الزواج بنية الطلاق من خلال أدلة الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة الإسلامية

صالح آل منصور

تقريظ لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

تقريظ لفضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تصفحت هذا البحث الذي كتبه الدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور في حكم النكاح بنية الطلاق فوجدته بحثاً قيماً، لم يمر بي مثله في بابه، وقد أجاد فيه وأفاد، فجزاه الله تعالى خيراً، وجعلنا وإياه من الهداة المهتدين، الصالحين المصلحين، إنه جود كريم. كتبه: محمد الصالح العثيمين في 28 من شهر شوال سنة 1413هـ

تقريظ صاحب الفضيلة رئيس المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح بن محمد اللحيدان

تقريظ صاحب الفضيلة رئيس المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح بن محمد اللحيدان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن سار على منهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين. وبعد؛ فقد رغب إلى أخي وزميلي في الدراسة فضيلة الدكتور الشيخ صالح بن عبد العزيز المنصور، الأستاذ المشارك في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في كلية الشريعة في القصيم، مطالعة ما كتبه حول الزواج بنية الطلاق، وتقريظ رسالته في هذا الموضوع، وقد وعدته بإنجاز ما طلب، وتحقيق ما فيه رغب مرة تلو أخرى، ثم يعوقني عن الوفاء بما وعدت به عوائق كثيرة، ويبدو أن فضيلته كان قد علم برأيي في هذه المسألة، فإني قد أفتيت بعدم جواز مثل هذا النكاح منذ فترة ليست بالقصيرة في مجالس عامة، وفي بعض اللقاءات الجامعية، وقد حصل من ذلك شيء في عام 1399هـ، في جامعة البترول وأبديت أن ذلك يصح أن يقال عنه إنه شبيه بالزنى المنظم، ما دامت النية مستقرة على عدم استمرار عقد النكاح، ثم إني أثرت ذلك في بعض اجتماعات هيئة كبار العلماء قبل عام 1400هـ، وقد اطلعت في حينها على الخلاف في المسألة، وذاكرت بعض مشائخنا في هذا الأمر، وكيف نجعل النية مؤثرة في نكاح المحلل الذي قد لا يذكر في عقده شرط طلاق، ولا نية تحليل، ومع ذلك يعد هذا النكاح باطلاً؛ لأن النية أثرة فيه. وأبديت

أن فيه شبهًا من نكاح المتعة الذي ينص فيه على الأجل؛ لأن العبرة في كثير من العقود بالنية، إلى غير ذلك مما كان قد تردد في فكري وتراجعت فيه مع أن أيدني من كبار مشائخنا، وحاولت استصدار ما قد ينفع الله به من فتوى ذات أثر. إلا أن هيبة ما ذكره صاحب المغني موفق الدين بن قدامة رحمه الله ومن وافقه قد تكون حالت دون ذلك، وقد بقيت مستاءًا من انزلاق كثير من الشباب في هذا المنحدر، وأنهي عنه وأفتي بعدم موافقته لمقاصد الشريعة وقواعدها المحكمة، وأصولها المتينة. ولما أبدى لي فضيلة أخي الدكتور صالح بن عبد العزيز المنصور أنه، أعد كتابة في هذا الموضوع ورغب أن أشارك ولو بكلمة عابرة، وافقت ورجوت أن أدرس الرسالة وأتحدث عن الموضوع ورسالة فضيلته، إلا أن ما شرحته آنفًا كان حائلاً بيني وبين إعطاء تصور عن رسالة فضيلته مع تأييد الفكرة، فقلت ما لا يدرك كله لا يترك كله، وقصد أخي أن أقف معه في هذا الميدان، والوقوف معه في مثل ذلك وقوف مع الحق وتأييد للصواب من القول، ومن فعل ذلك محتسبًا الأجر والثواب من الله، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. أقول: لقد جاء الله بالإسلام ليُبقي ما كان سليمًا من علاقات الناس ومنسجمًا مع الفطرة ويستبعد ما يضادها، وكان العرب موضوع ذلك بالدرجة الأولى، ومعلوم أن العرب كانت لهم أنكحة في الجاهلية مختلفة الأشكال والمقاصد فأقر منها ما خلا عن الغدر والخيانة، واشتمل على سلامة النية، وتوفرت فيه مستلزمات العقود الصحيحة، وانتفت عنه موانع الصحة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنكحة بعينها، وعلم من ذلك أن ما شابهها فهو ملحق بها، فقد نهى عن نكاح المحلل، ولعن فاعله وحرم نكاح المتعة، وتوعد عمر رضي الله عنه برجم فاعله، وقد أقر ما ليس شبيهًا بذلك بأن كان نكاح رغبة حاضرة ومستمرة؛ لأن الهدف من

النكاح متعدد الجوانب فهو للذة، والمتعة، والحصول على الرحمة والمودة، وكسب الولد، وتوفير السكن، والخدمة، والأنس، وحفظ المال القائم عليه، إذ أن المرأة الصالحة خير ما يكنزه المرء المسلم؛ لأنها مبعث المودة، والرحمة، وموضع السرور، ومكان الأمن على ماله، وموضع حرثه، وهي القائمة على تربية أفراد الأسرة في مبدأ نموهم وحال طراوة أفكارهم وأجسامهم، ولا يكون ذلك في زواج لا نية في استدامته، ولا أمل في إنجاب من ورائه، فنكاح المتعة معلوم القصد منه، ومثله نكاح المحلل، وقد لا يختلف عنه النكاح الذي ظاهره الاستدامة وباطنه الانقطاع والاكتفاء بنيل اللذة وحدها أو نيلها مع الخدمة والعزم على قطع حبل هذا النكاح وحل عقدته في وقت لاحق مستقر لدى الزوج معلوم لديه، فإذا كان النكاحان حرامين بالنص، فما أجدر أن يلحق بهما هذا النكاح الذي كانت النية فيه من جانب الزوج منعقدة على قطعه عن الاستمرار. والشريعة الكاملة في أحكامها ذات الأسس القويمة والقواعد المتينة، لا يتوقع أن يكون في تشريعها تناقض أو تنافر أو أن تشتمل على نوع من الغدر أو الغرر؛ بل إن سبيل تشريعها الوضوح والبيان ونفي الغدر والغش والخيانة، ومعلوم أن امرأة يعقد عليها وتحسب أنها مقصودة لتكون أمًا، وربة بيت. وواقع الحال في قرارة نفس الزوج أنه يريدها لقضاء وطر حاضر وحاجة عاجلة، مع عزيمة جازمة على الفراق في أجل يعلمه ولا ينوي تجاوزه إنما هو خديعة وغش، فإن اتفقا على الفراق كانت المتعة المحرمة بالنص الصريح. وإذا كان المحلل آثمًا وعمله محرمًا ولو لم يعلم بنيته أحد، ولو كان يقصد جمع شمل أسرة فرقها الطلاق، وأربكها حمق الزوج أو الزوجين، فإن من يريد متعة النفس ونيل الشهوة جدير بأن يكون حكمه

كذلك، ولا شك من وجود الخلاف لكن الخلاف إذا لم يُسند أحد جوانبه نصٌ أو مفهوم نص كان الناظر فيه غير ملزم بأخذ طرف، إلا ما اندرج منه تحت قواعد الشريعة وأصولها. وإذا وجد لبعض فحول العلماء قولان في مثل هذه المسألة، فالمتعين الأخذ بما وافق الدليل وتمشى مع قواعد الشريعة واندرج في سبيلها القويم، وكون شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له رأيان في المسألة وغيره يؤيد صحة هذا النكاح وآخر يبطله، يحملنا على أن نقول: الجدير بشيخ الإسلام أن يكون رأيه الخاص بإباحة هذا النكاح، كان في أول أمره تبعًا للموقف، ومن كان على هذا القول ثم استبان له الرأي، بعد اتساع دائرة علمه وإحاطته بالسنة ومقاصد الشريعة وتعمقه في الغوص على مدلولات النصوص وحكمة التشريع، فصار إلى خلاف الرأي الأول، ولا شك أن كل إنسان يؤخذ من قوله ما وافق الدليل، ويستغنى عن ما خالف الدليل بالدليل نفسه أو ما فهم منه، وإحسان الظن، بالعلماء أمر لازم، وشيخ الإسلام ومن سبقه ومن لحقه أولى الناس بإحسان الظن، لكن الواجب الأخذ بما اتفق مع حكمة التشريع، وانسجم مع أدلة الكتاب والسنّة، والحق إنما هو الموافق للدليل، ولا يشترط له أن يقول به الأكثر، إنما الممنوع أن يخالف الأخذ به إجماعًا متيقنًا، وهذه المسألة التي كتب فيها فضيلة الدكتور صالح ليس فيها إجماع؛ بل لو قيل إن الأكثر على كراهة هذا النكاح لكان ذلك صوابًا، والكراهية في عرف السلف قد تكون قرينة التحريم، وهي اللائقة في هذا البحث. إن حماية الأمة من الوقوع في الحرام أو الاحتيال عليه ولو لم يقصد الاحتيال أمر متعين، ومن عرف ما وقع الناس فيه ويقعون يجزم بأن الحق إن شاء الله مع من منع من هذا النكاح، الذي لم تصحبه نية كريمة، ولا قصد نزيه، وربما جر إلى فساد عريض وإضاعة ذرية كثيرة بسبب الانسياق في هذا المنحدر المظلم.

إنني آسف إذ لم أقم بدراسة رسالة أخي دراسة تليق بها، وبالموضوع الذي كتبت من أجله غير أني أقول: إن أخي الدكتور صالح بعلمه وطول تمرسه في التعليم ولا سيما في العلم الذي هو محيط هذه الرسالة، وهو الفقه؛ يجعل دراسة رسالته من باب فضول القول، ولعله يرضى عني بعرضي المرفق بهذه الكتابة المتسرعة وأسأل الله أن ينفع بعلم فضيلته ويبارك بجهودنا جميعًا، وأن يهيء أسباب إغلاق أبواب الشر ومسالك التجاوز على حدود الشريعة، وأن يصلح شباب الأمة الإسلامية وكهولها ويمنحهم العفة والسلامة من الوقوع فيما حرّمه على عباده، وأن يهيئ كل قائم على ثغر من ثغور العلم والمعرفة إلى الصواب من القول إنه مجيب الدعاء - وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال ذلك الفقير إلى الله: صالح بن محمد اللحيدان. القصيم - البكيرية ليلة الجمعة 27/ 10/1414هـ

تقريظ لفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان

تقريظ لفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ... وبعد: فقط اطلعت على الرسالة التي ألفها الأخ الشيخ صالح بن عبد العزيز آل منصور، بعنوان (الزواج بنية الطلاق)، والتي اتجه فيها إلى تحريم هذا العقد وبطلانه؛ لما يفضي إليه من مفاسد، ذكر كثيرًا منها، وأجاب عن أدلة المصححين لهذا العقد، ووجدته قد أجاد وأفاد في هذه المسألة التي صارت مثار حديث الناس وتساؤلاتهم.

أرجو الله تعالى أن ينفع بها المسلمين، وأن يكتب له الأجر والثواب على ما قام به من مجهود بدافع النصيحة للمسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. كتبه صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له القائل: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، القائل: «تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم» (¬1). والقائل: «استوصوا بالنساء» (¬2)، والقائل: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (¬3)، صلى الله عليه، وعلى آله وصحابته ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين. ¬

(¬1) رواه بهذا اللفظ أبو داود رقم (5342) 3/ 271، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه رقم (2685) 2/ 176، وصححه ابن حبان رقم (4056) 9/ 363، عن معقل بن يسار، ورواه ابن حبان في صحيحه (4082) 9/ 338، والبيهقي (3254) 7/ 81، وأحمد رقم (12634) 3/ 158 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة» ولم أجد بلفظ: «مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» إلا عند البيهقي من حديث أبي أمامة رقم (13235) 7/ 78 وفي سنده ضعف، فيه محمد بن ثابت وهو ضعيف. انظر: «تلخيص الحبير» 3/ 116. (¬2) رواه البخاري رقم (3153) 3/ 1212، ومسلم (1468) 2/ 1091، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه الترمذي بهذا اللفظ وصححه (3895) 5/ 709، عن عائشة رضي الله عنها، ورواه ابن حبان في صحيحه (4177) 9/ 484، وله شاهد عن ابن عباس عند ابن ماجه (1977) 1/ 636، وعبد الله بن عمرو عند ابن ماجه أيضًا (1978) 1/ 636، ورواه الطبراني في الكبير عن أبي كبشة (854) 22/ 341. قال العقيلي في «الضعفاء» 3/ 159 عن حديث أبي كبشة: «المتن روي من غير هذا الوجه بإسناد جيد».

أما بعد: فقد أثير في هذه السنوات الأخيرة مسألة جواز الزواج بنية الطلاق وفتوى بعض العلماء بصحة هذا النكاح، فما كاد يسمع دعاة الإباحية والرذيلة مثل هذا الخبر، إلا وسارعوا إلى نشره في مختلف الصحف مباركة مثل هذا؛ بل ما كاد يسمع كثير من الرجال والشباب الذي تنازعهم شهواتهم في الوقوع في جريمة الزنى - لولا ما عندهم من حياء ووازع إيماني - إلا وانطلقوا سراعًا، زرافات ووحدانًا، إلى بلاد الشرق والغرب، ووجدوا ذلك متنفسًا لغرائزهم، وميلاً مع شهواتهم ولذاتهم. وما كنت أتصور في أول الأمر إلا أن هذا رأي جمهور العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ بل ذكر ابن قدامة في كتابه (المغني) أن النكاح صحيح لا بأس به في قول عامة العلماء، إلا الأوزاعي، وما دام الأمر كذلك، كفى به مقنعًا على جواز هذا النكاح. ومع ذلك، فما زالت نفسي تنفر من هذا النكاح، حتى قدّر الله لي السفر إلى أمريكا، لحضور مؤتمر رابطة الشباب المسلم العربي الذي عقد بتاريخ 3/ 5/1408هـ، في ولاية أوكلاهوما في أمريكا، فأثير في المؤتمر بعض الأسئلة عن مثل هذا النكاح، إذ كان هذا النكاح يشغل بال كثير من الشباب المسلم الغيور، فذكروا لنا واقع كثير من الشباب المغتربين والسائحين من المسلمين، وذكروا لنا وقائع مؤلمة. قال بعضهم لي: إنه يعرف شابًا تزوج تسعين امرأة، وذكر لي أيضًا أن كثيرًا من الفتيات أنجبن أولادًا، فكان حظهن التشريد والضياع،

وبعض الفتيات المسلمات المغتربات وبعض من أسلمن ارتددن عن الإسلام، وسمعت الكثير من المآسي، مما جعلني أرجع إلى ما قاله العلماء في هذه المسألة. وبالرجوع إلى كلامهم وأدلتهم، وبالرجوع إلى مقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج، وجدت أن النكاح بنية الطلاق يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية في مشروعية النكاح، لما يجره من مفاسد عظيمة تضر ببعض الضروريات التي اتفقت عليها جميع الشرائع (¬1). والشرائع جاءت بجلب المصالح ودرء المفاسد، وسأشير إن شاء الله تعالى إلى بعض المفاسد التي تترتب على الزواج بنية الطلاق. لذا؛ فإنه يجب على علماء الإسلام دراسة هذه المسألة دراسة جادة من جميع الجوانب؛ من حيث سلبياتها وإيجابياتها، وإني في هذا البحث الموجز سأتناول بمشيئة الله تعالى الفقرات التالية: 1 - المراد بالزواج الذي شرعه الله تعالى. 2 - مقاصد الشريعة من الزواج. 3 - نماذج من الأنكحة التي حرمها الله تعالى. 4 - لماذا حرمت هذه الأنكحة؟ 5 - المراد بالنكاح بنية الطلاق. 6 - أقوال العلماء في هذه المسألة، ودليل كلٍ، وبيان الراجح. 7 - مناقشة أدلة وشبه المجيزين. 8 - علاقة النكاح بنية الطلاق بالأنكحة التي حرمها الله وبيان مصادمته لمقاصد الشريعة. ¬

(¬1) والضروريات التي جاءت بها جميع شرائع الأنبياء هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ النسب، وزاد بعضهم: حفظ العرض.

9 - الخاتمة. واعتبر هذه المحاولة نواة لدراسة هذا الموضوع دراسة شاملة كاملة، ينظر فيها العلماء بعين البصيرة، بحيث تستمد حكمها من مقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت بما يجلب المصالح، ويدرأ المفاسد عن الإنسانية. وهذا ما ظهر لي في هذا البحث، فإن يكن صوابًا فمن الله تعالى، والحمد لله على التسديد والتوفيق، وإن يكن خطأ أو فيه خطأ؛ فمن نفسي التي هي محل الخطأ، وشرع الله بريء، ورحم الله امرءًا أرشدني إلى طريق الحق، أو زادني توضيحًا وتبصيرًا. اللهم اسلك بنا صراطك المستقيم، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وأعذنا من القول عليك أو على رسولك بلا علم، واغفر اللهم لنا ووالدينا ووالديهم وأولادنا وزوجاتنا ومشايخنا ومن له حق علينا وإخواننا المسلمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. المؤلف الفقير إلى عفو ربه صالح بن عبد العزيز بن إبراهيم آل منصور القصيم - بريدة في 3/ 5/1413هـ

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله منور البصائر، والعالم بمكنونات الضمائر، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الهادي من شاء من عباده سواء السبيل، فأراه الحق حقًا ورزقه اتباعه، والباطل باطلاً ورزقه اجتنابه، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فما من شيء يقرب الناس إلى ربهم ويسعدهم في دينهم ودنياهم إلا بينه - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وما من شيء يجرهم إلى الشقاء في الدنيا والآخرة ويبعدهم عن شرعه إلا حرمه عليهم وحذرهم منه، جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، فما كانت مصلحته أكثر من مفسدته شرعه لهم، وما كانت مفسدته ومضرته أكثر من مصلحته حرمه على أمته، وهذه سمة تجدها فيما شرع الله من أمر أو نهي، كما أنه شرع تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، فسلك هذا المسلك علماء السلف ومن نوّر الله بصائرهم من علماء الأمة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن سلك مسلكهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فإن عداوة الشيطان للإنسان قديمة ومستمرة، فقد آلى على نفسه وأقسم لربه أن يضل بني آدم، فقد قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40]، وقال في آية أخرى: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، وقال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا *

أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء: 119 - 121]. لذا فإنه لا يألو جهدًا وذريته في إضلال بني آدم بشتى الوسائل والطرق، صغرت أو كبرت دقت أو جلت عظمت أو صغرت، ولما كانت النساء من أعظم الحبائل والوسائل التي يصل بها إبليس اللعين إلى إفساد المجتمع وضياعه، وضعفه وانصرافه عن الواجبات والوقوع في المحرمات، فقد أحكم المصائد والأشراك بشتى الوسائل، بما يزينه من الإغراءات لبعض الناس والشبه التي تجعل بعض الناس يدعون لبعض الأنكحة، التي تتعارض مع مقاصد الشريعة في النكاح - كنكاح المتعة، والتحليل، والشَّغَار - ومن ذلك نكاح الزواج بنية الطلاق، بشبهة أنه سبب يمنع من الوقوع في الزنا، وعلاج مؤقت للغرباء والعزاب حتى يتيسر لهم الاستقرار أو تتوفر لهم مؤنة الزواج الحقيقي، هكذا استساغ هؤلاء هذه الشبه وزينوها لهم، فما كان من ذلك إلا أن عزف كثير من الشباب العزاب عن الزواج خوفًا من وجود المشاكل الزوجية والتزاماتها المستمرة، وزهد كثير من المتزوجين بزوجاتهم فصاروا في بلادهم يتزوجون ويطلقون يشبعون رغباتهم، ويروون نهماتهم؛ بل سارع الكثير منهم في إجازاتهم إلى السفر إلى خارج بلادهم إلى البلدان العربية أو البلاد الشرقية والغربية وغيرها فيتزوج أحدهم عدة زوجات، وربما تزوج في شهر واحد ما يزيد على العشرين، وربما كان عنده زوجة أو زوجات، ومن المعلوم أن الرجل لا يجوز له أن يجمع في ذمته أكثر من أربع زوجات، وهذا حرام بإجماع أهل العلم (¬1)، وهذا مما علم من ¬

(¬1) قلت: هذا بالنسبة للرجعية فلا يجوز للزوج حين يطلق الرابعة أن يتزوج بدلها في عدتها بل حتى تنقضي عدتها، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم قال ابن عبد البر: (لا خلاف بين العلماء فيمن له أربع نسوة يطلق إحداهن طلقة يملك رجعتها أنه لا يحل له نكاح غيرها حتى تنقضي عدتها لأنها في حكم الزوجات في النفقة والسكنى والميراث ولحقوق الطلاق والإيلاء والظهار واللعان كالتي لم تطلق منهن سواء) (الاستذكار) 5/ 540. أما المطلقة طلاقًا بائنًا أو المفسوخة فالصحيح أنه لا يجوز له أيضًا، وقد خالف في ذلك بعض أهل العلم لكنه محجوج بإجماع الصحابة قبله. قال عبيدة السليماني: (ما أجمعت الصحابة على شيء كإجماعهم على أربع قبل الظهر: وألا تنكح امرأة في عدة أختها ... ) انظر: (المغني) 7/ 67، وقد روى هذا عن ابن عباس رواه ابن أبي شيبة 3/ 524. وروي عن علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب ومجاهد والنخعي والثوري وأصحاب الرأي، وروي عن أبي الزناد قال: (كان للوليد بن عبد الملك أربع نسوة فطلق واحدة ألبتة وتزوج قبل أن تحل فعاب عليه كثير من الفقهاء وليس كلهم عابه) قال سعيد بن منصور: (إذا عاب عليه سعيد بن المسيب فأي شيء بقي)، (سنن سعيد بن منصور) (1/ 448 رقم (1749). ولأنها محبوسة عن النكاح لحقَّه أشبه ما لو كان الطلاق رجعيًا، ولأنها معتدة في حقه أشبهت الرجعية وفارق المطلق قبل الدخول بها. انظر: (المغني) 7/ 67، وهو اختيار اللجنة الدائمة 18/ 236 وما بعدها. أما إذا ماتت أحد زوجاته فلا بأس أن يتزوج إثر وفاتها. قال ابن عبد البر: (لأنه لا يخاف مع الموت فساد النسب ولا يراعى اجتماع المائين هنا) انظر: (الاستذكار) 5/ 540.

الدين تحريمه بالضرورة، كما أنه إذا أراد أن يتزوج وعنده أربع نسوة يطلق من شاء منهن ثم ينتظر حتى تنتهي عدتها ثم يتزوج بدلها، ولكن الذي يحصل ويا للأسف من كثير من هؤلاء أنه يتزوج في شهر واحد أكثر من أربع زوجات، فمن البدهي المقطوع به أنه تزوج أكثر من أربع قبل نهاية المطلقة الرابعة من عدتها، وربما حملت بعض هؤلاء النسوة المطلقات فأنكر آباؤهم هؤلاء الأولاد فكان حظهم الضياع والتشرد. إن كثيرًا من هؤلاء الذين يتزوجون بنية الطلاق لا يبالي بأصل الزوجة ولا خلقها ولا أمانتها ولا دينها، ويتخذ موانع للحمل، وهكذا يظل يتمتع ويتنقل طوال إجازته في مراتع الشهوات، وربما حمل على نفسه الأمراض الخطيرة، وجرها إلى زوجته الحقيقية ومجتمعه، فامتلأت كثير من بيوت الأسر بالفتيات المطلقات والعوانس لا يرغب فيهن أحد،

وحدَّث ولا حرج مع وجود هذه المغريات التي توجد على الساحة عن ما يحدث من الفساد الخلقي، والاجتماعي، والديني، والاقتصادي. لما رأيت ذلك وخطورته على الفرد والأسر والمجتمعات؛ تبين لي أنه يجب على طلبة العلم أن يدرسوا هذه الظاهرة دراسة متأنية، فينظروا مدى ارتباطها بأصول وقواعد الزواج الحقيقي ومنافاتها لها، وما إيجابيات هذا الزواج وسلبياته؟ وهل هذا الزواج يوافق مقاصد الشارع في مشروعيته للزواج أو ينافيه؟ وهل المصلحة في هذا الزواج تربو على المفسدة أو العكس؟ لذا فإني نظرت في أقوال وأدلة من أجازه ومن منعه، واستعنت الله واستلهمته الرشد والصواب، فسطَّرت هذا البحث مدعمًا بالأدلة الشرعية والفطرية والعقلية، وذكرت أدلة من قال بجوازه فأجبت عنها بأجوبة هادئة هادفة، مبينًا مقاصد الشارع الكريم من النكاح المعروف عند الإنس والجن والعرب والعجم، وهو الزواج الذي لا يفكر فيه صاحبه عند عقد الزواج بالتخلي عنه بعد يوم أو يومين أو فترة زمنية، وإذا قيل إن فلانًا سيتزوج فلانة لا يخطر في بال أحد من الناس أنه يتزوجها اليوم ليطلقها غدًا بعد انتهاء غرضه، هذا هو الزواج المعروف عند الناس. ويحمل أمر الشارع وترغيبه في الزواج على ما هو متعارف عليه عند الناس، وعلى الزواج الأكمل والأفضل وهو الزواج الذي ينوي فيه صاحبه عند عقد النكاح الاستمرار والدوام. وذكرت وجه ارتباط الزواج بنية الطلاق بنكاح المتعة، ونكاح التحليل، وهو أن كلاً منها لا يقصد فيه المتزوج الدوام والاستمرار؛ بل ذكرت أن نكاح الزواج بنية الطلاق الضرر فيه أكثر، وبينت كيف كان ذلك. وبينت ما يترتب على الرزواج بنية الطلاق من مفاسد عظيمة تربو على المصالح المزعومة، ومن قواعد الشرع أن درء المفاسد مقدم على

جلب المصالح، وأن ما كانت مفسدته أعظم من مصلحته فإن الشريعة جاءت بتحريمه، كل ذلك وأكثر من ذلك ذكرته في كتابي مبسطًا وموضحًا، وسميته (الزواج بنية الطلاق). وقد بذلت في هذا البحث جهدًا رجعت فيه إلى كتاب الله تعالى، وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال السلف، وعرضته على مقاصد الشريعة في الزواج، فتبين لي أن الزواج شرع لمقاصد عظيمة منها: إعفاف وتحصين كل من الزوجين، ولا يكون الإعفاف إلا بالاستدامة، أما زواج لفترة كزواج المتعة أو الزواج بنية الطلاق ونحو ذلك، فإنه لا يحصل به إعفاف. ومنها حصول الولد، وكثرة النسل لمباهاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهم الأنبياء، ولا تحصل الذرية بزواج بنية الطلاق كما هو الواقع المر الأليم. ومنها السكن وترابط الأسر وقوتها، والزواج بنية الطلاق لا يحصل به سكن ولا ترابط للأسر. كما أن أولياء المرأة متى عرفوا عن الزوج هذه النية فإنهم سيمقتونه، ويعادونه، وربما انتقموا لأنفسهم، إلى غير ذلك مما سأذكره مفصلاً من مقاصد الشرع في الزواج الحقيقي. وقد خرجت الطبعة الأولى في وقت كبرت فيه هذه الفتنة وانتشرت وأصبحت حديث السُّمَّار في المجالس، فكان لخروج الكتاب أعظم الأثر حيث جعل العلماء والمنتسبين إلى العلم ينظرون في هذه المسألة، فكان منهم المؤيد للتحريم والمجوز لهذا الزواج، فصار الناس في بلبلة وحيرة من حكم هذا الزواج، وقد ظهرت أثناء ذلك كثير من السلبيات التي ذكرتها في كتابي، وحينئذ أشار علي بعض الأخوة بإعادة طباعته مرة أخرى، فرأيت أن ذلك متعين علي، لا سيما وقد أفتى بعض المنتسبين إلى العلم بجوازه وأورد كثيرًا من الشبه والأدلة التي لا تصح. لذا جاءت هذه الطبعة الثانية من واقع المجتمع الذي يعيش كثير من شبابه وكهوله وشيبه هذه الفتنة.

