الآن لعله مُقْهٍ عنهما وحشة واكتئابا إلى غير ذلك من الخواطر المكدرة والأفكار المحّسرة. فأما إذا قاسى جهداً ونكداً بعد فراقه فإنه يقول ويَبْاً لي وويحاً وويخاً وويساً وويلاً وويهاً. إن عيشي الآن نكد ذميم. وحالتي موحشة وفؤادي كليم. وقد جرى بيني وبين أليفي الاتفاق على أن نكون شركاء في السراء والضراء والنعماء والبأساء. وأحسبه الآن مفنّقا منعّما. مترفها برثا برجا بَرِعا طَرحا يسامره في الليل كل ربيز ظريف. ويجالسه في النهار كل كيس لبيب. ألا وكأني به أي بها تبتسم الآن ابتسامة رضى وإعجاب لمن طرأ على محاسنها وجمالها فقال لها. ليتك كنت تتخذين عوذة لتردّ عنك عين الحسود فإني لا أسمح بهذا الوجه المنير الوضّاح أن يراه كل أحد من الناس. ولا ينكر أن يتشهق عليك من ابتلى بامرأة دميمة فإن العين حق وإن جمالك فريد فما يكون جوابها له إلا أن تقول له: ما أحسن عينيك فإنهما تريان الشيء كما هو. فأما عينا زوجي فإن عليهما غشاوة. وإن من مذهبه الفاسد أن يقول إن العين إذا ألفت شيئاً مهما كان بديعاً في الحسن قلّ اشتياق النفس إليه. أو كما تقول العامة ما تملكه اليد تزهد فيه النفس. غير إني أخشى من إنك إذا أكثرت من النظر إليّ والقرب مني لا تلبث أن تتمذهب بمذهبه فتراني على غير ما أنا عليه الآن. فيقول لها معاذ الله هذا كلام الجهال. فأما الصادقون مثلي في الحب وهيهات مثلي. فإنهم أبداً يتمثلون بقول أبي نواس: يزيدك وجهها حسنا ... إذا ما زدته نظرا

وإني أشهد الله عليّ وهو خير الشاهدين. وملائكته المقرّبين. وأنبياءه ورسله المكرمين. إنك إذا عاشرتني العمر كله فلن ترى عيني بشراً أحسن منك. فتقول له هذا شأن الرجال دائماً من إنهم يتملقون المرأة ليفتنوها ويخدعوها. فمرة يقولون لها تبارك الخلاق. ومرة افدي الغزال الشارد. ومرة يا سعد من كنت له. أو طوبى لمن رأى طيفك في المنام. وتارة ينظرون إليها وقد غرغرت أعينهم بالدمع. وتارة يزفرون وينحبون. كل ذلك حتى يتمكنوا منها مرة أو مرتين ثم هم من بعد ذلك عنها معرضون. وبسَّرها بائحون. فنحن منكم على حذر. ولا يخفي علينا ما بطن منكم وما ظهر. فيقول لها معاذ الله. حاشى لله. استغفر الله. ما شأني شأن المتملقين الملاذّين. ولا طبعي طبع الفاسقين. بل أن لساني في هواك ليقصر عنبيان ما تجنه سرائري. وما يخطر بخاطري. فيا ليتني اعرف لغة اعبّر بها عن فرط وجدي بك وتوقاني إليك. ولو اطّلعت على ضميري لصدّقتني وعلمت إني لست كأحد الناس وإن غرامي فوق كل غرام. فأطيلي عشرتي ولو بدون وصال ليتأكد لك صحة ما أقول. فتقول له وقد فتحت لهاتها وزال ضَرَسها. وما الفائدة في ذلك فإن المرأة ليست نجماً يرصد طلوعه وغروبه. ولا برقاً يشام ليعلم هل هو خلّب أو ماطر. ولا أحجية يحاول فكّها وإيشاؤها. وما يهمّها أن تكون أجمل من سائر النساء وجهاً وإنما يهمّها أن تكون أشوق للرجال وأفتن. فإن التشويق لا يتوقف على الجمال قدر ما يتوقف على حسن الشمائل والمحاضرة والملاطفة والمؤانسة والغنج والدلال والافترار والحدقلة والترنجح والغرنقة والوكوكة والترأد. فيقول لها نعم سبحان من جمع جميع هذه الأوصاف الحميدة فكل ما فيك شائق وكل ما في مشوق. فتقول له وقد أزدهر وجهها سروراً وإعجاباً. قد يقال أن نبض العاشق يكون مضطرباً فدعني أجسَ نبضك لأعلم هل ما قلته صدق أو لا فيقول لها نعم نعم خذي يدي فجسيّها وأجعل يدك واجعلي يدك الأخرى على قلبي. فتفعل ذلك. فيقول دعيني إذا أفعل بك كما فعلت بي لتنكشف هذه الحقيقة لكل منا. فتهجث وتحمر عند سماعها قوله أفعل بك ويضطرب نبضها ثم تسكن وتمد له يدها. فيجسها بإحدى يديه ثم يضع الثانية على قلبها ثم يرفعها قليلاً وقد حملاقه وأندلع لسانه. ثم يزفر زفرة طويلة ويقول: لك الله من قرموطة ملأت يدي ... لقابضها قبض على كُرة الأرض لا سجمها إنسان مقلتي الفدا ... وكل عزيزٍ من متاع ومن عرْض

فتقول له وقد دُغدغت ولكن عروق الإنسان النابضة فيه ليست في يده وقلبه فقط بل هي في سائر أعضائه. فينبغي على هذا أن نجس كل عضو فينا لنعلم أيّنا أكثر حركة وانتفاضاً ونفضاناً ونبضا وإزاء ونَيْضاً وأُزوح وحبَضاً. إذ لا يصح الحكم على شيء إلا بعد الاستقراء والاستقصاء. فيقول لها وقد طرب وجداً وحبوراً نعم نعم نعم القول ما قلتِ. غير أنه لما كان الإنسان يجهل حاله وكان من طبعه أن يلاحظ في غيره ما لا يلاحظ في نفسه كان لابد من أن يكون هذا الاستقراء بالتخالف أي -فتبتره قائلة قد فهمت ما عنيت وهو معلوم بالبديهة ومستغن عن التفسير وهذا هو الذي قصت. فهامت يدك وخذ يدي. حتى إذا جالت الأيدي بالجتّ والجس. والمَثّ والمس. والنجث والنجش والبحث والمعش. والضبث واللمس. والطمث والملش. والفحث والفتش. والقبث والمتش. والمرث والمرش. والمغث والمعش. والنبث والنبش. والنقث والنكش. والنث والنتش. قالت وقد قوي حبضها ألا هيت لك. إلا هيت. فإن قولك على أي الحالين صدق. فيقول لها لبيك وسعديك لقد طالما شبحت يدي بالدعاء لأن أسمع هذه الدهوة المنعشة وهذه النعمة المطربة- أعلى هذا كان الفراق. أم من أجل هذا حسنت لي السفر بأن قلت لي ذات ليلة أني أرى بك يا رجل فتوراً. فلو سافرت إلى أرض طيبة الهواء لعاد نشاطك القديم. فعندنا إلى ذلك النعيم أفكانت هذه حيلة منك على تغيبي ليخلو لك الميدان فتمرحي فيه كيفما شئت وتتعاطى علم جس النبض وحركات الأعضاء. ألم يكن لي نبض كسائر الناس فتتعلمي به هذا العلم الجليل. أم تزعمين أنه ضعيف لا يصلح لأن يتعلم عليه. على أنه إن كان قد ضعف فإنما ضعف بسببك. وعهدي به من قبل ليلة عرسنا له ضربان وانتفاض وانتغاض. أفهكذا يفعل المتفارقون. وبمثل هذا يخون المترافقون. أيحل لك من الله أن تتنعمي الآن وأنا في حالة البؤس والشقاء. بطراً تجسين العروق وأنني عرق المجسة أن بي عُرَواء ألم يكفِ ما كنت أقاسيه معك في البيت حين كنت أغدو منه كادحاً وأرجع إليه رازحاً. وكانت همومك كلها عليَّ ولَوْمك كله متوجّهاً أليّ. فكنت أنصب لراحتك. وآرق لاجحاحتك وألغب لتشبعي. وأجهد لترتعي. وأبرد لتدفئي. وأقلق لتهدئي وأتهجَّد لتتهجدي. وأنحل لتمغدي. فقد تبين الآن أينا ذو أمانة ومداهنة وخيانة. وإذ كنت أقول لك أن الأمانة في النساء أقل منها في الرجال. فأن الرجل أبداً مشغول البال. مضعضع الأحوال. يليه عن اللذات كده ونجله. ويصرفه عن هواه رشده وعقله. والمرأة لا همّ لها إلاّ تشويق الرجال. وفتنتهم بها في كل حال. كنت تقولين لا بل المرأة أكثر حشمة وحياء. وأقل نهمة ورياء. وأميل طبعاً إلى التعفّف. وأبعد خلقاً عن التكلف. فإن جمعنا الدهر يوماً وأفضنا في حديث الوفاء. والمودة والصفاء حججتك بما لا تقدرين معه على الجواب. وأظهرت فضل الرجل على كل ذات نقاب. الخائنات الحانثات. المائنات الغادرات: فإن أبيت إلا الجحد والمكابرة. فالهراوة لديّ حاضرة. واليد للّطم واللّكم مبادرة. فإذا أمسكت بناصيتي أو جيبي. وأذعت بين الجيران عيبي، جعلت لك من الشجاب صلبياً أو من الذأط نصيباً ومتى خطر بباله ذلك هاج بع الغيظ كل هياج. وودّ لو يطير إلى بيته مع العجاج. فينقلب فرحه ترحاً وصفاؤه تكديراً. قال غير أن للحزن في مبادئه فائدة. وهي ذود شوارد الآمال المغررة والأماني المحالة إلى مراح البصيرة والرشد. بحيث يسكن البال عن الحوم على موارد المحال. ويستقر الحال على فطم النفس عن الاحتيال. وإلى هذا أشرت بقولي: وربَّ حزنٍ القلب عن سفه ... كما يصون إناءَ واهياً صدأه وما انقضى عن لذاذات الهوى عجلا ... سيّان غايته عندي ومبتدأه

قال وأروق الأفكار وأبدعها ما يخطر في ثلاثة أحوال: الأول في مبادئ الحزن. والثاني في الفراش قبيل النوم. والثالث في بيت الخلاء. فإن هذه الحال لما كانت عبارة عن تحليل مواد متكاثفة تتنفس عنها الأمعاء والأعفاج. كان هذا التحليل والتنفس أسفل مؤثراً في تحليل ما تعقد في طبقات الدماغ العليا في وقت واحد ومكان واحد. فيكون بعض المواد داهباً سفلاً وبعض الصُوَر صعداً. كالبخار الذي يصعد من الأرض فيعقد سحاباً ماطراً. فقد عرفت مما مرّ أنه يتحصل من الحزن من الفوائد ما لا يتحصل من الفرح. لأن الفرح يبعث على الطيش والذهول وتشتت الخواطر في أهواء النفس وأوطارها المنتشرة. فهو عبارة عن تعدّد أهواء وتفريق خواطر. والحزن عبارة عن ضمّها ولمّها ولهذا كان جل العلماء من الصعاليك المبتئسين وقل من نبغ في المعرف من الأغنياء في المعارف من الأغنياء والمترفين. إلا أن يكون قد غرس في طباعهم نوع من الزهد والعزوف المقترن بالحزن. قال وأحسن ما سنح لي من الخواطر إنما كان عن كان إنما كان عن بواعث أشجان، وخوالج أحزان. أما من وحشة فراق أو من خيبة وحرمان. أو من حسد على علم وبراعة، أمّا على مال وثروة فلا. اللهمّ إذا كان لمصلحة كإنشاء مدارس ومؤاساة محتاج. وأني لا عجب من هؤلاء الرهبان فأنهم مع ما هم فيه من الوحشة والحرمان فما أحد منهم نبغ في علم أو مأثرة. ولو كنت راهباُ لملأت الدير نظماً ونثراً والّفت على العدَس وحده خمسين مقامة. ليت شعري كيف يمكن لبشر إذا خلا في صومعته ورأى تحتها الغياض المدهامّة والبحر الساجي والجواري المنشآت. وعن يمينه وشماله الجبال الشامخة المكللة بالثلج وفوقه الرقيع الصافي وأمامه القرى والمنازل أن يقضي نهاره كله وهو يرمش ويرضيك ويتثاءب ويتمطى ويملد معدته من دون تأليف ونظم ولا سيما أن من حسن ساكنات تلك الديار ما يشرح الصدر ويروج عن البال. فإذا كانت هذه المناظر البهيجة كلها لا تهيج هؤلاء النسّاك على تأليف كتاب فأيّ شيء بعدها يهيجها. هذا وأن كثيراً من المسجونين قد ألفوا وهم في الضنك تآليف بديعة، يعجز عنها سكان القصور الوسيعة. فأما ما قيل عن عبد الله بن المعتز من أنه كان ينظر إلى أواني داره ويشبه بها فليس كل كعبد الله. فأنّا نرى الناس الآن كلما زاد ثراهم قل حجاهم. والحاصل أن وحشة الفراق تبعث الخاطر على ابتكار المعاني الدقيقة. وكذلك الصدّ والهجران والأعراض والمطل والعتاب والشفون والدلال والتمنع والتعزز من طرف المحبوب. ولكن ليس محصول هذا الحاصل إغراء الحبيب بهجر محبَّه حملا له على النظم. أو تعمد الفراق بعثاً له على وصف ما يجده من الشوق واللوعة. فإنه أحسنه ما جاءت به المقادير دون تعريض له. وها أنا أبرئ نفسي عند العاشقين والمتزوجين وأقول: أنه إذا جرى بينكم وحشة أوجبت الفراق، أوفراق أوجب الوحشة. أوصدّ أو هجر أو لجاج. أو جدال أو اعتلاج أو تقافس أو صراع بالشَغْربية والشغزبية والقرطبي والألهاد والدهشرة والظُهارية والمبأشة والبأش والعُرْضة والنُقَض والمراسغة والتنسّف والتعرُّق والاعتقال فما يكون عليَّ في ذلك عتاب ولا ملام.

انتهى كلام الفارياق وقد أحسن فيه. إلا أنه لم يحكِ عن نفسه أنه كان عند الحزن جزعاً جَرِعاً كثير والهواجس قليل الحيلة والتدبير غير ثابت الرأي ولا مُضب على ما في نفسه فإنه لم تكد أرض الجزيرة تغيب عنه حتى طفق يشكو من النساء ومن بطرهن عند غياب بعولتهن عنهن. فسمعه الخرجي وزوجته فقالا له ما بالك تشكو لا خوف عليك من تعبير الوحش مدة السفر كلها. وإذا بلغت أرضكم إن شاء الله فلا أحلم إلا الأحلام البينة. قال ما شكواي من الوحش ولا الجن بل من الأنس. فأني سمعت اليوم كذا وأوجست كذا ولعلي أرجع وأجد كذا أو لا أجد كذا أو لا أرجع ولا أجد البتة. فلما سمعت بذلك ثارت زبانية سقر من أنفها فقالت له. هل بلغ من طيشك أن تسيء الظنّ في النساء المتزوجات. قال قد ظنّ فيهن من ذلك من قبلي الحليم الرزين. قالت ليست هذه الخلة عندنا نحن معاشر الإفرنج هذا زوجي ما يخامره ريب فيّ. قال أن السيد مشغول بالأحلام بحيث لم يبق في رأسه موضع لغيرها. أليس أن عالمكم بيرون يقول أخْون ما تكون المرأة ما إذا غاب عنها زوجها. قالت أنه شاعر وأن كلام الشعراء لا يؤخذ به في حكم على النساء إلا إذا كان نسبياً وغزلاً. ثم بينما هم كذلك إذا بالريح هاجت الأمواج فاضطربت السفينة ومادت أيّ ميد. فلزم كل مكانه مدة أربعة أيام حتى ذهل كل من ركابها عما وراءه وقدامه. وبعد سفر أثني عشر يوماً بلغوا مدينة بيروت وهم جياع تعبون شاحبون مبتئسون. والهالج يترقب أو فرصة من الدهر لهبوط الأحلام. فلما دخلوا البلد كان أول ما طرق مسامعهم من كلام أهلها الركيك قول المخبّر أن أهل الجبل قد ربقة الطاعة لوالي مصر وتجندوا عليه. فكان أهل المدينة في شغب واضطراب. وكان دوار البحر والفراق لم يزل يميد براس الفارياق. فصعد إلى جهة الجبل ليرى أهله فلقي بظاهر المدينة عسكر الأهلين مخيما فهول عليه أحدهم بإطلاق بندقيته فطار نصف قلبه من صدره ولم يزد قلب المهول شيئا. لكن بعض الناس يرتاح للأذى إن لم يحصل له فائدة. ثم لطف الله به وأنقذه من القوم فبلغ منزل أهله. فلما علم قدومه عند أهل القرية أقبلوا يسلمون عليه مثنى وثلاث ورباع فكان ينظر إليهم ويتعجب منهم لبعد عهده بعاداتهم. فإن النساء كن يأتين ويقعدن على الأرض. فمنهن من كانت تقعد بين يديه القُرْفصاء أو الهَبْنقة أو الأربعاء أو الفرشحة أو البرثطة أو البرقطة أو الفرشطة أو القَعْفَزي. أو ثَبْجا أو احتفازا أو إمتعاسا أو إستيفازا أو إقعاء كقعدة القرد وهي مشمرة قميصها فتشفّ سراويلاتها عن ومّاحها. وهي عادة ألفنها ولا يرين فيها عيباً. وأكثرهن تبدي ثدييها سواء كانت كاعبا أو هضلاء أو طرطبة. ويومئذ افرغ عليه شحن المسائل فمن قائلة مالك يافارياق نحيلا. ومن قائلة وقد صرت ضئيلاً. وأخرى ما لسحنتك قد كلحت. وغيرها ولطلعتك قد قَبُحت. ولا سنانك قد قلحت. وجبهنك لتُحت. وأرنبتك فُطِحت. وأساريرك ازحت. وبشرتك قسحت. وشفتك تقرّحت. وعنقك شقُحت. وعينك لَجحت. وقامتك تقنَّحت. وشعراتك تصوّحت. وعجيزتك رَسحت. وذقنك طُحّت. ولهجتك قَحْقحت. قال فتشاءمت من هذه القوافي وقلت لم يبق بعد تعدد هذا الحت إلا أن يقلن وتلك قد نكحت. ثم قالت واحدة منهن إيه وهذه هَنَة قد زادت فيك. فقالت أخرى أوه وهذا شيء نقص منك. ثم جعلن يقلبنه ويعرضنه كم يقلب الشاري السلعة. وكلهن يقلن بنغمة واحدة يا فارياق يا فارياق أين الطنبور وأوقات السرور. أين أبياتك في العقوص والطنطور. أنسيت يوم كذا وليلة كذا. قال فكنت مسروراً بمؤانستهن وسلامة ضمائرهن عن المنكر كما هو خلق نسا تلك البلاد فإنهن لا يأبين من لمس الرجال والدنو منهم ومماسة الرُكْب دون المركب. إلا أنه كثرت مسائلهن عليّ. وطال قعودهن بين يدي. وإنا محتاج إلى الراحة والانفراد. ومع ذلك فمجلس النساء مؤنس على كل حال ولاسيما لمن مضى عليه في البحر اثنا عشر يوماً من دون رؤيتهن. فلو نتفن بعد هذا العهد الطويل لحيته وشواربه بالمسائل لما لحقه من ذلك أذى.

قال وأعجب من ذلك إني كنت أرى الأمراء يقعدون على الحصير وعند النوم يرقدون فوقه على فراش واحد. وربما اجتزءوا بالبيض والأرز واللبن عن الحمام والفراخ والدجاج من دون شراب ولا فاكهة ولا نقل. وأرجلهم ظاهرة فإذا قعدوا على الحصير خلعوا نعالهم بالقرب منه فتبقى منه بمرأى منهم. وترى بعض خدمهم يقوم على رؤوسهم أي بازائها لا فوقها وفي حزامه الملعقة. وآخر في جيبه الطاس من فضة إشارة إلى غنى الأمير وإلى كونه كأحد الناس غير مستغن عن اللعق والشرب. وهو قاعد مطرق لا كتاب عنده فيطالعه ولا سمير له فيسامره ولا آلة لهو تطربه. وقد يقضي ساعات من النهار هكذا بل يوماً وأياماً ولا يرى من امرأة أصلا حتى تعمش عيناه ويظلم فكره وتلقس نفسه وتحرض معدته. فأين هذا من مجالس الإفرنج التي تزين بالمتكآت النفسية وتفرش بالزرابي الفاخرة وتوطأ بالنعال. ولا تزال الحسان مقبلات عليها مدبرات. فمن هيفاء تشرفها بوطأة. ومن غيداء بطفرة. ومن زهراء بزفنة. ومن وطباء بحركة. ومن دهسار باضطجاعة. فمن يصبر على هذه الحال فيا أمير الناد. وواحد الأمجاد. وراكب الجواد. ورامي الجريد على العباد. قل لخادمك حامل الطاس ينح نعليك من أمامك. بل البسهما وتعال معي إلى بلاد الإفرنج لتنظر الأمراء منهم مخاصرين لأزواجهم وأولادهم سائرين بهم إلى المنارة والحدائق ومواضع اللهو واللعب والطرب. ولا حرج على أزواجهم أن يبتسمن أو يملن أعناقهن أو يتفرَّسن أو يوكوكن أو يحدقلن أو يحرجلن أو يفرجلن أو يهرجلن أو يهركلن أو يتبازين أو يُكْببن. ولا على أولادهم أن يطفروا ويمرحوا. حتى إذا كحلوا أعينهم برؤية الكحل باتوا ليلتهم تلك على الوثير من الفرش مع وتائرهم. ليت شعري لم لا تضم إليك مع جملة هؤلاء الحفّان والوُصفاء والبساتقة والساتقة والهبانقة والمهنة والمناصف والنَصَف والحفَدَ والمقاتِورة والخدم والحشم الذين حولك ثلاثة نفر من العازفين بالات الطرب، ليجلوا عن خاطرك صدأ همّ الوحدة والاعتزال في كل يوم عند الأصيل أو في العشاء. وأذن لي في استعطافك لأن تأذن لجيرانك في أن يأتوا هم أيضاً ويطربوا لطربك. فيدعوا لك بتأييد دولتك، وتخليد غبطتك. ودوام بقائك وسمو ارتقائك وفي أن أسألك لمَ لا تعيّن في العام عيداً لمولدك أو لمولد السيدة أو الأولاد المحروسين. فيكون يوم فرح وحبور لك ولجميع من ينتمي إليك. بحيث تصطنع فيه مأدبة وتدعو إليها دعوة جفلي لا نقري، أي خير في رمي الجريد وأصابتك به كتف خويدمك الهبد الحقير أو ضرسه حتى تعطله عن الأكل وأنت لاه عن أحسن الرمي وأصوبه وأصرده وأمرقه. وأنت آمن هناك من أن يقال لك بَرْحى برحى بل يقال لك مرحى مرحى. هذا ما عدا إيلام أبطك الفاخر العاطر برمي الجريد. وما الفائدة من وقوف الخويدم بين يديك وفي حزامه الملعقة أو على رأسه الخوان أو على صدره القصعة والباطنة أو بيده العُس والقعب أو على عاتقه المائدة أو على عنقه القدر. وأنت لا تأكل مع السيدة وأولادها ولا تأخذ ولدك وتضعه على ركبتك. ولا تحمله على ظهرك ولا تتطأطأ له لثيب فوق رأسك. ولا تحتجره ولا تحتضنه ولا تتوركه ولا تعانقه ولا تحول له خدك ليبوسك. ولا تمكنه من أن يبعث بشاربيك أو يعص إصبعك أو أنفك ليضحك قليلاً فأضحك أنا كثيراً. ولا تطعمه بيدك ليعرف إنك محسن إليه. ولا تأكل شيئاً مما يلوكه. ولا تركبه على جحش وتقوده به الجحش ولا تغني له في الليل ليرقد على نغمتك فيقوم في الصباح يغني لك غناء أطرب من غناء الفقنّس ومعبد وأبي البَدَّاح وسواط والعثعث وخليلان وعمر بن بانة والزّنام وممدود عبد الواسط الرباني وزلزل وعرفان والجرادتين وابنة عفزر وسَلامة وشَمُول وأبن جامع السهمي ودُبيس ورقيق وأبن مُحرز والمشدود وهاشم بن سليمن ودحمان الأشقر وطويس وابن شريح والدلال بن عبد النعيم وأبن طنبور اليمني وحكم الوادي وإبراهيم الموصلي. وأشجى من الرُنُم ومن صوت كل دُعْبب غريض ... الرنم المغنيات المجيدات والغريض المغني المجيد ومثله الدعبب. ولا تبابئه ولا تغازله بابا قال له بأبي أنت. ولا تناغيه ولا تباغمه باغمه حادثه بصوت رخيم. ولا تنادغه ولا ترأمه نادغه غازله ورئمت الناقة ولدها عطفت عليه ولزمته. ولا تنغّره ولا ترخمه نغّر الصبي دغدغه كنغّزه ورخمت المرأة ولدها لاعبته.

ولا تهينم لهولا ترعمّه رعّمه مسح رعامه أي مخاطه غير أن صاحب القاموس خصه بالمرأة بل المتبادر من عبارته أنه مسح رعام الرُعموم للمرأة الناعمة فالعفو مرجو منهما على كل حال. ولا ترزم لِرزَمته أرزمت الناقة حنَّت على ولدها والرزمة صوت الصبي. ولا تتجنّث عليه تجنث عليه رئمه وأحبه وتلفف على الشيء يواريه ولا تقرمه ولا تسمتّه التقريم تعليم الأكل والتسميت الدعاء للعاطس ولا تُفدى له ولا تُصهْيه أفدى فلان رقص أبنه وأصهاه دهنه بالسمن ووضعه في الشمس. ولا تدسم له نونته النونه النقرة في ذقن الصبي الصغير وكذا الفحصة وتدسيمها تسويدها كيلا تصيبها العين. ولا تبدي له البجبجة البجبجة شيء يفعل عند مناغاة الصبي. ولا الحَوْفَزي الحوفزي أن تلقي الصبي على أطراف رجليك فترفعه. ولا تقول له حَلْقة قولهم للصبي إذا تجشَأ حلقة أي حلق رأسك حلقة بعد حلقة. ولا بحباح بحباح كلمة تنبي عن نفاذ الشيء وفنائه. ولامَحْماح هو كقولهم بحباح ومثله حَمْحام وهمهام. ولا كخْ كخْ يقال عند زجر الصبي عند تناول شيء. ولا تَعنى بدَنَعه دنع الصبي جُهد وجاع واشتهى وطمع وخضع وذلّ ولؤم. ولا بقَقَته صوت يصوت به الصبي أو يصوت به إذا فزع. ولا تكترث لبأبأته ولا لببّته بأبأ الصبي قال بابا وبّبه حكاية صوته. ولا لتغتغته ولا لثغثغته التغتغة حكاية صوت الضحك والثغثغة عضّ الصبي قبل أن يتّغر. ولا لتأتأته ولا لدأدأته تأتأة حكاية صوت وهي ايضاً مشي الطفل والدأدأة صوت تحريك الصبي في المهد. ولا لدَعْبعَه ولا لحَتارشه دعبع حكاية لفظ الطفل الرضيع وحتارش الصبي حركاته. ولا لادْرامه أدرم الصبي تحرك أسنانه ليستخلف آخرَ. ولا لفصيصه ولا لأنتداغه فصَّ الصبي فصيصاً إذا بكى بكاء ضعيفاً. وانتدغ ضحك خفّياً. ولا تبالي بمعِقْاده المعقاد خيط فيه خرزات تعلق في عنق الصبي. ولا بِقرْزَحلته من خرز الصبيان. ولا بدرَّاجته الدراجة الحال التي يدرج عليها الصبي إذا مشى. ولا بحقابه الحقاب خيط يشد في حقو الصبي لدفع العين. ولا بصُمتته الصُمتة ما أصمت به الصبي من طعام ونحوه ومثلها السُكتة. فبحق عبوديتي لك يا سيدي ودالّتي عليك إلا ما وضعته يوماً على ركبتك أو أركبته على ظهرك. ثم لا بأس في أن تدعه يلعب مع أولاد من هم متسّمون بشرف خدمتك فإنه لم يزل بعدُ صغيراً لا يعلم هذه الفروق. ثم لا بأس أيضاً في أن تسهر هذه الليلة مع حريمك المحترم مع بعض رجال قريتك وأزواجهم ممن يتأدبون في المحاضرة بحضرة النساء. فإني أرى صدر السيدة قد ضاق من الوحدة وما عندكم من كتب أو لهو حتى ينشرح بها. ولا غرو أن تستفيدا كلاكما من مسامرة رعيتكما شيئاً. فإن رأس الفقير ليس بأضيق ولا اصغر من رأس الأمير عن أن يشتمل على أراء سديدة مما يخلو عنه رأس غيره وأن يكن اكبر عمامة منه وأغلظ قذالاً. وكيف ترجو أن تكون السيدة وبناتها ذوات رشد ودراية وهن مقصورات في الدار العامرة. أم كيف ترضى لهن وحاشاك الجهل والغباوة. وانتم يا سادتي الحكام والمشايخ والكبراء والمطارنة جربوا مرة أن تجتمعوا بأهلكم وأزواجكم مع أهل جيرانكم. "ولكن المطارنة ليس لهم أزواج لتنزههم عن ألواج" وأن ترفعوا فرق المذاهب من بينكم فذلك أدعى لكم إلى الحظ والسرور. إنما الدنيا النساء إنما الدنيا البنون. أعلموا رحمكم الله إن الاجتماع بالنساء لا يخل بشرف المنصب. اعلموا هداكم الله إن فرق الآراء في الأديان لا يمنع من الألفة والمخالّة اعلموا أصلحكم الله إن في حمل الإنسان ولده على ظهره وتطوّقه برجليه اللطيفتين للَذة اعظم من لذة تطويل الجُبب وتوسيع الأكمام وتكوير العمامة ومن وقوف الخدمة وأيديهم على صدورهم. اعلموا فقهكم الله إن العرب لم تخصّ حركات الطفل بأسماء إلا وهي تريد أن تلاحظوها وتتنبّهوا لها. حتى إنها وضعت لحدثه حرفين غريبين في التركيب لا ثالث لهما في اللغة كلها وهما الصَّصَصُ والقَقَقُ. اعلموا وفقكم الله إن مستر ومسيو وهر وسنيور أنعم منكم بألا وأحسن حالا اعلموا نصركم الله إن الفارياق رجع الآن إلى بيروت وإني أنا العبد الحقير كاتب سيرته مفكر في إنشاء مقامة تسرّ العزب منكم والمتزوج معاً.

مقامة مقيمة

"حاشية أظن سادتنا المشار إليهم ما سمعوا النصيحة فراح كلامي معهم في الريح" "تنبيه قد أطلت الكلام في هذا الفصل المؤذن بالفراق ليقابل فصل الزواج". مقامة مقيمة حدس الهارس بن هثام قال سوّل لي الخناس، "أعوذ بالله من هذا الافتتاح" الذي يوسوس في صدور الناس كل غميس وغماس. إن تزوجت امرأة خرّابة ولاجة هيّاجة نبّاحة مِرغامة معذامة. لوّامة رطّامة. خُبَعة طُلَعة. خليعة جلِعة. تجاوب ولا سؤال وتبارز ولا قتال وتقترح علي أشياء يعجز عنها الدينار وترميني في مهالك دونها النار فكأن دأبي إن أصبر مرة عليها عذيراً وأخرى أن أشكو إليها فلا تزداد الأشرة ونفوراً. أو لا ينجع العتب فيها نقيراً. فقلت تالله لأجْفرنّ عنها واوهم إن بي جفورا أو لأضربن في الأرض لا علم هل أرى لها نظيراً. فاخترت الرأي الثاني. بعد التعوذ بالمثاني. وخرجت من بيتي كئيباً مبتئساً، ساخطاً على جميع النساء. فبينا إنا في بعض الطريق، إذ مر بي سرب منهن يخطر بالثوب الصفيق، والحلي ذي البريق. وقد أرجت الأرجاء بطيبهن العتيق فرأيت من بينهن الهيفاء والبدين. والغرَّاء الزهراء ضرة حور العين، ومهندة العينين. فتاقت نفسي إلى وصالهن. وتبلبل بالي بجمالهن. ونسيت ما لقيت من لكاعي في البيت. وقلت ليتكنّ لي لو تنفع ليت. ثم أنشدت: أرى للنساء الماشيات حلاوة ... فهل هن حلوات كذا في المقاصير ولست أرى في إِلْقتي إن مشت وإن ... أقامت سوى مقت وكره وتمرير أراها بعيني حيث كانت بعينها ... فهل ذو عمى غيري يراها من الحور فابتدرت إليّ واحدة منهن لها عنق كعنق الغزال، وحاجب كالهلال. وقالت خفف عنك فما أنت وحدك في الرجال. إن زوجي قد قال. أفكّر في لئامة طبع زوجي ... فأكره كل أنثى في النساء واحسب إنهن مغايرات ... لها فأحّبهن على السواء ثم التفت إليّ أخرى وجبينها يلمع كالصباح، ولحظها يدمي كالصفاح. وقالت اسمع ما قاله زوجي فيّ. ولاتك من قارفيّ: تخوض زوجي في كل الفنون وما ... تخشى خطاء ولا ردذا مع الظرفا تكون غالطة في كل مسألة ... وليس تغلط يوما أن تقول كفى ثم تقدمت إليَّ أخرى وحبب عرقها كاللآلي. وحالك فرعها كالليالي. وقال دونك ما نظمه فيّ بعلي. وانظر هل يصدق ذلك في مثلي. تودّ زوجي شططا أنني ... عبد مخيليق لمرضاتها وإن تشهت حاجة لم تُنَل ... أكون خلاّقا لحاجاتها ثم دنت مني أخرى وهي تهتز عُجباً ودلالا. وتبسم عن شنب ما رأى الناظر له مثالا. وقالت هاك ما أنشدنيه كفيحي من أول ليلة. آذن منها بالبثور والويلة. لزوجي خلقة أضعاف مالي ... من الشفتين والفم واللهاةِ فكيف يُتاح لي إشباعها وهي ... تصرخ كل وقت هات هات فأما أن تضعَّف لي أداة ... وإلاّ فارتكاب الترهات ثم أقبلت عليّ الخامسة. وهي من الخفر كالظبية المكانة. وقالت أنشدك ما قال في شيخي في الليلة السادسة. وهو إن قال غيري قد يقال زوجة ... فإنني أقول زوجي دون ها إذ لا أرى التأنيث في أخلاقها ... بل الفحول في العراك دونها ثم تقدمت السادسة، باشة آنسة. وقالت اروِ هذين البيتين، عن حليلي الذي اعتاد قول المين. وهما تراقبني زوجي عليلا وسالما ... نهاراً وليلاً نائيا وقريبا فصرت إذا عانقت في النوم طيف ... من أحبّ أراها بالوصيد رقيبا ثم دلفت السابعة وكانت ذات حقيبة سابغة وطلعة رائعة. وقالت وفي معناهما قال زوجي المفتري. واجترأ عليّ بما لم يكن رجل على امرأته يجترئ. وذلك قوله: تغار زوجي عليّ حتى ... إذا رأتني مرضت تمرض فما رأتني في حالة ما ... إلاّ وكانت لها تَعَرَّض ثم انبرت الثامنة وهي على ما ظهر لي رافنة زافنة. وقالت قد سمعت زوجي بهذين البيتين، بعد أسبوعين. وهو مطرق إلى الأرض كمن فقد العين. وبُثّر بالحين. وهما: تودّ زوجي أن لي ... شانين من مفاضحا هَن حمارٍ قازحاً ... وقرن ثور ناطحا ثم استقبلتني التاسعة وهي تفتر عن لآلئ ناصعة. وقالت ونحوهما ما قاله في أبو ولدي. وقد حفظه كثيراً في بلدي وفي غير بلدي. إن زارني عالم أو جاهل بدرت ... زوجي إليه وخاضت معه في الجَدَل

فإن تجده خبيراً بالبعال تقل ... كل العلوم انطوت في صدر ذا الرجل ثم تصدت لي العاشرة. وهي ذات قامة معتدلة وعين جائرة. وقالت وافظع من ذلك. ما ينشده رجلي في المنازل والمسالك. وهو قوله: إن يزرني يوما فتى ذو صلاح ... أفسدته زوجي فراح خليعا أو خليع مستهتر أطمعته ... وعليه غارت وحامت ولوعا ثم دعتني الحادية عشرة، وهي متمايلة مسبكرّة. وقالت إن زوجي السيئ الظن قد جازف الكلام فيّ بما لاح في باله وعنّ. فقال: ترى زوجي الرجال فتتّقيهم ... وليس الأمر عن حبّ الصلاح ولكن خوف أن يغشى عليها ... من القرم الشديد إلى السفاح ثم مالت إليّ الثانية عشرة، وكانت قصيرة حادرة. تارة حارة. وقالت عُقماً وعقرا. عن مثل زوجي الهرّا. فإنه هجا النساء طرّا. إذ قال: ليس العَفاف من النساء سجيّة ... لكنه سبب إلى الإفساد كالضرس تقلعه ليسلم غيره ... وعلى الذي باينت حزنك بادِ فقلت لا جرم لأقصدنّ منتاب الشعراء. ولاتخذنهم لي عشراء. فعسى إن آنس منهم رشداً. واجد عند نارهم هدى. فإن من كلامهم لحكماً ومن أمّهم لأمماً. وكان من عادتهم أن ينفردوا عن القوم في كل يوم. ويتذاكروا أمور الدنيا من العصر إلى المساء. ولاسيما أمور النساء. فاستقصيت عن محشدهم. ودُللت على مقصدهم. فإذا هم بجملتهم قاعدون على دكة عند البحر. وقد ضربوا لهم سرادقاً يقيهم من الحر. فسرت إليهم. وسلمت عليهم. وقلت هل لكم في أن تجالسوا من يُمتّ إليكم بالوداد. وقد بلغه من كلامكم ما وخّاه إليكم عن رشاد. قالوا مرحباً بالقادم. وإن يكن غير منادم. فلما استقر بي المجلس انبرى واحد منهم ينبس. قال: لا بدّ لي من أن أنهي ما شرعت فيه. وظهر لكم مكنونه وخافيه. نعم لمن خُلق هذا الكون إلا لهن. وأي رجل ما ناله محالهن. وعنّاه وصالهن. ومنّاه محالهن. فهن المتمتعات بدرز الدنيا ونعيمها. ولذّاتها وطعومها. وحليها وجواهرها. وتحفها ونوادرها. يقترحن علينا الممكن والمحال. ويكلفننا أموراً دونها دق أعناق الرجال. لكل عضو من أعضائهن حَلي يزينه. وربما اتخذن له اثنين وثلاثة ولا تزينه. ثم ابتسم كاشراً عن نابه. واستمر خطابه. وبكل جارحة جراح منهن لا تؤسى. وحزازات لا تنسى يتهالك في حبهنّ المالك والمملوك. وسواء في الحاجة إليهن الغني والصعلوك. وإنهن يرمين الرجال في مهالك ومضايق ومرابك. ليكفوهن مؤنة الأطيبين.

ويفيزوهن بفرص البين. فيخوضون البحار. ويقتحمون الكفار. ويعرضون أنفسهم لحد السيف. ولحرّ الصيف. وبرد الشتاء. وذل الاختتاء. ودهمات الاعداء. ودغمات الأرداء. ومقاساة الظمأ والسغب. ومعاناة الشقاء والتعب ومداراة الرقيب. ومباراة المعيب. والإغضاء عن الشين. والإفضاء إلى الحين وطالما قفل أحدهم إلى بيته فوجد في قفل عرضه مفتوحاً وسر أمره مفضوحاً. فرأى في موضعه ضَيْزنا وزبونا. وكثيرا ما آب وقد شُتر شدقه. أو وقُصت عنقه. أو كسرت ساقه. أو إِيف حملاقة أو ضاع ماله. وساءت حاله. فأول ما تبتدره به من الكلام. قولها له قبل السلام. أين الطُرقة. وكم من نُحْلى وتحفة. ولو انك كسوتها حلة بوران. وأسكنتها قصر غمدان. وأطعمتها أفخر الألوان. وسقيتها من الرحيق من يد الولدان. وطرّبتها بالعيدان ونزّهتها في رياض الجنان. وحملتها على الأكتاف. وواليت عليها الألطاف. لما رأيتها عنك راضية. ولا لحاجتك قاضية. والويل لك أن ناهزت الخمسين. وعجزت عن التموين. أو بدا الشيب في عارضك عند الأربعين. أو أصابك مرض في بعض السنين. وهي عند ذلك تتفتَّى وتصبى. وتتصبّى من يرضى ومن يأبى. فتغادرك في الفراش منهوكا. وتلازم الشباك وتشير منه إلى من يلبيّها وشيكاً. إن اغتنم من الدهر هذه الفرصة. فما من دونها غصّه. إذ هو في الفراش لا يعقل ولا يعي. ولا يبصر من يكون معي. ثم تأتي إليه فتقول أوص يا رجل فقد أزف رحيلك. وجفاك طبيبك وخليلك. وملك عائدك ومقيلك. وأنت خبير يا ذا الحليلة. بأنه لن يعجزها في الإجهاز عليه حلية. وإنها إذا رامت أن تتخذ في كل يوم خليلاً ألفته وراء الباب عتيداً فعولاً. معاوداً وصولاً. فوسيلتها إليه غمزة بعينها. ومنُتها لديه شُخبة تطفي أو أم غنيها. بخلاف الرجل فإنه لا يزال بحرقته مشغولاً مكبّلاً بهمه معقولاً. أو يخشى انقباضا وترويلاً. أو صرف درهم أن يجد منه بديلاً. فكيف يقال ان الرجل والمرأة في التكفيل بأدل المعارم سيان. وفي التكلف لحمل المغارم عديلان. فهل فيكم من مجيب عن هذا الأمر المريب. فتصدى له الذي هجا النساء جميعاً. وقال دونك الجواب سريعاً. فكن له سميعاً، وللحق مطيعاً. إني إنما هجوت النساء لا من حيث إنهن اسعد منا واسلم آفات. أو اقدر على اللذات. وأفوز بالمسرات. بل من حيث إنهن خلقن لنا فتنة وضلالاً. وعذاباً ونكالاً. فما قلته فيهن فقد قلته عن حسد. وما أقوله الآن فهو عن تحرّ ورشد. إن المرأة ما دامت في بيت أبويها عانسا لا تزال محظورة لا ترى لها أليفاً ولا مؤانساً. وأخوها إذ ذاك يرتع ويلعب. ويلهو ويطرب ويسافر ويتغرب. يألف من يألف ويصحب من يصحب وكلما زاد مرحاً ذاد أبوه ابتهاجا به وفرحا. فإذا تزوجت صارت تحت حظر بعلها وصار هو مالك ناصيتها وولي فعلها. فلا تكاد تخرج من بيتها إلا بأذنه. ولا تأتي أمراً إلا إذا استوثقت فيه من أمنه. فإن قال لها لك أن تفعليه. كان كالممتنّ عليها بتراث أبيه. وإن قال لن تفعلي رجعت وعبرتها كالولي وبنار حسرتها تصطلي. ثم إن عليها أن تتملقه إذا سخط مخافة بطشه. وأن تقوم بخدمة رحله وحفشه وتطبخ له كل يوم ما يقترح عليها. وتجدد له من قديم متاعه ما يلقيه إليها. وتحفظ نَضَده. وتقوم أوده وتربي ولده. فكم ليلة تبيت تداريه فيها وهو يملأ المكان غطيطا. وجخيفا ونحيطا فهي التي ترضعه وتفطمه وترشحه وتسرهده. وترعاه وتتعهده. وتوقظه وترقده. وتلعّبه وتلهّيه. وتعلله وتراضيه. وتؤانسه وتسليه. وتجالسه وتمنيه وتنظفه وتمشطه. وتمّرضه وتحوّطه. وتمشيه وتحمله وتستدرجه وتنقله. وتغسله وتلبسه وتعطره وتطوسه. وتدفئه وتُلْبئه. ألبأه أطعمه اللبا لأول اللبن. وتدأدئه وتُهْدئه الدادة التحريك والتسكين والإهداء التسكين. وتزقزقه وتباغمه الزقزقة الترقيص كالزهزقة والمباغمة تقدم ذكرها. وتربّته وتهمهمه التربيت ضرب اليد على جنب الصبي قليلاً لينام والهمهمة تنويم المرأة الطفل بصوتها. وتهدهده وترعمه هدهد الصبي حركه لينام والترعيم تقدم ذكره. وتداعبه وتطايبه وتدندن له وتقاربه. قاربه ناغاه بكلام حسن. وتّنه وتصربه هدّن الصبي أرضاه والصرب عقد البطن الصبي ليسمن. وتدغره وتضّببه الدغر رفع المرأة لها الصبي بإصبعها وضّبب الصبي أطعمه الضبيبة. وهي سمن ورُب يجعل له في عكة.

جوع ديقوع دهقوع

وتدرّبه وتذرّبه التذريب حمل المرأة طفلها حتى يقضي حاجته. وتجلسه وتنسسه نسّس الصبي قال له إسْ ليبول أو يتغوّط. قلت والقياس أن يقال أيسه. وتعوَّذه وتنجسه التنجيس تقدم ذكره في الفصل السادس عشر من الكتاب الأول. وتقمّطه وترسَعه رسع الصبي شد في يده أو رجله خرزاً لدفع العين. وتزينه وتزهنعه هذا ولو لم يكن للمرأة من غصّة في الأجل غير الحبل لكفي وذلك لمقاساتها بعده إذا كان من بعلها. ما لا يقدره غير مثلها. ولافتضاحها به من غيره. على فرض عدم شعورها بضيره. فقد قالت العلماء أن وضع المرأة جنينها من غير حليلها غير ذي ألم. لكنما يعقبه بعض السَدم. ثم أن المرأة ممنية ماعدا ذلك بأحوال عسيرة، وأخطار كثيرة. وذلك كأحمالها وحِسّها وعنيفتها وأفلها وتوجيبها وكأحشائها ودحاقها. وإسقاطها وأزلاقها. قبل الوضع وبعده وكنفاسها مدّة. هي برزخ بين الموت والحيوة وعدّه. وكالقرء الذي يأتيها في كل شهر. وغير مرة يمنيها بالبُهر. لأنه إذا تأخر عن وقته أضنى ظهرها. وإن قل أو كثر أضنك صدرها. وأذهب صبرها. وكوحمها وتفرّثها. وتأنفها شهوات في مدة الحبل كثيرة. لا يمكنها الصبر عنها وإن تكن ذات مريرة. وهي حٍ جائشة النفس ضَبستها. وجاشيئتها ولقستها. واهية القوى. واهنة الشوى؛ وغير ذلك من العلل والأحوال. التي سلمت منها الرجال. ومن نظر بعين الرشد والإنصاف. لم يتمحّل للخلاف. قال الهارس فكأن الخصم انكسرت شوكته وفترت سوْرته فعارض بالمواربة ثم خشي المشاغبة. فقام أحدهم وقال حسبنا يا قوم ما سمعنا ودعوا الفصل إذا ما رجعنا. ثم انفضّوا والأدلة معتلة والعقدة غير منحلة. فقلت عسى أن أصادف من عنده بذلك الخبر اليقين. وأكفى مؤنة السؤال والتخمين فقد رأيت الاثنين كفرسي رهان وفارسي علم وبيان إني أخالهما قد نطقا عن الهوى. ولم يتحريا الصدق الذي ينبغي لمن حدث وروى وإذا بالفارياق يهرول في بعض الأسواق. وبيده زنبيل يودعه من المأكول ما حسن لعينيه وراق. فأمسكت من فرحي بالزنبيل. وقلت الدليل الدليل. قال هوجوع بُرْقوع. يُرْقوع بركوع. لا ينبغي أن يقام عليه دليل ولا برهان. ولا بيّنة ولا شاهدان. وإن القاضي نفسه لأجوع الناس إلى اللُمْجة. واسبقهم إلى الغُمجة. وإن شئت فقل إلى الغَنِجة. فقلت إنما الدليل على تلك. ولك الأمان على ما في زنبليك من الملك. قال ما خطبك. وممّ كربك. أفي حديث النساء كنت تخوض مع الخائضين. وتحرض مع الحارضين. قلت بلى لأمر ما جدع قَصيرُ أنفه. وللمقدور غادر الأليف إلفه. ثم أخبرته بما جرى لي في البيت ومع النساء وعند الشعراء. وقلت أفدني الجواب بغير مراء. فأطرق ساعة. وقال هاكه على قدر الاستطاعة. فإن الجوع قد أبدى فيّ خراعة. ولم يغادر بي للشعر خواطر صداعة. وهو: تكافأ الزوجان ف اللذات ... واستويا في أُرَب الحياة قومي اقعدي مِثْلُ لهاتِ هاتِ ... وطاوعني ندَّ لآتِ آت والمرء في الصبي على النِزَّات ... اقدر أو أجْرا من الفتاة لأنها كثيرة العِلات ... غير القروء ساء من شكاة حتى إذا ما قيْل عات ... دار لها الدَّوْرَ إلى ميقات غايته الستون للشطات ... وبعدها عُدّا من الرُفات نعم يسوء المرء بين النات ... ضعف له إذ ذاك في الأداة لكن لها من أعظم الغصّات ... المجرضات جَرَض الممات أن تِبْعها يأتي من اللّدات ... وهي تريده فتى الأرَّات كل له سهم من الهنَّات ... مُؤرّبُ حتى إلى الممات ثم عدا بزنبيله، وجعل يتحوّفه ويعيث في قليله. قال فصَدَعني بالحق أيَّ صدع. وعلمت أنه غير ذي ضلع. فملت إلى موادعة زوجتي. وتسكين هوجي ونوجتي. فأتيت منزلي. فوجدتها دائبة في علمي. فأكببت على عناقها معانقة المشتاق. وأنبأتها بما قاله الشاعران والفارياق. فقالت جزاه الله عني خيراً. ولا أراه في غربته ضيرا. ثم أقمنا على الوفاق. وتعاهدنا على حفظ الرفاق. جوع دَيْقوع دهقوع

لما رأى الخرجي أن سكناه في بيروت لا تصلح لجسمه ولا لرأسه عزم على الشخوص منها إلى الجبل. فألقي في روعه أن يسكن في دير للروم. فسار بزوجته وبالفارياق فأقاموا في قرية تحت الدير يومين. وكان يأنس بالفارياق بعض الحسان منها ويواكلنه. فلما علمت إحداهن إنه صاعد في الغد إلى الدير طفقت تبكي. فكأنما ظنت إنه نوى الرهبانية. فظهر له إنها خالفت عادة النساء لأنهن يحببن الرهبان أكثر من العامة. فإن فتنة النساك العباد تتوقف على روم وكيد أبلغ وهو مما يلذ النساء أو بالعكس. حتى إذا رأينهم طوعاً لهن رجعن بعد ذلك إلى ما كنَّ عليه ليختبرن جميع ضروب الحبّ فلا يفوتهن منه شيء والحاصل أن الفارياق بُكي على فراقه هذه ثاني مرة في عمره حتى صار يحسب في عداد المحبوبين. وإنه ذهب في الغد إلى الدير واتخذ له فيه صومعة بلا قفل ولا مفتاح فصار من جماعة باعرْ باي "الذين ليس لأبوابهم إغلاق. قلت وهو بناء غريب" وكان ذلك الدير منتابا لجميع أهل القرى المحيطة به. فإنهم كانوا يودعون فيه أمتعتهم خوفاً من هجوم العساكر المصرية عليهم. لأن الدير حرم آمن. وكانوا إذا جاءوا إليه يدخلون جميع الصوامع من غير محاشاة ومن جملتها صومعة الفارياق. فكانوا إذا وجدوا على فراشه أوراقاً فيها تفسير حلم أو غيره تلفقوها وقرءوها. فمنهم من كان يفهم منها قدر ما يدور به لسانه. وآخر قدر ما يدور به رأسه. وآخر قدر ما يدور به جسمه كله فيوليه ظهره ويخرج. ومنهم قدر ما تدور به يده فيرفعها ليبطش بالكاتب والمكتوب معاً. ومنهم من كان يسخر منها ويقول إنما هي أضغاث أحلام. ومنهم من كان يقول إنها لا تصلح لوقت الحرب ولم يجد منهم من استحسنها. وكان يدخل أيضاً مع هؤلاء الدامقين دامقات فيهن من يحب تلقيها بأهلا وسهلا ومرحبا. وفيهن من تجدر بواحد من ذلك فقط. وفيهن من تجدر باثنين مواترة. وفيهن من لا تصلح لشيء. وكل ذلك كان يمكن تحمله إذا حُمل بعضه على بعض. إلا الجوع الذي تسبّب عن تعطيل الطرق فإنه كان لا يطاق. مع أن الفارياق كان قد خرج من عناء سفر البحر الذي مناه بالصيام أياماً متوالية. فكان لا بدّ له من اللمج فمن ثم كان يذهب إلى القرية وينادي يا من عندها دجاجة للبيع فتبيعني إياها. فكان بعض النساء يجبنه هذه الدجاجة السارحة مع الدجاج في الحقل أريد بيعها. فإن أردتها فاسع إليها واقبضها بيدك. فكان يسعى وراء الدجاج ويطفر معها على الجدران. فإن ساعده الحظ على كسر ساق إحداها أو إعيائها قبض عليها. وكان عند جريه وراءها يجري معه خاطره فيقول في نفسه.. أنا اجري الآن وراء دجاجة فهل زوجتي تجري في الجزيرة وراء ديش. وينبغي لي أن أقف قليلاً عند هذا الجري وأقول. قد ذكرت سابقاً إن الفارياق كان ذا هَوَج ونزق وجزع. فكان من طبعه إذا غاب عن أهله أن لا يزال يقابل حاله بحالهم بالمقابلة الاطّرادية وبالمقابلة الامتيّة. مثال الأولى قوله أنا اجري وراء دجاجة فهل زوجتي وراء ديش. وقوله مثلاً وهو لابس هل هي في هذا الوقت عريانة. وفي حالة كونه قائماً هل هي الآن مضطجعة. وقس على ذلك. ومثال الثانية أنا اجري الآن وراء دجاجة فهل يجري وراءها ديش. على أن خبز الدير والقرى ح كان مخلوطا بالزؤان. فكان الفارياق إذا أكل منه خيّل له انه لم يزل في السفينة عرضة للتنانين. ويتأكد عنده ذلك بدخول أحد الرهبان عليه وهو تلك الحالة. فلما ضاق بها ذرعاً نظم أبياتاً وبعث بها إلى رئيس دير غير الدير المذكور وكان يظن أن عنده غناء. وهي: ليت شعري ماذا يفيد البيان ... مع خواء البطون والتبيان وفنون البديع من غير أكْل ... تستشيط اللهى بها واللسان هاك ألف استعارة برغيف ... وبخسّ تخس تفتازان أيها المعربون هبّوا فما من ... ضرب زيد عمرا يرص الخوان أين أين الكباب والرز والبر ... غل تصغوا من فيضهن الجفان ذهبت دولة الطبيخ وجاءت ... نوبة الجوع أمّها لبنان يالها من معرة نبعث الدنيا ... ر ما إن يعبا به إنسان ليس بيع ولا شراء بأرض ... قد قضى عيشها وعاش الزوان طال مكثي في الدير حتى كأني ... راهب لا ترضى به الرهبان إذ رأوني وحولي الكتب وألاق ... لام مَّما عنه نهى المطران

السفر من الدير

أنا في وحشة من الإنس وحدي ... لا تراني فلانة وفلان عيشة لو أريتها في منام ... ما شجتني من بعدها الألحان فبعث إليه الرئيس بأرغفة لازوان فيها ومعها هذان البيتان: وصلتني الأبيات يا فرقيان ... إنما نحن في الدنيا رهبان ما عندنا طعام كما تشتهي ... ولا نبيذ ولا نسوان فهرول إليه الفارياق ليعاتبه على تغيير اسمه. فرأى في الدير إحدى نساء الأمراء كانت قد جاءت إلى الدير استئماناً من العساكر فلما رآها قال له قد شفع الخبز سيدي في وزن البيتين ولكن لم غيرت اسمي. ثم تذكر السيدة فقال وقلت أيضاً أنكم رهبان وما عندكم نسوان. وها أنا أرى عندكم سيدة زهراء قد ملأت الطنفسة شحماً ولحماً قال إنما غيرت اسمك لأجل القافية وهو جائز للشعراء. وأما قولي ما عندنا نسوان أي ليس لنا أزواج. ولكن لا ننكر أن عندنا نساء غيرنا يزرننا أحياناً للبركة. قال أيكم يحصل ذلك. فلم يفهم لكن السيدة فطنت لذلك ودعته إلى الاركيلة المعروفة فلبث عندها ساعة شفعت في تغيير اسمه أيضاً. وآب إلى صومعته راضياً. فوجد رئيس المعّبر قد تعكبش في رأسه غصن من أغصان الحلم الأول فزاده خبالا. فكان يقول إذا سمع صوت الطبول من خيام العسكر وإذا ابصر بريق سلاحهم. ألا تسمعون طبل الشيطان. يضرب به بعض الرهبان. ألا تبصرون قرون الشيطان. كيف تتقد منها النيران. إذ تحتك بها النسوان. والسيدة زوجته غير مكترثة بصراخه ولا بتخييم العسكر قرب الدير لأن حب الغصن لم يدع في قلبها موضعاً لغيره ثم منّ الله تعالى بإصلاح الحال فسارت العساكر من البلاد وأمنت الطرق والمسالك وسكن صاحب المعبر. فرأى أن يذهب إلى مدينة دمشق ويمر ببعلبك ليرى قلعتها العجيبة. فاكتروا لهم خيلاً وبغالاً وعزموا على السفر. السفر من الدير

ركب كل من الفارياق والغصن بغلاً وكل من السيدة وزوجها فرساً. وانضم إليهم ركب وساروا يقصدون دمشق. حتى إذا كانوا بعض الطريق أجفل بغل الفارياق لوهم خطر له فقمص به وشمص. فألقاه على ظهره فوقع على وركه على صخر فقام يخمع من الخامعين. فجزع عليه صاحب المعبّر إشفاقاً من تعطيل مصلحة التعبير. وشتمت به زوجته إذ كانت تحسبه رقيبا عليها وعلى غصنها. وكذا مساءة الرجل قد تكون مسرة المرأة. وهنا ينبغي أن تضيف إلى معلوماتك الواسعة هذه القضية. وهي إنه لا شيء من أنواع السفر اشق من الركوب على هذه البغال العاتية فإنها بلا سروج ولا لجم ولا ركُب. وقد جعل لها هؤلاء المكارية المقى بدل اللجم حبالاً تتصل بسلاسل من حديد جافية. يمسك الراكب بيده سلسلة فإذا شرد البغل وهنت يد الممسك بها عن كبحه. والعادة إنه متى شرد بغل سائر البغال. ثم أجفل بغل الغصن فمال عن ظهره وتعلقت رجله بحبل فتدلى رأسه يخبط على الأرض. فذهب ما عند السيدة من قليل الصبر عنه. ولم يقدر أحد على رد البغل. فكنت ترى عينها في جهة وقلبها في جهة أخرى. وكبر منها ما كبر. وصغر ما صغر. وجف ما جف. وقف ما قف. وابتل ما ابتل. وانحل ما انحل. واقشعر ما اقشعر. وازبأر ما ازبأر. وتنغّض ما تنغّض. وانتفض ما انتفض. وتنضنض ما تنضنض. وتلمظ ما تلمظ وتلظلظ ما تلظلظ. وضجم ما ضجم. وشخم ما شخم. وغدت تتململ وتتلوّى. وتتقلب وتتحوى. ودخل في رأسها أول مرة في عمرها مُنيةُ أن تكون رجلاً لتجيره. ثمهون الله الصعب ووقف البغل فاستوى عليه الغصن وساروا حتى وصلوا إلى بعلبك والفارياق على رمق فذهب وتفيَّأ في ظل شجرة فهوّم به النسيم فنام فقام منهوكا. ثم ركبوا وبلغوا دمشق وهو مريض فاكترى غرفة في خان وبقي أياماً لا يقدر على الخروج فلما نقه توجّه إلى منزل أهل زوجته وعرّفهم بحاله ففرحوا به. ثم عاودته الحّمى ثم أفاق فرأى أن يذهب إلى الحمام ليغتسل فلمّا رجع رجعت إليه. واتفق إنه انزل يوماً إلى المرحاض فأغمى عليه فيه فوقع وقد دخل رأسه فيشق المرحاض فجعل يصرخ ويقول: ألا إن رأسي في الشق. إلا أن الشق في رأسي. فبادروا إليه فرأوه على تلك الحالة. فمنهم من ضحك منه ومنهم من رقّ له. ثم عوفي قليلاً فبدا له ولصاحبه السفر. ولكن لا بدّ لي قبل رحيله من هذه المدينة الشريفة أن أرهقه وأغسره حتى يصف لنا محاسن نسائها إذ هو لا يحسن شيئاً غيره. فأما الكلام على خوّاص نبات الأرض ومعادنها وهوائها وعدد سكانها وعلى الأمور السياسية فليس من شأنه.

