الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -
ابن الوزير
تقديم فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد
- أ - تقديم فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وصحبه, ومن اهتدى بهديه. أما بعد: فهذا صوت من صنعاء اليمن, ينصر السنة, ويدافع عن حملتها, ويذبّ عنهم وعنها, يدونه يراع العلامة ابن الوزير اليماني المُحلّى عند عامة من ترجمه بالإمام المجتهد: محمد بن إبراهيم بن علي القاسمي الصنعاني مدفناً. المتوفى سنة (840) -رحمه الله تعالى- يرقم سطوره في مُجالدةٍ مع شيخه العلامة ابن أبي القاسم اليماني, المنعوت عند علماء الزيدية بمجتهد المذهب في زمانه: علي ابن محمد الهادي. المتوفى سنة (837) -رحمه الله تعالى- إذ كتب ابن أبي القاسم إلى تلميذه ابن الوزير رسالة ينصحه فيها عن ميله إلى التخلي عن مذهب الزيدية من خلال نصرته للسنة وأهلها. وقد حوت هذه الرسالة إرجافاً في الخصام, بنفثات اعتزالية, ومحاجات عقلية, وتعسفات وعصبية, وقدحاً في الرجوع إلى الآيات القرآنية, والمرويات الأثرية, والقواعد الشرعية, في سَوْرة انفعال؛ إذ بهت برجل من قطره, ومن بني جلدته, وقد تتلمذ على يده, فما هي إلا لحظات, وعينه تنفتح على تلميذه وهو ينابذه في مشربه, معتصماً بالله, ديدنه الوحيان الشريفان, جاعلاً مقالات الرجال دبر أذنيه, فاستوحش الشيخ من التلميذ, وتحامق عليه, واستعلى برسالته هذه, فتسلمها التلميذ ابن الوزير, وهش لها وبش, وكرّ وفرّ, وأقبل عليها إقبال الدهر, وأبداها صرخة حق في ضجة باطل, حتى قبضها الله,
- ب - ونفض التلميذ ما حثاه شيخه عليه من التحامق, ونقضها هذا التلميذ بكتاب مطول أسماه: ((العواصم والقواصم)) وهو مطبوع, ثم اعتصره مع زيادة إفادات, وإضافة مهمات في هذا الكتاب الذي بين يديك باسم ((الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم)) - صلى الله عليه وسلم - عنوان يلفت الأنظار, ويجذب القلوب, كيف وقد طابق اسمه مسماه لما احتواه من الذَّبِّ عن السنة, والذود عنها وعن حملتها, وكشف الشبه عنها, سنداً ومتناً, في أبحاث حديثية مسهبة, يبين فيها وجه الصواب, ويرد الشبه والاعتراض في مسائل طالما كثر فيها الجدل وطال, ومنها: عدالة الراوي والرد على دعوى تعسر أو تعذر معرفتها, وإبطال تقديم طرق الاحتجاج العقلي على النقل المعصوم. ومبحث اتصال الراوية بكتب الجرح والتعديل, والمبحث الممتع إقامة حجج الله القاهرة على عدالة من عدّلهم الله -سبحانه- ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهم صحابته -رضي الله عنهم- ونثر الحصرم في وجوه المشككة. ومبحث في التنديد بمن حصر الصحيح في الصحيحين. وآخر في النقض على من ادعى صحة مافي الكتب الستة. وتحرير طرق التصحيح والتضعيف, ومعرفة الناسخ والمنسوخ, والبحث موعباً في معترك الأقران, حول مسألة الاجتهاد والتقليد, والذب عن الأئمة الأربعة وأهل الحديث, وتقرير شرفهم, وفضيحة من تحَطَّطَ عليهم. والتعريج على مباحث عقدية في قضايا: الجبر, والتجسيم, والتأويل ... وتأصيل القول في الاعتقاد على رسم الشرع المطهر لاغير, ومنابذة علم الكلام ونصيحة أهل الإسلام بالاهتمام بالقرآن, والنهي عن الابتداع. إلى غير ذلك من أبحاث فائقة, يتخللها من النكات, والفوائد, الخير الكثير, والروض النمير, في فنون شتى.
- جـ - وإلى هذا المشمول العجاب, ترجع أهمية هذا الكتاب, وإلى أن محاورة مؤلّفه ليست نظرية, وإنما هي ميدانية في مواجهة مذهب عرفه, وارتوى منه ثم نزع إلى السنة, ثم ثاقفه المتعصبة, فأبرزت لنا هذه المنازلة: هذا الكتاب ((الروض الباسم)) وأصله: ((العواصم والقواصم)) والظاهر أن جلّ مؤلفات هذا الحبر هي في هذا الميدان, مثل: ((إيثار الحق على الخلق)) -وهو مطبوع- وغيره. لا جرم إذاً أن يسارع المصلحون إلى طبعه, وقد كان فضل السبق للشيخ محمد منير الدمشقي المتوفى سنة (1367) -رحمه الله تعالى-؛ إذ طبعه عام (13321) , فحصلت الاستفادة منه, ورجوع أهل العلم إليه, ونقلهم منه, على مدى ما يقرب من مائة عام من تاريخ طبعه, ثم تتابعت طبعاته بعد -فجزا الله الجميع خير الجزاء وأوفاه-. هذه إضاآت عن هذا الكتاب, وعن مؤلّفه, وعن نزوعه إلى السنة, وعن تعويل العلماء على كتابه. وإن كتاباً بهذه المثابة لابد أن يكون أمام اهتمامات البصراء من أهل العلم وطلابه؛ لمتابعة طباعته وإخراجه. وقد سمت همّة الشيخ الفاضل/ علي بن محمد عمران, إلى الإمساك بناصيته, والاعتناء بإخراجه على مجموعة نسخ خطية, فلما أحضره إليّ -تقبل الله منا ومنه- مطبوعاً في تجربته الأخيرة في نحو: (600) صفحة, ومقدمة التحقيق في نحو: (100) صفحة, وكشافاته في نحو: (150) صفحة, الجميع نحو: (850) صفحة, قرأت مقدمة التحقيق, وجملة من التعاليق, وفي مواضع من المتن, وفي فهارسه الكاشفة عن مخبآته, فتذكرت قول من مضى: ((دلّ على عاقل حسن اختياره)) وأضيف إليه: ((ودلّ على عاقل حسن عمله وإتقانه)) فقد جمع هذا الفاضل بين الحسنيين, وحاز الدّلالتين؛ إذ قد مشى في تحقيقه
- د - على أصول علمية نيرة, يعرف التزامه بها من كان له فضل عناية بالتحقيق, ولا أريد أن أطيل, فالعمل أمام فَوَقَةِ القراء, ومنصفيهم. وقد عافاه الله من حشر الحواشي الطوال بلا طائل -تلك الظاهرة التي تمكن غير المختصين من استباحة حمى العلوم الشرعية-. وله -أثابه الله- لفتات نفيسة في المقدمة, والحواشي, وقد أحسن كل الإحسان في كشافات الكتاب المصنفة على مجموعتين: ((الفهارس النظرية)) التي في وسع كل أحد عملها, و ((الفهارس العلمية)) التي لا يستطيع عملها بصفة دقيقة موعبة إلا طالب علم متمكن, ولا أحسب المحقق إلا ذلك. وكم لإخواننا في الله علماء اليمن وطلابه من أياد بيضاء على العلم وأهله أحيوا فيها مآثر الأجداد, ووطؤا منهم على الأعقاب, فاتصل الأحفاد بالآباء والأجداد. غفر الله لابن الوزير, ونفع الله بكتابه المسلمين, وجزى الله أخانا الشيخ علي بن محمد عمران خيراً على هذا العمل المبارك. والحمد لله رب العالمين. بكر بن عبد الله أبو زيد في مصيف عام 1419 الطائف
مقدمة التحقيق
مقدمة التحقيق إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, من يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً, يُصْلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَيَغْفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد؛ فإنّ أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - , وشرّ الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعةٍ ضلالة, وكل ضلالة في النار. فلا زال حرّاس الشريعة, وأمناء الملة في جلاد وجدال دائبين, مع كل ظالم لنفسه ومعتد على غيره, من مبتدع ضالّ مستدرك على الدين, أو جائر باغ معطل لأحكام الشرع القويم, تارة بالحجة والبرهان, وأخرى بالقوة والسلطان, بحسب وجود المقتضي وزوال المانع, فكم لهم في هذا السبيل من فضائل منشورة ومواقف مشهورة!!.
وهذا من حفظ الدين وتبليغه, قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((فالمرصدُونَ للعلم, عليهم للأمة حفظ الدين وتبليغه, فإذا لم يبلغوهم علم الدين, أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين, ولهذا قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [البقرة:159] , فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها, فلعنهم اللاعنون حتى البهائم)) (¬1) اهـ. وكتابنا هذا كتاب ((الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم)) - صلى الله عليه وسلم - أحد ثمرات تلك المهمة الجهادية, فقد تصدى المؤلف -رحمه الله تعالى- لتلك الهجمة الشرسة التي شنّها أعداء السنن, وأنصار البدع, ودعاة التقليد, اللذين فضلوا منطق اليونان على آيات القرآن, وذمّوا صحابة الرسول الفضلاء, ومن بعدهم من أكابر العلماء. فتصدّى ابن الوزير لذلك كله؛ فرفع السنن, ونصر الحديث وأهله, ودعا إلى الاجتهاد, وحث على طلب العلوم الشرعية ورغّب فيها وجعل عمادها الكتاب, والسنة النبوية, والآثار الصحابية, وذبّ عن هداة الأنام, وليوث الصّدام: صحابة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام, ومن بعدهم من علماء الإسلام. وجهاد المؤلف -رحمه الله- هو من أفضل الجهاد, لأنّ من أفضله قول الحق مع شدة المعارض, كالذي يتكلم عند من يخاف سطوته وأذاه (¬2) , وهكذا كان المؤلف-رحمه الله- في تلك البلاد وفي ذلك ¬
الزمان متفرداً بالدعوة إلى الطريقة السنيّة, فخالف أهله وأهل بلده ومذهبه (¬1) , فتناولته الألسنة البذيّة من أعداء السنة النبوية, ورموه عن قوس واحدة, فصاولهم وصاولوه, وجالدهم وجالدوه, إلا أنه احتسب ذلك كله جهاداً في الله, ((فلم تفزعه فيه ظلل الوشيج, ولم يجزعه فيه ارتفاع النشيج؛ مواقف حروب باشرها, وطوائف ضروب عاشرها, وأصناف خصوم لدّ اقتحم معها الغمرات, وواكلها مختلف الثمرات, وقطع جدالها قويّ لسانه, وجلادها شبا سنانه, قام بها وصابرها, بُلي بأصاغرها, وقاسا أكابرها, وأهل بدع قام في دفاعها, وجاهد في حطّ يفاعها, ومخالفة ملل بيّن لها خطأ التأويل, وسقم التعليل, وأسكت طنين الذباب في خياشم رؤوسهم بالأضاليل حتّى ناموا في مراقد الخضوع, وقاموا وأرجلهم تتساقط للوقوع, بأدلة أقطع من السيوف, وأجمع من السجوف, وأجلى من فلق الصّباح, وأجلب من فلق الرّماح: إذا وثبت في وجه خطب تمزّقت على كتفيه الدّرع وانتثر السّرد)) (¬2). وقد كان المؤلف ابتدأ جوابه بكتابه الموسوعي العظيم ((العواصم والقواصم)) , ثم اختصره واعتصره في هذا الكتاب, فرتّب ¬
وهذّب, وقدّم وأخّر, وأتى من الحجج بأقواها, ومن اللوازم بما يلزم, ومن الاعتراض بما يُفحم, وزاد مع ذلك كله فوائد وقواعد وفرائد لا وجود لها في ((الأصل)) فأضحى كتاباً برأسه (¬1). وقد سبق لهذا الكتاب أن طبع طبعات عدة -يأتي التعريف بها- وقد مضى على طبعته الأولى قرابة المئة عام, غير أن تلك الطبعات قد امتلأت بالتحريفات والسقط, مع عدم الوفاء بما تتطلبه مهمة التحقيق من أمور علمية وفنية, فانعقد العزم على تحقيق هذا الكتاب والعناية به, والله أسأل أن يكتب لي أجره إنه خير مسئول. وقدّمت أموراً قبل تحقيقه هي: 1 - ترجمة المؤلف: ((لحفيد أخيه: محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة (897هـ))). وصدّرت هذه الترجمة بمقدمة المحت فيها إلى أهمية دراسة شخصية ابن الوزير دراسة موعبة, وما حصل من تقصير في ترجمته من المتقدمين والمتأخرين والمحدّثين. ثم عرّفت بالمؤلّف «صاحب ترجمة ابن الوزير)) وبكتابه. 2 - دراسة الكتاب, وفيها: -اسم الكتاب. -إثبات نسبته للمؤلّف. -تاريخ تأليفه. -سبب تأليفه. ¬
-موارده. -الثناء على الكتاب, وعكسه. -علاقة المختصر بالأصل, وأوجه المغايرة والامتياز بينهما. -غرضه منه, ومنهجه فيه. -تنبيهات على أمور لها تعلّق بالمنهج. -طبعات الكتاب. -مخطوطات الكتاب, ونماذج منها. -عملي في الكتاب. ثمّ ألحقت الكتاب بفهارس نظرية وعلمية, وهي: 1 - كشاف الآيات القرآنية. 2 - كشاف الأحاديث والآثار. 3 - كشاف الشعر. 4 - كشاف الكتب الواردة في المتن. 5 - كشاف الأعلام. 6 - كشاف موضوعات الكتاب على الفنون. 7 - كشاف الفوائد واللطائف. 8 - كشاف المصادر والمراجع. 9 - كشاف الموضوعات. كتب/ عليّ بن محمد العمران 19/ 3/1419 في مكة المكرمة -حرسها الله-
أولا: ترجمة المؤلف
أولاً: ترجمة المؤلّف تمهيد إن علماً كإبن الوزير -رحمه الله- لم يستوف حقّه من الدراسة الواعية الشاملة لجوانب حياته وآثاره!! تلك الدراسة القائمة على السّبر والاستقصاء والتتبّع. هذا رغم مالهذا الإمام من أهمية عظمى في التغيّرات الفكرية والعقدية في اليمن, فإنه وقف بقوّة وصلابة أمام الامتداد الزّيدي المعتزليّ, ناقضاً لمبانيه, داحضاً لشبهاته ومباغيه. وتكمن أهميّة دراسة هذه الشخصيّة في جانبين: أولهما: في تلك الثروة العلمية التي خلّفها, حيث جمع بين العلوم النقلية, والعلوم العقلية -وقلّما يجتمعان-!! أما العلوم النقليّة؛ فهذا الفنّ هو الذي أعجز الخصوم, إذ لا عناية بهم به, بل هم من أبعد الفرق عن الاعتناء بعلوم الحديث تدريساً وتصنيفاً (¬1) , وقد اعترفوا له بذلك. فقد ((حُكي عن السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد الأزرقي أنّه قال: لا يبلغ أحد في زماننا هذا من الاجتهاد ما بلغ إليه السيّد عز الدين محمد بن إبراهيم, وقد أحسنّا كل شيء إلا ما بلغ إليه, فلم نقدر عليه, لتمكّنه من معرفة ¬
الحديث ورجاله, وتبحّره في السمعيات)) (¬1). وهو كما قال, فقد وصفه بالحفظ جماعة من العلماء واعترفوا له بذلك؛ كالنفيس العلوي (شيخه) , والهادي الوزير, والصنعاني, والشوكاني. والناظر في كتبه (¬2) يجده واسع الحفظ (¬3) , غزير الإطلاع, فهو يسرد في المسألة الواحدة أزيد من مئتي حديث مستحضراً لتراجم الرواة, وما قيل فيهم, وله اختيارات وترجيحات وعبارات تدلّ على تمكنه من هذا الفنّ, وله كلام على دقائق علوم الاصطلاح, والجرح والتعديل (¬4) , وهو بكتب الحافظ الذهبي أشدّ عناية, بل يكاد يستظهرها خصوصاً ((النبلاء)) و ((الميزان)) (¬5). أما العلوم العقليّة (¬6)؛ فقد بلغ منها الذروة العليا, بل هو جذيلها المحكّك, وعذيقها المرجّب, ((شهد له بذلك جميع أهل الزّمان, من الأقارب والأباعد, والمخالف له في الاعتقاد والمساعد)) (¬7). ولا عجب -أيضاً-؛ لأن هذه الفنون هي التي أفنى فيها ابن ¬
الوزير عنفوان شبابه, وزهرة أيّامه, إلا أنه لم يقف منها موقف العاجز المسلّم, بل فحص وحقّق, وبحث ودقّق, حتى اتضحت له مناهج الصوب فسلكها, وانكشفت له سبل الباطل فزيّفها وردّها (¬1) , وذلك بعد رجوعه إلى الكتاب والسنة, فقد وجد فيهما الشّفاء كلّه: دقّه وجلّه. قال ابن الوزير (¬2) -رحمه الله-: ((فإني ما زلت مشغوفاً بدرك الحقائق, مشغولاً بطلب المعارف, مؤثراً الطلب لملازمة الأكابر, ومطالعة الدفاتر, والبحث عن حقائق مذاهب المخالفين, والتفتيش عن تلخيص أعذار الغالطين, محسّناً في ذلك للنيّة, متحريّاً فيه لطريق السويّة, متضرّعاً إلى الله تضرّع مضطر محتار, غريق في بحار الأنظار, طريح في مهاوي الأفكار, قد وهبت أيام شبابي ولذّاتي, وزمان اكتسابي ونشاطي, لكدورة علم الكلام والجدال, والنظر في مقالات أهل الضلال, حتى عرفت صحّة قول من قال: لقد طفت في تلك المعالم كلها ... وسيّرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كفّ حائر ... على ذقن أو قارعاً سنّ نادم (¬3) وسبب (¬4) إيثاري لذلك, وسلوكي تلك المسالك: أنّ أول ما ¬
المدرسة الممتدة للفكر الإصلاحي
قرع سمعي, ورسخ في طبعي: وجوب النّظر, والقول بأنّ من قلد في الاعتقاد فقد كفر, فاستغرقت في ذلك حدّة نظري, وباكورة عمري, وما زلت أرى كلّ فرقة من المتكلمين تداوي أقوالاً مريضة, وتقوّي أجنحة مهيضة, فلم أحصل على طائل, وتمثلت بقول القائل: كلٌّ يداوي سقيماً من مقالته ... فمن لنا بصحيح ما به سقم فرجعت إلى كتاب الله, وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقلت: لا بدّ أن يكون فيها براهين وردود على مخالفي الإسلام, وتعليم وإرشاد لمن اتبع الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. فتدبّرت ذلك, فوجدت الشّفاء كلّه, دقّه وجلّه, وانشرح صدري, وصلح أمري, وزال ما كنت به مبتلى, وأنشدت متمثلاً: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافر)) ا هـ. وثانيهما: تلك المدرسة الممتدّة للفكر الإصلاحي الذي اختطه ابن الوزير -رحمه الله- في تلك المنطقة, متمثلاً ذلك المنهج في نخبة من العلماء, لهم مواقف مسطورة, على تفاوت بينهم؛ فمن مقلّ ومستكثر, ومنهم: -القاضي محمد بن محمد بن داود النهمي, رفيق ابن الوزير في الطلب. -الحسن بن أحمد بن محمد بن علي بن صلاح الجلال ... (1084هـ). -محمد بن علي بن قيس (¬1) (1096هـ). ¬
-يحيى بن الحسين بن القاسم (1100هـ). -صالح بن مهدي المقبلي (1108هـ). -محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (1182هـ) , وهو وارث علوم ابن الوزير, وشارح كتبه (¬1). -محمد بن علي الشوكاني (1250هـ). -محمد بن عبد الملك الآنسيّ (1316هـ). -أحمد بن عبد الله الجنداري (1337هـ). -عبد الله بن محمد العيزري (1364هـ). -حسين بن أحمد بن قاسم الخوثي (1386هـ). ((وإذا كان الإصلاح (الذي اختطه الرائد) يسير ببطء؛ فما هو المتسبّب, وإنما ذلك لطبيعة الزمان والمكان, وضعف المقتضيات, وقوة الموانع, وحسبه أن حرّك الخامد, وزعزع الجامد, وأجال اليد المصلحة)) (¬2) ومن نافلة القول أن هذه الدراسات الوصفية لهذه المدارس ¬
الفكرية, لن تؤتي أكلها, ولن تقوم على سوقها, إلا بدراسة مسبقة شاملة عن رائد تلك المدرسة, ولمّا يحصل ذلك -فيما أعلم-. وبعد؛ فلم يحض ابن الوزير -رحمه الله- بالترجمة لا من معاصريه, ولا من بعدهم. أما معاصريه؛ فلم يترجم له أحد منهم في كتبهم المشهورة كالمقريزي (845هـ) في ((درر العقود الفريدة)) , فقد ترجم فيه لمعاصريه, ولا الحافظ ابن حجر (852هـ) في ((إنباء الغمر)) , وهو على شرطه (¬1) , ولا العيني في ((عقد الجمان)) , ولا الفاسي (832هـ) في ((العقد الثمين)) (¬2) , ولا ابن تغري بردي (874هـ) في ((المنهل الصافي)). إلا ابن فهد (871هـ) فقد ترجمه ترجمة موجزة في ((معجمه)) نقل السخاوي في ((الضوء اللامع)): (6/ 272) جلّ ما فيها. ثم ترجم له السخاوي ترجمة موجزة في ((الضوء)) جلّها من ((معجم ابن فهد)) , وهذا يدل على عدم معرفته به, خاصّة أنه وهم فيها عدة أوهام!!. ولذلك قال الشوكاني: ((وكذلك السخاوي لو وقف على (العواصم والقواصم) لرأى فيها ما يملأ عينيه وقلبه, ولطال عنان قلمه في ترجمته, ولكن لعله بلغه الاسم دون المسمّى)). ثم قال: ((ولا ريب أن علماء الطوائف لا يكثرون العناية بأهل هذه الديار لاعتقادهم في الزيدية مالا مقتضى له, إلا مجرد التقليد لمن ¬
لم يطلع على الأحوال, فإن في الديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عدداً يجاوز الوصف يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة, ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية ... ولا يرفعون إلى التقليد رأساً, لا يشوبون دينهم بشيءٍ من البدع التي لا يخلو أهل مذهب من المذاهب من شيء منها, بل هم على نمط السلف الصالح ... )) (¬1) ا هـ. أما أهل بلده؛ فقد انتصبوا لعداوته, والطعن فيه, والترسّل عليه, لا لشيء!! إلا لأنه ((ذبّ عن السنة ودفع عن أعراض أكابر العلماء وأفاضل الأمة, وناضل أهل البدع, ونشر علم الحديث, وسائر العلوم الشرعية في أرض لم يألف أهلها ذلك, لا سيما في تلك الأيام)) (¬2). وكان قائد تلك الحملة: شيخه جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم (837هـ) وهو المردود عليه في هذا الكتاب -كما سيأتي مشروحاً-. قلت: بل بُلي بمن يطعن فيه من أهل بيته (¬3)!! ويقول: إنه ممن أضله الله على علم!! وهذا كما قيل: وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً ... على النفس من وقع الحسام المهنّد (¬4). ومن أبشع ما وقفت عليه في الكلام على المؤلف -رحمه الله- ¬
والتعصب عليه, مافاه به يحيى بن شمس الدين بن أحمد بن يحيى المرتضى (965هـ) , فقد ساق القاضي الأكوع في ((هجر العلم)) (¬1) نقلاً عن هذا الرجل كلاماً شنيعاً مُقذعاً في حق الإمام ابن الوزير -رحمه الله-. والشأن ما قاله الشوكاني: ((إن هذه قاعدة مطردة في كلّ عالم يتبحّر في المعارف العلمية, ويفوق أهل عصره, ويدين بالكتاب والسنة, فإنه لا بدّ أن يستنكره المقصّرون, ويقع له معهم محنة بعد محنة, ثمّ يكون أمره الأعلى, وقوله الأوْلى, ويصير له بتك الزلازل لسان صدقٍ في الآخرين, ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره .... )) (¬2) اهـ. أمّا من ترجم له من أهل بلده فهم: 1 - تلميذه محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير ... (897هـ) في ترجمة مستقلة, وهي التي نشرتها هنا في مقدمة هذا الكتاب. 2 - أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الوزير (985هـ). في ((تاريخ بني الوزير)) (ق/35ب-41ب). 3 - أحمد بن صالح بن محمد بن علي بن أبي الرجال (1092هـ) في ((مطلع البدور ومجمع البحور)) (مخطوط). 4 - يحيى بن الحسين بن القاسم (1100هـ) في ((طبقات الزيدية الصغرى)) (مخطوط). 5 - إبراهيم بن القاسم بن المؤيد (1153هـ) في ((طبقات الزيدية الكبرى)) (مخطوط). ¬
6 - الوجيه العطّاب في ((تاريخه)) (¬1). 7 - الشوكاني (1250هـ) في ((البدر الطالع)) (2/ 81 - 93). وقال: إن ترجمته تحتمل مجلداً. وقد ترجم له ترجمة هائلة, ونعته بعبارات ضخمة, لم يطلقها ولا مثلها على أحد ممن ترجم له في كتابه أجمع. وغير هؤلاء ...... أما المحدثين؛ فقد قدّم حوله عدد من الدراسات العلمية هي: - ((ابن الوزير اليمني ومنهجه الكلامي)) لرزق الحجر, طبع سنة ... (1404هـ). - ((إيثار الحق على الخلق)) لابن الوزير, دراسة وتحقيق, الجزء الأول, لأحمد مصطفى حسين صالح, رسالة ماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود عام (1403هـ) , وطبعت سنة (1405هـ). -الجزء الثاني من ((الإيثار)) , رسالة ماجستير بالجامعة نفسها, لمحمد بن زيد العسكر, عام (1408هـ) , ولمّا تطبع. - ((ابن الوزير وآراؤه الاعتقادية)) , رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى, لعلي بن علي الحربي سنة (1406هـ) , وطبعت سنة (1417هـ) في مجلدين. - ((منهج ابن الوزير في الحديث)) رسالة دكتوراه, بالمغرب, لأخي العزيز محمد بن عبد الله باجعمان, ولمّا تناقش بعد. -كما أفرده أحمد العليمي بباب كامل في رسالته للماجستير ¬
((الصنعاني وكتابه توضيح الأفكار)): (ص/109 - 138) , لم يقدم فيها جديداً!!. -الإمام ابن الوزير وكتابه العواصم, للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع. ولمّا لم أرد تكرار الجهد, واجترار المعلومات؛ رأيت أن أسهم هنا بنشر ((ترجمة ابن الوزير)) لحفيد أخيه محمد بن عبد الله بن الهادي (897هـ). وهذه ترجمته: من كتاب ((هجر العلم ومعاقله في اليمن)): (1/ 450 - 451). هو: ((محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى الوزير (¬1). عالم مبرز في كثير من العلوم, نسّابة شاعر أديب, وكان له خط جميل. وقرأ على عمّ أبيه الإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير. طُلب منه أن يدعو إلى نفسه بالإمامة فوافق في بداية الأمر, ثم أعرض عنها. ذكره البريهي في تاريخه المطوّل, فقال: ((إنه التزم بمذهب الزيدية, وكان وزيراً للإمام الناصر, ثم عزله, وقال: إنه أطلع على قصيدة للفقيه إبراهيم الإخفافي ينتقد فيها مذهب الزيدية, مطلعها: مذهبكم يا أيها الزيدية ... مذهب حق جاء للعدلية قال: ذلك تهكماً, فأجاب عليه محمد بن عبد الله الوزير بقوله: قصيدة فريدة دريّة ... رائعة في الوزن والرويّة وهي (92) بيتاً تعرّض فيها للمذهب الشافعي, فردّ عليه ... ¬
النسخة الخطية
علي بن أبي بكر السّحولي بقصيدة سماها ((الشهب الثاقبة الدامغة للفرقة القدرية الزائغة)) وهي في (260) بيتاً؛ مطلعها: * ما بالكم يا معشر الزيدية * ثم قال البريهي: ((وله يد باقعة في علم النحو والأدب والشعر)). توفي بحدّه ليلة السبت المسفرة عن (15 شعبان 897هـ) , وذكر إبراهيم بن القاسم في ((طبقاته)) أنه توفي بصنعاء وقُبر في جربة الروض. وكان مولده بصعدة سنة (810هـ) انتهى. أما النسخة الخطية (¬1): فتقع في (7) ورقات في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء, بخط لطف بن سعد السّميني (¬2). وهي نسخة جيدة ومقابلة, فرغ من نسخها في ذي القعدة سنة ... (1336هـ) , وفي نهايتها فائدة عن ابن الوزير لمّا سافر إلى الحج. وقد التزمت الاقتصاد في التعليق على الكتاب, إلا في الكتب, فقد ذكرت كلّ ما فات المؤلف من كتب المترجم له, مع ذكر أماكن وجودها إن وقعت لي. ولا يفوتني أن أنبه إلى أني قد حذفت جميع ما يتعلق بالتعريف بكتاب ((العواصم)) من هذه الترجمة, إذ لا تعلّق له بالترجمة, ولأن الكتاب مطبوع متداول, ولأن القاضي الأكوع قد فرّغ هذا التعريف في تقدمته للعواصم, فأغنى ذلك عن الإعادة, مع طول هذا التعريف فهو من (ق/1ب-4ب) , والله -سبحانه- أستعين, وبه أستهدي. ¬
ترجمة ابن الوزير -رحمه الله- تأليف محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير ت (897هـ)
اسمه والثناء عليه
بسم الله الرحمن الرحيم ربّ عونك الحمد لله الذي أمرنا بحمده, وزادنا من فضله ورفده, وصلاته وسلامه على رسوله وعبده, وعلى آله وصحبه من بعده. أما بعد؛ فإنّه سألني من لاح لي صدقه, وعظم عليّ حقّه من الإخوان المتّقين, ذوي الفضل والإخلاص واليقين: أن أجمع ترجمة مباركة لحيّ الوالد السيّد الإمام عزّ الدين, محيي سنة سيّد المرسلين: محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- وأضمّنها كلاماً وسيطاً, لا مختصراً ولا بسيطاً (¬1) , وعلى أساليب تراجم المحدثين, دون أساليب المبتدعين المحدثين؛ فأجبته إلى ذلك بقدر طاقتي وإمكاني, وحسب قدرتي وإحساني (¬2) , مستعيناً بالله -سبحانه وتعالى- فأقول: هو شيخنا وإمامنا وبركتنا وقدوتنا: السيّد السّند, الإمام العلامة الرّحلة (¬3) الحجّة, السنّي الصّوفي, فريد العصر, ونادرة الدّهر, وخاتمة النّقاد, وحامل لواء الإسناد, وبقيّة أهل الاجتهاد بلا خلاف ولا عناد. كشّاف أصداف الفرائد, قطّاف أزهار الفوائد, فاتح أقفال ¬
مولده
اللطائف, مانح أثقال الظرائف (¬1) , مصيب شواكل المشكلات بنواقد أنظاره, مطبق مفاصل المعضلات بصوارم أفكاره, مضحك كمائم النّكت من نوادره, مفتح نواظر الطّرف من (¬2) موارده ومصادره: عزّ الدين, محيي سنّة سيد المرسلين, أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عليّ بن المرتضى بن المفضّل الحسنيّ القاسميّ الهادوي, نسباً على السّماك عالياً, ومذهباً إلى الصواب هادياً. كان رأساً في المعقول والمنقول, وإماماً في علمي الأصول (¬3) , وله ردّ على صاحب ((النهاية)) (¬4) و ((المحصول)) (¬5) في إنكار التحسين والتقبيح العقليّ, لم يسبق إلى مثله, وكذلك الردود على غيره من غلاة المعتزلة في كثير من المسائل التي عادوا فيها السّمع من نصوص كتاب الله تعالى وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , وهي مبسوطة في كتابه الجامع الكبير الموسوم بـ ((العواصم)) فمن أراد الوقوف عليها فليطالعه موفّقاً. [مولده] مولده - رضي الله عنه - ورحمه- في شهر رجب الأصبّ, من شهور سنة خمس وسبعين وسبع مئة بهجرة الظّهراوين (¬6) من شظب, ¬
مؤلفاته, وبعض شعره
وهو: جبل عالٍ باليمن. هكذا نقلته من خطّه - رضي الله عنه - وحفظته من غيره من الأهل (¬1). [مؤلّفاته, وبعض شعره] وله - رضي الله عنه - مصنّفات عديدة, ومجموعات مفيدة, منها: كتاب ((العواصم في الذبّ عن سنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) , أربعة أجزاء مجلّدة (¬2) , اشتمل من الفوائد على مالم يشتمل عليه كتاب, وها أنا أذكر ما تضمّنه كل جزء منها لإرشاد الطّالب لذلك, وتنبيه الرّاغب إليه, أرشدنا الله تعالى لما يحبّ ويرضى (¬3) ... ثمّ إنه -رحمه الله تعالى- ختم كتابه (¬4) بهذه الأبيات: جمعت كتابتي راجياً لقبوله ... من الله فالمرجو منه قريب رجوت بنصر المصطفى وحديثه ... تكفّر لي يوم الحساب ذنوب ومن يتشفع بالحبيب محمد ... إلى الله في أمرٍ فليس يخيب ¬
فياحافظي علم الحديث لي اشفعوا ... إلى الله فالرب الكريم يجيب لعلّ كتابي أن يكون مذكّراً ... لكم بالدّعا للعبد حين يغيب ولا سيما بعد الممات عسى به ... يبلّ غليل أو يكفّر حوب ولا تغفلوا في أن بليت فودّكم ... وإن بليت منّي العظام قشيب ومهما رأيتم في كتابي قصوره ... فستراً وغفراً فالقصور معيب ولكنّ عذري واضح وهو أنّني ... من الخلق أخطي تارة وأصيب وقد ينثني الصّمصام وهو مجرّد ... وينكسر المرّان وهو صليب ولكنني أرجوه إن حلّ داركم ... حلا منه ورد بالأجاج مشوب يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى طيبكم فطيب وقال في الدّعاء إلى السنّة بعد هذه الأبيات المذكورة (¬1): عليك بأصحاب الحديث الأفاضل ... تجد عندهم كلّ الهدى والفواضل إلى آخرها, وهي معروفة, تركتها اختصاراً. ومنها: فلا تقتدوا إلا بهم وتيمموا ... لهم منهجاً كالقدح ليس بزائل (¬2) ألم تر أنّ المصطفى يوم جاءه الـ ... ـوليد بقول الأحوذيّ المجادل وفي هذا البيت إشارة إلى كلام الوليد بن المغيرة, أو عتبة بن ربيعة (¬3) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , حين عرض عليه المال والرّياسة, ويترك ¬
دعوى النبوة, فلم يجب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بتلاوة سورة السجدة (¬1) , وعلى هذا كان أصحابه -رضي الله عنهم-, ومنها: تنكّب منهاج المرا وتلاله ... من السّجدة الآيات ذات الفواصل ولم يجعل القرآن غير مصدّق ... إذا لم تقدمه دروس الأوائل كذا فعل الطيّار يوم خطابه ... لأصحنةٍ (¬2) بين الخصوم المقاول (¬3) تلا لهم آي الكتاب فأيقنوا ... بها بشهادات الدّموع الهواطل إلى جمل الإسلام صار أولو النّهى ... وعادوا إليها بعد بُعد المراحل أبو حامد (¬4) وابن الخطيب (¬5) وهكذا ... الإمام الجويني الذي لم يماثل كذا ابن عقيل (¬6) وهو أبرع عاقل ... غدا وهو معقول كبعض العقائل ¬
ومنها: عليكم بقول المصطفى فهو عصمة ... من الزّيغ إني لست عنه بعادل سعدت بذبّي عن حماه وحبّه ... كما شقيت بالصّدّ عنه عواذلي فلما وقف صنوه السيد العلامة الهادي بن إبراهيم -رحمه الله- على هذا الكتاب, وعلى هذه الأبيات, تلقّى ذلك بالقبول, وقال مجيباً لأخيه, وما أحسن ما يقول!: وقفت على سمط من الدّر فاضل ... ترقّ له شوقاً قلوب الأفاضل لمتبع منهاج أحمد جدّه ... وحامي حمى أقواله غير ناكل بديع المعاني في بديع نظامه ... وثيق المباني في فنون المسائل إذا لزمت يمناه نصل يراعه ... سجدن له طوعاً جباه المناضل وإن خاض في بحر الكلام تزيّنت ... بجوهره عنق الرّقاب العواطل تبارى وقوم في الجدال فأصبحوا ... وإن لججوا في علمهم في جداول أسمت عيون الفكر في روض قوله ... فأنشدت بيت الأبطحي (¬1) المواصل أعوذ بربّ النّاس من كلّ طاعنٍ ... علينا بشكّ أو ملحٍ بباطل وثنّيت لمّا أن تصفحت نظمه ... بقول فصيح نابه القول فاضل /يروم أناس يلحقون بشأوه ... وأين الثّريّا من يد المتناول (¬2) وثلّثت بالبيت الشهير وإنّه ... لدرّة عقد المفردات الكوامل وقد زادني حبّاً لنفسي أنّني ... بغيض إلى كلّ امريء غير طائل علام افتراق الناس في الدين إنّه ... لأمرٌ جليٌّ ظاهرٌ غير خامل ¬
عليك بما كان النبيّ محمّد ... عليه, ودع ما شئت من قول قائل هو المسلك المرضيّ والمذهب الذي ... عليه مضى خير القرون الأوائل فدن بالذي دان النبيّ وصحبه ... من الدّين واترك غيرهم في بلابل هم الشّامة الغرّا وهم سادة الورى ... وهم بهجة الدّنيا ونور القبائل وأرفع ما تدلي به من فضائل ... على الخلق أدنى مالهم من فواضل إذا أنت لم تسلك مسالك رشدهم ... وتمسك من أقوالهم بالوصائل فقد فاتك الحظّ السنّي ولم تكن ... إلى الحق في نهج السّبيل بواصل رضيت بدين المصطفى ووصيّه (¬1) هم قادة القادات بعد نبيّهم ... إلى مشرع الحق الرّوي (¬2) السلاسل إلى السنة البيضاء والملة التي ... عليها مثار النّقع من كلّ صائل ولكنها عزّت بدعوة أحمد ... وقامت ببرهان من الحق فاصل ¬
مؤيّدة في حربها بملائك ... مشيّدة في أمرها بعواسل عصابة جبريل الأمين جنودها ... يحفّ بها في خيلها في قنابل (¬1) أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها ... من الجيش إلا أنّها لم تقاتل ولم يعجز الصّدّيق بعد وفاته ... عن الحرب بل شاد الهدى بجحافل وتابعه الفاروق فاشتدّ ركنه ... وسار بهم في الحق سيرة عادل وتمّم ذو النّورين سعياً مباركاً ... وعم جميع المسلمين بنائل وقام بأعباء الخلافة بعدهم ... عليّ فأمسى الدّين راسي الكلاكل عليك بهدي القوم تنج من الرّدى ... وتغلو بهم في الفوز أعلى المنازل وقال بعد هذه الأبيات ما لفظه: كتب هذه الأسطر الفقير إلى رحمة الله ورضوانه: الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى, أرضاه الله بعفوه حامداً لله, ومصلياً على نبيه, ومسلّماً ومرضياً على آله وأصحابه. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان, ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربّنا إنّك رءوف رحيم. فهذا الكلام انسحب عليّ من ذكر ((العواصم)) , وأردت تقييد هاتين القصيدتين في هذا الموضع, لأنّهما غرّتان في القصائد, ودرّتان في منظومات القلائد, ولنرجع إلى تعداد ما عرفت من تصانيفه -رحمه الله- فمنها: * ((ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان)) (¬2). كتاب مفيد, انتهى ¬
من البلاغة والغرابة إلى شأوٍ بعيد, وما أحسن قوله فيه (¬1): منطق الأولياء والأديان ... منطق الأنبياء والقرآن ولأهل اللجاج عند التّمادي ... منطق الأذكياء واليونان فإذا ما جمعت علم الفريقين ... (م) ... فكن مائلاً مع الفرقان وإذا ما اكتفيت يوماً بعلمٍ ... كان علم المحدّث الربّاني إنّ علم الحديث علم رجال ... ورثوا هدي ناسخ الأديان فحصوا عن حديثه ورأوه ... بعيون القلوب رأي العيان جمعوا طرق ما تواتر عنه ... ورأوا بعده صحيح المباني ورووا بعده حسان الأحاديث ... (م) ... ووهّوا ما دون شرط الحسان فانظروا في مصنّف ابن عديّ (¬2) ... وكتاب ((التكميل)) (¬3) و ((الميزان)) (¬4) ... ¬
تعرفوا أنّهم قد ابتغوا الحقّ ... وصحوا من علة الإدهان ومنها: *كتاب ((البرهان القاطع في معرفة الصّانع وجميع ما جاءت به الشّرائع)) (¬1) , صنّفه في سنة إحدى وثمان مئة. ومنها: * ((تنقيح الأنظار في علوم الآثار)) (¬2) وهو كتاب جليل القدر, جمع فيه علوم الحديث, وزاد ما يحتاج إليه طالب الحديث من علم أصول الفقه, وأفاد فيه التعريف لمذهب الزيدية, وهو يغني عن كتاب ((العلوم)) (¬3) للحاكم, صنّفه في آخر سنة ثلاث عشرة وثمان مئة. ومنها: *كتاب ((التأديب الملكوتي)) وهو مختصر وفيه عجائب وغرائب. ومنها: *كتاب ((الأمر بالعزلة في آخر الزمان)) (¬4). ¬
ومنها: *كتاب ((قبول البشرى في تيسير اليسرى)) (¬1). ومنها: *كتاب ((نصر الأعيان على شر العميان)). قال فيه ما لفظه: ((وقد ولع بعض أهل الجهل والغرّة بإنشاد الأبيات المنسوبة/ إلى ضرير المعرّة, وهي أحقر من أن تسطر, وأهون من أن تذكر, ولم يشعر هذا المسكين أنّ قائلها أراد بها القدح في الإسلام من الرّأس, وهدم الفروع بهدم الأساس. وليس فيها أثارة من علم فيستفاد بيانها, ولا إشارة إلى شبهة فيوضح بطلانها, وإنما سلك قائلها فيها مسلك سفهاء الفاسقين, والزنادقة المارقين, وما لا يعجز عن مثله الأراذل من ذم الأفاضل, بتقبيح مالهم من الحسنات وتسميتها بالأسماء المستقبحات, تارة ببعض الشبهات, وتارة بمجرّد التهويل في العبارات, كما فعل صاحب الأبيات. وصدّر الكتاب المذكور بهذه الأبيات: ما شأن من لم يدر بالإسلام ... والخوض في متشابه الأحكام لو كنت تدري ما دروا مافاه بالـ ... ـعوراء (¬2) فوك ولا صمت صمام ... لكن جمعت إلى عماك تعامياً ... وعمومة فجمعت كلّ ظلام ¬
فاخسأ فما لك بالعلوم دراية ... القول فيها ما تقول حذام ما أذكر العميان للأعيان بل ... ما أذكر الأنعام للأعلام وإذا سخرت بهم فليس بضائر ... أن هرّ كلب في بدور تمام من لم يكن للأنبياء معظّماً ... لم يدر قدر أئمة الإسلام لم تدر تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت تحت الموج وهي طوامي وقد أحببت ذكر هذه الأبيات لما فيها من الذّبّ عن أئمة الإسلام -رضي الله عنهم- ولنرجع إلى تعداد مصنفاته: ومنها: *كتاب ((إيثار الحق على الخلق)) (¬1) , صنّفه سنة سبع وثلاثين وثمان مئة, في معرفة الله, ومعرفة صفاته على مناهج الرّسل والسّلف. رأى -رحمه الله تعالى- بعد فراغه من تسويده: قوله تعالى: ... {فَسَالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]. وقوله تعالى: {فَأُولَئكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]. ورأى بعد الفراغ من تبييضه: سورة النصر بكمالها, ومن سورة الضحى: {وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. ومن سورة يس: {قِيلَ ادخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَومِي يَعْلَمُونَ} [يس:26]. ورأى أنه أعطي فواتح كثيرة من فواتح السور. ¬
وأما الرسائل والردود على المبتدعة من طائفتي المعتزلة والأشعرية؛ فلا يأتي عليها العدّ (¬1) , ولا يستطاع على ما تضمّنته الردّ!!. ¬
ذكر شيوخه ورحلته في طلب العلم ورسوخه
ذكر شيوخه ورحلته في طلب العلم ورسوخه: أما علم الأدب: فصنوه السّيّد جمال الدين الهادي, والقاضي العلامة جمال الدين محمد بن حمزة بن مظفر, وكان المشار إليه في علوم العربية واللغة والتفسير في تلك المدة.
وأما علم الأصول: فالقاضي العلاّمة, ملك العلماء وقاموس الحكماء, عبد الله بن حسن بن عطيّة بن محمد بن المؤيد الدّواري, والفقيه العلاّمة العلم جمال الإسلام والمسلمين علي بن عبد الله بن أبي الخير, وكان المشار إليه, والمتصدر للتدريس بصنعاء اليمن في علمي الأصول. قرأ عليه ((شرح الأصول)) وهو معتمد الزيدية في البلاد اليمنية, و ((الخلاصة)) و ((الغياصة)) و ((تذكرة الشيخ المتكلم ابن متّويه)) وغيرها في علم اللطيف. وسمع عليه ((مختصر المنتهى)) للفقيه النحوي المالكي ابن الحاجب, وطالع كتب آبائه الكرام في هذا الفنّ كـ ((المجزي)) للسيد الإمام الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني, و ((صفوة الاختيار)) للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان الحبشي, وغيرهما. وكذلك مؤلفات جدّه السّيد العلاّمة يحيى بن منصور بن العفيف بن المفضل, ومصنفات السيد العلاّمة حميدان بن يحيى القاسمي, ومثل كتاب ((الجامع الكافي)) للسّيد الإمام [أبي] عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني, وكتاب ((الجملة والألفة)) للفقيه الإمام العلاّمة [ ... ] (¬1) علماء الزيدية وقدماء الشيعة: محمد بن منصور المرادي المتفق على علمه, وفضله (¬2). وعرف ما وقع فيه الخلاف بينهم وبين المعتزلة, وجمع في ذلك مختصرات مفيدة, ¬
ومقالات فريدة. وكان زميله ورفيقه في طلب هذين العلمين: القاضي محمد بن داود النهمي نفع الله به, فإنه لزمه وصحبه واقتفا آثاره, واستصوب أنظاره, وأخذ يراجعه في مسائل الكلام وتضعيف ما جاء به المتكلمون, مثل قولهم: إنّه من لم يعرف الله بأدلتهم المبنية على المقدمات المنطقية من عامة المسلمين, فهو كافر!! ومثل ما نصّ عليه شيخهم أبو هاشم وتبعه عليه أصحابه البهاشمة من غير مناكرة ولا مبالاة من قولهم: ما يعلم الله من نفسه إلا/ ما يعلمونه, وهو ردّ لقوله تعالى في سورة طه: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] , بل يقال لهم: ليس الواحد منكم يعلم من نفسه ما يعلم الله منه حتى قيلت فيهم الأشعار, وسارت بالتشنيع عليهم الركبان في الأقطار, فمن ذلك قول بعضهم: يا ضلّة الضالين حيث توهّموا ... ما لا يفوه به التّقي المسلم قالوا إله العرش ليس بعالم ... من ذاته والوصف مالم يعلموا هذي مقالة من هوى في متلف ... وعليه ديجور الغواية مظلم وربما تأوّل بعضهم قول شيخهم: بأنه لا يعلم سبحانه من نفسه إلا بما يعلمونه, بأنه سبحانه يعلم أنه قادر, وأنّا نعلم أنّه قادر, وكذلك سائر الصّفات الواجبة له سبحانه وتعالى. ممن ذكر هذا التأويل: القاضي العلاّمة فخر الدين في كتابه الموسوم بـ ((شريدة القنّاص في شرح خلاصة الرّصاص)) , وهو تأويل ضعيف يمجّه السّمع, ولا يسوغ سماعه عند المحققين من أهل النظر والسمع!!. ولو صحّ مثله؛ لصحت تأويلات المبطلين لبواطلهم, وكم لهم
من هذا وأمثاله! ما لو ذكرناه لأحوجنا إلى التطويل, وأخرجنا عن المقصود. فلمّا عرّف القاضي المذكور تضعيف هذه المسائل وأمثالها؛ اعترف بفضله ونبله, واغترف من نمير وبله وطلّه. وقرأ السّيد المذكور كتاب ((مختصر المنتهى)) (¬1) على السيد العلاّمة جمال الإسلام وواسطة عقد النظام في السّلاة (¬2) الكرام: علي بن محمد بن أبي القاسم الهادي, وكان في تلك المدة هو المشار إليه في فنون العلم جميعها, ولما سمع عليه هذا ((المختصر)) بهره ما رآه من صفاء ذهنه, وحسن نظره, وألمعيّته وبلاغته, وفطنته, وبراعته. وكان يطنب في الثناء عليه, ويرشد طلبة العلم إليه, حتى ترسّل السيد جمال الدين إلي السيد عزّ الدين الرّسالة المعروفة (¬3) , ¬
التي نسب إليه فيها القول بالرؤية, وبقدم القرآن, بمخافة أهل البيت -عليهم السلام-, وبناها على مجرّد التوهمات الواهية, والتخيلات الباردة, ولم يوجب الكلام عليه في ذلك إلاّ العمل بمقتضى مذهب أهل البيت -عليهم السلام- ولا فعل شيئاً إلاّ وفيه خلاف بينهم -عليهم السلام- ولكنه كان يرى أنّهم إذا اختلفوا, وكان مع أحد الفريقين منهم نصّ نبوي وكان الفريق الآخر محتج بالرأي مصرّحين به أو محتجين بحديث ضعيف عنده؛ رجّح العمل بقول مع عضده النّص النّبوي, ولا أقلّ لرسول الله من أن يكون كلامه مرجحاً فقط, وإنكار هذا من عود الدين غريباً. وقال -رحمه الله- في شأن المتكلمين في ذلك (¬1): إن كان حبي حديث المصطفى زللاً (¬2) ... مني فما الذّنب إلاّ من مصنّفه وإن يكن حبّه ديناً لمعترف ... فذاك ديمي وهمّي في تعرّفه ومذهبي مذهب الحق اليقين فما ... تحوّل الحال إلا من تشوّفه وذاك مذهب أهل البيت إنهم ... نصّوا بتصويب كلّ في تصرّفه نصّوا بتصويب كلّ في الفروع فما ... لوم الذي لام إلاّ من تعسّفه فما قفوت سوى أعلام منهجه ... ولا تلوت سوى آيات مصحفه أمّا الأصول فقولي فيه قولهم ... لا يبتغي القلب حيفاً عن تحنّفه ففي المجازات أمضي نحو معلمه ... وفي المحارات أبقى وسط موقفه وإن سعيت فسعيي حول كعبته ... وإن وقفت ففي وادي معرّفه ¬
وحق حبي له أني به كلف ... يغنيني الطبع فيه عن تكلّفه هذا الذي كثّر العذال فيه فما ... تعجّب القلب إلاّ من معنّفه ما الذنب إلا وقوفي بين أظهرهم ... كالماء ما الأجن إلا من توقّفه والمندل الرّطب في أوطانه حطب ... واستقر صرف الليالي في تصرّفه يستأهل القلب ما يلقاه ما بقيت (¬1) ... له علاقة تدليع بمألفه ولم يزل -رحمه الله- متمسّكاً بأهل البيت سرّاً وجهراً, معتنياً في إظهار عقيدته في ذلك نظماً ونثراً (¬2) , ومن شعره -رحمه الله- يعرض بالسيد المذكور في اختلاف أقواله فيه, وهي من ألطف العتاب وأحسن ما يدور بين الأصحاب (¬3): عرفت قدري ثم أنكرته ... فما عدا بالله ممّا بدا في كلّ يوم لك بي موقف ... أسرفت بالقول بسوء البدا أمس الثّنا واليوم سوء الأذى ... يا ليت شعري كيف تضحي غدا يا شيبة العترة في وقته ... ومنصب التعليم والاقتدا (¬4) قد خلع العلم رداء الهوى ... عليك والشّيب رداء الرّدى فصن ردائيك وطهّرهما ... من دنس الإسراف والاعتدا /ثم إنّه بعد ذلك انتصب لنشر هذه العلوم, وتصدّر برهة من الزّمان, وأهرع إليه الطلبة من كلّ مكان, فاستناروا بمعارفه, واقتبسوا من فوائده, فظهر أمره وبعد صيته, فلما رأى أن في هذا طرفاً من الدنيا ¬
والرياسة, قرّع نفسه وقمعها, ومنعها مما تشوفت إليه وردعها, ثم أقبل على الله بكليته فلزم العبادة والأذكار, وقيام الليل وصيام النّهار, وتأديب النفس وإذلالها للملك الجبار فألجمها بلجام الزهد, وجرّها بعنان القوى, وأجراها في ميدان والورع, وساقها بسوط الصبر, وأدخلها اصطبل الخلوة, وربطها إلى جدار التوكل, وعلفها الجوع, وسقاها الدموع, وألبسها سرابيل الذّل والخضوع, وتوّجها بتاج التبتّل والخشوع, ولم يبق نوع من أنواع الرياضة, ولا طريق من طرق السلوك إلا سلك بها مسلكه, وشرع بها في جناحه, وكلّفها بحمل أعبائه. ولقد كان يخصف نعله, ويتكسب لأهله, وربما تظاهر بأنواع التصرفات والحرف, كحرف الفدادين والجفاة, ويلبس الصوف الخشن, ويفطر على قرص الشعير بلا إدام, ويقصد بذلك رياضة (¬1) نفسه وتحقيرها وتصغيرها, وردعها وتعريفها بمنزلتها عنده. وهذه أبيات له - رضي الله عنه - إلى السيد الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى, وقد أنفذ إليه بمسائل (¬2) في الإمامة وغيرها, وكان يومئذ مقيماً بـ «ثُلأ)) (¬3) فلم يجب عليه, فكتب في ذلك إليه. أعالمنا هل للسؤال جواب ... وهل يروي العطشان (¬4) منك عباب إلى آخرها تركتها اختصاراً. ¬
ومن رقائق شعره في بعده من الناس وانقطاعه, أبيات كان كتب بها إلى السيد الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى الهادوي المفضّلي -رحمه الله تعالى- عقيب دعوته: أعاذل دعني أرى مهجتي ... أزوف الرحيل ولبس الكفن وأدفن نفسي قبل الممات ... في البيت أو في كهوف القنن إلى آخرها تركتها اختصاراً. وله - رضي الله عنه - في ذكر أهل البيت -عليهم السلام-: أولئك آباءي على رغم منكر ... لكوني على منهاجهم في مذاهبي وحسبي بهم إن رام نقصي معاند ... شجّا في حلوق الحاسدين النواصب ومن أبيات كتبها إلى السيد جمال الدين علي بن المؤيد الهادي: ولو شئت أبكيت العيون معاتباً ... وألهبت نيران القلوب رقائقاً إلى آخرها تركتها اختصاراً. * * *
فصل في ذكر ما سنح من أشعار منه وإليه فمن ذلك أبيات كتبها إليه حيّ صنوه السيد الإمام العلاّمة جمال الدين الهادي بن إبراهيم, وقد شفي من مرض شديد: بشرى بعافية العلوم كلامها ... وحديثها وحلالها وحرامها وأصولها وفروعها وبيانها ... وبديعها وغريبها ونظامها لمحمد شفيت وزال سقامها ... وبه شفاء الداء من أسقامها لما ألمّ بجسمه ألم سرى ... منه إلى الأرواح في أجسامها وشفاه من آلامه ربّ السّما ... فشفى علوم الدين من آلامها حمداً لمن أولاك برد سلامة ... وحباك من تحف الهدى بسلامها الله أحمد قد شفى لي مهجة ... هامت وحقّ لها عظيم هيامها لمحمد عز الهدى وهو الذي ... قد حلّ في العلياء فوق سنامها هذا الذي أحيا العلوم وذا الذي ... أحيا التلاوة فهو بدر ظلامها الله قلدني بذلك نعمة ... عظمى ينوء الشكر تحت مصامها لو إنّ عدناناً حبتني كلّها ... ببيان منطقها وحسن كلامها ما كنت أبلغ شكرها من نعمة ... لو كانت الأشجار من أقلامها.
فالله يوزعنا جميعاً شكرها ... ويزيدنا حمداً على إتمامها إني أقول مقالة قد قالها ... عمرٌ ببطحا مكة وإكامها مع حسن خاتمة أفضّ ختامها ... ورضاه عني يالطيب ختامها قلت: وقد ترجم له الفقيه الأديب البارع وجيه الدين عبد الرحمن بن أبي بكر العطار (¬1) في تاريخه الذي سمّاه: [ ... ] (¬2)؛ فقال ما لفظه: ((الإمام الحافظ أبو عبد الله, شيخ العلوم وإمامها, ومن في يديه زمامها, قلّد فيها وما قلّد, وألفى جيد الزمان عاطلاً فطوّقه بالمحاسن وقلّد. /صنّف في سائر فنونها, وألّف كتباً تقدم فيها وما تخلّف, وله في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الباع المديد, والشأو البعيد, الذي ما عليه من مزيد, وله شعر تحسده زهر النجوم, وتود لو أنّها في سلكه المنظوم)). ثم أورد له القصيدة التي قالها, وقد سأله بعض الطلبة أن يقرأ عليه في المنطق بكمالها, التي أوّلها: يا طالب العلم والتحقيق في الدين ... والبحث عن كلّ مكنون ومخزون ثم أورد له أبياتاً بعدها ذكرتها لغرابتها وعدم وجودها: شجتني الدّيار الدّراسات البلاقع ... بنجدٍ وبكّتها الحمام السّواجع أعارت عيوني دمعها كل مزنةٍ ... لتروى بها تلك الرّبا والمراتع أيا دمنة ما بين رامة والنقى ... سقتك دموعي والسّحاب الهوامع ¬
وإن قلّ دمعي زدت أمطرت من دمي ... عليها كما قلبي هنالك ضائع سبته التي كالشمس وجهاً ودونه ... غواش عليها رصدت وأضالع فقلت لها: ردّية طوعاً وأحسني ... إليّ فإني مغرم القلب والع وإلا استبيناها على رغم معشر ... أطارتهم من خوف قومي الفجائع لأنّا أناس لا تطلّ دماؤنا ... ومن رامنا خسفاً فلسنا نطاوع لنا الذروة العليا لنا المجد والعلى ... لنا الشرف الأقصى فأين المراجع ورثنا رسول الله مجداً ومفخراً ... وعلّمناً وفضلاً كل ذلك واقع وجزنا بأسباب السّماء نزفّها ... إلى حيث لم يبلغه دانٍ وشاسع رضعنا من العليا لباناً وحرّمت ... على كلّ خلق الله تلك المراضع فما سامنا فيما فعلناه ماجد ... ولا رامنا فيما ارتقيناه طامع قال: وله القصيدة المشهورة في ذكر العقيدة التي كان عليها, ومحبته للسنة النبوية, وذكر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - , أنشأها سنة ثمانٍ وثمان مئة: ضلّت عواذله تروح وتغتدي ... وتعيد تعنيف المحبّ وتبتدي إلى آخرها تركتها اختصاراً. فأجابه عنها صنوه السيد الإمام جمال الدين الهادي بن إبراهيم -رحمه الله- فقال: عجلت عواذله ولم تتأيّده ... وجنت عليه جناية المتعمّد ومنها: ومحبّر وافي إليّ نظامه ... كالدّرّ في عنق الغزال الأغيد أربى عليّ بلاغة وبراعة ... وأكلّ مذوده المنوّه مذودي وهي قصيدتان فريدتان شرحهما السيد الإمام جمال الدين, واستوفى ما يحتاج الشرح والبيان, وهما موجودتان في كتاب مجلد.
قال الوجيه العطّار (¬1): له - رضي الله عنه - ورحمه- في التورية, وهي نوع من علم البديع: يروي حديث وداد عمر ومدمع ... إرساله يغنيك عن إسناده ذكر رحلته وطلبه لعلم الحديث النبوي صلوات الله على صاحبه, وإجازة مشايخ أهل هذا الفن الشريف له بألفاظها. أما حديث أهل البيت -عليهم السلام-؛ فاجازته فيها من السّيد الإمام العلاّمة جمال الدين الناصر بن أحمد بن أمير المؤمنين, تركتها وغيرها من عدّة إجازات عديدة بسيطة لطولها. والله يعيد من بركته, ويوفق إلى أوسع رحمته ورضاه وتقواه بحق لا إله إلا الله, وبجاه (¬2) سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وجميع رسله آمين آمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. كان فراغ رقمه نهار الجمعة, لعله (21) من شهر شعبان الكريم سنة (1139هـ) وحسبنا الله وكفى. ذكر وفاته رحمه الله: كانت في اليوم السابع والعشرين من شهر المحرم غرّة سنة أربعين وثمان مئة, وهو العام الذي وقع فيه الطاعون, وهلك فيه الناس أجمعون, فإنّا لله وإنا إليه راجعون! وما أحقه -رحمه الله- بقول الزمخشري في الإمام ابن سمعان (¬3): ¬
مات الإمام ابن سمعان فلا نظرت ... عين البصيرة إذ ضنّت بأدمعها وأي حوباً ما صمّت (¬1) ولا عميت ... ولا استفادت بمرآها ومسمعها أين الذي لو شريناه لما أخذت ... ببعضه هذه الدّنيا بأجمعها أين الذي الفقه والآداب إن ذكرت ... فهو ابن إدريسه وهو ابن أصمعها من للإمامة ضاعت بعد قيّمها ... من للبلاغة عيّت بعد مصقعها من للأحاديث يميلها ويسمعها ... بعد ابن سمعان ممليها ومسمعها سرد الأسانيد كانت فيه لهجته ... ككفّ داود في تسريد أدرعها /خلّى الأئمة حيرا فقد أعلمها ... على اتفاق وأسخاها وأورعها إلى آخر الأبيات. وفي هذا اليوم الذي مات فيه, كان وقوع الداهية الدهياء, والحادثة الجلّى, وذلك وفاة الإمام الأعظم, أمير المؤمنين, المنصور بالله رب العالمين: علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن منصور بن يحيى بن منصور بن المفضل بن الهادي إلى الحق - - عليه السلام -. ولو أشرنا إلى الأحداث من بعده, وما اتفق على من بقي من ولده, وأهل ودّه, لكلّت الأقدام وامتلأت المهارق بالكلام, وقلّ أن يأتي في مجلد مفرد, والحمد لله على كل حال, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد, والحمد لله الذي بعزه وجلاله وبنعمته تتم الصالحات. * * * ¬
اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته, وأهل بيته, وأنصاره, وأشياعه, ومحبيه وأمته, وعلينا معهم أجمعين آمين, واغفر لي ولمالكه ولجميع المؤمنين يا ربّ العالمين آمين. حُرّر [في] ذي القعدة سنة (1336هـ) ختمت بخير إن شاء الله (¬1). ¬
ثانيا: التعريف بالكتاب
ثانياً: التعريف بالكتاب وفيه: - اسم الكتاب. - إثبات نسبته إلى المؤلّف. - تاريخ تأليفه. - موارده. - الثناء على الكتاب وعكسه. - علاقة المختصر بالأصل, وأوجه المغايرة والامتياز بينهما. - غرضه منه, ومنهجه فيه. - تنبيهات على أمور لها تعلق بالمنهج. - طبعات الكتاب. - مخطوطات الكتاب, ونماذج منها. - عملي في الكتاب.
اسم الكتاب
اسم الكتاب سمّاه المؤلّف -رحمه الله- في فاتحة (¬1) كتابه, فقال: ((وسمّيته الروض الباسم في الذّبّ عن سنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -)). وقد اقتصر ابن الوزير على تسميته بـ ((الروض الباسم)) ي عدد من كتبه اختصاراً, كما وقع في ((العواصم)): (1/ 225) , و ((تنقيح الأنظار)): (ق/70ب) وكذا اختصر التسمية كل من ترجم له, أو نقل من كتابه؛ كابن فهد في ((معجمه)) , وعنه السخاوي في ((الضوء اللامع)): (6/ 272) , والمقبلي في ((العلم الشامخ)): (ص/255) , والشوكاني في ((البدر الطالع)): (2/ 92) , والصنعاني في مواضع منها: ((توضيح الأفكار)): (2/ 453) , و ((إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد)): (ص/83) , (ق/6أ) مخطوط, و ((إجابة السائل شرح بغية الآمل)): (ص/127). وهذا الاسم هو الثابت على طرر النسخ الخطية للكتاب, إلاّ في نسخة (ي) -التي سيأتي وصفها- فإنه وقع فيها: ((الروض الباسم مختصر العواصم والقواصم في الذّبّ عن سنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -)). وهذا من تصرّف الناسخ في الاسم, وأخبار عن واقع الأمر, وإلا فالتسمية ثابتة في مقدمة المؤلف. ¬
إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه
إثبات نِسبة الكتاب إلى مؤلّفه الكتاب مقطوع بنسبته إلى المؤلّف, ويتبين ذلك بأمور: 1 - قال المؤلف في كتابه ((العواصم والقواصم)): (1/ 225) -وهو أصل هذا الكتاب-: ((ثمّ إنّي قد اختصرت هذا الكتاب في كتاب لطيف سمّيته: ((الروض الباسم)) .... )) اهـ. 2 - أشار المؤلف في مقدمة ((الروض)) لى كتاب ((العواصم)) وأنه أصل هذا المختصر, كما أحال المؤلف على كتابه ((العواصم)) باسمه أو بقوله: ((الأصل)) في مواضع بلغت أربعة وعشرين موضعاً ((انظر فهرس الكتب)). 3 - الاتفاق بين الكتابين ((الأصل)) و ((المختصر)) في مباحث الكتاب وأصل وضعه, بل في عبارات كثيرة هي في الكتابين بنصّها. 4 - أشار المؤلّف إلى كتابه هذا في كتابه ((تنقيح الأنظار)): (ق/70ب) فقال: ((وقد استقصيت أحاديثهم وشواهدها في كتاب ((الروض الباسم)).)) اهـ. وقال: ((وقد ذكرت منها جملة شافية في ((العواصم والقواصم)) , وفي المختصر منه: ((الروض الباسم ... )) اهـ. 5 - نقل العلماء عنه, فقد نقل الإمام الصنعاني عنه في ((توضيح الأفكار)): (2/ 453 - 465) نصّاً طويلاً في تعداد أحاديث معاوية, وعمرو بن العاص, والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهم-. وما نقله الصنعاني هو في ((الروض)): (2/ 524 - 569) كما أشار إليه في ((التوضيح)) في مواضع هي: (1/ 300)
(2/ 194, 199) , وذكره في رسالته ((إرشاد النقاد)) (¬1): (ص/74, 83) , وذكره في ((إجابة السائل)): (ص/127) في الكلام على فُسّاق التأويل, وذكره في ((فتح الخالق في شرح مجمع الحقائق والرقائق)): (ق/111) نسخة الجرافي. 6 - ذكر هذا الكتاب له كلّ من السخاوي في ((الضوء)): (6/ 272) نقلاً عن ابن فهد في ((معجمه)) , والشوكاني في ((البدر)): (2/ 92) , والقنوجي في ((التاج)): (ص/191). وغيرهم. 7 - ما جاء على النسخ الخطية من نسبته للإمام ابن الوزير -رحمه الله-. وبعض ما تقدم يكفي في ثبوت النسبة. * * * ¬
تاريخ تأليفه
تاريخ تأليفه أنهى المؤلّف كتابه في يوم الأربعاء, الثالث من شهر شعبان الكريم من شهور سنة سبع عشرة وثمان مئة. هذا ما جاء عن المؤلف في آخر النسخة التي بخطّه, كما جاء في خاتمة الطبعتين المنيرية والسلفية, حيث اعتمدوا على نسخة منقولة عن نسخة نقلت عن نسخة بخط المؤلّف (¬1). ولو لم يكن ذلك أيضاً نصّاً لاقتربنا من تحديده استنباطاً, ذلك أن المؤلّف قد انتهى من ((الأصل)) سنة (808هـ) (¬2) فهو قد ألف المختصر بعد هذا التاريخ جزماً. ويقول المؤلف في ((الروض)): (1/ 213): ((وذكر شيخنا ابن ظهيرة -أمتع الله المستفيدين ببقائه- .... )) , وشيخ المؤلف محمد بن عبد الله بن ظهيرة توفي ليلة الجمعة سادس عشر رمضان سنة سبع عشرة وثمان مئة بمكة (¬3) , فيكون وقت تأليف الكتاب قبل موت ابن ظهيرة. وهناك ثمّة نصوص أخرى لها علاقة بتاريخ تأليف الكتاب؛ لكن لا قيمة لها مع ما سبق من تحديد دقيق (¬4). ومما لا شك فيه أن المؤلف لا زال يعتبر كتابه ((العواصم)) ويزيد فيه إلى قبيل وفاته, فمما وجد صريحاً في ذلك قوله في ((العواصم)): ¬
(9/ 355): ((وبذلك كملت الأحاديث أربع مئة في عدّتي, وأظنها أكثر؛ لأني قد زدت فيها بعد فراغي من التسويد لحقاً بعد كمال الأربع مئة حديث في الرجاء أحاديث كثيرة في ذلك .. )) ثم عدها فبلغت الزيادة أربعة وسبعين حديثاً. ومن معالم تلك الإضافات أنه نقل من كتب الحافظ ابن حجر ... -عصريّه- التي ألفت بعد إكماله كتاب العواصم فهو ينقل عن ((التلخيص الحبير)) (¬1) , وهو لم يتم إلا بعد (808هـ) وينقل من ((مقدمة فتح الباري)) (¬2) , ولم تتم إلا بعد (813هـ) , ومن ((شرح النخبة)) (¬3) ولم يتم إلا بعد (818هـ) , ويسمّيه ((علوم الحديث)). بل يحيل على كتابه: ((إيثار الحق على الخلق)) وهو آخر مؤلفاته, تم في سنة (837هـ) (¬4). ولعلّ هذه الزيادات والتنقيحات قد وقعت في نسخة المؤلف التي بخطه في أربع مجلدات (¬5) , ومن ثمّ تفرّعت بقية النسخ فثبتت فيها هذه الزيادات. بخلاف ما وقع في ((الروض)) فالظاهر أنه انتسخ عقب فراغ المؤلف منه؛ فبقيت بعض البياضات ونحوها على حالها, انظر ((الروض)): (1/ 276) , (2/ 522, 537) وانظر (ص/84 - 85) من المقدمة. * * * ¬
سبب تأليفه
سبب تأليفه سبق (¬1) أن ذكرنا أن شيخ المصنّف علي بن محمد بن أبي القاسم (837هـ) قد ترسّل على المؤلف برسالتين؛ إحداهما في الرد على قصيدته في التمسك بالسنة, والرسالة الأخرى هي المردود عليها ((بالعواصم)) و ((الروض)) والتي وصفها ابن الوزير بقوله: ((إلا أنه لما اتسع الكلام وطال, واتسع مجال القيل والقال, جاءتني رسالة محبّرة, واعتراضات محرّرة, مشتملة على الزّواجر والعظات, والتنبيه بالكلم الموقظات, زعم صاحبها أنه من الناصحين المحبين, وأنه أدى ما عليه لي من حق الأقربين ... )) وأسهب في وصفها, ثم قال: ((ثم إني تأملت فصولها وتدبّرت أصولها؛ فوجدتها مشتملة على القدح تارة فيما نقل عني من الكلام, وتارة في كثير من قواعد العلماء الأعلام, وتارة في سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام, فرأيت ما يخصّني غير جدير بصرف العناية إليه .. وأما ما يختص بالسنن النبوية والقواعد الإسلامية, مثل قدحه في صحة الرجوع إلى الآيات القرآنية, والأخبار النبوية والآثار الصحابية ... فتعرضت لجواب ما اشتملت عليه من نقض تلك القواعد الكبار, التي قال بها الجلّة من العلماء الأخيار)) (¬2). وقد اتفقوا أن المعترض لم ينصف في رسالته تلك, ولا استعمل أساليب أهل العلم في الاعتراض والرد, بل اعتسف وحاد واستعمل ¬
أساليب أهل الّلجاج والعناد. وانظر ((تاريخ بني الوزير)): (ق/37ب- 38أ) , و ((ترجمة ابن الوزير)): (ق/6ب) , و ((فتح الخالق)): (ق/111) , ... و ((البدر الطالع)): (1/ 485). قال الصنعاني في ((فتح الخالق)): (( ..... وترسّل عليه شيخه السيد علي بن محمد بن أبي القاسم برسالة بديعة, درات في مواقف الأعيان, وشغف بها كل إنسان, واحتاج الناظم -رحمه الله- أن يشمّر ساعد الجد والاجتهاد, ويجلب الأدلة من الأغوار والأنجاد .... )) اهـ. وقال الشوكاني: ((وترسل عليه -أي ابن أبي القاسم- برسالة تدل على عدم انصافه ومزيد تعصّبه -سامحه الله-)) اهـ. فكان ثمرة هذه الرسالة الكتاب العظيم المشهور: ((العواصم والقواصم)) الذي لم يؤلّف في الديار اليمنية مثله -كما عبّر الشوكاني-. ثم إن هذا الجواب لما تم اشتمل على علوم كثير؛ أثرية ونظرية, ودقيقة وجليّة, وحجج متكاثرة للمسائل التي نصرها, وإشكالات قد تبلغ المئين على المسائل التي ينقضها, فدعاه ذلك لاختصاره حيث قال: ((ثم إني تأمّلت الكتاب -بعد ذلك- فوجدت ما فيه من التطويل والتدقيق؛ يصرف الأكثرين عن التأمل له والتحقيق, لا سيما والباعث لداعيه النشاط إلى معرفة مثل هذا إنما هو وجود من يعارض أهل السنة, ويورد على ضعفائهم الشّبه الدقيقة, ومن عوفي من هذا ربما نفر عن مطالعة هذه الكتب نفرة الصحيح عن شرب الأدوية النافعة, وألم المكاوي الموجعة؛ فاختصرت منه هذا الكتاب)) (¬1) اهـ. ¬
موارده
موارده لقد تنوعت موارد ابن الوزير -رحمه الله- في كتابه هذا, إذ استفاد من جميع العلوم الإسلامية المتمثلة في مصنفات علماء الإسلام الحافلة, من تفسير وحديث, وفقه وأصول, ولغة وعقائد. وقد ضرب المؤلف -رحمه الله- للدارسين مثلاً أعلى, وهمة تحتذى, لا تعرف الكلل ولا السأم, فلقد كان حريصاً كلّ الحرص على الإفادة والإقتباس من كلّ ما طالته يده من مصنفات أهل السنة لنقل أقوالهم منها, مع بعد عن ديارهم وعن مصنفاتهم الحافلة, كما صرح بذلك في مواضع (¬1). كما حرص في الوقت نفسه على النقل من كتب أصحاب المعترض من الزيدية والمعتزلة, ولم يشكُّ من شَحِّها وعدم توفرها؛ إذ الأرض أرضهم والدولة لهم, مع استظهاره لكثير منها (¬2). ¬
كما أبان المؤلف عن سعة اطلاع كبيرة, فبلغ به الاستيعاب في النقل إلى أن كاد يستوعب معاصريه وشيوخهم, فهو ينقل عن ابن تيمية (728هـ) , والمزّي (742هـ) , والذهبي (748هـ) , وابن القيم (751هـ) , وابن كثير (774هـ) , وابن الملقّن (804هـ) , والعراقي (806هـ) , وشيخه النفيس العلوي (825هـ) , بل تعدّى ذلك كله فنقل عن الحافظ ابن حجر (852هـ) الذي مات بعده باثنى عشر عاماً (¬1). ولقد كان للمصنفات الحديثية القدح المعلّى في ترتيب موارده, وتليها الكتب الأصولية, وهذا ذكر أهم الكتب التي اعتمدها المؤلف, ومن أراد الاستيعاب فليكشف ((كشاف الكتب)) الواردة في الكتاب. *أهم كتب الحديث (¬2): 1 - ((الاستيعاب)) لابن عبد البر. (98, 113, 137, 138, 141, 246, 250, 252, 254, 268, 269, 273). 2 - ((إرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه)) لابن كثير. (35, 68, 104, 111, 209, 471). 3 - ((أسد الغابة)) لابن الأثير. (42, 138). 4 - ((الأربعون)) للنفيس العلوي. ¬
(183, 453). 5 - ((البدر المنير)) لابن الملقن. (40, 101, 107, 287, 288). 6 - ((التمهيد)) لابن عبد البر. (31, 254, 294, 319, 320). 7 - ((التبصرة)) للعراقي. (40, 42, 67, 165). 8 - ((تذكرة الحفاظ)) للذهبي. (102, 107, 169, 172, 319, 505). 9 - ((جامع الأصول)) لابن الأثير. (34, 144, 444, 469, 536). 10 - ((جوامع السيرة)) لابن حزم. (122, 389). 11 - ((جامع الترمذي = سنن الترمذي = الجامع الكبير)) انظر فهرس الكتب. 12 - ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي. (57, 232, 248, 268, 271, 272, 289, 387). 13 - ((السنن)) لأبي داود. (151, 152, 260, 470, 532, 538, 566). 14 - ((شرح مسلم)) للنووي. (100, 143, 155, 160, 164, 252, 302, 343, 368, 450, 451, 469).
15 - ((شفاء الأوام)) للأمير الحسين. (151, 200, 314, 569). 16 - ((صحيح البخاري)) في مواضع كثيرة انظر: كشاف الأعلام والكتب. 17 - ((صحيح مسلم)). في مواضع كثيرة انظر: كشاف الأعلام والكتب. 18 - ((علوم الحديث)) للعراقي. (36, 236). 19 - ((علوم الحديث)) لابن الصلاح. (67, 145, 136, 274). 20 - ((العلل)) للدارقطني. (175, 236). 21 - ((ميزان الاعتدال)) للذهبي. (36, 166, 169, 170, 236, 239, 264, 271, 297, 323, 325, 365, 380, 388, 414, 428, 461, 488, 521). 22 - ((الموطأ)) للإمام مالك. (151, 321, 526, 529, 532, 534, 543, 544, 546, 547, 558, 566). 23 - ((مسند أحمد)) (297, 374, 398). *كتب الفقه والأصول. 1 - ((الانتصار)) ليحيى بن حمزة.
(98, 482, 483). 2 - ((البرهان)) للجويني. (178, 367, 368, 469). 3 - ((تعليق الخلاصة)) للدواري. (152, 184, 462, 522). 4 - ((جوهرة الأصول)). (192, 482). 5 - ((الخلاصة)) للرصاص. (101, 107). 6 - ((الدرر المنظومة)) للمنصور. (37, 56, 71, 161, 207, 482, 483). 7 - ((روضة الطالبين)) للنووي. (55, 232, 233, 378, 380, 401, 402, 406, 407). 8 - ((الزيادات)). (207, 345, 403). 9 - ((شرح العيون)) للحاكم الجشمي. (70, 96, 105, 192, 306, 461, 482, 522). 10 - ((شرح مختصر المنتهى)) للشيرازي. (72, 119, 207, 216). 11 - ((المجموع شرح المهذب)). (208, 209). 12 - ((صفوة الاختيار)) للمنصور.
(31, 37, 69, 70, 119, 149, 161, 172, 180, 207, 209, 481). 13 - ((عمدة الأمة في إجماع الأئمة)) للريمي. (383, 548). 14 - ((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)) للعز بن عبد السلام. (209, 411, 503). 15 - ((اللمع)). (33, 483, 522). 16 - ((المجزيء)) لأبي طالب. (30, 37, 172, 192, 783). 17 - ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري. (56, 70, 96, 99, 105, 173, 223, 310, 482). 18 - ((مختصر المنتهى)) لابن الحاجب. (73, 114, 207, 222, 232, 368, 486). 19 - ((المحصول)) للرازي. (200, 231, 233, 246, 484, 485, 489). 20 - ((نهاية المجتهد)) لابن رشد. (285, 568). *علوم متفرقة: 1 - ((أسباب النزول)) للواحدي. (249). 2 - ((الإحياء)) للغزالي.
(343, 344). 3 - ((الأذكار)) للنووي. (400). 4 - ((تفسير القرطبي)). (249, 495). 5 - ((حادي الأرواح)) لابن القيم. (183). 6 - ((رياض الصالحين)) للنووي. (378). 7 - ((الشفاه)) للقاضي عياض. (230, 233, 422). 8 - الصحاح. (443). 9 - ((ضياء العلوم مختصر شمس العلوم)) للحميري. (234, 304). 10 - ((عقود العقيان في الناسخ والمنسوخ من القرآن)) (96, 205). 11 - ((العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور)) لابن دحية الكلبي. (391, 398). 12 - ((الكشَّاف)) للزمخشري. (51, 75, 81, 151, 435, 436, 372). 13 - ((المدهش)) لابن الجوزي.