وقد امتازت هذه الطبعة على الطبعة الأولى بما يلي: 1 - ذكرت فيها كثيرًا من الشبه والأدلة التي ذكرها من أجازه مما لم أذكره في الطبعة الأولى، وأجبت عليها بما يتفق مع الأدلة الشرعية، والفطرية، والنظر الصحيح. كما ناقشت أدلة المجوزين من حيث الإسناد. 2 - ذكرنا أن أصول الإمام مالك رحمه الله تقتضي إلزامه القول بتحريم الزواج بنية الطلاق. 3 - حررت في هذه الطبعة مذهب الإمام أحمد وأصحابه، وبينت أنهم يرون تحريم هذا الزواج، ولم يجوزه إلا ابن قدامة، وصاحب الشرح الكبير، وابن مفلح، وشيخ الإسلام ابن تيمية. 4 - حققت رأي شيخ الإسلام، وذكرت أن منهج شيخ الإسلام رحمه الله في تقعيده، واستدلالاته، وأحكامه على نظائر هذه المسألة، واعتماده على قاعدة المصالح ودرء المفاسد وغير ذلك من قواعده وأصوله، تجعله يلتزم بتحريم الزواج بنية الطلاق. وبينت في هذه الطبعة أن شيخ الإسلام لم يُفْتِ بجواز الزواج بنية الطلاق لمن كان مقيمًا ومستقرًا في بلده، إنما هذه الفتوى لمن كان مقيمًا في بلد الغربة، كما سترى ذلك إن شاء الله في ثنايا البحث. 5 - ذكرت في هذه الطبعة رأي ابن القيم استنباطًا من خلال أدلته، وأصوله. 6 - كما ذكرت في هذه الطبعة رأي المانعين المتأخرين، ومنهم الشيخ محمد بن صالح العثيمين، واللجنة الدائمة، ورأي المجمع الفقهي التابع للرابطة الإسلامية. 7 - وقد امتازت هذه الطبعة بزيادة التحقيق، وتخريج الأحاديث.

8 - كما ذكرت في هذه الطبعة الفرق بين الزواج بنية الطلاق وزواج المسيار. هذا ما ظهر لي في هذه المسألة، فإن يكن ما عملته صوابًا فمن الله تعالى، والحمد لله على التسديد، وإن يكن خطأ فمن نفسي والشيطان وشرع الله بريء من كل رأي أو قول يخالفه. وأستغفر الله وأتوب إليه من كل ذنب وخطيئة إن أريد إلا الخير للإسلام والمسلمين، أسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضل يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم، يا ذا الجلال والإكرام، أسألك باسمك الأعظم أن تجيب دعاءنا فترزقنا العلم النافع والعمل الصالح وتجعل خير أعمارنا خواتيهما وخير أيامنا يوم نلقاك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. المؤلف صالح بن عبد العزيز بن إبراهيم آل منصور

المراد بالزواج الذي شرعه الله تعالى

المراد بالزواج الذي شرعه الله تعالى النكاح المشروع: هو ما وافق ما شرعه الله لنا، فاجتمعت فيه الأركان والشروط، وخلا من الموانع التي تمنع صحته، وخلا من الغش والخداع من الزوجين أو من أحدهما، وكانت نية كل من الزوجين توافق مقاصد الشريعة في النكاح. وأما النكاح الذي لا يحبه الله، فهو ما اختل فيه شيء من الأركان أو الشروط، أو وجد فيه شيء من الموانع، أو وجد فيه غش أو خداع، أو لم يرد فيه الزوجان أو أحدهما مقاصد الشريعة في النكاح، فهذا كله ليس مشروعًا. فكل نكاح وافق ما شرعه الله تعالى صحيح، ظاهرًا وباطنًا، وليس كل نكاح صحيح في الظاهر يكون مشروعًا، والله أعلم. فنكاح الرجل المتبرع بتحليل المرأة المطلقة ثلاثًا لزوجها، الذي لا يعلم بنيته إلا الله، فيتزوجها من أجل أن يحلها لزوجها، هو في الظاهر نكاح صحيح، ولكنه في الباطن ليس مشروعًا؛ بل يأثم. وكذلك إذا تزوج الرجل المرأة وفي نيته طلاقها بعد أجل معلوم له هو في الظاهر نكاح صحيح، ما دام لم تعلم به الزوجة ولا وليها، ولكن مثل هذا الزواج يتعارض مع مقاصد الشريعة في النكاح، وغشٌ وخداعٌ للزوجة وأوليائها، وإذا كان كذلك، فهو في الباطن ليس مشروعًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (النكاح هو النكاح المعروف عند المسلمين، وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين الزوجين مودة ورحمة) (¬1). ¬

(¬1) «مجمع الفتاوى» 32/ 93 - 94.

مقاصد الشريعة في الزواج

مقاصد الشريعة في الزواج أما مقاصد الشريعة في الزواج، فقد بينها الله في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]. وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. وقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم» (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة بن شعبة: «اذهب فانظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما»، قال ابن حجر: (يؤدم بينكما؛ أي: تدوم المودة) (¬2). ¬

(¬1) سبق تخريجه ص17، حاشية 1. (¬2) «تلخيص الحبير» 3/ 146، وبمثل هذا المعنى قال الزيلعي في «نصب الراية» 4/ 240 والحديث رواه الإمام أحمد (18162) 4/ 244، والترمذي في باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة (1087) 3/ 397، وقال: «حديث حسن»، والنسائي في الكبرى، باب إباحة النظر إلى المرأة قبل تزويجها (5346) 2/ 272، وابن ماجه في باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها (1865) 1/ 599، وصححه ابن حبان 9/ 352، والحاكم 2/ 179.

فالزوجة إذًا هي السكن كله، سكن القلب، وسكن الجوارح، وسكن الحواس، وسكن الفكر، هي الاستقرار الكامل، وهذا السكن مصحوب بالمودة والرحمة من الطرفين، فهي اللباس الذي يلبسه الرجل، فيلصق بجسمه، فيجد فيه الظل والدفء والستر، فيستر به جسمه وعورته، كما أنه لباس لها، تجد فيه الظل والدفء، والستر، فتستر به جسمها وعورتها. قال ابن عباس في معنى قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}؛ قال: (هن سكن لكم وأنتم سكن لهن)، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي (¬1). والزواج بنية الطلاق لا يتحقق به السكن الدائم، الذي أراده الشارع، كما في تفسير ابن عباس وغيره. قال ابن جرير: (فإن قال قائل وكيف يكون نساؤنا لباسًا لنا، ونحن لباسًا لهن، واللباس إنما هو ما لبس، قيل لذلك وجهان من المعاني؛ أحدهما: أن يكون كل واحد منهما جعل لصاحبه لباسًا لاجتماعهما عند النوم في ثوب واحد، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه بمنزلة ما يلبسه على جسده من ثيابه فقيل لكل واحد منهما هو لباس لصاحبه. والوجه الآخر: أن يكون جعل كل واحد منهما لصاحبه لباسًا لأنه سكن له كما قال جل ثناؤه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [الفرقان: 47]، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه، وكذلك زوجة الرجل سكنه، يسكن إليها كما قال تعالى ذكره: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]. فيكون كل واحد منهما لباسًا لصاحبه بمعنى سكونه إليه، ثم قال: فجائز أن يكون قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} بمعنى أن كل ¬

(¬1) انظر: «تفسير ابن جرير» 2/ 161 - 163.

واحد منكم ستر لصاحبه فيما يكون بينكم من الجماع عن أبصار الناس) (¬1). وهذه المعاني لا توجد في الزواج بنية الطلاق. ويشهد لما قلنا أن المراد باللباس الدوام والاستمرار بل دوام العمر كله، قول العرب: لبست فلانة عمري؛ أي: كانت معي شبابي كله، وتقول العرب: وتلبس حب فلانة بدمي ولحمي؛ أي: اختلط، ويقال: لبست قومًا؛ أي: تحليت بهم دهرًا (¬2)، فهذا معنى اللباس عند العرب يقصد به الدوام والاستمرار. الله أكبر! ما أبلغ قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}! فإذا كانت لباسًا له يستر بها عورته، فهي إذًا تغض بصره وتحصن فرجه، فلا يطمح إلى ما حرم الله عليه فيكشف عورته وهو الساتر لعورتها، وإذا كان الرجل لباسًا لها تستر جسمها وعورتها به، فهو إذًا يغض بصرها ويحصن فرجها، فلا تطمح إلى ما حرم الله عليها فتكشف عورتها له. وفي قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}، إشارة إلى الدوام والاستمرار كما هو ظاهر كلام العرب؛ لأن ستر العورة يراد به الستر دائمًا، إذ لو كان مؤقتًا، كنكاح المتعة أو التحليل أو الزواج بنية الطلاق، لم يحصل به الستر، وقد جاء في المثل السائر: ثوب العارية لا يستر. لا إله إلا الله والله أكبر! ما أبلغ وما أشمل وأكمل وأعظم هذه الآية: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}! كم فيها من معنى وبلاغة وحكمٍ! ¬

(¬1) «تفسير ابن جرير» بتصرف 163/ 2. (¬2) انظر: «لسان العرب» 6/ 202، 8/ 76، 11/ 173.

فبالزواج يحصل الأولاد، الذين يخلد بهم الرجل ذكره، ويقوي بهم ساعده، ويصل بهم عقبه، ويكثر بهم المسلمون والمؤمنون الذين يعبدون الله تعالى ويجاهدون في سبيله، وينشرون العدل في ربوع البلاد، فتقوى بهم شوكة المسلمين، ويكاثر بهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الأمم يوم القيامة. وجاء في هذا المعنى ما رواه أنس بن مالك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة» (¬1). وما رواه عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «انكحوا أمهات الأولاد، فإني أباهي بكم يوم القيامة» (¬2). وما رواه معقل بن يسار، قال: (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: «لا» ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم» (¬3). وسيأتي إن شاء الله زيادة توضيح لنماذج من مقاصد الشريعة في النكاح في الجواب على أدلة المجيزين للزواج بنية الطلاق) (¬4). ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ، والضياء المقدسي في المحتارة وقال: «إسناده حسن» رقم (1889) 5/ 261، وصححه ابن حبان 9/ 338، ورواه البيهقي رقم (13254) 7/ 81، وقال الهيثيم: «إسناده حسن». انظر: «مجمع الزوائد» 4/ 258، وانظر: ص17 حاشية (1) من هذا الكتاب. (¬2) رواه الإمام أحمد رقم (6598) 2/ 171، وفيه حي بن عبد الله المعافري، وقد وثق وفيه ضعف كما قال الهيثمي في «المجمع» 4/ 258. (¬3) رواه أبو داود والحاكم وابن حبان، وسبق تخريجه. انظر ص17 حاشية (1). (¬4) انظر ص71 وما بعدها، وص106 وما بعدها.

نماذج من الأنكحة التي حرمها الله

نماذج من الأنكحة التي حرمها الله 1 - نكاح المتعة: وهو زواج الرجل المرأة إلى أجل مسمى يتفقان عليه، بحيث ينتهي النكاح بنهاية المدة المتفق عليها، كما هو معلوم. وقد حرم الله نكاح المتعة تحريمًا مؤبدًا إلى قيام الساعة بإجمال أهل السنة والجماعة، وذلك لمنافاته مقاصد الشريعة الإسلامية في مشروعية النكاح. 2 - نكاح الشَّغَار: وهو أن يزوج الرجل موليته على أن يزوجه الآخر موليته. ومنهم من زاد في حد الشغار بقوله: (وليس بينهما صداق)، وذلك استنادًا إلى ما رواه نافع عن ابن عمر: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق» (¬1). ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن العلة في التحريم هي خلو بضع كل منهما من الصداق، فإذا سمي الصداق، فلا يضر الشرط. وهذا قد يكون وجيهًا إذا ثبت أن تفسير الشغار مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لم يثبت رفعه؛ بل قد يكون من تفسير الإمام مالك أو نافع أو ابن ¬

(¬1) رواه البخاري في باب الشغار، رقم (4822) 5/ 1966، ومسلم في باب تحريم نكاح الشغار رقم (1415) 2/ 1034 من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر.

عمر، وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال، سقط به الاستدلال. قال الإمام الشافعي رحمه الله فيما حكاه البيهقي في المعرفة: (لا أدري التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن ابن عمر أو من نافع أو عن مالك) (¬1). وقال الخطيب (تفسير الشغار ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من قول مالك) (¬2). ويؤيد ما ذكره أيضًا أن معظم الروايات الأخرى لم تذكر هذا التفسير: أ- منها: ما رواه ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا شغار في الإسلام» (¬3). ب- ومنها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار»، زاد ابن نمير: والشغار أن يقول الرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو: زوجني أختك وأزوجك أختي (¬4). ج- ومنها: ما رواه عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وقد كانا جعلا صداقًا، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى مروان بن الحكم يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: (هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬5). د- ومنها: ما رواه عمران بن حصين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام، ومن انتهب، فليس منا» (¬6). ¬

(¬1) انظر: «فتح الباري» 9/ 162. (¬2) الفصل للوصل المدرج للخطيب البغدادي 1/ 385. (¬3) رواه مسلم رقم (1415) 2/ 1035. (¬4) رواه مسلم رقم (1415) 2/ 1035. (¬5) رواه مسلم رقم (1416) 2/ 1035. (¬6) رواه الترمذي في: باب ما جاء في النهي عن نكاح الشغار 3/ 431 رقم (1123)، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح»، والنسائي في الكبرى، في باب النهي عن الشغار رقم (5495) 3/ 309، وأحمد رقم (19960) 4/ 439، وصححه ابن حبان 8/ 61. انظر: «تلخيص الحبير» 2/ 161.

فإن قال قائل: ما تقول فيما ذكره القرطبي حيث يقول رحمه الله: (تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل الغلة، فإن كان مرفوعًا، فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابي، فمقبول أيضًا؛ لأنه أعلم بالمقال، وأقعد بالحال) (¬1). فجوابنا على هذا: أن نقول: إن مجيء ذلك التفسير موافقًا للغة العرب لا يلزم منه حصر صورة الشغار في هذا المعنى، فلغة العرب يرجع إليها في تفسير ألفاظ الشرع إذا لم يفسرها الشرع أو من أخذ عن المشرع، كالصحابة، وإذا لم يعارض التفسير مقاصد الشرع. وحصر الشغار على صورة الخلو من الصداق فقط يتنافى مع مقاصد الشريعة، ذلك أنه ربما يكون فيه ضرر على المرأة وظلم لها، ومما يؤيد هذا أن النكاح يصح عقده، ولو لم يسم صداق في العقد، فذكر الصداق أو عدمه ليس له تأثير في صحة العقد أو عدمه. وأما قولهم: وإن كان من قول الصحابي، فمقبول أيضًا؛ لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال. نقول لهم: أثبتوا لنا أنه قول الصحابي، ثم بعد ذلك ننظر في قول الصحابي. ويمكن أن يقال: للشغار صورتان. إحداهما: الصورة المذكورة، وهي خلو بضع كل منهما من الصداق. والصورة الثانية: أن يشترط كل واحد من الوليين على الآخر أن يزوجه موليته (¬2)، فيكون عدم الصداق في هذا النكاح بعض العلة في ¬

(¬1) «فتح الباري» 9/ 163. (¬2) انظر: «نيل الأوطار» 6/ 278.

النهي، لوجود الظلم للزوجة بحرمانها الصداق، ولكن لا يلزم من عدم وجود بعض العلة عدم وجود البعض الآخر، وهو ظلم الزوجة بإكراهها أو خداعها بالزواج ممن لا يصلح لها ولا ترضاه. فعلى هذا، نقول: الحكمة من تحريم نكاح الشغار - والله أعلم - هو ما قد يحصل في هذا النكاح من ظلم للمرأتين من الأولياء، فربما يظلم الولي موليته، فلا يزوجها بالكفء، من أجل أن يجعلها صداقًا لزوجة يختارها له أو لولده الذي لا ترغب فيه النساء أو الأولياء. وماذا تستفيد المرأة من الصداق إذا سمي في العقد مهما بلغ قدره وهي تزوج برجل لا ترضى دينه ولا أمانته أو لا ترغبه البتة؟ لذا؛ لا يجوز لنا أن نقيد نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار بعدم وجود الصداق، والله أعلم. 3 - نكاح المحلَّل: هو أن يتزوج الرجل المرأة التي طلقت ثلاثًا من أجل أن يحلها لزوجها الأول، سواء شرط ذلك في العقد أو قبله، أو نوى الزوج الثاني التحليل دون شرط، وجاء في هذا: أ- ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلَّل والمحلَّل له» (¬1). ب- ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟». قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «هو ¬

(¬1) رواه الترمذي رقم (1120) 3/ 428 وقال: «حديث حسن صحيح، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم» ورواه النسائي رقم (3416) 6/ 149 كلهم من طريق سفيان عن أبي قيس عن هذيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود. وهذا الحديث صححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري. انظر: «تلخيص الحبير» 3/ 170، وانظر: «نيل الأوطار» 6/ 157.

المحلَّل، لعن الله المحلَّل والمحلَّل له» (¬1). ج- وما روى عن عمر رضي الله عنه، أنه جاء إليه رجل، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة ليحلها لأخيه، هل ¬

(¬1) رواه ابن ماجه رقم (1936) 1/ 623، والحاكم رقم (2804) 2/ 217، وهذا الحديث اختلف فيه فأعله أبو زرعة وأبو حاتم بالإرسال، وحكى الترمذي عن البخاري أنه استنكره. وقال أبو حاتم: «ذكرته ليحيى بن بكير فأنكره إنكارًا شديدًا». «التلخيص الحبير» 3/ 170. وضعفه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» 2/ 647 وقال: «لا يصح لأن فيه مشرح بن هاعان، قال ابن حبان. لا يحتج به، وقال الإمام أحمد: ليس بشيء ضربنا على حديثه، وقال أبو علي الحافظ: كان يكذب» ولأن فيه عثمان بن صالح شيخ ابن ماجه، قال الجوزجاني: «كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارًا شديدًا». وأجاب ابن كثير في تفسيره عن هذه العلة بأن عثمان هذا أحد الثقات روى له البخاري في صحيحه وتابعه غيره وهو أبو صالح عبد الله بن صالح. انظر: تفسير ابن كثير 1/ 281، وفي الحديث علة ثالثة وهي الانقطاع، فإن الليث بن سعد لم يسمع من مشرح بن هاعان ولا روى عنه كما قال يحيى بن بكير. انظر: «جامع التحصيل» للعلائي 1/ 260، وانظر: «نصب الراية» للزيلعي 3/ 240. وذهب الحاكم إلى تصحيحه وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، وحسنه عبد الحق الأشبيلي وقال: «إسناده حسن». وقال الزيلعي: «إنه مشرح وثقه ابن القطان وابن معين» انظر: «نصب الراية» 3/ 240، وقال ابن حرج: «رواته موثوقون» انظر: «الدراية» 2/ 73، والخلاف في الحديث قوي والله أعلم. وفي الباب أحاديث أخرى عن عدد من الصحابة ومنهم علي وجابر رضي الله عنهما. فرواه أبو داود عن علي رضي الله عنه رقم (2076) 2/ 227، ورواه الترمذي عن جابر وعلي رضي الله عنهما رقم (1119) 3/ 427، وقال الترمذي: «وهذا حديث ليس إسناده بالقائم لأن مجالد بن سعيد ضعفه بعض أهل العلم منهم أحمد، وروي هذا الحديث عن ابن نمير عن مجالد عن عامر بن جابر عن علي وهذا قد وهم فيه ابن نمير، والحديث الأول أصح» وصححه ابن السكن كما قال ابن حجر في «التلخيص». وقال الذهبي في الكبائر: «رواه ابن ماجه بإسناد صحيح» (139).

تحل للأول؟ قال: «لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). إلى غير ذلك من الأدلة. ¬

(¬1) رواه الحاكم رقم (2806) 2/ 217، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، والبيهقي رقم (13967) 7/ 208 عن نافع عن ابن عمر. انظر: «نصب الراية» 3/ 240.

لماذا حرمت هذه الأنكحة؟

لماذا حرمت هذه الأنكحة؟ 1 - لماذا حرم نكاح المتعة؟ حرم نكاح المتعة لحكم عظيمة، منها: أن النكاح عقد على تملك منفعة البضع على الدوام والاستمرار، فالدوام والاستمرار من أعظم الأسباب في حصول مقاصد الشريعة في النكاح، ونكاح المتعة يتعارض مع تلك المقاصد، إذ لا يراد به المودة والرحمة والسكن، ولا المكاثرة بالأولاد، ولا بناء الأسرة، ولا الترابط الأسري والاجتماعي ... إلى غير ذلك، والله أعلم. 2 - لماذا حرم نكاح الشَّغَار؟ حرم لما يشتمل عليه من المفاسد العظيمة التي لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى. فقد جاءت الشريعة الإسلامية بالعدل، وحذرت من الظلم، ونكاح الشغار قد لا ينظر فيه إلى مصلحة المرأة؛ بل قد تكون المصلحة للأولياء، لذا فإنه في الغالب لا توجد في هذا النكاح المودة والرحمة ولا السكن؛ بل ربما عاشا في نزاع وخصام وعذاب وقلق نفسي مما يكون له أسوأ الأثر في تربية الأولاد، وربما حصلت الفرقة بينهما، والله أعلم. 3 - لماذا حرم نكاح التحليل؟ إن نكاح التحليل حيلة على الحرام، والحيل إلى الحرام باطلة، لذا

فإن نكاح التحليل يتعارض مع مقاصد الشريعة في مشروعية النكاح، فلا يراد منه المودة والرحمة، ولا السكن، ولا المكاثرة بالأولاد، ولا بناء الأسرة، ولا الترابط الأسري والاجتماعي؛ لأن الزوجة حينما أقدمت على الزوج الثاني لا تفكر في شيء من مقاصد الشريعة، والزوج الثاني لا يفكر في شيء من مقاصد الشريعة في الزواج؛ بل هدفه وقصده أن يحل هذه المرأة لزوجها الأول فحسب. فإن قال قائل: بل يراد بهذا الزواج المودة والرحمة والمكاثرة بالأولاد وبناء الأسرة والترابط الأسري والاجتماعي، ذلك لأنه رجوع إلى الزواج الذي يريد منه كل من الزوجين مقاصد الشريعة. قلنا: إن الوسيلة التي أريد بها ذلك محرمة، إذ من مقاصد الشريعة في الزواج الثاني أن يكون زواجًا يراد به مقاصد الشريعة، زواجًا مبنيًا على الحب والمودة والرحمة والسكن وطلب المكاثرة في الأولاد. ومن مقاصد الشريعة في الزواج الثاني - والله أعلم - التعرف على الحياة الزوجية الجديدة، فتوازن بينهما، فتعرف الفرق بين العشرتين، فيكون ذلك درسًا جديدًا لحياة زوجية جديدة، وبناء أسرة جديدة، وترابط أسري واجتماعي مع أسرة جديدة، فمتى تغيرت التربية، ربما يكون لهذا التغير الأثر الطيب على الحرث، فيكون العطاء من الزوجين أكثر. وإن حصل طلاق من الزوج الثاني، فإنها إن رجعت إلى الزوج الأول، رجعت بعد دراسة مقارنة بين الزوجين، ومحاسبة للنفس، فبعد ذلك تزول الخلافات غالبًا، وتقوى الروابط، فيكون الحكم لسلطان العقل المبني على سلطان الشرع بعيدًا عن سلطان الهوى. أما زواج عابر يراد به شهوة عاجلة في فترة قصيرة فإنه لا يحقق مقاصد شريفة، ولا يعطي دروسًا سامية في الحياة الزوجية يكون لها أثر طيب في حياة كل من الزوجين واستقرارهما وسعادتهما، فإباحة مثل هذا

النكاح يفتح باب التمرد والتلاعب بحدود الله، كالمسارعة في الطلاق بدون تروٍ ولا تعقل ما دام يجد بابًا سهلاً يصحح به هذا الخطأ وهو نكاح التحليل. وإن المحلَّل لجدير بهذا الوصف الذميم الذي وصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهو التيس المستعار فإنه لا هم له إلا النزو على البهيمة من أجل لقاحها ثم تؤخذ منه الأنثى بعد ذلك، ويذهب به إلى أخرى فهو في الحقيقة مثل مطابق لهذا الواقع المخزي المؤلم.

النكاح بنية الطلاق

النكاح بنية الطلاق هو أن يتزوج الرجل المرأة وفي نيته طلاقها بعد انتهاء دراسته أو إقامته أو حاجته (¬1). حكم هذا النكاح: اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى الجواز. وإليك بيان ذلك: أ- الحنفية: يقولون: «لو تزوج المرأة وفي نيته أن يقعد معها مدة نواها، صح؛ لأن التوقيت إنما يكون باللفظ» (¬2). وقال علي القاري في «شرح النقاية»: «أو تزوجها ناويًا أن يقعد معها مدة، ولم يتلفظ بذلك في محل العقد، فالنكاح صحيح» (¬3). ¬

(¬1) يقول من أجاز مثل هذا النكاح: إن كل متزوج ينوي طلاقها إذا لم توافقه، فليس بينهما فرق. قلت: هذه مغالطة، فبينهما فرق كبير وبون شاسع، فالنكاح الصحيح إنما ينوي بزواجه الدوام والاستمرار، لكن إذا لم توافقه يطلقها. أما هذا النكاح، فإنه ينوي بزواجه أصلاً عدم الاستمرار والدوام، بل عقد العزم على أنه إذا انتهت مهمته، طلقها، لا أنها إذا لم توافقه، طلقها: فليتنبه لهذا. (¬2) ارجع إلى «فتح القدير» ص249/ 3، «مجمع الأنهر» ص231/ 1، «البحر الرائق شرح كنز الدقائق» لزين الدين بن نجيم ص108/ 3. (¬3) «شرح النقاية» 564/ 1.

المالكية

ب- المالكية: قال في «المنتقى شرح موطأ مالك» للباجي (¬1): «ومن تزوج امرأة لا يريد إمساكها، إلا أنه يريد أن يستمتع بها مدة ثم يفارقها، فقد روى محمد عن مالك أن ذلك جائز، وليس من الجميل ولا من أخلاق الناس» (¬2). ومعنى ذلك ما قاله ابن حبيب: «إن النكاح وقع على وجهه، ولم يشترط شيئًا، وإنما نكاح المتعة ما شرطت فيه الفرقة بعد انقضاء مدة». قال مالك: «وقد يتزوج الرجل المرأة على غير إمساك، فيسره أمرها، فيمسكها، وقد يتزوجها يريد إمساكها، ثم يرى منها ضد الموافقة، فيفارقها». يريد: أن هذا لا ينافي النكاح، فإن للرجل الإمساك والمفارقة، وإنما ينافي النكاح التوقيت. قال الدرديري: «في الشرح الصغير» (¬3) عند الكلام على القسم الثالث - وهو ما يفسخ فيه النكاح مطلقًا قبل الدخول وبعده -: قال بعد كلام سبق: « ... وكالنكاح لأجل، وهو نكاح المتعة، عيّن الأجل أم لا، ويعاقب فيه الزوجان، ولا يحدَّان على المذهب، ويفسخ بلا طلاق، والمضمر بيان ذلك في العقد للمرأة أو وليها. وأما لو أضمر الزوج في نفسه أن يتزوجها ما دام في هذه البلدة أو ¬

(¬1) «المنتقى شرح موطأ مالك» 3/ 335. (¬2) قلت: إن أصول الإمام مالك رحمه الله تقتضي القول بتحريم الزواج بنية الطلاق، فإنه قال رحمه الله بمنع بيوع الآجال لأنها تؤدي إلى الربا كثيرًا لا غالبًا، فقال رحمه الله يسد الذرائع فيها سواء ظهر قصد الفساد أو لم يظهر. (¬3) «بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك» للشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي 393/ 1.

الشافعية

مدة سنة ثم يفارقها، فلا يضر، ولو فهمت المرأة من حاله ذلك». وفي «حاشية الصاوي» تعليقًا على قوله: «وأما لو أضمر»: «قال بعضهم: وهي فائدة تنفع المغترب». وقال في تعليقه على قوله: «ولو فهمت المرأة»؛ «أي: على الراجح، كما يفهم من اختصار الأجهوري عليه: وأما إن أضمره في نفسه ولا تفهمه المرأة ولا وليها، فجائز اتفاقًا» انتهى. وفي «الشرح الكبير» قال ما نصه: «وحقيقة نكاح المتعة الذي يفسخ أبدًا: أن يعقد العقد مع ذكر الأجل للمرأة أو وليها، وأما إذا لم يقع ذلك في العقد، ولم يعلمها الزوج بذلك، وإنما قصده في نفسه، وفهمت المرأة أو وليها المفارقة بعد مدة، فإنه لا يضر، وهي فائدة تنفع المغترب». اهـ. وفي «حاشية الدسوقي»، قال: «وإن كان بهرام قد صرح في «شرحه» وفي «شامله» بالفساد إذا فهمت منه ذلك الأمر الذي قصده في نفسه، فإن لم يصرح للمرأة ولا وليها بذلك، ولم تفهم المرأة ما قصده في نفسه، فليس نكاح متعة اتفاقًا». اهـ (¬1). ج- الشافعية: ذكر ابن تيمية في كتاب «الفتاوى الكبرى» أن أبا حنيفة والشافعية رخصا في هذا النكاح (¬2). وقال في «نهاية المحتاج» عند الكلام عن عدم صحة النكاح المؤقت ما خلاصته: «ولا يصح توقيته بمدة معلومة أو مجهولة، لصحة النهي عن نكاح المتعة، وكان نكاح المتعة جائزًا أولاً رخصة، ثم نهي عنه» (¬3). ¬

(¬1) «حاشية الدسوقي» ص239/ 2. (¬2) «الفتاوى الكبرى» ص72 - 73/ 4. (¬3) «حاشية نهاية المحتاج» ص214/ 6.