النشوة

قال دخلت دمشق وبي حّمى صحبتني من بعلبك. وما كدت انقه حتى سافرت منها فلا أستطيع وصف نسائها إلا وصفاً سقيماً. فإن رضيتم به أقول. أني لما دخلتها نزلت في خان يسمى خانفارس. فعّين لي صاحب الخان عجوزاً لخدمتي فلحظت من طبّها وشَمْظها أي خلطها الكلام الليّن بالشديد. إن للعجائز يداً طويلة في المعاملات النسائية. أعني أنهن يدخلن الديار بحيلة أنهن يبعن للنساء ثياباً ليكتسين بها. فيخرجن من عندهن وقد تعاهدن على تعريتهن رأساً فهن السبب الأقرب والذريعة الوثقى في الجمع بين العاشق والمعشوق. فأما نساء المسلمين فقد ظهر في بادئ الرأي أنهن أجمل من نساء النصارى. كما أن الرجال من المسلمين أجمل من النصارى وأفصح لهجة وكذا هم في سائر البلاد الإسلامية. ولون النساء عموماً البياض المشرب بالحمرة. والغالب عليهن الطول والشطاط. غير أن هذا الإزار الأبيض الذي يتزرن به عند خروجهن من ديارهن لا يحلو للعين كحبر نساء مصر. وكلاهما مخفٍ لمحاسن القد ولعلهن يلبسن ذلك عمداً لتأمن الرجال فتنتهن فلهنّ الشكر عليه. ولكن ما هذه المغازلة والاتلاع. وما هذا التبهكن والتبدح. أفليس للقلب عينان يبصر بهما ما وراء ذلك؟ أيخفي الشمس غيم وهي لولاه لم يمكن لعين أن تراها. فأما زيهن في الديار فأشوق وأفتن ما يكون. قال وقد ظهر لي أيضاً وأنا موعوك بالحمّى بعد أن خرجت من الخان وشممت رائحة الزائرات من النصارى إنهن مؤانسات حلوات الحديث والشمائل مناطيق. حتى اعتقدت أن شفاي يكون بذلك. ولولا أني خشيت من التبخيل بالاستغناء عن الطبيب ولا سيما إن أبي كان قد توفي بدمشق فألقى في روعي إني ألحق به لما احتجت إلى علاج آس. وحين كنت أسارق النظر إليهن وأنا على الوسادة كنت المح في صدورهن حين يتنفسن شيئاً يربو ويشبو. ثم رأيت بعض أعيان المسلمين يزورون رب الدار وينبسطون معه في الكلام. وهم من الهيبة والوقار بمكان. فلا أدري ما الذي حسّن للمطران جرمانوس فرحات حتى قال في ديوانه: فكأنني حلب برقة طبعها ... وكان طبعك بالغلاطة جلّق ولهذا القائل الأحمق أن يقول الحلبي شلبي. والشامي شومي. مع أن أهل الشام أرق طبعاً من أهل حلب وأزكى أخلاقاً وأطلق لساناً ويداً ومحيا وأوفر سخاء وكرما. والدليل على ذلك أن دمشق مع كون النبي شرفها بقدمه وكانت مثوى لبعض الصحابة واصبحت وصيداً للكعبة ومازالت من ذلك العهد منزلا للحجاج. فإن النصارى فيها يتبوءون داخلها الديار الرحيبة والمنازل الفسيحة. بخلاف النصارى في حلب فإنهم لا يمكنون من السكنى إلا بخارج المدينة ولا يدخلونها إلا للبيع والشراء. هذا وقد حرس الله قطر الشام عن الزلازل التي يكثر وقوعها بحلب. وعن هذه الحبّة المشئومة المتسببة عن مائها. حتى إنها كثيراً ما تشوه وجه من يصاب بها. فهل مراد المطران أن يقول أن نصارى حلب وحدهم ارق طبعاً. أم يصح أن نبخس الناس حقوقهم لأجل السجع والتجنيس. فيقال مثلا الجاثليق هَندليق. والمطران قَطران والقسيس لهيس والراهب ناهب. والسوقي بوقي. والخرجي دُرجي. فأما اللغة فليس لعمري من مناسبة بين فصاحة أهل دمشق وركاكة أهل حلب. لأن حلب لما كانت متاخمة لبلاد الترك دخل في كلام أهلها كثير من الألفاظ العجمية. كقولهم أنجق بيكفي يخرجون الجيم في أنجق مخرج الجيم التركية ويتقلنّه أي يستعمله وخوش خيو وما أشبه ذلك ما عدا لكنتهم ولخلختهم فينطق الألفاظ العربية. ثم أن الفارياق سافر هو وصاحبه إلى بيروت ومنها إلى يافا. فدعاهما وربان السفينة نائب قنصل الإنكليز بها "هو غير الخواجا أسعد الخياط اللبيب البارع" ليشربوا عنده الماء بالسكر المعروف بالشربات مما اشتهر أيضاً بهذا الاسم عند المؤلفين من الإفرنج واستعملوه في كتبهم لا في ديارهم فساروا معه فاحضر لكل منهم كأساً تليق به بحسب ضخامة جثته. فلما فرغت الدعوة اقلعوا إلى الإسكندرية ثم إلى الجزيرة وأقاموا في معتزلها. فبعث الفارياق إلى زوجته يخبرها بوصوله ويستدعيها للاعتزال معه. أنا لا أحب الاعتزال ولا الكسل. ثم وافت بعد ذلك ولما استراح الفارياق من ألم السفر استروح منها رائحة النساء. النشوة هي رائحة أمّ دَفار. استوى فيها ما دبّ وطار. وسلك في البحار. وتفضيلها في العنوان فهل أنت ذو استذكار. الحض على التعري

ثم دخلا البلد ورجع الفارياق إلى التعبير وإصلاح البخر. وبعد مدة وجيزة قدم على صاحب المعبَر رجل من العجم قيل أنه كان مسلما ثم تنصّر وإنه شاعر مفلق ذو شهرة بين علماء فارس. فسار ومعه الفارياق ليسلما عليه في المعتزل وإذا به جحشوش حتروش حزقّة ألحَي. فلما دخل البلد أقام في المعبّر فرأى الرئيس بادئ أن يحلق لحيته. فجيء بالحلاق واعمل فيها الموسى فلما انتهى إلى شاربيه سترهما بيديه فأقبل إليه صاحب المعبر وبيده كتاب ليحجّه منه على لزوم حلق الشوارب. فدار بينهما البحث والجدال حتى رضي الرئيس بنصف الشعائر. فلما كان ذات يوم من الأيام المشئومة ذهب الفارياق إلى المعبر فوجد الرئيس قد تعرّى من ثيابه بالكلية وجعل يطوف الدار على هذه الحالة ويحض الناس على الاقتداء به. ويقول يا أيها الناس ما جعلت الثياب إلا لستر العورة. ولا عورة لمن كان طاهراً بريئاً من الذنوب والمعاصي. فأن آدم لما كان في الفردوس في حالة العصمة والبراءة لم يكن له حاجة بالثياب فلما انتهى إلى زوجته ليغريها بالتعرّي قالت له إن النساء لا عصمة لهن إلا في الليل فلا بدّ لهن من الستر نهاراً. فرآه العجمي على تلك الحالة فسأل الفارياق قائلاً ما بال صاحبنا قد غيّر اليوم زيّه الأسود وتردّى بهذا الزيّ الأحمر. قال هو من جنود الخرج والجند هنا يلبسون اللباس الأحمر. ثم اشتد اللمم بكل منهما واستحكم. فخافت الزوجة أن يتلاقيا في مأزق وينشب ما بينهما الجدال أو الجلاد. فرغبت إلى الفارياق في أن يضم إليه العجمي. وكان الغصن قد قدم إليها في أثناء ذلك من الديار الشامية وهو مترجم عن جني شهي، وجذع قوي. فبوّأته عندها مقاماً كريماً. وحاولت أن يخلو لها معه المعبر خلوّاً مستديماً. ولو بدوام لمم بعلها. وفقد أهلها فأقام الغصن في أرغد عيش وأهنأ حال. وظلت هي معه أشغل من ذات النحيين في أصفى بال وظل زوجها يحض على التعري. وأنه من شعار المتزكي المتبرّي. ولبث العجمي في منزل الفارياق. وإنما قبله عنده لدمامته وضعفه ولغلبة السكوت عليه. فلما كان ذات ليلة وقد رأى عند زوجة الفارياق نساء حساناً أنحلت عقدة لسانه ونطق بكلام دل على أنه لم يتنصر عن هدى وإنما أضطره إلى ذلك أبو عمرة ثم بات تلك الليلة وقد أضطرم الغرام في قلبه فخرج ليلاً يقصد غرفة الفارياقية. فأحسّ به زوجها فبادره بحبل وهو لا يستطيع دفاعاً عن نفسه فلما كان الغد شاور زوجته في أمره. فقالت أظن أن هذا العجمي إنما جنّ لعدم الزواج وكذا سائر المجانين. إلا ترى أنه رأى البنات عندنا البارحة تهلل وجهه وتكلم؟ فقلت ما أرى الحق معك هذه المرة فإن صاحبنا الخرجي جنّ من بعد الزواج قالت لكن عقله كان قبل ذلك مختلاّ بأحلام. ولما تزوج لم يؤد الزواج حقه فأقتصّ الحق منه فلأعتبر به غيره. قلت من أين علمت هذا؟ قالت أن المتزوج لا ينبغي له أن يكون فضولياً يتعرض لغير ما هو فيه. قلت هذا تعطيل المصالح الخلق. قالت لا تعطيل فإني لا أمنعهم عن العمل بل عن فضول الكلام. واللهج بالأحلام. فأن التمحّل لعلم خرق العادات، أجهد من التحمّل لعمل عادات الخرق. ألاّ ولو كان الأمر ألي لداويت المجانين كلهم بالنساء ومن النساء وعن النساء. قلت أكل حروف الجرّ للنساء. قالت نعم كل الجرّ في النساء. قلت قد حذفت الحروف قالت بل هي باقية قلت دعيني من المطارحة وافقيني في أمر هذا المجنون. قالت ردّه إلى المعَّبر وإني أكره طول مكثه عندنا مخافة أن أحبل فيأتي الولد على شكله. قلت ما مدخل الجنون في الجنين. قالت أو ليس الأولاد يأتون بيضاً صباحاً ووالدهم قباح. فلو لم يكن لعين الأم من فاعلية عند توّحمها لما كان ذلك. قلت هذا رأي يؤدي إلى الكفر والمحال أما الكفر فلأنك تزعمين أن المرأة مشاركة في خلق الإنسان. وأما المحال فلانّ المرأة لو كان لها فاعلية في ذلك لأشبهت الأولاد آباءهم أو لجاءوا كلهم صباحاً. قالت أما جواب الكفر فلا ينكر أن يكون الله عز وجل قد خلق هذه الخاصية في المرأة وهو مسبب الأسباب. بمعنى أن القوة الوحمية التي أودعها فيها الخالق القدير تكون مؤثرة في كونية الولد. وأما جواب المحال فلأن المرأة أبداً تشتهي أن يأتي ولدها على غير هيئة أبيه. وما تراه منهم مشبهاً أباه فالغالب أنه البكر. قلت كثر الله من أمثالك ما كأنك قرأت الكلام إلا على الأشعري قالت نعم

بلوعة

الكلام هنا في الأشعري لا في الجميش ولا النميص قلت المجنون المجنون ودعيني إلى المجنون فقد كدت تلحقينني به بكلامك هذا المعصود قالت متى كنت تكره العصد، وهو لك غاية القصد. أما المجنون فليس إلاّ ما قلت أنطلق به إلى المعبر ودعه هناك من غير أن تخبر به أحد. قال فانطلقت به وأدخلته في إحدى الحجر وقفلت عليه الباب. فلما جاع طفق يعالج الباب ليخرج فسمعه الخادم فأخرجه. فتوصلت زوجة صاحب المعبر في أن رجعته من حيث جاء وعزمت على السفر بزوجها إلى بلادها. وناب عنه آخر من بلاده في المصالح التعبيرية ولكن لم تطل مدته لأسباب يأتي بيانها. وقبل إيرادها ينبغي أن نختم هذا الفصل بما نظمه الفارياق حين كان رئيس المعّبر يحض على التعرّي وهو ألا تريد صاح أن نجنّا ... ونخلع اليوم الثياب عنا ولا تنام ليلنا أن جنّا ... ولا نسي بالنساء الظنّا ولا نرى متى يجي حنا ... وإن يغب نقل مريض مَنّا وأن أتانا فاسق وزنّا ... نركبه الخيل فلا يعنَّى ونجعل الزوج له مجنّا ... تقيه من كل معَنّ عنّا ولا نبالي أن رأينا قرنا ... قد طنّ في أصداغنا ورنّا فقد رأيت العقل يضنى الطُنّا ... ويحرم الحرّ الذي تمنى ولن ينال الحظ مطمئنا ... إلا الذي باح بما أكنّا مه أيها الشيخ الذي أسنّا ... ما أنت والغناء والأغنّا تدخل في مضايق وتعنى ... وما تبالي لو لقيت وهنا ماذا لقيت من نزير جنّا ... ومن طواف ههنا وهنّا وأفيتنا في شهر نحس أخنى ... على المحبين فقلنا أنّا لم تخل دار بتّ فيها معنا ... من حادث غارة سوء شنّا يشكوك كل ذي عيال منا ... أوردتهم من كل رزء فنّا فمن مجانين أبانوا الهنّا ... ومن مصاب بالحمام أطْنى ومن عليل دنف أنا ... حتى رثى الضدّ له وحنّا قدك اتئد أوقدت فينا الحزنا ... وقد شحنت المصر همّا شحنا فاضعن هداك الله وأرحل عنا ... من قبل أن تقطع عنه الطحنا وتنضب الماء وتنفي اليمنا ... عن بلد من قبل كان أمنا وأختر بغير ذا المكان كنّا ... تأوي إليه مستريحا طمْنا فما عليك أن أصبت غبنا ... ثمَّ ودَعّا أو لقيت زبْنا أو كنت تأتي هذّرا وأقنا ... وتنظر القبيح منك حسنا بحيث لا تبصر يوماً قرنا ... وكاشحا أخفى عليك ضغنا كما أصبت ههنا خُبُنّا ... أصدأ منك الضرس ثم السنّا لو استطاع لقراك سجنا ... تصبح فيه للرزايا رهنا شيطانه عليك قد تجنى ... يقول من تبغك قد أسنّا جعلت في دار الصلوة فرنا ... دخانه عمَّ وأعمى الرعنا وقال قوم تفله أصنَّا ... ولحنه يبلغ ضرّا منا فليبغ في دار سواها خدنا ... وما علينا أن سخا أو ضنّا وأن بكى من شؤمه أو غنّى ... أو أخلص الدعا لنا أو لعنا أو خار من جوع وذلَّ وهنا ... أو قال صرنا بعد ما قد كنا أنك يا مغرور لم تعشقنا ... ولم تعرّ بنا ولم تشُقنا فلا جزاك الله خيراً عنا بلوعة

لما فرغ الفارياق من تعبير الأحلام كلّف أن يترجم كتاباً للِجْنة في بلاد الإنكليز فترجمه لهم بلغتنا هذه العربية على ما اقتضته قواعدها. وأتفق وقتئذ أن سافر المطران أتناسيوس الحلبي التتونجي مؤلف كتاب الحكاكة في الركاكة إلى تلك البلاد في بعض مصالح ثرتمية. فتعرف باللجنة المذكورة وأفادهم أن لغة الفرياق فاسدة رأسا. وذلك لخلوها مما أشترطه على المترجمين والمعربين في كتاب المذكور. وأن النصارى يحبون الكلام المعسلط المعسطل. وأنه قد ربا في هذه الصنعة مذ عهد طويل وربى فيها كثيرين في مدرسة عين تراز وفي غيرها. وأن لأسفار الكنيسة منهجا ... يخالف أسفار الورى ويغاير وأن لفي اللفظ الركيك يبرّكا ... ويُمْنا لقوم عنهم العار ظاهر وأن غناء اللحن في القول عندهم ... لكان للحن في الإيقاع والأصل ظاهر وإن نسبة المولى إلى الله منكرُ ... ومن ولوُا الأدبار كلّ يحاذر وأن تكاة جمع متكئ أتى ... وأن مَصُونا لا مصانا لنادر وللشعب القوم معنى مشهر ... وفي ملك لا في ملاك كبائر وأن عبيداً لا عباداً مضافةً ... إلى الله أوْلى ما لذا الحكم ناكر وأن عذاباً كالركاكات جمعه ... وإن لم يرادف باقي الشيء سائر وما واعظيها قيل بل موعظينها ... ومن قال أدوّا دون ودّوا مكابر ومن ردّ قل إن شئت صوغ اسم فاعل ... مُردّ كذا قال النصارى الأواخر ويظهر يلغيه يبان نظيره ... وصرنا بنيْنَا بالتذخّر كاثر وجمع مصَفّ للإله مسبّح ... وبعد كما للعطف واو تباشر ومن بعد إذ جزم المضارع واجب ... ونعت المثنى بالذي متواتر وإثبات باء الأمر من ناقص كما ... حكاه له قس الشوير المعاصر وإثبات نون الرفع في الفعل بعد كي ... وأن مستفيض هكذا نص زاخر ومن بعد يعطى نصب نائب فاعل ... وجوباً وحذف الفاء في الشرط دائر وطلب من اللجنة المذكورة أن يفوضوا إليه تعريب الكتاب الذي مرّ ذكره ليحظى عند النصارى بالقبول وإلاّ فلا. فلما رأوه ذا لحية ولا سيما أنه متحلّ بجلاء مطران والمطران عندهم لا يكون إلاّ علماً فاضلاً اعتقدوا فيه الفضل والعلم وفوضوا إليه العمل. ولهذا السبب خاصة بطل المعبّر ولم يبق للفارياق إلا مرتبه من وظيفة إصلاح البخر. وهنا ينبغي أن يلاحظ أن الإنكليز أشد الناس حرصاً على الألقاب. فإذا زارهم أحد من البلاد الأجنبية متصفاً بلقب أمير أو شيخ أو مطران حظي عندهم الحضوة التامة. ولا سيما إذا كان يتكلم باللغة الفرنساوية. أما لقب المطران فهو عندهم من الألقاب التي تغني صاحبها عن توصية وتنويه. إذ ترجمة هذه اللفظة تجري لديهم مجرى قولهم رئيس أساقفة. ومن حصل على هذه الدرجة منهم حصل على دخل أربعة آلاف ذهب من الليرة. فأما طول اللحية فهو عند العرب ليس بدليل على الحلم والنباهة كما يتبين من حكاية المأمون مع الفقيه علويه. ولكن عادة العجم غير عادة العرب.

ثم أن الفارياق لما آن وقت بطالته من إصلاح البخر وهو ثلاثة أشهر الصيف في كل سنة عزم على أن يسافر إلى تونس. فركب في سفينة رئيسها من أهل الجزيرة الذين هم بين السوقيين والخرجيين مرة. ومرة بينهم وبين الفلاسفة. وبعد سفر أثني عشر يوماً كلها خطر وعناء بلغوا حلق الواد. فكان بعض الملاحين يقول في أثناء الطريق أنه إنما وقع لهم ذلك بخلاف العادة لكون الرئيس سافر يوم الجمعة خلافاً لسائر الرّبّانيين فأنهم لا يسافرون فيه أصلاً أما احتراماً له أو تشاؤما منه. لكن الفارياق كان يعلم حقيقة السبب وهو هبوط طالعه. وأن نية سفره سواء كانت قريبة أو غير قريبة لا يبلغ إليها إلا في عدة أثني عشر يوماً. وإنما كتم ذلك عنهم. قال أما المدينة فإنها ضيقة الأسواق صغيرة الحوانيت. غير أنها طيبة الهواء والمأكول والمشروب كثيرة الفواكه. وأهلها طيبون خيرون يكرمون الضيف ويحبون الغريب. رفيها من المغنين والعازفين بآلات الطرب كثير ومعظمهم من اليهود. ونساؤهم حسان سمان بيض دعج برغم النصارى القائلين أن الله لعنهم ومسخهم بعد صلبهم سيدنا عيسى عليه السلام ونزع منهم كل حسن باطني وظاهري. غير أني أظن أن القسيسين إذا نظروا يهودية جزلة بضّة ربحلة يبدّعون صاحب هذا المذهب ويفنّدونه. وإنما يقول ذلك منهم من كان لزق النصرانيات ولم يرَ غيرهن. ومعلوم أن النفس ترغب في الحاضر الموجود عن الغائب المفقود. أو لعلهم يريدون أن المسخ إنما نزل بالرجال دون النساء فلْيُسألوا. وأن كثيراً من هؤلاء الغير الممسوخات غير بعيدات عن الغصن والهصر. ومن عادتهنّ أن يمشين غير متبرقعات مكشوفات السوق. ثم لمّا أزف رحيل الفارياق من المدينة قال له بعض معارفه من أهلها لو مدحت وإليها المعظم. فأنه أكرم من أعطى وأنعم. وأكثر الناس ارتياحاً إلى الجود والمعروف. قال قد نويت الآن السفر فلم يعدلي ممكناً غيره. ثم رجع إلى الجزيرة وكان من جملة الركاب الذين رجعوا معه رجلان نمساويان أحدهما أبن أحد التجار الأغنياء والآخر من قواد عسكر البابا. وكان هذا قد أخذ من الفارياق واحدة من هذه النبخات الدقاق فردها عليه بعد يومين. فلما استقر الفارياق بمنزله خطر بباله أن ينظم قصيدة في مدح جناب المولى المشار إليه. فأنشأ قصيدة طويلة ذكر فيها كل ما شاقه هناك من المحاسن ولكن من دون تعرّض لذكر محاسن نساء اليهود. فلم يشعر بعد أيام إلا والمولى المشار إليه بعث له بهدية من الماس تضن بها الملوك على ندمائهم. ومعها كتاب من ناموسه المعظم ووزيره المفخم مصطفى باشا خزندار. هذه صورته "المحبّ الذي رعى المودة شأنه. والكمال سجية قام بها عمله ولسانه. الأديب الأريب. الآخذ من كل فنٍّ أوفر نصيب. حسن الأخلاق. والحائز في مضمار البلاغة قصب السباق. البارع الفارياق. لا زالت محاسنه نيّرة الإشراق. وبلاغته كواكب آفاق. أما بعد نعمتنا ومولانا وسيدنا المشير أحمد باشا باي أمير الإيالة التونسية. لا زالت بوجوده محمية. بلغ لرفيع جنابه من آدابكم قصيدة تحلىّ بها شعركم. واتضح بها فخركم. ويدوم بها ذكركم. فلله در منشيها ومبدعها وموشيها. حيث ملك من البلاغة دانيها وقاصيها وألقت لديه مقاليدها ونواصيها. والمولى أيده الله حسن لديه موقع خطابكم. وأثنى عن بلاغتكم وآدابكم. روجه لكم من حضرته العليا حكة تتذكر بها وداده وإيالته وبلاده. فأقبلها من أفضاله ومن نزور نواله. والله يحرسكم بعين عنايته. ويسبل عليكم ستر عاقبته. وكتبه الفقير إلى ربه تعالى مصطفى خزنة دار الدولة التونسية في الرابع والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة 1257."

وفي أثناء ذلك قدم المطران التتونجي إلى الجزيرة فبلغ الفارياق قدومه ولم يكن يعرف ما افتئت عليه به عند الإنكليز فذهب ليسلم عليه وأدبه إلى وليمة أعدها له. وأقام المطران في بعض المنازل يشتغل بترجمة ذلك الكتاب الذي زاحم الفارياق عليه. وظل الفارياق ينتابه حيناً بعد حين وهو غير موجس منه شيئاً. فلما كان بعد أيام ثارت في الجو حاصب ومتشغزبة ومنسبة منشبة ونكباء وهَبُوبة وحُرجوج وخجَوْجاة ودرّوج وسَهوُج وشجوجاة وبارح وسَناخة وخِنذيذ وصَرْصضر ومشتكرة وأعاصير ومعتكرة وُهباريّة وروامس وزوابع وزُعزعان وهَيْرع وجَفجف ورفَزْاف ومسفسفة ومُسّنفة وعواصف وخَرْفا وزِحْلق وسَهْوق وحاشكة وساهكة ورَعْبَليل وطيَسْل وعَياهل وسَهام وسَفُون وَوَرْهاء وميْلاء وسافياء. ثم جاء على عقبها روائح هنبيّة صُماحية زنجية سنخية إِفاخيّة عَبَاديّة خَجرية ذفرية عدارية امدرية امذرية خُنازية طَفاسية حُطاطية عفّاطية عفَطانية شِياطية ناِضفية زَهْمَقية خبراقية صَليّة خَيْغامية صَنَمية قنمية عجانية لخنية نَجْوية مختلطة بُطْمطمانية ولخْلخانية ورُتيَّة ولغلغانية وقلقلانية وكسكسية وكشكشية. وإذا بالمطران المزبور قد غاص في بالوعة فوهاء في تعريب ذلك الكتاب. ولما كان جاهلا تصليح الطبع زيادة على جهله باللغة كان لابد من تبليغ هذه الروائح الخبيثة منزل الفارياق. فإن مدير المطبعة كان من أصحابه فكلَّفه بأن يصحح غلط الطبع من دون تعرض لتصحيح الغلط في الترجمة وحٍ عرف سبب قدوم المطران ومكايده. فصرّ بعض هبَّات كريهة من تلك الروائح وبعث بها إلى اللجنة المذكورة وأقام ينتظر الجواب.

ثم اتفق بعد مدة أن قدم إلى الجزيرة السيد المعظم سامي باشا المفخم المشهور بالمناقب الحميدة. وكان للفارياق دالّة عليه فسار إليه ليهنئه بقدومه. فكلفه المشار إليه بأن يمكث عنده مدة اعتزال فأخبر زوجته بذلك. فقالت له كم مرة أقول لا خير في الاعتزال. قال لا بأس به إذا كان مع أمير فإن شرف الاسم يكفي. قالت لا يغني الاسم عن الفعل شيئاً. قال فقلت بل اجتز به كثير. قالت أمع جارٍ له. قلت لا أدري. قالت لو كان الاسم يغني لكانت المرأة تكتب على موضع من جسمها لفظة أمير. قلت أعوّض ما يمضي. قالت وإلا فأمْض على العوض. قلت ما أعجل النساء. قالت وما احبَّهن للإبطاء وأن يكون صبوراً. قالت لو لم تكن النساء اصبر من الرجال ما كنَّ يعمرن في الأرض أكثر منهم على ما يلحقهن من أوجاع الحبل والولادة. قلت ليس هذا هو السبب وإنما هو أن الصالح من الناس لا تطول حياته على الأرض بخلاف الطالح. قالت هل في الرجال صلاح وما من فساد إلا والرجال مخترعوه. هل تفسد الإناث في الإناث ما تفسده الذكور في الذكور. وهل يفسد النساء غير الرجال. ومن ذا الذي يتصبّاهن ويتآلفهن ويتنقثهن ويغازلهن ويغويهن بالمال والوداد والوفاء غيرهم. حتى إذا استوثق أحدكم بأحدنا فأحرز سرّها ذهب في الحال وباح به وربما سكر مع بعض معارفه أو تساكر فأفتخر أمامهم بإفشاء ما يجب كتمانه وبهتك ما يلزم صونه. إلا وإن الرجل الرجل منكم ليعتمد على ما خصّه الله به من القوة والبأس فيعتقد أنله الفضل على المرأة في كل شيء ولو كان الفخر بالقوة لكان الفيل افضل من الإنسان. نعم إنا ليسرنا أن نرى الرجل شيظما أيَّدا ولكن لا يليق به والحالة هذه إن يأتي امرأته الضعيفة المسكنية فيعاملها بالخيعرة والدغمرة والدنقرة والزنترة والزنخرة والزمجرة والزنهرة والشنزرة والشنصرة والشنظرة والشمصرة والعجهرة والغذمرة والغثمرة والغيثرة والخزربة والخطلبة والخظلبة والدحقبة والدعربة والدنحبة والزغدبة والسقلبة والشغزبة والشهجبة والصرخبة والصعنبة والطغربة والعثلبة والعصلبة والغسلبة والقحطبة والقرطبة والنيربة. ثم إذا ذهب إلى أخرى أوهمها إنه أسيرها وعانيها وقنّها ورقيقها وقَيْنها وقَنّورها وماهنهِا وقُنْجلها ومملوكها وذليل حبّها ودنف غرامها وعميد عشقها وصريع هيامها وميت هواها وشهيد حبّها. وإن الله تعالى لم يخلقه في الدنيا إلاّ لمرضاتها. قال فقلت إذا كان الرجل مخطئا في ذلك فالمرأة غير بريئة أيضاً لتصديقها إياه وانقيادها له. قالت إنما تصدّقه من صفاء سريرتها وسلامة صدرها. فإن الصادق لا يرتاب في كلام غيره وإن الكريم ينخدع. ولو أن الناس سمعوا مثلا بأن امرأة متزوجة تحب غير زوجها لأنكروا عليها ذلك كل الإنكار. واستفظعوه غاية الاستفظاع. فتطبّل به الطبول وتزمر الزمور وتكتب الكتب. ولا يبقى في البلد أحد إلا ويروي عنها حكاية أو ترّهة. فأما إذا سمعوا عن الرجل إنه يحب غير زوجته فإنهم يحملون فعله على وجه مرضي ويعتذورن عنه بقولهم أن امرأته غير زافنة. أو أنها جُخنّة مِنفاض. أو ميراص أو منشاص. أو خذنفرة أو غبوق أو زخّاخة خقوق. أو فتقاء غقوق. أو رتقاء غفوق. أو نجّاخة فشوش. أو منخار حَضُون. أو جَخْواء أخْجَى. أو جْخراء رهَوْىَ. أو مُجْخرة ضحياء. أو ضَهْواء ضهياء. أو هَرعِة رفغاء. أو سَلَقْلق أو متكاء. أو قَشْوَرا أو مصواء. أو ناسعة شقّاء. أو مهلوسة أو لصَّاء أو لثية. أو لَخْجم. أو خَيْق ذات عَفْلقَ أو قَلْذَم. أو حمق وعَفَل أو ذقناء. أو ميقاب أوفجواء أو لَقْوة أو خَثْواء. أو قَنْشورة أو ذناء. أو قرثع أو سلتاء. أو خرُور أو قعماء. أو عائط أو شرماء. أو عنبلة أو لخواء أو مجيّأة أو رَمضة وغير ذلك من العيوب ولا يرون في فعله هذا سماجة. مع إن للمرأة أسبابا تحملها على الشطح أكثر من أسباب الرجل. قلت تفضلي بذكرها كي أجانبها. قالت أوّلها ما إذا لم يقم الرجل بوفاء حق زوجته. وهو حق الزواج الذي من أجله تترك أباها وأمها وأهلها ووطنها وبلادها وغير مرة دينها. قلت اللهم لطفك وعصمتك ثم ماذا. قالت ومنها إهماله أمورها وقلة اهتمامه بما فيه راحتها وانشراح صدرها وتطيب خاطرها. وتلهيتها وتسليتها وترويتها وتحليتها وتدفئتها وتطريتها وتأسيتها وتقويتها وتمشيتها وتغديتها وتمزيتها وتمنيتها وتمليتها وتهنئتها وتوقيتها. قلت

نعم وتعريتها وتمذيتها وتمريتها وتنديتها وتنفيتها وتسميتها وتنجيتها. قالت نعم كل هذا وأكثر حالة كونها أسيرة بيته طول النهار قائمة بخدمته متعهدة لأموره. وهو يطوف في البلد من مكان إلى مكان وينتقل من سوق إلى سوق. حتى إذا جاء منزله انطرح كالمغشي عليه وقال أن الشغل جهده والجهد شغله وإنه عرض له كذا وجرى عليه كذا. مع أنه هو الذي تعرض لذلك الكذا وجرى على ذلك الكذا. مع أنه هو الذي تعرض لذلك الكذا وجرى على ذلك الكذا. ومنها رقة فؤاد المرأة والشفقة التي فطرها عليها الباري تعالى. فلا يمكن لها أن تقابل رجلا عن مودته لها إلا بالوداد أو عن تملقه إليها إِلاَّ بالميل إليه والإقبال عليه. وناهيك ما في الرحم والرحمة من الاشتقاق والمجانسة. قلت وأعجب من احتجاجك بهذا الاشتقاق التناسب بين معاني الكَيس. قال في القاموس الكَيْس خلاف الحمق والجماع والطبّ والجود والعقل والغلبة بالكياسة. وبين السّر والسرور والبسط والشرح والبُضع والشعور والمشاعرة واللمج والقمط. وخصوصا بين أبي ادْراس وأبي إدريس دامت الفتهما في اللفظ والمعنى. فقهقهت وقالت شرف الله لغتنا الجامعة بين كل متناسبين ومتجانسين. قلت ولكن قد يلازم ذلك أحيانا ما يسوء أو ما لا يليق. نحو أرّ فإنه بمعنى جامع ورمى بالسلح. وجنّح رمى ببوله ومسح جاريته. ومعط جامع ونتف الشعر وحبق. وجلخ جامع وبطنه سحجه وفلانا بالسيف بضع من لحمه. بضعة. ومتخ جامع وبسلحه رمى. وملخ جامع وجذب الشيء قبضا أو عضا وتردد في الباطل. وملق جامع وضرب بالعصا وجظ جامع وطرد وصرع وبالغصة كظّة. وحج جامع وبسلحه رمى. ولخب جامع وفلانا لطمه. ومتر جامع وبسلحه رمى. وجلد جامع وفلانا ضربه بالسوط وأصاب جلده. وعصد جامع ولوى وفلانا أكرهه على الأمر. وضفن جامع وبغائطه رمى. ومحن جامع وضرب. ومشن جامع وخدش. وأسْوى احدث وخزى وفي المرأة أوعب. وكذا حشأ وحطأ وحلأ وخجأ ورطأ وزكأ ولتأ وغير ذلك مما لا يحصى. قالت كل صعب في جنب ذلك يهون. ولا بدّ لجاني العسل من أن تأبره النحل. ثم إني فهمت من فحوى كلامك أن هذه الأفعال في لغتنا الشريفة أكثر من أن تعدّ. وإن أكثر المعاني قد وضع له فيها ألفاظاً كثيرة تسميها العلماء إردافية على ما ذكرت ليسابقاً. قلت لم اقل لك هذا وإنما قلت مترادفة. وإن هذا الفعل بخصوصه له أكثر من مائتي لفظة. فكل لفظ دل على دفع أو نهز أو ضغط أو إدخال دل عليه أيضاً. قالت فهل تستطيع أن تذكر لي حرفاً يدل بالخصوص على الامتناع عن النساء عفَّةً وتقوى. قلت لم يمرّ بي حرف بهذا المعنى وإلا لحفظته فإني مُولَعُ بحب الحروف النسائية. والظاهر أن العرب لم تكن تعرف ذلك. غير إن تَبتّلَ وبَكُمَ يدلان عليه في أحد معانيهما. قالت في أحد لا يغني شيئاً. ثم استمرت تقول ومنها وهو مستفيض عند اكثر النساء إن المرأة إذا أحسّت بإعراض زوجها عنها أو بفدوره أو بالجفوة لها مع تحببها إليه وإقبالها عليه وحالة كونها له عطيفاً هلوباً بعيجاً عروباً متبعّلة رعبليباً آنسة باهشة متبشبشة متهشهشة ذات رشرشة ومشمشة ونشنشة ووشوشة مدربخة وازكة منصعة واكعة مصوصا حارقة إن لم أقل علوقا وغير عازمة مالت إلى غيره لتغيره وترده إلى قديم محبتها. فإن من الرجال الحمقى من لا يعرف قدر امرأته إلا إذا رأى الناس يحبونها. فتكون محبتها لغيره علاجاً لمحبته هو. وهذا يسمى عندنا دغدغة وزغزغة وسغسغة. فأما عيوب الرجل فهي لعمري اكثر من عيوب المرأة ولو لم يكن به غير الزمالقية لكفى. وهل والحالة هذه يجب حل عقدهما أو يجوز أو يمتنع أقوال. فالنصارى على منعه مع إنهم يقولون إن المقصود من الزواج بالذات الإنتاج وحفظ النسل. والطبائعيون والفلاسفة على وجوبه أخذاً بهذا القول عينه ومراعاة لأداء حق المرأة الواجب على الرجل وهو أمر طبيعيّ لا بد منه ولا محيص عنه. وبقي الجواز في عهده غريمي الزواج. إن شاء بقيا على ما هما عليه وإلا افترقا وهو الأصلح. ولعمري إن المرأة التي ترتضي بأن تقيم مع زوجها من دون قضاء حقها لجديرة بأن يعيّد لها عيد في رأس كل سنة. أليس أن أستاذك صاحب القاموس الذين تستشهد بكلامه في كل مشكل نسواني قد قال الرجل م والكثير الجماع. فإذا كان الزوج غير رجل فأنَّى يحل له أن يجوز عنده امرأة لا يؤدي لها حقها. أيحل لرجل أن يقني دابة إذا لم يقدر على علفها.

استغفر الله عن هذا التشبيه. أو لصاحب أرض أن يغادر أرضه غير محروثة ولا مزروعة ولا مسقية. أفلا يجب حٍ على الحاكم الشرعي أن يشتريها منه ويوليّ عليها من يتعهّدها ويستغلها. وإذا كان الإنتاج وحفظ النسل مشتركاً بين الرجل والمرأة بل جلّ أركانه مختص بها ومتوقف عليها فلمَ لا يكون الطلاق مشتركاً بينهما أيضاً إذا اقتضت الأسباب ذلك. إذ الطلاق عندي من غير سبب إن هو إلاّ بطر وسفه. أقبح من ذلك إن رؤساء النصارى يأذنون في مثل هذه الحال في فراق الزوجين. ولكن لا يأذنون لهما في الزواج وإِن يكن داء الرجل عضالاً لا يرجى له علاج في مدة انفصاله عن زوجته. فأي حكمة في ذلك وأي ضرر من تزوجها بغيره ليولدها البنين والبنات. فلعلما يأتي من يفوق غيره بالكسل والركاكة فيصير راهباً أو مطراناً. وعسى أن يأتي من بناتها من تتحمس بالوساوس والهواجس والأحلام فتصير راهبة. هذا وقد ورد في التوراة حكاية عن الباري تعالى أنه قال تكاثروا واملئوا الأرض على مبالغة فيه. فإن مَلء الأرض بشراً يوجب خرابها لا عمرانها. وقال مار بولس إن المرأة تخلص نفسها بتربيتها البنين الصالحين. فهل تعليق الزوج والزوجة عن الزواج مطابق لنص هذين الحكمين. انظر إلى أهل هذه الجزيرة فإنك تجد أكثر الرجال منفصلين عن أزواجهم وعائشين بالسفاح. وقسيسوهم مصرّون على أن ذلك أوفق من الزواج الشرعي. مع أن القسيسين لا يعرفون الحقوق الزوجية لأنهم غير متزوجين. أيصح ترئيس رؤساء على الجند ممن لا يحسنون صنعة الحرب والمبارزة. فقلت لله درّك من أين لك هذا كله وقد طالما اشتبه عليك الأمرد والمحلوق اللحية عند قدومنا هذه الجزيرة. قالت ربّ شرارة أضرمت أتوناً. أني كنت اعرف من نفسي أني لا البث أن أنبغ في هذا. وذلك لكثرة ما كنت أرى واسمع عن المتزوجين من الخلاف والمعاسرة. والشكو والمنافرة. لا سيما وقد رأيت الآن بلداً غير بلدي وأناساً غير ناسي. واختبرت عادات جديدة وأحوالاً غريبة. فتوهّجت تلك الشرارة التي كانت مودعة في خاطري تحت دمان الوحدة والانفراد حين هبت عليها نكباء الأحوال المتغايرة والشؤون المتباينة. ولا سيما في ليلة الرقص التي لا تنسى. ومذحٍ خطر ببالي إن أملي عليك كتاباً في حقوق الرجال والنساء ولا بد من الشروع فيه. قال سأفعل ذلك إن شاء الله ولكن الأمير ينتظر قدومي عليه في المعتزل غداً فلا بد من التوجه إليه قبل إنشاء الكتاب. قالت قد تشفّيت الآن قليلاً بما قلته فأذهب إليه وأرجو أن لا تعاودني هذه الاهتقاعة إِلا وأنت هنا. فاستغاث واستوزع. واستعاذ واسترجع. ثم ذهب إلى الأمير المشار إليه وبعد أن قضى معه مدة الاعتزال سافر معه إلى إيطاليا ثم رجع إلى الجزيرة محفوفاً بإكرام الأمير وإنعامه.

عجائب شتى

عجائب شتى بُلَعْبيس حدَنبَدي علمص خُزَغبلة. فلْق فليق عبرة آدْب بَطيْط فِتْكِر عجب فَنْك ضحْك بَهْرِ هتْر هكْر إِدْ بُجْر. زَوْل عَيْثى بَجَل طِمّ افَتْ غَرْو فَريّ. إن الإنسان لا يعرف نفسه. هذه سيدتي الرسحا المسحا الرقعا الرفغا الرصعا المردا المصلا المزوا العصلا الجخرا الزلاّ القعوا النقوا الثطّا الضهيا الجخوا الجبّا المِزْلاج الكَروا العَصُوب المِنْداص الفلسحة تتخذ المراقد والحشايا وكبّة قطن تنفج به قميصها عن ثدييها لتوهم الناس إنها دهساء وطباء. ولكن من أين جاءتك يا سيدتي هذه الحلية المباركة وهذا اللحم القَدِي. ونحن نرى ذراعيك كاليراعة أو كعود التُكاعي. وعنقك كالعصا ويديك كالمشط ووجهك كالصابونة التي غسل بها القصّار ثياب القَديدين والفَدّادين والداجّ والداجَة وترائيك كالقفص وكتفيك مؤلّلتين مهلهلتين مرققتين مدققتين محدّدتين مسربطتين مسمرتين. فكيف غلطت فيك الطبيعة وسمّنتك في هذين الموضعين الكريمين وعميت عن الباقي. وهذه سيدتي البُلْقوطة الدُعْشوقة الزُلُنْقطة الجَحَنْبرة الزَّبازاء الجَعْبرة الحُرَنْقِفة الدِنّامة الزَفَيان العَشَبة الحُدُحّة الزُحَنة الضرزّة الزَّونه. البُهْترة الجُبّاعة القُمَهْزيّة البُهْصُلة الدَّرّامة القَفنْزعة القُرنبضة الفنئل القنئل القَعنبة القنبعة القزمة القذعْملة الحَبنطاة الدودري القُرزحة الكعتة القلَّى الجائز القنبضة القرزحلة الحزقة إذا مشت تطفر وتثب وتهطع وتتالع وتعسج وتهبع وتتطالل وتشرئب وتصلهبّ وتشمل وتترقص وتزمهلّ. وتحسب إن الناظرين لا يشبرونها بأعينهم. ولا يفترونها ولا يذرعونها بخواطرهم. ولا يدرون أي فراش يليق بها. وهذه سيدتي السوداء المسخّمة المدلهمة المطرخمة الفاتحة القاحمة الدهماء المدهامة الحتماء المبرطمة الدلماء المدلامة السحماء الدجناء الدخناء الحفدلس تطلي وجهها بالخمرة والغمرة والغمنة والحور والرينة. ثم تصعر خدها للناس وتنظر إليهم شزرا. وتتيه عليهم دلالا وكبرا. فإذا حاولوا أن يروا موضعا آخر من جسمها أدارت لهم ذلك الموضع المطلي المحمر المنقش المزورّ.. وجعلته شافعا في سائر أعضائها. وأوهمتهم أن المغطى منها أشد بياضا من المكشوف وإن لونها في الليل يكون أزهى منه في النهار. ولا سيما عند الخلوة. فإنه يزداد بهاء وجلوة. وربما حكت حكاية طويلة تدل على أنها لما قامت في الغداة لم يكن لها وقت لإصلاح شأنها. فلبست ثيابها على عجل وخرجت وهي لا تدري كيف خرجت. وهذه سيدتي العجوز المتهدّمة. القُحلة الشهربة. الطهمل اللحبة. العفثليل الصهصليق. الجلفزير الشفشليق. الخنظير الشمشليق. الدردبيس الطرطبيس. الشلمَّق الجحرط. الشمَّلق الجخرط. الحربش اللطلط. الهيعرون الكحكح. الهرشفة الجلبح. ذات القنثلة والنقثلة. والنعثلة والنغظلة. لم تزل حشورة عزهاة تتفتى وتتصبى وتحزّق ثوبها من عند خصرها. وتهلس إذا جلس إليها فتى في وكرها. وهذه سيدتي الجميلة البضة الغراء. السنيعة الغضة الفرا الصبيحة الزهراء العبهر الغيداء. الخضلة الدعجاء. الخريدة الموقونة العجزاء. الرشوف الشنباء. الخنبة الذلفاء. السَّلمة الكاعب. المصقولة الترائب. الحلوة الابتسام. الرخيمة الكلام. التي تسكر بمغازلتها. وتفتن بمباعلتها. وتصبي فؤاد من لم يصب عمره. وتتبله وتتيّمه. وتعبده وتهيمه. وأن أخذ منها حذره واستحصر رشده وصبره ودينه وحجره. تراها تمشي والخفر قدنكس رأسها وغضّ طرفها فأذهلها عن أن تحس خطوها وتبدي زهوها. وليس بها شيء من التغنج والتضرج والتبرّج والتغوّج والتحلّج والتدبج والتخفج والتدعلج والتدحرج والتبغنج والترجرج والتزجج والتسرج والتموج والتنفج. مع إنها لو دخلت على حضرة الملك لقام لها احتفالا. وناولها الميحار والمخصرة إجلالا. وانشدها فديتك من مملكة علينا ... يحق لتحتها تخت الخلافة خذي تاجي بأدنى لثمة من ... ملاغم فيك أو أدنى ارتشافه أو على حضرة ناموسه المفخم. ووزيره المكرم. لدهش عن شغله إكبارا لها وإعظاما. وألقى إليها الخاتم استسلاما. وانشدها إليك الفصل في كل الأمور ... على أسرى أمير أو وزير فما الدستور إلا دسّ تَور ... إليك فهل سبيل للشغور ولو دخلت مجلس قاضي القضاة. لا هدي إليها الكنز والدر وما ملكت يداه. وانشد:

لها عليَّ في الهوى ... حظان لا للذكر فإن لي سؤالين منها ذا وذاك وطري ولو دخلت على طبيب يعالج تيتاء لوصف له مسّ رأنفتها. وشم سالفتها. وأنشد: دهن السقنقور والترياق للعلل ... رضاب فيك وللعنين ذي الفجل حتى إذا لم يدع في الريق من وشل ... أرشفته الخمر نعم الخمر من بدل ولو خطرت على منجم لرمي الاسطرلاب من يده حيرة وذهولا، وبلبلة وغفولا. وانشد: لسنا نرى إلا جمالك في الضحى ... فهومنير بجنح ليل اظلما قد بلبل الفلكي منك مفلّك ... فعليك تقويم الذي ما قوّما أو على فيلسوف لذهبت معه حكمته سدى. ولم يجد للصبر عنها رشدا. وانشد: من حكاك الجسمين تقتدح النار ... كذا مذهب الذي قد تفلسف وهي دعوى فإن جسمي إذا احتك بهذي أسال ماء فأنزف أو على مهندس لأشكلت عليه الأشكال. وتبلبل منه البال. وأنشد: يفدي المكعَّب منك كل مكعب ... ومحدَّب ومقعر في العالم يا ليت ذا الشكل الهلالي الذي ... فيك استقر على عمودي القائم أو على منطقي لخرج عن القياس. وخبط في الالتباس. أنشد: على اللديدين مني ساقها وضعت ... يا حسن ذلك موضوعاً ومحمولا أصبحت تاليها ابغي مقدّمها ... إذ كان كل سرور فيه مأمولاً أو على نحو لما ميَّز الفاعل من المفعول. ورأى أن معرفة ذلك من الفضول: وأنشد: رويدك إِنني ما جئت نكرا ... لديك وليس لي ذنب فيذكر برئت من النحاة وحق ربي ... لقولهم بتغليب المذكر أو على عروضي لتقطع فؤاده، وكثر زحافه وإسناده. وانشد: هنَّدتني يا ذات كل ملاحة ... وتركت قلبي بالغرام يعلل أرعى النجوم الليل فيك وأنني ... مستفعل مستفعل مستفعل أو على شاعر لدلع لسانه تلزّحاً. ثم تلمظ وتمطق ثمعض بنانه قسحا. وأنشد: كم تاه صبّ بفرط العجب والتيه ... لكن حياؤك تأليهي وتوليهي إن يولني منك تجنيسي مجانسة ... أحمدت توريتي واخترت توجيهي إلا ولو أنها مسحت على عنق كل مني ومنك أيها القارئ لأغناهما عن الحضيض. ومصح ما بهما من الورم والنفاخ والنفطة والغدد والعقد والقمد والقفد والحثر والعجر والعاذور والبجر والجدر والغبر والكعر والثغر والزور والحبر والقصر والنعفة والسلع. والنكف والغبب والغلب والذربه والترؤد والعصل والمقط والقسط والتشنج والتحجنّ والتغضف التغضن والتصعفر والتقبض والقفص والرَّدن والتشنن والكنع والتكربش والتكرش والتكمش والاشخاص والقره والقله والثأي والجما والحروة والتنبج والذُّباح والرثية والضواة والزرّة والخضعة والشاكّة والادل والاجل والحدل والصمغة والقروح والخراج والدملوالعنبه والبثور والثآليل والخنازير والالتواء والهنع والحبُون والندب والعثم والوكس والحبط والأجور والندم والعرب والعازر والأثر والطليا والعلب والعصب والقوباء والجرو والدغام والخدش والجلف والحشفة والحفت والقطوف والزَّرف والكدم والنسوف والغلصمة والحولق والحلاق والفرك والكتاف والهيض والخناق.

وهذه سيدتي الزَنمْرة العَنجرد الدَلعُوس الألقة السلقة الملقاع الحفنس الحنفس العنفص البلقع السلفع الهروم المهضهضة الشنظيان البنظيان البهرج الطَّليف المسُجل الظلف الفانكة المنملة المتياح المزعاج المعنة الخطالة الخالجة الرَّدة الزلزة المِخناث الهلُوك المتهالكة المتهتكة المستهترة الباغزة الحوسة العواسة الدردم الدردب المتوهجة المتلعجة اللفَّوت العجينة المقفاطة الجلوط الخروط الخلطة الجليع الجلعة الخريع الجلقة الشنقه الشنيقة المعفاص المعقاص الجنبْثة البطريرة البظرير الدمراء القاشرة الجلبانة العنقفيز السُّلخوت الهمري النعارة الهيعرة الهيرعة الهوزورة الزاغية السعوة الساعية الخيتروع الخيتعور العسوس الضنَّوط المماجن الخُجأة الملألئة الشرُوب القعرة المستعربة المستضربة المستنخبة القفخة الوذاح المدربخة المُردّة الضامد المستعقدة الفخذاء الثامدة المستدرة المستذرة المستضورة المستطبرة المستظئرة الشفرة القعرة القرور الهوسة المبلاس المنعظة الكرعة الواكعة التَّبْعى المختلعة القمعة الهكعة الهقعة المتهقّعة الضبَّعة الظالع الوتغة الهينغ المستولغة المراغة الصارف الحلقية المستحلقة المستودقة الحارقة الشبقة المتفككة المداركة المفلكة المستجعلة المستوبلة المبُذم المُدقم المبُلم المهُدم القطمة الهدمة العظمة المستحرمة الغَيلم المتوسّنة المستأتية الحانية المتسداة التي قد علم كل واحد من أهل البلد حين تخطر في أسواقه وشوارعه وأزقته ودروبه وردوبه إنها تدعوهم بعينها وبجميع جوارحها إلى التمشير إلى القراب إلى الإشعار إلى الاقلعفاف إلى الاشمعطاط إلى الاشتماذ إلى الإفضاء إلى الاقتعاء إلى الكفاح إلى العراض إلى التلفيع إلى الدهفشة إلى النشنشة إلى الهكاع إلى السباع إلى التشيط إلى الحصحصة إلىالاسواء إلى الايعاب إلى الرفش والقفش إلى المحش إلى المسح إلى الأجفان إلى الافطاء إلى الانقاش إلى القزب إلى الرّكّ إلى البكّ إلى المهك إلى الهك والهكهكة إلى الرهك إلى الحرث إلى الهقّ إلى الزجل إلى الاماهة إلى الزعب إلى الخوق إلى الدعم إلى الرَّطم إلى الكوس إلى الاقحاط إلى الومس إلى الدعظ إلى الدعمظة إلى السَّغم إلى الاكسال إلى الاطمار إلى الغفق إلى الخفق إلى الوجس إلى الافهار إلى الظَّلم إلى التداؤم إِلى التنسي إلى القمقم إلى التجبية إلى الابراك إلى التدبيخ إلى الانسداج إلى الانسراح إلى الانشداح إلى التنوّخ إلى الدربخة إلى الدهشرة إلى المَشق إلى السَّلق إلى الصلق إلى السَّلقاة إلى المزد إلى الحرش إلى الشقية إلى المحارقة إلى الكشر إلى النخب إلى التفنشخ إلى الظُهاريّة إلى الترفغ إلى التفشغ إلى الفشاغ إلى المُزمعة إلى القرفطة إلى القرفصة إلى الكابوس إلى الخط إلى ليّ العرفجه إلى التكويذ إلى الشَّفر إلى التشفير إلى التدليص إلى التفخيذ إلى التحييض إلى الحسف إلى التلجيف إلى دحّ دح إلى أرّ إلى أزّ أز إلى باظ باظ تقعد في مجلس رئيسة بنات النَّقري وتطفق تعيب على جاراتها إنهن ينظرن من الشباك ويضحكن ويلبسن ويتعطرن ويتحلين ثم يخرجن ويمشين الخيلاء. ولكن أنسيت يا سيدتي يوم قلت لشيخك ما أحد يعشق إِلا ويتغير لونه عند ذكر معشوقه. فقال لك ليس ذلك بمطرد. فكابرت وأصررت على قولك فكابر هو أيضاً وأصرَّ على إنكاره. فقلت له حتى تحجيّه لو انك ذكرت لي اسم- انتبهت وسكت. فقال لك وقد طنّ قرن دماغه اسم من. فضحكت وقلت لا أدري. ويوم خرج بك ليفرج عنك الهمّ في يوم راح فخرجت وقد كشفت نصف صدرك ولمعت الترائب والمفاهر واللعوة وهو لا يدري لغفلته. فلما التفت إليك ووجدك على هذه الحالة قلت أن الريح فعلت ذلك. ويوم كان يماشيك فقلت وأنت ذاهلة لغلبة الهوى افدي بروحي وجه من أهوى. فلما سألك قلت ما هو إلاّ أنت وما أنت إلا هو. ويوم أرسلت خادمك. ويوم بعثت خادمك. وغداة كتبت رقعة دعوت فيها من شاقك وضحوة تأخرت. وعشية تعطرت. وساعة أعتذرت، وفينة فرّمت. وليلة أوهمت وجمجمت. وتنة همت وهمهمت وهينمت. وتوّة تزبرجت وتعلمت. وتفئة ارتمت. وفيئة زممت وسلمت. وحينه استحرمت حتى دعمت. ألم تكن هذه القوافي كلها مكافئة لنظر جارتك من الشبّاك.

سرقة مطرانية

وهذا المطران أتناسيوس التتونجي قد صار الآن مترجماً معرباً كاتباً منشئاً وهو أضيق أستا من أن يفعل. ولم يبال أن جرّ عليه بتعريبه أست الكلبة وقد حسب مضايق الحرف كلها سواء. وتعنى وتعمل. ولهوج ولهوق. وطرمذ وطرطر. وتفيّش وتحرّش. وقرمش وفشفش. وهربج وهلج. وسفسف وهمرج. واخترص وثمثم. وتورّه وضهيأ. وأنهأ ونيأ. وتكسّس وتزبب وتنفج ولبلب. وخرشب وخشرب. وتحذلق وتأبب. وتصوّك وتزنح. وتندخ وتزنخ. ومردل وافجس. ومرطل وعطرس. وتفهيق وتشدق وعفك وبشك. وخرق وحزق. وربك ولبك. وصد ولفت. وهو أعظم في نفسه من المتشمة أليس في الكون من مرآة وزجنجل وسجنجل وعناس ومنظار ووذيلة ولجة وماريّة وزلفة ومذية أو زجاجة أو صفيحة فتنظر سيداتي هؤلاء فيها وجوههن وما هنّ عليه من الأحوال. أليس في الشرق من سيبويه فيصفع. أما في الغرب من أبن مالك فيقدع. ألا أخفش فيغار على هذه اللغة. ويرضن رأس هذه الوزعة. كيف يظن الإنسان أنه علم ولم يتعلم. وأديب ولم يتأدب. وفقيه ولم يتفقه. نعم أنه لا يرى جهله في مرآة كما يرى وجهه ولكن أليست الكتب هي مرآة العقل. فمتى قرأ كتب العلماء ولم يفهمها عرف حد ما وصل غليه من العلم. غير أن المطران أتناسيوس التتونجي مطران طرابلس الشام المقيم في جميع البلدان إلا فيها لم يطالع شيئاً من مؤلفات العلماء. فغاية ما علمه من النحو باب الفاعل والمفعول ومن البيان نوع التجريد. ومن الفقه باب النجاسات. ومن العروض الوتد المتحرك. ومن البديع رد العجز على الصدر. هذا حد ما عرفه وتبجح به في مدرسة عين تراز حين كان قيم تلامذتها. فأما سبب فراره منها إلى رومية ثم من رومية إلى مالطة إلى باريس ثم فراره من باريس إلى لندرة ثم فراره من لندرة إلى مالطة. ثم فراره هذه السنة إلى لندرة من بعض مدن النمسا حين كان يطوف فيها وعلى عاتقه الشلاق. وتشهيره هناك وتجريسه في الأخبار اليومية حتى حرم من تعاطي هذه الحرفة التي ألفها مذ سنين كثيرة. وتسببه في زمن موسم لندرة في أن جمع جماعة مغنين ومغنيات من بيت أشق باش بحلب. وإغواؤه إياهم على أن يقصدوا الموسم طمعاً في الربح. ودخوله معهم ومع شركائهم أولاً في شروط المصروف والتجهيز. ثم استرجاعه المبلغ الذي كان أداه إليهم وأشترطه عليهم إياه في الفائدة من دون أن يشاركهم في التعب. وذلك في مقابلة إغوائه وسعيه هذا الذميم الذي كان سبباً في تخسير رئيسي هذه الزمرة خسارة زائدة فلا يمكن شرحه في هذا الكتاب. وربما فال قائل هنا أنك أيها المؤلف قد عبت على الناس جهلهم أنفسهم. وقد أراك جهلت نفسك في هذا الفصل فأوردت فيه كلاماً لا يليق بالنساء فقد تجاوزت أبن عتيق وأبن حجاج. قلت الحامل على ذلك أمران. أحدهما إبراز محاسن لغتنا هذه الشريفة. والثاني أني قصدت تشويق القارئين ممن ملئوا حيطان ديارهم من قصب التبغ إلى شراء كتاب في اللغة. فيا قارئاً ويا سامعاً. ويا راقئاً ويا عامساً. قل للمتعنت أن من كان فيه مرارة لم يستطب الحلاوة. وبعد فإني أترامي على أقدام سيدتي المدقم وسيدتي الدعشوقة وسيدتي الفلحسة وسيدتي المسخمة وأطلب منهن العفو عن طغيان القلم إذ لا يمكن لي أن أبيت هذه الليلة وهن عليّ غضاب. سرقة مطرانية

لما رجع الفارياق من عند الأمير المشار إليه أخبر زوجته بما أحسن به إليه وبأنه وعده بوظيفة حسنة في مصر. فقالت أنا أسبقك إذا وأنت تنتظره هنا فأني قد اشتقت إلى أهلي فدعني أسافر إليهم. قال لا بأس. فلما أزف الفراق أخذ يودعها ويقول: اذكري يا زوجتي أن لك في الجزيرة حليلاً يرعاك وخليلاً لا ينساك. فقالت من لي بهذا. قال فقلت أيّ هذا تعنين. قالت إنما أعنيك. قلت بل المتبادر غيري. قالت هل الحقائق على بوادركم أنتم العرب. وما زال دأبكم نبش ما في صدور النساء من الأسرار. وفقس ما في يوافيخهن من الأفكار. ومؤاخذتهن بالدثّ والوهم. ومعاملتهن بالحدس والقسم. ومعالجتهن بالهجس والزعم. والرضخ والرجم. والتذقح واللغم. والرسيس والوغم. بدل العَمس والعَسم. والجلهزة والرأم. والحزم والوزم والجمش والفغم. والضم والدعم ولو أن الله تعالى يؤاخذ العباد باللغو مثلكم لما بقي على وجه الأرض من بشر أكثر هذه المشاحنات ناشئ عن لغتنا فأن كل منها تحتمل عدة معان لسعتها. قالت ليتها كانت ضيقة قلت وهذا أيضاً من ذاك. قلت وكذا ذاك في هذا. قلت وكذلك عليه. قالت وتحته فالأولى إذاً السكوت. قلت ليس عند ذلك. قالت أنتم الرجال كلكم منخاريّون فطافطيون رفثيون. قلت من أين علمت ذلك. قالت قد رجعنا إلى الوهم والقسم. قلت بل فلنعد إلى الوداع. قالت نعم أني أسافر وليس لي من آسف عليه. قلت هل أنافي جملة غير المأسوف عليهم قالت ما أنت كأحد الناس. قلت وهذا أيضاً مبهم الست برجل. قالت في أحد المعنيين. قلت هل بقي لك عليّ شيء. قالت جمعهُ. قلت أعندك حساب ذلك في دفتر. قالت نعم قد غرّنا تلحزكم في الشعر يا شعراء فزعمناكم قوالين فعالين. فإذا بكم لا تحسنون إلا الوصف. قلت ومن يحسن الفعل. قالت ومن لا يحسن الوصف. قلت وأين حق الأدب. قالت في مجالس العلماء لا في مجالس النساء. قلت ذلك يفضي إلى الانبتات. قالت وهذا إلى الانبتات. قلت كيف يمكن الفراق إذاً. قالت أن شئت الوزم الآن وإلا فدعه إلى أن تأتي مصر. قلت كيف يتأنى وزم أعوام في ساعات أو أيام؟ وأشفق أن أحين وعليّ ذبابة. قالت إذا كنت لم تخش من الدين، فما أخالك تخشى من الحين. قلت لقد أذكرت ناسياً وطالما حسبت الناس كلهم مثلي. قالت وأنت أنسيت ذاكرة لكوني لم أر لي مثلاً. قلت اذكري السطح واصفحي. قالت ليس الصفح إلا من ذكر السطح. قلت أني أردت السطح القديم. قالت إنما أريد الحديث. قلت يقال في الأمثال لا بركة إلا في قديم قالت يقال في الأمثال لكل جديدة لذة. قلت كيف الفراق وفي قلبك ضغن قالت يا حبذا الضغن. قلت إذا كان بمعنى الشوق أليّ. قالت نعم هي من الألفاظ الغربية التي تعلمتها منك كالعقيون والفطحل والحبرة. قلت لعلك أنست من العقيون والعقيان ومن الفطحل الفحل ومن الحبرة الحبرة. قالت لا تأنس الحبرة بالحبرة. قلت قد وقع ذلك فأنهم قالوا النعمة من النعومة. قالت وقالوا أيضاً التسديد من السداد. قلت لميرد في النهي عن ذلك أمر. قالت هو مقيس على نقيضه. قلت هذا بذر في أرض سباخ. قالت وذلك قراح بلا حرث. قلت الكلام على البذر. قالت لا يمرؤ الطعام ما دام في الحلق ولا يسوغ الماء إلا إذا مرّ على الزلقوم.