(300). 14 - ((النهاية)) لابن الأثير. (50, 72, 313, 384, 385, 431). 15 - ((نهاية العقول)) للرازي. (356, 377). 16 - ((الوسيط)) للواحدي. (249). وغيرها كثير, وزادت جملتها على المئة وخمسين مصدراً, هذا فيما صرّح باسمه, ومن أراد الاستقصاء فليرجع إلى ((كشاف الكتب)) , و ((كشاف الأعلام)) فيمن لم يصرح باسم كتابه. * * *
الثناء على الكتاب وعكسه
الثناء على الكتاب وعكسه وقع كتاب ((الروض الباسم)) موقعه من علماء السنة, فأثنوا عليه واغتبطوا به, وكان بعكس ذلك على من غلظ حجابه عن الفضائل, ولم يرفع رأساً لواضحات الدلائل؛ واتبع هواه فأضلّه الله!. فممن أثنى على ((الروض)) الإمام العلاّمة المبدع شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري الشافعي (¬1) المتوفى (837هـ) حيث كتب إلى مؤلفه ما يلي: ((ولقد وقف المملوك على «الروض الباسم)) فما هو إلا الحسام القاصم, ولقد وقع من القلوب موقع الماء من الصادي والنُّجح من الغادي, والراحة من المخمور, و [الصلة] من المهجور, ولقد نصرت الحديث على الكلام, والحلال على الحرام, وأوضحت الصراط المستقيم, وأشرت إلى النهج السليم, ولم تترك شبهة إلا فضحتها, ولا حجّة إلا أوضحتها, ولا زائغاً إلا قوّمته, ولا جاهلاً إلا علمته, ولا ركناً للباطل إلا خفضته, ولا عقداً لمبتدع إلا نقضته, ولقد صدقت الله في الرغبة إليه, ووهبت نفسك لله وتوكلت عليه, فالحمد لله الذي أقرّ عين السنة بمكانه, وأدالها على البدع وأهلها ببرهانه, ولقد أظهر من الحق ما ودّ كثير من الناس أن يكتمه, وأيّد دين الأمة الأمية بما علمه الله وألهمه, فعض على الجذل, وسيجعل الله بعد عسر يسراً, وإنا لا ندري لعل الله يحدث بعد ذلك ¬
أمراً, وإذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه, وفتح لمن أراد الدخول بابه. *إذا الله سنَّى حلَّ عقدٍ تيسراً* ومن وقف على ما أفحمت به ذلك المعتدي, [من الحق] الذي استحلبت (¬1) فيه بالإعجاز والتحدي؛ علم أن بينه وبين النفثات النبوية أنساباً شريفة لا تحل عقودها, ولا تضاع حقوقها, ورحماً بلّها ببلالها, وبادر إلى صلتها ووصالها, لقد أبقى نوراً في وجه الزمان, وسروراً في قلوب أهل الإيمان, وقلّدت جيد السنة منة وأي منة, وأصبح شخصك ملموحاً بعيون البصائر, ودرّك ملتقطاً بأسماع الضمائر, والمنّة في ذلك للمصنف على عامة أهل الملّة وخاصَّة على أعيان هذه النحّلة, فحقّ على الكل أن يعرفوا حقّه إن كانت لهم أفهام تقدر قدره, وأن يستضيئوا بنوره إن كانت لهم أبصار تثبت للنور فجره. وأرى لهم أن يكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب سمع الدعاء إلى الفلاح فوثب, وقلّب الله قلبه إلى الحق فانقلب؛ من غير ترهيب استفزه, ولا ترغيب هزه, ولا مناظرة غيّرته, ولا محاسدة اعترته, بل توفيق من الله إلهي, وإلهام سماوي, سهّل عليه مفارقة العادة وما نشأ عليه بدءاً وإعادة, وإن أمراً هذا أوله؛ فعواقبه عن النجاح مسفرة, وقصداً هذا مبتدؤه, فغوارسه مثمرة. وإني لأرجو الله حتى كأنني ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع ثم أجاب ابن الوزير على هذا التقريض بقوله: ¬
ومن عجب لم أقضه منه أنه ... توهَّمني في العلم سامي المراتب أغرك أني قد ذكرت وإنما ... ذكرت لأني من جبال المغارب وقد عدمت فيه البصائر والنهى ... فطِبْت بذكرى موت كل الأطايب ولو عدمت وُرق الحمائم لم يكن ... بمستبعد تشبيهنا بالنواعب وألبست تأليفي ((العواصم)) بالثنا ... جميلاً أطاب الشكر من آل طالب وما فيه من حسن سوى أنه شجا ... روافض صحب المصطفى والنواصب وما كان تأليفي له عن تضلّع ... من العلم يشفي الصدر من كل طالب ولكنني والحمد لله منصف ... أذبّ بجهدي عن صحاح مذاهبي فلا تتوهمني بعلم محققاً ... فإنك ما جربت كلّ التجارب توهّمت يا ذا (¬1) بالتخيل حينما ... دجا الليل وامتدت ذيول الغياهبِ رويداً خليلي لا يغرك إنما ... رأيت التي تدعى بنار الحباحِبِ وما كلّ نارٍ نار موسى لمهتد ... ولا كل برق في الثقال الهواضب نصحتك لا أني تواضعت فانتفع ... بنصحي فما أرضى خِداعاً لصاحب ولا زلت يا خير الأفاضل باقياً ... رضيع لبان للعلا والمناقب (¬2) وأثنى عليه العلاّمة إسحاق بن يوسف بن المتوكل (¬3) , فقال في آخر ((الروض الباسم)) من نسخته: ((انتهى ما أردت من مطالعة هذا ¬
السفر الجليل, الذي هو برؤ العليل وشفاء الغليل, فرحم الله مؤلفه رحمة واسعة, وحشره في زمرة حبيبه الشفيع ... )) (¬1) اهـ. وأثنى عليه الصنعاني في ((فتح الخالق)) (¬2) فقال بعد أن ذكر رسالة المعترض-: ((واحتاج الناظم -رحمه الله- أن يشمّر ساعد الجد والاجتهاد, ويجلب الأدلة من الأغوار والأنجاد, وأتى بما لم يأت به الأوّلون, وبما يعجز عنه المتأخرون, وألف ((العواصم والقواصم في الذّبّ عن سنة أبي القاسم)) واختصره بكتابه ((الروض الباسم)). فكأن رسالة شيخه إنّما أثارت كنوزاً من المعارف, وعمرت كعبة لكل طائف, من المحققين المصنّفين وعاكف)) اهـ. وأثنى عليه العلاّمة القنّوجي (1307هـ) في ((أبجد العلوم)): (1/ 358) , فقال: ((وللسيّد الإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني -رحمه الله- كتب ورسائل مستقلة في هذا الباب (أي في النهي عن الاشتغال بعلم الكلام, منها كتابه المسمّى بـ ((الروض الباسم في الذبّ عن سنة أبي القاسم, فإن شئت الزيادة فعليك بها)) اهـ. وبالجملة؛ فكل ثناء قيل في ((العواصم)) فهو منطلق إلى ((الروض)) حري به, مع مافي ((الروض)) من فوائد ليست في أصله. -أما من ردّ عليه من الزيدية: 1 - أحمد بن حسن بن يحيى القاسمي, في كتابه ((العلم الواصم في الرد على هفوات الروض الباسم)). ولا يدرى من أمر هذا الكتاب ¬
شيء (¬1). 2 - ((العَضْب الصَّارم في الرد على صاحب الروض الباسم)) , لمجهول, منه نسختان في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء (¬2). * * * ¬
علاقة المختصر بالأصل, وأوجه المغايرة وامتيازات المختصر
علاقة المختصر بالأصل, وأوجه المغايرة وامتيازات المختصر قد علمنا فيما مضى أنّ ((الروض)) مختصر من ((العواصم))؛ فإنّ ((الأصل)) لما تم فأينعت ثماره, وازدانت أزهاره, أجال عليه مؤلّفه يد القطاف, فالتقط من ثماره أنضجها, ومن أزهار أطيبها, ثم أعمل يده أخرى فقدّم وآخر وهذّب وشذب, وأصلح ورتّب؛ حتى صار -بحقّ- ((روضاً باسماً)) ... وقد كان سبب الاختصار ما أشار إليه المؤلف في المقدمة فقال: ((فلأن التوسيع يملّ الكاتب والمكتوب إليه, والمتطلع إلى رؤية الجواب والوقوف عليه, مع أنّ القليل يكفي المنصف, والكثير لا يكفي المتعسّف (¬1))). وقال أيضاً: ((ثم إني تأملت الكتاب -بعد ذلك- (أي الأصل) فوجدت ما فيه من التطويل والتدقيق, يصرف الأكثرين عن التأمل له والتحقيق, لا سيّما والباعث لداعية النشاط إلى معرفة مثل هذا إنما هو وجود من يعارض أهل السنة, ويورد على ضعفائهم الشّبه الدقيقة, ومن عوفي من هذا ربما نفر عن مطالعة هذه الكتب نفرة الصحيح عن شرب الأدوية النّافعة, وألم المكاوي الموجعة, فاختصرت منه هذا الكتاب, على أني لم أطنب في الأصل كل الإطناب ... )) (¬2) اهـ. أما جوانب المغايرة بين الأصل ومختصره ففي أمور: ¬
1 - سار المؤلف في ((الأصل)) على حسب إيرادات المعترض دون تصرّف في تقديم أو تأخير, بخلاف ((المختصر)) فإنه يجمع الكلام على المسائل المتشابهة في مكان واحد, فيقدم يوخّر بحسب المقتضي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: ((الكلام على كفار التأويل وفُسّاقه)) فبينما هي في ((الأصل)) في أوائل الكتاب (2/ 130 - 3/ 223) , كانت في ((المختصر)) في آخر الكتاب: (2/ 481 - 569). ثم هي في ((المختصر)) أكثر ترتيباً. ومن الأمثلة أيضاً: ذبّ المؤلّف عن أئمة الإسلام الأربعة, فبينما أورده في ((الأصل)) بحسب إيراد المعترض له, فالكلام على أبي حنيفة في (2/ 81) , والكلام على مالك (3/ 453) , والكلام على الشافعي في (5/ 5) , والكلام على أحمد (3/ 300). إلا أنه قد ساقه في ((المختصر)) مساقاً واحداً, حرصاُ منه على جمع الذّبّ عن الأئمة في مكان واحد. ((الروض)) (ص/295 - 343) , والأمثلة كثيرة, انظر: ((الروض)): (1/ 230). 2 - من جوانب المغايرة اختصار ما لا تعلّق له بنقض كلام المعترض من الفوائد والاستطرادات العلمية فقال في (ص/154 - 155): ((وهذا الموضع يحتمل ذكر فوائد ذكرتها في ((الأصل)) , منها ما ذكره النووي في «شرح مسلم)) , ومنها ما لم يذكره, ثم اختصرتها لأنها لا تتعلق بنقض كلام المعترض)) (¬1) اهـ. ¬
بل إنه يختصر بعض الأوهام التي وهمها المعترض مما ليس تحتها إلا مجرد الاعتراض, وبيان الوهم, فقال في (ص/230): ((وقد رأيت أن أقتصر على ذكر أوهام وهمها في هذا الفصل من الأوهام التي لا يفيد ذكرها ولا يهم أمرها؛ فإنّ مجرّد التعرض للاعتراض من غير فائدة مما ليس تحته طائل, ولا يستكثر من ذكره فاضل)) اهـ. 3 - أن ((الأصل)) ومختصره مبنيان على إلزام الخصم على أصوله, ولم يتعرض المؤلف لبيان المختار عنده أحياناً, وذلك لأجل التقية من ذوي الجهل والعصبية. ثم قال المؤلف عن المختصر: ((ثم إني قد اختصرت هذا الكتاب في كتاب لطيف سميته: ((الروض الباسم)) , وهو أقل تقيّة من هذا ولن يخلو, فالله المستعان)) (¬1) اهـ. فيستفاد من هذا فائدة جليلة, وهي معرفة اختياراته في المسائل العلمية حيث صرّح بها في ((المختصر)) , ولم يتعرض لذلك في ((الأصل)). 4 - ومن جوانب المغايرة والامتياز في ((المختصر)) , ما فيه من زيادات على ((الأصل)) , سواء كانت في الاستدلال أو التمثيل أو التحقيق, فمن تلك المواضع: * (1/ 9 - 13) بعض الأشعار في مدح أهل الحديث. * (1/ 133) شعر للمؤلف في العشرة المبشرين بالجنة. * (1/ 166) فائدة للمؤلف عمن يُخَرِّج لهم البخاري استشهاداً. ¬
* (1/ 170 - 171) كلام الذهبي في حديث: ((ما تقرّب إليّ عبدي)) ورد الحافظ ابن حجر عليه. * (1/ 246 - 248) الكلام على الوليد بن عقبة. * (2/ 464 - 476) بعض الكلام والتحقيق في حديث: ((فحجّ آدم موسى)) * (2/ 543 - 569) أحاديث عمرو بن العاص, والمغيرة بن شعبة في الأحكام مع ذكر شواهدها والكلام عليها. فهذه (26) صحيفة ليست في ((الأصل)). * (2/ 590 - 596) خاتمة المؤلف وفيها نصيحة وعِظة وعبرة, وقصيدة في التمسك بالسنة. * * *
غرضه منه, ومنهجه فيه
غرضه منه, ومنهجه فيه أما غرضه منه: فقد أبانه بقوله في فاتحة الكتاب وهو يصف رسالة المعترض وما تعرّضت له من القدح فيه وفي السنة وفي القواعد: ((فرأيت ما يخصني غير جدير بصرف العناية إليه, ولا كبير يستحق الإقبال بالجواب عليه, وأما ما يختص بالسنن النبوية والقواعد الإسلامية؛ مثل قدحه في صحة الرجوع إلى الآيات القرآنية, والأخبار النبوية والآثار الصحابية, ونحو ذلك من القواعد الأصولية, فإني رأيت القدح فيها ليس أمراً هيّناً, والذبّ عنها لازماً متعيناً, فتعرضت لجواب ما اشتملت عليه من نقض تلك القواعد الكبار, التي قال بها الجلّة من العلماء الأخيار)) (¬1) اهـ. كما أبانه غاية البيان فقال: ((وقد اقتصرت في هذا ((المختصر)) على نصرة السّنن النبوية, والذبّ عنها وعن أهلها من حملة الأخبار المصطفوية, سالكاً من ذلك في محجّةٍ جليّةٍ, غير عويصةٍ ولا خفيّةٍ .. )) (¬2) اهـ. وقال: (( ... والقصد بهذا كله الذب عن السنن ورواتها)) (¬3). وقال: ((وقد تركت إيراد كلام متكلّمي الأشعرية في التحسين والتقبيح؛ لأن كتابي هذا كتاب نصرة للحديث وأهله, الواقفين على ما كان عليه السّلف, من ترك الخوض في عويص الكلام, ودقيق الجدال)) (¬4) اهـ. ¬
وقال: ((وقد اجتهدت في هذا الكتاب في نصرة الحديث الصحيح .. )) (¬1). فلا أصرح من هذه العبارات الدّالة على المقصود من هذا التأليف, فلم تدع قولاً لمتقوّل, ولا تخميناً لمتخرّص!!. أما ما يتعلق بمنهجه, فيمكن التماسه في النقاط الآتية: 1 - سلك المؤلف في نقضه على المعترض مسالك الجدليين فيما يلزم الخصم على أصوله, فقال: ((وقد سلكت -في هذا الجواب- مسالك الجدليين, فيما يلزم الخصم على أصوله, ولم أتعرّض في بعضه لبيان المختار عندي, وذلك لأجل التقيّة من ذوي الجهل والعصبية, فليتنبّه الواقف عليه على ذلك, فلا يجعل ما أجبت به الخصم مذهباً لي, ثم إني اختصرت هذا الكتاب (العواصم) في كتاب لطيف سميته ((الروض الباسم)) وهو أقلّ تقيّة من هذا ولن يخلو, فالله تعالى المستعان)) (¬2) اهـ. وقال أيضاً: (( ... إذا المقصود إلزام الخصم ما يلزمه على مقتضى مذهبه)) (¬3) اهـ. وقال: ((وصحّت أحاديثهم -أي معاوية وعمرو والمغيرة- هذه على وجهٍ لا شبهة فيه على قواعد الخصوم)) (¬4) اهـ. ¬
2 - حرص أن ينصر ما يرجحه بالطرق التي يتّفق عليها الفريقان (¬1) فقال: ((وقد اجتهدت في هذا الكتاب في نصرة الحديث الصحيح بالطرق التي يتفق الفريقان على صحتها أو يتفقون على قواعد تستلزم صحّتها, كما يعرف ذلك من تأمل هذا الكتاب كلّه)) (¬2) اهـ. 3 - يورد المؤلف كلام المعترض المتعلق بمسألة واحدة ثم ينقضه, فيبين له أولاً مخالفته لأصحابه من الزيدية والمعتزلة, وأنهم قائلون بما أنكره أو أكثرهم, وأنّ ما يلزم أهل السنة من إلزامات المعترض؛ فهو لازم لأصحاب المعترض, فما كان جوابه عن أصحابه كان جوابنا عن أهل السنة. والمعترض على أحسن الأحوال قد جهل تلك الأقوال, ومثل هذا المعترض كما قال شيخ الإسلام: (( ... حتى أن كثيراً من هؤلاء يعظّم أئمة, ويذم أقوالاً, قد يلعن قائلها أو يكفره, وقد قالها أولئك الأئمة الذين يعظمهم, ولو علم أنهم قالوها لما لعن القائل, وكثير منها يكون قد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - , وهو لا يعرف ذلك!)) (¬3) اهـ. والمؤلف متثبّت في نقله, فهو ينقل مذاهب الزيدية والمعتزلة من كتبهم المعتبرة (¬4) , من طرقٍ مختلفة ووجوه متغايرة فيها مقنع للمنصف والمتعسّف!. ثم إن ساق المعترض دليلاً على قوله؛ نقضه ببيان ضعفه, أو ¬
ضعف الاستدلال به, أو قلب دليله دليلاً عليه. ثمّ إن نسب المعترض لأهل السنة قولاً لم يقولوا به؛ بيّن خطأه في ذلك بنقل قولهم من كتبهم -مع بعده عن ديارهم, وقلّة مصنفاتهم الحافلة- والاستدلال لها من الأصلين, حتى إذا لم يبق بين يديه دليل ولا شبهة دليل؛ إنهال عليه بوابل من الإشكالات, وسيل من الإلزامات, من جنس ما يورده هو على أهل السنة, وهذه من أحسن طرق المناظرة, فتجعله يتملّص من قوله لكثرة الواردات عليه!. قال شيخ الإسلام: ((ومن الطرق الحسنة في مناظرة هذا (أي الحلّى) أن يورد عليه من جنس ما يورد على أهل الحق وما هو أغلظ منه, فإن العارضة نافعة, وحينئذ فإن فَهِم الجواب الصحيح عَلِم الجواب عما يورده على الحق, وإن وقع في الحيرة والعجز عن الجواب؛ اندفع شرّه بذلك, وقيل له: جوابك عن هذا هو جوابنا عن هذا)) (¬1) اهـ. وقد اعتذر المؤلف -رحمه الله- عن التحقيق في بعض المسائل, واكتفى فيها بإيراد المعارضات, وذكر الجواب الجُمْليّ: ((أما التحقيق؛ فلا مكانُهُ ولا زمانُهُ, ولا فرسانُهُ ولا ميدانُهُ)) (¬2). ¬
وينبغي التنبيه هنا على أن هذه المعارضات والأسئلة لا تلزم المورد لها, بل يورد السؤال والمعارضة وإن كان ضعيفاً عند المورد بل باطلاً, وذلك لأمرين: ((أ- ليدفع المورِدُ عن نفسه ما يرد عليه من ذلك القبيل, فيدفع الباطل بالباطل, ويكتفي بالشر من غير خروج من حقّ, ولا دخولٍ في باطل. ب- تعريف الخصم بضعف قوله الذي استلزم تلك الأشياء الضعيفة, فإنّ القويّ لا يستلزم الضعيف)) (¬1) اهـ. حتى أن المؤلف من شدة انتصاره على خصمه ودفاعه عن الحديث الذي هو من رواية المرجئة الثقات قال -تنبيهاً للقاريء من وهم قد يقع فيه-؛ ((وقد اكثرت من الانتصار لظنّ صدقهم وقبول روايتهم, حتى ربما توهّم بعض الضعفاء أني أميل إلى رأيهم, ومعاذ الله تعالى من ذلك! فعقيدة أهل السنة أصح مباني وأوضح معاني, وحسبك أنها جامعة لمحاسن العقائد .. )) (¬2) اهـ. 4 - لم يتعرّض المؤلف لجميع المسائل العقدية أو الأصولية التي يمكن أن تورد, لأن المعترض قد أعرض عن ذكرها فأعرض المؤلف عن إيرادها؛ لأنه مجيب لا مبتدي, وقد نبّه على ذلك حتّى لا يتوهّم من يقف على كلامه أنه ينصر قولاً مبتدعاً, أو يسوّي بين أهل السنة وأهل البدعة فيما لم يذكره من القضايا (¬3). ¬
أمور لها علاقة بالمنهج
وههنا ينبّه على أمور لها علاقة بالمنهج: *أولها: يمكن الجزم بأن المؤلف -رحمه الله- قد أنشأ هذا الجواب من حفظه, ويدل على ذلك أمور: 1 - أنه أنشأ الجواب في عزلته بعيداً عن نفائس الأسفار, فقال: ((ومن أين يتأتى ذلك أو يتهيّأ لي (أي: مطالعة نفائس الأسفار) وأنا في بوادٍ خوالي وجبال عوالي)) (¬1). وقال -لما ذكر روايات مروان بن الحكم عن الصحابة-: ((إلا عبد الرحمن بن الأسود؛ فلم أظفر بروايته عنه وقت تعليق هذا الكتاب؛ لبعدي عن أهل الحديث, وعدم وجود مصنفاتهم الحافلة)) (¬2) اهـ, ولهذا النص دلالة أخرى سأذكرها. وقال أيضاً -لما ذكر إيواء عثمان للحكم-: ((وقد خاض الناس في ذلك خوضاً كثيراً قديماً وحديثاً, ولم يحضرني وقت كتابة هذا الجواب شيء من هذه الكتب المذكور ذلك فيها فأنقل ما قال العلماء في ذلك, ولا حفظت في ذلك ما يُقنِع ... , وأما الجواب المقنع عند النقاد؛ فهو ما ألقاه الله تعالى على خاطري في ذلك ... )) (¬3). 2 - بعض المواضع في ((الروض)) تؤيد أن أصله ((العواصم)) لم يكن بين يدي المؤلف حال تأليف مختصره, بل كان يكتب من حفظه. فمن ذلك أنه لما تكلّم عن روايات مروان بن الحكم عن ¬
الصحابة, وأنه لم يظفر بروايته عن عبد الرحمن بن الأسود وقت تعليق هذا الجواب, وأنه سوف يلحق ذلك, فإن عاق الموت؛ فالمنّة لمن أفاد ذلك (¬1). فإذا ما رجعنا إلى ((الأصل)) (¬2) وجدناه قد ذكر هذه الرواية, وتكلم عليها, وذكر شواهدها ... فهذا إما أن يدل على أن ((العواصم)) لم يكن بين يديه وقت الاختصار, أو أنه بيّض لهذا الحديث في الكتابين, ثم ألحقه بـ ((الأصل)) فنقل ذلك اللحق, ولم يلحقه بـ ((المختصر)) ذهولاً أو نسياناً, أو ألحقه بـ ((المختصر)) إلا أن الاستنساخ وقع قبل إضافة اللحق, فبقي كذلك في جميع النسخ الفرعية. ومن ذلك أنه لمّا سرد أحاديث معاوية (¬3) - رضي الله عنه - في الأحكام لم يقع في جميع النسخ (الحديث السادس والعشرون) , بينما نجد جميع أحاديث معاوية مستوفاة في ((الأصل)) لا خرم فيها (¬4). 3 - صرّح المؤلّف -رحمه الله- بأنه لم يقف على كتب بعينها, ثم هو مع ذلك ينقل منها إما نصّاً أو بالمعنى أو يشير إلى وجود المبحث فيها معتذراً عن نقله بنصّه لعدم توفر الكتاب بين يديه, وذلك مثل: - ((روضة الطالبين)) للنووي, انظر (1/ 55, 232). ¬
-بعض كتب يحيى بن حمزة مثل ((التحقيق والشامل والانتصار)). انظر (1/ 98) - ((شرح مسلم)) للنووي, انظر (2/ 451) , نقل من قرابة الصفحة, ثم قال: ولم يحضرني ((شرح مسلم)). - ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي, انظر (1/ 269). وعلى كلّ حال؛ فمن ادّعى أن ((الأصل)) قد كتبه من حفظه (¬1)؛ فادعاء مثل ذلك في ((المختصر)) أولى وأحرى. *ثانياً: ينبغي التنبّه لمواقع إطلاقات المؤلف -رحمه الله- عند ذكره لأهل السنة والبدعة, فإنه قد قال في ((إيثار الحق)) (¬2): ((واعلم أني قد أذكر المبتدعة وأهل السنة كثيراً في كلامي؛ فأمّا المبتدعة فإنما أعني بهم أهل البدع الكبرى الغلاة ممن كانوا, فأما البدع الصغرى فلا تسلم منها طائفة غالباً. وأما أهل السنة؛ فقد أريد بهم أهلها على الحقيقة, وقد أريد بهم من تسمّى بها وانتسب إليها. فتأمّل مواقع ذلك)) اهـ. ومن ذلك ما قد يطلقه المؤلّف ويريد به اصطلاحاً خاصاً, مثل إطلاقه أهل السنة في مقابلة الشيعة والرافضة, فيدخل في (أهل السنة) حينئذ من خالف الشيعة في مسائل الإمامة والصحابة ... ويدلّ على هذا تفريقه بين طوائف أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة والشيعة, وبين أهل الحديث؛ فقد قال في معنى حديث ¬
(الرؤية): ((فأمّا أهل الحديث؛ فيؤمنون به كما ورد, على الوجه الذي أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما المتكلمون من الأشعرية والمعتزلة والشيعة؛ فيجتمعون على أنه تعالى لا يرى في جهة متحيزاً كما يرى القمر, ثم يفترقون في تفسير معناه ... )) (¬1) اهـ. *ثالثاً: الاعتذار للمؤلف لخوضه في (علم الكلام). لم يفتأ المؤلف -رحمه الله- يحذر من الدخول في علم الكلام أو تعلمه أو استعماله في مواضع كثيرة, لو أفردت لكانت كتاباً مستقلاً (¬2). إلا أنه اضطر أحياناً للولوج فيه لنقض كلام المعترض, ومع ذلك فهو يعتذر عن الخوض فيه (¬3). وقد اعتذر الإمام الصنعاني (¬4) للمؤلف وغيره ممن اضطر للدخول مع المبتدعة في مباحثهم وعلومهم, فقال: ((إلا أنّ عذر الناظم (ابن الوزير) -رحمه الله- أنه بلي بالمبتدعة وبلسع عقاربهم, فاحتاج أن يدافع عن نفسه ودينه وعقيدته بالخوض معهم في ابتداعهم, دفعاً لشرهم, ومداواة لعللهم, فهو معذور بل مأجور مشكور, وجزاه الله خيراً, وهذا عذره وعذر كل من ألجأه الحال إلى الخوض في الابتداع ضرورة مع أهل الجدال)) اهـ. وبعد؛ فرغم تحري المؤلف -رحمه الله- للحق, واجتهاده في ¬
ذلك بكلّ ما أمكنه, إلا أن الجواد قد يكبو: وأيّ حسام لم تصبه كلالة ... وأي جواد لم تخنه الحوافر؟! فمن الذي عصم, ومن الذي ما وُصم!!. ويكفي في عذر المؤلف -رحمه الله- ما قاله هو في خاتمة كتابه ((الإيثار)): (ص/418) , قال: ((ثم إني أختم هذا المختصر المبارك بأني أستغفر الله وأسأله التجاوز عني, والمسامحة في كل ما أخطأت فيه من هذا ((المختصر)) وغيره, فإني محلّ الخطأ والغلط والجهل وأهله, وهو سبحانه وتعالى أهل المغفرة والسعة والمسامحة, والغني الأعظم, والكريم الأكرم ... )) اهـ. وقال شيخ الإسلام في ((المنهاج)) (5/ 250): ((والمؤمن بالله ورسوله باطناً وظاهراً, الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول, إذا أخطأ ولم يعرف الحقّ, كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المعتمد العالم بالذنب, فإن هذا عاصٍ مستحق للعذاب بلا ريب, وأما ذلك فليس متعمداً للذنب, بل هو مخطىء, والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان)) اهـ. أقول: وقد علّقت على ما رأيته من ذلك في حواشي الكتاب بعبارة وجيزة, وإشارة لطيفة. * * *
طبعات الكتاب
طبعات الكتاب طبع الكتاب عدة مرات: 1 - بالمطبعة المنيرية, لصاحبها الشيخ محمد منير الدمشقي ... (1367هـ) -رحمه الله-, سنة (1321هـ) (¬1) , وقد كان الاعتماد فيها على نسخة جاء في آخرها (¬2): ((انتهى تحصيل هذا الكتاب الجليل من نسخة قال فيها: نقلت هذا الكتاب من نسخة بخط المؤلف, ذكر في آخرها: تمّ الكتاب بحمد الله ومنِّهِ وحُسن توفيقه يوم الأربعاء, الثالث من شهر شعبان الكريم من شهور سنة سبع عشرة وثمان مئة. وتاريخ أمّ هذه النسخة المباركة, خامس شهر رجب من سنة ألف ومئة واحد وعشرون ختمها الله بالحسنى)) اهـ. ولم يذكر تاريخ نِساخَتهِ لها!. وقد صُوّرت في دار المعرفة سنة (1399هـ). وهذه الطبعة, قد وقع فيها ما يقع في الكتب المنشورة عن نسخة واحدة متأخرةٍ, أو غير متقنة, من عدم تبين بعض الكلمات, أو السقط في النسخة الناتج عن انتقال نظر الناسخ, خاصة إذا لم تكن معارضة بالأصل المنسوخ منه. كما وقع فيها سقط في مواضع عديدة, يبلغ مجموع الأسطر الساقطة صفحات. أما التحريفات الطباعية فكثيرة!. إلا أنّ لهذه الطبعة فضل إحياء هذا الكتاب ونشره. ¬
2 - طبعة المطبعة السلفية: بعناية قصيّ بن محبّ الدين الخطيب, سنة (1385هـ) الطبعة الأولى. وقد اعتمد على النسخة نفسها التي اعتُمِدَت في الطبعة المنيريّة, كما جاء في خاتمتها (¬1) , ويُقال في هذه الطبعة ما قد قيل في سابقتها؛ إلا أن ههنا عدة أمور: أ- تمتاز هذه الطبعة بتلافي كثير من الأخطاء الطباعية, وتمتاز -أيضاً- بالاعتناء بعلامات الترقيم وعزو الآيات القرآنية, بينما ينعدم هذان الأمران في الطبعة المنيرية. ب- أقحم الناشر قلمه في عدد من صفحات الكتاب معلّقاً على كلام المؤلف, ومُتعقباً له, ومتوعّداً له بالردّ, إلا أنه اعتذر عن ذلك بأنّ هذا ليس مكانه؟!!. وفي كل تلك المواضع ينتصر الناشر لبني أُميّة, وقَتَلَة الحسين - رضي الله عنه -!! مُحيلاً في ذلك على تعليقات أبيه: الشيخ محبّ الدين الخطيب على ((المنتقى)) للذهبي, و ((العواصم من القواصم)) لابن العربي!. وكأنه لا مساعد له في قوله إلا تلك التعليقات!! حتى وصل به الحد إلى إنكار بعض الروايات الثابتة, بإسلوب تهكميّ جريء. وقد كنت أعددت جدولاً بالأخطاء والسقط في هذه الطبعة, ثم بدا لي الاستغناء عن ذلك بما أثبته في حواشي هذه المطبوعة, مما فيه ¬
دلالة على وقوع تحريف أو سقط في (س). 3 - طبعة المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع بصنعاء: سنة (1405هـ) , وقد أعاد الناشر تنضيد الكتاب اعتماداً على الطبعات السابقة. 4 - وقد أشار العلامة الأكوع في كتابه الموسوعي: ((هِجَرُ العلم ومعاقله في اليمن)) (3/ 1741) , إلى طبعة لكتاب ((الروض)) , طبعت قبل سنة ... (1350هـ) بدعم من الأمير محمد بن الإمام يحيى حميد الدين, ولم أقف على هذه الطبعة. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة (التاملية) (¬1) , ذكره الأكوع في «هجر العلم)) (3/ 1375). * * * ¬
مخطوطات الكتاب
مخطوطات الكتاب لا يزال الحصول على المخطوطات من الخزائن في الدول العربية (خاصّةً!!) عقبة كؤوداً في طريق الباحثين, فقد يمضي الباحث مدة مديدة في سبيل الحصول على مخطوطة ما دون جدوى, وفي أحسن الأحوال يحصل على بعض طَلِبَتِهِ!!. وهذا ما حصل لي في هذا الكتاب؛ فقد انتظرت قرابة السنة رجاء الحصول على مخطوطات الكتاب من مكتبات اليمن, حتى أوشكت على الإياس من ذلك, إلى أن يسّر الله تعالى الحصول على بعضها -كما سيأتي- بمساعدة من أخي الكريم أحمد أبو فارع وفقه الله لكل خير. وكنت قبل هذا قد حصلت على نسخة للكتاب من مكتبة عارف حكمت (¬1) بالمدينة النبوية -حرسها الله- وقابلت الكتاب عليها؛ ثم ظهر أنها عديمة الجدوى كما سيأتي. وقد حصلت على ثلاث نسخ خطيّة للكتاب, وهذا وصفها: 1 - نسخة خطية في (114) ورقة في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء برقم (70/علم كلام) , مسطرتها: 32×21سم, وعدد الأسطر: 31 سطراً, خطها نسخي متوسط. كتبت سنة (1179هـ) في شهر ذي القعدة في ليلة الاثنين كما جاء في آخرها. وناسخها هو العلامة لُطْف الباري بن أحمد بن ¬
عبد القادر بن الورد (¬1). وهي نسخة تامّة جيدة صحيحة قليلة الأخطاء, مقابلة على الأصل المنسوخة منه فقد جاء في آخرها: ((بلغ مقابلة على أصله (عناية) حسب الإمكان, وذلك يوم الأحد لعلّه سابع شهر محرم الحرام سنة [1180] (¬2) , وكتب الفقير إلى رحمة ربه: لطف الباري بن أحمد, عفى الله عنه وغفر له ولوالديه ولمسامحه ولجميع المؤمنين آمين)) اهـ. وعلى هوامش النسخة تعليقات كثيرة ومتنوعة لجماعة من العلماء, منها ما هو بخط ناسخها, ومنها ما هو بخط المطالعين, وقد ظهرت أغلب هذه التهميشات إلا القليل منها فقد أصابه بعض ¬
العلماء أصحاب التعليقات
الطمس, أما العلماء أصحاب التعليقات فهم: 1 - الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (1182هـ) وتعليقاته متنوعة ومفيدة, وهي كثيرة في أوائل الكتاب وتقلّ تدريجيّاً حتى تندر في أواخره؛ وقد أثبت جميع تعليقاته. 2 - القاضي محمد بن عبد الملك الآنسي (¬1) (1316هـ) قال زبارة: ((القاضي الحافظ الناقد الضابط البارع التقي)) اهـ. وكان أديباً شاعراً علاّمة في عدد من الفنون, ولد سنة (1273هـ) , وتوفي سنة (1316هـ) وعمره (43) سنة. 3 - أحمد بن عبد الله الجنداري (¬2) (1337هـ). وهو عالم مبرّز في علوم كثيرة, كان زيدياً متعصّباً ثم انقطع إلى علوم السنة, وترك التعويل على آراء الرجال, وانتهت إليه في أواخرأيامه الرياسة في علوم السنة ومعرفة الحديث والرجال ومتعلقاتها, وانتفع به خلق كثير وجمّ غفير على هذه الطريقة, منهم الإمام يحيى بن محمد حميد الدين (¬3) , وإن لم يجاهر بذلك حرصاً على منصب الإمامة!. وقد أَثْبَتُّ في الهامش جلّ تعليقات هذين العالمين, إلا مالم يظهر تامّاً في المصورة أو مالم أر في إثباته نفعاً, وكان من قبيل ¬
المجادلات الكلامية, أو ذكر مذاهب بعض الزيدية. 4 - العلاّمة هاشم بن يحيى بن محمد الشامي (¬1) (1158هـ). 5 - العلاّمة محمد بن حسين العمري (¬2) (1330هـ). 6 - كاتب النسخة وقد تقدمت ترجمته. وتعليقات هؤلاء العلماء قليلة جداً في الكتاب ولم ألتزم بإثباتها جميعاً. وقد اتخذت هذه النسخة أصلاً, ورمزت لها بـ ((الأصل)) أو (أ). 2 - نسخة خطية تقع في (79) ورقة في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء برقم (69/ علم كلام) , مسطرتها: 35×24سم, عدد الأسطر: 32 سطراً, خطها: نسخي جيد حديث. كتبت سنة (1336هـ) في شهر ذي القعدة في يوم الجمعة. كما جاء في آخرها. وناسخها هو لطف بن سعد السّميني (¬3) , كما جاء في آخر المجموع الذي بخطه الذي بدأ بـ ((ترجمة ابن الوزير)) ثم بـ ((الروض)) ثم بـ ((العلم الشامخ)) للمقبلي (ق/219أ). وهذه النسخة كسابقتها تامّة جيدة نادرة الخطأ, مقابلة بعناية, فقد جاء في آخرها: ((بلغ بحمد الله تعالى مقابلة هذه النسخة ليلة ... (3) رمضان الكريم سنة (1340هـ) , والحمد لله حمداً ¬
كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربّنا ويرضى)) اهـ. وقد كان الشروع في مقابلتها في (13) ذي الحجة الحرام سنة ... (1339هـ) كما جاء على طرّة النسخة. ويبدو أن أصل هذه النسخة نسخة بخط القاضي العلاّمة محمد بن عبد الملك الأنسي, فقد جاء في خاتمتها ما صورته: ((قال القاضي العلاّمة محمد بن عبد الملك الآنسي -رحمه الله- في آخر النسخة التي بقلمه التي قابلنا هذه النسخة عليها: [وجد] بخط سيدي العلاّمة إسحاق بن يوسف -رحمه الله- في آخر نسخته من هذا التأليف ما لفظه: انتهى ما أردت من مطالعة هذا السّفر الجليل الذي هو برؤ العليل وشفاء الغليل, فرحم الله مؤلفه رحمة واسعة وحشرة في زمرة حبيبه الشفيع, وحرّر في رمضان سنة (1137هـ) انتهى)) اهـ. وعلى هوامش النسخة تعليقات كثيرة لجماعة من العلماء تتفق في معظمها مع ما في نسخة (الأصل) وقد تزيد عليها أحياناً. ويظهر من هوامش النسخة أن كثيراً من تعليقاتها منقولة من هوامش نسخة العلاّمة الجنداري (¬1) , أو من نسخة مقروءة عليه. والقول في إثبات هذه التعليقات كالقول في نسخة الأصل. وقد جعلتها نسخة مساعدة في قراءة كلمة أو إثبات ما هو أولى. ورمزت لها بـ (ي). 3 - نسخة خطية (102) ورقة, في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة ¬
النبوية, مجموعة الشيخ عارف حكمت برقم (702). مسطرتها: 30×12.5سم, عدد الأسطر: 31 سطراً, خطها: نسخي معتاد مضطربة النقط, كتبت سنة (1179هـ) في آخر شهر ذي الحجة الحرام, كما جاء في آخرها, ولم يكتب الناسخ اسمه. وهي نسخة سقيمة, كثيرة التحريف والسقط الناتج عن انتقال النظر, إضافة إلى النقط العشوائي, وهناك سقط كبير وهو (الوهم الثالث عشر) برمّته (¬1) من (354 - 366) من هذه الطبعة!!. وكنت قد قابلت جميع هذه النسخة وأثبت ما وقع فيها من سقط وتحريف, ثم عدلت عن ذلك؛ إذ لا جدوى من وراءه, وقد استفدت منها في مواضع لا تزيد على العشرة. وعلى هوامش النسخة بعض العناوين لموضوعات الكتاب, بقلم كبير. وهناك نسخ للكتاب إلا أني لم أقف عليها وهي: -نسخة في مكتبة الأوقاف بصنعاء في (132) ورقة. مسطرتها: 21×15سم عدد الأسطر: 23 سطراً, ناسخها: إبراهيم بن أبي القاسم بن مطير, خطها: نسخي معتاد, في يوم الخميس من ذي الحجة سنة (956هـ). من وقف محمد بن علي قيس (¬2). انظر ((الفهرس)) (2/ 638). ¬
-نسخة في دار المخطوطات اليمنية بصنعاء, صوّرها معهد المخطوطات العربية بمصر, وتقع في (358) ورقة!! منسوخة في سنة (1068هـ). -نسخة في دار الكتب المصرية في (61) ورقة برقم (323). مسطرتها: 31×22سم, عدد الأسطر: 40 سطراً, بقلم: عبد الله بن علي بن علي بن محمد ابن مهدي بن أحمد الجيوري (¬1) , سنة ... (1319هـ). انظر: ((فهرس دار الكتب)) (1/مصطلح/231). * * * ¬
خطة العمل في الكتاب
خطة العمل في الكتاب 1 - قدمت بمقدمة, أَبَنتُ فيها عن مشروعية الرد على المخالف, وأنه باب جهادي. 2 - نشرت ترجمة المؤلف لمحمد بن عبد الله بن الهادي الوزير ... (897هـ) , حفيد أخي المؤلف, وتلميذه. 3 - عرّفت بالكتاب, وذلك في نقاط عديدة. 4 - قابلتُ ما وقع لي من نسخ الكتاب الخطية, معتمداً في ذلك على نسخة (الأصل) المشار إليها بـ (أ) , وسبق سبب اعتمادها أصلاً, وجعلت نسخة (ي) أصلاً آخر يعتمد عليه, وقد يترجح ما فيه إذا قوي حظه من النظر, ولم أجمد على ما في نسخة (أ). وكذلك استفدت من الطبعة السلفية, ورمزت لها بـ (س) , كما استفدت -أيضاً- من (الأصل) وهو ((العواصم)) في مواضع, وكذلك من نسخة (ت). فما كان من بقية النسخ أو زيادة من عندي لصالح النص, وضعتها بين معكوفتين هكذا []. 5 - خدمت نصّ الكتاب على ما هو متعارف عليه عند محققي التراث والمعتنين به, على ما أسعفني به الوقت والمراجع. 6 - لم أسهب في تخريج الأحاديث, ولا في التعليق على بعض القضايا, بل حرصت على الاقتصاد ما استطعت إليه سبيلاً, إذ التطويل في ذلك يخرج الكتاب عن المقصود. 7 - ثم صنعت فهارس نظرية؛ للآيات والأحاديث والأشعار والأعلام والكتب.
وفهارس علمية؛ للموضوعات على الفنون, وللفوائد المنثورة, ولموضوعات الكتاب على تسلسلها. وأرجو بهذا أن أكون قد وفّقت لخدمة هذا السّفر النفيس مع اعترافي بالعجز والتقصير, وصلى الله على نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم. * * * *
النص المحقق
النص المحقق
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. بعثه الله تعالى رحمة للعالمين, ومعلّماً للأمّيين بلسان عربيّ مبين, وقال وهو أصدق القائلين: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيءٍ قدير. وأشهد أنّه كما وصف ذاته الكريمة في كتابه المنير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وأنّه مُنزّه عن إجبار العباد, وأنّه لا يرضى لعباده الكفر, ولا يحب الفساد, وأنّه لا يظلم العبيد, وأنّه لا يخلف الوعد ولا الوعيد, وأنّه المختصّ بصفات الكمال, ونعوت الجلال, وأنّه منزّه عن الأشكال والأمثال. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله المبعوث بالكتاب الكريم, المنعوت بالخلق العظيم. الموعود يوم القيامة مقاماً محموداً, وحوضاً موروداً, وشرفاً مشهوداً, وأصلّي وأسلّم صلاة دائمة النّماء, تملأ الأرض والسّماء وما بينهما, عليه وعلى آله الكرماء, الثّقل المذكور مع القرآن (¬1) أئمة الإسلام, وأركان الإيمان المتوّجين بتاج: {قُل لاَّ ¬
الرسول وتبليغ الرسالة
أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُربَى} الشاهد بمناقبهم كتاب: ((ذخائر العقبى)) (¬1) , وعلى أصحابه حماة الإسلام, وليوث الصّدام, وهداة الأنام, وأهل المشاهد العظام, أهل مكّة والهجرتين, وطيبة والعقبتين, الذين أغناهم نصّ القرآن على فضلهم عن أخبار الآحاد والقياس, حيث قال تعالى [في خطابهم] (¬2): {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. أما بعد: فإنّ الله لما اختار محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً أميناً, ومعلّماً مبيناً, واختار له ديناً قويماً, وهداه صراطاً مستقيماً, ارتضاه لجميع البشر إماماً, وجعله للشرائع النّبوية ختاماً, وأقسم في كتابه الكريم تبجيلاً [له] (¬3) وتعظيماً, فقال عزّ قائلاً كريماً: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسلِيماً} [النساء:65] ثم إنه عز وجل أثار أشواق ¬
العارفين إلى الاقتداء برسوله؛ بكثرة الثّناء عليهم في تنزيله, مثل قوله في التعظيم لهم والتبجيل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِندَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة, الشّاهدة لمتبعيه بالطريقة القويمة. فلمّا وعت هذه الآيات آذان العارفين, وتأمَّلتها قلوب الصّادقين, حرصوا على الاقتداء به في أفعاله, والاستماع منه في أقواله, فكانوا له أتبع من الظّلم, وأطوع من النّعل: فعلّمهم أركان الإسلام وشرائعه وفرائضه ونوافله, وكان بهم رءوفاً رحيماً, وعلى تعليمهم حريصاً أميناً, كما وصفه ربّ العالمين, حيث قال في كتابه المبين: {لَقَد جَآءَكُم رَسُولٌ/ مِّن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَاعَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]. فلم يزل عليه الصلاة والسلام يرشدهم إلى أفضل الأعمال, ويهديهم إلى أحسن الأخلاق, ويلزمهم ما فيه النجاة والفوز في الآخرة, والسلامة والغبطة في الدنيا, من لزوم الواجب [والمسنون, ومجانبة المكروه, وترك الفضول, فلم يترك خيراً قطّ إلا أمرهم به] (¬1) ففعلوه, ودعاهم إليه فأجابوه, حتّى لم يكن شيء في زمانه من أعمال البرّ متروكاً, ولا منهجاً من مناهج الخير إلا مسلوكاً, فلمّا تمّ ما أراده الله تعالى برسوله من هداية أهل الإسلام, وبلّغ إلى الأنام جميع ما عنده من الأحكام؛ من العقائد والآداب والحلال والحرام, أنزل الله في ذلك تنصيصاً وتبييناً: {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمْتُ عَلَيكُم نِعمَتِي ¬
حديث المؤلف عن نفسه, وبيانه لمكانة السنة
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِيناً} [المائدة:3]. فكمل الدين في ذلك الزّمان, ووضحت الحجّة والبرهان, ودحضت وساوس المشبّهين؛ وانحسمت مواد المبطلين, إذ لا حجّة على الله بعد الرّسل لأحد من العالمين, بنصّ كتابه المبين. هذا؛ وإنّي لما رَتَبْت (¬1) رتوب الكعب في مجالسة العلماء السّادة, وثبتُ ثبوت القطب في مجالس العلم والإفادة, ولم أزل منذ عرفت شمالي من يميني مشمّراً في طلب معرفة ديني, أنتقل في رتبة الشّيوخ من قدوة إلى قدوة, وأَتَوَقَّل (¬2) في مدارس العلم من ربوة إلى ربوة, ولم يزل يراعي بلطائف الفوائد نَوَاطِف, وبناني للطف المعارف قَوَاطِف: لم يكن حتماً أن يرجع طرف نظري عن المعارف خاسئاً حسيراً, ولم يجب قطعاً أن يعود جناح طلبي للفوائد مَهيضاً كسيراً, ولم يكن بدعاً أن تنسّمت من أعطارها روائح, وتبصّرت من أنوارها لوائح, أشربت قلبي محبّة الحديث النّبوي, والعلم المصطفوي, وكنت ممن يرى الحظ الأسنى في خدمة علومه, وتمهيد ما تعفَّى من رسومه. ورأيت أولى ما اشتغلت به: ما تعيّن فرض كفايته بعد الارتفاع, وتضيّق وقت القيام به بعد الاتساع, من الذَّبَّ عنه, والمحاماة عليه, والحثّ على اتّباعه والدُّعاء إليه. ¬
فإنه علم الصّدر الأوّل, والذي عليه بعد القرآن المعوّل. وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس. وهو المفسّر للقرآن بشهادة: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل:44]. وهو الذي قال الله فيه تصريحاً: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحيٌ يُوحَى} [النجم:4]. وهو الذي وصفه الصّادق الأمين, بمماثلة القرآن المبين؛ حيث قال في التوبيخ لكل مترف إمّعة: ((إني أوتيت بالقرآن ومثله معه)) (¬1). وهو العلم الذي لم يشارك القرآن سواه, في الإجماع على كفر جاحد المعلوم من لفظه ومعناه. وهو العلم الذي إذا تجاثت الخصوم للرّكب, وتفاوتت العلوم في الرتب, أصمَّت مِرْنانُ (¬2) نوافله كلّ مناضل, وأَصمَّت برهان معارفه كلّ فاضل. وهو العلم/ الذي ورّثه المصطفى المختار, والصّحابة الأبرار, والتّابعون الأخيار. وهو العلم الفائضة بركاته على جميع أقاليم الإسلام, الباقية ¬
حسناته في أمّة الرّسول -عليه الصلاة والسلام-. وهو العلم الذي صانه الله عن عبارات الفلاسفة, وتقيّدت عن سلوك مناهجه فهي راسفة (¬1) في [الأغلال] (¬2) آسفة. وهو العلم الذي جلي للإسلام به في ميدان الحجّة وصلى, وتجمّل بديباج ملابسه من صام لله وصلّى. وهو العلم الفاصل حين تلجلج الألسنة بالخطاب, الشاهد له بالفضل رجوع عمر بن الخطّاب (¬3). وهو العلم الذي تفجّرت منه بحار العلوم الفقهية, والأحكام الشّرعية, وتزيّنت بجواهره التفاسير القرآنية, والشّواهد النّحوية, والدّقائق الوعظية. وهو العلم الذي يميز الله به الخبيث من الطّيّب, ولا يرغم إلا المبتدع المتريّب. وهو العلم الذي يسلك بصاحبه نهج السّلامة, ويوصله إلى دار الكرامة, والسّارب (¬4) في رياض حدائقه, الشّارب من حياض حقائقه, عالم بالسنّة, ولابس من كلّ خوف جنّة, وسالك منهاج الحق إلى ¬
نبذة من الأشعار في الثناء على الحديث وأهله
الجنّة. وهو العلم الذي يرجع إليه الأصولي, وإن برز في علمه, والفقيه وإن برّز في ذكائه وفهمه, والنّحوي وإن برّز في تجويد لفظه, واللّغوي وإن اتسع في حفظه, والواعظ المبصّر, والصّوفي والمفسّر, كلّهم إليه راجعون, ولرياضه منتجعون. ولنورد نبذة لطيفة ونكتة شريفة مما قيل فيه من أشعار الحكمة, وكلمات أحبار هذه الأمة, ارتياحاً إلى ذكر ممادحه, والتذاذاً بِسَطر فضائله. فمن ذلك ما قال الحافظ الصّوري (¬1): قل لمن عاند الحديث وأضحى ... عائباً أهله ومن يدّعيه أبعلم تقول هذا أبن لي ... أم بجهل فالجهل خلق السّفيه أيعاب الذين هم حفظوا الدين ... من الترهات والتّمويه وإلى قولهم وما قد رووه ... راجع كل عالم وفقيه (¬2) ومن ذلك قول الحافظ الحُميدي (¬3): كتاب الله عزّ وجلّ قولي ... وما صحّت به الآثار ديني ¬
وما اتفق الجميع عليه بدءاً ... وعوداً فهو من حقّ يقين (¬1) فدع ما صدّ عن هذا وخذها ... تكن منها على عين اليقين (¬2) ومن ذلك قول أبي محمد هبة الله بن الحسن الشّيرازي (¬3): عليك بأصحاب الحديث فإنهم ... على منهج ما زال بالدين معلما وا النور إلاّ في الحديث وأهله ... إذا ما دجى الليل البهيم وأظلما فأعلى البرايا من إلى السّنن اعتزى ... وأغوى البرايا من إلى البدع انتمى ومن يترك الآثار ظل بسعيه (¬4) ... وهل يترك الآثار من كان مسلماً ومن ذلك قول العلاّمة مجد الدّين محمد بن أحمد بن [الظهير] (¬5) الإربلي (¬6): إذا شئت أن تتوخّى الهدى ... وأن تأتي الحقّ من بابه فدع كلّ قول ومن قاله ... لقول النّبيّ وأصحابه فلم تنج من محادثات الأمور ... بغير الحديث وأربابه ومن ذلك قول الحافظ أبي محمد علي بن أحمد الفارسي: ¬
عليك كتاب الله لا تتعدّه ... ففيه هدى للزّيغ ماح وقامع وما سنَّهُ النّبي محمدٌ/ ... فقد خاب عاصيه وفاز المتابع فخير الأمور السّالفات على الهدى ... وشرّ الأمور المحدثات البدائع ومن ذلك قول الحافظ أبي عبد الله الذّهبي: العلم قال الله قال رسوله ... إن صحّ والإجماع فاجهد فيه وحذار من نصب الخلاف جهالة ... بين النّبي وبين رأي فقيه (¬1) ومن ذلك قول بعضهم (¬2): دين النّبي محمد آثار ... نعم المطيّة للفتى الأخبار لا ترغبنّ عن الحديث وأهله ... فالرّأي ليل والحديث نهار وممّا قلت في ذلك: العلم ميراث النّبي كذا أتى ... في النّصّ, والعلماء هم ورّاثه فإذا أردتّ حقيقة تدري بمن (¬3) ... وُرَّاثه فكَّرت ما ميراثُه ما ورّث المختار غير حديثه ... فينا, وذاك متاعه وأَثاثه فلنا الحديثُ وراثة نبويّة ... ولكلّ مُحدِث بِدعةٍ إِحداثُه ومما قلت في الرّدّ على من كره تمسّكي بالسّنة (¬4): ¬
يا لائمي كُفّ عن لومي ومعتقدي ... قول النبي فهمّي في تعرُّفِه فما قفوت سوى آثار (¬1) منهجه ... ولا تلوثُ سوى آياتِ مُصحفِه ففي المجازات أمضي نحو مَعْلمه ... وفي المحاراة أبقى وسط موقِفِه وإذا سعيت فسعي نحو كعبته ... وإن وقفت ففي وادي معرَّفه وحقّ حبّي له أنّي به كلفٌ ... يغنيني الطّبع فيه عن تكلّفه هذا الذي كثّر العذّال فيه فما ... تعجَّب القلب إلا من مُعَنِّقه يستأهل القلب ما يلقاه إن بقيت ... له علاقة توليع بمألفه ومما قلت في ذلك: القصيدة الطويلة (¬2) التي أوّلها: ظلَّت عواذله تروح وتغتدي ... وتُعيدُ تعنيف المحبّ وتَبْتَدي يا صاحِبيَّ على الصَّبابة والهوى ... من مِنكما في حبِّ أحمد مُسعدي حسبي بأني قد شُهرتُ بحبِّه ... شرفاً ببردته الجِميلةِ أَرتدي لي باسمه وبحبّه وبقربه ... ذِمَمٌ عِظامٌ قد شَدَدت بها يدي ومحمد أوفى الخلائق ذمّة ... فليبلغنّ بي الأماني في غَدِ يا قلبُ لا تستبعدنَّ لقاءه ... ثق باللقاء, وبالوفاء فكأَن قَدِ يا حبَّذا يوم القيامة شُهرتي ... بين الخلائق في المقام الأحمدِ ¬
ذكر رسالة المعترض ((المردود عليها))
بمحبَّتي سنن الشّفيع وأَنَّني ... فيها عَصَيتُ معنِّفي ومفنِّدي وتركتُ فيها جيرتي وعشيرتي ... ومكان أترابي وموضعَ مولدي فلأشكونَّ عليه شكوى موجعٍ ... متظلِّم متجرِّم مُستنجد وأقولُ: أنَجِد صادقاً في حُبّه ... من يُنْجدِ المظلومَ إِن لم تُنجدِ إِني أُحبُّ محمداً فوقَ الورى ... وبه كما فَعَلَ الأوائل أقتدي فقد انقضت خير القرون ولم يكن ... فيهم بغيرِ محمدٍ من يَهتدي (¬1) هذا؛ وإنّي لما تمسّكت بعروة السّنن الوثيقة, وسلكت سنن الطريقة العتيقة؛ تناولتني الألسنة البذيّة من أعداء السّنة النّبوية, ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة, وأمور غير ذلك كثيرة. حرصاً على ألا يتّبع ما دعوت إليه من العمل بسنّة سيّد المرسلين, والخلفاء الرّاشدين, والسّلف الصّالحين, فصبرت على الأذى/, وعلمت أنّ النّاس ما زالوا هكذا. ما سَلِمَ الله من بريَّته ... ولا نبيُّ الهدى, فكيفَ أَنَا! (¬2) إلا أنّه لما اتّسع الكلام وطال, واتّسع مجال القيل والقال, جاءتني رسالة محبّرة (¬3) , واعتراضات محرّرة, مشتملة على الزّواجر ¬
ما اشتملت عليه رسالة المعترض
والعظات, والتنبيه بالكلم الموقظات, زعم صاحبها أنه من النّاصحين المحبين, وأنّه أدّى به ما عليه لي من حقّ الأقربين, وأهلاً بمن أهدى إليّ (¬1) النصيحة, فقد جاء الترغيب إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة, وليس بضائر إن شاء الله ما يعرض في ذلك من الجدال, مهما وزن بميزان الاعتدال, لأنه حينئذ (¬2) يدخل في السّنن, ويتناوله أمر: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وقد أجاد من قال وأحسن: وجِدَالُ أهلِ العلمِ ليس بضائرٍ ... ما بينَ غَالبهم إلى المَغلُوبِ بيد أنّها لم تضع تاج المرح والاختيال, وتستعمل ميزان العدل في الاستدلال, بل خلطها من سيما المختالين بِشوب (¬3) , ومالت من التّعنّت في الحجاج إلى صوب, فجاءتني تمشي الخطراء, وتميس في محافل الخطراء, مفضوضة لم تختم, مشهورة لم تكتم. متبرّجة قد كشفت حجابها, وطرحت نقابها, وطافت على الأكابر, وطاشت إلى الأصاغر, حتّى مضّت أيدي الابتذال نُضارتها, وافتضّت أفكار الرّجال بكارتها, وإنّ خير النَّصائح الخفيّ, وخير النُّصاح الحفيّ, وخير الكتاب المختوم, وخير العتاب المكتوم. ثم إني تأملت فصولها وتدبّرت أصولها, فوجدتها مشتملة على ¬
الجواب على المعترض كان باختصار, وسبب ذلك
القدح تارة فيما نقل عنّي من الكلام, وتارة في كثير من قواعد العلماء الأعلام, وتارة في سنّة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام, فرأيت ما يخصّني غير جدير بصرف العناية إليه, ولا كبير يستحق الإقبال بالجواب عليه, وأما ما يختص بالسنن النبوية والقواعد الإسلامية, مثل قدحه في صحة الرّجوع إلى الآيات القرآنية, والأخبار النبوية, والآثار الصّحابية, ونحو ذلك من القواعد الأصولية, فإني رأيت القدح فيها ليس أمراً هيناً, والذّبّ عنها لازماً متعيناً, فتعرّضت لجواب ما اشتملت عليه من نقض القواعد الكبار, التي قال بها الجلّة من العلماء الأخيار, وجعلت الجواب متوسّطاً بين الإطناب والاختصار, وصدّني عن التّوسيع والتكثير, خشية التنفير والتأخير: أمّا التنفير: فلأن التوسيع [يُمل] (¬1) الكاتب والمكتوب إليه, والمتطلع إلى رؤية الجواب والوقوف عليه, مع أنّ القليل يكفي المنصف, والكثير لا يكفي المتعسّف, وضوء البرق المنير, يدلّ على النّوء الغزير. وأمّا التأخير: فلأن التوسيع يحتاج إلى تمهيد عرائس الأفكار, حتّى تستكمل الزّينة, ومطالعة نفائس الأسفار, الحافلة بالآثار المتينة, والأنظار الرّصينة. فهذا البحر وهو الزّخّار, يحتاج من السّحب إلى مَددٍ (¬2) , والبدر ¬
وهو النّوار, يفتقر من الشّمس إلى يد. ومن أين يتأتّى ذلك أو يتهيّأ لي, وأنا في بوادٍ خوالي, وجبالٍ عوالي! (¬1) فحيناً بطودٍ تُمطر السُّحب دونه ... أَشمَّ مُنيفٍ بالغمامِ مُؤَزَّرُ وحيناً بشعب بطنِ وادٍ كأَنه ... حَشا قلم تُمسي به الطيرُ تصفر إذا التفتَ الساري به نحو قلةٍ ... توهّمها من طولها تتأخّر أجاور في أرجائه البومَ والقَطا ... فَجيرتها للمرءِ أولي وأَجدرُ/ هنالك يصفو لي من العيش وِرده ... وإلاّ فورد العيش رَنق (¬2) مكدَّر فإِن يبست ثَمَّ المراعي وأَجدبت ... فَرَوْضُ العُلا والعلم والدّين أخضر ولا عارَ أن ينجو كريمٌ بنفسه ... ولكنَّ عاراً عجْزُهُ حين يُنصر فقد هاجَر المختار قبلي وصحبُه ... وفرّ إلى أَرض النَّجاشي جعفرُ ولما أنشأت هذا الجواب من هذه الجبال العالية, والبوادي الخالية, قصر باعي, وضاقت رباعي, فتمصّصتُ من بَلَلِ ما عندي بَرَضا (¬3) , وما أكفى ذلك وأرضى, إذا كان ذلك طيباً محضاً!. سامحاً بالقليل من غير عذر ... ربما أَقنع القليلُ وأرضى ولكن هيهات لذلك! لا محيص لي عن أوفر نصيب من طَفِّ (¬4) ¬
الصّاع, ولا بد لي من الانخداع بداعية الطّباع. وقد قصدت وجه الله تعالى في الذّبّ عن السنن النبوية والقواعد الدينية, وليس يضرّني وقوف أهل المعرفة على مالي من التّقصير, ومعرفتهم أنّ باعي في هذا الميدان قصير, لاعترافي بأني لست من نقّاد هذا الشأن, لا من فرسان هذا الميدان. لكني لم أجد من الأصحاب من تصدّى لجواب هذه الرسالة, لما يجرّ إليه [ذلك] (¬1) من سوء القالة, فتصديت لذلك من غير إحسان ولا إعجاب, ومن عدم الماء تيمّم بالتراب, عالماً بأني وإن (¬2) كنت باري قوسها ونبالها, وعنترة فوارسِها ونِزالها, فلن يخلو كلامي من الخطأ عند الانتقاد, ولا يصفو جوابي من الكدر عند النّقاد. فالكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو: كلام الله الحكيم, وكلام من شهد بعصمته القرآن الكريم. وكلّ كلام بعد ذلك فله خطأ وصواب, وقشر ولباب. ولو أنّ العلماء رضي الله عنهم تركوا الذّبّ عن الحقّ خوفاً من كلام الخلق: لكانوا قد أضاعوا كثيراً, وخافوا حقيراً. وأكثر ما يخاف الخائض في ذلك أن يكل حسامه في معترك المناظرة وينبو, ويعثر جواده في مجال المحاجة ويكبو, فالأمر في ذلك قريب: إن أخطأ فمن الذي عُصم, وإن خُطىء فمن الذي ما وُصِم؟. والقاصد لوجه الله تعالى لا يخاف أن يُنقد عليه خلل في كلامه, ¬
نبذة عن أصل هذا المختصر
ولا يهاب أن يُدل على بطلان قوله, بل يحبّ الحقّ من حيث أتَاه, ويقبل الهُدى ممن اهداه, بل المُخاشنة بالحقّ والنّصيحة, أحبّ إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة, وصديقك من [صَدَقك] (¬1) لا من صدّقك. وفي نوابغ الحكمة: عليك بمن ينذر الإبسال والإبلاس, وإيّاك من يقول: لا باسَ ولا تاسَ. ثمّ إن الجواب (¬2) لما تمّ -بحمد الله تعالى- اشتمل على علوم كثيرة, وفوائد غزيرة, أثرية ونظرية, ودقيقة وجليلة, وجدليّة وأدبية, وكلّها رياض للعارفين نضرة, وفراديس عند المحققين مزهرة, لكنّي وضعته وأنا قويّ النّشاط, متوفّر الدّاعي, ثائر الغيرة, فاستكثرت من الاحتجاج رغبة في قطع الّلجاج. فربما كانت المسألة في كتب العلماء -رضي الله عنهم- مذكورة غير محتج عليها بأكثر من حجة واحدة, فأحتج عليها/ بعشر حجج, وتارة بعشرين حجة, وتارة بثلاثين حجة, وكذلك قد يتعنّت صاحب الرسالة, ويُظهر العجب بما قاله, فأحبّ أن يُظهر له ضعف اختياره, وعظيم اغتراره, فأستكثر من إيراد الإشكالات عليه, حتّى يتضح له خروج الحقّ من يديه, فربما أوردت عليه في بعض المسائل أكثر من مئتي إشكال, على مقدار نصف ورقة من كتابه. ¬
سبب الاختصار والغرض منه
ثم إنِّي تأمّلت الكتاب -بعد ذلك- فوجدت ما فيه من التطويل والتدقيق, يصرف الأكثرين عن التأمل له والتحقيق, لا سيمّا والباعث لداعية النشاط إلى معرفة مثل هذا إنما هو وجود من يعارض أهل السنّة, ويورد على ضعفائهم الشّبه الدّقيقة, ومن عوفي من هذا ربما نفر عن مطالعة هذه الكتب نفرة الصّحيح عن شرب الأدوية النّافعة, وألم المكاوي الموجعة. فاختصرت منه هذا الكتاب, على أني لم أطنب في ((الأصل)) كلّ الإطناب لما قدّمت من العذر عن ذلك, وتوعّر تلك المسالك. وقد اقتصرت في هذا ((المختصر)) على نصرة السّنن النّبويّة, والذّبّ عنها وعن أهلها من حملة الأخبار المصطفوية, سالكاً من ذلك في محجّة جليّة, غير عويصة ولا خفيّة, وتركت التعمّق في الدّقائق, والتقحّم في المضايق, رجاء أن ينتفع بهذا المختصر المبتدي والمنتهي, والأثري والنّظري, وسمّيته: ((الروض الباسم, في الذّبّ عن سنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - , وجعلنا من جيران حِماه المحرّم. وهذا حين الشّروع في الجواب, والله الهادي إلى الصّواب: قال: معرفة الأخبار مبنية على معرفة عدالة الرّواة [ومعرفة عدالتهم] (¬1) في هذا الزّمان مع كثرة الوسائط كالمعتذرة, ذكر هذا كثير من العلماء منهم: الغزالي, والرّازي. وإذا كان ذلك في زمانهم فهو في زماننا أصعب, وعلى طالبه أتعب, لازدياد الوسائط كثرة والعلوم دروساً وفترة. فإن قيل: نحن نقول بما قال الغزالي: إنّا نكتفي بتعديل ¬
الوجه الأول
أئمة الحديث: كأحمد بن محمد بن حنبل, ويحيى بن سعيد الأنصاري (¬1) , وعلي بن المديني, ويحيى بن معين, ومحمد بن إسماعيل البخاري, فإنّ هؤلاء قد تكلّموا في الرّواة, وبيّنوا العدل ممن سواه. قلنا: هذا لا يصح لوجوه؛ أحدها: أنّا إذا قبلنا تعديلهم فيمن كان متقدماً, فما يكون فيمن بعدهم من الرّواة؟ فإنّ اتصال رواية الحديث من وقتنا إلى مصنّفي الكتب الصّحاح كالبخاري ومسلم على وجه الصّحة متعسر لأجل العدالة. ثمّ خرج المعترض إلى ذكر شيء يتعلّق بمسألة [المتأَولين] (¬2) فتركته, لأنّ الكلام عليها يأتي مستقلاً كما فعل المعترض (¬3) , فإنه أفردها. أقول: الجواب على هذا المعترض يتبيّن بذكر وجوه: الوجه الأول: طلب الحديث ومعرفته شرط في الاجتهاد (¬4) , والاجتهاد فرض واجب على الأمّة بلا خلاف (¬5) , لكنّه من فروض ¬
الكفايات التي تسقط بوجود من هو قائم بها وتتعيّن عند عدم ذلك. فإذا ثبت أنّه فرض لزم أنّه من الدين, وإذا لزم أنّه من الدين لزم أنّه غير متعسّر ولا متعذّر لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة:185]. وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:/ ((بعثت بالحنيفيّة السّمحة)) (¬1). والمعترض مقرٌ بأن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر, ومقرّ أن الله يريد منا الاجتهاد ومعرفة الحديث الصّحيح. فقوله: إنّ معرفة الحديث متعسّر يستلزم أنّ الله تعالى يريد منّا المتعسّر, بل لم يقنع حتّى قال: إنّه متعسّر أو متعذّر, واستلزم أن الله تعالى يريد منا المتعسّر أو المتعذّر. فإن قال: إنّما أردت بذلك مشقّة, والمشقّة تلازم التّكاليف غالباً. قلنا: مجرّد المشقّة لا يسمّى عُسراً في العرف العربي, فإنّ ¬
اعتراض ودفعه
المشقة ملازمة لأكثر الأعمال الدنيوية والأخروية, وقد يشقّ على الإنسان قيامه من مجلسه إلى بيته, ونحو ذلك. والعُسر في عرف اللسان العربي مستعمل في الأمور العظيمة لا في كل أمر فيه مشقّة, فإذا قيل: فلان في عسر, أفاد أنّه في شدّة عظيمة من مرض أو خوف أو فقر شديد أو غير ذلك, وقد يطلق على ما هو دون ذلك مع القرينة, فأمّا إذا تجرّد الكلام عن القرينة, وقيل: إنّ فلاناً في عسر, لم يسبق إلى الفهم أنّ معنى ذلك: أنّه في قراءة في العلم, وتعليق للفوائد, ولو كان هذا عسراً لكان الجهاد [عسراً] (¬1) والحج عسراً, والورع الشّحيح عُسرين اثنين, وعبادة الله كأنك تراه أعسر وأعسر, ولكانت الشّريعة كلّها أو أكثرها تشديداً وتعسيراً وتحريجاً وتغليظاً. وما بهذا نطق القرآن, ولا به جاء صاحب بيعة الرضوان. بل نفى الله الحرج عن الدين, ووصف الشّريعة بالسّهولة سيد المرسلين, وإنّما الحرج في صدور المتعنّتين. فإن قيل: فإذا كانت الشريعة سهلة فما معنى: ((حفّت الجنة بالمكاره)) (¬2) , ولأي شيء مدح الله الصابرين, ووصّى عباده بالصبر؟. قلنا: لأن النّفوس الخبيثة تستعسر السّهل من الخير لنفرتها عنه وعدم رياضتها عليه, لا لصعوبته في نفسه, ولهذا نجد أهل الصّلاح يستسهلون كثيراً مما يستعسره غيرهم, فلو كان العسر في نفس (¬3) الأمر ¬
المشروع لكان عسيراً على كلّ واحد, وفي كلّ حال. وقد نصّ الله تعالى على هذا المعنى فقال في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة:45] فدلّ على أنّ العسر والحرج لا يكون في أفعال الخير, وإنّما يكون في النُّفوس السُّوء, قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجعَل صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فمدار المشقّة التي في الطّاعات على الدّواعي والصّوارف, ولهذا ترى (¬1) قاطع الصّلاة يقوم نشيطاً إلى أعمال كثيرة أشق من الصّلاة. وقد يكون العسر الموهوم في أعمال الخير من قساوة القلب, وكثرة الذنوب, وعدم الريّاضة وملازمة البطالة, ألا ترى إلى ما في قيام الليل وإحيائه بالعبادة (¬2) من المشقّة على النّفوس, وهو يسهل عليها سهره في كثير من الأحوال في العرسات والأسمار, والسّروات في الأسفار. فإذا عرفت هذا فاعلم أن من الناس من يحصل له من شدّة الرّغبة في العلم وسائر الفضائل ما يسهّل عليه عسيرها, ويقرّب إليه بعيدها, فلا معنى لتعسير الأمر الشّرعي في نفسه, لأنّ ذلك يخالف كلام الله/ تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -. واعلم أنّ من العقوق, لوم الخلي للمَشُوق, وفي هذا يقول ¬
أبو الطّيّب (¬1): لا تَعْذُل المُشتاق في أشواقِهِ ... حتّى يكونَ حَشاكَ في أَحشائِهِ أما علمت أنّ حبّ المعالي, يُرخص الغوالي (¬2) , ويقوّي ضعف الصّدور على الصَّبر للعوالي. وربما بُذلت الأرواح, لما هو أنفس منها من الأرباح. قال ابن الفارض (¬3): بذلت له روحي لراحِة قُربهِ ... وغير عجيب بذلي الغالِ بالغالي (¬4) وفي ((المقالات)) (¬5) للزّمحشري: ((عزّة النّفس وبعد الهمّة, الموت الأحمر والخطوب المدلهِمّة. ولكن من عرف منهل الذّلّ فعافه؛ استعذب نقيع العزّ وزُعافه (¬6))). ¬
وقد أجاد وأبدع من قال في هذا المعنى: صحبُ اللهُ راكبين إلى العز ... طريقاً من المخافة وَعرْا شرِبُوا الموت في الكريهة حُلواً ... خوفَ أن يشربوا من الضّيمِ مُرَّاً يا هذا! إن الدّواعي تحرّك القُوى, وإنّ القلوب ليست بسَوَى. إنّ الإبل إذا كلّت قواها, ونفخت في بُراها, أطربها السّائق بحداها, فنفحت في سُراها, فعلّلوها بحديث حاجِرٍ, ولتصنع الفلاة ما بدا لها. هذا وهي غليظة الطّباع بهيميّة, فكيف بأهل القلوب الرّوحانية؟! وأنشد الحجّة (¬1) في هذا المعنى في كتابه: ((سر العالمين وكشف ما في الدّارين)) (¬2): ¬
الوجه الثاني
انظر إلى الإبل اللَّوا ... تي هُنّ أغلظ منك طَبعا تُصغي إلى قول الحدا ... ة فَتَقطع الفلواتِ قَطعَا فإيّاك والاستبعاد لكلّ ما عزّ عليك, والاستنكار لوجود ما خرج من يديك. طالب المعالي لا يعنو كمداً, ولا يهدأ أبداً. وكلّما قيل له قف تسترح جُزت المدى, قال: وهل نِلتُ المدى؟!. الوجه الثاني: إفراط المعترض على أهل السنة وطلبة الحديث في تعسير معرفته حتّى قال: إنّ الأمر متعسّر أو متعذّر, وذلك يقتضي أنّه شاكّ في تعذّره غير قاطع بدخوله في حيّز الممكنات. وقد بيّنت (¬1) أن الاجتهاد من الفروض الدينية, والشّعائر الإسلامية, وأنّه رأس معارفه العزيزة, وعمود شرائطه الأكيدة, فيجب القطع بأنّه غير متعذّر؛ لأنّ المتعذّر غير مطاق, والاجتهاد وطلب الحديث مشروع واجب, فلو أوجبه الله وهو متعذّر لكان الله قد كلّفنا ما لا نطيقه, وهذا يستلزم القول بتكليف ما لا يطاق, وهو مردود عند جماهير أهل المذاهب كلهم, وأمّا المعتزلة والزيدية فعندهم أنّ تجويزه كفر وخروج من الملّة, إلا القليل منهم, فيقولون: تجويزه بدعة محرّمة ومعصية ظاهرة (¬2) , لا سيمّا ومذهب الزّيدية أنّه لا يجوز خلوّ الزّمان ¬
الوجه الثالث
عن عالم مجتهد جامع لشرائط الإمامة, فعلى أيّ المذاهب بَنَيْتَ (¬1) هذه الرّسالة, وعلي أي الأسباب ركبت هذه الجهالة؟ الوجه الثالث: أنّ كلام هذا المعترض مستلزم لخلوّ الزّمان من أهل المعرفة بالحديث ومن أهل الاجتهاد في العلم, بل قد صرّح/ بذلك في غير موضع, وقد غفل عما يلزم في مذهبه من هذا, فإنّه يلزم منه تعيّن وجوب طلب الاجتهاد وطلب علم الحديث على كلّ مكلّف؛ لأنّ هذا حكم فرض الكفاية إذا لم يقم به البعض تعيّن الطّلب على الجميع, فكان الواجب عليه على مقتضى تعسيره أن يقول: إنّ الزّمان خالٍ من المجتهدين, وأنّه يتعيّن علينا القيام بما يجب من فريضته, ونحو ذلك من كلام العلماء العاملين. وأمّا أنّه يقرّ بخلوّ الزّمان من القائم بهذه الفريضة, وينهى من اشتغل ببعض شرائطها: فهذا هو النّهي عن المعروف, والوقوع في المحظور, نعوذ بالله منه!!. وفي هذا الوجه والذي قبله خلاف, ومباحث لطيفة تركتها اختصاراً, إذ المقصود إلزام الخصم ما يلتزمه على مقتضى مذهبه, وسوف تأتي الإشارة إلى عمدتها في (الوجه العاشر) , فخذه من هناك (¬2). الوجه الرابع: أنّه لا فرق فيما ذكره بين علم الحديث وسائر ¬
علوم الإسلام, ومصنّفات العلماء الأعلام, بل كتب الحديث مختصّة بصرف العناية من العلماء إلى سماعها وتصحيحها, وكتابة خطوطهم عليها شاهدة لمن قرأها بالسّماع, ولا يوجد في شيء من كتب الإسلام مثل ما يوجد فيها من العناية العظيمة في هذا الشأن, حتّى صار كأنه خصّيصة لها دون غيرها, وذلك من العلماء رضي الله عنهم تعظيم لشعارها, ورفع لمنارها, وبيان لكونها أساس العلوم الإسلامية, وركن الفنون الدينية, فلا يخلو المعترض: إمّا أن يخصّها بتحريم إسناد ما فيها إلى أربابها دون سائر المصنّفات؛ فهذا عكس المعقول, لأنّها أقوى العلوم أثراً في هذا الشّأن. وإمّا أن يورد هذا الإشكال على جميع العلوم السّمعية الظّنيّة؛ فهذا إشكال يعم جميع أهل الإسلام [و] (¬1) لا يخصّ حملة أخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يلزم [منه] (¬2) القدح في إسناد فقه الأئمّة المتبوعين في الفروع إلى أهله فيحرم تقليدهم, مع أنّه قد أنسدّ باب الاجتهاد بتعذّر معرفة السّنن النّبوية, فيصبح أهل الإسلام في عمياء لا إمام ولا مأموم ولا منصوص ولا مفهوم. وكذلك يحرم على الأصوليين والنّحويين نقل ما في كتبهم من الأقاويل المنسوبة إلى قائلها, وكذلك يحرم على أهل السّير والتّاريخ, ¬
الوجه الخامس
فما (¬1) خصّ علم الحديث بالتّرسّل على من أخذ في تعلمّه وتعليمه والعمل به والدّعاء إليه؟ وهلا وضع المعترض كتاباً آخر [إلى] (¬2) من أراد القراءة في فنّ من سائر الفنون؟ الوجه الخامس: أجمعت الأمّة على جواز إسناد ما في الكتب الصّحيحة إلى أهلها بعد سماعها على من يوثق به (¬3) , والدّليل على ذلك: أنّ العلماء ما زالوا ينسبون في مصنّفاتهم الأحاديث إلى من أخرجها والأقاويل إلى من قالها, فيقولون في الحديث: أخرجه البخاري وأخرجه مسلم, وكذلك سائر مصنّفي الحديث والفقه من غير نكير في هذا على الرّاوي عنهم, مع كثرة وقوع هذا منذ صنّفت/ هذه الكتب إلى هذا التاريخ, وذلك قريب من خمسمائة سنة, ما علمنا أنّ أحداً من المسلمين حرّم على من سمعها على الثّقات أن ينسب ما وجد فيها إلى مصنّفيها ولا شكّك, ولا حرّج في هذا. حتّى إنّ هذا المعترض زعم أنّ البخاري مبتدع, بل كافر!! صانه الله عن ذلك! واحتجّ عليه بشيء نقله من صحيحه, يدلّ على أنّ البخاري يؤمن بالقدر, مع أنّ التكفير عند المعتزلة والزّيدية لا يجوز إلا بنقل متواتر, فكيف يحتجّ على البخاري بما في صحيحه وهو عنده لا يصحّ بطريقة ظنيّة؟ مع أنّ صحيحه ما اشتمل على ما يلزمه ما ¬
الوجه السادس
توهّمه. وكذلك فإن هذا المعترض صنّف تفسيراً نقله من تفاسير العلماء, فتراه يروي فيه عن البخاري [ومسلم] (¬1). بل أغرب من هذا أنّه يقرأ كتب الحديث ويجيز روايتها عنه عن شيوخه عن أهلها, لكنّه غضب من العمل بها وظهور التّعظيم لها, وكلّ ما ذكرته يدلّ على انعقاد الإجماع على ما ذكرته. والله أعلم. الوجه السادس: أنّ كلام هذا المعترض مبنيّ على تحريم قبول المراسيل كلها (¬2) , وما أدرى لم بنى كلامه على هذا! وهو لا يدري ما اختيار خصمه ولا ما يختاره طالب علم الحديث؟ فجواز قبول المراسيل مذهب المالكيّة والمعتزلة والزّيدية, ونصّ عليه منهم أبو طالب (¬3) في كتاب ((المجزي)) (¬4). ¬
والمنصور (¬1) في كتاب ((صفوة الاختيار)) (¬2). وروى أبو عمر بن عبد البر في أوّل كتاب ((التمهيد)) (¬3) عن العلاّمة محمد بن جرير الطّبري: إجماع التّابعين على ذلك. ومذهب الشافعية قبول بعض المراسيل على تفصيل مذكور في كتب علوم الحديث (¬4) والأصول (¬5) , وهو المختار على تفصيل فيه, وهو: قبول ما انجبر ضعفه لعلّة الإرسال بجابر يقوّي الظّن بصحته, إمّا: بمعرفة حال من أرسله وأنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة كمراسيل ابن المسيّب, وما جزم به البخاري من تعاليق ((الصّحيح)) ولم يورده بصيغة التّمريض (¬6) ¬
وما صنّفه المتأخرون الحفّاظ في كتب الأحكام (¬1) واقتصروا على نسبة الحديث إلى مخرّجه من غير إسناد من المصنّف إلى مخرج الحديث, وغير ذلك من المراسيل المعضودة بما يقوّيها. بل مراسيل الصّحابة والتّابعين وأئمة الحديث المعروفين مقبولة إذا لم يعارضها مسند صحيح, إلا مرسل من عرف منهم بالإرسال عن الضّعفاء (¬2) , وأدلّة وجوب قبول خبر الواحد تتناول ذلك. وموضع بيان الحجّة على جواز ذلك كتب الأصول, والمسألة نظريّة لا يجوز الإنكار فيها على من ذهب إلى أحد المذاهب. ومن أحسن ما يحتجّ به [في ذلك] (¬3) الإجماع على قبول اللّغة والنّحو مع بناء تفسير الحديث عليهما بغير إسناد صحيح على شرط أصحاب الحديث. إذا عرفت هذا؛ فاعلم أنّ أقوى المراسيل ما أرسله العلماء من ¬
أحاديث هذه الكتب, وذلك لوجوه: أولها: أنّ نسبة الكتاب إلى مُصنِّفه معلومة في الجملة بالضّرورة, فإنّا نعلم بالضّرورة أنّ محمد بن إسماعيل البخاري ألّف كتاباً في الحديث, وأنّه هو الموجود في أيدي المحدّثين/, وإنما يقع الظّنّ في تفاصيله, وما عُلِمت جملته وظنّت تفاصيله أقوى مما ظنّت جملته وتفاصيله. وثانيها: أنّ أهل الكذب والتّحريف قد يئسوا من إدخال الكذب في هذه الكتب, فكما أنّه لا يمكن أحداً أن يدخل على الفقهاء في المذاهب الأربعة غير مذاهب أئمتهم, فَيُدخل في ((المنهاج)) (¬1) للنّووي أنّ الشّافعي لا يشترط النّصاب في زكاة ما أخرجت الأرض, ويدخل على الحنفية مثل ذلك. وكذا لا يستطيع أحد أن يدخل على الزّيدية في كتاب ((اللّمع)) (¬2) الذي هو مَدْرَسهم (¬3) مسألة للفقهاء وينسبها إلى أئمة الزّيدية, ولا يستطيع أحد أن يدخل على النّحاة في كتبهم المدروسة ما ليس فيها. ¬
فكذلك يتعذّر أن يدخل في البخاري أحاديث ((الشّهاب)) (¬1) ونحوه ويمضي ذلك على الحفّاظ, ولو تقدّر ذلك في حق بعض الضّعفاء لا نكشف الحقّ عن قريب, وكان ذلك المغرور غير مؤاخذ عند الله, بل لابد أن يكون عاملاً على بعض مذاهب العلماء غالباً, كما سيأتي بيان ذلك عند تذكر كثرة الطّرق في الرّاوية, واتّساع كثير من العلماء في ذلك واعتمادهم على العمل بالظّنّ. وثالثها: أنّ النّسخ المختلفة تنزّل منزلة الرّواة المختلفين, فاتفاقها يدلّ على صحة ما فيها عن المصنّف قطعاً أو ظاهراً. فإنك إذا وجدت الحديث منسوباً إلى البخاري في نسخة نسخت باليمن, ووجدته منسوباً إليه في نسخة غربية أو شاميّة أو عراقية, ووجدت ذلك الحديث كذلك في شرح البخاري, ومصنّفه كان في بلاد أخرى أو زمان آخر ووجدته في الكتب المستخرجة من كتب الحديث والمختصرة منها, فتجده في ((جامع الأصول)) لأبي السّعادات ابن الأثير و ((المنتقى)) لعبد السلام (¬2) , و ((أحكام عبد الحق)) (¬3) , ¬
و ((الإلمام)) للشيخ تقي الدين (¬1) , ونحوها, وتجده في كتب الفقه البسيطة (¬2) المشتملة على ذكر المذاهب والحجج. وتجده في شواهد الفقه المجرّدة مثل: ((شواهد المنهاج)) لابن النّحوي (¬3) , و ((شواهد التنبيه)) (¬4) لابن كثير ونحوها, ونحو هذه الكتب قد توجد كلها ويوجد الحديث فيها, وقد يوجد كثير منها ويوجد الحديث في كثير منها. ولا شكّ أنّ النّاظر فيها إن لم يستفد العلم الضّروري باستحالة تواطؤ مصنّفيها على محض الكذب والبهت؛ لأنه يستحيل اجتماعهم واتفاقهم على ذلك لتباعد أغراضهم وبلدانهم وأزمانهم ومذاهبهم, فأقلّ الأحوال أنّ ذلك يفيد من الظّنّ ما يفيده الإسناد إلى المصنّف مع السّماع على الثّقة ولكن بغير إسناد, فإذا كان الجمّ الغفير من الأئمة من فرق الإسلام قد نصّوا على وجوب قبول المرسل, وادّعى ابن جرير وغيره الإجماع على ذلك مع خلوّ المرسل عن مثل هذه القرائن, ¬