الحنابلة

وعلق الشبراملسي في «حاشيته» على قوله في «المنهاج»: «ولا توقيته» «حيث وقع ذلك في صلب العقد، أما لو توافقا عليه قبل، ولم يتعرضا له في العقد، لم يضر، ولكن ينبغي هنا كراهته، أخذًا من نظيره في المحلل» (¬1). وحينما تكلم في «نهاية المحتاج» عن شروط الطلاق إذا وطئ بانت منه، أو إذا وطئ فلا نكاح بينهما، وقال ببطلانه لأنه مناف لمقتضى العقد، فقال: «وحمل على ذلك خبر «لعن الله المحلل والمحلل له»، كما ذكر أن العبرة بذكر الشرط في صلب العقد ... » ثم قال: «وخرج بشرط ذلك إضماره، فلا يؤثر، وإن تواطئا قبل العقد عليه، نعم يكره، إذ كل ما لو صرح به أبطله يكون إضماره مكروهًا، نص عليه» (¬2). تنبيه: لم أقف على رأي للإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي في حكم الزواج بنية الطلاق، إلا ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية وما أفتى به بعض أئمة مذهبهما، ورحم الله مسلمًا زودني بنص صريح عنهما. د- الحنابلة: لم يجزه من الحنابلة سوى ابن قدامة ووافقه ابن مفلح، قال شيخ الإسلام: «لم أر أحدًا من الأصحاب قال لا بأس به» (¬3). قال ابن قدامة في «المغني» ما نصه: «فصل: وإن تزوجها بغير شرط، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد، فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم، إلا الأوزاعي، قال: هو نكاح متعة، والصحيح أنه لا بأس به، ولا تضر نيته، وليس على ¬

(¬1) «حاشية نهاية المحتاج» ص214/ 6. (¬2) «حاشية نهاية المحتاج» ص282/ 6. (¬3) «الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير» جمع د: التركي 3/ 104.

الرجل أن ينوي حبس امرأته، وحسبه إن وافقته، وإلا، طلقها» (¬1). وذكر ابن مفلح (¬2) في كتابه «المبدع شرح المقنع»، قال لما ذكر نكاح المتعة: «وظاهره أنه إذا تزوجها بغير شرط، وفي نيته طلاقها، فالنكاح صحيح في قول عامتهم، خلافًا للأوزاعي، فإنه قال: نكاح متعة، والصحيح لا بأس به، وليس على الرجل حبس امرأته، وحسبه إن وافقته، وإلا طلقها، وقال الشريف: وحكي عن أحمد أنه إن عقد بقلبه تحليلها للأول أو الطلاق في وقت بعينه، لم يصح النكاح» (¬3). وقد انتصر لهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أحد قوليه، والقول الآخر له الكراهة (¬4). وإليك بيان رأيه. ¬

(¬1) «المغني مع الشرح الكبير» 7/ 573. (¬2) هو أبو إسحاق برهان الدين محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح الحنبلي، المولود سنة (816هـ)، والمتوفى سنة (884هـ). (¬3) «شرح المقنع» 7/ 88. (¬4) انظر: رأيه في الكراهة. «الفتاوى الكبرى» 4/ 72، 73، وانظر إلى ص100 من هذا الكتاب.

رأي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية

رأي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قال رحمه الله تعالى (¬1): «وأما نكاح المتعة: إذا قصد أن يستمتع بها إلى مدة، ثم يفارقها، مثل المسافر الذي يسافر إلى بلد يقيم به مدة، فيتزوج وفي نيته إذا عاد إلى وطنه أن يطلقها، ولكن النكاح عقده عقدًا مطلقًا، فهذا فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد: قيل: هو نكاح جائز وهو اختيار أبي محمد المقدسي، وهو قول الجمهور. وقيل: إنه نكاح تحليل لا يجوز، وروي عن الأوزاعي، وهو الذي نصره القاضي وأصحابه في الخلاف، وقيل: هو مكروه، وليس بمحرم. والصحيح: أن هذا ليس بنكاح متعة، ولا يحرم، وذلك أنه قاصد النكاح وراغب فيه، بخلاف المحلل، لكن لا يريد دوام المرأة معه، وهذا ليس بشرط، فإن دوام المرأة معه ليس بواجب؛ بل له أن يطلقها، فإذا قصد أن يطلقها بعد مدة، فقد قصد أمرًا جائزًا، بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة، تنقضي فيه بانقضاء المدة ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا، فملكه ثابت مطلق، وقد تتغير نيته فيمسكها دائمًا، وذلك جائز له، كما أنه لو تزوج بنية إمساكها دائمًا، ثم بدا له طلاقها جاز ذلك، ولو تزوجها بنية أنها إذا أعجبته أمسكها وإلا فارقها، جاز، ولكن هذا لا يشترط في العقد، لكن لو شرط أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان، فهذا موجب العقد شرعًا، كاشتراط النبي - صلى الله عليه وسلم - في عقد البيع بيع المسلم للمسلم: «ولا داء، ولا غائلة، ¬

(¬1) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» 32/ 147.

ولا خبيثة» (¬1)، وهذا موجب العقد. وقد كان الحسن بن علي كثير الطلاق، فلعل غالب من تزوجها كان في نيته أنه يطلقها بعد مدة، ولم يقل أحد: إن ذلك متعة. وهذا أيضًا لا ينوي طلاقها عند أجل مسمى؛ بل عند انقضاء غرضه منها ومن البلد الذي أقام به، ولو قدر أنه نواه في وقت بعينه، فقد تتغير نيته، فليس في هذا ما يوجب تأجيل النكاح وجعله كالإجارة المسماة، وعزم الطلاق لو قدر بعد عقد النكاح لم يبطله، ولم يكره مقامه مع المرأة، وإن نوى طلاقها، من غير نزاع نعلمه في ذلك، مع اختلافهم فيما حدث من تأجيل النكاح، مثل أن يؤجل الذي بينهما، فهذا فيه قولان، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: تنجز الفرقة، وهو قول مالك، لئلا يصير النكاح مؤجلاً. ¬

(¬1) الخِبْثَة: قال ابن التين: ضبطناه بكسر الخاء المعجمة، وسكون الموحدة بعدها مثلثة، وقيل: هو بضم أوله لغتان: قال أبو عبيد: «هو أن يكون البيع غير طيب»، انظر: فتح الباري 12/ 350، وقال ابن الأثير: «هو العيب الباطن في السلعة الذي لم يطلع عليه المشتري». «النهاية في غريب الأثر» 2/ 142. وهذا الحديث رواه البخاري معلقًا بصيغة التمريض، (باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا) ويُذكر عن العدّاء بن خالد قال: «كتب لي النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا ما اشترى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العدَّاء بن خالد بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة» ورواه الترمذي رقم (1216) 3/ 520 باب ما جاء في كتابه الشروط، وقال: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عباد بن ليث»، ورواه ابن ماجه رقم (2251) 2/ 756، ورواه الدارقطني رقم (289) 3/ 77، والبيهقي في السنن الكبرى رقم (10564) 5/ 328 كلهم من طريق عباد بن ليث الكرابيسي ثنا عبد المجيد بن أبي وهب قال قال لي العداء بن خالد بن هوذة. قال عبد الله بن أحمد سألت يحيى بن معين عن عباد بن ليث فقال: «ليس هو بشيء». وذكره ابن عدي في «الكامل» وذكره العقيلي في «الضعفاء»، وقال: «لا يتابع على حديثه، وقال أحمد بن حنبل ليس بشيء». انظر: فيما سبق «الكامل في ضعفاء الرجال» 4/ 354 و «ضعفاء العُقيلي» 3/ 143، و «تهذيب الكمال» 14/ 855.

والثاني: لا تنجز؛ لأن هذا التأجيل طرأ على النكاح، والدوام أقوى من الابتداء، فالمدة والردة والإحرام تمنع ابتداءه دون دوامه، فلا يلزم إذا منع التأجيل في الابتداء أن يمنع في الدوام، لكن يقال: ومن الموانع ما يمنع الدوام والابتداء أيضًا، فهذا محل اجتهاد، كما اختلف في العيوب الحادثة، وزوال الكفاءة، هل تثبت الفسخ؟ فأما حدوث نية الطلاق إذا أراد أن يطلقها بعد شهر، فلم نعلم أن أحدًا قال: إن ذلك يبطل النكاح، فإنه قد يطلق وقد لا يطلق عند الأجل، كذلك الناوي عند العقد في النكاح (¬1)، وكل منهما يتزوج الآخر إلى أن يموت، فلا بد من الفرقة، والرجل يتزوج الأمة التي يريد سيدها عتقها، ولو أعتقت كان الأمر بيدها، وهو يعلم أنها لا تختاره، وهو نكاح صحيح، ولو كان عتقها مؤجلاً أو كانت مدبرة وتزوجها، وإن كانت لها عند (¬2) مدة الأجل اختيار فراقه، والنكاح مبناه على أن الزوج يملك الطلاق من حين العقد، فهو بالنسبة إليه ليس بلازم وهو بالنسبة إلى المرأة لازم، ثم إذا عرف أنه ¬

(¬1) قلت: هناك فرق كبير بين من تزوج وكانت نيته عند بدء عقد النكاح دوام النكاح واستمراره ثم بدا له بعد ذلك أن يطلقها بعد شهر، وبين من كانت نيته عند بداية العقد أن يطلقها بعد مدة، بل كانت نيته عند بداية العقد المتعة المؤقتة: فالأول: دخل بنية دوام العشرة والسكن والرغبة في الولد، وهذه من مقاصد الشرع في النكاح، أما الثاني، فدخل بها بنية التمتع إلى أجل معلوم له، فلا يريد منها ما يريده الأزواج من الزوجة الحقيقية. والأول: أيضًا تعلم الزوجة ويعلم وليها أنها ربما تدوم العشرة مع هذا الزوج، وربما ينوي بعد ذلك طلاقها، ودخلت في هذا الزواج على هذا العلم. والثاني: لو علمت الزوجة أو وليها بأنه دخل بها على أساس أنه يستمتع بها فترة من الزمن وبعد انتهائها يطلقها، أقول: لو علمت هي أو وليها بهذه النية السيئة بهذا الخداع، لما تزوجته، ومن منا يرضى لموليته مثل هذا الزواج؟ وهل هذا الزواج يوافق مقاصد الشريعة في النكاح؟ أظن الجواب معروفًا للجميع، وأظن الفرق بين النكاحين واضح، والله أعلم. (¬2) لعل الصواب والله أعلم: «وإن كانت لها عند نهاية مدة الأجل ... » إلخ.

بعد مدة يزول اللزوم من جهتها ويبقى جائزًا، لم يقدح في النكاح، ولهذا يصح نكاح المجبوب والعنين وبشرط يشترطها الزوج، مع أن المرأة لها الخيار إذا لم تعرف بتلك الشروط، فعلم أن مصيره جائزًا من جهة المرأة لا يقدح، وإن كان هذا يوجب انتفاء كمال الطمأنينة من الزوجين، فعزمه على الملك ببعض الطمأنينة مثل هذا إذا كانت المرأة مقدمة على أنه إن شاء طلق، وهذا من لوازم النكاح، فلم يعزم إلا على ما يملكه بموجب العقد، وهو كما لو عزم أن يطلقها إن فعلت ذنبًا، أو إذا نقص ماله، ونحو ذلك، فعزمه على الطلاق إذا سافر إلى أهله، أو قدمت امرأته الغائبة، أو قضى وطره منها، من هذا الباب. وزيد كان قد عزم على طلاق امرأته، ولم تخرج بذلك عن زوجيَّته؛ بل ما زالت زوجته حتى طلقها، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» (¬1)، وقيل: إن الله قد كان أعلمه أن سيتزوجها، وكتم هذا الإعلام عن الناس، فعاتبه الله بذلك، وقيل: بل الذي أخفاه أنه إن طلقها تزوجها. وبكل حال لم يكن عزم زيد على الطلاق قادحًا في النكاح في الاستدامة، وهذا مما لا نعرف فيه نزاعًا، وإذا ثبت بالنص والإجماع أنه لا يؤثر العزم على طلاقها في الحال، وهذا يرد على من قال: إنه إذا نوى الطلاق بقلبه، وقع. فإن قلب زيد كان قد خرج عنها، ولم تزل زوجته إلى حين تكلم بطلاقها، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به» (¬2). ¬

(¬1) وقد أنزل الله عليه في هذا قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. (¬2) رواه البخاري في صحيحه رقم (6287) 6/ 2454، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم رقم (127) 1/ 116.

وهذا مذهب الجمهور، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد (¬1)، وهو إحدى الروايتين عن مالك، ولا يلزم إذا أبطله شرط التوقيت أن تبطله نية التطليق فيما بعد، فإن النية المبطلة ما كنت مناقضة لمقصود العقد إلى حين الطلاق، بخلاف المحلل، فإنه لا رغبة له في نكاحها ألبتة؛ بل في كونها زوجة الأول، ولو أمكنه ذلك بغير تحليل، لم يحلها، هذا وإن كان مقصوده العوض، فلو حصل له بدون نكاحها، لم يتزوج، وإن كان مقصوده هنا وطأها ذلك اليوم، فهذا من جنس البغي التي يقصد وطأها يومًا أو يومين، بخلاف المتزوج الذي يقصد المقام، والأمر بيده، ولم يشترط عليه أحد أن يطلقها كما شرط على المحلل، فإن قدر من تزوجها نكاحًا مطلقًا ليس فيه شرط ولا عدة، ولكن كانت نيته أن يستمتع بها أيامًا ثم يطلقها، ليس مقصوده أن تعود إلى الأول، فهذا هو محل الكلام، وإن حصل بذلك تحليلها للأول، فهو لا يكون محللاً، إلا إذا قصده، أو شرط عليه شرطًا لفظيًا أو عرفيًا، سواء كان الشرط قبل العقد أو بعده، وأما إذا لم يكن فيه قصد تحليل ولا شرط أصلاً، فهذا نكاح من الأنكحة» انتهى (¬2). وقال رحمه الله تعالى: «مسألة في رجل ركَّاض يسير في البلاد في كل مدينة شهرًا أو شهرين، ويعزل عنها، ويخاف أن يقع في المعصية، فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلاد وإذا سافر طلقها وأعطاها حقها أو لا؟ وهل يصح النكاح أو لا (¬3)؟ ¬

(¬1) ما ذكره شيخ الإسلام من أنه مذهب الإمام أحمد فيه نظر، فإن المنصوص عن الإمام أحمد تحريم الزواج بنية الطلاق وعليه جميع أصحابه وهو الصحيح في المذهب ولم يخالف إلا ابن قدامة، بل قال شيخ الإسلام نفسه: «لم أر أحدًا من الأصحاب قال: لا بأس به» أي أن جميع الحنابلة على تحريمه. انظر: الإنصاف مع الشرح الكبير والمقنع. جمع د: عبد الله عبد المحسن التركي. (¬2) «مجموع الفتاوى» ص32/ 151. (¬3) يلاحظ أن فتوى الشيخ مبنية على حال السائل وهو رجل ركَّاض يسير البلاد فيقيم في كل مدينة شهرًا أو شهرين ثم يسافر، وخاف على نفسه الوقوع في المعصية. فأين هذا من رجل مقيم في بلده، وقد توفرت له الإمكانات من زوجة أو قدرة على الزواج!! فحال السائل لا تنطبق على واقع الناس اليوم فتأمل!!

الجواب: له أن يتزوج، لكن ينكح نكاحًا مطلقًا، لا يشترط فيه توقيتًا، بحيث يكون: إن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها، وإن نوى طلاقها حتمًا عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك، وفي صحة النكاح نزاع، ولو نوى أنه إذا سافر وأعجبته، أمسكها، وإلا طلقها، جاز ذلك. فأما أن يشترط التوقيت، فهذا نكاح المتعة الذي اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريمه ... » إلى أن قال: «وأما إذا نوى الزوج الأجل، ولم يظهره للمرأة، فهذا فيه نزاع، يرخص فيه أبو حنيفة والشافعي، ويكرهه مالك وأحمد وغيرهما» (¬1). وذكر هذه المسألة عنه البعلي في «الاختيارات الفقهية» لابن تيمية في باب الشروط والعيوب في النكاح، ولم يذكر رأي شيخ الإسلام ابن تيمية فيها. قال رحمه الله تعالى: «وأما نية الاستمتاع، وهو أن يتزوجها وفي نيته أن يطلقها في وقت أو عند سفره، فلم يذكرها القاضي في «المحرر» ولا «الجامع»، ولا ذكرها أبو الخطاب، وذكرها أبو محمد المقدسي، وقال النكاح صحيح لا بأس به في قول عامة العلماء، إلا الأوزاعي، قال أبو العباس: ولم أر أحدًا من أصحابنا ذكر أنه لا بأس به تصريحًا؛ إلا أبا محمد، وأما القاضي في «التعليق»، فسوَّى بين نيته على طلاقها في وقت بعينه وبين نيته التحليل، وكذلك الجد وأصحاب الخلاف» (¬2). وسيأتي الجواب على أدلة شيخ الإسلام مفصلة في فصل مستقل. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» 32/ 106. (¬2) «الاختيارات الفقهية» للبعلي ص220، تحقيق محمد حامد الفقي.

القول الثاني: التحريم

القول الثاني: التحريم. وممن ذهب إلى تحريمه: 1 - الإمام الأوزاعي رحمه الله (¬1)، فقد اشتهر ذلك عنه (¬2). 2 - الحنابلة: فقد نص الإمام أحمد على تحريمه وقال: «هو متعة» كما نقل ذلك عنه شيخ الإسلام إذ قال: «والمنصوص عن الإمام أحمد كراهة هذا النكاح وقال هو متعة، فعلم أنها كراهة تحريم ... » ثم قال: «قال الإمام أحمد في رواية عبد الله إذا تزوجها ومن نيته أن يطلقها أكرهه، هذه متعة»، ونقل عنه أبو داود: «إذا تزوجها على أن يحملها إلى خراسان، ومن رأيه إذا حملها أن يخلي سبيلها، فقال: لا، هذا يشبه المتعة حتى يتزوجها على أنها امرأته ما حييت». ثم قال شيخ الإسلام: «وهذا يبين أن هذه كراهة تحريم لأنه جعل هذا متعة، والمتعة حرام عنده» (¬3). وقال المرداوي في الإنصاف: «ولو نوى بقلبه فهو كما لو شرطه على الصحيح من المذهب نص عليه» (¬4). أي الإمام أحمد. والقول بتحريمه هو الصحيح من المذهب والذي عليه جميع أصحاب الإمام أحمد؛ بل قال شيخ الإسلام: «لم أر أحدًا من الأصحاب قال: لا بأس به» (¬5) أي كلهم على تحريمه. ¬

(¬1) هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي، ينسب إلى الأوزاعي، وهم بطن من همذان، وهو إمام أهل الشام، وسكن في بيروت، وكان يمتاز بالصدق والثقة والأمانة، وكان كثير الفقه والعلم، ويعد حجة في هذا الجانب، كانت ولادته ببعلبك، ونشأ بالبقاع، ورحلت به أمه إلى بيروت، وتوفي فيها سنة (157هـ) وعمره سبعون سنة. ارجع لـ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 1/ 88. (¬2) انظر: «المغني مع الشرح الكبير» 7/ 73. (¬3) انظر: «الفتاوى الكبرى» 3/ 104. (¬4) «الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير» 20/ 416 جمع د. عبد الله التركي. (¬5) المرجع السابق.

وممن حرمه من الحنابلة القاضي أبو يعلى في التعليقة، قال البعلي في الاختيارات الفقهية: «وأما القاضي في التعليقة فسوى بين نيته على طلاقها في وقت بعينه وبين نيته التحليل» (¬1). وممن قال بتحريمه أيضًا المجد ابن تيمية في المحرر إذ قال: «ولو نوى الزوج ذلك بقلبه فهو كما لو شرطه نصًا عليه» (¬2). وقال المرداوي في التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع: «ونكاح متعة أن يتزوجها إلى مدة أو بشرط طلاقها في وقت أو ينويه في قلبه نصًا خلافًا للمصنف وغيره فيها» (¬3). وقال البهوتي في «منتهى الإرادات»: «الثالث: نكاح المتعة، وهو أن يتزوجها إلى مدة، أو بشرط طلاقها فيه بوقت، أو ينويه بقلبه، أو يتزوج الغريب بنية طلاقها إذا خرج» (¬4). وفي «كتاب الفروع» قوله: «وكذا إذا تزوجها على مدة، وهو نكاح المتعة ... » إلى أن قال: «ونقل أبو داود فيها هو شبيه بالمتعة لا , حتى يتزوجها على أنها امرأته ما حييت» (¬5). قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن حمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - في حاشيته على المقنع: «فائدة: لو نوى بقلبه، فهو كما لو شرطه على الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه الأصحاب، نقل ¬

(¬1) «الاختيارات الفقهية» ص220. (¬2) «المحرر» 2/ 32، لمجد الدين أبي البركات المتوفى سنة 652هـ. (¬3) «التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع» ص220، لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي المتوفى سنة 885هـ. (¬4) ص181/ 2، من «منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات». (¬5) ص215، من كتاب الفروع «لشمس الدين المقدسي أبي عبد الله محمد بن مفلح، المتوفى سنة (763هـ)».

أبو داود فيها: «هو شبيه بالمتعة، لا، حتى يتزوجها على أنها امرأته ما حييت» (¬1). وينبغي أن نعلم أن أصول وقواعد جميع أئمة المذاهب كمالك، وأبي حنيفة والشافعي، وأحمد وأصحابهم، تحرم الزواج بنية الطلاق بل جميع علماء المسلمين؛ لأن من أصولهم وقواعدهم المسلمة، أن الأمور بمقاصدها، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن ذلك جواز ارتكاب أدنى المفسدتين درءًا لأعلاهما، ومن قواعدهم العمل بسد الذرائع التي تفضي إلى مفاسد فتوقع في حرام، أو ترك واجب. ولا شك أن إباحة الزواج بنية الطلاق من أعظم الذرائع التي أوقعت في الحرام، وترك الواجبات، ففيها من المفاسد الخلقية، والاجتماعية، والصحية، والاقتصادية، ما لا يعلم قدر عظمه إلا الله تعالى. فالزواج بنية الطلاق من أعظم الأسباب التي تضر بالضرورات الخمس التي جاءت الشرائع السماوية لا سيما شريعة الإسلام بالمحافظة عليها وهي الحفاظ على الدين والنفس والعقل والمال والنسل. ومن نظر إلى واقع الناس اليوم وتهافتهم كالفراش على هذا الزواج في كل مكان لعرف عظم تلك المفاسد، التي كان منها الغش والخداع، وضياع الأعراض، والأولاد، وتفكك روابط المجتمع والأسر، وتسهيل أسباب فاحشة الزنى، واختلاط الأنساب، وخروج كثير من النساء عن الإسلام، سواء كن مسلمات أصيلات أو دخلن في الإسلام بسبب هذا الزواج الذي عرّضهن للضياع والتشرد وتشويه سمعة الإسلام، وقد بينا ذلك. ¬

(¬1) ص48 من «حاشية المقنع» للشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى.

إذًا من لم يقل بتحريمه من العلماء أو أجازه، فإن قواعد الإسلام وأصوله ومقاصد الشريعة الإسلامية التي يعمل بها تلزمه بالقول بتحريم الزواج بنية الطلاق، وهو في الحقيقة يقول ذلك بلسان حاله. لذا قال الإمام مالك رحمه الله بمنع بيوع الآجال لأنها تؤدي إلى الربا كثيرًا لا غالبًا سواء ظهر قصد إلى الفساد أو لم يظهر.

رأي ابن القيم رحمه الله في حكم الزواج بنية الطلاق

رأي ابن القيم رحمه الله في حكم الزواج بنية الطلاق لم أجد لابن القيم الجوزية رحمه الله رأيًا صريحًا في تحريم الزواج بنية الطلاق، ولكن لو نظرنا إلى تقعيداته رحمه الله وتأصيلاته من خلال استنباطاته الأحكام الشرعية من عمومات الأدلة ومقاصد الشريعة، لوجدناها تنطبق على الزواج بنية الطلاق، مما يجعلنا نكاد نقول: إن ابن القيم يرى تحريم نكاح الزواج بنية الطلاق. وانظر إلى تقعيده رحمه الله إذ يقول: «قاعدة: الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل، نُزَّل صاحبه في الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام» (¬1). تعال معي لنقرأ ما قاله في نكاح التحليل، ثم نقارن بين النكاحين من خلال ما ذكره رحمه الله. قال ابن القيم رحمه الله: «وأما في هذه الأزمات التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل». قلت: كيف لو رأى ابن القيم رحمه الله في هذا الزمان والذي زاد فيها شكاية الفروج إلى ربها مفسدة الزواج بنية الطلاق، والذي تسارع كثير من الناس إليه تسارع السابقين في التحليل. ثم قال رحمه الله: «وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في ¬

(¬1) انظر: «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» 1/ 268، وطريق الهجرتين 1/ 532.

عين الدين وشجى في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به، وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول فيه بسببه». قلت: وهذا ما عابه وتشمت به أعداء الإسلام في هذا الزمن عما قيل في إباحة الإسلام للزواج بنية الطلاق. ثم قال: «فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك، فإنه لا يمسك بعصمتها بل قد دخل على زوالها». قلت: ومثله الزواج بنية الطلاق فإن الرجل لا تهمه هذه المقاصد الأربع غالبًا، والتي يتزوج الرجل المرأة لأجلها، بل همه أن يقضي شهوته منها في خلال الفترة التي نواها، ثم يتركها ويذهب إلى أخرى، فإنه لا يمسك بعصمتها بل قد دخل على زوالها. ثم قال: «والله تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكنًا لصاحبه، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم، وتتم بذلك المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم، فسل التيس المستعار هل له من ذلك نصيب». قلت: ما ذكره ابن القيم من أن مقصود عقد النكاح هو ما ذكره الله تعالى في حصول السكن والمودة والرحمة بين الزوجين هو منتف في الزواج بنية الطلاق، كما هو منتفٍ في نكاح التحليل. فإن هذين الزواجين لا يحصل بهما مقصود العقد ولا تتم بهما المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم. فسل المتزوج بنية الطلاق هل له من مقصود هذا العقد وحكمته نصيب؟ ثم قال: «وهل طلب منها ولدًا نجيبًا». قلت: وكذلك الزواج بنية الطلاق لا يريد من الزوجة ولدًا نجيبًا بل يجعل الموانع التي تمنع من حصول الولد، ولو حصل ثم ولد

لأضاعه ولم يعطه ما يعطي أولاده الآخرين الذين وجدوا من زوجة أراد بزواجه منها الدوام أو ربما ينكره ويتبرأ منه. ثم قال: «هل سأل قط عما يسأله عنه من قصد حقيقة النكاح». قلت: يريد الشيخ بالسؤال عن دينها وخلقها وأهلها وعشيرتها وهذا هو الواقع في الزواج بنية الطلاق لا يهمه ذلك. ثم قال: «هل أَوْلَمَ ولو بشاة وهل دعا إليها أحدًا من أصحابه». ثم قال: «وهل قيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية». قلت: وهذه الأسئلة التي وجهها ابن القيم للمحلَّل، يمكن أن نوجها لمن تزوج بنية الطلاق فنقول هل أَوْلَمَ ولو بشاة وهل دعا إليها أقاربه وأصحابه وقيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما بخير وعافيه، الغالب أنه لا يحصل فيه شيء من ذلك. ثم قال ابن القيم: «وكم جمع ماءه في أرحام ما زاد على الأربع». قلت: وما ذكره بالنسبة لزواج المحلَّل ينطبق على الزواج بنية الطلاق، فكم حصل ممن يتزوج بنية الطلاق الزواج أكثر من أربع زوجات قبل نهاية المطلق الرابعة من عدتها، ومن المعلوم أن الرجل لا يجوز له أن يجمع في ذمته أكثر من أربع زوجات فإنه إذا أراد ذلك وعنده أربع نسوة يطلق من شاء منهن ثم ينتظر حتى تنتهي عدتها ثم يتزوج بأخرى بدلها (¬1). ثم قال ابن القيم: «وكم من امرأة كانت قاصرة الطرف على بعلها ¬

(¬1) انظر ص22 حاشية (1).