الكتاب الرابع

ثم توادعا بعد مباراة الذمم وشيعها إلى سفينة النار ثم رجع إلى منزله كئيباً مستوحشاً. لأنها كانت كثيراً ما تدله على الرشاد وتنهج له الرأي السديد. ثم لم يشعر بعد أيام إلا وروائح المطران قد انتشرت وهي أشد أذى من الأولى. فبعث منها آخر إلى اللجنة المذكورة وكتب لهم. أن لم تقطعوا هذه الرائحة من هذا الجو شكاكم كل ذي خيشوم. فلما بلغهم كتابه وعرضوه على الطلاب العلم عندهم وجدوا أن قوله الحق. فبدأ لهم أن يسدوا مسام المطران عن إخراج ذلك الخبث. وأن يحضروا إليهم الفارياق لإعادة ترجمة الكتاب الذي تقدم ذكره. هذا وقد كان الفارياق ألّف في أحوال أهل الجزيرة كتاباً وعاب عليهم فيه بعض عادات ورسوم دينية ودنياوية مما تفردوا به على نصارى بلاده. وذلك كتغطيسهم أجراس الكنائس في ماء المعمودية وإطلاق أسماء القديسين عليها. وكخروجهم بالدمى والتماثيل نهاراً وإيقاد الشموع أمامها وما أشبه هذا. وكان قد أعار الكتاب المذكور رجلاً من المسلمين ممن كان المطران يتردد عليه. فأتفق أن زاره المطران يوماً فرأى الكتاب على الكرسي وقد عرف خط مؤلفه. فغافل الرجل حتى خرج من الحجرة وتناول الكتاب وقطع منه الأوراق التي اشتملت على ذكر تلك العادات. ثم بعث بها إلى رئيس مصلح البخر وكتب عليها باللغة الطليانية. أنظر أيها الرئيس أن كان قائل هذا الكلام يصلح لأن يكون تحت رئاستك أو لا. إلا أن الرئيس المذكور لما كان لا يعرف ما اشتملت عليه تلك الصحائف مع عدم قدرته على عزل المتوظفين في خدمة الدولة. كان لا بد من إعادة الأوراق إلى المؤلف. وكان المطران قد فر من الجزيرة قبل إعادتها وطهر الجوّ من روائحه. ولو بقي بعد ذلك لعوقب على هذه السرقة معاقبة تليق بأمثاله. ووقتئذ عزم الفارياق على السفر لقضاء تلك المصلحة أعني ترجمة الكتاب وأرسل إلى زوجته يعلمها بما استقر عليه الرأي. وأشار عليها بالرجوع إذ كان يرجو أنه يبقى في بلاد الإنكليز بعد إنهائه الكتاب. غير أنه جرت العادة في بلاد الإفرنج بأن مدرسي اللغات في مدارسهم الجامعة لا يكونون إلا منهم وأن كانوا جاهلين. وبعد أن رجعت الفارياقية تأهب الفارياق للسفر. وهاهو الآن يوعي القاموس والأشموني في صندوقه. وهاأنا منطلق لقضاء حاجة لا بد منها فاسمحوا لي أن أستريح قليلاً. الكتاب الرابع إطلاق بحر من لم يسافر في البحار ويقاس فيها الأنواء والأمواج فلا يقدر ترفه المعيشة في البر حق قدرها. فينبغي لك أيها القارئ البريّ أن تتصور في بالك كلما أعوزك الماء القراح واللحم الغضيض والفاكهة الطريئة والبقول الخضلة والخبز اللين أن إخوانك ركاب البحر محرومون من هذا كله. وإن سفينتهم لا تزال تميد بهم وتتقلب وتصعد وتهبط. فدون كل لقمة يسترطونها غصة. وفي كل رقدة يرقدونها مغصة. وأنه متى وضع بين يديك لون واحد من الطعام فلا تفكر إلا فيه. وأعتقد أن غيرك يغتذي بمثله في تلك الساعة بل بأقل منه. فبذلك يحصل لك التأسّي والتسلي. فأما إذا نظرت إلى قصور الملوك والأمراء وصروح الوزراء وفكرت فيما يأكلون ويشربون فإنك لا ريب تتعب نفسك وتعنيها لغير فائدة. ولكن أتحسب أن المعتقة التي يشربها الأمير ألذّ من الماء الذي تشربه أنت. حالة كونك عارفاً بأمور المعاش والمعاد. مضطلعاً بإدارة مصلحة لك تكفيك وأهلك المؤونة. وحالة كون زوجتك تجلس قبالتك أو عن يمينك وشمالك. وولدك الصغير على ركبتك. تارة يغني لك. وتارة يناولك بيده اللطيفة ما سألت عنه أمه. وإذا خرجت شيعاك إلى الباب وإذا قدمت صعدا معك وأجلسك على أنظف متكأ في الدار.

فأما أنت يا سيدي الغني فالأولى لك أن تسافر من مدينتك العامرة حتى ترى بعينك ما لم تره في بلدك. وتسمع بأذنيك ما لم تسمعه. وتخبر أحوال غير قومك وعاداتهم وأطوارهم وتدري أخلاقهم ومذاهبهم وسياستهم. ثم تقابل بعد ذلك بين الحسن عندهم وغير الحسن عندنا. ومتى دخلت بلادهم وكنت جاهلاً بلغتهم فلا تحرص بحقك على تعلم كلام الخنَى منهم أولا. أو تستحلي الأسماء من أجل المسمّيات. فأن كل لغة في الكون فيها الطيب والخبيث. إذ للغة إنما هي عبارة عن حركات الإنسان وأفعاله وأفكاره. ومعلوم أن في هذه ما يُحمَد وما يذم فأجلّك عن أن تكون كبعض المسافرين الذين لا يتعلمون من لغات غيرهم إلا أسماء بعض الأعضاء وعبارات أخرى سخيفة. لا بل ينبغي لك حين تدخل بلادهم سالماً أن تقصد قبل كل شيء المدارس والمطابع وخزائن الكتب والمستشفيات والمخاطب، أي الأماكن التي يخطب فيها العلماء في كل الفنون والعلوم فمنها ما هو معد للخطابة فقط ومنها ما يشتمل على جميع الآلات والأدوات اللازمة لذلك العلم. وإذا رجعت بحمده تعالى إلى بلدك فأجتهد في أن تؤلف رحلة تشهرها بين أهل بلادك لينتفعوا بها ولكن من دون قصد التكسّب ببيعها. ويا ليتك تشارك بعض أصحابك من الأغنياء في إنشاء مطبعة تطبع فيها غير ذلك من الكتب المفيدة للرجال والنساء والأولاد ولكل صنف من الناس على حدته. حتى يعرفوا ما لهم وما عليهم من الحقوق. سواء كانت تلك الكتب عربية أو معرّبة. ولكن أحذر من أن تخلط في نقلك عن العجم الطيب بالخبيث والصحيح بالمعتل. فإن المدن الغنّاء تكثر فيها الرذائل كما تكثر الفضائل. نعم أن من هؤلاء الناس لمن يأبى أن يرى أحداً وهو على الطعام. وإذا أضطر إلى رؤيته وهو في تلك الحالة فلا يدعوه للَوْس شيء مما بين يديه. لكن منهم من يدعوك إلى صرحه في الريف فتقيم فيه الأسبوع والأسبوعين وأنت الآمر الناهي. وأن منهم لمن يبخل عليك برد التحية. وإذا دخلت دار صديق منهم وكان في المجلس جماعة من أصدقائه لم يعرفوك من قبل فما أحد يتحلحل لك في القيام. ولا يعبأ بك ولا يلتفت إليك. لكن منهم من إذا عرفك أهتم بأمرك في حضورك وغيابك على حد سوى. وإذا ائتمنته على سرّ كتمه طول حياته. وإن منهم أن ينبزك بالألقاب أول ما يقع نظره على شاربيك ولحيتك أو على عمامتك أو يجذبك من ذيلك من وراء. ولكن منهم من يتهافت على معرفة الغريب. ويرتاح إلى الرفق به والإحسان إليه ويرى أجارته وحمايته فرضاً غليه متحتماً. وإن منهم لمن يسخر منك إذا رآك تلحن في لغته. ولكن منهم من يحرص على أن يعلمك إياها مجاناً أما بنفسه أو بواسطة زوجته وبناته. وعلى أن يعيرك ما يفيدك من كتب وغيرها ويرشدك إلى ما فيه صلاح أمرك وتوفيقك. وإن منهم لمن يحسبك قد وافيت بلاده تسابقه على رزقه فيكلح في وجهك وينظر إليك شزراً. لكن منهم من ينزلك في بلده منزلة ضيف يجب إكرامه واحترامه والذبّ عنه بحيث لا تفصل عنه وفي قلبك أدنى ألم من أهله. وإن منهم لمن يسخرك أن تترجم له أو تعلمه ثم لا يقول لك أحسنت يا مترجم أو يا معلم. لكن منهم من لا يستحلّ أن يكلمك من دون أن يؤدي إليك أجرة فتح فمك وضم شفتيك. وإن منهم لمن إذا اضطر إلى أن يدعوك إلى طعامه ثم أراك قد سعلت سلعة أو مخطت مخطة أو فنخرت فنخرة قال لزوجته ألا إن ضيفنا مريض. فلا ينبغي أن تكثري له من الطعام. فتقوم عن المائدة متضوراً ويمتنّ هو عليك بين معارفه بأنه صنع لك وليمة في عام كذا وشهر كذا ويوم كذا فيجعل تلك الليلة تاريخاً. لكن منهم من إذا عرف أنك مقيم في إحدى قرى بلاده حيث لا بيع ولا شراء ولا شيء ينال من البقول والأثمار بعث إليك من مباقله وحدائقه ما سد فاك عن الشكوى. كما كان دراموند يبعث إلى الفارياق حين قدر الله عليه بالسكنى في بعض تلك القرى فكانت شكواه منها تسمع مع دوي الريح.

ليت شعري أليس وجود مائة كتاب بدارك في الأقل خيراً من وجود كذا وكذا قصبة للتبغ وكذا وكذا أركيلة. مع أن ثمن المائة كتاب لا يوازي ثمن ثلاث قطع من الكهرباء. أليس وجود مطبعة في بلادك أولى من هذه الطيالس الكشميرية وتلك الفراء السمورية وهذه الآنية النفيسة والحلي الفاخر. فإن الإنسان إذا نظر إلى الحلي لا يستفيد منه شيئاً لا لبدنه ولا لرأسه. وغاية فرحه به إنما هو الشهر الذي اشتراه فيه فإذا مضت عليه أشهر استوى عنده وسقط المتاع فلم يبق منه ما يسره من وجوده سوى بيعه. فأما الكتاب فأنه كلما مرت عليه السنون زادت قيمته وكثرت منافعه. أو ليس إطلاعك على التاريخ والجغرافية وآداب الناس زينة لك بين إخوانك ومعارفك تفوق على زينة الجواهر أليس تعليم اهلك وذويك شيئاً من ذلك ومن قواعد لازمة لحفظ الصحة من كتب الطب يكسبك عند الله أجراً ويؤمنك من مضار كثيرة تتطرق إليهم لجهلهم بها. فإن قلت إنه ليس عند الإفرنج مختصة بالنساء والأولاد يؤلفها الرجال الفاضلون المهذّبون. فلمَ تشتري من الإفرنج الخزّ والمتاع ولاتشتري منهم العلم والحكمة والآداب. ثم إنك مهما بالغت في أن تبرقع زوجتك عن رؤية الدنيا فلن تستطيع أن تخفيها عن قلبها. فإن المرأة حيثما كانت وكيفما كانت هي بنت الدنيا وأمّها وأختها وضرّتها، لا تقل لي أن المرأة إذا كانت شريرة لا يصلحها الكتاب بل يزيدها شرّة، وإذا كانت صالحة فما من حاجة إليه، فإني أقول إن المرأة كانت أولاً بنتاً قبل أن صارت امرأة. وإن الرجل كان من قبل ولداً. ولا ينكر أحد أن التعليم على صغر كالنقر في الحجر. وإنك إذا ربَّيت وُلدك في العلم والمعارف والفضائل والمحامد يربون على ما ربّيْتهم عليه. وتكون قد أدّيت ما فرضه الله عليك من تأديبهم. فتفارقهم بعد العمر الطويل وخاطرك مجبور وبالك رخي مطمئن. فلم يبق لك إلا أن تقول أن أبي لم يعلمني وكذا جدي لم يعلم أبي وإني بهما أقتدي. فأقول لك أن الدنيا في عهد المرحومين جدك وأبيك لم تكن كما هي الآن. إذ لم يكن في عصرهما سفن النار ودروب الحديد التي تقرب البعيد، وتجدد العهيد. وتصل المقطوع. وتبذل الممنوع. ولم يكن يلزم الإنسان في ذلك الوقت أن يتعلم لغات كثيرة فكان كل من يقول خوش كلدي صفا كلدي يقال فيه إنه يصلح لأن يكون ترجماناً في باب همايون. وكل من كان يكتب خطاً دون خطي هذا الذي سودت به هذا الكتاب، لا الذي تقرأه الآن فإني بريء من هذه الحروف، كان يقال عنه إنه كاتب ماهر يصلح لأن يكون منشئ ديوان فأما الآن فهيهات. هذا الفارياق حين نوى السفر من الجزيرة إلى بلاد الإنكليز كان بعض الناس يقول له أنك سائر إلى بلاد لا تطلع عليها الشمس. وبعضهم يقول إلى أرض لا ينبت فيها القمح ولا البقول. ولا يوجد فيها من المأكول إلا اللحم والقلقاس. وبعض يقول إني أخاف عليك أن تفقد فيها رئتك لعدم الهواء. وبعضهم يقول أمعاك لعدم الأكل. وبعضهم صدرك أو عضواً آخر غيره. فلما سار إليها وجد الشمس شمساً والهواء هواء. والماء ماء. والرجال رجالاً والنساء نساء. والديار مأهولة والمدن معمورة. والأرض محروثة أريضة كثيرة الصُوى والأعلام. خضلة الغياض والرُبُض والآجام. ناضرة المروج. زاهية الحقول. غضة البقول. فلو إنه سمع لأولئك الناس لفاته رؤية ذلك اجمع. فإن خشيت أن تفوتك هناك لذة الاركيلة ولذة تكبيس الرجلين قبل الرقاد. فاعلم إن ما ترى هناك من العجائب ينسيك هذا النعيم. ويلهيك عمّا ألفته في مقامك الكريم. كيف ترضى لنفسك أن تفارق هذه الدنيا ولم ترها وأنت قادر على ذلك. وقد قال أبو الطيب المتنبي ولم أرَ في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام

أم كيف تقتصر على معرفة ربع لغة ولا تتشوق إلى علم ما يفكر فيه غيرك. فلعل تحت قبعته أفكاراً ومعاني لم تخطر بما تحت طربوشك. بحيث إنك إذا استوعبتها تودّ لو أنك عاصرت صاحبها وتشرفت بمعرفته وصنعت له مأدبة فاخرة زينتها بصحاف الرز والبرغل. وكيف تبلغ من عمرك ثلاثين سنة ولم تؤلف شيئاً يفيد أهل بلادك. فما أرى بين يديك إلا دفاتر بيع وشراء وفناديق دخل وخرج. ورسائل فاسدة المعاني ركيكة الألفاظ تنظر فيها في كل صباح ومساء. فأما قصدت السفر لمجرد التفاخر فقط بأن تقول مثلاً في مجلس زارك فيه أصحاب الكرماء وأقرانك العظماء. قد رأيت مدينة كذا وشاهدت شوارعها النظيفة الواسعة وديارها الرحيبة ومراكبها الحسنة وأسواقها البهيجة وخيلها المطهمة ونساءها الرائعة وعساكرها الجرارة. وأكلت فيها في اليوم الأول كذا وشربت في اليوم الثاني كذا. ثم ذهبنا بعد ذلك إلى بعض الملاهي ثم إلى إحدى الملهيات. وبت معها على فراش وطئ.

وكان قبالة السرير مرآة كبيرة في طول الفراش وعرضه فكنت أرى نفسي فيها كما كنت في الفراش. ثم قمت في الصباح وجاءتنا خادمة صبيحة بصبوح أو فطور. ثم عدت إلى محلي فوجدت فيه فلانا ينتظرني وكان كذلك نحو الساعة الحادية عشرة أي قبل الظهر بساعة. فتوجهنا معاً إلى البستان المسمى بالبستان السلطاني وبينما نحن نمشي فيه وننظر إلى الشجر الباسقة والزهور المدبجة إذا بالفتاة التي بت عندها تماشي رجلاً يغازلها. فلما رأتني تبسمت وسلمت عليّ. وكأن سلامها لم يسؤ الرجل فإنه نزع لي قبعته فعجبت جداً من عدم غيرته. إذ لو كانت الفتاة عندي لحجبتها عن النور. فذلك كله يسمى في العربية هذراً وهراء وهفتاً وهرجاً وهلجاً وسقطا وهيشا وخطلا واخلاء ولخي وطفانين وهذيانا وثرثرة وفرفرة وحذرمة وهبرمة وهثرمة وخزربة وخطلبة وغيذرة وشمرجة ونفرجة وهمرجة وثغثغة وفقفقة ولقلقة ووقوقة وهتمنة وفي المتعارف عند العامة فشارا وعلكا. إذ لا فائدة فيه لأحد من الناس. بخلاف ما إذا قلت لهم أن الغيساني من الرجال هناك إذا حضر مجلساً فيه نساء لا يغمز إحداهن بعينه ولا يتبظرم ولا يبتهر. ولا يقول لها أنه يزور النساء المحصنات بعلم بعولتهن وبغير علمهم ويأكل عندهن ويشرب. ثم يخلو بهن في مضاجعن ويرجع إلى منزله مسروراً. وكأي من مرة وضع يده في جيبه فوجد فيه كيساً ملآن من الدنانير أو كاغد حوالة على بعض الصيارفة. وإنه إذا مرّ في الاسواق تتهافت على رؤيته البنات من الرواشن والشبابيك والكوى والسهاء والإجلاء. فمنهم من تشير إليه بيدها أو برأسها. ومنهن من تجهله بعينها ثم تضع يدها على قلبها. ومنهن من ترميه بوردة. وأخرى بباقة من المنثور أو برقعة فيها شعر. أو أنه يقول بحضرتهن قد انحلت تكتي أو حكني رفغني لكون حشو سراويلي غليظاً. أو يحك أسته أو يرطل عياره أو يتمطى ويتمتى ويتمطط ويتمدد ويتمطل ويتمتأ ويتمتت ويتمأى ويتنطط ويتمعط ويتمغط ويتبسط ويتبأط. بل إنما يكلمهن متأدباً محتشماً غاضّ الطرف خافض الصوت. ويسأل كبيرتهن عما طالعت يومها ذاك من الأخبار والحكايات النوادر الأدبية وإنه شرع في تأليف كتاب مفيد يشتمل على ذكر آثار الأقدمين وأخبارهم ثم يلقي على صغيرتهن أحجية أدبية ليلهيها بها وبمثل ذلك يدخل مكرماً ويخرج محموداً. وبخلاف ما إذا قلت لهم أيضاً أن التاجر المثري هناك لا يتختم بخواتم الماس والزمرد. ولا يتحلى بسلاسل الذهب. ولا يقتني النادر من الأثاث والماعون والفرش. بل إنما ينفق أمواله في سبيل البر وإغاثة الملهوفين وإمداد الأرامل واليتامى وفي إنشاء المدارس والمستشفيات. وفي تصليح الطرق وتحسين المدينة وإزالة الأوساخ والعفونات منها. وفي أن يربي ولده بالأدب والعلم والفضائل. فترى منهم من سنة اثنتا عشرة سنة يكلمك بما يكلمك به من سنه منا أثنتا عشرة سنة بعد العشرين. وبخلاف ما إذا تفضلت بذكره فقلت أن لكل إنسان عندهم ممن لا يعد من الأغنياء والفقراء خزانة كتب نفيسة في كل فن وعلم. وما من بيت إلا وفيه إضبارة من صحف. وإن الرجل منهم أخبر بالبلاد الأجنبية مناهلها. وإن اكثر فلاحيهم يقرءون ويكتبون ويطالعون الوقائع اليومية ويعرفون الحقوق الرابطة بين المالك والمملوك والحاكم والمحكوم وبين الرجل وامرأته. وإن من هذه الوقائع المطبوعة ما تبلغ عدة نسخه أربعة عشر مليوناً في العام. وما يدفع عليها لخزنة الدولة على طبع إجازتها يبلغ أكثر من خمسين ألف ليرة. وإنها لو عرّبت نسخة واحدة منها لجاءت أكثر من مائتي صفحة. وإن صاحب العائلة منهم إذا جلس صباحاً على المائدة مع زوجته وأولاده يقبل كلا منهم ويسألهم عن صحتهم. ويفيدهم بعض نصائح وتنبيهات تكون لهم إماماً في ذلك اليوم. وإنهم يكلمونه وهم مبتهجون فرحون ويرون حضوره فيهم سلواناً. وإنهم لا يخالفون له أمراً ولا يستثقلون منه تكليفاً. وهم مع ذلك يدلون عليه بالبنوّة ويهابونه للأبوّة.

وداع

فهذا وأمثاله أصلحك الله ينبغي أن تشنّف به مسامع أصحابك الكرام. عسى أن ينشطوا إلى إنشاء مدرسة أو ترجمة كتاب أو لإرسال ولدهم إلى بلد يتأدبون فيها بالآداب المحمودة والمناقب الكريمة. وإياك يا سيدي من أن تميل قبل كل هذا كله إلى أن تأخذ عن بعضهم الخصال الذميمة كالطيش والنزق والبخل والفسق والكبر ومد الرجلين في وجه جليسك فقد ذكرت لك آنفاً أن البلاد التي تكثر فيها الفضائل تكثر فيها الرذائل أيضاً وإنه ليس من إنسان إلا وفيه عيب بل عيوب. غير إنه ينبغي لكل منا أن لا يزال يجد ويسعى في طريق الكمال وفي تهذيب أخلاقه وحواسه الباطنة بكل ما يبدو لحواسه الظاهرة. وكما أن لذة الحواس لا يشعر بها الإنسان إلا في مقدم جسمه دون مؤخره كذلك ينبغي لكل ذي جسم من الحيوان الناطق أن يعتمد على التقدم في المعارف والدراية. والمحامد إلى الغاية. وكنت أود لو أن أحداً من أهل بلادنا نقل فضيلة أو مأثرة عن هؤلاء الناس إلى إخوانه ومعارفه كما تنقل الأخبار والروايات. وبودي لو يستحيل أصناف الماس والزمرد والياقوت والدهنج والثعثع والدر والعقيان والكهرباء والمها وقلنسوة الراهب معها حالة كونها معدودة من الجواهر والتحف إلى كتب ومدارس ومكاتب ومطابع. وداع

لما حان سفر الفارياق أخذ يودع زوجته بعد أن أوعى القاموس والأشموني في صندوقه ويقول. اذكري يا زوجتي أنَّا عشنا معاً برهة طويلة من الدهر. قالت ما أذكر إلا هذا. قال فقلت أذكر ناكرٍ أم شاكر. قالت نصف من هذا أو نصف من ذاك قلت يرجعنا النحت إلى الأول قالت أو يرجع الأول إلى النحت. قلت أي أول أضمرت؟ قالت ما لك ولتأويل المضمر. قلت حسبي أن تبيِّني الحقيقة ذلك. قالت إذا فكرت في أنك لي ولغيري كنت من الناكرين وإلا فمن الشاكرين. قلت أنك كنت نهيتني عن المعاملة بالقسم وهاأنت الآن تأتينه. قالت بل هو يأتيني. قلت أما فيك لفظة لا. قالت أن لفظتها كانت نعم. قلت إن لا من المرأة إلى. قالت وأن نعم نعم. قلت أجعلت هذا دأبك. قالت ودأبت في هذا الجعل. قلت هذا لا يليق بذات ولد. قالت ولا تلد من لا تليق. قلت من مادة. قالت أن كانت المادة غير زيادة متصلة أحوجت إلى اختلاف الصور. قلت وكيف تبقى متصلة على اختلاف الأشكال. قالت لا أشكال في كيفية الأشكال فإن واحداً منها يغني عن الجميع. وغنما الكلام على رسم الكمية. قلت ما الحدّ. قالت في الجد الهزل وفي الهزل الجد. قلت أرأيتك لو أقمت نائباً عني في ذاك مدة غيابي. فضحكت وقالت على ما أحب أنا أم على ما تحب أنت. قلت بل على ما تحبين أنت. قالت لا يرضى الرجل بذلك إلا إذا كان غير ذي غيرة ولا يكون غير ذي غيرة إلا إذا كره امرأته وكلف بغيرها فأنت إذا كلف بغيري. قلت ما أنا بالكلف ولا بالطرف. لكن الرجل إذا كان شديد الحب لامرأته ودّ لو أنه يرضيها في كل شيء. على أن الغيرة لا تكون دائماً المحبة كما نصَّوا عليه. فإن بعض النساء يغرن على أزواجهن عن كراهية لهم وأعنات. مثال ذلك إذا منعت المرأة زوجها عن الخروج إلى بستان أو ملهى أو حمَّام مع عدة رجال متزوجين. وهي تعلم أنهم في هذه المواضع لا يمكنهم الاجتماع بالنساء فهي إنما تفعل ذلك تحكماً عليه ومنعاً لهمن ذكر النساء مع أصحابه والتلذذ بما لا يضيرها. وكذا إذا حضرته عن النظر من شباكه إلى شارع أو روضة حيث يكثر تردد النساء وكذا الحكم على الرجل لو فعل ذلك بامرأته. فهذا عند الناس يعد غيره لكنه في الواقع بغضة. أو ربما كان آخر الغيرة أول البغض كما أن إفراط الضحك هو أول البكاء وكيف كان فإن الرجل لا يمكن أن يحب زوجته إلا إذا أباح لها التلذذ بما شاءت وبمن أحبَّت قالت أيفعل ذلك أحد في الدنيا. قلت نعم يفعله كثير في بلاد غير بعيدة عنا. قالت بأبي هم ولكن ما شأن النساء أيفعلن ذلك أيضاً لأواجههن. قلت لا بد حتى يعتدل الميزان. قالت أما أنا فلا أرضى بهذا الاعتدال فالميل عندي أحسن. قلت وكذا عندي في بعض الأحوال. قالت ولأحوال البعض. قلت فلنعد إلى السفر إنني أسافر اليوم. قالت نعم إلى بلاد فيها البيض الحسان. قلت أتعنيهم أم تعنيهن. قالت أعني نوعاً ويعنيني آخر. قلت ولمَ يعنيك وأنتن المطلوبات في كل حال ولذلك يقال للمرأة غانية. قال في القاموس الغانية المرأة التي تطلب ولا تطلب. قالت ما أحسن كلامه هنا لولا أنه قال قبل ذلك العواني النساء لأنهن يظلمن فلا يُنتصرن. غير أن هذه النقطة شفعت في تلك. قلت حبكن التنقيط دأب قديم. قالت مثل دأب الرجال في التحريف وكيف كان فإن مطلوبيتنا هي أصل العناء. فإن المطلوبة لا تكون إلا ذات العرض والإحصان فويل لها أن خانت محصنها. وويل لها أن حرمت طالبها وباتت تلك الليلة مشغولة البال بحرمانه وخيبته وبكونها صارت سببا في أرقه وجزعه وحسرته. والطالبة تعود غير مطلوبة. قلت ليست أخلاق الرجال في ذلك سواء. قالت إنما أعني الرجال الذين يطلبون ويكلفون بمن يطلبونه لا أولئك الطَرفِين الشنقين المسافحين الذين دأبهم التذوّق والتنقل من مطلوب إلى آخر ونفع أنفسهم فقط دون مراعاة نفع سواهم. ولكن هيهات هل في الرجال من يقيم على الوداد ولا يميل عنه كل يوم. لعمري لو لكانت النساء تطلب الرجال طلب الرجال للنساء لما رأيت فيهم غير مفتون. قلت هل في النساء من تقيم على الوداد ولا تجنح عنه كل يوم ألف مرة هذه الكتب كلها تشهد للرجال بالوفاء وعلى النساء بالخيدعية. قالت من كتب هذه الكتب أليس الرجال هم الذين لفّقوها. قلت ولكن من بعد التحري والتجربة، قالت من يأت الحكم وحدة يفلج قلت بل أوردوا على ذلك شواهد وكفى بما ورد عن سيدنا سليمان برهاناً ودليلاً.

فإنه قال قد وجت بين ألف من الرجال صالحاً فأما بين النساء فسلم أجد صالحة. قالت أن سيدنا سليمان وأن يكن قد أوتي من الحكمة ما لم يؤته غيره أن بائع المسك لطول ائتلافه بالرائحة القوية تضعف منه حاسة الشم بحيث لا يعود يشم الرائحة اللطيفة. وأما إيراد الأدلة من الرجال على النساء دون إيراد أدلة النساء على الرجال فمحص ظلم وبطر. قلت نعم كان الأولى مناقصة هذا الإيراد ولكن سبحان الله أنتن تتهمن الرجال في كل شيء ثم تتهافتن عليهم. قالت لولا اضطرار الأحوال لما شغلن بذلك الأبوال. قال فضحكت وقلت أي جمع هذا قالت قسته على غيره. قلت وهل استوى المقيس بالمقيس عليه. قالت لا فرق. قلت بل كله فرق فإن اللغة لا تؤخذ بالقياس. ولو صح ذلك لم تكن مناسبة بين الذكر والأنثى ولا بين الأنثى والذكر. ولا بين تذكير حقيقة التأنيث وتأنيث ما هو غير مقابل بمثله. قالت وهذا أيضاً من بطر الرجال وتشويشهم فلا يكادون يأتون أمراً مستقيماً. قلت قد رجعت إلى لومهم. قالت والله، لقد حرت في الرجال. قلت والله لقد حرتُ في النساء.

ولكن فلنعد إلى الوداع إني أعاهدك على أن لا أخونك. قالت بل تخونني على عهد. قلت ما يحملك على سوء الظن بي. قالت إني أرى الرجال إذا كانوا في بلاد لم يُعرفوا بها أفشحوا غاية الإفحاش. ألا ترى إلى هؤلاء الغرباء الذين يأتون إلى هذه الجزيرة كيف يتهتكون في العهر والفجور. فأول ما يضع أحدهم قدمه على الأرض يسأل عن الماخور. ولا سيما هؤلاء الشاميين ولا سيما النصارى منهم ولا سيما الذين ألمّوا بعلم شيء من أحوال الإفرنج ولغاتهم فأنهم يخرجون من المراكب كالزنابير اللاسعة من هنا وهناك. قلت لعلهم كانوا في بلادهم كذلك قالت ليس عندهم أسباب الفحش هناك. قلت أو كانوا فاسدين بالطبع. قالت نعم هو عرق فساد فأول ما يستنشقون رائحة بلاد الإفرنج ينبض فيهم. ولذلك تراهم أبداً يتلمظون بذكر بلاد الإفرنج وعاداتهم وأحوالهم. مع أنك إذا سألت أحداً منهم عن طعامهم قال لا يستطيبه. أو عن ألحانهم قال لا تطربه. أو عن كرمائهم قال لم تأدبه. أو عن حمّاماتهم قال لم تعجبه. أو عن هوائهم قال لم يلائمه. أو عن مائهم قال لم يسغ له. فيكون لهجتهم بذكر بلادهم وتنويههم بمحاسنها إنما سببه الفحش. وأنت من يضمن لي طبعك عن الفساد وقد أسمعك كل يوم تُهيم بذكر الرجراجة والرضراضة والبضباضة والفضفاضة والربحلة والرعبوب والعطبول. وهي لعمري ألفاظ تسيل لعاب الحصور وتشهّي الناسك. قلت إن هو إلا كلام. قالت أول الحرب كلام. قلت أترين اعدّي عن هذه الصنعة الشائقة، والحرفة العائقة. قالت إن لم تتصور ذاتا بعينها عند الوصف فلا بأس. قلت إن لم أتصور ذاتا لم يخطر ببالي شيء. قالت إذن هو حرام. قلت ما كفارته. قالت إياي لا غير. قلت ولكن أنت خالية عن بعض الصفات التي لابد من ذكرها قالت إذا كان الرجل يحب امرأته رأى فيها الحسن كله ونظر من كل شعرة منها امرأة جميلة كما أنه إذا احب امرأة غيرها أحبّ لأجلها بلادها وهواءها وماءها ولسان قومها وعاداتهم وأطوارهم. قلت أو كذلك المرأة إذا أحبت رجلاً. قالت هو في النساء أكثر لأنهن أوفر حبا ووجداً. قلت ما سبب ذلك. قالت لأن الرجال يتشاغلون بما ليس يعنيهم. فترى واحداً منهم يطلب الولاية وآخر السيادة وآخر البحث في الأديان وفي ما غمض من السفليات والعلويات. والنساء لا شيء يشغلهن من ذلك. قلت ليتك تشاغلت مثلهم. قالت ليت لي قلبين في شغلنا. قلت أفتنظرين في الحسن كله كما زعمت. قالت أُحْسن فيك النظر: قلت فلنعد إلى الوداع لا بل فلنعد إلى التشاغل. فإني أريد أن أنهي هذه المسألة قبل أن أفصل من هنا وإلا فتكون لي شاغل الطريق وربما أفسدت شغلي عند القوم فأرجع باللوم عليك وعلى سائر النساء. قالت اعلم إن المرأة تعلم من نفسها إنها زينة هذا الكون كما أن جميع ما فيه إنما خلق لزينتها لا لزينة الرجل. لا لكونه مستغنياً عنها بذاته أو لكونها هي مفتقرة إليها لتحلو بها في عين الناظر وإذن السامع، بل لعدم جدارة الرجل بها. فإن الزينة نوع من الأخذ والتلقي والاستيعاب والزيادة وهي أحوال أنسب بالمرأة منها بالرجل. وبناء على هذا أي على أن جميع ما في الكون خُلق لها بعضه بالتخصيص وبعضه بالتفضيل والإيثار. كان من بعض اعتقادها أن نوع الرجل أيضاً مخلوق لها. لا بمعنى إنها تكون زوجة لجميع الرجال. فإن ذلك محال من وجهين. أحدهما إنها لا تطيق ذلك لأن سرية ذلك اليهودي "على ما ذكر في الفصل التاسع عشر من سفر القضاة" لم تطق أهل قرية واحدة "هي جبعة" على قلتهم ليلة واحدة. بل ماتت في الصباح وسيدها يحسبها نائمة. وهذه الحكاية ذكرت ردعاً للنساء. والثاني إنه إذا ثبت لامرأة حق في حكر الرجال والاستبداد بهم ثبت الحق الباقي. ولكن بمعنى إنها أهل لأن تعاشر جميع الرجال وتتعرف ما عندهم. فتتلهى من واحد بتملقه ومن آخر بإطراء ومن غيره بمغازلة ومن آخر بمطارحة وما أشبه ذلك. مما لا يمنعها من محبة زوجها والكلف به. لا بل -قال فقلت أتمنى هذه اللابليّة فإني أراها ترجمة لداهية من دواهي النساء وعنواناً على مكيدة من مكايدهن. فضحكت وقالت ربّما دلت على الرأي الظنون. غير إني أخشى من أن تأخذك لبيانها شفشفة ورعدة فتتأخر عن السفر. أو أن تظن إن هذا دأبي معك. معاذ الله. إني لم أخنك بضمد ولا بغيره. وإنما علمت من النساء لأن النساء لا يكتم بعضهن عن بعض شيئاً من أمور العشق وأحوال الرجال.

قلت أوجزي فقد قلقت وفرقت وعرقت. قالت أعلم إن بعض النساء لا يتحرّجن من وصال غير بعولتهن لسببين. الأول لعدم اكتفائهن بالقدر المرتب لهن منهم. فإنهم يعودونهن أولا على ما يعجزون عن أدائه إليهن آخراً. ولا يخفي أن من النساء المدقم وهي التي تلتهم كل شيء. ومنهن الشفيرة وهي القانعة من البعال بأيسره. ومنهن الضامد وهي التي تتخذ خليلين. ومنهن المطماع وهي التي تُطمع ولا تمكن. ومنهن المريم وهي التي تحب الرجال ولا تفجر وهو خلقي. قال فقلت اللهم أمين. قالت واللاعة وهي التي تغازلك ولا تمكنك. والسبب الثاني لاستطلاع أحوال الرجال واختبار الأبتع وغير الأبتع منهم لمجرد العلم كيلا يفوتهن حال من أحوالهم. ومنهن من تعتقد أن زوجها يخونها عند كل فرصة تسنح له. لما تقرر في عقول النساء إن الرجال لا شغل لهم إلا مغازلتهن ومباغمتهن. فهي على هذا لا تجد سبيلاً للشطح إلا وتزّف فيه. اعتقاداً إنها أخذت بثأرها جزماً أي قبل وقته الموقوت. ومع ذلك فلا يحلن عن محبة بعولتهن. بل ربما كان ذلك الشطح أدعى لزيادة حبّهن لهم. قلت لا متعني الله بحب ناشئ عن مد قميه ولا ضمد. ولكن كيف يكون هذا التخليط أدعى إلى زيادة الحبّ والمرأة إذا ذاقت البكبك والعجارم والعجارم والقازح والكباس لم تقتنع بعد ذلك بزوجها حالة كونه لا يحول عن الصفة التي فطر عليها. وكذا الرجل أيضاً إذا ذاق الرشوف والرصوف والحزنبل والعضوض والأكبس فإنه يرى زوجته بعد ذلك ناقصة. فضحكت وقالوا كانت هذه الصفات لازمة للمرأة وكان عدم وجودها فيها نقصاً لما كنت تراها في أفراد قليلة من النساء. فإن معظمهن على خلاف ذلك. فأما سبب زيادة المحبة فيما زعمن مع التخليط فهو أن الزوج لطول الفته بزوجته وضراوته عليها وحالة كون مسّ أحدهما الآخر لا يحدث في جسم الماسّ والممسوس هزة ولا رعشة ولا ربوخيّة. يمكن له معها المماتنة والإمعان والوقوف بخلاف الغريب فإنه لشدة نهمه ودهشته أو لفرط مرواحة المرأة إياه على العمل. أو لكون الحرام لا يسوغ دائما مساغ الحلال تفوته الصفتان المذكورتان. فاللذة معه جلّها ناشئ عن التصور. أي عن تصور كونه غير زوجها. كما أن نغصها مع زوجها جله ناشئ عن تصور كونه غير غريب. وإلا فالواقع أن اللذة في الحلال أقوى. غير أن التصور له موقع يقرب من الفعل. وبيانه لو اعتقدت رجل مثلاً أن امرأة غير امرأته تبيت معه ثم باتت معه امرأته بعينها وهو لا يعلم ذلك كما جرى لسيدنا يعقوب عم. لوجد امرأته تلك الليلة متصفة بجميع الصفات التي تصورها في غيرها. وكذا شأن المرأة. فبناء على ما تقدم من اعتقاد المرأة بأن جميع ما في الكون من الحسن والزينة والبهيجة يناسبها كان تصورها صفات الحسن وتشاغلها به مطلقا عاما. غير إنه إذا كان لها خاص قريباً منها تناولت ذلك الخاص متناول العام. حتى أنه كثيراً ما يخطئ فكرها واحدا منهم بخصوصه. فيتجاذبه اثنان أو ثلاثة حتى تذهل عن الشاغل والأشغل. وهو في الواقع تحوف من اللذة كمن يريد ان يشرب من ثلاث قلل يضعها على فيه في وقت واحد. قلت كلامك هذا ينظر إلى قول الشاعر:

إذا بت مشغول الفؤاد بما ترى ... من الغيد عيني والجمال مفرق اركبّ في وهمي محيّا يشوقني ... على قامة أولى به ثم أشبق ولكن قد نهيتني آنفاً في التغزل عن تصور ذات بخصوصها وقلت أنه حرام فهّلا قلت بحرميّة هذا أيضاً. قالت إنما حرميه ذاك لكونه ذاهباً في الكلام سدى وسرفا. على أن الغزل كله كيفما كان لا خير فيه ولا جدوى. فأما في الفعل من قبل النساء فإنه ينشأ عنه صاحبه الأولاد. ولذلك ترى انف بعضهم كأنف زيد وفمه كفهم عمرو وعينيه كعيني بكر. وهو أيضاً جواب لمن قال إن في رؤية الرجل نساء كثيرة مصلحة تعود على امرأته لاكتسابه منهن التشمير عند الإياب. بخلاف خروج المرأة فإن التشمير ملازم لها. فأما هؤلاء الحمقى الزاعمون أن تصوّر الرجل مؤثر في توزيع الولد فيلزمهم أن لا يروا امرأة أصلا غير نسائهم. لئلا تأتي ذريتهم كلها إناثا أو في الأقل خناثاً. وذلك لمناعفة التصوّرين من قبل الأب والأم. وألا وإن امرأة لا تستبدل زوجها إلا بالفكر والتخيل لجديرة بأن تكون قِبله كل مطرئ. وإن لا يفكر زوجها إلا فيها. قلت مقتضى كلامك إن النساء المقصورات عن رؤية العموم لا لذة لهن مع الخصوص. قالت أما بالنسبة إلى ناظرة العموم فلا. وأما بالنسبة إلى العدم فنعم. فإن الماء مهما يكن سخنا يطفئ النار. قلت وبالعكس أي أن النار مهما تكن باردة تسخن الماء. قالت يصح العكس لكن الطرد أولى. قلت إلى كم قسم اللذة. قالت إلى خمسة أقسام. الأول تصورها قبل الوقوع. الثاني ذكرها قبله. الثالث حصولها فعلا بالركنين المذكورين. الرابع تصورها بعد الوقوع. الخامس ذكرها بعده. وكون لذة التصور قبل الوقوع أقوى أو بعده أقوال. فذهب بعض ألا أن الأولى أقوى. لأن الفعل لمّا كان غير حاصل كان الفكر فيه أجول وأمعن فلا يقف على حدّ. وزعم آخرون إن الحصول يهيّئ للفكر هيئة معلومة وصورة معينة يعتمد عليها في قياس ما يترقب من الإعادة والتكرير. وكما حصل الخلاف في وقتي التصور حصل أيضاً فيه وفي الذكر. والعبرة بحدّة التصور وذرب اللسان. فأما اصلح الأزمنة لها فالصيف عند النساء والشتاء عند الرجال. فأما الكمية فمن الناس الموحدون ومنهم المثنوية ومنهم أهل التثليث. قلت ومنهم المعتزلة والمعطلون. قالت هؤلاء لا خير فيهم. وما هم جديرون بأن يعدّوا مع الناس. قلت ما شأن من يتزوج اثنتين وثلاثا. قالت هو أمر مغاير للطبع. قلت كيف وقد كانت سنّة الأنبياء. قالت هل نحن نبحث الآن في الأديان أو نتكلم في الطبيعيات. إلا ترى أن الذكور من الحيوانات التي قُدّر لها أن تعيش مع إناث كثيرة قدر لها أن تعيش مع إناث كثيرة قُدّر لها أيضاً القدرة على كفايتهن كالديك والعصفور مثلا. وغيرها إنما يعيش مع واحدة ويكتفي بها. ولما كان الرجل غير قادر على كفاية ثلاث لم يكن أهلا لان يحوزهن. وبعد فلأي سبب حُظرت المرأة عنان تتزوج ثلاثة رجال. قلت إِن في كثرة النساء للرجل كثرة النسل التي يتوقف عليها عمران الدنيا. وذلك مفقود في كثرة الرجال للمرأة الواحدة. على أني قرأت في بعض الكتب إن هذه العادة لم تزل مستعملة عند بعض الهمج. قالت مه مه أهؤلاء هم الهمج وانتم المتمدينون الكيسّيون. فأما دعواك بتكاثر النسل في كثرة النساء فهل سكان الأرض الآن قليلون. ألم تضق بهم البسيطة وتثقل بهم بطونها ويمزق اديمها. فما الموجب إلى هذا الإكثار سوى البطر والنهم. قلت قد عدت إلى لوم الرجال فلنعد إلى الوداع. أني مسافر عنك اليوم وتارك عندك فؤادي حتى إذا زارك أحد أحسّ به. قالت كيف تحس وما فؤادك معك. والناس يخصّون القلب بالحس والشعور. والحزن والسرور. قلت أن حسي برأسي. قالت من أي جهة. قلت من الجانب الأعلى من الرأس. قالت نعم الشيء إلى جنسه أميل. ولكن أين تتركه. قلت على العتبة كيلا يخطوها أحد. قالت فإذا طفر فوقها. قلت في الفراش. قالت فإن يكن في غيره. قلت فيك. قالت ذلك أحسن مقرّا.

استرحامات شتى

إني أعاهدك على ما كنا عليه من الحب والوداد من أيام السطح إلى الآن. ولكن حين أحسّ واشعر من هنا بأنك تبدلت السطح بالشطح أقابلك بفعل مثل فعلك والبادي أظلم. قلت إنك كثيرة الوساوس شديدة الغيرة. فلعل شعورك يكون عن وسواس. قالت بل الأولى إن الوسواس يكون عن الشعور. قلت دار ما بينا الدور. قالت حاول إذاً فكَّه. قلت هو فرض فلابد من قضائه. قالت وقضاء لابد من فرضه. قلت أيعقد به العهد. قالت إذا عهد به العقد. قلت لا أرضى بهذه الصفة. قالت ومن لي بوصف هذا الرضى. قلت هلكان العقد في الشرط. قالت كان الشرط بلا عقد. قلت مثلنا مثل ذلك المجنون. قالت لولا الجنون ما جمعنا الزواج: قلت أكثر الناس على هذا. قالت أكثر الناس مجانين. فقلت الحمد لله رب العالمين. استرحامات شتى من كان من طبعه المين والافتراء أومن كان جاهلا بالنساء ارتاب في هذا الوداع ونسبه إلى ترقيش الشعراء ومبالغتهم. ولكن أي منكر على من جعلت دأبها وديدنها وشنشنتها ونشنشتها ومُهوأنها وهُذيرباها وأُهجورتها وفَعِلتها ومَطرتها المحاضرة والمفاكهة والمساقطة والمطارحة والمحازرة والمجازرة وسرعة الجواب. بل كثيراً ما كان يجتمع الفارياق اثنان أو ثلاثة من أصحابه فإذا خاضوا في حديث انتدبت لهم وجارتهم فيه وعارضتهم وما تنتهم. فكل فصيح أن تعارضه لم يُبن وكل بليغ أن تساجله يرتكّ. وقد علم بالتجربة أن جواب المرأة أسرع من جواب الرجل. وأن المشتغل بالعلم يكون أبطأ جواباً من غير المشتغل به. لأنه لا يقدم على ذلك إلا بعد الفكر والروية. على أن هذه العبارات التي نقلتها هذه المرأة المبينة من غير قراءة البيان هي دون الأصل بمراحل. فإني لم أقدر في نقل الحركات التي تبدو منها. وعلى أن أصوّر للمطالع عيوناً تغازل وحواجب تشير. وأنفا يرمع. وشفاها تزمع. وخدوداً تتورد. وجيداً يلوي. ويداً تومئ. ونفساً يربو ويخفت. وصوتاً يخفض وينبر. وزد عليه مسح المآق إشارة إلى الاستعبار. وتوالي الزفرات رمزاً إلى الحزن والانبهار. والتبلد إيذاناً بالأسف. والتنقل من جنب إلى جنب إعلاناً بالجزع واللهف. وغير ذلك مما يزيد الكلام قوة وبلاغة. وهذه ثاني مرة ندّمتني على جهلي صناعة التصوير. والمرة الأولى جمالهن. ويمكن إني أندم مرة ثالثة.

وهنا ينبغي أن أقف على قدمي منتصباً وأستميح الإجازة من ذوي الأمر والنهي لأن أقول. إنه قد جرت عادة جميع الولاة والملوك ماعدا ملك الإنكليز بان لا يدعوا أحداً يدخل بلادهم أو يخرج منها ما لم يدفع لدواوينهم أو لوكلائهم المعروفين قدراً من الدراهم بحسب خصب مما لكم. محلها. وذلك بدعوى أن المسافر إذا نزل بلادهم ساعة أو ساعتين فلابد وأن يرى قصورهم الفسيحة وعساكرهم المنصورة أو خيلهم النجية ومراكبهم الفاخرة. فيكون كمن يدخل ملهى من الملاهي. إذ ليس يدخلها أحد من دون من الملاهي. إذ ليس يدخلها أحد من دون غرامة. فإن اعتراض أحد بقوله إِنا في الملهى نسمع أصوات المغنين والمغنيات وآلات الطرب. ونرى الأنوار المزدهرة والأشكال المتنوعة ووجوه الحسان الناضرة وحركاتهن الباهرة. ونضحك حين يضحكن. ونطرب حين يرقصن. ونشغف حباً حين يغازلن فأما في رؤية إحدى مدنكم فإنا لا نرى شيئاً من ذلك. بل إنما ندخل لكي يغبننا تجاركم فتكون فائدتنا في الدخل قليلة. قالوا قد يتفق وقت قدومكم بلادنا أن تكون عساكرنا قد شرعت في العزف بآلات الطرب فهذا مقابلة في الطرب في الملهى. أما النساء فإنا نأذن لكم في التمتع بكل من أعجبتكم فاجروا وراء من شئتم بحيث يكون النقد على الحافز. ومع ذلك فلا ينبغي أن تشبه مدائننا التي تشرفت بحضرتنا ببعض الملاهي. ولاسيما أن هذه سنة قديمة قد مشت عليها أسلافنا طاب ثراهم. وتقادمت عليها السنون والأحوال حتى لم يعد ممكناً تغييرها. فإن الملك إذا أمر بشيء صار ذلك سنة وحكما ويشهد لذلك قول صاحب الزبور أن يد الرب على قلب الملك. بمعنى أن الملك لا يفكر في شيء إلا ويد الله عاصمة له فيه. هكذا شرح هذه الآية العلماء الربانيون في بلادنا ومن خالفهم فجزاؤه الصلب. وبعد فإن الملك إذا أخذ في تغيير العادات وتبديل السنن فربما أفضى ذلك إلى تغييره. فيكون مثله كالديك الذي يبحث في الأرض عن حبة قمح فيثير التراب على رأسه. وصغر ذلك تشبيها. فالأولى إذا إقرارا كل شيء في محله. ثم لا فرق بين أن يكون قاصد بلادنا غنياً أو فقيراً. صالحاً باراً أو لصاً فاجراً رجلاً كان أو امرأة. فكلهم ملتزمون بأداء الغرامة وتحمل الغبن -ولكن يا سيدي ومولاي أنا امرأة معسرة قد اضطررت إلى المرور بمدينتك السعيدة. لأن زوجي المسكين كان قد قدم إلى بلادكم الملكية ليدير مصلحة فقضى عليه الله تعالى بالوفاة. فتركت صبية لي في البيت يتضورون جوعاً وجئت لأرى زوجي الميت حالة كونه لا يراني. ومع ذلك فإني أُعدّ من الحسان اللائي يحق لهن من أمثالك العناية والإلطاف. فكيف التزم بالغرامة فضلا عن نفقة السفر وفقد زويجي الذي كان لي سنداً- ارجعي من حيث جئت فما هذا وقت الاسترحام. لأن القواعد التي تقرر في دفاتر الملوك لا تقبل التبديل ولا التحريف ولا يستثنى منها شيء- وأنا أيضاً يا مولاي رُجَيْل فقير رماني الدهر بصروفه لأمر شاءه الله. فوافيت بلادكم طمعاً في تحصيل وظيفة تقوم بأودي. وما أنا من ذوي التغاوي والفتن ولا من الباحثين في سياسات الملوك وإيالاتهم. فقصارى منيتي تحصيل المعيشة. على إني أعرف شيئاً لا يعرفه أهل بلادكم العامرة فربما كان مقامي فيها مفيداً لدولتكم السعيدة. ولو صدر الأمر العالي بامتحاني واختباري فيما ادّعيه لأكرمتم مثواي فضلاً عن الرخصة لي في دخول بغير غرامة- يا طائف يا عسس يا زبينية يا جلواز يا شرطي يا عون يا ذبي يا مسحل يا فارع يا قليع يا تورور يا ثؤرور يا أثرو يا ترتور أودع هذا السجن. إن هو إِلا جاسوس قدم يتجسس- بلادنا. وفتشوه عسى أن تجدوا معه أوراقا تكشف لنا عن خبره- وأنا كذلك يا مولاي وسيدي غليتم مسيكين قد جئت لا نظر أبي إذ بلغني إنه كان قادماً من سفره فدخل بلادكم فأصابه هواؤها الحميد بمرض شديد منعه من الحركة. فلّما علمت أمّي بمرضه أيضاً مما شملها من الحزن والكرب لطول غيابه بعثتني إليه لعلي أخدمه وأمرّضه فيطيب خاطره برؤيتي ويخف ما به. فإن رؤية الأب أبنه حال مرضه تقوم له مقام الدواء- ما نحن بمربّي الأولاد ولا بلادنا مكتب لهم حتى يأتوا إليها ويخرجوا منها من دون غرامة. أذهب وكن رجلاً بأدائها على الفور- وأنا أيضاً يا عتادي وملاذي. وثمالي ومعاذي. وملجإِي وملتحدي. وسندي ومعتمدي. وركحي وركني. وعزي وأمني. رجل من الشعراء الأدباء كنت قد مدحت بعض

أمرائنا بقصيدة فأجازني عليها مائة دينار. فاشتريت بنصفها مؤونة لعيالي. ووفيت بربعها ما كنت استدنته لكسوتهم وبقي معي ربع. وإذ سمعت بمحاسن مملكتكم الخصية البهيجة وبما فيها من التحف والطُرف التي لا توجد في بلادنا رمت أن أسرح ناظري وأنزه خاطري في هذا النعيم أياماً قليلة. عسى أن يخطر ببالي عند رؤيته معاني بديعة ما سبقني إليها أحد فأصوغ منها بادئ مديحة بليغاً في جنابك الرفيع. ومقامك السني. وأنتشر الثناء عليك في جميع الأقطار. في الليل والنهار. وأجيد وصف مكارمك في الأسفار- ما أكثر الشعراء الغاوين في بلادنا وما أكثر أقاويلهم وأقل رزقهم. أما أن تدفع الغرامة وأما أن ترجع على عقبك وأما أن نؤويك إلى دار المجانين. ولكن هيهات أن تشرف مسامع المسترحم الحقير من سيده الجليل الخطير بمثل هذه الأجوبة السلبية. فإن السلب من مقام الكبير منة. وإنما الغالب أن يكون جوابه برغم الأنف أو بالقفد. أو باللكم على الخرطوم. أو بهثم سن. أو ببقر بطن أو بطنان ساق. أو بانتقاض ظهر. ولهذا لما عزم الفارياق وكان ممن لا يستغني عن أحد أعضائه التمس من خمسة قناصل أن يشرفوا جوازه بختومهم. فحتم عليه كل من قنصل نابلي وليكورنه ومدينة أخرى في مملكة البابا وقنصل جنوا وفرنسا لأن سفينة النار تمرّ على مراسي هذه المدن كلها وترسي فيها بعض ساعات. أما مدينة نابلي فهي مشهورة بكثرة ما فيها من العجلات والمراكب والحدائق والغياض. وأما ليكورنه فبطيب هوائها وارتفاع بنائها وكذلك مدينة جنوا قال وهي عندي أحسن منهما. وأنحس ما يكون مدينة البابا إذ ليس عليها رونق المُلك ولا الملكوت وما بها شيء يقرُّ العين. فلما وصل الفارياق إلى مرسيلية أخذ صندوقه إلى ديوان المكس وأشير إليه أن يتبعه. ثم طلب منه المكّاسون أن يفتحوه ليفتشوه فظن أنهم يريدون ان يفتشوا في كراريسي ليعلموا ما فيها فقال. أنا ما هجوت سلطانكم ولا مطرانكم فلم تفتشون في كراريسي. فلم يفهمه أحد منهم وهو لم يفهم أحداً. فلما فرغوا أشاروا إليه أن أقفل صندوقك فثلج صدره. ثم أنبري واحد منهم يمسح بيديه على جنبه فظن أنه يتمسح به أي يتبرك لكونه وجد كراريسه بخط غريب. لكنه علم من بعد ذلك أنهم كانوا يفتشونه ليعلموا هل كان مدّخراً من التبغ والمسكر.

شروط الرواية

ثم سافر من مرسيلية إلى باريس ففُتش أيضاً هو وصندوقه في ديوان مكسها. فكان مكاسي هذه المدينة كما يحسبون أن رفاقهم في تلك قد ناموا عن قيام الليل. فبال الشيطان في آذانهم. فعمشت عيونهم عن رؤية ما في الصندوق. أو أنهم يرتشون كسائر أصحاب الوظائف. فأقام في باريس ثلاثة أيام في داره سفارة الدولة العلمية وفيها حظي بتقبيل أيدي الوزيرين المعظمين والمشيرين المفخمين رشيد باشا وسامي باشا. شروط الرواية لم يمض على الفارياق في مدى عمره مدة هي أنحس وأشقى من المدة التي قضاها في تلك القرية. لأن قرى بلاد الإنكليز ليس فيها من محل لهو واجتماع وأنس وحظ البتة. وإنما اللهو والحظ في المدن الكبيرة. وفضلاً عن ذلك فليس في القرى شيء يباع للمأكول والمشرب سوى ما لا احتفال به. ومن كان عنده دجاجة أو طرفة بعث بها إلى إحدى المدن القريبة. فمن شاء أن ينقطع عن الدنيا أو يترهب فعليه بها. أما النساء هناك ففيهن من تشفي من القمة بل تمني بالقرم. إلا أن الغريب محروم منهن. إذ كل ذات ظلف ملازمة لفحلها فليس من سائب مبهل إلا العجائز. ثم بعد مضي شهرين عليه وهو على هذه الحالة المشؤومة أنتقل إلى مدينة كامبردج مصدر القسوسة وعلم الكلام. فإن جل قسيسي الإنكليز يمضون إليها أو إلى أكسفورد ليتعلموا فيها الإلهيات والمناظرة. وفي هاتين المدينتين أيضاً سائر طلاب العلم على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم. ومن إحدى مدارس كامبردج نبغ نيوطون الفيلسوف المشهور. فاكتري الفارياق فيها مسكنين في دار كما هي العادة ومكث يترجم بقية الكتاب الذي مرّت الإشارة إليه سابقاً. وكان في تلك الدار جارية دعجاء كاعب وكذا سائر الوصائف غالباً. فكان الفارياق يراها كل ليلة تطلع إلى غرفة أحد السكان ثم بعد هنيهة ليست بأطول من قولك عمت مساء يسمع لها نغمة إيغافية. وكانت صاحبة المنزل تراها نازلة من عند الرجل في الساعة العاشرة ونحوها من الليل ولا تكثرت بطلوعها ولا بنزولها. فإذا جاءت في الصباح لتصلح فراش الفارياق حملق فيها وحدق فلم يرَ علامة تدل على أنها كانت هي صاحبة النغمة. فيظن أن ذلك كان وهماً منه نشأ عن اللهج بالإيغاف. فإذا جاء الليل عادت النغمة وعاد اليقين. فإذا كان الصباح عادت الحملقة وعادت التصاون وعاد الشك والحيرة وهلم جرا. حتى كاد ذلك يشوش عقل الفارياق ويفسد عليه الترجمة التي طالما كان يخشى عليها الخلل والفساد من قضية ما نسائية. وهنا ينبغي أن أقرفص وأقول.

إن هذه المزية السنورية أي الأكل خفوة وأن يكن وجودها ملحوظاً في النساء على الأعم إلا أنها في نساء الإنكليز على الأخصّ. فإن المتصفة منهن بما اتصفت به السيدة المدقم في فصل حد نبدي تتظاهر في النهار بصفات الورع والتقوى والنفورية والقذورية وتنظر إلى تبعها نظر المتجاهل. وتوهم الناقد إنها متبتلة معتزلة للرجال. وربما حفظت أحاديث دينية وروايات نسكية تلقيها على الناس فيعظمونها ويعتقدون فيها الصلاح. وإذا دخلت بيتها وجدت على مائدتها التوراة والإنجيل وكتبا أخرى في العبادة والزهد. وربما وسّخت الظاهر من ورقها لتوهم إنها كثيرة الدراسة لها ولا يمكن للرجل أن يذكر بين يديها اسم عضو من أعضائه. فتكون لذة هؤلاء على مقتضى قاعدة الفارياقية غير تامة وذلك لخلوها عن ركن الذكر. وعنها أيضاً أن ذكر اللذة لا بد من أن يكون مطابقاً للواقع فإن كان الوقوع مثلاً من ذي مقام ليلاً ذُكرت فيه لذات مقام. وإن يكن من دونٍ صباحاً ذكرت فيه لدون من النساء. وقس على ذلك سائر التباين في الأوقات والأشخاص. اللهمّ إلاّ أن خشي فوات الفرصة. أي إذا حصلت مثلاً ليلاً ولم يمكن ذكرها في الليل فيصح الذكر في الفجر أو الصباح. أو أن حصلت من ذي مقام ولم يتهيأ وجود نظيره فيصح ذكرها لدون ولا يفسد لذة الذكر بذلك. فأما على فرض كونها لم تجد أحداً من هذه الأصناف فيصح ذكرها لنفسها. وذلك بأن تدخل رأسها في زير فارغ أو في بئر أو جبّ أو قبوة ونحو ذلك مما له صدى وتنطق بلسان فيصبح مبين بما مرّ لها. حتى إذا رجع الصدى قام لها مقام النديم الكليم. فأما إذا بقي في صدرها فيخشى عليها من الصدارة والذباح. ويشترط أيضاً عندها أن تكون الرواية مطابقة للفعل. فللنبرة نبرة. وللهمز. همزة. وللحركة. وللسكون سكون. وللمد مدّ. وللهذهذ وللترخيم ترخيم. وللترسل ترسل. وإن يبلغ التشديد على الذال إذا كانت الرواية بلغتنا هذه الشريفة. وأن يكون في العينين مغازلة. وفي اللعم فيضان. وفي اللسان بله. وفي اليدين تلقح. وبما تقرّر علمت من أن هذه الخلة المذكورة الموجودة في نساء الإنكليز إخلال بشرط اللذة. ويمكن أن يقال أن لذة التصور عندهن قوية جداً بحيث تقوم مقام لذتين. أو أنهن يضعن رؤوسهن في خابية ونحوها. وعن الفارياق أن الجمال في النساء على اختلاف أنواعه له نطق ونداء ودعاء وإشارة ورمز. فمنه ما يقول لناظره لست أبالي بالمراود. ومنه ما يقول إلا اغتنمتم الآن الفرصة -للتأخير آفات- لن تراني من الكثير ملولا- لا يغرّنك الشفون - هيتَ لك- مَنْ لي به الساعة- ما أرى كفايتي عند أحد- أن دواء الشق أن تحوصه- أين أين المشبع- أين أبن الغز- أين أبن بني أذلغ- لديّ يذل الصعب- بعد جهدك لا تلام- لكل مجتهد نصيب- من أطعم أشبع- من ذاق عرف- من مس هرف - من سبق فقد ربح- العود أحمد- من عدّ عاد- من وصل وُصل. ومنه ما يشير أن أستعمل الحيلة - تلطف في الزيارة - كن من الجار على حذر - من تأني نال ما تمنى- بكر بكور الغراب وغير ذلك.