اعتراض ودفعه
فكيف ينكر على من قبله مع مثل هذه القرائن الكثيرة؟ وإذا كان المعتبر (¬1) في باب الرّواية هو الظّنّ المطلق كما يأتي تحقيقه عند كثير من أهل العلم, فكيف ينكر على من استند إلى مثل هذا الظّنّ القوي؟ /فإن قيل: إنّ أهل الحفظ والثقة قد يسندون عن معمَّرين (¬2) لا يعرفون الحديث, ولا يضبطونه؛ فكان هذا قدحاً في رواية الحديث (¬3) عنهم. قلنا: أهل الحديث لا يعتمدون على أولئك المعمّرين في جواز الرّواية والعمل بالحديث, بل يعتمدون على من قرأ لهم, وعلى من أثبت طباق السّماع لهم, وإنّما احتاجوا إلى أولئك لأجل علوّ السّند, ذكر معنى ذلك الذّهبي في خطبة ((الميزان)) (¬4) وقال: ((إنّه مبسوط في علوم الحديث)) , وقال: ((من المعلوم أنّه لابدّ من صون الرّاوي وستره)). وذكر ذلك كلّه زين الدّين في كتابه في ((علوم الحديث)) (¬5) والله أعلم. الوجه السّابع: أنّ أقصى ما في الباب أن يروي المحدث عن المجاهيل من المسلمين والمجاهيل من العلماء, فقد قال ¬
بذلك (¬1) من أهل العلم المجمع على فضلهم ونبلهم من لا يحصى, فقد ذهب أئمة الحنفيّة إلى قبول المجهول من أهل الإسلام, وذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة والزّيدية, وهو أحد قولي المنصور بالله: ذكر ما يقتضي ذلك في كتابه: ((هداية المسترشدين)) , وهو الذي ذكره عالم الزّيدية ومصنّفهم وعابدهم وثقتهم عبد الله بن زيد العنسي (¬2) , ذكره في ((الدّرر المنظومة)) (¬3) بعبارة محتملة للرّواية عن مذهب الزّيدية كلّهم, وهو الذي أشار إلى ترجيحه أبو طالب في كتاب: ((جوامع الأدلة)) (¬4) وتوقّف فيه في كتاب: ((المجزي)) وذكر أنّه محل نظر, وحكاه المنصور في ((الصّفوة)) عن الشّافعي. فكيف تنكر أيّها الزّيدي ما ذهب إليه جلّة من أئمة الزّيدية ومحقّقيهم؟ ّ! على أنّ المحدث غنيّ عن النزول إلى هذا الحدّ في الترخّص, وأكثر ما يحتاج إليه في بعض الأحوال: الرّواية عن المجهول مطلقاً, وقول ابن عبد البرّ, وابن الموّاق (¬5) معهم, فقد وافقوهما على ¬
حجج قبول المجهول الأثرية
قبول مجهول العلماء لأنه من جملة المجاهيل, لكنّهما خالفاهم في قبول من عدا هذا الجنس, ولهما من الحجج على ما اختاراه ما يمكن الرّكون إليه والاعتماد عليه, لولا عدم الحاجة إلى ذلك, ومحبّة الاحتياط بسلوك أوضح المسالك, وقد ذكرت في ((الأصل)) (¬1) لهما حججاً في ذلك, وطوّلت الكلام عليها, وأنا أذكرها في هذا ((المختصر)) وأحذف من التّطويل فأقول: يمكن أن يحتج لهما بحجج قرآنية, وأثريّة, ونظرية: أما القرآنية: فقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِكْرِ إِنْ كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ} [الأنبياء:7] , فإطلاق هذا الأمر القرآني يدلّ وجوب سؤال العلماء إلا ما خصّه الإجماع وهو: الفاسق المتعمّد؛ وهذا نادر في العلماء, وإن اتّفق ذلك من أحد منهم فهو معروف غير معتمد, وإنّما يصدر منهم من المعاصي ما لم يجمع على [الجرح] (¬2) به كما سيأتي/ قريباً. وأما الأثريّة؛ فقد ورد في ذلك آثار: الأثر الأول: النّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله (¬3))). روي مرفوعاً مسنداً من طريق أبي هريرة, وعلي بن أبي ¬
طالب, وعبد الله بن عمرو بن العاص, وعبد الله بن عمر بن الخطاب, وأبي أمامة, وجابر بن سمرة. واختلفوا في صحة إسناده وإرساله؛ فأسنده العقيلي (¬1) عن أبي هريرة, وابن عمرو بن العاص وقال: الإسناد أولى, وضعّف إسناده ¬
زين الدّين ابن العراقي (¬1) , وقال ابن القطّان (¬2): الإرسال أولى. وتوقّف في ذلك الحافظ ابن النّحوي الشّافعي المصري. وقال ابن عدي (¬3): ((رواه الثّقات عن الوليد بن مسلم عن إبراهيم بن عبد الرحمن [ثنا] (¬4) الثّقة من أصحابنا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... )) وساقه. قال الذّهبي (¬5): ((رواه غير واحد من معان يعني ابن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرّحمن العذري التّابعي)). فالقوي صحّة الحديث كما ذهب إلى ذلك: إمام أهل الحديث أحمد بن حنبل, والعلاّمة الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ, روى تصحيحه عن أحمد بن حنبل غير واحد وابن النّحوي في ((البدر المنير)) (¬6) والزّين ابن العراقي في ((التبصرة)) (¬7) وقال: ((ذكر الخلال في ((كتاب العلل)) أنّ أحمد سئل عنه فقيل له: كأنّه كلام موضوع؟ فقال: لا, هو صحيح, فقيل له: ممن سمعته؟ قال: من غير واحد)). قلت: الظّاهر صحته أو حسنه, فإنّما علّل بالإرسال, والاختلاف في معان. ¬
أمّا الإرسال: فقد ارتفع بقول ابن عديّ: إنّ الثّقات رووه عن إبراهيم بن عبد الرحمن [ثنا] (¬1) الثقة مع شهادة تلك الطرق المقدّمة لإسناده, وإن كان زين الدّين ضعّفها؛ فالضعيف يستشهد به, وقد تكثر الطّرق الضّعيفة فيقوى المتن على حسب ذلك الضّعف في القلّة والكثرة, كما يعرف ذلك من عرف كلام أهل [هذا] (¬2) العلم في مراتب التّجريح والتّعديل. وأمّا مُعان؛ فقد قال أحمد: ((لا بأس به)) (¬3) ووثّقه ابن المديني, لكن ليّنه ابن معين (¬4) والتّليين لا يقتضي ردّ الحديث, بل يسقطه من مرتبة الصّحة, ويجوز أن يكون حسناً لا سيمّا وهو من قبيل الجرح المطلق, وهو مردود مع التوثيق الرّاجح, وموقوف فيه مع انفراده. وهذا الجرح المطلق معارض بما هو أرجح منه, وهو كلام أحمد وابن المديني فإنّهما أرجح من ابن معين لأجل العدد, وإن كان مثلنا أقلّ من أن يرجح بينهم في المعرفة بالحديث, فأمّا التّرجيح بالعدد فهو ظاهر, على أنه لم يصرّح (¬5) بما يعارض كلاميهما. فقد يقال فيمن يجب قبوله: ((فيه لين)) , وقد تطلق هذه العبارة في بعض رجال الصّحيح, وإنّما فائدتها: ترجيح من لم يقل فيه ذلك ¬
على [من] (¬1) قيل فيه عند التعارض, كيف وقد وردت شواهد لحديث مُعان! فقد قال ابن عدي: ((رواه الثقات عن إبراهيم بن عبد الرحمن)) فالثّقات جمع أقلّه ثلاثة, وقد رواه أحمد بن حنبل عن غير واحد, منهم مسكين, إلا أنّه وهم في اسم إبراهيم بن عبد الرحمن, فقال: القاسم بن عبد الرحمن. هذا كلّه من غير اعتبار/ الطّرق المسندة التي اوردها ابن العراقي في ((التّبصرة)) (¬2). وأمّا إبراهيم بن عبد الرحمن؛ فقد قال ابن الأثير في ((أسد الغابة)): (¬3) إنّه من الصّحابة, وقد قيل: إنّه ليس بصحابيّ. لكن المثبت أولى من النّافي, والزّيادة من العدل مقبولة إذا لم تكن معلولة, وقال جماعة: تقبل وإن كانت معلولة ولم تضعّف, بل قد قال الذّهبي (¬4) ((ما علمته واهياً)) , وحديثه مقبول عند طوائف من العلماء. أما المحدّثون؛ فلأنّ إمامهم أحمد بن حنبل يقبله, ولأنّ له قاعدة في تصحيح الأخبار معروفة (¬5) عندهم, ولا يظن بمثله أنّه يقضي ¬
بصحّته قبل تمهُّد قاعدةِ الصحّة, وكذلك ابن عبد البر, وقد روى عنه غير واحد من الثّقات فخرج عن مطلق الجهالة, ولأنّه قد قال فيه الثقة: إنه صحابي. وأما الحنفيّة؛ فإنهم يقبلون المجهول, كيف إذا كان تابعيّاً! كيف إذا قيل: إنه صحابيّ!. وأمّا المالكيّة؛ فإنّهم يقبلون المرسل. وامّا الشّافعيّة فإنّهم يقبلون بعض المراسيل, وإذا جمعت طرق هذا كلّه وجدته أقرب إلى القبول على قواعدهم. فهذه الوجوه مع تصحيح أحمد, وابن عبد البر, وترجيح العقيلي لإسناده (¬1) مع سعة اطّلاعهم, وإمامتهم: تقضي بجواز التّمسّك به. وأمّا ما اعترض به زين الدّين على هذا الحديث من جهة المعنى, فإنه ضعيف. فإنه قال: ((لو كان خبراً لما وجد في حملة العلم من ليس بعدل, فوجب حمله على الأمر به)) (¬2). والجواب: أنّ هذا غير لازم؛ لأنه يجوز تخصيص الأخبار كما يجوز تخصيص الأوامر, وذلك مستفيض في القرآن والسّنة, ومنه: ¬
{وَأُوتِيَت مِنْ كُلِّ شَيءٍ} [النمل:23] , وقد قال الله تعالى في أهل عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -: {كُنتُم خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]. مع صحة ارتداد جماعة منهم, كما ذكره أئمة الحديث في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: ((فأقول سحقاً لمن بدّل بعدي)) (¬1) , فلم يوجب ذلك تأويل الآية على الأمر (¬2) , وسلب الصّحابة رضي الله عنهم هذه الفضيلة العظمى. والوجه في ذلك أنّ التخصيص كثير في الشّريعة واللّغة, حتّى قال بعضهم: إنّ كلّ عموم في القرآن مخصوص إلا قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شِيءٍ عَلِيمٍ} [الأنعام:101] وقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ} [المائدة:120]. وحتّى قال بعض الأصوليين: إنّ ألفاظ العموم مشتركة بينه وبين الخصوص, بخلاف ورود الخبر بمعنى الأمر فإنّه ليس في هذه المرتبة (¬3) , وما كان أكثر وقوعاً كان أرجح. وأمّا قوله: إنّ ذلك قد جاء في بعض طرق [ابن] أبي حاتم (¬4) , فمردود بضعفه وإعلاله لمخالفة جميع الرّواة الثّقات وغير الثّقات (¬5). ¬
الأثر الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدّين)) (¬1) , رواه جماعة من الصّحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وهو صحيح صحّحه محمد بن إسماعيل البخاري, / وأبو عيسى الترمذي (¬2) وغيرهما, وهو دليل على أن الله قد أراد الخير لأهل الفقه, ولا معنى لتخصيصهم بذلك إلا لوقوع ما أراده بهم, أمّا عند أهل السنة فظاهر, وأمّا عند المعتزلة فلتخصيصهم بالذّكر, وأمّا الزّيدية فقد احتجوا بمثله في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيراً} [الأحزاب:33].وهذا الأثر يخصّ من فقه في دينه دون غيره من أهل العلم, والكلام فيمن يطلق عليه ذلك يتعلق بشروح الحديث. الأثر الثالث: ما ورد في ((الصّحيح)) (¬3) من قصّة الرّجل الذي قتل تسعة وتسعين, وسأل عن أعبد أهل الأرض, فدلّ عليه, [فسأله] (¬4) فأفتاه ألاّ توبة له فقتله, ثمّ سأل عن أعلم أهل الأرض, فدلّ عليه, فسأله فأفتاه بأن توبته مقبولة, وفيه: بأنّه من أهل الخير. فحكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قصّته, ولم يحك فيها أنّه بعد معرفة علم ¬
الرّجل سأل عن عدالته, وقد اعتمد هذا الرّجل على فتواه فيما يتعلق بالتّوبة من أحكام تلك الشّريعة من الدّية وسقوط القود, وغير ذلك, والظّاهر أنّه لم يكن القود في شرعهم (¬1) , أو كان هناك مسقط للقود من كفر القاتل والمقتول أو غير ذلك, والله أعلم. الأثر الرابع: وهو في ((الصّحيح)) (¬2) أيضاً وذلك أنّ الله تعالى لما قال لموسى - عليه السلام -:» إنّ لنا عبداً هو أعلم منك «-يعني: الخضر - عليه السلام - , سأل موسى من الله تعالى لقاء الخضر ليتعلم منه وسافر للقائه, ولم يرد في الحديث أنّه سأل عن عدالته بعد أن أعلمه الله تعالى بعلمه (¬3) , مع أنّ من الجائز أن يكون عظيم العلم غير عدل مثل: ¬
حجج قبول المجهول النظرية
بلعام (¬1) وغيره, و [لكنه] (¬2) تجويز بعيد, قليل الاتفاق, نادر الوقوع, فلم يجب الاحتراز منه كما لا يجب الاحتراز من تعمّد كذب الثّقة, ولا من وهم الحافظ. وفي بعض هذه الآثار ما لو انفرد كان في الاحتجاج به نظر, لكنّها تقوى باجتماعها, وما قدّمنا في شهادة القرآن لها, ولم يذكر ابن عبد البرّ (¬3) منها إلا حديث: إبراهيم بن عبد الرّحمن العذري المقدّم. وأما الاستدلال على ذلك من النّظر فهو يظهر بذكر أنظار: النظر الأول: أنّ الظّاهر من حملة العلم أنّهم مقيمون لأركان الإسلام الخمسة, مجتنبون لكبائر المعاصي, ولما يدل على الخسّة, معظّمون لحرمة الإسلام, لا يجترثون على الله تعالى بتعمّد الكذب عليه. والظّاهر أيضاً فيهم قلة الوهم بعد الاعتماد على الكتابة, وظهور العناية بالفنّ, فصاحب الفنّ الشهير به قليل الغلط فيه, وإن كان يغلط في غيره, على أن الوهم المقدوح به عند أهل الأصول شرطه أن يكون أكثر من الصّواب أو مساوياً له, على اختلاف بينهم في المساوي. ¬
وهذا الذي ذكروه نادر الوقوع في حقّ الشّيوخ المتأخرين, ولا شكّ أنّ هذه الأمور أمارة/ العدالة المشترطة في الرّواية التي يترجّح معها ظن الصّدق, وخوف المضرّة بالمخالفة. النّظر الثاني: أنّه ثبت بالاجماع الظّاهر جواز رجوع العامّي في الفتوى إلى من رآه في المصر مُنتصباً للفتوى, ورأى المسلمين يأخذون عنه, وهذا كافٍ للعامّي, مع أنّ العدالة شرط في المفتي, فدلّ على أنّ ظاهر العلماء العدالة, وأنّه لا يجب البحث حتّى يظهر. وإنّما قلنا: إنّ ذلك يكفي العامّي لأنّ العامّة ما زالوا على ذلك, ولم ينكر عليهم أحد من السّلف والخلف (¬1) , ولو أنّ أحداً أوجب على العامّي إذا دخل المصر يستفتي أن يختبر المفتي في سفره وحضره ¬
ورضاه وغضبه ونحو ذلك لخالف الإجماع, وقد نصّ على هذا جماعة من أهل الأصول, ذكرتهم في ((الأصل)) (¬1). النّظر الثالث: وجوب إجابة العامّة للقاضي الذي على هذه الصفة وامتثال قضائه, مع اشتراط العدالة فيه. النظر الرابع: أنّه ظهر من طلبة العلم أنهم يسألون عن العارف بالفنّ, فإذا سمعوا به رحلوا إليه, وأخذوا [عنه] (¬2) من أوّل المجالسة قبل طول الخبرة, وربّما طالت المجالسة, وحصلت الخبرة فيما بعد, وربّما تعجّلت الفرقة قبل الخبرة, ومع استمرار وقوع هذا في جميع أقطار الإسلام لم نعلم أنّ أحداً من العلماء قال لمن فارقه قبل الخبرة: إنه لا يجوز لك العمل بما أخذت عنّي, ولا قال لمن جالسه في أوّل المجالسة: إنّه لا يجوز لك الأخذ بما تأخذ (¬3) عني حتى تطول المجالسة وتحصل الخبرة. والمقصود بهذا النّظر أنّ العمل بهذا كثير في قديم الزّمان وحديثه؛ فإذا عمل به طالب الحديث لم ينسب إلى الشذوذ, وكذا إذا قيل: إنّ هذا مذهب ابن عبد البرّ, وابن الموّاق لم يتوهّم أنّهما شذّا بهذا. فإذا قيل: ليس كلّ طالب علم معلوماً أنّه يريد العمل, ولا كلّ طالب [أيضاً] (¬4) يظهر منه أنه يستجيز العمل قبل الخبرة, قلنا: ذلك ¬
صحيح. ولكن الأكثر يظهر ذلك منهم. فإن قيل: كيف يستنبط من هذا النّظر إجماع مع ظهور الخلاف؟ قلنا: يستنبط منه إجماع على عدم النكير (¬1) على من استجاز ذلك, لا على أنّ الكلّ من العلماء قائلون به. النظر الخامس: أنّه قد ظهر تفسير كثير من الكتاب والسنة بألفاظ لغويّة ومعاني نحويّة عن كثير من الأدباء من غير عناية بمعرفة أحوالهم في التّوثيق, فإنّ التّوثيق وإن وجد في بعضهم فلا يطّرد في جميعهم, ألا ترى إلى إطباق الطوائف على الرجوع إلى ((النهاية)) (¬2) لابن الأثير من غير تثبّت في توثيقه؟. ولو قدّرنا معرفة بعض الخاصّة لذلك فالأكثر على النّقل/ منه من غير معرفة لثقة مؤلّفه, حتّى إنّ الزّيدية يعتمدون على الرجوع إلى كتابه, مع أنّه لو ثبت أنه عدل لما كفى ذلك, فإنه لم يشافه العرب, وينقل عنهم بغير واسطة, بل روى عن جماعة كثيرة من اللّغويين كما أشار إليه في خطبة كتابه, بل كلّ واحد من اولئك الذين روى عنهم روى عن خلق أيضاً, ألا ترى أنّه يروي عن الزّمخشريّ مع أنّ الزّمحشريّ معتزلي حنفيّ والظّاهر من الحنفية قبول المجهول (¬3) , ¬
وهو ظاهر عن كثير من المعتزلة وغيرهم, كما ذلك مذكور في مصنّفاتهم. ومع أنّ الزّمخشريّ, وإن كان صالحاً عند أهل الحديث في نفسه؛ فهو عندهم داعية إلى الاعتزال, غير معروف بتحريم الرّواية عن المجاهيل في الحديث, دع عنك اللّغة, بل قد روى الموضوعات في ((كشّافه)) في فضائل السّور, مع الإطباق أنّه من أئمة اللّغة والعربيّة, والرّجوع إلى مصنّفاته في ذلك, وهذا يدلّ على ما ذهب إليه أبو عمر بن عبد البرّ من حمل كلّ صاحب علم معروف العناية فيه على السّلامة في علمه حتّى يتبيّن جرحه (¬1) , والله سبحانه وتعالى أعلم. فإن قلت: هذه الحجج كلّها مبنيّة على تحسين الظنّ بجملة العلماء, والقول بأنّ المجروح فيهم نادر, و [أنّه] (¬2) إذا كان نادراً فالحكم بالنّادر تقديم للمرجوح على الرّاجح, وذلك قبيح وفاقاً, لكن كون المجروح نادراً فيهم غير مسلّم, فإنّ وقوع الغيبة منهم والحسد فيما بينهم والمنافسة في الدّنيا كثير غير قليل. قلت: الجواب عن ذلك أن نقول: أمّا قوله: إنّ المجروح فيهم ¬
الأدلة الأثرية والنظرية على أنه ليس كل من وقع منه ذنب فإنه ليس بعدل
كثير غير نادر؛ فهو بناء على أنّ كلّ من وقع منه معصية فهو مجروح, ومتى سلّم له أنّ العدالة هي: ترك جميع الذّنوب؛ فالسؤال واقع, ولكن هذا ممنوع بدليل القرآن والأثر والنّظر والنّقل. أما القرآن: فما حكى الله تعالى عن ذنوب أنبيائه وأوليائه, ونزع الغلّ من صدور أهل الجنّة, مع أنّ شهادة ذي الغلّ لا تقبل, وذكر ذلك على التفصيل يطول. وأما الأثر: ففيه أخبار كثيرة, أذكر ما حضرني منها وهو اليسير: الأثر الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نوقش الحساب عُذّب)) (¬1) وهو صحيح الإسناد والاستناد. الأثر الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من طلب قضاء المسلمين حتّى يناله ثمّ غلب عدله جوره فله الجنّة, ومن غلب جوره عدله فله النّار)) رواه أبو داود (¬2) عن أبي هريرة مرفوعاً. قال الحافظ ابن كثير: ((إسناده حسن)) (¬3). الأثر الثالث: ما ورد في تحريم قبول ذي الإحنة (¬4) في الشّهادة ¬
على من هو له مبغض (¬1) , وإن كانا مسلمين عدلين, فالإحنة على المسلم محرّمة, / وذو الإحنة مقبول على من ليس بينه وبينه إحنة؛ لأنّ مجرّد دخول الإحنة, ووجود بعض العداوة لا يمنع من العدالة, ولهذا قال الله تعالى في صفة أهل الجنّة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43] ولو كان صاحب الإحنة على أخيه مجروحاً في حقّ كلّ أحد, لم يكن لتخصيص ردّه إذا شهد على من يبغضه معنى. الأثر الرابع: الحديث الصّحيح الذي فيه: ((قاربوا وسدّدوا وأبشروا, ولن يدخل الجنّة أحد إلا برحمة الله تعالى)) (¬2) ونحو ذلك. وأما النّظر: فلأنّا إذا تركنا شهادة من هذه صفته من المسلمين, وطرحنا روايتهم وفتواهم ومصنّفاتهم, واعتبرنا في الشهادة قول بعض المتعنّتين في العدالة: إنّها الخروج من كلّ شبهة, ومحاسبة النّفس في كلّ لحظة, ونحو ذلك من التّشديدات تعطّلت المصالح والأحكام, وتضرّر جميع أهل الإسلام, واختلفت (¬3) الأحوال, وضاعت الحقوق ¬
والأموال, ولم يجد المقلّد من يروي له مذهب إمامه, ولا العامّي من يفتيه, ولا الحاكم من يقيم له الشّهادة, ولا وجد صاحب الولاية من يصلح للقضاء, ولا وجد أهل عقد النّكاح من يشهد بينهم. فإنّ أهل الورع الشّحيح ورياضة النّفوس على دقائق المراقبة أعزّ من العَيُّوق (¬1) ملمساً, ومن الكبريت الأحمر وجوداً, فإن وجدتهم لم تجدهم أهل التدريس والفتوى والشهادة بين أهل اللّجاج والحضور عند أهل الخصومات, وإذا تأمّلت وجدت السّالم من جميع المعاصي من أهل الفتوى والتّدريس عديم الوجود. فمن منهم الذي لا يسمع منه غيبة أحد, ولا يداهن على مثل ذلك [أحد] (¬2) , ويصدع بمرّ الحقّ في كلّ موقف, ولا تأخذه في الله لومة لائم, ولا يتخلّف عن إنكار منكر يجب إنكاره, ولا يتثاقل عن أداء واجب عليه لعدوّ, ولا يترخّص إن وجب عليه عداوة صديق, ولا يلين بالمداهنة لأمير, ولا يتكبر على فقير!!. ولسنا نعتقد أنّ أهل هذه الصّفة غير موجودين, ولكن نعتقد أنّهم غير كافين للمسلمين في التّعليم والرّواية والقضاء والشّهادة, ومن أين لكلّ عاقد نكاح وبايع حقّ شاهدان كذلك؟ ومن أين لكلّ طالب علم من جميع طلبة الفنون, وكلّ طالب فتوى في جميع الأقطار من هو كذلك؟!!. ¬
وأما النّقل: فعن الشّافعي - رضي الله عنه - أنّه قال (¬1): لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً, ولو كان كلّ مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً, ولكنّ العدل من اجتنب الكبائر, وكانت محاسنه أكثر من مساويه, أو كما قال الشّافعي. وقد روى النّووي في ((الرّوضة)) (¬2) عن الشّافعي هذا المعنى, ولم يحضرني لفظه/ ولا كتابه. وروي عن أحمد بن حنبل -رضي الله تعالى عنه- أنّه قال: [إنّه] (¬3) يعمل بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب من الحديث الصّحيح ما يدفعه (¬4) , وعن أبي داود مثله (¬5). ولهما حجّة فيما روي عن عليّ - رضي الله عنه - من تحليف من اتّهمه وقبول حديثه, وسيأتي بلفظه وأنّه حسن الإسناد (¬6). وقد روي عن أبي حنيفة -رحمه الله- أكثر من هذا في هذا في المعنى المقصود. وبالجملة؛ فإنه أجاز قبول المجاهيل, وحكم لهم باسم العدالة متى كانوا من أهل الإسلام. وقد جاء في كلام عمر - رضي الله عنه - له ¬
كلام أصحاب المعترض في العدل
حجّة, وهو قوله في كتابه إلى أبي موسى: ((والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشّهادات, إلاّ مجلوداً في حدّ, أو مجرّباً عليه شهادة الزّور)) الحديث. رواه البيهقي (¬1) عن معمر البصري عن أبي العوّام عنه. وقال: ((وهو كتاب معروف)). وأما كلام أصحاب المعترض: فقال عبد الله بن زيد, من علماء الزّيدية في كتابه ((الدّرر المنظومة)) في تفسير لفظ العدل: ((ومعنى كونه عدلاً: أن يكون مؤدياً للواجبات مجتنباً للكبائر من المستقبحات)). قال شيخ الاعتزال أبو الحسين البصري (¬2) في كتابه ((المعتمد)) (¬3) في تفسير لفظة العدل: ((وتعورف أيضاً فيمن تقبل روايته عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - , وهو من اجتنب الكبائر, والكذب, والمستخفّات من المعاصي والمباحثات)) , ومثّل المستخفات من المعاصي: بالتّطفيف بحبّة, والمستخفّات من المباحات: بالأكل على الطريق. ومن المنقول في ذلك عن فضلاء السّلف والخلف: ما اشتهر عنهم من وصفهم لأنفسهم بمقارفة الذّنوب والوقوع في المعاصي. فروى الأعمش عن إبراهيم التّيمي عن أبيه قال: قال عبد الله ... -يعني ابن مسعود-: ((لو تعلمون ذنوبي ما وطيء عقبي اثنان, ¬
ولحثيتم على رأسي التراب, ولوددت أنّ الله غفر لي ذنباً من ذنوبي وأني دعيت: عبد الله بن روثة)) (¬1). وروى الأعمش عن إبراهيم التّيمي عن الحارث بن سويد قال: أكثروا على عبد الله يوماً فقال: ((والله الذي لا إله غيره لو تعلمون [علمي] (¬2) لحثيتم التّراب على رأسي)) (¬3). قال الذّهبي في ((النبلاء)) (¬4): ((روي هذا من غير وجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -)). قلت: هذا؛ وقد روى علقمة عن أبي الدرداء (¬5) أنّه قال: ((إنّ الله أجار ابن مسعود من الشّيطان على لسان نبيّه)). وجاء من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , ((لو كنت مؤمّراً أحداً من غير مشورة لأمّرت ابن أم عبد)) (¬6) , وجاء عنه - عليه السلام -: ((اهتدوا ¬
بهدي عمّار وتمسّكوا بعهد ابن أم عبد)) (¬1) وقال - عليه السلام -: ((رضيت لأمّتي ما رضي لها ابن أم عبد)) (¬2) رواه الثّوري وإسرائيل عن منصور (¬3). وأجمعت الأمّة على صحة حديثه وجلالة قدره. فإذا كان مثل هذا الصّاحب الجليل يقسم بالله الذي لا إله إلا هو: لو يعلم النّاس ذنوبه لحثوا على رأسه التّراب, فكيف يشترط في العدل أن لا تبدو منه هفوة ولا يقع في معصية؟!. وأعظم من هذا سؤال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ¬
لحذيفة, هل هو منافق؟ وقول حذيفة بعد تزكيته: لا أزكّي بعدك أحداً (¬1). ولم يخف/ عمر - رضي الله عنه - من النّفاق الذي هو الشّكّ في الإسلام, فإنّه يعلم براءة نفسه منه, بل نحن نعلم براءته - رضي الله عنه -[منه] (¬2) بما شهد له به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل الكثيرة, والمناقب الكبيرة, وإنّما خاف - رضي الله عنه - من صغائر النّفاق الذي هو: خلف الموعد, وخيانة الأمانة, والكذب في الحديث, فإنّ المؤمن الورع قد يدخل عليه من صغائر بعض هذه الخصال ما يدقّ ولا يتفطّن له, وربما كان الغير (¬3) أبصر بعيب الإنسان منه. وربّما قصد عمر تنبيه ضعفاء المسلمين على تفقّد أنفسهم, وجعل لهم بنفسه الكريمة أسوة حسنة حيث أتّهمها على أمر عظيم. وقد كان عمر - رضي الله عنه - إماماً في التّقوى والمراقبة, شديد المناقشة لنفسه والمحاسبة, وقد قال لبعض الصحابة: كيف وجدتموني؟ [قالوا] (¬4):صالحاً, ولو زغت لقوّمناك. فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا زغت قوّموني (¬5) أو كما قالا. ¬
الوجه الثامن
فهذا كله -وأمثاله مما يطول ذكره- يردّ على من يتعنّت, ويقدح على كثير من العلماء بأشياء يسيرة لا تدلّ على تجرّيهم على تعمّد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقد قال الحاكم أبو عبد الله (¬1): ((إنّا نظرنا فوجدنا البخاري قد صنّف كتاباً في التّاريخ, جمع أسامي من روى عنهم من زمان الصّحابة إلى سنة خمسين (¬2) , فبلغ عددهم قريباً من أربعين ألفاً, إلى قوله: ثم جمعت من ظهر جرحه من جملة الأربعين الألف فبلغ مائتين وستة وعشرين, فليعلم طالب هذا العلم أنّ أكثر الرّواة ثقات)) انتهى. والقصد بهذا كلّه الذّبّ عن السّنن ورواتها, وبيان أنّ من تشدد منهم, فقد احتاط لنفسه والمسلمين, ومن ترخّص منهم, فقد عمل بمقتضى أدلة كثيرة, ووافق في عمله غير واحد من جلّة العلماء الأعلام, وخيار أهل الإسلام. الوجه الثامن: أنّ هذا الإشكال الذي أورده هذا المعترض لا يختصّ بأهل السّنة ورواة الحديث, بل هو تشكيك في القواعد الإسلامية, وتشكيك على أهل الملّة المحمديّة, وذلك لأنّهم أجمعوا على حسن الرّجوع إلى الكتاب والسّنة في جميع الأحوال [على الإطلاق] (¬3) وأجمعوا على وجوب ذلك على بعض المكلّفين في ¬
جميع الأحوال, وعلى جميع المكلّفين في بعض الأحوال. والمعترض بالغ في التّشكيك على من أراد الرّجوع إلى الكتاب والسّنة, بحيث لو تصدّى بعض الفلاسفة للتشكيك على المسلمين في الرّجوع إلى كتاب ربّهم الذي أنزل عليهم, والاعتماد على سنّة رسولهم الذي أرسل إليهم ما زاد على ما ذكره المعترض, فإنّه تشكيك في صحة الأخبار النّبويّة, وتشكيك في جميع طرقها, فمنع القول بصحّة حديث المحدّثين, وأوجب معرفة الأسانيد وبراءة رواتها عن فسق التأويل, فمنع بذلك صحة قبول حديث المعتزلة والزّيدية, فإنّ عامّة حديثهم مرسل, ونصوا على قبول المتأولين / ومن لم يقبل المتأوّلين منهم قبل مرسل من يقبلهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فإن كان لهم حديث مسند في بعض الكتب البسيطة فإن الإسناد يضرّ ولا ينفع, لأنّه: مع الإسناد لا يجوز قبول الحديث عند من يقبل المرسل, فتعيّن البحث عن السّند, وليس لهم في علم الرّجال مصنّفات يمكن الرّجوع إليها بحيث لا يكون فيها اعتماد على أهل الحديث, ولا من المعتزلة والزّيدية الذين يقبلون أهل الحديث, فثبت أنّه لابدّ من الرّجوع في علم الرّجال إلى المحدثين. لكنّ المعترض قد منع ذلك فلزمه طرح الحديث كلّه: حديث أهل الأثر, وحديث المعتزلة والزّيدية, لأنّه يمنع من قبول كلّ حديث احتمل أنّ في رواته (¬1) فاسق تأويل مجرّد احتمال, وقال: لابدّ من تبرئة صحيحة, وسيأتي تحقيق هذا. ¬
تشكيكات المعترض في الرجوع إلى الكتاب والسنة وغيرها
فثبت أنّ المعترض سدّ الطّريق إلى معرفة السّنة النّبوية على الإطلاق, ثمّ إنّه شكّك في معرفة علم (¬1) الحديث على تقدير صحّته, وذكر صعوبة (¬2) معرفة النّاسخ والمنسوخ, [و] (¬3) العام والخاص. ثمّ إنّه شكّك في معرفة القرآن العظيم بما فيه من النّاسخ والمنسوخ, والعام والخاصّ, ووقوف العمل بالعامّ على معرفة مافي السّنة من المخصّصات, مع أنّه قد سدّ طريق معرفة السّنة, فأشكل الأمر حينئذ, وبقي القرآن مع العرب بل مع النّحاة كما هو مع العجم في عدم المعرفة بتفسيره, وتحريم العمل بمعناه. ثمّ إنّه شكّك في معرفة اللّغة والعربيّة (¬4) اللتين هما عمود تفسير ¬
الكتاب والسّنة, فمنع صحّتهما عن اللّغويين والنّحويين, وصرّح بأنّ اتصال الرّواية الصّحيحة بهم متعذّر, هكذا أطلق القول بهذا, وجزم به, وقطعه عن الشّكّ. ثمّ إنّه شكّك في قبول النّحويين واللّغويين على على تسليم صحّة الرّواية عنهم فقال: ((إن قبولها منهم على سبيل التّقليد لهم)) , ومنع من التّفسير بهذا الوجه, وهذا ما لم يقل به أحد ممّن يعتدّ به. وليت شعري كيف الاجتهاد في علم العربية (¬1)؟ وهل ثمّة طريق إليها إلاّ قبول الثّقات, مثل ما أنّه لا معنى للاجتهاد والخروج من التّقليد في قبول الحديث [إلاّ بقبول الثقات] (¬2) , ومتى كان قبول الثّقات في اللّغة والحديث تقليداً محرّماً على المجتهد, فكيف السّبيل إلى الاجتهاد! إلاّ أن يبعث الله الموتى من العرب فيشافهوا العالم باللغّة, وكذلك يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - حتّى يأخذ العلماء الحديث عنه ويسلموا من تقليد الثّقات, وقد انعقد إجماع المسلمين على وجوب قبول الثّقات (¬3) فيما لا يدخله النّظر, وليس في ذلك تقليداً بل عمل بمقتضى الأدلّة القاطعة الموجبة لقبول أخبار الآحاد, وهي محرّرة في موضعها من الفنّ الأصوليّ (¬4). ولم يخالف في هذا إلا شرذمة يسيرة, وهم: متكلّموا بغداد من ¬
الوجه التاسع
المعتزلة, والإجماع منعقد قبلهم وبعدهم على بطلان قولهم؛ فقد تبيّن بهذا أنّ المعترض شكّك في رجوع المسلمين إلى القرآن العظيم والسّنة النبوية, والله تعالى جعل الكتاب والسنّة النبويّة عصمة لهذه الأمّة, ولم يجعلهما عصمة للقرن الأوّل ولا للثّاني, فالمشكّك في هذا يجب عليه أن ينظر في الجواب حتّى على مذهب المعتزلة والزّيدية, فليس هذا يخصّ أهل الحديث, [لكن في إيراد المعترض لهذا الإشكال عليهم أعظم شهادة لهم بأنّهم أهل القرآن والحديث] (¬1) , الذين يذبّون عنهما ويحامون عليهما, والحمد لله والمنّة. الوجه التاسع: قال الله تعالى في وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى, /إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] وقال فيما أوحاه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] , وهذا يقتضي أنّ شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تزال محفوظة, وسنته لا تبرح محروسة, فكيف ينكر هذا المعترض على أهل السّنة, ويشوّش قلوب الرّاغبين في حفظها, ويوعّر الطّريق على السّالكين إلى معرفة معناها ولفظها؟ فإن قال: فإنّه قد ورد على رفع العلم في آخر الزّمان, وذلك في حديث ابن عمرو بن العاص: ((إن الله لا يرفع العلم انتزاعاً ينتزعه, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتّى إذا لم يبق عالماً اتّخذ النّاس رؤوساً جهّالاً فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا)) (¬2). ¬
والجواب من وجهين: الأول: أنّ هذا غير مذهب الزّيدية والمعتزلة, فإنّهم لا يجيزون خلوّ الزّمان عن مجتهد. الثّاني: أنّ الحديث محمول على وقت مخصوص لم يأت بعد, وهو بعد نزول عيسى - عليه السلام - وموته وموت المهديّ المبشّر به, وذلك مبيّن في أحاديث صحيحة, وقد ورد في ((الصّحيح)) (¬1): ((لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق حتّى يقاتل آخرهم الدّجال)) , وهذا يفسّر ذاك, لأنّه خاصّ وذلك عامّ, ولا يمكن أن يكون ذلك الضّلال العامّ مع وجود هذه الطائفة الموصوفة بالظّهور على الحقّ, ¬
الوجه العاشر
فدلّ على أنّه بعد انقراض هذه الطائفة. ولا يعترض على هذا بأدلّة عصمة الأمة عن الضلالة لأنّه يحتمل أنّ هذا يكون بعد موت الأمّة, بل قد ورد معنى ذلك منصوصاً في الحديث الصحيح الذي فيه: ((إنّ الله يبعث ريحاً ألين من الحرير, لا تترك أحداً ممن في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان إلا توفّته)) (¬1) أو كما ورد, وذلك بعد ظهور المهدي ونزل عيسى, وأدلّة المعتزلة على ما يخالف هذا عامّة, وهذه الأدلّة أخصّ فوجب المصير إليها. الوجه العاشر: لو فرضنا - والعياذ بالله- خلوّ الزّمان عن الحفّاظ الثّقات, والرّواة الأثبات لما تعذّر الرّجوع إلى السّنة العزيزة, وذلك لأنّ الكتب الصحيحة المتقنة موجودة في المدارس الإسلامية, والعمل بما في الكتب -التي عليها خطوط الثّقات الحفّاظ شاهدة بالصّحة- جائز عند كثير من أهل العلم, وهو الذي يقوى في النّظر ويظهر عليه الدّليل, بل هو الذي أجمع على جوازه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي, والعجب من المعترض كيف غفل عن ذلك! وهو قول أئمة الزّيدية والمعتزلة كما سيأتي, والعمل بهذا هو المعروف في علم الحديث بـ ((الوجادة)) (¬2) , وهو أحد أنواع علوم الحديث, وقد ذكرها ¬
ابن الصّلاح في ((علوم الحديث)) (¬1) وطوّل الكلام فيها, وحكى القول بوجوب العمل بها عن الإمام الشّافعي, وطائفة من نظّار أصحابه في [أصول] (¬2) الفقه. قال ابن الصّلاح -رحمه الله-: ((وما قطع به هو الذي لا يتّجه غيره / في الأعصار المتأخرة, فإنه لو توقّف العمل فيها على الرّواية لانسدّ باب العمل [بالمنقول] (¬3) لتعذّر شرط الرّواية فيها على ما تقدّم في النّوع الأوّل)) (¬4). قلت: الذي تقدّم في النّوع الأوّل أنّه لا يجوز للمتأخرين تصحيح الحديث إذا لم ينصّ أحد من المتقدمين على صحّته لعدم خلوّ الإسناد في هذه الأعصار ممن يعتمد على كتابه من غير تمييز لما فيه, هذا كلام ابن الصّلاح (¬5) , وقد خالفه النّووي (¬6) , وزين الدين بن العراقي, ذكر ذلك زين الدين في ((تبصرته)) (¬7) وقال: ((هو الذي عليه عمل أهل الحديث, فقد صحّح غير واحد من المعاصرين لابن الصّلاح وبعده أحاديث لم نجد لمن تقدّمهم فيها تصحيحاً كأبي ¬
الحسن بن القطان (¬1) , والضّياء المقدسيّ (¬2) , والزّكي عبد العظيم (¬3) , ومن بعدهم. قلت: فالأولى ألا يحتج على جواز العمل بـ ((الوجادة)) بما ذكره ابن الصلاح, ألا ترى أنّ الشّافعي جوّز العمل بها مع أنّ زمانه كان زمان إمكان العمل بغيرها, بل سوف يأتي أنّ الصّحابة -رضي الله عنهم- عملوا بها, والدّليل على ذلك حديث: عمرو بن حزم, وقد ذكر طرقه الحافظ ابن كثير في ((إرشاده)) (¬4) , وقال بعد ذكر الاختلاف في بعض طرقه: ((وعلى كلّ تقدير؛ فهذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديماً وحديثاً, يعتمدون عليه, ويفزعون في مهمّات هذا الشأن إليه, كما قال يعقوب بن سفيان (¬5): ((لا أعلم في جمع الكتب كتاباً أصحّ من كتاب عمرو بن حزم؛ كان الصّحابة (¬6) والتّابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم)). وصحّ عن ابن المسيّب: أنّ عمر ترك رأيه ورجع إليه. قال ابن كثير: ((رواه الشّافعي و [النّسائي] (¬7) بإسناد صحيح إلى ابن المسيب)). ¬
ونحن نبيّن للمعترض أنه غفل عن مذاهب أسلافه في هذا فنقول: ممّن أجاز هذا ونصّ عليه من الزّيدية والمعتزلة الإمام المنصور في كتاب: ((صفوة الاختيار)) في أصول الفقة, [و] (¬1) ادّعى إجماع الصّحابة على ذلك لرجوعهم إلى كتاب عمرو بن حزم, وصرّح أنّهم عوّلوا على مجرّد الخطّ لما غلب على ظنّهم صحّته. قلت: ظاهر كلام المحافظين: يعقوب بن سفيان, وابن كثير: دعوى إجماع الصّدر الأوّل على قبول حديث عمرو بن حزم, وذلك يقتضي دعوى الإجماع على جواز العمل بـ ((الوجادة)) كما ذكره المنصور. ومنهم: الإمام يحيى بن حمزة, فإنّه ذكر في ((المعيار)) (¬2) جواز العمل بذلك مع ظنّ الصّحة, قال: ((وهو قول أبي يوسف ومحمد, واختاره ابن الخطيب الرّازي)) (¬3). ولكنّ الإمام يحيى قال: ((يجوز العمل بذلك دون الرّواية, لأنّ العمل إنّما مستنده الظّنّ)). وقال الإمام محمد بن المطهّر في كتاب ((عقود ¬
العقيان)) (¬1): ((إن ذلك جائز عنده وعند والده, وأنه مستند للعمل والرّواية, وحكاه عن الإمام أحمد بن سليمان, والمنصور بالله)). قال: ذكره المنصور بالله في ((الصفوة)) وغيرها. وقال المحسّن بن كرّامة المعتزلي (¬2) المعروف بالحاكم في ((شرح العيون)) (¬3): ((إنه قول الشّافعي وأبي يوسف, ومحمد, وأكثر العلماء: فيما (¬4) وجد بخطه في كتابه وعلم أنّه سمعه على الجملة ولا يعلم أنه سمعه مفصّلاً؛ [فإنّه يجوز أن يرويه] (¬5))). لكنّه قال في ((الاحتجاج)): ((إنّ الصحابة كانوا يروون من الكتب من غير نكير, وكان بعضهم يعمل على كتاب بعض, وكان عمر يكتب إلى عمّاله وقضاته فيعملون بذلك, وكذلك كتب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وروى الشيخ أبو الحسين في كتاب ((المعتمد)) (¬6) عن الصّحابة مثل ذلك, ذكره محتجاّ به / على جواز مثله. ¬
وقال عبد الله بن زيد في ((الدّرر المنظومة)): ((لا خلاف أنّه متى عرف خطّه أو خطّ أستاذه, وعلم أنّه لا يكتب إلاّ ما سمعه قبلت روايته, وإنّما اختلفوا إذا ظنّ أنّه خطّه أو خطّ أستاذه فمذهبناً أنّه تقبل روايته, وهو مذهب طائفة من العلماء)) , واحتجّ بعمل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك, وكذلك الصحابة. وبهذا الوجه العاشر نجيب على من يجيز خلوّ الزّمان من المجتهدين مع بقاء الأمّة على الهدى, محتجّاً بأنّ طلب الاجتهاد -وإن كان فرض كفاية- فقد سقط عنهم بموت العلماء, فلا يكونون (¬1) مجتمعين على ضلالة, وكيف يصح هذا العذر وقد استنبط الأوائل العربيّة و [الأصلين] (¬2) من غير شيوخ, فالحال في هذه الفنون واحدة. بل هي اليوم أيسر قطعاً, كيف لا وقد قطع النّقاد أعمارهم في فنون كثيرة في تسهيل صعبها (¬3) , وإيضاح غامضها وجمع متفرّقها؟! وقد أمكن استنباطها قبل ذلك, فكيف بعده؟! وأمّا علوم السّماع فهي أسهل العلوم على مريدها, وإنّما تسهّلت وتمهّدت في هذه الأعصار الأخيرة (¬4). ¬
وإذا كانت الصّحابة عملت بـ ((الوجادة)) -مع قرب عهدهم- واحتاجت إلى ذلك فيكف بنا؟. وأمّا قول قطب الدّين الشّيرازي في ((شرح مختصر المنتهى)) (¬1): ((إنه يمكن أن يجاب بمنع كون التّفقّه في الدّين فرضاً مع إمكان معرفة العوامّ أحكام الشّرع بالنّقل المظنون عن العلماء السّابقين, فهو ضعيف جداً؛ لإمكان وقوع حادثة غير منصوصة لمن تقدّم, ووجود من لا يستجيز ويرى الفتوى (¬2) بأقوال المجتهدين ولإمكان وجود مكلّفين لا يستجيزون تقليد الميّت, ولأنّ حديث ابن عمرو (¬3) الصّحيح يقتضي أنّ أهل الزّمان الخالي عن العلماء ضالون, المفتي منهم والمستفتي, ولا شكّ أنّ المفتي المقلّد لا يسمّى عالماً, فدلّ هذا على أنّ التّقليد لو كان يقوم مقام العلم ما استحقّ المفتي أن ¬
الوجه الحادي عشر
يسمّى مُضِلاً والمستفتي مُضَلاً, وقد سمّاها بذلك في الحديث الصّحيح (¬1). والله سبحانه أعلم. الوجه الحادي عشر: لو صحّ ما ذكره المعترض -والعياذ بالله- من انطماس معالم العلم, وتعفّي رسوم الهدى, إلا تقليد العلماء -رضي الله تعالى عنهم- يلزم من ذلك أن يبطل الطريق إلى جواز التّقليد, لأنّ تقليدهم لا يجوز إلا بعد معرفة الدّليل, والدّليل لا بد أن يكون مستنداً إلى معرفة الكتاب والسّنة, وهذا ظاهر على أصول المعتزلة والزّيدية, فإنّهم قد شحنوا مصنّفاتهم بتحريم الإقدام على ما لا يؤمن قبحه. وأمّا أهل السّنّة قد نقل ابن الحاجب في ((مختصر المنتهى)) (¬2) ¬
و [شرّاحه] (¬1) ما يقتضي ذلك, ولم يذكروا فيه خلافاً, ذكره ابن الحاجب في بيان حدّ التّقليد والمقلّد؛ وإنّما قلنا: إنّ ذلك يستلزم بطلان التّقليد لأنّ أدلّته من النّصّ والإجماع مترتبة على ذلك. وبيانه أنّ الاستدلال بقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ} [الأنبياء:7]. يحتاج إلى معرفة أنّها غير منسوخة ولا مخصّصة ولا معارضة, ويحتاج إلى معرفة معنى الآية, فهذان أمران: أحدهما: معرفة أنّ الآية غير منسوخة ولا معارضة ولا مخصّصة, / وهذا ينبني على أنّ هنا سنّة صحيحة, يخصّص بها, وينسخ بمتواترها أو بها على قول, وعلى أنّ إلى معرفة تلك السّنّة [طريقاً] (¬2) يمكن معها معرفة ذلك. وثانيهما: معرفة معنى الآية, ولابدّ فيه من النّظر في قواعد العربيّة واللّغة, إذ ليس معلوماً بالضّرورة, فاحتاج النّاظر في معنى الآية إلى أن يكون من أهل الاجتهاد. فإن قلت: إن دلالتها على جواز التّقليد جليّة لا تحتاج إلى اجتهاد. قلت: ليس كذلك, فإن في معناها غموضاً واختلافاً, والذي يدلّ على ذلك أنّ السّؤال من الأفعال التي تُعدّى إلى مفعولين, تارة بواسطة حرف الجرّ مثل: سألت العالم عن الدّليل, وتارة بغير واسطة مثل: سألت الأمير مالاً, وسألت العالم دليلاً. إذا عرفت هذا فاعلم ¬
أنّه لابد من مسئول ومسئول عنه, فالمسئول مذكور في الآية, وهم أهل الذّكر, والمسئول عنه محذوف, والقول بأنّ المسئول عنه هو: أقوال المجتهدين, من هذه الأمة مجرّدة عن الأدلة هو [مما] (¬1) لا يدلّ عليه دليل, وهذا المسئول عنه المحذوف يحتمل أنّه الأدلّة, ويحتمل أنّه (¬2) المذاهب من غير أدلّة, وقد قال بعض العلماء: هو السّؤال عمّا أنزل الله تعالى, لقوله تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَبِّكُم} [الأعراف:3] فلمّا أمر (¬3) بسؤال أهل الذكر, كان المفهوم أنّه أمرنا بسؤالهم عمّا أمرنا باتّباعه مما أنزله علينا من الشّرائع. وهذه [الأقوال] (¬4) كلّها مخالفة للمفهوم على قواعد العربيّة, والمختار: أنّ المراد: السّؤال عن الرّسل هل كانوا بشراً؟ لأنّ ذلك هو المذكور في أوّل الآية, والعرف العربيّ يقضي بأنّ ذلك هو المراد, والقرائن تسوق الفهم إليه. فإنّه تعالى لما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [الأنبياء:7]. كان السّابق إلى الأفهام؛ فاسألوهم عن كوننا ما أرسلنا إلا رجالاً, كما لو قال القائل: واجهت اليوم الخليفة, وسل وزراءه, كان المفهوم واسألهم عن كوني واجهته. وهذا الذي ذكرت أنّه المحذوف هو الذي اختاره الزّمخشري في ((كشّافه)) (¬5) , ¬
الوجه الثاني عشر
ولكن لم يذكر الوجه في ذلك لجلائه عنده. والعجب أنّ الأصوليين استدلوا بهذه الآية على جواز التقليد من غير بيان لوجه الدّلالة, ولا ذكر لهذا [الإشكال] (¬1) مع جلائه!!. فإنّ قيل: إنّها وإن نزلت على هذا السّبب لم تقصر عليه عند الجمهور, فلذا لم يتعرّض الأصوليين لذلك. قلنا: ليس هذا من ذاك, فإن ذلك إنّما يقال فيما لفظه عامّ وسببه خاصّ, وهذه الآية لفظها غير ظاهر لما فيه من الحذف, ومعناها خاصّ غير عام, فظهر الفرق. وأمّا الاستدلال بالإجماع على جواز التّقليد؛ فلا يصح أيضاً مع فرض عدم المعرفة بالكتاب والسّنّة, لأنّ الأدلّة على كون الإجماع حجة إنّما هي ظواهر تحتاج في معرفة معناها إلى ثبوت اللّغة والعربيّة, وبعد ذلك لابدّ من معرفة عدم النّاسخ والمعارض والمخصّص, والمعترض على أهل الحديث قد منع من معرفة اللّغة, وجزم بتعذّر معرفتها, ومعاني الكتاب والسّنة المستنبط منها جواز التّقليد, وكون الإجماع حجة مما يفتقر إلى ثبوت اللّغة والعربيّة, فإذا بطل معرفة تفسير القرآن, وبطلت طريق معرفة الأخبار, / بطل أيضاً ما هو فرع ذلك وهو جواز التّقليد, فيلزم الخصم أن يبطل التكليف تقليداً واجتهاداً على مقتضى [إشكاله] (¬2). الوجه الثّاني عشر: أنّه لو صحّ ما توهّمه من ¬
بطلان (¬1) معرفة الكتاب والسّنة, وتعذّر الطّريق إلى ذلك؛ لزم أنّ الله تعالى قد قبض العلم بقبض العلماء, وأنّه لم يبق عالماً, وأنّ النّاس قد اتّخذوا رءوساً جهّالاً, فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا, كما ورد ذلك في حديث ابن عمرو الثّابت في ((الصحيحين)) (¬2) وغيرهما, وإنّما يلزم ذلك من كلام هذا المعترض على طلبة علم الحديث؛ لأنّ من ليس بعالم بالكتاب والسنّة لا يستحق أن يسمّى في الشّرع عالماً, وإن عرف جميع العلوم ماعدا الكتاب والسّنة, وهذا ظاهر لا نعلم فيه نزاعاً فنطوّل بذكر الحجّة عليه, وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق حتّى يقاتل آخرهم الدّجال (¬3) , وأجمع أهل العلم على ذلك وإن اختلفوا في معناه, فثبت أنّ ما جاء في حديث ابن عمرو لم يأت وقته إلى الآن, وإلا لزم مع وجود هذه الطائفة الظّاهرين على الحقّ: أنّ الله تعالى لم يبق عالماً, وأنّ أهل الفتوى قد ضلّوا في أنفسهم, وأضلّوا العامّة السّائلين لهم, وذلك يستلزم ضلال المسلمين كلّهم, وألا تبقى فيهم طائفة ظاهرة على الحقّ. وفي هذا القدر كفاية في الجواب على تنفيره عن طلب الحديث والتّفسير, وتوعيره لطريق ذلك, والتّشكيك في دخوله في حيّز الإمكان, والتّشويش على من أراده من أهل الإيمان. ¬
تنبيهات
ويلحق بهذا تنبيهات (¬1) حسنة تعلّق بالجواب على سؤاله, لكنه يليق إفرادها عن الأجوبة, لأنّ بعضها من قبيل تعليم الأدب وبعضها مما يحتمل المنازعة في كونه جواباً مقنعاً, وجدلاً قامعاً, أو خطاباً خطابيّاً, أو تنبيهاً أدبياً. التنبيه الأوّل: المراجعة في أنّ طلب الحديث متيسّر أو متعسّر من الأساليب المبتدعة والأمور المتعسّفة؛ لأنّ مقادير التّسهّل والتّعسّر غير منضبطة بحدّ, ولا واقفة على مقدار, ولا جارية على قياس, ولا يصحّ في [معرفة] (¬2) مقاديرها برهان العقل, ولا نصّ الشّرع ولا تعرف مقاديرها بكيل ولا وزن ولا مساحة ولا خرص, فإنّ من قال: إن طلب الحديث أو أنّ حفظ القرآن أو الفقه متيسّر عليه أو متعسّر, لم يُعقد له مجلس المناظرة كما يُعقد للمخالفين في العقائد, لأنّ الذي ادّعاه أمر ممكن وهو يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. وطلب العلم متسهّل على ذكي القلب, صادق الرّغبة, خليّ البال من الأشغال, واجد الكتب المفيدة, والشّيوخ المبرّزين, والكفاية فيما يحتاج إليه, ونحو ذلك, وطلب العلم متعسّر على من فقد هذه الأمور كلّها, وبينهما في التسهّل والتّعسّر درجات غير ¬
منحصرة ومراتب غير منضبطة, وبين النّاس من التّفاوت ما لا يمكن ضبطه ولا يتهيّأ, وأين الثّريّا من الثّرى؟ وجامد الطّبع بليد الذّهن, إذا سمع [من] (¬1) يدّعي سهولة ارتجال القصائد والخطب, وتحبير الرّسائل والكتب؛ توهّم أنّه بمنزلة من يدّعي إحياء الموتى, وإبراء الأكمة والأبرص, وكذلك الجبان الفشل إذا سمع [من] يدّعي سهولة مقارعة الأقران ومنازلة الشّجعان. وكم عاصر أئمة العلم والنّحاة والنّظّار وحفّاظ الحديث من طالب للعلم مجتهد في تحصيله؛ فلم يبلغ مبلغهم ولا قارب شأوهم, وإنّما تميّز عن الأقران أفراد من الخلق, وخواصّ منحهم الله الفهم والفطنة وآتاهم الفقه والحكمة, وقد وقع التّفاضل بين الصّحابة -رضي الله عنهم-: فكان علي - رضي الله عنه - أقضاهم, ومعاذ أفقههم, وأبيّ أقرأهم, وأبو هريرة أحفظهم, والخلفاء أفضلهم, وزيد أفرضهم (¬2) , بل قد فاضل الله تعالى بين الأنبياء -عليهم السلام- قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُم عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] , فهذا تفضيل في الفهم بين داود وسليمان - عليهما السلام- مع الاشتراك في النّبوّة, والتّقارب ما بين الأبوّة والبنوّة, وكذلك قد فاضل الله بينهم فيما هو دون هذه المرتبة, وذلك في البيان والفصاحة ¬
وضوح العبارة, مثل ما نصّ الله عليه من إيتاء داود فصل الخطاب (¬1) , ومثل قوله تعالى في الحكاية لقول موسى في أخيه -عليهما السلام-: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص:34]. وعموم (¬2) التّفاوت الذي يدور عليه, وميزانه الذي يعتبر به في أغلب الأحوال هو: التّفاوت في صحّة الفهم, وصفاء الذّهن, واعتدال المزاج, وسلامة الذّوق, ورجحان العقل, واستعمال الإنصاف, فهذه الأشياء هي مبادىء المعارف, ومباني الفضائل, ولأجلها يكون الرّجل غنيّاً من غير مال, وعزيزاً من غير عشيرة, ومهيباً من غير سلطان, إلى غير ذلك من الصّفات الحميدة والنُّعون الجميلة, ومن ههنا حصل التّفاوت الزائد, حتّى عدّ ألف بواحد, ومما أنشدو في ذلك: ولم أر أمثال الرِّجال تفاوتاً ... لدى المجدِ حتّى عدّ ألف بواحد وقال ابن دريد (¬3) في المعنى: والنّاس ألفٌ مِنهم كواحدِ ... وواحد كالألفِ إن أَمرٌ عنى وأنشدوا في المعنى: يا بني البُعد في الطّباع ... [لا] (¬4) مع القُربِ في الصّور ¬
وفي الأخبار: ((النّاس كإبل مائة, لا تجد فيها راحلة)) (¬1). وفي الأمثال العربيّة: ((المرء بأصغريه)) (¬2). بل في الحديث الصّحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) (¬3). وليس كلّ من حفظ الحديث كان كالبخاري, ولا كلّ من تفقّه في الدّين كان مثل الشّافعي, ولا كلّ من قرأ النّحو والمعاني صنّف مثل ((الكشّاف)) , ولا كلّ من درس الأصول والجدل ركب بحر الدّقائق الرّجّاف/. وما كلّ دارٍ أقفرت دار عَزَّةٍ (¬4) ... ولا كلّ بيضاء التّرائب زينب ¬
التنبيه الثاني
فإذا نظرت إلى (¬1) المواهب الرّبانية لا تنتهي إلى حدّ, والعطايا اللّدنيّة لا تقف على مقدار, لم يحسن من العاقل أن يقطع على الخلق بتعسير ما الله قادر على تيسيره, فَيُقنّط بكلامه طامعاً, ويتحجّر من فضل الله واسعاً, بل يخلّي بين النّاس وبين هممهم وطمعهم في فضل الله عليهم, حتّى يصل كلّ أحد إلى ما قسمه الله تعالى له من الحظّ في الفهم والعلم وسائر أعمال الخير, وهذا مما لا يفتقر إلى حجاج, لولا أهل المراء واللّجاج (¬2). التّنبيه الثاني: التّعرض لذكر المشاقّ التي في طلب العلم والحجّ والجهاد وسائر أعمال البرّ على سبيل التّوعير لمسالكها, والإحالة لبلوغ مراتبها عكس ما جاءت به الشّرائع, ودعت إليه الأنبياء -عليهم السلام- وكان عليه الأئمة والعلماء والوعّاظ, وإنّما السّنّة تيسير الأمور على من عسرت عليه, وتذكير القلوب الغافلة, وتنشيط النّفوس ¬
التنبيه الثالث
الفاترة (¬1) , ولهذا شرعت الخطب, وصنّف الوعّاظ أحاديث الرّقائق, لتسهيل ما يصعب على النّفوس وتقريب ما تباعد على أهل القصور. وقد تكاثرت الأحاديث النّبويّة في الحثّ على ذلك, وكان ... - عليه السلام - إذا بعث سريّة يقول لهم: ((يسّروا ولا تعسّروا, وبشّروا ولا تنفّروا)) (¬2). فالمعترض على أهل الحديث, المعسّر لمعرفته, الموعّر لطريقه, مرتق لمرتبة الفتيا, منتصب في منصب التّعليم متمكّن في مكان الدعاء إلى الله بالحكمة, والموعظة الحسنة, فما [باله] (¬3) يعكس السّنن, ويستن من البدعة في كل سنن!؟ نسأل الله أن ينفعنا بما علّمنا, ويعلّمنا ما ينفعنا, ويوفقنا للاقتداء بسيدنا رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -. التنبيه الثالث: فرع من فروع الشّجرة النّبويّة على صاحبها السّلام, ونشء من أهل بيته الكرام, تشوّف إلى مرتبة العلم, وتشوّق إلى التشبّه بأهل الفضل, ورغب في اتّباع سنّة جدّه - صلى الله عليه وسلم - , فلما شِمتُم (¬4) بارقة جهده صيّبة, و [شَمِمتُم] (¬5) رائحة سعيه طيّبة, وتوسّمتم فيه للفائدة سمات, وتوهّمتم أنّه قارب وهيهات, تواترت عليه الرّسائل, وتواردت عليه الدّلائل, تفتّره عن عمله, وتقنّطه من أمله. ¬
مبحثان في فيما يتعلق بإبطال الطريق إلى معرفة الحديث
من قد سبقكم إلى هذا من الخلفاء الرّاشدين والعلماء الهادين!؟. وإنما بلغنا أنّ أهل العلم يحبّون من علت همّته وظهرت فطنته, ويرغّبونه بأنواع التّرغيب, ويجعلون التّصويب له مكان التّثريب, فعكستم السنّة بالتّنفير عن الحديث, وخالفتم العادات القديم منها والحديث. وإلى ههنا انتهى الجواب عن الجملة المتقدمة من كلامه, وهي الوجه الأوّل في إبطال الطريق إلى معرفة الحديث بتعذّر الإسناد الصّحيح منّا إلى المصنّفين من المحدّثين, ويتعلّق بتفاصيلها بحثان: المبحث الأول: قال وفّقه الله: ((وذكر هذا كثير من العلماء -يعني تعسر معرفة الحديث- ومنهم الغزالي والرّازي)). والجواب عليه: أنّه قصد الاستئناس بكلام العلماء بإظهار الموافقة لهم, فهيهات! فإنّه لا يوافقه على صرف الهمم عن طلب / الحديث عالم, ومقصد من أشار إليه من العلماء الذين منهم الغزالي والرّازي غير مقصد المعترض, فإنّهم قصدوا سقوط البحث عن رجال الأسانيد في الأعصار الأخيرة كما أشار إليه ابن الصّلاح, وخالفه النّووي, وغير واحد ممّن تقدّم ذكره (¬1) , وهم مع ذلك مقرّون ببقاء طريق المعرفة للحديث, والتعبّد به علماً وعملاً. والمعترض قصد تحريم العمل بالأخبار, والمنع من التمسّك ¬
المبحث الثاني
بالسّنن والآثار, وكلامهم عليه لا له, مع أنّ المعترض قد ناقض روايته هذه عن الغزالي بقوله بعد هذا: إنّ الغزالي قال: يُكتفى بتعديل أئمة الحديث, فإنّه أورد كلام الغزالي الآتي إشكالاً على كلامه الأول الذي نسبه إلى الغزالي. المبحث الثاني: ما قصدك بحكاية ما ذهبت إليه عن جماعة كثيرة من العلماء؟ إن أردت أنّه حجّة؛ فليس يخفى عليك فساد ذلك, وإن لم ترد أنّه حجّة؛ فقد أوردت الدّعوى من غير دليل, وادّعيت الحقّ من غير برهان, وهذا ما لا يعجز عنه مبطل!!. قال: الثاني (¬1): أن أولئك المعدّلين معلومون بمثل هذا, ومجهولة براءتهم منه -يعني الجبر والتّشبيه والإرجاء-. أقول: إمّا أن يسند القول بهذه البدع إلى جميع معدّلي حملة العلم النّبويّ أو إلى بعضهم؛ الأول: ممنوع, وبطلانه معلوم بالضّرورة, ومدّعيه لا يستحق المناظرة. والثاني: مسلّم, ولا يضر تسليمه لوجهين: أحدهما: أن نقول لهذا المعترض: هل بقي عندك حديث صحيح يمكن معرفته؟ فدلّنا عليه واهدنا إليه, فإنّما غرضنا اتّباع السّنّة المرويّة عن الثّقات بطريق صحيحة, وليس غرضنا مقصوراً على ما في بعض الكتب, ولا على ما روى بعض الثّقات. وإن كان المعترض ¬
يدّعي تعذّر معرفة السنّة وانطماس معالم العلم كما مرّ في كلامه, فقد بيّنّا الجواب عن ذلك فيما مضى, وبيّنّا أنّ هذا إشكال على أهل الإسلام لا على حفّاظ حديث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وثانيهما: أنّ الثّقات من أهل هذه البدع مقبولون في مذهب المورد للاعتراض, ومذهب المعترض عليه. أما المورد للاعتراض؛ فسوف نبيّن عند الكلام على هذه المسألة نصوص أئمة مذهبه على القطع بأنّ قبولهم مجمع عليه من السّلف, وأنّ أحداً منهم ما اعترض على من استجاز ذلك من الخلف. وأمّا المعترض في نفسه فلا مذهب له ولا اختيار, لأنّ المسألة خلافية ظنّيّة اجتهادية كما سيأتي, وقد نصّ على تعذّر الاجتهاد في العلم, فثبت أنّه لا مذهب إلا ما ذهب إليه أسلافه على مقتضى رسالته هذه. وأمّا أنّ قبولهم مذهب المعترض عليه؛ فلأنه روى ذلك عن نفسه, وكلّ راوٍ عن نفسه فهو مصدّق لها وعليها, ومع هذا كيف يصحّ هذا الإشكال, وعلى من يرد!؟ وسوف يأتي في مسألة المتأوّلين, والكلام على قبولهم وردّهم, وذكر أدلّة الفريقين, ونقض كلام المعترض, ما يكفي ويشفي, فقد استوعبت الكلام في هذه المسألة, وبلغت في تحقيقه (¬1) ما لم / أسبق إليه, لله الحمد والمنّة على ذلك. وأقصى ما في الباب أن يتعذّر الإسناد على شرط أهل ¬
[الصّحيح] (¬1) , فأين عقل المعترض عن مذاهب أسلافه, ومذهب المالكية في قبول المرسل؟ وما الذي يمنع طالب الحديث من القول بجوازه؟ وقد تقدّمت الإشارة إلى الحجّة عليه وصحّة الإسناد إليه ولكن لا ضرورة تلجىء إلى ذلك ولله الحمد. قال: الثّالث: أنّ اتصال (¬2) الرّواية بكتب الجرح والتّعديل متعسّرة, أو متعذّرة على وجه العدالة الصّحيحة. أقول: المعترض -وفّقه الله- متحيّر متردّد, أهذه الأمور متعسّرة أو متعذّرة؟ فهو لا يزال يكرّر الشّكّ في ذلك, والشّاكّ في تعذّر أمر أو إمكانه, لا يصلح منه أن يعترض على من ادّعى إمكان ذلك الأمر حتّى يزول ما عنده من الشّكّ في إمكانه, ويحصل له عنده علمٌ يقين أنّه غير ممكن, فإن قطع المعترض بتعذّر ذلك سقط التّكليف به, لأنّ التّكليف لا يتعلّق بما لا يطاق. والعجب منه أنّه خصّ كتب (الجرح والتعديل) بالتعذّر أو التعسّر!! وهذا من قبيل القياس على مجرّد الوجود, فإنّه لما عسر ذلك عليه, وخرج من يديه, لبعده عن علماء هذا العلم الشّريف, ظنّ أنّ ذلك لأمر يرجع إلى ذات الفنّ, فليحط علماً أصلحه الله: أنّ تعسّر سماع كتب الجرح والتّعديل عليه عرضيّ لا ذاتيّ, فإنّ طلبة الحديث النّبوي يحافظون على سماع كتبه, وشيوخها موجودون اليوم في جميع الأمصار الكبار من المملكة الإسلامية حرسها الله, فإن كنت محبّاً في ¬
العلم؛ فاطلبه حيث كان, وارحل في تحصيله وإن بَعُد المكان, ولا تقعد متّكئاً على أريكتك تقول: لا أعرف طريقاً إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولا إلى تفسير كتاب الله عزّ وجلّ. ولقد زدت على من ذمّ (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المبتدعة الذين يقولون: لا نعرف إلا كتاب الله, فكيف من أنكر معرفة كتاب الله مع معرفة سنّة رسول الله!؟ نعوذ بالله. مع أن معرفة كتب الجرح والتّعديل غير مشترطة فيما نصّ [على صحّته] (¬2) إمام مشهور بالحفظ والأمانة حتّى يعارضه قول من هو أرجح منه أو مثله على ما هو مذكور في مواضعه, وإنّما يحتاج إليها في معرفة كثير من أحاديث المسانيد التي لم يصحّح مصنّفوها كلّ ما رووا فيها, وقد جمع الحفّاظ ما يحتاج إلى معرفته من أحاديث الأحكام والعقائد والقواعد, وتكلّموا عليها, وكفوا المؤونة, فجزاهم الله عن المسلمين أفضل ما جزى المحسنين. وكذلك من لم يقدح في حديث بالإرسال لم يرد عليه هذا الإشكال, وقد اشتمل الكلام هذا على ردّ كلامه في هذا الفصل بأربعة وجوه لم أتأملها إلا بعد سردها غير مفصّلة فتأمّله. قال: الرّابع: أنّ تعديل هؤلاء الأئمة من بينهم وبين الرّسول إنّما يقع على سبيل الإجمال غالباً, والتّعديل الإجمالي إنّما يصحّ من موافق في المذهب بعد كونه عارفاً بوجوه الجرح والتّعديل عدلاً مرضيّاً, وقيل: لا يصحّ وإن كان المعدّل كذلك بل لابدّ من التّفصيل, وقيل ¬
مسألة قبول الجرح والتعديل والأقوال فيها
يصحّ الإجمال مطلقاً وهو ضعيف. أقول: ما أدري ما حمل المعترض على تجريد حكاية المذاهب في هذه المسألة, ودعوى التّصحيح والتّضعيف / [المجرّدة] (¬1) عن الأدلة, وهو يعلم ما في ذلك من الشّين عند أهل هذا الشّأن, وإنّما يجب الإيمان بكلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - , فلو أنّا عاملناه بمثل كلامه لسهل الجواب عليه بمجرّد نسبة القول الضّعيف إليه, فمجرّد الدّعوى لا يعجز عنها أحد, ولكن لابدّ من الإشارة إلى الدّليل على قوّة ما ضعّفه على سبيل الاختصار, فأقول (¬2):الجواب على ما ذكره من وجوه: الوجه الأول: أنّ هذه مسألة خلاف بين الأصوليين وبين المحدّثين, فحكى فيها خمسة أقوال لأهل العلم: منهم: من قبل الإطلاق في الجرح والتّعديل معاً, ومنهم: من منعه فيهما معاً, ومنهم: من فصّل, واختلفوا على ثلاثة أقوال: منهم: من قبل الأجمال في التّعديل دون الجرح وهو (¬3) اختيار الشّافعي وجماعة, ومنهم من عكس هذا, وقال بعضهم: إن كان الجارح أو المعدّل من أهل العلم قبل, وإلاّ لم يقبل, وأفاد صاحب الرّسالة قولاً سادساً وهو: إن كان موافقاً في الاعتقاد وكان من أهل العلم قبل وإلا لم يقبل. فإذا ثبت هذا الاختلاف الكبير في هذه ¬
الوجه الثاني
المسألة؛ فلا معنى للإنكار على من ذهب إلى أحد هذه الأقوال, إذ ليس فيها ما يخالف الإجماع القطعيّ, بل ولا الظّنيّ, ولا ما يخالف النّصّ المتواتر المعلوم معناه, بل ولا الآحادي المظنون معناه, فالتّشعيب على طلبة علم السّنة بذكر ذلك من جملة مبتدعات المعترض في [رسالته] (¬1) , فإنّه ابتكر فيها من منكرات الأساليب, وتعسّفات أهل اللّجاج, ما لم يسبقه إليه مبتدع, ولا سيّما وقد أنكر المعترض في هذه المسألة القول المشهور, المعمول عليه عند الجمهور. الوجه الثاني: وهو المعتمد في الجواب, وذلك أنّ المختار الصّحيح الذي قامت عليه الأدلّة, ومضى عليه عمل السّلف والخلف هو: الاكتفاء في التّعديل بالإطلاق, والدّليل عليه وجوه: أولها: أنّا متى فرضنا أنّ المعدّل ثقة مأمون, وأخبرنا خبراً جازماً بعدالة رجل آخر فإنّه يجب قبول قوله, لأنّه خبر ثقة معروف بالعدالة, فوجب قبوله كسائر أخبار الثقات. وثانيها: إمّا أن يترجح صدقه أو لا, إن لم يترجح لم (¬2) يقبل, لكن هذا الفرض لا يقع إلا لعلة, وكلامنا في توثيقه إذا لم يكن معلوماً بما يدلّ على وهمه, أو معارضاً بأقوى منه, وإن ترجّح صدقه وجب قبوله, وإلا لزم المساواة بين الرّاجح والمرجوح, وهو قبيح اتفاقاً. وثالثها: إن ردّ قوله تهمةً له بالكذب والخيانة, أو بالتّقصير ¬
والإقدام على ما لم يتقن حفظه, والفرض أنّه عدل مأمون, وتهمة العدل المأمون بغير موجب محرّمة, وما استلزم المحرّم لا يكون مشروعاً. ورابعها: أنّ الله تعالى إنّما اشترط في الشّاهد أن يكون ذا عدل, وكذلك الرّاوي, مع أنّه أصل, والمعدّل له فرع, والفرع لا يكون أعظم من أصله, ولا آكد, فكما أن العدل في الشّهادة والرّواية لا يجب عليه التّفصيل فيما يحتمله؛ فكذلك العدل لا يجب عليه ذلك في التّعديل. فإن قلت: وكيف يحتمل التّفصيل في الشّهادة والرّواية؟ قلت: أمّا الشّهادة فإذا شهد بالمال لزيد سئل عن سبب اعتقاده لملك زيد للمال, فربّما استند اعتقاده لذلك إلى ما لا يدل على الملك / من: خبر ثقة, أو بيع باطل, أو غير ذلك, وهذا يجوز على الشّاهد الثّقة إذا لم يكن فقيهاً, ولا مخالطاً لأهل الفقه مخالطة كثيرة. وأمّا الرّواية فقد يجوز في راوي الحديث أنه رواه باللّفظ أو بالمعنى, وقد يجوز فيمن روى بالمعنى أن يعتقد أنه روى بالمعنى (¬1) مع الخطأ الذي يدقّ على كثير, ونحو ذلك مما يدلّ على قبول الثّقة من غير تفصيل وإن احتمل التفصيل. ومما يزيد ذلك وضوحاً: أنّ كلّ دليل دلّ على وجوب قبول أقوال العدول بمجرّد عدالتهم؛ فهو بعمومه يدلّ على قبولهم على ¬
الإطلاق, ويدخل في ذلك قبولهم في التّعديل. وخامسها: -وهو المعتمد- أنّ اشتراط التّفصيل في التّعديل يودّي إلى ذكر اجتناب المعدّل لجميع المحرّمات, وتأديته لجميع الواجبات, على حسب مذهب المعدّل في تفسير العدالة, فإن كان ممن يتشدد ذكر ذلك كلّه, وإن كان ممن يترخص ذكر اجتنابه لجميع الكبائر معدّداً لها, ولجميع معاصي الأدنياء الدّالّة على الخسّة وقلّة المبالاة بالدّين, وذكر أداءه لجميع الواجبات التي يدلّ تركها على الجرح. ومعلوم أنّ التّعديل بهذه الصّفة لم يكن قط, لا من معدّلي حملة العلم, ولا من معدّلي الشّهود في الحقوق, فإنّ تعديد هذه الأشياء مما يفوت ذهن المعدّل, ولو سئل ذلك ما استحضره, فإنّه يحتاج إلى تأمّل كثير, وجمع وتأليف, وقد عددتّ من ذلك في ((الأصل)) (¬1) شيئاً كثيراً فبلغ إلى بطلان عدالة العدول ويترتّب على ذلك من المفاسد الدّينية ما لا يقول به منصف. فإن قيل: أقلّ من ذلك التّفصيل يكفي, قلنا: إن كفى الإجمال في صورة ما, كفى قوله: ثقة, وإن لم يكف وجب ذلك التّفصيل, فأمّا أنّ الإجمال يجوز في موضع دون موضع فهذا تحكّم. فإن قيل: إنّما يشترط التّفصيل من الفاسق والكافر المتأوّلين لأنّه لا يؤمن أن يعدّلا من يعتقد اعتقادهما, وهو غير عدل عند من لم يقبل ¬
المتأوّلين, وإنّما أشار إلى هذا صاحب الرّسالة. فالجواب: أن لا معنى لهذا, لأنّ من يقبله فهو يقبله, [و] (¬1) يقبل من عدّله من المبتدعة, ومن لا يقبله فإنه لا يقبله. وإن فصّل في التّعديل؛ فالخلاف إنّما هو في قبوله لا في قبول ما أطلقه من تعديله, وأمّا من لا يقبل بعض المبتدعة ويقبل بعضهم فإنّه يشكل عليه تعديل المبتدع المقبول. مثاله: مبتدع غير داعية عدل عند بعض أهل مذهبه, فيحتمل أنّ المعدّل داعية إلى مذهبه (¬2) , فإذا اتفق هذا ففيه احتمالان: أحدهما: أن يقبل تعديل غير الدّاعية حتّى يثبت أنّ المعدّل داعية, لأنّ الأصل أنّه غير داعية, وقد ورد التّمسّك بالأصل في الشّريعة في يومي الشّكّ وغير ذلك, وهو ظاهر إطلاق أهل القول بقبول التّعديل الإجمالي. وثانيهما: أن يقبل في عدالة من عدّله في جميع الأمور إلاّ في كونه داعية فيبحث عن ذلك حتى يظنّ عدمه, ويؤخذ بتعديل المبتدع المقبول فيما عدا ذلك من شرائط العدالة والله أعلم. وأمّا الجرح: فالقول باشتراط التّعيين فيه أقرب, لأنّ الجارح إذا قال: فلان ليس ثقة, لأنّه يشرب الخمر, أو غير ذلك كفى ذلك, ولم يلزمه تعديد جميع المعاصي فظهر الفرق. ¬
كلام المعترض على عدالة الصحابة
قال: الخامس: أنّ هؤلاء الأئمة في الحديث يرون عدالة الصّحابة جميعاً, ويرى أكثرهم/ أنّ الصّحابي من رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به وإن لم تطل ولم يلزم, وهذان المذهبان باطلان, وبِبُطلانهما يبطل كثير من الأخبار المخرّجة في الصّحاح. أمّا المذهب الأول: فلأنّ من حارب عليّاً - عليه السلام - مروح, ومن قعد عن نصرته كذلك, لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)) (¬1) , وقال: ((لا يبغضك إلا منافق شقي)) (¬2) وأقل أحوال هذا ألا تقبل روايته. وأمّا الثّاني: فيلزمهم أن يكون الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) عدلاً بتعديل الله, ولا يحتاج إلى تعديل أحد, وكذلك ¬
الجواب عليه: وفيه مسائل
كثير من رواتهم الذين هم من أعراب, أو يفدون عليه مرة واحدة كما جاء في حديث وفد تميم (¬1) وأنزل الله تعالى فيه: {إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُم لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] , وكحديث وفد عبد القيس (¬2). أقول: اشتمل كلامه في هذا الوجه على مسائل: المسألة الأولى: القدح على المحدّثين بقبول المجهول من الصّحابة -رضي الله عنهم-, وقولهم: [إنّ] (¬3) الجميع عدول بتعديل الله, والجواب عليه من وجوه: الوجه الأوّل: أنّ الذّاهب إلى هذا المذهب لا يستحق الإنكار؛ لأنّ هذا المذهب إن لم يكن هو الحق دون غيره؛ فلا أقلّ من أن يكون غير محرّم ولا منكر, لأنّه لا دليل قاطع على تحريمه, ومن ادّعى شيئاً من ذلك فليدلّ عليه. والعجب من المعترض أنه خصّ المحدثين بهذا المذهب, وهو مذهب أكثر أهل الإسلام من المحدّثين والفقهاء وغيرهم, بل هو مرويّ عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهو مذهب مشهور مستفيض حتّى ¬
في مذهب المعتزلة والزّيدية. أمّا المعتزلة: فرواه ابن الحاجب عنهم الجميع, لفظه: ((قالت المعتزلة: الصحابة (¬1) عدول إلا من حارب عليّاً)). وذكروه أيضاً في كتبهم, فممن ذكره منهم: عالمهم وإمامهم بغير منازعة: الشّيخ أبو الحسن البصريّ في ((المعتمد)) (¬2) فإنه قال فيه ما لفظه: ((واعلم أنّه إذا ثبت اعتبار العدالة وغيرها من الشّروط التي ذكرناها, وجب إن كان لها ظاهر أن يعتمد, وإلا لزم اختبارها, ولا شبهة أن في بعض الأزمان كزمن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قد كانت العدالة منوطة بالإسلام, فكان الظاهر من المسلم كونه عدلاً, ولهذا اقتصر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قبول خبر الأعرابي عن رؤية الهلال على ظاهر إسلامه, واقتصرت (¬3) الصّحابة على إسلام من كان يروي الأخبار من الأعراب)). وقال الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي في: ((شرح العيون)) له ما لفظه: ((إن أحوال المسلمين كانت أيّام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلومة, وكانت مستقيمة مستغنية عن اعتبارها (¬4))). وأمّا الزّيدية: فقد ثبت عن كثير منهم ما يدل على ذلك كما سنذكره, من ذلك قول الإمام الكبير المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن ¬
سليمان - رضي الله عنه - , فإنّه قال في: ((الرسالة الإمامية, في الجواب على المسائل التّهامية)) (¬1) ما لفظه: ((فأمّا ما ذكره المتكلّم حاكياً عنّا من تضعيف آراء الصحابة, فعندنا أنّهم أشرف قدراً, وأعلى أمراً, وأرفع ذكراً من أن تكون آراؤهم ضعيفة, أو موازينهم في الشّرف والدّين خفيفة. فلو كان ذلك, لما اتّبعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ومالوا عن إلف دين الآباء والأتراب و [القرباء] (¬2) إلى أمر لم يسبق لهم به أُنس, ولم يسمع له /ذكر, شاقّ على القلوب, ثقيل على النّفوس فهم خير النّاس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده, فرضي الله عنهم, وجزاهم عن الإسلام خيراً)) إلى قوله: ((فهذا مذهبنا لم نخرجه غلطة, ولم نكتم سواه تقيّة. وكيف وموجبها زائل! ومن هو دوننا مكانة وقدرة يسبّ ويلعن, ويذمّ ويطعن, ونحن إلى الله سبحانه من فعله براء, وهذا ما يقضي به علم آبائنا منّا إلى علي - عليه السلام -)) إلى قوله: ((وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء بسبّ الصّحابة -رضي الله عنهم- والبراءة منهم فتبرّأ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث لا يعلم. إذا كنت لا أَرمِي وتُرمي كِنانتي ... تُصب جانحات النّبل كشحِي ومِنكبِي انتهى ما أردنا نقله من كلام المنصور بالله, وما فيه من نسبة مذهبه هذا إلى جميع آبائه -رضي الله عنهم-. ¬