رأي الشيخ محمد رشيد رضا

فلما ذاقت عسيلة المحلَّل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد بشملها». قلت: وكم من امرأة عفيفة خدعها من تزوجها بنية الطلاق فلما ذاقت عسيلته وتعلقت به تعلق الزوجات بالأزواج، قلب لها ظهر المجن فطلقها، فلا تزال تذكر ذلك الزواج الذي كانت لا تعرف عنه شيئًا قبل فدعاها ذلك للبحث عنها -؟ أي العسيلة - من غيره مما دعاها إلى السقوط في الحضيض. ولعل القارئ أدرك معي أن ما ذكره ابن القيم رحمه الله من استدلال على تحريم نكاح التحليل ينطبق على الزواج بنية الطلاق، وأن القاعدة التي ذكرها رحمه الله تؤيد القول بتحريم النكاح بنية الطلاق، والله أعلم. وممن منعه من المتأخرين وقال: هو شبيه بنكاح المتعة: الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى: قال في «تفسيره»: «هذا؛ وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون: إن عقد النكاح يكون صحيحًا إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إياه يعد خداعًا وغشًا، وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الزوج والمرأة ووليها، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات، وما يترتب على ذلك من المنكرات، وما لا يشترط فيه ذلك، يكون اشتماله على ذلك غشًا وخداعًا، تترتب عليه مفاسد أخرى، من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته، وهو إحصان كل من الزوجين للآخر وإخلاصه له وتعاونهما على

رأي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

تأسيس بيت صالح من بيوت الأمة» (¬1). اهـ. وممن أفتى بتحريمه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله (¬2)، وإليك نص السؤال والفتوى: س: نحن هنا في غربة وفي بلد تنتشر فيه اللا أخلاقيات بشكل كبير، وقد سأل أحد الشباب شيخًا قدم إلينا من الكويت عن حكم الزواج المؤقت فأباحه بشرط عدم بيان ذلك للفتاة، والحقيقة أنني عندي شك كبير في صحة هذه الفتوى، وقد بثت فتنة في صفوف الشباب، فأرجو توضيح هذه المسألة وماذا يفعل من خشي على نفسه الفتنة؟ الجواب: الزواج المؤقت زواج باطل؛ لأنه متعة، والمتعة محرمة بالإجماع، والزواج الصحيح: أن يتزوج بنية بقاء الزوجية والاستمرار فيها، فإن صلحت له الزوجة وناسبت له وإلا طلقها، قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (¬3). اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عضو/ بكر أبو زيد عضو/ عبد العزيز آل الشيخ عضو/ صالح الفوزان عضو/ عبد الله بن غديان ¬

(¬1) تفسير القرآن الكريم الشهير بـ «تفسير المنار» 5/ 17. (¬2) قلت: وللشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله قول آخر بالجواز وهو المشهور عنه، ولقد تبع في ذلك شيخ الإسلام رحمه الله فأجازه لمن هو خارج البلاد في الرجل الركَّاض الذي لا يستقر في بلد وخشي على نفسه الوقوع في الزنا. ولم تكن فتوى الشيخ رحمه الله بالجواز لمن ينشأ سفرًا لأجل هذا الزواج فإن هذا لا يقول به عالم كما قال الشيخ ابن عثيمين ومع ذلك فالعبرة بالدليل. على أنه ذًكر لنا أن الشيخ رحمه الله تراجع عن رأيه وأفتى بالتحريم في آخر حياته لما رأى من المفاسد والله أعلم. وسوف نناقش كل ما ذكره شيخ الإسلام في هذه المسألة ص83، مما يتبين لك أن الصواب القول بتحريمه مطلقًا - والله أعلم - وهذا الأليق بأصول الشيخ رحمه الله. (¬3) «فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء» 18/ 446.

رأي الشيخ محمد بن صالح العثيمين

س: انتشرت بين أوساط الشباب السفر خارج البلاد للزواج بنية الطلاق، والزواج هو الهدف في السفر استنادًا على فتوى بهذا الخصوص، وقد فهم الكثير من الناس الفتوى خطأ فما حكم هذا؟ الجواب: الزواج بنية الطلاق زواج مؤقت، والزواج المؤقت زواج باطل؛ لأنه متعة، والمتعة محرمة بالإجماع، والزواج الصحيح: أن يتزوج بنية الزوجية والاستمرار فيها، فإن صلحت له الزوجة وناسبت له وإلا طلقها، قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (¬1). اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عضو/ بكر أبو زيد عضو/ صالح الفوزان عضو/ عبد الله بن غديان وممن قال بتحريمه الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى، قال: في شرحه لمنظومته في أصول الفقه في شرحه للبيت رقم (89، 80): 49 - وكل شرط مفسد للعقد ... بذكره يُفسده بالقصد قال: «وهذه أيضًا من القواعد المهمة: كل شرط يفسد العقد إذا ذكر فيه فإنه يفسده أيضًا إذا نوى، يعني أن النية تقوم مقام النطق، ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬2). قال: مثال ذلك: ثم ذكر أمثلة ... منها: لو أن إنسانًا تزوج بنية الطلاق بعد شهر فالنكاح باطل؛ لأنه لو شرط أن يكون النكاح مؤقتًا ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء» 18/ 448. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنية ... » 1907/ 155 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

بالشهر لكان هذا الشرط مفسدًا للعقد، فإذا كان هذا الشرط مفسدًا للعقد كانت نيته - أيضًا - مفسدة للعقد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». ثم قال في منظومته رحمه الله: 80 - مثل نكاح قاصد التحليل ... ومن نوى الطلاق للرحيل يعني من نوى أنه إذا رحل عن هذا البلد طلّق، فيكون نكاحه بالنية، أنه متى رحل طلق، فهو في الواقع نكاح مؤقت لكن لا بالشرط؛ بل بالنية، فيكون النكاح فاسدًا ... إلى أن قال: « ... ثم إنه يجب سد الباب في هذه المسألة سدًا منيعًا؛ لأنه وجد من السفهاء الذين لا يبالون بممارسة الفاحشة - عياذًا بالله - من يذهب لبلاد الخارج ليتزوج بهذه النية، وليس له غرض إطلاقًا إلا أنه يتزوج بنية الطلاق إذا عاد، ولهذا يتزوجون عدة مرات في خلال ثلاثة شهور. فهذه المسألة؛ حتى لو قلنا بجوازها مع ما فيها من غش وخداع، فإنه يجب سد الباب، لئلا يكون ذريعة إلى السفر للزنا، نسأل الله العافية. بل إن هذه المسألة لا تدخل تحت الخلاف الذي فرضه أهل العلم قطعًا؛ لأن المسألة التي فرضها أهل العلم في الغريب يتزوج بنية الطلاق إذا فارق البلد والغريب لم يسافر لأجل أن يتزوج، إنما سافر لحاجة، طلب علم، أو مال، أو غير ذلك، واحتاج إلى النكاح فتزوج، أما هؤلاء فقد قصدوا من الأصل أن يذهبوا إلى البلد ليتزوجوا بنية الطلاق». انتهى المراد من كلامه رحمه الله من المنظومة» (¬1). وقال رحمه الله - أيضًا - في جوابه لسؤال هذا نصه: ¬

(¬1) ارجع إلى كلامه رحمه الله في منظومة أصول الفقه وقواعده، ص287، 288.

السؤال: «ما نقل عنكم أنكم أفتيتم بجواز النكاح بنية الطلاق لمدة معينة هل هذا صحيح أم لا؟». الجواب: ما نقل عني أني أفتيت بجواز النكاح بنية الطلاق في مدة معينة غير صحيح وأنا لا أرى جواز ذلك لأمور: الأول: أنه خلاف مقصود النكاح الشرعي، فإن مقصود النكاح الشرعي الاستمرار في النكاح وترسيخ المودة والرحمة بين الزوجين ليكثر النسل بينهما، ولهذا حرم نكاح التحليل لأنه لا يقصد به الاستمرار وترسيخ المودة، وإن كان يختلف عن هذا بكون المقصود منه مصلحة المحلَّل له، بخلاف من تزوج بنية الطلاق فإنه يقصد التمتع بالمرأة مدة معينة لكن بينهما شيء من التشابه. الثاني: أنه دائر بين الغش ونكاح المتعة؛ لأنه إن أخبر الزوج المرأة أو وليها بنيته صار نكاحًا مؤجلاً فهو شبيه بالمتعة، وإن لم يخبرهما كان غشًا لأنهما لو علما بنيته لم يحصل له النكاح في الغالب. الثالث: أنه ربما خلق بينهما ولد، فإن طلقها فمشكل، وإن أمسكها أمسكها على كره، وربما يلزم على ذلك لوازم صعبة. الرابع: أن في فتح هذا الباب ذريعة لأن يسافر الناس إلى البلاد الأخرى لغير غرض سوى أن يستمتعوا بمثل هذا النكاح كما جرى ذلك فعلاً حسب ما سمعنا. ومن أجل هذه الوجوه نرى تحريم النكاح بنية الطلاق، وأن على الإنسان أن يصبر حتى يغنيه الله من فضله لقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، وإذا أغناه الله بزوجة وتزوج فليصحبها معه إلى بلد الغربة، وعلى الزوجة أن تسافر معه إذا طلب ذلك، إلا أن تشترط عند عقد النكاح أن لا يسافر بها. وعليها وعلى زوجها إذا حصل السفر أن يحافظا على العفة والحجاب، وإنني

أحذر أولئك الذين لا يسافرون لغرض إلا أن يتمتعوا بهذا النكاح المختلف فيه على أن هذه الصورة، أعني أن لا يسافر إلا لغرض التمتع بالمرأة بهذا العقد ليست موضع الخلاف، فإن الخلاف إنما كان في رجل غريب شق عليه عنت العزوبة فتزوج بنية تحصين فرجه مدة الغربة، فإذا رجع إلى بلده طلقها. وبين هذه الصورة وصورة المسافر ليتزوج بنية الطلاق فرق ظاهر للمتأمل، فليتقوا الله وليتدبروا الأمر بفكر مجرد عن هوى النفس حتى تتبين لهم الحقيقة. أسأل الله أن يحمي الجميع من أسباب سخطه. أ. هـ.

رأي المجمع الفقهي الإسلامي

رأي المجمع الفقهي الإسلامي الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 10 - 14/ 3/1427هـ الذي يوافقه 8 - 12/ 4/2006م قد نظر في موضوع: (عقود النكاح المستحدثة). وبعد الاستماع إلى البحوث المقدمة، والمناقشات المستفيضة. قرر ما يأتي: يؤكد المجمع أن عقود الزواج المستحدثة وإن اختلفت أسماؤها، وأوصافها، وصورها، لا بد أن تخضع لقواعد الشريعة المقررة وضوابطها، من توافر الأركان، والشروط، وانتفاء الموانع. وقد أحدث الناس في عصرنا الحاضر بعض تلك العقود المبينة أحكامها فيما يأتي: 1 - إبرام عقد زواج تتنازل فيه المرأة عن السكن والنفقة والقَسْم أو بعض منها، وترضى بأن يأتي الرجل إلى دارها في أي وقت شاء من ليل أو نهار. ويتناول ذلك أيضًا: إبرام عقد زواج على أن تظل الفتاة في بيت أهلها، ثم يلتقيان متى رغبا في بيت أهلها أو في أي مكان آخر، حيث لا يتوافر سكن لهما ولا نفقة. هذان العقدان وأمثالهما صحيحان إذا توافرت فيهما أركان الزواج وشروطه وخلوه من الموانع، ولكن ذلك خلاف الأولى. 2 - الزواج المؤقت بالإنجاب وهو: عقد مكتمل الأركان والشروط إلا أن أحد العاقدين يشترط في العقد أنه إذا أنجبت المرأة فلا نكاح بينهما، أو أن يطلقها. وهذا الزواج فاسد لوجود معنى المتعة فيه؛ لأن

التوقيت بمدة معلومة كشهر أو مجهولة كالإنجاب يصيَّره متعة، ونكاح المتعة مجمع على تحريمه. 3 - الزواج بنية الطلاق وهو: زواج توافرت فيه أركان النكاح (¬1) وشروطه وأضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد الزواج بنية الطلاق وهو مدة معلومة كعشرة أيام، أو مجهولة؛ كتعليق الزواج على إتمام دراسته أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله. وهذا النوع من النكاح على الرغم من أن جماعة العلماء أجازوه، إلا أن المجمع يرى منعه؛ لاشتماله على الغش والتدليس. إذ لو علمت المرأة أو وليها بذلك لم يقبلا هذا العقد ... ولأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة وأضرار جسيمة تسيء إلى سمعة المسلمين. والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. ¬

(¬1) قلت: قولهم: «توافرت فيه أركان النكاح» فيه نظر، إذ فَقَدَ الزواج بنية الطلاق ركنًا من أركان النكاح ألا وهو الإيجاب. فإن الإيجاب صدر من الزوجة ووليها على أساس الاستمرار، ولو علمت الزوجة أو وليها بنية الطلاق بعد انتهاء غرضه لما قبلت بهذا الزواج، ولو فرضنا أنها أو وليها يعلم بذلك لصار هذا الزواج زواج متعة، وهو خارج عن محل النزاع ... انظر لزيادة الإيضاح ص114 الدليل الرابع.

رأيي في حكم الزواج بنية الطلاق

رأيي في حكم الزواج بنية الطلاق وبعد ما تقدم، فالذي أراه والله أعلم: أن الزواج بنية الطلاق ليس شرعيًا، لذا فهو حرام لا يحل، وإذا كان كذلك، فهو باطل، وإذا علمت نية المتزوج، وجب التفريق بينهما، وإذا كان الزوج يعرف الحكم، وجب تعزيره، أما إذا لم يعلم عن حاله شيء، فالنكاح في الظاهر صحيح، أما في الباطن، فهو باطل. وإذا كان العلماء قد اختلفوا بينهم في حكم هذا الزواج ما بين مجوز له بدون كراهة أو مجوز له مع الكراهة، وما بين محرم ومبطل له، ولكل دليله، فإن الله تعالى أمر برد النزاع والخلاف إليه وإلى رسوله صلوات الله وسلامه عليه. {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. وإذا أردنا أن نعرف حكم الشريعة في الزواج بنية الطلاق، فإنه يتعين علينا أن نعرف مقاصد الشريعة المطهرة في مشروعية الزواج، فإن كان هذا الزواج موافقًا لها، فهو الزواج الشرعي، وإن كان غير ذلك، فإنا نحكم بعدم مشروعيته، وربما يكون باطلاً. وإنما حينما رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لنعرف مقاصد الشريعة في النكاح، وجدناه شرع لغايات عظيمة ومقاصد سامية شريفة:

1 - منها السكن: كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، والمراد به السكن الكامل بين الزوجين، بما تحمله هذه الكلمة من معنى، سكن القلب، وسكن الجوارح، وسكن الحواس، والفكر لكل من الزوجين. وهو الاستقرار الكامل، ولا يكون كذلك إلا إذا كان مصحوبًا بالمودة والرحمة من الطرفين على الدوام، فسكن المسافر في فندق ونحوه لا يكون سكنًا مستقرًا ولذلك لا يتخذ الساكن فيه وسائل الدوام والاستقرار. وهل الزواج بنية الطلاق أو نكاح المتعة أو التحليل يكون سكنًا لكل من الزوجين؟ وهل يبذل الزوج وسائل الدوام والاستقرار لهذا الزواج؟ وهل توجد نية المودة والرحمة وقد أضمر في قلبه عند بدء عقد النكاح الطلاق، ثم هو ينفذه بعد انتهاء غرضه؟ فأين المودة والرحمة في هذا النكاح. وماذا نفهم في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]؟ هل نفهم أن المراد أنكحوهن ليفرغوا شهواتهم ثم يطلقوهن؟ وإذا كانت نيته في الزواج الطلاق بعد إفراغ الشهوة، فهل يزول بعده تأيمهما؟ وهل هذا مقصود الشارع من مشروعية النكاح؟ وقد قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]، ألا يدل ذلك على أن الزواج بنية الطلاق غير مراد للشارع فكيف يكون لباسًا لها، أو تكون لباسًا له إذا تزوجها بنية الطلاق، يتزوجها اليوم وغدًا يطلقها، ويتزوج الأخرى بعدها ثم يطلقها فكيف يحصل بذلك الستر والعفة، فلباس لا يدوم لا يستر، وفي المثل تقول العرب (ثوب العارية لا يستر)؛ لأنه لا يملكه المستعير، فهو غير دائم عليه، فيأخذه

صاحبه فكذلك الزواج بنية الطلاق لا يستر كلاً من الزوجين؛ لأنه لا يحصل به إعفاف بل ربما يعرَّض الزوجة للسقوط متى بقيت بدون زوج. 2 - ومنها الدوام والاستمرار: يقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وفي ذلك دلالة على أن المراد بالمعاشرة بالمعروف حصول المودة والرحمة على وجه الدوام والاستمرار، بدليل ترغيبه تعالى الأزواج بإمساك زوجاتهم، وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} دليل على دوام النكاح؛ لأن المعروف بين الناس جميعًا عربهم وعجمهم، مسلمهم وكافرهم أن من يتزوج إنما يريد بزواجه الدوام؛ بل هذا أمر فطر الله عليه الإنس والجن، لو لم يكن ذلك مما فطر الله عليه الناس لما تحقق ما أراد الله من عمارة الكون كما أراد الله تعالى، ولو عرف بين الناس غير الدوام لكان نكاح متعة، فمعاشرة من يتزوج بنية الطلاق ليست معاشرة بالمعروف. 3 - ومن مقاصد الشريعة أيضًا: حصول الأولاد وإكثار النسل: قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]. وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم» (¬1)، فهل من يتزوج بنية الطلاق بعد انتهاء مهمته من هذا البلد، أو بعد قدوم ¬

(¬1) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان، وصححه الحاكم كلهم رووه عن معقل بن يسار وهو جزء من حديث، وتمامه: قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وأنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال كلا ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم». وسبق تخريجه ص17 حاشية (1).

زوجته الغائبة هل يريد المتزوج بهذه النية أولادًا! في الغالب أنه لا يريد بزواجه هذا أولادًا، لذا فإن الكثيرين يستعملون المانع للحمل. 4 - ومنها: حفظ الأنساب: ومن ثمرات حفظ الأنساب حصول التعارف، والتآلف، والتعاون، والتناصر، والتكافل، والعقل في الديات، ولولا عقد النكاح لضاعت الفروج والأنساب، ولأصبحت الحياة فوضى. وكيف يحصل دوام النكاح؟ وكيف يحصل العقل في الديات؟ وكيف تحفظ الأنساب إذا لم يحصل دوام النكاح. 5 - ومنها: غض البصر وإحصان الفرج عما حرم الله، ولذلك جعل الله كلاً من الزوجين لباسًا للآخر، فقال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]، فهي اللباس الذي يلبسه الرجل فيلصقه بجسمه فيجد فيه الظل، والدفء، والستر، فيستر به جسمه، وعورته كما هو الآخر لباس لها تجد فيه الظل والدفء، والستر، فتستر به جسمها، وعورتها (¬1). 6 - ومنها: تكوين الأسرة التي هي نواة المجتمع الصالح: وهل الزواج بنية الطلاق يحصل به تكوين الأسرة؟ كلا؛ بل المتزوج بنية الطلاق قصده وفعله قائم على محاربة هذا المقصد، فلا يريد من هذه الزوجة تكوين الأسرة، وإنما يريد ذلك من زوجته الحقيقية، أما هذه فمجرد إناء يفرغ فيه شهوته ليتخلص منها فحسب، تلك بعض مقاصد الشريعة الإسلامية في مشروعية الزواج، والله أعلم. فأي مقصد بعد هذا نجده في الزواج بنية الطلاق؟ اللَّهم إلا إشباع تلك الغريزة. ¬

(¬1) انظر ص31 - 32 من هذا الكتاب، ولابن جرير الطبري كلام نفيس حول هذا. ارجع إلى تفسيره 2/ 161 - 163.

ومن الأدلة على تحريم هذا النكاح - مع ما سبق ذكره من كونه مخالفًا لمقاصد الشريعة - (أن الأصل في الأبضاع التحريم)، ولا يستباح منها شيء إلا ما دلّ الدليل على جوازه، وما سوى ذلك فيبقى على الأصل وهو التحريم وعلى مدعي الجواز الدليل، ولا دليل على جوازه.

من مفاسد الزواج بنية الطلاق

من مفاسد الزواج بنية الطلاق من مفاسد النكاح بنية الطلاق: هدم الأسرة، وتقويض بنيانها، وتشريد الأولاد وضياعهم، ذلك حينما يكون عند إنسان ما أربع زوجات، وهو يريد الزواج بنية الطلاق، يجد الباب أمامه مغلقًا، فربما يطلق واحدة منهن من أجل أن يتزوج غيرها بنية الطلاق، فيتزوج ويطلقها، ويذهب بعد تطليقه هذه إلى أخرى، فيتزوجها ويطلقها ... وهكذا ينتقل من زواج إلى زواج، ومن طلاق إلى طلاق، والطامة الكبرى أنه ربما يتزوج والمرأة السابقة التي هي الرابعة ما زالت في عدتها؛ بل ربما كل زواج يكون في عدة المطلقة السابقة، وهذا حرام، ذلك أن من عنده أربع زوجات إذا طلق واحدة منهن لا يحل له أن يتزوج غيرها حتى تنتهي من عدتها (¬1)، فإجازة مثل هذا الزواج ذريعة للوقوع في مثل هذا المحرم وغيره من المحرمات، ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية جاءت بسد الذرائع. واقع مؤلم: التقيت في مؤتمر «رابطة الشباب العربي المسلم» الذي عقد في ولاية أوكلاهوما في أمريكا في اليوم الثالث من شهر جمادى الأولى عام ثمان وأربع مئة وألف من هجرة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، التقيت بكثير من الشباب المسلم، فسألوني عن حكم الزواج ¬

(¬1) انظر: حاشية رقم 1 ص22.

بنية الطلاق، وأبدوا الغرابة والاشمئزاز مما سمعوه من الفتوى التي نقلت إليهم في حل مثل هذا الزواج، وذكروا أنهم كانوا يظنون حرمته، لما علموه من قواعد الشريعة من تحريم ما كانت مفسدته أعظم من مصلحته، ومن تلك المفاسد ما رأوه من كثير من الشباب المغتربين والسائحين من المسلمين؛ حيث إنهم رأوهم منغمسين في مثل هذا الزواج، يتزوج أحدهم في الشهر الواحد عدة زوجات، يتزوج هذه ويطلقها، ويثب على الأخرى فيتزوجها ثم يطلقها ... وهكذا، وذكر لي أحدهم أنه يعرف شابًا مسلمًا تزوج في غربته في أمريكا تسعين فتاة، وذكر لنا أن كثيرًا من الشباب أنجبوا أولادًا من تلك الزوجات، وطلقوهن، فكان حظهن وحظ أولادهن الضياع والتشرد، وليس الأمر كذلك فحسب، بل كثير من الفتيات المسلمات، ومن أسلمن اللاتي أصبن بهذه المصيبة، ارتددن عن الإسلام، وهذه مفسدة من أعظم مفاسد الزواج بنية الطلاق. يا لها من مصيبة!! مآسي ومهازل تحصل هناك وفي كل مكان مما ينزه عنها شرع الله الذي جاء بحفظ حقوق الإنسان، واحترام الحياة الزوجية وترسيخ دعائم الأسر ورعاية الأولاد وغيرهم، وتربيتهم؟! أليس من المعلوم أن الأصل في الأبضاع التحريم، وهذا بالإجماع، فإذا كان كذلك، فإنها لا تستباح إلا بما دل الدليل على حلها، وأين الدليل على إباحة الزواج بنية الطلاق؟! قد تقول: إن هذا النكاح قد توفرت فيه شروط النكاح وأركانه، وإذا كان كذلك، فهو نكاح صحيح. فأقول: نعم، هو نكاح صحيح، ولكن في الظاهر؛ أي: فيما يبدو للناس، فتترتب عليه أحكام النكاح الصحيح، ذلك أن الزواج بنية الطلاق أمرٌ بينه وبين الله تعالى، فنكله إلى نيته، وأما في باطن الأمر وحقيقته فالنكاح باطل، وليس هو النكاح الذي شرعه الله تعالى، وليس هو

النكاح الذي يوافق مقاصد الشارع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته، لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء» (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وسبق تخريجه ص17 حاشية 2.