فضل النساء

فجمال نساء الإنكليز هو مما عنوانه أين أين الغز. أين أين المشبع. لدي يذل الصعب. فإنك ترى المرأة منهن تمشي وهي صفوح منزة سامدة مساندة شاردة معبدة شامرة نافرة جافلة جامزة آبزة نافزة ناقزة معتزة ساربة عاسجة طامحة جامحة شامخة خانفة مشمّة شافنة مُهْطعة مُرشقة منتالعة هابعة متعاطفة متطلقة مخرنطمة مستحنفرة مجلوّذة مجلوّظة مذلعبة مجرهدّة مرمئدة مثمعدّة مصمعدّة مسبئرّة مسبكرّة مسمهرة مشفترة مسجئرَّة مسجهرة متمهلة متمئلة مشمعلة مصمئلة مقلهفة مزلئمَّة. ومع أن القدرة الخالقية قد خصتهن بآلاء ألا يا سابغة ضافية على ما روت الرواة فإنهن يتخذن لها المرافد ويعظمنها بها تعظيماً يوقف المستوفر بحيث يقف كالجابه الحيران. فلا يتماسك عن أن تصطك ساقاه تعجباً وأعظاماً لهذا التعظيم. وأن تحترق أسنانه ويندلع لسانه. وتنضنض لهاته. وتلتوي عنقه. وتنتفخ أوداجه ويحمرّ حملاقه. ويغان على قلبه ويَطْنى. وتأخذه القشعريرة والرعدة والأفكل والهزة والاضطراب والرجفان والنغشان والغشيان والغميان والفشيان والنحواء والدوار والميدان واللبم والأختلاح والترنح والارتعاج والارتعاش والارتهاش والرغس والارتعاس والترأد والترجيد والأصيص والبصيص والكصيص والأرْض والعُسوم والنفيضي والقل والأرزيز والزَّمَع والزقزقة والشفشفة والصعفة والقرقفة والقفقفة. وتهيج به الأخلاط الأربعة فيطلب كل خلط عظامة. وتنهال عليه الخواطر والوساوس. وتتجاذبه عوامل الأماني. وتجرضه مجرضات النزة. وتطفره خوالج الشهوة. ويميل به مميل التشوق والتلهف على حد قول الشاعر: علمتك الباذل المعروف فانبعثت ... إليك بي واجفات الشوق والأمل فيبقى حائراً بائراً مبهوتاً مهفوتاً سادراً داهلاً مدهوشاً ذاهلاً. بحيث إذا رجع سالماً إلى منزله يحسب كل شاخص فيه عظامة أو ما عُظّم بها. وكان الفارياق إذا خرج وأبصر هذه الروابي الخصيبة عاد إلى مأواه وفي رأسه ألف معنى يشغله. فمما أنشده في بعض هذه الفتن. يا للعجاب وكل عُجْب ... فليقل يا للعجابِ ما أن يرى في ذا المكان ... سوى المرافد من روابي كلا ولا من غوطة ... من دون ذياك الجناب كلا ولا قرموطة ... تشرى سوى كعب الكعاب من كل ذات تبهكن ... تدعو الحصور إلى الدعاب الشوق يقدم بي وخوف ... العجز من غَلَم ناي بي ماذا يقول الناس عّمن ... خار عن مَلْء الوطاب أم كيف تضعف معدة ... عربي عن قحف العقاب من لي بصُنبور فأترعه ... بمنزفة الحباب من لي بقبَّة مرفد ... في ليلتي من ذي القباب من لي يحت ألية ... من ذي الالايا في مآبي هذا لعمرك شأن ذي ... قطم وهذا الداب دابي فضل النساء وكما إن نساء تلك البلاد اختصصن بهذه المزية كذلك اختصت رجالها بألطافهم الغريب بعد معرفتهم له. فأما قبل المعرفة فإنه إذا حيّى أحداً منهم فما يكون جوابه إلا الشزر والشصر. ولهذا لما سمع أحد طلاّب العربية منهم بوجود الفارياق وكان قد قُري عليه حسبه ونشبه أتى ليزوره. وطلب منه أن يذهب معه إلى منزله فيقيم عنده مكرماً معززاً وكان مقامه بعيداً عن كامبردج. فأجابه الفارياق إلى ذلك لأن أهل المدينة على كثرة المدارس عندهم والمعالم هم اشدّ الناس نفوراً من الغريب. ولاسيما إذا كان مخالفاً لهم في الزّي. فكانوا يسخرون من قبعته الحمراء حتى كان كثيراً ما يقتبع في غرفته ولا يخرج منها إلا ليلاً. وقال في ذلك. رمتني النوى في كمبريج ملازماً ... لبيتي نهاراً أن تراني أوباش فتبعث بي حتى إذا الليل جنّني ... خرجت على أمْن كأني خفاش ولأن الكلاب أيضاً كانت تشم فروته وتلازمه. فقال فيها. ولي فروة تأتي الكلام تشمها ... ولم تندفع عنها إذا ما دفعتها تهرّ علي تمزيق جلدي وجلدها ... كأني من آبائها قد صنعتها ولأن أهل الدار التي نزل فيها كانوا يشاركونه في طعامه ولا يشركونه في لحمهم وشحمهم. فقال فيهم: ولي عيلة في كمبريج خفيّة ... تؤاكلني من حيث ليس عيان فعهدي باسم الآكلات فلانة ... وعهدي باسم الآكلين فلان ولأنه لم يقدر على أن يحرَّد إلى إحدى تلك القبب. فقال فيها:

وما نفع الوثير من الحثايا ... وليس عليه وثَرْ إذ تهش وما نفع الشعار بلا شعار ... وحسن الحفش إن لم يلف حفش وما نفع الحياة بغير حيّ ... فنعشك دونه ما عشت نعش فسارا في سكة الحديد وبلغا المنزل ليلاً وما كاد الفارياق يدخل حجرته التي أعدت له حتى رقشها بهذين البيتين: لله درب الحديد كم كفل ... ربا به والثديّ قد رجفت لو لم يكن غير تلك فائدة ... لنا به دون أتوه لكفت ثم لما قام في الغد رأى المنزل بعيداً عن الدار. فاستعاذ بالله واسترجع وأضبّ على ما نفسه. لأن الشكوى ليس لها هؤلاء القوم إذن واعية. حتى إنه لما شكا يوماً طول غيبته عن زوجته قال له صاحبه بعد أيام قد فرط منك بالأمس كلام فقلت إني مشتاق إلى امرأتي. وكان الأولى أن تقول إلى أولادي. فقال له الفارياق ما المانع من أن يذكر الرجل امرأته كما يذكر ولده. ولولا المرأة لم يكن الولد بل لولا المرأة لم يكن شيء في الدنيا لا دين ولا غيره. قال مه مه قد أفحشت. قال أرغن لما أقول. لولا بنت فرعون لم ينج موسى من الغرق. ولولا موسى لم تكن التوراة. ولولا المرأة لم يمكن ليوشع أن يدخل أرض الموعد ويستولي عليها. ولولا المرأة ما حظي إبراهيم عند ملك مصر ونال منه الصلات والهدايا فتمهد لليهود النزل إلى مصر من بعده. ولولا المرأة لم ينج داود من يد شاول حين أضمر قتله وإن كان ذلك قد تمّ بحيلة وضع صنم في فراشه. ولولا داود لم يكن الزبور. نعم ولولا المرأة أعني زوجة نابال ما تقوى داود على أعدائه ولولا حيلة بت شبع على داود لم يملك سليمان ابنه ولم يبن هيكل الله بأورشليم. ولولا المرأة لو يولد سيدنا عيسى ولم يذع خبر انبعاثه. ولولا المرأة لم يستتبّ مذهب الإنكليز كما هو اليوم. هذا وأن المصوّرين عندكم يصوّرون الملائكة بصورة النساء. والشعراء عندكم ما زالوا يتغزلون في المرأة ولولاها لم ينبغ شاعر. قال أن أراك إلا هائجاً على النساء وكان العرب كلهم على هذه الصفة. قال نعم أنا راموزهم وقطاطهم وكل من ينطق بالضاد يكلف بالضاد. فاطرق مليّا ثم قال لعلكم ارشد ممن عدل إلى اليم. فقد بلغني أن في بلادكم قوماً ميميّين يعدلون عن سواء السبيل إلى مضايق ذميمة وهو أقبح ما يكونوا أقبح من ذلك أن بعض المؤلفين من العرب قد ألفوا في ذلك كتباً وتمحّلوا لا يراد أدلة على تفضيل الحرفة الميمية. قال نعم ومن جملتها كتاب عثرت به في خزانة كتب كامبردج ورأيت مكتوباً عليه عنوانه بالإنكليزية كتاب في حقوق الزواج. فكأن شاريه لم يفهم مضمونه. ومن اسخف ما ورد من الأدلة على ذلك قول بعضهم: أنا لست اجزم باللواط ولا الزنا ... لكن أقول مقال من قد حررا إن اللذاذة كلها في أقذر ال ... جارين فأختر إن عرفت الأقذرا وسبب تأليف هذه الكتب من مثل هؤلاء العتاولة إِما للعّنينية فإن النساء يعرضن عمّن يبتلى بذلك. أو للبخل لأن النفقة على المرأة أكثر. أو لقصر اليد عن هصرهن أو لفساد آخر. أما سليم الطبع فلا يميل عن هذا المذهب أصلاً. ثم أن الفارياق لبث عند صاحبه مدة في خلالها آدب إلى مآدب فاخرة عند بعض الأعيان. ومن عادتهم في الولائم أن تقعد النساء على المائدة مكشوفات الأذرع والصدور بحيث يمكن للناظر أن يرى المفاهر واللبّان والبادلة والبَهْو. وإذا تطالل واشرأب وكان حسن الأهطاع رأى اللعَوْة أيضاً أي آية الحلم. وهي من جملة العادات التي تحمد من وجه وتذم من وجه آخر. حيث كان هذا الكشف مطّرداً للصبايا بل العجائز عند الإفرنج ولاسيما الإنكليز يكتشفن ويتفتّن ويتعيّلن أكثر الصبايا. ثم قلت الدعوات وكثر قلق الفارياق لأن من نظر إلى سحنته مرة لم يرد أن ينظر إليها مرة أخرى. فرأى الرجوع إلى كامبردج أوفق. فسافر إليها فوجد القبب قد رَبَت نحو ثلاثة قراريط. وذلك إِما لبعد عهده بها أو لكون زيادة قرصة البرد أوجبت ذلك.

وصف لندن أولندرة عن الفارياق

وهنا ينبغي ذكر فائدة وهي أن كامبردج واكسفورد لما كانتا مشهورتين بمدارس العلم كما ذكرنا آنفاً وكان جلّ الطلبة فيهما من الأغنياء وفي كل منهما نحو ألفي طالب. كانت البنات الحسان من قرى الفلاحين المجاورة ينتبن سوق هاتين المدينتين لترويج ما عندهن من الصبى والجمال. فترى فيهما من الجمال الرائع والحسن الباهر مالا تراه في سائر المدن. غير أنه لكل ساقطة لاقطة. فلهذا كانت مشايخنا الطلبة ينظرون إلى من زاد به عدد أهل البلد نظر الهرّة التي يؤخذ منها جراؤها. فمن ثم ترحّل الفارياق عن هؤلاء السنانير وهرّاتهم لا سيما وقد ورد في الأمثال إذا دخلت أرض الحُصيب فهرول وأقام في لندن نحو شهر. وصف لندن أولندرة عن الفارياق هاهي ذات التيه والدلال. الخاطرة على الفحول من الرجال. تنظر إليهم شزرا. وتجر أذيالها وشالها جرا. كما قلت من قصيدة قامت تجر من الدلال ذيولا ... جرّا أضاف إلى العميد نحولا وهي لا ترى لها من بينهم كفؤا. وتهلس منهم سخرية وهزؤا ألا فاذكري إن بينهم الأقوى الأقدر. الأسرى الأيسر. الأسرع الأعسر. الأقرش الأقشر. الأصرع الأعصر. الأسرد الأدسر. الأرشف الأشفر. الأبرز الأزبر. الذي إذا ضمّ زفرّ. وإذا شمّ نخر. وإذا هيج زأر. أو غمز بدر. وإذا رأى طبلا زمّر. أو ذات تدهكر دهشر. اذكري أن بينهم عربياً ذا غرام. وهيام وأوام. ومغازلة وبغام. ومداعبة وكعام. وتمشير وانكماش. واندساس في الأعشاش علام نتملقك وأنت معرضة كبرا. ونعدك فتتخذين كلامنا هترا. ألم تعلمي أنا إليك متودّدون. وعلى مثلك متعوّدون. كم من صعب رُضناه. ومتحكم أرضيناه. وأبي أملناه. وقرم أشبعناه. وجامح استوقفناه وشاك أشكيناه. وعاتب أعتبناه. وكم من متعنّتة آبت وهي شاكرة. ثم انثنت زائرة. ألا لا يغوينّك الشطاط إلى الشطط. والعَيَن إلى الشحط. والعيط إلى اللغط. وصهوبة الشعر. إلى إنكار القدر. وتفليج الثنايا إلى ألت المزايا. وتورد الخدين. إلى احتقار اللجين. وتفليك الكعب. إلى التيه والعجب. وبضاضة البشرة. إلى النهم والشره. وفعومة الساعدين. إلى عنجرة الشفتين. وجدل الساقين. إلى الاستنكاف من مض لناقد عين. وعميد غين. يكفتهما ويتطوق بهما أو يعتم بهما على زَنبهما. وينزه زغبهما عن الحلت والنتف. والحصّ والحفّ. وعن مسّ السقف. ألا ولا يضلنّك الجاهض من وراء الازدراء. ولا النافج من أمام إلى منع التحية والسلام. أن لدينا من المزر والفقاع. ما يروي كل مقاع. ويسكر كل ذات قناع. ومن الشوا، ما يزيل الخوا. ومن الدينار، ما ينفث في عقد الإزار. فيحلها حلاّ. ويبلّها بلاّ. فمن البل بلل. ومن الحل حلل. فبحق من أولاك هذه المحاسن. فتنة كل سامع ومعاين. إلا ما أحسنت في عشاقك الظنّ. وأقللت لهم من هذا التزليق والفتن. فكلهم إلى وصالك حنّ ومن وصلفك أنّ. وبعدُ. فإن هي إلا مرّة. فإن أحمدت اللقاء فاجعليها عادة وأنت على كل حال حرّة. وإلا فما أكثر طرق هذه المدينة وما أطولها. وما أوفر القادمين إليها. وما أوسع حوانيتها وساحاتها. وندحاتها وباحاتها: وحدائقها وغياضها. ومماشيها ورياضها. وما أبهج ملاهيها وملاعبها. وأجرى عجلاتها ومراكبها. وما ارحب كنائسها وما احفل مجالسها. وما اعمر مساكنه. وامخر سفائنها. فاجر فيها حيث يعجبك من هنا ومن هنا. كل امرئ يسعى ليدرك الهنا. محاورة وبعد أن فرغ الفارياق من عمله في هذه المدينة الغاصة بالغواني سافر إلى باريس فأقام فيها ثلاثة أيام لا تكفي لمعرفة وصفها. فلهذا نضرب هنا عن ذكره فإن حق الوصف أن يكون مستوعباً. ثم سافر منها إلى مرسيلية ومنها إلى الجزيرة. وأتاح له الله بفضله العميم أن رأى زوجته في نفس الدار التي غادرها فيها. وقد كان يظن إنها طارت مع عنقاء مغرب أو مع الغنجول وبنى بها هذه المرة السادسة. فإن المرة الثانية كانت بعد قدومه من الشام والثالثة بعد رجوعه من تونس والرابعة بعد خروجه من المعتزل مع سامي باشا المفخم والخامسة بعد رجوعها من مصر. ثم أنشد: من يُرد في زوجه ... ينكح أزواجاً عديدة فليغب عنها زمانا ... يلقها عرسا جديدة

فقالت لكن المرأة لا ترى من زوجها بعد إيابه عرساً جديدة. قال فقلت إنما هو من مخالفتهن الرجال في كل شيء قالت نعم ولولا هذا الخلاف ما حصل الوفاق. قلت كيف يكون عن الخلاف وفاق؟ قالت كما أن المرأة خُلقت مخالفة للرجل في الخلق كذلك كان خلافها له في الخلق. وكل من هذين الخلافين باعث له على شدة الكلف بها والحرص عليها. إلا ترى أن المرأة إذا كانت تفعل كل ما يريد زوجها أن تفعله كانت كالآلة بين يديه فلا يكترث بها ولا يقبل عليها إنها موقوفة على حركة يده أو عينه أو لسانه زيادة على حركة يده في الآلة. بخلاف ما إذا عرف منها المخالفة والاستبداد بأمرها فإنه حٍ بها ويداريها. قلت هذا غير ما عهد عند الناس. قالت بل هو معهود عند النساء من القديم. ولذلك تراهن جميعهن متحليات بهذه الحلية. قلت ولكن إذا كثر الخلاف وطال أورث التقاطع والملال. قالت أن عيني المرأة لا تبرحان ناظرتين أو حقهما أن تكونا ناظرتين إلى موضعي القطع والوصل. وإلا استطال أحدهما على الآخر فوقع ما قلت. قلت بل في دوام الوصل دوام الوفاق. قالت لا بل هو باعث على السآمة والضجر. فإن الإنسان مطبوع على ذلك. قلت أي سآمة من وصل الحبيب. قالت السآمة غالبة على الإنسان في كل شيء بحيث يود تبديل حالته الحسنى بحالة سوأى. قلت أو قد سئمت من حالتك هذه. قالت ثم حلت عن السأمة قلت ما بال الناس كلهم يقولون يا قرة العين. قالت نعم إن العين تقرّ بشيء ريثما يعنّ لها آخر فتطرف إليه. قلت وما شأن القلب قالت هو متقلب ومتحيز معها. قلت فما شأن العميان. قالت أن لهم في بصائرهم عيوناً اشد حملقة من العين الباصرة. قلت من أسرع الناس تقلب قلب. قالت أكثرهم فكرا فإن العجماوات اثبت واصبر من الناس إذ ليس لها فكر. قلت فإذاً ينشأ عن النفع ضر. قالت نعم كما إنه ينشأ عن الضر نفع: قلت أي نفع في المرض. قالت سكون العقل والدم والفكر عن الهوى والشهوات. قلت أي نفع في الفقر. قالت الكف عن الشراهة والسرف المهلكين. فإن الذين يموتون من زيادة الأكل والشرب أكثر من الذين يموتون لقلتهما. قلت أي نفع في الزواج بامرأة دميمة. قالت كف رجل جارك عن دارك وصرف عين أميرك عن مراقبة حالك. على أنها لا تعدم طالباً مثلها ولكن بعض الشر أهون من بعض. قلت أي نفع في دمامة الأولاد قالت إذا علموا ذلك من أنفسهم رغبوا عن اللهو إلى العلم واقبلوا على تحسين خُلقهم ليشفع في خلقهم. قلت وأي نفع من مشيب أعلى الإنسان قبل أسفله مع أن شعر الأسفل ينبت قبل شعر الأعلى. قالت أشعاره بأن الحيوانية المطلقة أقوى فيه من الحيوانية المقيدة. ولذلك كان أول ما يشيب فيه رأسه الذي هو محل الناطقية. وأقوى ما يحسّ منه باللذة أسفله. قلت وما نتيجة ذلك قالت إقلاله من الفكر. قلت وما الفائدة في كونه يعوز إلى أوقية من اللحم يملأ بها وجهه فيجد رطلاً في عجزه. قالت هو من النوع الأول. قلت كأنك تقولين أن الرجل لم يخلق إلا لأجل المرأة. قالت نعم كما أن المرأة لم تخلق إلا للرجل. قلت أي نفع في تحتّت الأسنان. قالت الأكل على هينة فيمرؤ الطعام. قلت أي نفع في تعميش العينين. قالت عدم رؤية الحسان ليلاً فإنهن أروع فيه وافتن. قلت وأي نفع في العرج. قالت الراحة من الجري وراء القرصافة الزقزاقة. قلت أي نفع في السدة. قالت الذهول عن العقبة. قلت وفي الصمم. قالت عن الرمم. قلت وفي الجهل. قالت توفر الصحة للبدن والراحة للبال. فإن الجاهل لا يفكر في الأمور الدقيقة المتعبة. فإذا نام أهنأه النوم وإذا طعم شيئاً امرأة. لأكدابك في الهنيمة أناء الليل وأطراف النهار فما اسمع منك إلا تعديد قوافي. وذكر نؤيٍ وأثافي. ودوارس عوافي. وظغائن خوافي. وإذا جلست للطعام أتيت بالكتاب معك فجعلت الصفحة تلو الصفحة. فتأكل لقمة. وتقرأ فقرة. وتكرع من الشراب كرعة وتتلو أُسطورة. ولذلك- قلت قد فهمت من هذا الاكتفاء عدم الاكتفاء. ولكن كثرة القراءة ينشأ عنها كثرة التصور الباعثة على كثرة التشوق. قالت ولكن كثرة التشوق ينشأ عنها الترويلية أو الزمالقية والمقصود الجحادية اللحكية. وقد طالما أحوج وجود الأولى إلى البحث عن وجود الثانية. ولكن دعنا من هذه الملاحك والمغامس.

كيف وجدت مدينة لندن. قلت رأيت فيها النساء اكثر من الرجال وأجمل. قالت لو ذهبت إليها امرأة لرأت بعكس ذلك فإن نساء الإنكليز في هذه الجزيرة لسن حساناً والحسن كله في الرجال. قلت هؤلاء نخبة البلاد انتقتهم الدولة حساناً ليخيفوا العدو في الحرب. قالت بل الأمر بالعكس فإن الجميل لا يخيف وأن يكن عدواً وإنما القبيح هو الذي يخيف. ألا ترى انهم يقولون رجل باسل ومتبسل أي شجاع وهو في الأصل الكريه المنظر. قلت وقد قالوا أيضاً راعه بمعنى أعجبه وأخافه. قالت المعنى واحد فإنه مأخوذ من الروع أي القلب فرؤية الجميل تصيب القلب بل وسائر الجوارح. ثم قالت وكيف رأيت دكاكينها وأسواقها. قلت أما الدكاكين فملآنه من الخز والحرير والتحف البديعة. قالت هل من هو فيها. قلت فيها نساء بيض حسان. قالت أنا أسألك عن شيء وأنت تخبرني عن غيره. قد عرفت أنك زائغ البصر فلن أسألك بعد عن الناس وما اسأل إلاّ عيني. هذه خصلة فيكم معاشر الرجال إنكم لا ترون في جنسكم حسناً. قلت هي مثل خصلتكن معاشر النساء في إنكن لا ترين في جنسكن جمالا. قد تكافأنا. قالت كيف تكافأنا وبيننا خلاء. قلت كل آت قريب. قالت وكل قريب آت. قلت لا أرضى بهذه الكلية بل قولي بعض القريب. قالت إذا ساغ البعض لم يغصّ بالكل. ثم قالت اخبرني عن الأسواق فقلت طويلة عريضة واسعة نظيفة كثيرة الأنوار بحيث لا يمكن للرجل أن ينفرد بامرأة أصلاً. حتى كان الضباب ينجلي بها في الليل أيضاً قالت هو من بعض المنافع الضارة. ألا ليت لي جداً فانظر مرة محاسن هذا المصر من قبل أن أقضي. قلت لا تقنطي فإني أرجو أن نسافر إليها جميعاً بعد مدة. قالت حقق الله لنا هذه الأمنية. فلما أمسى المساء وبات كل منهما ثملا بذكر لندن على ما مال إليه خاطره قامت في الغداة تقول قد رأيت لندن في المنام وإذا برجالها اكثر من نسائها. وطرقها واسعة كما قلت كثيرة الأنوار. ولكن يمكن للرجل فيها أن ينفرد بامرأة وكأنك إنما تقولت هذا لكيل أسيء فيك الظن. ولكن ما كنت لأصدقك من بعد أن تحققت إنك غير أمين في الرواية الأولى ثم بعد محاورة طويلة باتا تلك الليلة على اسم لندن. فأصبحت تقول: قد حلمت إني اشتريت من أحسن دكاكينها ثوب ديباج أحمر أحمر أحمر. قال إنك لا تزالين لاهجة بهذا اللون وأهل لندن لا يحبونه لا في الحرير ولا في الآدميين. قالت ما سبب ذلك؟ قلت لأن الحمرة في الناس تكون عن كثرة الدم وكثرة الدم مظنة بكثرة الأكل والشرب. وهي دليل على الرغب والنهم. وإنما يحبون اليلق الأمهق. وكذلك العرب يحبون هذا اللون فقد قال أعظم شعرائهم: كبكر المقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الحيّ غير محلّل فقالت إن كان هذا الاستكراه من طرف الرجال فهو لخشية عزة النساء عليهم باللون الأحمر الدال على القوة والنشاط والاشر والبتع والكرع. فيوهمهم ذلك عجزهم عن كفايتهن. وإن يكن من النساء وقد نطقن به فما هو إلا مواربة ومغالطة. فإن الإنسان بالطبع يحب اللون الأحمر كما يشاهد ذلك في الأطفال. وناهيك أن الدم الذي هو عنصر الحياة أحمر. قال فقلت ولكن خلاصة الدم وصفوته هو في ذلك اللون الذي يرغب فيه أهل لندن. قالت فهذا هو السبب إذاً. الآن قد حصحص الحق وبأن. أما أنا فعلى مذهبي لن احول عنه. وللناس فيما يعشقون مذاهب. فقلت بودي لو كنت أحمر أحمر أحمر حتى تحبيني وإن كنت أحمق أحمق أحمق. قالت وما انتفاعك بالمحبة إذا كنت أحمق. وإنما يعود النفع لي في تركك إياي مع الأحمر.

الطباق والتنظير

قلت أتزعمين أن العلم يمنع المرأة عن إجراء ما تضمره وإن الحمق يمكنها منه. قالت لا والله بل ربما كان في الحمق لها اكثر. فإن الأحمق يلازم امرأته ويظل محملقاً فيها والعالم يحملق في كراريسه وكيفما كان فلم ار اسفه ممن يحرّج على امرأته ويلازمها. فإن الرجل كلما اعنت المرأة ونكنك عليها بالملازمة والكنكنة زادت هي في تماديها فلا يردها شيء عما أرادته سوى حشمتها وحيائها. وأكثر الرجال حمقاً وسخافة من إذا أوجس من زوجته الميل إلى شخص قال لها تزهيداً فيه. أن فلاناً متهتك مستهتر فاحش لا يبالي بما يقول ويفعل. فإذا حضر مجلس ذوي الأدب فأول ما يفوه به قوله قد راودت فلانة وخلبتها وفتنتها. وقد عشقتني وعشقتها. كأنه أي الزوج يحذرها من الاسترسال إلى هواه مخافة أن تنفضح بين الناس أو أن يقول لها أن فلاناً ورع تقيّ يتقي مغازلة النساء اتقاء الأفاعي كأنه يقول لها أنك إن تعرضت له فيالهوى جبهك وندهك وفضحك. فقد تقرر في عقول الرجال أن كل أمر من أمور الدنيا والآخرة يشين عرض المرأة ويهتك حجابها. مع أنه لا شيء يدغدغها مثل سماعها عن رجل أنه مسرف مشط في حال من الأحوال بحيث لا يلحقها منه أذى: فهي والحالة هذه تزيد حرصاً على فتنته لتصرفه عن تلك الحال إليها فيرجع إسرافه في محبتها. قال فقلت نعم أن كيد النساء كان عظيماً. الطباق والتنظير الإنسان كما قالت الفارياقية مجبول على السآمة والملل. ومتى ظفر بالغرض استحوذ عليه الغرض. وما دام الرجل المتزوج جلس بيته ويسمع من زوجته هات واشتر وجدّد واصلح ودَّ لو أنه يكون عزباً ولو راهباً في صومعة فإذا تغرَّب عنها ورأى الرجال يمشون مع النساء سواء كن حليلات أو خليلات أنف من الصومعة. وهاج به الشوق إلى أن يكون له امرأة يماشيها مثل أولئك وإن كان مشيهم وقتئذ للتحاكم والتخاصم لدى جناب القاضي. فينبغي للزوج الملازم لكنه والحالة هذه أن لا يزال متصوراً إنه غريب في أرض بعيدة عند أناس يخدعونه ويغبنونه ويهيجونه بمرافدهم أو إن زوجته قد سافرت عنه إلى أناس يعاقرونها المدام ويرقدونها على فرش من ريش النعام. ويغازلونها فتغزلهم. ويباعلونها فتبعلهم. فإذا فعل ذلك هانت عليه نغمات هات واشتر وهذا جدول عن الفارياق بيّن فيه الأحوال التي يقول فيه المتزوج: يا ليت ما عندي امرأة إذا تزبرقت وتزبرجت وتزلقت وتبرجت وتعطرت وتبغنجت وقالت له قم بنا إلى المثابة والمحافل والمحاشد والملاهي والمراقص. إذا خرج معها وقد نفّجت صدرها وأحكمت مرفدها ثم طفقت تتبازى وتوكوك وتميس وتزوزك وتميل عنقها ورأسها. إذا مشى معها فرأت نقطة ماء في الطريق فشمّرت عن ساقيها لتبدو حماتاهما. إذا سار معها في يوم ذي ريح وعمدت إلى كشف الثوب عن صدرها وعجزها. إذا جعلت دأبها أن توقع منديلها أو تربط شراك نعليها ثم تكبّ فتبدي عجيزتها. إذا جعلت شيئاً في فمها تلوكه وهي ماشية توهم من يعجبها من الفتيان إنها تشير بقبلة أو غمزت أحداً ورمزت ولمزت. إذا صادفت رجلاً من معارفها في الطريق فطفقت تعاتبه على طول غيابه عنها ثم أمسكت بيده وغمزتها غمزاً شديداً. إذا لقيت امرأة في الطريق عليها ديباج نفيس فجعلت تسألها عن سعره وعمن يبيعه. إذا صادف أحداً في الطريق فأشارت إليه أن اتبعنا فأخذ يمشي عن يمينها فحولت وجهها عن زوجها وجعلت جلّ الكلام مع الزبون. إذا رجعا إلى البيت وصرّحت له أو عرضت بشراء الديباج ولم يكن عنده دراهم تكفي. إذا قالت له وهما على المائدة لتغصصه ما أجمل فلاناً الذي ماشانا وما ألطفه وأبرّه وأطرّه وأحرّه وأدرّه. إذا بات تلك الليلة وهو تعب موجع الرأس حتى إذا أغفى قليلاً أحسّ بحركة منها في جنبه فقضى دينه متكارها. إذا سكن منزلاً وكان جاره الأدنى منه فتى جميلاً فجعل يتردد عليه بعلة الجاريَّة. إذا مرض ولزم فراشه وهو يشكو ويئن فلزمت هي الشباك وهي تمكو وتحن. إذا جاء وقت الصيف ففتر وفدر وجفر وحَصِر واسترخت عروقه فأثر أن يبيت وحده. إذا عنّ له سفر لا بد منه ولم يمكن له مصاحبة زوجته. إذا غاب رجل عن زوجته أو غابت هي عنه فجعلت تكتب له ما تغيره به وتكيده وتقهره. إذا قرأ في الكتب أن النساء كلهن خائنات وإن عقولهن في فروجهن.

إذا ركبه الضفف فلم يقدر على كفاية عائلته ولم تكن امرأته جميلة لتنفعه. إذا جاء من محترفه وقابلته امرأته بالصخب والمشارزة والنقار والضجيج والجؤار. إذا غاب عن بيته ورجع فوجد فراشه مشوّشاً وشعر امرأته مشعّثاً بعد أن كانت أصلحتهما قبل خروجه. إذا رآها تسارّ الخادم أو الخادمة وتأنس بهما وتتساهل معهما. وتحسن إليهما. إذا رآها تتوقف في المشي كلّما مرّ بها جميل بدعوى ضيق نعليها أو غيره. إذا اضطجعت حتى ينظرها من هو أعلى منها أو أسفل وأشوق ما تكون المرأة ما إذا اضطجعت على جنبها. إذا كانت ذات هوى وضلع مع جيل بخصوصه ولا تزال تلهج بذكره. إذا غاب عن بيته ثم رجع فلم يجد امرأته وإذا قرع الباب ولم تفتح له في الحال. إذا سمعت آلات الطرب فغدت تترنج وتترقص وتقول آه أوه أيه. إذا كانت تسهب مع الفتيان في الكلام وتضحك معهم حتى تقول طيخ طيخ وعيناها إذ ذاك مغازلتان ووجنتاها محمرّتان. إذا كتبت على قميصها حروفاً أنكرها أو رأى في شفتيها أثر العض والكعام. إذا سمعها تذكر أسماء رجال في المنام أو إذا تحالمت فذكرت ما كان يعجبه ويرضيه. إذا رآها تكره ولده وتلهى عنه وعن أمور البيت بزينتها وتبرجها. إذا قعدت بالشباك لتخيط شيئاً فجعلت تدرز درزة وتنظر منه نظرة حتى جاء عملها فاسداً فاضطرت إلى فتنة وإصلاحه. إذا وضعت القدر على النار لتطبخ شيئاً ثم شرعت في الغناء حتى تهوست فنسيت القدر والطبيخ فتشيّط. إذا تمنت أن تكون في المواضع التي يكثر فيها تردد الرجال كفندق وخان ونحوهما. إذا كانت تصرّح أو تعرّض لزوجها بأنها تحب السمان الطوال من الرجال مثلاً وهو ليس منهم. إذا كانت تعيب على زوجها أنه غير متصف بالمِلثية ولا بالقُمُدية. نظرات وظفرات فجاء عملها محكماً من أول وهلة. إذا وافى منزله وقت الغداء أو العشاء ساغباً لاغباً فلم يجد شيئاً يأكله لأن زوجته لهيت عن الغداء بتصليح ثيابها زيّها وعن العشاء بلبسها وجلوسها بالشباك لتنظر وينظرها المارون. وما أشبه ذلك. ويا ليت عندي امرأة إذا سار وحده إلى المثابة والمحافل والمحاشد والملاهي والمراقص ورأى النساء فيها متزبرقات متزبرجات الخ. إذا سار وحده ورأى من قد نفجت صدرها وأحكمت مرفدها ثم غدت تتبازى وتوكوك الخ. إذا مشى وحده فرأى من شمرت عن ساقها عند رؤيتها نقطة ماء في الطريق الخ. إذا سار وحده في يوم ذي ريح وأبصر من عمدت إلى كشف الثوب عن صدرها. إذا سار وحده فرأى من تكب لتربط شراك نعليها أو تلتقط منديلها فتبدي عجيزتها. إذا أبصر من تلوك شيئاً وهي ماشية وحسب ذلك إشارة إليه بقبلة ثم غدت تغمز وترمز وتلمز وتابز وتنفز وتنقز. إذا رأى امرأة تعاتب رجلاً على طول غيابه عنها ثم أخذت يده وغمزتها غمزاً شديداً حتى أحمر الغامز وأصفر المغموز أو بالعكس إذا لقي امرأتين تمس أحدهما الأخرى وتلك الملموسة تشير بيدها اللطيفة إلى مكان. إذا وجد رجل بين امرأتين أو امرأة بين رجلين ففي الحالة الأولى طلباً للمرازمة وفي الثانية ثقة بالكفاية لأن طعام اثنين يشبع ثلاثة. إذا رجع إلى البيت ورأى أن عنده مالاً وليس من تلبس الديباج وتجلس إلى جانبه. إذا جلس للطعام وحده وجعل يفكر ويقول في نفسه ما أجمل فلانة التي رأيتها تمشي مع فلان وما ألطفها وأترّها وأطرّها وأدرّها. إذا بات تلك الليلة وهو مستريح ناشط ثم أحسّ بحركة منه فمد يده فجأة على الحائط أو على مسمار أو وتد فدميت. إذا سكن منزلاً وكانت جارته فتاة جميلة ولم يمكن له أن يمت إليها بوسيلة الجاريَّة. إذا رأى جاره مريضاً في الفراش يشكو ويئن وزوجته بجنبه تحنّ وتهنّ. إذا جاء وقت الشتاء واستد وامتد واختد ونبضت عروقه فآثر أن يبيت مع من تنفخ في وجهه. إذا رأى جاره قد سافر وترك زوجته خبعة طلعة راغية ثاغية. إذا غاب رجل عن زوجته أو غابت هي عنه فجعلت تكتب له ما تصبره به وتسليه وتمنيه. إذا سمع عن امرأة أنها لم تخن زوجها وأنها ردت في حبه هدايا عشاق كثيرين. إذا رأى امرأة جميلة تماشي ولدا لها صغيراً بزيعاً فيقع في الأرض فتنهضه بيدها فيبكي قليلاً حتى يحمر خداه.

سفر معجل وهينوم عقمي رهبل

إذا رأى جاره قد آب من محترفه فسمع له ولزوجته رَتَلا وزَجَلا وهَمْساً ورِكزاً ومباغمة ثم رفَشاً. إذا رجع إلى البيت فائزاً بوطر ووجد فرشه موضوناً وليس من تملاه شحماً ولحماً ثم رأى في جملة ذخائره خصلة شعر. إذا رأى امرأة لا تسارّ الخادم ولا الخادمة ولا تبتسم لهما ولا تخلو بأحد منهما. إذا رأى امرأة تماشي زوجها وطرفها إليه ولا يزعجها من يمرّ بها كائناً ما كان. إذا رأى امرأة قد اضطرت إلى الاضطجاع وأبت ذلك حياء وحشمة سواء كان ذلك في حضور زوجها أو في غيابه. إذا كانت المرأة غير ذات ميل وحذل مع أحد وعندها أن زوجها يغنيها عن غيره. إذا رأى جاره كلما رجع إلى منزله وجد امرأته مقبلة على الشغل ولا يكاد يطرق الباب إلا يُفتح له. إذا سمع امرأة تقول وقد سمعت آلات الطرب أن صوت ابنها الصغير أشجى منها. إذا رأى امرأة تكلم الحاضرين كلاّ بحسب مقامه ولا يسمع منها طيخ طيخ ولا يبدو في سحنتها احمرار ولا اصفرار. إذا سمع إن امرأة تكتب على قميصها اسم زوجها ولم يُرَ في شفتيها أو خدّيها أثر ما قط. إذا بلغه أن جاره يكاعم امرأته ويشاعرها فلا تحلم له ولا يحلم لها. إذا رأى امرأة تحب ولدها وتحمله ولا تلهى عنه ولا عن بيتها. إذا رأى امرأة تخيط لزوجها أو لولدها شيئاً من غير أن تتخلل الدرزات إذا رأى امرأة تضع القدر على النار ولا تلهى عنها فيأتي الطعام. قديا مشهّياً معيناً على ألباه والرقاد. إذا كانت تبتعد عن المثابة ولا تشتهي أن تدخل في زحام ليقرصها واحد ويغمزها آخر. إذا كانت المرأة تقول زوجها أو غيره بأنها لا تحب الطوال من الرجال حاله كون زوجها قصيراً. إذا كانت إمرأة مفسّلة تعفّفاً وشكت من ملثية زوجها وقمديّته. إذا وافى منزله وقت الغداء أو العشاء فوجد على مائدته كل ما تشتهيه النفس فأكل وشرب وطابت نفسه ثم رأى من شباكه جارته تلبس ثيابها وتنظر إلى ورائها لتعلم هل الثوب والعجيزة هما كشنّ وطبقة أو لا. وما أشبه ذلك. سفر معجل وهينوم عقمي رهبل وظل الفارياق معالجا للبخر وقد ضاق ذرعاً. إذ لم يحصل من علاجهم فائدة فأصبح يحاول التملص من هذه الحرفة ولا سيما إنه كان مطبوعا على الملل والجزع. واتفق في غضون ذلك أن سافر إلى فرنسا المولى المعظم أحمد باشا باي والي إيالة تونس المفخم. وفرق على فقراء مرسيلية وباريس وغيرهما أموالاً جزيلة شاع ذكرها ثم رجع إلى مقامه. فرأى الفارياق أن يهنئه بقصيدة فنظم القصيدة. وبعث بها على يد من بلغها لجنابه. فلم يشعر بعد أيام إلا وربان السفينة حربية يطرق بابه. فلما دخل واستقر به المجلس قال الفارياق قد بلغت قصيدتك لجناب سيدنا الأكرم. وقد أمرني أن أحملك إليه في البارجة. فلما سمع ذلك استبشر بالفرج من حرفته وقال لعمري ما كنت احسب إن الدهر ترك للشعر سوقاً ينفق فيه. ولكن إذا أراد الله بعبد خيراً لم يعقه عنه الشعر ولا غيره. ألا فاهزقي يافارياقية المهزاق. واسلقي فما يضرني اليوم اسلاق. ونفجي ما استطعت أن تنفجي. وضرجي وضمجي ودبجي. هذا يوم يعبق فيه المكتغن. ويبشق فيه من وهن. ويشمق منه ذو الددن. ويفاز بالغدن. هذا يوم تستحسن فيه الربوخ. ويلقح فيه من ملوخ. وتتئم الجلهوب والسلقلق. وتنجب الشريم ثم العفلق. هلمي فاتخذي مذ اليوم ظيرا. فإني أرى في الزند أيرا. فقال الربان وقد استعجم عليه الكلام ما هذه اللغة التي يتكلمون بها لعمر الله ما فهمت شيئاً مما قلتم، أهذا اللسان تحمل في رأسك إلى تونس. وبهذه الألفاظ تخاطب سيدنا وأهل الفضل من رجال دولته. قال لا وإنما هذه لغة اصطلحنا عليها فلا نستعملها إلا نادراً. فقال الرّبان ينبغي أن تتأهب إلى السفر ولك أن تستصحب أيضاً عائلتك إذا شئت. فإن سيدنا أكرم لا يسوءه ذلك. فتأهب الفارياق هو وعائلته وركبوا في السفينة وبعد مسير أثني عشر يوماً والريح مخالفة كما جرت العادة بذلك بلغوا حلق الواد. فأمر المولى المشار إليه بنزولهم في أمير البحر.

وهنا ينبغي أن نلاحظ مزية الكرم التي خص الله تعالى بها جيل العرب دون سائر الأجيال. وذلك أن استدعاء الولي إليه لم يكن لجميع من دبّ ودرج بمنزل الفارياق بل كان خاصاً به وحده إلا أنه بلغ مسامعه الكريمة قدوم مادحه بأهله لم يستأ من ذلك ولم يقل ما أقل أدب هذا المدعو وما أصفق وجهه لقدومه علينا مزوياً. ولم يقل لربانه قد خالفت القوانين السياسية والأوامر الملوكية فلننزعن عن كتفيك هدّاب منصبك حتى تكون عبرة لمن أعتبر. بل يقي الربان متشرقاً بهدّابه. والفارياق متمتعاً بأهدابه. وبوّئ أكرم مبوّأ في داره أمير البحر وأجرى عليه الرزق الكريم. والخير العميم. ولو أن أحد أعيان الإفرنج دعا شخصاً وأتاه ذلك الشخص ومعه غير نفسه لجبهه عند اللقاء بل لم يكن ليلقاه قط. لا بل نساؤهنّ لما كان يدعون الفارياق كن يقلن لها أنك أنت المدعوة فقط إشارة إلى عدم إزوائها بخادمتها وطفلها. وليت شعري أين من تكرم من ملوكهم بإرسال بارحة لاستحضار شاعر ولغمره إياه بالمال والهدايا النفيسة. فلعمري أن مادح ملوكهم لا جائزة له من عندهم غير تسفيهه وتفنيده. مع أنهم أشد الخلق حرصاً على أن يشكرهم الناس ويمدحوهم. ولكنهم يأنفون من أن يمدحهم شاعر يريد نوالهم فلمن هذا المال الذي يدّخرونه. ولأية داهية من الدواهي يعتدونه. وهم الطاعمون الكاسون. الحاسون اللاسون. أم يخشون أن يلمّ بهم ضفف أو قشف. أم يحسبون أن صلة الشاعر من السرف. ولهذا أي لكون الكرم مزية خاصة بالعرب لم ينبغ في أمة من الأمم شعراء مفلقون كشعرائهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة. وذلك من زمن الجاهلية إلى إنقراض الخلفاء والدولة العربية. فإن اليونانيين يفتخرون بشاعر واحد وهو أواميروس Homere والرومانيين بفرجيل Virgilius والطاليانيين بطاسو Tasso والنمساويين بشلَر Schiller والفرنسيس براسين وموليير Racine et Moliere والإنكليز بشكسبير وملطون وبيرون Shakespeare Milton et Byron. فأما شعراء العرب المبرزون على جميع هؤلاء من أن يُعدّوا. بل ربما كان في عهد واحد في زمن الخلفاء مائتا شاعر كلهم بارع فائق. وذلك لأن اللهى كما قيل تفتح اللهى. على أنه لا مناسبة بين الشعر العربي وشعرهم. لأنهم لا يلتزمون فيه الرويّ والفاقية وليس عندهم قصيدة واحدة على قافية واحدة ولا محسنات بديعية مع كثرة الضرورات التي يحشون بها كلامهم. فنظمهم في الحقيقة أقل كلفة من نثرنا المسجّع. وما أحد من الشعراء الأفرنج إستحق أن يكون نديماً لملكه. فغاية ما يصلون إليه من السعادة والحظوة عند ملوكهم إنما هو أن يرخَّص لهم في إنشاد شعرهم في بعض الملاهي. فأي هوان يلحق جناب الملك المعظم من اتخاذه نديماً وكليماً. أم يقال أن شعراء الإفرنج كثيرون بحيث لا يمكن لملك أن يختار واحداً منهم على غيره. أروني أين هم هؤلاء الكثيرون على خزنته السعيدة. كم في بلاد الإنكليز الآن من ناثر. وكم في بلاد فرنسا من ناظم. وهنا ينبغي أيضاً أن أضف ملاحظة أخرى فأقول. أنه قلما ينبغ شاعر عربي أو عجمي ويعجب الناس جميعاً. فأن من الشعراء من يحب الكلام الجزل الفخم دون ابتكار المعنى. وبعضهم يعني بالمعاني دون الألفاظ. وبعضهم يتحرى اللفظ الرقيق والعبارات المنسجمة. وبعضهم الغزل وغير ذلك. ولا تكاد تجتمع هذه المزايا في شاعر واحد أو تجتمع عليها أخلاق الناس كلهم. فإن من كان من بني نظري ذبَّ الرياد شحما لحِما مُخضعا متصندلا زير النساء وخلبهن وشيْعهن ونِسأهن وحِدْثهن وطلحهن وطلبهن وخدنهن وعلهن ورنْوهن وحُرْ قوصهن فأقحا إياهن حيث سرن. وكارزا لهن أيان برزن، لاتهمه الحماسة ولا منازلة الأقران. فعنده أن قال أمرؤ القيس: إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم تحوّل أحسن من قول عنترة: فطعنته بالرمح ثم علوته ... بمهند صافي الحديدة مخِذم ومن يكن عرْوا أو حصوراً أو عتولاً مُقطَعاً أو متأبداً أو عنكشاً عثيلاً أو صيقماً صمكمكا كيْكآ ليس به حمضة إلى العبهرة العجنجرة والعياذ بالله من ذلك. صرف ذهنه إلى الزهديات والحكميات. انتهى.

الهيئة والأشكال

ثم الفارياق انتقل إلى المدينة وهناك تعرّف بجماعة من أهل الفضل والأدب. منهم من أدبه ومنهم كم أترفه وهناك حظي بتقبيل يد المولى المعظم ونال منه الصلات الوافرة. وسأله وزير الدولة هل تعرف اللغة الفرنساوية. قال لا يا سيدي ما عنيت بها. فإني ما كدت أتعلم لسان الإنكليز حتى نسيت من لغتي قدر ما تعلمته منه. فقد قُدّر على رأسي أن يسع قدراً معلوماً من العلم فمتى زاد من جهة نقص من أخرى. فلما أخبر زوجته بذلك قالت له ألم أقل لك غير مرة عَدّ عن الغزل بالنساء وتعلم هذه اللغة المفيدة وما كنت لترعوي عن هواك. ماذا تريد من الغزل وعندك زافنة. قال فقلت نعم ورافنة. ثم ماذا يفيدك وصف العين بالحوَر ولست منهن تقضي الدهر من وطر. أليس وراءك مني رقيب قريب. قلت بلى والله أني ما خلوت قط بامرأة في الحلم إلا ورأيتك وراءها. حتى كثيراً ما شاهدتك تمزقين ثوبها وتنتفين شعرها ثم تتبوئين مكانها وترسلينها فارغة. فقالت الحمد لله على أن ألقي رُعبي في قلبك في اليقظة والمنام. قلت قد بدأ لي أن أنتقل من التغزل بالنساء إلى هجوهن فعسى أن أنتقل بذلك إلى حال أحسن. قالت أفعل ما بدأ لك ولكن إياك من أن تدخلني في الجملة. ولكن قف قف لا تذكر النساء لا في النسيب ولا في الهجاء. فأنك أول ما تذكر اسمهن يدور رأسك وينبض فيك العرق القديم، كلاّ ثم كلا. قلت ولكن في مدح سيدنا الأمير قد ذكرت اسم امرأة. فقالت وقد اتقدت عيناها من الغيظ. مَن هذه الفاعلة الصانعة. قلت هو اسم عربي. قالت آه هو من ضلالك القديم. ولو كان اسماً عجمياً لقمت الآن واحترقت ديوانك هذا الذي هو عليّ أشد من الضرّة لأنك تصرف فيه نصف الليالي. فقلت لكن هذا النصف ليس بمانع من كله. قالت لكن ذاك الكل حق لي وضعفي مثله. قلت صدقت ما خُلق الليل إلا للنساء وما خلقن هن إلا لليل. قالت سلمتُ بالأولى ولا أسلم بالثانية. فإن النساء خلقن للنهار أيضاً. قلت نعم ولكل ساعة منه وليس للرجل همّ في الدنيا غير امرأته. قالت الأولى أن تقول اهتمام. قلت في كل اهتمام همّ. قالت هذا عند الرجال من فشلهم وليس كذلك عند النساء. قلت هو من خفة عقولهن وثقل نهمهن فإن اللذة تذهلهن عن الدين والدنيا معاً. قالت بل هن يجمعن بين الثلاثة في مكان واحد وآن واحد. وأما أنتم فمتى كلفتم بواحدة منها أغلفتم الأخرى. وهذه من المزايا التي مزّانا بها الباري تعالى عليكم ألا ترى أن المرأة إذا سمعت مثلاً خطيباً جميلاً يخطب في الناس ويزيدهم في الدنيا تلذذت بكلامه وشغفت حباً بجماله وبكت زهداً في العالم. قلت بودي لو كانت النساء يخطبن على المنابر كالرجال قالت لأبكينهم دماً. ولكن هيهات فإن الرجال من أثرتهم استبدوا بجميع الأمور المعاشية والمعادية وبمراتب العز والجاه. وحرموا النساء من أن يشاركنهم فيها. فما كان أبهج الكون وأعمره لو كانت النساء تتولى هذه الرتب. وكما أن الدنيا مؤنثة وكذا السماء والأرض والجنة والحياة والروح والنفس والنبوة والرسالة والسعادة والحظوة والغبطة والعزة والنعمة والرفاهية والأبَّهة والعظمة والخطابة والفصاحة والبلاغة والسماحة والشجاعة والفضيلة والمروءة والحقيقة والملة والشريعة والأيالة والولاية والزعامة والرئاسة والحكومة والسياسة والنقابة والنكابة والعرافة والإمارة والخلافة والوزارة والمملكة والسلطنة وأخص ذلك المحبة واللذة والشهوة. فما كان أجدرها بأن تشرف بالنساء. قلت قد نسيت العفة والحصانة. قالت لم تخطر لي ببال وإلا لذكرتها. قلت ولكن البعال مذكر. قالت أين أنت من المباعلة. قلت والهكهكة. قالت وما الهكهكة. قلت مضاف هكّ هك أي هني هني أي طحز طحز أي فعل فعل. قالت هي أحسن مما تقدم. قلت فتقولي إذاً أخيرّاً وإلا فهو كفر وخمج. قالت على النساء لا حرج فإن منهن الفرج. قلت نعم للفرج إذا أبصرن ذا فرج. قالت والأرج. قلت والمرج. قالت وهنّ أحق بذي برج. قلت وبمن نيرج. قالت الجميع بينهما بلج. قلت والثاني عند تعذر الأولى هو الأفلج. قالت وبه اللسان الهج. ثم عزما على الرجوع فسفرهما المولى المشار إليه في سفينة النار. الهيئة والأشكال

وبعد أن وصل الفارياق إلى منزله جاءه بعض معارفه وسأله عن سفره. فأسرّ إليه وعينه ناظرة إلى الباب غرفة زوجته أن النساء اليهود في تونس ما زلن حساناً. وأنه وأن يكن قد أنزل بهذا الجيل مسخ كما تزعم النصارى فأنه إنما نزل بالرجال فقط. فقالت امرأته من وراء الباب ما تقول بل المسخ وقع على النساء. قال حيث قد سمعت نجوانا ولا يخفى عليك مني خافية فضمي نفسك إلينا لنخوض في هذا الحديث المستجب. قالت أجل أنه ما يخفى عن أذني همهمة. ولا عن عيني سمسمة. ثم أنها تصدرت في المجلس وقالت. قد أعجبني من زي الرجال في تونس أن سراويلهم قصيرة بحيث تظهر سيقانهم. قال فقلت بل زي النساء أعجب وأشوق. فإن الرجال قد يكسون سيقانهم من الجوارب ما يغطيها ومع ذلك فالسراويل تخفي خصورهم وما يلبها. فأما النساء فسوقهن بادية ولا شيء يستر حقائبهن. فترى المرأة تمشي في أوان الحر وثوبها يشف عما تحته عما من مكَّبب ومقبّب. ومعقب ومقوّب. ومكعَّب ومكعثب. فقالت بودي لو كان زي النساء كهيئة أجسامهن. قلت هذا يكون فاحشاً من وجهين. لأن المتزيية به أن كانت ركراكة عندلة لفّاء كانت فتنة للناس وعطّلت عباد الله عن أعمالهم. وأن كانت دردحة أو رسحاء كانت وباء على الناس وأحجرتهم في بيوتهم تطيراً منها. قالت ما سبب كون الرجال في هذا البلد يتزيون بزي كهيئة أجسامهم ولا لوم عليهم ولا محظورة من رؤيتهم. أفكل ما تفعله الرجال يسوغ وما تفعله النساء يغصّ به. لعمري أن هذا الزي أحسن من زي رجال بلادنا.

فإنك ترى من له سراويل منهم يمشي كالشاة للحلب. وكثيراً ما تلتف عليه من قدام ومن خلف فتعوقه عن المشي فضلاً عن الجري. ولو أنه كان مثلاً في محترفه وقال له زارك اليوم في منزلك فتى غسّاني فرهد. ولمّا لم يجدك لبث ينتظرك وما هو الآن هناك -وقد احتفلت به زوجتك وهشّت إليه وبشت وهي التي ثبّطته وأمرت الخادمة بأن تمرض أو تتمارض حتى تنفي عنك الشبهة. إذ أو بعثتها إليك وخلا لهما المكان لرابك أمرها واعتقدت أن زيارته لها إنما كانت عن موعد. وإنها هي المقصود بهذه الزيارة لا التشوق إلى رؤية سحنتك. وغير ذلك من الكلام الذي يفور به الدم وينتفخ منه الحملاق. فكيف يمكن له والحالة هذه أن يحفد إلى منزله وبين فخذيه ما يذهب به هنا وهناك. ثم ضحكت وقالت نعم ترى منهم من له جبة يمشي ويكنس الأرض بأذيالها فيلصق بها كل ما في الأرض من النجاسة والقذر حتى إذا وافى بيته ملأه بالرائحة الخبيثة فعلق بزوجته منها ما يرد الطرف عنها وإن كانت عبقة. لأن الرائحة الخبيثة تغلب على الرائحة الطيبة كما يقال. وفضلاً عن ذلك فأن جبه واحدة يعمل منها كثير من هذه التي تلبسها الإفرنج إلى خصورهم. وليس للرجل إذا لبسها من هيئة ولا شارة فإنها تخفي قوامه كله فلا يرى له خصر ولا غيره. وما خلق الله الإنسان على هذه الصورة إلا وارد أن تكون ظاهرة كما هي. قلت قد رأيت الإفرنج في بلادهم صيفاً وشتاء فإذا هم يسترون أدبارهم بهذه الجبب المزنقة. ولا يمشي أحد منهم في الخارج ظاهر الدبر كما يمشي هؤلاء القوم القليلو الحياء في هذه الجزيرة. قالت والبطون والأفخاذ قلت ظاهرة قالت قد شفع هذا في ذاك فأما سترهما معاً فشنيع لعمري أن الناس لم يهتدوا إلى الآن إلى زي حسن يوافق هيئة الجسم ويلائم للعمل وبه شارة. فإن هذه البرنيطة لا تعجبني وليست ملائمة للوجه لا في النساء ولا في الرجال لأنها أشبه بالقفة أو الزنبيل أو القِرْطالة أو السلة أو العَيْبة أو العِكْم أو المرجونة أو الجوالق أو الحُرْبة أو اللِّبيد أو الجُرْجة أو الغفر أو الجُفّ أو القفْعة أو الجُلّة أو القشْع أو المُدارة أو القَلْع أو الكنْف أو القَنْبع أو المخرف أو القِنْع أو الزكيبة أو الجِواء أو القَوْصَرّة أو الفَوْد أو التليسة أو الوفيعة أو الجِلْف أو الخصفة أو الدَوْخلّة أو السفَط أو الحَفْص أو الميضة أو الصَنّوت. وهذه العمائم دونها في القبح. وهذه الحبر التي تلبسها نساء مصر لا حسن فيها فضلاً عن غلائها. واقبح من ذلك كله هذا الحزام الذي تتحزم به الرجال فإنه يملأ الخصر والصدر ويمنع الطعام عن الهضم. واقبح منه هذا الشريط الذي يربطون به سراويلاتهم من تحت ركبهم فإنه يوقف الدم عن سريانه فيا لأرجل. وليس زي نساء الإفرنج حسن إلا كونه ملائماً للمرافد وقد طالما بتّ مشغولة البال بهذا وحاولت أن أخترع زيا يكون فيه حسن وتشويق وخفة وطلاوة وجلالة مع موافقة هيئة الجسم ما أمكن فلم يفتح الله عليّ إلى ألان وعسى أن يتجه إلى ذلك عن قريب فأكون معدودة من جملة المستنبطين في هذا العصر. قلت وهل لم يخطر ببالك الاقتصاد قط في استنباطك. قالت لا فأن خير المال ما أنفق على المرأة. قلت بل على هذه. الخزانة وأشرت إلى سهوة الكتب. قالت أو تعانق الكتاب في ليلك وتشاعره. قلت أن الرجل حين يشاعر زوجته ليلاً لا تكون متزينة باللباس والحلي بل تكون عريانة عند قوم. وفرجا أو متفضلة أو هلا عند آخرين. فيصدق عليها ما قيل شعر يتفخّل الإنسان جل نهاره ... حتى يفوز بغادة في ليله فإذا أستقر في الفراش بدت له ... جهواء مثل التيس تحت ذييله

قالت بل في تبرج المرأة وزينتها نهاراً تشويق وتهييج لزوجها ليلاً. قلت نعم ولجارها أيضاً. قالت بل ولنفسها كذلك. قلت ما فهمت هذا المعنى البديع هل المرأة إذا نظرت إلى زينتها تكرع. قالت لاشك فإن الزينة حسن وكل حسن فإنما يذكر بالحسن. حتى لو نظرت جواداً مطّهماً أو متاعاً نفيساً أو شيئاً آخر من زينة السماوات والأرض لكان أول ما يخطر ببالها شخصاً متصفاً بالجمال. قلت فهو إذاً تصور مطلق غير معين. قالت إن كان الأشوق في العيان. فهو الأسبق إلى الأذهان وإلا فأي كائن كان. قلت وعلى فرض حضور الزوج وشرط كونه عليه مسحة من الجمال، فهل له خطور بالبال. قالت إذا وفق إلى التمليق والتعريب فقد يخطر ولكن لا بالصفة العينية بل الصفة المطلقة. قلت قد لمحت إلى هذا المعنى سابقاً وفهمته حق فهمه. ولكن أسألك سؤال متحرّ غير ذي ضلع ولا صغا. هلا يجب على المرأة أن تقدم زوجها في الذكر والتصور من حيث أن له المزية والقفيّة. وحالة كونه شيخها وأباها وحليلها ونفاحها وكميعها وكفيحها وضجيعها وعقيدها وعهيدها وأكيلها وشريبها وجليسها وسميرها وحليفها وعشيرها وأليفها ونجيها وضمينها ووليّها وكفيلها وكليمها وعنيقها ونديمها وخليطها وعميلها وشريكها وخليلها. قالت نعم ورقيبها وسبيبها وشغيبها وعقيبها وغضيبها وكليبها ولتيبها ووثيبها وفحيصها وخصيمها ولزيمها وزحيمها ونبيزها ولقيسها وفقيسها وقفيسها وجاسوسها وعاسوسها وجاروسها ونقوسها وفانوسها وكابوسها وناطورها وناقورها. قلت قد قال مولانا صاحب القاموس دل المرأة ودلالها تدللها على زوجها تريه جرأة عليه في تغنج وتشكل كأنها تخالفه وما بها خلاف. وقال أيضاً تبعلت المرأة أطاعت بعلها أو تزينت له. وفي موضع آخر تقيأت تعرضت لبعلها والقت نفسها عليه "انتهى" فهذا الدليل على إن حركات المرأة كلها ينبغي أن تكون مقصوداً بها الزوج لا غير. قالت لا غرو إن يكون صاحبك قد قيد هذه الحركات بالزواج تفردا بها من عنده. أو أنه تابع بعض أهل اللغة المشفشفين على ذلك. فإن الرجال دأبهم أن يدَّعوا أن المرأة لم تخلق إلا لإرضاء زوجها وتعليله وتمليقه. وإن اللغة إنما وضعوها استبداداً منهم عن النساء وافتئاتا كما هو دأبهم في غير ذلك. مع أن اللغة أنثى ولو كانت من وضع النساء وهو الأولى إذ كل إنتاج ووضع لا بد له من ماهية أنثوية لكن وضعن ألفاظاً تدل على من لا يفكر في غير امرأته. وعلى قصر طرف الرجل عن النظر إلى سواها وعلى مرضه لمرضها وزحيره لزحيرها وعلى إلباسه إياها ونضوها من ثيابها. وعلى تمشيطه وإحراز مراطة منه للنظر إليها إذا غاب عنها ساعة ما. وعلى بذل جميع ما تحت يده لرضاها وعلى من يرى زوجته أحسن النساء ومن يزيد حبه لها بازدياد رؤيته لغيرها أو على من يغمض عينيه إذا تعرضت له أخرى أو يغشى عليه أو يكبّ على وجهه أو يأخذه الدوار أو الهيضة. وعلى من يتخذ صورتها فيعم بها حيطانه وكتبه ومتاعه. فتكون مرة قائمة ومرة مضطجعة ومرة مستلقية وأخرى مكبة.