وفي كلامات المؤيد بالله يحيى بن حمزة - رضي الله عنه - في الذّبّ عن الصّحابة والثّناء عليهم, ما هو أكثر من هذا, ولكن لم يحضرني تأليفه فأنقل ألفاظه في ذلك, وقد أفرد الكلام في ذلك وجوّده في كتابه ((التحقيق)) (¬1) وانتصر للذّبّ عن الصّحابة غاية الانتصار, وذكر مثل ذلك في كتابيه: ((الشامل)) (¬2) و ((الانتصار)) (¬3). وأمّا المنصور بالله فله في ذلك كلامات مختلفة, في أماكن من كتبه متفرقة. من ذلك كلامه في كتاب ((هداية المسترشدين)) , واحتجاجه بتأمير النّبي - صلى الله عليه وسلم - لعتّاب بن أسيد ثاني يوم من إسلامه واكتفاؤه في أمره بمجرّد الإسلام. وفي ((الاستيعاب)) (¬4) وغيره أنّه أسلم يوم الفتح, وولاّه النّبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى حنين. وفي الاحتجاج على العدالة بالولاية نظر, لكن المنصور بالله ¬
ذكر أنّه ولاه على القضاء فيما حكى لي بعض أهل العلم. فعلى الجملة؛ فغرضنا حاصل بكلام المنصور, فإنّ القصد الاستشهاد به على ذهاب المنصور بالله إلى عدالة مجهول الصّحابة, وفي هذا الاحتجاج ما يؤخذ له منه عدالة الصّحابة كلّهم -رضي الله عنهم- على أنّه قد ثبت في كلام غير واحد من الزّيديّة: أنّه يقبل المجهول من جميع المسلمين؛ الصّحابة وغيرهم. كما قدّمنا ذلك من كلام عبد الله بن زيد, والمنصور بالله, وأبي طالب, فخذه من مكانه المقدّم (¬1). وذلك أيضاً مشهور عن الحنفية وغيرهم. فمع هذا ما سبب إنكار هذا المعترض على المحدّثين, وتخصيصهم بردّ هذا المذهب من بين سائر طوائف المسلمين؟ وهل هذا إلا محض الجهل أو التّجاهل, وصريح التّعنّت والتّحامل؟ والله المستعان. الوجه الثاني: أنّ الشّيخ أبا الحسن روى في ((المعتمد)) (¬2) عن الصّحابة أنّهم اقتصروا على إسلام من كان يروي الأخبار من الأعراب, وهذا يفيد إجماع الصّحابة على ذلك. والمعترض يعتقد عدالة الصّحابة, وقبول خبره, وقد كان الرّجل -على ما ذهب إليه, من أهل الدّيانة والأمانة, يعترف له بذلك أهل المعرفة بعلم الرّجال من المحدّثين كما ذكره الذّهبي (¬3) , وإنّما الذي قدحوا به عليه كونه كان رأساً في الاعتزال داعية إلى القول به, وذلك كثير في الرّواة الثقات ¬
المتفق على إخراج حديثهم في ((الصّحيحين)) , وغيرهما كقتادة وغيره. وإذا ثبت ذلك؛ فكيف ينكر المعترض على المحدّثين, مذهباً قد روى الثّقة عنده أنّه قول الصّحابة, بل الذي روى أوسع من مذهب المحدّثين فإنّهم اقتصروا على قبول من رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وأبو الحسين روى قبول الصّحابة لمن أسلم من الأعراب من غير تقييد لذلك برؤية النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال النّواويّ/ - رضي الله عنه -: إنه قول من يعتبر به من الأمّة أو كما قال, ذكره في ((شرح مسلم)) (¬1) وهذه العبارة تفيد دعوى الإجماع. وقد روى الحفّاظ من فرسان علم الأثر ما يدلّ على كلام الشّيخ أبي الحسين. فمن ذلك: ما روى معمر البصريّ عن أبي العوّام البصري قال: كتب عمر إلى موسى -وساق كتابه الطّويل في القضاء- وفيه من كلام عمر - رضي الله عنه -: ((والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشّهادات, إلا مجلوداً في حدّ, أو مجرّباً عليه شهادة الزّور, أو ظنيناً في ولاءٍ أو دية (¬2). فإن الله تعالى تولّى من العباد السّرائر, وستر عليهم الحدود إلا بالبيّنات والأيمان)) وساق بقيّة كتابه, رواه البيهقي هكذا, ثم قال: ((وهذا [كتاب] (¬3) معروف مشهور)) (¬4). ¬
وفيه ما يدلّ على مذهب المحدّثين, وأنّ مذهبهم هذا مشهور في السّلف والخلف. وفي حديث شقيق [ابن سلمة] (¬1) عن كتاب عمر - رضي الله عنه -: ((لا تفطروا حتّى يشهد رجلان مسلمان [أنّهما] (¬2) أهلاّه بالأمس)) رواه الدّارقطنيّ (¬3) والبيهقي, قال: ((وهو أثر صحيح)) (¬4) ذكره ابن النّحويّ في ((البدر المنير)) و ((الخلاصة)) (¬5) (¬6). ¬
ومن ذلك أثر عليّ - رضي الله عنه - وفيه: أنه كان يستحلف بعض الرّواة [إذا اتّهمه] (¬1) , فإن حلف صدّقه. وقد روى ذلك عنه من الزّيديّة الإمام المنصور محتجّاً به, وكذلك رواه الإمام أبو طالب وهو -أيضاً- معروف عند حفّاظ الحديث, رواه أبو عبد الله الذّهبي في ((تذكرة الحفّاظ)) (¬2) وقال: ((وهو حديث حسن)) (¬3). وهو يدلّ على مثل مذهب المحدّثين, لأنّ التّهمة والتّحليف لا يكون للمخبورين المأمونين. وإنما يكون لمن يجهل حاله فيقوى الظّنّ بيمينه. فإن قيل: هذا يدلّ على خلاف مذهب المحدّثين, لأنّ المفهوم منه: أنّه لو لم يحلف له الرّاوي ما قبله. والجواب: أنّ ذلك عير صحيح لوجهين: أحدهما: أنّ المحدّثين إنما يقولون بذلك في الصّحابة الذين رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وليس يعلم أنّ هذا منهم لجواز أن يكون من الأعراب. وثانيهما: أنّهم لا يقولون: [إنه] (¬4) لا يجوز الوهم على الصّحابي, إنّما قالوا: إنه ثقة, والوهم جائز على الثّقة, وعليّ ... - رضي ¬
الله عنه - لم يتّهم الرّاوي بتعمّد الكذب؛ لأنّه لو اتّهمه بذلك لاتّهمه بالفجور باليمين, ولم يصدّقه إذا حلف, وإنّما اتّهمه بالتّساهل في الرّواية بالظّنّ الغالب, فمع يمينه قوي ظنّه بأنّه متقن لما رواه حفظاً. ومع امتناعه من اليمين يعرف أنّه غير متقن ولا مستيقن, فتكون هذه علّة في قبول حديثه. ولا شكّ أنّ حديث الثّقة قد يكون معلولاً بأمر يوجب الوقف, ولهذا توقّف النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبول حديث ذي اليدين (¬1) حتّى سأل, وتوقّف عمر - رضي الله عنه - في قبول حديث فاطمة بنت قيس (¬2) , وذلك مقرّر في مواضعه من الأصول. الوجه الثالث: أنّ الأدلّة قد دلّت على ما ذهب إليه أهل الحديث, وغيرهم من قبول الصّحابة -رضي الله عنهم- المعروف منهم بالعدالة والمجهول حاله. والأدلّة على ذلك من الكتاب, والسنّة, والنّظر كثيرة, نذكر طرفاً يسيراً [منها] (¬3): أما الكتاب؛ فمثل قوله تعالى: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. وأمّا السّنّة؛ ففي ذلك آثار كثيرة, نذكر منها نبذة يسيرة: الأثر الأول: ما روى ابن عمر عن أبيه -رضي الله عنهما-: أنّ ¬
الأدلة من القرآن والأثر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فقال: ((أوصيكم بأصحابي, ثمّ الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم, ثم يفشو الكذب حتّى يحلف الرّجل ولا يستحلف, ويشهد الشّاهد ولا يستشهد)) (¬1) , الحديث رواه أحمد والتّرمذيّ. وقد رواه عن شعبة: أبو داود الطّيالسيّ, عن عبد الملك بن عمير, عن جابر ابن سمرة, عن عمر, وله طرق أُخر, وهو حديث مشهور جيّد, قال ذلك الحافظ ابن كثير في ((إرشاده)) (¬2). قلت: وفيه ما يدلّ على أنّه أراد بأصحابه أهل زمانه, يفهم (¬3) من قوله: ((ثمّ الذين يلونهم)) , فإنّه جعل أهل زمانه طبقة, ثمّ الذين يلونهم, فلم يكن ليخرج من لم يره ممن أدرك زمانه, مع دخول من لم يره من التّابعين الذين لم يدركوا زمانه. الأثر الثاني: عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت الهلال -يعني رمضان- فقال: ((أتشهد أنّ لا إله إلا الله, وأنّ محمداً رسول الله؟)) قال: نعم. /فقال: ((يا بلال أذّن في النّاس أن يصوموا غداً)) رواه أهل السّنن (¬4) , وابن حبان ¬
صاحب ((الصحيح)) (¬1) والحاكم أبو عبد الله (¬2) وقال: ((حديث حسن صحيح)). وذكره الحاكم أبو سعد (¬3) في ((شرح العيون)) واحتجّ به أبو الحسين في ((المعتمد)) واحتجّ به: عبد الله بن زيد العنسيّ. الأثر الثالث: حديث أبي محذورة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علّمه الأذان عقيب إسلامه, واتّخذه مؤذناً (¬4) من ذلك الوقت, وذلك يدلّ على عدالته من قبل الخبرة؛ لأنّ العدالة معتبرة في المؤذن [إذ] (¬5) هو مخبر بدخول وقت الصلاة (¬6) معتمد عليه في تأدية (¬7) الفرائض وإجزائها. ¬
الأثر الرّابع: وهو أثر صحيح, ثابت في دواوين الإسلام, بل معلوم, متواتر النّقل, وهو حجّة قويّة, وذلك: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى اليمن عليّاً ومعاذاً -رضي الله عنهما-, واليين قاضيين ومفتيين (¬1) , ولا شكّ أنّ القضاء بين النّاس, متركّب على عدالة الشّهود, ومعرفة الحاكم عدالتهم أو عدالة معدّليهم, وهما غريبان في أرض اليمن, لا يعرفان عدالتهم, ولا يخبران أحوالهم, وهم لا يجدون شهوداً على ما يجري بينهم من الخصومات إلا منهم, فلولا أنّ الظّاهر العدالة في أهل الإسلام ذلك الزّمان؛ وإلا لما كان إلى حكمهما بين أهل اليمن على الإطلاق سبيل. وهذا يدلّ على عدالة أهل الإسلام ذلك الزمان, لا على عدالة من صحب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دون غيره, وهذا أوسع من مذهب المحدّثين, ولأمر ما أشار أبو الحسين إلى إجماع الصّحابة عليه مع ذكاء أبي الحسين, فقد قال الذّهبيّ -مع كراهته للمعتزلة-إنّها كانت لأبي الحسين شهرة بالذّكاء والدّيانة (¬2) , فتأمّل أحوال الصّحابة -رضي الله عنهم- تعلم صحّة ما قاله, وحُسن استخراجه. الأثر الخامس: ما ثبت عن عليّ - رضي الله عنه - أنّه ((كان يستحلف من اتّهمه من الرّواة, فإن حلف له صدّقه)) رواه الذّهبيّ في ¬
((تذكرة الحفّاظ)) (¬1) وحكم بحسنه. وقد احتجّ به غير واحد من أئمة الزّيديّة -منهم الإمامان أبو طالب, والمنصور بالله- ووجه الحجّة فيه: أنّ التّحليف والتّهمة إنّما يكون لمجهول الحال, أو من هو شرّ منه من المخبورين بقلة أهل الإسلام في ذلك الزّمان. الأثر السادس: حديث الجارية السّوداء راعية الغنم التي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتعرّف إيمانها, ويختبر إسلامها, فقال لها: ((من ربّك)) فأشارت, أي: ربها الله. فقال لها: ((من أنا؟)) قال: رسول الله. قال - عليه السلام -: ((هي مؤمنة)) , والمؤمن مقبول. وقد وصف الله رسوله بتصديق المؤمنين في قوله تعالى: ... {وَيُؤمِنُ لِلْمُؤمِنِينَ} [التوبة:61]. وحديث الجارية هو ثابت في ((صحيح مسلم)) (¬2) رواه الشّافعيّ (¬3) عن مالك (¬4) ذكر ذلك ابن النّحويّ في ((البدر المنير)) و ((الخلاصة)) (¬5). الأثر السابع: حديث عقبة بن الحارث المتفق على صحّته وفيه ¬
أنّه تزوج أمّ يحيى بنت أبي إهاب, فجاءت أمة سوداء وقالت: قد أرضعتكما, فذكرتُ ذلك للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأعرض عنّي, فتنحّيتُ فذكرت ذلك له فقال: ((وكيف وقد زعمت أن قد أرضعَتُكُما)) هذا لفظ البخاري (¬1) ومسلم (¬2). /وفي رواية التّرمذيّ (¬3) بإسناد حسن صحيح: ((أنه زعم أنّها كاذبة)) وأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهاه عنها, فدلّ على اعتبار قولها مع الجهالة وتكذيب المدّعى عليه, ولو لم يعتبر قولها لم ينهه (¬4) , ولا أمره بالطّلاق, لعدم [تحقّق] (¬5) انفساخ النّكاح, ولخيّره بين الإمساك مع الكراهة, أو الطّلاق [للحيطة] (¬6) , فإنّ التّفريق بين الزّوجين من مؤكّدات الأمور, وقد قال بمقتضى ذلك مع يمين المرأة: ابن عبّاس وأحمد وإسحاق (¬7) , وإنّما ترك العمل بظاهره بعض أهل العلم لتعلّقه بحقوق المخلوقين التي ورد الشّرع باعتبار الشّهادة فيها. ¬
الأدلة من النظر
فأمّا قبول الخبر النّبويّ في الأحكام؛ فمقبول من المرأة الصّحابيّة وإن لم تعرف, بدليل هذا الحديث وغيره. الأثر الثامن: أنّ الكافر كان يأتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيسلم, فيأمره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -[أن يذهب] (¬1) إلى [قومه] (¬2) داعياً لهم إلى الإسلام ومعلّماً لهم ما علّمه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من شرائع الإسلام, وهذا موجود في السّيرة, لكنّها لم تحضرني فأنقله بلفظه (¬3). ومثل هذا له شواهد كثيرة يعرفها من طالع السّيرة النّبويّة, وفيه دلالة على عدالة الدّاخل في الإسلام, وإلا لوجب أن يبين له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه لا يحل لقومه أن يتعلّموا منه شيئاً حتّى يختبروه بعد إسلامه, وفي هذا الأثر وفي السابع إشارة إلى آثار كثيرة, والله أعلم. وأما النظر: فلأنّ العدل من ظهر عليه من القرائن ما يدلّ على الدّيانة والأمانة دلالة ظنّية. [إذ] (¬4) لا طريق إلى العلم بالبواطن؛ وهذا ظاهر في الصّحابة, فإنهم كما قال المنصور بالله: ((لولا ثقل موازينهم في الشّرف والدّين ما تبعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ومالوا عن إلف دين الآباء, والأتراب والقرباء إلى أمرٍ شاقّ على القلوب, ثقيل على النّفوس, لا سيّما وهم في ذلك الزّمان أهل الأنفة العظيمة والحميّة الكبيرة, ¬
شواهد على تقوى الصحابة وصدقهم
يرون أن يقتل جميعهم وتستأصل شأفتهم حذراً من أيسر عار يلم بساحتهم أو ينسب إلى قرابتهم, ولا أعظم عاراً عليهم من الاعتراف بضلال الآباء, وكفرهم, وتفضيل الأنعام السّائمة عليهم, فلولا صدقهم في الإسلام ومعرفتهم لصدق الرّسول - عليه السلام - , ما لانت عرائكهم [لذلك] (¬1) ولا سلكوا في مذلّلات المسالك. وممّا يدلّ على صحّة ذلك ويوضّحه: أنّ أكثرهم تساهلاً في أمر الدّين: من يتجاسر على الإقدام على الكبائر, لا سيما معصية الزّنا, فقد علمنا أنّ جماعة من أهل الإسلام في ذلك العصر من رجال ونساء وقعوا في ذلك, فهم (¬2) فيما يظهر لنا أكثر أهل ذلك الزّمان تساهلاً في الوقوع في المعاصي, وذلك دليل خفّة الأمانة ونقصان الدّيانة, لكنّا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله المتأخرين إلا أهل الورع الشّحيح, والخوف العظيم, ومن يُضرب بصلاحه المثل, ويتقرّب بحبه إلى الله عزّ وجلّ, وذلك أنّهم بذلوا أرواحهم في مرضاة ربّ /العالمين, وليس يفعل هذا إلا من يحقّ له منصب الإمامة في أهل التّقوى واليقين, وذلك كثير في أخبارهم, مشهور الوقوع في زمانهم. من ذلك حديث المرأة التي [زنت] (¬3) فجاءت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مقرّة بذنبها, سائلة للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الحدّ عليها, فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستثبت في ذلك, فقالت: يا رسول! إنّي حبلى به, فأمر أن تُمهل ¬
حتّى تضع, فلمّا وضعت جاءت بالمولود وقالت: يا رسول الله هو هذا قد ولدته, فقال: ((أرضعيه حتّى يتمّ رضاعه)) , فأرضعته حتّى أتمّت مدة الرّضاع, ثمّ جاءت به في يده كسرة من خبز, فقالت: يا رسول الله! هو هذا يأكل الخبز, فأمر بها فرجمت (¬1). رواه الحافظ ابن كثير في ((إرشاده)) (¬2). فانظر إلى عزم هذه الصّحابية -رضي الله عنها- على أصعب قتلة على النّفوس, وأوجع ميتة للقلوب, وبقاء عزمها على ذلك هذه المدّة الطّويلة, ومطالبتها في ذلك غير مكرهة ولا متوانية, وهذا -أيضاً- وهي من النّساء الموصوفات بنقصان العقول والأديان, فكيف برجالهم رضي الله عنهم!؟. ومن ذلك حديث الرّجل الذي أتى إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنّه سرق, فأمر بقطع يده, فلما قطعت قال: الحمد لله الذي خلّصني منك, أردت أن تدخليني النّار (¬3) , أو كما قال. ¬
وحديث المجامع في رمضان (¬1). وحديث ماعز بطوله (¬2). وحديث الذي قال: إنّي أتيت امرأة فلم أترك شيئاً مما يفعله الرّجال بالنّساء إلا أتيته, إلا أنّي لم أجامعها (¬3)؛ وغير ذلك مما لا يحضرني الآن الإشارة إليه. فأخبرني على الإنصاف: من في زماننا, وقبل زماننا من أهل الدّيانة قد سار إلى الموت نشيطاً, وأتى إلى ولاة الأمر مقرّاً بذنبه, مشتاقاً إلى لقاء ربّه, باذلاً في مرضاة الله لروحه, ممكّناً للولاة والقضاة من الحكم بقتله؟ وهذه الأشياء تنبّه الغافل, وتقوّي بصيرة العاقل, وإلا ففي قوله تعالى: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. كفاية وغنية, مع ما عضدها من شهادة المصطفى - عليه السلام - بأنهم خير القرون, ¬
وبأنّ غيرهم لو أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه, إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشّريفة ومراتبهم المنيفة. وقد ذكر ابن عبد البرّ في ديباجة ((الاستيعاب)) (¬1) جملة شافية ممّا يدلّ على فضل أهل ذلك الزّمان, [وذكر في ذلك أحاديث كثيرة] (¬2). منها الحديث الصّحيح الشّهير أنه ((لا يدخل النّار أحد شهد بدراً والحديبية)) (¬3) رواه من طرق كثيرة. وروى الحديث المشهور من طريق أبي الزّبير عن جابر مرفوعاً ((لا يدخل النّار أحد بايع تحت الشجرة)) (¬4) ثمّ روى أنّ أهل الحديبية كانوا ألفاً وأربع مائة, وأهل بيعة الرضوان ألفاً وخمس مائة, وأهل بدر ثلاث مئة وبضعة عشر, وذكر الحديث ((ألا إنّكم توفّون /سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) (¬5) والحديث الذي فيه: ((إنّ الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلوب أصحاب محمد خير قلوب العباد)) (¬6) , ¬
المسألة الثانية: وفيها فصلان
وأمثال ذلك. وقد ظهر بهذه الجملة بيان قوّة ما أنكره المعترض على أهل الحديث, وأنّه مذهب العلماء الجلّة, من أهل الملّة, قويّ الموادّ, منصور الأدلّة. والحمد لله. المسألة [الثانية] (¬1): ممّا اشتمل عليه كلامه, إنكاره لقول أهل الحديث: إنّ الصّحابيّ من رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به, وقوله: إنّ هذا باطل, وأنّه يبطل ببطلانه كثير من حديث الصّحاح. وقد تحامل المعترض على أهل الحديث في هذه المسألة, وأطلق عليها اسم ((الباطل)) الذي لا يطلق على أمثالها من المسائل الظّنّيّة المحتملة, والخلاف في هذه المسألة مشهور في الأصول, وعلوم الحديث, وقد ذكر ابن الحاجب في ((مختصر المنتهى)) (¬2): أنها ¬
الفصل الأول
لفظيّة؛ لأنّ النّزاع فيها راجع إلى من يصدق عليه إطلاق هذا القول (¬1) , وهذا مدرك ظنّيّ لغويّ, أو عرفي لا يدخله التّأثيم, ويستحق اسم الباطل, وذلك يظهر بالكلام في فصلين: الفصل الأوّل: في بيان ما يستغربه المعترض من تسمية يسير المخالطة: ((صحبة)) , وبيان ظهور ذلك في الكتاب والسّنّة والإجماع, ولنقدّم قبل ذلك مقدّمة, وهي: أنّ ((الصّحبة)) في اللّغة تطلق كثيراً في الشّيئين إذا كان بينهما ملابسة, وسواء كانت كثيرة أو قليلة, حقيقيّة أو مجازيّة, وهذه المقدّمة تبيّن ما نورده من كلام الله تعالى, وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - , وما أُجمع على صحّته من العبارات في هذا المعنى. أما القرآن: فقال الله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف:34] و {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [بالكهف:37] , فقضى بالصّحبة مع الاختلاف في الإسلام الموجب للعداوة لما جرى بينهما من الخطاب المتقدّم, وقد أجمعت الأمّة على اعتبار الإسلام في اسم الصّحابيّ, وقد ثبت بالنًصّ القرآني أنّ الله تعالى سمّى الكافر صاحباً للمسلم, فيجب أن يكون اسم الصّحابيّ عرفيّاً اصطلاحياً, ويكون لكلّ طائفة أن تصطلح فيه على عرف كما سيأتي تحقيقه. وقال تعالى: {وَالصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ} [النساء:36]. وهو المرافق في السّفر, ولا شكّ أنّه يدخل في إطلاق هذه الآية الملازم ¬
وغيره, ولو صحب الإنسان رجلاً (¬1) ساعة من نهار وسايره في بعض الأسفار لدخل في ذلك, لأنّه يصدق أن يقول: صحبت فلاناً في سفري ساعة من النّهار, ولأنّ من قال ذلك لم ينكر عليه أهل اللّغة, ولا يستهجنون كلامه. وأما السّنّة؛ فكثير غير قليل, ومن أدلّها على التّوسعة العظيمة في هذا الباب ما ورد في الحديث الصحيح من قوله - عليه السلام - لعائشة -رضي الله عنها-: ((إنّكنّ صواحِبُ يوسف)) (¬2) , فانظر ما أبعد هذا السّبب الذي سمّيت به النّساء صواحب يوسف! وكيف يستنكر مع هذا أن يسمّى من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - /ووصل إلى حضرته العزيزة وتشرف برؤية غرّته الكريمة صاحباً له!؟ ومن أنكر على من سمّى هذا صاحباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلينكر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمّى النّساء كلّهن صواحب يوسف. ومن ذلك الحديث الذي أُشير فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل المنافق عبد الله بن أبيّ بن سلول فقال - عليه السلام -: ((إنّي أكره أن ¬
يقال: إنّ محمداً يقتل أصحابه)) فسمّاه صاحباً مع العلم بالنّفاق للملابسة الظّاهرة, مع أنّ النّفاق المعلوم يقتضي العداوة, ويمحو اسم الصّحبة في الحقيقة العرفية, فهذا الذي ذكرته من تسميته في هذا الحديث صاحباً يحتمل في اللّغة, وقد تقدّم أوّل الفصل هذا (¬1) , شاهده من القرآن العظيم في قوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف:34]. وليس في الآية احتمال آخر. وأمّا هذا الحديث فهو يحتمل احتمالاً آخر تركته استغناء بهذا الاحتمال, بشهادة القرآن له. وممّا يدلّ على التّوسع الكثير في اسم الصّحبة: إطلاقها بين العقلاء والجمادات, كقوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] , ومثل تسمية ابن مسعود: ((صاحب السّواك)) (¬2) وصاحب: ¬
((النّعلين والوسادة)). وأما الإجماع: فلا خلاف بين النّاس أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لاقى المشركين في الحرب فقتل ممن معه من المسلمين جماعة, ومن المشركين جماعة أنه يقال: قتل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا, ومن المشركين كذا وكذا, وبذا جرى عمل أهل السّير (¬1) والمؤرّخين والرّواة والأخباريين, وكذا يقولون في أيّام صفين: قتل من أصحاب عليّ كذا, ومن أصحاب معاوية كذا, ولا يعنون بأصحاب عليّ من لازمه, وأطال صحبته, بل من قاتل معه, ولو يوماً أو ساعة (¬2) , وهذا شيء ظاهر لا يستحق من قال بمثله الإنكار, وهو من أحسن ما احتجّ به أهل الحديث, على أنّ ما ذهبوا إليه حقيقة عرفية. ومن ذلك أصحاب الشّافعي, يطلق ذلك على من دخل في مذهبه وإن مات عقيب الدّخول فيه من غير مهلة, وكذلك أصحاب الظّاهر وأصحاب الرّأي. ومن التّوسع في هذا الباب: تسمية النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صاحب الشفاعة قبل أن يشفع, وهذا أيضاً ممّا لا يشترط فيه الإطالة, بل يسمّى صاحب الشّفاعة, وإن كانت في ساعة واحدة, وهذا كلّه دليل على التّوسعة ¬
الفصل الثاني
الكثيرة في إطلاق اسم الصّحبة على أدنى ملابسة. وبعد؛ فإنّها لفظة لغويّة ظنّيّة, والاختلاف فيها كالاختلاف في الشّفق, هل هو الحمرة أو البياض, أو مشترك بينهما, ونحو ذلك من الألفاظ اللّغوية التي لا ينكر على من خالفها من أهل العلم. وبعد؛ فقد قال غير واحد من العلماء: يجوز إثبات اللّغة بالقياس (¬1) , واختاره إمام الزّيديّة المنصور بالله في كتابه ((صفوة الاختيار)) , قال قطب الدّين الشّيرازي في ((شرح المنتهى)): ((إنّه مذهب القاضي, وابن سريج من الشّافعية, وهو قول كثير من الفقهاء, ومن أهل العربية)) اهـ. ولم يعلم أنّ أحداً شنّع على /من ذهب إلى ذلك ولا قبّح عليه, فكيف بهذه المسألة المذكورة في الصّحبة! وقد تقدّم لها من الشّواهد اللّغوية ما أقلّ منه يشفي ويكفي, فلو قدّرنا خلوّها عن الشّواهد اللّغوية, ورجوع القائلين بها إلى الأمارات القياسيّة, لم يكن إلى تقبيح ذلك وقطع الخلاف فيه سبيل, ولا على القطع بإبطاله وإبطال ما ترتّب عليه من الحديث دليل. الفصل الثّاني: في بيان المختار, والمختار: أنّ ما ذكره المحدّثون جائز بالنّظر إلى وضع اللّغة, وأمّا بالنّظر إلى العرف ¬
احتج المعترض على نفي عدالة الصحابة بأمور
وقد ذكر في هذا الموضع ثلاثة أشياء احتجّ بها ولم يُعدها, فرأينا ذكرها في هذا الموضع: الحجّة الأولى: خبر الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله (¬1) - صلى الله عليه وسلم - , قال المعترض: يلزم أنّه عدل. والجواب من وجوه: الأوّل: من أين صحّ للمعترض أنّه كان في عصره - صلى الله عليه وسلم - أعرابي بال في مسجده؟ فثبوت هذا مبني على صحّة طرق الحديث وقد شكّ في تعذّرها, فلو صحّت طرق هذا بطل الشّكّ, ومن البعيد أن يصحّ طريق هذا الحديث دون غيره, ومن المعلوم أنّ صحة البعض تستلزم بطلان الشّكّ في استحالة الكلّ. الوجه الثاني: أنّا قد ذكرنا أنّ كلّ مسلم ممن عاصر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنّه عدل ما لم يعلم جرحه, وبيّنّا الحجج على هذا, وأنّه مذهب جلّة علماء (¬2) الإسلام, وبيّنّا أنّه مما ادّعي فيه الإجماع, وهذا الأعرابي من جملة من دخل تحت عموم تلك الأدلّة, فيسأل المعترض: ما الموجب لتخصيصه بالذّكر؟ فإنّ الخصم ملتزم لعدالته, فيطالب بإبداء المانع منها. فإن قال: إن بوله في المسجد يمنع العدالة لأنّه محرّم. فالجواب عليه: /أنّ الجرح بذلك غير صحيح لأنّه لا دليل على ¬
أنه فعله وهو يعلم بالتّحريم, ويقوّي هذا أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منع من قطع درّته, ونهى من نهاه وقال: ((إنّ منكم منفّرين)) , ولو كان في فعله لارتكاب ما حرّمه الله مجترئاً معانداً لم يكن يستحق هذا الرّفق العظيم, ولكان الأشبه أن يزجر عن الجرأة كما زجر السّائل عن الضّالّة, الذي قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وجدت)) (¬1) وإنّما ذكرنا هذا الوجه لزيادة قوّة الحجّة على الخصم, وإلا فالأصل جهل الأعرابيّ بالتّحريم والتّمسك بالأصل كافٍ. فإن قال المعترض: أنّ البول في المسجد يدلّ على الجرح من حيث إنّه يدلّ على الخسّة وقلّة الحياء, إذ البول في حضرة النّاس يدلّ على ذلك كالأكل في السّوق. قلنا: ليس كما توهّم, فإنّ ما يدل على الخسّة, وقلّة الحياء يختلف بحسب اختلاف عرف أهل بلد الفاعل لذلك وأهل زمانه, والأعراب في ذلك الزّمان وفي غيره لا تستنكر ذلك في باديتها غالباً, وكلّ ما كان أهل الصّيانة يفعلونه من المباحات في بلد أو زمان, لم يقدح في عدالة أحد من أهل تلك البلد وذلك الزمان, وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في المدينة بغير رداء, ولا نعل, ولا قلنسوة, يعود المرضى كذلك في أقصى المدينة, ذكره ابن حزم في ((سيرته)) (¬2). ومثل هذا في بعض الأمصار في هذه الأعصار المتأخّرة مما لا يفعله بعض أهل الحياء, ومما يتكلّم بعض الفقهاء في فاعله, ¬
لعُرف (¬1) مختصّ بهذه الأزمنة الأخيرة في الأمصار العظيمة, وإلا فمن أشد حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها (¬2) , وكان لا يثبت بصره في وجه أحد لكثرة حيائه - صلى الله عليه وسلم - , ولكن هذا الذي فعله كان عادتهم في ذلك العصر, وإنّما الحياء يتولّد من مخالفة العادة حتّى إنّ الرّجل الفقير المستمرّ على البذاذة (¬3) في الملبس, لو لبس في دفعة واحدة لباس الأكابر الذي لا يعتاده قط, وطاف به الأسواق, لكان معدوداً من أهل المجون, وقلّة الحياء لمجاهرة النّاس بمخالفة العادة من غير تدريج, ولا التماس فضيلة, وكذلك قد ورد عنه - عليه السلام - أنّه أخذ قطعة من لحم وجعل يلوكها في فيه وهو يمشي في السّكة [أو] (¬4) يمشي بين أصحابه أو نحو ذلك, ذكر معناه أبو داود (¬5) , وقد أردف - عليه السلام - امرأة خلفه في ¬
بعض الغزوات (¬1) , وربّما كان [هذا] (¬2) ممّا يتجنّبه بعض أهل الحياء في بعض الأزمان والبلدان لاختلاف العرف. والقصد الاحتجاج بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - على أنّها ليست في ذلك الزّمان مما يستحيى منه, لا على أنّه كان يفعل ما يُستحيى منه في زمانه - عليه السلام - , فتأمّل ذلك ولا تغلط فيه, فإنّ الغلط فيه عظيم. الوجه الثالث: لو قدّرنا أنّ هذا مما يجرح به لكان مما يحتمل النّظر والاختلاف, ولا يعاب على من جرح به ولا على من لم يجرح. الوجه الرّابع: سلّمنا تسليم جدل أنّه مجروح فنحبّ (¬3) من المعترض أن يبيّن لنا أنّ أهل الصّحاح رووا عن هذا الأعرابي, ويبيّن لنا كم رووا عنه لا سيّما من أحاديث الأحكام, فإنّ الحاجة إلى معرفة ذلك ماسّة. الوجه الخامس: سلّمنا أنّهم رووا عنه وأنّه مجروح, فما وجه الاحتجاج بذلك على الشّكّ في [تعذّر] (¬4) معرفة السّنن وبطلان العلم؟ وليس هذا يمنع من معرفة الحديث الصّحيح, بل كلّما كثر المجروحون قلّ الصّحيح, وكلّما قلّ سهل حفظه وأمكن /ضبطه, ¬
الحجة الثانية
والكلام من أصله إنّما هو متعسّر أو متعذّر. الحجة الثانية: وفد بني تميم (¬1). قال المعترض: إنه يلزم قبول حديثهم, وقد قال الله تعالى: {إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُم لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]. والجواب من وجوه: الأوّل: من أين صحّ أنّها نزلت فيهم؟ وأنّها نزلت بعد إسلامهم؟ والطّريق إلى صحّة ذلك عندك مشكوك في إمكانها وتعذّرها كما في سائر الأخبار. الثّاني: من أين صحّ فيهم (¬2) أن نداءهم له - عليه السلام - من وراء الحجرات كان بعد إسلامهم؟ وما المانع أن يكون قبله فيكون ذمّهم على فعل فعلوه قبل الإسلام, فلا يستحقّون الذّم بعد الإسلام, فإنّ الإسلام يجبّ ما قبله من الكفر والكبائر, كيف ما لا يعلم أنّه من ذلك؟ ونزول الآية بعد إسلامهم لا يصلح مانعاً في ذلك كما نزل بعد التّوبة على آدم - عليه السلام - قوله تعالى: قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]. الثالث: أنّ قوله تعالى: {أَكْثَرُهُم لاَ يَعْقِلُونَ?} [الحجرات:4] ليس على ظاهره, لوجهين: أحدهما: أنّهم مكلّفون, وشرط التّكليف العقل. ¬
وثانيهما: أنّه سبحانه وتعالى لا يذمّ ما لا يعقل كما لا يذمّ الأنعام لعدم العقل, إذ من لا عقل له لا ذنب له في عدم العقل, وإنّما قال الله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44]. ذمّاً للغافلين عن تدبّر الآيات, لا ذمّاً للأنعام السّائمات (¬1). إذا ثبت ذلك فالمراد ذمّهم بالجفاوة, وعدم الفهم للعوائد الحميدة (¬2) , وآداب أهل الحياء والمروءة, وهذا ليس من الجرح في شيء, فإنّ لطف الأخلاق, والكيس في الأمور, ليس من شروط الرّواية, لأنّ مبني الرّواية على ظنّ الصّدق, وأولئك الأعراب لا سيما ذلك الزّمان كانوا من أبعد النّاس عن الكذب والظّنّ لصدقهم قوي, لا سيّما في الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - , ولابدّ إن شاء الله تعالى من الإشارة إلى أنّ الكذب على الله ورسوله أبعد ما يجوز وقوع المسلم فيه من المعاصي في غالب الأحوال, إلا أعداء الله تعالى من الدّجالين الكذّابين خذلهم الله تعالى. الوجه الرّابع: أنّ صدور مثل هذه القوارع على جهة التّأديب للجاهلين والإيقاظ للغافلين من الله تعالى, أو من رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يدلّ على فسقه وخروجه من ولاية الله تعالى, فقد نزل من الآيات القرآنية ما فيه تقريع لبعض الصّالحين, وتأديب لبعض الأنبياء والمرسلين, وقد قال الله تعالى لخيار المهاجرين والأنصار: {لَولاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فِيمَا ¬
أَخَذْتُم عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] , وأنزل الله في الممتحنة في شأن حاطب بن أبي بلتعة, وشدّد فيها على من والى أعداء الله تعالى, ولم يكن ذلك جرحاً في حاطب, فقد عذره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهى عنه عمر - رضي الله عنه - , وقال له: ((إنّك لا تدري لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) (¬1). وقد ثبت في ((صحيح مسلم)) (¬2) مرفوعاً: أنّ حاطباً يدخل الجنة - رضي الله عنه -. وقد نزل الوعيد في رفع الأصوات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فأشفق بعض أصحابه -رضي الله عنهم- من ذلك, وكان جهوري الصّوت (¬3) , ولم يكن شيء من ذلك جرحاً في أحد من أولئك. وقد أنزل الله تعالى سورة (عبس) في تأديب صفوته من خلقه - صلى الله عليه وسلم - وأنزل في أوّل أنبيائه آدم - عليه السلام -: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]. ¬
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر -الذي ورد فيه أنّه: ((ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة منه)) (¬1) -: ((إنّك امرؤٌ فيك جاهليّة)) /قاله - عليه السلام - وقد سبّ امرأة, رواه البخاري (¬2). وقد روى عن علي أنّه قال لابن عبّاس -رضي الله عنهم- وقد راجعه في المتعة: ((إنّك امرؤٌ تائه)) (¬3) , ولم يدلّ شيء من ذلك على الجرح, فكذلك الآية (¬4). ¬
الحجة الثالثة
الوجه الخامس: أنّ هذا يؤدّي إلى جرح قبيلة من قبائل المسلمين, وهذا لا يصحّ عند أحد من أهل العلم, لأنّ العادة الغالبة تمنع من وجود [مثل ذلك] (¬1) , ولهذا لم يقع إلى الآن من أوّل الإسلام. الوجه السّادس: سلّمنا أنّ ذلك الجرح مانع من قبول الرّواية, فإنّما يستلزم ترك حديثهم, وترك حديثهم متيسّر غير متعسّر ولا متعذّر, فما وجه الاحتجاج بذلك على تعسّر معرفة الحديث وتعذّرها إذا تركنا حديث وفد تميم؟!. الحجة الثّالثة: وفد عبد القيس, ولم أعلم وجه تخصيصهم بالذّكر؛ فإنّهم من جملة الأعراب, إلا أنّه ارتدّ بعضهم بعد الإسلام. والجواب على ما ذكره من وجوه: الأوّل: أنّ إسلامهم يقتضي قبول حديثهم ما داموا مسلمين؛ وردّتهم تقتضي ردّ حديثهم من حين ارتدوا, ولا مانع من ورود التّعبّد بهذا في العقل ولا في الشّرع المنقول بالتواتر المعلوم بالضّرورة معناه, بل قد بيّنّا فيما تقدّم قبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن أسلم عقيب إسلامه, والدّليل عام لوفد عبد القيس ولغيرهم. الثّاني: إمّا أن يكون المعترض أنكر قبولهم لأنّ من أسلم لا يقبل حتّى يخبر, أو لأنّهم ارتدّوا بعد الإسلام؟ إن كان الأول فلم خصّهم بالذّكر؟ ولم أنكر ذلك المذهب وقد بيّنّا أنّه قول الجمهور, وأنّه ¬
بالأدلة الأثريّة والنّظريّة منصور؟ أقصى ما في الباب: أنّه لم يترجّح للمعترض موافقة الجماهير من علماء الإسلام, لكن لا يحل له الإنكار عليهم. وإن كان يوافق على أن قبول المسلمين ذلك الزّمان قبل الاختبار مذهب صحيح, غير مدفوع ولا منكر, وإنما الذي أنكره قبول المسلم الذي يريد أن يرتدّ بعد إسلامه, فهذا لا يصح لأمرين: أحدهما: أنّ العلم بأنّه يريد أن يرتد من قبيل علم الغيب الذي استأثر الله به, وقد حكم عليّ - رضي الله عنه - بشهادة رجلين, ثمّ انكشف أنّهما [شهدا زوراً] (¬1) فلم يلزمه أحد بذلك محذوراً. وثانيهما: أنّ العدل المخبور إذا فسق بعد العدالة لم يقدح ذلك في شهادته وروايته قبل الفسق, وقد ثبت أنّ المسلمين في ذلك الزّمان عدول عقيب إسلامهم, فإذا كفروا بعد العدالة لم يقدح كفرهم فيهم قبل أن يكفروا, ولا قال أحد بأنّ الكفر يقدح في الرّاوي قبل أن يكفر. الثّالث: سلّمنا أنّ وفد عبد القيس مجاهيل أو مجاريح, فما لمعرفة الحديث والتّعذّر أو التعسّر, وأحاديث الصّحابة الكبار هي المتداولة في كتب الحديث والفقه والتّفسير, وأحاديث الأعراب الجفاة غير معروفة إلا أن يكون شيئاً نادراً, وعلى تقدير كثرتها فتركها لا يكون سبباً لتعذّر معرفة الحديث, ولا تعسّرها, بل ذلك من أسباب السّهولة كما بيّنّا, وترك الكثير في السّهولة مثل ترك اليسير, وإنّما يختلف في ذلك حفظ الكثير واليسير, وتمييز أحاديث كبار الصّحابة ¬
عن أحاديث جفاة الأعراب ممكن غير متعذّر, فرجال السّنّة قد صنّفوا كتباً كثيرة في معرفة الصّحابة وبيّنوا فيها من هو معروف العدالة من الأصحاب, ومن لا يعرف إلا بظاهر حاله من الاعراب, ومن له رواية /عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن ليس له رواية, ومن أطال الصّحبة, ومن لم يطلها, بل تعرّضوا فيها لبيان السّابق من المسبوق, والأفضل من المفضول, والأقضى والأحفظ والأذكى, بل هم بعد هذا يبرزون صفحة الإسناد للنّقّاد, ولا يكتمون شيئاً مما قيل في رجال الحديث وعلله على سبيل الإرشاد, لمن يحبّ التّرجيح في التّقليد والاجتهاد. وإنّما يلزم اختلاط أحاديث ثقات الأصحاب بأحاديث جفاة الأعراب لو أرسلوا الأحاديث ولم يسندوها, وقطعوها ولم يصلوها, فأين تعذّر معرفة الحديث؟ وما معنى التّشويش على طلبة الحديث بأنّ وفد عبد القيس ارتدّوا؟! وإذا ارتدّ وفد عبد القيس فمه؟! أتبطل السّنن, ويضيع العلم, ويلزم من ذلك ألا يصحّ حديث الثّقات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ما هذا الكلام [المعتلّ, والاستدلال] (¬1) المختلّ؟. وهذا ذكر جلّة الرّواة من الصّحابة -رضي الله عنهم-, رأيت ذكر أسمائهم ليعرف أنّ حديثهم هو الذي يدور عليه الفقه وينبني عليه العلم, وأنّ أحاديث جفاة الأعراب المجاهيل شيء يسير نادر على تقدير وقوعه, فيعلم أنّه لم يُبنَ على حديث جفاة الأعراب حكم شرعي, فإن اتّفق ذلك ففي نادر الأحوال ممن يستجيز ذلك من أهل العلم من غير ضرورة إلى ذلك. فإنّه لو لم يستجز الرّواية عنهم كان له ¬
في القرآن وما صحّ من السّنّة والإجماع, وصحيح القياس غنية وكفاية. وإذا أردتّ أن تعرف صدق هذا الكلام فأرنا المسائل التي احتجّ عليها الفقهاء والمحدّثون بأحاديث الجفاة من الأعراب من غير عموم من القرآن, ولا شاهد من سائر الأدلّة, وفي عدم ذلك أو نذرته ما يدلّك على ما ذكرناه من أنّ جلّة الرّواة هم عيون الأصحاب لا جفاة الأعراب, فدع عنك هذه الشّبه الضّعيفة, والمسالك الوعرة (¬1) , وإمّا أن يكون من أهل العلم المجدّدين لما درس من آثاره, المجتهدين [في الردّ على] (¬2) من أراد خفض ما رفع الله من مناره, وإلا فبالله عليك أرحنا من تعفيتك لرسومه وتغييرك لوجوهه, فحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركن الشريعة المطهّرة المحفوظة إلى يوم القيامة, وليس يضرّ أهل الإسلام جهالة بعض الأعراب, فلنا من حديثهم غنية بما رواه عيون الأصحاب مثل: الخلفاء الراشدين الأربعة المهديّين -رضي الله عنهم- وسائر إخوانهم العشرة المشهود لهم بالجنّة, وقد جمعتهم في بيت واحد فقلت: ¬
للمصطفى خير صحب نصّ أنّهم ... في جنّة الخلد نصّاً زادهم شرفاً هم طلحة وابن عوف والزّبير مع ... أبي عبيدة والسّعدان والخلفا ومثل: الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة, وأمّهما سيدة النّساء-رضي الله عنهم- ومثل من لا يتّسع لذكره هذا ((المختصر)) من نبلاء المهاجرين والأنصار, مثل: عمّار بن ياسر, وسلمان الفارسي, وذي الشّهادتين: خزيمة بن ثابت, وخادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنس بن مالك, وأمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وحبر الأمّة المفقّه في الدّين المعلّم التأويل ابن عبّاس رضي الله عنهما, ووالده العبّاس, وأخيه الفضل, وجابر بن عبد الله, وأبي سعيد الخدري, وصاحب السّواك (¬1) عبد الله بن مسعود, وعبد الله بن عمر بن الخطاب, والبراء بن عازب, وأم سلمة أمّ المؤمنين, وأبي ذر الغفاري الذي نصّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنّ السّماء لم تظل أصدق لهجة منه)) (¬2) , /وعبد الله بن عمرو الذي أذن له - عليه السلام - بكتابة حديثه الشريف (¬3) , وكتب ما ¬
لم يكتبه غيره؛ فاستكثر من طيّب, وأبي أمامة الباهليّ, وحذيفة بن اليمان, والحافظ الكبير: أبي هريرة الدّوسيّ الذي قرأ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نمرته, ثمّ أمره فلفّها فلم ينس شيئاً مما سمعه منه - صلى الله عليه وسلم - (¬1) , وأبي أيّوب الأنصاريّ, وجابر بن سمرة الأنصاريّ, وأبي بكرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وأسامة بن زيد مولاه - عليه السلام - , وأبي مسعود الأنصاريّ البدريّ, وعبد الله بن أبي أوفى, وزيد بن ثابت, وزيد بن خالد, وأسماء بنت يزيد بن السّكن, وكعب بن مالك, ورافع بن خديج, وسلمة بن الأكوع, وميمونة أمّ المؤمنين, وزيد بن أرقم, وأبي رافع مولى النّبي - صلى الله عليه وسلم - , وعوف بن مالك, وعديّ بن حاتم, وأمّ حبيبة أمّ المؤمنين, وحفصة أمّ المؤمنين, وأسماء بنت عميس, وجبير بن مطعم, وذات النّطاقين أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق, وواثلة بن الأسقع, وعقبة بن عامر الجهني, وشدّاد بن أوس الأنصاري, وعبد الله بن يزيد, والمقدام أبي كريمة (¬2) , وكعب بن عجرة, وأمّ هانىء بنت أبي طالب, وأبي برزة, وأبي جحيفة, وبلال المؤذن, وجندب بن عبد الله بن سفيان, وعبد الله بن مغفّل, والمقداد, ¬
ومعاوية (¬1) بن حيدة, وسهل بن حنيف, وحكيم بن حزام, وأبي ثعلبة الخشني, وأمّ عطيّة, ومعقل بن يسار, وفاطمة بنت قيس, وعبد الله بن الزّبير, وخبّاب بن الأرت, ومعاذ بن أنس, وصهيب, وأمّ الفضل بنت الحارث, وعثمان بن أبي العاص الثقفي, ويعلى بن أميّة, [وعتبة بن عبد] (¬2) , وأبي أسيد السّاعديّ, وعبد الله بن مالك بن بُحينة (¬3) , وأبي مالك الأشعري, وأبي حميد السّاعديّ, ويعلى بن مرّة, وعبد الله بن جعفر, وأبي طلحة الأنصاريّ, وعبد الله بن سلام, وسهل بن أبي حثمة, وأبي المليح الهذلي, وأبي واقد اللّيثي, ورفاعة بن رافع, وعبد الله بن أنيس, وأوس بن أوس, وأمّ قيس بنت محصن, وعامر بن ربيعة, وقرّة, والسّائب, وسعد بن عبادة, والرُّبيّع بنت معوّذ, وأبي بردة, وأبي شريح, وعبد الله بن جراد, والمسور بن مخرمة, وصفوان بن عسّال, وسراقة بن مالك, وسبرة بن معبد الجهني, وتميم الدّاري, وعمرو بن حريث بن خولة الأزديّ, ¬
وأسيد بن الحضير (¬1) , والنّوّاس بن سمعان الكلابي, وعبد الله بن [سرجس] (¬2) , وعبد الله بن الحارث بن جزء, والصّعب بن جثّامة, وقيس بن سعد بن عبادة, ومحمد بن مسلمة, ومالك بن الحويرث الليثي, وأبي لبابة بن [عبد المنذر] (¬3) , وسليمان بن صرد, وخولة بنت حكيم, وعبد الرّحمن بن شبل, وثابت بن الضّحّاك, وطلق بن عليّ, وعبد الرّحمن بن سمرة, و [الحكم] (¬4) بن عمير, وسفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكعب بن مرّة, وأبي محذورة, وعروة بن مضرّس, ومجمع بن جارية (¬5) , ووابصة بن معبد الأسديّ, وأبي اليسر, وأبي ليلى الأنصاري, ومعاوية بن الحكم, وحذيفة بن أسيد الغفاريّ, وسلمان بن عامر, وعروة البارقيّ, وأبي بصرة الغفاري, وعبد الرحمن بن أبزى, وعمرو بن سلمة (¬6) , وسبيعة الأسلميّة, ¬
وزينب بنت جحش أمّ المؤمنين, وضباعة بنت الزّبير بن عبد المطلب, وبسرة بنت صفوان, وصفيّة أمّ المؤمنين, وأمّ هاشم بنت حارثة الأنصاريّة, وأمّ كلثوم, وأمّ كرز, وأمّ سليم بنت ملحان, وأمّ معقل الأسديّة. وضِعف هؤلاء, بل أكثر من ضعفهم ممّن لو ذكرناهم على الاستقصاء لطال ذكرهم وطاب نشرهم, فطالعهم -إن شئت- في كتاب ابن عبد البرّ ((الإستيعاب)) وغيره من كتب معرفة الأصحاب, فمعرفتهم أحد أنواع علم الحديث كما ذكره المصنّفون فيها كـ ((ابن الصّلاح)) (¬1) /وزين الدين العراقي (¬2) , وغير واحد. وقد ألّفوا في معرفة الصّحابة كتباً كثيرة. فمنها: ((الصّحابة)) (¬3) لابن حبّان مختصر في مجلد. و ((معرفة الصّحابة)) (¬4) لابن منده, كتاب جليل, ولأبي موسى ¬
المدينيّ عليه ذيل (¬1) كبير. ومنها: ((الصّحابة)) (¬2) لأبي نعيم الأصبهاني, جليل القدر, ومنها ((معرفة الصّحابة)) (¬3) للعسكري. ومنها كتاب أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الأثير [الجزريّ] (¬4) المسمّى بـ ((أسد الغابة في معرفة الصّحابة)) (¬5) وهو أجمع كتاب في هذا, جمع فيه بين كتاب ابن منده, وذيل أبي موسى عليه, وكتاب أبي نعيم, و ((الاستعياب)) , وزاد من غيرها أسماء. واختصره (¬6) جماعة, منهم: الحافظ أبو عبد الله الذّهبيّ في ¬
مختصر لطيف (¬1) , وذيّل عليه [زين الدّين بعدّة أسماء] (¬2) لم تقع له (¬3). ومنهم: الكاشغريّ (¬4). وقد ذكروهم أيضاً في تواريخ الإسلام (¬5) , وكتب رجال الكتب الستة (¬6) , وأنفس كتاب فيهم كتاب: عزّ الدّين بن الأثير (¬7) , وكتب الحافظين الكبيرين: أبي الحجّاج المزّيّ, وتلميذه أبي عبد الله الذّهبيّ, فبمعرفة هذه الكتب الحافلة أو بعضها يتميّز لك الصّحابي من الأعرابيّ, بل يتميّز معرفة الفاضل من ¬
المفضول, والسّابق من المسبوق, فقد بيّن علماء الحديث -في كتب ((علوم الحديث)) على الإجمال, وفي كتب ((معرفة الصّحابة)) على التّفصيل- أنهم رضي الله عنهم ينقسمون إلى اثنتي عشرة طبقة: الأولى: قدماء السّابقين الذين أسلموا بمكّة كالخلفاء الأربعة ... -رضي الله عنهم-. الثانية: أصحاب دار النّدوة. الثالثة: مهاجرة الحبشة. الرّابعة: أصحاب العقبة الأولى. الخامسة: أصحاب العقبة الثانية. السّادسة: أوّل المهاجرين الذين وصلوا إليه - عليه السلام - إلى قباء قبل أن يدخل المدينة. السّابعة: أهل بدر. الثامنة: المهاجرين بين بدر والحديبية. التّاسعة: أهل بيعة الرّضوان. العاشرة: من هاجر بين الحديبية وفتح مكة. الحادية عشرة: مسلمة الفتح. الثّانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح, وفي حجة الوداع وغيرهما.
قال ابن الصّلاح (¬1): ((ومنهم من زاد على ذلك)). وأمّا ابن سعد فجعلهم خمس طبقات فقط. قال ابن عبد البرّ في خطبة ((الاستيعاب)) (¬2): ((قال الله جلّ ذكره: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُمُ تَرَاهُم رُكَّعاً سُجَّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] , إلى أن قال: وليس كذلك جميع من رآه وآمن به وسترى منازلهم من الدّين والإيمان, والله تعالى قد فضّل بعض النّبيين على بعض, وكذلك سائر المسلمين, والحمد لله رب العالمين)) تمّ مختصراً, وفيه ما يدلّ على معرفتهم بدقائق تفاصيل التّفضيل, وتمييزهم للمشاهير عن المجاهيل. فيا أيها المعترض على أهل السّنّة بأحاديث جفاة الأعراب, واختلاطها بأحاديث الأصحاب, خذ من أحاديث هؤلاء الأعلام ما صفا وطاب, وأجمع على الاعتماد عليه أولوا الألباب, ودع عنك التّشكيك في صحّة السّنن /والاتياب, والتردد في ثبوت الآثار والاضطراب, وليأمن خوفك من ضياع السّنّة والكتاب, ولتطب نفسك بحفظ ما ضمن حفظه ربّ الأرباب. قال: المسألة الثّانية: إن قيل: الصّحيح من حديث الرّسول ما أخرج البخاري ومسلم وأبو داود, وكذلك أصحاب الصّحاح, وهي معروفة عند المحدّثين والفقهاء, وفي بعضها خلاف. وأمّا ما روي في ¬
قول المعترض بأن أصحاب الصحاح قصدوا حصر الصحيح والرد عليه
غير تلك الكتب فليس بصحيح -إلى قوله- أمّا هذا الفصل (¬1) فزعم القائل به أنّ مؤلّفي الصّحاح أعرف النّاس به, وقد تعرّضوا لحصر (¬2) الصّحيح, فما لم يذكروه فليس بصحيح, إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى. أقول: كلام المعترض هنا لا يحتاج إلى جواب أكثر من تعريفه [بأنّه] (¬3) أفرط في الجهل, ورمى أهل الحديث بما نصّوا على البراءة منه نصوصاً كثيرة متواترة, فممّن نصّ على ذلك البخاري ومسلم: أمّا البخاريّ فإنّه اشتهر عنه أنّه خرّج صحيحه من مائة ألف حديث صحاح (¬4) , مع أنّ صحيحه لا يشتمل إلا على قدر أربعة آلاف (¬5) حديث من غير المكرّر, وهذا في رواية الفِربريّ, ورواية ¬
حمّاد بن شاكر دونها بمئتي حديث, ودون هذه بمئة حديث رواية إبراهيم بن معقل (¬1) , فمن نصّ على أنّه أخرج أربعة آلاف حديث من مئة ألف صحاح كيف ينسب إلى دعوى حصر الصّحيح؟!. وأمّا مسلم؛ فروى النّواوي عنه في ((شرح مسلم)) (¬2) النّصّ الصّريح على أنّه ما قصد حصر الصّحيح, وكذا روى النّواويّ في ((الشّرح)) (¬3) إنكار ذلك على ابن وارة وأبي زرعة, وذكر الحاكم أبو عبد الله في خطبة ((المستدرك)) (¬4) أنّ البخاريّ ومسلماً (¬5) ما ادّعيا ذلك, وقد نصّ على ذلك علماء الحديث: منهم ابن الصّلاح, وزين الدّين, والحاكم وغيرهم, ولم يختلفوا في ذلك, وإنّما اختلفوا في عدد أقسام الصّحيح. فالحاكم عدّ أقسامه عشرة (¬6) , وجعل حديث البخاريّ ومسلم ¬
قسماً منها, وابن الصّلاح وزين الدّين [جعلا] (¬1) أقسام الصّحيح سبعة أقسام (¬2) , و [جعلا] حديث البخاري ومسلم ثلاثة أقسام: ما اتفقا عليه قسماً, وما انفرد به كلّ واحد منهما قسماً, وابن الأثير في ((الجامع)) (¬3) تبع الحاكم في تقسيمه المذكور. ولم يزل علماء الحديث وأئمّته يستدركون على صاحبي الصّحيح ما تركاه مما هو على شرطهما, ويحتجّون بما حكم بصحّته غيرهما كالبرقانيّ, وابن خزيمة, وابن حبان, والدّارقطنيّ, والبيهقي, والحاكم, وعبد الغني المقدسيّ, وعبد الحقّ, وتقيّ الدين ابن دقيق العيد, وابن سيّد النّاس, وأبي الحسن بن القطّان, والزّكيّ عبد العظيم وغيرهم, وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تطويل, ومعلوم لا يفتقر إلى دليل. وليس يصحّ في الأفهام (¬4) شيء ... إذا احتاج النّهار إلى دليل قال: وأمّا الفصل الأوّل -وهو أنّ كلّ ما في هذه الكتب فهو صحيح- ففيه موضعان: الأوّل: في حكاية المذهب, والثّاني: في ¬
دعوى المؤلف على ابن الصلاح بأن ما في الكتب الستة صحيح, والجواب عنه وهو البحث الأول
الدّليل. أمّا الأوّل فقد ذهب قوم إلى ذلك, وممّن قال به ابن الصّلاح /وحكى عن إجماع الفقهاء أنهم أفتوا من حلف بطلاق امرأته إن لم يكن [ما] (¬1) بين دفّتي ((صحيح البخاري)) قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ امرأته لا تطلق. وليت شعري كيف كان هذا الإجماع؟ أكان بأن طاف هذا السّائل جميع البقاع, أم بأن جُمع له علماء الأمّة في صعيد واحد وأذّن فيهم بهذا السّؤال, وأجابوه جميعاً بأنّ امرأته له حلال؟ وأيّ إجماع صحيح بغير علماء أهل البيت الأطهار, وشيعتهم الأخيار؟ أقول: الجواب على هذا الكلام يظهر بإيراد مباحث: البحث الأوّل: أنّ المعترض روى عن ابن الصّلاح, وعن قوم مجاهيل القول بأنّ جميع ما في هذه الكتب صحيح, والظّاهر أنّه أراد بهذه الكتب (¬2): الكتب السّتّة؛ لأن الرّجل نصّ في كتابه ((علوم الحديث)) (¬3) أنّ كتب (السّنن الأربعة) يدخلها ما هو ضعيف, وإنّما تكلّم الرّجل في صحّة المسند من البخاري ومسلم دون التّعاليق (¬4) كما ¬
البحث الثاني
سيأتي بيانه -إن شاء الله-, فالمعترض إن كان جهل الفرق بين السّتّة والاثنين, فليس من العقلاء, وإن كان حسب أنّ مثل هذا التّجاهل يمضي على أهل الحديث فليس من الفطناء. وأمّا القوم المجاهيل الذين نسب هذا المذهب الغريب إليهم: فإن كان يريد أنّهم أهل الحديث (¬1)؛ فنصوصهم على خلاف ذلك تشهد بتكذيب المعترض عليهم, وتكفي في تسويد وجه المعترض نسبة (¬2) ذلك إليهم, فإنّهم قد نصّوا في كتب علوم الحديث, وذِكر شروط الأئمّة على خلاف ذلك, وإن كان يريد أنّ أولئك القوم من غير أهل الحديث؛ فما الموجب للاعتراض على أهل الحديث بذلك؟!. البحث الثاني: أنّه حكى عن ابن الصّلاح: أنّه الذي روى الإجماع على أنّ الحالف بصحّة ما في البخاريّ لا تطلق زوجته, والذي روى الإجماع على ذلك هو الحافظ أبو نصر السّجزيّ, وإنّما روى ابن الصّلاح ذلك عنه (¬3) , وهذا يدلّ على عدم تثبّت المعترض في النّقل, وبناءه لكثير من كلامه على الوهم والجهل, ومن كان كذلك لا يصلح منه مناظرة الفطناء ومعارضة العلماء. البحث الثالث: أنّه أثبت في كلامه سائلاً سأل الأمّة, والرّجل لم ¬
البحث الرابع
يقل إنّ أحداً سأل الأمّة, وإنّما قال: لو أنّ رجلاً سأل الفقهاء, فلو كان يلزمه ثبوت ما بعد ((لو)) لزم مثله (¬1) في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] , والمعترض من المتصدّرين للتّدريس في غوامض العربيّة؛ فكيف نسي أنّ ((لو)) تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره؟. البحث الرّابع: أنّ كلامه في القدح في الإجماع يلزمه زيادة شروط في صحّة الإجماع لم يشترطها أحد. أحدها: أنّه يشترط في راوي الإجماع أن يطوف جميع البقاع, أو تجمع له الأمّة (¬2) في صعيد واحد. الثّاني: أن يؤذّن فيهم بالحادثة. الثّالث: أن يجيبوه جميعاً, ولا يكون فيهم من سكت (¬3) في تلك الحال, ثمّ أجاب بعد ذلك أو روى مذهبه بواسطة. وهذا كلّه مجرّد تشنيع لا يفيد, وتهويل لا يمضي. البحث الخامس: أن المعترض قد ادّعى في كتابه إجماعات كثيرة ولم يحصل فيها شيء من /هذه الشّرائط, وهذا من الحيف الذي لا يرتضيه أهل التمييز في المباحث العلميّة. البحث السّادس: أنّه روى عن ابن الصّلاح في أوّل كلامه أنّه ¬
البحث السابع
ادّعى إجماع الفقهاء, ثمّ ألزمه أن يجمع له جميع الأمّة في صعيد (¬1) , ومن لم يفرّق بين الأمّة والفقهاء فليس بأهل لمراسلة العلماء, فإن الفقهاء لا تكون جزءاً من ألف جزء من الأمّة ولا ما يقارب ذلك. البحث السّابع: قال: وأيّ إجماع صحيح بغير أهل البيت وشيعتهم؟!. قلنا: ومن أين يلزمه دخولهم (¬2)؟ وأنت إنّما رويت عنه دعوى إجماع الفقهاء, وأهل البيت عندكم لا يدخلون في ذلك عرفاً ولا لغة, فإنّكم تروون الخلاف بين أهل البيت والفقهاء, كما أنّ أهل البيت لا يدخلون في المحدّثين وإن كانوا يعرفون الحديث ولا في القرّاء والنّحاة ونحو ذلك, والفقهاء عندكم اسم مختصّ في العرف بأئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم. البحث الثّامن: أن الرّجل ادّعى إجماع العلماء لا إجماع الفقهاء, ولكن المعترض لا يدري ما ينقل ولا يعقل ما يقول!. البحث التّاسع: من أين عرفت أنّ أهل عصر من علماء أهل البيت والشّيعة لم يجمعوا على صحة حديث البخاريّ؟ وما آمنك أنّهم قد أجمعوا على ذلك, وأنّك جهلت إجماعهم عليه؟ ألا ترى أنّ كثيراً ¬
البحث العاشر
من علماء أهل البيت والشّيعة ادّعوا الإجماع على قبول أهل التّأويل كما سيأتي ذكره, وأنت جهلت ذلك؟. وأقصى ما في الباب أنّك طلبت فلم تجد, فليس عدم الوجدان يدلّ على عدم الوجود, وأنّك وجدت في ذلك خلافاً فليس ذلك يمنع من ثبوت الإجماع عند كثير من أهل العلم, وذلك حيث يكون المخالف من أهل عصر, والمجمعون أهل عصر آخر, لا سيّما إذا كانوا متقدّمين والمخالف بعدهم, و (¬1) يكون المخالف شاذّاً نادراً, [أو] يكون ممن لا يعتدّ بخلافه, [أو] (¬2) ينعقد الإجماع على رأسه لأحد الأسباب المذكورة في كتب الأصول. ومع هذه الاحتمالات؛ كيف يحسن ممّن يدّعي الذّكاء والمعرفة أن يعترض على من يدّعي (¬3) الإجماع؟ والاعتراض على هذا الوجه المقتضي لتقبيح الخلاف لا يحسن إلا فيما أدلّته برهانيّة قطعيّة دون المسائل الخلافيّة الظّنيّة. البحث العاشر: أنّك إمّا أن تقبّح [التّمسّك] (¬4) بالإجماع السّكوتي وتحرّم الاحتجاج له أو لا, إن حرّمته وقبّحته لزمك تأثيم أكثر الأمّة والأئمّة فإنّهم يقولون بصحّة الاحتجاج به, فقد ذكره الإمام المنصور بالله في: ((الصّفوة)) وغيره من أئمة الشّيعة وعلمائهم, ¬
وكذلك سائر علماء الفرق (¬1) , وأكثر الإجماعات المدّعاة لا تكون إلا منه. وإن كنت لا تنكر التّمسّك بالإجماع السّكوتي, ولا تحرّمه, فالظّاهر من [أقوال] (¬2) أئمّة الزّيديّة من أهل البيت وشيعتهم؛ موافقة سائر العلماء من المحدّثين والفقهاء وأهل السّنّة على ما /ادّعوه من صحّة الصّحيح من حديث هذه الكتب, وإنّما قلنا: إنّ الظّاهر إجماعهم على ذلك, لأنّ الاحتجاج بما صحّحه أهل هذه الكتب ظاهر في كتبهم, شائع بين علمائهم من غير نكير, فقد روى عنهم الإمام أحمد بن سليمان (¬3) في كتابه ((أصول الأحكام)) (¬4) على وجه يوجب القول بصحّتها, فإنّه صنّف كتابه في أحاديث الأحكام, وصرّح في خطبته بالرّواية منها, ولم يميّز حديثها من حديث أهل البيت, فتأمّل ذلك. وكذلك الإمام المنصور بالله في كثير من مصنّفاته, منها كتاب: ((العقد الثمين)) (¬5) , ونصّ فيه على صحّة أسانيدها. ¬
وكذلك الأمير العلاّمة الحسين بن محمد (¬1) في كتابه ((شفاء الأوام)) (¬2) الذي لم يصنّف أحد من الزّيديّة في الحديث مثله, فإنّه صرّح فيه (¬3) بالرّواية منها على سبيل الاحتجاج بحديثها, وكذلك صاحب ((الكشّاف)) فإنّه روى من ((صحيح مسلم)) وسمّاه: صحيحاً, وفي ((تعليق اللّمع)) الذي هو (¬4) مدرس الزّيديّة أنّه يكفي المجتهد في معرفة الحديث: ((الموطأ)) أو ((سنن أبي داود)) , ذكره الفقيه علي بن يحيى الوشلي (¬5) في تعليقه (¬6) , وكذلك قال القاضي العلاّمة عبد الله بن ¬
حسن الدّوّاري (¬1) في تعليقه على ((الخلاصة)) (¬2): إنه يكفي المجتهد ((أصول الأحكام)) , وأحد الكتب الصّحيحة المشهورة, وكذا قال علاّمة الشيعة: علي بن عبد الله بن أبي الخير (¬3) في تعليقه على ((الجوهرة)) (¬4): إنه يكفي المجتهد كتاب جامع لأكثر الأخبار الشّرعيّة كـ ((سنن أبي داود)) وغيره. فهذه كتب الزّيديّة المشهورة المتداولة بين علمائهم الأفاضل المدروسة على محقّقيهم الأواخر منهم والأوائل قد صرّحوا فيها بما يقتضي صحّة ((سنن أبي داود)) وأمثالها من كتب السّنن, فكيف بصحيحيّ البخاري ومسلم؟! وشاع ذلك وذاع ولم ينكره منهم أحد, فكيف تنكر على مدّعي الإجماع على صحّة مسند حديث البخاري ومسلم, وتقدح فيه بمخالفة أهل البيت وشيعتهم؟!. ¬
البحث الحادي عشر
وأقصى ما في الباب: أن ينقل إنكار ذلك عن بعض النّاس في بعض الأعصار, فذلك النقل في نفسه ظنّيّ نادر, واعتبار القدح بالنّادر الظّنّي في بعض الأعصار لا يقدح في إجماع أهل عصر آخر, فلا طريق إلى تكذيب مدّعي هذا الإجماع على اعتبار كثير من أهل العلم في طريق الإجماع, وقد رأينا كثيراً من أهل العلم يثبتون الإجماع السّكوتي بمثل هذا وبأقلّ من هذا. البحث الحادي عشر: أنّ الظّاهر إجماع الشّيعة من الفقهاء أن من حلف بالطّلاق على صحّة أمر, وهو يظنّ صحّته, ولم ينكشف بطلانه لم يحنث, لأنّ الأصل بقاء الزّوجيّة, فلا تبطل (¬1) بمجرّد الاحتمال المرجوح, كما لو حلف بطلاقها إن (¬2) خرجت من بيته, ولم يعلم خروجها, ولا علمت هي أنها خرجت, ولا ظنّا ذلك فإنّها لا تطلق. ولهذا تأوّل النّواويّ تخصيص ((البخاري)) /بذلك بأنّ المراد: أنّه لا يحنث باطناً ولا ظاهراً, ولا يستحب له الاحتياط؛ لأنّ الأمّة تلقته بالقبول فهو معلوم الصّحّة بطريق نظريّ, هذا تأويل النّوويّ لمدّعي الإجماع (¬3) , وليس هذا اختياره, فإنّ اختياره واختيار المحققين: أنّ ما تلقته الأمّة بالقبول يفيد الظّنّ ما لم يتواتر, وقد حكى النّواويّ القول الأوّل عن ابن الصّلاح ثمّ قال: ((وخالف ابن الصّلاح ¬
الأكثرون والمحققون)) (¬1). قلت: حجّة الجمهور أنّ الأمّة إنّما تلقّت الحديث الصّحيح بالقبول؛ لأنّهم ظنّوا صحّته, والعمل بالظّنّ واجب عليهم, والظّنّ قد يخطيء (¬2). قال ابن الصّلاح: ((وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويّاً, ثمّ بان لي (¬3) أنّ ظنّ من هو معصوم من الخطأ لا يخطىء)) (¬4). قلت: فتبيّن أنّ موضع النّزاع هو: أنّ ظنّ المعصوم هل يجوز أن يخطىء أم لا, وفيه دقّة, ويلزم منه أن لا يكون الإجماع حجّة في المسائل الظّنيّة, والحجج من الجهتين ظنّيّة, وقد بسطت القول فيها في ((العواصم)) (¬5) وإنّما قصدت عنا بيان ظهور ما أنكره المعترض من قول العلماء: إنّ الحالف بصحّة البخاري لا يحنث, فنحبّ منه أن ينقل لنا مذاهب العلماء الذين قالوا بحنث الحالف, وطلاق زوجته, ويعيّن من قال بذلك من أهل العلم حتّى يظهر المحقّ من المبطل. وهذا الموضع يحتمل ذكر فوائد ذكرتها في ((الأصل)) (¬6) منها ما ¬
بيان أقسام الحديث في كتب السنة, ثلاثة أقسام
ذكره النّوويّ في ((شرح مسلم)) , ومنها ما لم يذكره, ثمّ اختصرتها لأنّها لا [تتعلّق] (¬1) بنقض كلام المعترض. قال: والذي يذهب إليه علماؤنا ويجري على أصولهم أنّ في أخبار هذه الكتب: الصّحيح, والمعلول, والمردود, والمقبول. أقول: الجواب: أنّ حديث هذه الكتب منقسم إلى أقسام: أحدها: ما بيّنوا أنّه صحيح, وأجمعوا على صحّته, وهذا القسم العمل بمقتضاه واجب بلا خلاف بينهم, وإنّما اختلفوا في أنّه هل يفيد العلم القاطع, أو الظّنّ الرّاجح على ما مضى؟ ومن نازع في الإجماع فلمدّعي الإجماع أن يبحث عليه بأحد تلك الوجوه المتقدّمة, وهذا القسم هو أرفع أقسام الصّحيح السّبعة على ما بيّنه العلماء في كتب ((علوم الحديث)) (¬2). القسم الثّاني: ما اختلفوا في صحّته من أحاديث هذه الكتب, فيرجع فيه إلى كتب الجرح والتعديل, ثمّ يوزن عند التّعارض بميزان التّرجيح. القسم الثّالث: ما نصّ (¬3) علماء الحديث -أو أحدهم- على ضعفه, ولم يعارضهم من يقول بصحّته, فهذا لا يؤخذ به في الأحكام ¬
ويؤخذ به في الفضائل, فلا يخلو المعترض إمّا أن يريد أنّ المردود والمعلول في القسمين الأخيرين؛ فذلك مسلّم ولا خلاف فيه, أو يريد أنّه في القسم الأوّل؛ فذلك ممنوع, لأنّ المخالف إمّا أن يقرّ بورود التّعبّد بأخبار الآحاد, أو لا: إن لم يقرّ بذلك فليس ينبغي أن يراجع في هذا المقام, لأنّه فرع لذلك الأصل, ومن جحد الأصل لم يراجع في الفرع. وإن أقرّ بورود التّعبّد بأخبار الآحاد والعمل فيها بأقوى الظّنون /فلا يخلو: إمّا أن يقرّ أنّ أهل كلّ فنّ أعرف به, وأنّ المرجع في كلّ فنّ إلى أهله أو لا؛ إن لم يعترف بذلك؛ فهو معاند غير مستحق للمناظرة؛ لأنّ المعلوم من الفرق الإسلامية على اختلاف طبقاتها: الاحتجاج في كلّ فنّ بكلام أهله, ولو لم يرجعوا إلى ذلك لبطلت العلوم, لأنّ غير أهل الفنّ إمّا ألا يتكلموا فيه بشيء البتّة أو يتكلموا فيه بما لا يكفي ولا يشفي, ألا ترى أنّك لو رجعت في تفسير غريب القرآن والسّنّة إلى القرّاء, وفي القراءات إلى أهل اللّغة, وهي المعاني والبيان والنّحو إلى أهل الحديث, وفي علم الإسناد وعلل الحديث إلى المتكلمين, وأمثال ذلك لبطلت العلوم, وانطمست منها المعالم والرّسوم, وعكسنا المعقول, وخالفنا ما عليه أهل الإسلام. وإن اعترف المعترض بالحقّ, وأقرّ أنّ كلام أهل كلّ فنّ مقدّم في فنّهم على غيرهم, معتمد فيه على تحقيقهم, فلا شكّ أنّه قد اشتهر عند كل منصف ما لأهل الحديث من العناية التّامّة في معرفته, والبحث عن علله ورجاله وطرقه, والاختلاف الكثير الواقع بينهم كثير منه,
الدّال على عدم تقليد بعضهم في الحديث لبعض, وعدم المتابعة لمجرّد (¬1) العصبيّة, بحيث لو كانوا في القلّة في حدّ يمكن تواطؤهم على التّعصّب؛ لوجب ترجيح كلامهم, وقبول قولهم في فنّهم, كيف وهم من الكثرة في حدّ لا يمكن معه تواطؤهم على ذلك؛ لاختلاف أزمانهم وبلدانهم وأغراضهم وأديانهم! ومع ذلك فقد اشتهر عن أئمتهم القول بصحّة مسند ((صحيحي البخاري ومسلم)) , وادّعى غير واحد من ثقاتهم انعقاد الإجماع على ذلك؛ وخبر الثّقة في رواية الإجماع واجب القبول, كما هو المنصور المصحّح في موضعه من كتب الأصول (¬2). وعلى تسليم أنّه ليس بمقبول (¬3) , وأنّ ذلك الإجماع غير صحيح؛ فلا أقلّ من أن يكون ما ادّعي الإجماع على صحّته قول جماهير نقاد علم الحديث, وأئمة فرسان علم الأثر, وهذا من أعظم وجوه التّراجيح, بل أئمة علماء الأصول, والغوّاص على الدقائق والحقائق من أهل علوم المعقول, يقضون بوجوب التّرجيح بأخفّ أمارة, وأخفى دلالة تثير أقلّ الظّنّ, وتثمر يسير القوّة, فكيف بما نقّحه, وصحّحه (¬4) إمام الحفّاظ الثّقات, والنّقّاد الأثبات: محمد بن إسماعيل البخاري, ومسلم بن الحجّاج النّيسابوريّ, وانتقياه من ألوف أحاديث صحاح, مع تواتر إمامتهما وأمانتهما ونقدهما ومعرفتهما, ¬
الأحاديث المتكلم فيها في الصحيحين
فلو لم يتابعهما غيرهما لكان التّرجيح بهما كافياّ, والتّعويل على قولهما واجباً, كيف وقد خضعت لهما رقاب النّقّاد! وأطبق على تصحيح دعواهما أئمة علماء الإسناد!. فإن قلت: أليس قد اختلف في توثيق بعض رواتهما, وعلّل بعض الحفّاظ شيئاً من حديثهما, وصنّف الدّارقطنيّ في ذلك كتاب ((الاستدراكات والتّتبّع)) (¬1) وصنّف في ذلك أبو مسعود الدّمشقي (¬2) وأبو علي الغسّاني الجيّانيّ (¬3) , فكيف يصحّ مع ذلك دعوى الإجماع؟!. قلنا: قد ذكر العلماء في علوم الحديث, وشروح الصّحاح جميع ذلك, واستوعبوا الجواب عليه وبيّنوا القول فيه, ولابدّ من ذكر /نكتة يسيرة من ذلك على قدر هذا (المختصر) فأقول: اعلم أنّ المختلف فيه من حديثهما هو اليسير, وليس في ذلك ¬
اليسير ما هو مردود بطريق قطعيّة ولا إجماعيّة, بل غاية ما فيه أنّه لم ينعقد عليه الإجماع, وأنّه لا يعترض على من عمل به, ولا على من توقّف في صحّته, وليس الاختلاف يدلّ على الضّعف ولا يستلزمه, فقد اختلف في الرّاشدين الذين هم أفضل الصّحابة, وكفّرتهم طوائف الرّوافض والنّواصب والخوارج, وسلم من التّكفير والاختلاف من هو دون الخلفاء -رضي الله عنهم- من صغار الصّحابة, فليس مجرّد ذكر الاختلاف بضائر للثقات من رجال الصّحيحين, ولا مشعر بضعف حديثهم, وإنّما الحجّة في الإجماع لا في الخلاف, والإجماع لم ينعقد على ضعف شيء فيهما, وإنّما انعقد على صحّتهما إلا ما لا نسبة له إلى ما فيهما من الصّحيح, فإنّه وقع فيه الاختلاف الذي هو ليس بحجّة على الضّعف ولا على الصّحّة, إذ لو دلّ على شيء (¬1) لم يكن بأن يدلّ على الضّعف أولى من أن يدلّ على الصّحّة, إذ كلّ منهما قد قال به قائل, بل يكون القائل بالصّحّة أولى لأنّه مثبت, والمضعّف للحديث إذا لم يبيّن سبب التّضعيف ناف والمثبت أولى من النّافي. وقد ألف زين الدّين كتاباً في الجواب عن ذلك (¬2) , وذكر ¬
النوع الأول
النّووي في ((شرح مسلم)) (¬1) أنّه قد أجاب عن ذلك, أو عن أكثره في شرحه, على أنّ الأمر قريب في ذلك الخلاف, وهو ينحصر في نوعين: النّوع الأوّل: تعليل بعض أحاديثهما, ومثاله: أن يرفع الحديث بعض الثّقات ويقفه الباقون, أو يسنده ويرسلوه, ونحو ذلك من العلل, وهذا النّوع مما اختلف في القدح به, وأكثر علماء الأصول على أنّه لا يقدح في صحّة الحديث ولا في الرّاوي, وأكثر المحدّثين على القدح به في الحديث إذا غلب على الظّنّ وقوع الوهم فيه, وفي الرّاوي إذا أكثر من ذلك, ومذهب المعتزلة والزّيديّة: أنّه لا يقدح بهذا النّوع في الحديث ولا في الرّاوي. ومثال ما وقع في البخاري منه: ما أخرجه البخاري (¬2) عن الشّعبيّ عن جابر مرفوعاً: ((لا تنكح المرأة على عمّتها)) هذا حديث رواته ثقات, لكن له علّة وهي: أنّ المشهور عن الشّعبيّ أنّه رواه عن أبي هريرة لا عن جابر, وقد خرّجه البخاريّ كذلك أيضاً, لكنّه رأى أنّه لا مانع من كون الشّعبيّ يرويه عن جابر وأبي هريرة [معاً] (¬3) فرواه [عنه] (¬4) عنهما. ¬
والمحدّثون يرون أنّه لو كان يحفظه عنهما معاً لرواه كذلك لتلامذته وطلبة العلم منه, ولمن يقبل ذلك أن يقول: يحتمل أنّه ذكر تلك الطّريق الثّانية بعد نسيان, أو استفادها بعد جهل, أو تذكّرها بسبب سؤال عنها, أو ذكرها بحسب الدّاعي إلى ذكرها أو نحو ذلك, فمع هذه التّجويزات لا يحسن طرح مثل ذلك, فإن ترجّح طرحه لأحد؛ فلا وجه للاعتراض على من قبله, فبان لك أنّ الأمر في مثل هذا قريب النظر إلى الحديث في نفسه, وكذلك النّظر إلى راوي الحديث؛ لأنّه إنّما يدلّ على أنّ الثّقة وهم في روايته, والوهم جائز على الثّقات, /ولايقدح بمطلقه إجماعاً, بل ادّعى عبد الله بن زيد العنسي الإجماع على قبول حفظه أكثر من وهمه, ذكره في ((الدّرر المنظومة)) , وذلك هو المشهور في كتب الأصول, ولكن لم يصرّحوا بدعوى الإجماع عليه. وأمّا إذا استوى وهمه وحفظه؛ فاختلفوا: فالمشهور ردّ حديثه ببطلان رجحان صدقه, ومنهم من قال: لا يجوز ردّ حديثه لأنّ الأدلّة الموجبة لقبوله تعمّ هذه الصّورة, واستواء حفظه ووهمه لا ينتهض مخصّصاً مانعاً من العمل بالعام مسقطاً للتّكليف بقبوله, وممّن اختار هذا من الزّيديّة: عبد الله بن زيد في ((الدّرر)) , والإمام المنصور بالله في ((الصّفوة)) وإنّما أجمع العلماء على ردّ حديث من (¬1) وهمه أكثر من إصابته. وأمّا المحدّثون: فهم أكثر النّاس تشديداً في القدح بالوهم؛ ¬
لأنّهم يقدحون به متى كثر, وإن لم يكن أكثر من الصّواب, ولهذا تجد كثيراً من أئمة الجرح والتّعديل يتردّدون في الرّاوي فيوثّقونه مرّة ويضعّفونه أخرى, وذلك لأنّ دخول وهمه حيّز الكثرة مما لا يوزن بميزان معلوم, وإنّما يُظنّ (¬1) ويرجح فيه التّحرّي والاجتهاد, فصار النّظر فيه كنظر الفقهاء في الحوادث الظّنيّة, فلذا يكون لابن معين في الرّاوي قولان: التّوثيق والتّضعيف ونحو ذلك. ومنهم من يغلو و (¬2) يقدح بالوهم وإن لم يكثر, وإنّما يقدح بهذا من قلّ فقهه وبصره بمعنى العدالة, والاحتراز عن الوهم غير ممكن, والعصمة مرتفعة عن العدول, بل العصمة لا تمنع من الوهم إلا في التّبليغ, فقد وهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه صلّى بعض الفرائض على الكمال, فقال له ذو اليدين: ((أقصرت الصّلاة أم سهوت (¬3) يا رسول الله؟ فقال: كلّ ذلك لم يكن)) (¬4) الحديث, وهذا وهم, وبناء على ما اعتقده - صلى الله عليه وسلم - , والحديث في ((الصّحيح)) , وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله فلاناً لقد أذكرني آية كنت أُنسيتها)) رواه [مسلم] (¬5) , وفي ((الصّحيح)) (¬6) عن عائشة -رضي ¬