الجواب على أدلة المجوزين للزواج بنية الطلاق

فصل الجواب على أدلة المجوزين للزواج بنية الطلاق أدلة المجوزين جميعًا لهذا النكاح تدور حول دليلين: الدليل الأول: أن النكاح وقع على وجهه، وليس فيه شروط، كشرط المدة، كما في نكاح المتعة، أو شرط الطلاق كنكاح التحليل، أو أن يزوجه موليته بشرط أن يزوجه الآخر موليته، وهو ما يسمى بنكاح الشَّغار، غاية ما في الأمر أن الزوج أضمر الطلاق في قلبه، ولم تعلم به الزوجة ولا وليها، وربما لم يعلم بنيته أحد إلا الله، وإذا كان كذلك، فإضمار النية لا يضر، إذ أن إضمار الطلاق من حقه، إذ كل متزوج يتزوج وفي نيته أنه إذا لم تعجبه، فإنه يطلقها، ومثل هذا جائز بالإجماع، أعن به: أنه إذا لم تعجبه، طلقها، وإلا أمسكها. الدليل الثاني: الخوف من الوقوع بفاحشة الزنى. الجواب عن الدليل الأول: جوابنا على ذلك؛ وبالله التوفيق، ومنه نستمد العون ونستلهم الرشد: هو أن هناك فرقًا كبيرًا وبونًا شاسعًا بين النكاحين، كما بين السماء والأرض، والثرى والثريا. ذلك أن نية المتزوج بالزواج الشرعي غير نية من يتزوج بنية الطلاق، فالأول دخل في أمر شرعه الله له، إذ أن الله شرع الطلاق للتخلص مما ربما يطرأ على الزوجين مما قد يشق أو يتعذر معه استمرار الحياة الزوجية، إذ الأصل في الزواج الدوام والاستمرار، فكل من

تزوج، تزوج بنية الدوام والاستمرار، وهذا هو الزواج المعروف لكل من الزوجين، ويعرف لدى المسلمين والكافرين، والطلاق نادر، لا يتوقعه لا الزوج نفسه ولا الزوجة ولا أولياؤها، والأحكام الشرعية تبنى على الغالب والظن الراجح. أما الزواج بنية الطلاق: فقد عزم وصمم فيه المتزوج ووطَّن نفسه على الطلاق بعد انتهاء غرضه؛ لأنه محتاج إليه لعارض، كشهوة بهيمية بحتة، أو خدمة، وربما هيأ الأسباب التي تجعله لا يستمر في الزواج، من عدم الإنجاب أو الاستقرار. أما قولهم: قد يعدل عن هذه النية، فهذا نادر، والنادر لا حكم له، وهذا خلاف ما دخل عليه، والأحكام الشرعية كما هو معروف، كثيرًا ما تبنى على الظن الغالب. وهل ترضى المرأة أو وليها بمثل هذا الزواج بحجة أنه ربما تتغير النية فيستمر النكاح؟! إذًا لقلنا بجواز نكاح التحليل أو المتعة؛ لأنه ربما تتغير النية، إذ قد يتزوج بنية التحليل فيرى بعد الزواج ما يعجبه منها فيعدل عن الطلاق فيمسكها، فكما أن تغير نيته في التحليل لا يجوز له هذا الزواج فكذلك احتمال عدول المتزوج بنية الطلاق عن نيته لا يكون مبررًا له في إباحة هذا النكاح. ثم أيضًا قد تكون هناك حالات قد يقرب فيها القول بالجزم بعدم الاستمرار، ذلك لوجود بعض الأنظمة في بعض الدول التي تمنع الزواج من غير نساء شعبها، فهل لنا أن نقول بمنع مثل ذلك وجواز ما يمكن فيه الاستمرار؟! ثم أليس في هذا الزواج غش وخداع وخيانة وظلم، حيث عقد العزم على الطلاق بعد مدة من الزمن، فيسلب الفتاة ظلمًا وعدوانًا أعز

شيء تملكه ثم يتركها بدون عذر، لا لشيء، إلا أن مهمته انتهت من هذا البلد، أو لأن زوجته الغائبة حضرت؟ وهل هذه روابط الزواج التي شرعها الله، التي لا تعدو قضاء شهوة عاجلة، وتحقيق غرض خاص من جانب الزوج فقط، ثم الطلاق من أجل مهمة انتهت أو زوجة حضرت؟ إذًا، ما هي هذه المرأة التي عقد عليها؟ أهي بغي؟! ثم ما موقف من أجاز هذا الزواج لو علم أن فلانًا من الناس يتزوج المرأة لا ليبقيها عنده؛ بل ليطلقها بعد فترة من الزمن، وجرب عليه ذلك، فهل يرضى هو به زوجًا لموليته، أو يرضى به لأحد جاء يستشيره ويقول: إنه ربما تغيرت هذه النية فيمسكها؟! ومن يغامر بهذا الزواج بحجة أن النية ربما تتغير فيمسكها؟! ألا يكون ذلك من مرجحات القول بتحريم هذا النكاح؟! ولربما يقول المتزوج بنية الطلاق: أنا أبين للمرأة أو وليها أني أريد أن أطلقها حتى لا أظلمها. قلت: إذا صرحت بذلك لهما، وتزوجتما على ذلك، صار نكح متعة، فوقع في شر مما فرَّ منه. وإن قال: لا أقول ذلك، ولكن أقول لها: إن رضيتك، أمسكتك، وإن لم أرغب فيك، طلقتك. قلت: هذا القول لا يحتاج إلى شرط، فكل متزوج ينوي ذلك، وهي تعلم أنه لا يلزم الزوج إمساكها مع عدم الرغبة إذ هي دخلت على هذه النية، ولكن لو علمت أنه يتزوجها إلى أن تأتي زوجته أو إلى أن ينتهي غرضه في بلدها، فهل تقبله أو يقبله وليها زوجًا لها؟ كلا. الجواب عن الدليل الثاني: أما ما ذكره بعض من أجاز النكاح بنية الطلاق أن من مبررات القول بالجواز، الخوف من الوقوع في الزنى:

فالجواب: إن الخوف أمر مظنون، ثم هي مفسدة جزئية، ولكن الزواج بهذه النية متى فتح فيه الباب، ترتب عليه مفسدة أعظم، ومن ذلك وقوع الزنى، وحصول الردة، كما سبق أن ذكرنا ذلك (¬1)، فهل نجيز لفرد خوفًا عليه من مفسدة الزنى ونبيح مثل ذلك الزواج، فتحصل مفاسد عظيمة بسبب الذواقين؟! فلعلك تقول: إننا حينما نجيز مثل هذا النكاح لا نجيزه لفرد خوفًا عليه من مفسدة الزنى؛ بل نجيزه كحكم شرعي لكل متزوج خوفًا على المجتمع من مفسدة الزنى. قلت: إجازته للمجتمع أمر خطير، يترتب عليه ما قلناه من المفاسد، ومنها أنه ذريعة لتعطيل الزواج الشرعي، خوفًا من المسؤولية وغيرها. ثم لم يتعين أن السبب الوحيد لعلاج هذه المشكلة هو الزواج بنية الطلاق، بل جعل الشارع وسائل كثيرة لذلك: منها طلب العفة من الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]. ومنها الصيام، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (¬2). ¬

(¬1) ذكرناه في ص19، ص75. (¬2) رواه الجماعة، فرواه البخاري في كتاب النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم رقم (4779) 5/ 1950، ومسلم في كتاب النكاح رقم (1400) 2/ 1018 كلاهما من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ثم لماذا لا يتزوج بنية الدوام والاستمرار، وينوي بزواجه النية الحسنة، إذا كان يخاف على نفسه من الوقوع في الفاحشة؟! فإن قال: لا أريدها زوجة دائمة، لوجود بعض الموانع أو المشاكل من زوجتي أو قبيلتي أو حكومتي أو غير ذلك. قلنا: إذًا تحققنا أنك تريد طلاقها، فكيف بعد هذا يقول من أجاز هذا النكاح: إن النية ربما تتغير فيمسكها؟! ثم من المعلوم أن الأمور بمقاصدها، وأن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فنية هذا المتزوج الطلاق بعد مدة، فلا فرق إذًا بين هذا النكاح ونكاح المتعة والتحليل، فكل منهما نوي فيه الطلاق، غاية ما في الأمر: هذا أخفى نيته، وهذان صرحا بنيتهما، والنتيجة واحدة, وهي الطلاق.

جوابنا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

فصل أما جوابنا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهو ما يلي: إن إباحته للزواج بنية الطلاق يتعارض مع قوله: «إن القصود في العقود معتبرة» (¬1). نعم إن القصود في العقود معتبرة، ولأجل ذلك قلنا بتحريم الزواج بنية الطلاق، ذلك لأنه لا يريد بالزواج ما أراده الشارع الحكيم من مشروعية النكاح؛ بل يريد الزواج لإرضاء نهمته أو قضاء غرضه فحسب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬2). قوله رحمه الله تعالى: «ليس بنكاح متعة، ولا يحرم، وذلك أنه قاصد للنكاح، وراغب فيه، بخلاف المحلل، لكن لا يريد دوام المرأة معه». قلت: نعم، ولكن كما قال رحمه الله تعالى: «ليس قاصدًا له على ¬

(¬1) هذه القاعدة أصل عند المالكية وأقرها شيخ الإسلام، وابن القيم. انظر: «الفتاوى» 20/ 378ن و «إعلام الموقعين» 3/ 119. (¬2) رواه البخاري في عدة مواضع أحدها، باب بدء الوحي رقم (1) 1/ 3، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجهاد بلفظ: «إنما الأعمال بالنية» رقم (1907) 3/ 1515 من طريق يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الدوام والاستمرار» وهل مقصود الشارع من شرع النكاح كونه قاصدًا للنكاح وراغبًا فيه؟ كلا، وإنما المقصود من النكاح هو دوامه واستمراره، لما يترتب على الدوام من فوائد عظيمة يحبها الله تعالى، ولذلك رغّب الشارع في الزواج، وحذر من التبتل، وشرع الوسائل التي يكون بها دوام النكاح، وحذر من الطلاق وأمر بإمساك المرأة مع كراهتها {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. أما مجرد قصده للنكاح دون قصد الدوام، فهذا يشاركه فيه نكح التحليل والمتعة؛ حيث إن كلاً منهم قاصد للنكاح وراغب فيه، ولكن لا يريد الدوام، فلو كانت الرغبة أو قصد النكاح وحدها مسوغة للنكاح، لكان نكاح التحليل وزواج المتعة جائزًا أيضًا. ولكن مراد الشارع - والله أعلم - من النكاح قضاء الوطر على الدوام، وهو الذي يحصل به مقاصد الشريعة من إعفاف كل من الزوجين وإنجاب الأولاد، إلى غير ذلك مما ذكرناه سابقًا (¬1). قد يقال: هناك فرق بين نكاح التحليل والزواج بنية الطلاق هو وجود شرط الطلاق في نكاح التحليل. قلنا: هذا إذا وجد شرط، ولكن ربما يوجد زواج التحليل بدون شرط، وهذا لا يجوز عند كثير من العلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. على أن العلة في تحريم نكاح المتعة ونكاح التحليل ليست اشتراط الطلاق لذاته؛ بل حرم الشرط في هذا النكاح؛ لأنه يتعارض مع مقاصد الشريعة في النكاح التي ذكرنا معظمها مرارًا، والله أعلم. ¬

(¬1) تقدم ذكره ص71 وما بعدها وص106 وما بعدها.

قوله رحمه الله تعالى: «لكن لا يريد دوام المرأة، وهذا ليس بشرط» (¬1). قلت: نعم؛ ليس بشرط، ولكن وجود هذا المقصد يضر بالمقصد الأصلي الذي من أجله شرع النكاح. ويرجع على مقصود صاحب الشرع بالإبطال. قال ابن القيم: «وكل شرط أو علة أو ضابط يرجع على مقصود الشارع بالإبطال كان هو الباطل المحال» (¬2). كيف لا وهو يخفي هذا المقصد عن المرأة وأوليائها خوفًا من عدم موافقتهم؟ ولو صرح لهم بذلك، ووافقوه على ذلك، لبرزت فيه صورة نكاح المتعة ظاهرة. وقوله رحمه الله تعالى: «فإن دوام المرأة معه ليس بواجب؛ بل له أن يطلقها». قلت: فرق بين أن يتزوج إنسان بنية دوام العشرة؛ ثم لا يوفق لما أراده؛ لأن القلوب بيد الله، وبين إنسان دخل على نية عدم الدوام؛ بل ليقضي منها وطرًا عاجلاً أو منفعة زمنًا ما؛ ثم يطلقها ليذهب إلى أخرى. فالأول لا أحد يقول بعدم صحة نكاحه ومشروعية طلاقه، والثاني كيف يقول بجواز نكاحه، وعدم الاستمرار والدوام ونية الطلاق موجودة قبل علم خلاف ذلك؛ أي: عدم الدوام والاستمرار لم يتزوج بها أصلاً، وأما إن حصل طلاق، فهو خلاف ما قصده أولاً عند العقد، وهو فعل مشروع له وحده؛ لأنه تخلص من ضرر عليه أو عليها، لذا شرعه الله تعالى لهما: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]. ¬

(¬1) ارجع إلى كلام الشيخ رحمه الله تعالى في ص48. (¬2) انظر: حاشية ابن القيم 1/ 81، ط الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.

قوله رحمه الله تعالى: «فإذا قصد أن يطلقها بعد مدة، فقد قصد أمرًا جائزًا، بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة تنقضي فيه بانقضاء المدة، ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا، فملكه ثابت مطلق، وقد تتغير نيته فيمسكها دائمًا، وذلك جائز له، كما أنه لو تزوج بنية إمساكها دائمًا ثم بدا له طلاقها، جاز ذلك، ولو تزوج بنية أنه إذا أعجبته وإلا فارقها، جاز ... » الخ. قوله رحمه الله تعالى: «قصد أمرًا جائزًا». قلت: لم يقصد أمرًا جائزًا، بل هذا شبيه بنكاح المتعة (¬1) من حيث قصد كل منهما الطلاق بعد مدة، وغاية ما في الأمر أن المتعة صرح فيها بالمدة في بعض صورها. وعدم التصريح بمدة في عقد الزواج ليس هو الذي يجعل الزواج مشروعًا في الواقع ونفس الأمر؛ بل هناك شروط، وانتفاء موانع لا بد من توفرها حتى يكون الزواج مشروعًا، لذا فإنا نقول: إن الزواج بنية الطلاق وجد فيه مانع يمنع من كونه مشروعًا، ألا وهو النية التي تنافي مقصد الشارع في النكاح، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات ... » الحديث (¬2)، فالنية كافية في تحريم العمل. ولا يقال: هذه نية ليس معها عمل، فإنا نقول: كم من إنسان يؤاخذ على نيته وهو لم يوجد منه عمل؛ بل قد قال شيخ الإسلام نفسه في مثل هذا: «الإرادة الجازمة إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام له ثواب الفاعل التام وعقاب الفاعل التام» (¬3). والمتزوج بنية الطلاق جازم على الطلاق وقادر عليه، فهو بمنزلة الفاعل التام. ¬

(¬1) كما قال الإمام أحمد، وقد سبق ذكره. (¬2) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وسبق تخريجه ص83. (¬3) «مجموع الفتاوى» 10/ 740.

أرأيت لو أن إنسانًا ذهب ليسرق متاعًا أو مالاً، ولكن لم يستطع السرقة، وآخر أمسك امرأة ليزني بها، فأحس بالرقيب، فولى هاربًا، ولم يقربها، فهل نقول: إنهما لا يؤاخذان على نيتهما؛ لأنهما لم يحصل منهما فعل؟! كلا؛ فكلاهما آثم، وإن لم يحصل منهما فعل. يشهد لهذا ما رواه أبو بكرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار»، قلت: يا رسول الله! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (¬1). ولا يقول قائل: «إن ما ذكرت حصل منهم محاولة للسرقة والزنى والقتل، والزواج بنية الطلاق لم يحصل فيه فعل. فإنا نقول: قد حصل منه فعل، وهو بحثه عن الزوجة، وإقدامه على هذا الزواج، وتملكه المرأة بهذه النية، كل ذلك فعل وإرادة جازمة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقولك «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، قال شيخ الإسلام: «من اجتهد على شرب الخمر وسعى في ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين، وهو كالشارب، وإن لم يقع فيه شرب، وكذلك من اجتهد على الزنى أو السرقة أو نحو ذلك ... » (¬2)، وقال ابن القيم: «قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نُزَّل صاحبه في الثواب والعقاب ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه في مواضع عدة، أحدها في كتاب الأيمان، باب «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما» فسماهم المؤمنين رقم (31) 1/ 120، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة رقم (288) 4/ 2213 كلاهما من طريق حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن فيس عن أبي بكرة رضي الله عنه. (¬2) «مجموع الفتاوى» 14/ 123، وهذا القول الذي قاله ابن تيمية رحمه الله يلزمه بالقول بتحريم الزواج بنية الطلاق.

بمنزلة الفاعل التام» (¬1). فهناك فرق كبير بَيَّنٌ في حكم الشرع بين النية مع العمل، والنية بعد حدوث العمل: فرجل دخل في صلاة رباعية على أنها صلاة ظهر، وبعد تكبيرة الإحرام نواها عصرًا، أو دخل فيها على أنها صلاة عصر ثم بعد ذلك نواها ظهرًا، فهل يصح ذلك؟ ورجل نوى عند طلوع الفجر صيام يوم الإثنين وبعد الإمساك نوى أن يكون عن يوم من رمضان، فهل يجزيه صيام هذا اليوم عن يوم واجب عليه من رمضان؟ ورجل تصدق بمال تطوعًا، ثم بعد ذلك نواه عن زكاة واجبة عليه، فهل يجزيه ذلك؟ إذًا؛ فعدم تفريق شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بين وجود نية الزواج بنية الطلاق عند العقد وبين وجود نية الطلاق بعد العقد، غير مستقيم، والله أعلم. وأما قوله رحمه الله تعالى: «وهذا ملكه ثابت مطلق، وقد تتغير نيته فيمسكها دائمًا». قلت: إنما حصل ثبوت ملكه على الزوجة مطلقًا بسبب ستره وإخفائه قصده عن الزوجة وأوليائها، ولو صرح بنيته، ما حصل له ملك أبدًا، ولو حصلت الموافقة بعد التصريح، لكان نكاح متعة. وأما قوله رحمه الله تعالى: «وقد تتغير نيته فيمسكها». هذا إذا تغيرت النية، ولكن؛ إذا لم تتغير النية، ألا يكون مبررًا لمنعه (¬2)؟ ثم هذا منقوض بنكاح التحليل والمتعة فإنه قد تتغير نيته ولا قائل بجوازه لهذا، وأما كون الطلاق جائزًا له. هذا فيمن دخل بنية الاستمرار، ثم وجدت نية الطلاق بعد ذلك، أما من دخل من أول العقد على نية الطلاق فهذا أمر آخر. ¬

(¬1) «طريق الهجرتين» 1/ 532، و «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» 1/ 268. (¬2) قد سبق مناقشة هذا الكلام ص79.

وأما قوله رحمه الله تعالى: «كما أنه لو تزوج بنية إمساكها دائمًا، ثم بدا له طلاقها، جاز ذلك». قلت: هذا قياس مع الفارق؛ لأنه إذا تزوجها بنية إمساكها دائمًا، فإنه بعمله هذا وافق مقصود الشرع، ووافق الأصل في الزواج، إذ الأصل في كل متزوج أن يتزوج المرأة ليمسكها دائمًا لا ليتزوجها من أجل أن يطلقها، فهو بعمله هذا وافق ما شرع الله تعالى له، بخلاف الزواج بنية الطلاق، فإنه خلاف مقصود الشرع. وقوله رحمه الله تعالى: «ولو تزوجها بنية أنها إذا أعجبته، أمسكها، وإلا فارقها ... » الخ (¬1). أقول: نعم؛ إذا تزوجها بنية أنها إذا أعجبته أمسكها وإلا فارقها، جاز له ذلك؛ لأنه فعل بذلك ما شرع الله له في الزواج؛ لأنه تزوجها ابتداءً بنية أنه يعيش معها على الدوام، وما كان يفكر بغير هذا، ولو ظن - بل لو خالجه شك - في أن هذا الزواج لا يستمر، وأنه قد توجد أسباب تمنع دوامه، لَمَا أقدم على الزواج بها، وهذا هو الأصل في كل زواج، ولكن، لو لم توافقه، ولم تحصل العشرة التي يريدها، له أن يطلقها، فهذا أمر مشروع له بالإجماع، فكل إنسان يتزوج امرأة، في باله أنه يجوز له إذا أحبها أمسكها، وإن كرهها طلقها، ولكن هل إذا جاز له ذلك يجوز له أن يتزوجها بنية الطلاق بعد انتهاء غرضه ولا يريدها بعد ذلك زوجة له، فإنها لو علمت الزوجة أو وليها بهذه النية رضيا بهذا النكاح. وما الفرق إذًا بين هذا النكاح ونكاح المتعة والتحليل في القصد، إذ كل من المتزوج متعة، والمحلل والمتزوج بنية الطلاق، كل منهم لا ¬

(¬1) ارجع إلى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في ص48 من هذا الكتاب. وقد كررنا الجواب عن هذه الشبهة ص80.

يريد الزوجة على الدوام، ولا يحبها محبة الأزواج، ولا يعاشرها معاشرة الأزواج؛ بل همّه قضاء وطره في بلاد الغربة مثلاً، حتى يذهب إلى زوجته التي يحبها ويريد الأولاد منها وحدها، أو حتى يتزوج الزواج الحقيقي من المرأة التي يختارها حسب المواصفات المطلوبة عرفًا وشرعًا زواجًا بنية الدوام والاستمرار. لذا؛ نجد الكثير ممن يتزوج بنية الطلاق أو بالمتعة لا يسأل عن حسب المرأة ولا نسبها، ولا يسأل عن كونها ولودًا أو ودودًا، ولا عن دينها؛ بل منهم من لا يسأل عن عفتها، وربما كانت غير عفيفة، كل ذلك ربما لا يهمه، وربما لا يفكر فيه، وبعد هذا، فلا أشك في أنه شبيه بنكاح المتعة. غاية ما في الأمر أن نكاح المتعة صرح فيه بقصده، وهذا كتم نيته وقصده وطلقها بعد تمام المدة، والأول قيل له فارقها بعد تمام المدة المشروطة. وقول الشيخ رحمه الله تعالى: «وقد كان الحسن بن علي كثير الطلاق، فلعل غالب من تزوجها كانت في نيته أن يطلقها بعد مدة، ولم يقل أحد إن ذلك متعة» (¬1). قلت: إذا صح ما نسب إليه من كثرة الطلاق رضي الله عنه (¬2)، فلا يجوز لنا أن نحمل عمله في كثرة زواجه وطلاقه على الزواج بنية الطلاق، فهذا قول عليه بلا علم، إذ لا يعلم ما في قلبه إلا الله سبحانه وتعالى، وحاشاه أن يفعل ذلك، ولو قدر أنه أخبر أحدًا أن نيته بذلك، الزواج بنية الطلاق، لقلنا: إن هذا فعل صحابي لا يقبل إذا تجرد عن الدليل، فكيف إذا خالف مقاصد الشريعة في النكاح؟! وكيف وقد خالفه والده على رضي الله عنه وأنكر ¬

(¬1) ارجع إلى قوله رحمه الله في ص49. (¬2) وسيأتي بيان عدم صحة ذلك عن الحسن رضي الله عنه لا من حيث الإسناد ولا من حيث المعنى في ص127 وما بعدها.

عليه كما سيأتي ... والذي يرجع إلى نصوص الشريعة وعموماتها يعلم أن هذا العمل لا يجوز، لمنافاته مقاصد الشريعة في النكاح، ولكن الحمد لله أنه لم ينقل أحد عن الحسن القول بجواز ذلك بسند صحيح. وقول الشيخ رحمه الله تعالى: «وهذا أيضًا لا ينوي طلاقها عند أجل مسمى؛ بل عند انقضاء غرضه منها ومن البلد الذي أقام به، ولو قدر أنه نواه في وقت بعينه، فقد تتغير نيته فليس في هذا ما يوجب تأجيل النكاح وجعله كالإجارة المسماة ... » الخ (¬1). قلت: لا فرق - والله أعلم - بين أن ينوي طلاقها بعد أجل مسمى عند انقضاء غرضه منها أو من البلد الذي أقام به، فالكل حصل فيه زواج بنية الطلاق، ولم يحصل فيه زواج بنية الدوام. فالزواج بنية الدوام هو مقصد الشارع من النكاح، والزواج بدون نية الدوام لا يريده الشارع، ولا يرضاه، ولذلك حرم الشارع نكاح التحليل ونكاح المتعة، وأمر بحسن معاشرة النساء وحث عليها، كما أمر النساء بذلك، وعالج الخلاف والنشوز، وحذر من الطلاق، كل ذلك من أجل أن يدوم النكاح. وأما قوله رحمه الله تعالى: «ولو قُدَّر أنه نواه في وقت بعينه، فقد تتغير نيته ... » الخ (¬2). قلت: إن الأحكام إنما تناط بالنية وقت مباشرة العمل أو نية العمل لو قدر عليه. مثال النية وقت مباشرة العمل: تعيين نية الصلاة عند تكبيرة الإحرام. وأما نية العمل لو قدر عليه: فكنية العادم للمال الصدقة إذا رزقه الله مالاً أو الحج إذا أقدره الله عليه، فإنه يثاب كل منهما على نيته الصالحة. ¬

(¬1) ارجع إلى قوله رحمه الله في ص49. (¬2) ذكرنا هذا عنه رحمه الله في ص49.

أرأيتم لو أن أحدًا خلا بامرأة، فهل نمكنه من ذلك لعله أن يتزوجها؟ ولو أن رجلاً نظر إلى محاسن امرأة، فهل نمكنه من هذه المعصية بحجة أنه ربما يتزوجها؟ إذًا؛ فالأصل في هذا الرجل أنه تزوج المرأة بنية التوقيت، لا بنية الدوام. وكون نيته قد تتغير خلاف الأصل، فنعامله بنيته عند البدء بعقد النكاح، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». وتغير النية أمر نادر وقليل؛ بل الرجل الذي تزوج امرأة بنية الطلاق يبذل كل الأسباب والمحاولات المتيسرة التي تجعلها لا تبقى عنده بعد انتهاء غرضه. وقول الشيخ رحمه الله: «فأما حدوث نية الطلاق إذا أراد أن يطلقها بعد شهر، فلم نعلم أن أحدًا قال: إن ذلك يبطل النكاح، فإنه قد يطلق وقد لا يطلق عند الأجل، كذلك الناوي عند العقد في النكاح، وكل منهما يتزوج الآخر إلى أن يموت، فلا بد من الفرقة». قلت: بين نية الطلاق بعد الزواج ونية الطلاق عند عقد النكاح فرق عظيمٌ وبونٌ شاسعٌ: فالأول: نوى ما أباحه له الشارع، إذ المصلحة والحكمة تقتضي إباحة ذلك، والله عليم حكيم. والثاني: نيته لا توافق مقاصد الشريعة في الزواج، إذ الأصل في الزواج الدوام والاستمرار، لما في ذلك من المصالح العظيمة والحكم الجليلة الكثيرة، وقد قدمنا الرد على مثل هذا القول. وكون كل واحد من الزوجين يتزوج الآخر إلى أن يموت، فالفرقة معلومة من الطرفين، هذا أمر لا مناص عنه، وهل تمنع الشريعة مثل هذا الزواج الذي يعلم فيه كل من الطرفين أن الزواج مؤجل إلى فرقة الموت؟ كلا.

أما الزواج بنية الطلاق، فعمل أقدم عليه الزوج وحده بنيته، لا أقول: الغالب عنده أنه يطلقها عند انتهاء المدة أو انتهاء غرضه؛ بل اليقين في نفسه الذي بيَّته أنه يطلقها، فكيف يقاس هذا على الفرقة بالموت؟ فالنية في الفرقة بالموت حاصلة من الطرفين بخلاف الزواج بنية الطلاق فإنها حاصلة من الزوج وحده. فلو جاز لنا ذلك، لأجزنا النكاح الذي ينوي فيه كل من الزوجين الطلاق بعد مدة أو بعد انتهاء الغرض، فيتزوجان وهما يعلمان أنهما سيفترقان بعد انتهاء غرض الزوج، وهذا محو نكاح المتعة. وقوله رحمه الله تعالى: «والرجل يتزوج الأمة التي يريد سيدها عتقها، ولو أعتقت، كان الأمر بيدها، وهو يعلم أنها لا تختاره، وهو نكاح صحيح، ولو كان عتقها مؤجلاً، أو كانت مدبرة وتزوجها، وإن كانت لها عند نهاية مدة الأجل اختيار فراقه ... » إلى أن قال: «ثم إذا عرف أنه بعد مدة يزول اللزوم من جهتها، ويبقى جائزًا لم يقدح في النكاح» (¬1). قلت: ما ذكره رحمه الله تعالى يختلف كثيرًا مع الزواج بنية الطلاق، ذلك: أولاً: أن زواج الحر بالأمة لا يجوز إلا بشروط معلومة، وما ذلك والله أعلم إلا لأجل ما ذكره الشيخ رحمه الله، ولما في ذلك من ذلة للحر، وعدم كمال إعفافه، وتعريض ولده للرق، وغير ذلك من الأحكام. ثانيًا: أن عتق الأمة المتزوجة حرًا لا يعطيها خيار فسخ النكاح بعد حريتها في أصح قولي العلماء. وهو قول جمهور أهل العلم وقول ابن عمرو وابن عباس ومالك والشافعي والإمام أحمد وابن قدامة والنووي ¬

(¬1) ارجع إلى كلامه ص50 من هذا الكتاب.

وابن حجر (¬1). ثالثًا: في حال زواج الرقيق للأمة، فإنا نقول: إن إرادة السيد العتق مجرد إرادة، قد تتحقق وقد لا تتحقق، بينما المتزوج بنية الطلاق قد عزم على الطلاق. وفي حال زواجه للأمة المدبرة أو المؤجل عتقها، نقول: إن هذه الفرقة توجد من قبل الزوجة وحدها، بينما تحصل الفرقة في الزواج بنية الطلاق من الزوج وحده ففرق بينهما. وفرق بين أن تحصل الفرقة منها وهو يعلم ذلك منها، وبين من يدخل في عقد زواج من امرأة يبيّت لها النية السيئة، يبيّت لها قاصمة الظهر، وهو الطلاق وهي لا تعلم ذلك. أليس هذا خيانة منه لها، ومَن من النساء تقبل مثل هذا الزواج؟ لو علمت منه هذا وقبلت، كان نكاح متعة. رابعًا: كونه يعلم أن الزوجة لا تختاره، هذا لا يلام عليه، إذ هو فعل ما طُلِبَ منه شرعًا، وهو زواجه، ليحقق ما يقدر عليه من مقاصد الشريعة في النكاح. فإن قيل: إن تزوجها بنية أن تفارقه هي؛ حيث يعلم من حالها قبل الزواج أنها لا تريده، فهذا شبيه بالزواج بنية الطلاق. قلت: كلا؛ بل دخل بها بنية أن تفارقه هي، لا بنية أن يفارقها هو، وفرق بين الصورتين. خامسًا: ثم هذه الصورة التي فرضها شيخ الإسلام رحمه الله صورة نادرة، أعني: اختيار المرأة بعد عتقها فراق زوجها، بخلاف الزواج بنية الطلاق، فإن الغالب أن من تزوج امرأة بنية الطلاق ينفذ نيته، كما هو واقع كثيرًا. ¬

(¬1) انظر: «المغني» 7/ 167، و «شرح النووي على صحيح مسلم» 10/ 141، و «فتح الباري» 9/ 407.

وقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والنكاح مبناه على أن الزوج يملك الطلاق من حين العقد، فهو بالنسبة إليه ليس بلازم، وهو بالنسبة إلى المرأة لازم، ثم إذا عرف أنه بعد مدة يول اللزوم من جهتها ويبقى جائزًا (¬1)، لم يقدح في النكاح». قلت: لا يلزم من كون الزوج يملك الطلاق من حين العقد أن يكون ذلك مبررًا للزواج بنية الطلاق، فإن الله ملكه ذلك، ولكن أمره بإمساكها، وشرع الوسائل التي تديم هذا النكاح، وحذر من الوسائل التي تقطع هذا الدوام، فبغَّض إليه الطلاق وحذره منه، لما في ذلك من مصادمة لمقاصد الشرع في الزواج. وكون الزوج يعلم أنه بعد مدة يزول اللزوم من جهة الزوجة، ويبقى جائزًا من جهتها، لا يضر الزوج إذا هو فعل ما طلب منه شرعًا. وقول الشيخ رحمه الله تعالى: «ولهذا يصح نكاح المجبوب والعنين وبشروط يشترطها الزوج، مع أن المرأة لها الخيار إذا لم يوف بتلك الشروط. فعلم أن مصيره جائزًا من جهة المرأة لا يقدح، وإن كان هذا يوجب انتفاء كمال الطمأنينة من الزوجين، فعزمه على الملك ببعض الطمأنينة، مثل هذا إذا كانت المرأة مقدمة على أنه إن شاء طلق، وهذا من لوازم النكاح، فلم يعزم إلا على ما يملكه بموجب العقد، وهو كما لو عزم أن يطلقها إن فعلت ذنبًا أو إذا نقص ماله ونحو ذلك، فعزمه على الطلاق إذا سافر إلى أهله، أو قدمت امرأته الغائبة، أو قضى وطره منها، من هذا الباب» (¬2). جوابنا على ما ذكر الشيخ رحمه الله رحمة واسعة: نقول: نعم، يصح نكاح المجبوب والعنين، ومع الشروط التي ¬

(¬1) كما في قصة بريرة لما عتقت كان العقد في حقها جائزًا. (¬2) ارجع إلى كلام الشيخ في ص51.

يشترطها كل من الزوجين أو أحدهما، وللمرأة الخيار باستمرار النكاح أو عدمه إذا لم يف لها بالشروط، ولكن كل هذا لا يكون مبررًا لمشروعية الزواج بنية الطلاق؛ لأنها حينما تزوجت المجبوب أو العنِيَّن تزوجته برضاها، وكذلك إذا لم يف لها بالشروط، فكل من الزوجين عند العقد يتوقع عدم استمرار النكاح، ولكن هذا التوقع مجرد احتمال، بخلاف من تزوج امرأة وهو يريد طلاقها: إذا سافر إلى أهله، أو إذا حضرت زوجته الغائبة، أو إذا شُفيت زوجته المريضة، أو غير ذلك، فإن الزوج دخل بنية عدم الاستمرار، وهو لا يريد الاستمرار ولا يرغب فيه، والزوجة المسكينة ليس عندها علم بما يبيته الزوج لها، بخلاف قبولها الزواج من المجبوب أو العنين. وأما قوله رحمه الله: «مثل هذا إذا كانت المرأة مقدمة على أنه إن شاء طلق، وهذا من لوازم النكاح ... » إلخ. فجوابنا على ذلك: أن هذا قياس مع الفارق (¬1)، ذلك أن الزواج شرع مرادًا به الاستمرار والدوام، فالأصل فيه البقاء، وإن كان الشارع أباح الطلاق لمصلحة كل من الزوجين، فحينما أقدمت المرأة على الزواج ليس في بالها إلا الدوام والاستمرار، وليس في بال أوليائها إلا ذلك؛ بل من علم بالزواج من الناس ليس في بالهم إلا الدوام والاستمرار، ولو علمت أنه سيطلقها بعد سفره أو قدوم زوجته أو شفائها من مرضها، لما أقدمت، ومن من النساء أو من الأولياء يرضى بمثل هذا الزواج؟ وليس ذلك كعلمها بأنه سيطلقها إن فعلت ذنبًا أو نقص ماله ونحو ذلك؛ لأنها في هذا الحال أقدمت على الزواج منه لظنها أنها لا يحصل منها شيء بسبب الطلاق؛ بل تحسن الظن بالله، وترجوه دوام ¬

(¬1) إباحة الشارع الطلاق دليل على أن الأصل في الزواج الدوام والاستمرار، والطلاق مخالف لذلك.

النكاح، وتطرح الظنون والأوهام، وتفعل الأسباب التي تثبت هذا الزواج، وكون الرجل يجوز له الطلاق ويملكه، ليس معنى هذا أن الطلاق هو الغاية من النكاح؛ بل الغاية الدوام والاستمرار، وشرع الطلاق كما قلنا للتخلص مما قد يحصل لأحد الزوجين من الضرر، دفعًا للحرج، ولقد حرص الشارع الحكيم على تثبيت المحبة والألفة بين الزوجين ليحصل الدوام بينهما، بما شرعه من حث على إمساك الزوجة مع الكراهية، وما شرعه من وسائل لحل المشكلات الزوجية، وتحذيره من الطلاق، فإذا كان ذلك معلومًا، فإن إقدام المرأة على أن الزوج إن شاء الطلاق طلق لا يكون مسوغًا للرجل أن يخدع المرأة فيتزوجها بنية الطلاق (¬1). وقول الشيخ رحمه الله: «فعزمه على الطلاق إذا سافر إلى أهله أو قدمت امرأته الغائبة أو قضى وطره منها، من هذا الباب». أقول: في كلام الشيخ نفسه ما يشعر الإنسان بالفرق بين النكاحين والفرق بين الزوجتين. فالأولى: لا شك أنها زوجته، وأنها أهله حقيقة، وهو الحق الذي أظهره الله على لسان الشيخ رحمه الله، فقد قال رحمه الله: «إذا قدمت امرأته أو أهله». وأما الثانية: فهي في الحقيقة ليست أهله ولا امرأته، فهي إذًا أجنبية، وعلاقته بها علاقة مؤقتة، علاقة شهوانية، كما قال الشيخ: «أو قضى وطره منها»، ولذلك تركها حينما جاءت امرأته أو سافر إلى أهله أو قضى وطره منها. فلعل القارئ أدرك الفرق الكبير بين الزوجتين والنكاحين من خلال ما سطَّره الشيخ نفسه رحمه الله تعالى. ¬

(¬1) سبق أن ناقشنا مثل هذا الكلام ص78، 79.

وقول الشيخ رحمه الله تعالى: «وزيد كان قد عزم على طلاق امرأته، ولم تخرج بذلك عن زوجتيه؛ بل ما زالت زوجته حتى طلقها ... » إلى أن قال: «وبكل حال، لم يكن عزم زيد على الطلاق قادحًا في النكاح في الاستدامة، وهذا مما لا نعرف فيه نزاعًا، وإذًا، ثبت بالنص والإجماع أنه لا يؤثر العزم على طلاقها في الحال» (¬1). قلت: ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من نية زيد طلاق زوجته زينب واستمرار النية معه حتى طلقها ليس دليلاً لما ذهب إليه من جواز النكاح بنية الطلاق. إذ أن زيدًا حينما عقد على زينب لم تكن نيته الطلاق، وإنما وجدت النية فيما بعد، وفرق بين أن يتزوج المرأة يريد دوام النكاح ثم بعد ذلك تتغير هذه النية فينوي طلاقها، وبين إنسان عقد على امرأة لا يريد دوام النكاح معها؛ بل نوى عند عقد النكاح طلاقها بعد مدة. فالأول لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، وهذا مما لا يعرف فيه نزاع؛ بل قد ثبت بالنص والإجماع أنه لا يؤثر العزم على طلاقها، كما قال الشيخ رحمه الله. ولكن أقول: ذلك بشرط أن توجد النية بعد تمام عقد النكاح. وأما الثاني (وهو جود نية الطلاق بعد مدة، عند عقد النكاح)، فهذا هو محل الخلاف، وبينهما فرق كبير. وقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «ولا يلزم إذا أبطله شرط التوقيت أن تبطله نية التطليق فيما بعد، فإن النية المبطلة ما كانت مناقضة لمقصود العقد، والطلاق بعد مدة أمر جائز لا يناقض مقصود العقد إلى حين الطلاق» (¬2). قلت: إن المسألتين حكمهما واحد، فهما كما يقال: وجهان لعملة واحدة، فنية التطليق عند العقد غير جائزة، وذلك لمناقضته مقصود الشرع ¬

(¬1) ارجع إلى كلام الشيخ رحمه الله في ص51. (¬2) ارجع إلى كلام شيخ الإسلام ص52 من هذا الكتاب.

وما خالف مقصود الشرع فهو باطل، ونية الدوام والاستمرار عند العقد من مقاصد الشريعة، وبدوام النكاح واستمراره تحصل الحِكَمُ العظيمة من شرعية النكاح، وقد سبق أن ذكرنا نماذج من هذه الأسرار والحِكَمُ العظيمة في مشروعية النكاح (¬1). وأما قول الشيخ رحمه الله تعالى: «بخلاف المحلَّل، فإنه لا رغبة له في نكاحها ألبتة؛ بل في كونها زوجة الأول، ولو أمكنه ذلك بغير تحليل، لم يحلها هذا، وإن كان مقصوده العوض، فلو حصل له بدون نكاحها، لم يتزوج» (¬2). فجوابنا عليه: نقول: نعم، ربما لا يكون عند بعضهم رغبة في نكاحها، ولكن توجد عنده شهوة عند الوطء، والكثير منهم تكون عنده رغبة في زواج التحليل، ولكن هو زواج لا يريد به الدوام أو الاستمرار؛ بل يطلقها بعد انتهاء الغرض، كذلك الزواج بنية الطلاق، فالزواج في كليهما يتعارض مع مقاصد الشريعة في مشروعية النكاح. أرأيتم لو أن رجلاً تزوج امرأة بنية تحليلها لزوجها، ولم يشترط ¬

(¬1) انظر ص71 و 106 من هذا الكتاب. (¬2) ارجع إلى كلامه في ص52 من هذا الكتاب.

عليه أحد أن يطلقها؛ بل لم يعلم بنيته أحد إلا الله، فهل يجوز له هذا النكاح؟ هذا ما لا يجيزه شيخ الإسلام نفسه رحمه الله تعالى. تعال معي لنقرأ ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في ذلك، يقول: «وإن حصل بذلك تحليلها للأول، فهو لا يكون محللاً إلا إذا قصده أو شرط عليه شرطًا لفظيًا أو عرفيًا، سواء كان الشرط قبل العقد أو بعده. وأما إذا لم يكن فيه قصد تحليل ولا شرط أصلاً، فهذا نكاح من الأنكحة» (¬1)، انتهى. قلت: إن قوله رحمه الله: «أو عرفيًا»، دليل على تحريم النكاح بنية الطلاق، إذا عُرِفَ بين الناس أن مثل هذا الرجل يتزوج بنية الطلاق، وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بكراهة مثل هذا النكاح. وخلاصة القول: ولعلنا من خلال جوابنا على ما أورده الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - من أدلة، نخلص إلى القول بأن شيخ الإسلام رحمه الله له في حكم الزواج بنية الطلاق رأيان: أحدهما: القول بجوازه كما مر بنا. والقول الآخر: كراهته، إذ قال رحمه الله في الفتاوى الكبرى: «وإن نوى طلاقها حتمًا عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك وفي صحة النكاح نزاع ... » (¬2). وقد سبق من خلال استدلاله أنه يلزمه أن يقول بتحريمه، فقد قال رحمه الله في نكاح التحليل: «ولا يكون محللاً إلا إذا قصده أو شرط عليه شرطًا لفظيًا أو عرفيًا سواء كان الشرط قبل العقد أو بعده. وأما إذا ¬

(¬1) ذكرنا ذلك عنه في ص52 من هذا الكتاب. (¬2) «الفتاوى الكبرى» 4/ 72 و 73.

لم يكن فيه قصد تحليل ولا شَرط أصلاً فهذا نكاح من الأنكحة»، فقوله رحمه الله إذا قصده؛ أي: إذا نوى بنكاحه التحليل دون شرط عليه ولا علم لأحد قصده - فهذا اعتراف من شيخ الإسلام رحمه الله بأن النية لها أثر في الحكم الشرعي. إذًا فما الفرق بين نية المحلل الذي حرم عليه هذا النكاح بمجرد نيته، وبين الزواج بنية الطلاق؟ لا فرق بينهما فيلزم شيخ الإسلام رحمه الله القول بتحريم هذا النكاح وبطلانه قياسًا على بطلان نكاح من نوى التحليل (¬1). بل قال - رحمه الله تعالى - في موضع آخر: «والإرادة الجازمة إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام له ثواب الفاعل التام وعقاب الفاعل التام» (¬2). وقال رحمه الله في موضع آخر: «والنكاح المبيح هو النكاح المعروف عند المسلمين وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين الزوجين مودة ورحمة» (¬3). انتهى. والناس قديمًا وحديثًا، عجمًا وعربًا، إنسًا وجنًا لا يعرفون إلا هذا النكاح الذي يوافق مقاصد الشريعة في مشروعية الزواج. ولو أن شيخ الإسلام رحمه الله رأى ما عليه الناس اليوم من التلاعب بأعراض النساء وما يبيته كل واحد يتزوج بهذا الزواج، من غش وخداع للمرأة وأوليائها. وما جره ذلك من مفاسد عظيمة، أخلاقية، واجتماعية، واقتصادية وصحية وغير ذلك، أقول لو رأى ذلك لما قال بجواز مثل هذا النكاح؛ لأن من القواعد العامة المسلم بها عند شيخ الإسلام رحمه الله أن الأمور بمقاصدها، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ومن أصول شيخ الإسلام رحمه الله القول بسد الذرائع المفضية إلى مفاسد. ¬

(¬1) «مجمع الفتاوى» 32/ 93، 94. (¬2) «مجموع الفتاوى» 10/ 740. (¬3) «مجموع الفتاوى» 32/ 93، 94.

أدلة المجوزين لهذا النكاح من المتأخرين

فصل أدلة المجوزين لهذا النكاح من المتأخرين وقد انتصر بعض المتأخرين لرأي المجوزين، فاستدلوا بما يلي: الدليل الأول: إن الزواج ضرورة تدعو إليه الحاجة، ومن القواعد الشرعية أن الضرورات تبيح المحظورات. الجواب: أقول: ما ضابط الضرورات التي تبيح المحظورات؟ أهي الحاجة إلى الشيء خوفًا من الوقوع بضده؟ كلا ليس ذلك ضابط الضرورة، فالحاجة إلى الشيء منها ما يصل إلى درجة الضروري، ومنها ما يصل إلى درجة الحاجي، أو بعبارة أخرى منها ما هو ضروري، ومنها ما ليس بضروري. فضابط الضرورة التي تبيح المحظور هي ما يترتب على تركها ضياع الدين، أو النفس، أو العقل، أو المال، أو النسب، أو العرض، كالجوع الشديد الذي لا يمكن دفعه بأي وسيلة من الوسائل إلا بالأكل من الميتة، أو دفع غصة بالإنسان لا يمكن دفعها بأي وسيلة إلا بشربة مقدار ما يدفع الغصة من الخمر، أو إكراه على النطق بكلمة الكفر لا يمكن دفعه إلا بالنطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان. فهل يا ترى الزواج بنية الطلاق من هذا النوع؟ كلا، فإذا كان هو في حاجة إلى الزواج ومضطرًا إليه لماذا لا يتزوج بنية الدوام والاستمرار لا بنية الطلاق، ثم هو بعد ذلك بالخيار؛ لأن تكاليف الزواجين واحدة والمؤنة واحدة.

الدليل الثاني: إن الزواج بنية الطلاق قد تدعو إليه ضرورة وحاجة بعض الناس كمن ابتعث لدراسة أو مهمة، أو تمثيل لبلاده أو تجارة في بعض البلدان التي قد يتعرض فيها الإنسان للفتنة. فهو بين أمرين، إما أن يقع في الزنا وإما أن يتزوج بنية الطلاق. فتعين عليه ارتكاب أدنى المفسدتين دفعًا لأعلاهما. الجواب: نقول: متى غلب على ظنه الفتنة والوقوع في الزنى فإنه لا يجوز له السفر إلى بلاد الكفر، وقد ذكر العلماء لجواز السفر إلى بلاد الكفر شروطًا منها: 1 - لا يجوز السفر إلى بلاد الكفر إلا في الضرورات القصوى بعد التأكد من أن الإيجابيات أكثر من السلبيات، أو بعبارة أخرى أن المصلحة في السفر أعظم من المفسدة، فإن ترجحت المفسدة حرم السفر. 2 - أن يكون عنده حصانة علمية وعقيدة راسخة وفكر نيَّر. 3 - أن يكون صالحًا تقيًا محافظًا على شرائع الإسلام مبتعدًا عن محارم الله. 4 - إذا سافر يجب عليه أن يبتعد عن مواطن الفتنة، وأسباب مهاوي الرذيلة من اختلاط، وخلوة محرمة، ومسلك مشين، وأصدقاء السوء، ويغض بصره، ويحفظ لسانه. 5 - ربط الشباب بمراكز إسلامية والحرص على الرفقة الطيبة والجلساء الصالحين. 6 - يأخذ معه زوجته إن كان متزوجًا، إن تيسر له ذلك، ,إلا تزوج بنية الدوام سواء كان ذلك في بلاده أو في بلاد الغربة إذا كان مستطيعًا

زواجًا بنية الدوام والاستمرار؛ أي: ينوي عند عقد النكاح أن تكون زوجته دائمًا في بلاد الغربة، وفي بلده يريد بزواجه تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج من غض البصر، وإحصان فرجه وفرجها، وأن تكون سكنًا له ويكون سكنًا لها، وتكون لباسًا له ويكون لباسًا لها على الدوام، حريصًا على تحقيق المودة بينهما، وحصول الولد، مستجيبًا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكاثرة الأمم يوم القيامة، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم» (¬1). فإن لم يستطع فليلجأ إلى الاستعفاف استجابة لقول الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، ويستعين على ذلك بعد اللجوء إلى الله والتضرع إليه، وسؤاله العون على العفة، وإحصان الفرج بالصيام، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (¬2). ومع ذلك فإنه لا يكفي زواجه الأمن من الفتنة مع وجود أسبابها، حتى ولو كان زواجًا بنية الدوام والاستمرار فضلاً عن الزواج بنية الطلاق. وإلا فما فائدة أمر الشارع للرجل والمرأة بغض البصر، وإحصان الفرج، وأمر المرأة بالحجاب ونهيها عن إبداء الزينة، وعن الخلوة بالمرأة والسفر بلا محرم، والخضوع بالقول، وهل الأمر خاص بمن لم يتزوج وبعد الزواج يباح له ذلك كله. وقول المجيزين إن الزواج بنية الطلاق قد تدعو إليه ضرورة وحاجة بعض الناس، اعتراف من المخالف بأن الزواج بنية الطلاق لا يجوز، ¬

(¬1) سبق تخريجه ص17 حاشية 1. (¬2) سبق تخريجه، رواه الجماعة.

وإنما جاز للضرورة إن سلمنا له ذلك، فإنا نقول إن الزواج المذكور لا يحقق الغرض الذي يريده الشارع من إشباع رغبته الجنسية، وإحصان فرجه، كلا، بل سيصيبه السعار الجنسي مما يراه من تلك المغريات من أجسام عارية واختلاط وخلوة، ونظرات مسعورة تلاحقه ويلاحقها لا يخلو منها مكان، قائلة له هيت لك، أترون زواجه هذا حتى ولو كان زواجًا دائمًا ومستمرًا أترونه يعصمه ويحصنه؟ الجواب معروف عند المنصفين العقلاء، فارتكاب الزواج هذا ليس هو أدنى المفسدتين. لأنه متى شاع مثل هذا الزواج حصل من المفاسد ما سبق أن ذكرناه، مؤيدًا بالأدلة الشرعية التي تؤيدها الفطرة السليمة والعقل السليم ... والله أعلم. الدليل الثالث: إن الزواج بنية الطلاق لم يرد في حكمه نص شرعي يدل على تحريم الزواج بنية الطلاق، ولا على إباحته. الجواب عن هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: قولهم إنه لم يرد في حكم الزواج بنية الطلاق نص شرعي يدل على تحريمه أو إباحته، أقول هذا قول على الله بلا علم، فإن الشارع لم يفرط في شيء مما يحتاجه الناس، يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، ... {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فإما أن يدل على تلك الأحكام بنص صريح، أو عن طريق سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن طريق الصحابة، أو عن طريق القياس والنظر في مقاصد الشريعة، أو غير ذلك من الأدلة. وإننا حينما رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لنعرف مقاصد الشريعة في النكاح، وجدنا أن ما جاء عن الشارع من مقاصد الشريعة في النكاح تدل على تحريم النكاح بنية الطلاق، فمن المعلوم أن المقصود من خلق الجن والإنس عبادة الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، إذًا لا بد من

وجود عابد يعبد الله، وهذا لا يحصل إلا بالنكاح. ومن هنا نفهم أن الوطء ليس غاية؛ بل هو وسيلة إلى الإنجاب، لذا أوجد الله غريزة الشهوة حتى تحصل الذرية. ومن ثم فإن الشارع الحكيم جعل أسبابًا ووسائل تنظم هذه الغريزة وتحفظها حتى لا تحصل الفوضى في المجتمع بوجود النسل، واختلاطه بين الرجال، فلا يعرف للولد أب يقوم برعايته وتربيته على الأخلاق والفضيلة والعفة (¬1)، وتعليم الإسلام حتى يتحمل مسؤولية الخلافة في الأرض، وبضياع الأولاد تحصل الفوضى العظيمة، وربما يتعرض النسل للانقراض، لذا شرع الله الزواج لمقاصد سامية، والمراد بالزواج الزواج الذي ينوي به صاحبه الدوام، فتعالوا معي لنعرف هل هناك دليل من الشارع على عدم مشروعية الزواج بنية الطلاق أو لا؟ أقول: إننا إذا رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لنعرف مقاصد الشريعة في النكاح وجدناه شرع لغايات عظيمة ومقاصد سامية شريفة ولا تحصل أو لا توجد على وجه أكمل إلا إذا كان ذلك الزواج يراد به الدوام والاستمرار، ولا شك أن الأَوْلى أن يحمل مراد الله على ما هو أكمل وأفضل. فمن مقاصد الشارع في مشروعية النكاح: 1 - السكن: كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، والمراد به السكن الكامل بين الزوجين، بما تحمله هذه الكلمة من معنى، سكن القلب وسكن الجوارح، وسكن الحواس، وسكن الفكر لكل من الزوجين، وهو الاستقرار الكامل ولا يكون كذلك إلا إذا كان مصحوبًا بالمودة والرحمة من الطرفين. فسكن المسافر في فندق ونحوه ¬

(¬1) وبهذا يعرف ضلال دعاة تجرد المرأة من أحكام الشرع.

لا يكون سكنًا مستقرًا ولذلك لا يتخذ الساكن فيه وسائل الدوام والاستقرار. وهل الزواج بنية الطلاق أو نكاح المتعة أو التحليل يكون سكنًا لكل من الزوجين؟ وهل يبذل الزوج وسائل الدوام والاستقرار لهذا الزواج؟ وهل توجد فيه المودة والرحمة وقد أضمر في قلبه عند بدء عقد النكاح الطلاق، ثم هو ينفذه بعد انتهاء غرضه؟ فأين الرحمة والمودة في هذا النكاح؟ وماذا نفهم من قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]؟ هل نفهم أن المراد أنكحوهم ليفرغوا شهوتهم ثم يطلقونهن؟ وإذا كانت نيته في الزواج الطلاق بعد إفراغ الشهوة، فهل يزول بعده تأيمهم؟ وهل هذا مقصود الشارع من مشروعية النكاح؟ وقد قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]، ألا يدل ذلك على أن الزواج بنية الطلاق غير مراد للشارع فكيف يكون لباسًا لها أو تكون لباسًا له إذا تزوجها بنية الطلاق، يتزوجها اليوم وغدًا يطلقها ويتزوج الأخرى بعدها ثم يطلقها، فكيف يحصل بذلك الستر والعفة. فلباسٌ لا يدوم مع صاحبه لا يستره، وفي المثل تقول العرب (ثوب العارية لا يستر)؛ لأنه لا يملكها المستعير فهو غير دائم عليه فسيأخذه صاحبه، فكذلك الزواج بنية الطلاق لا يستر كلاً من الزوجين لأنه لا يحصل به إعفاف؛ بل ربما يعرض الزوجة للسقوط، متى بقيت بدون زوج. وأيهما أكمل حالاً وأحب إلى الله الزواج الذي يراد به الدوام أو الزواج بنية الطلاق؟ لا شك أن الأول أكمل حالاً وأحب إلى الله، لذا يحمل مراد الله على الأكمل والأحسن إذ به تتحقق مقاصده من شرعية الزواج. وما الذي يدل عليه قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ

أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، فما المراد بالسكن؟ أليس هو ما يسكن الإنسان ويستره ويلجأ إليه للراحة، فهل مراد الشارع السكن الذي يسكنه الإنسان يومًا أو يومين أو زمنًا محدودًا يتركه إلى سكن آخر وآخر وآخر. ولذا يجدر بنا أن نحمل مراد الله في الزواج على أكمل حالة وأفضلها، في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}. 2 - ومنها الدوام والاستمرار: يقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. وفي ذلك دلالة على أن المراد بالمعاشرة بالمعروف حصول المودة والرحمة على وجه الدوام والاستمرار، بدليل ترغيبه تعالى الأزواج بإمساك زوجاتهم. وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} دليل على دوام النكاح لأن المعروف بين الناس جميعًا عربهم وعجمهم، مسلمهم وكافرهم، أن من يتزوج إنما يريد بزواجه الدوام؛ بل هذا أمر فطر الله عليه الإنس والجن، لو لم يكن ذلك مما فطر الله عليه الناس لما تحقق ما أراد الله من عمارة الكون كما أراد الله تعالى، ولو عرف بين الناس غير الدوام لكان نكاح متعة، فمعاشرة من يتزوج بنية الطلاق ليست معاشرة بالمعروف. ومما يدل على أن الأصل في النكاح هو الدوام والاستمرار قول الله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، أمر الله بالحكمين لإزالة الشقاق الذي وقع بينهما فعكر صفو حياتهما الذي ربما أزال استمرار الحياة الزوجية ورغبتهما في إصلاح النية بينهما حتى يوفق الله بينهما. ومعلوم ما سر

توفيق الله بينهما. فلا شك أن أعظم شيء هو استمرار الحياة الزوجية التي يترتب عليها سعادة الطرفين؛ بل ربما سعادة الأسر والمجتمع. وفي قوله تعالى: {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] دليل على الفرق بين الزواج بنية الطلاق والزواج بنية الدوام. فالزواج بنية الدوام توجد فيه النية الصالحة إذ بدأ الزواج بهذه النية الصالحة بنية الدوام، وعند وجود الحكمين يرغب كل منهما بدوام العشرة وزوال أسباب الخلاف التي تمنع من استمرار النكاح، لذا قال الله تعالى لهما ما دامت هذه نيتهما: {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}. أما الزواج بنية الطلاق، فقد بدأ الزوج النكاح بنية غير صالحة. بدأها بالخداع والخيانة والمكر والخبث، حيث بيّت هذه النية الماكرة لهذه المرأة المسكينة. فإن وجد شقاق بينهما، ووجد حكمان للإصلاح بينهما فإنه لا يريد في الغالب إصلاحًا، وإن أراد إصلاحًا فإنه لا يريد دوامًا زائدًا على المدة التي حدد نهاية النكاح بها في قلبه. ومما يدل على أن الأصل في النكاح الدوام والاستمرار قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة بن شعبة لما خطب امرأة: «اذهب فانظر فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» (¬1) قال الترمذي يؤدم بينكما: «أي تدوم المودة» (¬2)، ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم (18162) 4/ 244، ورواه النسائي في «السنن الكبرى»، باب النظر إلى المرأة قبل تزوجيها رقم (5346) 3/ 272، ورواه الترمذي، باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة رقم (1087) 3/ 397، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث وقالوا: لا بأس أن ينظر إليها ما لم ير منها محرمًا وهو قول أحمد وإسحاق، ومعنى قوله: «أن يؤدم بينكما، قال: أن تدوم المودة بينكما» قال أبو عيسى: وفي الباب عن محمد بن مسلمة وجابر وأبي حميد وأبي هريرة ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه رقم (2697)، ورواه ابن ماجه، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها رقم (1864) 1/ 599، صححه ابن حبان (4043) 0/ 351، وأيضًا الضياء المقدسي في المختارة وقال إسناده صحيح (1788) 5/ 169. (¬2) انظر: «تلخيص الحبير» 3/ 146، و «نصب الراية» 4/ 240.