وبعد فقد تركنا لكم اللغة تتصرفون فيها كيفما شئتم فلم لا تتركون لنا خواطرنا وأفكارنا وهي ليست من الحركة ولا السكون. فأما دعواك بالمزية والقفية فإني أخبرك خبر من لا يجمجم عليك رثاء أو حياء. إنه لا مزية للرجل على المرأة في شيء. إذ ليس من قفية للرجل إلا وللمرأة مثلها. فأما كفالته إياها فينبغي أن أقول لك هنا دقيقة قلّ من تنبه لها. وهي انه قد يجتمع مثلاً شخصان في شركة أو دعوة أو زواج ويكون قد تقرّر في بال أحدهما إن له منّة على صاحبه. وذاك الممنون عليه يعتقد باطناً وظاهراً إنه مظلوم. مثال الزواج ما إذا كانت البنت قبل زواجها تهوى شاباً ولم يمكنها أن تتزوج به فتزوجت آخر. فرأت من أفعاله وأطواره ما انكرته، فيخطر ببالها ذلك الذي فاتها فتقول في نفسها لعله كان مستثنى من هذه الأخلاق. فلو إني تزوجت به لكنت الآن في اهنأ عيش وزوجها يظن إذ ذاك أنه أسدى إليها منة عظيمة بكونه تزوجها بعد أن فاتها خليلها الأول، فكان ينبغي للرجال والنساء أن يمنعوا النظر في أحوال الزواج قبل أن يرتقبوا فيه. وعلى الرجل أن لا يتزوج من كانت تهوى آخر قبله. وعلى المرأة أن لا تتزوج بمن كان يعاف الزواج خوف الإنفاق والإملاق. أو من كان يهوى أخرى وهو أعزب. ومثال الشركة ما إذا كان أحد الشريكين هو الذي قدم رأس المال من عنده وألقى عبء المصلحة على رفيقه، فكل منهما يحسب إنه ذو منة على شريكه. ومثال الدعوة ما إذا دعاك أحد إلى الغداء في العصر وكانت أن تتغذى في الظهر. أو إذا قدم لك من الطعام ما تعافه. فقد ركز في طبع كل إنسان إن يحسب ما يستحسنه هو حسناً عند غيره. أو إِذا تكرم عليك وقت الغذاء بفديرة وكسيرة وجريعة غير عالم أن المآدب تكبر معدته عند الآدب وتتسع أمعاؤه. أو إذا دعاك إلى منزله وكان بعيداً عن المدينة فلزمك أن تكتري مركباً بما يساوي غذائين وعشائين عنده. أو إِذا كنت مثلاً عند أحد أكابر الإفرنج لمصلحة له وعلم أنه قد مضى عليك عدة ساعات من غير أكل فأمر خادمه بأن يقدم لك لهنة من الخبز ومن هذا الجبن اللَّخْنيّ. وبك إذ ذاك قرم إلى أكل دماغه فأيكما والحالة هذه الممتنّ والممتن عليه. أو أن يكون أحد في خدمة أمير فالمخدوم يعتقد أن خادمه ممنون له لكونه يأخذ ماله. والخادم يرى أن مخدومه هو الممنون لكونه يأخذ منه شبابه وصحته. أو أن يكون أحد قد زار صديقاً له ليسامره وبالمزور همّ وقلق فكل من الزائر والمزور يحسب إنه متفضل على صاحبه وقس على ذلك المعلم والمتعلم والمادح والممدوح والمغني والمغنى له. فمن ثم لا ينبغي للرجل أن يحسب أن مجرد إطعامه المرأة وإلباسه إياها منّة منه عليها. فإن حقوق المرأة أكثر من أن تذكر. قلت قد لحنت ذلك على طوله وعرضه فقولي لي أي الرجال أحب إلى النساء. قالت أن أقل لك تعربد. قلت قولي لا بأس فإنما هو بساط حديث نُشر فلا يطوى حتى نصل إلى آخره. قالت يوم النشر إذاً. فاعلم إن الكاعب من النساء تحب الغلمان والإحداث بشرط كونهم حسانا. والمُعصر تحب الشبان بالشرط المذكور. وقد تأنس بالكهل اعتقاد أن يكون بها أرفق وأعشق. ولكن ذلك لا يسمى محبة لأنه يؤول إلى نفع نفسها. ومن شرط المحبة أن تكون مجردة عن الاستنفاع. ولكن هيهات فإن كل محب إذا تحقق دوام حرمانه من محبوبه وعدم الانتفاع به ملَّه بل ربما كرهه فعلى هذا فالمحبة عندي لفظ يرادفه الفائدة. فقول القائل أنا أحب فلانة حقيقة معناه أنا استفيد منها. فأما العانس فتحب الصنفين المذكورين ومن جاوزهما في السن قليلاً بالشرط المذكور. وإما النَّصف فتحب الثلاثة والكهل أيضاً بذلك الشرط. وأما العجوز فتحب الجميع. قلت ما قولك في الشوارب. قالت هي زينة الفم كما أن الحواجب هي زينة العيون. قلت وفي اللحى. قالت حلى الشيوخ. قلت وفي العارضين. قالت بخ بخ هما زينة الناظر والمنظور إليه. قلت أي حسن فيهما وخصوصاً مع حلق الشاربين قالت هما بمنزلة الأكمام للزهر. أو الورق للغصن. أو القطيفة للثوب. أو السياج للحديقة أو الهالة للقمر.

سفر وتفسير

وبينما هما في الكلام وإذا بطارق يطرق الباب ففتح له وإذا برجل معه كتاب من اللجنة المذكورة سابقاً يتضمن استدعاء الفارياق وأهله إليهم. فلما طالع زوجته بذلك كادت تطير فرحا وسرورا. وقالت ما أحلى صباح هذا اليوم وما أيمن شمسه. ثم قامت إلى الصندوق فأوعت فيه لوازم السفر ماعدا القاموس. فقال لها الفارياق: رويدك فإن دون هذا السفر أموراً كثيرة. فاقعنفزت وقالت أذكرها لي جملة حتى آلي بنفسي جُلها. قال اطمئني واصبري فإنك قد شوشت عقلي بكلامك الأخير. وأعوذ بالله من أن يكون سبباً في فساد ترجمة الكتاب. فتركته واشتغلت بأمرها. وأنا كذلك اتركه إلى وسواسه في العارضين إذ ليس علي أن أشاركه فيه. سفر وتفسير

من جملة ما لزم لهذا للسفر ما عدا القاموس كان هذا الشرط. وهو أن يغيب الفارياق عن الجزيرة عامين وإذا رجع يوظف في وظيفته الأولى. فمن ثم كتب عرضاً للحاكم وأقام ينتظر الجواب. وبعد أيام ورد الجواب بقبول هذا الشرط. فوجد كل شيء ناجزاً للسفر لأن زوجته لمتكن في تلك المدة تهمل شيئاً. فلم يبق عليهما إلا تشريف الجواز بختم القناصل وأداء الغرامة الختمية الحتمية. إلا إنه بقي مختوم عليه من قنصل ليكورنه. فلما بلغوا مرساها أراد الفارياق أن يدخل البلد فأعترضه صاحب ديوان المكس. فقال له أنا أعطيك هنا ما كان يحق أن أعطيه للقنصل في الجزيرة. قال لا بل تعطي هنا ضعفين فأبى وعزم على الرجوع إلى السفينة. فرآه وزوجته رجل يدير زورقاً فلما علم بقضيتهما قال لهما أنا أدخل بكما البلد بنصف ما طلب منكما هذا المكاس الحرامي. فركبا في زورقه وعرج بهما من مكان خفي حتى دخلا البلد. ثم رجعا إلى السفينة فسارت بهما إلى جينوى ثم إلى مرسيلية ثم سافرا إلى باريس. وفيها اجتمع بمسيو لامرتين الشاعر المشهور في اللغة الفرنساوية. وأقاما فيها أياماً تحوفت من الكيس جانباً "فائدة إذا كنت في بلاد فرنسا فلا تنزل خاناً للإنكليز وإذا كنت في بلاد هؤلاء فلا تنزل خاناً لأولئك" ثم سافر إلى لندن المحلوم بها. فلما رأت المدينة وما فيها من التحف العجيبة. والرغائب الغربية. ومن الأنوار المزدهرة. والحوانيت النضرة. قالت إيه إيه لقد قصرت الأحلام عن اليقظة. نعم الدار هي مقاماً. وحبذا العيش فيها دواماً غير أني رأيت من نسائها أمراً بدعاً. قال فقلت الحمد لله على إنك بدأت بالنساء فهو من جدّ طالع الكتاب الذي يراد ترجمته. ولكن أي بدع هو. قالت كنت أسمعك تحكي عن بعض الأئمة أن عقول النساء في فروجهن. وقد أرى نساء هذه الدنيا الصغرى عقولهن في أدبارهن قلت فسري فإني لم افهم ما أردت. قالت إذا كانت المرأة توقع نفسها بين تهاتر الصنعة والفطرة مع الاستهتار. أي أنها تفخم شيئاً بالصنعة وهو في الخلقة غير عظيم المقدار. وتهيج الناس على إكباره والفضل كله للجار. أي إذا كانت تقول بلسان الحال إن لديّ عنصر عصار كالإعصار، لا يجدي معه الاعتصار. وطبلا فيه زمارة لكل زمار. وصفارة في حالتي الشبع والصفار ودنّا مقعاراً يحتاج إلى صمام إذ قد مليء إلى الاصمار وزوراء تستدعي بالزيار. وخرتا حريا بالدسار. وجحراً أو دحلاً ينجحر فيه الخاذر أي انجحار. وحشة ذات أكوار وأوكار وورباً يأوي إليه من ليس له وجار. ووأبة مؤئبة في الليل والنهار. ونقرة ذات تنقير ونقر على ابتدار. وصرف فرث ذات صرير وصرار. وأنقوعة اشتملت على صلة ولا سيما عند الإهجار. وعزلاء لو انحل وكاؤها لمنت بالدمار. ووطباً لوفشّ لاكفهر منه الجواريّ اكفهرار. وكيراً يتطاير من نفخة الشرار. وهيفاً إذاً هبت في الصيف قال الناس الفرار الفرار. أي إذا كانت خلقت وما تاربها أحد فاتخذت لها ترباً وراءها. ليغني غناءها. أي إذا جعلت دأبها كله في تنسيم المسطح. وتقبيب المفلطح أي إذا استحمقت الناظرين اليها. وأشارت إليهم أن عندي قعيدة أو نضيدة يقعد عليها. أي إذا رمزت إليهم إن الرَّكاز. تحت الجراز أي إذا استحقبت المصادع ثم جعلت تمشي وتنظر إلى حقبيتها وتعجب منها ونزهى بها وتنافس فيها وتحرص عليها وترتاح لها وتشوق إليها. فوجدت أخرى تفخرها في ذلك ثم وجدت هذه أيضاً من غلبتها في الاستحقاب فأجدر أن يقال أن عقولهن في الحقائب. هذا معنى ما قالته والجرار عبرت عنه بالقرع، والترب بالردف والحقيبة بالعدل. ولفظة أي في الأصل. قلت هذه عادة فلا تشاحني في العادات فإن لنسائنا أيضاً عادات كثيرة مكروهة في هذه البلاد. وذلك كالتكحيل والتزجيح والتخضيب والتحنية واليرنأة والثمغ والتسيير والتوقيف والاغتماس والترقن والترثن والتقفّز والتطريف والوشم والتنوّر والامتهاش والجمش والتحفف والنمص والحلْت والاستعانة والتفريب والضياق والفرْم والإلهاط والاستطابة والتصنيع والتسمين وعقص الشعر وتقليم الأظافر وتدريمها. وكشف الصدر وتحريك الخصر لمن قرصت أو قرزت أو مرصت أو مرزت أو غمزت. والحقي به أيضاً العُقْر وبيضة العقر والاختفاض والإهتجان وغير ذلك.

قال فما كدت أتمّ كلامي هذا الوجيز حتى استشاطت غيظاً وأحرنفشت. ثم قالت لقد أبسلك إلى التهلكة مقولك وفضحك عندي وعند الناس فضولك. من أين علمت أنهن لا يغنجن، إذا خُلجن. ولا يرقصن، إذا قُرصن. ولا يستعملن الضياق والفرم، إذا كان الفلهم ذا لهم. أو إذا كان قوأبا، ذا بقبقة مقبقبا. أو إذا كان العفلق، يسمع له جلنْبلقَ. والحُنُق أحب إلى الهُقُق لولا إنك جربت منهن ذلك. قلت هذا أمر شائع مستفيض نبهُ مشهور منوه به ذو دالة وبُثْلة وتشرير لا يخفى على أحد. فهو كقول القائل السماء فوقنا والأرض تحتنا وهو عند النحاة ليس بكلام أف تغضبين مما لا يصح أن يسمى كلاماً. قالت مالي وللكلام إنما غضبي عن الفعل. إنك عندي قوّال. وعند غيري فعّال. ما هذه صفة المتزوجين. ما هذا شأن المحصنين. يا للعجب أنت لا تستحي أن تطلب. وأنا أستحي أن أطلب. إلا ليت قاضياً يقضي بين الرجل وامرأته حتى يبين للناس كافة من الظالم والمظلوم منا قلت فقولي إذا ليت قاضية. لأن القاضي من حيث كونه والحمد لله ذكراً يحكم للرجل على المرأة. قالت بل الأمر بعكس ذلك فإن القاضي لا يرى الحق إلا للمرأة على الرجل ولا سيما إذا جاشت إليه وأجهشت وكذا كل رجل إلا نفسه قلت لله درك من امرأة خبيرة بأمور الرجال ومن رجل خبير بأحوال النساء. أني على مذهب سيدنا القاضي فأني كنت أحضر خصام رجل وامرأة وأرى الرجل منتوف اللحية مخرق الجيب ما كنت لأنظر إلى المرأة إلا نظر المبرّي. ولا سيما إذا أجهشت فكنت أود لو أفديها بروحي. ولكن رويدك لا تزبئري ولا تزمخّريولا تجذئري ولا تجظئري ولا تحزئري ولا تقدحرّي. إني لم يبق لي الآن إلا النظر فأما التفدية فلا حكم لي اليوم على نفسي. ولكن أخبريني ما هذه الخصلة الغريزية فيكن معاشر النساء. إنكن تبكين وتضحكن أيان شئتن من أي شي كان. ونحن معاشر الرجال لا نبكي إلا منكن ولا نضحك إلا لكنّ ومن أجلكن. قالت سبب ذلك هو كون النساء أرق طبعاً وأكرم خلقاً. وأدق فيهما وألطف تخيلاً. وأرأف قلباً وأحنى فؤاداً وألين جانباً وأسرع سمعا ونظراً. وأنفد فكراً وأعجل تأثراً. وأخف يداً وأعلق بالدنيا والدين. وأقبل للتلقين وأبدر إلى الرسيس. وألقف للعلق النفيس. قلت مهلاً مهلاً. وأروق بالاً. وبعالاً. قالت وأبلغ حِيَلا. قلت وتململا. قالت وأوفى صلة وغربلة قالت وأعجل الطافا. قلت وإيغافا. قالت وأكثر ترفقاً. قلت وشبقاً. قالت وأوفر كرماً. قلت وغلماً. وقالت وأطول حبّاً. قلت وقنباً. قالت وأبقى وجداً. قلت وزرداً وعصداً. قالت وأشهى عتاباً. قلت وقراباً. قالت وأبدع شمظاً. قلت ولمظا. قالت وأرخم منطقاً قلت وحمقَاً. قالت وأسبق شعوراً. قلت وشغوراً. قالت وأحلى تحدثاً. قلت ورفثاً. قالت وأغرب رتَلا. قلت وعَفْلا. ثم قلت قد كان حديثك أولاً في الحقائب بما يذهب بصبر أيوب. وينزّي المثمود والمنجوف والمنجوب. والآن أخذت في تفضيل النساء على عادتك وفي تعداد محاسنهن وستنتهين إلى كشف المغطى منهن. فهل تريدين أن أقدم على صاحبنا مجنوناً أو ذا لمم فتفسد ترجمة الكتاب. قالت أن كنت تجن هنا فلا يكون لك في البيت قرصعة كما في الشام. فإن المجانين الذين هم في بيوتهم هناك أكثر من الذين هم في أديار الرهبان. قلت لعل ذلك هو الذي أغراك بهذا التشويق المعذب. فكفّي عن هذا الحديث الملهب المحرب. بحق من أعطاك هذا اللسان الذَرِب وتأهبي للأشخاص إلى من يكون عنده شغلي. قالت أليس هو بلندن. قلت لا بل هو في الريف. قالت ويلي على الريف. وعلى الفلاحين من يطيق السفر من هذه المدينة ليسكن بين الهمج فإن الفلاحين في جميع البلاد سواء. قلت ثم ننتقل من هنالك إلى مدينة غاصّة بالرجال قالت فيها رجال بلا نساء. قلت بل فيها نساء. وإنما هن قليلات بالنسبة إلى كثرة الرجال. قالت أن القليل من النساء كثير. ثم إنهما سافراً في غد ذلك اليوم وإذ كانا سائرين في درب الحديد ذكر المنبّه اسم القرية التي يقصدانها فلم ينتبه الفارياق لاشتغال باله بتلك المساجلة. حتى إذا ساراً طويلاً وسأل أحد السكوت عن رحلته قال له قد فاتتك. فخرج حٍ وهو آسف على غفلته عن تذكير المنبّه. وما بلغوا القرية إلا بعد مشي مسافة طويلة وتعب كثير.

ترجمة ونصيحة

"تنبيه دروب الحديد في بلاد الإنكليز مثل خطوط الكف يسير فيها المسافر إلى أي موضع شاء طولاً وعرضاً شرقاً وغرباً" ترجمة ونصيحة ثم لبثا في تلك القرية وشرعت الفارياقية في تعلم لسان القوم. فقال لها زوجها ذات يوم أني أريد أن أنصح لك في أمر يختص بتعلم هذه اللغة الجليلة. قالت هات ما عندك فهي لعمري أول نصيحة خرجت من فمك إلى مسمعي. قال ومن قلبي أيضاً. قالت قل. قال من شأن المبتدئين بعلم اللغات الأجنبية أن يتعلموا بادئ بدءٍ ما يؤول إلى جسم الإنسان من العروق والعضلات والربلات إلى آخره. قالت قد لحنت ما تعنيه فما هذه بنصيحة. قال فقلت سبحان الله خُلق الإنسان من عجل. إنما أريد أن أقول لك أن من شاء أن يتعلم هذه اللغة ينبغي له أولاً أن يبتدئ بأسماء من في السماوات لا بمن على الأرض. فإن القوم يتظاهرون بالتقوى والصلاح. حتى إن البغيّ منهم تجأر وهي مستلقية بالدعاء مرة وبالرَفَث أخرى. قالت وقد قلقت أو هنا بغايا؟ قلت لا فإن أهل القرى الصغيرة في هذه البلاد يتزوجون كسائر الناس ولا يمكنهم السفاح. ولكن المراد أن أقول أنهم جميعاً يبدون التورّع. فلا ينبغي الآن والحالة هذه أن تسألني الربلات. وستعرفين ذلك كله بعد قليل. بل لا ريب عندي في إنك تعرفينه دون معرّف محفّظ وذلك بطريق الافتخار أو الإلهام. فأن لقنَك وحدّة ذهنك وقوة قريحتك يسهّل عليك كل أمر عسير. قالت لعمري لو كان مثل هذا الكلام نصيحة لكانت الحكمة أرخص ما يكون. أناشدك الله كم بلغت من السنين. قلت ما هذا الاستفهام عقب هذا الكلام. قالت أي فصل هذا الذي نحن فيه. قلت فصل الخريف. قالت فالذنب إذاً على الفصل. قلت أتزعمينني قد خرقت. قالت وإلا هذا القول الذي زحرت به وتحسبه نصيحة. قلت افعلي ما بدأ لك فلقد وعظت من لم يتّعظ وزجرت من لم ينزجر. ثم لما مضت أيام جاءت ذات غداة تقول للفارياق. ألا ما أحسن هذه اللغة موقعاً في السمع والخاطر وما أخفها على اللسان. فلقد حفظت اليوم منها بيني شعر من دون تكلف غير إني لم أفهم معناهما. فهل لك أن توقفني عليه. قال أهلاً بك إليه أن شئت الآن فأبرقي حتى أمطر. قالت أي لُقَعة أنت ما عنيت إلا المعنى قال فقلت وما المعنى إلا ما عنيت فإني أعلم عين اليقين إنك لم تضمري غيره أنشديني ما حفظت فقالت: Up up up thou art wanted She is weary and tormented Do her justice she is hunted By her husband she has fainted. أب أب أب ظاو آرت وانتد ... شي إز ويري أنْد طرمانتِد دُهَرْ جسْتس شي إز هنتِد ... بي هر هَزْ بَنْد شي هَز فانتِد فقلت أن الشاعر هنا يشكو من شطط امرأة عليه. ولكن لست أدري أية امرأة هي فيقول ما معناه تبغي لكاعي سدّ سمّيها معا ... إذ يفتح الثاني لسدّ الأول كالإذن أن أحكّت تهيج أختها ... وتظل هائجة إذا لم تفعل

فتمعّر وجهها غيظاً وقالت ما هو إلا تقوّل منك. فإنكم معاشر الرجال أبداً لهجون بالسدّ. فقلت كما أنكن معاشر النساء أبداً لهجات بالفتح. قالت أن القوم لا يقولون هذا الكلام وليس في أشعارهم هُجر وفحش كما في أشعار العرب قلت أليست أجسامنا وأجسامهم سواء. قالت الكلام هنا على الكلام لا على الأجسام. قلت من أين يأتي الفحش إلا من الأجسام. فحيثما وجد الجسم وجد منه الفعل. وحيثما وجد الفعل وجد عنه القول. هذا دين سويفت مع أنه كان في درجة هي دون درجة إلا سقف ألّف مقالة طويلة في الأست. وكذا استرن فإنه كان قسيساً وألّف في المجون. فأما جون كليلاند فإنه ألّف كتاباً في أخبار فاجرة اسمها فني. هل جاء فيه من الفحش والمجون بما فاق به ابن حجاج وابن أبي عتيق وابن صريع الدلاء ومؤلف كتاب ألف ليلة وليلة. فمما ذكره عن فحش أهل لندن أن زمرة من أعيانها كانوا قد انشئوا ماخورا جمعوا فيه عدة زواني. وكان بعضهم يفجر ببعضهن بمرأى من الباقي مناوبة. وأول من نهج طريقة المجون فيما أظن كان ربلي الفرنساوي المشهور وهو أيضاً من أهل الكنيسة. قالت ألم تقل لي آنفاً إنهم متلبسون بالورع والتقوى؟ قلت بلى ولم أزل أقول غير إن هذا التلبس قد جرى عندهم مجرى العادة. فإن الملّبس عليه يعلم ما أنطوي عليه الملّبس. ليت شعري لو أن أحداً لبس مثلاً عشرة أثواب ليوهم الناس إن ليس له قبل ولا دبر أفيخفي علم ذلك الناظر. قلت لا فإذاً هم مدهونون بالدهان. قلت نعم هذا النوع ينمي في هذه الأرض كثيراً. فتأوهت وقالت ويلي على المداهنين. كيف أطيق عشرتهم وأنا كسائر أهل بلاد المشرقية منبسطة النفس واللسان. لا اكتم ما في صدري عن عشيري. قلت إياك وذلك. وإنما ينبغي لك التكتم والتحرز دائماً. وإياك أيضاً والإهزاق فإن ضحك القوم أهمات وغت وإِهلاس وإِهناف وإِرتاء وانتداغ وارتاك وزقزقة وهرنفة وانتاغ وهنبصة. وإلا فكوني من التاغيات. قالت كيف تأمرني أن أكون من الطاغيات. وأنت لا تزال تشكو من النساء طرّا حتى من العادلات. قلت بل المراد أن تغالبي الضحك يقال تغت الجارية- فابتدرتني وقالت يكفي يكفي ما أريد أن تذكر لي الجارية ولا الجارة. قلت نعم وأكلهم نأج وتدلس وتوجُّس وهَمْس ومَدش وتبرض وهرمزة ومطع وتذوق وتطعم وتغذم. وشربهم غنثرة. ولماظ وترشف وتزحن وتزنح وترنح وتقنح وترمق وتمقمق وتمزز وتمزر وتمصص. ومتى تكلمت يجب أن تغضي طرفك وتخفضي صوتك وتبدي غاية ما يكون من الترزن والتوقر والتحرز والتحذر. والتظرف والتكيس. والتلطف والتنطس. والتأدب والتخضع. والتعزف والتخشع. والتخفر والتقزز. والتعوذ والتعزز. والتنزه والتقوش. والتمنع والتجهش. والتنسك والتنقع. والتأوّه والتنطع. والتجوب والتذمم. والتحرج والتأثم. والتحنث والتحشم. والتدلس والتكتم. والتخنث والتأنق. والتودد والتملق. والتحسب والتحري. والتوقي والتحشي. والتوخي والتخشي. والتبري والتذكي. والتحذلق والتحصي. والتوقف والتحمي. والتصلف والتكلف. والتأسف والتلهف. والتجشف والتحنف. والتعفف والتأنف. والتخيف والتخوف. والتنطف والتنظف.

فقالت ويك ويك ما هذا لعلك أتيت بي هذه البلاد لتسبكني وتصوغ مني امرأة أخرى. قلت فديتك فأسمعي ولا يكن كلامك في هذا الفصل من السنة إلا إِخفاساً أي قليلا. وفي الفصل القابل تزيدين عشرين في المائة. وإن حدثك رجل أو امرأة وجب عليك أن تستحسني المحدث وتحبّذيه عند ختام كل جملة. وتؤمني له وتهيمي أي تقولي له آمين آمين بسْلا بسلا. وتنعميه أي تقولي نعم نعم. وتبجليه أي تقولي بجل بجل. وتوجليه أي تقولي أجل أجل وتبسليه أي تقولي بسل بسل. ولا ينبغي لك في يوم الأحد أن تطبخي شيئاً وإنما نأكل مما فضل من يوم السبت بارداً كما تفعل اليهود. لأن الطعام الساخن يسخن الدم ويهيج الحرارة. ولأن سيدنا موسى رجم رجلاُ وجد يجمع حطباً في السبت ولا ينبغي لك الحركة في يوم الأحد. أيّة حركة كانت الحنت ذلك. قالت لحنت. قلت لا ولا ترفعي فيه الستائر عن الشبابيك لئلا يراك الناس فيكون ذلك باعثاً أيضاً على الحركة. الحنت هذا أيضاً. قالت وقد لحنته وزكنته. وفهمته ولقنته. وعلمته ودريته. وأدركته ووعيته. ولكن ما سببه وهذا اليوم عندنا يوم الفرح والسرور. والتزاور والحبور. قلت أنهم يموتون فيه لكون سيدنا عيسى أُنشر فيه من الموت. ثم أن عليك أن لا تفتري من ذكر يوم السبت أي الأحد. فإن المسمى قد يتغير بتغير اسمه. وذلك بأن تقولي مثلاً ما كان اشرف السبت الماضي وما أجلّه. من لي بالسبت القابل حتى أخلو فيه مع ربي. يا ليت كل يوم فيه ساعة من ساعات السبت أن يوم السبت ليوم عظيم. مهيب كريم. جليل وسيم. كيف كان الناس يعيشون ولا سبت لهم. كم من سبت في السنة. وكم في ساعات السبت من دقائق. وكم في دقائق السبت من ثواني. إلا ما أبهى شمس وقمره. وغلسه وسحره وأزهاره وأطياره. وحره وازمهراره. وإذا أنكرت فعلة من فعلاتهم فأياك وأن تذكريها لهم. وأطرئي ما أمكن على عاداتهم وأطوارهم ومعالمهم ومشاعرهم ومآكلهم ومشاربهم ومآدبهم وملابسهم. وعلى طول أظفارهم وأظفارهن وعلى عظم مرافدهن وعلى تفتيل سوالفهن. وعلى المنفش من شعرهن أعني على قُذلهن. وعلى كشف أدبارهم للاصطلاء. وكلما رأيت شياً في بيوتهم من إناث وغيره فاستحسنيه وأعجبي به فقولي وأنت مدهوشة. آه ما أجمل هذا. آه أجمل ذاك. ما أبهى هؤلاء آه ما أملح تلك إلا ما أذكى مراحيضكم. وأشذى بواليعكم وأنقى مرافقكم. وأنقى مثاعبكم. وأنظف أعتابكم ووصدكم. وأبهج نفقكم وسرَبكم. فهذه هي الذريعة التي يتذرع بها الغرباء هنا لاستجلاب مودتهم وكب رضاهم. وأعرف كثيرين قد استعملوها ونجحوا بها ثم ينبغي لك إذا دعينا إلى وليمة عند أحد أكابرهم أن تأكلي هنا من قبل أن تذهبي. فإن المدعوين لا يأكلون عند آدبهم حتى يشبعوا ولكن يشبعون حتى يأكلوا. وكما أن أدب الأدب عندنا أن يغصب ضيفه على الأكل ويحلفه برأسه ولحيته وشواربه أن يأكل فخذ دجاجته أو ست كُبيبات أو يلقمه إياها في فمه. كذلك كان أدب الأدب عندهم أن يراعي حركات فم الآكل ويديه ليعلم هل هو سرطم أو ذو لقف ونقف. وكلما تحرك فم أويد على المائدة- قال فابتدرتني وقالت وخصر. قلت وكفل بل أي عضو كان. وجب عليك أن تقولي لذي العضو المتحرك أنت مشكور على ذلك. أنت ممدوح. أنت محمود. أنت مفضل. أنت محسن. أنت برّ. أنت ذو منّة وما أشبه ذلك مما يؤذن بضعة المأدوب ولمده وحقارته أهوانه وذلّه وخساسته وهطرته وكَفْره وتسكسه. في مقابلة رفعة الأدب وعظمته وجلاله وأبهته وشرفه وكرمه وبذخه وعزّته. والحذر الحذر من أن تمدي يدك إلى زجاجة الخمر أو إلى جفنة الطعام فتأخذي منهما ما شئت. فإن ذلك يكون انتهاكاً لحرمة المائدة والمجلس والقرية بل وللملكة بأسرها. وإنما ينبغي أن تنتظري من كرم الآدب إن يوعز إليك في ذلك. وإذا قدم لك بضعة من أرنب قد خنق مذ شهر وعلّق فيالهواء حتى انتن فأثني على الأرض التي نشأ فيها جنس هذا الحيوان النفيس وعلى خانقه وطابخه. وإذا رأيت شيخاً ذا وقار وهيبة يخدم عجوزة فلا تنكري ذلك كما أنكره بعض الشعراء المفرّكين بقوله ورُبَّ عجوز تحاكي السَّعالي ... تشير وتنهي وتأمر أمراً يقابلها شيخها بامتثال ... ويسعى لخدمتها مستمرّا وتقعد تحكي كلاماً سخيفاً ... ومستمعوها يقولون سحراً تقول بداري كلب وهرّ ... وللهرّ ذعر إذا الكلب هرّا

خواطر فلسفية

ويرقبني الهرّ إن كنت آكل ... يُمني ليمني ويُسري ليسري وبنتي ليزا تؤاسيه مما ... لديها فمنها يلازم حجراً وقد كان عندي من قبل جرو ... تلوّن بطنا وصدراً وظهراً وكنت عليه لفي غاية الحر ... ص اسقيه ملء كؤوسي درّا فجاءت عزيزة قوم إلينا ... فرامته مني والعين شكري وكان ينام على فخذيّ ... ويلحس رُغفي إذا ما اسبطرا وكان فلان أتاني عام كذا ... بُجريّ فما عاش شهرا وتسأل أن تنس تاريخ ... ذاك النهار المعظم زيداً وعمراً إلى أن قال. فأما النساء فمما اختصصن ... به أكل ما أشبه التين نحراً ويأكلن والراح منهن بالجلد ... مستترات ويمضغن سرّا وتسمع للشاي قرقرة من ... معاهن تحكي هنا قرَّ قرّا وتأخذ في صحنها بالمشكَّة ... قدراً من اللحم يشبه ظفراً فتعلكه برهة من زمان ... ليمرأ من بعد أن يتهرّا وزوج المضيف تقول له خذ ... عزيزي مما أمامك وَزْرا فيشكرها ويقول لقد ... كثر الفضل منك عليّ ودرّا وتجلس تقسم أكل الضيوف ... فتعطيك من ذاك نزرا فنزوراً وفي كل نزر تنال تطأطئ ... رأسك رغماً وتشكر شكراً وإن يك لونان قالت لك اختر ... نصيبك مما هنّا وتحرّا كان لم يجز بين ذينك جمع ... كأنك ناكح أختين تترى فقالت هذا تكليف فوق الطاقة فما أنا بالذائقة عندهم شيئاً ولو كان المنّ والسلوى. قلت ومع ذلك فهم ذوو محامد شهيرة. وفضائل كثيرة. ليست في غيرهم من الإفرنج منها إنجاز الوعد وصدق الوفاء في الحضرة والغيبة. وتوفية أجر من يعمل لهم ومراعاة حرمته أي إكرامه لا أنهم يعفون عن زوجته. قالت لا تتكلف التفسير فما ذلك بشذوذ عن القاعدة. قلت ومنها إنهم قليلو الكلام كثيرو الفعل. حسنو المعاطاة للأمور بالترتيب والسياسة. والرشد والكياسة. ومن يأت إلى بلادهم فلا يسأل عن جواز ولا إجازة. ولا يهمه أن كان جاره قاضي القضاة أو وزير الوزراء أو شرطياً أو جلوازا. ولا يخاف أن يسكن داراً أو يدخل مثابة فيها بعض الشرطة فيرهقوه بكلام ونحوه مما يكون سبباً في سجنه أو غرامته فكل الناس في الحقوق البشرية عندهم متساوون. هذا وانهم يحبون الغريب ما خلا أوباشهم. ويشفقون على الفقير ويغيثون المحتاج. ويكرمون ذوي السيادة والمجد ويعرفون قدر ذوي العلم. ويعينون على إدراك العلوم والمعارف في البلاد الأجنبية. وعندهم جمعيات منعقدة لإجراء كل نفع وخير. وإزالة كل شر وضير. وكثير من الأطباء هنا يداوون المرضى مجاناً ما عدا المستشفيات المبثوثة في كل قطر وصقع من بلادهم. ومن ينزل نزلاً لديهم أو يستأجر غرفة في منازلهم فإن صاحبة المنزل تؤانسه وترفق به وتحفه وترفه وتمرضه. وتدعوه إلى مسامرتها ومجالستها من غير أن يستاء زوجها لذلك. وإذا اتفق وقتئذ أن زارها بعض معارفها تعرّفهم به وتنوه باسمه. وإنه إذا قدم إلى بلادهم أحد بكتاب توصية احتفل به الموصَّي إلى منزله وجعل اسمه نضبَها عند إخوانه ومعارفه. ولا يدع شيئاً في وسعه إلاّ ويبذله لراحته ورفاهيته ونخله له الود والنصح حاضراً وغائباً. فرُقعة وصاة بيد صاحبها تفيزه عندهم بأب وأم وأهل وأخوان. وفي الجملة فإن كفة محامدهم ترجح كفّة مذامهم. وليس الكامل إلا الله وحده سبحانه وتعالى. وليس شيء من هذه المزايا الحميدة موجوداً في غيرهم من الإفرنج لأن غيرهم محاحون ملثيون مراوغون، ذوو أيادي مغلولة والسنة مطلقة. فهم ليسوا كل صحابنا في الرشد والاستقامة ولا مثلنا في الأنس والكرم. قالت قد فهمت هذا كله فينبغي أن نعود إلى تفسير البيتين بشرط أن لا تأتي بشيء من عندك فإني أعرف تزيدك في الكلام. قلت كأنك تقولين إني ذو فضول غير فعول كما ذكرت ذلك غير مرة. قالت إذا كنت قد الفته فما يضرك الآن وإلاّ فعدّها فلتة. قلت دونك تفسيرهما من دون تزبّب. قم عجلاً قم سؤلي عندك ... وأبلغ إربا منها جهدك فلقد ضجرت ولها بعل ... يبغي أن يعسلها بعدك فقالت أنت قلت إن الشاعر يشكو من امرأة وهاهو يشكو من نفسه. وليس المرأة بملومة على ضجرها في مثل هذه الحال. قلت لمثلك تلقى مقاليد الشرح. قالت ومنه يرجى تخفيف البرح. خواطر فلسفية

ثم لما مضت مدة على الفارياقية في بلاد الفلاحين حيث لا أنس للغريب ولا حظ غير خضرة الأرض عيل صبرها وضاق صدرها وعرتها السآمة والقلق. فقالت لزوجها ذات يوم: يا للعجب من هذه الدنيا ومن أحوالها. واعجب ما فيها هذا الحيوان الناطق الماشي على ظهرها كف تمر عليه الليالي والأيام والأماني تغره. والآمال تشغله وتعلله. وكلما جرى وراءها ليدركها تقدمته وبعدت عنه كظله. وكل يوم يحسب إنه في يومه أعقل منه في أمسه. وإن غده يكون خيراً من يومه. قد كنت احسب ونحن في الجزيرة أن الإنكليز احسن الناس حالاً. وانعم بالاً. فلما قدمنا بلادهم وعاشرناهم إذا فلاّحوهم أشقى خلق الله. انظر إلى أهل هذه القرى التي حولنا وأمعن النظر فيهم تجدهم لا فرق بينهم وبين الهمج. يذهب الفلاح منهم في الغداة إلى الكد والتعب ثم يأتي بيته مساء فلا يرى أحداً من خلق الله ولا يراه أحد. فيرقد في العشاء ثم يبكر لما كان فيه وهلم جرا. فهو كالآلة التي تدور مدارا محتتنا فلا في دورانها لها حظ وفوز ولا في وقفها راحة. فإذا جاء يوم الأحد وهو يوم الفرح واللهو في جميع الأقطار لم يكن له حظ سوى الذهاب إلى الكنيسة. فيمكث فيها ساعتين كالصنم يتثاءب ساعة ويرقد أخرى ثم يعود إلى بيته. فليس عندهم مثابة ولا موضع للسمر والطرب. وليست أيضاً عيشة المتمولين في الريف بأنعم من عيشة الفلاحين إذ لا يعرفون من المطاعم غير الشواء وهذا القلقاس. ولكن هيهت أين المتمولون في القرى فإنك لا ترى فيها مثريا إلا القسيس وخولي الأرض وهو الذي يضمن المزارع والحقول من مالكها. وهما أيضاً بمثابة الفلاحين.

ومع ذلك فإذا دخلت قصور الملوك وطفت في أسواق المدن وعاينت ما فيها من الصنائع البديعة والتحف العجيبة والآلات الظريفة والفرش النفيس والثياب الفاخرة والأواني المحكمة ولا سيما مدينة لندن، علمت أن صناعها هم القائمون بالدنيا وهم منها محرمون فإن دأب الصانع كدأب الفلاح من جهة إنه يشقى ويكدّ النهار كله ولاحظ له في الليل سوى إغماض عينيه. فكيف يزين هذا الصنف من الناس هذه الدنيا ويبهجونها ويعمرونها وهم عطل عنها ومحدودون منها. والمترفون فيها لا يحسنون عمل شيء وربما لم يكونوا أيضاً يحسنون الكلام. وإذا كان الناس عباد الله في أرضه على اختلاف أحوالهم ومراتبهم هم كالجسم الواحد باختلاف ما فيه من الأعضاء الجليلة والحقيرة فلم لا يجري العدل بينهم كما يجري بين الأعضاء. فإن الإنسان إذا أكل شيئاً أو لبس شيئاً فإنما يفعل ذلك يفعل ذلك لإصلاح الجسم كله. أم يزعم المثرون إذا وسعوا على هؤلاء الضناك الصعاليك. ونفّسوا عنهم الكرب الذي يكابدونه من جهد المعيشة ومن عدم قدرتهم على تربية أولادهم أنهم يحملونهم على إهمال شغلهم وعلى تركهم الأرض بوراً فتتعطل وتمحل فيهلكون جوعاً فما بال ذي الدولة إذا يولي المبالغ الجسيمة والجوائز الجزيلة لمن يقلده عملا ويرقيه مرتبة ولا يخاف أن يفسد عليه بكثرة ما يعطيه. لا بل أن الفقير إذا كفاه واليه أو سيده المؤونة وهو شيء بالنسبة إليه هيّن فإنه يؤدي ما يجب عليه من الخدمة والعمل عن طيب نفس. ويدعو له بزيادة الخيرات والبركات بدل ما إنه يبيت الليالي شابحا يديه بالدعاء عليه لتيقنه إن حقه ضائع عنده وأن هزاله وضواه ذاهب في تسمين غيره. وفي حمله على البطر والعتو واقتناء ما لا تلزم قنيته من الخيول المطهمة والمراكب النفيسة والأثاث المنضد. فيأكل الغني لقمته والحالة هذه مغموسة بدعاء الفقير عليه. أم يحسبون أن الله تعالى إنما خلق الفقراء لخدمتهم فقط. لعمري أن حاجة الغني إلى الفقير أشد حاجة الفقير إلى الغني. أم يأنفون من النظر من مقامهم الرفيع السامي إلى ذوي الضعة والخمول خشية أن يسري إليهم من بؤسهم ما يسوءهم. كمن ارتقى شرفاً باذخاً وتحتح هوّة عظيمة فهو يأبى من أن يتطأطأ وينظر إليها لئلا يلحقه من ذلك دوار أو غشيان فيهبط من شرفه. ليت شعري هل جرب الأغنياء حينا من الدهر أن يسعدوا الشقي بمالهم. وينعشوه برفدهم. ثم وجدوه مقابلا نعمتهم عليه بالكفران والبطالة وبإهمال ما فرض عليه من قبل الله والطبيعة. وإنما هو محض وهم دخل في رؤوسهم مع الرحيق فخرج هذا ولم يخرج ذاك. ألا فليمكنوه من أن يذوق لذة العيش ويرى الدنيا كما هي عليه شهراً واحداً في عمره في الأقل أو يوماً في العام حتى يموت راضياً قرير العين. وإذا كانوا يخشون منه الفساد لكسله وتعطله. فخوفهم من فساد نيته لفقره ومن كراهته إياهم أولى. لأن الشقاوة ادعى إلى الفساد من السعادة.

إلا ترى إلى هؤلاء الألوف من البنات اللائي يجرين في أسواق لندن وجميع المدن العامرة بأخلاق من الثياب، كيف يتهافت على الرائح والغادي رجاء أن ينلن ما يتقوّتن به ويتجملن به من الثياب. ولا سيما هؤلاء النواشي اللائي لم يبلغن بعد عمر خمس عشرة سنة. فهذا لعمري الاهتجان بعينه. فكيف يعيبون علينا هذه العادة في بلادنا وهي مستعملة عندنا على وجه الحلال وعندهم بالحرام. فلو كنّ مكفيات المؤونة لما فعلن ذلك. لأن البنت في هذا الحدّ من السن لا تكرع إلى الرجال. ولا تبضع للبعال. ولا سيما في البلاد الباردة. ولسلم من كيدهن وتهافتهن جشعاً إلى المال أناس كثيرون جلب عليهم شرههم إليهن مضارّ كثيرة. وماعدا ذلك فإن هؤلاء البنات الحسان لو كانت الدولة وأهل الكنيسة يُعنون بتجهيزهن بما يقدرن على الزواج الشرعي بعد تربيتهن وتهذيبهن، لكنّ يلدن الأولاد الصباح فيزين المملكة بإثمار أرحامهن كما تقول التوراة. بخلاف ما إذا بقين على حالة السفاح فما يتولد منهن إلا الخبائث والرذائل. فهن كالشجرة الناضرة التي فضلاً عن كونها لا ثمر تلثى بالسم الناقع لمن تذوقها. وكم لعمري من بنت حبلت أوّل مرّة من مبادئ شوطها في ميدان العهر. ثم أسقطت جنينها خوف الفقر. وأن منهن لمن تلد في طرق المدينة في ليالي الشتاء الباردة لعدم مأوى لها. أو أنها تبيت مع بنت أخرى على فراش واحد وهي عادة مستفيضة في لندن. وذلك لعدم قدرتها على أن تستقل بفراش وكنّ خاصّ بها. فلا تأمن والحالة هذة من أن يلحقها أذى من ضجيعتها ليلاً. نعم أن أولاد الزنا يأتون في الغالب شياظمة جبابرة كيفتاح الجلعادي الذي حلّ عليه روح الرب فأنقذ إسرائيل من بني عمون. وكوليم الفاتح الذي فتح هذه البلاد أي بلاد الإنجليز. إلا أن النفع الأكثري مع الاقتصاد والاعتدال أحق بالمراعاة والتقديم من النفع ألا ندريّ مع الإسراف والأرغال أليس يعاب صاحب أرض أريضة يغادرها بوراً ومتمرغاً للوحوش. أو صاحب أشجار مثمرة يتركها دون سياج ولا ناطور عرضه لهم كل متفكة.

نعم لا ينكر أن وجود الغني والفقير في الدنيا لا بدّ منه كوجود الجميل والقبيح. ولولا ذلك لوقف الكون عن الحركة وتعطلت المصالح كما أفاده المتكلمون. إلا أن الكلام هنا في الفقر الذي لا يقال فيه أنه عيش مؤدّ إلى الشره والبطر. لا في الفقر المدقع الذي يلقي الهموم والأحزان الدائمة في قلب صاحبه. فيفضي به مرة إلى الانتحار ومرة إلى الإغراق أو الخنق كما شاع فعل ذلك في هذه البلاد. أليس من العار على الرجال في هذه الأرض ارض العلوم والصنائع والتمدن والتحضر انهم لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان عندها الجهازان. وأقبح من ذلك أن الكبراء هنا لا يتزوجون عن حب بل عن طمع في زيادة المال. فإن من كان دخله مثلاً مائة دينار في كل يوم يريد أن يتزوج من دخلها مائة دينار أيضاً تماماً. ولو كان تسعة وتسعين لم يصح. ولذلك فكثيراً ما ترى شاباً جميلاً قد تزوج نصفاً شوهاء. وهيهات فإن الرجال هنا أكثرهم مصاييف. أي لا يتزوجون إلا إذا دخلوا في حّيز الكهول فيقضون شبابهم في السفاح ومن حدّ الثلاثين والأربعين في البحث عمن عندها جدة وغنى. وتبقى الجميلة الفقيرة كاسدة وما عليهم من الاصافة من عار. مع مراعاة الولد في حق الزوجية من اعظم الأسباب الباعثة على الزواج على ما ذهب إليه الربانيون. وإن يكن توزيع الولد يتمّ بمرة واحدة في مدة تسعة أشهر. أعني أن أولاد النصف الشوهاء لا يأتون صباحاً أصحاء كأولاد الفتيّة الجميلة. وفضلاً عن ذلك من تزوج وهو في سن الثلاثين سنة مثلاً امرأة في سن ثماني عشرة فمتى بلغ الخمسين وكانت امرأته بعد لفوتاً متلعجة كان له من ولده رقيب عليها. فلأي شيء زيادة المال لمن أغناه الله بفضله. ومن يكن له في كل يوم مائة دينار فما الفرق بينه وبين من له خمسون أو عشرون. فإن من لم يكتف بهذا القدر لم يكفه ملء الأرض ذهباً. هذا وإن المرأة إذا كانت غنية فلا بدّ وأن يتبع غناها عناء. لأنها تتعمدّ حٍ الولائم والمآدب والمحافل وأن تزور وأن تزار. وأن تتخذ لها من الخدام من تقر عينها بترارته وبضاضته.. وكلما اختلج منها عضو تمارضت وتوحمت على السفر أو الأرافة. وهناك حالة كون زوجها فائر الدماغ بالأمور السياسية أو البواعث المالية ي مقره تخلو بمن تخلو وتلهو بمن تلهو. وبيد خادمها من الدينار ما يعمي عينيه ويصمّ أذنه ويقطع لسانه. أليس هؤلاء الأغنياء يُمنون بالأمراض والأدواء كالفقراء. أليس الموت يفاجئهم وهم في غمرة لذاتهم منهمكون. وإن كثيراً منهم لسرفهم ورغبتهم ونهمهم وفسادهم واستهتارهم في الشهوات يموت عن غير ولد. أو أنه إذا رزق ولداً يعيش ما عاش ضاوياً نحيفاً شقوة له وكمدا على أبويه. وقد قال أحد مؤلفيهم أن من ترى من أولاد الأعيان والأمراء هنا تاراً قوياً فإنما هو من إِلقاح بعض الحثم. وترى أولاد الفلاحين صباحاً أقوياء الرطب واليابس. ولعمري لو لم يكن لهم هذا الجزاء من الله تعالى أي رؤية أولادهم حولهم معافين محببين لكانوا في عداد الموتى. كيف بُني هذا العالم على الفساد. كيف يشقى فيه ألف رجل بل ألفان ليسعد رجل واحد. وأي رجل. فقد يكون له قلب ولا رحمة. ويدان ولا عمل. ورأس ولا رشد ولا نهية. وكيف يقع هذا في البلاد التي ضربت بعدلها الأمثال. لا جرم أن فلاح بلادنا اسعد من هؤلاء الناس بل التجار هنا أشقياء على غناهم وثروتهم. فإن أحدهم يقضي النهار كله وهزيعاً من الليل واقفاً على قدميه. وقد سألت واحداً مرة فقلت له لم لا تقعد على كرسي وعندك كراسي كثيرة. فقال لي أنها للذين يشرفوننا بالزيارة ليشتروا من عندنا. فإذا قعدت مثلهم صرت منهم. فأما في يوم الأحد فيلبثون خدري الأبدان والأفكار. سدري البصائر والأبصار فأين هذا من التاجر عندنا يعقف إحدى رجليه على الأخرى بعض ساعات على أريكته. ثم إِذا حان العصر كبّب جبته وراءه وذهب إلى بعض المنازه وهو يمشي الخيلاء. فإن كان التمدن والعلم قد سبب هذا فالجهل إذاً سعادة. غير أن الفلاحين هنا في غاية الجهل زيادة على بؤسهم.

مقامة ممشية

ومن أين يأتيهم العلم وهم ملازمون للكدّ والترقح وليس عندهم مدارس. قد كنت أظن إنهم جميعاً يحسنون القراءة والكتابة فإذا هم لا يحسنون النطق بلغتهم. فإني أقرأ في الكتاب شيئاً واسمعه منهم مخالفاً لحقيقة استعماله. وناهيك أن أكثرهم لا يعرف اسم بلادنا ولا جنسنا. وقد قيل لأحدهم مرّة أن الملك أمر بتسفير خيل في سفن لحرب العدو. فقال أني اعجب كيف يقاتل الناس في البحر على الخيل. وكأني بهم لجلهم يحسبون أن سكان الأرض بأسرها دونهم. أو يظنون أن الرجال في غير البلاد يبيعون نساءهم أو يأكلونهن أكلاً. أو إنهم يتقوتون بالجذور والبقول. ولو إنهم عرفوا أحوال الأمم وخصائص البلدان لعلموا إنه لو كان لهم من لذات العيش أضعاف مالنا مع شدة بردهم ومنكر هوائهم ودكنة جوهم لما وفي ذلك لهم. وإن غناء الصنعة عندهم لا يقوم مقام غناء الطبيعة عندنا من طبيب الهواء والماء وصفاء الجو وزكاء الأرض وعذورها ومراءتها ولذة المطعوم والمشروب والتنزه في الرياض والحدائق. والأكل عند المياه الجارية تحت الأشجار الناضرة والتردد على الحمامات والسهر في السمر واستماع آلات الطرب. يعرف ذلك منهم من زار بلادنا وألف حظنا ونعيمنا. غير أن اللبيب من استخرج من كل ضر نفعاً، وأعتبر بكل ما جرى عليه فاستفاد وارعوى. قد تعلمت الآن مما لقيت من الوحشة في بلادهم كيف أعيش في بلادنا أن رجعت إليها سالمة. وكيف أن الطخطخة والقرقرة والهزر والكركرة والتجلق والهرهرة والأغراب والكدكدة والآهى والهزرقة والأنزاق والزغربة وطيخ طيخ وعيط عيط وتغ تغ وهاه هاه لأفْرج للهم عن القلب من أواني موضونة ومباني مرصونة. فخير البلاد ما ألفت هواءها وألفيت فيها مخلصاً لك ودّه. وكيف يكون خلوص الود من دون كشف السرائر. وكيف تنكشف السرائر وتعلن الضمائر من دون إطلاق اللسان في ميدان الكلام. والقوم هنا يتكتمون ويرون أن في ذكر الإنسان ما يحس به وما يحبه وما يكرهه طيشاً وهوجاً. إنما مثلي كمثل الثعلب الذي كان يسمع لطبل تضربه أغصان شجرة صوتاً عظيماً. فلما أتاه وعالجه حتى شقه وجده فارغاً. لا جرم لا عدت أملك خاطري سمعي. أو كراكب البحر وهو ظمآن يرى الماء حوله ولا يمكن أن يروي غليله منه. إني أرى وجه الأرض هنا أخضر ولكن لا شيء من هذه الخضرة يبيّض الوجه عند الأكل. إذ ما به من الطعب شيء لأن كل ما ينبت عندهم فإنما تغصب الأرض تنبيته غصباً من إفراط التدميل. فلو كان أحد هنا من اللاطة لسألناه عن طعم بقولهم ما هو. هذا ما عدا خلطهم المأكول والمشروب وغشهم وإفسادهم ما من الله تعالى به عليهم سائغاً طيباً. وناهيك أن الخبز الذي هو قوام هذا البدن لا طعم له. فإنهم يخمرونه برغوة نبات ويخلطونه بهذه البطاطا ثم يخفقونه بعد الاختمار خفقاً. فماذا يفيد القائل قوله إني كنت في بلاد الإفرنج وهو لم يجد فيها إلا الوحشة والنكد. بل ذكر ذلك له فيما بعد غصّة. إلى مصر إلى الشام. إلى تونس ذا العام. فهناك تلقى من يزورك أو تزوره. وهناك تلقى البشر دون تصلُّف والفضل دون توقف وتكلف. إلى آخر ما ذكرت لي من التأنف والتأفف. لا يطيب العيش للإنسان إلا إذا كان يتكلم بلغته. ليس العيش بطول الليالي ولا بكثرة الأيام ولا برؤية أرض خضراء ولا بمشاهدة أدوات وآلات. وإنما باغتنام أنس الأحباب. وعشرة ذوي الآداب الذين تصفو منهم السرائر في الحضرة والغياب. وتخلص لك مودتهم في الابتعاد والاقتراب. إنما الدنيا مفاكهة. قال فقلت ومناكهة. قالت ومنادمة قات ومشامة. قالت وملاءمة. قلت ومطاعمة. قالت وملاينة. قلت وملاسنة. قالت ومطايبة. قلت ومراضبة. قالت ومخادنة. قلت ومحاضنة. قالت ومراءمة. قلت ومفاغمة. قالت وملاطفة. قلت وملاغفة. قالت ومخالقة. قلت ومعانقة. قالت ومحاضرة. قلت ومحاصرة. قالت ومباغمة. قلت ومكاعمة. قالت ومعاشرة. قلت ومشاعرة. قالت ومؤانسة. قلت وملامسة. قالت ومساجلة. قلت ومباعله. قالت ومخالطة. قلت ومخارطة. قالت ومطارحة. قلت ومشارحة. قالت ومجارزه. قلت ومراهزة. قالت ومداعبة. قلت ومزاعبة. وهنا كان ختام الملاعبة. مقامة ممشية

حدس الهارس بن هشام قال. كنت سمعت كثيراً عن النساء حتى كدت أمنى بالنساء فمن قائل أن المحصن أطيب من العزب. وأسلم عاقبة من المزاحمة على منهل دونه مذب. أو المكابدة لِلْوب واللهب. أو التعرض للتجبية والعطب. وأنه كلما صدى قلبه من الكرُرَب، جلاه بابتسامة من زوجه عن شنب وارتشافه من رضاب كالضْرَب. وسماع نامة تغني عن آلات الطرب ومدام ذات حبب. فإن مما خص الله تعالى به المرأة من المزايا، وفضلها به من السجايا أن صوتها الرخيم لا يمرد عليه نكد. ولا يبدو معه هم وكمد. فأول ما تحرك شفتيها. تسكن القلوب إليها. وعند مغازلة عينيها، تنهال المسرات على من هو بين يديها. فيحنبش ويمحش. ويحفش وينتعش. ويدركل ويدرقل. ويسجل ويدوقل. ويبحشل ويدربل. وحين تمشي في بيتها متبدحة. تقول لها الأقدار فديناك من مغناج مرحِة. إن شئت رفعنا زوجك إلى قرن الغزالة. لينعم بالك بأحسن حاله. وإن شئت بقاءه عندك الليلة. لم تُعينا من ذاك حُويلة. وإن شئت أن نزيّن له السفر عاماً أو أكثر إلى طرح ذي أمن أو خطر. فأنت لدينا أكرم من نهى وأمر. فما عليك إلا نضنضة لسان. أو إشارة بنان. وحسبنا بطرفة عين من بيان. قال وأن الزوج متّعه الله بإحصانه. وهنّأه بنطرة بستانه. وجنى تفاحه ورمانه. وزاده من آلاته وإحسانه. يبعث بحضرة زوجه باللذات كما شاء. أن توخى مسَّاً مس وأن أشتهى نشوة نشا. وأن شاء داعب ولاعب وأن أبى إلى الجد فالجد طوع له كما أحب. وأن له منها منزهاً "ولكن غير بعيد عن الماء" تغيب فيه الأتراح. وتطلع منه الأفراح. وبشائر النجاح. وسراً تُزَفُّ به الدنيا إليه بمعرض بشر. ومهدي كُشْر. أن التوى عليه أمر قومته بمهارتها. وسددته بإشارتها. وإنها إذا تدعَّبت عليه وتقيأت. وتبعّلت له وفيأت. زاده الله نضرة ونعيماً. وزادك صبراً وجموماً. خُيل له أنه ملك الدنيا بحذافيرها. وفاز بجميع لذاتها وحبورها.. وأنه قد قام مقام العاهل الأعظم. خليفة باري الأمم. فلو رأى وقتئذ قاضي ماراً على بلغته، حسبه من أتباعه وخدمته. ولو رأى كافها أو وافها، لأنف من أن يكلمهما مشافها. فبعث مكانه إلى جانب الأول وصيفاً وإلى حضرة الثاني وصيفة وقال لهما أن لديَّ لكل فاتح قاهر ولاية شريفة ولكل سائل شاكر وظيفة. ولو إن امرأً أغلظ له وحاشاه في الكلام. وسفه فبادره بالتقريع والملام. أو رأى والعياذ بالله أن يمس له قذالا. ويسومه عليه قفئدا وإذلالا. فزع إلى زوجته أعزها الله فنفت عنه كل كرب. وأمنته من كل رعب. وردَّت عليه حجْره من حجرها. وصدارته من صدرها. وقالت له لا تخشَ من كيده وغِلّه. فإنما يدفع كل استحصاف بمثله. فرجع إلى ما كان عليه من الأنفة والفخار. والعز والذرار. حتى لو رأى قيلا أو ردفا، لهاء بنفسه عن أن ينظر إليهما نظر الأكفاء. فهو الراتع المنفق. المترف المتملق. الآكل وتلقاءه من درر الثنايا ومرجان الفم، ما يخيل إليه من الكامخ خير مطعم. والمسيخ أهنأ مغنم. وأن الأجاج والزعاق. أشهى من مدام الاغتباق. ألا ولو أنه بات معها على فرش حشوه شظايا. وماس منها زغابة لكان له من أوطأ الحشايا. فكل ضرّ معها يستحيل إلى فنع ونفع. وكل شظف بقربها فهو قصوف ورَتْع: ومن قائل لا بل عيش العزب أهنأ. واللذات أجنى. فإن السيدات يحسبه في كل وقت ذا جموم. وعندهن أن نبَّة واحدة منه تنفي جميع الهموم. إذ ليس له من تلزه كل ليلة للعظال. وتؤرّقه من الليل على مثل ذي الحال. ليتذكر دائماً أنه محصن ذات قرطق وخلخال. فهو على هذا محبب عند البنات. محروص عليه من السيدات المتزوجات. مشار إليه بالبنان من الأرامل الهائجات. وأنه إذا رجع إلى منزله رجع ويده خفيفة. ورانفته نظيفة. فلا من تقول له هات. أو تلومه على ما فات. ولا من تستوحيه عن المستقبل وتستفتيه في المصالح المَهْبل. ولا من تزجره عند قيق غيرها له وجلجه إليها بحفْ. أو تنجفه قبل مفارقته أياها أي نجف. أو تقول له نزاف نزاف. وإلا فالإزهاف. ولا من يبكي بين يديه وهو عاجز هن كفالته كما يحق عليه. فتراه أبد الدهر مياحا مفراحا. متعرضا للنساء متياحاً. شراحاً سداحاً. رفيقاً بالمُجحّ منهن مساحاً. وقد قيل في الأمثال السائرة سير العجاج، في كل فجاج. من لم يكن ذا زوجة كان ذا أزواج. قيل فمن ثم كانت خطوات العزب أوسع. وحركته أسرع. وكلامه أنجع. وأناؤه أترع ونغمته أرخم.

رثاء ولد

ونهمته أضرم. ونهزته أقوى. ومزته أروى. وسنانه أذلق. وسهمه أخسق. ونشره أعبق. وحبه أعلق. وطعمته أطيب وأوفر. ومادته أسكب وأغزر. وقد نسوا أن تبعق حوضه في غير سقي واحد هو عين السبب في تنكيزنزه ونزته. وتفتير شرزه ولزته إلى ذلك مما لا يليق أن تقابل به مومسة ولا حَصان. ولا يوصف به دالف ولا تيقان. قال الهارس فلما تراجع المذهبان. وتكافح المطلبان. قلت في نفسي من لنا اليوم بالفارياق. فيفتينا في هذا الأمر الرباق. فأنه أعلق بالنساء من الريبة. وأعرف بأحوالهن من ذي شيبة وشبيبة. فلقد ذاق منهن الحلو والمرَّ ولقي من حبهن النفع والضر. فلو كان حاضراً لدينا لجلا عنا ما ألتبس علينا. فسرت إلى بعض أصحابي. لا طلعه على ما بي. فما كدت اقرع الباب. حتى هوى إليّ وبيده كتاب. ثم قال بشرى بشرى فهذا كتاب من الفارياق بلغني أمس ولم يحو إِلا شعراً فتلقفته من يده فإذا فيه. أما بعد فإن: القرطبان هو الذي ... يقرو البلاد بعرسه وبها الحسان الغيد ... يستنشين نفحة فلسه من كل ذات تدهكر ... شحاذ نابي ضرسه شدّاد رخو فقاره ... نعّاشه من تعسه وبها الفحول الهائجو ... ن إلى تسدّيعَنْسه وإلى اشتفاف جميع ما ... في قعبه أو عُسّه ولربما نبرزه بالأد ... ساف أقبح رجسه حتى يعود وما له ... آسٍ لمعضل ألسه أن اللبيب من استشا ... ر منجّذاً في لبَسْه لا سيما شأن الزوا ... ج وحمل فادح وقسه من شاقه تمويهه ... ومذاق لذة رغسه فليبعلن في قَسّه ... كي يستبد بحلسه حيث السفاح مغصّص ... من يشرئب للحسه إن الغريب أضر من ... متهتك في جنسه أو لا ففي حال العزو ... بة وهو مالك رأسه صون لدرهمه وحر ... مته وراحة نفسه بل من تزوج يومه ... خير له من أمسه إذ كان في حال التعزّ ... ب موحشاً من إنسه لكن بشرط نفوره ... عن ريبة في حدسه فالبضعَ ثم البضعَ لا ... تتشاغلن عن قَسّه ما أن يضر ختام ما ... قد طاب نافع رَسّه لكنما يجب التحرّ ... زمن بواعث نحسه قال الهارس فلما تصفحت الأبيات. وزكنت ما فيها من الإشارات. قلت لله دره ما أفصله لأمور النساء ناظماً وناثراً. وما أحوجنا إلى استفتائه فيهن غائباً وحاضراً. لكنه لم ينبس عن حاله إلا فيما هو من مشكل الزواج. فكأنه رأى كل أمر دونه فإنما صوانه الإعفاج. ثم انصرفت مثنياً عليه.. وقد زاد تشوقي إليه. "حاشية: صغا الهارس مع الفارياق فلذلك لم يعب عليه بعض أبياته فإنها مضطربة العبارة. وليس من شأني التدليس على القاري فقد صار بيننا صحبة طويلة من أول هذا الكتاب. فليتنبّه لذلك". رثاء ولد

قد غُرس في طبع كل والد أن يحب ولده كلهم على كثرتهم وبرقحتم وعيوبهم وإن يراهم أحسن الناس. وأن يحسد كل من يفوقه في المحامد والمكارم إلا أباه وابنه. ومتى شاخ الرجل وضعف عن التمتع بلذات الدنيا فحسبه أن يرى ابنه متمتعاً بها. ولا لذة للمتزوج اعظم من أن يبيت مع امرأته على فراش واحد وبينهما ولد صغير لا يؤرقه ببكائه وصراخه ولا يبلّه ببلبله. كما إنه لا شيء أوجع لقلبه من أن يراه مريضاً غير قادر على الشكوى بلسانه ليعلم ما ينبغي أن يداوى به. بل الأطباء أنفسهم يحارون في مداواة الأطفال وقلما يصيبون الغرض. وكان الأولى أن يعيّن لعلاجهم أطباء اختصوا بمزاولة ذلك عهداً طويلاً. وأن ينوَّه بمن نبغ منهم فيه كل كلام مستطر ومطبوع. ويجب على الوالد أول ما يرى ولده قد مرض أن يتعهده ويراعي أحواله وما يطرأ عليه ويقيد ذلك في كتاب ليخبر الطبيب به أخباراً مبيناً. فربما أغنى ذلك عن كثير من الدواء الذي يجازف به الأطباء أحياناً لامتحان حال المريض. ومن أهم ما يستنهض عناية الوالدين في حق ولدهما أمر الطعام. لأن الطفل لما كان لا يدري حدّ الشبع الذي يقف عنده الراشد كان أكثر أسباب مرضه من الأكل. فليس من الحنّو والشفقة أن تطعم الأم ولدها كل ما يشتهيه. وإنما الأولى أن يلهّى عنه أشياء من اللعب والصور المنقشة والآلات المزوقة وما أشبه ذلك. وما أحلى الولد يطلب شيئاً من أبيه وقد حمّر الخجل وجنته أو غض الوجل طرفه. وما أحبّه وهو مطوق عنق والده أو والدته بيديه اللطيفتين ويقول إني أريد هذا الشيء لآكله. ومن سوء التدبير أيضاً أن يحرم ما يشتهيه. ويبكي لأجل ما لا ضرر فيه. ولعمري أن من أغفل رضى ابنه حتى أبكاه وأجرى دموعه لغير تأديب كان بمعزل عن الأبوة. وينبغي أن يدرّب الطفل على الخفيف من الطعام بعد ولادته بستة أشهر مع بقاء الإرضاع قليلاً. فإن الطعام يغذّيه ويقوّيه فضلاً عن أنه يحفظ صحة والدته. بل ربما مناها طول إرضاعها إياه بمرض ولم يفده شيئاً كما هو مذهب الإفرنج وهم أكثر الناس ذرّية. ولا ينبغي أن ترضعه وهي غضبى أو مذعورة أو مضطربة أو مريضة. ثم إنه ما دام الرجل عزباً أو كان لم يربّ قط لم يشعر حق الشعور بالحنو على أولاد غيره. بل لم يقدر والديه اللذين ربّياه حق قدرهما إلا بعد أن يصير هو والداً مربّياً. والأمّهات اللائي يرضعن أولادهن يكن بالضرورة أحنّ فؤاداً عليهم من اللائي يستأجرن لهم المراضع. ولا جرم أن من كان له ولدا وقرأ قول الشاعر. وربّ أمّ وطفل حيل بينهما كما تفرّق أرواح وأبدان. لم يتمالك أن يذرف الدمع لوعة وتحسّراً. وكذا لو قرأ قصصاً فيها فجع الآباء بقتل أولادهم الصغار الأبرياء كقتل أطفال مدين بأمر موسى على ما ذكر في الفصل الحادي والثلاثين من سفر العدد سواء كان أبوا الطفل مؤمنين أو كافرين. ومن لم يكن قد تحلى بصفة الأبوة كالراهب وأمثاله ودعاك: يا بُني أو يا ولدي فلا تثق بكلامه ولا تعول على دعائه لأنه لا يعلم معزة البنوّة إلا من كان ذا أبوة.