الله عنها- أنّها قالت في حق ابن عمر: ((ماكذب ولكنّه وهم)). وقد صحّ عن عمر - رضي الله عنه - أنّه نسي حديث التّيمّم الذي رواه عمّار (¬1) ولم يذكره بالتّذكير مع أنّه مما لا ينسى [مثله] (¬2) , ونسي أيضاً قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ} [الزمر:30] حتّى ذكّره ذلك أبو بكر - رضي الله عنه - حين خطب بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). بل نصّ القرآن على جواز النّسيان على أهل رتبة النّبوّة الذين هم أعلى طبقات البشر, فقال تعالى: {وَمَا أَرسَلنَا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيِّ/ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلقَى الشَّيطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلقِي الشَّيطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52]. أي: إذا تلا ألقى الشّيطان في تلاوته على سبيل السّهو, ثمّ ينسخ الله ذلك, يعرّف الله (¬4) الأنبياء والرّسل به, حتّى لا تبطل العصمة به عن الخطأ في التّبليغ. وقال سبحانه وتعالى في حقّ آدم - عليه السلام -: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115] , ولو أردنا أن نستقصي ما ورد في هذا الباب لطال الكلام, والمقصود بهذا أن القدح على رواة الصّحاح بالتّهمة لهم (¬5) بالوهم النّادر مما لا يقتضي جرحهم, ولا يقدح في حديثهم. ¬
النوع الثاني
النّوع الثّاني: مما قدح به على البخاريّ ومسلم: الرّواية عن بعض من اختلف في جرحه وتوثيقه, وقد ذكر النّووي في ((شرح مسلم)) (¬1) وذكر الجواب عنه بوجوه قد ذكرها أيضاً ابن الصّلاح (¬2): أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده, ولا يقال: الجرح مقدّم على التّعديل؛ لأنّ ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتاً مفسّراّ بسبب, وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذلك, وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب البغداديّ وغيره: ما احتجّ البخاريّ ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطّعن فيهم من غيرهم محمول على أنّه لم يثبت الطّعن المؤثر مفسّر السبب. انتهى كلام النّوويّ. قلت: فإن قيل: أليس قد ثبت في علوم الحديث أنّ الجرح الذي لم يفسّر سببه, وإن لم يجرح به لكنّه يوجب ريبة, فيجب التّوقّف عن قبول من قبل ذلك فيه, وعن ردّه؟. فالجواب: أنّ ذلك إنّما يوجب الرّيبة في غير المشاهير بالعدالة والثّقة, وأمّا من وثّقه أهل الخبرة التّامّة من أئمّة هذا الشأن؛ فإنّ الجرح المطلق لا يزيل ظنّ ثقته, ومن زال عنه ظنّ ثقته بالرّاوي كان له ترك حديثه, ولم يكن له الاعتراض على من قبله ممّن لم يؤثّر ذلك في ظنّه لثقة الرّاوي وأمانته. ¬
ألا ترى أنّهم قد اختلفوا [اختلافاً] (¬1) كثيراً في جرح حمزة بن حبيب أحد القرّاء السّبعة (¬2) , فلم يضرّه ذلك مع شدّة الاختلاف فيه (¬3) , بل انعقد الإجماع بعد ذلك على قبوله وتوثيقه, وكذلك كثير ممّن اختلف فيه من رواة البخاريّ ومسلم قد أجمع على قبوله وزال الخلاف, وأقلّ أحوال هذا الإجماع الظّاهر أن يكون مرجّحاً, فإنّ العلماء يتمسّكون في التّراجيح بأشياء ضعيفة لا تقارب هذا في القوة والله أعلم. وهذا من نفيس (علوم الحديث) ولطيف كلام أئمة أهل هذا الشأن. وممّن ذكر هذا الجواب الإمام الحافظ زين الدين ابن العراقيّ في ((تبصرته)) (¬4) لكنّه لم يستوفه. ¬
ومن لطيف علم هذا الباب: أن يعلم أنّ لفظة / ((كذّاب)) قد يطلقها كثير من المتعنّتين في الجرح على من يهم ويخطىء في حديثه, وإن لم يتبيّن أنّه تعمّد ذلك, ولا تبيّن أنّ خطأه أكثر من صوابه ولا مثله, ومن طالع كتب الجرح والتّعديل عرف ما ذكرته, وهذا يدلّ على أنّ هذا اللفظ من جملة الألفاظ المطلقة التي لم يفسّر سببها, ولهذا أطلقه كثير من الثّقات على جماعة من الرّفعاء من أهل الصّدق والأمانة, فاحذر أن تغترّ بذلك في حقّ من قيل فيه من الثّقات الرّفعاء, فالكذب في الحقيقة اللّغوية ينطلق على الوهم والعمد معاً ويحتاج إلى التّفسير, إلا أن يدلّ على التّعمد قرينة صحيحة (¬1). قال النّووي -رحمه الله تعالى-: الثّاني: أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشّواهد, وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصّحيح, منهم: مطر الورّاق, وبقيّة بن الوليد, ومحمد بن إسحاق بن يسار, وعبد الله بن عمر العمريّ, والنّعمان بن راشد, وأخرج مسلم عنهم في الشّواهد في أشباه لهم كثيرين. قلت: وقد صرّح مسلم بهذا كما يأتي في الوجه الرّابع, وقد استخرجت مثل ذلك للبخاري من وجه صحيح وهو: أنّه قد نصّ على تضعيف جماعة ثمّ روى عنهم في الصّحيح, ذكر ذلك الذّهبيّ في تراجمهم في ((الميزان)) (¬2) , ولم يذكر أنّ البخاريّ أخرج حديثهم ¬
متابعة, فدلّ هذا على أنّ صاحبي الصّحيح قد يخرجان من الطريق التي فيها ضعف, لوجود متابعات وشواهد, تجبر ذلك الضّعف, وإن لم تورد تلك المتابعات والشّواهد في ((الصحيحين)) قصداً للاختصار والتقريب على طلبة العلم, مع أن تلك المتابعات والشواهد معروفة في الكتب البسيطة والمسانيد الواسعة, وربّما أشار بعض شرّاح ((الصّحيحين)) إلى شيء منها. قال النّوويّ: الثّالث: أن يكون ضعف الضّعيف الذي احتجّ به طرأ بعد أخذه عنه, باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته, كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب, فذكر الحاكم أبو عبد الله (¬1): أنّه اختلط بعد الخمسين ومئتين بعد خروج مسلم من مصر, وهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة, وعبد الرزّاق, وغيرهما ممّن اختلط آخراً, ولم يمنع ذلك من صحّة الاحتجاج في ((الصّحيحين)) بما أخذ عنهم قبل ذلك. الرّابع: أن يعلو بالشّخص الضّعيف إسناده وهو عند من رواية الثّقات نازل فيقتصر على العالي, ولا يطوّل بإضافة النّازل إليه مكتفياً بمعرفة أهل الشأن في ذلك, وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصاً -يعني مسلم- وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثّقات أولاً ثمّ أتبعهم من دونهم متابعة, وكأنّ ذلك وقع منه بحسب حصول باعث النّشاط وغيبته. ¬
رُوّينا عن سعيد بن عمرو البرذعي أنّه حضر أبا زرعة وذكر ((صحيح مسلم)) وإنكار أبي زرعة عليه روايته عن أسباط بن [نصر] (¬1) , وقطن بن نسير, وأحمد بن عيسى المصريّ -إلى قوله- فقال: ((إنّما أدخلت (¬2) من حديث أسباط, وقطن, /أحمد: ما قد رواه الثّقات عن شيوخهم, إلا أنّه ربما وقع إليّ عنهم بالارتفاع, ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول, فأقتصر على ذلك, وأصل الحديث معروف من رواية الثّقات-إلى قوله-: فهذا مقام وعر, وقد مهّدته بواضح من القول لم أره مجتمعاً في مؤلف ولله الحمد)). انتهى كلام النّوويّ - رضي الله عنه - , وفيه ما يدلّ على أنّه لا يعترض على حفّاظ الحديث إذا رووا حديثاً عن بعض الضّعفاء, وادّعوا صحّته حتّى يعلم أنّه لا جابر لذلك الضّعف من الشّواهد والمتابعات, ومعرفة هذا عزيزة لا تحصل إلا للأئمّة الحفّاظ (¬3) , أهل الدّربة التّامّة بهذا الشأن. فقد رُئي عند (¬4) بعض الحفّاظ الجزء النّيف (¬5) و [العشرين] (¬6) من مسند أبي بكر الصّدّيق لا تزيد على خمسين حديثاً, أو لا تكون ¬
خمسين حديثاً؟ فقال: إنّ الحديث يكون عندي من مئة طريق, أو قال: إذا لم يكن عندي من مائة طريق, فهو عندي يتيم أو نحو هذا, رواه الذّهبيّ في ((التّذكرة)) (¬1) و ((الميزان)) (¬2). ومن الغرائب في هذا المعنى: أنّ كثيراً من أهل المعرفة بالحديث يذكرون أنّ حديث: ((الأعمال بالنيات)) حديث غريب ما رواه إلا عمر بن الخطّاب, ممّن نصّ على ذلك الحافظ أبو بكر أحمد بن عبد الخالق بن عمرو البزّار في ((مسنده)) (¬3) فإنّه ذكر أنّه لا يصح إلا من حديث عمر. قال حافظ العصر ابن حجر (¬4): ((وكأنّه أراد بهذا اللّفظ والسّياق, وإلا فقد رُوّينا معناه من حديث: أنس, وعبادة بن الصّامت, وأبي ذرّ, وأبي الدّرداء, وأبي أمامة, وصهيب, وسهل بن سعد, والنّواس بن سمعان, وغيرهم, ورُوّيناه بلفظ حديث عمر من حديث: عليّ بن أبي طالب, وأبي سعيد الخدريّ, وأبي هريرة, وأنس, وابن مسعود)). وأغرب من هذا أنّ الصّلاح -مع إمامته, وسعة معرفته- مثّل ¬
ما ينفرد به الثّقة من الزّيادة في الحديث بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر: ((أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على كلّ حرّ أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين)) (¬1) فذكر ابن الصّلاح -وهو من أهل المعرفة بالحديث- أنّ مالكاً تفرّد بلفظ: ((من المسلمين)) في الحديث, وأنّ عبد الله بن عمر, وأيّوب وغيرهما رووا هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر بغير هذه الزّيادة (¬2). وقال زين الدّين بن العراقي: ((هذا المثال غير صحيح, فقد تابع مالكاً على ذلك (¬3) عمر بن نافع, والضّحّاك بن عثمان, ويونس بن يزيد, وعبد الله بن عمر, والمعلّى بن إسماعيل, وكثير بن فرقد, واختلف في زيادتها على عبيد الله بن عمر وأيّوب)) (¬4). وكذلك أبو عبد الله الذّهبي فإنّه قال في حديث أبي هريرة المرفوع: ((ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به)) (¬5) الحديث, قال الذّهبيّ في ((الميزان)) (¬6): ((لولا هيبة الجامع الصّحيح لعدّوا هذا ¬
الحديث من منكرات خالد بن مخلد)) ذكره في ترجمته. وردّ ذلك /على الذّهبيّ ابن حجر العسقلاني, فقال: ((إنّ لحديث خالد هذا شواهد في الحديث, وروى له ثلاثة شواهد: أحدها: نحوه من حديث هشام الكناني عن أنس - رضي الله عنه -. وثانيها: ببعضه من حديث معاذ. وثالثها: نحوه من حديث عروة عن عائشة بإسناد لا بأس به (¬1). فهذا يدلّك على أنّ الحكم على الحديث بالغرابة أو النّكارة أو الشّذوذ مقام وعر تدحض فيه أقدام أئمة الحفّاظ فكيف بغيرهم, فينبغي من القاصر الاعتراف لأهل الإتقان بالإمامة والتّقدّم في علومهم, وكفّ [أكفّ] (¬2) الاعتراض على إمامي المحدّثين: البخاريّ ومسلم وأمثالهما, ومن وقف على قدح في بعض رواتهما أو تعليل لبعض حديثهما وكان ذلك من النّادر الذي لم يتلقّ بالقبول؛ فالذي يقوى عندي وجوب العمل بذلك لأنّ القدح بذلك محتمل. والثّقة العارف إذا قال: إن الحديث صحيح [عنده] (¬3) وجزم بذلك ولم يكن له في التّصحيح قاعدة معلومة الفساد, وجب قبول حديثه بالأدلّة العقليّة والسّمعيّة الدّالّة على قبول خبر الواحد, وليس ¬
ذلك بتقليد له, بل هو عمل بمقتضى ما أوجب الله تعالى من قبول أخبار الثقات, ولو كان مجرّد الاحتمال يقدح لطرحنا جميع أحاديث الثّقات لاحتمال الوهم والخطأ في الرّواية بالمعنى, بل احتمال تعمّد الكذب لا يمنع القبول مع ظنّ الصّدق, وقد ثبت عن عليّ - رضي الله عنه - أنّه كان إذا اتّهم الرّاوي حلّفه, فإذا حلف له صدّقه كما رواه الذّهبيّ في ((تذكرته)) (¬1) وحسّنه, والإمامان: المنصور في ((الصّفوة)) , وأبو طالب في ((المجزي)). فهذا أمير المؤمنين عليّ - رضي الله عنه - مع سعة علمه, وقرب عهده, احتاج إلى الأخذ بحديث من يتّهمه ولا تطيب نفسه بقبوله إلا بعد يمينه, فكيف بأهل القرن التّاسع إذا تعنّتوا في الرّواة وقدحوا في حديث (¬2) أئمة الأثر وتعرّضوا لإبطال ما صحّحه كبار الحفّاظ؟ أليس ذلك يؤدّي إلى محو آثار العلم, وسدّ أبواب الفقه, وطمس معالم الدّين؟. وقد قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث الأعرابيّ في الشّهادة على هلال رمضان كما صحّحه الحاكم (¬3) وغيره من حديث ابن عباس (¬4). وتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه بعث الرّسل إلى الآفاق معلّمين ومبلّغين مع أنّ ¬
أهل الآفاق لم يكونوا قد خبروا رسله إليهم على طريقة المتعنّتين في الخبرة, وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك من المفتي والمستفتي, والرّاوي والمرويّ له, والقاضي والمقضيّ عليه, ولم ينكر شيئاً من ذلك على أحد منهم. والعدالة شرط في صحّة الفتيا والرّواية والقضاء, وكذلك قد روى أبو الحسين في ((المعتمد)) (¬1) عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّهم كانوا يقبلون أحاديث الأعراب, فرحم الله امرءاً ترك التعمّق في الأمور, واقتدى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وبأصحابه خير أمّة أخرجت للنّاس -رضي الله عنهم أجمعين- وعلى التّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين. قال: والضّابط في ذلك: أنّ ما صحّحه أئمتنا من ذلك فهو صحيح, وما ردّوه أو طعنوا في رواته؛ فهو مردود, مثل: خبر الرّؤية عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله, وإنّما كان ما ردّوه وجرحوا رواته مردوداً, ومن جرحوه مجروحاً (¬2) /لوجهين: أحدهما: أنّ أئمتنا عدول لصحّة اعتقادهم, واستقامة أعمالهم, والقطع أنّه إذا جرح الرّاوي جماعة عدول, فإنّ جرحهم مقبول؛ لأنّ الجارح مقدّم على المعدّل. الثّاني: أنّها إذا تعارضت رواية العدل الذي ليس على بدعة ورواية المبتدع قدّمت رواية العدل الذي ليس على بدعة, وهذا مجمع عليه. ¬
كلام المعترض على التصحيح والتضعيف, والجواب عليه من وجوه
أقول: الجواب على هذه الجملة يظهر بذكر وجوه جمليّة ووجوه تفصيليّة. أمّا الجمليّة: فالأول منها أن نقول: ما مرادك بالأئمة هنا؟ هل الجميع أو البعض منهم؟ إن أردت البعض فقولهم ليس بحجّة, لا عند الزّيديّة, ولا عند أهل الحديث, وإنّما هم من جملة الثّقات الذين يجوز عند جميع المسلمين أن تعارض رواياتهم برواية من هو مثلهم أو فوقهم في الحفظ والصّدق, فإنّ كلّ ثقة يجوز وجود من هو مثله أو فوقه في باب الرّواية, ولم نعلم أحداً من مصنّفي الزّيديّة والمعتزلة جعل الخلافة, ولا نسب فاطمة -رضي الله عنها- من أسباب التّرجيح في الرّواية, على أنّ في ولد فاطمة رضي الله عنها الشّافعيّ والحنفيّ والمالكيّ والحنبليّ, كما أنّ فيهم الزّيديّ والإماميّ, وقد بيّنّا من قبل اختصاص أحاديث البخاريّ ومسلم بوجه من وجوه التّرجيح لا يوجد في غيرهما, وهو تلقّي الأمّة لأحاديثهما بالقبول, وبيّنّا أنّ أهل البيت وأئمة الزّيديّة من جملة من تلقّى أحاديثهما بالقبول. وإن أردت الكلّ من الأئمة فما أردت أيضاً بتخصيصهم بالذّكر؟ هل توهّمت أنّهم هم جميع أهل البيت حتّى ينعقد بإجماعهم إجماع أهل البيت؟ فهذا وهم فاحش, فلم يقل أحد إنّ أهل البيت هم الخلفاء دون غيرهم, على أنّ القول بأنّ إجماع أهل البيت حجة مسألة خلاف بين أهل البيت, فإنّ فيهم من لا يقول بذلك -أعني الزّيديّة منهم- أمّا سائر الفرق فظاهر, فهؤلاء المعتزلة أقرب الفرق إلى الزّيديّة يخالف
الوجه الثاني
أكثرهم في هذه المسألة. أقصى ما في الباب: أنّ إجماعهم حجة قاطعة, لكنّا قد بيّنّا من قبل أنّهم مجمعون على صحّة أحاديث كتب السّنّة التي صحّحها أئمّة الحديث, وبيّنّا أنّهم يعوّلون في أحاديث الأحكام عليها ويفزعون في مهمّات حوادث الشّريعة إليها, وأنّ ذلك مستمر شائع ذائع في ديارهم من غير ظهور نكير, وهذه إحدى طرق الإجماع, أقصى ما في الباب أن ينازع في صحّة كتب الحديث, وهذا القدر -أعني أنّ فيهم من يقول بذلك- معلوم لا يمكن إنكاره, ومع ذلك بطل عليك إجماعهم, ولم تكن في الاحتجاج ببعضهم أولى من خصمك في الاحتجاج [بمن] (¬1) خالف من قلّدته ونازع من تابعته. الوجه الثّاني: أنّ قولك بالرّجوع في الحديث وتصحيحه وتضعيفه وردّه وتعليله إلى أئمة الزّيديّة يحتاج إلى تمهيد قاعدة, وهي: أنّ يكون أئمة الزّيديّة قد صنّفوا في معرفة صحيح الحديث, ومعلومه, ومقبوله, ومردوده ما يكفي أهل الاجتهاد من أهل الإسلام, والمعلوم خلاف ذلك, فإنّ من أهل الاجتهاد من لا يقبل المرسل, ومنهم من لا يقبل [ما] (¬2) وقفه الأكثرون ورفعه بعض الثّقات؛ أو وصله وقطعوه, أو أسنده وأرسلوه, ومعرفة هذا يحتاج إلى تأليف في العلل, والذي كتب العلل هم علماء الحديث: كالدّارقطنيّ ¬
وغيره, وليس لأئمة الزّيديّة في ذلك تصنيف /البتّة, ومن لم يفرد للعلل تأليفاً من المحدّثين ذكرها في تأليفه في الحديث كما يصنع أبو داود والنّسائيّ وغيرهما, بخلاف من جمع الحديث من الزّيديّة فإنّه لا يتعرّض لذلك, وكذلك المجتهد يحتاج عند تعارض الأحاديث إلى معرفة الرّاجح بكثرة الرّواة أو زيادة معدّليهم أو كون بعضهم مجمعاً عليه وبعضهم مختلفاً فيه, وهذا يحتاج إلى معرفة فنّين عظيمين: أحدهما: معرفة طرق الحديث, وهو فنّ واسع لا نعرف للزّيديّة فيه تأليفاً, وقد تعرّض لذلك جماعة من أهل المسانيد والصّحاح والسّنن من المحدّثين, وجمع الحافظ الماسرجسي (¬1) في ذلك ((المسند الكبير)) الذي فرغ في قدر ثلاث مئة مجلّد كبار (¬2) , واختصر الحفّاظ منهم أحاديث الأحكام وجرّدوها من هذه المؤلّفات الواسعة, وذكروا ما يجب معرفته من وجوه التّرجيح على أخصر ما يمكن تسهيلاً ¬
على الأمّة وتمهيداً لقواعد الملّة. الفنّ الثّاني: علم الجرح والتّعديل, وما فيه من تعريف مراتب الثّقات والضّعفاء الذين لا يتم ترجيح حديث بعضهم على بعض إلا بعد معرفته, وهو علم واسع صنّف الحفّاظ فيه الكتب الواسعة الحافلة. حتّى جمع الفلكيّ (¬1) فيه كتاباً فرغ في ألف جزء (¬2) , ثمّ لم يزل الحفّاظ يهذّبونه ويختصرون ما لابدّ من معرفته حتّى انضبط ذلك بعد الانتشار الكثير في مقدار الخمسة المجلدات أو ما يقاربها, وليس للزّيديّة في هذا الفنّ تأليف البتّة. وهذه علوم جليلة لابدّ من معرفتها عند من يعتقد وجوب معرفتها من أهل الاجتهاد. فقول المعترض: إنّ الواجب هو الرّجوع إلى أئمّة الزّيديّة في علوم الحديث قول مغفّل! لا يعرف أنّ ذلك مستحيل في حقّ أكثر أهل العلم الذين يشترطون في علوم الاجتهاد ما لم تقم به الزّيديّة!! وإنّما هذا مثل قول (¬3) من يقول: إنّه يجب الرّجوع في علم الطّب إلى الأحاديث النّبويّة والآثار الصّحابيّة ولا يجوز تعدّيها إلى غيرها, ومثل من يقول: إنّه يجب الرّجوع في علوم الأدب إلى أئمة الزّهادة وأقطاب أهل الرّياضة. ¬
ولقد ذكر إمام الحرمين الجويني في كتاب ((البرهان)) (¬1) أنّه لا يجوز لأحد التزام مذهب أحد من علماء الصّحابة -رضي الله عنهم-, وقال شارح (¬2) ((البرهان)): ((إنّ العلّة في ذلك كون الصّحابة -رضي الله عنهم- ليس لهم نصوص على الحوادث تكفي الملتزم لمذهب أحدهم كأئمة الفقه المتبوعين)) , فكذلك أئمة الزّيديّة ليس لهم من التّأليف في علم الحديث ما يكفي المجتهدين, فما للمعترض والتّعرّض لانتقاص المحدّثين الذين قاموا بما قعد عنه غيرهم من علوم الدّين, وهذا أمر يعرفه من له أدنى تمييز, وإنّما أُتي المعترض في انتقاض المحدّثين من قلّة الإنصاف ومحبّة الاعتساف, ولله درّ من قال: أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللّوم, أو سدّوا المكان الذي سدّوا (¬3) الوجه الثّالث: أنّا لو رجعنا إلى تصانيف الزّيديّة في الحديث, لكنّا قد رجعنا إلى أضعف مما استضعفت (¬4) وأنكر مما استنكرت, وذلك لأنّ المصنّفين من الزّيديّة في الحديث ليس إلا /القاضي زيد, والإمام أحمد بن سليمان, والأمير الحسين, والإمام يحيى بن حمزة, هؤلاء الذين توجد تصانيفهم في أيدي الزّيديّة في نجد اليمن. ¬
أمّا القاضي زيد, فقد ادّعى في شرحه الذي يروي فيه الحديث إجماع الأمّة على قبول خبر أهل الأهواء. وأمّا الإمام أحمد بن سليمان, فقد صرّح في خطبة كتابه بالنّقل من كتب المحدّثين, بل ذكر أنّ جميع (¬1) كتابه, من كتب مسموعة, وكتب غير مسموعة, ولم يميّز ما رواه من الكتب المسموعة, مع أنّ كتابه عمدة عند علماء الزّيديّة معتمد عند المجتهدين منهم. وأمّا الأمير الحسين فينقل من كتب المحدّثين, وهما معاً ينقلان من كتاب القاضي زيد, وكلّ كتبهم خالية عن الإسناد, وعن بيان من خرّج الحديث من الأئمة. وأمّا الإمام يحيى بن حمزة فينقل عنهم الجميع, وعن جميع أهل التأويل ويصرّح بذلك (¬2). وأمّا من لم يصنّف في الحديث من أئمة الزّيديّة ولكن توجد الأحاديث في كتبه؛ فمنهم من صرّح بقبول أهل الأهواء: فسّاقهم وكفّارهم كالمؤيد بالله, مع إجماع الزّيديّة على قبول ما أرسله, بل قال ¬
المؤيّد بالله: إنّ الظّاهر من قول أصحابنا قبول شهادة كفّار التّأويل بلفظة (أصحابنا) , وهذا يقتضي روايته لذلك عن جميع [علماء] (¬1) الزّيديّة؛ وهو مجمع على ثقته عند الزّيديّة فوجب قبول روايته, [وهي] (¬2) تقتضي أنّ الرّجوع إلى حديث الزّيديّة مشكل على من لا يقبل حديث كفّار التّأويل. وكذلك المنصور بالله - عليه السلام - فإنّه قال في ((المهذّب)) (¬3) ما لفظه: ((وقد ذكر أهل التّحصيل من العلماء جواز قبول أخبار المخالفين في الاعتقادات. وروى عنهم المحقّقون بغير مناكرة)). هذا لفظه, وهو رواية منه عن أهل التّحصيل, وقد ادّعى الإجماع على قبول فسّاق التّأويل في كتاب ((الصّفوة)) , وكذلك الإمام يحيى بن حمزة, والفقيه عبد الله بن زيد ادّعيا الإجماع على قبول فسّاق التّأويل, ودعواهم الإجماع يفيد روايتهم لذلك عن أسلافهم. وأمّا الهادي والقاسم -عليهما السلام- فقد اختلفوا عليهما في ذلك, فرواية هؤلاء تفيد أنّهما يذهبان إلى ذلك, وكذا رواية أبي مضر عنهما, وتخريج (¬4) المؤيد بالله - عليه السلام - لهما وأحد تخريجيّ أبي طالب, وهو يقتضي أنّ ذلك مذهبهما, وهو أرجح من أحد ¬
تخريجي أبي طالب ورواية أبي جعفر, لأنّ هؤلاء أكثر [وأخير] (¬1) , ولأنّ عمل الهادي - عليه السلام - في الأحكام يوافق ذلك, فإنّه روى عن المخالفين, بل عن ضعفاء المخالفين, فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه (¬2) , وروى عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة (¬3) عن أبيه عن جدّه. وعلى الجملة؛ فالزّيديّة إن لم يقبلوا كفّار التّأويل وفسّاقه؛ قبلوا مرسل من يقبلهم من أئمتهم, وإن لم يقبلوا المجهول؛ قبلوا مرسل من يقبله, ولا يعرف فيهم من يحترس من هذا البتّة. وهذا يدلّ على أنّ حديثهم في مرتبة لم (¬4) يقبلها إلا من جمع بين قبول المراسيل بل المقاطيع, وقبول المجاهيل, وقبول الكفّار والفسّاق من أهل التّأويل فكيف يقال مع هذا: إنّ الرّجوع إلى حديثهم أولى من الرّجوع إلى حديث أئمة الأثر ونقّاده الذين أفنوا أعمارهم في معرفة ثقاته, وجمع متفرّقاته, وبيان صحاحه من مستضعفاته, فتكثّرت بهم فوائده, ¬
2 - الوجوه التفصيلية, واشتمل كلامه على مسائل
وتمهّدت بهم قواعده, وتقيّدت أوابده. وهل هذا إلا مثل إنكار الشّعوبية لفضل علماء العربيّة, بل هو أقبح منه بدرجات عديدة, ومسافات بعيدة, /لأنّ الآثار النّبويّة هي ركن الإيمان, وأخت القرآن, وهي شعار الفقه والدثار, وعليها في أمور الإسلام المدار. وأمّا الوجوه التّفصيليّة: فقد اشتمل كلامه على مسائل: المسألة الأولى: مثّل المردود من كتب المحدّثين بحديث (¬1): جرير بن عبد الله البجلي في الرّؤية (¬2) وهذا من الإغراب الكثير والجهل العظيم, فإنّ المحدّثين يروون في الرّؤية أحاديث كثيرة تزيد على ثمانين حديثاً عن خلق كثير من الصّحابة أكثر من ثلاثين صحابيّاً, منهم: أبو هريرة, وأبو سعيد الخدريّ, وأبو موسى, وعديّ بن حاتم, وأنس بن مالك, وجرير بن عبد الله, وكلّ هؤلاء أحاديثهم متفق عليها مخرّجة في صحيح البخاريّ ومسلم معاً, وفي غيرهما من كتب الحديث. ومنهم: بُريدة بن الحُصيب, وأبو رزين العُقيلي, وجابر بن عبد الله, وأبو أمامة, وزيد بن ثابت, وعمّار بن ياسر, وعبد الله بن عمر بن الخطّاب, وعمارة ابن رويبة (¬3) , وأبو بكر الصّدّيق, وعائشة أمّ المؤمنين, وسلمان الفارسيّ, وحذيفة بن اليمان, وعبد الله بن ¬
العباس, وعبد الله بن عمرو بن العاص, وكعب بن عجرة, وفضالة بن عبيد, والزّبير بن العوّام, ولقيط بن صبرة, وعمر (¬1) بن ثابت الأنصاري (¬2) , وعبد الله بن بُريدة, وأبو برزة الأسلميّ, وأبو الدّرداء, وأبو ثعلبة الخشني, وعبادة بن الصّامت, وأُبيّ بن كعب, وروى حديث الرؤية علماء الحديث كلّهم في جميع دواوين الإسلام من طرق كثيرة, حتى رووه من طريق زيد بن عليّ -رضي الله تعالى عنهما-. وفي الصّحيحين منها ثلاثة عشر حديثاً, اتفقا منها على ثمانية أحاديث, وانفرد البخاريّ بحديثين, ومسلم بثلاثة أحاديث, ولولا خوف التّطويل لذكرت ما في كتب السّنن, وقد استوفاها شيخنا الحافظ (¬3) النّفيس العلوي اليمنيّ (¬4) -أدام الله علوّه- في كتابه ((الأربعين)) (¬5) وذكر كثيراً منها الحافظ الكبير البارع الشّهير بابن قيّم الجوزيّة في كتابه ((حادي الأرواح إلى دار الأفراح)) (¬6) وغيرهما. ¬
فاعتقاد المعترض أنّ حديث الرّؤية مرويّ من طريق جرير بن عبد الله فقط, وأنّ جريراً مطعون فيه بما لم يصحّ, من تخريب عليّ - رضي الله عنه - لداره, بل بما لو صحّ (¬1) لم يكن قادحاً على مذهب المحدّثين ولا مذهب الزّيديّة, أمّا [المحدّثون] (¬2) فظاهر, وأمّا الزّيديّة فلأنّ المتأوّلين عندهم مقبولون, وإن لم يكونوا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فإذا كانوا أصحابه كانوا أولى بالقبول لأنّ صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أسباب الزّيادة لا من أسباب النّقص, فثبت بهذا أنّه قدح بما لا يقدح به [في مذهبه, ولا] (¬3) في مذهب خصمه, وأنّه باعتقاده لانفراد جرير بالحديث في مرتبة ينبغي أن يرحم صاحبها, لما هو عليه من البعد عن المعرفة والتّعاطي للرّدّ على من لم يحط من علمه بشيء يعتدّ به, فالله المستعان!. وهذا كلّه من /تعرّضه لما لا يحسنه, ودخوله فيما لا يعرفه, فإنّ علم الحديث علم جليل القدر غزير البحر, والخوض مع نقّاده بغير البصيرة يؤدّي إلى التّخبّط في مثل هذه الجهالة. والتّورّط في مثل هذه الضّلالة, وإنّما الذي كان يحسنه هذا المعترض أن ينقل من (([تعليق] (¬4) ¬
المسألة الثانية
الخلاصة)) (¬1) كلام المعتزلة في الدّليل على استحالة رؤية الله تعالى في جهة, وأنّ الدّليل العقليّ يوجب تأويل ما ورد من السّمع بخلافه, ويقف على هذا الحدّ ولا يتعرّض بعده لأحد (¬2). المسألة الثّانية: قال: والقطع أنّه إذا جرح الرّاوي جماعة عدول فإنّ جرحهم مقبول؛ لأنّ الجارح يقدّم على المعدّل. قلت: هذا القطع الذي ذكره قطع بغير تقدير (¬3) , ولا هدى ولا كتاب منير؛ لأنّ المسألة ظنّيّة لا قطعيّة, وخلافيّة لا إجماعيّة, بل الواجب التّفصيل في الجرح: فإن كان مطلقاً غير مفسّر السّبب, فالجرح به مختلف فيه, والصّحيح عند المحقّقين: أنّه لا يجرح [به] (¬4) لاختلاف النّاس في الأسباب التي يجرح بها, وتفسير جماعة من الثّقات ما أطلقوه من الجرح بأمور لا يوافقون على الجرح بها. ¬
وأمّا إن كان الجرح مفسّر السّبب, فإما أن يعارضه تعديل جامع لشرائط المعارضة, مثل أن يقول [الجارح: إنّ الرّاوي] (¬1) ترك صلاة الظّهر يوم كذا في تاريخ كذا, ويقول المعدّل: إنّه صلّى تلك الصّلاة في ذلك التّاريخ. أو يقول المعدّل: إنّه كان في ذلك الوقت نائماً أو مغلوباً على اختياره أو صغيراً غير مكلّف أو معدوماً غير مخلوق أو غائباً عن حضرة الجارح, أو نحو ذلك؛ فهنا يجب الرّجوع إلى التّرجيح أيضاً, ولا يجب قبول الجرح مطلقاً لا قطعاً ولا ظنّاً. وأمّا إن لم يعارض الجرح توثيق معارضة حقيقيّة خاصة, ولكن معارضة عامّة, مثل أن يقول الجارح: إنّ الرّاوي كان ممّن يخلّ بالصّلاة ويتناول المسكر, ويقول المعدّل: إنّه ثقة مأمون ونحو ذلك, فلا يخلو: إمّا أن تكون عدالة الرّاوي معلومة بالتّواتر مثل: مالك والشّافعيّ ومسلم والبخاري, وسائر الأئمة الحفّاظ (¬2) , فإنه لا يقبل جرحهم بما يعلم نزاهتهم عنه, ولو كان ذلك مقبولاً لكان الزّنادقة يجدون السّبيل إلى إبطال جميع السّنن المأثورة بأن يتعبد بعضهم ويظهر الصّلاح حتّى يبلغ إلى حدّ يجب في ظاهر الشّرع قبوله, ثمّ يجرح الصّحابة -رضي الله عنهم- فيرمي عمّار بن ياسر يإدمان شرب المسكر, وسلمان الفارسيّ بالسّرقة لما فوق النّصاب, وأبا ذر بقطع الصّلاة, وأُبيّ بن كعب بفطر رمضان, وأمثال هذا في أئمة التّابعين وسائر أئمة المسلمين في كلّ عصر, فإنّ من جوّز هذا فليس بأهل ¬
للمراجعة, ولا جدير بالمناظرة, وكثيراً ما /يقول أئمة الجرح والتّعديل في أهل هذه الطبقة: فلان ((لا يُسأل عن مثله)) (¬1) فإن تكلّموا فيهم بتوثيق, أو تليين, أو نحو ذلك؛ فإنّما يعنون به التّعريف بمقدار حفظهم, وأنّهم في العليا من مراتب الحفظ أو الوسطى. وأمّا إن كانت عدالة الرّاوي مظنونة غير معلومة؛ فظاهر كلام الأصوليين تقديم الجرح المفسّر وقبوله من غير تفصيل, وتعليلهم بالرّجحان يقتضي أنّ ذلك يختلف بحسب اختلاف القرائن والأسباب المرجّحة لأحد الأمرين, وهذا هو القويّ عندي, ولا نضر [للنّظّار] (¬2) يخالفه. فنقول: لا يخلو إمّا أن تكون عدالة الرّاوي أرجح من عدالة الجارح له أو مثلها أو دونها, إن كانت عدالة الرّاوي أرجح وأشهر من عدالة الجارح؛ لم نقبل الجرح؛ لأنّا إنّما نقبل الجرح من الثّقة لرجحان صدقه على كذبه, ولأجل حمله على السّلامة, وفي هذه الصّورة كذبه أرجح من صدقه, وفي حمله على السّلامة إساءة الظّنّ بمن هو خير منه وأوثق وأعدل وأصلح. وأكثر ما يقول أئمة هذا الشّأن في أهل هذه الطّبقة إذا سُئلوا عنهم: أنا أُسأل عن فلان؟ بل هو يُسأل عنّي!. ¬
وأمّا إن كان مثله في العدالة, فيجب الوقف لتعارض أمارتي صدق الجارح وكذبه, فإنّ عدالة الجارح أمارة صدقه, وعدالة المجروح أمارة كذبه, وهما على (¬1) سواء, وليس أحدهما بالحمل على السّلامة أولى من الآخر, فإن انضم إلى عدالة المجروح مُعدّل كان وجهاً لترجيح عدالته. وأمّا إن كانت عدالة الرّاوي أضعف من عدالة الجارح, فإنّ الجرح هنا يقبل إلا أن تقتضي القرائن والعادة والحال -من العداوة ونحوها- أنّ الجارح واهم في جرحه أو كاذب (¬2) , فإنّ القرائن قد يعلّ ¬
بها حديث الثّقة وإن كان معيناً مثبتاً, ويسمّيه المحدّثون: معلّلاً, وقالوا في تفسير العلّة التي يعلّ بها حديث الثّقة: ((هي عبارة عن أسباب خفيّة غامضة طرأت علىالحديث, فأثّرت فيه, أي قدحت في صحّته, وتدرك العلّة بتفرّد الرّاوي وبمخالفة غيره له, مع قرائن تنضمّ إلى ذلك يهتدي النّاقد بها إلى اطلاع على إرسال في الموصول, أو وقف في المرفوع, أو دخول حديث في حديث, أو وهم واهم بغير ذلك بحيث غلب على ظنّه ذلك فأمضاه وحكم به, أو تردّد في ذلك فوقف وأحجم عن الحكم بصحّة الحديث, فإن لم يغلب على ظنّه التّعليل بذلك فظاهر الحديث المعلّ السّلامة من العلّة)) (¬1) هذا كلامهم بلفظه. فأيّ فرق يجده النّاظر المنصف بين إعلال رواية الثّقة بحديث معيّن, وإعلال رواية الثّقة بجرح معيّن في رجل معيّن, بل العلل العارضة بين الجارح والمجروح أكثر من العلل العارضة بين الرّاوي والحديث, لما يقع بين النّاس في العادة من العداوة إمّا لأجل الاختلاف في المذاهب أو في غير ذلك, فهذه حجّة قويّة مأخوذة من ¬
نصوص أئمة الحديث. وأمّا الحجّة على ذلك من أنظار علماء الأصول فهي أن نقول: الجرح المبيّن السبب (¬1) إنّما قدّم على التّعديل لأنّه أرجح, إذ كان القريب في المعقول أنّ الجارح يطّلع على ما لم يطّلع عليه المعدّل, وفي قبوله حمل الجارح والمعدّل على السّلامة معاً, ولم يقل أحد: إنّ الجرح مقدّم لمناسبة طبيعيّة ذاتيّة بين اسم الجرح الذي حروفه الجيم والرّاء والحاء المهملة, وبين صدق /من ادّعاه, وحينئذ يظهر أنّ العبرة بالرّجحان الذي هو ثمرة التّرجيح, وإنّما هذا الذي أوجب تقديم الجرح في بعض الصّور, وهو نوع من التّرجيح أوجب الرّجحان, فإذا انقلب الرّجحان في بعض الصّور إلى جَنَبة التّعديل, وقامت على ذلك القرائن وترجّح ذلك في ظنّ النّاظر في التّعارض: فإمّا أن يوجبوا عليه أن يقضي بالرّاجح عنده؛ فذاك الذي نقول, أو يوجبوا عليه العمل بالمرجوح عنده؛ فذلك خلاف المعقول والمنقول. فتأمّل هذا الكلام فإنّه مفيد مانع من المسارعة إلى قبول الجرح من غير بصيرة, وإيّاك والاغترار بقول الأصوليين: إنّ الجرح المفسّر مقدّم, فإنّ الرّجال ما أرادوا إلا تلك الصّورة التي نظروا فيها إلى تجرّدها عن جميع الأمور إلا الجرح المفسّر والتّعديل الجملي, وهذه الصّورة لم يخالف فيها, وهم أعقل من أن يطردوا هذا القول لما يلزمهم من جرح أئمة الصّحابة والتّابعين بقول من أظهر الصّلاح من ¬
المسألة الثالثة
الزّنادقة ليتوصّل (¬1) إلى ذلك وأمثاله من مكايد الدّين. فإن قلت: إنّما تخصّص عموم كلامهم في هذه الصّورة؛ لأنّها تؤدّي إلى تقديم المظنون على المعلوم لو لم يتأوّل كلامهم, بل خبر الثّقة حين صادم المعلوم لا يسمّى مظنوناً بل كذباً. قلنا: وكذلك الصّور التي ذكرناها يجوز تخصيصها؛ لأنّها من قبيل تقديم الموهوم المرجوح على المظنون الرّاجح, وقد علم من قواعدهم أنّ ذلك لا يجوز فقواعدهم هي المخصّصة لعموم كلامهم, على أنّ مخالفتهم بالدّليل جائزة غير ممنوعة, وقد اتّضح الدّليل على ما أخبرته (¬2) , وبان بالإجماع بطلان قطع المعترض على أنّ الجرح مقدّم مطلقاً ولله الحمد. المسألة [الثّالثة] (¬3): قال: الثّاني أنّه إذا تعارض رواية العدل الذي ليس على بدعة ورواية المبتدع, قدّمت رواية العدل الذي ليس على بدعة, وهذا مجمع عليه. والجواب عليه من وجوه: أحدها: منع الإجماع الذي ادّعاه بشهرة الخلاف, فقد أجمع أئمة الحديث على تقديم الحديث الصّحيح على الحديث (¬4) الحسن مع إخراجهم لأحاديث كثير من أهل البدع في الصّحيح, بل في أرفع ¬
مراتب الصّحيح وهو المتفق عليه المتلقّى بالقبول من حديث الصّحيحين, فحديث أولئك المبتدعة الذين اتفق الشّيخان على تصحيح حديثهم مقدّم عند التّعارض على حديث كثير من أهل العقيدة الصّالحة الذين نزلوا عن مرتبة أولئك المبتدعة في الحفظ والإتقان. وقد نصّ الإمام المنصور بالله -من أئمة الزّيديّة- في الاحتجاج على قبول الخوارج الموارق من الإسلام: أنّ قبول من يرى أنّ الكذب كفر أولى من قبول من لا يرى ذلك, وهذا نصّ على ما ذكرناه, وذكر مثل ذلك أحمد (¬1) بن الحسن الرّصّاص في ((جوهرة الأصول)) , والحاكم في ((شرح العيون)) , ولم ينكر ذلك أحد من أهل التّعاليق على ((الجوهرة)) , بل ادّعى المنصور الإجماع من الصّحابة على خلاف ما ذكره المعترض فقال: ((إنّ اعتماد أحدهم على ما يرويه عمّن خالفه كاعتماده على ما يرويه عمّن يوافقه)) , وكذلك أبو طالب حكى في ((المجزي)): أنّ الفقهاء ادّعوا العلم بإجماع الصّحابة على التّسوية /بين الكلّ من أهل التّنزّه عمّا يوجب الجرح من أفعال الجوارح في قبول شهادته وحديثه, مع العلم باختلافهم في المذاهب. فهذه ألفاظ تدلّ على دعوى الإجماع على نقيض ما ذكره المعترض, وهي ثابتة من طريق أوثق أئمة الزّيديّة, وسوف تأتي هذه المسألة عند ذكر قبول أهل التّأويل, وأذكر فيها الكلام مستوفى (¬2) هنالك إن شاء الله تعالى, فقد ادّعاها في ذلك الموضع (¬3) وهو بها أخصّ. ¬
الوجه الثّاني: أنّا قد بيّنّا أنّ الزّيديّة أحوج النّاس إلى قبول المبتدعة, وأنّ مدار حديثهم على ما يخالفهم, وأنّ كثيراً من أئمتهم نصّوا على قبول كفّار التّأويل وادّعوا الإجماع على ذلك, وأن بقيّة الزّيديّة يقبلون مراسيل أولئك الأئمة؛ كالمنصور, والمؤيّد, والإمام يحيى بن حمزة, والقاضي زيد, وعبد الله بن زيد وغيرهم. الوجه الثّالث: أنّ أهل الحديث لو سلّموا لك هذه المقدّمة -وهي أنّ حديث غير المبتدع مقدّم على حديث المبتدع- لم تكن منتجة لمقصودك حتّى يضم إليها مقدّمة أخرى, وهي: أنّ أهل الحديث هم المبتدعة, ولا شكّ أنّ هذه المقدّمة التي تركتها غير ضروريّة, وقد أجمع أهل البرهان على أنّ إحدى المقدّمتين لا تحذف إلا لجلائها وعدم التّنازع فيها, فكيف تركت محلّ النّزاع مع دعواك أنّك أوحد أهل الزّمان في علم البرهان, وليس كونك من أهل الحقّ يصلح عذراً لك من إظهار البراهين قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُم صَادِقِينَ} [البقرة:111]. قال: لأنّ رواية غيرهم لا تخلو من ضعف, وإنّما تقبل عند عدم المعارض -يعني رواية غير أئمة الزّيديّة-. أقول: هذا قصر للعدالة على أئمة الزّيديّة الذين ادّعوا الخلافة (¬1) , وهذا غلوّ لم يسبق إليه, بل هذيان لا يعوّل عليه, ولو كان ¬
ما ذكره صحيحاً لوجب في الشّهود أن يكونوا أئمّة, وهذا يؤدّي إلى وجوب أربعة أئمة في شهادة الزّنا, وإمامين في الشّهادة على الأموال, وهذا خرق للإجماع, بل خلع لجلباب الحياء من الله تعالى. قال: ((لأنّها رواية عمّن لا تعلم عدالته ونزاهته من فسق التّأويل)). أقول: هذه دعوى للجهل بعدالة الرّواة (¬1) , فإمّا أن يدّعي الجهل لنفسه أو يدّعيه على العلماء, إن كان الأوّل فمسلّم, ولا يضرّ تسليمه لأنّ الإقرار بما يدخل النّقص على المقرّ دون غيره صحيح وفاقاً؟ وإن كان الثّاني فغير مسلّم لأنّ الدّعوى على الغير تحتاج إلى بينة صحيحة أو إقرار من المدّعي عليه, وكلّ ذلك غير حاصل في هذه الدّعوى, أمّا الرّواية عن أهل التّأويل فقد [أجازها] (¬2) أكثر العلماء وادّعوا الإجماع من الصّحابة وغيرهم على ذلك, واحتجّوا بحجج كثيرة يأتي بعضها في موضعه إن شاء الله تعالى, ومن لم يقبلها من أهل العلم لم يتمسّك بحديث حتّى يعرف براءة رواته من ذلك, ولا اعتراض على من قبلهم, ولا على من لا يقبلهم. والعجب /من المعترض يقدح على المحدّثين بعدم علمهم بنزاهة رواتهم عن فسق التّأويل, وقد بيّنّا نصوص أئمة الزّيديّة على قبول كفّار التّأويل, بل (¬3) على أنّ قبولهم مجمع عليه, وبيّنّا أنّ من لم ¬
كلام المعترض على عدالة الرواة والجواب عليه
يقبلهم من الزّيديّة قبل مرسل من قبلهم, فإنّه لا يعلم أنّ في الزّيديّة من لا يقبل حديث: المنصور, والمؤيّد, والقاضي زيد, وعبد الله بن زيد, ويحيى بن حمزة, ونحوهم ممّن صرّح بقبول أهل التّأويل, وادّعى الإجماع على جوازه كما سيأتي مفصّلاً محقّقاً -إن شاء الله تعالى-. قال: ((هذا إذا كان النّاظر في الحديث مجتهداً, أمّا إذا كان غير بالغ رتبة الاجتهاد فليس له أن يرجّح بهذا الحديث قولاً ويجعله مختاره وإن كان الحديث نصّاً في ظاهر الحال, لأنّ التّرجيح بالخبر إنّما هو بعد كونه صحيحاً عن الرّسول, ولا يكون صحيحاً حتّى يكون راويه عدلاً, والعدالة غير حاصلة كما سنذكره)). أقول: نفي العدالة عن رواة حديث الكتب الصّحيحة جهل مفرط لم يقل به أحد من الزّيديّة ولا من السّنّيّة, فقد بيّنّا إجماع أهل السّنّة على وجوب القبول لها, وإنّما يتعلّل هذا المعترض لمخالفتهم لمذهبه, وقد بيّنّا نصوص أئمة الزّيديّة على قبول مخالفيهم في الاعتقاد, ونقل مصنّفيهم في الحديث من كتب أئمة الحديث, ومجرّد المباهتة بإنكار الجليّات, وجحد المعلومات لا يطفىء نور الحق, ولا ينوّر دخان الباطل, بل يتميّز به المنصف من المتعسّف, والعارف من الجاهل. وبمثل هذه الدّعاوى المعلومة الفساد, يفضح الله المستترين من أهل العناد, الذين يظهرون للعباد أنّهم دعاة (¬1) إلى السّداد, وأدلّة على ¬
الرّشاد, والقول بانتفاء عدالة رواة السّنن النّبويّة, والآثار المصطفوية واللّغة العربيّة, مما لا يقول به مسلم, وقد بيّنّا -فيما تقدّم- أن مثل هذا لا يصلح إيراده ونصرته إلا من أعداء الإسلام -خذلهم الله تعالى-, وأنّ صاحب هذه الرّسالة حام على بطلان التّكليف فأبطل الطّريق إلى الثّقة بالحديث واللّغة والنّحو والتّفسير, وببطلان هذه العلوم أو بعضها يبطل الاجتهاد والتّقليد. أمّا الاجتهاد: فظاهر, وأمّا التّقليد فلما شرحناه أوّلاً, ودلّلنا عليه كون جواز التّقليد مأخوذاً من هذه العلوم ومبنيّاً على هذه القواعد. قال: ((ولأنّه لا يرجّح بالخبر حتّى يعلم أنّه غير منسوخ, ولا مخصّص, ولا معارض بما هو أقوى منه من إجماع أو غيره)). أقول: هذا الذي ذكره لا يجب على المجتهد عند جماهير علماء الإسلام, كما ذلك مقرّر في علم الأصول, وأنّه لا سبيل إلى العلم بعدم المعارض والنّاسخ والمخصّص, وإنّما اختلف العلماء في وجوب الظّنّ لعدم هذه الأمور في حقّ المجتهد فقط, ولا أعلم أنّ أحداً شرط ذلك في ترجيح المقلّد, [وإنّما اختلف العلماء في وجوب التّرجيح على المقلّد] (¬1) بما يفيد الظّنّ, ولم يختلفوا في جواز ذلك وحسنه, وإنّما اختلفوا في وجوبه مع اتّفاقهم على (¬2) أنّه زيادة في التّحرّي. ¬
فلا يخلو المعترض؛ إمّا أن يقرّ أنّ التّرجيح بخبر الثّقة يفيد الظّنّ أو لا, إن قال: إنّه لا يفيد الظّنّ؛ فذلك ممنوع؛ لأنّ الظّنّ يحصل بخبر الثّقة من غير توقّف على العلم بعدم المعارض والنّاسخ والمخصّص, و [وجوب] (¬1) الظّنّ /عند خبر الثّقة ضروري, ولو كان ظنّ صحّة الحديث النّبويّ يتوقّف على ذلك لتوقّف الظّنّ على ذلك في سائر أخبار الثّقات, وكان يجب إذا أخبرنا ثقة بوقوع المطر, أو نفع دواء, أو غير ذلك أن لا نظنّ صحّته حتّى يطلب المعارض والمخصّص, بل يلزم إذا أفتى المفتي أن لا تقبل فتواه حتّى يطلب معارضها من غيره فلا يوجد, وكذلك يلزم ألا يعتدّ بأذان المؤذن حتّى يطلب المعارض, وكذلك إذا شهد الشّاهدان. وإمّا أن يسلّم أنّ الظّنّ يحصل بخبر الثّقة قبل طلب المعارض ونحوه؛ فالدّليل على وجوب الترجيح به من وجوه: الوجه الأوّل: أنّ مخالفته قبل طلب المعارض وغيره مع ظنّ صحّته تقتضي الإقدام على ما يظنّ أنّه حرام وأنّ مضرّة العقاب واقعة عليه, وتجنّب الحرام المظنون واجب سمعاً, وتجنّب المضرّة المظنونة واجب عقلاً. الوجه الثّاني: أنّ الدّليل على وجوب العمل بخبر الواحد قائم قبل طلب هذه الأمور, وقبل ظنّ عدمها كما هو قائم بعد ذلك. الوجه الثّالث: أنّ أبا بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - لما سئل عن ¬
سهم الجدّة (¬1)؛ فأخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة, لم يطلب المعارض والنّاسخ ونحو ذلك. وكذلك عمر بن الخطّاب لما أخبره عبد الرّحمن بقوله - صلى الله عليه وسلم - في المجوس: ((سُنّوا بهم سنّة أهل الكتاب)) (¬2) عمل به ولم يطلب المعارض والنّاسخ ونحوه, وشاع ذلك وذاع ولم ينكر فكان إجماعاً من الصّحابة ... -رضي الله عنهم-. الوجه الرّابع: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ في حديثه ¬
المشهور (¬1): ((بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) الحديث. وفيه ما يدلّ على تقرير معاذ على ما ذكره, ولم يذكر فيه طلب المعارض والنّاسخ بعد وجود الحكم في الكتاب أو السّنّة, وكان طلب ذلك في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالوجوب؛ لأنّه يطلب من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وذلك طلب مفيد لليقين. وحديث معاذ هذا وإن كان في إسناده مقال عند بعض أهل الحديث, فقد قوّاه غير واحد, منهم: القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ (¬2) والحافظ ابن كثير الشّافعيّ (¬3) , وذكر أنّه جمع جزءاً (¬4) في شواهده وطرقه وقال: ((هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة ¬
كلام المعترض على علم الناسخ والمنسوخ ودعوى صعوبته والجواب عنه
الإسلام في إثبات أصل القياس)) , وكذلك علماء المعتزلة والزّيديّة احتجّوا به, بل قال الأمير الحسين في ((شفاء الأوام)): إنّه حديث معلوم. فإن قلت: فهذه الوجوه تقتضي أنّ البحث عن المعارض والنّاسخ والخاصّ غير واجب في حقّ المجتهد. قلت: هو كذلك, وهو اختيار الفخر الرّازي وحكاه في ((المحصول)) عن غيره, وفي المسألة خلاف مشهور, فإن دلّ دليل على دفع هذه الوجوه, ووجوب البحث على المجتهد, وجب تقرير ذلك حيث دلّ دليل في حقّ المجتهد دون المقلّد, وإن لم يدلّ دليل, فالحقّ أحقّ أن يتّبع, والدّاعي إليه أجدر أن يسمع. قال: ((ولأنّ /التّرجيح بالأخبار اجتهاد, لأنّه يفتقر إلى أصعب علوم الاجتهاد وهو معرفة النّاسخ من المنسوخ, وغير ذلك, والغرض أنّ هذا النّاظرمقلّد)). أقول: هذا الاحتجاج ضعيف بمرّة, لأنّه لا رابطة عقليّة بين الاجتهاد وأصعب علومه, إذ ليس بعض شرائط الشّيء إذا تصعّب كان هو ذلك الشّيء المشروط, ألا ترى أنّه لا يقال: إن (¬1) الطهور في الماء البارد في البلاد الباردة هو الصّلاة لأنّه أصعب شروطها إلا على وجه مجازيّ لا يعتدّ بمثله في مواضع التّحليل والتّحريم, فكذلك معرفة النّاسخ والمنسوخ لا يقال فيها إنّها اجتهاد؛ لأنّه أصعب علوم الاجتهاد. ¬
على أنّ تمثيله لأصعب علوم الاجتهاد بمعرفة النّاسخ والمنسوخ جهل مفرط؛ لأنّ معرفة ذلك يسيرة, فإنّ النّسخ قليل في الشّريعة بالنّظر إلى التّخصيص, وما يدخله ضرب من التّعارض, وقد جمع كثير من العلماء المنسوخ في مختصرات يسيرة (¬1). وجملة ما أجمع العلماء على نسخه: استقبال بيت المقدس, والكلام في الصّلاة, وحكم المسبوق, وترك الصّلاة في الخوف, وصلاة الجمعة قبل الخطبة, والصّلاة على المنافقين, وتحريم زيارة القبور على الرّجال, وجواز الاستغفار للكفّار بعد موتهم على الكفر, ووجوب صوم عاشوراء, والسّحور بين طلوع الفجر وشروق الشّمس على خلاف شاذّ في تفسير الفجر, وجواز لحوم الحمر الأهليّة, ورجعة المطلّقة أبداً, واعتداد المتوفّى عنها حولاً, وجواز شرب الخمر, وتحريم الأكل والنّكاح ليلاً في رمضان, والتّخيير فيه (¬2) بين الصّوم والكفّارة, وتحريم الجهاد بالسّيف للكفّار, وتحريم قتال آمّي (¬3) البيت الحرام منهم, ووجوب قيام اللّيل على غير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , واعتبار العشر الرّضعات في تحريم الرّضاع, وتحريم كتابة غير القرآن, ووجوب الوصيّة للأقربين, والتّوارث بغير القرابة, وحبس الزّانِيَيْن حتّى يموتا, ووجوب قتال المسلم لعشرة. ¬
وأجمع المسلمون على أنّ الرّباعيّة من الصّلوات لا تصلّى ركعتين وإن كانت [كذلك] (¬1) في الأصل, لكنّهم اختلفوا في الزّيادة في العبادة هل هي نسخ؟ على قولين, وأجمعوا على وجوب الحجاب للنّساء, فإن كان جواز تركه من قبل على أصل الإباحة؛ فليس من المنسوخ في شيء, وإن كان ترخيصاً شرعيّاً ناسخاً لشرع متقدّم فهو منسوخ, والأوّل أقرب, وفيما ذكرناه ما لم يجمع على ثبوته أوّلاً مثل اعتبار العشر الرّضعات, ولكن أجمعوا الآن على عدم اعتباره, فهو عند من ثبت عنده في حكم المجمع على نسخه. وفي المنسوخ ما اشتهر نسخه ولم أعلم فيه خلافاً, ولا تقل الإجماع فيه [من يوثق] (¬2) به فيما أعلم, وذلك في: نسخ الأمر بالفرع (¬3) , وقتل شارب /الخمر في الرّابعة, والأمر بأذى الزّانين, وتحريم كنز الذّهب والفضّة بعد إخراج الزكاة, وتحريم قتال الكفّار والبغاة في الأشهر الحرم, وجواز التّنفيل قبل القسم, ولبس خواتيم الذّهب, والأمر بقتل الكلاب إلا الأسود, وجواز المثلة. وفي المنسوخ ما اشتهر نسخه وذهب إليه المشاهير (¬4) وشذّ المخالف فيه, وذلك مثل نسخ: ((الماء من الماء)) , والوضوء ممّا ¬
مسّت النّار, والتّطبيق في الرّكوع (¬1) , والأمر بضرب النّساء مطلقاً, وموقف الإمام بين الاثنين, والقول بأنّه لا ربا إلا النّسيئة, ووجوب حقوق في المال غير الزّكاة, والأمر بالعتيرة -وهي ذبيحة في رجب- ومتعة النّساء, وتحريم لحم الأضحية بعد ثلاث, والرّضاع بعد الحولين, وعدم وجوب الشّياه في زكاة البقر -على تفصيل فيه-, وشذّ المخالف في جواز لبس الحرير للرّجال مدّعياً نسخ التّحريم, والمخالف في المسح على الخفّين مدّعياً لنسخه شذّ في الصّدر الأوّل, ثم كثر القائل به من الشّيعة. وشاع الخلاف في نسخ تحريم استقبال القبلة عند قضاء الحاجة, وفي ترك الوضوء من مسّ الذكر, وفي متعة الحجّ, وفي طهارة جلود الميتة بالدّبغ, وفي التّيمّم إلى المناكب وصحّ نسخه, وفي جواز مسح القدمين في الصّلاة, وفي جواز إقامة غير المؤذّن, وفي قطع المارّ للصّلاة, وفي الصّلاة إلى التّصاوير, ووضع اليدين قبل الرّكبتين, والجهر بالتّسمية, وفي ثبوت القنوت, وفي القراءة خلف الإمام, وأفضليّة الإسفار بالصّبح, وصلاة المأموم جالساً إذا صلّى الإمام كذلك, وسجود السّهو بعد السّلام, والقيام للجنائز, ونسخ عدد تكبير صلاة الجنازة إلى أربع, والنّهي عن الجلوس حتّى توضع الجنازة, وفساد صوم المصبح جنباً والجمهور على صحّته, وفساد ¬
صوم المحتجم, ونسخ إباحة الفطر في السّفر إلى وجوبه والجمهور على خلافه, ونسخ النّهي عن شرب النّبيذ في الآنية المسرعة بالتّخمير, كالدّبّاء, والإناء المطليّ ولم يقل بعدم النّسخ فيه إلا أحمد بن حنبل وأتباعه. واختلفوا في نسخ قوله تعالى في الممتحنة: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَت أَزْوَاجُهُم مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة:11]. لاختلافهم في معناها على ما هو مقرّر في كتب التّفسير, والنّهي عن الرّقى, وعن القران في التّمر, وعن قول ما شاء الله وشاء فلان, والاشتراط في الحجّ, وابتداء الكفار بالقتال في الحرم, وشهادة غير المسلمين في السّفر عند الحاجة إلى ذلك, وتحريم لحوم الخيل, وجواز المزارعة, والإذن للمتوفّى عنها في النّقلة أيّام عدّتها وصحّ نسخه, وقتل المسلم بالذّمّي, والتّحريق بالنّار في غير الحرب, واستيفاء القصاص قبل اندمال الجرح, وجلد المحصن قبل الرّجم, وحكم الزّاني بأمَة امرأَته, ووجوب الهجرة من دار الكفر, والدّعوة قبل القتال, وجواز قتل النّساء الكافرات, وقتل ولدان الكفّار, والنّهي عن الاستعانة بالمشركين, وأخذ السّلب بغير بيّنة, وجواز الحلف بغير الله, وقبول هداية الكفّار, والنّهي عن البول قائماً, ووجوب الغسل يوم الجمعة. فهذه /تسعة وتسعون حكماً أجمع أهل العلم على حكم سبعة وعشرين منها, واشتهر النّسخ من غير خلاف نعرفه في ثمانية أحكام (¬1) , وشذّ المخالف في نسخ ثلاثة عشر حكماً, وشذّ القائل ¬
بنسخ حكمين, واشتهر الخلاف منها في ثمانية وأربعين حكماً؛ أكثرها أو كثير منها لم يجمع فيه شرائط النّسخ بل يكون من العموم والخصوص أو التعارض الذي يرجع فيه إلى التّرجيح. وأحسن كتاب صنّف في ناسخ الحديث ومنسوخه كتاب ((الاعتبار)) (¬1) للحافظ الحازمي (¬2) وهو مبسوط كثير الفوائد, وليس يخرج منه إلا منسوخ القرآن الكريم, وكثير منه معلوم ضرورة لا يحتاج إلى ذكر, مثل: نسخ شرب الخمر, واستقبال بيت المقدس, ونحو ذلك. وقد صنّف الإمام محمد بن المطهّر كتاب ((عقود العِقيان في النّاسخ والمنسوخ من القرآن)) (¬3) , وطوّل تطويلاً مخرجاً عن المقصود بعيداً عن ملاءمة الاقتصار على موضوع الكتاب (¬4). فإذا عرفت أنّ هذا الذي ذكرناه هو كلّ المنسوخ أو جلّه لا يفوت منه إلا ما لا يعصم البشر عن نسيان مثله, فكيف يقال: إنّه أصعب ¬
علوم الاجتهاد؟ (1 وأن معرفته اجتهاد (¬1)؟ ومن المعلوم لكلّ منصف أنّ تعلّم مثل هذا أسهل من تعلّم كتاب الصّلاة في كثير من الكتب الفقهيّة التّقليديّة, وقد تعرّض المتعلّمون من الطّلبة لمعرفة علم العربيّة, وكثير من العلوم الدّقيقة؛ فلم يعلم من أحد من أهل العلم أنّه قنّطهم من بلوغ المقصود في تلك الفنون, فكيف إلى معرفة مختصر لطيف في النّاسخ والمنسوخ؟! وهذا محض المخالفة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يسّروا ولا تعسّروا)) (¬2) فنسأل الله الهداية, ونعوذ به من الغواية. قال: ((فكيف يستنتج العقيم ويستفتى من ليس بعليم))؟ أقول: الجواب على هذا من وجوه: الوجه الأوّل: إمّا أن يشير بهذا الكلام إلى الاستهزاء والسّخرية بمن أجاز للمميّز من القرّاء المقلّدين, أو أوجب عليه أن [يبحث عن] (¬3) الأدلّة ويعرف نصوص السّنّة ثمّ يقلّد الأرجح من العلماء, أو يأخذ بما وافق النّصوص النّبويّة التي حكم لها نقّاد العلماء بالصّحّة وعدم النّسخ والتّخصيص والمعارضة, أو يشير بهذا الكلام إلى السّخرية بمن قال بتجزّىء الاجتهاد, وأنّ المطّلع على أدلّة المسألة, وجميع ما قيل فيها (¬4) يصير مجتهداً فيها, يلزمه العمل باجتهاده, وكلّ واحدة من هاتين المسألتين صحيحة القواعد, نصّ عليها من جلّة ¬
مسألتان
العلماء غير واحد, والسّاخر من الذّاهب إليهما من علماء الملّة الإسلامية متعدّ لحدود القوارع القرآنية, قال الله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُواْ خَيْراً مِنْهُم} [الحجرات:11] ونحن نذكر كلّ واحدة من هاتين المسألتين ليظهر للنّاظر أنّه ليس في شيء منهما ما يوجب /السّخرية والاستهزاء بمن ذهب إليهما, أو عوّل عليهما: المسألة الأولى: في وجوب التّرجيح أو جوازه في حقّ المميّز من طلبة العلم لا سيّما طلبة علم الحديث النّبويّ, فهذه مسألة قد ذكرها غير واحد من العلماء, وقد حكاه في ((مختصر المنتهى)) (¬1) عن أحمد بن حنبل, وابن سريج, وحكاه القطب الشّيرازي في الشّرح عنهما, وعن القفّال, وأبي حامد الغزّالي, وجماعة من الفقهاء والأصوليين وهو الذي اختاره المنصور بالله, واحتجّ على وجوبه في كتاب ((صفوة الاختيار)) , وهو ظاهر حكاية عبد الله بن زيد العنسيّ عن الزّيديّة في كتاب ((الدّرر)) , وهو الذي نصّ عليه المؤيّد بالله في كتابه ((الزّيادات)) فقال ما لفظه: ((فصل فيما يجب على العامّي والمستفتي, وما يكون الاشتغال به أولى من العلوم: عندي أنّ التّنقير والبحث واجب على العامّيّ, فإن كان ممن له رشد وثبت له وجه القوّة بين المسألتين أخذ بأقواهما عنده, وإن لم يكن له رشد فلابدّ أن ينظر إلى التّرجيح بين العلماء ويطلب ذلك)) إلى آخر كلامه. وقال الإمام الدّاعي يحيى بن المحسن (¬2) ما لفظه: ((من انتهى في ¬
شرح كلمة الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي
العلم إلى حالة يمكنه معها التّرجيح بين الأقوال وجب عليه استعمال نظره في التّرجيح, وإن لم يبلغ درجة الاجتهاد)). وذكر النّووي في ((شرح المهذب)): (¬1) أنّه صحّ عن الشّافعيّ - رضي الله عنه - أنّه قال: ((إذا صحّ الحديث فاعملوا به ودعوا مذهبي)) , قال النّووي في ((شرح المهذب)) (¬2): ((وورد هذا المعنى عنه بألفاظ مختلفة)) , وهذا يدلّ على ما قلناه, لأنّ قول الشّافعيّ هذا لا يجوز أن يوجّه إلى المجتهدين لأنّهم غير عاملين بمذهبه, سواء صحّ الحديث أو لم يصحّ, ولأنّهم غير محتاجين إلى مثل هذا التّعليم, وإنّما وصّى بهذا ملتزمي مذهبه إشفاقاً منه - رضي الله عنه - على أصحابه ومتّبعيه من الوقوع في العصبيّة [له و] (¬3) تقديم قوله على ما صحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهذا يدل على تعظيمه - رضي الله عنه - للسّنن النّبويّة ومحبّته لتقديم العمل بها على الآراء القياسيّة والأنظار المبنيّة على كثير من الأمارات العقليّة. وذكر النّووي -رحمه الله-: أنّ كثيراً من علماء الشّافعيّة عملوا على مقتضى هذه القاعدة في مسائل كثيرة, منها اختيار التّأذين بالصّلاة ¬
خير من النّوم (¬1) فإنّ قول الشّافعيّ الجديد أنّ ذلك ليس بسنّة, لكنّهم خالفوه لمّا صحّ الحديث في ذلك, وكذلك الحافظ عماد الدّين المعروف بابن كثير ذكر مثل ذلك في كتاب: ((إرشاد الفقيه إلى أدلّة التّنبيه)) (¬2) في مسألة تحريم الزّكاة على موالي بني هاشم [وبني المطّلب] (¬3) , وقدّم الحديث على مذهب الشّافعيّ, وحكى مثل ذلك عن النّواوي -رحمه الله-, وهو الذي اختاره الإمام العلاّمة شيخ الإمام النّووي (¬4): عزّ الدّين ابن عبد السّلام الشّافعي الذي قال النّووي في ((شرح المهذب)) في ترجمته: إنّهم اتفقوا على براعته في العلوم كلّها, وعلى أمانته وديانته أو كما قال, ذكر ذلك عزّ الدين ابن عبد السّلام في كتابه ((قواعد الأحكام في مصالح الإنام)). وأجمع كلام /في هذا رأيته كلام الإمام النّواوي في ((شرح المهذب)) (¬5) وهو هذا بلفظه, قال -رحمه الله تعالى-: ((صحّ عن الشّافعيّ -رحمه الله- أنّه قال: إذا ¬
وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بالسّنّة ودعوا قولي. وروي عنه: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي. وروي عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة, وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التّثويب, واشتراط التّحلل (¬1) من الإحرام بعذر المرض, وغيرهما مما هو معروف. وممّن أفتى بالحديث البويطيّ والدّاركيّ (¬2) ونصّ عليه الكيا الطّبريّ, واستعمله من أصحابنا المحدّثين: البيهقيّ وآخرون. وكان جماعة من متقدّمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشّافعيّ بخلافه عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين: مذهب الشّافعي ما وافق الحديث. ولم يتفق ذلك إلا نادراً لما نقل عن الشّافعيّ. وهذا الذي قاله الشّافعي ليس معناه أنّ كلّ من رأى حديثاً صحيحاً, قال: هذا مذهب الشّافعيّ بظاهره (¬3) , وإنّما هو فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدّم من صفته أو قريب منه, وشرطه: أن يغلب على ظنّه أنّ الشّافعيّ لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحّته, وهذا إنّما يكون بعد مطالعة كتب الشّافعيّ كلّها ونحوها من ¬
كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها, وهذا شرط صعب قلّ من يتّصف به. وإنّما اشترطوا ما ذكرناه لأنّ الشّافعيّ ترك العمل بظاهر أحاديث علمها ورآها, لكن قام الدّليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تأويلها أو نحو ذلك. قال ابن الصّلاح: ((ليس العمل بظاهر ما قاله الشّافعي, فليس كلّ (¬1) فقيه يسوغ له أن يستقلّ بالعمل بما رآه حجة من الحديث. وممّن سلك هذا المسلك أبو الوليد موسى بن [أبي] الجارود (¬2) - ممّن صحب الشافعيّ- قال: صحّ حديث: ((أفطر (¬3) الحاجم والمحجوم له)) فأقول: قال الشّافعيّ: أفطر الحاجم والمحجوم. فردّوا ذلك عن أبي الوليد لأنّ الشّافعيّ تركه مع علمه بصحّته لكونه منسوخاً عنده, وبيّن نسخه. قال أبو عمرو (¬4) بن الصّلاح -فيمن وجد حديثاً يخالف مذهبه-: نظر إن كان من أهل الاجتهاد فيه مطلقاً أو في ذلك الباب أو المسألة كان له العمل به, وإن لم يكن, وشقّ عليه مخالفة الحديث بعد البحث عنه, ولم يجد جواباً شافياً؛ فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل, ويكون هذا [عذراً] (¬5) في ترك مذهب إمامه. وما قاله ¬
متعيّن)). انتهى ما حكاه النّووي -رحمه الله تعالى- في هذا. ونقلت من خط شيخنا الحافظ العلامة شيح الحرمين الشّريفين جمال الدين /كعبة الطّالبين: محمد بن عبد الله بن ظهيرة (¬1) - رضي الله عنه - في ذلك عجباً عجيباً, وكان يقول: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي, إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط, وسلك في ذلك أسلوباً غريباً حتّى إنّ أكبر أصحابه أبا يعقوب يوسف بن يحيى البويطي كشط يوماً شيئاً من كتابه, فقيل له في ذلك؟ فقال: هذا صاحبنا أوصانا به, وحكى - رضي الله عنه - بإسناد (¬2) إلى الربيع بن سليمان أنّه قال: سمعت الشّافعيّ - رضي الله عنه - يقول -وسأله رجل عن مسألة- فقال: روي عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال كذا وكذا. فقال له السّائل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فارتعد الشّافعي واصفرّ وحال لونه وقال: ويحك! أيّ أرض تقلّني وأيّ سماء تُظلّني إذا رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً [و] (¬3) لم أقل به!؟ نعم على الرأس والعين (¬4). وفي رواية فقال الشّافعيّ: تراني في بيعة أو كنسية؟ تراني على زيّ الكفّار؟ هو ذا تراني في مسجد المسلمين على زيّ المسلمين, مستقبل قبلتهم أروي حديثاً عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أقول به))؟ ¬
وذكر شيخنا ابن ظهيرة -أمتع الله المستفيدين ببقائه- تفصيل ما أجمله العلاّمة النّووي من ألفاظ الشّافعيّ ونقل ذلك كلّه من طريق أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الحاكم, وقد تركت التّطويل بترك (¬1) جميع ذلك؛ لشهرته عند جميع أهل المعرفة من أصحاب الشّافعيّ -رضي الله عنهم-. وأمّا الدّليل على ما اختاره هؤلاء العلماء الأعلام فوجوه: أحدهما: أنّه لو جاز (¬2) للمقلّد أن يتخيّر عند الاختلاف ما يشاء من غير ترجيح لكان مخيّراً بين التّحليل والتّحريم, إن شاء حلّ (¬3) الشّيء, وإن شاء حرّم, وإن شاء أوجب, وإن شاء حرّم ثم حلّ أو أحلّ ثم حرّم بغير دليل ولا ضابط, وهذا ممنوع؛ لأنّه يؤدّي إلى تمكّن العوامّ من سقوط جميع التكاليف الظّنّيّة الخلافيّة والإجماعيّة, أمّا الخلافيّة, فظاهر, وأمّا الإجماعيّة الظّنّيّة؛ فلأنّ في العلماء من يقول: إن الإجماع المنقول بالآحاد لا يجب (¬4) العمل به فيقلّدون من قال بهذا, وحينئذ لا يجب عليهم إلا الضّروريات من الدين أو من الإجماع, لكن الضّروريات من الإجماع هي الضّروريات من الدين, فحينئد لا يجب عليهم إلا المعلوم ضرورة من الدّين, بل هذا القول ¬
يؤدّي إلى جواز تقليد من يقول: إنّ التّقليد غير جائز, وتقليد من يقول: إنّ الاجتهاد غير واجب, إمّا لأنّ في النّاس من هو قائم بفرضه, أو لأنّه قد عدم العلماء فتعذّر التعليم وسقط الوجوب. فإن قيل: /ليس له أن يقلّد من يقول بسقوط التّقليد, وسقوط الاجتهاد, وإنّما يجوز له تقليد أحدهما؛ لأنّ المسقط للتّقليد يقول بوجوب الاجتهاد, والمسقط للاجتهاد يوجب التّقليد. قلنا: قد قال بجواز مثل هذه الصورة في التّقليد بعض العلماء, فإذا [جاز] (¬1) التّقليد مطلقاً جاز مثل هذا التّقليد, وهذا كلّه يؤدّي إلى تمكّن العامّيّ من عدم وجوب الرجوع إلى العلماء. لكن المعلوم وجوب ذلك على العوامّ من إجماع الصّحابة؛ فبطل ما أدّى إلى مخالفة إجماعهم. الوجه الثّاني: أنّ الأدلّة على جواز التّقليد غير عامّة لهذه الصّورة ولا متناولة لها, أمّا قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ} [الأنبياء:7]. فلما تقدّم (¬2) , وأمّا إجماع الصّحابة على تقرير العوامّ على التّقليد فلأنّه إجماع فعلي لا لفظي, والأفعال لا عموم لها, وهذه الصّورة لم تقع في زمانهم ولم تشتهر ويجمعوا على جوازها, فإنّه لم يعلم أنّ أحداً من طلبة العلم في زمنهم قلّد في مسألة يحفظ فيها حديثاً صحيحاً مخالفاً لما هو عليه, وأنّهم علموا (¬3) ¬
[بذلك] (¬1) كلّهم وأجازوه, ولا علم (¬2) أنّ عامّيّاً اختلف عليه عالمان فقلّد المفضول منهما وعلموا بذلك وأجازوه. الوجه الثّالث: أنّ كلامنا إنّما هو فيمن اعتقد وجوب التّرجيح, ومن اعتقد ذلك وجب عليه بالإجماع, ولم يكن لأحد أن يعترضه, بل من أمره بمخالفة ما يجب عنده فقد عصى الله تعالى وأمره بمعصيته نسأل الله السّلامة. الوجه الرّابع: أنّ كلامنا أيضاً إنّما هو في الذي يوجب العمل بالتّرجيح بعد أن عرف الرّاجح, وحصل له الرّجحان الذي لا يمكن دفعه, بسماعه للأحاديث الصّحيحة, ووقوفه على كلام الحفّاظ, وأهل المعرفة التّامّة والاطّلاع الواسع, ونصّهم على صحّة الحديث, وعدم وجود ما يدفع العمل به, فأخبرني على الانصاف؛ ما الموجب لترك العمل بمقتضى الحديث؟ هل كونه مخالفاً لبعض العلماء؟ فقد صار العمل به موافقاً لبعضهم, وترك العمل به مخالفاً لبعضهم أيضاً. [أو] (¬3) الموجب لتركه كونه راجحاً مظنوناً, وكون ترك العمل به ضعيفاً مرجوحاً؟ فهذا عكس المعقول والمنقول, فاعجب من سخرية المعترض بمتّبع السّنن, والسّائر من الحقّ في مثل هذا السَّنن!!. ويستشهد لهذا بولاد العقيم, وإعراضه عما يجب لحملة علم السّنّة من التّعظيم. يا هذا! إن الملائكة تفرش أجنحتها (2 تعظيماً لطالب ¬
الثانية: تجزؤ الاجتهاد والراجح فيه
العلم و (¬1) لمن احتقرت من طلاب السّنّة, وتكريماً لمن أهنت من سالكي طريق الجنّة. وإذا الأكابر عظّمتك فلا تبل ... بمطاعن الأوزاع والأخياف (¬2) المسالة الثانية: أنّ طالب الحديث والنّحو وسائر الفنون يجوز أن يكون مجتهداً في مسألة معيّنة أو في فنّ معيّن, وإن كان غير مجتهد في غير /ذلك, وهذا هو قول الأكثر, كذا قال قطب الدّين الشّيرازي في ((شرح مختصر المنتهى)) وحكى فيه عن الغزالي أنّه قال: ((وليس الاجتهاد عندي [منصباً] (¬3) لا يتجزّأ, بل يجوز أن ينال العالم منصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون البعض)) (¬4) انتهى. وحجّة الجمهور على ذلك: أنّ طالب العلم قد يعرف في بعض المسائل جميع ما يتعلق بها, وما يعرفه المجتهد العام في ذلك, وقول المخالفين يجوز أن يكون فيما لم يعلم ما يتعلّق بذلك ضعيف, لأنّ مجرّد التّجويز المرجوح لا يمنع الاجتهاد, إذ كلّ مجتهد يجوز ذلك [في حقّه] (¬5) وإن اجتهد في جميع العلوم, لكن النّادر لا عبرة به. وقد أجاب قطب الدّين بهذا وقال: ((الكلام مفروض فيما إذا ¬
كانت (¬1) جميع الأمارات المتعلّقة بتلك المسألة حاصلة في ظنّ الفقيه عن مجتهد بأن يوقفه على الكلام عليها, أو الكلام مفروض بعد تحرير الأئمة للأمارات, وتخصيص كلّ بعض من الأمارات ببعض المسائل, وجمع كلّ إلى جنسه (¬2))). فهذه حجّة الجمهور. وأمّا مسألتنا فإنّما هي فيمن ذهب إلى مذهب الجمهور, واعتقد صحّته, ثمّ إنّه بعد البحث الكثير في مصنّفات العلماء التي [حرّروا فيها] (¬3) الأدلّة على الأبواب, وذكروا الخلاف والحجج على الإنصاف والاستيفاء, ثمّ ترجّح له بعض المذاهب لموافقة النّصوص الصّحيحة, وخاف أن يكون قد صار مجتهداً في تلك المسألة, وإن لم يكن مجتهداً فمقلّداً مرجّحاً, ولم يكن في دماغه من دخان العصبيّة ما يوجب اتباع المفضول, والعمل بالمرجوح الذي هو خلاف الأولى عند جميع العلماء, وإنّما اختلفوا في وجوبه لا في جوازه (¬4) ولا في استحبابه. أمّا من قال: بتجزّىء الاجتهاد؛ فظاهر, وأمّا من منعه؛ فإنّه يقول بجوازه لمن اعتقد جوازه, لأنّ المسألة ظنّيّة خلافيّة, لا قاطع فيها, ولا مانع من العمل بها, فالمستهزىء بالعامل بهذا, السّاخر ¬
منه, المشبّه لعلمه (¬1) بما لا يستقيم من استنتاج العقيم, منتظم في سلك الذين: {كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ, وَإِذَا مَرُّواْ بِهِم يَتَغَامَزُونَ, وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُواْ فَكِهِينَ, وَإِذَا رَأَوْهُم قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ, وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِم حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]. الوجه الثّاني في الجواب: أنّ المعترض قد ارتكب ما استقبح, وانتهك ما استعظم, فإنّه ضعّف القول بوضع اليمنى على اليسرى في الصّلاة, وضعّف القول بالتأمين فيها -أيضاً- وأخذ يرجّح مذهبه بما روى من الأخبار, انتصاراً لمذهبه المختار, هذا مع اعترافه أنّه من المقلّدين, وغلوّه في القول بعدم المجتهدين, فما باله أنتج وهو عقيم, وأفتى وليس بعليم!! وقد قال الحكيم (¬2): لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم /الوجه الثّالث: أن نقول: ما مرادك بهذا الإنتاج؟ (2 هل إنتاج (¬3) الاستدلال العامّ في جميع المسائل التي لا تصحّ (¬4) إلا من المجتهدين في علوم الدّين, أو إنتاج التّرجيح لبعض المسائل التي ذهب خصمك إلى جوازه من المقلّدين كما هو مذهب الأكثرين؟ إن كان الأوّل؛ فليس فيه نزاع, وإن كان الثّاني؛ فليس يبطل بمجرّد الأسجاع. فهلمّ الدّليل, وتنحّ عن (5 التّعويل على مجرّد (¬5) التّهويل. ¬
الوجه الرّابع: أن نقول: ما قصدك بذكر استنتاج العقيم, واستفتاء من ليس بعليم؟ هل قصدك مجرّد السّجع في الكلام, أو الإفحام للخصم والإلزام؟ إن كان الأوّل؛ فالبلغاء لا يستطيبون من الأسجاع مواردها, متى كانت [تنقص من المذاهب] (¬1) قواعدها, فإنّها لا تصلح إلا زينة للحجج الصّحيحة, فمتى أفسدتها كانت عند البلغاء قبيحة, لكن سجعك هذا يهدم قواعدك, ويخالف مقاصدك؛ لأنّك الذي أجزت للمقلّد العقيم أن يفتي وليس بعليم, وفي نصرة هذا المذهب أنشأت هذه الرّسالة؛ وأعدت وأبديت في نصرة هذه المقالة. وأمّا إن كان المعترض قال ذلك الكلام على سبيل الإفحام لخصمه والإلزام؛ فقد عاد الإلزام أيضاً إليه, وخرج الاحتجاج من يديه, لأنّه الذي قضى بفقد المجتهدين, وحكم بمرتبة الفتيا للمقلّدين, وأنتج العقيم, وخبط من المناقضة في ليل بهيم, فبطلت حجّته واضمحلت, وجاء المثل: ((رمتني بدائها وانسلت)) (¬2). ومن العجائب: أنّ المعترض متصدّر للفتوى والتّدريس والمناظرة والتّصنيف, وهو معترف بالجهل, مدّع لخلوّ العالم من أهل العلم, منكر على من يرى جواز التّرجيح بالأخبار, مقتد في ذلك ¬
كلام المعترض على مسائل في الاجتهاد والتقليد, وفيه أنظار