فهل معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة بن شعبة: «فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» أي أحرى أن توجد المودة بينكما إلى نهاية المدة التي نواها المتزوج بنية الطلاق؟؟، كلا، ثم كلا؛ بل المراد بذلك أحرى أن توجد بينكما المودة والمحبة التي يكون من أثرها حسن العشرة على الدوام، فهذا الحديث دليل على أن الزواج الذي شرعه الله هو ما كان يراد به الدوام والاستمرار، فإن كان غير ذلك فهو ليس مشروعًا. شبهة وجوابها: قد يقول قائل: إن المودة قد توجد بينهما وهي لا تكون غالبًا موجودة قبل الزواج ثم توجد بعد ذلك، فكذلك الزواج بنية الطلاق قد لا تكون المودة والرحمة موجودة عند عقد النكاح، ولكن قد توجد بعد الزواج، فيحصل الاستمرار في النكاح. قلت: إن احتمال وجود الرحمة والمودة في الزواج الذي لا ينوي فيه المتزوج الطلاق أقوى وأغلب، والشريعة كثيرًا ما تبني أحكامها على الظن الغالب، كالجمع والقصر خوف المشقة، والاجتهاد في القبلة وقول المفتي، وحكم الحاكم بشهادة الشاهدين أو بشاهد مع اليمين إلى غير ذلك، ولا يعلَّق الحكم على الشيء النادر. 3 - ومن مقاصد الشريعة أيضًا: حصول الأولاد وإكثار النسل: يقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم» (¬1)، فهل من يتزوج بنية الطلاق بعد انتهاء مهمته من هذا البلد أو بعد قدوم زوجته الغائبة هل ¬

(¬1) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان وصححه الحاكم، كلهم رووه عن معقل بن يسار وهو جزء من حديث سبق تخريجه ص17، حاشية 1.

يريد المتزوج بهذه النية أولادًا؟ في الغالب أنه لا يريد بزواجه هذا أولادًا، لذا فإن الكثيرين يستعملون المانع للحمل. 4 - ومنها: حفظ الأنساب: ومن ثمرات حفظ الأنساب حصول التعارف والتآلف والتعاون والتناصر والتكافل والعقل في الديات. ولولا عقد النكاح لضاعت الفروج والأنساب ولأصبحت الحياة فوضى. وكيف يحصل التعارف على نطاق واسع ثابت مستقر؟ وكيف يحصل العقل في الديات؟ وكيف تحفظ الأنساب إذا لم يحصل دوام النكاح؟ 5 - ومنها: غض البصر وإحصان الفرج عما حرم الله: ولذلك جعل الله كلاً من الزوجين لباسًا للآخر فقال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}، فهي اللباس الذي يلبسه الرجل فيلصقه بجسمه فيجد فيه الظل والدفء والستر، فيستر به جسمه وعورته. كما هو الآخر لباس لها تجد فيه الظل والدفء والستر، فتستر به جسمها وعورتها. الله أكبر، ما أبلغ قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} فإذا كانت لباسًا له يستر بها عورته، فهي إذًا تغض بصره وتحصن فرجه، فلا يطمح إلى ما حرم الله عليه، فيكشف عورته، فهي إذًا الساتر لعورته. وإذا كان الزوج لباسًا لها تستر به جسمها وعورتها، فهو إذًا يغض بصرها ويحصن فرجها، فلا تطمح إلى ما حرم الله عليها، فتكشف عورتها له فهو إذًا الساتر لعورتها. وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}، فيه إشارة إلى الدوام والاستمرار، لأن ستر العورة يراد به الستر دائمًا. إذ لو كان الزواج مؤقتًا كنكاح المتعة أو التحليل أو الزواج بنية الطلاق لما حصل به دوام الستر. وقد جاء في المثل السائر: «ثوب العارية لا يستر». فهل بعد هذا نقول: إن الزواج بنية الطلاق يوجد فيه معنى اللباس الذي

أراده الله بقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}؛ ثم بعد ذلك ألا يكون ذلك دليلاً على أن الزواج بنية الطلاق مناف لمقاصد الشريعة في النكاح؟ 6 - ومنها: تكوين الأسرة التي هي نواة المجتمع الصالح: وهل الزواج بنية الطلاق يحصل به تكوين الأسرة وترابطها؟ كلا؛ بل المتزوج بنية الطلاق قصده وفعله قائم على محاربة هذا المقصد، فلا يريد من هذه الزوجة تكوين الأسرة، وإنما يريد ذلك من زوجته الحقيقية، أما هذه فمجرد إناء يفرغ فيه شهوته ليتخلص منها فحسب، تلك بعض مقاصد الشريعة الإسلامية في مشروعية الزواج - والله أعلم - فأي مقصد بعد هذا نجده في الزواج بنية الطلاق؟ اللهم إلا إشباع تلك الغريزة. فإن قيل: إن فيه إحصانًا للفروج من الوقوع في الزنا. قلت: إن إحصان الفرج يكون بغير الزواج، وهو أن ينوي بزواجه الدوام والاستمرار حتى يصيب مقاصد الشريعة في النكاح. أما مثل ذلك الزواج فالذي رأيناه وغيرنا أن كثيرًا من الشباب وغيرهم يذهب إلى أمريكا وأوروبا وإلى بعض البلاد العربية والإسلامية فيتزوجون ويطلقون في فترة قصيرة عدة زوجات، فهل يعتبر هذا إحصانًا للفرج؟ وهل هذه المرأة المسكينة المخدوعة التي طلقت، أحصن فرجها؟ كلا ... بل أذاقها العسيلة فعرفتها وتعلق قلبها بها وبقيت محرومة منها، فحدَّث ولا حرج عن خطورة هذا الحرمان. كيف وقد زال الحجاب الذي قد يمنع كثيرًا من الفتيات من الوقوع في الفاحشة خشية الفضيحة والعار (¬1). فإن قيل: إن ما ذكرت حاصل فيما إذا تزوجها بنية الدوام والاستمرار، فإذا لم تعجبه وكرهها طلقها (¬2)؟ ¬

(¬1) وقد فصلنا الجواب في ذلك ص80. (¬2) وقد ذكر مثل ذلك شيخ الإسلام وأجبنا عنه مفصلاً ص89.

فالجواب: أقول إن هناك فرقًا بين النكاحين، فالأول تزوجها، وقد عقد النية الجازمة على طلاقها فخدع المرأة وغشها فقبلته زوجًا غير عالمة بمقصده السيء فطلقها بعد انتهاء غرضه. أما الثاني فقد تزوج المرأة وفي نيته الاستمرار والدوام. إذا لم يحصل بينهما وفاق ولم توجد المودة بينهما وشق عليه إمساكها فطلقها، فإنه والحالة هذه هو معذور ولا يلام بعد أن يستعمل جميع الوسائل التي شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لإبقائها واستمرار النكاح، فالأمر بعد ذلك لله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، فلعل الفرق بين النكاحين واضح. والخلاصة أن نقول: أن ثمة أمورًا ثلاثة ينبغي أن يتنبه لها الإنسان. أحدها: خواطر وهواجس ترد على الإنسان عند عقد النكاح. وثانيها: أن ينوي أنها إن صلحت أبقاها وإن لم تعجبه طلقها. ثالثها: أن ينوي أنه متى مضى شهر أو انتهى غرضه من البلد أو متى شفى الله زوجته يطلقها. أما الأول: فلا يضر العقد ولا يؤثر فيه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: «إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم» (¬1). والثاني: أيضًا لا يضر العقد، حيث إن هذا مما يقتضيه العقد بل جميع العقود أن الإنسان إذا لم تعجبه السلعة يبيعها أو لم يرد الله بينهما توافق يطلقها. ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه في مواضع عدة أحدها باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان رقم (6287) 6/ 2454، ومسلم في صحيحه رقم (127) 1/ 116 كلاهما من طريق قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة.

أما الثالث: فلم يضمر نية صحيحة سليمة؛ بل أضمر وعقد العزم على طلاقها، ولو سألته هل ترغب فيها زوجة لك وأمًا لأولادك وشريكة لك في حياتك؟ لأجابك على الفور: لا، لا أريدها زوجة لي على الدوام ولا أرغب منها أولادًا؛ بل أريد أن استمتع بها وأقضي معها فترة زمنية ثم أطلقها لأرجع إلى زوجتي الحقيقية، أو أتزوج المرأة التي تعجبني على الدوام. فإن قيل: إنه قد يريد بزواجه عند العقد توقيت مدة الزواج بعدم إنجابها الأولاد؛ أي: إنه إذا لم تنجب له يطلقها. فالجواب: إن هذه النية لا بأس بها؛ لأنه دخل بها على أساس الرغبة في الولد والاستمرار بعد الإنجاب ولم يحدد بقاء الزواج بفترة معلومة، بخلاف من تزوج بنية الطلاق، فإنه دخل على أساس أنه لا يستمر معها ولا يرغب في الاستمرار؛ بل يريد الزوجة لفترة معينة ثم يفارقها بعد ذلك، فالفرق بين النكاحين كبير وواضح. الوجه الثاني (¬1): قولهم أنه يبقى على الأصل وهو الإباحة. فإن هذا غير مسلَّم، فإن (الأصل في الأبضاع التحريم) فلا تستباح إلا بما دل الشرع على إباحته. وهذا النكاح لم يدل دليل من الشرع على إباحته فتبقى حرمة الأبضاع على الأصل، ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل. الدليل الرابع: أن هذا النكاح قد توفرت فيه أركان النكاح وشروطه، وخلا من الشروط الفاسدة، وهو يحقق مصالح قد تضيع لو قيل بعدم جوازه للمغتربين، ومنها طلب الحصانة، ووجوب العفة، والخوف من إشباع ¬

(¬1) هذا الوجه الثاني في الجواب عن الدليل الثالث.

الغريزة بغير الطرق الشرعية، ومن المعلوم شرعًا أن الإسلام يكره العزوبة وينهى عن التبتل لأن الطاقة الجنسية قد تطغى على قدرة الإنسان فيقع في الحرام، ولكون النية المضمرة في القلب إذا لم يتلفظ بها أو يشترطها لا تؤثر على صحة النكاح. الجواب عليه من وجهين: الوجه الأول: سلمان توفر الأركان والشروط فيه، فإن هذا يجعل النكاح صحيحًا في الظاهر، أما في الباطن فالنكاح وجد فيه الغش والخداع، وحيث كان كذلك ولمنافاته مقاصد الشريعة فهو حرام. الوجه الثاني: لا نسلَّم توفر جميع الأركان في هذا النكاح؛ بل اختل فيه ركن من أركان النكاح ألا وهو الإيجاب. فإن المرأة ووليها وافقًا على هذا النكاح بناءً على ما ظهر لهما من حال الزوج وهو أنه يريدها زوجة له على الدوام، فلو علمت بنيته لما قبلته ولا وليها. ولو أن أحدًا جاء يخطب ابنتك ليتزوجها بنية الطلاق وأخفى عليك هذه النية وبعد انتهاء غرضه منها طلقها، ألا تعتبره غاشًا ومخادعًا لك؟ ومن من الناس يرضى لموليته مثل هذا الزواج؟ وأما قولهم إن هذا الزواج يحقق مصالح قد تضيع لو قيل بعدم جوازه فالجواب نقول: ما هذه المصالح التي قد تضيع لو قيل بعدم جوازه؟ أهي المودة والسكن والاستقرار الكامل الدائم؟ أهي حصول الأولاد وإكثار النسل؟ أهي حفظ الأنساب والتعارف والتآلف والتعاون والتناصر والتكافل والعقل في الديات؟ كل ذلك لا يوجد في الزواج بنية الطلاق، أو يوجد بشكل لا

يحصل به مقاصد الشريعة في شرعية الزواج (¬1). وأما المغتربون: فإن الشارع أمر المسلم بالحصانة والعفة، وشرع أسبابها كغض البصر، وتحريم الخلوة، وسفر المرأة بدون محرم، وأمر بالزواج ونهي عن التبتل. والزواج الذي أمر به هو الزواج الذي يحقق مقاصد الشريعة. فالزواج المعروف عند الإنسانية من عرب وعجم، ومسلمين وغيرهم، وإنس وجن، هو الاقتران الذي يقصد به الاستمرار والدوام، إن أعجبته استمر معها، وإن لم تعجبه طلقها. وفرق بين هذه النية وبين من يتزوج وفي نيته وعزمه أنه لا يريدها إلا لمدة زمنية معينة يطلقها عندها؛ لأن الأول كما سبق أن قلت دخل في الزواج وهو يريد أن تبقى وتستمر، وإذا ما أعجبته طلقها، وهذا شأن عقود المعاملات والأنكحة إن أعجبته طلقها، وهذا شأن عقود المعاملات والأنكحة إن أعجبته السلعة وتعلقت رغبته فيها أبقاها، وإن لم تعجبه أو لم يرغب فيها أو رغب في غيرها باعها، وإن كانت امرأة طلقها، فليس من شروط النكاح أن ينوي أن لا يطلقها، ما دام دخل وفي نيته وعزمه أن تبقى عنده. بخلاف النكاح بنية الطلاق فهذا دخل في الزواج، وقد بيت نية السوء والخداع والغش أنه يطلقها، ولا يريدها أن تبقى عنده؛ بل ربما عمل الأسباب التي تجعل المرأة لا تدوم معه، فهو بمثابة من أراد شراء سيارة وفي قصده ونيته أنه سيردها على صاحبها بعد أن يحمل عليها متاعه ويحقق غرضه. ومن الأسباب التي شرعها الله تعالى للحصانة والعفة: الاشتغال بطاعة الله وذكره، والاستعفاف والصيام، قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع ¬

(¬1) انظر ص71 و 110 وما بعدها.

فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (¬1)، أما النكاح بنية الطلاق فإنه لا يغض بصرًا، ولا يحصن فرجًا. وإما الذي يغض بصره ويحصن فرجه فإنه النكاح الذي شرعه الله وهو الذي يحقق مقاصد التشريع، فهذا النكاح هو بمثابة من يغسل الدم ببول. وأما قولهم: ولكون النية المضمرة في القلب إذا لم يتلفظ بها أو يشترطها لا تؤثر على صحة النكاح: فالجواب: نقول: النية محلها القلب، وعليها المداد في الصحة والفساد، والثواب، والعقاب، والله لا يجازي العبد إلا من خلال نيته، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المكلف قد يؤاخذ على مجرد النية ولو لم يحصل معها فعل فقد روى أبو بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قلت: يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (¬2). ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي كبشة الأغاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجل أتاه الله مالاً وعلمًا فهو يعمل به في ماله فينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً فهو يقول لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمًا فهو يخبط فيه فينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علمًا فهو يقول: لو كان لي مال مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهما في الوزر سواء» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، ومسلم وغيرهما، وسبق تخريجه ص81. (¬2) رواه البخاري ومسلم من طريق حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة رضي الله عنه، وسبق تخريجه ص87. (¬3) رواه الإمام أحمد في مسنده رقم (18053) 4/ 230، ورواه الترمذي، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر رقم (2325) 4/ 562، وقال أبو عيسى: «هذا حديث حسن صحيح»، ورواه ابن ماجه، باب النية رقم (4228) 2/ 1413، ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» رقم (7617) 4/ 189.

فرجلان يصليان في مكان واحد خلف إمام واحد وقد أتيا في الظاهر بجميع شروط وأركان الصلاة وربما سننها، ولكن بينهما كما بين المشرق والمغرب، والثرى والثريا. فهذا صلاته صحيحة ومقبولة ويثاب عليها، والآخر صلاته غير صحيحة ومردودة عليه مع أنه لم يحصل من كل منهما تلفظ وصورة الصلاة واحدة. وهذان رجلان يجاهدان الكفار كل منهما يكر ويفر ويصول ويجول، ويقتل الكفار، فيقتلان وبينهما كما بين المشرق والمغرب، والثرى والثريا، عملهما واحد وجهادهما واحد، ولكن أحدهما قتل شهيدًا والآخر في نار جهنم، فما الذي فرق بينهما؛ لا شك أنه النية التي لم يطلع عليها أحد إلا الله عز وجل. وهذان رجلان يتزوجان؛ أحدهما يريد بزواجه إعفاف فرجه على الدوام وإحصان المرأة والحصول على السكن والاستقرار الدائم ويريد الذرية الصالحة، وحفظ الأنساب، والتعارف والتآلف والتعاون والتناصر والتكافل، يريد بنكاحه جميع مقاصد الشارع في النكاح. والآخر يخدع المرأة ويخونها في زواجه منها، حيث يريد إفراغ شهوته لفترة حددها في نيته، ثم يتركها ليذهب إلى غيرها ويترك هذه ليذهب إلى أخرى مضمرًا في كل زواج مثل هذه النية الخبيثة. ثم لماذا حرم الله نكاح التحليل ونكاح المتعة، أليس لأنه لا يقصد به الدوام والاستمرار؛ بل لأنه زواج مؤقت ينافي مقصد الشارع من شرعية النكاح الذي يراد به الدوام، إذًا ما الفرق بين هذا النكاح ونكاح المتعة، والتحليل؟ قد تقول هذا صرح فيه بالنية وهذا لم يصرح فيه بالنية. فأقول: إنه إن صرح فيه بالنية أصبح الأمر مكشوفًا لكل أحد فيؤاخذ على عمله حسب ما ظهر لنا من حاله،

أما إذا أضمر الزواج بنية الطلاق بعد انتهاء غرضه فإن النية غير معلومة لنا ولكنها معلومة لله تعالى فيجازيه الله على ما علم من حاله، أما نحن فنعامله في نكاحه إذا لم يظهر لنا منه شيء معاملة النكاح الصحيح. ولكن أحيانًا قد تظهر هذه النية لكثير من الناس بل تكون حقيقة واضحة لا تقبل الشك، كما لو قال للناس إني أريد أن أتزوج زوجة مدة زمنية محدودة أطلقها بعدها، فيتزوج ويطلق بعد انتهاء غرضه؛ بل قد يسافر وإذا سئل أين تريد؟ قال: إلى بلد كذا لأتزوج ثم أطلقها كما هو الواقع؛ بل قال لي بعض الإخوة إنه حصل بيننا وبين شخص ما كلام في التعدد وخاض الجالسون فيه وذكروا محاسنه. وقال أحدهم أنا لا أحبذ التعدد لأني أجد طريقًا غير طريق التعدد، أسلم لي وأبعد عن المشاكل والمسؤوليات، ففي كل إجازة أذهب إلى بلد كذا وأتزوج وأطلق ثم أتزوج وأطلق وأشبع رغبتي وبعد ذلك أرجع إلى بلدي لأستقر مع زوجتي. فهل تقول له ما دام لم يوجد شرط فالزواج صحيح، فما قيمة الشرط ما دامت الحقيقة موجودة بدون شرط؟ بل هذا أشد ضررًا على المرأة مما لو وجد التصريح بالنية لأنه خدعها وغشها وأفسد عليها بكارتها وشرفها وهدم مستقبلها وحياتها. أبمثل هذه الفوضى في أعراض العفيفات نراه جائزًا لأنه لم يصرح فيه بالنية ولم يتلفظ بها، سبحان الله؟! وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المكلف قد يؤاخذ على مجرد النية ولو لم يحصل معها عمل. ولعلنا نذكر ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (¬1)، فالزواج بنية الطلاق وجدت فيه النية والعزم ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم من طريق حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف ابن قيس عن أبي بكرة رضي الله عنه سبق تخريجه ص87.

الأكيد مقارنًا لعقد الزواج، ثم وجد الفعل الذي يصدق النية وهو الطلاق. فكيف بعد ما تقدم يقال: إن النية المضمرة في القلب إذا لم يتلفظ بها لا تؤثر على صحة النكاح، أليست النية التي وجد الفعل بعدها أبلغ من التلفظ بها؟ الدليل الخامس: ومن أدلتهم: أن في الزواج بنية الطلاق فوائد كثيرة منها: تحصيل النسل، وقضاء الوطر، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الزواج. والجواب عنه: نقول: ليست كلها موجودة في مثل هذا الزواج غالبًا، نعم ... بالنسبة لقضاء الوطر فهو موجود، ولكن ليس ذلك المقصد الأساس من مشروعية النكاح؛ بل هو منها. وأما بالنسبة لكثرة النسل ومباهاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن الذي نعرفه أن المتزوج بنية الطلاق لا يريد بزواجه أولادًا ولا يرغب فيهم؛ بل قد يستعمل الأسباب التي تمنع حصول الولد؛ بل قصده إشباع رغبته لا أكثر، ولو وجد له ولد فإنه ربما يكون الكره له من أبيه، وربما يتبرأ منه، فكان مصيره الضياع والتشرد؛ لأنه جاءه عن غير رغبة. فكيف إذًا يحصل تكثير الأمة، وتتحقق مباهاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من زواج بُني على الغريزة الجنسية وقضاء الوطر فحسب؟ فكيف يكون هذا الزواج مثل زواج نوى فيه صاحبه من أول العقد الاستمرار والدوام، زواج دخل فيه صاحبه وقد وطن نفسه على دوام العشرة والوئام والمحبة، يترقب كل منهما ولدًا صالحًا يتحقق فيه جميع أماني كل زوج مسلم - والله أعلم.

الدليل السادس: أن الزواج بنية الطلاق سُّنّة أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه مع علمه أن بعض الصحابة يتزوجون بنية الطلاق، ولم ينكر عليهم، ولو كان غير مشروع لما سكت عن بيان الحكم وقت الحاجة. الجواب: قولهم إن الزواج بنية الطلاق سُّنّة أقرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ... إلخ. هذه دعوى تحتاج إلى دليل ثابت صحيح يدل عليه، فهل الدليل وجود الطلاق بين الصحابة رضوان الله عليهم؟ فوقوعه - أي الطلاق - بينهم وبين المسلمين إلى قيام الساعة، حيث جاءت به شريعة الله في كتابه وعلى لسان رسوله وفعله، وإجماع المسلمين. فهل هذا يعتبر دليلاً على جواز الزواج بنية الطلاق؟ إن الصحابة رضي الله عنهم أقرب الناس إلى الكمال، فإذا تزوج أحدهم لا يكون همه خداعَ وغشَ الزوجة وأوليائها، ولا يكون همه إشباع رغبته الجنسية دون مبالاة بمقاصد الشريعة كالمودة والسكن وإحصان المرأة، وإغضاض طرفها وإسعادها وإسكانها على الدوام في بيت ترفرف فيه السعادة، وإنجاب الأولاد وتقوية روابط الأسر. وهل جاء خبر صحيح أو ضعيف يفيد أن الصحابة أو أحدًا منهم صرح بقوله إني تزوجت بنية الطلاق؟ فلا بد من تصريحه أو وجود ما يدل على ذلك مما يقوم مقام التصريح وأنه انتشر بين الصحابة حتى يقال: إن هذا مما علمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقره. لأن النية في القلب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فلا نظن بهم هذا الظن ما دمنا نجد لعملهم محملاً طيبًا، وهو أن نقول إن وجود الطلاق أمر عارض وطارئ بعد العقد أو الدخول بالزوجة، لأسباب كثيرة كعدم وجود المودة، والرحمة، التي يجعلها الله بين الزوجين. وما أكثر

مناقشة ما روي عن الحسن والمغيرة

الأسباب التي تجعل الرجل منا يطلق امرأته. والطلاق في أصله جائز قبل النكاح وبعد النكاح. أما الزواج مع نية الطلاق التي تكون سابقة للعقد أو مقارنة له فهذا ننزه عنه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل ننزه شرع الله منه. وهل يرضى مؤمن يحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرضى أن يكون مثل هذا الزواج الذي نراه اليوم، والذي يكون فيه الغش والخداع للمرأة وأوليائها والتلاعب بكرامة النساء وأعراضهن، وتعريضهن للسقوط والوقوع في فاحشة الزنا، وغير ذلك مما ينافي مقاصد الشريعة في مشروعية النكاح. أقول: هل يرضى مسلم أن يصف الصحابة أو بعضهم بذلك ويحمل نياتهم المحمل السيء جهلاً؟ حاشاهم ذلك رضي الله عنهم وأرضاهم، وغفر الله للجميع وهدانا جميعًا الصراط المستقيم وحشرنا جميعًا معهم. وأما القول: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علم ذلك من الصحابة ولم ينكر عليهم فيكون مشروعًا. فالجواب: إنه لم يثبت عن الصحابة أو أحدٍ منهم ما قيل من أنهم يتزوجون بنية الطلاق حتى يقال إن الرسول علم بها. وعلى فرض التسليم جدلاً أن بعضهم كان يتزوج بنية الطلاق ويطلق، فإنه لا يعتبر عمله مشروعًا لأنه لم يدل دليل على إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - له حتى يكون مشروعًا. لأن من شروط السنة التقريرية عند أهل الحديث وأهل الأصول علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفاعل، فأين ما يدل على علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفاعل وإقراره له؟ الدليل السابع: ومن أدلتهم ما يقال: إن الزواج بنية الطلاق كان على عهد

الصحابة رضي الله عنهم دون أن ينكر أحد منهم على من يتزوج بنية الطلاق؛ بل كان على مرأى ومسمع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين، فيكون مع فشو الخبر بينهم حجة. وذكروا أن من بين الذين اشتهروا بالزواج بنية الطلاق الحسن بن علي رضي الله عنهما، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه، حيث نقل شمس الدين الذهبي أن المغيرة بن شعبة قال: لقد تزوجت سبعين امرأة أو أكثر وكان يومًا تحته أربعة نساء فصفهن بين يديه وقال: أنتن حسنات الأخلاق طويلات الأعناق ولكني رجل مطلاق فأنتن الطلاق، وكان ينكح أربعًا جميعًا ويطلقهن جميعًا. الجواب: نقول: لقد ذكر العلماء رحمهم الله: أن أقوال الصحابة وأفعالهم لا تكون حجة إلا إذا توفرت فيها الشروط المطلوبة، منها: 1 - أن لا تخالف دليلاً شرعيًا أو مقصدًا من مقاصد الشريعة. 2 - أن لا تخالف قول صحابي آخر، فليس قول أحدهم بأولى من قول الآخر إلا ما أيده الدليل. 3 - أن ينتشر هذا القول أو هذا الفعل بينهم فيحصل السكوت منهم مع وجود ما يدل على رضاهم وإقرارهم. أما ما ذكروه عن المغيرة بن شعبة والحسن بن علي رضي الله عنهما؛ فإنا نطالبهم بثبوت ما ذكروه عنهما، وما ذكروه عن المغيرة فإن لفظ الأثر لا يتناسب ولا يليق بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد بحثت في إسناد هذا الأثر فوجدت ما ذكروه زيادة أدرجت في حديث صحيح، وهو ما رواه سعيد بن منصور في سننه (¬1) أنبأنا أبو شهاب عن عاصم الأحول عن بكر بن عبد الله المزني عن المغيرة بن ¬

(¬1) «سنن سعيد بن منصور»، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها رقم (516) 1/ 171.

شعبة قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته أني خطبت امرأة فقال: «رأيتها»؟ قلت: لا، قال: «فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما»، قال: فأتيتهم فأخبرته بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندها أبواها فسكتا فقالت المرأة أني أحرج عليك إن كان رسول الله لم يأمرك أن تنظر إلي لما نظرت، ورفعت السجف فنظرت إليها فتزوجتها فما نزلت مني امرأة قط بمنزلتها. وقد تزوجت سبعين امرأة أو بضعة وسبعين امرأة. فقوله: «وقد تزوجت سبعين امرأة أو بضعة وسبعين امرأة»، هذه زيادة تفرد بها أبو شهاب عبد ربه الحناط شيخ سعيد بن منصور، وهو وإن كان ثقة كما قال ابن معين إلا أن في حفظه شيئًا كما قال يحيى القطان (سيء الحفظ)، وقال علي بن المديني: سمعت يحيى بن القطان يقول: «لم يكن أبو شهاب بالحافظ ولم يرض يحيى القطان أمره»، وقال النسائي: ليس بالقوي (¬1)، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين (¬2)، وذكره العقيلي في الضعفاء (¬3)، وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء، وقال الذهبي: «صدوق لكن غيره أحفظ منه»، وقال مرة في حفظه شيء (¬4)، ولخص ابن حجر حاله فقال: «صدوق يهم» (¬5). وقد خالف أبو شهاب كل من روى هذا الحديث عن عاصم الأحول فلم يذكروا ما ذكره أبو شهاب، ومن الذين رووا الحديث عن عاصم الأحول: ¬

(¬1) انظر: «تهذيب الكمال» للمزي 16/ 487، و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم 6/ 42، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر 6/ 117، و «خلاصة تهذيب تهذيب الكمال» 1/ 223، و «طبقات المدلسين» لابن حجر 1/ 22. (¬2) انظر: «الضعفاء والمتروكين» لابن الجوي 2/ 82. (¬3) انظر: «ضعفاء العقيلي» 3/ 97. (¬4) انظر: كتب الذهبي المغني في «الضعفاء» 1/ 370، وانظر: «لسان الميزان» لابن حجر 4/ 255، وذكر من تكلم فيه 1/ 116، «سير أعلام النبلاء» 8/ 226. (¬5) انظر: «تقريب التهذيب» لابن حجر 1/ 335.