وكان الفارياق ممن أذاقه الله حلواء البنين ثم تجرع مع ذلك مرارة الثكل. فقد كان له ولد بلغ سنتين وكأنه قد سبك في قالب الحسن والجمال فجاء لم يَعْدُه شيء مما تقر به العين. وكان على صغر سنه ينظر نظر المميز بين المؤنس والموحش ويألف من تملق له ولو بإشارة. فكان أبوه إذا رنا إليه ينسى في الحال جميع أشجانه وهمومه. ولكن لم يلبث أن يغشاه عارض من الكآبة إذا كان يوجس إنه لا يدوم له على عين الدهر اللامّة. ويرى نفسه إنه غير جدير بأن يتملى بتلك الطلعة الناضرة. وكان يحمله على ساعديه مسافة ساعة وهو يناغيه ويغني له. حتى ألفه الطفل بحيث لم يعد يشأ أن أحداً غيره يحمله أو يلهيه أو أنه يأكل وحده على انفراد. إلى أن قدر الله ربّ الموت والحياة أن أخذ الصبيّ سعال في تلك القرية. ولما كانت قرى الإنكليز الصغيرة كغيرها من قرى البلاد من أنه لا يوجد فيها أطباء مهرة وكان لا بدّ من مشاور طبيب على أية صفة كان، أستشار أبواه أحد المتطببين هناك. فأشار عليهما بأن يتداركاه بالاستحمام بالماء الساخن إلا رأسه. فعملا بوصيته أياماً. ولم يزدد الصبي إلا سقاماً. حتى كان إذا أنزل في الماء بعدها يُغشى عليه ويُرى فوق قلبه لطخة حمراء كالدم على شكل القلب. ثم أشتد بع الداء حتى أحتبس السعال في صدره وخفت صوته. وكان يعاوده مع ذلك الرعدة والهزة. وبقي في حالة النزع ستة أيام بلياليها وهو يئن أنيناً ضعيفاً وينظر إلى والديه كالشاكي لهما مما يقاسيه. استحال الورد من خديه عبهراً. وغارت عيناه النجلاوان. ولم يعد شيء من الغذاء والدواء يسوغ في حلقه إلاّ تكلفاً. وكان الفارياق في خلال ذلك يذرف العبرات ويجأر بالدعاء إلى الله ويقول: ربّ اصرف هذا العذاب عن ابني أليّ إن كان ذلك يرضيك. أنني لا مأربَ لي في الحياة من بعده ولا طاقة لي على مشاهدته في هذا النزع الأليم. فأمِتْني قبله ولو بساعة حتى لا أراه يجود بنفسه. آه عظمت ساعةً. وأن كان لا بدّ من نفوذ قضائك به فتوفّه الآن ولعل الفارياق هو أول والد دعا على ابنه بالموت عن شفق وحنوّ. فإن رؤية الطفل يغرغر ستة أيام مما لا يطاق. وبعد أن تُوفيّ الولد، وأبقى في قلوب والديه الحسرة والكمد، استوحشا من مقامهما إذ كان كل شيء فيه يذكرهما فقده ويزيد في لوعتهما. ففصلا منه إلى لندرة على حين غفلة وقد وضعاه في صندوق فلما دفناه واستقرا في منزل قال أبوه يرثيه: الدمع بعدكما ذكرتك جارِ ... والذكر ما وأراك تربُ وارِ يا راحلاً عن مهجة غادرتها ... تصلي من الحسرات كل أوار خطأ وهمتُ فأين بعدك مهجتي ... ما في حشاي سوى لهيب النار رَمَقاً أقل الجسم مني فادحاً ... فكأنه وقر من الأوقار ما كان ضرّ الدهر لو أبقاك لي ... عيناً على الآثار والأذكار ما بعد فقدك رائعي أو رائقي ... شيء من الظلمات والأنوار سيان أن جنّ الظلام عليّ أو ... طلع الصباح وأنت عني سار يا بئس ذاك الليل إذ لم يبق لي ... من مطمع فيه إلى الأسحار أرّقتني من قبله ستّاً وفيه ... حُرمْت خمسي واستطبت شعاري أبُني ما يجدي التصبر قولهم ... حكم المنية في البرية جار كلا ولا بي قرّ بعدك من حمى ... ما هذه الدنيا بدار قرار كم قد حملتك فوق راحي إذ غدو ... تورحت ثُمت حُرْتُ خير محار ولكم سهرت الليل من جزع فما ... أغنى بكاي عليك أو أسهاري ولكم جأرت لبرء دائك ضارعاً ... ولغير نفع كان طول جؤاري ولكم حضنتك في الحنادس خوف أن ... يطرأ عليك من الحوادث طاري وجمال وجهك لي يخيل أنني ... في روضة أنف ضحاء نهار أن لم يصورك المصور لي فقد ... صُوّرت بالمأثور من أشعاري أو أن يكن وأراك لحد ضيق ... فالأرض عندي اليوم أضيق دار أو أن تكن عني حجبت فإنما ... بقيتْ حلال خوالج الأفكار لا أنسينك أو أحين فما أتى ... حين عليّ خلا من استذكار ولا رثينك ما بقيت وأن أمُت ... فليتلون رثاك عني القاري يا حسرة عدم التبصر بعدها ... عدم التبصر في احتمال خساري كثر المعاين لي وقل معاوني ... وكوت حشاي شماتة الزوار

الحداد

فرويتُ بيتاً قاله من ذاق ما ... قد ذقت من ثكل ووحشة جار جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري يا فجعة نزلت فحطم كاهلي ... تأويقها وأبان قصم فقاري في ليلة فارقت فيها ناظري ... أبدا وفارقني على إجبار لا غرو أن يك قد سرى جنح الدجى ... عن ناظريّ فكل نجم سار قد كنت أطمع أن يعيش مهنأً ... بعدي ويبلغ أطول الأعمار ووددت لو أن ذقت حتفي قبله ... لكن خيار الله غير خياري وسَّدته بيديّ رغماً ليته ... هو كان وسدني على إيثاري عيني إليه رنت وما لي حيلة ... يا ليت من نظرِ مُنَى إنظار قصرت يدي عن كف ما أودى به ... أن القصور مظنة الأقصار لهفي عليه وطرفه لي يشتكي ... إذ كان لم يقدر على الأخبار لهفي عليه على السرير موسّداً ... ولو استطعت لكان فوق يساري لكن أدنى اللمس كان يزيده ... ألماً فكان يؤوه من أشعاري ويئنّ أنة مستجير واجفاً ... كالطير قُرّ فبات دون قرار حتى خشيت الدمع يؤلم جسمه ... لما عليه همي كودْق جار يا رعشة أودت به قد أورثت ... قلبي الوجوب ولوعة التذكار ليت النفوض أقرّ عيني بعد أن ... سخنت بنفض فيه ذي إقرار لهفي عليه في الظلام معانقي ... وكرايَ من شفق أليم غرار لهفي عليه والغناء ينميه ... وإذا سكتّ صبا إلى الإكثار لهفي عليه وهو يأخذ من يدي ... ويعيد ما يعطوه لاستغزار لهفي عليه وهو لائك رُدْنه ... بلآلئٍ وضاحة ودراري يا يوم أنشبت المنيةُ فيه ... طفلاً لا يطيق عوالق الأظفار يا خطة عالت فسوَّت بين ... حتفي والحياة إلى مدى مقدار قد كان يحلو العيش حين يلوح لي ... والآن مرّ فصار ذا أمرار لا البعد يسليني ولا طول المدى ... وتخالف الأعصار والأمصار ما تنقضي الحسرات أو أقضي أميً ... فبذا عليّ جرى قضاء الباري كلا ولا تطفي أواري عبرتي ... ولئن همت في الصب كالأمطار فالنار إلا النار ثكل تنطفي ... والماء إلا الدَّمع ضد النار يا ليت راهي العيش يوماً راجع ... وفداء مربوب أبوه الهاري فأكون فاديَ عمر نجليَ لاقيا ... حتفي لقاء القانع المختار داريت ما لا ضير فيه لأجله ... فاليوم لست لما بضير أداري أن المنية والأماني بعده ... سيان مستويان في استئثاري فلتفعل الأيام بي ما تشتهي ... ما بعد هذا الخطب من أضرار ولتذهب الآمال عني أنني ... لم يبق لي في العيش من أوطار من ذاق ثكلاً مثل ثكلي فاجعا ... فليُقصرنَّ اليوم عن أصْباري وليبكينّ معي ويحملني على ... فرط البكاء بمدمع مدرار ما هدّ ركن الصبر مثل الثكل أو ... حَسَم المطا كحسامه البتّار الطفل يقضي مرة لكنما ... يقضي أبوه فبله بمرار تمروه في نزع أبنه وخفوته ... أدوار حين أيّما أدوار هيهات من قد أشبهت أطواره ... في فقده أوطاره أطواري أو أنّ في سوء الأسى لي أسوة ... أو أن في طول الحياة قصاري لن ينفع الإنسان شيئاً حرصه ... كلَّ إلى أجل على مقدار الموت غاية كل حيّ يستوي ... يه ذرو الأيسار والأعسار والسابقون يضعهم يوم ... مع المتأخرين إلى ثرىً منهار لكن يوم الطفل أفجع حيث لم ... يعرف له مضمار سعي دار ما لذّ طعم العيش إلاّ من عداه ... الثكل لا من كان ذا أيسار فالرزء في الأموال مثل الشعر تر ... زأه فينبت خِلفة الأطوار فليهْنِ من عاشت بنوه عيشه ... وليصف مورده عن الأكدار بعض الزوايا قد يساغ وبعضها ... يبقى شجا يشجي مدى الأعصار الحِداد

ثم لما يكن بدَّ للفارياق من السكنى بالقرب من تلك القرية المشؤومة سافر بأهله إلى كامبردج. وبقوا مدة طويلة يمشون وجفوفهم ما بين منطبقة ومنفتحة. لأن شدة الحزن تصرف القلب عن الشهوات أو بالعكس. ثم تراخت عقدة الحزن قليلاً عن العيون لا عن القلوب. لأن العينين لا تطاوعان القلب دائما. كيف وقد قيل وضعيفان يغلبان قويا. فاستحلّ كل منهما أولاً الصأصأة والوصوصة والتيصيص والتيضيض والتجصيص والتبصيص والوبص والتبصير والتفقيح. ثم اللوح واللمح والنقد والخزر والتخازر والشُّطور والمخاوتة والمخاوصة والملاوصة والتحشيف والعرضنة والرَّمْق والحَدَل والزَّر والايماض واللحظ والالتفات والدنفسة والتشاوس والمغاضنة والمخاوتة. ثم الايشام والنظر والبغو والصَرو والاجتلاء والتجلية والرَّنء والبصر والمعاينة والمشاهدة والرؤية والبغي والبقاوة والبقي. ثم الرأرأة والالأة والتبريق والبشق والتحديج والتحديق والتجحيظ والتبجيم والتحجيم والتجحيم والتحميج والحملقة والعسحرة واللتء والضبَّز والتبخُّص والاسفاف والارغاف والورورة والحتر والطنفشة والاتْآر والحدقلة والطرفسة والزنهرة والبندقة والبنق والتجنيص والتفصيص والتهصيص والارشاق والرعام والبرشمة والبرهمة والجرسمة. ثم الشخوص والطمس والجحم والاشصاء والتطاول والتطالل والاشرئباب والاسلطاء والاشتياف والاستيضاح والاستشراف والاهطاع والتدنيق والترنيق والحتء والحتش والصدء والاسجاد والتأمل والتكلئة والتفرس والتطلع والرنوَّ والترني. ثم تصالحت العيون والقلوب، فغدت تلك تترجم عن هذه والكمد مع ذلك مخيم في اطرافها.

غير إن الإنسان خلق من نطفة أمشاج وركب من عدة أخلاط وجواهر وأعراض مختلفة. فهو لا يزال ابد الدهر ماشجاً هذا في ذاك وخالطاً جداً بهزل وفرحاً بترح. فتراه ساعة قانطاً وأخرى كأشعب. وآونة مفراحاً وأخرى مبتئساً. ويوماً طرباً شنقاً ويوماً أو بعض يوم عزها. فهو بشر خَلقاً وغول خُلقاً. وأكثر ما ترى منه غملجيته هذه في أمر النساء. فإنه أن تزوج بمليحة قال ليتني كنت تزوجت بقبيحة وسلمت من ضيزنية معارفي وجيراني. وأن تزوج قبيحة قال ليتني تملّحت بمليحة لأكون ذا وجاهة ونباهة. وإن كانت امرأته بيضاء قال ليتها كانت سمراء. فإن السمر أخف حركة واسخن في الشتاء. وإن كانت سمراء قال ليتها بيضاء فإن البيض ارطب أبداناً في الصيف. وإن كانت كمكامة مكتنزة قال ليتها كانت ممشوقة هيفاء. فإن الهيف أقل مؤونة. وإن سافر عنها قال ليتها هي التي سافرت وبالعكس. إلا في مدة وضعها فإنه لا يتمنى أن يكون في موضعها وقس على ذلك من الأحوال النسائية ما لا يمكن حصره. إذ أخفى شيء من المرأة إنما هو بحر لا يمكن البلوغ إلى قعره. والحاصل إن القلب شؤوناً كثيرة وأحوالاً متباينة لا يزال يتقلب بها. أو لا تزال هي تتقلب به. وعلى كل فتسميته قلباً دالّة عليه. ويستثنى من هذه القاعدة شيء واحد وهو ثبات الإنسان في كل حال وشان. وإصراره في كل زمان ومكان على تفضيل نفسه على غيره. فلو كان فاجراً حسب أن لا بره عند الله إلا بره. وإن كان فظَّاً غليظاً رأى كل كيس ربيز دونه. وإن كان بخيلاً ظن إن كل حرف يفوه به هو منَّة كبرى. وإن كان دميماً ذميماً لم ير اللوم إلا على نظر الناظرين له. وكما أن عين الإنسان تنظر كل ما واجهها ولا ترى نفسها كذلك كانت بصيرته مبصرة بعيوب الخلق كافة إلا عيب نفسه. ولو طاف الدنيا بأسرها لما رأى فيها من المحاسن ما في مدينته أو قريته. ثم ليس من المحاسن في بلدته ما في بيته. ولكن ليست هي أحد من أهله كما هي فيه. فتحصل من ذلك إنه أفضل من في العالم كله. ولو أنه كان شاعراً أو بالحري شعوراً لا يحسن إلا الإطراء على بخيل أو التغزل بهند ودعد. ثم رأى علماء الرياضة والهندسة يخترعون من الأدوات مثلاً ما يطوي شقة خمسمائة فرسخ في يوم واحد. لحسب أن شعره أنفع من ذلك وألزم. ولو كان مغنياً أو لاعباً بآلة من آلات الطرب ورأى جاراً له طبيباً نطاسياً يداوي في كل يوم خمسين عليلاً ويبرئهم بإذن الله لاعتقد أن صنعته أشفى وأنفع. ولم يخطر بباله قط أن الإنسان يمكنه أن يعمر في الأرض دهراً طويلاً من دون سماع غناء أو عزف بآلة. فمتى يتعلم الإنسان أن يعرف نفسه. وإن يفرق بين الحق والباطل وأن لا يخلط الحزن الكامن في القلب بالتحديق والحملقة.

جود الإنكليز

وأقبح من ذلك أن كل واحد من الناس يظن أن غيره أيضاً يفعل كذلك فهو معذور عند نفسه بكونه حاذياً حذو غيره. ومثله قباحة شأن من تلبس الحداد على ميَّت لها وهي في خلال ذلك يزدهيها الرناء ويستخفها ذكر الذكران. وترتاح إلى رؤية اللون الأسود وتطربها نغمة القائل لها أن فلانا مشغوف بحبك. وأنك جديرة بأن تقعدي على منصبة وتأمري وتنهي الوصائف من حولك أو بالحري الوصفاء. وإن لا تتناولي شيئاً بيدك هذه الرخصة. وأن لا تخرجي من دارك ماشية على رجلك هذه اللطيفة. وأن لك في كل مكان عشاقاً كثيرين بحيث لا تعدمين في كل وقت من يحوطك ويخدمك ويلاطفك وينسيك حزنك. وغير ذلك من الكلام الذي هو انتهاك لحرمة كل من الموت والميّت. قال الفارياق قد رأيت كثيراً من النساء الحوادَّ في بلاد الإنكليز وغيرها وهن اكثر خفة وطرباً وازدهاء وضحكاً من العروس وأمها ولم أرَ بينهن من كانت تنظر إلى ثيابها السوداء إذا ضحكت لتتذكر أن كركرتها في غير محلها. أما في أمر الزواج فربما يطلب لهن الحليم عذراً بأن يقول مثلاً: لعل زوجها كان يخونها في الليالي الحالكة فترديها السواد إنما هو لتتذكر سوء أفعاله معها في سواد تلك الليالي. أو أن أيامها معه كانت كلها سوداً كالليالي. فأما في أمر الولد والأب وغيره فلا عذر لمن أحدت وهي مرارئة مهزقة. ثم أن المحدّ عند الإفرنج مطلوبة للرجال مرغوب فيها بمنزلة العروس. إذ الفحول يتزاحمون على تسليتها وتلهيتها لعلمهم بما تحت ذلك السواد. وبأن هذه العادة هي من جملة العادات التي خالف استعمالها وضعها. والظاهر أن لفظة المُحدّ في لغتنا هذه الشريفة مشتقة من حدّ السكين وأحدّها وحددها أي مسحها بحجر أو مبرد فحدّت تحدّ. فكأن لابسة الحداد تحدّ شهوة الناظر إليها إذ يرى عليها آثار الحزن والكآبة والانكسار وهو أشوق ما يكون في النساء. ويؤيده إن صنفاً من الثياب السود يسمى إِسباداً. وهذا الحرف يجيء أيضاً بمعنى حلق الشعر كالسبد وأنت بتمام المعنى أدرى. وتسمى أيضاً سلاباً والسليب هو المستلب العقل. فكأن المرأة إذا تسلبّت أي أحدَّت ولبست السَّلابا سلبت عقل ناظرها. فأول ما يقع نظره عليها يقع قلبه معه فيقول لها أو في نفسه. فديتك بأبي أنت وأمي. لله أنت. وقاك الله. وهبني الله فداك. إن شئت أن أكون أول من توسل لمحو هذا الحزن من صدرك فعلت فإني أنا أقْدر منك على تحمل المكاره. فالق عليَّ هذا الهمّ القادح وكوني أنت مهْنأة مسرورة. أن لدى آلة طرب عظيمة وخزعبيلات كثيرة تفرّج عنك الكرب. فلو زرتني مرة أو سمحت لي بأن أزورك لم يعد يخطر ببالك شيء من الأشجان. إنك رخصة رعبوبة وأرى هذا الخطب قاسحاً عليك فلا يزول إِلا بقاسح مثله. ليتك تعلمين ما عندي من الأسى والوجد لأجلك. وإني عتيد لأن أحرم نفسي من جميع المسّرات بحيث أراك تفترين عن ذلك الشنب الأشهى. وتبدين في خديك عند الضحك تلك النقرة التي طالما نقرت قلوب العشاق. أي قلب لا يذوب لهذا الانكسار. وأية عين لا تنزف الدمع على هذا الإزار. قدني حزناً لحزنك وحسبي أن أجلو عنك صدأ هذا الهم. وكذلك المرأة المحدّ فإنها تعلم وهي ماشية ما يخطر ببال ذلك المشفق عليها فتقول له أو في نفسها. نعم والله إني محتاجة إليك لتخفف عني ما أجده اليوم من الوحشة والسدم. وقد بت البارحة وأنا غريقة في غريقة في بحر الأفكار والأكدار. واراك جديراً بأن تعاقرني وتسامرني وتعاشرني وتبادرني وتباكرني وتجاورني وتحاضرني وتخاصرني وتذاكرني وتساورني وتسايرني وتداورني وتشاعرني. فالحمد لله الذي هداني اليوم إليك وهداك إليّ وقيضك لي. لأني امرأة منكسرة الخاطر ولابدّ لي مَّمن ينفس عني ويؤنسني. حتى إذا نسيت ما أكابده وألمّ بك كرب كان عليّ أن افرج عنك فإن عندي مصدر اشتقاق الفرج. ومني تنال أتمّ الحبور، واعمّ السرور. فهلمّ إذا إلى المخالطة والمراوحة. والمساجلة والمكافحة. فهذا ما ينشأ عن لبس الحداد. ولذلك كان كثيراً من النساء يؤثرون الثياب السود ثقة بأنها تقوم في تشويق من يلاقينه من الرجال مقام الحداد. ولذلك كانت الإفرنج أيضاً يحبون اللون الأسود في الملابس ولا يتجاوزونه. ولذلك كان لباس القسيسين والأئمة أسود. جود الإنكليز

لما فرغ الفارياق من علمه في كامبردج سافر إلى لندرة على عزم أن يرجع إلى الجزيرة واستصحب معه حمى نافضا. غير أن أحد الأطباء الخيرين في هذه المدينة نفضها عن ظهره ولم يتقاضه شيئاً. ثم أصيب الفارياقية بخفقاني القلب واللسان. فإنها كانت وقتئذ مهرت في لغة القوم. ثم أصيب هو بخفقاني العقل والرأي. وذلك إنه لما تصرمت مدة غيابه عن الجزيرة وأزف وقت رجوعه رأى أن العود إليها غير أحمد. لأن أحوالها تغيرت عمل كانت عليه من الخصب والبحبحة في المساكن. وتلك عادة الفارياق إنه لا يدخل بلداً خصيباً إلا ويفارقه ممحلا كما تقدمت الإشارة إليه. ولأنه فاته فيها بعض فوائد فحرم منها لطول غيابه. فمن ثم قصد مدينة اكسفورد ومعه كتاب توصية إلى أحد أعيانها وعلمائها وهو من أهل الكنيسة. فرأى الوصول إليه متعذراً فإن العلماء في هذه المدينة ليسوا كعلماء مصر في رقة الجانب وبشاشة اللقاء. بل هم أشد فظاظة من العامة. وعندهم إن الغريب لا يأتي إلى بلادهم إلا والشلاّق على عاتقه. ولذلك لما ذهب الفارياق ذات ليلة ليرى بعض هؤلاء العلماء صادفه أحدهم بباب المدرسة فقال له: من تقصد؟ قال فلانا. قال أين تسكن؟ قال في محل كذا. قال أعندك دراهم لتفي أجرة المسكن. قال ما أنا بمطران ولا راهب حتى تزعمني أني قدمت إليكم متسولاً. ثم لما تعذر عليه الوصول إلى جناب ذلك القسيس المعظم ولم يجد فيها أهلاً للخير سوى رجل من الطلبة يسمى وليم سكولتك Williams Scoltock وآخر من التجار كان الفارياق اشترى منه قطعة حبل ليربط بها صندوقه فأبى التاجر أن يأخذ منه ثمنها فكأنه ظن الفارياق لم يشترها إلا بعد أن استخار الله في أن يخنق بها نفسه. رجع إلى لندرة وفاوض زوجته في ذلك فقالت له أن الجزيرة أقل خيراً من أكسفورد وإني مللت منها كل الملل. فقد أضعنا فيها زهرة عمرنا ولم نحصل منها على ثمرة. فما الرأي أن نعود إليها. فقر رأيه حٍ على أن يستعفي من خدمته فيها وكتب كتاباً إلى كاتب سر الحاكم يؤذن بذلك. ثم أشتد بالفارياقية الخفقان فرأى إن مقامها بباريس خير لهما. وذلك لما شاع عند الناس إن هواء باريس أصح من هواء لندرة. وإن المعيشة فيها أرخص والحظ أوفر. إن الفرنسيس أبش بالغريب من الإنكليز وابر. وإن لغة العرب عندهم اكثر نفعاً واشهر. وغير ذلك من الأوهام التي تدخل أحياناً في رؤوس الناس ولا تعود تخرج إلا مع خروج الروح. ولكن ينبغي قبل سفر الفارياق من هذه المدينة أن نعيد عليك بعبارة وجيزة وصف ما فيها من المحاسن والجود على أهلها أي على أهل الجمال. لتعلم هل رحيل الفارياق حلال أو حرام. وليكون ذلك وداعاً من الإنكليز. فإن الكتاب قارب أن يتم ولم يبق من مجال للإسهاب. لأني أخشى من أن يأتي هذا الكتاب الأخير اكبر من الأول فيكون ذلك موجباً للقدح فيَّ من وجهين. أحدهما إن مطالعيه يقولون إن المؤلف كان يؤلف الفصول في أوله قصيرة والآن ينشئها طويلة. فكأنه كان أولاّ غير ذي دربة بالتأليف أو أنه يريد أن ينسب إليه مضمون قولهم جري المذكيات غلاء. والثاني إنه كاد أن يلحق نفسه بالطرّادين وهو لم يشعر ولم يدر. فلقد مللنا من كلامه وإعادة قوله قيل وقال وكان وصار فهو قد تبوّأ صهوة الجدل منه وإليه. ولم يغادرنا نراجعه ونعترض عليه. فما جزاء الثرثار من المؤلفين إلا إلقاء كتابه في القمين. قال الفارياق تصوّر في عقلك إنك ساكن في حارة من حارات لندره ذات صفين متوازيين متصاقبين متناوحين. في كل صف عشرون داراً. ولكل دار باب ولكل باب عتبة. وأمام كل عتبة درج أو وصيد مبلط. ثم مثل لعينك هداك الله أربعون بنتاً من الرُّمم النواهد. والجثم الخرائد. والعُبُن المواغد. والرَّجح الثوامد. ذوات التبهكن والمرافد. والمراضب والمشانب. والصلوتة والسجاحة. والاسولة والصباحة. واللباقة والملاحة. والكلثمة والترارة. والوثامة والنضارة. والوضاءة والبشارة. والقسامة والشارة. والطلاوة والوثارة. والوثامة والبضاضة. والطراوة والغضاضة. والغرض والمسألة. والملد والعبالة. ومن الزهر والغر والفر والصهب والصبح والصحر والعفر والفضح والمغر والادم والخلس والبره والوده والعين والنجل والشهل والبرج. والشكل والدعج والجود والبج والفرق والزج والجبه والبلج والبلد والذلف والخنس والشم واللعس والحو واللمى. ومن كلّ

رغُبوبة شطبة تارة أوبيضاء حسنة رطبة حلوة أو ناعمة. وكان حق هذا الحرف أن يوضع في جدول الكتاب الثاني لكن رأيت الحكاكات أولى به لتحقق معناه فيهن. ولبّة لطيفة. وذات وجه مصفح المصفح من الوجوه السهل الحسن. وبهْصَلة شديدة البياض. ورَبلة عظيمة الرَبَلات والرَبْلة ويحرّك كل لحمة غليظة والربالة كثرة اللحم. وربَحْلة ضخمة جيدة الخلق طويلة. وربيل ناعمة لحيمة. وذات شعر رجل بين السبوطة والجعودة. ورفلة أي تجرّ ذيلها جرّاً حسناً. وزولة خفيفة ظريفة فطنة. وذات عين سبلاء طويلة الهدب. وسبحل ضخمة كالسبحلل. واسحلانية المرأة الرائعة الطويلة الجملية. وطفلة رخصة ناعمة. وعبلة عثلة ضخمة فخمة. وعيطل طويلة العنق في حسن جسم. وعطبول فتيّة جميلة ممتلئة طويلة العنق. وعيطبول طويلة القدّ. وعميثلة البطيئة لعظمها وترهلها ومن تسبل ثيابها دلالا. ومكتَّلة مدورة مجتمعة. وهيضلة الضخمة الطويلة. وهيكلة عظيمة. وهولة المرأة تهوّل بحسنها. وعيهل طويلة ومثلها العيطبول والغلفاق والعنشطة والعنطنطة والعلهبة والسَّلهبة. وعندلة ضخمة الثديين وهي أيضاً الطويلة. وعر طويلة حسنة الشباب والقدّ. وعرندلة طويلة صلبة شديدة. ومجدولة لطيفة القصب محكمة الفتل. وخثلة ضخمة البطن. وهركيل حسنة الجسم والخلق والمشية كالهركولة. ومأرومة حسنة الخلق مجدولته. وجريمة عظيمة الجسد ونحوها الجسيمة. وجمّاء العظام كثيرة اللحم. وحمامة جميلة. ودرماء لا تستبين كعوبها ومرافقها "من تغطيه اللحم لها". ورعموم ناعمة. وسلمة ناعمة الأطراف. وشغموم طويلة مليحة كالشغمومة. وضخمة عريضة اريضة ناعمة. ومطهمة السمينة والبارعة الجمال والمدوّرة الوجه المجتمعه. وفعمة استوى خلقها وغلظ ساقها. وقسيمة جميلة وكذا الوسيمة. وكثمة ريا من شراب وغيره. ومكلثمة مجتمعة لحم الخدين بلا جهومة. وكمكامة قصيرة مجتمعة الخلق. ووثيمة مكتنزة لحما. وموشم أوشمت المرأة بدا ثديها. وهضيم الهضم خمص البطن ولطف الكشح. وبثنة حسناء بضة. وبخدن ناعمة. وبادن معروف كبادنة. وبهنانة الطيبة النفس والريح واللينة في عملها ومنطقها والضحاكة الخفيفة الروح. وبهنكة شابة غضة ويقال للعجزاء تبهكنت في مشيتها. وجهانة شابة. وحبناء ضخمة البطن. ذات شعر حجن متسلسل مسترسل. وخليف المرأة التي أسبلت شعرها خلفها. وراقنة حسنة اللون. ومسنونة الوجه حسنته سهلته أو في وجهها وانفها طول. ومشدونة العاتق من الجواري. وذات عسن الطول مع حسن الشعر. وعكْناء تعكن بطنها. وغيْسانة ناعمة. وفينانة كثيرة الشعر. وقتين جميلة. وملَسَنة القدمين الملسّنة من الأقدام والنعال ما فيها طول ولطافة كهيئة اللسان. ووَهْنانة بها فتور عند القيام. وبرَهْرَهة البيضاء الشابة والناعمة أو التي تُرعد رطوبة ونعومة والبره الترارة. وذات رهْرهة الرهرهة حسن بصيص لون البشرة ونحوه وترهره جسمه "والأحرى جسمها" أبيض من النعَّمة وجسم زهْراه ورُهروه ورهْره ناعم أبيض. وفارهة الجارية المليحة والفتيّة. وودهاء المرأة الحسنة اللون في بياض. وموهوهة التي ترعد من الامتلاء. وسجْواء الطرف ساجيته أي ساكنته. وعابية حسناء من عبا يعبو أي أضاء وجهه. وحسنة العُرية أي المجرد والمعاري حيث يرى كالوجه واليدين والرجلين. تأخذ بيديها اللطيفتين مكشطا وصابونة ودلواً فيه ماء حميم. ثم تجثو على ركبتيها المدملجتين وتطفق تحك عتبة الدار ووصيدها وهي تتذبذب وتضطرب وتتحثحث وتتعثعث وتتمثمث وتتبعج وتتحلج وتتخلج وتترجرج وتتمخج وتتمعج وتتنجنج وترتجح وتتضحضح وتتأود وتتخضدَّ وتترعد وتميد وتتأطر وتتدهكر وتتزرزر وتسجهر وتتمرمر وتتململ وتمور وتتحيز وتترجز وتتلزلز وتتمزمز وتتهزز وتتحسحس وتترهس وتتمخس وتترخش وتتنغش وترتعص وتترقص وتتنصنص وتوخص وتتخضخض وتلضلض وتتمخض وتتريع وتتريه وتتنوع وتتغضف وتترقرق وتتريق وتتركرك وتروه وتريه وتتلوه وتتلوى وتصرى. وربما أتفق مع رؤية ذلك سماع آلات الطرب يعزف بها في الشوارع فيا حسن ذلك منظراً ومسمعاً.

وصف باريس

ولكن يا أغنياء لندن وأعيانها ألم يكن لكم من وسيلة لمشاهدة هذه الشواخص والجواهض إلا باذلة عزة الحسن المصون. أيحل لكم انتهاك حرمة الجمال وأمجال أيدي هؤلاء الحسان وركبهن لتلامس أعتابكم. ما بال جيرانكم الفرنساوية لا يفعلون ذلك وأنما يسومون خدمتهم تنظيف درج الديار من داخل فقط. فيضع الخادم شيئاً كالقبقاب أو النعل في رجله ويكشط به ما قدر عليه وما لم يقدر عليه يتركه إلى المرة الثانية أو الثالثة. ونحن كذلك لا نكلف نساءنا هذا التنطس الذي لا معنى له. وإنما نكل اليهن ما آل إلى الفقش والرفش أي الطعام والفراش. ومع ذلك فتزعمون أنكم تحترمون النساء وتعرفون قدرهن أكثر منا. لقد كبر ذلك قولاً. فأما تسريحهن في الليالي ليطفن في كل زقاق وشارع وتسفيرهن إلى البلاد الشاسعة وحدهن فلا يعدّ عندنا من الإكرام لهن في شيء: بل هو أحرى أن يكون ديبوبية وقرطبانية وكلتبانية وديوثية وقمعوثية وقوّادية وتوريّة وسقْرية وصقْرية وعزورية ولياسية وطزعية وطسعية وقنْدعية وقنذعية ودُسفانية وإدْسافية وإمذائية ومُمانويّة. وشعنبية وشقحطبية وأدفائية وأرفحيّة. ليت شعري كيف يكون قلب الخادمة حين تأمرها مخدومتها في كل يوم قائلة حكي العتبة. أو حين تسألها رفيقتها هل حككت اليوم عتبة سيدتك. نعم لو كانت العتبة وردت عندكم بمعنى المرأة كما هي في لغتنا هذه الشريفة لكان لا يبعد أن يسبق وهمها عند السؤال إلى ذلك إلا أن لغتكم يابسة قاسحة لا تحتمل التأويل ولا التخريج. ولست أرى لهذه العادة المشطة من سبب سوى أن أحد كبرائكم كان قد أتخذ خادمة رعبوبة والله أعلم منذ ثلاثمائة وخمسين سنة. وكانت امرأته دميمة فغارت السيدة منها فكلفتها حك العتبة والوصيد في كل يوم إذلالاً لها في عين سيدها كأنّ القلب لا يعلق بهوى الجميلة المسكينة كما يعلق بهوى الفُنُق. أو كأنّ الشيء الممجمج يحتاج إلى مرفد. أو الشيء المتدملك إلى وشيعة من القطن. أو الغيل إلى غلالة من الخز. أو المكْرة إلى جوارب من حرير. فسرت هذه العادة الذميمة في جميع كبرائكم إلى عصرنا هذا عصر التمدن والرفق بالنساء. وأنتم أسارى العادات والتقليد. فمتى الفتم فعلة لم يمكنكم أن تنتقلوا عنها. وذلك كتكليف الفتيان من خدمتكم ذرّ رماداً أبيض على رؤوسهم حتى يكونوا كالشيوخ من فوق. وككشف عجائزكم في الولائم عن ترائبهن وأذرعهن. مع أنه لا مناسبة بين أوقات القصوف والحظ ورؤية ترائب منجرد تمني القوم بالقمة. فأما مواطأة الناس على ما اخترعه الأمراء والأعيان على العادات السيئة فهو غير خاص بكم. بل هو عام أيضاً عند سائر الأمم الأفرنجية. وصف باريس كان وصول الفارياق إلى هذه مدينة الشهيرة في ذات ليلة ضباب فكانت عيناه معمشتين عن رؤية ما فيها من الخصائص. فلما أصبح أخذ يطوف في شوارعها كالمتفرّغ المتبطل فإذا بها ملآنة من المزالج والمزالق والروامج والروامق والجرائي والأطناء والرباي والملمُوات والجَذّابات والرُجَب والروب والفخوت والحراج واللُبَج والبياحات والنصاحات والمصايد والفخاخ والشواصر والنوامير والقحازات والدحاحيس والمفاقيس والشصوص والبيضاوات والقُفّاعات والمجازف والخواطيف والعواطيف والكُفف والربَق والطبق والعوادق والنُشَق والعلاليق والأوهاق والشباك والأشراك والشَوْدكات والأحابيل والكوابيل والشهوم والمصالي. فظهر له أن قوام كل شيء وعتاده وملاكه وقطبه العاصمة متوقف على وجود امرأة. فجميع الصُؤب والكُلَب والحوانيت والكُفُت والقرابج والكرابج والكناديج والمفاتح والمحاسب والمثابر والأنبار والمخازن والمحارف والمصانع والفناتق والفنادق والدكاكين والقرابق والبلاّنات والمنامات والحانات والخانات والأفدية والمطاعم والمشارب تديرها نساء وأي نساء. وما من كَعْب أو تأريجٍ أو أوارجة أو أنجيدج أو بُرْجان أو جُذاء أو برْنامِج أو عهده أو محضر أو جذر أو وصر أو قِط أو نداق أو صكّ أو فذلكة أو سيّال أو ترقيم أو ترقين أو جداء إلا وتتعاطاه المرأة هنا. واللبيب من الرجال من أتخذ في حانوته أو محترفه رامجاً مليحاً يلوّح به للشارين والمجتازين في السبيل. ولا فرق بين أن يكون ذلك الرامج من أهل بيته أو غريباً وإنما العبرة بانفقاس الفخ على أعناقهم.

هذا وقد اختصت نساء باريس بصفات لا يشاركنهن فيها أحد من نساء الإفرنج. فمن ذلك أنهن يتكلمن بالغنة والحنة والنشيج والهُزامج والترنجح والتطريب والسكت والحبرة والنبرة والأجشّ والتعثيث والرجيع والأضجاع والقُطْعة والتغريد والتهويد والمد والترسيل والترتيل والفصل والوصل والزجل والهلهلة والإدغام والترخيم والتدنيم والترنيم والروْم والإشباع والتفخيم والإمالة والتنعيم والتنغيم والتحزين والحنين والجدن والتلحين والطثن والشجو والترنية. حتى ينتشي السامع فلا يعلم بعد ذلك هل هن يفككن أزرارة أوفقاره. ومن ذلك تغيير الزي في كل برهة وبهن تقتدي سائر النساء فلو لبست إحداهن مثلاً عبْعبا أو حزقت ثوبها لعبّ الناس حب ذلك العبعب وصار التحزيق سنة فيهم. وعنهن يؤخذ أيضاً تقصيب الشعر وسَبْته وتسريحه وتسميده وتجميره وصفره وتطويره وتنفيشه وعفصه وتصفيفه وزرقلته وتشكيله وفرقه وكدْحه وكدهه وأدّراؤه وجدله وتفتيله وتغبيته ومشطه الكُعْكُبّة والمقدّمة واتخاذ قصة منه أو قزَّعة أو قنزعة وجعله مكرهفاً أو مسبلاً. ومن ذلك أنه لطول ترددهن على مواضع الرقص يحسبن كل مكان يطأنه مرقصاً. فترى المرأة منهن تمشي في الأسواق والشوارع وهي تميد وتميل وتتخلع وتتفكك. ويا ليت مولانا صاحب القاموس كان يعرف البُلْكي والمازركي والسوتشكي والكدريل والريدوقي والفلس وغيرها من ضروب الرقص حتى أوريها عنه هنا في حق الماشيات في باريس. ومن ذلك تحكمهن على الرجال وتعززهن عليهم في كل حال وبال. فترى الرجل يماشي المرأة وقلبه بين رجليها. وإذا خلا معها في البيت فهي الآمرة الناهية المستعلية القاضية. وهو المُصحِب المِصحاب المُدربح المُدلبح المُدمّح المكبوح المعنوج المصوّب المدبّخ المتزيّخ المختضَد المُسجد المعتسَر المشروس المتضع. ولا يزلن طول الدهر وحاماً ولا حَبَل. وبرمن أن يكون لهن كل شيء صهابيّا مؤربّا مرفّلا موفَّراً مؤَّفلاً مسبغاً ضافياً مرتبزاً وافياً تاماً كاملاً. حتى أن اللغة الفرنساوية مبنية على هذا الروحم. وذلك أنهم يحذقون في اللفظ أواخر جميع الألفاظ المذكورة وينطقون بها في المؤنثة. وعلى ذلك قول الفارياق. عند الفرنسيس المؤنث واجب ... تبليغ آخره إلى الأسماع وهو الدليل على تؤوق نسائهم ... طبعاً على التبليغ والإشباع أو أنه صفة الكمال لهن أن ... يك ممكناً يوماً لذات قناع وكان أحد التيتائيين من نحاتهم غاظه ذلك فجعل من بعض قواعد لغتهم تغليب المذكر على المؤنث. ولكن هيهات فإن امرأة واحدة هنا تقوى على عشرين ذكراً. ومن ذلك عنوان جمالهن مكتوب على جباههن نظماً ونثيراً. فمن النظم مَلَكُ الجمال أعزّ من ملك له ... جند وأعوان وعرش أرفع ذو المُلك تتبعه الجنود تكلفاً ... ولذي الجمال الناس طوعاً تتبع ومنه من حارب العين خانته مضاربه ... وليس يجديه شحذ السيف عن جلده فمضرب السيف مشحوذ على حجر ... ومضرب الطرف مشحوذ على كبده ومن النثر. الكلام بالغنّة، شفاء من العُنة. فرط التنهيد أبلغ في التهنيد. الخَدَل جلاء المقل. ضخم الحماة يفتح اللهاة. صغر الأقدام يقزح الأدام. كم صريع في السوق من كشف السوق. أن إبراز الترائب كاشف غمّ النوائب أن العَبعَب أملأ للعين واحب. أن الأعجان داعي الافتتان. أن النّوَق أصل الشَنَق. لا تفكن إلا ويزيله التبهكن. التهييم أدعى للتهييم والتتيّم المغاضنة دليل المحاضنة. غلائل الصيف أمضى من السيف. لا فرار بعدَّ الافترار. لا عاصم بعد كشف المعاصم. توهج الطيب. أشوق للحبيب. رب ابتسامة جلبت غرامة. العين غزالة. والقامة فتالة. الحسن معبود. والدينار منقود. الدينار فكلك الأزرار. من أكثر من الصلة نال ما أمله البضع لذي الدنيا والدنيا لذي البضع. من ذاق عرف ومن غازل هرف. إلى الملهى إلى الملهى. فبادر ثم لا تله. وعللها بكاس ثم عما شئت فاسألها.

والحاصل أن الفرق بين عنوان جمال الفرنساويات وجمال الإنكليزيات هو إن الأول من قبيل التداوي من الشيء بضده. والثاني من قبيل التداوي منه بجنسه. وذلك أن العنوان الأول هو ناطق عن الونى والفتور والترهل والتربخ والاسترسال والاسترخاء والاسترخاخ والاسترخاف والرشرشة والنشنشة والانحرار والثملطة والثلمطة والختت والهنبتة واللوثة والهلاث والابثئجاج والطرشحة والامرخداد والترترة والتختر والفيشوشة والتعة والخراعة واللخع والطريقة والرهوكة والثرطلة والغدن والانثطاء المستدعية لنقائضها من الاشتداد والتصلب والاتمئرار والتأتب والتقسح والتقسب والتوتر والتعلب والتعرد والتعلد والانزاز والتأدد والعص والاستعزاز والتأيد والكأن والاتكاع والتكلد. وجمال أولئك عنوان على هذه الصفات المستدعية لنظائرها وكلاهما في المرأة حسن. ومن ذلك أنهن يرين التقليد في الحب والزي معرة فكل واحدة منهن تجتهد في فنها حتى تصير قدوة لغيرها. أما في الزي فمنهن من تقبب صدرها بقدر ما تقبب نساء الإنكليز بتائلهن. ومنهن من تتخذ لها قبَّتين من قبل ومن دبر. حتى تكون إذا مشت عائقة أساتها ومواجهها. وكشف الساق لإبراز الحماة ونظافة الجوارب مطرد لهنّ. فأما في الحبَّ فمنهن من تريد على صفات المدقم الصفة التي ذكرها أبو نواس في الهمزية. ومنهن من يؤثر التجضّم الكمري أو الامتلاج القنبي. وأكثر الناس حرصاً على هذا الشيوخ المحنكون. فإمصاصهم وتبظيرهم ليس من السب في شيء. ومنهن من تجمع بين اللذتين الخرنوفية والفنقورية ولها سعران. ومنهن من تزيد على ذلك ما أراد الشيخ جمال الدين ابن نباتة من شوص الفرخ وله ثلاثة أسعار. ومنهن من تزيد عليه الشوص بالأخمصين وله أربعة. ومنهن من تمكن من قفط النودلين وثغر ما بينهما مجرداً. ومنهن من تضيفه إلى اللذتين المذكورتين مع شوص الفرخ بأنامل وأخامص وهو أغلى ما يكون. ومنهن من تتفاحل وتتقمد على أخرى مثلها. وهذا النوع عزيز لا يراه إلا الموسرون. ومنهن من تتعاطى الحرفة التترسية وهو قرع الترس بالترس. ومن أغرب ما يكون أن بعض شيوخ الفرنساوية الذين يشب فكرهم وتخيلهم لهرم أجسامهم ووهن حركتهم يؤثرون على جميع الأنواع المذكورة التلمُّط بالعذرة وذلك بأن يتضجع أحدهم وهو عريان ويأمر من تستوي فوقه وتملأ فمه. ومنهم من يستغني عنه بشرب الزغرب من مشخبه زُغلة زُغله أو بمص القنب. وقد يجتمع رجال بواحدة فيقيمونها بين أيديهم عريانة ويقعد لدى قبلها ودبرها اثنان. ويأخذ آخر في صب الشراب من فوق صدرها وظهرها. فيبادر إليه الرجلان فأغرين أفواهمها ويشربانه عند مروره على السميَّن والنساء المثريات المغتلمات يستعملن رجالاً يقودون إليهن كل من رأوه أبتع من الرجال ولا سيما من أهل الريف. فيدخلون عليهن في بعض الديار وهن متبرقعات كيلا يُعرَفن ثم يأجرنهم على ذلك. وفي الجملة فإن كل ما يخطر ببال النحرير من أمور الفسق يراه الإنسان في باريس بعينه بالعَيْن.

وأعلم أن أهل باريس قد اصطلحوا على أمور في المعاش والنساء تميزوا بها عمن سواهم. أما في المعاش فإن من يأكل منهم في المطاعم الشائعة فأنه يشارط صاحب المحل أو بالحري صاحبته على أن يعطيها في الشهر قدراً معلوماً ويأكل عندها شيئاً معلوماً. فتعطيه تذاكر تؤذن بعدد المرات فيدفع ثمنها ثم يعيدها عليها فيودّي عن كل غداء أو عشاء تذكرة. فيتوفر عليه في ذلك ربع المصروف. وقس عليه الحمامات والملاهي وما أشبهها. فأما أمر النساء فإن أصحاب البيع والشراء لما كانوا قد اتخذوا لإدارة أشغالهم نساء حساناً كما سبقت إليه، فإذا خرجن في الليل بعد انقضاء أشغالهن ترصدتهن الرجال ودعوهن إلى مواضع الأكل والقهوة والرقص واللعب. فتذهب كل واحدة مع من تحب. فمتى رافقته إلى أحد هذه المواضع علم أن حقه صار لازب. فأما أن يستوفيه منها تلك الليلة فقط أو يوافقها على إعادة الوصل في كل أسبوع مثلاً مرتين أو ثلاثاً وإن يعطيها في آخر الشهر أُجرة معلومة. وما بقي لها من الساعات فإنها تؤجره لآخرين بأجرة معيَّنة. فترى للواحدة منهن عدة عشاق تواصلهم في أوقات مختلفة من الليل والنهار. ومع ذلك فلا تزال تلقب بُدمْوازل وهي كلمة تطلق على الأبكار على وجه التعظيم. ومعناها سيدة غير ذات بعل. ومنهم من يتصدى لمعرفة هؤلاء البنات من المراقص. فيعمد الرجل إلى بنت ويدعوها للرقص. فإذا أعجبته وأعجبها دعاها للشراب في موضع مخصوص في المرقص وعقد عليها عقد الزيارة الشهري. ومن عامل واحدة منهن مشاهرة لم ينفق عليها نصف ما ينفقه لو قضاها على مرة على حدتها وللنساء رخصة في باريس إن يدخلن جميع المراقص العمومية من دون أن يدفعن شيئاً اجتذاباً للرجال بكثرتهن. ولكن عليهن أن يرقصن معهم إذا استرقصوهنَّ. إلا إذا اعتذرن لهم بعذر يقبلونه كأن تقول المدعوة مثلاً قد دعاني آخر من قبلك فلا بد لي من أن أرقص معه أو نحو ذلك. ثم لا حرج أيضاً على من اكترى في منزل بيتاً مفروشاً كان أو غير مفروش إن تزوره صاحبته في مسكنه. شواء كانت من النوع الذي ذكرناه أعني من النساء اللائي بمنزلة بين الحرائر والزواني أو من غيره. وإن تبيت عنده على علم من الجيران والسكان. فإن منزلة هذا عند منزلة أهل باريس كمنزلة المتزوج. ولا فرق عند أهل باريس بين امرأة متزوجة لها سبعة بنين وسبع بنات تربيهم في تقوى الله وطاعة الملك وبين قحيبة تبيع عرضها لكل إبن سبيل وتتفنشخ لكل مجتاز في الطريق كما تقول التوراة.

وهناك أسباب أخرى كثيرة للفساد في الديار. وذلك أنه لما كانت جميع الأشغال في باريس تديرها النساء وكان منهن غسالات وخدامات لهن يأخذن ثياب السكان وخياطات وفرّاشات وبياعات للمأكول والمشروب والملبوس، أمكن الرجل أن يصاحب واحدة منهن فتأتيه مياومة إذا شاء بججة إنها تقضيه شيئاً أو تبيع له حاجة أو ملايلة أو مشاهرة أو مساوعة أو محاينة وذلك ممنوع في لندرة. بل ربما صاحب الرجل امرأة من نفس الدار التي يسكنها. لآن ديار هذه المدينة العامرة لما كانت تشتمل على عدة طبقات وكان أصغرها يحوي في الأقل عشرين ما بين رجال ونساء. أمكن للرجل أن يعاشر إحدى جارته. بل المتزوجون المقيمون في هذه الديار لا يأمنون على نسائهم وبناتهم لأن الرجل إذا خرج من بيته وخالفه فيه جاره إلى زوجته مائة مرة في اليوم لم يمكنه أن يعلم ذلك لقرب ما بين المسكين. ولهذا كان أهل باريس أقلّ غيرة على نسائهم من جميع الناس. لأنهم ربوا على هذا ولا مناص لهم منه. ولا يمكنهم أن يربوا أطفالهم عندهم خوفاً من تضجر الجيران منهم. وإنما يبعثونهم إلى الريف من أول أسبوع ميلادهم فيربون في أحجار المراضع وهي عادة حميدة من جهة أن الأطفال يتقوّون هناك بطيب الهواء. وهناك سبب آخر أن المُطفل بترشيحها ولدها وتربيته تخسر من نفع حرفتها أكثر مما تعطيه للظئر لأن نساء باريس يباشرون الحرف ولا يرين في التكسب عاراً بأي وجه كان. وهن في البيع والشراء أشط من الرجال ومن تكن جميلة تتقاضَ على النظر إلى جمالها شيئاً زائداً على الثمن. ثم أن حالة الرجال مع النساء على المنوال الذي ذكرناه تعد عند هؤلاء الناس من المصالح المهمة المرتبة المطردة. بمعنى أنه ليس من دار إلاّ ويحصل فيها وصال بين الرجال والنساء مع مراعاة حرمة كل من الزائر والمزور. ومع عدم الإخلال بالوقت الموقوت لكيلا يحصل تعطيل للمزور في شغله. ومع مجانبة ما يسوء الجيران من لغط وعربدة. ولا تكاد ترى في باريس كلها فقيرة أو مومسة تطوف في الليل وهي سكرى كما ترى في لندرة. وندر وجود إحداهنَّ في متأخر الليل. وقلّ من آذت زائرها أو قاصدها. وهناك فرق آخر بين نساء الفرنسيس والإنكليز من جهة الخُلق لا الخَلق فالظاهر من نساء الإنكليز في الغالب الكِبر والأنَفَة والصُلف. والظاهر من نساء الفرنسيس اللين والبشاشة. إلا أن نساء الإنكليز لا يتدللن على الرجال ولا يجشمنهم الترف والتحف والولائم والملاهي والمنازه والفرج. فأكلة من الكباب وكرعة من المزر تكفيان في استجلاب رضاهن. وليس عندهن من الورم والمحال. والخلب والاختتال. والدها والنكر والاحتيال ما عند نساء باريس. فإما أن تحب إحداهن مثلا وترضى معه بالكثير والقليل وأما أن تصرمه. فأما نساء باريس فمهما يظهر منهن من الملاينة والمباغمة، والملاطفة والملاءمة. فإذا عاشرت واحدة منهن وشعرَتْ بأنك ارتبقت في هواها ورُقبت تبغنجت عليك وتدللت. وتصلّفت وتمحّلت. وأوهمتك أن مجرد كلامها معك منّة. وأن إرضاءها والخضوع لها سنة وإن كثيراُ في عشقها متيمون ناحلون هائمون ناسمون. حتى تستقل عليها كل كثير من الصلات والهدايا فتقبل منك ما تقبل وأنت لها من الشاكرين. وإذا دعوتها لوليمة فلا بد من إروائها من الرحيق المختوم. وتوحيمها بأفخر المطعوم. فتلتهم ما تلتهم وتشتفّ ما تشتف وهي متشبعة متعففة. متمنعة متظرفة. فإذا ضحكت حسبت أن ليس لضحكها من نظير. وإذا مشت ودت لو كان خطوها على الديباج والحرير. حتى إن هذا التصلف أيضاً صفة ملازمة للمتزوجات. فإن المرأة المتزوجة في باريس تغرّم زوجها على كسوتها فقط ما ينفقه المتزوج من الإنكليز على جميع أهله. فدأب الرجل في باريس وهمه وشغله إرضاء زوجته وهيهات أن ترضى وما أحسن ما قيل في هذا المعنى: لا يعجب الزوج إلا أن تكون بمن ... تحب محفوفة أولا فاعنات وكيف يرضى أمرء يحمي حقيقته ... بالقِرن والقَرن أفتوا بها النات وقال وداخلة الإنسان تفسد كلها ... إذا أصبحت زوج له أم خارجه ويخرج عنه الحلم لو قيل مرة ... له هي في البيت الفلاني والِجَه

شكاة وشكوى

ولهذا يقال في المثل السائر عند الفرنساوية أن باريس نعيم النساء ومطهر الرجال وجحيم الخيل. ولما كانت حالة الرجال مع النساء هكذا كان ثلاثة أرباع سكان باريس مسافحين. ونصف الربع الأخير متزوجين زواجاً شرعياً والباقي منقطعون عن النكاح. كذا أخبرني من يوثق بكلامه. ثم أن المومسة من الإنكليز تعرف نفسها أنها حرة أيضاً أن الناس يعرفونها كذلك. فلا تكلفهم احترامها. ولا تسومهم إعظامها. فإما البغي من الفرنسيس فعندها إن مجرد استبضاعها للبضع يؤهلها لأن يكرمها الناس ويداروها. ويجلوها ويسانوها. وذلك لعدم استغنائهم عنها. وجرّهم النفع منها. وقد تقدم أن الفرنساوية لا يفرقون بين الحرة والبغي وبقي هنا أن نقول أنهم أشد الناس شبقاً إلى البعال. وأقرمهم إلى السفاح. وناهيك إنهم في الفتنة الكبيرة التي حدثت في سنة 1793 أقاموا امرأة عريانة على مذبح إحدى الكنائس وسجدوا لها. فصوّر لخاطرك أيها القارئ كيف تكون الرجال والنساء في هذه المدينة في ليالي الشتاء البارد الطويلة وكم من ملهى يغص بهم وبهن وكم من مآب. وكم من مائدة تميد لهم بالطعام والشراب. وكم من سرر تهتزّ. ومضاجع تأزّ. وأجناب تلزّ. وأوطاب تمزّ. وأوتار تنزّ. أنشدني الفارياق لنفسه في وصف باريس وأجازني روايته: وفي باريس لذات كما في ... جنان الخلد جير وحور عين ولكن شأنهن دوام طمث ... لكل أربعون من القرين وقال في الراقصات لله در الراقصات لنا على ... نغم المثاني حيث تجلى الكوب لو كان يوماً وطؤهن عليّ لم ... تثقل لديَّ من الزمان خطوب وقال في رامج ذي الباريزية طلعتها ... كالصبح بها قلبي مغرم في الليل أربد تحيتها ... فأقول لها بُن جُوْر مادم قال وكما أن الغريب المسكين ينشرح صدره وينجلي بصره بمشاهدة تلكم الحكاكات للأعتاب في لندرة على الصفة التي تقدم ذكرها. كذلك تقر عينه أمثالهن في باريس طائفات في الشوارع والأسواق من دون غطاء على رؤوسهن ولا ساتر لخصورهن وما يليها. بخلاف عادة النساء في لندرة فإنهن لا يخرجن إلا ملتحفات. قال وعندي إن هاتين الخلتين وهما حك الأعتاب والخروج من دون التحاف هما السبب في قلة وجود العميان في هاتين المدينتين السعيدتين. وقلما ترى في رجالها احول أو أزور أو أحوص أو أخوص أو أرمص أو أكمس أو أعشى أو أخفش أو أعفش أو أعمش أو أعبش أو أغمش أو أرمش أو امتش أو ذادوش أو مدش أو طخش أوغطش أو غفش أو طفنشئاً أو غطمَّشاً أو مغطرشاً. أو مطغمشاً أو مطرفشاً أو مطفرفشاً أو مطنفشاً أو مدنفشاً أو مدنقشاً. فعلى كل من كان في بلادنا أعمش ذا عين أن يقصد هذه البلاد ليجلو بصره بهذه المناظر الأنيقة. وليستصحب معه أيضاً لهذه الجلاء جلاء أي لقباً يبني عن شرف وسيادة. فإن القوم يعظمون هذه الزنمة ولا يرون للإنسان فضلاً بغيرها. وعلى فرض تحرجه من الانتحال والتزوير فإن غناه يكسبه إياها من عندهم. لأنه متى كان غنياً وجعل دأبة أن يتردد على مواضع اللهو والحظ لم يلبث ان يتعرف بزمرة من الكبراء السعداء وإن يزورهم في مغانيهم. وحٍ يسمونه بسمة شرف تشريفاً له وتشرّفاً به إذ لا يزورهم إلا الشريف مثلهم. فأما حرص النساء على هذه الزنمة وخصوصاً نساء الإنكليز فهو أوسع من أن يحصر في هذا الكتاب. شكاة وشكوى ثم رام الفارياق أن يستأجر شقة دار يسكنها هو وأهله فرأوا عدة أماكن لم تخل من عيوب. وكانت الفارياق في خلال ذلك تتمعص من ارتقاء الدرج فإن بعضها كان يشتمل على مائة وعشرين درجة فأكثر. حتى إذا تبوءوا محلاّ وجدوا موقده رديئاً. فلم يمض على ذلك أيام حتى طفقت تشكو وتقول:

يا للعجب كيف تنخدع أحياناً بشيء وتنوه به دون تحقق معرفة حاله. ومتى يستقر ببالهم وجوده على حال من الأحوال يعد تغيير وهمهم عنه محالاً. حتى أن تغيير الوهم من الخاطر يكون أصعب من تغيير القين. لأن من تيقّن شيئاً فإنما يتيقنه عن علم ومن طبع العالم أن ينظر دائماً في الحقائق وأضدادها ولا يزال باحثاً عن الصحيح والأصح. فأما الوهم فلا يدخل إلا رأس الجاهل. ومتى دخل فلا يكاد يخرج منه مثال ذلك وهم الناس أن مدينة باريس هي أجمل مدينة في الدنيا. مع أني رأيت فيها من العيوب ما لم أره في غيرها. أنظر إلى طرقها وإلى ما يجري فيها من الدم والنجاسة ومن المياه المتنوعة الألوان. فمن بين أخضر كماء الطحلب واصفر كماء الكركم واسود كماء الفحم.