بالجلّة من العلماء الأخيار, زاعماً أنّ ذلك يؤدّي إلى إنتاج العقيم (2وفتوى من ليس بعليم, مصدّراً لكلامه بكيف الإنكاريّة, مصوّراً لذلك في أبعد صور المحالات العادية وهو ولاّد العقيم (¬1) الذي لا يصحّ ولا يستقيم!! وهذا يقتضي أنه العقيم الولود, والظّئر الودود (¬2) , فكيف يعيب خصمه بما هو فيه, ويلزمه من المحالات ما هو بالحقيقة مدّعيه؟ وما ذاك إلا أنّه غفل عن كون هذه من عيوبه, وتوهّم أنّه (¬3) من عيوب خصومه, فباح به أشدّ البواح, وأكثر عليهم من الصّياح. ولم تزل قلّة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم قال: فأمّا أن يكون له في كلّ مسألة أن يرجّح ويخرج عن مذهب من كان قلّده؛ فالصحيح أنّ عليه التزام مذهب إمام معيّن, ذكره المنصور بالله, والشّيخ الحسن بن محمد, والشّيخ أحمد بن محمد, واحتجّ لهم بوجوه: أحدها: بالإجماع, وهو أنّه لا يعلم أحد من المقلّدين يتردّد بين مذاهب علماء الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخّرين, ففي مسألة يقلّد أبا بكر, وفي أخرى عمر, وفي ثالثة ابن عباس, وفي رابعة ابن مسعود, وهلمّ جرّا, ولا من يكون مقلّداً لطاووس, وعطاء, والحسن, والشّعبي, ولابن المسيّب, ولغيرهم ممّن كان وراءهم, يقلّد في كلّ مسألة إماماً, ولا من /يكون حنفيّاً في مسألة, شافعيّاً في أخرى, ¬
النظر الأول
مالكيّاً حنبليّاً هادويّاً ناصريّاً, هذا ما وقع, ولا علم به, ولو وقع زماننا لأنكره النّاس. أقول: ضعف كلام المعترض في هذا التفصيل يتبيّن بذكر أنظار: النّظر الأوّل: أنّ المعترض جاوز حدّ العادة في الغلوّ حتّى ادّعى الإجماع على ما المعلوم (1انعقاد الإجماع (¬1) على نقيضه, وذلك أنّه ادّعى الإجماع على التزام مذهب [إمام] (¬2) معيّن في زمن الصّحابة والتّابعين, واحتجّ على ذلك بأنه لم يعلم أنّ أحداً كان يقلّد أبا بكر في مسألة, وعمر في ثانية, وابن عباس في ثالثة, وابن مسعود في رابعة, هكذا قال بغير حياء من أهل العلم, والمعلوم أنّ العامّة ما كانت في زمن الصّحابة متحزّبة أحزاباً متفرّقة في التّقليد فرقاً بكريّة, وعمريّة, ومسعوديّة, وعبّاسيّة, كما أشار إليه, وإلا فأخبرنا من الإمام في زمن الصّحابة [الذي] (¬3) لم تكن العامّة تستفتي سواه ولا ترجع إلى غيره. فإن قلت: إنّك تلتزم هذاو وتصرّ (¬4) على أنّه لم يكن في زمن الصّحابة إلا مفت واحد, فقد أنكرت الضّرورة, ولم يكن [لمناظرتك] (¬5) صورة, فقد نقلت الفتيا عن أكثر من مائة نفس من ¬
الصّحابة, ذكرهم غير واحد من العلماء, منهم: الحافظ أبو محمد بن حزم (¬1) , والشّيخ أحمد بن محمد في كتاب ((الشجرة)) (¬2). وتعيينهم وكمية عددهم, وإن نقلت بالآحاد فكثرتهم في الجملة معلومة بالضرورة, وأمّا إن أقرّ بما هو معلوم من أنّ العامّة لم يكونوا ملتزمين لمذهب صحابي واحدو وأنّ الصّحابة لم يكونوا مقتصرين على فتوى مفت واحد, فليت شعري أيّ البواطل تركب؟ هل القول بأنّ كلّ مفت من الصّحابة كان له أتباع؟ فهذا يفضي في تشعّب مذاهبهم إلى غاية الاتساع, فيكون العامّة في زمنهم أكثر من مئة فرقة على عدد المفتين, أو ترتكب القول بإلزام العامة لمذاهب جماعة مخصوصين, فهذا مثل دعوى الرّوافض للاختصاص بالعلم بالنّصّ على اثني عشر إماماً منصوصين. والجواب عليهم الجميع: أنّ أهل العلم يشاركون لكم في معرفة الآثار, والبحث عن السّير والأخبار, ولم يعرفوا من هذا شيئاً, ولا عرفوا فيه علماً ولا ظنّاً, ولا يصحّ أن يوحي إليكم ذلك من دون النّاس, فما سبب الانفراد بهذا العلم والاختصاص؟. وبالجملة: فالمعلوم ضرورة أنّ العامّيّ في زمن الصّحابة كان يفزع في الفتوى إلى من شاء منهم, من غير نكير في ذلك, وهذا من الأمور المعلومة, وقد احتجّ بذلك ابن الحاجب في ((مختصر ¬
المنتهى)) (¬1) على أن الالتزام لا يجب وادّعى القطع بوقوعه, وكذلك الشّيخ أبو الحسن احتجّ في ((المعتمد)) (¬2) بإجماع الصّحابة على عدم الالتزام, قال قطب الدّين في شرح كلام ابن الحاجب ما لفظه: ((احتجّ المصنّف بالإجماع (¬3) على الجواز بوقوعه -أي بوقوع المتنازع فيه /في زمن الصّحابة وغيرهم- من غير إنكار من [أحد] (¬4) ولو كان ذلك منكراً لأنكر, ولم ينقل عن أحد من الصّحابة والتّابعين الإنكار ولا الحجر على المستفتي في تقليد إمام واحد. فإن قلت: فهذا الإجماع يقتضي أنّه لا يجب التّرجيح, وأنت قد ذكرت أنّه يجب. قلت: إنّما ذكرت أنّه يجب حين يختلف أهل الفتوى على العامّي فيزول ظنّه لصدق المفتي وصحّة فتواه, وهذه الصّورة التي أوجبت فيها التّرجيح, لم يظهر وقوعها في زمنهم, فكيف الإجماع عليها؟! وإنّما كان العامّي في زمنهم يسأل أحدهم وهو لا يعلم أنّ الآخر يخالفه, فإذا سمع الفتوى ظنّ صحّتها, وطابت نفسه بها, وكأنّما سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهذا هو المعروف من أحوال العامّة وأكثرهم, فإنّهم لا يعلمون أنّ المفتي قد يفتي برأي منه يخالف فيه من هو أعرف منه, وأنّما يعتقد أكثرهم أنّ الفتوى إنّما هي بنصوص ¬
النظر الثاني
واضحة من صاحب الشّريعة, فلا يدخل في حكمهم من عرف مراتب الضّعف والقوّة في مآخذ أهل الفتوى إذا سمع الخلاف, وتعارضت عليه الأقوال, ووقع في حيرة الشّكّ, وظلمة التّعارض, فإنّه يجب على هذا الرّجوع إلى النّظر في الأمارات والمرجّحات حتّى يلوح له ما تطيب به نفس من رجحان ما هو عليه, وصحّة ما يذهب إليه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (¬1) ولما قدّمنا من الأدلّة في ذلك, وسوف يأتي مزيد بيان لوجه الاحتجاج بهذا الحديث, وبيان معناه في مسألة قبول أهل التّأويل إن شاء الله تعالى. النّظر الثّاني: أن المعترض قال في احتجاجه ما لفظه: ((إنه لم يعلم أحد من المقلّدين يتردّد (¬2) بين مذاهب علماء (¬3) الإسلام)) , وهذا منه احتجاج بإجماع العامّة, وليس يعتبر بهم في الإجماع مع المجتهدين فكيف بهم منفردين؟ وفي الحديث الصّحيح المتفق عليه ¬
النظر الثالث
من حديث عبد الله بن عمرو (¬1) مرفوعاً: ((إنّ الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً, وإنّما يقبض العلم بقبض العلماء, حتّى إذا لم يبق عالماً اتخذ النّاس رءوساً جهّالاً فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا (¬2))). فهذا الحديث يقتضي (¬3) أنّ العامّة قد يجتمعون على الضّلال والإضلال, ولا يكون إجماعهم حجّة يعصم من الضّلال. النظر الثالث: أنّا لو سلّمنا أنّ إجماعهم حجّة لما دلّ على مذهبه, لأنّه فعل لا قول, وفعل الأمّة دليل على الجواز لا على الوجوب, لأنّهم إنّما عصموا عن الحرام لا عن المباح, فلا مانع من أن يكون فعلهم مباحاً, فلو قدّرنا أنّهم التزموا مذهباً لكان ذلك دليلاً على جواز ذلك لا على وجوبه, ونحن لا ننازعك في جواز ذلك وجواز خلافه, وإنّما نازعناك في مسألة مخصوصة لم ينقل أنّ الأمّة أجمعت فيها /بعينها إجماعاً قوليّاً ولا فعليّاً, فبان بهذه الأنظار أنّه وهم ثلاثة أوهام: أحدها: أنّ الأمّة أجمعت على الالتزام, والإجماع إنّما انعقد على عدم الالتزام. وثانيها: أنّ إجماع العامّة حجّة. وثالثها: أنّ الإجماع الفعليّ دليل الوجوب, فلو أنّه احتجّ بتقرير العلماء للعامّة لكان أقرب له, وإن كان لا يسلم من وهمين, فوهمان ¬
النظر الرابع
خير من ثلاثة. *وبعض الشّرّ أهون من بعض (¬1) * النّظر الرّابع: ادّعى أنّ التّنقّل ما وقع في المذاهب ألبتة, وأنّ أحداً من المقلّدين ما علم أنّه كان شافعيّاً في مسألة حنفيّاً في أخرى. وهذا الكلام يدلّ على أحد أمرين: إمّا على شدّة تغفيله, وأنّه لا يدري ما يقول وإمّا على كثرة جرأته وقلّة مبالاته, وذلك أنّه لا يعلم أنّ أحداً من المقلّدين ما عمل بغير مذهب إمامه قطّ إلا الله سبحانه وتعالى, لأنّ الإحاطة بأعمال المقلّدين متعذّرة مع انتشارهم في أقطار الإسلام شرقاً وغرباً وشاماً ويمناً, ومع وجود المتساهلين منهم وجود (¬2) الفسّاق المصرّحين. وليت شعري ما يقول هذا المعترض؟! هل يقطع بأن أحداً من المقلّدين ما زنى ولا سرق, ولا أربى ولا فسق؟ فهذا عناد عظيم, وبهتان مبين, أو يقرّ بذلك, فكيف قطع بأنّهم لا يفعلون -ولا أحد منهم- ما هو جائز عند كثير من علماء الإسلام؟ ومن أين علم عصمتهم عن هذا الذي لم يقل أحد من الأمّة: إنّ فاعله مستحلاًّ له يفسق ولا يعصي؟ والمعلوم خلاف ما ذكره من كثير من العامّة, بل من كثير من أهل التّمييز, بل قد قدّمنا كلام غير واحد من العلماء في وجوب ذلك ¬
النظر الخامس
على أهل التّمييز, ونصّ بعضهم على جوازه, منهم: المؤيّد والدّاعي من أئمة الزّيديّة, وعزّ الدّين بن عبد السّلام, والنّواوي, وابن الصّلاح من أئمة الشّافعيّة, بل بيّنّا أنّ كلام الإمام الشّافعيّ يقتضي ذلك كما تقدّم (¬1). وأمّا قول المعترض: إنّه لا يوجد أحد من المقلّدين من يكون هادويّاً في مسألة, ناصريّاً في مسألة؛ فأعجب من هذا كلّه! وهو غفلة كبيرة, أو جحد للضّرورة, فإنّ العمل بمذهب النّاصر في أنّ الطلاق البدعي لا يقع؛ ظاهر مشهور في نجد واليمن من بلاد الزّيديّة, والعمل به معلوم فيما بينهم من المفتين والمستفتين من غير التزام (¬2) لمذهب النّاصر, وإنكار هذا خلع لعروة المراعاة [كعادات] (¬3) أهل العناد, وغلوّ لم يبلغه أحد من أهل اللّجاج. النّظر الخامس: قال المعترض: ولو وقع هذا في زماننا لأنكره النّاس. وهذا عجيب أيضاً! لأنّه إمّا أن يريد أن هذه إجماعية, وهو الظّاهر من كلامه, فهذا لا يصحّ لوجوه: أحدها: أنّه واقع ولم ينكره النّاس كما (¬4) قدّمته. وثانيها: أنّ قوله: لو وقع لأنكره النّاس؛ دعوى على النّاس, بل ¬
بقية كلام المعترض على مسائل الاجتهاد والجواب عليه
دعوى لعلم الغيب بما يكون من النّاس في المستقبل. وثالثها: أنّا في علّة من كيفية العلم بإجماع العلماء فكيف بإجماع النّاس؟!. ورابعها: أنّه قد حكم بالجهل على أهل زماننا, فمع ذلك كيف يحتج بإجماعهم, /وليس يحتجّ إلا بإجماع العلماء؟. قال: الوجه الثّاني: أنّه لا يتميّز على هذا الوجه المجتهد من المقلّد, فإنّه إذا رجّح في كلّ مسألة, وعمل يما يترجّح [له] (¬1)؛ فهذا شأن المجتهدين, وكونه قد قال به قائل شرط في حقّ المجتهدين أيضاً. أقول: هذا الوجه أضعف مما قبله؛ والقول بالتّرجيح لا يؤدّي إلى ما ذكره من عدم الفرق بين المجتهد والمقلّد, فالفرق بينهما واضح, وهو أنّ المقلّد ليس له أن يستقلّ بقول لم يسبق إليه, وإنّما هو تبع لغيره, وقد رام المعترض أن يبطل هذا الفرق فركب الصّعب الذّلول, وخالف المعقول والمنقول, والتزم أنّه لا يحلّ الاجتهاد لمجتهد حتّى يسبقه غيره إلى اختياره, وهذا معلوم البطلان لوجوه: أحدها: أنّه يلزم بطلان اجتهاد خير الأمّة من الصّدر الأوّل الذين ابتكروا الكلام في الحوادث, وسبقوا إلى الاجتهاد في المسائل. وثانيها: أنّه يلزم أنّ الحادثة إذا حدثت وليس فيها نصّ لمن تقدّم من العلماء لزم العمل فيها بغير اجتهاد ولا تقليد, لأنّ شرط كلّ واحد ¬
كلام المعترض على أحاديث كتب الصحاح, ووهم في هذا الفصل عدة أوهام
من الاجتهاد والتّقليد موافقة نصّ متقدّم, وقد عدم هذا الشّرط فيلزم من ذلك سقوط التّكليف في هذا الحكم والعمل بالإباحة, أو تكليف ما لا يطاق من موافقة مراد الله تعالى من غير اجتهاد ولا تقليد, وعلى هذا يكون ترك حفظ أقوال العلماء المتقدّمين أولى؛ ليبطل التّكليف, ويأمن الوقوع في المعصية فيما لم ينصّوا عليه, وهذا شيء لم يسبق هذا المعترض إليه!!. الوجه الثالث: أنّ الأمّة مجمعة قديماً وحديثاً على أنّه لا يشترط في الاجتهاد ما ذكره, وإنّما اشترط العلماء عدم مصادمة الإجماع القطعيّ, واختلفوا في الظّنّيّ (¬1) إذا لم يعارض بما هو أرجح منه, على ما هو مقرّر في علم الأصول. قال: ((الموضع الثّاني في الدّليل على أنّ في أخبار هذه الكتب المسمّاة بالصّحاح ما هو غير صحيح)) إلى آخر ما ذكره في الموضع الثّاني. أقول: كلامه في هذا الفصل مشتمل على أمرين: أحدهما: الطّعن في صحّة حديث الصّحاح بما فيه من حديث المحاربين لعلي - رضي الله عنه -. وثانيهما: الطّعن على أهل الحديث بمذاهب نسبها إليهم, وإنما لم أورد كلامه في هذا الفصل بلفظه, لأنّه (2 تقدّم شيء منه و (¬2) تقدّم الجواب عليه, وسوف يأتي أيضاً كثير منه في الكلام على المتأوّلين ¬
الوهم الأول: جواز الكبائر على الأنبياء
, ويأتي الجواب عليه هنالك إن شاء الله تعالى. وقد رأيت أن اقتصر على ذكر أوهام وهمها في هذا الفصل لا يخلو ذكرها من فائدة, معرضاً عمّا في سائر هذا الفصل من الأوهام التي لا يفيد ذكرها ولا يهم أمرها, /فإنّ مجرّد التّعرّض للاعتراض من غير فائدة مما ليس تحته طائل, ولا يستكثر من ذكره فاضل. وقد أخّرت الكلام في البغاة على أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - إلى المسألة الثّالثة ليكون الكلام في أهل التّأويل, وما يتعلّق بهم في موضع واحد, فإنّ ذلك أحسن ترتيباً وأكثر تقريباً. وهذا بيان ما وهم فيه المعترض على أهل السّنّة حرسها الله تعالى: الوهم الأول: زعم صاحب الرّسالة أنّ أهل الحديث يجيزون الكبائر في الأنبياء عليهم السّلام, ولكنّه سمّاهم بغير اسمهم؛ فأفرط بذلك في وصمهم, فأقول: لا غرو إن أوذي أهل التّقى ... كلّ إمام بالأذى قد بلي ما سلم الصّدّيق من رافض ... ولا نجا من ناصبيّ (¬1) علي يأيها الرّامي لهم في دجى ... تعارض الشّكّ بأمر جليّ بأنجم من علم أعلامهم ... تعارض الشّكّ بأمر جلي من ذلك ما ذكره القاضي الإمام العلامة عياض بن موسى اليحصبيّ المالكيّ في كتابه ((الشّفا)) , في التّعريف بحقوق المصطفى)) (¬2) ¬
- صلى الله عليه وسلم - , فإنّه اجاد الكلام (1 في هذه المسألة, وليس يتّسع هذا المختصر لذكر جملة شافية مما ذكره؛ فإنّه نوّع الكلام في هذا المعنى وذكر (¬1) الأقوال, والحجج, والتّأويل حتّى بلغ كلامه في هذا قدر [ستّين] (¬2) ورقة بخطّ وسط, أو يزيد قليلاً بحسب اختلاف خطوط (¬3) النّسخ وأوراقها, ومن كلامه فيه ما لفظه: ((أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات, ومستند الجمهور في ذلك الإجماع هو مذهب القاضي أبي بكر, ومنعها غيره بدليل العقل مع الإجماع, وهو قول الكافّة, واختاره الأستاذ أبو اسحاق. وكذلك لا خلاف أنّهم معصومون من كتمان الرّسالة والتّقصير في التّبليغ)). وذكر الإجماع على عصمتهم عن الصّغيرة التي تؤدّي إلى إزالة الحشمة, وتسقط المروءة وتوجب الخساسة. ثمّ قال: ((بل يلحق بهذا ما كان من قبيل المباح فأدّى إلى مثل ذلك ممّا يزري بصاحبه, وينفّر القلوب عنه)). ثمّ ذكر القاضي الخلاف في عصمتهم قبل النّبوّة حتّى قال: ((والصّحيح تنزيههم من كلّ عيب, وعصمتهم من كلّ ما يوجب الرّيب)). وذكر أيضاً قبل هذا عصمة الأنبياء -عليهم السّلام- من الصّغائر واختاره واحتجّ عليه. وقال الفخر الرّازي في ((محصوله)) (¬4) ما لفظه: ((والذي نقول ¬
به: إنّه لم يقع منهم ذنب على سبيل القصد لا صغير, ولا كبير, وأمّا السّهو فقد يقع منهم بشرط أن يذكروه (¬1) في الحال, وينبّهوا غيرهم على أنّ ذلك كان سهواً. وقد سبقت هذه المسألة في علم الكلام, ومن أراد الاستقصاء فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء والله تعالى أعلم)). وقال الإمام الحافظ أبو زكريا النّووي في كتاب ((الروضة)) (¬2): ((أنّ الأنبياء -عليهم السّلام- معصومون من تعمّد الذنوب؛ صغيرها وكبيرها)) هذا معنى كلامه, ولم يحضرني لفظه. /وقال ابن الحاجب في ((مختصر المنتهى)) (¬3): ((الإجماع على عصمتهم بعد الرّسالة من تعمّد الكذب في الأحكام, والإجماع على عصمتهم من الكبائر وصغائر الخسّة)). وقال أبو عبد الله الذّهبيّ في ((النّبلاء)) (¬4) وقد ذكر ما معناه: تنزيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأكل مما ذبح على النّصب قبل النّبوّة, فقال ما لفظه: ((ومازال المصطفى محفوظاً محروساً قبل الوحي وبعده, ولو احتمل جواز ذلك, فبالضرورة ندري أنّه كان يأكل ذبائح قريش قبل الوحي, وكان ذلك على الإباحة, وإنّما توصف ذبائحهم بالتّحريم بعد نزول الآية, كما أنّ الخمرة كانت على الإباحة إلى أن نزل تحريمها بالمدينة بعد يوم أحد. ¬
وقوع المعترض في هذا الوهم لسببين
والذي لا ريب فيه أنّه كان معصوماً قبل الوحي وبعده, وقبل التّشريع من: الزنا قطعاً, ومن الخيانة, والغدر, والكذب, والسّكر, والسّجود لوثن والاستسقام بالأزلام, ومن الرّذائل, والسّفه, وبذاء اللسان, وكشف العورة, ولم يكن يطوف عرياناً, ولا يقف يوم عرفة مع قومه بمزدلفة, بل كان يقف بعرفة)). انتهى الكلام الحافظ الذّهبيّ. فهذا ما تيسّر لي من نقل نصوصهم وقت تعليق هذا الجواب, مع البعد من ديارهم, وعدم التمكن من الاستمداد من سائر مصنّفاتهم, ومن الأخذ عن محقّقي علمائهم, وقد بان بهذا أنّ جلّة أئمّتهم نصّوا في كتبهم المتداولة بينهم على عصمة الأنبياء من تعمّد الصّغيرة, وهذا هو المنصوص لعياض في كتاب ((الشّفاء)) , وللرّازي في ((المحصول)) , وللنّواوي في ((الرّوضة)) , فبان بهذا أنّهم أكثر تنزيهاً للأنبياء -عليهم السّلام- من المعتزلة والزّيديّة, لأنّ مذهبهم تجويز تعمّد الصّغائر على الأنبياء -عليهم السّلام-, إلا [البغداديّة من المعتزلة] (¬1) فإنّهم يمنعون ذلك, لأنّ كلّ عمد كبيرة عندهم لا لتنزيه الأنبياء من تعمّد الصّغيرة, وإنّما أتي صاحب الرّسالة في رميهم بهذه الضّلالة من سببين: السّبب الأوّل: أنّه رأى هذا المذهب منسوباً إلى الحشويّة فظنّ أنّ المحدّثين هم الحشويّة كما قد سمّاهم بذلك في رسالته, وليس عليه في مجرّد الجهل ذنب, فأكثر عامّة المسلمين لا يدرون من الحشويّة ولا يعرفون أنّ هذه النّسبة غير مرضيّة, وإنّما الذّنب الرّجم بالظّنون الكاذبة, والخوض مع أهل العلم بغير معرفة. ¬
ومن كان له أدنى تمييز عرف أنّ نقّاد الحديث وأئمة الأثر أعداء الحشويّة, وأكره النّاس لهذه الطائفة الغويّة, فإنّ الحشويّة إنّما سمّوا بذلك لأنّهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المرويّة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أي: يدخلونها فيها وليست منها, رواه النّفيس العلوي عن نشوان بن سعيد الحميري (¬1) , وذكر ولده محمد بن نشوان (¬2) في كتابه ((ضياء الحلوم)) (¬3) ما يدلّ على ذلك فقال: ((إن الحشويّة سمّوا بذلك لكثرة قبولهم الأخبار من غير إنكار)). فإذا عرفت هذا تبيّن لك أنّ المحدّثين [هم] (¬4) الذين اختصّوا /بالذّبّ عن السّنن النّبويّة والمعارف الأثريّة, وحموا حماها من أكاذيب الحشويّة, وصنّفوا كتب الموضوعات, وناقشوا في دقائق الأوهام حفّاظ الثّقات, وعملوا في ذلك أعمالاً عظيمة, وقطعوا فيها أعماراً طويلة, وقسّموا الكلام فيه في أربعة فصول: (¬5) أحدها: معرفة العلل. وثانيها: معرفة الرّجال. ¬
وثالثها: معرفة علوم الحديث. ورابعها: معرفة الحديث وطرقه. واشتملت هذه الفنون من المعارف النّبويّة, والقواعد العلميّة على ما يضطرّ كلّ عارف إلى أنّهم أتمّ الخلق عناية بحماية علم الحديث على التّبديل والتّحريف, وأنّهم الجهابذة النّقاد بعلم المتن والإسناد, فإنّهم الذين بيّنوا أنواع الحديث التي اختلف في قبولها أهل العلم, مثل: التدليس والإعضال, والاضطراب والإعلال, والنّكارة والإرسال, والوصل والقطع, والوقف والرّفع, وغير ذلك من علوم الحديث الغزيرة, وفوائده العزيزة, ولأمر ما سارت تصانيفهم فيه مسير (¬1) الكواكب, وانتفع بكلامهم فيه الوليّ الصادق, والعدوّ المناصب, والمتّهم لهم بحشو الأحاديث واختلاق الأباطيل في الحديث لا يكون من أهل العقول التّامّة, دع عنك أهل المعارف الخاصّة (¬2). وذلك لأنّه لا خفاء على العاقل: أنّ أئمة الفنّ لا يكونون هم المتّهمين فيه, إذ لو كان كذلك لبطل العلم بالمرّة, فإنّا لو اتّهمنا النّحاة في النّحو, واللّغويين في اللّغة, والفقهاء في الفقه, والأطبّاء في الطّبّ؛ لم يتعلّم جاهل, ولا تداوى مريض, فياهذا! من للحديث إذا ترك أهله!؟ فلو عدمت تآليفهم فيه وتحقيقهم لألفاظه ومعانيه؛ لأظلمت الدّنيا على طالبه, وأوحشت المسالك (¬3) على مريده. ¬
بل يا هذا! فكر لم سمّوا: أهل الحديث, ولم [سمّي] (¬1) أهل الكلام بذلك, وكذلك أهل النّحو وسائر الفنون؟ فإن كان أهل الحديث عندك سمّوا بذلك مع عدم معرفتهم بذلك, وكذبهم فيه, فهلاّ جوّزت مثل ذلك في سائر الفنون, بل في سائر أهل الصّناعات, بل في جميع أهل الأسماء المشتقّات, فيجوز أن يسمى الفقيه نحويّاً, والمتكلم عروضيّاً, والغنيّ فقيراً, والصّغير كبيراً, وهذا ما لا يقول به عاقل, ولا يرتضيه أحد من أهل الباطل. ومن أحبّ أن يعرف حقّ المحدّثين واجتهادهم [في التّحرّي للمسلمين] (¬2) , فليطالع تآليف نقادهم في الرّجال والعلل والأحكام, مثل: ((ميزان الاعتدال في نقد الرّجال)) للذّهبيّ, و ((التهذيب)) للمزّيّ, و ((العلل)) للدّارقطني, و ((علوم الحديث)) لابن الصّلاح, وزين الدّين العراقي, وغير ذلك, ثمّ ليطالع بعد ذلك كتب ((الصّحاح)) , و ((السّنن)) لاحظاً لما فيها من اختيار أصحّ الأسانيد, والإشارة إلى مهمّات ما يتعلّق بالأحاديث: من العلل القادحة, والمرجّحات الواضحة, ثمّ ليوازم بينها, وبين مصنّفات سائر الفرق في الحديث, يجد الفرق بين التّصانيف واضحاً, والبون بين الرّجال نازحاً (¬3). ومن موازين الإنصاف العادلة, وأدلّة الأوصاف الفاضلة: أنّك ¬
تراهم يضعّفون الضّعيف من فضائل أبي بكر, وعمر, /وعثمان ... -رضي الله عنهم- ويصدعون بالحقّ في ذلك, وكذلك يضعّفون ما يدلّ على مذهبهم متى كان ضعيفاً, ويضعّفون كثيراً من علمائهم إذا كانوا ضعفاء, نصيحة منهم للمسلمين, واحتياطاً في أمور الدّين. وهذه إشارة مختصرة على (1 قدر هذا (المختصر) (¬1) , دعا إلى ذكرها تعريف من أنكر الجليّات, ودافع ما هو كالمعارف الأوّليّات, إذ من المعلوم أنّ أهل الحديث اسم لمن عني به, وانقطع في طلبه, كما قال بعضهم: إنّ علم الحديث علم رجال ... تركوا الابتداع للاتّباع فإذا جنّ ليلهم كتبوه ... وإذا أصبحوا غدوا للسّماع فهؤلاء هم من أهل الحديث من أي مذهب كانوا, وكذلك أهل العربيّة, وأهل اللّغة فإنّ أهل كلّ فنّ هم أهل المعرفة فيه, وتحقيق ألفاظه ومعانيه, وقد ذكر أئمة الحديث ما يقتضي ذلك, فإنّهم مجمعون على أنّ أبا عبد الله الحاكم بن البيّع من أئمة الحديث, مع معرفتهم أنّه من الشّيعة (¬2) وقد ذكروا في كتب الرّجال كثيراً من أئمة الحديث, ورواة الصّحيح منسوباً إلى البدع, وبهذا تزداد أقوال المعترض بطلاناً في نسبة المحدّثين إلى الحشويّة, ويظهر (¬3) أنّه قد ¬
نسب إلى الحشو جماعة من أهل مذهبه (¬1) وسائر الفرق, بل نسبة ذلك إلى خير الفرق (¬2) , فإنّ المتمسّكين بالآثار (¬3) النّبويّة هم خير الفرق الإسلاميّة, لأنّهم أشبه الخلق خلقاً وسيرة وعقيدة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمحدّث إن كان مراعياً للسّنّة, مجانباً للبدعة, ملاحظاً لما كان عليه السّلف, فهو جدير بإجماع من يعتدّ به على صحّة ما هو عليه وقوّة ما استند إليه. وإن كان من بعض الفرق المبتدعة؛ فهو خير تلك الفرقة, وأشبههم خلقاً وسيرة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهذا هو الغالب, ولا عبرة بالنّادر ولا بمن ليس من أهل الدّيانة, فنسبة خير الفرق إلى شرّ فرقة تلقيبهم بأخسّ لقب؛ من التّهافت في مهاوي الضّلال, والخبط في تيه الوبال. ¬
ويلحق بهذا فائدة تزيد ما ذكرناه تحقيقاً, وتزيد أئمة الحديث توثيقاً, وهي: أنّ المشهورين بتجويز الكذب في الحديث من الحشويّة الطّائفة المسمّاة بالكرّاميّة, وقد أطلق (¬1) الرّازي (¬2) نسبة هذا إلى الكرّاميّة, وحقّقه الإمام أبو بكر محمد بن منصور السّمعاني (¬3) فنسبه إلى بعضهم فيما لا يتعلّق بالأحكام مما يتعلّق بالتّرغيب والتّرهيب, والمحدّثون براء من هذه الطّائفة, وقد تكلّموا عليهم في غير كتاب فممن تكلّم عليهم الذّهبيّ في ((ميزان الاعتدال)) (¬4) , فإنّه قال في ترجمة ابن كرّام -شيخ هذه الطّائفة- ما لفظه: ((محمد بن كرّام العابد المتكلّم ساقط الحديث على بدعته, أكثر عن أحمد الجويباري, ومحمد بن تميم السّعديّ, وكانا كذّابين. قال ابن حبان /: خُذل حتّى التقط من المذاهب أرداها (¬5) , ومن الأحاديث أوهاها. وقال أبو العبّاس (¬6): شهدت البخاريّ, ودفع إليه كتاب من ابن كرّام يسأله عن أحاديث منها: الزّهري عن سالم عن أبيه مرفوعاً: ((الإيمان لا يزيد ولا ينقص)) , فكتب البخاريّ على ظهر كتابه: من ¬
حدّث بهذا استوجب الضّرب الشّديد, والحبس الطّويل. وقال ابن حبان: جعل ابن كرّام الإيمان قولاً (¬1) بلا معرفة. وقال ابن حزم: قال ابن كرّام: الإيمان قول باللّسان, وإن اعتقد الكفر بقلبه. قال شيخ أهل الحديث ابن الذّهبيّ: ((هذا منافق محض في الدّرك الأسفل من النار, فأيشٍ ينفع ابن كرّام أن يسميه مؤمناً؟ قال الذّهبيّ: وقد سجن ابن كرّام لبدعته بنيسابور ثمانية أعوام. وقد سقت أخباره في ((تاريخي الكبير)) (¬2))) انتهى كلامه. فيا من لا يفرّق بين الحشويّ والمحدّث! انظر إلى نصوص أئمة الحفّاظ في إنكار مذهب ابن كرّام في رواية الأحاديث الواهية, وفي القول بالإرجاء, وقد نصّ البخاريّ علي: أنّ راوي الحديث المقدّم الذي هو حجّة المرجئة يستوجب الضّرب الشّديد, والحبس الطويل, وعن قريب تأتي نسبتك للإرجاء إلى المحدّثين, وقل لي من الذي حبس ابن كرّام في نيسابور على بدعته؟ ولمن كانت الشّوكة في نيسابور في ذلك العصر وهو بعد المئتين؟ فإن قلت: إنّك إنّما سمّيت المحدّثين بالحشويّة: لكون الحشويّة من فرقهم, والجامع لهم: ردّهم لمذهب الشّيعة والمعتزلة. قلت: هذا ليس مما تعذر به, فإنّ المنصور بالله روى عن المطرفية وهم من فرق الزّيديّة -أنّهم يستجيزون الكذب في الحديث في نصره ما اعتقدوه حقّاً, وذكر أنّهم صرّحوا له بذلك في المناظرة, ¬
الثاني
وقد صحّ عنهم من البدع ما هو شرّ من ذلك. وكذلك الحسينية قد صحّ تواتر أنّهم يفضّلون الحسين بن القاسم (¬1) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهم من فرق الزّيديّة, والزّيديّة يكفّرون هاتين الطّائفتين, فكما لم يلزم الزّيديّة شيء من تلك البدع لقول بعض جهلتهم بها, مع إنكارهم على من قالها؛ فكذلك لا يلزم أهل الحديث كل بدعة قيلت في بلادهم أو قالها من وافقهم في بعض عقائدهم, فزن الأشياء بالموازين العلمية وتعرّف من الحشويّة, واحذر أن تكون من هذه الفرقة الغويّة, لقبول الكثير (¬2) من الأحاديث الفريّة, المدسوسة في الأحاديث المرويّة. السّبب الثّاني: أنّ الأنبياء -عليهم السّلام- قبل النّبوّة لا يسمّون أنبياء حقيقة, ولا تثبت لهم أحكام النبوّة, ألا ترى أنّ كلامهم وأفعالهم قبل النّبوّة ليست بحجّة, وأمرهم قبلها لا يقتضي الوجوب, والشّاك في حكمهم (¬3) قبلها لا يكفر, وذلك لأنّ حكمهم قبل النّبوّة ¬
حكم سائر المسلمين, فلما /كان الأمر كذلك, ولم يرد في حكمهم قبل النبوّة نصّ يرجع إليه, ولا إجماع يعتمد عليه ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني, وكثير من الأشعرية وكثير من المعتزلة: إلى أنّه لا دليل قاطع يدلّ على عصمتهم -عليهم السّلام- قبل النّبوّة, مع اعترافهم أنّ الأنبياء -عليهم السّلام-[كانوا] (¬1) قبل النّبوّة في أرفع مراتب الفضل والكمال لكن قالوا: إنّ ذلك كان منهم كما كان من أفاضل المسلمين من غير دليل قاطع يدلّ على العصمة. وهذا القول -مع بعد أهل الحديث عنه لتعلّقه بعلم الكلام الذي لا يخوضون فيه- قول بعيد عمّا اجترأ المعترض بنسبته إلى أهل الحديث لوجهين: الوجه الأول: أنّ من جوّز على الأنبياء -عليهم السّلام- شيئاً قبل النّبوّة لم يجز أن ينسب إليه القول بذلك بعد النّبوّة, ولو ساغ ذلك لجاز أن ينسب إلى المعتزلة والزّيديّة أنّ كلام الأنبياء غير حجّة, والإيمان بهم غير واجب, لأنّ هذا هو حكم الأنبياء عندهم قبل النّبوّة, بل كان يلزم أن يجوز نسبة هذا إلى جميع المسلمين. الوجه الثاني: أنّ هؤلاء الذين جوّزوا هذا من متكلّمي المعتزلة والأشعرية لم يقولوا بوقوعه, بل هم معترفون أنّ الواقع خلافه, وأنّ الأنبياء -عليهم السّلام- كانوا قبل النّبوّة وبعدها من أعظم الخلق أمانة, وأحسنهم ديانة, وأطيبهم أعرافاً, وأكرمهم أخلاقاً. وفرق بين القول بأنّ الأنبياء قبل النّبوّة كانوا من الفضلاء الصّالحين, لكنّهم كانوا غير معصومين, وبين القول بأنّهم كانوا قبل ¬
النّبوّة غير معصومين, ولا صالحين, فإنّ القول بعدم العصمة مع الاعتراف بالفضل والصّلاح لا يستلزم الاستهانة, ألا ترى أنّ جميع الأئمة والأولياء عند الجميع غير معصومين من الكبائر, مع أنّهم عندنا في أعلى مراتب الصّلاح, فليس يلحق: إبراهيم بن أدهم, وأويساً القرني, أمثالهم نقص ولا استهانة منّا حين لم نعتقد عصمتهم. وليس يظهر للخلاف فائدة تحقيقية, ولكن تقديريّة, وهو: أنّه لو فرض وقوع كبيرة من بعض الأنبياء -عليهم السّلام- قبل النّبوّة لوجب الكفر [بنبوّتهم] (¬1) عند أكثر المعتزلة, ولم يجب عند الأشعرية, وكثير من المعتزلة, وهذا لا يلزم القائلين بعدم العصمة للأنبياء قبل النبوة كفراً أبداً, لأنّهم آمنوا بالأنبياء سواء كانوا معصومين /قبل النّبوّة أو لا, وأمّا القائلون بالقطع بعصمة الأنبياءقبل النّبوّة؛ فعلى تقدير أنّ الأنبياء غير معصومين قبل النّبوّة, فقد كفروا بهم كفراً مشروطاً, ففي قولهم كفر مشروط بشرط لا يقع عندهم, وفي قول الفريق الأوّل إيمان مقطوع, فما سبب التشنيع عليهم, والتّقبيح لمذهبهم, مع عدم مخالفة النّصوص الشّرعية والأدلّة العقليّة الضّرورية, وعدم الإجماع على هذه المسألة الخفيّة النّظريّة؟! والمختار أنّ الأنبياء -عليهم السّلام- معصومون قبل النّبوّة بدلائل ظنّيّة وبعدها بدلائل قطعية, بهذا يحصل الإيمان المقطوع ونسلم من الكفر المشروط, مع مراعاة بذل الجهد في تعظيم جناب النّبوّة, وتوفير أهلها, وإطلاق القول بعصمتهم قبلها وبعدها, وأمّا ¬
الوهم الثاني
تفصيل الأدلّة على ذلك؛ فذكره يخرجنا عن المقصود, وله موضع غير هذا. الوهم الثّاني: قال المعترض: إنّ هؤلاء الحشويّة -وعنى بهم أهل الحديث- يجوّزون الكبائر على الأنبياء, ولا يجوّزونها على الصّحابة, واحتجّ على ذلك بأشياء: منها ما نذكره هنا, ومنها ما نذكره في مسائل التأويل (¬1) إن شاء الله تعالى. فمما (¬2) نذكره هنا: أنّه احتجّ على ذلك بأنّ المحدّثين احتجّوا في الكتب الصّحيحة بحديث الوليد بن عقبة. والجواب عليه في ذلك: أنّ ما ذكره غير صحيح عنهم, فلم يقولوا بعصمة أحد من (3 من الصحابة فمن دونهم (¬3) غير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وإنّما الشّيعة هم الذين قالوا بعصمة غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن بعده, فمنهم: من اقتصر على عصمة (4أمير المؤمنين (¬4) عليّ وفاطمة والحسنين -رضي الله عنهم-, ومنهم: من زاد على ذلك, فالإماميّة قالت: بعصمة اثني عشر إماماً, وفي الزّيديّة من زاد على ذلك, وقال بعصمة كل إمام من أئمة الزّيديّة, وهو إمام علوم الزّيديّة المجمع عندهم على علمه وفضله السّيّد الإمام أبو العبّاس الحسني (¬5) روى ذلك عنه (¬6) غير ¬
واحد من علماء الزّيديّة, منهم: الفقيه العلاّمة عبد الله بن زيد في كتابه ((المحجّبة البيضاء)) (¬1) , وذلك مشهور عن أبي العباس. وقد اضطرّه هذا القول إلى القول بأن أئمة الزّيدية لم يختلفوا في الفروع, ولما كان الاختلاف بينهم في الفروع معلوماً ألجأه الجمع بين مذهبه وبين اختلافهم: إلى تأويل اختلافهم /, فصنّف في ذلك كتابه المعروف ((بالتلفيق)) (¬2) وهو كتاب معروف, قد وقفت عليه, مضمونه تأويل اختلافهم على وجه يوجب الاتفاق, وذلك خلاف ما عليه جميع الزّيديّة؛ فإنّهم يذهبون إلى أنّ وقوع الخلاف بين الأئمة معلوم ضرورة, وقالت الزّيديّة: إنّ عصمة عليّ وفاطمة والحسنين -رضي الله عنهم- أعظم من عصمة الأنبياء -عليهم السلام- لأنّ الصّغائر عندهم تجوز على (3 الأنبياء, ولا تجوز على (¬3) المذكورين من أهل البيت -رضي الله عنهم-, لأنّها لو وقعت منهم لم يعلم بها, مع (¬4) أنّ أقوالهم وأفعالهم حجج (¬5) في الشّرائع!! , والأنبياء -عليهم السلام- ¬
الكلام على الوليد بن عقبة
إن (¬1) وقعت منهم الصّغائر بيّنها الله تعالى, فهذه أقوال الشّيعة مصرّحة بعصمة غير الأنبياء منصوصة في مصنّفاتهم. وأمّا أهل الحديث فما قالوا بشيء من ذلك, بل قصروا العصمة على النّبوّة, وإنّما قالوا بعدالة الصّحابة في الظّاهر كما نصّ على ذلك الفخر الرّازي في ((محصوله)) (¬2) , وكما سيظهر ذلك من نصوص غير واحد منهم, ولم يقل أحد من أهل السّنة بعصمة أحد من الصحابة في الباطن والظاهر, وكم بين القول بالعدالة في الظاهر, والقول بالعصمة في الباطن والظاهر! فإن كان المعترض يزعم أنّهم نصّوا على العصمة, فهو كذّاب أشر غير جدير بالمناظرة, وإن كان يزعم أنّ نصوصهم على عدالة الصّحابة في الظّاهر تقتضي العصمة؛ فكذلك نصوص الزّيدية على عدالة العدول من أئمتهم, وسائر المسلمين وكان يلزمه أن تقتضي عصمتهم. وأمّا احتجاجه على ما ادّعى على المحدّثين بروايتهم لحديث الوليد بن عقبة وإدخالهم لحديثه في الكتب الصّحيحة؛ فذلك لجهل المعترض بالكتب الصّحيحة, وبنصوص أئمة الحديث على فسق الوليد نصوصاً صريحة. قال إمام أهل الحديث أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب ((الاستيعاب في معرفة الصحابة)) (¬3) -وقد ذكر الوليد- ما لفظه: ((له أخبار ¬
فيها نكارة وشناعة تقطع (¬1) على سوء حاله وقبح فعاله)). وحكى عن أبي عبيدة والأصمعي, وابن الكلبيّ, وغيرهم: أنّهم كانوا يقولون: كان الوليد شرّّيب خمر فاسقاً. وقال ابن عبد البرّ -بعد ذكر هذه الأمور-: ((إنّ الوليد لم يرو سُنّة يحتاج فيها إليه)). قال: ((وأخباره في شربه الخمر, ومنادمته لأهلها كثيرة مشهورة, يسمج بنا ذكرها هاهنا, ونذكر منها طرفاً)). ثمّ ذكر أنّه صلّى الفجر بأهل الكوفة أربع ركعات ثمّ قال أزيدكم؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم, فقال الحطيئة (¬2) [في ذلك] (¬3): تكلّم في الصّلاة وزاد فيها ... علانية وجاهر بالنّفاق ومجّ الخمر في ستر (¬4) المصلّى ... ونادى الجميع إلى افتراق أزيدكم على أن تخمدوني ... فما لكم ومالي من خلاق / وقال أيضاً: (¬5) ¬
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالعذر نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم سكراً وما يدري فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشّفع والوتر كفّوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري قال أبو عمر بن عبد البرّ: ((وقوله: أزيدكم -إذ صلّى الصّبح أربعاً- مشهور من رواية الثّقات, من نقل أهل الحديث, وأهل الأخبار)). ثمّ ذكر ما روي من (¬1) أنّه تعصّب عليه قوم من أهل الكوفة بغياً وحسداً وشهدوا زوراً أنّه تقيّأ الخمر, وذكر القصّة, ثمّ قال: ((هذا لا يصحّ عند أهل الحديث, ولا له عند أهل العلم أصل)) , يعني أنّ قوماً شهدوا عليه بذلك (¬2) زوراً. ثمّ ذكر الرّوايات الصّحيحة عند أهل الحديث في ذلك, وذكر القصّة التي في ((صحيح مسلم)) (¬3) وغيره وقيام الشّهادة العادلة على شربه, وأمر على وعثمان -رضي الله عنهما- بجلده. وكذلك ذكر الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد الذّهبي في كتاب ((النّبلاء)) (¬4): أنّ الوليد كان يشرب الخمر وحدّ على شربها, وروى من شعره فيها, قال: وهو (¬5) الذي صلّى بأصحابه الفجر أربعاً ¬
وهو سكران, ثمّ التفت إليهم, وقال: أزيدكم, وقال لأمير المؤمنين عليّ - رضي الله عنه -: أنا أحدّ منك سناناً, وأذرب لساناً, وأشجع منك جناناً (¬1) , فقال له: اسكت, فإنّما أنت فاسق, فنزلت {أَفَمَنْ كَانَ مُؤمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]. رواه الذّهبيّ, وقال: ((إسناد قوي)). وقال إمام أهل السّنة أحمد بن محمد بن حنبل: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتنع أن يمسّ الوليد أو يدعو له, ومُنع بركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسابق علمه فيه, ذكر هذا الإمام أحمد حين روى الآتي ذكره. وذكر الواحدي في ((أسباب النّزول)) (¬2) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]. أنّه الوليد ولم يذكر غيره. وروى حديثين في الاستدلال على أنّه الوليد, ومثله ذكره في ((وسيط)) (¬3) الواحدي, و ((عين المعاني)) (¬4) , و ((تفسير القرطبي)) (¬5) و ((تفسير عبد الصّمد الحنفيّ)) (¬6) , و ((تفسير ابن الجوزي)) (¬7) و ((مفاتيح ¬
الفخر الرّازيّ)) (¬1) لم يذكروا سواه مع توسّع بعضهم في النّقل. وقال أبو عمر بن عبد البرّ في ((الاستيعاب)) (¬2) ما لفظه: ((ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أنّ هذه الآية نزلت في الوليد, وروى إمام المحدّثين مسلم بن الحجّاج في ((صحيحه)) (¬3) الذي اتفق أهل الحديث على صحّته أن الوليد شرب الخمر, وقامت الشّهادة عليه بذلك (¬4) عند عثمان - رضي الله عنه - , فأمر عثمان عليّاً - رضي الله عنه - بحدّ الوليد, فأمر عليّ عبد الله بن جعفر بذلك فحدّه, وعليّ يعدّ حتّى بلغ أربعين, فقال له عليّ: جلد /رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين, وأبو بكر أربعين, وعمر - رضي الله عنه - ثمانين, وكلٌّ سنّة, وهذا أحبّ إليّ. قال أبو عمر بن عبد البرّ في ((الاستيعاب)) (¬5): ((وروى ابن عيينة عن عمرو (¬6) بن دينار عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال: جلد عليّ الوليد في الخمر أربعين, قال أبو عمر: أضاف الجلد إلى عليّ لأنّه الآمر به كما مرّ)). ¬
فانظر ما في هذه القصّة من عدل الصّحابة -رضي الله عنهم-. أما عثمان فأمر بجلد الوليد مع أنّه أخوه لأمّه, ولم يقنع بجلده حتّى جلده (¬1) بيد عليّ - رضي الله عنه - , لأنّه عدوّ الوليد, وبينهما ما قدّمنا, فهذا إنصاف عثمان لعليّ -رضي الله عنهما-. وأمّا عليّ - رضي الله عنه - فلأنّه لم يغتنم الفرصة في عدوّه, ويتشفّى في جلده بيده, ويستوفي الحدّ ثمانين, بل أمر عبد الله بن جعفر بحدّ الوليد, ومنعه من الزيادة على أربعين مع تصريحه أنّ الثّمانين عنده سنّة -فرضي الله عنهم وأرضاهم-, فلقد كانوا خير أمّة أخرجت للنّاس كما وصفهم الله تعالى. فيا أيّها المدّعي على أهل البيت أنّهم يقولون بعصمة الصّحابة أجمعين, ويفضّلونهم على الأنبياء والمرسلين, كيف تصنع بجحد هذه النّصوص البيّنة والأدلّة النّيّرة! وكيف تجترىء معها على رمي المحدّثين بأنّهم لا يجيزون الكبائر على أحد ممن رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنّهم يقولون: إنّ الصّحابي إذا فعل المعصية الظّاهرة عدّوها صغيرة, فالوليد بن عقبة صحابيّ بإجماعهم, أمالك يا هذا حياء يكفّك عن مثل هذه الأكاذيب الواضحة والأباطيل الفاضحة؟! وإنّما قال المحدثون: إنّ الصّحابة عدول في الظّاهر كما قدّمنا ليخرج من ذلك من فعل الكبائر من غير تأويل كالوليد بن عقبة, وإنّما ذكروا أنّ الصحابة كلّهم عدول على الإطلاق؛ لأنّ ذلك هو الكثير, وليس يخرج منه إلا النّادر اليسير, فالفاسق الذي لم يظهر التّأويل في ذلك الصّدر كالشّعرة ¬
الكلام على بسر بن أرطأة, وما له من الأفعال
السّوداء في الثّور الأبيض. وأمّا القول بعصمة كلّ من رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أو بعدالة من تعمّد الكبائر من أهل ذلك العصر؛ فلم يقل بذلك أحد منهم قولاً صريحاً, وإن كان عموم كلام بعضهم يقتضيه فالنّصّ (¬1) الصّريح يخصّص اللّفظ العامّ, وقد ذكر النّواويّ -رحمه الله- في ((شرح مسلم)) (¬2) , وغيره من أهل الشّروح والتّاريخ أنّه ارتدّ عن الإسلام جماعة ممن يطلق عليه اسم الصّحبة. وذكر ابن عبد البرّ في ((الاستيعاب)) جماعة جرّحهم وبيّن كلام أئمة الحديث فيهم. منهم: الوليد (¬3) وقد مرّ كلام الأئمة فيه, ومنهم بسر (¬4) بن أرطأة (2 ذكره ابن عبد البرّ (¬5) , وذكر ما له من الأفعال القبيحة, وقال فيه: ((قال أبو الحسن الدّارقطنيّ: بسر بن أرطأة (¬6) له صحبة, ولم يكن له استقامة بعد النّبيّ/ - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قتل طفلين لعبيد الله بن العبّاس)). وأنشد ابن عبد البرّ لأمّهما عائشة بنت عبد المدان: ¬
ها من أحسّ (¬1) بنيّ (¬2) اللّذين هما ... كالدّرّتين تشطّى عنهما الصّدف ها من أحسّ بنيّ اللّذين هما ... سمعي وعقلي فقلبي اليوم مختطف حُدّثت بسراً وما صدّقت ما زعموا ... من قتلهم ومن الإثم الذي اقترفوا أنحى على ودجي ابنيّ مرهفة ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف قال ابن عبد البرّ: ((ثمّ وسوست؛ فكانت تقف في الموسم تنشد هذا الشّعر, وتهيم على وجهها)). قال: ((وكان ابن معين يقول فيه: إنّه رجل سوء)). قال أبو عمر بن عبد البرّ: ((وذلك لأمور عظام ركبها في الإسلام)) , وذكر أنّه أغار على همدان, وقتل سبى نساءهم فكنّ أوّل مسلمات سبين في الإسلام. ولما ذكر هذا أبو عمر استشعر سؤال سائل يَرِدُ عليه, فإنّه قدّم في أوّل الكتاب أنّ الصّحابة كلّهم عدول, وهذا يناقض ذلك؛ فأراد أن يرفع هذا الإشكال بتخصيص من شذّ عن الصّحابة, وخالف ما كانوا عليه من الدّيانة أو الدخول في الفتن مع التّأويل والتّحريّ, فروي ابن البرّ في هذا الموضع حديث ابن عباس مرفوعاً: ((إنكم محشورون إلى الله عزّ وجلّ)) , وذكر الحديث وفيه: ((فأقول يا ربّ أصحابي, فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) (¬3). ¬
قال أبو عمر: والآثار في هذا المعنى كثيرة جداً قد تقصَّيتها في ذكر (الحوض) في باب: خبيب من كتاب ((التمهيد)) (¬1) والحمد لله تعالى)). انتهى لفظه. وقد نقم بعض أهل الحديث (¬2) على ابن عبد البرّ تعرّضه في ((الاستيعاب)) لذكر ما شجر بين الصّحابة, ولم يريدوا نقم هذا الجنس, إنّما نقموا ذكر ما شجر بينهم مما وقع بين أهل الفضل على سبيل التّأويل الذي لا يقدح به في رواية الحديث, أمّا ارتكاب الكبائر عمداً؛ فذكره واجب لأجل الجرح به فاعلم ذلك. قلت: هذا مع أنّ ابن عبد البرّ ذكر في خطبة ((الاستيعاب)) (¬3) أنّ الصّحابة كلّهم عدول بتعديل الله تعالى, وهذا يدلّ على أنّهم أرادوا بعدالة الصّحابة ما قدّمته من عدالتهم [و] (¬4) عدم الاعتداد بالنّادر. فإن قلت: فما الفرق بين مذهب الشّيعة, وأهل الحديث في الصّحابة؟ قلت: من وجوه: الأول: في الخلافة وهو معروف. والثاني: أنّ أهل الحديث يحملون من أظهر التّأويل من الصّحابة ¬
على أنّه متأوّل. الثالث: أنّ أهل الحديث لا يكرهون العاصي من الصّحابة, وإنّما يكرهون معصيته, ويحبونه لإسلامه وصحبته, ويترحّمون عليه ويرضون (¬1) عنه, ويذكرون ماله من الفضائل ولا يسبّونه ولا يؤذونه, وتفصيل المقاصد والحجج مما لا يتّسع له هذا الموضع. وللزّيديّة مثل ذلك بل أكثر منه في حقّ الحسين بن القاسم (¬2) , ومن ينتسب إليهم. وللمعتزلة مثل ذلك في حق ابن الزّيّات (¬3) ,/والصّاحب الكافي (¬4) , ونحوهما لمن يميل إلى مذهبهم. وأمّا قول المعترض: إنّ أهل الكتب السّتّة رووا عن الوليد؛ فجهل وغلط, وأمّا قوله: إن أبا داود روى عنه؛ فروى عنه حديثاً واحداً بعد أن رواه من ستّ طرق؛ وقد روى أبو داود: أنّه شرب ¬
الخمر, وحدّ عليها (¬1) , فكيف تكون روايته عنه مع هذا كلّه تعديلاً له؟ فالرّواية من غير متابع ولا شاهد, ولا جرح للرّاوي ليست تعديلاً, كيف مع جرحه, ومع ذكره بعد (¬2) غيره على سبيل الاستشهاد؟!. وأنا أذكر الحديث الذي رواه عنه, وطرقه, وسبب استشهاده بحديث الوليد فأقول: بوّب أبو داود باباً في كراهية الخلوق للرّجال (¬3) , وذكر ما ورد في ذلك, واستوفى الطّرق, ولم يقتصر على الطّرق الصّحيحة. وروى عن عمّار بن ياسر - رضي الله عنه - أنّه قال: قدمت أهلي وقد تشقّقت يداي فخلّقوني بزعفران, فغدوت على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فسلّمت عليه, فلم يردّ عليّ ولم يرحّب بي, وقال: ((اذهب فاغسل هذا عنك)) فذهبت فغسلته, ثمّ جئت [وقد بقي عليّ منه ردع فسلّمت, فلم يردّ علي, ولم يرحّب بي, وقال: ((اذهب فاغسل هذا عنك)) فذهبت فغسلته, ثم جئت] (¬4) فسلّمت عليه, فسلّم عليّ, ورحّب بي, وقال: ((إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير, ولا المضمّخ بالزّعفران, ولا الجنب [قال] ورخّص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضّأ)) (¬5). ¬
وروى عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من الخلوق)) (¬1). وروى عن أنس أنّه قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التزعفر)) (¬2) , وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (¬3) والتّرمذي والنّسائي في ((سننهما)) (¬4). وروى عن أنس -أيضاً- من طريق أخرى أنّ رجلاً دخل على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعليه أثر صفرة, وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قلّ ما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه, فلمّا خرج قال: ((لو أمرتم هذا أن يغسل [هذا عنه])) (¬5) وهذا الحديث أخرجه التّرمذي (¬6) والنّسائي (¬7) أيضاً. ¬
وروى عن عمّار من غير الطّريق الأولى أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا تقربهم الملائكة جيفة الكافر والمتمضّخ بالخلوق والجنب إلا أن يتوضّأ)) (¬1). ثمّ بعد هذه الطّرق إلا طريق أنس الأخيرة روى عن الوليد أنّه قال: ((لما فتح نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة جعل أهل مكّة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح رءوسهم, قال: فجيء بي إليه وأنا مخلّق فلم يمسّني من أجل الخلوق)) هكذا رواه أبو داود (¬2). وقد روي عن أحمد ابن حنبل أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمسّه, ولم يدع له بالبركة, ومنع بركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسابق علمه فيه. وروى أحمد ابن حنبل هذا الحديث (¬3) وزاد فيه: أنّ الوليد سلح يومئذ وتقذَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأقول: إنّ النّقّاد من علماء الحديث /قد قدحوا في هذا الحديث مع الذي فيه من القدح بفسق الوليد, وقالوا: إنّه لا يصحّ لوجوه: الأوّل: أنّه قد ثبت أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه ساعياً إلى بني ¬
المصطلق في القصّة المشهورة (¬1) , وليس يصح فيمن بعث رسولاً إلى بين المصطلق أن يكون يوم الفتح صبيّاً صغيراً. الوجه الثّاني: أنّ زوجته شكته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولم يعش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح إلا يسيراً فمتى كانت هذه الزّوجة؟. الوجه الثالث: أنّه قدم في فداء من أسر يوم بدر. الوجه الرّابع: أنّ الزّبير (¬2) وغيره ذكروا أنّ الوليد هذا وعمارة ابني (¬3) عقبة خرجا ليردّا أختهما أمّ كلثوم عن الهجرة, قالوا: وهجرتها كانت في الهدنة بين النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وبين أهل مكّة. فإن قلت: فكيف غفل أبو داود عن هذا مع حفظه وجلالته؟. قلت: فيه احتمالان. أحدهما: -وهو القريب- أن يكون رأى في الحديث أمرين: أحدهما: أنّ قريشاً أتوا بصبيانهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ليدعو لهم بالبركة, ويمسح برؤوسهم, وأنّه أتى بالوليد, فلم يمسّه من غير تاريخ القصّة, وهذا محتمل لا دليل على بطلانه, ويكون أبو دواد (¬4) يعرف أصل الحديث من غير طريق الوليد. ¬
ويقوّي هذا وجوه: أحدهما: أنّ أحمد ابن حنبل تكلّم في وجه امتناع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من مسّ الوليد وأنّه منع من بركته لسابق علمه فيه, وهذا يدلّ على معرفة أحمد بأصل (¬1) الحديث لأنّه من أعرف النّاس بالحديث بالإجماع. وثانيهما: أنّ في الحديث أموراً لم تثبت في رواية الوليد, مثل ما روى أحمد ابن حنبل من كونه - عليه السلام - لم يدع له بالبركة, ولكون الوليد سلح يومئذ, وتقذَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهذا يدلّ على أنّ الحديث معروف من غير طريق الوليد, ويقوّيه: أنّ الحاكم أبا أحمد الكرابيسي ذكر: أنّ راوي هذا الحديث الذي رواه أبو داود خولف في إسناده فدلّ على أنّ له راوياً غير من ذكر أبو داود, وأنّ للحديث أصلاً, وأنه قد ثبت عن أبي داود أنّه: لا يورد في سننه جميع ما يعرف من طرق الحديث كيلا يطول ذلك على المتعلّمين (¬2). وثالثها: أنّ هذا الحديث من مثالب الوليد, ومناقصه, فالظّنّ يقوي في صدقه فيه, ولعلّ أبا داود إنّما رواه عنه لهذه النّكتة, فإنّ شهادة الإنسان على نفسه بما يدخل عليه النّقص من أقوى الشّهادات, ولقد استشعر هذا الوليد /فاعتذر بأنّه إنّما لم يمسّه لأجل الخلوق, وهذا العذر ضعيف لوجوه: أوّلها: أنّه امتنع من الدّعاء له وهو صغير لا ذنب له في استعمال الخلوق, ولا يستحق الزّجر كما فعل مع عمّار. ¬
وثانيها: أنّ جسده كلّه لم يكن مضمّخاً بالخلوق. وثالثها: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخبره أنّه امتنع لذلك, فذلك من قبيل رجم الظّنون. إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المنكر في الحديث إنّما هو تاريخه في يوم الفتح لا متنه, فإذا صحّ المتن لم يكن بطلان التّاريخ قادحاً فيه, ألا ترى أنّه يصحّ موت جماعة من الملوك وغيرهم, ويصحّ وقوع حوادث في العالم, ويختلف في تاريخها, ويظهر غلط المؤرّخ, ولا يستلزم ذلك القول بأنّ أولئك الملوك لم يموتوا, ولا أنّ تلك الحوادث لم (¬1) تقع, ويقوّي هذا الاحتمال: أنّ راوي الحديث عن الوليد بهذا التّاريخ كان رديء الحفظ, قليل الإتقان فلعلّه الذي وهم في ذكر يوم الفتح, وهذا الرّاوي هو: عبد الله أبو (¬2) موسى الهمداني, وفيه كلام من وجهين: أحدهما: أنّهم تكلّموا فيه, قال الحافظ عبد العظيم: (([قالوا] (¬3): أبو موسى هذا مجهول)) (¬4) وقال الحافظ الذّهبيّ (¬5): ((لم يرو عنه إلا ثابت بن الحجّاج فقط)). ¬
وقال جعفر بن برقان (¬1) عن ثابت بن الحجّاج: لا يصحّ حديثه (¬2). وقال الحاكم أبو أحمد الكرابيسي: وليس يعرف أبو موسى الهمداني, ولا عبد الله الهمداني, وقد خولف في هذا الإسناد, وهذا حديث مضطرب الإسناد. الوجه الثّاني: أنّ الحديث مرويّ عن عبد الله الهمداني وعن أبي موسى الهمداني, وقد اختلفوا فقيل: هو رجل واحد, قال ذلك: أبو القاسم الدّمشقيّ الحافظ, وقال ابن أبي خيثمة: أبو موسى الهمداني, اسمه: عبد الله, وقيل هما اثنان قاله البخاريّ, قال: وعبد الله الهمداني روى الحديث عن أبي موسى الهمداني وهذا هو الظّاهر لتقدّم البخاري في الحفظ, ولأنّه مثبت, ولأنّ احتجاج ابن (¬3) أبي خيثمة بأن اسم أبي موسى عبد الله لا يمنع من ذلك, ولعلّ ذلك هو متمسّك أبي القاسم الدّمشقيّ, ورواية عبد الله عن أبي موسى -كما ذكره البخاريّ- ترفع الإشكال, وظاهر كلام الذّهبيّ أنّهما واحد فالله أعلم. وهذا هو الاحتمال الأوّل وهو: أنّ أبا داود روى الحديث لثبوت ¬
متنه, وإن كان لا يخفى عليه بطلان تاريخه الذي جاء في هذا الطّريق. الاحتمال الثّاني: أن يكون أنسي هذا وإن كان لا يجهله, فقد يسهو العالم عمّا يعرف, كما يسهو في صلاته ولا (¬1) يعرف عدد ركعاتها, والسّهو غير الجهل بلا مرية, وقد يتفق ذلك لكثير من أئمة الفنون كلّها في مسائل جليّة يخطئون فيها على سبيل السّهو دون الجهل, والله سبحانه أعلم. فإن قلت: فلم روى أبو داود هذا الحديث مع ما فيه من المطاعن؟ قلت: لأنّه قد رواه بإسناد نظيف صحيح, من طريق أنس كما رواه مسلم (¬2) كذلك, ثمّ قوّى تلك الطريق بذكر جملة مما ورد في الباب مما هو ضعيف, أو مختلف فيه, كما هو عادة الحفّاظ, وليس الاضطراب الكثير في الحديث إلا من أجل تاريخه, وغرض أبي داود منه لا يتعلّق بتاريخه, إنّما يتعلّق بمتنه, وليس في متنه مطعن /إلا من وجهين محتملين: أحدهما: من أجل الوليد وقد بينّا أنّه لا يتّهم فيه فهو من مثالبه (¬3) , وإنّما رواه ليعتذر عنه, وقد بيّنّا بطلان عذره, وقد نصّ أحمد بن حنبل على عكس عذره, ولو استطاع الوليد لكتمه. وثانيهما: من أجل عبد الله الهمداني, وقد بيّنّا فيما تقدّم أنّه لم ¬
ينفرد بهذا المتن فقد تقوّى أبو داود بهذا المتن, فإن خبر الفاسق قد يثمر الظّنّ لا سيما في إقراره على نفسه بما ينقصه, وقد ضمّ هذا أبو داود إلى أمثاله مما فيه احتمال قريب, فرواه من [طرق] (¬1) قد أشرنا إليها. ففي الطّريق الأوّل: عطاء الخرساني, وقد أخرج له مسلم متابعة ووثّقه جماعة, منهم: يحيى بن معين, وأحمد بن حنبل, والعجلي, ويعقوب بن (¬2) شيبة, وأبو حاتم الرّازي على تعنّته وغيرهم. وقال الذّهبيّ: كان من خيار العلماء, وذكر في ((الميزان)) (¬3) أنّه كان يهم, فروى عن ابن المسيّب حديث الذي جامع أهله في رمضان على غير ما رواه ابن المسيّب فكذّبه فيما روى عنه [من] (¬4) ذلك, فذكره العقيلي لهذا في ((الضعفاء)) (¬5) , وكذلك ضعّفه البخاري لأجل وهمه (¬6) , وكان من عباد الله [الصالحين] (¬7) لكنّه يهم. ¬
وقال ابن حبّان في ((الضعفاء)) (¬1): ((أصله من بلخ وعداده في البصريّين, وإنّما قيل له الخراساني, لأنّه دخل خراسان, وأقام بها مدّة طويلة, وكان من خيار عباد الله غير أنّه كان رديء الحفظ, كثير الوهم, يخطيء ولا يعلم, فلمّا كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به)). قال الذّهبي (¬2): ((فهذا القول من ابن حبان فيه نظر, ولا سيّما قوله: وإنّما قيل له الخراسانيّ, فيا هذا! أيّ حاجة بك إلى هذه [الدّورة] (¬3)؟ أليست بلخ من أمّهات مدن خراسان بلا خلاف؟)) انتهى كلام الذّهبيّ. الطريق الثّانية: عن عمّار, فيها رجل [مجهول] (¬4) غير مسمّى. الطريق الثّالثة: عنه أيضاً معللة بالانقطاع بين الحسن البصري وعمّار. الطريق الرّابعة: عن أبي موسى, وفيها أبو جعفر الرّازي عيسى بن ماهان, وقيل: ابن عبد الله بن ماهان, قال الذّهبيّ (¬5): صالح الحديث, ثم روى [فيه] (¬6) الاختلاف. ¬
قال الحافظ عبد العظيم (¬1): ((قد اختلف فيه (¬2) قول ابن المدينيّ, وابن معين, وأحمد بن حنبل, فقال ابن (¬3) المديني مرّة: ثقة, وقال مرّة: كان يخلّط, وقال أحمد مرّة: ليس بقوي (¬4) , وقال مرّة: صالح حديث. وقال ابن معين مرّة: ثقة [وقال مرّة:] (¬5) يكتب حديثه, إلا أنه يخطىء, وقال أبو زرعة الرّازي: يهم كثيراً. وقال الفلاّس: سيّء الحفظ)). قلت: مجموع كلامهم يدلّ على أنّه صدوق يخطىء ويهم؛ فلهذا اضطربوا في توثيقه, لأنّ معرفة حدّ الوهم الذي يجب معه ترك الصّدوق دقيقة اجتهادية, يكون فيها للحافظ قولان, كما يكون للفقيه قولان في دقيق مسائل الفقه. الطّريق الخامسة: عن أنس, وفيها سلم العلوي وفيه كلام, قال أبو داود: وليس [هو] (¬6) علوي النّسب, كان ينظر في النّجوم وشهد عند عديّ بن أرطأة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته. وقال يحيى بن معين: ثقة, وقال مرّة: ضعيف. ¬
وقال ابن عديّ (¬1): لم يكن من أولاد علي بن أبي طالب إلا أنّ فريقاً بالبصرة كانوا يسمّون بني علي فنسب هذا إليه)). وقال ابن حبّان (¬2): ((كان شعبة يحمل عليه, ويقول: كان سلم العلوي يرى الهلال قبل النّاس بيومين. منكر الحديث [على قلّته] (¬3) لا يحتج به إذا وافق الثّقات /فكيف إذا انفرد؟)). الطّريق السّادسة: طريق الوليد بن عقبة, وقد مرّ الكلام على ما فيها من المطاعن. فإذا عرفت ما في هذه الطّريق من الاختلاف, والضّعف؛ عرفت أن أبا داود أراد التّقوّي بإيراد جميعها بعد أن اعتمد على الطّريق الصّحيحة. الطّريق السّابعة: التي خرّج فيها حديث أنس الصحيح الذي أخرجه مسلم وغيره, وقد ذكرت فيما تقدّم: أنّ الحفّاظ يروون عن بعض الضعفاء والمجاريح على جهة المتابعة, فربما يرى ذلك من لم يعرف طريقتهم [فيظنّ] (¬4) أنّ القوم يرون عدالة الفسّاق المصرّحين, وما على الحفّاظ إذا جهل بعض (¬5) النّاس ما عرفوا, وقصّر في الحفظ عمّا بلغوا, والذي يقتضيه الأدب والتّمييز: تواضع الإنسان لمن هو ¬
الوهم الثالث: الكلام على مروان بن الحكم, وأخطأ في مواضع
أعرف منه بالفنّ, فإن شاركه في المعرفة, ولاح له وجه يقتضي المخالفة, ولم يجد ما يدفعه, تكلّم بأدب وعمل بما يعلم ولا حرج, والله أعلم. الوهم الثالث: احتجّ المعترض على قبول المحدّثين للمجاريح وتصحيح حديثهم بأنَهم رووا في الصّحيح عن مروان بن الحكم. قال: وقد طرده ولعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأخطأ المعترض في مواضع: أما الموضع الأوّل: فإنّه وهم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرد مروان, والذي طرده هو أبوه الحكم, وكان مروان حينئذ طفلاً صغيراً بالإجماع, لكن أباه الحكم نقله معه إلى الطّائف, وكان يوم وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن ثمان سنين أو نحوها في قول الإمام مالك, وأكثر الأقوال تقارب هذا, ذكره أبو عمر بن عبد البرّ في ((الاستيعاب)) (¬1). فهذا يدلّ على أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي قبل أن يبلغ مروان التّكليف, ويستحق العقوبة بالتّطريد, وهذا أمر معلوم عند أهل التّاريخ. قال الذّهبي في ((النّبلاء)) (¬2) -وقد ذكر الحكم-: ((نفاه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ¬
إلى الطائف لكونه حَكَاه في مشيته, وفي بعض حركاته, فسبّه وطرده)) , وروى في ترجمته عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((مالي أُريت بني الحكم ينزون على منبري نزو القردة)) رواه العلاء (¬1) بإسنادة إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ولم يحضرني الآن ما قال الذهبي بعد هذا. وذكر ابن عبد البرّ في ((الاستيعاب)): أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرده من المدينة فنزل الطّائف, وأنّه - عليه السلام - كان إذا مشى يتكفّأ, وكان الحكم يحكيه, فالتفت إليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً؛ فرآه يفعل ذلك فقال: ((فكذلك فلتكن)) , فكان الحكم متخلّجاً يرتعش, فعيّر عبد الرحمن [بن حسّان] (¬2) بن ثابت مروان بن الحكم بذلك؛ فقال يهجوه: إنّ اللّعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلّجاً مجنوناً يمشي خميص البطن من عمل التّقى ... ويظلّ من عمل الخبيث بيطناً /قال ابن عبد البرّ: فأمّا قوله: إنّ اللّعين أبوك, فروي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي (¬3) خيثمة وغيره, أنّها قالت لمروان: أمّا ¬
الموضع الثاني
أنت [يا] (¬1) مروان, فأشهد أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن أباك وأنت في صلبه (¬2). وروى بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يدخل عليكم رجل لعين)) فدخل الحكم بن أبي العاص (¬3). ففي هذا ما يشهد بمعرفة المحدّثين بحال طريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الموضع الثاني: وهم أنّ الحكم عند المحدّثين من جملة المعصومين المفضّلين على الأنبياء والمرسلين, وقد تبيّن بذكر نصوصهم فيه ما يكذّب من اجترأ على هذا الإفك العظيم. الموضع الثالث: وهم أنّ طريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جملة رجال الصّحيح, وليس كذلك؛ فليس في الكتب السّتّة رواية عنه البتّة, وجملة من فيها من اسمه الحكم: ثلاثة وعشرون رجلاً, ليس فيهم ¬
الموضع الرابع
الحكم بن [أبي] (¬1) العاص. الموضع الرّابع: وهم أنّ مروان بن الحكم عند المحدّثين من أهل التّقوى والصّلاح, واحتجّ بروايتهم عنه على أنّهم يقبلون الفسّاق والمجاريح, ويعتقدون عدالته لإخراج حديثه في الصّحيح, وليس كذلك فإنّهم لا يجهلون ماله من الأفعال القبيحة, والمعاصي الموبقة, وأنا أورد من كلامهم فيه ما يدلّ على ذلك. قال الذّهبي في: ((ميزان الاعتدال في نقد الرّجال)) (¬2) ما لفظه: ((مروان بن الحكم, له أعمال موبقة, نسأل الله السّلامة, رمى طلحة بسهم, وفعل وفعل)). وذكره الذّهبي في ((النّبلاء)) (¬3) وساق من أخباره حتّى قال ما لفظه: ((وحضر الوقعة يوم الجمل فقتل طلحة ونجا فليته ما نجا (¬4))). هذا لفظ الذّهبي. فلو كان عنده من أهل التّقوى والصّلاح ما تمنى له الهلاك وكره له النّجاة, وقد نصّ في ((الميزان)) على: أنّ له أعمالاً موبقة, وهذا تصريح بالتّفسيق. وروى الذّهبي في ((النّبلاء)) (¬5) عن الحسين بن عليّ -رضي الله ¬
عنهما- أنّه قال لمروان: والله لقد لعنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت في صلب أبيك. ولم يذكره الذّهبي بخير, وإنّما ذكره بالمكر والدّهاء. وروى الذّهبي في ((النّبلاء)) (¬1) أن مروان هو الذي قتل طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة - رضي الله عنه - , ذكر ذلك في ترجمة طلحة. وقال أبو محمد بن حزم في ((أسماء الخلفاء)) (¬2) في ذكر خلافة ابن الزبير وقد ذكر بعض مساوي مروان: ((وهو أوّل من شقّ عصا المسلمين بلا تأويل ولا شبهة, وقتل النّعمان بن بشير أوّل مولود في الإسلام في الأنصار صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) , وذكر أنّه خرج على ابن الزّبير بعد أنّ بايعه على الطّاعة. وقال أبو السّعادات ابن الأثير في كتاب ((النهاية)) (¬3) في حرف الفاء مع الضّاد: ((قالت عائشة لمروان: أنت فضض من لعنة الله, أي: قطعة وطائفة منها. ورواه بعضهم فظاظة من لعنة الله بظانين, وهو من الفظيظ وهو ماء الكرش. وأنكره الخطّابيّ. وقال الزّمخشريّ: افتظظت الكرش: اعتصرت ماءها, كأنّه عصارة من اللّعنة, أو فعالة ¬
من الفظيظ: ماء الفحل, أي: قطعة من اللّعنة)) انتهى بلفظه من ((نهاية)) ابن الأثير. وممن ذكر مروان: أبو عمر بن عبد البرّ في ((الاستيعاب)) (¬1) ولم يذكره بديانة /ولا وصفه بخير, بل روى عن عليّ - رضي الله عنه - أنّه نظر إليه يوماً فقال: ويلك, وويل أمّة محمد منك, ومن بنيك إذا شابت ذراعك. قال ابن عبد البرّ: وكان يقال له: خيط باطل, وفي ذلك يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم لما بويع لمروان بالإمارة: فوالله ما أدري وأنّي لسائل ... حليلة مضروب القفا كيف يصنع لحا الله قوماً ملّكوا خيط باطل ... على الناس يعطي من يشاء ويمنع (¬2) وكان أخوه عبد الرحمن شاعراً محسناً, وكان لا يرى رأي مروان, وإنّما قال له: مضروب القفا؛ لأنّه ضرب يوم الدّار على قفاه فخرّ لفيه, ومما قال فيه أخوه عبد الرحمن: وهبت نصيبي فيك يا مرو كلّه ... لعمرو بن مروان الطّويل وخالد فكلّ ابن أمّ زائد غير ناقص ... وأنت ابن أمّ ناقص غير زائد وأنشد ابن عبد البرّ لغير أخيه في هجوه شيئاً تركته لأنّه قد أقذع فيه, وذكر أنّه لم ير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ورواه عن البخاريّ (¬3). ¬
فهذه جملة تدلّ على معرفتهم بحاله, وخبرتهم بسوء فعاله. وأمّا روايتهم عنه بعد هذا؛ فلا تدلّ على تعديله عندهم في أمر دينه بالإجماع, وإنّما على اختلف العلماء في الرّواية من غير تصريح بالجرح؛ هل تدلّ على توثيق المرويّ عنه, مع أنّ المختار: أنّها لا تدلّ على ذلك كما ذكره ابن الصّلاح في ((علوم الحديث)) (¬1). وذكره يحيى بن حمزة في ((المعيار)). وقد روى زين العابدين عليّ بن الحسين, وعروة بن الزّبير عن مروان, ولم يدلّ ذلك عن عدالته عندهما, ولا اعترض بذلك أحد عليهما, وكذلك رواية المحدّثين عنه. فإن قلت: فلم رووا عنه؟ قلت: على سبيل التّقوّي والاستشهاد, مع الاعتماد على غيره كما ذكرنا ذلك في الرّواية عن الوليد, فقد يفيد خبر الفاسق الظّنّ, وكلّما أفاد الظّنّ حسن وأوجب (¬2) إيراده ليستعمل في التّرجيح عند التّعارض, سيمّا وقد قال عروة بن الزّبير: إنّ مروان لم يكن يتّهم في الحديث, فدلّ على أنّه صدوق يصلح خبره للاستشهاد والتّرجيح عند التعارض, ولا يعتمد عليه إذا انفرد, وقد بيّنّا في جواب كلام هذا المعترض في الفصل الأوّل من المسألة الثّانية (¬3) أنّ صاحبيّ ((الصحيح)) قد يخرّجان حديث من هذه صفته لوجود شواهد ومتابعات لم يتّسع كتابهما لذكرها مع قصد ¬
الاختصار, وروينا ذلك عن مسلم تنصيصاً, وعن البخاري تخريجاً (¬1) صحيحاً, فخذه من موضعه. ويدلّ على ذلك أنّ أحاديث مروان التي رووها عنه في الكتب السّتّة (¬2) أحاديث مشهورة عن الثّقات. ومن هنا قال عروة بن الزّبير: لم يكن يتّهم في الحديث مع أنّها يسيرة: فمنها حديث: قصة الحديبية /, وحديث: وفد هوزان, وقصة سهيل بن عمرو, وهذه رواها البخاريّ (¬3) عنه مقروناً بالمسور بن مخرمة مع شهرتها, أو تواترها عند أهل العلم بالسّير: ومنها سبب النّزول في قوله تعالى: {غَيرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95]. وقد رواها معه قبيصة بن ذؤيب. ومنها قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأعراف في صلاة المغرب, وقد روى هذا عن عائشة بإسناد صحيح في النّسائي (¬4). ومنها أثر موقوف عن عثمان في فضل الزّبير, وهذا لا بأس به فإنهم يتسامحون في أحاديث الفضائل. ¬
ومنها قصة عثمان وعلي -رضي الله عنهما- في اختلافهما في متعة الحجّ, وهي مشهورة من غير طريقه. ومنها حديثه في صلاة الخوف, وقد رواه عروة بن الزّبير. وبالجملة؛ فلم يرو مروان في الكتب السّتّة إلا عن ستّة: علي, وعثمان -رضي الله عنهما- وزيد بن ثابت, وأبي هريرة, وبسرة (¬1) , وعبد الرحمن بن الأسود, وقد ذكرت جميع من روى عنهم ههنا إلا عبد الرحمن بن الأسود, فلم أظفر بروايته عنه (¬2) وقت تعليق هذا الكتاب لبعدي عن أهل الحديث, وعدم وجود مصنّفاتهم الحافلة, وسوف ألحق ذلك إن شاء الله تعالى, فإن عاق الموت فالمنّة لمن أفاد ذلك (¬3). ¬
وأمّا قول مروان في عبد الرحمن بن أبي بكر: هذا الذي نزلت فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف:17]. فما أظنّ البخاري أورده إلا لبيان أثر عائشة الذي ردّت به عليه (¬1) , وإلا فهذا مرسل عند البخاري فإنّه نصّ على أنّ مروان لم ير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع أنّه ليس تحته حكم شرعي, وأمّا عبد الرحمن بن الصّدّيق -رضي الله تعالى عنهما- فما يضرّه ذلك على تقدير صحّته فقد كان مشركاً بلا ريب, ولكنّه أسلم وآمن, والإسلام يجبّ ما قبله, وقد كان لأفاضل الصّحابة قبل الإسلام أفعال لا حاجة لذكر شيء منها, وإنّما هذا من جملة قبائح مروان, فالله المستعان. واعلم أنّه لا يصحّ أن يعترض على المحدّثين حتّى يعلم أنّهم رووا عن مروان حديثاً في الحلال والحرام, وحكموا بصحّته, ولا طريق له عن سواه في الكتب السّتّة, ولا في غيرها, وبعد العلم بهذا يعترض عليهم بأنّهم خالفوا قواعدهم فقط, وأمّا مخالفة الإجماع فلا يصحّ الاعتراض عليهم بذلك, لوجه ليس هذا موضع ذكره. ويلحق بهذا فائدة ينبغي ذكرها, وذلك أنّه قلّ ما عرض ذكر الحكم, ومروان بن الحكم إلا وعرض في الخاطر ذكر ما فعله عثمان ¬
- رضي الله عنه - من إيواء الحكم إلى المدينة بعد تطريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له عنها, فالسّنّي يحبّ معرفة وجه ذلك, وغيره يحبّ التّعرّض بذلك للقدح في عثمان - رضي الله عنه - /, فأحببت أن أذكر الوجه في ذلك فأقول: قد خاض النّاس في ذلك خوضاً كثيراً قديماً وحديثاً, ولم يحضرني وقت كتابة هذا الجواب شيء من هذه الكتب المذكور ذلك فيها فأنقل ما قال العلماء في ذلك, ولا حفظت في ذلك ما يقنع, إلا ما ذكره الحاكم المحسّن بن كرّامة المعتزلي المتشيّع في كتابه: ((شرح العيون)) فإنّه ذكر فيه: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن في ذلك لعثمان - رضي الله عنه - , وهذا الجواب مقنع إن صحّ الحديث لكنّي لم أعرف صحّته. فأمّا المعتزلة والشّيعة من الزّيديّة وغيرهم؛ فيلزمهم قبوله, وترك الاعتراض على عثمان بذلك, لأنّ راوي الحديث عندهم من المشاهير بالفقه والعلم وصحّة العقيدة, إلا فيما يقدح به من الاختلاف في فروع الكلام ومالا يخرج من الولاية. وأمّا دلالة الجواب المقنع عند النّقّاد فهو ما ألقاه الله تعالى على خاطري في ذلك فأقول: غير خاف على (¬1) من [له] (¬2) أنس بقواعد العلماء أنّ أفعال النّبي - صلى الله عليه وسلم - عند المحققين لا تدلّ بنفسها على (¬3) الوجوب, ولا على النّدب, وإنما تدلّ على الإباحة, وذلك لأنّه - عليه ¬
السلام - كان يفعل المباح والمندوب والواجب, وإنّما القدر المقطوع به أنّه لم يكن يفعل المعاصي المحرّمة, فإن فعل شيئاً من الصّغائر سهواً لم يقرّ عليه, وبين الله تعالى ذلك لئلاّ يبطل الاحتجاج بأفعاله. قال المحقّقون: فإذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلاً نظرنا هل دلّت القرائن على أنّه فعل ذلك متقرّباً [به] (¬1) إلى الله تعالى أولا, فإن لم تدلّ على ذلك القرائن, لم يستحب التّأسّي فيه, وكان [ما] (¬2) فعله على الإباحة: من شاء فعله, ومن شاء تركه؛ واحتجّوا على ذلك بحجج يطول ذكرها وتقريرها. منها: قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرَاً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِم إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} [الأحزاب:37]. فلم يوجب على المؤمنين نكاح أزواج أدعيائهم. وثانيها: حديث: ((لم خلعتم نعالكم)) (¬3) , فأنكر الاقتداء قبل معرفة وجه فعله, وقول بعضهم إنّه أقرّهم على استدلالهم غير مسلّم, بل ردّ عليهم: ((إنّ جبريل أخبرني أنّ فيهما قذراً)) , والحديث صحيح ¬