1 - أبو معاوية محمد بن خازم الضرير عند ابن الجارود في المنتقى (¬1)، وأحمد (¬2). 2 - وسفيان الثوري عند أحمد (¬3) والدارمي (¬4). 3 - وحفص بن غياث عند النسائي (¬5). 4 - وابن أبي زائدة عند الترمذي (¬6). وهؤلاء كلهم أكثر وأضبط من أبي شهاب الذي تفرد بهذه الزيادة. ومعلوم أن في حفظه شيئًا كما قال يحيى القطان وغيره، فهذه الزيادة غير مقبولة لمخالفته لمن هو أوثق وأضبط منه وأكثر عددًا. قال الذهبي: «غيره أحفظ منه». وقد جاء هذا الحديث من طرق أخرى، فقد رواه ابن ماجه (¬7) والدارقطني (¬8) من طريق عبد الرزاق عن معمر بن ثابت البناني عن بكر بن عبد الله المزني عن المغيرة بدون هذه الزيادة. وأما ما روى عن المغيرة أنه كان ينكح أربعًا جميعًا ويطلقهن جميعًا فقد رواه ابن عساكر في تاريخه (¬9) بسنده إلى مالك بن أنس عن المغيرة. فالأثر عنه فيه انقطاع وهو من مراسيل مالك. ومعلوم كلام العلماء في المرسل وشروطهم في قبول المرسل، وهم يعدونه بمنزلة الحديث الضعيف، ومعلوم أن هذا المرسل الذي معنا فيه انقطاع كبير ¬

(¬1) «المنتقى» لابن الجارود رقم (675) 1/ 170. (¬2) رواه أحمد في مسنده رقم (18179) 4/ 246. (¬3) رواه أحمد في مسنده رقم (18162) 4/ 244. (¬4) «سنن الدارمي» رقم (2172) 2/ 180، باب الرخصة في النظر للمرأة عند الخطبة. (¬5) «السنن الكبرى» للنسائي، باب إباحة النظر إلى المرأة قبل تزويجها رقم (5345) 3/ 272. (¬6) «سنن الترمذي»، باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة رقم (1087) 3/ 397. (¬7) «سنن ابن ماجه» رقم (1865) 1/ 599. (¬8) «سنن الدارقطني» رقم (32) 3/ 253. (¬9) «تاريخ دمشق» 60/ 55.

وفجوة كبيرة بين الإمام مالك وصاحب القصة المغيرة بن شعبة، بينهما مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل. أما ما روي أنه كان يومًا تحته أربع نساء فصفهن بين يديه وقال: أنتن حسنات الأخلاق طويلات الأعناق ولكني رجل مطلاق، فأنتن الطلاق، وكان ينكح أربعًا جميعًا ويطلقهن جميعًا. فهذا رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق وفيه أبو بكر الهذلي ضعفه الإمام أحمد (¬1)، وضعفه الجوزجاني (¬2)، وقال البخاري: «ليس بالحافظ عندهم» (¬3)، وذكره النسائي في الضعفاء والمتروكين وقال: «متروك الحديث» (¬4)، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين، ونقل عن غندار أنه كذاب، وقال يحيى بن معين: «ليس بشيء» وقال ابن المديني: «ضعيف ليس بشيء» وقال الدارقطني: «منكر الحديث متروك» (¬5)، وذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال أبو زرعة: «ضعيف» وقال أبو حاتم: «لين الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به» (¬6). هذا الجواب عن ما استدلوا به مما روي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. أما من ناحية النظر السليم فإن من عرف الصحابة رضي الله عنهم، وهم صفوة الأمة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وضحوا بالنفس والنفيس والغالي والرخيص، وقد أثنى الله عليهم وزكاهم في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -. أقول من عرف الصحابة استبعد كل البعد حصول ذلك منهم فهل من ¬

(¬1) «ميزان الاعتدال» للذهبي 7/ 334. (¬2) «أحوال الرجال» للجوزجاني 1/ 22. (¬3) «التاريخ الكبير» 4/ 198، و «الضعفاء الصغير» 1/ 56. (¬4) «الضعفاء والمتروكين» للنسائي 1/ 46. (¬5) «الضعفاء والمتروكين» لابن الجوزي 2/ 12. (¬6) «الكامل في الضعفاء» 3/ 3221.

المروءة والوفاء والأمانة ما نقل عن المغيرة أنه يفعل بالنساء هذا الفعل ويكون همه إرواء شهوته الغريزية غير مبال بمقاصد الشريعة في النكاح، لو أن أحدًا في عصرنا هذا فعل هذا الفعل لنال جزاءً صارمًا وصار موضع تندر الناس وسبهم من الرجال والنساء، ولاعتبرنا زواجه زواج متعة. وإذا عرف الناس حاله وأعطوه بناتهم وهم يرونه يتزوج هذا العدد بهذه الصورة، فإنهم يقدمون على هذا العقد بنية المتعة. وأما ما ذكروا عن الحسن من أنه كان يتزوج بنية الطلاق، وكان مزواجًا مطلاقًا وكان يمسك في عصمته أربعًا ثم يطلقهن ليتزوج بدلهن بنية الطلاق، هكذا قالوا وعزوا ذلك القول إلى ابن حجر في كتابه الإصابة في ترجمة الحسن بن علي، بينما ابن حجر رحمه الله قال: «كان مطلاقًا أي كان يتزوج ويطلق». اهـ. ولم يقل رحمه الله إن الحسن كان يتزوج بنية الطلاق. وذكروا عن الإمام شمس الدين الذهبي قوله: «وكان منكاحًا مطلاقًا تزوج نحوًا من سبعين امرأة»، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «يا أهل الكوفة لا تزوجوا الحسن فإنه مطلاق فقال رجل والله لنزوجهن فما رضي أمسك وما كره طلق» (¬1). اهـ. وذكروا عن العماد بن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما كان كثير الزواج وكان لا يفارق أربع حرائر، وكان مطلاقًا يقول: إنه أحصن سبعين امرأة، وذكروا أنه طلق امرأتين في يوم واحد، وكان علي يقول لأهل الكوفة لا تزوجوه فإنه مطلاق، فيقولون والله يا أمير المؤمنين لو خطب إلينا كل يوم لزوجناه من شاء ابتغاء في صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» 3/ 253.

الجواب عما روي عن الحسن رضي الله عنه: أقول وبالله التوفيق ... فقد تتبعت هذه القصة من جميع طرقها وأسانيدها التي رويت به فوجدتها لا تثبت ولا تصح من جميع طرقها. فهذا الأثر المنسوب للحسن رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر (¬1) بن محمد عن أبيه (¬2) محمد ابن علي بن الحسين. وكل الآثار الواردة في هذا الباب مدارها على محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهو أي: محمد بن علي، حجة، كما قال الزهري النسائي (¬3) وابن سعد والعجلي (¬4)، وغيره. إلا أن أحاديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجداده علي، والحسن، والحسين مرسلة، حيث لم يدركهم كما قال العلائي حيث قال: «أرسل عن الحسن والحسين وجده الأعلى» (¬5). وقال الذهبي في السير: «روى عن جديه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي رضي الله عنه مرسلاً، وعن جديه الحسن والحسين مرسلاً» (¬6). اهـ. وكذا قال ابن حجر في تهذيب التهذيب (¬7). إذًا فالرجل الذي روى عنه محمد بن علي الباقر رجل مجهول غير معروف. ومن المعلوم أن المرسل لا يقبل عند علماء الحديث، لأنه من أقسام الحديث الضعيف. ¬

(¬1) جعفر هو المعروف بجعفر الصادق وهو أحد الأئمة الإثنا عشر الذين تغلوا فيهم الشيعة الرافضة. (¬2) محمد الذي يلقب بالباقر وهو أحد الأئمة الاثنا عشرية الذين تغلو فيهم الرافضة لقب بالباقر لأنه بقر العلوم أي شقها. (¬3) «طبقات الحفاظ» للسيوطي 1/ 51. (¬4) «تهذيب التهذيب» لابن حجر 9/ 311. (¬5) «تحفة التحصيل» للعراقي 1/ 282، و «جامع التحصيل» للعلائي 1/ 266. (¬6) «سير أعلام النبلاء» 4/ 104. (¬7) «تهذيب التهذيب» 9/ 311.

ومما يدل على عدم صحة هذه القصة عن الحسن نكارتها من حيث المعنى من وجهين: الأول: أن عليًا رضي الله عنه - في هذا الأثر المرسل - أنكر على أهل الكوفة تزويجهم بهذه الطريقة، والحسن مستمر على فعله هذا يتزوج منهم ويزوجونه ثم لا يمنعه علي رضي الله عنه من فعله هذا وهو والده وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألا يكون عدم منعه من هذا الفعل مع قدرته على منعه منه قادحًا في علي رضي الله عنه؟! الثاني: أن عليًا رضي الله عنه كما في هذا الأثر أنكر فعل الحسن وأنكر صنيع أهل الكوفة ولم يوافقهم ولم يقرهم على ذلك الفعل، وإنكاره يدل على عدم حجية فعل الحسن، لأن من شروط العمل بقول الصحابي أو فعله ألا يخالفه غيره من الصحابة. وقد خالفه علي رضي الله عنه وهو والده وهو أفقه منه وأعلم، وهذا على فرض صحة هذه القصة، والله أعلم. ثم هل يليق بابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد شباب أهل الجنة كما ذكر ذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه أنه قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (¬1)، وقد تربيا في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زهدًا وورعًا ¬

(¬1) رواه الترمذي في جامعه، باب مناقب الحسن والحسين عليهم السلام رقم (3768) 5/ 656، وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، ورواه النسائي، فضائل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وعن أبويهما رقم (8169) 5/ 50، والإمام أحمد في مسنده رقم (11012) 3/ 3 و 3/ 62 و 3/ 64 و 3/ 82، ورواه الحاكم في مستدركه رقم (4778) 3/ 182، وقال الحاكم: هذا حديث قد صح من أوجه كثيرة وأنا أتعجب أنهما لم يخرجاه. رووه كلهم عن أبي سعيد الخدري وروي هذا الحديث عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم عن غير أبي سعيد الخدري منهم علي وعمر وأبي هريرة وحذيفة وقرة بن إياس ومالك بن الحويرث وجابر بن عبد الله وأسامة بن زيد والحسين بن علي والبراء بن عازب وأنس بن مالك وعقبة بن عامر وابن عباس وغيرهم. جمعها الهيثمي في «المجمع». انظرها 9/ 182، ولذا عده الحافظ السيوطي من المتواترات. انظر: «تحفة الأحوذي» 10/ 178، و «الإصابة» لابن حجر 268، و «كشف الخفاء» للعجلوني 1/ 429.

وعلمًا وحلمًا وفقهًا وصبرًا، وبعدًا عن الشهوات المحرمة، بل عن الشبهات، وبعدًا عن خوارم المروءات، وبعدًا عن الولوغ في سفاسف الأمور والدنيات، وإقبالاً على الله والدار الآخرة والمنازل العالية. أيجوز بعد هذا أن نقول عنه: إنه مزواج للنساء مطلاق لهن رغبة وطمعًا في الشهوات الدنيات. حاشاه ذلك رضي الله عنه ووالدته ووالده وصلى الله على أبيه رسول الله محمد بن عبد الله.

زواج المسيار

زواج المسيار كغيره من الزواج الذي شرعه الله إذا توفرت فيه شروط النكاح وأركانه وانتفى من الموانع، وحصل فيه إعلان النكاح، ويكفي في الإعلان علم أقارب الزوجة، وجيرانها بما ينفي عنها اتهام عرضها، ويثبت لها حقوقها ونسب أولادها منه، ويثبت لهم حقوقهم من أبيهم. غاية ما في الأمر أن الزوجة تنازلت عن بعض حقوقها الزوجية لمصلحتها، كعدم مطالبتها الزوج بالمبيت معها أو النفقة عليها، أو السكن أو العدل بينها وبين زوجته إن كانت له زوجة غيرها. وهي لم تتنازل عن ذلك إلا لسبب اضطرها إلى ذلك، كالخوف من العنوسة فيفوتها قطار الشباب فيزهد فيها الرجال، أو طلب الذرية، أو الإعفاف فهي لم تقدم على هذا الزواج نتيجة ظلم عليها من أحد بل راغبة مختارة، ولسان حالها يقول ظل رجل ولا ظل جدار كما يقول المثل. فإذا كان الأمر كذلك، لماذا تتطاول الألسن والأقلام في تشويه مثل هذا الزواج، وهي بزواجها هذا تريد به مقصدًا شرعيًا على صفة الدوام، والاستمرار؛ لكن لا يرغب أن يعلم به أحد كزوجته الأولى أو غيرها ممن يخشى أن يعكر عليه ما قصده من الزواج. لكن إذا كان في نية الزوج أن يتزوجها إلى أجل ثم يطلقها ولا يريدها زوجة على الدوام، فمثل هذا الزواج لا يجوز ولا يصح لمنافاته مقاصد الشارع في الزواج. ومثل هذا النكاح هو الزواج بنية الطلاق الذي بحثناه وناقشناه في هذا الكتاب والله أعلم.

الخاتمة

الخاتمة ولعل القارئ المنصف بعد هذه الجولة القصيرة تبين له أن الحق - والله أعلم - بجانب من رأى تحريم هذا النكاح وبطلانه لما قدمناه، وذلك: أولاً: أن الأصل في الأبضاع التحريم، وذلك بإجماع العلماء، فإذا كان الأمر كذلك، فإنها لا تستباح، إلا بما دل الدليل على حلها، وأين الدليل على إباحة الزواج بنية الطلاق؟ وكون هذا النكاح قد توفرت فيه الشروط والأركان، فهذا يجعله نكاحًا صحيحًا في الظاهر أمام الناس، يترتب عليه أحكام النكاح الصحيح. ولكن لا يلزم من كونه صحيحًا ظاهرًا أن يكون مشروعًا حلالاً فيما بينه وبين الله، فمثل هذا النكاح لا يحبه الله ولا يرضاه - والله أعلم - لمنافاته مقاصد الشريعة في النكاح، ولما فيه من الغش والخداع، ولما فيه من المفاسد العظيمة. ثانيًا: الشريعة جاءت بتحريم ما كانت مفسدته أعظم من مصلحته، وقد ثبتت مفسدة هذا النكاح بما لا يدع مجالاً للتردد، وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع، فلا أقل من أن نقول بتحريمه سدًا للذريعة. ثالثًا: هناك فرق كبير وبون شاسع كما بين السماء والأرض والثرى والثريا بين النكاح بنية الدوام والنكاح بنية الطلاق، فالزواج بنية الدوام هو الأصل في مشروعية النكاح، وهو الذي فُطر عليه البشر، وهو الذي يوافق مقاصد الشريعة، ولو ظن هذا المتزوج أن النكاح قد لا يستمر مع هذه الزوجة، لما أقدم عليه، ولبحث له عن أخرى يستمر معها.

أما الزواج بنية الطلاق، فهو دخل معها من أول لحظة من لحظات بدء العقد على أنه لا يستمر معها؛ بل لا يريد ذلك ولا يرضى به، وربما يعمل الأسباب التي تمنع استمراره، وكون هذه النية قد تتغير لا تسوغ لنا القول بجواز مثل هذا النكاح، وإلا، لقلنا بجواز نكاح المحلل ونكاح المتعة، بحجة أن النية قد تتغير، والأحكام إنما تبنى على الظن الغالب. وقد علمنا الشارع أن اختلاف النية لها أعظم الأثر في بناء الأحكام الشرعية، وإن كانت صورة العمل واحدة. روى عمر بن الخطاب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬1). رابعًا: يكفي في قبح هذا الزواج والقول بتحريمه أنه غش وخديعة وظلم للمرأة وأوليائها، وقد حرم الله الخداع والغش والظلم. وإلى القارئ الكريم بعض ما ظهر لي من مفاسد هذا النكاح: 1 - أنه ذريعة إلى ترك الزواج الحقيقي الذي يراد به الدوام، حيث إن هذا ليس كالزواج بنية الدوام، فليس فيه التزامات ولا أعباء الزواج الحقيقي، والكثير من الشباب أو الرجال يريدون الحرية البهيمية وعدم التقيد بمسؤولية زوجية، يتزوج من شاء، فيقيم معها أو معهن فترة، ثم يطلق وينتقل إلى أخرى في أي بلد وفي أي مكان ... وهكذا. 2 - أنه ظلم للمرأة وعدوان وغش وخيانة لا يرضاه المتزوج بهذا الزواج لابنته ولا لموليته، فكيف يرضاه لغيره؟ 3 - ضياع الأولاد: أ- ربما ضاع الأولاد لعدم قدرة والدهم على أخذهم إلى بلده، لوجود ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم، وسبق تخريجه ص83.

بعض القوانين والأنظمة التي تمنع أخذهم أو إدخالهم إلى بلاده، أو لعدم القدرة على تربيتهم. ب- ربما أنكر بعض الآباء هؤلاء الأولاد أو أبغضهم، حيث إنهم وجدوا عن غير رغبة من أبيهم، ووجدوا من هذه الزوجة التي لا يريد البقاء معها. 4 - أنه ذريعة لاختلاط الأنساب وضياعها، وذلك ينتج عن كثرة الزواج بهذه الفتيات، فمثل هذا الزواج لسهولته، لا يكون فيه تقيد بأحكام الشرع. 5 - فتح هذا الباب يجعل كثيرًا من النساء عاطلات من الأزواج، حيث وقعن في شرك مثل هؤلاء الأزواج، فسرحوهن سراحًا غير جميل، فهذا يشكل خطرًا ويهددهن بالوقوع في الفاحشة والسقوط. 6 - زواج المرأة من عدة رجال يبيتون لها مثل هذه النية يُهوَّن عليها الوقوع في فاحشة الزنى كما قد يُهَوَّنُ ذلك على الرجال. 7 - إباحة مثل هذا الزواج تشويه للإسلام وتنفير للناس منه، ونشأ عن ذلك أن ارتد كثير من المسلمات حديثات العهد بالإسلام أو المغتربات المسلمات اللاتي وجدن في بلاد الغرب، حيث تزوجهن بعض الشباب وطلقوهن. 8 - إن كثيرًا من هؤلاء المتزوجين بنية الطلاق لا يحرصون، وربما لا يفكرون في اختيار الزوجة الصالحة، وربما لا يهمه صلاحها ولا أسرتها ولا أصلها ولا شيء من الاعتبارات الأخرى التي تهم المتزوج بنية الدوام. 9 - مثل هذا الزواج قد يعطل كثيرًا من النساء الشريفات عن الزواج، ذلك أن الرجل قد لا يقدم على تزوجهن، لما يترتب على ذلك من تكاليف أو مسؤوليات اجتماعية أو مشاكل أسرية، فيتركهن، ويذهب

إلى غيرهن أقل مستوى منهن في نظره، حتى يسلم من التبعة. 10 - لو قلنا بإباحته لكان منعه في عصرنا متعينًا لأنه جاء في الشرع منع بعض المشروع إذا ترتب عليه مفسدة أعظم. ومثال ما جاء فيه ترك المشروع إذا ترتب عليه مفسدة أعظم: أولاً: ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يا معاذ: هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله عز وجل ألا يعذب من لا يشرك بالله شيئًا. قال: قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا» (¬1). ثانيًا: ألزم عمر بن الخطاب الناس بوقوع الطلاق الثلاث إذا صدر من المطلق ذلك بلفظ واحد، مع أنه كان يعتبر في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلافة أبي بكر وأول خلافة عمر يعتبر واحدة، لما رأى عمر أن المفسدة أعظم (¬2). ثالثًا: ما أشار به عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدم إخبار الناس بفضل لا إله إلا الله: «من لقي الله يشهد ألا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة» قال عمر: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلَّهم يعملون. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: «فخلَّهم» (¬3) إلى غير ذلك من الأمثلة. 11 - إذا كان عنده ثلاث زوجات، فتزوج الرابعة بنية الطلاق، ثم ¬

(¬1) رواه البخاري، باب اسم الفرس والحمار رقم (2701) 3/ 1049، ومسلم رقم (30) 1/ 58. (¬2) رواه مسلم رقم (1472) 2/ 1099 عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس. (¬3) رواه مسلم رقم (31) 1/ 59.

طلقها، فقد يتزوج أخرى ومطلقته لم تزل في عدتها، ثم يطلقها ويتزوج أخرى ومطلقته الثانية لم تزل في عدتها، وربما تزوج ثالثة ورابعة وخامسة وأكثر من ذلك والمطلقات السابقات لا يزلن في عدتهن منه (¬1)، وربما أنجبن أولادًا من هذا الوطء، وقد ذكرنا لك فيما سبق قصة الشاب الذي تزوج تسعين امرأة في فترة قصيرة. إلى غير ذلك من المساوئ والمفاسد التي لا تليق ولا تقرها العقول السليمة فضلاً عن شرع الله الحكيم. ولعلنا نخلص إلى خاتمة القول بأن النكاح بنية الطلاق حرام حسب ما ظهر لي من أدلة الشرع ومقاصده - والله أعلم - وأنه يتعارض مع مقاصد الشريعة في النكاح، وأنه غش وخديعة وظلم للمرأة وأوليائها، وأنه لا فرق بينه وبين نكاح المتعة ونكاح التحليل في التحريم، لتساويهما في نية عدم دوام النكاح واستمراره، وذلك يصادم مقاصد الشريعة في مشروعية النكاح. غاية ما في الأمر أن نكاح المتعة والتحليل وجد فيه التصريح بالنية، والنكاح بنية الطلاق لم يصرح فيه الزوج بنيته، بل خدع المرأة وأوليائها، وقد عزم على هذه النية، ووجدت الأسباب التي تؤيد هذه النية. كعدم استطاعته إخراجها من بلدها وإدخالها بلده، أو وجود بعض الفوارق الاجتماعية والموانع الأخلاقية، أو غير ذلك؛ بل ربما حرص على إيجاد الأسباب التي تجعل الزواج لا يستمر، كأسباب عدم الإنجاب وعدم إحسان العشرة وغير ذلك. لذا، فإنا نقول: إن نكاح المتعة باطل ظاهرًا وباطنًا، والنكاح بنية الطلاق صحيح في الظاهر، فنجري عليه الأحكام الشرعية حسب ما ظهر لنا من ثبوت نسب الأولاد، ووجوب النفقة والتوارث بينهما وغير ذلك ¬

(¬1) انظر ص22 حاشية (1).

من أحكام الزوجية، أما فيما بينه وبين الله تعالى، فالنكاح باطل، وإنما الأعمال بالنيات. وروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل نكاح الرجل الذي تزوج امرأة وهو ينوي أن لا يعطيها صداقها وربما يريد بزواجه الاستمرار معها، إذا كان الرسول جعل وطأه لها زنى يلقي الله يوم يلقاه وهو زان (¬1)، فما تقول بالرجل الذي تزوج امرأة يظهر لها أنه سيستمر معها وأنها تكون زوجته التي تشاركه الحياة ويبني بها بيته وسكنه وينجب منها الأولاد، فتنخدع له، وتعطيه أعز ما تملك، وهي بكارتها وجوهرتها الثمينة الغالية التي هي مطمع الرجال وفخر الفتيات وعزهن، فيدخل بها على هذه النية الباطلة، ثم لا يلبث أن يقصم ظهرها بالطلاق، أليس هذا أولى بالحكم عليه بالزنى، ممن تزوج امرأة وهو ينوي أن لا يعطيها صداقها؟ وقد قال الشيخ رشيد رضا في «تفسيره»: «هذا، وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون: إن عقد النكاح يكون صحيحًا إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إياه يعد خداعًا وغشًا، وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الزوج والمرأة ووليها، ولا يكون منه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية وإيثار التنقل في مراتع ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد رقم (18952) 4/ 332، ورواه البيهقي رقم (14175) 4/ 332، وسعيد بن منصور رقم (659) 1/ 210، والطبراني في الكبير رقم (7301) 8/ 34 كلهم عن صهيب الرومي رضي الله عنه وفيه ضعف، ورواه الطبراني في الأوسط عن ميمون الكردي عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم (6213) 6/ 210 وفي الصغير رقم (111) 1/ 84، قال الهيثمي: «رجاله ثقات»، «مجمع الزوائد» 4/ 132.

الشهوات بين الذواقين والذواقات وما يترتب على ذلك من المنكرات، وما لا يشترط فيه ذلك، يكون اشتماله على ذلك غشًا وخداعًا تترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء، وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته، وهو إحصان كل من الزوجين للآخر، وإخلاصه له، وتعاونهما على تأسيس بيت صالح من بيوت الأمة» (¬1). انتهى. وفي الختام، فإني أوصي كل من وقع في مثل هذا النكاح أن يتقي الله تعالى، ويحذر مثل هذا الزواج، ويقصد في زواجه الدوام والاستمرار، حتى يكون زواجه موافقًا لمقاصد شرع الله في النكاح، ويحذر الغش والخداع والظلم، فهل يرضى مثل هذا الزواج لابنته أو أخته أو موليته؟ كلا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬2). هذا، وإني أناشد الله كل طالب علم لا يرى ما أراه في هذا النكاح: أن لا يتعجل في إبداء رأيه، لئلا يحصل ما لا تحمد عقباه، وأن يكون موقفه موقف عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - من طلاق الثلاث بكلمة واحدة، حيث أمضاه عليهم، مع أن الأدلة الصريحة الصحيحة تخالف ما ذهب إليه، لما رأى من حصول المفسدة بتساهل الناس في الطلاق وتتايعهم (¬3) عليه، ولا يخفى على طالب العلم أنه ليس ¬

(¬1) ص17/ 5 من «تفسير القرآن الكريم» الشهير بـ «تفسير المنار» (1367هـ). (¬2) رواه البخاري، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه رقم (13) 1/ 14، ومسلم كتاب الإيمان رقم (45) 1/ 67 كلاهما من طريق شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه. (¬3) التتابع - بالياء المثناة - التسارع والتهافت، وركوب الأمر على خلاف الرشد. قال في لسان العرب: والتتابع في الشيء وعلى الشيء التهافت فيه والمتابعة عليه والإسراع إليه، يقال: تتايعوا في الشر إذا تهافتوا وسارعوا إليه. وقال: التتايع الوقوع في الشر من غير فكر ولا روية، ولا يكون في الخير .. ولا يكون التتايع إلا في الشر. «لسان العرب» 8/ 38.

كل ما كان مشروعًا في حال يكون مشروعًا في كل حال، فهذا حد السرقة أوقفه عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - عام المجاعة، وأوقف سهم المؤلفة قلوبهم لعدم الحاجة إلى التأليف، لظهور المسلمين وقوتهم، وضعف أعدائهم. وغير خاف على أحد ما جرَّه، ويجره الزواج بنية الطلاق من المفاسد في هذا العصر، ولعل شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - لو رأى مثل هذه المفسدة التي حصلت، أو تحصل بالزواج بنية الطلاق، لرأى مثل ما رأى غيره، كما هو معلوم من أصوله وتقعيداته التي يبني عليها كثيرًا من الأحكام التي هي شبيهة بهذا - والله أعلم -. وقد قال رحمه الله تعالى: «والنكاح المبيح هو النكاح المعروف عند المسلمين وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين الزوجين مودة ورحمة» (¬1). وإني أدعو القارئ لقراءة ما ذكره ابن القيم رحمه الله في حرمة زواج التحليل وأنه لا يتناسب مع مقاصد الشريعة في مشروعية الزواج، إنك إذا قرأت ما ذكره من أدلة وجدتها تنطبق على الزواج بنية الطلاق، قال رحمه الله قاعدة: «الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل نزل صاحبه في الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام» (¬2). ولا أظن أحدًا من علماء المسلمين يفتي بجواز مثل هذا النكاح الذي نراه اليوم من كثير من الشباب وغيرهم، مهازل والله، وتعدًّ على أعراض الناس، وتلاعب في حدود الله وشرعه وحيل يهودية إبليسية. فأسأل الله أن يعيذنا من الشيطان الرجيم، ويهدينا الصراط المستقيم، ويرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله متلبسًا علينا فنضل. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» 32/ 93 - 94. (¬2) انظر ص58.

هذا ما ظهر لي في هذه المسألة، فإن كان صوابًا فمن الله، والحمد لله على التوفيق، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله منه، وشرع الله بريء من ذلك والعصمة لمن عصمه الله تعالى. اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا رحمن يا رحيم، يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، أسألك أن تعلمني ما ينفعني، وتنفعني بما علمتني، وتجعل هذا العمل خالصًا لوجهك الكريم، وتنفع به عبادك المسلمين، وأعوذ بك أن أقول عليك أو على رسولك أو على أحد من خلقك ما لا يرضيك، إنك سميع قريب مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1