ويتلاحق بها جميع أقذار المطابخ والمرافق. ورائحتها ولا سيما في الصيف أشد أذى من رؤيتها. فهلا جعل لها مثاعب تحت الأرض أو أبيات تنف منها إلى نهر أو غيره كما في لندن. وأنظر إلى مبلطّ هذه الطرق حيث تجري المراكب والعجلات. فإنك ترى حجارته قد اختلت وتباعد بعضها عن بعض حتى عاد سير العجلات عليها كطلوع عقبة أو درج فهي لا تزال تهتز واضطرب. وسبب ذلك أن البلاط هنا يفرش فرشاً غير مرصوص ولا منظم بعضه إلى بعض فإذا أتت عليه السنون زاد تباعداً وتخلخلاً. فأما في لندن فإنه يرص بعضه على بعض قائماً فتسير عليه العجلات سيراً سريعاً سهلاً بل قرقعة ولا اضطراب. وأنظر أيضاً إلى برازيق الطرق هنا أي حيث تمشي الناس. فما أضيقها وأقذرها وأقل جدواها. ففي كثير من الحارات لا يمكن لأثنين أن يمشيا معاً على حافة واحدة منها. بل هي لا توجد رأساً في كثير من الطرق أو توجد غير كاملة من الأول إلى الآخر فتراها قد تعطلت في موضع واختلت في آخر. وأنظر إلى هذه الأنوار القليلة في الأسواق وإلى فوانيسها البارزة من الحيطان وإلى بعد المسافة ما بينهما. فقد يمشي الإنسان في أكثر الطرق من فانوس إلى آخر أكثر من من مائة وعشرين خطوة. وانظر إلى صغر هذه الحوانيت وقلة أنوارها وبؤس أهلها وشحّهم. فقلما تجد عند أحدهم ناراً. مع أن هذا الشهر هو من أبرد الشهور. وتأمل هذه الديار وعلو طبقاتها وكثرة درجها ووسخها وفساد ترتيب مرافقها ومراحيضها. فقد تجد في الدار الواحدة عدة مراحيض بجانب المساكن وعدَّة مصاب للماء والأقذار. وناهيك ما يخرج منها صباحا من الروائح الخبيثة. ومع كون هذه المراحيض قذرة نجسة خالية عن لوالب الماء فليس لها مزاليج من داخل ليأمن الإنسان في حال خلوته من انبعاق أحد عليه. فكثيراً ما يدمق عليه دامق ولما يكن أتى على آخر ما عنده فيلحقه بالبدغ والأمدر أو الماصع أو الجازم أو الراطم المزرم وقد سألت عن سبب ذلك فقيل لي أن صاحب الدار إذا كان متورعاً يتحرج من وضع المزاليج خفية أن يدخل بعض الساكنين والساكنات معاً ويتحصنوا بها. ومن أقذر ما يرى في حيطانها آثار أصابع مختلفة فكأن الفرنساوية يستطيبون الاستطابة بأصابعهم. وحين ينظفونها ليلاً تخرج رائحتها الخبيثة وتنتشر في الحارة كلها. فلا يمكن للإنسان أن يبيت إلا مسدود المنخرين. ثم أن هذه الديار ماعدا كونها تشتمل على ست طبقات فأكثر. وعن ذلك وعن ذلك وعن فساد التبليط يسمع لمرور العجلات قرقعة زائدة كما لا يخفي. وما عدا كونها تحوي سكاناً كثيرين مابين فاجر فاجر وفاجرة ومستهتر ومستهترة. فإن كثيراً من مساكنها لا يصلح للسكني لخلوه من النور والهواء. ولا يكاد الإنسان يستريح في محل منها. فإنه أما أن يجده قريباً من المرحاض. أو يجد موقده رديئاً. أو يجدي فيه فأراً أو جرذاناً. أو يجد جاره ذا صخب ووقاحة يغني النهار والليل أو يعزف بآلة طرب. أو يخلو بالمومسات على هرج ومرج وقرقرة وكركرة. وإن من داخلها ما يضحك ويبكي. فالمضحك ما يرى من الخلل في هندمة الأبواب والشبابيك وفرش المبلط بالآجر واتصال بعض المساكن ببعض. والمبكي رؤية هذه المواقد فإنها مبنية على شبه القبور وذلك أول ما يخطر ببال الداخل إلى مسكنه. فهي جديرة والحالة هذه بأن تكون صوامع للرهبان المتبتلين لا مضاجع للناس المتزوجين. وأغرب من ذلك أن أبواب الديار لا تزال مفتوحة. وإن البوابين يتعاطون الحرف والصنائع في كنّ لهم يلزمونه ليلاً ونهاراً. فمنهم من يشتغل بالخياطة ومنهم بحذو النعال ونقلها أو غير ذلك. بحيث أن كل إنسان يمكنه ارتقاء الدرج بلا مانع. وقل أن يبصر البواب من كنه أحداً لأن عينيه أبداً ملازمتان للإبرة أو الأشفى. ولذلك كانت دواعي الفساد في باريس أكثر منها في لندن. وما يرى هنا من الديار البهية والطرق الواسعة الحسنة فإنما هو حديث عهد. فكيف كان لباريس شهرة في الزمن القديم وديارها العتيقة وطرقها العهيدة مما ينبو عنه الطرف وتقذره النفس فأين هذا من شوارع لندن الرحيبة الوضيئة ومن دكاكينها الواسعة الظريفة المزجّجة بأحسن الزجاج وأنفسه. ومن ديارها النظيفة المهندمة. قال فقلت ومن حكاكات أعتابها. فقالت ومن أعتاب حكاكاتها. ثم استمرت تقول ومن مساكنها الأنيقة ومن دراجاتها الحسنة التي لا تزال مكسوة بالزرابي الفاخرة. أيم الله أن صعود خمسين

درجة منها لأهون على من صعود عشر درجات هنا. وأين تلك المواقد البهية المصفحة بالحديد اللماع المجلو في صباح كل يوم. وتلك الشبابيك والطيقان المحكمة التزجيج. وأين تلك المطابخ التي لا يزال فيها نور الغاز متوقداً والماء الساخن عتيداً للسكان. وكم فيها من وصائف خُرَّد يتمنى أعظم المخدومين عندنا أن يكون لإحداهن خادماً أو طبّاخاً. قلت بل لامجاً. قالت أو لاحساً. إلا وأين حسن نهر تامس وما فيه من سفن النار التي تسير إلى ضواحي لندن في الصيف وفيها آلات الطرب. فتراها ملائة بالرجال والنساء والأولاد فكإنما هي رياض مزينة بالأزهار. وأين تلك الحدائق الكثير وجودها في كل جهة في المدينة وهي التي يسمونها ترابيع. ومن يسكن في غرفة مطلة عليها يخيل له إنه مريف. فإذا مشى بعض خطوات ورآها رأى الناس وازدحامهم إقبالا وادباراً. ثم أين تلك الأنوار المتوقدة. في كل من الطرق والدكاكين بحيث انك إذ كنت في أول الشارع وسرحت نظرك إلى آخره أدهشك حسنها وازدهارها. وظننت أنها نسق كواكب قد نظمت في سلك واحد وإنما يمدح باريس من لم يكن قد رأى لندن أو من رآها بعض أيام ولم يعرف لسان أهلها. ثم أين ملاطفة مكريات المساكن ورفقهن بالنازل عندهنَّ غريباً كان أو لا. فإن الغريب إذا تبوأ منزلاً عندهن يصبح وقد صار واحداً من أهل البيت. لأن كلاّ من صاحبة المنزل ومن الخادمة وما أدراك ما الخادمة. تلاطفه وتؤانسه وتقوم بخدمته وتطبخ له وتشتري له ما شاء من السوق. وتطلع إليه كل يوم بالماء السخن وتضرم له النار وتمسح نعاله. لعمري أن النازل عندهن يمكنه أن يتعلم اللغة الإنكليزية بمحاورته معهن في أقصر مدة. فأما في باريس فإن النازل في أحد المساكن قد يموت في ليلته ولا يعلم به أحد. فإن بينه وبين البواب بعداً باعداً. وفي أكثر المساكن هنا لا يجد الإنسان جرساً ليطنّه فيتحرك له البواب. ثم أين استقامة تجار لندن وصدقهم في البيع والشراء وتودّدهم إلى الشاري وأناتهم معه من تجار باريس الذين لو قدروا على سلخ جلد المشتري ولا سيما إذا كان غريباً لما تأخروا. وإنهم قد حاكوا تجار لندن في وضعهم بطاقة الثمن على البياعات. ولكن هيهات. فإن من سعر حاجة بمائة فرنك مثلاً يبيعها بثمانين. وقد يضعون في وجوه الحوانيت أصنافاً من البضاعة مسعرة فإذا أردت أن تشتري شيئاً من ذلك الصنف جاءك بصنف دونه في الجودة. وحلف لك إنه من عين ذلك الراموز ولا يزال بك مبربراً مثرثراً وحالفاً وحانثاً حتى تشتريه حياء أو خصما للنزاع. وغير مرة يعطون الشاري فلوساً أو دراهم زائفة. فأما باعة المأكولات والمشروبات فإنهم أكثر غشاً وشططاً في هذه المدينة من سائر الناس. ولهم في الوزن لباقة لم أرها عند غيرهم. وذلك أن من باعك شيئاً موزوناً يطرحه في كفة الميزان. وأول ما تميل به الكفة يرفعه بلباقة ويسلمه لك. ولو أرسلت إليه خادمك أو أبنك لباعه نفاية ما عنده وكان على السنجة اشد غضباً. هذا ما عدا غشهم المأكول والمشروب وتغييرهم الأسعار بتغيير الأوقات والأحوال. وهذه اللباقة معروفة أيضاً عند باعة الأصناف كيلاً وذرعاً.

فأما ما يقال في مواضع التنزه والحظ في باريس وذلك كحديقة قصر الملك وما يليها فلعمري إن من رأى حدائق كريمون وفكس هال ورجفيل التي في ضواحي لندن ماعدا Cremorne Gardens Vauxhall Rosherville حدائق كثيرة في حاراتها فلا يطاوعه لسانه بعدها على ذكر غيرها. نعم إن حديقة القصر هنا حسنة على صغرها لكونها في قلب البلد وتلك منحازة عن الوسط. ولكن آه من قلب هذا البلد. كم من فاسدين وفاسدات تجمع هذه الحديقة في كل يوم فهي عبارة عن حابور. لأن النساء ينتبنها ليتصيدن منها الرجال. إذ تجلس المرأة على كرسي بجنب ممن أعجبها وهي لا تعرفه. ويكون بيده كتاب يطالعه وبيدها منديل تخيطه أو نحو ذلك. فيطفق هو يقرأ في الكتاب كلمة وينظر إليها نظرة وهي كذلك تملّ ملة وتهجل هجلة فلا يقومان إلا وهما متعاشقان. حتى إذا كان اليوم القابل تبدّل كل منهما مقامة وعشقه. أما الجمال فليس من مناسبة بين جمال نساء باريس ونساء لندن فالذأبة أو الخفوت هناك تعد هنا عبهراً ولعزة الجمال هنا صار عزيزاً فإن الشيء متى عزّعزّ فكان كلف الناس به اكثر وتنافسهم فيه أشد. ومن أعجب العجب عندي أن الجملة الرائعة في لندن تطوف بأخلاق من الثياب. والدميمة الشوهاء في باريس ترفل بالحرير والكشميري فإما مواضع الرقص فإنها في لندن تفتح كل ليلة وفي باريس ثلاث مرات في الجمعة لا غير. وفي أكثر شوارع لندن تسمع الغناء من جواري حسان وآلات الطرب ليلاً ونهاراً من دون غرامة ولا كلفة. وليس كذلك في باريس إلا ما ندر. وغاية ما يقال في التنويه بباريس وفي تفصيلها أن فيها مواضع للشراب والقهوة ظريفة يجلس داخلها وخارجها الرجال والنساء متقابلين ومتدابرين. فهل لمجرد القعود على كرسي يحكم لها بالفضل وتشهر عند الخاصة والعامة من أعصر متعددة بأنها أجمل مدينة في العالم. ثم أين حشمة فتيان الإنكليز وتأديبهم مع النساء سواء كانوا في البيوت والشوارع من فتيان الفرنساوية هؤلاء الهصاهيص الذين يهصهصون في النساء حرائر كن أو بغايا. ومتى ينظروا امرأة مكّبة لربط شراك نعلها يطيفوا بها فيصيروا لحلقتها حلقة ولحِتارها حتاراً. ولا سيما حين يأتون إلى هذه المناصع ويبدون فيها منادفهم- قال فقلت استمري في الحديث وقولي ما شئت بحيث لا تقفين على المنادف. قالت أتغار علي أيضاً من الوقوف بالكلام. وإنما وقفت بُهْراً من هذه الدنيا المبينة على النادفية والمندوفية. لا جرم لو إني كنت في مقام ملك أو أمير لما أكلت مّما مستّه أيدي الرجال شيئاً. وبينما هما في الكلام إذا برجل يطرق الباب ففتح له الفارياق وهو مستعيذ من حوله على ذكر المنادف. وإذا به يقول. قد سمعت بقدومك فأتيتك رغبة في أن أقرأ عليك في العربية شيئاً وأعطيك في مقابلة ذلك خمسة عشر أفرنكاً في الشهر. فلما سمعت الفارياقية أغربت في الضحك على عادتها وقالت لزوجها. دونك أوّل دليل على كرم أصحابنا هؤلاء الذين طبّل بذكرهم العالم ورمّز. فقال له الفارياق ما أريد منك مالاً وإنما تبادلني الدرس في لغتك عن لغتي. فرضي بذلك. ثم زاره أحد علماء باريس بعد أيام وقال له قد بلغني قدومك وإنك مُوْلَع بالنظم. فلو أبياتاً على باريس وذكرت ما فيها من المحاسن لقام ذلك عند أهلها مقام توصية بك. لأن الناس هنا يحبون الإطراء والتمليق أي يحبون أن الدخيل فيهم يطرّيهم بالإطراء. وإذا كانوا هم دخلاء في غير بلادهم أطرأوا على حكام تلك البلاد ونالوا عندهم الوجاهة والمكانة. فأجابه الفارياق إلى ذلك ونظم قصيدة طويلة في مدح باريس وأهلها سماها الهرفية لأنه مدحهم مجازفة من قبل أن يعرفهم. وسيأتي مع نقيضتها الحرفية ومع نبذة مما نظمه بباريس في الفصل العشرين. فلما وقف العالم الموما إليه على معانيها أستحسنها جداً وترجمها إلى لغته. وتوصل في أن طبع الترجمة في إحدى الصحف الأخبارية وجاء بنسخة منها إلى الفارياق وهو يقول. قد طبعت ترجمة قصيدتك في الصحيفة وقد وعدتني جمعية العلم الآسياوية "نسبة لآسيا" بأن تطبع الأصل العربي في صحفهم العلمية. لكونك أول شاعر مدح باريس باللغة العربية. فشكره الفارياق على ذلك وقال له إني أريد نسخة من هذه الترجمة. قال أنها في مكان كذا بنحو ثلثي أفرنك فسار وأشترى نسخة.

ثم قدم عليه بعد أيام بعض من قرأ تلك الصحيفة وهو يقول. قد قرأت ترجمة قصيدتك وأعجبتني. فهل لك في أن تبادلني الدرس؟ قال هو كما أريد. فأستمرّ يتردد عليه أياماً في خلالها عرّفه بالعالم المشهور مسيو كترمير Quatremere وهذا العالم عرّفه بمدرّس اللغة العربية مسيو كسّان دُبرسُفال Caussin De Perceval ثم تعرف أيضاً بالمدرّس الثاني مسيو رينو Reineaud ولكن كانت معرفته بهم كأداة التعريف في قولك أذهب إلى السوق وأشترِ اللحم. ثم زاره أيضاً أحد الأعيان الذين يتقدم أسماءهم أداة دُ وهي علامة النبالة والشرف وهو مسيو دُ بوفورت De Beaufort وكان له أخت في دارها مدرسة تعلم فيها بنات الكبراء. فلما حان وقت امتحانهن في العلم صنعت مأدبة في بعض الليالي وأدبت إليها الفارياقية وزوجها. فقال الفارياق لزوجته. هاك مثالاً على كرم القوم فقد مضى عليك مدة وأنت تشكين من الوحدة ومن بخل من تعرّفت بهم وتقولين أنهم لم يؤدبوك قط. وقد كان يؤدبك في بلاد الإنكليز من كان يعرفك ومن لم يعرفك، حتى أنك كثيراً ما كنت تتضجرين من ذلك. لما أنه كان يلزمك له تغيير زيك ووقت غذائك وحرمانك من الدخان. فأبشري الآن أن أصحابنا بالخير قمينون حريون. قلت كل منهم قمين حريّ. ثم سهرا تلك الليلة عند أخت "ألدّ" الموما إليه على أحسن حال وأصفى بال. فرجعت الفارياقية إلى منزلها بقلب آخر وهي تقول. نعم لقد تفضل بوفورت وأحسن كل الإحسان. وقد رأيت من نساء الفرنساوية من البشاشة والطلاقة ما لم أكن أصدقه. نعم ويعجبني منهن هذه الغنة والخنة التي تكثر في كلامهن وهذا هو الذي جعل اللغة الفرنساوية فيما أظن مستحبة. وهي من الأولاد أشجى وأطرب. فقلت الظاهر أن العرب أيضاً تحب هذه الخنخنة. فقد قال سيدي صاحب القاموس نخِم وتنخّم دفع بشيء من صدره أو أنفه. ونخَم لعب وغنى أجود الغناء. فضحكت وقالت أظن صاحبك كان يهوى مخنخنة وإني أشفق من أنك لا تلبث أن تسري إليك عدواه. سلمت بان الغنة بل اللثغة بل اللدغة تستحب من الغلمان والجواري. ولكن هل يطيق فتى أن يسمع عجوزاً خفخافه تخنخن عليه في أنفه. وهل تطيق شابة خُنّة شيخ هرم في خياشمها. نعم ويعجبنيمن العامة في باريس أنهم لا يسخرون من الغريب إذا رأوه مخالفهم لهم في زيه وأطواره بخلاف سفلة لندن فأنهم يسلقونه بالكلام. ربما تكلف الواحد منهم أن يناديه من مكان بعيد حتى يبح وما ذلك إلا ليقول له أنك يا غريب دموي ملعون. ولعلي في ذلك مخطئة. قال فقلت بل مصيبة فإن جميع الناس يثنون على أدب الفعلة وسائر العامة في باريس وعلى حسن كلامهم. لبثا مدة وهما يقابلان محاسن باريس بمحاسن لندن. فمما كرهت الفارياقية في باريس غاية الكراهة هو إن النساء يرخَّص لهن في دخول الديار مهما يكن من تخالف أنواعهما. وزعمت أن ترتيب الديار في لندن بهذا الاعتبار أحسن. فقال لها الفارياق لا ينكر أن ديار لندن أحسن ترتيباً باعتبار أن درجها قليل وإن سكانها قليلون ملازمون للسكون. وإن أعتابها تحك في كل يوم. وإن في مطابخها ربلات قديمة وإن داخلها مهندم مفروش بالبسط الجيدة إلا أنها بلون النار. فأما ديار باريس فأنها أبقى على الأحوال ومنظرها في الخارج أزهى. فأما مع المومسات عن دخول تلك وترخيصهن في دخول هذه فهو في دليل على أتصاف المومسات في باريس بالأدب. بخلاف مومسات لندرة فإنهن يتهتكن في الشرب والمومس. ولذلك منعن من الدخول إلى السكان. وهناك سبب آخر وهو أن بغايا باريس معروفات في ديوان البوليس وأسماؤهن مقيَّدة فيه. فلا يتجرأن على التفاحش والتهتك وإن كن فواحش. فأما بغايا لندره فقد خُلّين وطباعهن.

ثم مضت مدة على الفارياقية وهي تقاسي من الخفقان ألما مبرّحاً. فكان يلازمها أياماً متوالية ثم يخف عنها. وفي خلال ذلك أدبت مرة أخرى عند أخت "ألدّ"، فسارت معزوجها وهما متعجبان من هذا التكرم الذي لم يجدا له في باريس نظيراً. ثم أشتد بالفارياقية المرض ولزمت الفراش فأحضر لها طبيبين من النمساوية فعالجها مدة حتى أفاقت قليلاً. وكانت أخت ألدّ قد تزوجت برجل اسمه Ledos فلما جاء أخوها ذات يوم إلى الفارياق على عادته وجد الفارياقية تءن وتشكو من بلوغ الألم منها. فقال لزوجها لو استوصفت صهري دواء لزوجتك فأنه خبير بخصائص النبات وقد أبرأ كثيرين من هذا الداء. فسار إليه الفارياقية وسأله أن يأتي معه ليرى زوجته. فقال له أني غير مرخص لي من الديوان في مداواة المرضى ولكني لا آبي أن آتى معك رجاء أن يحصل شفا امرأتك على يدي. ثم أتى ووصف للفارياقية أن تشرب ماء بعض أعشاب تغلى وبعث لها من ذلك بستة قراطيس. فلما فرغت وطلب الفارياق غيرها جاءت أخت ألدّ أعني زوجة المتطبب تقول. أن زوجي يتقاضاكم خمسين أفرنكاً ثمن القراطيس. فلما سمعت الفارياقية ذلك تراجع إليها نشاطها وبادرتها أجمع وقالت لها. أما تستحبين أن تطلبي هذا المبلغ على ستة قراطيس من العشب وزوجك ليس بطبيب. فقال لها زوجها ولكن اذكري أن المرأة أدبتنا إلى شرب القهوة والشاي مرتين وقد تخللناهما بأشياء من الحلواء والكعك فلا ينبغي مقابحتها. ثم جدال طويل ونزاع وبيل رضيت أخت ألدّ بأن تأخذ نصف المبلغ المذكور فأقبضها إياه الفارياق فولت وهي مدمدمة وأنقطع أخوها عن الزيارة. ومن هؤلاء المتطببين من إذا رأى غريباً بش في وجهه واحتفى به ودعاه إلى منزله وواصل زيارته إلى أن يراه يشكو من سعال أو غيره فيصف له دواء. ثم يتقاضاه غرامة رابية على كل زيارة جرت بينهما من أول تعارفهما. ويأتي بجيرة المحل شهوداً على الرجل في إنه كثير التردد على منزله وأدعى أن مرضه كان مزمناً. وحامل لواء هذه الزمرة اللئيمة هو دَلْكس Dalex المتطبب المقيم في لندرة في Beners Street No 61 Oxford Street ثم رجع الطبيب النمساوي إلى مداواة الفارياقية فلما نفهت شار عليها بالسفر من باريس فأستقر الرأي على تسفيرها إلى مرسيلية. فقالت لزوجها قد طاب الآن لي السير من أرض ما فيها خير. هؤلاء معارقك الذين أتيتهم بكتب توصية من لندن والذين تعرقت بهم بعد ذلك هنا بوسيلة علمك لم يدعك أحد منهم إلى باريس على كرسي في بيته. وهذا لامرتين الذي أبلغته كتاب توصية من الشيخ مرعي الدحداح في مرسيلية كتبت إليه تسأله عن أمر فلم يجبك. مع أنك لو كتبت إلى الصدر الأعظم في دولة الإنكليز لأجابك لا محالة سواء بالسلب أو الإيجاب. وهذا المتطبب صهر ألدَّ غرّمنا على ستة قراطيس خمسة وعشرين أفرنكاً مع إن هذا الطبيب النمساوي وصاحبه قد عالجني مدة وعنيا بي ولم يتقاضياك شيئاً. وكذلك تفعل أطباء لندن جزاهم الله خيراً. أفكل الناس يكرمون الغريب ويرفقون به إلا أهل باريس. لقد كنت أسمع أنه يوجد في الدنيا جيل ملاذون وملاّثون ملاّقون ولاّذون ولثّيون محّاحون مرامقون ّملقيون مماذقون غملجيون مبذلخون مطرطرون مطرمذون خيتعوريون مبهلقون مرامقون مذّاعون طرفون خيدعيون قشعون مقطاعيون اعفكيون مجذاميون جذامريون كموصيون هملعيون منبجيون تلماظيون بذلاخيون وما كنت أدري أي جيل هم.

فالان أغنى الخبر عن الخبر. وتحققت أن هذه الصفات التي كنت استكثرها إن هي إلاّ بعض ما يقال في أهل هذه المدينة. فإن مودتهم يقطينية أي تنبت سريعاً كاليقطين ولا تلبث أن تذوي. ومواعيدهم عرقوبية طالما وعدوا فأخلفوا. ومنوا فأزهفوا. وحالفوا فحنثوا. وعاهدوا أفنكثوا يبشون بالمغتر بهم ويهشون. ثم هو إن لازمهم ملوه. وإن غاب عنهم نسوه. وما ينجزه غيرهم بنعم ولا فهم يرتبكون فيه أياماً وليالي يبدءونه بأساطير طويلة. ويختمونه بتهاتر وبيلة. فأما بخلهم على غير المراقص فيضرب به المثل. وناهيك إن نارهم في الشتاء كنار الحباحب. ولو أنهم أوقدوا ناراً كنار الإنكليز لرأيت جوهم أكثر دجنة ودكنة من جو أولئك. وإنهم في الصيف لا يستسرجون وما عندهم غير هذين الفصلين من فصول السنة فأما بردعارم وأما اغتم ملازم. إلا وإن أحدهم لينزل إلا فرنك أجرة من يعمل له منزلة الدينار عند الإنكليز. على أن بلدهم أغلى أسعاراً من لندن في لوازم المعيشة أو مثلها. أرأيت إنكليزياً يعمل لحسابه بالفلس كما يعمل أهل باريس حسابهم بالصنتيم؟ بل أن كثيراً من الإنكليز لا يعلمون كم في صلديهم من فلس. نعم وإن "أي أهل باريس" ليكتب إليك مكتوباً في شأن مصلحة تقضيها له ولا يدفع جعله. ولقد يضحكني من فخرهم أنهم يأكلون ابشع المأكول ولا تزال أمعاؤهم ملئا من شحم الخنزير. ثم هم إذا خرجوا إلى المحافل والمثابات بالغوا في التفخل والرفلان غاية ما يمكن وإن كثيراً منهم يغلقون في الصيف كواهم وشبابيكهم ولا يفتحونها أبداً. يوهمون الناس إنهم قد ساروا إلى بعض منازه الريف ليصيفوا فيه كما تفعل كبراؤهم. وإن كثيراً منهم ليتقوتون بالخبز والجبن نهاراً ليبدوا في الملاهي والملاعب ليلاً. وإن أشرافهم وذوي ألدّ منهم يأكلون مرتين في اليوم ويفطرون على محار البحر. والناس كلهم يأكلون ثلاث مرات والإنكليز أربع مرات. ولكن معاذ الله أن تكون الفرنساوية كلهم كاهل باريس. وإلا فيخسر ما ضاع الثناء عليهم كما ضاع ماء الورد في غسل مرحاض.

سرقة مطرانية ووقائع مختلفة

فأما نساء باريس المضروب بأدبهن وظرافتهن المثل فلعمري إنهن جخر مجخرات وأكثرهن لا يسوغلن ولا يتلجمن ولا يعتركن ولا يشمذن ولا يستنجين ولا يتخذن الفرام ولا المعابئ ولا الفراص ولا الثمل ولا الجدائل ولا المماحي ولا الربذ. وليس لهن من نظافة إلا على ما ظهر منهن من نحو قميص ومنديل وجورب. ولذلك تراهن أبداً يكشفن عن سيقانهن وهن ماشيات في الأسواق صيفاً وشتاء. بدعوى رفع أذيالهن عن أن تمس النجاسة في الأرض. فمنتكن منهن سوقاء افتخرت بساقها وبجوربها معاً ومن تكن نقواء افتخرت بالثاني. وليس في نساء الأرض كلها أكثر منهن تيها وعجبا وزهوا وإِرباً وتعنفصاً أخداعا ومجابة وغطرفة وتبغنجاً. سواء كن قباحاً أو ملاحا. طوالا أو قصارا وهو الغالب فيهن. عجائز أو صبايا. حرائر أو بغايا. ذوات لحيً وشوارب أو نقيات الخد. مذكرات الطلعة والسحنة أولا. على أني لم أرَ في جميع النساء تذكيراً إلا في نساء باريس وأيرلندا غير إن هؤلاء لسن مزهوات مغانيج كالباريسيات وإنما الذي صّيرهن إلى ذلك هو شدة شبق الرجال عليهن. وقرمهم إليهن. فترى الفرهد الغساني مخاصراً لسعلاة منهن ومتذللاً ومطيعاً لها. فلقد أصاب الذين يتزوجون منهم في بلادنا الجواري السود تخلصاً من أسرهن وسرفهن. وقد رأيت عامتهن لطّاعات أي يمصصن أصابعهن بعد الأكل ويلحسن ما عليها. فأما ذوات الشرف فإنهن يغسلن أيديهن في فنجانة على المائدة بحضرة المدعوين ويتمضمضن بالماء ثم يقذفنه فيها. فهل ذلك يعد من الظرافة والأدب. أليس فعلهن أفظع من التجشئ عندنا. وإنما يمدح محاسنهن ويهيم بهن من الفت عينه النظر إليهن بعد مدة. وهب أن نساء باريس ظريفات كيّسات ولكن ما شأن هؤلاء النساء اللائي يقدمن من السواد والبراغيل والراذانات والرساتيق والمذارع والدساكر والفلاليج. فمنهن من تغطي رأسها بمنديل فلا يبين منهن إلا شعيرات من عند فوديها. ومنهن من تلبس طرطوراً من القماش على رأسها. حتى أن أهل باريس لا يتمالكون أن يضحكوا حين يرون واحدة من هؤلاء الباديات. وأقبح من ذلك لهجتهن. وفي باريس كثير من النساء يكنسن الطرق ويتعاطين أعمال الرجال. وفي بولن وكالي ودياب وهافر وغيرها من الفرض تجد النساء يحملن أثقال المسافرين على ظهورهن ورؤوسهن. وليس في بلاد الإنكليز كلها من حمالات إلا لأصحاب الأثقال. وزيهن كلهن سواء. فكيف يزعم الفرنساويون إنهم جميعاً متمدنون. ولعمري لو كانت النساء في بلادنا يخرجن في الأسواق سوافر ويبدين قوامهن وخصورهن وسوقهن كنساء باريس، لما تركن لهن أن يذكرن معهن بالجمال والظرافة أصلاً. إلى مصر إلى مصر بلاد الحظ والأرب. إلى الشام إلى الشام. معان الفضل والأدب. إلى تونس نعم الدار فيها أكرم العرب. كفاني من الإفرنج ما قد لقيته وعندي إن اليوم في قربهم عام. ألا دعني أسافر من بلاد أسقمت بدني بمأكلها ومشربها وبرد هوائها العفن. فقال لها الفارياق إن كنت تطيقين السفر فشأنك. فقالت لموتي في الطريق إلي أشهى من التخليد في دار اللئام. فمن ثم تأهبت له. غير أنه حصل لها في غد ذلك اليوم من الضعف والألم ما منعها عن الحركة. وتفصيل ذلك يأتي في الفصل التالي: سرقة مطرانية ووقائع مختلفة

لما نكبت نصارى حلب وجرى عليهم من نهب المال وهتك العرض ما جرى، اجتمعت رؤساؤهم في الدّين وارتأوا أن يبعثوا من طرفهم وكلاء إلى بلاد الإفرنج ليجمعوا لهم من دولها وكنائسها ومن أهلها الخيرين مدداً يقوم بأودهم. فاختارت الكنيسة الرومية الأرثوذكسية الخواجا فتح الله مرّاش واختارت الكنيسة الرومية الملكية المطران اتناسيوس التتونجي مؤلف كتاب الحكاكة في الركاكة. ورجلاً آخر معه يقال له الخواجا شكري عبود. فاقبلوا يجولون في البلاد حتى انتهوا إلى مملكة أوستريا فجمعوا منها مبلغاً. وكان معهم منشور من مطراني الكنيستين المذكورتين في حلب يؤذن بوكالتهم من الطائفتين في هذه المصلحة. فلما فرغوا في بلاد النمسا قدم الخواجا فتح الله المزبور ورفيقه الخواجا شكري عبود إلى باريس ومعهما ذلك المنشور. وبقي المطران هناك على عزم أن يجتمع بهما في بلاد الإنكليز. وإنما لم يقدم معهما إلى فرنسا مع أنه هو وكيل الكنيسة الملكية وهي على مذهب الكنيسة الفرنساوية. لما أنه كان سابقاً ارتكب فيها من إساءة الأدب وتعدّى طور أمثاله ما أوجب حبسه ثم طرده منها مدحوراً. فخشي والحالة هذه أن يشهر أمره هذه المرة فيها فيحيق به سوء عمله. فلما أبرز رفيقاه منشور الوصاة المطران باريس والتمسا منه المعونة عجب من رؤيته اسم المطران التتونجي مذكوراً فيه دون رؤية سحنته. فقال لهما ما بال وكيل الكنيسة الملكية لم يحضر معكما. فاعتذرا عن غيابه بأعذار لم يقبلها منهما المشار إليه. وتذكر ما كان فعله التتونجي من قبل فردّهما خائبين. وكان الخواجا فتح الله مراش ورفيقه يترددان على الفارياق مدة مكثهما في باريس. لكن تردد الأول أكثر. وإنما أنس به الفارياق مع علمه بأنه رفيق التتونجي لكونه لكونه رآه من ذوي المعارف والدراية ماعدا كونه متزوجاً وله عيال. وقلّ من كان على مثل ذي الحال وانطوى على غش ودخل. لأن العلم بلطف العقل والعيال ترقق القلب. ثم أرتبك المطران في رطمه في بلد من بلاد أوستريا وهو فيما أظن بولونيا. ففصل منه على نكظ وخزي وسار إلى بلاد الإنكليز مجتدياً. ويومئذ أرسل إلى رفيقيه المذكورين أن يلحقا به. فما مضت بعد سفرهما أيام قليلة حتى ورد إلى الفارياق كتاب من كاتب اللجنة "أي جمعية أخوية" وفي ضمنه كراسة من كتاب كان قد عربه الفارياق من كتب العجم وفيها ما يسوء اللجنة. فأيقن حينئذ بأن أحد رفيقي المطران عند ترددهما عليه سرقها من مخدعه بإشارة المطران. وإنه لما أجتمع به في لندن سلمها له فأهداها المطران إلى اللجنة طمعاً في إيصال الضرر من جانبهم إلى الفارياف. غير أن اللجنة المذكورة لما كانت منطوية على أخلاق كريمة ردت الكراسة على الفارياق. إذ لم يكن لهم بحفظها من مصلحة. وكان ورود الكراسة يوم عزمت الفارياقية على السفر. فبلغ منها الغيظ والحزن كل مبلغ حتى لزمت الفراش. فأما المطران فإنه تصدى له في لندرة بعض رؤساء الكنيسة الباباوية ومنعوه من تعاطي الحرفة الساسانية. حتى أن شنعته وشهرته هناك عطلت أيضاً على غيره ممن كان يجتديهم لمصلحة من مصالح الكنيسة. فحسبوا كل قادم إليهم من بلاد الشرق منافقاً.

نبذة مما نظمه الفارياق من القصائد والأبيات

أما الفارياقية فإنها نقهت بعد أيام وصممت على السفر فكتب لها زوجها كتاب توصية إلى المولى المعظم سامي باشا المفخم في مدينة القسطنطينة. ثم شيّعتها وسفر معها اصغر أولاده تسلية لها. ولما حان حان الفراق توادعاً وتباكياً وتواجداً حتى إذا لم تعد العين تجيبهما بالدمع وهي العسقفة والعسقبة والتبغيض رجع إلى منزله مستوحشاً مكتبئاً. وسافرت هي إلى مرسيلية فزال ما كان بها وشفيت أتم الشفاء. لكنها لم تغير نيتها عن السفر إلى إسلامبول. ثقة بأن هذا الفراق يكون سبباً في وشك اللقاء. فلما بلغت مقام المولى المشار إليه وأدت كتاب التوصية لولده النجيب الحسيب صبحي بيك إذ كان والده حينئذ غائباً، اكرم مثواها وأحسن إليها غاية الإحسان. وهذا مثال آخر على الكرم الشرقي ينبغي أن يبلغ مسامع الأمراء الغربيين من الإفرنج. وفي غضون ذلك نظم الفارياق للموما إليه قصيدة يمدحه بها على كرمه ومعروفه. ولزوجته أبياتاً أودعاً ذكر ما لقي من وحشة النوى وستأتي كلها في الفصل التالي الذي هو خاتمة هذا الكتاب. ثم أنتقل من منزله ذاك إلى غرفة وجعل دأبه في كل يوم نظم بيتين على بابها. ثم بلغه قدوم السيد الأكرم الأمير عبد القادر إلى باريس فأهداه أيضاً قصيدة وتشرف بمجلسه. ثم عيل صبره من الوحدة فاستماله بعض معارفه إلى اللعب بهذه الأوراق المزوقة فصار من زمرة المقامرين. لكن جهله بها كان غير مرة يبعث شريكه على العربدة عليه. فكان يرضى بأن يكون حرضه فقط. "الحرضة أمين المقامرين" ثم تعرف برئيس تراجم الدولة وهو الكونت ديكرانج فأما غيره من التراجميين وشيوخ العلم ومدرسي اللغات الشرقية فلم يطأ لهم عتبة. لأنهم نفسوا عليه بمائهم وبضيحهم وبودهم وكلامهم ولقائهم حتى إنهم أبوا أن يطبعوا له قصيدته التي مدح بها باريس بعد أن وعدوا بذلك. وما كان خلفهم إِلا حسداً ولؤماً. نبذة مما نظمه الفارياق من القصائد والأبيات في باريس على ما سبقت الإشارة إليه أي فارياق، قد حان الفراقز فإن ذا آخر فصل من كتابي الذي أودعته من أخبارك ما أملّني والقارئين معي. ولو كنت علمت من قبل الأخذ فيه بأنك تكلفني أن أبلغ عنك جميع أقوالك وأفعالك لما أدخلت رأسي في هذه الربقة. وتجشمت هذه المشقة. فقد كنت أظن أن صغر جثتك لا يكون موجباً لإنشاء تأليف كبير الحجم مثل هذا. وأقسم إنك لو تأبطته ومشيت به خطى على قدر صفحاته لنبذته ورآك وشكوت منه ومن نفسك أيضاً إذ كنت أنت السبب فيه. وما تمنعني صداقتي لك إذا وقفت على أحوالك بعد الآن إن أؤلف عليك كتاباً آخر. ولكن إياك وكثرة الاسفار، والتحرش بالقسيسين والنساء في الليل والنهار. فقد مللت من ذكر ذلك جداً. ولقيت منه عناء وجهداً. والآن قد بقي عليّ أن أروي عنك بعض قصائدك وأبياتك. ولكن قبل الشروع فيه ينبغي أن أذكر حكاية حالي.

وهي إني لما كنت في هذه السنة بمدينة لندرة وشاعت أراجيف الحرب بين الدولة العلية ودولة روسية نظمت قصيدة في مدح مولانا المعظم وسلطاننا المفخم السلطان عبد المجيد أدام الله نصره وخلد مجده وفخره وقدمتها لجناب سفيره المكرم الأمير موسورس فبعث بها جناب فخر الوزراء سيدي رشيد باشا بلغه الله ما شاء فلم تمض أيام حتى بعث المشار إليه الأمير السفير يخبره بأنه قدّم القصيدة للحضرة السلطانية في وقت رضى وقبول ووقعت لديها موقعاً حسناً. وإنه صدر الأمر العالي بتوظيفي في ديوان الترجمة السلطاني. فكان هذا الخبر عندي أسرّ ما طرق مسمعي. فينبغي لي الآن إن أتأهب للسفر لا تشرف بهذه الوظيفة. ولكن أعلم أيها القارئ العزيز إنه لما كان همي وقصارى مرامي كله إنجاز طبع هذا الكتاب قبل سفري إلى القسطنطينية وكان مكثي في لندرة موجباً لتأخيره. لأن أجزاءه المطبوعة كانت ترسل إليّ فيها لأصححها آخر مرة من قبل الطبع. أشار إليّ الخواجا رافائيل كحلا الذي ولي طبع الكتاب بنفقته إن أسافر إلى باريس تعجيلاً لطبعه فأجبت إلى ذلك. وكان وقتئذ في مرسى لندرة سفينة نار للدولة العلية يراد تسفيرها بعد مدة. فالتمست من صاحبي الخواجا نينه الذي قدم مع الخواجا ميخائيل مخلع في مصلحة متجريه بأن يراقب وقت سفر السفينة ويخبرني بذلك لئلا تفوتني فرصة السفر معها. وكان للخواجا نينه المذكور بعض حاجات ومآرب في باريس جلها بامرأته فوكل بشرائها بعض معارفه هناك. حتى إذا اشتراها له أوعز إليه في أن يسلمها لي وكتب إليّ كتاباً يقول فيه أن السفينة لا تلبث أن تسافر فالأولى سرعة رجوعك إلى لندرة. فصدقت قوله وأقبلت أسعى إلى لندرة وأنا موجس أن تكون السفينة قد سافرت دوني. وتركت التصليح على عهده الخواجاً رافائيل الموما إليه. فلما وصلت إلى لندرة تبين لي أن نصح صاحبي لم يكن مقصوداً به حاجة حضوري ولكن إحضار حاجته معي ليتوفر عليه بذلك جعلها ومكسها ولتتزّين بها زوجته قبل انقضاء أوانها. فإن السفينة بقيت في المرسى مدة طويلة لتصليح آلاتها على علم من ناصحي. فكان قدومي إلى لندرة هذه المرّة الثانية سبباً في تأخير الطبع أيضاً لأجل لزوم إرسال الصحائف إليّ لأنظرها قبل الطبع كما سبقت الإشارة إليه. ولولا ذلك لنجز الكتاب سريعاً. غير أني أحمد الله تعالى على إنه لم يعرض له من الأمور النسائية إلا ما أوجب تأخير طبعه فقط دون أبطاله ونسخه بالكلية. فقد طالما أشفقت عليه من ذلك كما أن الفارياق يشفق على فساد ترجمته من أمثال هذه العوارض. وهذه القضية مصداق على ما قالته الفارياقية في الفصل التاسع من الكتاب الرابع من أنه قد يجتمع اثنان في زواج أو في شركة أو غير ذلك ويكون قد تقرر في بال أحدهما إن له منة على صاحبه. فمتى وردت على سمعك يا صاحبي نصيحة من أحد فأنشر طيّها وأسبر غورها لتعلم هل الغرض منها نفعك خاصة أو نفع ناصحك وحده أو نفعكما معاً. ولكن لا تبتدئ بنصيحتي هذه فإني لم أقصد بها إلا مجرد نفعك فقط. وأعلم يا فارياق إنه قبل تشرف قصائدك وأبياتك بإدماجها في هذا الكتاب يجب عليّ أن أشرفه والقارئين أيضاً بالقصيدة المشار إليها وهي: الحق يعلو والصلاح يعمر ... والزور يمحق والفساد يدمر والبغي مصرعه ذميم لم يزل ... آتيه عرضة كل سوء يثبر والوغد تبطره من النعم التي ... يغنى بها الحرّ الكريم ويشكر طغت الطغاة الروس لما غرَّهم ... في الأرض كثر سوادهم وتجبروا كادوا ويرجع كيدهم في نحرهم ... فطُلاهم دون القواضب ينحر المعتدون ولا نهى تنهاهم ... الظالمون القاسطون الفجّر نقضوا العهود وكان ذلك دأبهم ... لؤماً وللعدوان بغياً اضمروا حتى أرى بعض المآثر رأسُهم ... بخس الحقوق وساء من يستأثر أيظن أن الدولة العليا السويد ... وإنّه هو بطرس المتأخر كلاّ ليرتدعنَّ ثم ليعلمنّ ... أن ربَّها من يبتغيها يثأر يا مسلمون تثبّتوا أن جاءكم ... نبأ عن الروس العدى وتبصّروا لا يغررنَّكم كثير جموعهم ... فالحق ليس يضيره المستكثر يا مؤمنون هو الجهاد فبادروا ... متطوعين إليه حتى تؤجروا هذا جهاد الله يحمي عرضكم ... فاسخوا عليه بكل علق يُدخر

في لَنْ تنالوا البر حتى تنفقوا ... مّما تُحبون الدليل الأظهر وتمسكوا بالعروة الوثقى من ... الصبر الجميل على القتال وذمّروا يغنيكم التكبير والتهليل عن ... إن تعملوا فيهم سلاحاً يبتر فألقوهم بهما كفاحاً تظفروا ... وعليهم صولوا وطولوا وانفروا واغزوهم بحراً وبراً واحشدوا ... ركباً وفرسانا ونسرهم أنسروا لو لم يكن منكم سوى نفر لما ... غلبوا فكيف بكم وأنتم اكثر من كل فتاك إذا اعترضت له ... يوماً شعوب يُدمر انتم عباد الله حقاً فاعبدوا ... للدّين فهو بكم يعزّ ويجبر وأحموا حقيقتكم فحفظ ذماركم ... فرض عليكم ليس عنه تأخر غاروا على الإسلام حتى ترفعوا ... أعلامه فلكم به أن تفخروا لا تسمع الأجراس في أوطانكم ... بدل النداء ولا ينجس منبر وليسمعن اليوم في أرجائكم ... قرع القوانس بالظبى أو تخدروا فلذاك أشجى من غناء مطرّب ... بمسامع القوم الذين به ضررا لكن يد الله القوية معكم ... توليكم أيداً فلن تتقهقروا ما أن يقاويكم بهم من عسكر ... لو أن ملء الأرض طراً عسكر قد قال في الذكر المفصل ربكم ... حقاً علينا نصرهم فتذكروا ما الله مخلف وعده لعباده ... أن هم بعصمته أتقو واستنصروا قد كان مولاكم وهاهو لم يزل ... وزراً لكم أيّان كنتم يخفر ولربما شرعوا الرماح عليكم ... لكن على إنفاذها لن يقدروا لن يعمل البتّار إلا أن يشا ... الله ما شيء سواه مؤثر والنار منهم أن يُرد إطفاؤها ... برد فلا تلظى ولا تتسعّر وإذا يشاء يثلّ عرشهم فلن ... يستقدموا عنه ولن يستأخروا غاروا على حرم مخدرة لكم ... قد طالما أُحْصنَّ عمن يعهر أيقودهن اليوم علج فاجر ... وسيوفكم بدمائهم لا تقطر ولئن يكن نجسا ورجساً مسها ... فبخوضها قد حلّ أن تتطهروا الصبر محمود ولكن حين تنتهك ... المحارم لا أرى أن تصبروا لا خير في عيش يقارف ذلّة ... حاشاكم أن تفشلوا أو تدبروا شهد الإله بأنه مولاكم ... ونصيركم فبحمده فاستظهروا والله قد وعد المجاهد منكم ... فتحاً مبيناً في الكتاب فابشروا ويبوّئ الشهداء خير مبوّإِ ... جنات عدن ملكها لا يغبر الحرب بينكم سجال فأثبتوا ... والنصر عقبى أمركم فاستبشروا في أهل بدر عبرة لكم ألاَ ... يا قوم فليتذكر المتذكر أبْلُوا ليرضى ربكم عنكم فمن ... أبلى فعند اللائمية يعذر كم بين من يأتي القتال تطوعاً ... ومسخر كرها عليه يجبر يقتاده ويسوقه مولى له ... فظ زنيم غاشم متغشمر ويبيعه لو شاء للنخاس مع ... ولد له وبزوجه يتسرّر لا عرض يمنعهم ولا كرم لهم ... يثنيهم في الناس عن أن يفجروا يتترعون إلى الفواحش حيث مع ... أهل المحامد فاتهم إن يذكروا وكذا الطغَّام إذا عدتهم مدحة ... ودّوا بأية شهرة أن يشهروا سعدوا ولكن ربَّ سعد ذابح ... للفائزين به إذا لم يشكروا ولعل نسرهم المدوم واقع ... فمن الهلال علاه ضوء يبهر لن يفلح العاثون ما عاشوا ولا ... العاتون ما رغدوا ولن يتيسروا أو لم يعوا ما جاءهم عمن طغى ... من قبلهم بطراً وأنى دُمروا أم يعجزون الله إذ يملي لهم ... عن أن يغار لقومه أن ينصروا أو أن يمدهم بجند لا ترى ... وبمنشئات مخر لا تبحر لو أن تخرمهم وهم مرحون في ... أمن رخيو البال ريح صرصر أو يرسل الطير الأبابيل التي ... قد أهلكت أمثالهم لأكثروا ما كان عبّاد البعيم ليغلبوا ... قوما على إيّاك نعبد يُحشر من كان يُرضي الله خالص سعيه ... في الناس فهو بكل خير يجدر من لم يصخ أذناً لنصح وليّه ... ركب الضلال ولم يُفده المنذر من أبطرته نعمة المولى عتا ... عسفاً وغشمرة يمين ويغدر من لم تكن تغنيه قسمة رزقه ... فإذا اشرأب إلى الزيادة يخسر من يتكل سفها على جند له ... دون الإله يحق به ما يحذر

من ظن أن يقوى بقوة بأسه ... وسلاحه وذويه فهو مغرَّر من غالب القهار عاد مخشيا ... مستضعفاً وكلا يُذل ويقهر من سرَّه في يومه كفرانه ... وأفاه في غده العذاب الأكبر من كان يوماً راغباً في عاجل ... عن آجل أودي به ما يؤثر من كان من بين الورى سلطانه ... عبد المجيد فإنه لمظفر سلطاننا الأسمى الذي سعدت به ... أيامنا وزهت فدته الأعصر نشر العدالة في البلاد فكلنا ... مستأمن في ظله مستبشر ولكلّ جيل في ممالكه يد ... منه وآلاء تعمّ وتغمر ما أن عداهم عدله وأمانه ... سيان هم أعسروا أو أيسروا أنا إذا أتخذ العدى طاغوتهم ... ربَّاً لنأتمر الذي هو يأمر لسنا نروم بغير طاعته إلى ... الرحمن من زلفى ولا نتخير كلاّ ولا في غير خدمتنا له ... عرض وإخلاص لنا وتبرّر كفر المبايع غيره والمعتدى ... بغياً وطغياناً عليه اكفر من ذا يحاكيه على ومناقبا ... ومن الذي فَضْلى حلاه ينكر لو أنه اقترح الوجود تحكماً ... ما زاد فيها غير ما نتنظر من جوهر الإخلاص صوّر ذاته ... رب قدير كيف شاء يصور ولاه أمر الدين والدنيا معاً ... فهو الإمام الحاكم المتأمر وهو الذي بين الملوك مقامه ... الأعلى يكرم هيبة ويوقر وهو الذي بين العباد محبب ... ومعظم ومبجل ومعزز يستدفعون الضر فيهم باسمه ... وعلى المنابر حمده المتكرّر أن قال لم يستثن مما قاله ... أحد وأن يفعله فهو مخيَّر ليس الفرنج مشايعي أعدائه ... ما هم لهم حزب ولاهم معشر أفمن يكون على هدى من ربه ... كغوي استهواه جبت منكر أم من له الخلق الكريم يقاسم ... بالنكد اللئيم جبلة وينظرَّ أم يستوي في العرف والإمكان من ... يهب الجزيل ومن يشح ويضمر أيه أمير المؤمنين ومن دعا ... أيه أمير المؤمنين فقد سرُوا سد بالمعالي فائقاً كل الورى ... مجدا وشأنئك البغيض الأبتر وسعت عوارفك العميمة سؤلنا ... الأقصى وما بالبال منا يخطر حتى لقد كلّت خواطرنا بما ... اقترحت وأنت منفّل لا تضجر نطق العيي بفرض مدحك مفصحاً ... حتى الجماد يكاد عنه يعبرّ ولقد أضاء الكون مجدك كله ... حتى استوى في العمي والمبصر نظر الطغاة إليك نظرة حاسد ... فتجرعوا مضضاً بها وتحسروا أن يجلبوا فالله ما حق جيشهم ... أو يمكروا فلمكر ربك أكبر إن المحال من المحال إذا جرى ... بخلاف طيّته وحق مقدر ما كان جمعهم سوى كسف هبت ... والشمس ليست بالهباء تستر ليست فروق لغير عرشك وهي ما ... بقيت على الفرقان ليست تقفر أنت الذي بمديح وصفك تنجلي ... عنا الهموم وافقنا يتعطر وتصحّ أحلام الأماني في غد ... اللاّهي بها والدهر انكد اعسر ما أن يفي نظم اللآلئ مدحة ... لك باللهى من سحب كفك تنثر لم يبق ما بين الورى من ناطق ... إلاّ وعن آلاء فضلك يخبر حرس الإله جنابك الأعلى ولا ... زالت عبادك في حماه تخفر وأدام دولتك العلية ما سرى ... نجم وما زخرت كجودك أبحر أنشدت تاريخين هجريّين في ... ختمي مديحك وهو حظي الأوفر عبد المجيد الله أركى ضده ... سلطاننا خير بجد ينصر سنة 1270 سنة 1270 القصيدة الهرفية في مدح باريس أذي جنة في الأرض أم هي باريس ملائكة سكانها أم فرنسيس وهل حُور عين في منازهها تُرَى وإلا فكل حين تخطر بلقيس وهل ذي نجوم ترجم الهمّ في الدجى عن البال أن يخطر به أم نباريس وهل زهرة الدنيا ترى في هوادج تمر كبرق خاطف أم طواويس نعم أنها خُلْد النعيم وشاهدي رياض وحوض دافق وفراديس ونهر وعليون فيها كواعب على سرر مرفوعة واعاريس وفاكهة مع لحم طير ونضرة وراح وريحان وروح وترغيس وأعمدة تحبو السحائب دونها كان لها فوق السماكين تأسيس هنيئاً لمن منها تبؤَّأ منزلاً وطوبى لمن فيها له تاح تعريس إذا شدة أو كربة بك برحت فحجّ إليها فهي للكرب تنفيس

فتونس منها وهي تونس غبطةً فبين المقامين اتحاد وتجنيس وإن تك يوماً قانطاً من لبانة فرؤيتها أطلاب ما منه ميئوس بها ما يقر العين من كل إربة وما تشتهي نفس وما تألف التوس وفي ذكر ما فيها تلذ لذاذة تطيب بها عن غير وهو محسوس هي المنهل المورود من كل ظامئ القصيدة الحرفية في ذمها أذي عبقر في الأرض أم هي باريس زبانية سكانها أم فرنسيس وهل ذي نساء في مواحلها ترى وإلا فكل حين تخطر جاموس وهل ذا شرار يجلب الهمّ في الدجى إلى البال أن نبصر به أم نباريس وهل زفرة الدنيا ترى في هوادج تمر كعير ظالع أم مطافيس نعم أنها مأوى الجحيم وشاهدي شقيون في ساحاتها ومناحيس وفسق وعليون فيها فواجر على سرر مرصوعة وتناجيس وأكل من زقوم يخبث طعمه وشرب من الغسْلين يسقيه إبليس وأعمدة تلقي الشياطين عندها كان لها فوق الخبائث تأسيس شقاء لمن منها تبوأ منزلاً وتعسا لمن فيها له تاح تعريس إذا شدة أو كربة بك برّحت بها فأنا عنها فهو للكرب تنفيس وبرّز عليها أن يفتك مبرَّز فبين المقامين اتحاد وتجنيس وإن تك يوماً طامعاً في لُبانة فرؤيتها يأس لما هو محدوس بها ما يسوء من كل إربة وما تجتوي نفس وما تكره التُوس وفي ذكر ما فيها يسوء إساءة تفوق على ما خفته وهو محسوس هي المنهل المسموم حتف لظامئ وللزائريها الخير أجمع مبجوس هي الأمن من جور الخطوب فما على عرير بها ضيم يُحاذر أو بؤس نعم هي من عين الزمان تميمة فما أمِّها ذو عسرة وغدا في سو فما نعمة فيها تشان مجاسد ولا صفو لذات يقانيه تسجيس ولا نجس ذي حق من الناس حقه فيا حسن دار حيث لاحقَّ مبخوس فلا ذام فيها يستبين لعائب سوى هادم اللذات ما دونه طوس عليها بهاء الملك والعز والعُلى ومنها سخاء المجد والفخر مقبوس إلى مثلها يُنضى الرشيد مطيّه إذا كان يُلفى مثلها وتجي العيس هو العيش فأغنم طيبه في ربوعها فإنك فيها ما أقمت لمرغوس وإنك منها لست يوماً بواجد بديلاً ولو أمسى وراءك برجيس وأنك فيها ضارب كُرَة الأسى بمحجن بشر ليس يتلوه تعبيس وأنك منها مجتن ثمر المنى فإن بها الفوائد مغروس إذا رثَّ العمر منك فأنّ من قشيبِ حظاها ريقّ العيش ملبوس فبِتْ آمناً فيها وقم باكراً إلى مراتع لهو لم تشبهُ وساويس ولا ترغبن عنها إلى غيرها تكن كمن شاقه بعد السعادة أنكيس فدهرك فيها ما أقمت مسالم وللزائريها الشر أجمع مبجوس هي الخوف من كل الخطوب فما على عرير بها إلا المخاطر والبوس نعم هي في عين الزمان قذًى فما أتاها أمرؤ إلا ومنها غدا في سو فما نعمة فيها خلت عن محسّد ولا وطر إلا وقاناه تسجيس وتبخس ذا حق من الناس حقه فيا قبحها دارا بها الحق مبخوس فلا روح منها يستبين لناصب سوى هادم اللذات ما دونه طوس عليها ظلام الكفر والظلم والخنى ومنها أوار الفسق والفحش مقبوس وعن مثلها ينضى الرشيد مطيّه إذا كان يُلقى مثلها وتجي العيس هو العيش فأغنم طيبه في سوائها فإنك فيها ما أقمت لمنحوس وإنك لا تلقى لها من مُشابه برِجْسٍ ولو أمسى وراءك برجيس وأنك فيها ضارب كرة المنى بمحجن ياس تلوه الدهر تعبيس وأنك منها مجتن ثمر الأسى فإن بها أصل المحارم مغروس إذا كان ثوب العزّ عندك معلَما فمن نغص في عيشها هو مطلوس فبت صابراً فيها وقم باكراً إلى نعيم سواها لم تشبه وساويس ولا ترغبن فيها ولو ليلة تكن كمن شاقه بعد السعادة أنكيس فدهرك في دار سواها مسالم وقدرك مرفوع وشملك محروس فآثر بها ليلاً على عام غيرها على فرض أن الليل إذ ذاك أدموس ولا غرور أن تزداد في العمر حقبة ففي الصفر للفرد العقيم تخاميس لقد كنت أخشى الخَين في غير منشأي فقدْني بها بشرى إذا أنا مرموس وقد طالما عللت نفسي برغدها فبتّ ولي أحلام خير وتغليس فألفيتها يربو على الوصف حسنها فما ثمّ أشباه لها ومقاييس وفيها من العزّ الكرام أعزّة جحاجح ضرّابون يوم الوغى شوس لقد فُطروا طبعاً على الودّ والوفا جميعاً فما يعروهما عوض تلبيس لئن سُبقوا سبْق الوحود فانه لَيسبقُ جسماً ظله وهو مدعوس لهم في سماء العلم شمس براعة وفي الأدب الطامي العباب قواميس فكم فيهم من عالم متقن له لتطليس آثار المعارف تطريس

إذا أغطشت آفاق أمر فإنما يجليّه لفظ موجز منه مهموس وكم فيهم من فاضل ذي استقامة تقيم قوام الدهر إذ هو منكوس وتمسكه أن لا يجور كأنما وتُعدَّل في كلتا يديه قساطيس وربَّ خطيب لفظة فوق منبر يبين ولو بُلِّغْتَه وهو معكوس يشف خفي الغيب عما يقوله وقدرك مرفوع وشملك محروس فآثر بها ليلاً على عمر بذي على فرض أن الليل إذ ذاك أدموس ولا غرو أن تزداد في العمر حقبة ففي الصفر للفرد العقيم تخاميس لقد كنب أخشى الحين في غير منشأي فيا شقوتي فيها إذا أنا مرموس وقد طالما حذّرت نفسي فسادها فبت ولي أحلام سوء وكابوس فألفيتها يربو على الوصف قبحها فما ثمّ أشباه له ومقاييس وفيها من القوم اللئام ثعالب ولكنهم أن يؤدبوا أسد شوس لقد فطورا طبعاً على الغدر والجفا جميعاً فلا يغررك في ذاك تلبيس لئن سَبقوا سبق الوجود فانه ليسبق جسماً ظله وهو مدعوس لهم في بحور الشك وطالما تغشّتهم منه ضلالا قواميس فكم فيهم من مدّع صَلِف له لتطريس آثار المعارف تطليس إذا ما انجلت آفاق فانه ليخفيه لفظ موجز منه مهموس وكم قيهم من فاضل من فضوله اعتدال قوام الدهر أحدب منكوس يحاول لؤماً أن يميل به فلا تعدّل في كلتا يديه قساطيس وربّ عييّ لفظة فوق منبر يسوء ولو بلّغته وهو معكوس يشفّ خفيّ العيب عما يقوله فيبصره من طرفه بعد مطموس وكم فيهم من خيّرٍ صالح له أنا الليل تسبيح طويل وتقديس وكم فاتح منهم وما بارح الحمى كتائبه أقلامه والقراطيس وكم بينهم من ليث حرب إذا سطا جريء له فيها احتناك وتضريس حمام إذا هيجوا حياة إذا اتقوا أسود إذا صالوا جبابرة هيس إذا سمحوا لا نوا وإن حمِسوا فسّوا ويَرْبُون فضلاً أن بغيرهم قيسوا أولو هّمة دانت لها هِمَم الورى وفخرهم في ذاك كالدهر قدوموس بشاشتهم للضيف خير من القِرَى وما لقراهم لو تأخّر تبنيس وأكرمهم مثوى الغريب سجية فيغدوا أقناه أهل وتأنيس مديحهم يشدو به كل رائح وغاد ويرويه رئيس ومرؤوس لقد أكرموا هذا اللسان وأهله فمازال يحظى عندهم وهو مدروس وقد ألّفوا فيه تآليف جمّة وجلّت لهم فيه شيوخ وتدريس يعزّ الفتى بالمال عند سواهم وعندهم تغنيك عنه الكراكيس فقل لمباريهم تحدّوا لغيرهم فإن مجاراة المجلّين تهويس شِعارهم حرّية وأُخوَّة وتسوية كلّ بذلك ناموس فلا فرق بين الدون والدون في القضا فيبصره من طرفه بعدُ مطموس وكم فيهم من فاسق عاهر له أنا الليل تجديف طويل وتنجيس وكم طامع في الملك منهم سفاهة كتائبه أقلامه والقراطيس وكم من طفيلّي لكل وليمة جريء له فيها احتناك وتضريس حمام إذا زيْروا حياة إذا اجتدوا أسود إذا لاسوا جبابرة هيس إذا سألوا لا نوا وإن سُئلوا قَسُوا ويربون شحّا أن بغيرهم قيسوا أولوا جّشَع من دونه جشع الورى وصيتهم في ذاك كالدهر قدموس بشاشتهم للضيف في زعمهم قرى وفي وعدهم مّيْنُ ومطل وتبنيس وإكرامهم مثوى الغريب سجية إذا كان ذا زوج وبالزوج تانيس هجاؤهم يشدو به كل رائح وغاد ويرويه رئيس ومرؤوس لقد جهلوا هذا اللسان وأهله فما زال يخفى عنهم وهو مدروس وقد لفقوا فيه أساطير جمّة وشطّت لهم فيه شيوخ وتدريس يعزّ الفتى بالعلم عند سواهم وعندهم ليست تفيد الكراريس فقل لذوي الدعوى المبارين منهم لعمري مجاراة المجلّين تهويس شعارهم حرّية وأخوّة وتسوية لكن عدا ذاك ناموس فلا فرق بين الدون والدون في القضا وإرّيسهم في اليُسر والرفة أرّيس ترى كلَّ فرد منهم كيساً له مشاركة في العلم والفضل ما كيسوا وإن لهم من سيمياء وجوههم دلائل أن الخير منهم مانوس وأن لهم رزقاً كريماً رضوا به فما هم مسفّى ما رب فيه تدنيس فتحسب كلاّ حلّ صرْحا ممرّدا تحيته فيه سلام وتقليس فما نظرت عيناي فيهم صاغرا ولا عن الخيرات والرشد مرجوس أراني سعيداً محْبّراً في جوارهم ومن لم يزر هذا الحمى فهو منحوس عفوت عن الأيام سالف ذنبها فقد شفعت فيها وفي الناس باريس فلا فرق في الدون والدون في القضا وأرّيسهم في الأمر والنهي أرَّيس ترى كل فرد عاتياً طاغياً له مشاركة في الحكم مع إنهم خيسوا وإن لهم من سيمياء وجوههم دلائل منهم أن الشرّ مانوس