على شرط مسلم, وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. (2 وثالثها: أنّه - عليه السلام - لما صلّى بهم خمساً فتابعوه, فقال لهم: ((إنّه لو حدث أمر لأنبأتكم به)) (¬1) أو كما قال (¬2) , رواه البخاري ومسلم, ولفظهما ((إنّه لو حدث في الصّلاة شيء أنبأتكم به)). ورابعها: إقراره - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب على خلاف رأيه في قصّة/ أسرى بدر وقوله لعمر: ((لقد (¬3) عرض عليّ عذاب أصحابك)) الحديث (¬4) , وذلك لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالموافقة ويوجبها عليه. وخامسها: أنّ بعض أفعاله - عليه السلام - غير واجب إجماعاً وما كان بعضه غير واجب لم يدلّ كلّ فرد منه على الوجوب. وسادسها: أنّه - عليه السلام - لو فعل شيئاً معتقداً لإباحته, أو ناوياً للتّنفّل به, وفعلناه معتقدين بوجوبه ملزمين للعامّة فعله وتحريم تركه لم يصدق علينا التأسّي الذي أمرنا به, ولكنّا إلى مخالفته أقرب منّا إلى الاقتداء به, ولهذا أمثلة كثيرة: منها: إنّه لا (¬5) يستحب لنا الطّلاق, ولا يجب علينا مع أنّه - صلى الله عليه وسلم - ¬
قد طلّق حفصة, مع أنّ الطّلاق أبغض المباح إلى الله. وكذلك قد ترك القسم لسودة لما كبرت, ووهبت نصيبها لعائشة, فدلّ على إباحة مثل ذلك دون استحبابه أو وجوبه. وكذلك قد أمر بالاقتصاص له في مرضه ممن لدّه, ولا يدلّ ذلك على استحباب القصاص, وكراهة العفو, لأنّه - عليه السلام - لم يقصد التّقرّب بهذه الأفعال, ولا دلّت على ذلك القرائن. فإذا تقرّر ذلك؛ فاعلم أنّه لا يدلّ دليل على أنّه - عليه السلام - طرد الحكم معتقداً لوجوب ذلك عليه, وعلى أمّته بل الظّاهر خلاف ذلك لوجوه: الأول: أنّه - عليه السلام - لم يوجب ذلك, ولا أمر به, والبيان واجب عليه. الثاني: أنّه لم يطرده من دار الإسلام, بل طرده من جواره فقط, وتركه في الطّائف مع المسلمين, وأمره - عليه السلام - نافذ في الطّائف. الثالث: أنّه لم يخبر أهل الطّائف أنّه يحرم عليهم مجاورة الحكم, ويجب عليهم نفيه, وهم مسلمون ممتثلون لأوامره, وتقريره أحد الحجج. الرّابع: أنّه لو وجب نفيه؛ لم يكن إلا لأجل فسقه أو كفره, ولا ذنب أكبر من الكفر, وقد ترك - عليه السلام - المنافقين واليهود في جواره, وأجمعت الأمّة على جواز إقرار اليهود بين المسلمين إلا في
جزيرة (¬1) العرب. فإن قلت: لم نفاه - عليه السلام -. قلت: تعيّن الوجه في ذلك لم يلزم, والظّاهر أنّه نفاه لأحد أمرين أو مجموعهما. أحدهما: أنّه كان يظهر أسرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهذا قد زال في وقت عثمان. ثانيهما: أنّه كان يمشي مثل رسول الله (¬2) - صلى الله عليه وسلم - /مستهزئاً نعوذ بالله. فإن قلت: فكيف وصله عثمان, وآواه مع ذلك؟. قلت: لأنّه من رحامته الماسّة, فهو عمّه صنو أبيه, وقد أمر الله بصلة الأرحام, وإن كانوا مشركين, قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] , ولم يكن [للحكم] (¬3) من الحق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يوجب الصبر عليه, وقد يختلف التّكليف في ذلك. ألا ترى أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره النّظر إلى وحشي قاتل حمزة (¬4) , ولم يستلزم ذلك أن يستحبّ لأولاد وحشي وزوجته, وسائر أرحامه ¬
أن يقطعوا ما أمر الله بوصله (¬1) من رحامته, وهذه كراهية طبيعية لأنّه - عليه السلام - , لم يكره النّظر إلى من تاب من الشّرك, مع أنّه أعظم الذّنوب, وقد قال - عليه السلام -: ((أللهم إنّي آسف كما يأسف بنو آدم)) (¬2) الحديث, وليس من رقّ لرحم من أرحامه ممن غضب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدّ مخالفاً له - عليه السلام - , فقد رقّ العبّاس عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقريش في قصّة الفتح, وخاف أن تستأصل شأفتهم, فسار الليل إليهم وأخبر أبا سفيان بخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وجاء به, وأقرّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك, وقد كان عثمان شفيقاً رحيماً, وقد فعل مثل هذا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلم ينكر عليه, وذلك أنّه شفع بوم الفتح في أخيه من الرّضاعة: عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقتله, وقد عفا عليّ - عليه السلام - عن مروان بن الحكم يوم الجمل وقال: أدركتني عليه رحم ماسّة (¬3) , بل قد قال نوح - عليه السلام -: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ} [هود:45] , مع أنه ¬
الوهم الرابع: كلامه في المغيرة الجواب عنه
الذي قال: {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26]. فما خصّ ولده إلا لرحامته. وأمّا صلة عثمان للحكم ولغيره من قرابته بالأموال الكثيرة, فلا شكّ أنّه ابتلي بقرابة سوء, فكان يتألّفهم, وله حجّة واضحة في فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين, وإعطائه المنافقين دون المؤمنين, فإنّ مئة ناقة لواحد من المنافقين في زمانه - عليه السلام - أكثر مما أعطاهم عثمان بالنّظر إلى زمانه, فإنّ الأموال في زمانه كانت قد كثرت كثرة /عظيمة. الوهم الرابع: قال في الاحتجاج على أنّ المحدّثين يروون في الصّحيح عن فسّاق التّصريح ما لفظه: ((ومنهم المغيرة بن شعبة زنى)) , [هكذا] (¬1) رماه بالزّنا!. والجواب عليه في هذا هو: النّصّ المحكم القرآني قال الله تعالى: {لَولاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذَا لَمْ يَأتُوا بِالشُهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ} [النور:13] قال تعالى: {وَلَولاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لاَ تَعلَمُونَ} [النور:19]. فإن كان [قد] (¬2) توهّم أنّ ذلك قد صحّ ولم يبق فيه شك؛ فليس الأمر كذلك, فلو صحّ الزّنا من المغيرة لحدّه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - , ولو صحّ ¬
الوهم الخامس, والجواب عنه
عنه, ولم يحدّه عمر؛ لانكر ذلك الصّحابة -رضي الله عنهم- فكيف يقتحم المعترض هذه المهواة العظيمة, ونسي ما عظّم الله من شأنها, فإنّه تعالى لم يجعل إليها سبيلاً إلا بعد كمال نصاب الشّهادة, فقد كان الرّجل يأتي إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيقرّ بالزّنا, ويعترف بالفاحشة فيعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ويتطلّب له العذر بعد الإقرار, ويقول: لعلّك لمست, لعلّك قبّلت, حتّى لا يجد سبيلاً إلى الشّكّ ولا طريقاً إلى الاحتمال. وهذا المعترض على أهل السّنّة عكس ما يلزم من الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورمى بالزّنا من غير ثبوته, ولا إقامة شهادة, ولا حكاية عن شاهد, مع نقصان نصاب الشّهادة, ودعوى المغيرة للبراءة بل للزّوجية كما يأتي. الوهم الخامس: قال: ((فإن يعتد بشهادة هؤلاء في الجرح لا في الحدّ؛ فالمغيرة مجروح وإن لم يعتد بشهادتهم, فأبو بكرة قاذف وصاحباه, ولا يروي عن واحد منهم الرّواة)). والجواب: أنّه توهّم أنّ الشّهادة على الزّنا إذا لم يتمّ نصابها كانت قذفاً, فلا يخلو إمّا أن يريد: أنّ ذلك على سبيل القطع أو الظّنّ, فإن قال على سبيل الظّنّ؛ فذلك مسلّم ولا يضرّ تسليمه, أمّا أنّه مسلّم؛ فلأنّ أدلّة المسألة ظنّيّة, وهي خلافية بين العلماء. قال في: ((نهاية المجتهد)) (¬1): ((والشّهود عند مالك, وكذا عند الشّافعيّ إذا كانوا أقلّ من أربعة قذفة؛ وعند غيره (¬2) ليسوا قذفة, ¬
فجعل القول بأنّهم غير قذفة؛ هو قول الأكثرين من الفقهاء, وكلام الفقهاء في المسألة معروف /لا حاجة إلى التّطويل بذكره. وقال الحاكم المعتزلي في ((شرح العيون)) , ما لفظه (¬1) ((ألا ترى أنّ من شهد بالزّنا لا يؤثّر حاله, ومن قذف بالزّنا أثر))؟ فنصّ على الفرق بين الشّهادة والقذف, والظّاهر أنّ المعترض حفظ من أصحابه في مذاكرة الفقه: أنّ الشّاهد قاذف إذا لم تكمل الشّهادة, فقلّدهم في ذلك, وظنّ أنّ هذا يقتضي القدح على (¬2) من خالف في هذه المسألة, وقبل الشّاهد, ووثّقه وإن لم يتمّ نصاب الشّهادة, وليس الأمر كما توهّم, فإنّه لو لزم القدح بمسائل الخلاف (¬3) الفقهية لزم جرح جميع المخالفين, بل الذي ذهب إليه أصحاب المعترض أنّ الشّاهد قاذف عندهم؛ فلا يقبلونه لمذهبهم فيه, ولا يعترضون على (¬4) من قبله وينسبونه إلى [قبول] (¬5) الفسقة, وتعديل الكذبة, كما لا يلزم ذلك في سائر مسائل الخلاف الخلاف في شروط الشّاهد والرّاوي. وأمّا إن قال المعترض: إنّه قاذف على سبيل القطع؛ فهذا غير مسلّم لأنّ المسألة شرعية ظنيّة لا عقليّة, وليس فيها نصّ قاطع متواتر اللفظ, معلوم المعنى, غير محتمل للتّخصيص والنّسخ والمعارضة, ولم يبق إلا القياس, ولا يصح أن يكون قاطعاً مطلقاً, وإن سلّمنا أنّه ¬
الوهم السادس: توهم أن الشهود إن لم يكونوا قاذفين فالمغيرة مجروح, والجواب
يكون قاطعاً في بعض المواضع فلا يصحّ ذلك ههنا لوجدان الفروق المانعة من ذلك, فإنّ بين الشّاهد والقاذف فروقاً كثيرة لا يصحّ معها القطع, ألا ترى أنّه يشترط في الشّاهد العدالة, ولا يشترط في القاذف, ويشترط العدد المخصوص في الشّهادة ولا يجب في القذف أن يكون القذفة أربعة, وإذا قذف أربعة رجلاً بالزّنا, وجب عليهم إقامة الشّهادة, ولو كانت الشّهادة قذفاً؛ لكان القذف من الشّهادة, ولو كان منها لتمّ نصابها بقذف أربعة ولم يجب عليهم إقامة شهادة, فثبت بهذا أنّ الشّاهد غير قاذف, وأنّ المسألة ظّنّيّة, إلا من ذهب إلى ذلك فإنّه يعمل بمقتضى مذهبه, من غير اعتقاد جرح, ولا اعتراض على من لم يوافقه في المذهب, على أنّ جرح القاذف الجاهل بتحريم القذف أو الموافق بإقامة الشّهادة مما يخالف القياس, فلا يقاس الشّاهد في مثل هذه الصّورة على النّصّ الوارد /فيه, على القول المنصور في الأصول. الوهم السادس: توهّم المعترض أنّه هؤلاء (¬1) الشّهود الثّلاثة إذا لم يكونوا قاذفين وجب جرح المغيرة بالزّنا الذي أخبروا به, وظنّ أنّه لا مخرج من هذا السؤال, وليس الأمر كما توهّم, بل يجوز أن يصدقوا فيما شهدوا به من نكاح المغيرة لامرأة لم يعلموا أنّها له زوجة, ويجوز مع ذلك أن لا يجرح بذلك المغيرة لتجويز غلطهم في الشّهادة, فقد روى ابن النّحوي في: ((البدر المنير)): أنّ المغيرة ادّعى ¬
في تلك المرأة التي رموه بها أنّها له زوجة, قال: وكان يرى نكاح السّرّ, وروي أنّه كان يتبسّم عند شهادتهم, فقيل له: في ذلك؟ فقال: إنّي أعجب مما أريد أن أفعله بعد شهادتهم, فقيل: وما تفعل؟ قال: أقيم البيّنة أنّها زوجتي. ذكره في ((البدر المنير)) وذكر أنّه كان كثير الزّواجة وأنّه أحصن بثلاثمائة امرأة. وأمّا ما ذكره المعترض من أجل دخول المغيرة في الفتن فسيأتي الكلام على ذلك في (المسألة الثالثة) (¬1) عند ذكر أهل التّأويل, واختلاف النّاس في أحكامهم, وقد أثنى صاحب الرّسالة على أبي بكرة بالدّيانة والتّحرّي, وهو كما وصف لكن على غير قاعدته, فإنّه قد جرح من قعد عن نصرة عليّ - رضي الله عنه - فدلّ ذلك على جهله بحال أبي بكرة, وعدم معرفته بتشدّده في تحريم قتال أهل القبلة, حتّى حرّم المدافعة [عن] (¬2) النّفس, وكان ينكر على المتقاتلين من الطائفتين, ولكنّه متأوّل متحرّ للصّواب, وفعله -كما قال عليّ في فعل ابن عمر- إن كان حسناً إنّه لعظيم, وإن كان ذنباً إنّه لصغير. رواه الذّهبي (¬3). الوهم السابع, قال: ((ومنهم أبو موسى الأشعري, نزع علياً ... - عليه السلام - الذي ولاّه الله ورسوله, إنّه على الله لجريء, وأقام معاوية بن أبي سفيان القدريّ)). ¬
الوهم السابع: الكلام في أبي بكرة والجواب عنه
والجواب: أنّ هذا وهم فاحش لا يجهله من له أدنى تمييز, فإنّ أبا موسى لم يقم معاوية بل خلعه, وكان يريد أن يقيم عبد الله بن عمر بن الخطاب, وكان قد واطأ عمرو بن العاص على ذلك على ما هو مبسوط في كتاب التّاريخ. وقد اشتهر في كتب التّاريخ أنّ معاوية كتب إلى أبي موسى: ((أمّا بعد, فإنّ عمرو بن العاص قد بايعني على ما أريد, وأقسم بالله لئن بايعتني على الذي بايعني لأستعملنّ أحد ابنيك على الكوفة, والآخر على البصرة, ولا يغلق دونك باب, ولا تقضى دونك حاجة, وقد كتبت إليك بخطّي فاكتب إليّ بخطّ يدك)) فكتب إليه: ((أما بعد فإنك كتبت إليّ في جسيم الأمّة, فماذا أقول لربي إذ ما قدمت عليه, ليس لي في ما عرضت حاجة (¬1). وهذا يدلّ على براءته من الجرأة على الله التي اجترأ المعترض على الله في غيبته بها. فقد كان متعبداً متزهداً صوّاماً قوّاماً, وقد تولّى البصرة فلم يخرج منها إلا بست مئة درهم, وكان خراجها عشرة آلاف ألف أربعمائة ألف. روى ذلك الذّهبي في ((النبلاء)) (¬2) , وروى فيه (¬3) عن الشّعبي (¬4) [عن شقيق] (¬5) عن حذيفة أنّه تكلم في أبي موسى بكلام ¬
يقتضي بأنه منافق (¬1). ثمّ قال: ((في الشّعبي تشيّع يسير)). انتهى. وقد قال الشّعبيّ: حدثناهم بغضب أصحاب محمد /فاتخذوه دينا. وعندي أنّ هذا لا يصدّق, فإنّه معارض بما هو أصحّ منه بل بما (¬2) هو معلوم الصّحّة, وذلك أنّ حذيقة وإن كان صاحب العلم بالمنافقين, فبغير شكّ أنّه إنّما أخذ العلم بذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولّى أبا موسى على اليمن مصدقاً وقاضياً, وكان يفتي وقضي في بلدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , في زمنه - صلى الله عليه وسلم - , وفي أيّام الخلفاء الرّاشدين -رضي الله عنهم-, وكانت حال المنافقين أحقر من ذلك, فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليولّي القضاء منافقاً ويقرّه على الفتيا, وكذلك أصحابه -رضي الله عنهم- فهذا أمر معلوم بالضّرورة, ولا يعارض بحديث مظنون, ومن الأحاديث المظنونة في الثّناء على أبي موسى ما رواه مالك بن مغول وغيره, عن أبي بُريدة , عن أبيه بريدة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في أبي موسى: ((إنّه مؤمن منيب)) لمّا قال له بريدة: أتراه يرائي؟ قال - عليه السلام -: ((بل مؤمن منيب)) (¬3). ¬
ولو كان منافقاً لاغتنم الفرصة حين حكّمه عليّ, ومال إلى الدّنيا وتابع من أعطاه منها, ولم ينظر للمسلمين. ولو كان كذلك؛ لما اختار عبد الله بن عمر للخلافة, فإنّ عبد الله من أئمة التّقوى, ومعادن الزّهادة في الدّنيا, والمنافق إنّما يحبّ أهل الفسق والجرأة. وأيضاً فإنّ أبا موسى استمرّ على العبادة, والاجتهاد في المدّة الطويلة من أوّل إسلامه إلى أن انقضت خلافة الخلفاء -رضي الله عنهم-, والمنافق ينجم (¬1) نفاقه, ولا تستمر له [الاستقامة] (¬2) على الدّيانة (¬3). ولما قرب موته اجتهد في العبادة اجتهاداً شديداً, فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك؟ فقال: إنّ الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها, أخرجت جميع ما عندها, والذي بقي من أجلي أقلّ من ذلك. ثمّ إنّه من السّابقين إلي الإسلام قبل ظهوره, والمتحمّلين لمشقّة الهجرة, وترك المال الوطن, وقد قرن الله الخروج من الدّيار بقتل الأنفس, وليس في المنافقين من أسلم من غير تقيّة, فكيف يتصوّر أن يسلم في أرض بعيدة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم (¬4) يظهر فيها الإسلام, ثمّ ¬
يهاجر إلى مثلها. فإنّه من مهاجرة الحبشة, فمن يرائي بذلك, وإلى أيّ غرض يتوصّل؟ فقبّح الله من يجترىء على الله ببهت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فإن كان صدر من حذيفة شيء من ذلك فلعلّه تأوّل في ذلك وغلط فيه, وربّما أخذ ذلك من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإمام عليّ ... - رضي الله عنه -: ((لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)) (¬1). وأخذ بغضه لعليّ - رضي الله عنه - من تخلّفه عنه, وهذا كلّه ضعيف, فإنّ التّخلّف لا يدلّ على البغض, ولا يستلزم استخراج النّفاق, فقد تخلّف عنه من أعيان الصّحابة مثل: ابن عمر, وعمران بن حصين, -الذي كانت الملائكة تسلم عليه- وأبي سعيد الخدريّ, وأسامة بن زيد حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهو الذي قال لعليّ - رضي الله عنه -: والله لو كنت شدق الأسد ما تخلّفت عنك, ولكنّي أقسمت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا قاتلت بعده أحداً ممن يشهد أن لا إله إلا الله. على أنّ بغض علي - رضي الله عنه - إنّما كان علامة للنّفاق في أوّل الإسلام, فإنّ المنافقين كانوا يبغضون من كان فيه قوّة على الحرب لكراهتهم لقوّة الإسلام, ولذلك جاء في الحديث أيضاً: ((أنّ بغض الأنصار علامة النّفاق)) (¬2) لهذا المعنى, (1 وكذلك حبّهم وحبّ عليّ كان في ذلك الزّمان علامة الإيمان (¬3) لهذا المعنى, فأمّا في الأعصار المتأخّرة عن أوّل الإسلام فلا يدلّ على ذلك, فإنّ الخوارج ¬
يبغضون عليّاً ويكفّرونه مع الإجماع على أنّهم غير منافقين وإن كان ذنبهم عظيماً, ومروقهم من الإسلام منصوصاً, والباطنيّة /يحبونه مع الإجماع على كفرهم, وكذلك الروافض يحبّونه مع ضلالهم وفسوقهم نعوذ بالله! فهذا ونحوه مما يحتمل أن يستند الصّحابي إلى مثله في مثل هذه الأمور -إن صحّت- أولى من خرق الإجماع, وهدم القواعد الكبار لملاحظة [ظاهر] (¬1) حديث أحسن أحواله أنّه مظنون. وقد قصدت وجه الله تعالى في الذّبّ عن هذا الصّحابي المعتمد في نقل كثير من الشّريعة المطهّرة لما رأيت الحافظ الذّهبي روى ذلك, ولم يقدح في إسناده بما ينفع, وقد أحسن الشّعبي (¬2) -رحمه الله- في قوله: حدّثناهم بغضب أصحاب محمد فاتّخذوه ديناً, فإنّه يحتمل صدور مثل ذلك عند الغضب بأدني شبهة. وفي الحديث الصّحيح (¬3): ((اللهم إني بشر آسف كما يأسف بنو آدم فمن دعوت عليه أو سببته وليس لذلك بأهل فاجعلها له رحمة وزكاة)) أو كما ورد, فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف غيره؟! وقد كان بين أبي موسى وعليّ شيء كبّرته الرّوافض والشّيعة. وقد روى بعض أهل البيت من الزّيديّة أنّ أبا موسى اعتذر إلى عليّ - رضي الله عنه - (4 ورضي عليّ - عليه السلام - عنه (¬4) ونرجو صحّة ¬
الوهم الثامن: قدح المعترض في الصحابة والجواب عنه
ذلك إن شاء الله, ومثل هذه الرّواية يحسن الأخذ بها وإن كانت مرسلة, فإنّه لا بأس بالأخذ بالمرسل في مثل هذا. على أن المالكيّة وغيرهم يقبلونه في أحاديث الأحكام. بل ادّعى العلاّمة محمد بن جرير إجماع التّابعين على ذلك, رواه عنه ابن عبد البر في ((تمهيد)) (¬1). الوهم الثّامن: وهم أنّه يمكنه تخصيص المحدّثين بالقدح عليهم في حديثهم بالحديث الذي فيه: ((يؤتى بقوم يوم القيامة فيذهب بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي)) (¬2) وبقوله تعالى: {وَمِمَّن حَولَكُم مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم} [التوبة:101] , قال المعترض: دلّت الآية على أنّ فيمن يعدّونه صحابيّاً عدلاً من هو كافر مجروح. انتهى كلامه. وهو يصلح من شبه الزّنادقة القادحة على أهل الإسلام, لا من شبه الشّيعة القادحة على أهل الحديث, ولكنّ المعترض لا يدري ما يخرج من رأسه. والجواب: أنّ الإجماع منعقد على الاعتبار بالظّاهر دون الباطن, ومن نجم نفاقه وظهر كفره ترك حديثه, ومن ظهر إسلامه وأمانته وصدقه قبل وإن كان في الباطن خلاف ما ظهر منه, فقد علمنا لما وجب علينا وبذلنا في طلب الحق جهدنا, وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل بالظّاهر ويتبرأ من علم الباطن. وإلى ذلك الإشارة بقوله في هذه ¬
الوهم التاسع: التشبيه, وتهمة الإمام أحمد به ........ 295 والجواب عنه من وجوه
الآية: {لاَ تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم} [التوبة:101] , فلو كان في هذا قدح على المحدّثين لتوجّه مثله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليت شعري ما سبب خلوص الزّيديّة من هذا الإشكال؟ فإنّ الآية والحديث يدلاّن على أنّ فيمن يعدّونه صحابيّاً (¬1) عدلاً من يجوز أنّه مجروح, وقد أحسّ المعترض ورود هذا السؤال عليه فأشار إليه ثمّ قال: الجواب: أنّه قد ظهر فسق من ذكرناه وكفره. والجواب: أنّ الذي قدح به نوعان: أحدهما: ما وقع بين الصّحابة من الفتن, وسيأتي الجواب عليه في مسألة التّأويل والكلام على أهله. وثانيهما: ما نسب إلى بعض الصّحابة من المعاصي التي تدلّ على الفسق الذي لا يدخله التّأويل, وقد ذكرنا فيما تقدّم الجواب عليه في ذلك وأنّ المحدّثين يوافقون على الجرح لمن صحّ ذلك في حقّه؛ كالوليد بن عقبة, والحكم بن أبي العاص, ويخالفون فيمن لم يصحّ ذلك في حقّه /كالمغيرة بن شعبة, وأبي بكرة, وسيأتي الكلام على المغيرة في (المسألة الثالثة) (¬2) إن شاء الله تعالى. الوهم التّاسع: ذكر المعترض أنّ التّشبيه مستفيض عن الإمام أحمد بن حنبل, وأنّه روى عنه (¬3) ذلك علماء الزّيديّة وعلماء ¬
الثالث
المجبّرة, (1 وعنى بالمجبّرة (¬1) الأشعرية وأهل الحديث. والجواب عنه (¬2) من وجوه: الأوّل: أن نقول: إمّا أن يقصد بذلك القدح في حديثه, أو تكفيره؛ إن كان الأوّل لم يصح لأمور: الأمر الأوّل: أنّه مجمع على قبوله في الحديث, وقد قدمنا الدّليل على ذلك حيث ذكرنا الإجماع على صحة حديث البخاريّ ومسلم, فإنّه أوثق رواتهما, بل إمام مصنّفيهما, بل إليه المرجع في توثيق ثقاتهما. الأمر الثّاني: أنّه مجمع على الاعتداد بخلافه, وعدم انعقاد الإجماع على رأسه, وذلك فرع على ثقته وأمانته, وقد شحنت الزّيديّة كتبها بمذاهبه, واشتغل أهل العلم منهم بحفظ أقواله, ولو كان مجروحاً غير مقبول لم يحسن ذلك منهم لما فيه من إيهام الخطأ, بل قد اشتهرت الرّواية لأحاديثه واختيارته عند جميع أهل السّنّة والبدعة, والرّوافض والشّيعة, وفيهم من هو من أعدائه, والفضل ما شهدت به الأعداء, فلولا علمه وحفظه (¬3) , ما حفظت مذاهبه, وقبلت روايته, مع (¬4) العجم والعرب في الشّرق والغرب. ¬
*كأنه علم في رأسه نار* كما قالت الخنساء في صخر (¬1) , وما ذلك لكونه مشبّهاً كما زعم المعترض, بل لكونه إماماً جليلاً, وعلماً طويلاً, وقد أحسن من قال: *لأمر ما يسود من يسود* وأمّا كلام المتكلّمين فيه فهو زيادة في فضله, ودليل على جرأة المتكلّم وجهله. وما يضر الإمام أحمد كلام من يتكلّم عليه, وعلى خير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخلفاء الرّاشدين وكبراء المسلمين. لم تدر تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران الأمر الثالث: معارضة تلك الروايات بإجماع أهل التّاريخ من أهل الحديث على براءة الإمام أحمد من التّشبيه, وقد روى الذّهبيّ في ((ميزانه)) عن بعض من وثق تصريح الإمام أحمد في ذلك بما لا مزيد عليه, وقد بالغ ابن الجوزيّ, وابن قدامة المقدسيّ الحنبليّان المحدّثان في تنزيه الإمام أحمد عن ذلك. قال الشيخ أحمد بن عمر الأنصاري: بل (¬2) لم يشتهر أحد من الحنابلة بذلك, ولم يعرف عنه إلا أنّه يوجد في كلام ابن تيمية, وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة شيء من (¬3) ذلك لم يبلغ رتبة التّصريح, ذكره في كتابه ((مغني المحدّث في الأسفار عن حمل الأسفار)) (¬4) في آخر ذكر أسانيد ((مسند أحمد)). ¬
قلت: وما أظن بعض الحنابلة ينجو من ذلك, ولكن حكم البعض لا يلزم الكلّ بالضّرورة, وقد [اشتملت] (¬1) كتب الرّجال على القدح بذلك على من قاله دون غيره, {ولاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] ولله الحمد. وأمّا إن أراد المعترض التّوصّل بذلك إلى تكفيره - رضي الله عنه - فهذا لا يصحّ (¬2) لأمور أيضاً: منها: ما تقدّم من الإجماع على الاعتداد بأقواله, وعدم انعقاد الإجماع على رأسه, وليت شعري إذا كان / [عند] (¬3) المعترض بهذه المنزلة فما باله يملي على طلبة العلم الشّريف مذاهب أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وهلاّ أملى عليهم مذاهب الباطنيّة, وقولهم: إنّ للأنثى مثل حظّ الذّكر, ونحو ذلك؟. ومنها: أنّ التّكفير من المسائل القطعيّة, يحتاج مدّعيه إلى التواتر الصّحيح في الطّرفين والوسط, والمعترض إنّما ادّعى ¬
الاستفاضة, وليس الاستفاضة تستلزم التّواتر, بل ولا تستلزم الصّحّة, فقد يستفيض الأمر في الأخير بعد غرابته أو نكارته أو وضعه (¬1) في أوّل الأمر, وقد اشتهرت أحاديث الكتب السّتّة وغيرها في الزّمن الأخير, وبلغ رواتها [أكثر] (¬2) من عدد التّواتر. ومنها: أنّ العدد الكثير قد يغلطون في رواية المذاهب, وإن لم يتعمّدوا الكذب فلا يحصل العلم بخبرهم, لأنّ شرط التّواتر الكثرة المفيدة للعلم, وذلك لا يكون إلا إذا أخبروا عن علم ضروري دون ما أخبروا به عن ظنّ أو استدلال, لكنّه يحتمل في المخبرين عن الإمام أحمد أنّهم ألزموه ذلك بطرق نظريّة استدلالية, فلا يفيد خبرهم التّواتر وإن كثروا, ألا ترى أنّ الشّيعة تعظّم المعتزلة, وتوثّقهم مع أنّ المعتزلة على كثرتهم قد أجمعوا على دعوى العلم القاطع بإجماع الصحابة على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - , والشّيعة في هذا المقام لا يعتقدون صدق المعتزلة ولا أنّ خبرهم مع أهل السّنّة يفيد تواتر النّقل بصحّة [هذا] (¬3) الإجماع المدّعى, فما بال نقل النّقلة للتّشبيه عن الإمام أحمد لمّا (¬4) استفاض وجب الأخذ به؟ وأمّا استفاضة إجماع الصّحابة على خلافة أبي بكر فلا يؤخذ بها؟ فكلّ ما اعتذر به الشّيعيّ هناك فالحنبليّ (¬5) والسّنّي يعتذر عن ¬
أحمد بمثله هنا. ومنها: أنّه قد ثبت بالتّواتر أنّ الحافظ ابن الجوزيّ من أئمة الحنابلة, وليس في ذلك نزاع, ولا شكّ أنّ تصانيفه في المواعظ وتواليفه في الرّقائق مدرس فضلائهم, وتحفة علمائهم, فبها يتواعظون ويخطبون, وعليها في جميع أحوالهم يعتمدون. وقد ذكر ابن الجوزيّ في كتبه هذه ما يقتضي نزاهتهم عن هذه العقيدة, وأنا أورد من كلامه في ذلك ما يشهد بصحّة ما ذكرته, فمن ذلك قوله في كتاب ((المدهش)) (¬1) في قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ والبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٍ} [الحديد:3]. قال ابن الجوزيّ: ((أوّل: ليس له مبتدأ, آخر: جلّ عن منتهى (¬2) , يثبته العقل [ولا يدركه] (¬3) الحسّ. كلّ مخلوق /محصور بحدّ مأسور في سور قطر. والخالق بائن مباين يعرف بعدم مألوف [التّعريف] (¬4) ارتفعت لعدم الشِّبه والشُّبه, إنّما يقع الإشكال في وصف من له أشكال. وإنّما تضرب الأمثال, لمن له أمثال. وأمّا من لم يزل ولا يزال فما للحسّ معه مجال. عظمته عظمت عن نيل كفّ الخيال, كيف يقال: كيف, والكيف في حقّه محال؟ أنّى تتخايله الأوهام وهي صنعته, كيف تحدّه العقول وهي فعله, كيف تحويه الأماكن وهي وضعه؟ انقطع سير الفكر, وقف سلوك الذّهن, ¬
بطلت إشارة الوهم, عجز لطف الوصف, عَشِيَت عين العقل, خرس لسان الحسّ, لا طول للقَدَم في طور القِدَم. عزّ المرقى فيئس المرتقي, بحر لا يتمكّن منه عائص. ليل لا يبصر فيه للعين كوكب. مرام شطّ [مرمى] (¬1) العقل فيه ... فدون مداه بيد لا تبيد جادّة التّسليم سليمة. وادي النّقل بلاقع. انزل عن علوّ غلوّ التّشبيه, ولا تعل قلل أباطيل التعليل, فالوادي بين الجبلين. ما عرفه من كيّفه, ولا وحّده من مثّله, ولا عبده من شبّهه. المشبِّه أغشى والمعطِّل أعمى, ممّا يتزّه عنه ممّ! فيما يجب نفيه فيم؟! جلّ وجوب وجوده عن رجم ((لعل)) , سبق الزّمان فلا يقال: كان, أبرز عرائس الموجودات من كنّ ((كن)) , بثّ الحكم فلم يعارض ((بلم)) تعالى عن بعضيَّة ((من)) , وتقدّس عن ظرفية ((في)) , وتنزّه عن شبه ((كأن)) وتعظّم عن نقص ((لو أنّ)) (2 وعزّ عن عيب ((إلاّ أن (¬2) وسما كما له عن تدارك ((لكنّ)) (¬3). وقال ابن الجوزيّ في كتاب ((اللّطف)) (¬4) في وصف الله تعالى: ((لا من الظّاهر فُهِمَ له شبح, ولا من الباطن تعطّل له وصف. خرست في حضرة القدس صولة ((لم)) , وكفّت لهيبة الحقّ كفّ ((كيف)) وعَشِيت ¬
لجلال العزّ عين الفكر. فأقدام الطّلب واقفة على جمر التّسليم. إلى قوله: ((المشبِّه ملوَّث بدم التّجسيم, والمعطِّل نجس بسرجين الجحود, ونصيب المحقّ لبن خالص هو التّنزيه)) إلى قوله: ((تفكّروا في آلاء الله, لا تتفكّروا في الله. إذا استقبل الرَّمد الرّيح فقد تعرّض لزيادة الرّمد)) انتهى كلامه (¬1). وفيه مع نفي التّجسيم والتّشبيه تلويح إلى ذم تعطيل ذات الله جلّ جلاله عمّا وصفها به في كتابه الكريم. فلهم مذهب بين مذهبين وإليه أشار بقوله: فالوادي بين الجبلين. وبقوله: ونصيب المحقّ لبن خالص هو التّنزيه, بل ظاهر عبارته أنّ المشبِّه خير من المعطِّل, وتفسير هذا, وذكر الأدلّة فيه والرّد على المبتدعة يحتمل تأليفاً مستقلاً, وليس هذا من مقاصد هذا الكتاب, وإنّما القصد فيه تنزيه الإمام /أحمد عن التّشبيه الذي وصمه به المعترض. ولنورد في هذا المقام كلام النّوويّ في حكاية مذهب أهل الحديث, وغيرهم من جماهير أهل السّنّة, قال النّوويّ في: ((شرح مسلم)) (¬2) -وقد ذكر حديث ((يوم يكشف عن ساق)) -: ((أعلم أنّ لأهل العلم في أحاديث الصّفات, وآيات الصّفات قولين: أحدهما -وهو مذهب معظم السّلف (¬3) أو كلّهم-: أنّه لا يتكلم ¬
في معناها بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء, وأنّه منزّه عن التّجسيم, وعن سائر صفات المخلوقين. وهذا القول هو مذهب جماعة المتكلّمين, واختاره جماعة من محقّقيهم وهو أسلم. والقول الثّاني: وهو مذهب معظم المتكلّمين أنّها تتأوّل, وإنّما يسوغ تأويلها للعارف بلسان العرب, وقواعد الأصول والفروع, ذي رياضة في العلم)) انتهى كلام النّووي. وهو ظاهر في تنزيه الفقهاء من التّجسيم, وأحمد بإجماعهم من أئمتهم وجلّتهم, فلو كان مجسّماً ما كان عندهم بهذه المنزلة, ألا ترى أنّ النّووي لم يعدّ قول المجسّمة في أقوال أهل العلم, وقصر أقوال العلماء على قولين, وأحمد عنده من العلماء بغير شكّ. فإن قلت: وما التّجسيم؟ قلت: هو إثبات الجسم لله تعالى. قال الإمام يحيى بن حمزة في كتاب ((التحقيق, في التكفير والتّفسيق)): ((وعن الخليل بن أحمد في ((كتاب العين)) (¬1) أنّه قال: ((الجسم البدن وجميع أعضائه من النّاس والدّوابّ ونحو ذلك مما عظم في الخلقة, وأنشد الخليل: وأجسم من عاد جسوم رجالهم ... وأكثر إن عدّوا عديداً من التّرب ¬
انتهى كلام الإمام يحيى بن حمزة. وقال في ((مجمل اللّغة)) (¬1) لأبي [الحسين] (¬2) أحمد بن فارس بن زكرياء: ((الجسم كلّ شخص مدرك. كذا رأيته في ((كتاب ابن دريد)) (¬3). وكلّ عظيم الجسم جسيم وجسام, والجثمان الشّخص)) (¬4). وفي ((المجمل)) (¬5) وفي ((كتاب الخليل)) (¬6) أنّ الجسد لا يقال لغير الإنسان من [خلق] الأرض. وفي كتاب ((الضّياء)) (¬7) لمحمّد بن نشوان الحميريّ: الجسم كلّ شخص مدرك. لكنّه فسّر الشّخص بالجسم, فدار كلامه ولم يظهر مقصده. وأمّا التّشبيه فهو أخصّ من التّجسيم لاختلاف عرف أهل اللّغة العربية وأهل الاصطلاح العرفيّ, وقد تكلّم الأصوليون على ذلك في مسألة نفي المساواة وما هي تقتضي, والله سبحانه أعلم. الوهم العاشر: قال: ((وقد نسب إلى الشّافعي القول بالرّؤية (¬8) , فطرّق عليه الاحتمال, لأنّ الرّؤية إنّما تكون بكيف أو بلا كيف, ¬
الوهم العاشر: الكلام على الشافعي الجواب عنه
والكيفية (¬1) تجسيم لا محالة)). أقول: قد توهّم المعترض أنّ إسلام الإمام الشّافعي - رضي الله عنه - مشكوك فيه, وأراد أن يقرّب كفره وخروجه من الإسلام, فلم يزد على أن تعرّض لأن يبوء بالكفر, وعرّض نفسه للتّكذيب والخسر, فأمّا الإمام الشّافعي فهو أرفع من أن ينقصه كلام سفيه/, رشح إناؤه بما فيه. ما يضرّ البحر أمسى زاخراً ... أن رمى فيه سفيه بحجر ومن جلالة (¬2) الشّافعيّ - رضي الله عنه - أنّ كلّ طائفة من المعتزلة, وأهل السّنّة تدّعيه وتتشرّف أن تكون من متّبعيه, فيا هذا مالك, وهذه الحماقة؟ أليس شيوخ المعتزلة مفصحين (¬3) بدعوى موافقتهم للشّافعيّ في العقيدة؟ أليس قاضي قضاتهم عبد الجبار (¬4) , وأمثاله من جملة خدّام أقواله القديمة والجديدة؟! فهم في الفروع غير مستنكفين من التّشرف بالنّسبة إليه, ولا مستكبرين من التّعويل في التّقليد عليه, وهم في العقيدة مدّعون لموافقته داعون إلى ¬
عقيدته (¬1) , وكفى ما ذكره عالمهم الكبير أبو سعد المحسّن بن كرّامة الشّهير بالحاكم في كتابه ((شرح العيون)). وأمّا التّعرّض لتكفيره -صانه الله من ذكر ذلك- لكون القول بالرّؤية روي عنه, فهذه علّة يلزم المعتلّ بها تكفير كثير من أئمة الإسلام, وجلّة علمائه الأعلام, فقد رويت الرّؤية من (¬2) الصّحابة ... -رضي الله تعالى عنهم-, عن إمام الجميع (¬3) علي بن أبي طالب, وإمام المعتزلة وأهل السّنّة أبي بكر الصّدّيق (¬4) -رضي الله عنهما- وعن ابن عبّاس, وحذيفة بن اليمان, وعبد الله بن مسعود, ومعاذ بن جبل, وأبي هريرة, عبد الله بن عمر بن الخطّاب, وفضالة بن عبيد, وأنس بن مالك, وجابر بن عبد الله الأنصاري, وكعب الأحبار. ومن التّابعين وغيرهم: سعيد بن المسيّب, والحسن البصريّ, وعبد الرّحمن بن أبي ليلى, وعمر بن عبد العزيز, والأعمش, وسعيد ابن جبير, وطاووس, وهشام بن حسّان, والقاضي شريك [و] (¬5) ابن ¬
الوهم الحادي عشر: الكلام على أبي حنيفة
أبي نمر, وعبد الله بن المبارك, وأئمة المذاهب الأربعة, والأوزاعي, وإسحق بن راهويه, واللّيث بن سعد, وسفيان بن عيينة, ووكيع بن الجرّاح, وقتيبة بن سعيد, وأبي عبيد القاسم بن سلاّم, وغيرهم, فكلّ هؤلاء روي عنهم القول بالرّؤية, فإن كان كلّ من روي عنه ذلك لزم الشّكّ في إسلامه, والطّرح لمذهبه, وروايته؛ لزم المعترض التشكيك في إسلام (¬1) عصابة الإسلام, وركن الإيمان: الصّحابة والتّابعين لهم بإحسان, الذين أطبق السّلف والخلف عن الاقتداء بهم (¬2) , والقبول لقولهم, والانتفاع بمعارفهم ومذاهبهم. وإن كان المعترض يكذّب الرّواة لذلك عنهم أو يتأوّل معنى ذلك, وإن صحّ صدوره منهم, فهلاّ فعل في حقّ الإمام الشّافعيّ مثل ذلك! وسلك به في الحمل على السّلامة أوضح المسالك؟!. /الوهم الحادي عشر: وهم هذا المعترض أنّه يمكنه التّشكيك في علم أبي حنيفة - رضي الله عنه - , واعتلّ في ذلك بأنّه قد رمي بالقصور في علميّ العربية والحديث, أمّا العربية؛ فلقوله: بأبا قبيس, وأمّا الحديث؛ فلأنّه كان يروي عن المضعّفين وما ذلك إلا لقلّة علمه بالحديث)) انتهى كلامه. وكان قد قدّمه قبل هذا الموضع في المسألة الأولى: لكنّي ¬
الجواب عنه
أحببت (¬1) أن أجمع الذّبّ عن أئمة الإسلام (¬2) الأربعة في موضع واحد فأقول: لا يخلو إمّا أن ينكر صدور الفتوى عنه - رضي الله عنه - , وينكر نقل الخلف والسّلف لمذاهبه (¬3) في الفقه, أو يقرّ بذلك, إن أنكره أنكر الضّرورة, ولم تكن لمناظرته صورة, وإن لم ينكره فهو يدلّ على اجتهاده, ولنا في الاستدلال به (¬4) على ذلك مسالك: المسلك الأوّل: أنّه ثبت بالتّواتر فضله وعدالته, وتقواه وأمانته, فلو أفتى بغير علم وتأهّل لذلك وليس له بأهل لكان جرحاً في عدالته, وقدحاً في ديانته وأمانته, ووصماً في عقله ومروءته, لأنّ تعاطي الإنسان ما لا يحسنه, ودعواه لمعرفة ما لا يعرفه, من عادات السّفهاء, ومن لا حياء له ولا مروءة من أهل الخسّة والدّناءة, ووجوه مناقبه مصونة عن ابتذالها وتسويدها بهذه الوصمة القبيحة, والبدعة (¬5) الشّنيعة. المسلك الثّاني: أنّ رواية العلماء لمذاهبه, وتدوينها في كتب الهداية, وخزائن الإسلام؛ تدلّ على أنّهم قد عرفوا اجتهاده لأنّه لا يحلّ لهم رواية مذهبه (¬6) إلاّ بعد المعرفة بعلمه لأنّ إيهام ذلك من غير ¬
معرفة محرّم, لما يتركّب (¬1) عليه من الأحكام الشّرعيّة المجمع عليها, كانخرام إجماع أهل عصره بخلافه, والمختلف فيها. كانخرام إجماع من بعده بخلافه, وجواز تقليده بعد موته. المسلك الثّالث: أن نقول: الإجماع منعقد على اجتهاده, فإن خالف في ذلك مخالف فقد انعقد الإجماع بعد موته, وإنّما قلنا بذلك لأنّ أقواله متداولة بين العلماء الأعلام, سائرة في مملكة الإسلام, في الشّرق والغرب واليمن والشّام, من عصر التّابعين من سنة خمسين ومائة إلى يوم النّاس هذا وهو أوّل المائة التّاسعة بعد الهجرة, لا ينكر على من يرويها ولا على (¬2) من يعتمد عليها, والمسلمون بين عامل عليها, وساكت عن الإنكار على من يعمل عليها, وهذه الطّريقة [هي] (¬3) التي يثبت بمثلها دعوى الإجماع في أكثر المواضع. المسلك الرّابع: أنّه قد نصّ كثير من الأئمة والعلماء على أنّ أحد الطّرق الدّالّة على اجتهاد العالم /هي: انتصابه للفتيا, ورجوع عامّة المسلمين إليه من غير نكير من العلماء والفضلاء, وموضع نصوص العلماء على ذلك في علم أصول الفقه, وهناك يذكر الدّليل على أنّ ذلك كاف في معرفة اجتهاد العالم وجواز تقليده. وممن ذكر ذلك من أئمة الزّيديّة, وشيوخ المعتزلة المنصور بالله في كتابه: ((الصّفوة)) , وأبو الحسين البصري في كتابه ¬
((المعتمد)) (¬1) , وهذا في سكوت سائر العلماء عن النّكير على المفتي, فكيف بسكوت ركن الإسلام من عصابة التّابعين, ونبلاء سادات المسلمين [الذين] (¬2) هم من خير القرون بنصّ سيّد المرسلين, فقد كان الإمام أبو حنيفة معاصراً لذلك الطّراز الأوّل كما سيأتي, وقد تطابق الفريقان من أهل السّنّة والاعتزال, على التّعظيم لأبي حنيفة والإجلال؛ أمّا أهل السّنّة: فذلك أظهر من الشّمس, وأوضح من أن يدخل فيه اللبس. وليس يصحّ في الأفهام شيء ... إذا احتاج النّهار إلى دليل (¬3) وأمّا المعتزلة: فقد تشرّفوا (¬4) بالانتساب إليه, والتّعويل في التّقليد عليه, كأبي عليّ, وولده أبي هاشم من متقدّميهم, وأبي (¬5) الحسين البصري, والزّمخشريّ من متأخّريهم (¬6) , وهم وإن قدّرنا دعواهم الاجتهاد, والخروج من التّقليد, فذلك إنّما كان بعد طلبهم العلم وطول المدّة, وهم قبل ذلك وفي خلال ذلك معترفون باتباع ¬
أقواله, وبعد ذلك لم يستنكفوا من الانتساب إلى اسمه والمتابعة في المعارف لرسمه, وفي كلام علاّمتهم الزّمخشريّ: ((وتّد الله الأرض بالأعلام المنيفة, كما وطّد الحنيفيّة بعلوم أبي حنيفة. الأئمة الجلّة الحنفية, أزمّة الملّة الحنيفيّة, الجود والحلم حاتميّ وأحنفيّ, والدّين والعلم حنيفيّ وحنفيّ)) (¬1). وقد عقد الحاكم أبو سعد (¬2) فصلاً في فضل أبي حنيفة, وعلمه ذكره في كتابه ((سفينة العلوم)) (¬3) , وقد أطبق أهل التّاريخ على تعظيمه, وأفرد بعضهم سيرته - رضي الله عنه - في كتاب سمّاه ((شقائق النّعمان في مناقب النّعمان)) (¬4): ولو كان الإمام أبو حنيفة جاهلاً ومن حلية العلم عاطلاً ما تطابقت جبال العلم من الحنفيّة على الاشتغال بمذاهبه, كالقاضي أبي يوسف, ومحمّد بن الحسن الشّيبانيّ, والطّحاويّ, وأبي (¬5) الحسن الكرخيّ, وأمثالهم وأضعافهم, فعلماء الطّائفة الحنفيّة في الهند, والشّام, ومصر, واليمن, والجزيرة, والحرمين, والعراقين منذ مئة وخمسين من الهجرة إلى هذا التاريخ يزيد على ستمائة سنة, فهم ألوف لا ينحصرون, وعوالم لا يحصون ¬
الجواب عما أورد عليه من ضعفه في اللغة
من أهل العلم /والفتوى, والورع والتّقوى, فكيف يجترىء هذا المعترض, ويجوّز عليهم أنّهم تطابقوا على الاستناد إلى عامّي جاهل لا يعرف أنّ الباء تجرّ ما بعدها, ولا يدري ما يخرج من رأسه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ما هذا إلا كلام عامّي أو أعمى, يخبط من الجهل في ظلماً. وهبك تقول هذا الصّبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضّياء (¬1) وأمّا ما قدح به على الإمام أبي حنيفة من عدم العلم باللّغة العربيّة فلا شكّ أنّ هذا كلام متحامل, متنكّب عن سبيل المحامل, فقد كان الإمام أبو حنيفة من أهل اللّسان القويمة (¬2) واللّغة الفصيحة. وليس بنحويّ يلوك لسانه ... ولكن سيلقيّ يقول فيعرب وذلك لأنّه أدرك زمان العرب, واستقامة اللّسان, فعاصر جريراً والفرزدق, ورأى أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّتين, وقد توفّي أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين من الهجرة (¬3) , والظّاهر أنّ أبا حنيفة ما رآه وهو في المهد, بل رآه بعد التّمييز, يدلّ على ذلك ¬
أنّ (¬1) أبا حنيفة كان من المعمّرين, وتأخّرت وفاته إلى سنة خمسين ومائة, وقد جاوز التسعين (¬2) من العمر, وهذا يقتضي أنّه بلغ الحلم, وأدرك بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدر الثّمانين [سنة] (¬3) لأنّه - عليه السلام - توفّي بعد مضي عشر من الهجرة, وهذا يدلّ على تقدم أبي حنيفة وإدراكه زمان العرب, وهو أقدم الأئمة وأكبرهم سنّاً, فهذا مالك على تقدّمه توفّي بعده بنحو ثلاثين سنة, ولا شكّ أنّ تغيّر اللّسان في ذلك الزّمان كان يسيراً, وأنّه لم يشتغل في ذلك الزّمان بعلم اللّغة وفنّ الأدب أحد من مشاهير العلماء المتبوعين المعتمد عليهم في التّقليد, لعدم مسيس الحاجة إلى ذلك في ذلك العصر كما أشار إلى ذلك أبو السّعادات ابن الأثير في ديباجة كتابه: ((النّهاية)) (¬4) , وكما لا يخفي ذلك على من له أنس بعلم التّاريخ, فلو أوجبنا قراءة علم العربيّة في ذلك الزّمان على المجتهد لم نقتصر على أبي حنيفة, ولزم أن لا ¬
يصحّ احتجاج (¬1) علماء العربيّة بأشعار جرير والفرزدق, وهذا ما لم يقل به أحد, وإنّما اختلّ اللّسان الاختلال الكثير في حقّ بعض النّاس بعد ذلك العصر, وقد سلم من تغيّر اللّسان من لم يخالط العجم في الأمصار من خلّص العرب, وأدرك الزّمخشري كثيراً منهم ممن لزم البادية, وأكثر ما أسرع التّغيّر إلى العامّة ومن لا تمييز له, وقد قال الأمير العالم الحسين بن محمد في كتاب ((شفاء الأوام)): /إنّ الإمام يحيى بن الحسين - رضي الله عنه - كان عربيّ اللّسان حجازيّ اللّغة (¬2) من غير قراءة, وروى [علاّمة الشّيعة] (¬3) عليّ بن عبد الله بن أبي الخير أنّه قرأ في العربيّة أربعين يوماً, وهذا وهو (¬4) توفي على رأس ثلاث مائة من الهجرة. وأمّا سنة ثمانين من الهجرة, فليس أحد من أهل التّمييز يعتقد أنّ أهل العلم في ذلك الزّمان كانوا لا يتمكّنون من معرفة معاني كلام الله ورسوله إلا بعد ((قراءة في علم العربيّة, ولو كان ذلك منهم لنقل ذلك, وعرف شيوخ التّابعين فيه, وليت شعري من كان شيخ (¬5) علقمة بن قيس, وأبي مسلم الخولاني, ومسروق [بن] الأجدع, وجبير بن نفير, وكعب الأحبار, أو من كان شيوخ من بعدهم من ¬
الجواب عن قول أبي حنيفة: ((أبا قبيس))
التّابعين؟ كالحسن, وأبي الشّعثاء (¬1) , وزين العابدين, وإبراهيم التّيميّ, والنّخعيّ, وسعيد بن جبير, وطاووس, وعطاء والشعبي ومجاهد, وأضرابهم, فما خصّ أبا حنيفة بوجوب تعلّم العربيّة, وفي أيّ المصنّفات البسيطة يقرأ في ذلك الزّمان؟. وأمّا قوله: بأبا قبيس فالجواب عنه من وجوه: الأوّل: أنّ هذا يحتاج إلى طرق صحيحة, والمعترض قد شدّد في نسبة الصّحاح إلى أهلها مع اشتهار سماعها, والمحافظة على ضبطها, فكيف بمثل هذا (¬2)؟!. الثّاني: أنّه (¬3) إن ثبت بطرق صحيحة, فإنّه لم يشتهر, ولم يصحّ مثل شهرة صدور الفتيا, ودعوى الاجتهاد عن الإمام أبي حنيفة, وقد تواتر علمه وفضله, وأجمع عليه, وليس يقدح في المعلوم بالمظنون, بل بما لا يستحق أن يسمّى مظنوناً. الثالث: أنّا لو قدّرنا أنّ ذلك صحّ عنه بطريق معلومة لم يقدح به لأنّه ليس بلحن بل هو لغة صحيحة, حكاها الفراء عن بعض العرب وأنشد: إنّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها (¬4) ¬
القدح على أبي حنيفة بالرواية المضعفين والجواب عن ذلك بمحامل
الرّابع: سلّمنا أنّ هذا لحن لا وجه له, فإنّه لا يدلّ على عدم المعرفة, فإنّ كثيراً من علماء العربيّة يتكلّم بلسان العامّة ويتعمّد النّطق باللّحن, بل قد يتكلّم العربي بالعجميّة ولا يقدح ذلك في عربيّته, وعلى الجملة؛ فكيف ما دارت المسألة فإنّ ذلك لا يدلّ على قصور الإمام أبي حنيفة, بل يدلّ على غفلة المعترض به وتغفيله, وجرأته على وصم هذا الإمام الجليل وتجهيله. وأمّا قدحه عليه بالرّواية عن المضعّفين, وقوله: إنّ ذلك ليس إلا لقلّة معرفته بالحديث؛ فهو وهم فاحش, لا يتكلّم به منصف. والجواب على ذلك يتبيّن بذكر محامل: المحمل الأول: أنّه قد علم من مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- إنّه يقبل المجهول, وإلى ذلك ذهب كثير من العلماء كما قدّمناه (¬1) , ولا شكّ أنّهم إنّما يقبلونه حيث لايعارضه حديث الثّقة المعلوم العدالة, لأنّ التّرجيح بزيادة الثّقة والحفظ عند التّعارض أمر مجمع عليه, ولا شكّ أنّ الغالب على حملة العلم النّبويّ في ذلك الزّمان العدالة, /ويشهد لذلك الحديث الثّابت المشهور: ((خيركم القرن الذي أنا فيهم, ثمّ الذين يلونهم ثم الذين يلونهم؛ ثم يفشو الكذب من ¬
بعد)) (¬1) , وقد تقدّم الكلام على الحديث, وقد كان عليّ - رضي الله عنه - يتّهم بعض الرّواة فيستحلفه ثمّ يقبله (¬2) , وهذا إنّما يكون في حديث من فيه جهالة أو نحوها, ولذا لم يستحلف المقداد لما أخبره بحكم المذي (¬3) , وقد روى الحافظ ابن كثير في ((جزء جمعه في أحاديث السباق)) (¬4) عن الإمام أحمد بن حنبل أنّه كان يرى العمل بالحديث الذي فيه ضعف إذا لم يكن في الباب حديث صحيح يدفعه (¬5) , وأنّه روى في المسند أحاديث كثيرة من هذا القبيل, وذلك على سبيل الاحتياط من غير جهل بضعف الحديث, ولا بمقادير الضّعف, وما يحرم معه قبول الحديث بالإجماع, وما فيه خلاف. وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده (¬6): إنّ أبا داود يخرج الإسناد ¬
المحمل الثاني
الضّعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنّه أقوى عنده من رأي الرّجال. انتهى. وفي هذا شهادة واضحة على أنّ رواية الحديث الضّعيف لا تستلزم الجهل بالحديث, فأحمد وأبو داود من أئمة علم الأثر بلا مدافعة, وهذا الحديث الضّعيف الذي ذكروه, ليس حديث الكذّابين, ولا الفسّاق المصرّحين, فذلك عندهم لا يستحق اسم الضّعف, وإنّما يقال فيه: إنّه باطل, أو موضوع, أو ساقط, أو متروك, أو نحو ذلك, وإنّما الضّعيف حديث الرّاوي الصّدوق الذي ليس بحافظ, أو المعلول (¬1) بالاختلاف في رفعه وإسناده, والمضطرب (¬2) اضطراباً يسيراً, أو نحو ذلك مما اختلف العلماء في التّعليل للحديث به, أو الجرح للرّاوي به, ولا تظهر قوّة في دليل ردّة, ولا دليل قبوله, وأكثر التّضعيف إنّما يكون من جهة الحفظ, وعند الأصوليين: أنّه لا يقدح به حتى يكون الخطأ راجحاً على الصّواب, أو مساوياً له, وفي المساوي خلاف عندهم, وقد تقدّم ذكر هذه المسألة, وهي مقرّرة في كتب ((علوم الحديث)) وكتب ((الأصول)) , فعلى هذا الوجه تكون رواية الإمام أبي حنيفة عن بعض الضّعفاء مذهباً واختياراً, لا جهلاً واغتراراً. المحمل الثّاني: أن يكون ضعف أولئك الرّواة الذين روى عنهم مختلفاً فيه, ويكون مذهبه وجوب قبول حديثهم, وعدم الاعتداد بذلك التّضعيف؛ إمّا لكونه غير مفسر لسبب, أو لأجل مذهب, أو غير ذلك, وقد جرى ذلك لغير واحد من العلماء والحفّاظ, بل لم ¬
يسلم من ذلك صاحباً ((الصّحيح)) كما قدّمنا ذلك, وكذلك أئمة العلم. هذا الإمام الشّافعيّ - رضي الله عنه - أكثر من الرّواية عن إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي, ووثّقه, وقد خالفه الأكثرون في ذلك. وقال ابن عبد البرّ في ((تمهيده)) (¬1): أجمعوا على تجريح ابن أبي يحيى, إلاّ الشّافعيّ. قلت: أمّا الإجماع على تجريحه فليس بمسلّم, فقد وافق الشّافعيّ على توثيقه أربعة من كبار الحفّاظ (¬2) وهم: ابن جريج, وحمدان بن محمد الأصبهاني, وابن عدي, وابن عقدة (¬3) , وقال الذّهبيّ في ((التّذكرة)) (¬4): ((لم يكن ابن أبي يحيى في وزن من يضع الحديث)) انتهى, ولكن تضعيفه قول الجماهير. وهو المصحّح عند أئمة الحديث من الشّافعيّة /كالنّووي, والذّهبي, وابن كثير, وابن النّحويّ وغيرهم. ¬
المحمل الثالث
وكذلك روى الشّافعي عن أبي خالد الزّنجي المكّيّ (¬1) , وهو مختلف في توثيقه, وكذلك الإمام أحمد يروي عن جماعة مختلف فيهم (¬2) كما تقدّم, وكذلك القاسم بن إبراهيم, ويحيى بن الحسين الهادي -رضي الله عنهم- قد رويا عن ابن أبي أويس, وهو مختلف فيه (¬3) , وقد ذكر أهل علم الرّجال ذلك الاختلاف, وبيّنوا في ((علوم الحديث)) ما يقبل من الجرح والتّعديل, ومراتبهما, وكيفيّة العمل عند تعارضهما. المحمل الثّالث: أن يكون إنّما روى عن أولئك الضّعفاء على سبيل المتابعة والاستشهاد, وقد اعتمد على غير حديثهم من عموم آية, أو حديث, أو قياس, أو استدلال. مثل: ما صنع مالك في الرّواية عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصريّ, قال ابن عبد البرّ في ((تمهيده)) (¬4): كان مجمعاً على تجريحه, ¬
ولم يرو عنه مالك إلا حديثاً واحداً معروفاً من غير طريقه وهو حديث: وضع اليمين على الشّمال في الصلاة, وقد رواه مالك في ((الموطأ)) (¬1) من طريق صحيحة من رواية أبي حازم التّابعيّ الجليل عن سهل بن [سعد] (¬2) الصّحابيّ - رضي الله عنه -. وكذلك القاسم بن إبراهيم, وحفيده يحيى بن الحسين من أئمة الزّيديّة قد أكثر من رواية أحاديث الأحكام, والاحتجاج عليها من حديث ابن أبي ضميرة (¬3) وأهل الرّواية متفقون على تجريحه, والقدح في روايته (¬4). وكذلك قد روى شعبة على جلالته (¬5) وتشدّده عن أبان بن أبي ¬
عيّاش مع قول شعبة فيه: لأن أشرب من بول حمار حتّى أروى أحبّ إليّ من أن أقول: حدّثنا أبان بن أبي عيّاش, رواه شعيب بن جرير عنه, وروى ابن إدريس وغيره عن شعبه (¬1) أنّه قال: لأن يزني الرّجل خير من أن يروي عن إبان. فإن قلت: فكيف روى عنه مع اعتقاده تحريمها؟. قلت: إنّما أراد تحريم ذلك على من لا يعرف الحديث الباطل من غيره (¬2) , وتحريم رواية العارف عن المتروكين في حضرة من لا يعرف واجب, فإنّ الثّوريّ نهى عن الرّواية عن بعض المتروكين, فقيل له: ألست تروي عنه؟ فقال إنّي أروي ما أعرف (¬3). وهذا من لطيف علم الحديث. وقد قدّمنا (¬4) عن مسلم أنّه ربّما أخرج الإسناد الضّعيف لعلوّه واقتصر عليه, وترك إيراد الإسناد الصّحيح لنزوله, ومعرفة أهل الشّأن له, روى ذلك النّوويّ عن مسلم تنصيصاً كما تقدّم, وفيه دلالة على أنّ رواية العالم لحديث الرّجل الضّعيف لا تدلّ على جهله بضعفه. وكذلك البخاريّ قد ضعّف هو بعض من روى عنه في ¬
المحمل الرابع
((الصّحيح)) , ذكر ذلك الذّهبيّ في ((الميزان)) (¬1) , وهذا يدلّ على أنّه لم يعتمد على ذلك الرّاوي الذي ضعّفه, لولا شواهد لحديثه ومتابعات. وهذا من لطيف علم الحديث, ولذا قال الإمام النّووي (¬2): ((إن من صحّح حديثاً على شرط مسلم لكون راويه من رواة صحيح مسلم؛ فقد وهم في ذلك)). المحمل الرّابع: أن تكون رواية الإمام أبي حنيفة من قبيل تدوين ما بلغه من الحديث صحيحه وضعيفه, كما هو عادة كثير من مصنّفي الحفّاظ أهل السّنن والمسانيد, وغرضهم بذلك حفظ الحديث للأمّة لينظر في توابعه وشواهده, فإن صحّ منه شيء عمل به وإن بطل شيء حذّر من العمل به, وإن احتمل شيء الخلاف كان للنّاظر من العلماء أن يعمل فيه باجتهاده. وفي الرّواية المشهورة عن البخاريّ أنّه كان حفظ ثلاث مئة ألف حديث, منها: مئتا ألف غير صحاح (¬3). وقال إسحاق بن راهويه (¬4): أحفظ مكان مئة ألف حديث كأنّي أنظر إليها, وأحفظ سبعين ألف حديث صحيحة عن ظهر قلبي, وأحفظ أربعة آلاف حديث مزوّرة. فقيل له في ذلك؟ فقال: لأجل إذا مرّ بي منها حديث في الأحاديث الصّحيحة فليته فلياً. ¬
المحمل الخامس
المحمل الخامس: أن يكون كثير من الأحاديث المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة ضعيفة من قبيل ما روى عنه, لا من جهته, ولا من جهة شيوخه ومن فوقهم, كما في كثير من الأحاديث المنسوبة إلى جعفر الصّادق, وكثير من الثّقات. فقد روى الذّهبي في ((الميزان)) (¬1) عن الحافظ ابن حبّان (¬2): أنّ أبّا (¬3) بن جعفر وضع على أبي حنيفة أكثر من ثلاث مائة حديث, ما حدّث بها أبو حنيفة قطّ, رواه الذّهبي في ترجمة أبّا بن جعفر. إذا عرفت هذا؛ فاعلم أنّ الإمام أبا حنيفة - رضي الله عنه - طلب العلم بعد أن أسنّ. وقد كان الحافظ المشهور بالعناية في هذا الشأن إذا كبر وأسنّ [تناقص] (¬4) حفظه, فلهذا لم يكن في الحفظ في أرفع المراتب, وكذلك غيره من الأئمة, فقد كان الإمام أحمد بن حنبل أوسع الأئمة الأربعة معرفة بالحديث وحفظاً له, ولم يكن ذلك عيباً فيهم ولا قدحاً في اجتهادهم, وقد كان حديث ابن المسيّب, ومحمّد بن سيرين, وإبرهيم النّخعي: أصحّ وأقوى من حديث عطاء, ¬
والحسن البصريّ, وأبي قلابة, وأبي العالية. وكان ابن المسيّب أصح الجماعة حديثاً من غير قدح في علم من هو دونه. ولهذا السبب تكلّم بعض (¬1) الحفّاظ في حديث الإمام الأعظم أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ فظنّ بعض الجهّال أنّ ذلك يقتضي القدح في اجتهاده, وإمامته, وليس كذلك, فغاية ما في الباب أنّ غيره أحفظ منه، وذلك لا يستلزم أنّ غيره أفضل منه, ولا أعلم منه على الإطلاق, فقد كان أبو هريرة - رضي الله عنه - أحفظ الصحابة -رضي الله عنهم-, ولم يكن أعلمهم, ولا أفقههم, ولا أفضلهم, وقد كان معاذ أفقههم, وزيد أفرضهم, وعليّ أقضاهم, وأبيّ أقرأهم, والخلفاء أفضلهم. وبعد؛ فالمناقب مواهب يهب الله منها ما يشاء لمن يشاء, وقد أشار الذّهبي إلى الاعتذار عن ذكر الإمام أبي حنيفة وأمثاله, وإلى أنّه لا قدح عليه بما ذكر فيه من الاختلاف, فقال في خطبة ((الميزان)) (¬2): ((وكذا لا أذكر من الأئمة /المتبوعين في الفروع أحداً لجلالتهم في الإسلام, وعظمتهم في النّفوس, فإن ذكرت أحداً منهم فأذكره على الإنصاف, وما يضرّه ذلك عند الله, ولا عند النّاس, إنّما يضر الإنسان الكذب, والإصرار على كثرة الخطأ, والتّجرّي على تدليس الباطل, فإنّه خيانة وجناية, فالمرء المسلم يطبع على كلّ شيء إلا الخيانة والكذب)). انتهى كلامه. ¬
الوهم الثاني عشر: ثناء المعترض على المعتزلة, وذم أهل الحديث والجواب بذكر تفريعات
فانظر كيف تأدّب أبو عبد الله الذّهبي, وذكر جلالة الأئمة المتبوعين في الإسلام, ونصّ على أنّ ذكرهم في كتب الجرح والتعديل لا يضرهم عند الله, ولا عند النّاس. وهكذا فليكن ذكر العالم لمن هو أعلم منه؛ بأدب, وتواضع, وتعظيم, وتوقير, جعلنا الله ممن عرف قدر الأئمة, وعصمنا من مخالفة إجماع الأمّة (¬1). وبهذه الجملة تمّ كشف عوار هاتين الشّبهتين الضّعيفتين في علم إمام أكثر أهل الإسلام, الذي أجمع على إمامته العلماء الأعلام. وقد أحببت التّقرّب إلى الله تعالى, والتّشرّف بخدمة مناقبه العزيزة, والذّبّ عن معارفه الغزيرة, بذكر هذه الأحرف الحقيرة اليسيرة, ولم أقصد التّعريف بمجهول (¬2) من فضائله, ولا الرّفع لمخفوض من مناقبه, فهو من ذلك أرفع مكاناً, وأجلّ شأناّ. والشمس في صادع أنوارها ... غنيّة عن صفة الواصف الوهم الثاني عشر: وهم المعترض المسكين أنّ طائفة المعتزلة بالذّكاء مخصوصة, وأجنحة أهل الأثر عن النّهوض لهذه الفضيلة مقصوصة, وصرّح بوصم الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - بالبله, وكذلك أهل الحديث, قال: ((إنّما قالوا بذلك لقلّة ممارستهم بالعلوم, واقتصارهم على فنّ الحديث. وكلامه هذا ذكره في رسالته ¬
الأول
الثّانية (¬1) التي أجاب بها على القصيدة التي أوّلها: ظلّت عواذله تروح وتغتدي ... وتعيد تعنيف المحبّ وتبتدي وهذه قصيدة أنشأتها في الحثّ على اتّباع السّنّة النّبويّة, زادنا الله شرفاً بالحثّ عليها, [والدّعاء إليها] (¬2) , وقد أحببت تكميل تشرّفي في الذّبّ عن أئمة الإسلام الأربعة, وسائر أئمة السّنّة في موضع واحد فأقول: كلام المعترض في هذا الموضع من جملة فضلات الكلام, ونزوات الأقلام, التي ليس تحتها أثارة من علم فتعرف, ولا فيها شبهة قادحة فتكشف. ولكن ينبغي تأديبه عليها بذكر تقريعات: الأوّل: أنّ أهل السنة والبدعة, والخلف والسّلف, والمتكلمين والأصوليين, والنّحاة واللّغويين, وأهل كتب المقالات في الملل والنّحل, كلّهم استمرّت عادتهم على نسبة الأقوال إلى من قالها, وحكاية المذاهب عن أهلها؛ من غير زيادة سخرية, ولا غمص/, ولا أذى ولا استهانة, تنزيهاً لألسنتهم عن خبث السّفه, ولمصنّفاتهم عمّا يدلّ على قلّة التمييز والمناصفة, فترى المتكلّمين, وأهل المقالات ينسبون البدع إلى أهلها [كذلك] (¬3) , بل يحكون مذاهب الخارجين عن الإسلام؛ فيقولون: ذهب الثّنوية إلى كذا, وذهب النّصارى إلى كذا, علماً من المحصّلين أنّه لا حاصل تحت السّفه, ¬
الثاني
وأنّه مقدور لاخسّ السوقة. وإنّما يوجد شيء من ذلك في كلام بعض العلماء عند الانتصاف من المعتدين, والانتصار لأئمة أهل الدين, قال الله تعالى: ((لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَن ظُلِمَ)) [النساء/148]. الثاني: أنّك علّلت بللهم, وجمود فطنتهم بقلّة ممارستهم للعلوم, وعنيت بهذه العلوم: علوم الجدل, والخوض في دقيق النّظر, لأنّه لا يُفهم إلا ذلك, والتّعليل بهذه العلّة هفوة كبيرة, لأنّ هذه العلّة قد شاركهم فيها خيرة الله من خلقه من الأنبياء المرسلين, والأولياء والمقرّبين, والصّحابة والتّابعين, وسائر الصّالحين, فإن كان هذا المعترض يجعل هذه العلّة مؤثّرة صحيحة, ويستلزم ما أدّت إليه من الإزراء على كلّ من ترك الخوض في علم الكلام, والممارسة لأساليب المتحذلقين من أهل الجدل فقد تعرّض للهلاك, وارتبك في البلادة أي ارتباك. وقد اغترّ بهذه الشّبهة بعينها؛ الحسين بن القاسم بن عليّ العياني (¬1) , أحد من ادّعى الإمامة من الزّيديّة, فخرج من مذهب الزّيديّة بل من المذاهب الإسلامية, وادّعى أنّه أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وإنّ كلامه أنفع من كلام الله عز وجلّ (¬2)!! وتابعه على ذلك طائفة ¬
مخذولة من الزّيديّة, وقد انقرضت بعد الانتشار, وخملت بعد الاشتهار, وهذه العلّة العليلة كانت سبب اغتراره من نفسه؛ فإنّه كان يناظر أهل العلم بها, ويقول في مناظرته: قد ثبت أنّ الأعلم أفضل, وأن علم الكلام أفضل العلوم. ثمّ يقول لمن يوافقه من الزّيديّة والمعتزلة على هاتين المقدّمتين: إنّه يلزم منهما أنّه أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه يقطع أنّه أعلم منه بعلم الكلام, وانّ مصنّفاته قد اشتملت على (¬1) الرّدّ على الفلاسفة, وسائر أهل الملل والنّحل على ما ليس في كتاب الله ما يقوم مقامه, فتصانيفه أنفع للمسلمين من القرآن العظيم!! فإن كان المعترض قد اختار هذا المذهب, وأراد أن يحيي منه ما مات, ويستدرك على صاحبه من الكفر ما فات؛ فليس بمستنكر له بعد ذلك أن يستهزيء بأهل الحديث, ويسخر من علماء الأثر, وإن كان يأبي منه إباء المسلمين, ويأنف منه أنفة المؤمنين؛ فقد تبيّن له أنّ من كان له أسوة -في ترك علوم الأوائل وتحذلق الجدليّين- بالأنبياء والمرسلين, والصحابة والتّابعين, وسائر الصّالحين, فهو حريّ بالتّبجيل والتّعظيم, والتّوقير والتّكريم. فياسيّال الذّهن, ووقّاد القريحة, من الأبله الآن!؟ أمن علّل بهذا التّعليل العليل, وقال: إنّ معرفته بالله/ مثل معرفة جبريل, بل ¬
الثالث
قال: إنّ الله لا يعرف من ذاته أكثر منه بكثير ولا قليل, أم من آمن بالله (¬1) وكتبه ورسله وتأدّب بآداب التّنزيل, واقتدى بسيّد المرسلين في ترك التّعمق في الدّين والمماراة للجاهلين؟. الثّالث: البله وجمود الفطنة من أفعال الله تعالى التي أجرى العادة أن لا يخلى عنها الطّائفة العظيمة الذين لا يحصرهم عدد, ولا يجمعهم نسب ولا بلد, وهو كالطّول والقصر, والسّواد والبياض, وحسن الصوت (¬2) , وجمال الخلق, فالقول بذلك عليهم من قبيل التّجرّي على البهت الذي هو عادة البطّالين. وكلّ منصف يعلم أنّ في كلّ طائفة عظيمة -لا يجمعهم إقليم ولا نسب ولا طبيعة- فطناء وبلداء, وكرام وبخلاء, وشجعان وجبناء, وقد خاطب الله عبّاد الحجارة الذين لم تكن عندهم من العلم أثارة بمثل قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ تعقلون) (¬3) , ((وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة22]. الرّابع: أنّ رسالة المعترض منادية عليه نداء (¬4) صريحاً بجمود الفطنة, وكثرة البله, وكلّ إناء بالذي فيه يرشح. ولو كان من أهل المغاصات الغامضة, والأذهان السّائلة والقرائح الوقّادة؛ لظهر لذلك ¬
الخامس
أثر في أساليبه, ولاحت من ذلك مخايل على رسائله, فلا مخبأ بعد بوس, ولا عطر بعد عروس. فيا هذا!! ما حملك على عيب الخصوم بعيب أنت به موصوم؟!. الخامس: أنّ الفلاسفة تدّعي من الذّكاء والفطنة مثل ما أنت مدّع, وتعتقد في المسلمين كلّهم مثل ما أنت معتقد في المحدّثين, فإنّهم يعتقدون أنّ المتكلّمين من المسلمين غير ممارسين للعلوم العقلية على ما ينبغي. ولا منصفين في متابعة (¬1) محض العقل, لمراعاتهم في كثير من المواضع لقواعد الإسلام, وتعصبهم لمذاهب الآباء والمشايخ, وخوف (¬2) ما تقرّر في نفوسهم من الصّغر من (¬3) خوف عذاب الاخرة, وعندهم أنّهم السُّبَّاق إلى تأسيس قواعد العلوم العقليّة, والقوانين المنطقيّة, وأنّهم استبدّوا باستخراج علم المنطق, وميزان البرهان, بصفاء أذهانهم في النظر في الحقائق, وشدة غوصهم على لطائف الغوامض, فكما أنّ ذلك -وإن صدقوا في بعضه- لا يدلّ على صحة ما هم عليه من الكفر, ولا يرجح ما فرحوا به من الضلال والخسر (¬4) , فكذلك ما احتجّ به المعترض على اختصاصه وأصحابه بالذّكاء والفطنة, بسبب ما استعاروه من علم الأوائل, وشمّوا من رائحة الحذق في بعض المسائل, لا يوجب له صحّة دعواه, ولا يستحق به الاختصاص بالنّجاة؛ هذا إن سلّم المعترض أنّ المدقّق قد يضلّ في ¬
السادس
تدقيقه ويزلّ عن تحقيقه, وأمّا إن لم يسلّم ذلك فليتخذهم أئمة, وينسلخ عمّا عليه الأمّة, وفي هذا أكبر دليل على فساد ما توهّمه المعترض من تعليل صفاء الأذهان, /والرّجوع في صحّة الإيمان إلى ممارسة تواليف اليونان في علم البرهان, فقد ضلّ سقراط المعلّم الأوّل, واهتدى من الأعراب كثير, وما مارس أحد منهم تلك العلوم ولا تأوّل. فيا هذا! من أكثر ممارسة للعلوم العقليّة, وأهدى إلى العقائد الإسلامية: أمّ الدرداء, وأمّ سُليم, وخديجة بنت خويلد, أمْ أرسطاطاليس, وأفلاطون, وابن سينا؟ وانظر بعد هذا في ميزانك الذي وزنت به أهل العلم والذّكاء, وأهل الجمود والبله, هل تجده مع مراعاة الإسلام عادلاً, أو تراه إلى تعظيم الفلاسفة مائلاً؟. السّادس: كان المسلمون أمّة واحدة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيّام الخلفاء الرّاشدين -رضي الله عنهم-, ليس بينهم خلاف في أمر العقيدة, وعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - , ومن الخلفاء الرّاشدين والسّلف الصّالحين أن الذي كان عليه المسلمون في أعصارهم هو: سبيل الهدى ومنهج الحقّ وطريق السّلامة, حتّى مارستم هذه العلوم, وتركتم الجمود, وسالت أذهانكم بالحقائق, وغصتم على هذه الدّقائق, وضلّت اثنتان وسبعون فرقة من ثلاث وسبعين, ولم يبق من الأمّة على الحقّ بتركه (¬1) هذه الممارسة عُشْرها, ولا نصف عشرها!!. ¬
والمعتزلة تدّعي أنّها الفرقة النّاجية: دعوى ممزوجة بعجب كثير, واستحقار لكلّ من خالفهم من صغير وكبير! وهم مع ذلك مختلفون غاية الاختلاف, مفترقون عشر فرق في مسائل عقلية قطعية, لا يمكن عندهم فيها تصويب الجميع ولا رفع الإثم عن المخطىء, ولا القطع بانتفاء الفسق بإجماعهم!! ومنهم من يجيز في ذلك الاختلاف الواقع بينهم أن يكون فسقاً فلا خلاف بينهم فيه (¬1) , ومنهم من يصرّح بتكفير مخالفه, وبين أصحاب أبي الحسين, وأصحاب أبي هاشم في ذلك ما ليس بين فرق أهل الضلال أكثر منه, من قدح كلّ في علم الآخر, والقطع ببطلان ما هو عليه, وهذا الاضطراب العظيم, والخلاف الشّديد بين المعجبين بدعوى الاختصاص بعلم الحق, والاعتصام بالميزان العدل الذي يرفع الخلاف, ويظهر معه ما خفي من الحقّ, وكلّ هذا حصل بسبب (¬2) ممارسة العلوم التي عبتم على المحدّثين الغفلة عنها, فلا عدمكم المسلمون, زيدوا في هذه الممارسة فما يحصل منها غداً إلا (¬3) ما حصل منها أمس: تباغض وافتراق, وجدال وشقاق, وتكفير وتفسيق, وهوى من الضّلال إلى مكان سحيق. فإنْ كان المحدّثون ما استحقوا منك السّخرية والإستهانة إلا ¬
السابع
لعدم دخولهم معكم في هذه الممارسة؛ فالأمر [في ذلك] (¬1) مجبور, ولهم أسوة يعزّون بها أنفسهم فيمن فاتته هذه الممارسة من الأنبياء والمرسلين, والصّحابة والتّابعين, والأولياء والصّالحين. السّابع: أخبرنا ما هذه العقائد التي اختصصتم باعتقادها؟ (4وتميزتم على المحدثين (¬2) , وعيّرتم على المخلّين بمعرفتها, ولم تكن معرفتها إلا بممارسة العلوم التي لم يمارسها الصّحابة والسّلف الصّالح, فإنّا رأينا الأمّة قد أجمعت على صحّة عقائد الصّحابة قبل هذه الممارسة, فَمُنّ علينا بالتّعريف بما استفدتموه بذلك. فإن قلت: إنّ هذه العقائد هي اعتقاد وجود الله عزّ وجلّ, وأنّه عالم قادر, موصوف بجميع صفات الكمال /غير ممثّل بمثال, فقد أمكن الصّدر الأوّل معرفة هذا وأمثاله من الحقّ من غير ممارسة لعلومكم, ولم يصمهم أحد بالبله وجمود الفطنة ممن هو أذكى منك قلباً, وأرجح لبّاً, وأصلب ديناً, وأتمّ يقيناً. وإن كانت العقائد التي لا تدرك إلا بالممارسة هي قول شيوخكم: إنّ الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمونه, وقولهم: إنّ الله لا يقدر على هداية أحد من المذنبين, وقولهم: إنّ الله لم يخلق شيئاً على الحقيقة قطّ, لأنّ الأشياء ثابتة فيما لم يزل, وتذويت الذّات محال, وإنّما الذي هو فعل الله اكتساب (¬3) ¬
الذّوات الثّابتة في القدم صفة الوجود, وليس لله تعالى عندهم فعل إلا صفة الوجود, لكن صفة الوجود عندهم وسائر الصفات ليست بشيء, فحصل من هذا أنّ الله تعالى لم يخلق شيئاً قطّ, وإنّما يقال: إنه خالق كلّ شيء مجازاً. وقولهم: إنّ الله تعالى غير قادر على إعدام الألوان كلّها وكذلك الطّعوم فلا يقدر على قلب الأسود أغبر لأنّه إنّما يزيل الصّفة بواسطة طروء ضدّها عليه, وأنّ الله تعالى يريد بإرادة محدثة موجودة على حدّ (¬1) وجود عرض مستقل بنفسه غير حالّ في ذاته تعالى, ولا في غيره ولا داخل في العالم ولا خارج عنه, وأنّ أوّل الواجبات النّظر في الله, وأنّ النّظر فيه لا يتمّ إلا بالشّكّ فيه فوجب الشّكّ في الله تعالى, بل كان أوّل الواجبات, لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلا به يجب كوجوبه, بحيث يحصل الثّواب على الشّكّ في الله والعقاب على تركه, ويستمرّ وجوب الشّكّ في مهلة النّظر, ويقبح فيها تعظيم الله تعالى لأنّه عندهم في تلك الحال لا يؤمن أن لا يستحق التّعظيم, فتحرم فيها لذلك الصلوات, وسائر العبادات, تحلّ جميع المحرّمات الشّرعيّات (¬2) , ويجب فيها استحلال جميع الحرام, وترك جميع الواجب. وقولهم: إنّ جميع الواجبات وجبت لأنفسها, وجميع المحرّمات كذلك من غير إيجاب موجب, ولا تحريم محرّم, وأنّ الله تعالى غير مختار في التّحليل والتّحريم, وإنّما هو حاكٍ فقط, فالله تعالى عندهم -في ذلك-, والرّسول والمفتي سواء. ¬
وقولهم: إنّ الله تعالى يقبح منه أن يتفضّل على أحد من خلقه بغفران ذنب واحد, وأنّه لا يغفر إلا ما وجب عليه غفرانه وجوباً يقبح خلافه, حتّى لو زادت سيّئات المسلم مثقال حبّة من خردل قبح من الله تعالى مسامحته في ذلك, ووجب على الله تعالى تخليده في النّيران كتخليد فرعون وهامان وعبدة الصّلبان, وأنّه لو فعل لاتّصف بصفة الكاذبين, واستلزم ذلك بطلان هذا الدين, وأنّ من جوّز عليه ذلك فإنّه عند كثير منهم قد صار من المرجئة, وخرج من الفرقة النّاجية, وأنّ من لم يعرف الله تعالى بأحد الأدلّة التي حرّروها فهو جاهل بالله كافر, وهذا يستلزم تكفير السّواد الأعظم /من المسلمين الأوّلين والآخرين, والأنصار والمهاجرين. وقول شيوخكم البغداديّة: إنّ الله تعالى ليس بسميع, ولا بصير, ولا مريد حقيقة, وإنّما ذلك مجاز, معناه وحقيقته (¬1): أنّه عالم, وأنّ التقليد في الفروع حرام على العامّة من النّساء والعبيد والإماء وأهل الغباوة, وأنّ الاجتهاد في الحوادث ومعرفة أدلتها واجب عليهم مع ترخيص إمام البغداديّة أبي القاسم البَلخِي (¬2) في التّقليد في معرفة الله تعالى, فهذا عجيب من ممارسيّ علوم النّظر الدّقيقة أن يجيزوا التّقليد في أصل الدّين ويحرّموه في فرعه! والأصل ¬