القصيدة التي أمتدح بها الجناب المكرم الأمير عبد القادر

وأن لهم رزقاً حراماً رضوا به فشأنهم أسفاف ما فيه تدنيس فتحسب كلاّ حل ماخور ريبة تحيته فيها سِلام وتلقيس فما نظرت عيناي فيهم فاضلا ولا من عن الآثام والرجس مرجوس أراني كثيباً نادماً في جوارهم ومن زار يوماً أرضهم فهو منحوس وجدت على الأيام عتباً بعيشها فقد أخبثته والبريةَ باريس وقد كنت في مدحي لها قبلُ مخطئا فهذا له كفارة وهو مركوس القصيدة التي أمتدح بها الجناب المكرم الأمير عبد القادر بن محيي الدين المشهور بالعلم والجهاد ما دام شخصك غائباً عن ناظري ... ليس السرور يخاطر في خاطري يا من على قرب المزار وبعده ... حبي له والشوق ملء سرائري أن كنت لي يوماً فديتك وافياً ... ما ضرني أن كان غيرك غادري فإذا رضيت فكل سخط هيّن ... وإذا وصلت فلم أبالِ بهاجر وإذا بقربك كنت يوماً نافعي ... لم أخشَ شيئاً بعد ذلك ضائري يا فاتني بدلاله وشماله ... وكماله وجماله ذا الزاهر عقلي سلبت ومهجتي فأرددهما ... لا جيد مدح شمائل لك باهري وليعلم العذَّال إني صادق ... في وصف حسن حلاك وصفة شاعر يا محرقي شوقاً بفاتر جفنه ... أرأيت قبلي محرقاً بالفاتر يا بدر تمَّ لاع قلبي حبه ... يا شمس حسن قد تملك سائري يا ظبي أنس شاق عيني شكله ... لكن له طبع الغزال النافر هلا رثيت لحالتي ورفقت بي ... ووعدتني عدة ولو في الظاهر كلَم الحشا مني وعيدك قَسْوة ... قبل الفراق بأن تكون معاسري وفطرت قلبي بالجفا عمداً فلا ... عجب إذا ما قلت أنك فاطري أفهكذا فعل الحبيب بحبِّه ... أم صرت بعدي عاذلي لا عاذري لو كنت تدري ما لقيت من النوى ... لرحمتني وودت أنك زائري مذ غبت عنك أرتد عن طرفي الكرى ... من بعد ما هدى ارتداد الكافر وأزداد سقمي واستثيرت لوعتي ... وبدا بحبّك ما تكن ضمائري أني وحق هواك غاية مطلبي ... وسنا محيّاك الصبيح الناضر من يوم لحتَ لناظري ما لا قنى ... شيء ولم يملأ جمال الناظر ما كان حسن سواك يوماً شائقي ... كلا ولا لحظ لغيرك ساحري أهوى لأجلك من حكاك بشكله ... لا شكله إذ ذاك دون النادر كيف اصطباري اليوم والأجل انقضى ... وأبيت إرضائي بطيف زائري وبمهجتي إني أراه ساعة ... قبل الممات معانقي ومسامري هَبْه أتى فلقد يراني ساهراً ... والطيف ليس براقد مع ساهري أنسيت عهدي حيث ملت مع الهوى ... ولقد عهدتك ما ذكرتك ذاكري أما أنا فكما علمت على النوى ... والقرب صبّ فيك غير مغاير شيئان لست أطيق صبراً عنهما ... ذكري هواك ومدح عبد القادر هو ذلك الشهم شهدت له ... كل البرية بالفعال الفاخر ومناقب محمودة وشمائل ... مرضية ومحامد ومآثر هو ذلك المولى الممدح سعيه ... عند الإله وعند كل مفاخر هو ذلك الفرد الذي أفعاله ... أمْدوحة البادي وفخر الحاضر وهو المهيب لدى الملوك نزاهة ... والنازح الصيت الكريم الطاهري من معشر العرب العريق نجارُهم ... أهل المكارم كابرا عن كابر العاملين بمحكم التنزيل في ... التحريم والتحليل حزب الحاشر الناحرين إذا دَعَوا وإذا دعُوا ... يا للبراز فنحرهم للناحر المؤثرين على خصاصتهم وقد ... نظروا إلى الدنيا كشيء غابر ولَرُب قوم يحسبون خلاقهم ... فيها وغابر لهوها كالغابر ولديهم ردُّ التحية مِنّة ... كبرى بها أحياء عظم ناخر يُحْيي الليالي بالدعاء تهجداً ... فيميت في الأعداء أي جماهر ويروع أفئدة الرجال لقاؤه ... حتى يخوروا عن نداء الناصر في قلب كلّ محنّك من رُعبه ... ما عنه يحجم كل ليث زائر وبكل حرف من بليغ كلامه ... حرف يفلّهم كحرف الباتر الفضل شيمته وسيمته التقى ... لله واسترباح أجر الصابر يولى الندى قبل السؤال وبشره ... لزائريه مؤذن ببشائر يغنيهم عن أن يمتّوا عنده ... بضرورة وَخَّتْهم وأواصر

القصيدة التي أمتدح بها الجناب المكرم النجيب الحسيب صبحي بيك

جهد الزمانَ غلاؤه فكبا ولم ... يبرح لديه وفيه سورة آفر ولقد يكون النسر يوماً واقعاً ... ويعود بعدُ إلى مطير الطائر فالله ينصر من يغار لدينه ... والله يخذل كل عات فاجر والله غز يداول الأيام ما ... بين العباد لسابق ولقاصر سكن الأمير وطارق في الدنيا اسمه ... وروى المعالي عنه كل معاصر فالعجم بين موقر ومبجل ... والعرب بين مُفاخر ومنافر يا ناصر الدين العزيز وحزبه ... يا خير صبّار وأعظم شاكر يا خير ناهٍ عن تعاطي مُنكّر ... وبخطّة المعروف أفضل آمر لا تخش من بأس فربك قاهر ... بدعائك الميمون جيش الجائر كن كيف شئت فإن أجرك ثابت ... في اللوح وهو أجل ذخر الذاخر لك حيث شئت عناية صمدية ... ترعى حماك ونصر ربّ قادر فإذا مدنت فأنت أعظم خادر ... وإذا ظعنت فأنت أكرم سافر القصيدة التي أمتدح بها الجناب المكرم النجيب الحسيب صبحي بيك في إسلامبول أرى الدهر صافاني ومال إلى الصلح ... ومن بعد حرماني أتاني بالنُجح وأصغي إليَّ الجد حين دعوته ... ولاحت تباشر المنى لي من صُبحي أتاني على الإبحار والبرّ برّه ... بأسرع من شكوى احتياجي إلى السمح فلم تكُ إلا دعوة فأجابني ... إجابة صنو وهو لي سيد لحّ ولو لم يجرني من زماني بفضله ... لا صحت في بؤس وأمسيت في برح وحنت بأشجاء التمني فإن لي ... لجرحا ممضاً دونه ألم الجرح فلي في نهار جهد سبح وخرفة ... وفي ليلتي حبس وحُرف عن السبح إذا كنت لا أشكو إليه فمن عسى ... يكون إليه مشتكى الضرّ والتَّرح ومن ذا الذي تلقاه في الناس مسجحاً ... سواه إذا أضطر المضيم إلى السجح خلائق لا يوفي الثناء بوصفها ... ولو كنت حسّان البلاغة والفصح أغار على أوصافه الغر إنها ... تشاركها أوصاف آخر في المدح هداني له جدّي وقد كنت غاوياً ... مع الشعراء البائرين ذوي الكسح وكان زماني مازحاً فمزحته ... فلما تعاطى الجدَّ ملت عن المزح فصار لشعري رونق وطلاوة ... وحُقَّ له الإملاء في ملأ فصح وقد كان في سوق الأعاجم كاسداً ... مقالي واطرائي عليهم بلا ربح فكم بتُّ أُنضي خاطري لمديحهم ... فقمت وبي رنح وأعييت كالطلح ولم يغن عني ما مدحتهم به ... فتيلاً وما ازدادوا سوى البخل والشح ولم ينقدوا كفارة الكذب الذي ... عليّ بأعلى اللوح ما هو بالممحي ولو أنني راسين عصري فيهم ... وملطن ما استثقت منهم سوى النشح فها أنا ذو ربح ولست بمفتر ... ثناء وإطراء وكنت بها أُلحي فحل يا زماني بين فوزي ومطلبي ... أن أسطعت واستعد الخطوب على فدحي فلي باسمه استفتاح كلّ قضية ... ويمناه اقليد السعادة والفتح ألا فليزرني اليوم من كان مزرياً ... بشأني يجد كوخي اعزَّ من الصرح علا بمعاليه مقامي ورتبتي ... وصرت إلى أقصى الأماني ذا طمح إذا أبصرت عيناي من هو مخفق ... كدأبي من قبل انتحلت له نصحي وقلت له أبشر بما أنت طالب ... فمن يدع يوماً باسمه فاز بالسنح هو الماجد النائي مدى الدهر صيته ... قريب من الداعي على القرب والنزح فليس علي بعد يؤخر رفده ... وليس على قرب يمل من المنح هو الحازم النحرير طلاّع أنجد ... كريم نزيه النفس ذو خلق سجح مليل أجلّ الخلق سامي الذري الذي ... مناقبه الغرَّاء تغني عن الثرح أميري ومولاي الكريم وسيدي ... ومن هو بعد الله لي سند الركح تظنّيت فيك الخير والفضل كله ... فحققت ظني فهو دوني في صح أتاني وعد عنك إنك منزلي ... لديك كما أنزلت أهلي في ندح ولا ريب عندي أن وعدك منجز ... وأني لا أحتاج معه إلى فسح فهاك مني المدح خدمة مخلص ... فجد بالرضى عنه فديتك والصفح ودم كهف عزَّ للذليل وملجإ ... لقاصده ما انجاب ليل من الصبح

وكتب إلى الفاضل اللبيب الخوري غبرائيل جباره أرسلها إليهمن باريس إلى مرسيليه وهو أول شعر مدح به قسيساً قف بالطول أن أسقطت قليلاً ... وأسأل عن الركب المغذّ رحيلا ساروا وأبقوا وحشة لك دونها ... غصص المنون وحسرة ونحولا طلل عهدت به الخلاعة والصبى ... وشربت فيه سلسلاً مشمولا وجررت أذيالي وتهت على المُنى ... واقتدت منها ما استعزّ ذليلا وخلعت من نعم ولذات على ... أهل الهوى ما كنت منه ملولا واحسرتاه متى يعود العيش في ... عرصاته وألذّ فيه مقيلا لم يبق إلاّ ذكر أفراحي به ... ومضى كأمس نعيمُه مبتولا أن غيّرت آثاره الأيام أو ... أن عطلت أعلامه تعطيلا فبخاطري تذكاره متجدد ... ولقد يظل بأنسهم مأهولا من بعد حسادي عليه الريح قد ... حامت لديه بكرة وأصيلا تبدي الحنين به وأنَّه ثاكل ... فأزيد فيه زفرة وعويلا تسقي تراب فنائه وكأنما ... تهفو به لتحله الإكليلا عجباً وقد بلته مني عبرة ... أن صار فوق عنانها محمولا أم قد درت نكب الرياح بأنه ... أولى بأن يثوي السماء مقيلا أم مثل عيني أعين الجوزاء قد ... رمدت فتستشفي به تكحيلا ما كدت أدري رسمه لولا شذا ... عرْف إليه كان منه دليلا نؤي الحبائب للمحبّ أعز من ... صرح لديه لا يصيب خليلا وسويعة مع من تحب أجل من ... دهر به تلقى أخاك عذولا قلبي السَمنْدل يصطلي نار الهوى ... وسلوه العنقاء عز وصولا لله كم منه يعذَّب عاشق ... ولكم به يمسي البريء قتيلا لو رقَّ من عشقٍ كلام رتل ... القراء قولي في الدجى ترتيلا أو لو تداوى الناس منه بالبكا ... لشفيتُ كلّ شجٍ يبيت عليلا حاولت قلب القلب عن علل الهوى ... فأجاب أنك قد ضللت سبيلا مني ابتداء الشوق كان وختمه ... بي لست عن دابي أحول حؤولا قد قانتي المولى عليه كما على ... حب المكارم قان غبرائيلا هو ذلك الحبر المهذَّب خلقه ... وعليه يبدو خلقه دليلى الطيّب الأصل الكريم الفعل لن ... تلقاه إلا مرشداً ومنيلا يهب الجزيل وعنده كالجزل ما ... يحجوه جزلاً غيره منقولا المرتدي ثوب العفاف مطرّزاً ... بتقًى يقي التحريم والتحليلا طلق المحيا واللسان طلاقة ... تَدَع الأسى من قيده محلولا يستدرك الأشكال فصل خطابه ... وبعلمه يستخرج المجهولا فلكل ريب قضية ما زال مسئولا ... وللراجي ندًى مأمولا صافي السريرة حيث آي وفائه ... لن تقبل التحريف والتبديلا ما أن يزال إذا دنا وإذا نأى ... بَرّاً نصوحا وأصلا مسئولا كانت مشورته هدى وسعادة ... للمستشير ونصحه منخولا ودعاؤه في الضرّ أعظم عاصم ... لك فأطمئنّ به وكن مكفولا ليس المنيخ ببابه قنطِاً ولا ... من يستغيث بجاهه مخذولا مولى تحرّى الزهد في الدنيا وقد ... دانت له لو شاءها تبتيلا فنجاره ما زال ملجأ لاجئ ... يلقي الأماني عنده والسولا جبر الخواطر من جبارة يرتجي ... وبفرعه كل الفخار أنيلا سمح الزمان بقربه لي سبة ... ما كان أحلاها وعاد بخيلا حتى أرى قِصرَ الأيادي بعده ... ومن استطال بفضله مفضولا ولقد علمت أوان كل الطرف ... مقصوراً عليه ذلك التأويلا مارست دهري واختبرت صروفه ... فإذا به لا يستفيق غفولا هلاّ أتاني من قبل أن ... يقضي الفراق وكان فيه عجولا هل من ممار أن شخصاً واحداً ... يحوي الفضائل كلها تكميلا أم منكر أن ليس يذكر سيدُ ... مع ذكره إلا وكان ضئيلا ولئن أفض في ذكر آلاء له ... فاضت عليّ أملّ عنه طويلا أدب وإحسان وبشر دائم ... وسماحة تستغرق التمثيلا ما كنت في مدحي له بمبالغ ... ما قلت إلا بعض ما قد قيلا ولو استطعت لكنت أنظم ... كل درّيّ له مدحاً أو التنزيلا من حاول الإسهاب فيه فإنما ... هو موقد وقت الضحى قنديلا

القصيدة القمارية

بشرى لمن يحظى بقرب جنابه ... ولمن يقبّل ذيله تقبيلا ولمن له يهدي التحية والثنا ... والحمد والتعظيم والتبجيلا القصيدة القمارية جمعتنا الشيوخ ما بين أصِ ... وكول وفرشخ هو شقصي في مقام جيرانه لا يبيحو ... ن هُتاف المغلوب أو بعض نبص بعضنا شاطر وآخر غِرّ ... خصي أثنين غابن ثم لصّ لم أقم قطّ غالباً غير ليل ... بات فيه للاصّ ظفري كشصّ ظل سعدي يقوى على النحس حتى ... خلتني في القمار شيخ أبن بعص وشريكي له نشاط إلى قنص ... ملوك يدينها أيّ قنص فانثنى ساحر المزوق حيرا ... ن عليه تأليفه متعصّي وبعد من سماته ما يحاكي ... بعضه خايماً وبعض كفص بلغ اللعب منه ما يبلغ الجدّ ... والهاه عن مداراة خلص فغدا بالكلام يقرص والإصبع ... من جاد رميه كل قرص لم يبت ليلة وأصبح يشكو ... من دوار أمضه مع مغص جاره ذو الزلاّت وهو أنا لم ... يبدُ منه في الرمي خطة نقص بعد ستّ وأربعين ولم يبلغه ... عن بنده احتجاج بنصّ ما عليه أن كان يَغلب أو ... يُغلب أو لزّه الشريك بشرص فكره في اختلاق أكذوبة عن ... ذي علاء ما أن يجود بجص يسهر الليل مطرئاً فإذا ما ... أصبح الصبح خار من فرط خمص لو أطاق المسير من هذه الأر ... ض لما حلّ غير بلدة حمص ربما ينفع التغفلّ يوما ... ويضر الإنسان زائد حرص ليس يدري ما اللعب إلا بشعر ... عنه ما عاش ليس بالمتفصّي وبشعر من شاربيه إذا حا ... ول شعراء ينحى عليها بنمص وإذا سامه أمرؤ سهر الليل ... أتاها من غيظه بالمقص لم يدعها تطول حتى تحاكي ... نصَّة الخود ذات ضفر وعقص عن قريب يخضّب البيض منها ... بمدادٍ أو زعفران وحُصّ ليس ينفك ذا ملال وشكوى ... وعلى كل نعمة ذا غمص وشريك له تربَّع في الدَست ... كشيخ مسائل العلم يُحصي أو كمن ينقد الدراهم للسلطان ... من شأنه تمام التقصّي أن يجدْ هفوة يصح ويولول ... ويُقم للجدال قيّم فحص يبذل الأصّ بذله المال لكن ... ثمَّ فرق في بذل هذين أصّى أصلي حيث في الأول اضطراراً وفي الثا ... ني اختياراً لغير كسب ورَبْص أخذ العلم عن شيوخ مشاهير ... ذوي حكمة ومَحْص ولحص لا كبعض الغواة خرّيج بصّا ... قين كلّ أعمالهم عن خَرْص ليس يدري سوى الخديعة والمكر ... وما يجمُل الخداع بشخص يفرز الغالبات في اللعب لكن ... يتعاطى جدّ الأمور بخبص ليس في حارة اليهود سواه ... من يجيز الحرام والحقَّ يعصي قد حكاهم في أكله ذات ظِلفْ ... فوق ساق وفي الدهاء الأخصّ أن يكن غالباً تجده طروباً ... ضاحكاً ذا غمز ذا وقرص ورقص وإذا فاز خصمه ودّ لو كلّ ... خبير سواه باللعب مخصي ولذات الثلث يعطوا بكلتا ... راحتيه وللثماني بقبص فاغراً فاه كالذي لاح ماءً ... ثم لم يرو منه غُلاّ بمص ما لعمري دهاؤك اليوم مُنج ... لك أن كدت شيخنا أو محصّي قد حباك المزوّقات ولكن ... ليس يعفيك من نكال مغص أنَّ بعض العطاء حلو شهي ... ثم من دونه مرارة عفص يا لها زمرةً قماريّة ما ... عابها جهبذ ولا حبر قص غير كون اجتماعها خارجاً عن ... غرفتي فالحرام فيها بقفْص شكلها شكل بيضة ولهذا ... فالمعاصي من جوفها ذات فَقص من بناها أوصى بهذا وشأني ... كل حين إمضاء عهد الموصي الغرفيات أنا الولي على كل المفاليس ... وغرفتي ذي مزار للمناحيس يأتي بهم زُحَل القوّاد سدّتها ... وثم تصرعهم ريح الكراكيس ومنها لا يدخلنّ مقامي ذو حجى أبدا ... فإنما هو منتاب المآفيك يلفون فيه أكاذيب المديح على ... زمّارة أو على نذل من النُوْك ومنها يا طالعاً درجات قدرها مائة ... إليَّ ماذا ترجيّ بعد ذا الدرج إن كنت من حركات طالباً فرجاً ... فإنني بسكون طالب الفرج ومنها

ما زارني إلاّ خليع ما جن ... فدع الحياء إذا حضرت حصيري أن الحياء أخو النفاقّ وما صفت ... دون المجون سرسرة لعشير ومنها يا زائري رأسك أحفظ ... من ضرب زيد وعمرو فما بكسري هذا ... يصاب جابر كسر ومنها أيها الزائري لفائدة لا ... ترم المستحيل ما ذاك عندي راح علمي في طلب الجدّ ... والجدّ شرود فضاع علمي وجدّي ومنها للناس نار بلا دخان ... ولي دخان بغير نار فها أنا اليوم منه قار ... ضيفي وفيه أبيت قاري ومنها إن للصالحين معجزة أن ... يجملوا أن شاءوا الضرير بصيرا عكسُ ذا اليومَ معجزاتُ دخاني ... أنه يجعل البصيرا ضريرا ومنها تجود عليّ زواري ولكن ... أكافئهم بَواء وهو شأني تُقلّ نعالهم لي تربَ كُحْل ... فأكحلهم بشيء من دخاني ومنها نعم لي غرفة عليا ولكن ... بأسفل سافلين هبوط نجمي فكيف أطيق أصعد مرتقاها ... وأحمل حمل أشجاني وهمي ومنها ومن يكن مثلي رفيع الدرجات ... فهو أولى بمفاعيل السّراة من معاطاة فضول الشعر في ... فاعلات فاعلات فاعلات ومنها كل زوّاري ذكور ... ليس فيهم من إناث أفما في الكون من ... أنثى ولا جنس الخناث ومنها قصرت عن الورى ... وآمنت منهم سَبَّة غدْرا فلا عجب إذا ما قلت ... صارت غرفتي قصرا ومنها إذا زارني مُلوٍ نظيري أمنته ... وإن يك ذو جَدّ حذرت محاله فإني أدري بالمناحيس كلهم ... وما فيهم من أجهل اليوم حاله ومنها من أوى إلى البيت ... مثل بيتي الحرج ضاق صدره سدما ... وأنزوى مع الهمج ومنها ولي داخل البيت جثة قطّ ... وخارجه صيت فيل عظيم وقد كنت أحسب أن بالعظام ... تكون العظام وأهل العلوم ومنها تعالوا وأفقهوا عني ثلاثاً ... تعلمكم مراعاة النظير خلاقي ثم جسمي ثم بيتي ... صغير في صغير في صغير ومنها أمسى بيتي قبراً حرجاً ... لكن زواري أحياء مع أني لست أرى فيهم ... حيّاً لي منه إحياء ومنها إذا عصفت ريح ونارت زوابع ... وهدّت رعود والغيوم مواطر ومادت زوايا غرفتي وتزلزلت ... علمت بأن عندي يشرّف زائر ومنها ارفعوا لي حاجاتكم فأنا اليومَ ... رفيع المقام والدرجات أن يكن مُفْلسون فليستعيروا ... مُدْيتي لإنتحارهم أو دَواتي ومنها يقولون إني لضنك وجاريَ ... قدرك شعري وصار ركيّا وأجدر بشيء إذا ما تبعَّث ... من ضيق أن يكون قويا ومنها مقامي بذي الغرفة ... لحرمان ذي الحرفة فمن زارني فيها ... فلا يُرجون ترفه ومنها أصبحت في غرفتي رهن الهموم فما ... يعتادني غير أشجاني وأوطاري أرى لكل امرئ أنثى تؤانسه ... وليس عندي من أنثى سوى النار ومنها ألا لا يطمعن أحد ... لكوني صاحب الغرقة بإنَّ لديَّ مأدبة ... له من فيضها غرفة ومنها حقّ المزُور على الزوار أنهم ... يؤمنون له في الصدق والكذب وما عليه لهم حقّ ولو جلبوا ... إليه من سبأ وسقا من الذهب ومنها ولي حرفتان فلا أحذر ... البطالة عندي أن ترسخا أصوغ القوافي في ليلتي ... وفي الصبح أستقبل المطبخا ومنها طبخ المحاشي رائج في عصرنا ... لكنما طبخ القوافي كاسد من أجل ذلك صرت طباخاً فما ... أنا شاعر فالشعر شيء فاسد ومنها حوت غرفتي كتبي ورزقي كله ... فبرنطتي فيها عزاء وسلوان إذا غبت عنها خلتني أفقر الورى ... وأن جئتها أوهمت أني سلطان ومنها يفوح من حجرتي عرف الشواء على ... عرف القريض ومعه عرف ميَّان فمن يكن جائعاً ينعشه أوّلها ... ومن يكن كاذباً ينعش من الثاني ومنها أرى في الحلم أني ساقط من ... مهدَّم طاقتي في مثل غار فأصبح في الفراش ولا قوى لي ... فلست إلى المعبّر ذا اضطرار ومنها

بيني وبين دخاني أُلفة ثبتت ... أن نمت نام وإلا فهو لم ينم وأن يزرني أمرؤ غطّى على بصري ... إذ عنده رؤية الزوَّار كالسقم ومنها لي غرفة ملأى من الكذب الذي ... أنفقته في مدح كل بخيل لم يبق فيها من محلَّ فارغ ... للزائريّ ولا مقيل خليل ومنها قالوا نزورك حيث كنت خليلنا ... فأجبتهم لا ريب فيه زور قد محّص العرفان عن أخلاقكم ... وخلاقكم فلكم بذا التعزير ومنها أقول لزائريّ قفوا قليلاً ... إلى أن ألبس الثوب القشيبا فإني في الخليع أرى خليعاً ... وفي لبس القشيب أرى أديبا ومنها لبابي صريف حين يفتح هائل ... يقول لزوّاري دعوني مغلقا فهذه عَدْوى كفكم فيَّ قد سرت ... ولم يُعْدِكم داب افتتاحي مطلقا ومنها كانت مقاماً للكواعب غرفتي ... والآن صارت معدن التشبيب ما زال فيها من عبير العشق ما ... هاج المحبّ إلى عناق حبيب ومنها يراني الناس في كِرج حقير ... فيحتقرون منزلتي احتقارا فهل يا قوم عندكم المعالي ... علوّ مباءة تحوي حمارا ومنها من زارني ورأى مكاني ضيقاً ... فلبِرّه صدري يكون رحيبا أهلاً به للنار والأصلاء مع ... كِسف الدخان ونعم ذاك نصيبا ومنها طوّقت بابي بأبيات منمّقة ... لمّا بدأ عُطُلا من خير زوّاري فصار كنز علوم غير ذي رصد ... تنقير أظفاره في نقر أظفار ومنها ألا يا داخلين أليّ مهلاً ... لأسألكم سؤالاً عن مزاري أأعجبكم له شكل فجئتم ... لتبنوا مثله دار القِمار ومنها نعم المهندس من بنى ... كوخي بأشكال وهندس هو كالمثلث والمربَّع ... والمخمس والمسدس ومنها من جاءني تَعِباً وأبصر سدّتي ... نسي الذي قاساه من أتعابه فالناس تعرف من تزور إذا هم ... نظروا ولو لمحا إلى أعتابه ومنها لا يطلعنّ إليَّ اليوم مشئوم ... فطالعي بضروب الشؤم موسوم ومن يكن واحداً مثلي فليس له ... لطالعين احتياج قاله البوم ومنها يحسدني الناس على غرفتي ... لشبهها أعينهم ضيقا مع إنها تحوي جهازا له ... طول وعرض بلغا الشيقا ومنها قرَوْتُ المصر بيتاً ثم بيتا ... فلم أرَ مثل مجلسي الشريف يرد الشمس إنْ تدخُله كبراً ... لرؤيته لها فوق الكنيف ومنها ولي في غرفتي أدوات طبخ ... على مقدار أسناني جميعا وإن يُكَسر من الأدوات شيء ... أصاب الكسر أسناني سريعا ومنها ليس بالرفس فتح بابي ولا ... بالقرع فأعلم لكن بنفر خفيف فهو من جوهر الزجاج لطيف ... لا يسنّى إلا لكل لطيف ومنها مقامي أولّ في القدر لكن ... أتى في الصيف عن خطأ أخيرا فلا تلووا على شيء سواه ... إذا جئتم إليه ولو كبيرا ومنها إذا صعّدت في درجات كوخي ... وجاوزت الأخيرة وهي أعسر يخيّل لي بأني طالع كي ... أؤذّن صارخاً الله أكبر ومنها لا يراني الناس في غرفتي ... لا أرى من غرفتي الناسا ربّنا يعلم من لذَّ من ... بيننا البَيْنَ ومَن قاسى ومنها سمّوا على منزلي قبل الدخول ولا ... تستعجلوا بعد فتح الباب واحتشموا فإنه حَرَم ذو حُرمة ولئن ... لم يُلفَ لي حرمة فيه ولا حُرَم ومنها أن قلت سمّوا على مقامي ... فلست أعني سمّا يميته وإنما القصد أن تقولوا ... تبارك الله عز صيته ومنها لا تنظرنّ ملاوصا يا زائري ... من ثَقْب مفتاحي إلى إعراضي كالعرض لي عَرضي ومن ينظر ... إلى الإعراض لم يأمن من الإعراض ومنها بشرى لمن ينظر المفتاح في بابي ... دليل أني موجود بأثوابي أو لا فإني في فرشي أغطّط أو ... إني خرجت وأمن الله أشعى بي ومنها أنا ساكن في غرفتي متحرك ... لزلازل العجلات تجري تحتها لكن بحمد الله ليس بواطئ ... من فوق رأسي مَن يحاول نحتها ومنها

الفراقيات

إلى الله أشكو ما أرى تحت طاقتي ... أموراً غداً تكليفها فوق طاقتي أرى كل يوم ألف ماش مخاصراً ... لأنثى على أني مخاصر فاقتي ومنها لي غرفة ما شأنها شيء سوى ... أن ليس تجري تحتها الأنهار وغنيت عن هذا بما يجري ... من العجلات تحسد من بها الأقمار ومنها عجبت لكم يا قوم مع ضعف دينكم ... وشدة برد كيف لم تعبدوا النارا كأني بكم تلهون عنها بحرّ من ... تذيقكم في حبها النار والعارا ومنها شرط الزيارة من بعد الطعام على ... حكم المزور وأن لا تمنع الشغلا ومن يزرني صباحاً فهو في خطر ... أن لا أقول له أهلاً ولا سَهْلا ومنها رأوا دخان قميني صاعداً فجرى ... بالماء قوم ليطفوا سورة اللهب فقال بعض أقينُ أنت قلت نعم ... أقين شعراً وعندي معمل الكذب الفراقيات خليلي لا تستنكر عائل الوجد ... إذا كنتما ممن درى لائع البعد ولا تعذلاني في الغرام فأنني ... على خير ما أهوى غريم له وحدي ومن ذا الذي يرضى البلاء لنفسه ... وتزكو له حال مع الحزن والسهد وهل ينعمن عيشاً مُكابد وحشةٍ ... مشتت شمل ضائع والقصد نأى سكني عني وعوّضت عنهم ... يحيرة مقت ليس قربهم يجدي كأنَّ زماني شاء في كل حالة ... يراني فرداً يا لشأني من فرد فماضي نعيمي لم يكن من مضارع ... له حيث هم في الحسن جلوا عن الندّ فماذا دهاني بعد حظٍّ غنمته ... وقد كنت فيعيش بقربهم رغد وماذا على الأيام لو كان طُولها ... له لا سواد من مطالعها يُعدي أفي الناس مثلي في مقام فؤادُهُ ... وفي غيره جُثمانه واحدَ الفقد وغيري أراهُ فاقد الوجد وهو في ... نعيمٍ له جَدّ مُعين بلا جِدّ وهل في سبيل الله راحم لوعة ... تعاودني لا بل غرتني كالجِلد وهل مبلغ عني النسيم تحية ... إليهم وما بي من غرام لهم يبدي أهيم بما كانت تراه أحبّتي ... وأن يك من بعض الجماد أو الضد وألهج بالقول الذي لهجوا به ... فتذكاره ذكرى وإيراده ورِدْي يحق لي التشبيب ما دمت شاعراً ... بهم لا بهند أو بميّة أو دعد ولو لم يكن لي مطمع في لقائهم ... لآثرت توسيدي مذ اليوم في لحدي ولكنني أرجو زماناً يسرّني ... بهم عن قريب وهو أشهى المنى عندي يقولون لي صبراً وكيف تصبري ... ولست إلى نور التبصّر أستهدي لعمرك سلطان الهوى قاهرُ فما ... نجا من مغاويه الرشيد ولا المهدي ألا ليت دمعي حيث هم واقفون قد ... جرى ولدي أقدامهم قام كالحد فيمنعهم عن أن يسيروا ويبعدوا ... فحسبي من سير وحسبي من بُعد أأحبابنا هل ودّكم بعدُ سالمُ ... وهل أنتم باقون مثلي على العهد أرى بكم الدنيا وليست أراكمُ ... بها أن شأني اليومّ حَيْرة ذي الرشد أتى العيد بالأفراح للناس كلهم ... وما اعتادني فيه سوى الهمّ والنكْد وما لي لا أشكو وقد طال بُعدكم ... وما بيننا ما ليس يُبلَغ بالوخد وماذا الذي أرجوه بعد فراقكم ... وعندي استوى شأنا الترفه والجَهْد فيا حبذا عيد انبعاثي إليكم ... كما يُبعث الطيرُ الغليل إلى الورْد ولو زارني قبل اللقاء خيالكم ... وعانقته ليلاً فلذلك من جدّي إذا نظرت عيني البريد فأنّ لي ... لقَلباً من الأيْجاس يخفق كالبند فإن كان لي منكم كتابُ لثمته ... وأقررته من بعد ذاك على كبدي فما كان من آثاركم فهو مؤثّر ... على العين والعِينين والعَين والنقد فليس سواه اليوم عندي تعلّة ... وما غيره أُلفى لحرّي من برد وإن لم يكن تجرِ الدموع لما جوى ... وأرتدّ عنه كالعديم عن الرفد وقال أو ما كفاني اليوم طول تناء ... عمن أحب ولات حين لقاء يا راحلين وفي الفؤاد مقامهم ... كم ذا أقول سكنتم أحشائي ولكم أعاتب سوء حظي فيكم ... لكن دهري لا يجيب ندائي سافرتم للبرء مما نالكم ... فمتى يكون بقربكم إبرائي

وقال في المعنى

يتيح لي الزمان لقاءكم ... ويكف كف البين عن إيذائي شرقتم فأنا بغُصَّة غربتي ... في الغرب ذو شرق وذو أشجاء يا من يرق لذي جراحٍ مدنفٍ ... أنا ذو الجراح ملازم الأدواء فصفن لي ما أنت واصفه لمن ... أشفى وكن فطناً إلى الأشقاء لا يغررنَّك ما ترى من بزَّتي ... تحت القشيب طهامل الأعضاء أنا والذي يحيي ويفنى لست في ... الهلكي أعدّ ولا مع الأحياء أنا أن سلت عني الأحبة لم أكن ... أسلوهم في البؤس والضراء إني على ما بي أرقّ لعاشق ... مثلي وأن هو كان من أعدائي ما البعد يخمد نار شوقي إنما ... بُعد الغزالة علة الإحماء ما أن يحل حشاشتي من بعدهم ... حب وليس يحلّ نسخ وفائي حال الورى طُرّأ تحول وحالتي ... هي ما ترى في غدوتي ومسائي الدمع موقوف على جريانه ... والعين مُعفاة من الإغفاء وأرى الذي مثلي بكى من فرقة ... مع من مناه بعده ببكاء عجباً لدهري لم يزل بي مُبْصراً ... وضناي وأراني عن الرقباء عجباً لدمعي مدنفي استحمامه ... والناس يشفيهم حميم الماء عجباً لعمري كيف طال من النوى ... والأرض ضاقت عن مدار رجائي عجباً لليل الناس يسرع صبحه ... وصباح ليلي دائم الإبطاء تبنى الرجاء خواطري فيه على ... اسّ المحال فبئس آسّ بناء ويخيّل الشوق المقيم بأضلعي ... لي أنني مغف وهم ضجعائي حتى إذا أصبحت بأنت إنها ... لي لم تكن إلاّ حبال هباء يا أهل ودي ليس من داء لكم ... عدوى فعودوا وائمنوا من دائي سقمي من الطرف السقيم ومنحلي ... الخصر النحيل عداكم أعدائي ما أن أكلفكم سوى ذكر أسم من ... أهوى فحسبي ذاك عن أسماء لو كان يجدي الفال كنت اليوم من ... أحظى الأنام وأسعد السعداء إذ كل غاد باسمهم متفوّه ... أم ذاك وسواس الهوى الغواء أم بعض ماذا الوجد يوجد أنه ... يُلهي بمعدوم من الأشياء يا ليت قلب الناس لي أو جدَّهم ... إن عزّ طعن فالتزم عزاء أوليت أحبائي بما بي قد دروا ... فيسارعوا شفقا إلى أنجائي حاشاهم إن يهجروا كلفاً بهم ... يكفيه. ما يلقي من الإقصاء ومع النوى يرى النوى سهلاً كما ... أن الدنوّ مع الجفوّ تناء لهفي على زمن تولى وانقضى ... معه السرور لديهم وهنائي فلأي بث بعدها ورزيئة ... أبقتني الأيام شرّ بقاء كيف التصبر للفراق وما ترى ... عيني شبيههم من الأرناء إن أشك لم أجد امرأ لي مشاكياً ... وشماتة المشكين شرّ بلاء وإذا سكت توهم السلوان بي الرّأي ... وذلك دون فعل الرائي يا ليت شعري ما أمال أحبتي ... عني من التحذير والإغراء بخلوا عليَّ بنفحة من فيهم ... تأتي الصبا نحوي بها لشفائي أن أستمر حديد قلبهم على ... نار الهوى بي لم يلن لدعائي لعلهم وجدوا علي ملامة ... فأرتهم الحسنى من الأسواء هبني أسأت فها أنا مستغفر ... والعفو مأمول من الكرماء بُرْئي عليهم هين وهو الرضى ... سيّان فيه من دنا والنائي إن لم يصرح فيه قول فلينب ... إضمار ذكر عنه فهو كفائي أني بحسن القصد منكم قانع ... ولئن يكن قد فاتني إرضائي وقال في المعنى أتاني كتاب من خليل منمق ... على كل حرف منه حسن ورونق تنشَّيْتُ وجدا إذ تنشَّيت عرفه ... ولم لا ومنه عاطر الورد يعبق فيا حبذا ذاك العبير وحبذا ... نسيم به نحوي التباشيري يسبق إلى الله أشكو ما لقيت من النوى ... وحرّ جوى كادت به النفس تزهق أقمت وأحبابي ابروا وأبحروا ... على غير ما أهوى وشملي مفرّق فما زلت مذ بانوا حليف صبابة ... إذ حان سبح كدت بالدمع أغرق ففي قلبي المأسور أدّخر الهوى ... ومن طرفي المسجور دمعي أنفق كئيب نحيل وأجد متشوف ... غريب عليل فاقد متشوق ولست بذي صبر فيؤمل أجره ... ولست بذي سلوى إليه موفق

وقال

وليس بمأمون زماني على اللقا ... وهل يؤخذن يوماً على الدهر موثق أحن إلى لقياهم متلهفاً ... إذا ما سميري النجم لاح واقلق وإن ذرّ قرن الشمس أوهمت إنها ... تبلغني عنهم سلاماً وتنطق فأني أرى فيها علامات حسنهم ... وفي كل حسن ذكر ما القلب يعشق أعلل قلباً بالأماني هائماً ... ولم يبق فيه للتمني مصدق يطير اشتياقاً بي إليهم وإنني ... أسير هوى فيهم ببيني موثق ويخفق من ذكر أسمهم فكأنما ... يخيل لي أن مضجعي منه يخفق وأسكب دمعاً كان يجري بقربهم ... فكيف وباب الوصل دوني مغلق متى يجمع الله المحبين ساعة ... وحجب النوى بعد الوصال تمزق ورب بعاد كان منه دوام ما ... يؤمل من قرب الأحبّة شيّق فلله أسرار يعزّ بيانها ... وللدهر أطوار تسوء وتونق وقال أمودّعي والدمع كاد يحولُ ... ما بيننا ولظى الغرام تهول كيف التصبّر بعد بعدك موحشا ... وبقيت لا أرب ولا مأمول قد كان يشجيني غيابك ساعةً ... وأخال أن قد عزّ منك قفول والآن غبت على حسابي صبابتي ... دهراً فليل المبتلين طويل إن تنسَني أذكرْك أو إن تشجني ... أشكرك لست الدَّهر عنك أحول يا ليت طيفك في الكرى يعتادني ... أو كان يغفى الطرف حين أليل فلزوره منه أحبُّ إليّ من ... لذّات وصلٍ من سواك يطول أذهلت في حُبّيك عن ألم النوى ... ولقد يريح العاشقين ذهول إنسانُ عيني أنت جَيرٍ ومهجة ... للقلب ما لهما لديّ بديل لو في رضاك بذلتُ كل جوارحي ... كنتُ الضنينَ وما بذلتُ قليل ألقاك في كل الجمال مصوَّراً ... فيطول فيه مني التأميل وإذا سمعتُ بمفرد في حسنه ... أيقنت في هذا لك التأويل وأبيت أسال عنك سيّار الدجى ... لو كان ينفع سائلاً مسئول يا فاتني بدلاله لم يبق لي ... في العيش بعدك بَتَّةً تعليل ما كان غيرك مالئاً طرفي ولا ... أعتقد الضمير بأن سواك جميل وإذا الورى شغلتهم دنياهم ... فأنا الذي بك دائماً مشغول فيك الدليل على توحدّ مبدعٍ ... إن عزَّ عند الفلسفيّ دليل أرسلتُ دمعي مع كتابي عالماً ... إن لا ينوب عن الحبيب رسول يا عاذلين على الهوى لا تعذلوا ... فبلائي هذا أصله التعجيل سبق الفؤادُ الطرف مني في الهوى ... فهويت فيه فعاذلي معذول أسفاً على وقت الوصال فيا تُرى ... للبين يغدو مثله تأجيل لولا ادّكار نعيمه لقضيت من ... مجد فكم بالوجد طُلَّ قتيل ساعُ التعانق ليس يُنسي ذكرها ... وخطورَها بالبال قطّ حؤول ولربَّ يوم مسرَّة يغنيك عن ... عمر بأكدار البعاد يطول فَلا فطمنّ النفس عن لذَّاتها ... وليشجني بعد الغناء عويل يا منكراً لحقيقة الغول اعتقدْ ... إنَّ النوى هي في الحقيقة غول من لم يذُقْ ألم الفراق فما له ... يوماً إلى عتب الزمان سبيل فلكل رزءٍ غيره سلوى لذي ... رشد وطبُّ بالعزاء كفيل يا لوعة الشوق أسكني في مهجتي ... ما فاتني مَّمن أحبّ وصول خفقَان قلبي من سكونك دائم ... ولعلّ عن كثبٍ بلاي يزول هذا ما انتهى إلينا من أخبار الفارياق. مما أقضي الآن إيداعه بطون الأوراق. فمن شاء أن يدعو له أو عليه فجزاؤه يوم تلتفت الساق بالساق. ويقال إلى ربك يومئذ المساق. فأمّا من دعا له يعود زواجه هذه المرّة وفي الحياة أرماق. فإني أضمن له إن يدعوه إلى مأدبة حولها وفيها كل ما شاق وراق. مما ذكر في هذا الكتاب بالانتساق على سرر وأطباق. ذنب للكتاب ينتظم به لآلئ أغلاط الرؤوس العظام الأساتيذ الكرام مدرّسي اللغات العربية في مدارس باريس

قال الكسندر شدءزكو "Alexandre Chodzko" في فاتحة كتاب ألّفه في نحو اللغة الفارسية سنة 1852 ما ترجمته "حصلت بلاد أروبا منذ زمن طويل على كل ما يلزم لعلم اللغات الشرقية إذ فيها خزائن كتب ومدارس وعلماء جديرون بإدارتها حتى أنه باعتبار فن أدب لغات آسية وما يلحق بها من الفلسفة والتاريخ أصبح أستاذ الفرس ومعلم العرب وبراهميّ الهند وبهم افتقار إلى أن يتعلموا من أساتيذنا كثيراً" "انتهى". وأنا أقول أن هذه الدعوى كذب ومن إفك وافتراء وترّهة وتزوير وبهتان وأبعاط وشحط وشطط وفرَظ وهِتر وعضيهة واختلاق وتزهق وتصلّف وتزبّب. وأن قائلها ينبغي أن يدمج مع من جهلوا أنفسهم في حد نبدي لأنه جهل نفسه بل حمل غيره أيضاً على الجهل بنفسه. أما أولاً فلأنه أي قائل هذه المقالة لا يعرف اللغات الشرقية ولا يعرف مقدار ما نتف منها هؤلاء الأساتيذ حتى يشهد لهم بالفضل والبراعة. وأنه في نقله للرسائل الفارسية التي أثبتها في كتابه أرتكب أغلاطاً كثيرة فاضحة سواء في النقل والترجمة. فمن ذلك قوله في صفحة 198 قانع صفصف وهي في الأصل قاع صفصف اقتباساً من قوله تعالى (ويَسألونَكَ عن الجبالِ قلْ يَنسِفها رَبيّ نسفاً فيذَرُها قاعاً صفْصَفاً) . فلما جهل المعنى بدّل قاع بقانع وترجمه باللغة الفرنساوية بقوله ويُقنع نفسه برمل البرّية. فكيف أستحلّ هذا العالم أن يملأ الكلام بالرمل واستكبر أن يسأل أحداً من أهل العلم عن المعنى. لكنها عادة له ولأسلافه ولأساتيذه في إنهم حين يشتبه عليهم المعنى يعمدون إلى الترقيع والترميق والتلفيق. والثاني إن هؤلاء الأساتيذ لم يأخذوا العلم عن شيوخه أي عن الشيوخ محمد والملاّ حسن والأستاذ سعدي وإنما تطفلوا عليه تطفلاً وتوثبوا توثباً. ومن تخرّج فيه بشيء فإنما تخرج على القس حنا والراهب توما والخوري متي. ثم أدخل رأسه في أضغاث أحلام أو أدخل أضغاث أحلام في رأسه وتوهم إنه يعرف شيئاً وهو يجهله. وكل منهم إذا درّس في إحدى لغات الشرق أو ترجم شيئاً منها تراه يخبط فيها خبط عشواء فما أشتبه عليه منها رقّعه من عنده بما شاء. وما كان بين الشبهة واليقين حدَّس فيه وخمّن فرجَّح منه المرجوح وفضل المفضول. وذلك لأنه لم يوجد عندهم من تصدّى لتخطئهم وتسوئتهم. وقد قال أبو الطيب: وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الحرب وحده والنزالا ولأنهم إنما اعتمدوا على اتصافهم بنعت مدرسين فاجتزأوا بالاسم عن الفعل وعن حقيقة ما يراد من التدريس. فإن المتصدي لهذه الرتبة الجليلة ينبغي أن يكون صادق النقل متثّبتاً في الرواية. متخرجاً من التهافت على ترجيح ما استحسنه هو دون مراد المؤلف. متروَّياً في سياق الحديث وسباقه وقرائنه وعلائقه. مضطلعاً باللغة والنحو والصرف والأدب. فأين هذه الصفات كلها من هؤلاء الأساتيذ كلام ذي جد فقد وجب عليك بعد قراءة جدول أغلاطهم الفاضحة أن ترجع عما تبهلقت فيه وتزببت من دون علم. وإن تكذّب نفسك في طالعة كتاب آخر تؤلفه في نحو اللغة العربية إن شاء الله. وإلا فإن أثم أفجاسك هذا في عنقك. فأما إن كان مزاحاً وأردت به السخرية من هؤلاء الأساتيذ المشاهير والأساطين المذاكير فهم أولى بأن يجيبوك. غير أني أراهم قد سكتوا عنك. فكأن دغدغة هرفك هذا لهم قد أعجبتهم. فما مثلك إلا مثَل ذلك الأبله الذي عشق امرأة ولم يقدر وصالها حتى أدفعه عشقها وهيَّمه فلم يستطع بعده حراكاّ. فعاده رجل داهٍ مثلك وأخذ يهنئه على قضاء وطره منها. فقال له الأبله كيف وأنا مغرم بها وكلما زدت شوقاً إليها ووجدا زادت أعراضاً عني وصدّا؟ قال قد رأيتك بعيني تعانقها بالأمس ثم خرجت من دارها وأنت مبتهج متهلل. ورآك غيري أيضاً وهم كثيرون. فإن أنكرت فها هم كلهم يشهدون لي، وما زال به حتى أقنعه وحمله على أن يسلوها. فأفاق من مرضه. إلا أن بينك وبين هذا الداهي فرقاص عظيماً وذلك أنه إنما استعمل دهاءه للإصلاح. وأنت إنما استعمله للإفساد. لأن كتابك هذا ربما يقع في يد بعض أرباب السياسة الذين يجهلون الفارسية والعربية. ولغفلته يظن أن مشايخ مصر وأساتيذ الفرس محتاجون الآن إلى أخذ العلم عن أصحابك. ومتى تهوّر أحد هؤلاء الوجوه في ضلال تهوَّرت معه الرعية بأسرها.

فأما قولك إن في البلاد الإفرنجية خزائن كتب كثيرة. كأنك تقول أنه يوجد فيها من الكتب ما لا يوجد في بلادنا لأن نوّاب الدول لا يزالون يشترون من بلادنا أنفس الكتب. فهو ليس بدليل على وجود العلم عند وجود الكتب فأين حمل الأسفار هداك الله من العلم. لأن العلم في الصدور لا في السطور ولكن أفدني ما بال هؤلاء الأساتيذ لم يؤلفوا في اللغات الشرقية شيئاً قط. فغاية ما صنعوا إنما هو أحدهم ترجم من لغتنا لغة الأطيار والأزهار فخمن فيها وحدس ما شاء. وآخر ترجم محاورة يهودي وأحمق من التجار. وآخر مسخ أمثال لقمن الحكيم إلى الكلام الركيك المتعارف في الجزائر. وآخر تعنّى لطبع أقوال سخيفة من رعاع العامة في مصر والشام. وترك ما فيها من اللحن والفساد كما هو استذراعاً بقولة كذا رأيتها في الأصل. فيظن بذلك إنه تنصل من تبعة اللوم والتنفيذ. فما سبب هذا التهافت على ترجمة مثل هذه الكتب وطبع مثل هذه الأقوال من لغتنا إلى اللغة الفرنساوية سوى توحُّم ملفقيها على الانخراط فيسلك المؤلفين. ولمَ لم يتعن أحد منهم لترجمة شيء من الكتب الفرنساوية إلى العربية ليظهر براعته في هذه حالة كونه شيخ طلبتها وإمام آمّيها. على أن في اللغة الفرنساوية كتباً جليلة القدر في كل فن. وأعجب من ذلك إنه لم يخطر ببال أحد منهم قطّ أن يترجم نحو لغتهم إلى لغتنا. فهل من سبب آخر غير التحذّر من أن يعرّضوا أنفسهم للتحقيق والتنفيد والتحمير. فإن عبارة النحاة والمعرّبين لا بدّ من أن تكون محرّرة صحيحة ولا عذر لهم معها أن يقولوا كذا وجدناه في الأصل. ويا ليت شعري ما الفائدة في كون أحد هؤلاء الأساتيذ يؤلف كلاماً معلسطاً فاسداً في لغة أهل حلب ويسميه نحواً. ثم يذكر فيه انجق بيكفي وايشلون كيفك خيّو وهلكتاب وقوي طيب. وفي كون آخر يكتب بلسان أهل الجزائر كان في واحد الدار طوبات بالزاف الطوبات كشافوا وكيناكل وراهي وانتينا وانتيَّا ونقجم وخّمم باش وواسيت شغل المهابل ويوالم أي يلائم وماجي أي جاء وكلي أي كأنه وحرامي أي بستاني والستاش أي السادس والدجاجة ترجع تولّد زوج عظمات وما أشبه ذلك من المشّو. فما بالكم يا أساتيذ لا تؤلفون كتباً بكلامكم الفاسد الذي تسمونه بنّوى. وهل تشيرون على عربيّ أقام بمرسيلية مثلاً أن يتعلم كلام أهلها أو كلام أهل باريس. ولو كان فعلكم هذا فعل رشيد لوجب أن تقيدوا جميع الاختلافات والفروق الموجودة عند المتكلمين بالعربية. فإن أهل الشام يستعلمون ألفاظاً لا يستعملها أهل مصر. وقس على ذلك سائر البلاد الإسلامية. بل أن لأهل صقع واحد اصطلاحات شتى. فكلام أهل بيروت مثلاً مخالف لكلام أهل جبل لبنان. وكلام هؤلاء مخالف لكلام أهل دمشق. وذلك يفضي بكم إلى هوس وإلى إفساد هذه اللغة الشريفة التي من بعض خصائصها إنها بقيت ثابتة القواعد قارّة الأساليب على انقراض جميع ما عداها من اللغات القديمة. وإن المؤلفين فيها يومنا هذا لا يقصرون عن أسلافهم الذين انقرضوا مذ ألف ومايتي سنة. فهل حسدتمونا على ذلك وحاولتم أن تحيلوها وتلحقوها بلغتكم التي لا تفهمون ما ألف فيها مذ ثلاثمائة سنة. ويا ليت شعري هل تأذن أرباب السياسة عندكم لرجل أراد أن يفتح مكتباً يعلم فيه الصبيان في أن يتعاطى ذلك من دون أن يُمتحن اوّلاً. فمن الذي امتحنكم أنتم ووجدكم أهلاً لهذه الرتبة التي هي أرفع من رتبة معلم كتَّاب ومن ذا الذي عارض ما ترجمتم ولفّقتم ورمقَّتم بالمترجم منه. وكيف رُخصَّ لكم في أن تطبعوا ذلك من دون الوقوف على صحته. ولعمري أن مدرساً لا يحسن أن يكتب سطراً واحداً صحيحاً باللغة التي يعلّمها لجدير بأن يرجع إلى المكتب من ذي أنف. على أن من هؤلاء الأساتيذ من لا يفهم إذا خوطب فضلاً عن جهل التأليف. ولا يفهم إذا قرأ. ولا يقوّم الألفاظ في القراءة وقد سمعت مرة بعض التلاميذ يقرأ على شيخه في مقامات الحريري ولا يكاد ينطق بحرف واحد نطقاً بيّناً من هذه الحروف التي خلت منها لغتهم. وهي الثاء والحاء والخاء والذال والصاد والضاد والطا والظا والعين والغين والقاف والهاء. وشيخه ساكت لما أنه يعلم أن تصحيحه له لا يكون إلا فاسداً. فكيف يمكن لمن لم يسمع اللغة من أهلها أن يحسن النطق بها. كيف لا وأن من ألف منهم في نحو لغتنا شيئاً فإنما بنى نحوه كله على فساد. فإنهم يترجمون عن الجيم بلساننا

بحرفي الدال والجيم بلسانهم. وقد جهلوا إنه ليس عندنا في العربية حروف مركبة كما في اليونانية. فإن الابتداء بالساكن مرفوض عند العرب إذ لم نقل إنه، ويترجمون عن الثاء بالتاء وعن الذال بالتاء والزاي وكذا عن الظاء. فأما سائر الحروف فالعين والهاء والحاء عندهم همزة والخا كاف والصاد سين والضاد دال والطاء تاء والقاف كاف. وينطقون بالسين إذا تقدمتها حركة كالزاي وعلى ذلك المطران الخطيب اقطعوا الأزباب كما مرّ. فأما الهمزة فإنها وأن وقعت عندهم في أوائل الألفاظ فلا تقع متوسطة ولا متطرفة ولا يمكنهم النطق بها إلا مليَّنة. بل أعظم مؤلفيهم لا يدري أن الألف في أول الكلام لا تكون إلا همزة. وليس الغرض هنا تعليمهم الهمز فإنهم همازون. وإنما الغرض أن أبيّن لهذا الرملي الهارف المتملق مناضلة عن شيوخي الذين أخذت عنهم من العلم ما أخذت إن شيوخه لا يحسبون في عداد العلماء وإنه ليس من علماء مصر وتونس والغرب والشام والحجاز وبغداد من هو محتاج لأخذ حرف واحد عنهم. نعم أنَّ لهم باعاً طويلاً في التاريخ فيعرفون مثلاً أن أبا تمام والبحتري كانا متعاصرين. وأن الثاني أخذ عن الأول. وأن المتنبي كان متأخراً عنهما. وأن الحريري ألَّف خمسين مقامة حذا بها حذو البديع وما أشبه ذلك. إلا أنهم لا يفهمون كتبهم. ولا يدرون جزل الكلام من ركيكة وثبته من مصنوعه. ولا المحسنات اللفظية والمعنوية. ولا الدقائق اللغوية. ولا النكات الأدبية ولا النحوية. ولا الاصطلاحات الشعرية. فغاية ما يقال إنهم نتفوا نتفة من علوم الصرف بواسطة كتب الَّفت بالفرنساوية. فهل يسلّمون لعربي تعلّم لغتهم من كتب لغته بأنه كعلمائهم وإنهم محتاجون إلى التخرج عنه. ثم لا ينكر أيضاً أن مسيو دساسي "De Sacy" حصّل بقوة اجتهاده ما أقدره على فهم كثير من كتبنا بل على الإنشاء في لغتنا أيضاً ولكن ما كلّ بيضاء شحمة. على إنه رحمه الله لا يُنظم في سلك العلماء المحررين. فقد فاته أشياء كثيرة في الأدب واللغة والعروض. وأني طالما والله أثنيت على براعته وأعظمت علمه وفضله. إلا أنه لما صارت مهارته وبراعته هذه سبباً للفساد فإنها هي التي جرّأت غيره على التصدر للتدريس بلغتنا وسوَّلت لهذا المفتري أن يتطاول على أهل العلم، كان من الواجب عليّ رعاية لحق العلم وأهله أن أسطر أسمه من بين أسماء الشيوخ في البلاد الإسلامية كافة. فدعا لمن تترس باسمه واستذرع بعلمه عن الدعوى والانتحال ولولا فحش قول هذا النقّاع المتحذلق وكذب دعواه لما تعرضت لتخطئة أحد منهم. فإني أعلم إنهم لن يرعووا عن غيّهم وما يزيدهم كلامي هذا إلا غروراً. بل الشيوخ الذين قضوا عمرهم في طلب العلم يتوّرعون من أن يقولوا مقالته. لأن الإنسان كلما زاد علمه زادت معرفته بجهله. ولعل كتابي هذا يقع في يد أستاذ فارسي أو هندي فيكون باعثاً لهما على الانتداب لتخطئتهم أيضاً في هاتين اللغتين. لأني أعلم عين اليقين إنهم فيهما أشد جهلاً. لأن الذين سافروا منهم إلى بلاد العرب أكثر من الذين سافروا إلى غيرها. ومع ذلك فلم يتعلموا منها سوى الركاكة والخطل وأعلم أيها القارئ العربي إني لم أجد من بين جميع ما طبعوا بلغتنا جديراً بالانتقاد سوى مقامات الحريري. وإني لضيق وقتي حالة كوني على جناح السفر لم يمكن لي النظر إلا في أبيات الشرح فقط. وقد وكلت غيري في نقد الباقي كما وكلني العلماء في نقد الأبيات ثم عثرت بعد ذلك برحلة العالم الأديب الشيخ محمد بن السيد عمر التونسي مطبوعة على الحجر عن خط مسيو بيرون وقد شحنها كلها بالتحريف والغلط مما لا تصح نسبته إلى أدنى تلامذة الشيخ المذكور. أيمكن لأحد من الطلبة فضلاً عن العالم أن يقول جوده ناسخ لكل الوجود أي لكل الجود. وإن يكتب العصا بالياء غير مرة- وأعلى أفعل التفضيل بالألف نحو عشرين مرة- ونجا باليا- واتعمى العالمون الضياء أي أيعمى العالمون- وآمنين مطمئنين حاله كونهما مرفوين- وفلاحين مصر- ومحموين السيرة- واستوزر الفقيه مالك- ولا يعصا- ولا أرى سوء رأيك أي لا أرى سوء رأيك ويتعدا رأيه - وأنني عشر ملك - ومن حيث أن أبا ديما والتكنياوي متعادلين لم أي متعادلان فلم - وتجد الرجال والنساء حسان - ودعى لنا - وعجوبة - وصواحبتها وصواحباتها - ولغة فيها حماس - وأنهما متقاربتي المعنى - وحتى تأتي أرباب الماشية فيقبضون

تم الذنب

- فهل أحدى منكم - ويرفعون أصواتهم بذلك حتى يدخلون - وماشيين - والمسميين - وحتى يشقون - ومنحنيون - وأنهم يكونوا - ولا اعتاض - أي لأعتاض. أو أنه يجهل بحور الشعر فيجعل الكامل هزجاً والطويل مديداً وما شبه ذلك. ومن العجب أن الشيخ الموما إليه أورد هذين البيتين وهما: أبرك الأيام يوم قيل لي ... هذه طيبة هذه الكُشُبُ هذه روضة طه المصطفى ... هذه الزرقا لديكم فاشربوا قال والياء في هذي بدل عن الهاء فلما قرأهما بعض التلامذة على مسيو كُسان دو برسفال "Caussin De Perceval" أحد المدرسين العظام أصلح قوله طه بوطا وفسرها بوط الرجل. وأبدل الهاء من قوله هذه الزرقا ياء وذلك لقول الشيخ والياء في هذي بدل عن الهاء فانكسر الوزن. وترك لفظة الزرقا غير مصححة فإن مسيو بيرون وضع بعد الألف همزة فانكسر بها الوزن أيضاً. وحق وط أن تكتب بغير ألف. تم الذنب تنبيه من عادة الأساتيذ المزبورين ومن أشبههم ممن ألف في العربية شيئاً أن يعتذروا عن أغلاطهم الفاضحة بالتورك على الطبّاع أو على صفّاف الحروف بأن يقولوا أن وقوع الغلط إنما ينشأ عن جهلهما باللغة كما ذكر لي ذلك الكنت الكس دكرانج "Allix Desgrange" نقلاً عن الأستاذ كسان دبرسفال وهو عذر أقبح من ذنب فإن الصفّاف كيفما وجهته اتجه ومهما ترسم له يمتثله ألا ترى أن المسيو بيرو "M. Perrault rue de Castellane 15 Paris" ومع كونه لم يعرف من اللغة العربية شيئاً فقد امتثل كل ما رسمنا له في كتابنا هذا من التصحيح والتبديل بغاية التأني وبذل مجهوده في صف الحروف وجودة الطبع حتى جاء بحمد الله أحسن ما طبع بلغتنا في البلاد الإفرنجية فلهذا ننوه باسمه عند كل من شاء أن يطبع شيئاً بالعربية ولا شك أنهم يحمدون سعيه ويرضون عن صنعه وإن لم يكن في المطبعة السلطانية وكفى بحسن العمل وصاة.

§1/1