أقوى من الفرع بالإجماع من العقلاء!. وقولهم: إنّ تفضّل الله على عباده بالعفو قبيح عقلاً وشرعاً, إلا أن يجب عليه وجوباً يقبح معه تركه, وسواء كان العفو قبل الوعيد أو بعده, وهذا هو الفرق بين مذاهب البغداديّة والبهاشمة, فإنّ البهاشمة لا يقبّحون العفو قبل الوعيد عقلاً, وقول البغداديّة: إنّه يقبح عقلاً وشرعاً العمل بجميع أخبار الثّقاب من الصّحابة والتّابعين, وأئمة المسلمين, وأنّ العمل بالقياس حرام, وبجميع الأدلّة الظّنيّة. ومن العجب استحقارهم الظّاهرية وتعظيمهم البغداديّة, والظّاهرية إنّما أنكرت القياس فقط, والبغداديّة أنكرت القياس والأخبار معاً, فهذه العقائد يذهبون إليها ويناظرون عليها, وليست من قبيل الإلزام, فإن كانت هذه العقائد وأمثالها من الأباطيل هي التي اختصصتم بها على المحدّثين, وتميّزتم بمعرفتها (¬1) على كثير من بله المسلمين, فلعمري إنّه لم يصر إلى هذه العقائد أحد من المسلمين إلا بعد ممارسة علومكم هذه التي سيّلت أذهانكم إلى هذا الحدّ, وخلصتم به (¬2) من عار جمود المحدّثين والسّلف الصّالحين من الصّحابة والتّابعين. فإن قلت: إنّ أهل الحديث فرق كثيرة ويوجد لهم مثل ما يوجد للمتكلمين من الأقوال النّكيرة. فالجواب من وجوه: الأول: أنّ تلك الفرق المبتدعة ممن ينسب إلى السّنة فرق شاذّة ¬
منكرة, قد ردّ عليهم أئمة السّنّة, ونصّوا على ضلالهم, كالمرجئة والنّواصب والحشويّة والكرّامية والمشبهة والجبرية, إنّما كلامنا فيما عليه الجمهور, وما هو المصحّح المنصور عند المعتزلة وأهل السّنة, ولم نذكر الفرق الشّاذّة من المعتزلة والشّيعة, ولو تعرّضنا لذكر ذلك لذكرنا فضائح وقبائح تتنزه عنها المعتزلة والزّيديّة ويضلّلون من قال بها, مثل قول الحسينيه من الزّيديّة: إنّ الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقول الإمامية: إنّ شرط الإمام أن يكون يعلم الغيب, وقول بعض البغدادية من المعتزلة -وهم المطرفية- باستقلال الطبائع بالتّأثير في العالم بعد خلق الله تعالى لها /ونُسِب هذا إلى البغدادية من المعتزلة, وقول بعض المعتزلة: إنّ الله تعالى غير قادر على المقدورات القبيحة عقلاً, وأنّ الأطفال والبهائم لا تدرك شيئاً من الآلام, لأنّ إيلامها قبيح, والله تعالى لا يفعله فأنكر الضّرورة, فهذه المذاهب الشّاذّة لا يشنّع بها على المعتزلة, وكذلك المذاهب الشّاذّة لا يشنّع بها على أهل الحديث. الثّاني: أنّ ذلك إنّما وقع من (¬1) بعض أهل الحديث من فيض علومكم هذه التي اقترحتم ممارستها (¬2) وتميّزتم عليهم بمعرفتها, ومن بقي منهم على ما كان عليه السّلف الصّالح سلم من جميع ما حدث من التّعمّق في الأنظار, والتّكلّف لاختراع ما لم يكن من العقائد. ¬
الثامن
وبالجملة؛ فمن أحدث عقيدة لم تكن مشهورة وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا النّاس إليها, وحملهم عليها, مع سكوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها, وعدم تعرّضه لها؛ فليس بسنّي العقيدة, ولا سالك عند أهل الحديث الطّريق الحميدة. الثّالث: أنّ كلامنا إنّما هو من (¬1) فوائد ممارسة العلوم العقليّة النّظريّة التي لم يعرفها السّلف, والمحدّث إذا ابتدع ما لم يكن في زمن الصّحابة فلم يؤت من الجمود وإنّما أتي من سيلان الذّهن, وممارسة هذه العلوم, فَبَانَ لك -أيّها المعترض بهذا- وَبَالَ هذه الفيهقة التي توهّمتها لك, لا (¬2) عليك. الثّامن: [من التقريعات] (¬3) أنّ المحدّثين هم أهل العناية التّامّة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أيّ فرقة كانوا؛ كالنّحاة, والمتكلّمين, وهذه الصّفة شريفة, فقول المعترض: إنّ الجمود وترك التّأويل مذهب بله (¬4) المحدثين, تعليق للسّخرية والتنقّص (¬5) بأهل صفة شريفة, وهذا دليل على أنّك متصف بما رميتهم به من البله, لأنّ التعليق للذّمّ على الأوصاف الحميدة تغفيل (¬6) , فلا يقول الفطناء متى أرادوا الذّمّ والانتقاص لأحد: إنّه من بُلْه المؤمنين والصّالحين ونحو ذلك. ¬
التاسع
التّاسع: أنّ لأهل كلّ فنّ من الفنون الإسلامية منّة على كلّ مسلم توجب توقير أهل ذلك الفنّ, وشكرهم والدّعاء لهم, والثّناء عليهم, لما مهّدوا من قواعد علمهم وذلّلوا من صعوبة فنّهم, وكثّروا من فوائده وقيّدوا من شوارده, فبئس ما جزيت من أحسن إليك بارتكاب ما لا يحلّ لك, وترك ما يجب عليك. ومن آداب العلماء: أن يفتتحوا القراءة في مجالس العلم بالدّعاء لمشايخهم (¬1) ومعلّميهم, وأهل كلّ فنّ هم مشايخ العالم فيه, وأدلّة المتحيّر في خوافيه. العاشر: العجب من المعترض كيف يذمّهم (¬2) وهو متحلّ بفرائد علومهم, وكارع في مشارع معارفهم, وتفسيره للقرآن مشحون برواياتهم, ومعرفته بالسّير والتّواريخ مستفادة /من أئمتهم. وما أقبح بالإنسان أن يكون من كفّار النّعم, وأشباه النَعَم! فإنْ كنت لا بد ساخراً منهم, ومستهزئاً [بهم] (¬3)؛ فهلا استغنيت وأغنيت عنهم, وأنِفت أنَفة الأحرار (¬4) عن الحاجة إليهم: أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من الّلوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا (¬5) الحادي عشر: أنّ جميع أئمة الفنون المبرّزين فيها, المقتصرين ¬
الثاني عشر
على تجويدها, قد شاركوا أهل الحديث في عدم ممارسة علم الكلام, وإن لم يشاركوهم في كراهة الخوض فيه, لكن علّة جمودهم, ورميهم بالبله في (¬1) عدم الممارسة؛ والممارسة للفنّ لا تحصل بعد كراهته, فأخبرنا هل مارس علم الكلام جميع أئمة الفقه؟ كمالك والشّافعيّ وأبي حنيفة, وأئمة العربيّة كالخليل وسيبويه, وأئمة اللّغة والقراءات والتّفسير, وسائر أئمة الفنون الإسلامية؟. فإن قلت: كلّ أهل الفنون قد مارس علم الكلام, كانت مباهتة! وإن قلت: بعضهم قد مارس فكذلك بعض المحدّثين (¬2) قد مارس علم الكلام, ولم ينفعهم ذلك عندك من جمود الفطنة, وداء البله, فلزم ذلك كلّ من شاركهم في هذا من أئمة العلوم الإسلامية, وما أقبح ما يجرّ إليه هذا الكلام من الكبر الفاحش!! فإن الكبر غمص النّاس, كما ورد في ((الصحيح)) (¬3) وهذا غمص أئمة النّاس, ووجوه الخواصّ!. الثّاني عشر: تصريك بوصم شيخ الإسلام, وإمام دار الهجرة: مالك بن أنس - رضي الله عنه - بأنّه جامد الفطنة؛ دليل على أنّك أنت جامد الفطنة, الطّويل البِطنة, وأنّك لا تدري ما يخرج من رأسك, ولا ما يطيش من دماغك, كأنّك لم تعلم أنّ الأمّة أجمعت على أنّه أحد أئمة المسلمين المجتهدين, وشيخ سنّة سيّد المرسلين, وأنّها خضعت ¬
بين يديه كراسي [العلماء] (¬1) التّابعين, وقد جاء في الأثر: ((إنّ الرّجل إذا حفظ الزّهراوين جدّ فينا)) (¬2). و (¬3) جاء في تعظيم العلماء والمتعلّمين ما لا يتّسع له هذا المكان من الآيات القرآنية, والأحاديث النّبويّة, ولو لم يكن من ذلك إلا ما ورد من (¬4) بسط الملائكة أجنحتها لطالبه (¬5)؛ لكانت كافية في رفع منار صاحبه, وتعظيم قدر مناقبه, وهذا في حقّ الطّالب المتعلّم؛ فكيف العالم المعلّم؟ فكيف يا سيّال الذّهن بشيخ الإسلام, وإمام دار هجرة المصطفى - عليه السلام - ؟ الذي قال فيه الشّافعي: ((إذا ذكر العلماء فمالك النّجم)). وكيف لم يهتد ذهنك هذا السّيّال إلى أنّه عار عليك أن تذمّ من لا تستفيد بذمّه إلا كشف الغطاء عن حماقتك, وخلع جلباب الحياء عن وجه خلاعتك, /وما أحسن في جوابك مما قال حسّان بن ثابت ... - رضي الله عنه -: (¬6) ¬
الثالث عشر
أتهجوه ولست له بكفءٍ ... فشرّكما لخيركما الفداء الثالث عشر: أنّ أهل الحديث لم يختصّوا بترك تأويل آيات الصّفات, وأحاديث الصّفات, والإيمان بمراد الله تعالى منها (¬1) , والنّهي عن الخوض في الكلام, بل قد شاركهم في ذلك, وفي بعضه كثير من خواصّ علماء الكلام المشاهير بصفاء الأذهان, ولطافة الأفهام, وقد نقل النّوويّ ذلك عن جماعة من المتكلّمين, واختاره جماعة من محقّقيهم, هذا لفظ النّووي ذكره في ((شرح مسلم)) (¬2) كما قدّمنا في الوهم التّاسع. (¬3) وقال الحجّة أبو حامد الغزّالي في كتاب ((الإحياء)) (¬4) -وقد ذكر علم الكلام ما لفظه-: ((وأمّا منفعته فقد يظن أنّ فائدته كشف الحقائق, ومعرفتها على ما هي عليه, وهيهات, فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف؛ ولعلّ التّحبيط والتّضليل فيه أكبر من الكشف والتّعريف. وهذا إذا سمعته من محدّث أو حشويّ ربما خطر ببالك أنّ النّاس أعداء ما جهلوا, فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثمّ قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد الوصول (¬5) إلى منتهى درجة المتكلّمين, وجاوز ذلك إلى ¬
التّعمّق في علوم أخر تناسب نوع الكلام, وتبيّن (¬1) أنّ الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الطريق مسدود. نعم (¬2) لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور, ولكن على النّدور في أمور جليّة تكاد تفهم قبل التّعمّق في صنعة الكلام)) انتهى كلام الحجّة في ((الإحياء)). وله [في] (¬3) كتاب ((المنقذ من الضّلال والمفصح بالأحوال)) (¬4) مثل هذا في ذمّ الكلام, والقول بأنّ أدلّته لا تفيد اليقين. وقال أيضاً في كتاب ((التّفرقة بين الإيمان والزّندقة)) (¬5) وقد ذكر علم الكلام ما لفظه: ((ولو تركنا المداهنة لصرّحنا بأنّ الخوض في هذا العلم حرام)). فهذه نصوص الغزّالي الذي قيل فيه: لم تر العيون ولا بعده أذكى منه. وذكر شيخ الاعتزال أبو القاسم البلخيّ الكعبيّ [العامّة] (¬6) في كتابه ((المقالات)) (¬7) وأثنى على عقيدتهم, وعدّهم فرقة مستقلة وقال: هنيئاً لهم السّلامة, وذكر الإمام المؤيّد بالله -أجلّ علماء الزّيديّة, وشيوخ علم النظر-: كراهة التّعمّق في علم الكلام, ونهى عن ذلك, وحث على الاشتغال بالفقه, وطوّل الكلام ¬
في ذلك, ذكره في كتاب ((الزّيادات)) (¬1) , وكان يحيى بن منصور الحسنيّ (¬2) من علماء الكلام على مذهب الزّيديّة؛ فرجع عن ذلك وكان ينهى عنه, وله في ذلك أشعار حسنة منها قوله:/ وما الذي ألجأهم إلى الخطر ... والخوض في علم الكلام والنظر وما يقال فيه للمخطي كفر ومنها قوله من قصيدة طويلة: ويرون ذلك مذهباً مستعظماً ... عن طول أنظار وحسن تفكّر ونسوا غنى (¬3) الإسلام قبل حدوثهم ... عن كلّ قولٍ حادث متأخّر ما ظنّهم بالمصطفى في تركه ... ما استنبطوه ونهيه المتقرّر أيكون في دين النّبيّ وصحبه ... نقص؟ فكيف به ولمّا يشعر أو ليس كان المصطفى بتمامه ... وبيانه أولى فلم لم يخبر ما باله حتّى السّواك أبانه ... وقواعد الإسلام لم تتقرّر إن كان ربّ العرش اكمل دينه ... فاعجب لمبطن قوله والمظهر إن كان في إجمال أحمد غنية ... فدع التّكلّف للزّيادة واقصر ما كان أحمد بعد منع كاتماً ... لهداية كلا وربّ المشعر بل كان ينكر كلّ قول حادث ... حتّى الممات فلا تشكّ وتمتر (¬4) ¬
وقال أيضاً (¬1): طلبتك جاهداً خمسين عاماً ... فلم أحصل على برد اليقين فهل بعد الممات بك اتصال ... فاعلم غامض السّرّ المصون نوى قذف وكم قد مات قبلي ... بحسرته عليك من القرون ولابن أبي الحديد المعتزلي في ذلك أشعار جيّدة ذكرها في ((شرح نهج البلاغة)): سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا عناء السّفر رجعت حسرى وما وقفت ... لا على عين ولا أثر (¬2) وقال أيضاً من أبيات: وأسائل الملل التي اختلفت ... في الدين حتى عابدي الوثن فإذا الذي استكثرت منه هو الـ ... جاني عليّ عظائم المحن فضللت في تيه بلا علم ... وغرقت في بحر بلا سفن قال إمام الكلام والمتكلّمين فخر الدّين ابن الخطيب الرّازي في ¬
وصيّته (¬1) ما لفظه: ((أحمد الله بالمحامد التي ذكره بها أفضل ملائكته في أشرف أوقات معارجهم (¬2) , ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهداتهم, بل أقول ذلك من نتائج (¬3) الحدوث والإمكان, فأحمده بالمحامد التي يستحقّها للاهوتيّته, واستوجبها بكمال إلاهيّته, عرفتها أو لم أعرفها, لأنّه لا مناسبة للتّراب مع جلالة ربّ الأرباب -إلى قوله- ولقد اختبرت الطّرق الكلامية, والمناهج الفلسفيّة, فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم, لأنّه يسعى/ في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى, ويمنع من التّعمّق في إيراد المعارضات والمناقضات, وما ذلك إلا للعلم بأنّ العقول البشريّة تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفيّة)). وذكر في وصيّته هذه أنّه يدين لله تعالى بدين محمد - صلى الله عليه وسلم - , [وسأل] (¬4) الله تعالى أن يقبل منه هذه الجملة ولا يطالبه بالتّفصيل. ومن شعره في هذا المعنى: ¬
العلم للرّحمن جلّ جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم ما للتّراب وللعلوم وإنّما ... يسعى ليعلم أنّه لايعلم [وله] (¬1) نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال (¬2) قال القرطبي في ((شرح مسلم)) (¬3) ما لفظه: ((وقد رجع كثير من أئمة المتكلّمين عن الكلام بعد انقضاء أعمار مديدة وأمداد (¬4) بعيدة, فمنهم: إمام المتكلّمين أبو المعالي, فقد حكى عنه الثّقات أنّه قال: ((لقد خلّيت أهل الإسلام وعلومهم, وركبت البحر الأعظم, وغصت في الذي نهوا عنه, كلّ ذلك رغبة في طلب الحقّ وهرباً من التّقليد, والآن قد رجعت (1عن الكل (¬5) إلى كلمة الحق, عليكم بدين العجائز, وأختم عاقبة أمري عند الرّحيل بكلمة الإخلاص, والويل لابن الجويني!)). وكان يقول لأصحابه: ((يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام, فلو عرفت أنّ الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به)). وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان الكرابيسي خالي, فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: أتعلمون أحداً أعلم منّي؟ قالوا: لا. ¬
الرابع عشر
قال: افتتهمونني؟ قالوا: لا. قال: فإنّي أوصيكم, أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أهل الحديث, فإنّي رأيت الحق معهم. وقال أبو الوفاء بن عقيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري, ثمّ عدت القهقرى إلى مذهب المكتب. قال القرطبي: وهذا الشّهرستاني صاحب ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (¬1) وصف حاله فيما وصل إليه من الكلام وما ناله, فتمثّل بما قاله: لعمري لقد طفت المعاهد كلّها ... وسيّرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كفّ حائر ... على ذقن أو قارعاً سنّ نادم ثمّ قال: ((عليكم بدين العجائز, فإنّه أسنى الجوائز)). انتهى ما حكاه القرطبي. فانظر إلى أمر [أعلام] (¬2) البرهان, وفرسان هذا الشأن, كيف رجعوا القهقرى إلى ما قاله علماء الأثر وأئمة السّنّة, فإذا عرفت هذا تبيّن لك أنّ اختيار أهل /الحديث لترك الكلام والتّأويل ليس يلازم البله وجمود الفطنة, وأنّه ربما ذهب إلى ذلك من هو ألطف منك طبعاً, وأصلب نبعاً, وأحسن فهماً, وأغرز علماً. الرّابع عشر: أنّ ذلك إنّما يلازم البله وجمود الفطنة, لو كانوا قد بذلوا جهدهم في تفهّم علم الكلام, وتعلّم أساليب أهل الجدال, فكلّ منهم الجدّ, ولم يساعدهم الجدّ, ليس كذلك الأمر, فإنّهم إنّما تركوه ¬
لما ورد في القرآن من الأمر بالاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وذلك يقتضي الاقتداء في فعل ما كان يفعله وترك ما كان يتركه, ولما ورد في ((الصّحيح)) (¬1) من النّهي عن البدع, والأمر بالاقتداء بالخلفاء الرّاشدين, كما روى التّرمذي (¬2) وحكم بصحّته عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي, عضّوا عليها بالنواجذ)) الحديث. وكذلك روى التّرمذي (¬3) مرفوعاً: ((ما ضلّ قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدال)) , وفي ((صحيح مسلم)) (¬4) ((إنّ أبغض الرّجال إلى الله تعالى الألدّ (¬5) الخصم)). قال [القرطبي] (¬6): ((وهذا الخصم المبغوض عند الله هو الذي يقصد بمخاصمته: مدافعة الحقّ, وردّه بالأوجه الفاسدة, والشّبه الموهمة, وأشدّ ذلك الخصومة في أصول الدّين, كخصومة أكثر المتكلّمين المعرضين عن الطرّق التي أرشد إليها كتاب الله, وسنة نبيّه, وسلف أمّته, إلى طرق مبتدعة, واصطلاحات مخترعة, وقوانين جدليّة وأمور صناعيّة, مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية ومناقشات ¬
لفظية, يرد بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها, وشكوك يذهب الإيمان معها, وأحسنهم انفصالاً عنها أجدلهم لا أعلمهم, فكم من عالم بفساد الشّبهة لا يقوى على حلّها, وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها. ثمّ إنّ هؤلاء المتكلّمين قد ارتكبوا أنواعاً من المحال, لا يرتضيها البله ولا الأطفال, لما بحثوا عن تحيّز الجواهر والأكوان والأحوال, لأنّهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السّلف الصّالح, ولم يؤخذ عنهم فيه بحث واضح, وهو كيفية تعلّقات صفات الله تعالى وتعديدها وإيجادها في أنفسها, وأنّها هي الذّات أو غيرها؟)). إلى قوله: إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر صاحب الشّرع بالبحث عنها, وسكت أصحابه ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها, لعلمهم أنّها بحث عن كيفية ما لم يعلم كيفيّته, فإنّ العقول لها حدّ تقف عنده وهو: العجز عن التّكييف لا تتعداه, ولا فرق بين البحث في كيفيّة الذّات وكيفيّة الصّفات, ولذلك قال العليم الخبير: ((ليس كمثله شيءٌ وهو السميع العليم)) [الشورى/11] , ولا تبادر بالانكار فعل الأغبياء الأغمار, فإنّك قد حُجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها, وعن كيفيّة إدراكاتك مع أنّك تدركها, وإذا عجزت عن إدراك كيفيّة ما / بين جنبيك؛ فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز. وغاية علم العلماء, وإدراك عقول العقلاء الفضلاء؛ أن يقطعوا بوجود فاعل لهذه المصنوعات, منزّه عن صفاتها, مقدّس عن
أحوالها, موصوف بصفات الكمال الّلائق به بتمامها, فما (¬1) أخبرنا الصّادقون عنه بشيء من أسمائه وصفاته قبلناه واعتقدناه, وما لم يتعرّضوا له؛ سكتنا عنه, وتركنا الخوض فيه. هذه طريقة السّلف (2وما سواها مهاوٍ وتلف)) , ثم أورد ما جاء عن الأئمة والسّلف (¬2) من النّهي عنه. والقصد بإيراد هذا الكلام أن يظهر لك أنّ القوم لم يتركوا علم الكلام لدقّته وغموضه, وإنّما تركوه لما نصّوا عليه من ثبوت النّهي عنه عندهم, وكونه غير مفيد اليقين في الخفيّات, ولا يحتاج إليه في الجليّات. وقد نصّ على هذه العلّة كثير من المتكلّمين كما قدّمنا. وقد خاض في علم الكلام غير واحد من المحدّثين كابن تيمية, والشّيخ تقي الدّين (¬3) , فبلغوا في التّدقيق وراء مدارك الفطناء من أئمة الكلام كما يعرف ذلك من رأى كلامهم, وردّوا على المتكلّمين ودقّقوا مع المدقّقين, وإنّما أوّل القرطبي النّهي عن الجدال؛ لأنّ الموجب لتأويله نصّ القرآن في قوله تعالى: ((وجادلهم بالتي هي أحسن)) [النحل/125] وقوله تعالى في الحكاية عن قوم نوح - عليه السلام -: ((يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)) [هود/32] ونحو ذلك. وإنّما يكون المكروه منه نوعان: ¬
أحدهما: المراء به واللّجاج (¬1) الذي يعرف صاحبه أنّه غير مفيد, وربما عرف أنّه مثير للشّرّ, والفرق بينه وبين الجدال بالتي هي أحسن: أن يكون المجادل بالتي هي أحسن قاصداً لإيضاح الحقّ, أو طامعاً في اتّباع خصمه لا يقبل, ولم يكن له مقصد إلا غلبة الخصم, ومجرّد الظّهور عليه, ملاحظة لحظّ النّفس في ذلك فقد صار ممارياً وداخلاً في المنهيّ عنه. وثانيهما: أن ينتصر للحقّ بالخوض في أمور يستلزم الخوص فيها الشّكوك والحيرة والبدعة, ولا يقتصر -في الانتصار للحقّ- على أساليب القرآن والأنبياء -عليهم السلام- والسّلف الصّالح -رضي الله عنهم-, وإنّما كره الانتصار للحقّ بتلك الطريقة لما أشار إليه كثير من محقّقي علم الكلام: من أنّها خوض في محارات العقول, وبحث في غوامض تلتبس العلوم فيها بالظّنون, وسير في متوعّرات مسالك تزلّ فيها أقدام الحلوم. ألا ترى أنّهم قد خاضوا في الرّوح مع قوله تعالى: ((ويسئلونك عن الرّوح قل الرّوح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)) [الإسراء/85] مع عدم الحاجة إلى الخوض فيه؛ لأنّ معرفته غير واجبة كمعرفة الله تعالى, وقد حاولوا تأويل الآية ليتنزّهوا عن دعوى ما لا يعلمون, فجمعوا بين خطر تأويل القرآن بغير قاطع, ولغير موجب, وبين خطر دعوى علم ما لم يثبت على دعواه برهان قاطع, وقد قال الله تعالى: ((ولا تقف ما ليس لك به علم/ إنّ السّمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك ¬
الوهم الثالث عشر: الكلام في أفعال العباد والجواب وفيه الذب عن أهل الحديث, وله طريقان
كان عنه مسئولاً)) [الإسراء/36]. فهذا وأمثاله هو الذي كره أهل الحديث الخوض فيه, رغبة في الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - , بأصحابه والتّابعين لهم -رضي الله عنهم-, وأمساكاً عن التّهوّر في مهاوي دعاوى العلوم في مواضع الظّنون, لا لما وصمهم به المعترض من البله وجمود الفطنة, ولهذا الكلام تتمّة تأتي في آخر الكتاب أن شاء الله تعالى تشتمل على معرفة كيفيّة النّظر في معرفة الله تعالى عند المحدّثين, وبماذا يعامل به أهل الفلسفة وأمثالهم متى (¬1) أوردوا الشبه الدّقيقة على المسلمين. الوهم الثّالث عشر: أراد المعترض أن يحتجّ على أنّ الأشعرية وأهل الحديث كفّار تصريح لإنكارهم ما هو معلوم من ضرورة الدّين, وذكر أشياء: منها: زعم أنّهم ينكرون أنّ لنا أفعالاً وتصرّفات. الجواب: أنّ هذا مجرّد دعوى عليهم من غير بيّنة, بل بهت لهم ومصادمة لنصوصهم. ولنا في بيان براءتهم في ذلك طريقان: الطّريق الأولى: نقل براءتهم عن ذلك من أشهر كتب الزّيديّة, وهو ((شرح الأصول)) الذي هو مدرس الزّيديّة, ومدرس هذا المدّعي لهذه الدّعوى الفريّة فنقول: قال السّيّد أحمد بن أبي هاشم -مصنّف الشّرح في أوائل ¬
الفصل الثّاني في العدل (¬1) -ما لفظه-: ((يبيّن ما ذكرناه ويوضّحه أنّ أحدنا لو خيّر بين الصّدق والكذب, وكان النّفع بأحدهما كالنّفع بالآخر, وهو عالم بقبح الكذب, مستغن عنه, عالم باستغنائه عنه فإنّه قطّ لا يختار الكذب على الصّدق)). إلى قوله ما لفظه: ((فإن قالوا هذا بناءً على أنّ الواحد منّا مخيّر في تصرّفاته, ونحن لا نسلّم ذلك, فإنّ من مذهبنا أنّه مجبر عليه في هذه الأفعال, وأنّها مخلوقة)). ثم أجاب بأربعة وجوه: قال في الثّالث منها ما لفظه: ((وبعد فلا خلاف بيننا وبينكم في أنّ هذه التّصرفات محتاجة إلينا ومتعلّقة بنا وأنّا مختارون فيها, إنّما الخلاف في جهة التّعلّق: أكسب أم حدوث؟)). فهذا نصّ صريح لا يحتمل التّأويل في (مدرس الزّيديّة) يدلّ على أنّ القوم يقولون: بأنّا مختارون في أفعالنا, وقد تأوله بعض من لا يدري بمذهبهم بأنّه أراد بالاختيار هنا: الإرادة فقط مع وقوع الإرادة من غير اختيار, وهذا جهل بقصد المصنّف وبمذهب القوم, أمّا المصنّف؛ فإنّه قصد نقض جوابهم علينا في التّحسين والتّقبيح بالجبر وبخلق الأفعال, وبيّن أنّ الحجّة لازمة على مقتضى مذهبهم, لأنّهم لا ينكرون تعلّق الأفعال بنا ووقوعها باختيارنا, ألا ترى أنّه قال: فإن قالوا هذا بناءً على أنّ الواحد منّا مخيّر في تصرّفاته ونحن نسلّم ذلك إلى آخر كلامه, ثم نقض هذا عليهم وبيّن أنّه ليس بمذهبهم, فكيف يمكن تأويل هذا على أنّه ما روى عنهم القول بالاختيار, وهل هذا إلا محض الجهل أو التّجاهل؟ ولو سلّمنا أنّ مقصد هذا المصنّف: ¬
الطريق الثانية
التبيين, أو أنّه لم ينص على ذلك لم يخف مذهب القوم على طالبه, فالقوم مصرّحون بمذهبهم في مصنّفاتهم كما ترى الآن من الطريق الثّانية, والطّمع في تعمية مذهبهم ورميهم بما لم يقولوا يزري بصاحبه ولا يضر من رمي به. /الطريق الثّانية: وهي المعتمدة المفيدة لمن يحبّ العلم المتواتر بمقصدهم في مذهبهم, وهي نقل نصوصهم من مصنّفات محقّقيهم الحافلة وتواليفهم الممتعة, فمن ذلك ما ذكره الفخر الرّازي في ((كتاب الأربعين في أصول الدين)) وفي كتابه ((نهاية العقول)) فإنّه ذكر ما معناه: إنّهم أربع فرق, فذكر في الكتابين أنّه يجمعهم القول بأنّ العبد غير مستقل بفعله, وذكر في ((النّهاية)) أيضاً أنّه يجمعهم القول بأنّ الاختيار للعبد في فعله كما سوف نوضح ذلك بالكلام على كلّ فرقة منهم فنقول: الفرقة الأولى منهم: هم الجبرية الخلّص, وهم الذين يقولون: إنّه لا تأثير لقدرة العبد في الفعل ولا في صفة من صفاته, بل الله تعالى يخلق الفعل بقدرته, ويخلق [العبد] (¬1) قدرة متعلقة بفعله, مقارنة في حدوثها لحدوثه, غير متقدّمة عليه, ولا مؤثّرة فيه ألبتة, وهذا قول الأشعري وأتباعه, وجماهير المحقّقين من المتأخرين على خلاف هذا, قال الرّازي في ((النهاية)) ما لفظه: ((قالت المعتزلة: لو كان فعل العبد موجوداً بقدرة الله تعالى ما حسن المدح والذّمّ والأمر والنّهي. ثمّ قال: اختلفوا في الجواب على طريقين: ¬
الأولى: طريقة الأشعري: أنّ قدرة العبد غير مؤثّرة, وأمّا الأمر والنّهي؛ فلأنّ الله أجرى العادة بأنّ العبد متى اختار الطّاعة فإنّه تعالى يخلق الطّاعة فيه عقيب اختياره إيّاها, وكذلك إن اختار المعصية. وإذا كانت المكنة بهذا المعنى حاصلة لا جرم حسن الأمر والنّهي. إلى قوله: إذا كان الأمر كذلك؛ كان التّكليف والأمر والنّهي إنّما كان لأنّه [متمكّن] (¬1) من اختيار أحد مقدوريه دون الآخر, وإن لم يكن متمكناً من الإيجاد, لا يقال: ترجيحه أحد تعلّقي الإرادة على تعلّقها. الثّاني: إن وقع بالعبد فقد اعترفتم بتأثير قدرة العبد, وإن وقع بالله فلا يكون ذلك التّرجيح مضافاً إلى العبدأصلاً, لأنّا نقول: إنّ ترجيح أحد التّعلّقين على الآخر ليس أمراً ثبوتياً أصلاً لا في حق الله تعالى, ولا في حق العبد حتّى يلزم من إسناده إلى العبد ما يلزم من الاعتراف بكون قدرته مؤثّرة, فإنّ ذلك لو كان أمراً ثبوتياً لكان وقوعه أيضاً بالاختيار فيلزم التّسلسل. فهذا صريح منهم في كتبهم مبيّن (¬2) معلّل لا يمكن تأويله, وقد أفصحوا بأن مذهب الجبريّة الخلّص أنّ العبد مختار, وأنّه إنّما يستحق الذّمّ والعقاب والأمر والنّهي بسوء اختياره, وبهذا يتخلّص (¬3) من قول المعتزلة: إنّهم يجوّزون على الله العبث والقبيح والظلم لقولهم بخلق الأفعال, وهذا من وجه مثل قول الجاحظ وثمامة بن الأشرس: إنّه لا ¬
فعل للعبد إلا الإرادة, وهما من أجلاّء شيوخ الاعتزال. وذكر الرّازي في هذا الموضع: (3أنّ العبد (¬1) يفعل الاختيار عند الدّاعي الرّاجح وجوباً كما يفعل الله الواجب في حكمته, ويترك القبيح في علمه وجوباً عند المعتزلة, ولا ينافي ذلك /الوجوب ثبوت الاختيار, قال: ولا يصح للمعتزلة أن يلزموهم نفي الاختيار بذلك لوجهين: أحدهما: أنّ الدّاعي عند المعتزلة غير موجب, وثانيهما: أنهم يقولون بمثل ذلك في حقّ الله تعالى في أفعاله الواجبة عندهم, ولم يقتض ذلك أنّه تعالى عندهم (¬2) غير مختار. قلت: بل يقولون بذلك في حق العبد في غير موضع: منها في احتجاجهم على ثبوت التّحسين والتّقبيح عقلاً, وقولهم: إذا خيّر العاقل بين الصّدق والكذب وكان النّفع فيهما سواء اختار الصدق وجوباً, بل يقولون بذلك في جميع أفعال العباد كما أشار إليه الرّازيّ في احتجاجهم على أنّ لنا أفعالاً وتصرّفات, فإنّهم احتجوا على ذلك بأنّها تقع عند [وجود] (¬3) دواعينا أو تنتفي عند وجود صوارفنا. وقد ذكر الرّازي أنّ هذا هو مقصود القائلين بأنّ الدّاعي موجب لأنّه لو لم يكن موجباً لم يكن ما ذكروا دائماً, ولكان اتفاقيّاً أو أكثريّاً, ولو كان كذلك لم يكن حجة لهم. وأمّا قولهم: إنّه وجوب استمرار لا ¬
الفرقة الثانية
وجوب اضطرار فقد صرح القوم (¬1) بمعنى ذلك, فإنّهم صرّحوا بأنّ معنى ذلك الوجوب لا ينافي الاختيار, بل قال الرّازيّ: إنّ القول بأنّه ينافي الاختيار خروج من الإسلام, لأنّه يستلزم ذلك في حقّ الله تعالى, وينبغي معرفة هذه النّكتة فعليها المدار, وقد قال الرّازيّ: إنّ الجبر حقّ, وفسّر الجبر بوجوب وقوع فعل العبد عند رجحان الدّاعي لانتفاء الاختيار, وصرّح في غير موضع بأنّ القول بوجوب الفعل عند رجحان الدّاعي لا يوجب نفي الاختيار. فثبت بهذه الجملة أنّ الجبريّة ما أرادوا بالجبر وخلق الأفعال ما فهمته عنهم المعتزلة, ومع تصريحهم بمقصدهم يحرم نسبتهم إلى غيره. الفرقة الثانية: أهل القول بالكسب من الأشعرية ورئيسهم القاضي أبو بكر الباقلاني, ومعنى الكسب عندهم: أنّ قدرة الله تعالى مستقلة بإيجاد ذوات أفعال العباد التي لا توصف بحسن ولا قبح, ولا يستحق عليها ثواب ولا عقاب, وقدرة العبد مستقلة بصفات تلك الأفعال التي توجب وصفها بالحسن والقبح, ويستحق عليها الثواب والعقاب. مثال ذلك: أنّ أصل الحركة عندهم من الله, وأمّا كون تلك الحركة متّصفة بصفة مخصوصة مثل كونها صلاة أو زنا؛ فذلك أثر قدرة العبد, وهو أقرب الأقوال (¬2) إلى قول المعتزلة من الطّائفة الأولى, لأنّ أكثر المعتزلة يقولون: إنّه لا تأثير لقدرة العبد إلا في صفات الفعل, لكن المعتزلة يقولون أيضاً بمثل ذلك في قدرة الله ¬
تعالى, فإنّها عندهم لا تؤثّر إلا في الصّفات, فإنّ الذّوات عندهم ثابتة في العدم (¬1) والقدم, غير موجودة (¬2) ويفرّقون بين الثّبوت والوجود, بل المعتزلة يقولون: إنّ الصفة بنفسها غير مقدورة, بل المقدور جعل الذّات /عليها, والقصد: [بيان] (¬3) أنّ المعتزلة قد شاركوا هذه الفرقة في القول بأنّ ذوات أفعال العباد غير مقدورة لهم, فالذي قالت هذه الفرقة من الأشعرية: إنّه مخلوق من أفعال العباد, وهو الذي قالت المعتزلة: إنّه ثابت في العدم والقدم, وإنّه غير مقدور لا للخالق ولا للمخلوق. قالت هذه الفرقة من الأشعرية: ونحن نقول ببعض ما قالت المعتزلة فنقول: إنّ العبد غير مؤثر في ذات الفعل, وهذا صحيح عند المعتزلة. ونقول: إنّ العبد مؤثر في صفة الحسن والقبح, وهذا صحيح عند المعتزلة, ونقول: إنّ العبد مؤثّر في صفة الحسن والقبح, وهذا صحيح عندهم أيضاً, فإنّ جلّة المعتزلة قد أقرّت أنّ الأفعال لا تحسّن وتقبّح لذواتها بل لوقوعها على وجوه (¬4) واعتبارات, وذلك لأنّ ذوات أفعال العباد واحدة, فإنّها كلّها راجعة إلى كونها حركة أو سكوناً؛ بل عند الفريقين من المعتزلة والأشعرية أنّ الحركة والسّكون راجعان إلى معنى واحد, وهو لبث المتحيّز في الجهة لكون السّكون لبث المتحيّز وقتين فصاعداً, والحركة لبث المتحيّز في جهة عقيب ¬
لبثه في جهة أخرى, ولهذا سمّوا لبثه في أوّل وجوده إذا انتقل أو عدم في الوقت الثّاني كوناً مطلقاً, ويعنون بذلك: أنّه ليس بحركة لأنّه لم يكن لبث قبل ذلك في جهة أخرى وهذا شرط سميته حركة, وليس بسكون لأنه لبث أقلّ من وقتين, فإذن (¬1) أفعال العباد كلّها راجعة إلى شيء واحد, وهو اللبث في جهة. قال الرّازيّ في تلخيص ذلك: إنّ الحركة هي الكون في الجهة الثّانية في الوقت الأوّل, والسّكون هو الكون في الوقت الثّاني في الجهة الأولى, فبهذا تعرف أنّ الأفعال لا تحسّن ولا تقبّح لذواتها, لأنّه يلزم أن تكون (¬2) حسنة قبيحة معاً, ويلزم أن يقبح غير الأجسام والألوان من أفعال الله تعالى, ويرد على المتكلّمين في قولهم: إنّ المرجع بالحركة إلى اللبث إشكالات صعبة قد أشار الرّازيّ في كتبه إلى بعضها, والذي ألجأهم إلى ذلك: القول بأن الحركة والسكون ثبوتيان, وأنّ واحدهما ليس بعدميّ, كما يعرفه من نظر في كتبهم. فإذا عرفت هذا عرفت أنّ ما ذكره [القاضي] (¬3) أبو بكر الباقلاني لازم للمعتزلة ولجميع المتكلّمين, وذلك لأنّ لبث المتحيّز في جهة ما ضروري لا يمكن العبد أن يختار غيره, فثبت أنّه فعل الله تعالى. وقد ثبت عندهم أنّ أفعال العباد كلّها راجعة إلى لبث المتحيّز في جهة, فثبت أنّ ذوات أفعال العباد فعل الله تعالى, وإنّما يقع اختيارهم على ¬
الفرقة الثالثة
اكتساب /ذلك الفعل بهيئات مخصوصة, وإيقاعه على مقاصد متغايرة هي منشأ الحسن والقبح, والأمر والنّهي, والثّواب والعقاب, والذي اختصّت به المعتزلة دون القاضي [أبي] بكر أنّها قالت: إن قدرة العبد تؤثّر في صفة وجود فعله وفي سائر صفاته, والقاضي قال: تؤثّر في صفة الحسن والقبح دون صفة الوجود, لكن المعتزلة تقول: إنّ صفة الوجود ليست منشأ الحسن والقبح, والأمر والنّهي, وإنّما منشأها صفة الحسن والقبح الذي ذكر القاضي أنّها من آثار قدرة العبد, فثبت أنّهم قد اتفقوا في موضع يوجب الاتفاق فيه ترك التأثيم, فتفهّم ذلك فهو سرّ المسألة. الفرقة الثّالثة: من الأشعرية الذين قالوا: قدرة العبد تؤثّر [بمُعين] (¬1). قال الرّازيّ: ويشبه أن يكون هذا قول أبي إسحاق الإسفرايني, وهو أقرب إلى الاعتزال من الفرقة الأولى, لأنّهم قد أثبتوا لقدرة العبد أثراً في صفة الوجود, وإنّما ينكر المعتزلة من قول هؤلاء تجويز مقدور بين قادرين (¬2) , وقد جوّزه شيخ الاعتزال أبو الحسين البصري المتكلّم, وإذا اتّحد الفعل واختلف الفاعلان جاز أن يحسن من أحدهما لإيقاعه على وجه حسن, ويقبح من الآخر لإيقاعه على وجه قبيح, وقد بسطت ذلك في ((الأصل)) (¬3) ثمّ اختصرته هنا لوضوحه عند أهل التمّييز. ¬
الفرقة الرابعة
الفرقة الرّابعة: من الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وأصحابه, وهؤلاء يقولون بمثل قول المعتزلة: إنّ قدرة العبد تؤثّر في ذات فعله, وصفاتها كلّها صفة الوجود (¬1) وصفة الحسن والقبح, بل زادوا على المعتزلة, فإنّ المعتزلة إنّما قالوا بأنّ قدرة العبد تؤثّر في صفة الوجود لا في الذّات نفسها, إلا أبا الحسين البصري, فيقول بمثل قول الجويني سواء, لكن هؤلاء يفارقون المعتزلة لقولهم إنّ العبد غير مستقلّ بفعله بسبب أنّ القدرة عندهم لا تؤثّر إلا بشرط وجود الدّاعي, والدّاعي عند الفرق كلّها وعند المعتزلة من الله تعالى, لكن الدّاعي عند هؤلاء غير مخرج للعبد عن الاختيار, ولكن عندهم أنه يقع الفعل عنده اختياراً قطعاً من غير تردّد كما تقول المعتزلة في أفعال الله تعالى الوجبة, وفي غيرها ما (¬2) تقدّم بيانه, فهؤلاء قولهم في هذه المسألة [و] (¬3) قول أبي الحسين البصري من المعتزلة واحد, فإنّه أيضاً يقول في الدّاعي بمثل قولهم, فكيف يحسن من المعتزلة /تقبيح على الجويني ولا يُقبّح على أبي الحسين البصري, وينسب الجبر إلى أحدهما دون الآخر!؟ وهل هذا إلا محض العصبية؟! ولله من قال: وعين الرّضا عن كل عيب كليلة ... كما أنّ (¬4) عين السّخط تبدي المساويا (¬5) ¬
وقد طوّلت هذه المسألة في ((العواصم)) (¬1) لمسيس الحاجة إلى معرفتها, وأكثرت من الاستشهاد على براءة أهل السّنّة [من] (¬2) نفي الاختيار [بما] (¬3) يكاد يملّ الواقف عليه, لما رأيت من كثرة عصبية الفرق [فيها] (¬4) وتكفير المسلمين وتضليلهم بعضهم بعضاً من أجل الاختلاف فيها, والأمر [فيها] (¬5) قريب كما ترى, فإنّ الجبرية أقرّوا بثبوت الاختيار للعبد, والمعتزلة يقرّون بأنّ العبد غير مستقل بالمعنى الذي ذكره الجويني وأصحابه, خاصّة أبو الحسين البصري وأتباعه, لكنّهم يختلفون في العبارة, ويحتاج العارف بمقاصدهم إلى الجمع بين أطراف كلامهم, والنّظر فيها مع الإنصاف والشّفقة على المسلمين ولا (¬6) يكون من القوم الذين قيل فيهم: أعوذ بالله من قوم إذا سمعوا ... خيراً أسرّوه أو شرّاً أذاعوه ثمّ (¬7) المعتزلة بأجمعهم يخالفون في المشيئة ويقولون: المشيئة للعباد في أفعالهم لا لله تعالى, والواقع منها ما شاء العبد لا ما شاء الله, وأهل السّنة مجمعون على أنّ المشيئة لله تعالى في ذلك لا للعبد؛ وهذه في الحقيقة هي مسألة الخلاف لا الأوْلى, فلو ذكرها المعترض ¬
لكان ذلك به أوْلى, وحين (¬1) أعرض عن ذكرها أعرضت عنه أيضاً لأني مجيب لا مبتدىء, وإنّما ذكرت ذلك لئلاّ يتوهّم الواقف على كلامي أني قد سوّيت بين المعتزلي والسّنّي من كلّ وجه وجهلت موضع الخلاف بينهما. وقد رام بعضهم أن يلفّق بين الفريقين فقال: إنّ المعتزلي يقول: إنّ الله تعالى أراد أن يجعل للعباد مشيئتهم ويُمضي لهم مرادهم, وتلخيصه: أنّ المعتزلة تقول: إنّ الله تعالى أراد أن تكون دار التّكليف دار تخلية بين المكلّفين وبين ما أرادوا, فكأنّه قد أراد ما أرادوا, فلهذا لم يكن مغلوباً سبحانه وتعالى. وفي هذا نظر [ليس هنا] (¬2) موضع ذكره. وخلاصته: أنّ المعتزلة يجيزون تعارض إرادة الله وإرادة العبد في الفعل المعيّن, ويوجبون تأثير إرادة العبد دون إرادة الله في ذلك الفعل, وأهل السّنة يمنعون ذلك, فلا يمكن التّلفيق بين أقوالهم في هذه المسألة, وإنّما يمكن توجيه كلام أهل السنة بما ذكره الذّهبي في ترجمة عكرمة من كتاب ((الميزان)) (¬3) فإنّه روى عن عكرمة أنّه سئل: لم أنزل الله المتشابه؟ فقال: ليضلّ به. قال الذّهبي: ((ما أخشنها من عبارة /وأقبحها!! أنزله ليضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً, وما يضلّ به إلا الفاسقين)). ¬
الوهم الرابع عشر
وإذا أخرج (¬1) الشيء هذا المخرج وعلّل بالعلل المعقولة لم يبعد منه المعتزلي. وقد أوضحت في غير هذا الموضع لأهل السّنة في ذلك من الوجوه ما يوجب على المعتزلي موافقتهم مع بقائه على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين, وهو من النفائس, ولا تخفى مواقعه على الفطن في كتاب الله [مثل قوله] (¬2) تعالى: ((ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون)) [الأنفال/23] ومثل قوله تعالى: ((وما يضلّ به إلا الفاسقين)) [البقرة/26] وغير ذلك. ولا بدّ في هذه المسألة للسّنّي والمعتزلي من الرّجوع إلى محض التّسليم للشّريعة وترك محض التّحسين والتّقبيح العقلي في بعض المواضع الدّقيقة التي يجوز غلط العقل فيها لحيرته وتبلّده, وعدم نفوذ نظر بصيرته فاعلم ذلك. الوهم الرّابع عشر: وهم أنّهم أنكروا القدر الضّروري في شكر المنعم, وليس كذلك, فإنّهم في تلك المسألة المرسومة في الأصول إنّما نازعوا في وجوب شكر المنعم الذي هو الله تعالى من جهة العقل, مع اعترافهم بوجوبه شرعاً, وقطعهم بكفر من قال: بأنّ شكر الله لا يجب, لكنّهم نازعوا في معرفة العقل لذلك في حقّه تعالى قبل الشّرع, لأنّه تعالى غنيّ عن شكرنا [لأنّه] (¬3) لا يمكن أن ينتفع به, ولا يتضرّر بتركه, مع أنّ في فعل الشّكر مضرّة على العبد ناجزة لما في المحافظة ¬
الوهم الخامس عشر
عليه من المشقّة, قالوا: فلو خلّينا وقضيّة العقل, لم نقطع بوجوب ما هذه صفته, قال الجويني في ((البرهان)) (¬1) ما لفظه: ((والبرهان القاطع في بطلان ما صاروا إليه: أنّ الشّكر تعب للشّاكر ناجز, ولا يفيد المشكور شيئاً, فكيف يقضي العقل بوجوبه؟)) انتهى. فإن قلت: قد خالفوا في وجوب شكر المنعم في الشّاهد عقلاً, فقد دفعوا الضّرورة العقلية. قلت: ليس كذلك, فإنّهم يعرفون ما في الطّبيعة من استحسان الشّكر واستقباح نقيضه, وإنّما نازعوا في استحقاق الذّمّ عليه عاجلاً والعقاب آجلاً, وعلى فعل ما استقبحه العقل, مع اعترافهم أنّه صفة نقص لا تجوز على الله تعالى, ولهذا نصّوا: أنّ العقل يدرك تنزيه الله تعالى عن الكذب لأنّ الكذب صفة نقص, وإنّما موضع النّزاع فيما يستحقّه فاعل صفة النّقص عقلاً قبل ورود الشّرع, وهذا هو موضع الخلاف في مهمّات مواضع (¬2) التّحسين والتّقبيح العقليين كما ذكره الرّازيّ من الأشعرية, والإمام يحيى بن حمزة من الزّيديّة ذكره في ((كتاب التّمهيد)). الوهم الخامس عشر: وهم المعترض أنّ مذهبهم: القول بجوار تكليف ما لا يطاق وليس كذلك, فلم يذهب إلى هذا منهم إلا الأشعري والرّازيّ, على اختلاف شديد في (1نقل مذهب الأشعري ¬
الوهم السادس عشر
في (¬1) ذلك, وقد صرّح الرّجال بردّ هذا المذهب, ونقض شبه من ذهب إليه, وقد ذكرت آنفاً أنّه لو لزمهم مذهب من ينسب إليهم للزم المعتزلة والزّيديّة كثير من المذاهب الباطلة, /وقد ردّ الغزّالي على من قال بذلك, وبالغ الجويني في ((البرهان)) (¬2) في إبطال هذا القول, وكذلك ابن الحاجب في ((مختصر المنتهى)) (¬3) وكذلك شرّاحه من الأشعرية, وذلك معروف في مواضعه فلا نطوّل بنقل ألفاظهم فيه. الوهم السّادس عشر: وهم المعترض أنّهم قد دفعوا الضّرورة في تجويز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم, وليس كذلك لوجهين: الوجه الأول: أنّهم لم يجمعوا على القول بهذه المسألة, فنسبتها (¬4) إلى جميعهم غير صحيحة. قال الإمام النّووي في ((شرح مسلم)) (¬5) وقد ذكر الأقوال في أطفال المشركين حتّى قال ما لفظه: ((وثانيها: الوقف, وثالثها: ما ذهب إليه المحقّقون: أنّهم من أهل الجنّة, ويستدلّ لهم بأشياء منها: حديث إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - ((حين رآه النّبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنّة وحوله أولاد النّاس قالوا: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين)). رواه البخاري في ((صحيحه)) (¬6) ¬
وروى أنس عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: ((سألت ربّي اللاهين من ذريّة البشر ألا يعذّبهم فأعطانيهم, فهم خدم أهل الجنّة)) (¬1) يعني الأطفال, وليس في إسناده إلا يزيد بن أبان الرّقاشي (¬2) الصّالح المشهور, وهو من أهل الورع والتّقوى, وفي حفظه شيء يسير, فقد قال الحافظ ابن عديّ فيه: أرجو أنّه لا بأس به (¬3) , وقد تابعه عبد الرّحمن بن إسحاق, وهو أيضاً وإن ضعّفه بعضهم فقد قال النّسائي وابن خزيمة: ليس به بأس (¬4) فهذا مع حديث البخاري, وظاهر القرآن يتعاضد (¬5). ومنها قوله تعالى: ((وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً)) [الإسراء/15] ثمّ تكلّم في نصرة هذا المذهب (¬6) , وذكر تأويل الأحاديث التي تخالفه. وقد أجابوا بأنّها كلّها ضعيفة إلا حديث سلمة بن يزيد الجعفيّ فإنّه صحيح الإسناد لكنّه غير عام فإنّه نصّ في موءودةٍ بعينها فاحتمل التّأويل, وذلك أنّهم سألوا النّبي - صلى الله عليه وسلم - عنه أخت لهم ماتت في الجاهلية موءودة لم تبلغ الحنث فقال: ((إنّها في النّار)) (¬7). ¬
قال السّبكي: فإن كان لهذا الحديث علّة لم نحتج إلى جواب, وقد قيل: إنّه - صلى الله عليه وسلم - اطّلع عن أنّ سنّ تلك الموءودة بل التكليف, ولم يلتفت إلى قول السّائل: لم تبلغ الحنث لجهله, ويكون التّكليف في ذلك الوقت منوطاً بالتّمييز والسّائل لجهله, ليس ذلك عنده من الأمور المحتاج إليها في تلك الحال فيبينه فيها. هذه خلاصة كلام أهل هذا المذهب, وهم المحقّقون من أهل السّنة كما قال النّووي -رحمه الله-. فثبت بنقل إمام المحدّثين أنّ المحقّقين منهم لا يقولون بتعذيب الأطفال, وإلى ذلك مال الإمام السّبكي في جزء ألّفه في هذه المسّألة (¬1) , وكذلك الغزّالي في كتاب ((القسطاس المستقيم)) (¬2) قال ما لفظه: ((وأنت تعلم أنّ الله تعالى /ينزل الصّبيان إذا ماتوا منزلاً من الجنّة دون منازل البالغين)) , هذا لفظه في كتابه المذكور, وهو مشهور عند الأشعرية, وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ في ((عارضة الأحوذي في شرح التّرمذيّ)) (¬3) إن حديث رؤية النّبي - صلى الله عليه وسلم - لإبراهيم قويّ, وحديث: ((عصفور من عصافير الجنّة)) قد غمزه الحفّاظ, وحديث ((هم من آبائهم)) , يعني في إهدار دمهم فإنّهم سألوه: إنّا نغير على المشركين فنصيب من أولادهم, فقال: ((هم من آبائهم)) يعني في إهدار الجناية عليهم, وهذا بيّن لا إشكال فيه)). هذا لفظه. ¬
وقال أيضاً في التّرجيح بين الأخبار في ذلك: ((أما حديث: ((كلّ مولود يولد على الفطرة)) فيعضده المشاهدة والأدلّة العقلية. إلى قوله: ((وقد يكون في أولاد المشركين مؤمن, وفي أولاد المؤمنين كافر, ويحكم الباري فيهم بعلمه, وهذا بيّن من التّأويل لا يتطرّق إليه إشكال ويرفع جهل الجهال)) , وكلامه في هذا يردّ (¬1) علىالخصم, حيث (¬2) زعم أنّهم يعلّلون تعذيب الأطفال بكفر الآباء وينكرون (¬3) الأدلّة العقلية, وأمّا من أجاز ذلك, ولم يتأوّل الأخبار من أهل العلم منهم؛ فإنّهم لم يجيزوا تعذيب الأطفال لأجل ذنوب آبائهم, بل افترقوا في تعليل ذلك فرقتين: الفرقة الأولى: أهل الجمود منهم, وترك الخوض في الكلام, وهؤلاء يجوّزون أنّ في حكمة الله وعلمه المكنون من أنواع الحكم ما لا تدركه العقول, فيجوز عندهم أن يكون ذلك على ظاهره, ويكون لله تعالى من الحكمة فيه ما يحسن معه, وإلى هذا أشار ابن الجوزيّ بقوله (¬4) في وصف الله تعالى: ((بثّ الحِكَم فلم يعارض بلم)) , وقوله في ذلك: ((خرست في حضرة القدس صولة لم, فأقدام الطّلب واقفة على جمر التّسليم)). وربّما ذكر الفطناء منهم وجوهاً من حكمة الله تعالى في ذلك ¬
على سبيل التمثيل والتّقريب. منها: أنّ الله تعالى قد خلقهم فيما مضى, وخلق عقولهم وكلّفهم وعصوا, ويحتجّون على ذلك بحديث إخراج ذريّة آدم من ظهره على صورة الذّرّ (¬1) , وبه فسّروا قوله تعالى: ((وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين, أو تقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبل وكنّا ذرّيّة من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)) [الأعراف/172 - 173]. ويحتجّون أيضاً بما رواه البخاري عن قيس بن حفص, حدّثنا خالد بن الحارث, حدّثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس يرفعه: ((إنّ الله عزّ وجلّ يقول لأهون أهل النّار عذاباً: لو أنّ لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم. قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا, وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي؛ فأبيت إلا الشّرك)) أخرجه البخاري (¬2) آخر الجزء الثّاني (¬3) عشر/ من تجزئته, وهو في الجزء الثّاني من أربعة أجزاء. في ((الصّحيحين)) (¬4) شاهد لهذا عن أبي هريرة: أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: ((إنّ الله خلق الخلق حتّى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة)) الحديث, وهو دليل على أنّ الله تعالى قد خلق الخلق فيما مضى مرّة (¬1) أوّله, وهذا غير ممتنع في مقدور الله تعالى, وهو على كلّ شيء قدير. وأمّا قوله تعالى في الآية: ((قالوا بلى)) [الأعراف/172] فلا يدلّ على إسلام جميع ذلك الخلق الأوّل لوجوه: أحدها: ما ذكره ابن عبد البرّ (¬2) وغيره في تفسير قوله تعالى: ((وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً)) [آل عمران/83] , فإنّهم فسّروا إسلام أهل الأرض كلّهم بذلك وقالوا: إنّ أهل السّعادة قالوا ذلك عن معرفة له طوعاً, وأهل الشّقاوة قالوا ذلك كرهاً, وهذا وجه وجيه (¬3). الوجه الثاني: أنّه يجوز أنّهم قالوا ذلك ثمّ عصوا بعد قوله. الوجه الثالث: أنّه يجوز أن يكون القائل بذلك بعضهم, وتكون الآية من العامّ الذي أريد به الخاصّ, وتخصيص العموم بالسّنة جائز إجماعاً. وأمّا قوله تعالى: ((من بني آدم)) [الأعراف/172] فيحتمل أنّه أخرج من صلب آدم أولاده لصلبه, ثمّ أخرج من صلب كلّ واحد منهم أولاده, على أن دلالة الأحاديث على المقصود لا ¬
[تتوقف] (¬1) على تفسير الآية بذلك؛ فإنّ الأحاديث صريحة في ذلك والآية محتملة, وهذا هو أحد الاحتمالين في قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الوجه في تعذيب أطفال المشركين فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) (¬2) , وفيه إشارة إلى أنّهم عذّبوا بعمل, وأنّه وكل العلم به إلى الله تعالى. الاحتمال الثّاني: أنّها تؤجّج لهم نار فيقال: ((ردوها فيردها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل, ويمسك عنها من كان في علم الله شقيّاً لو أدرك العمل, فيقول الله: إيّاي عصيتم, فكيف رسلي لو أتتكم))؟. قال السّبكي (¬3): ((رواه أبو سعيد الخدريّ عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن النّاس من يوقفه على أبي سعيد. وروي معناه من حديث: أنس, ومعاذ, والأسود بن سريع, وأبي هريرة, وثوبان كلّهم عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر عبد الحق في ((العاقبة)) حديث الأسود وصحّحه, ورواه أحمد في ((مسنده)) (¬4) من حديث الأسود, وأبي هريرة. قال السّبكي: ((وأسانيدها صالحة)). وقد اعترض صحّتها بعض أهل الأثر برأي عقليّ ضعيف, وقد ¬
أوضحته في ((العواصم)) (¬1). وممّا يمكن تقديره في ذلك على قواعد المعتزلة والأشعرية وأهل الحديث وجوه: منها: أنّهم يدخلون النّار ثمّ يخرجون منها, ويكون لهم على ألمهم من النّار أعواض عظيمة ينالونها في الجنّة, ويكون ذلك مثل إيلامهم في الدّنيا وهم صغار, وهذا يصحّ على قول طائفة من المعتزلة وهم الجبّائية أصحاب شيخ الاعتزال أبي عليّ (¬2) فإنّه كان يذهب /إلى أنّه يحسن من الله تعالى أن يؤلم من لا ذنب له لأجل العوض من دون اعتبار, ومنع أبو هاشم وأصحابه من ذلك إلا مع الاعتبار (¬3) , وتعذيب الأطفال على هذا الوجه ممكن على قول هذه الطّائفة أيضاً, فإنّه يمكن أن يخلق الله خلقاً في تلك الحال, مكلّفين غير عالمين علماً ضرورياً بالآخرة, ويعلّمهم علماً استدلالياً بذلك الألم الذي ابتلي به الأطفال, ويعلمهم بما أعد لأهل البلاء من عظيم النّوال, بل يجوز أن يكون الاعتبار بذلك حاصلاً لنا اليوم لعلمنا أو علم بعضنا بذلك في المستقبل. ومنها: أنّه يحتمل أنّ الأطفال إذا ماتوا أكمل الله عقولهم قبل الموت, وأمرهم فعصوه فماتوا. ومنها: أنّه يجوز إذا ماتوا أحياهم الله تعالى مرّة ثانية قبل يوم ¬
القيامة؛ إمّا في غير هذه الدّار, أو فيها, ولا نعلم أنّهم هم, ثمّ يكمل عقولهم ويكلّفهم, ولا يكون موتهم الأوّل مضطرّاً لهم إلى الطّاعة, إمّا (¬1) لعدم تمام عقولهم, أو لأنّهم لم يروا فيه شيئاً من أمور الآخرة, وإنّما كان مثل النّوم. ومنها: أنّه يجوز أن يدخلوا النّار ولا يتألمون بها كما يكون فيها الحيّات, وكما يكون فيها الخزنة من الملائكة -عليهم السّلام-, وكلّ هذه الوجوه محتملة على مذهب المعتزلة. فإن قيل: إنّ المعتزلة لا يجيزون الخروج من النّار, والوجه الأوّل منها مبني على ذلك. قلت: إنّما يمنعون خروج من دخل النّار معاقباً, أمّا من ليس بمعاقب كالحيّات, وخزنة النّار؛ فلا يمنعون ذلك, وإنّما قصدت بذكر هذه الوجوه إطلاع المعتزلي على أنّ وجوه حكمة الله تعالى أوسع من أن يقطع المتكلّم على عدم ما لم يعلم منها, فإنّ هذه المسألة أقبح ما ينسبه المعتزلي إلى الأشعري, والمحدّث, ويعتقد أنّه لا يمكن أن يكون لها تأويل على قواعد المعتزلة, وقد بان بهذا أنّه لا يلزم من تجويز هذه المسألة تجويز الظّلم على الله جلّ جلاله, وعظم شأنه, ولا يلزم من قال بها إنكار المعلوم بالضّرورة. فهذا الكلام انسحب من ذكر فرقة أهل الجمود من أهل الحديث, وأمّا فرقة (¬2) أهل الكلام من الأشعرية فإنّهم يثبتون الكلام ¬
في هذه المسألة على قواعدهم في التّحسين والتّقبيح, وقد مرّت الإشارة إلى نكتة منه, وتمامه مذكور في كتبهم البسيطة مثل: ((نهاية العقول)) للرّازي, وغيرها, ومن وقف عليه علم أنّ بطلانه غير معلوم بالضّرورة, وأنّه لا يتمكن من الجواب عليهم فيه إلا خواصّ المتبحّرين في الكلام, فكيف يدّعي المعترض أنّهم كذبة يتعمّدون الكفر مع علمهم بذلك؟ على أنه في هذا خالف سلفه من أهل البيت, وشيوخه من المعتزلة, فقد بيّنّا فيما تقدّم أنّهم نصّوا على أنّ القوم من أهل التّأويل والتّديّن. وقد تركت إيراد كلام متكلّميّ الأشعريّة في التّحسين والتّقبيح؛ لأنّ كتابي هذا / [كتاب] (¬1) نصرة للحديث وأهله الواقفين على ما كان عليه السّلف, من ترك الخوض في عويص الكلام, ودقيق الجدال. وممّا (¬2) يدلّ على تنزيه أهل الحديث مما رماهم به من تجويز التّعذيب بذنب الغير؛ أنّه (¬3) لما رود في الحديث: ((أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه)) (¬4) (¬5) تأوّلوا ذلك بأن يكون الميّت أوصى بذلك, ذكر ذلك البخاري في ((صحيحه)) (¬6) , وذكره النّووي في موضعين: ¬
أحدهما: كتاب ((رياض الصّالحين)) (¬1) في الرّقائق. وثانيهما: كتاب ((روضة الطّالبين)) (¬2) في الفقه, ذكره منه في كتاب الجنائز, وقد ذكر الذّهبي (¬3) في ذلك وجهاً آخر, وهو أنّ ما يصيب المسلم (¬4) في قبره من ضمة القبر ونحوها, من جملة آلام الدّنيا التي يبتلى بها الصّالحون, وهو صحيح على أصول المعتزلة, فإنّ العوض من الله تعالى ممكن في ذلك, وكذلك الاعتبار, فإنّ المكلّفين يعتبرون بذلك حين يعلمونه, وهذا إنّما ذكره الذّهبي في ضمّة القبر لورود النّصّ الصّحيح: ((أنّ القبر ضمّ سعد بن معاذ, وأنّ العرش اهتزّ لموته, وأنّ الله أهبط لموته سبعين ألف ملك)) (¬5) , ومثل هذا الوجه يمكن في جميع ما يلحق المؤمن في القبر, ويوم القيامة, وتأويل البخاريّ والنّووي أكثر ملاءمة لقوله تعالى: ((لا يحزنهم الفزع الأكبر)) [الأنبياء/103] , ((وهم من فزع يومئذٍ آمنون)) [النمل/89] ونحوذلك. وقد ذكرت في ((الأصل)) (¬6) أنّه يحتمل أن يكون (¬7) سبباً لعذاب ¬
الوهم السابع عشر، والجواب عليه فيه فصول
الميت, والعذاب في نفسه مستحقّ بذنوب عملها الميّت في حال التّكليف, وقد جاء في ((الصحيح)) (¬1): ((من نوقش الحساب عُذّب)) ويكون الحكمة في ذلك, وفي الخبر به: الزّجر العظيم عن معصية النّياحة التي هي من عمل الجاهلية. الوهم السّابع عشر: ذكر المعترض عن الفقهاء أنّهم يجيزون إمامة الجائر, وحكى عن ابن بطّال أنّه قال: الفقهاء مجمعون أنّ المتغلّب طاعته لازمة ما أقام الجمعات والأعياد والجهاد, وأنصف المظلوم غالباً, وأن طاعته خير من الخروج عليه, لما في ذلك من تسكين الدّهماء وحقن الدّماء, ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أطيعوا السّلطان ولو كان عبداً حبشيّاً)) (¬2) ولا يمنع من الصّلاة خلفه, وكذلك المذموم ببدعة أو فسق. انتهى إلى قول المعترض: فإذا كان هذا مذهب القوم عرفت أنّهم كانوا من أئمة الجور, الذين قتلوا الأئمة الأطهار, وأنّهم شيعة الحجّاج بن يوسف, بل شيعة يزيد قاتل الحسين - رضي الله عنه - لأنّهم يعتقدون بغي من خرج على المتغلّب الظّالم, كما صرّح به ابن بطّال, ويصوّبون قتل الذين يأمرون بالقسط من النّاس؛ لأنّهم بغاة على قولهم)) انتهى كلامه. والجواب عليه يتمّ بالكلام على فصول: ¬
الفصل الأول
الفصل الأول: في بيان أنّ الفقهاء لا يقولون: إنّ الخارج على إمام / الجور باغ ولا آثم, وهذا واضح من أقوالهم, ويدلّ عليه وجوه: الأوّل: نصّهم على ذلك, قال الإمام النّووي في ((الرّوضة)) (¬1) ما لفظه: ((الباغي في اصطلاح العلماء هو: المخالف لإمام العدل, الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب (¬2) عليه, أو غيره)) انتهى كلامه. وهو نصّ في موضع النّزاع. وقد حكى هذا عن العلماء على الإطلاق والاستغراق, ولم يستثن أحداً. الوجه الثّاني: أنّ الكلام في الخروج على أئمة الجور [عندهم] (¬3) من المسائل الظّنيّة الفروعيّة التي لا يأثم المخالف فيها, وللشّافعيّة في جواز ذلك وجهان معروفان, ذكرهما في ((الرّوضة)) (¬4) للنّووي, وفي ((مجموع المذهب في قواعد المذهب)))) (¬5) للشّيخ صلاح الدّين العلائي, وذكر ذلك غير واحد, ومن المعلوم أنّ ذلك لو كان حراماً قطعاً كشرب الخمر, لم يكن لهم فيه قولان. الوجه الثّالث: أنّ الذّهبي صنّف كتاب ((ميزان الاعتدال)) وشرط فيه أن يذكر كلّ من تكلّم عليه من أهل الرّواية للحديث بحقّ أو باطل, ¬
الفصل الثاني
قال: ((لئلا يستدرك على كتابه)) (¬1) , فلم يذكر فيه زيد بن علي -رضي الله عنهما- مع أنّه من رجال الكتب السّتّة, على أنّه قلّ ما سلم أحد من ذكره في هذا الكتاب, حتّى إنّه ذكر سفيان الثّوري, وأويساً القرني, وجعفر الصّادق, ويحيى بن معين, وأبا حنيفة (¬2) , وعليّ بن المديني, وأمثال هؤلاء الأئمة, وإنّما ذكرهم لأنّه قلّما سلم أحد من الكلام بحقّ أو باطل, فحين لم يذكر زيد بن عليّ -رضي الله عنهما- دلّ ذلك على جلالته, وأنّ الذّهبيّ على سعة اطلاعه لم يعلم فيه قدحاً ألبتّة. وأصرح من هذا أنّ الذّهبيّ قال في كتابه ((الكاشف)) (¬3): ((إن زيداً - رضي الله عنه - استشهد)) بهذا اللفظ, وهذا نصّ منه في موضع النّزاع, فإنّ الباغي ليس بشهيد إجماعاً. الفصل الثاني: في بيان أنّ منع الخروج علىالظّلمة استثنى من ذلك من فحش ظلمه, وعظمت المفسدة بولايته, مثل: يزيد بن معاوية, والحجّاج بن يوسف, وأنّه لم يقل أحدّ منهم ممّن يعتدّ به بإمامة من هذه حاله, وإن ظنّ ذلك من لم يبحث, لإيهام ظواهر عباراتهم في بعض الموضع, فقد نصّوا على بيان مرادهم وخصّوا عموم ألفاظهم, فممّن ذكره الإمام الجويني فإنّه قال في كتاب ¬
((الغياثي)) (¬1) -وقد ذكر أنّ الإمام لا ينعزل بذلك ما لفظه-: ((وهذا في نادر الفسق, فأمّا إذا تواصل منه العصيان, وفشا منه العدوان, وظهر الفساد, وزال السّداد, وتعطّلت الحقوق, وارتفعت الصّيانة, ووضحت الخيانة؛ فلا بدّ من استدراك هذا الأمر المتفاقم, فإن أمكن كفّ يده وتولية غيره بالصّفات المعتبرة, فالبدار البدار, وإن لم يكن ذلك لاستظهاره بالشّوكة إلا بإراقة الدّماء, ومصادمة الأهوال؛ فالوجه أن يقاس ما النّاس مدفوعون إليه /مبتلون به بما يفرض وقوعه, فإن كان النّاجز الواقع أكثر مما يتوقع؛ فيجب احتمال المتوقّع, وإلا فلا يسوغ التّشاغل بالدّفع, بل يتعيّن الصّبر والابتهال إلى الله تعالى)). ومن ذلك ما ذكره أبو محمد بن حزم في الرّدّ على أبي بكر بن مجاهد المقرىء (¬2) , فإنّه ادّعى الإجماع على تحريم الخروج على الظّلمة, فردّ ذلك عليه ابن حزم, واحتجّ عليه بخروج الحسين بن عليّ -رضي الله عنهما- وخروج أصحابه على يزيد, وبخروج ابن الأشعث, ومن معه من كبار التّابعين, وخيار المسلمين على الحجّاج بن يوسف. وقال ابن حزم: أترى هؤلاء كفروا؟ بل والله من كفّرهم فهو أحقّ بالتّكفير. ولقد يحقّ على المرء المسلم أن يزمّ لسانه, ويعلم أنّه مجزيٌّ بما تكلّم به, مسئول عنه غداً, قال: ولو كان خلافاً يخفى لعذرناه؛ ولكنّه أمر ظاهر لا يخفى على المخدّرات في ¬
البيوت)) , ذكره في ((كتاب الإجماع)) (¬1) رواه عنه الرّيمي (¬2) في كتابه ((عمدة الأمّة في إجماع الأئمة)) (¬3). وقد ذكر هذه المسألة القاضي عياض, وذكر دعوى ابن مجاهد للإجماع, قال القاضي عياض (¬4): وردّ عليه هذا بعضهم بقيام الحسين بن علي - رضي الله عنه - وابن الزبير, وأهل المدينة على بني أميّة, وقيام جماعة عظيمة من التّابعين والصّدر الأوّل على الحجّاج مع ابن الأشعث, وتأوّل هذا القائل قوله: ((أن لا ننازع الأمر أهله)) على أئمة العدل, قال عياض: ((وحجة الجمهور: أن قيامهم على الحجّاج ليس لمجرّد الفسق, بل لما غيّر (¬5) من الشّرع, وأظهر (¬6) من الكفر)) انتهى كلامه. وفيه: بيان اتفاقهم على تحسين ما فعله الحسين - رضي الله عنه - مع يزيد, وابن الأشعث وأصحابه مع الحجّاج, وأنّ جمهورهم قصروا جواز الخروج على من كان مثل يزيد والحجّاج, ومنهم من ¬
جوّز الخروج على كلّ ظالم. وفيه أنّهم اتّفقوا على الاحتجاج بفعل الحسين, ولكن منهم من قصره على مثل يزيد, ومنهم من قاس عليه كلّ ظالم. ومن ذلك كلام ابن بطّال الذي أورده المعترض, وقد مرّ, وهو على المعترض لا له, فإنّه روى عن الفقهاء أنّهم اشترطوا في طاعة المتغلّب إقامة الجمعات والأعياد, والجهاد, وإنصاف المظلوم غالباً, ولم يكن يزيد والحجّاج بهذه الصّفة. والعجب أنّ المعترض ادّعى على ابن بطّال أنّه نصّ على ما ادّعاه من تصويب يزيد والحجّاج وبغي الحسين, ولم يذكر ذلك ابن بطّال بمنطوق ولا مفهوم, ولا نصّ ولا عموم, وهذا كلام من غفل عن معنى النّصّ. وقال ابن الأثير في ((نهايته)) (¬1) ما لفظه: ((فيه أنّه ذكر (¬2) /الخلفاء بعده فقال: أوّه لفراخ آل محمد من خليفة يستخلف عتريف مترف, يقتل خلفي وخلف الخلف)). قال ابن الأثير: العتريف: الغاشم الظّالم, وقيل: الدّاهي الخبيث, وقيل: هو قلب العفريب الشّيطان الخبيث, قال الخطّابي (¬3): قوله: خلفي [يتأوّل على] (¬4) ما كان من يزيد بن معاوية ¬
إلى الحسين بن علي وأولاده الذين قتلوا معه, وخلف الخلف: ما كان منه يوم الحرّة إلى أولاد المهاجرين والأنصار)). انتهى بلفظه من ((النهاية)). وفيه شهادة على براءة القوم ممّا رماهم به المعترض؛ من تصويب يزيد الخبيث في قتل الحسين الشّهيد. وكيف يقال ذلك وقد نصّوا على أنّ يزيد ظالم غاشم خبيث شيطان, وروى التّرمذي في ((جامعه)) (¬1) حديثاً وحسّنه (¬2) عن سفينة الصّحابي, مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وفيه أيضاً لما روى الحديث: ((الخلافة في أمّتي ثلاثون سنة, ثم ملك بعد ذلك)) قال له سعيد بن جمهان: إنّ بني أميّة يزعمون أنّ الخلافة فيهم, قال: كذبوا [بنو] (¬3) الزّرقاء, هم ملوك من شرّ الملوك. هذه رواية [التّرمذي] (¬4). وفي رواية أبي داود (¬5) قال سعيد: قلت لسفينة: إنّ هؤلاء يزعمون أنّ عليّاً لم يكن بخليفة, قال: كذبت أستاه (¬6) بني الزّرقاء, ¬
يعني بني مروان (¬1). وروى التّرمذي (¬2) عن [الحسن] (¬3) بن عليّ -رضي الله عنهما- أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - أُري بني أميّة على منبره فساءه ذلك فنزلت: ((إنّا أنزلناه في ليلة القدر, وما أدراك ما ليلة القدر, ليلة القدر خير من ألف شهر)) [القدر/1 - 3] يملكها بعدك بنو أميّة يا محمّد (¬4). ¬
قال القاسم بن الفضل: فعددناها فإذا هي ألف شهر (¬1) لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. ولما ذكر ابن حزم (¬2) خروم الإسلام عدّها أربعة: قتل عثمان, وقتل الحسين, ويوم الحرّة, ولم يعد قتل عمر ولا قتل علي منها, تعظيماً لقتل الحسين وإظهاراً لبلوغه من القبح إلى حدّ فوق حدّ الكبائر. وقال الذّهبيّ في ((النّبلاء)) (¬3): ((يزيد بن معاوية كان ناصبيّاً فظّاً غليظاً جلفاً, يتناول المسكر ويفعل المنكر, افتتح دولته بقتل الشّهيد الحسين - رضي الله عنه - واختتمها بوقعه الحرّة, فمقته النّاس, ولم يبارك في عمره, وخرج عليه غير واحد بعد الحسين - رضي الله عنه - ¬
كأهل المدينة لله (¬1))) وذكر من خرج عليه. قال: ((وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن مكحول عن أبي عبيدة مرفوعاً: ((لا يزال أمر أمّتي قائماً حتّى يثلمه رجل من بني أميّة يقال له: يزيد)) أخرجه أبو يعلى في ((مسنده)) (¬2). وروى عن جويرية عن نافع قال: مشى عبد الله بن مطيع إلى ابن الحنفية في خلع يزيد, وقال: إنّه يشرب الخمر, [ويترك] (¬3) الصلاة, ويتعدّى حكم الكتاب (¬4). وعن عمر بن عبد العزيز قال رجل في حضرته: أمير المؤمنين يزيد, فأمر به فضرب عشرين سوطاً)). قال الذّهبيّ في ((الميزان)) (¬5): ((إنّه مقدوح في عدالته ليس بأهل ¬
أن يروى عنه. وقال أحمد بن حنبل: لا ينبغي أن يروى عنه)) (¬1). وقال ابن حزم في ((أسماء الخلفاء)) آخر ((السير النّبويّة)) (¬2) ما لفظه: ((بويع يزيد بن معاوية إذ مات أبوه, وامتنع من بيعته الحسين بن عليّ - رضي الله عنه - , وعبد الله بن الزّبير بن العوّام, فأمّا الحسين - رضي الله عنه - فنهض إلى الكوفة /فقتل قبل دخولها, وهي ثانية (¬3) مصائب الإسلام وخرومه؛ لأنّ المسلمين استُضيموا في قتله ظلماً وعلانية, وأمّا عبد الله بن الزّبير - رضي الله عنه - فاستجار بمكّة, فبقي هنالك إلى أن أغزى يزيد الجيوش, إلى المدينة حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى مكة حرم الله تعالى فقتل بقايا المهاجرين والأنصار يوم الحرّة, وهي ثالثة (¬4) مصائب الإسلام وخرومه؛ لأنّ أفاضل الصّحابة وبقيّتهم -رضي الله عنهم- وخيار المسلمين قتلوا جهراً ظلماً في الحرب وصبراً, وجالت الخيل في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وراقت وبالت في الرّوضة بين القبر والمنبر, ولم يصلّ جماعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الأيام, ولا كان فيه أحد حاشا سعيد بن المسيب, فإنّه لم يفارق المسجد, ولولا شهادة [عمرو] (¬5) بن عثمان بن عفّان, ومروان بن ¬
الحكم له عند مسلم بن عقبة بأنّه مجنون لقتله, وأكره النّاس على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أنّهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق, وذكر بعضهم البيعة على حكم القرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فأمر بقتله فضربت عنقه صبراً رحمه الله. وهتك يزيد الإسلام هتكاً وأنهب المدينة ثلاثاً, واستخفّ بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومدّت إليهم الأيدي, وانتهبت دورهم, وحوصرت مكة, ورمي البيت بحجارة المنجنيق, وأخذ الله يزيد (¬1) فمات بعد الحرّة بأقل من ثلاثة أشهر, وأزيد من شهرين, في نصف ربيع الأوّل سنة أربع وستّين, وله نيّف وثلاثون سنة)) انتهى كلام [أبي] (¬2) محمد بن حزم بلفظه. وفيه أعظم شهادة لأهل السّنّة على البراءة من تصويب يزيد والتّشيّع له, هذا على أنّ الذّهبي ذكر أنّ ابو حزم قد وصم بالتّعصّب لبني أميّة (¬3) , فإذا كان هذا كلام من رمي بالتّعصّب لهم فكيف بمن لم يرم بذلك! على أنّ كلام ابن حزم هذا يرد (¬4) على ما رماه بالعصبيّة, ويشهد له بالسّلوك من الإنصاف في طريقة سويّة. ¬
قال الحافظ أبو الخطّاب ابن دحية الكلبي (¬1) في كتابه ((العلم المشهور)) (¬2) ما هذا لفظه مختصراً: ((وفي هذا اليوم -يعني عاشوراء- قتل السيّد الأمير, ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , سيّد شباب أهل الجنّة: الحسين بن فاطمة البتول يوم الجمعة, وقيل: يوم السّبت سنة إحدى وستّين بالطّفّ بكربلاء, وهو ابن ستّ وخمسين سنة, ولما أحاطوا بالحسين - رضي الله عنه - قام في أصحابه خطيباً, فحمد الله, وأثنى عليه, ثمّ قال: قد نزل بي ما ترون من الأمر, وإنّ الدّنيا قد تنكّرت وتغيّرت, وأدبر معروفها [وانشمر, حتّى] (¬3) لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء, إلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل, ألا ترون الحقّ لا يعمل به, والباطل لا يتناهى عنه, ليرغب المؤمن في لقاء الله, وإنّي لا أرى الموت إلا سعادة, والحياة مع الظّالمين إلا برماً (¬4). ¬
وكان عبيد الله بن زياد كتب إلى الحُرّ بن [يزيد] (¬1): أن جعجع بالحسين, أي: ضيّق عليه, ثمّ أمدّه بعمر بن [سعد] (¬2) المتكفّل بقتال الحسين / - رضي الله عنه - حتّى ينجز له عبيد الله الرّشد بالغيّ, وهو القائل: أأترك ملك الرّيّ والرّيّ منيتي ... وأرجع مأثوماً بقتل حسين فضيّق عليه اللّعين أشدّ تضييق, وسدّ بين يديه واضح الطّريق, إلى أن قتله في التّاريخ المتقدّم ويسمّى عام الحزن, وقتل معه: اثنان وثمانون رجلاً من أصحابه مبارزة, وجميع ولده -إلا علي بن الحسين زين العابدين- وقتل أكثر (¬3) إخوة الحسين وبني أعمامه. لمحمد سلّوا سيوف محمد ... قطعوا بها هامات آل محمّد وفي هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين - على جدّه وعليه أفضل ¬
السّلام- رئي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع دم الحسين في قارورة, وإن كانت رؤيا منام فإمها صادقة ليست بأضغاث أحلام, أسند ذلك إمام أهل السّنّة الصّابر على المحنة أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (¬1) قال: حدّثنا عبد الرّحمن, حدّثنا حمّاد بن سلمة, عن عمّار بن أبي عمّار, عن ابن عبّاس قال: رأيت النّبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام نصف النّهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه فيها, قلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبّعه منذ اليوم. قال عمّار فحفظنا ذلك اليوم, فوجدناه قتل ذلك اليوم)). قال ابن دحية: هذا سند صحيح, عبد الرّحمن هو أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي إمام أهل الحديث, وحمّاد إمام فقيه ثقة, وعمّار من ثقات التّابعين أخرج مسلم أحاديثه في ((صحيحه)) (¬2) وتولّى حمل الرّأس: بشر بن مالك الكندي, ودخل به على ابن زياد وهو يقول: املأ ركابي فضة وذهباً ... إنّي قتلت الملك المحجّبا قتلت خير النّاس أمّاً وأباً (¬3) ¬
وقد صدق هذا القائل الفاسق في المديح, وتقريظ هذا السّيّد الذبيح, ولقي الله بفعله القبيح. وأمر [عبيد] (¬1) الله بن زياد من قوّر (¬2) رأس الحسين حتّى ينصب في الرّمح, فتحاماه النّاس حتّى قام طارق بن المبارك, فأجابه إلى ذلك, وفعله ونادى في النّاس وجمعهم في المسجد الجامع, وصعد المنبر, وخطب خطبة لا يحلّ ذكرها, ثمّ دعا عبيد الله (¬3) بن زياد زحر بن قيس الجعفي فسلّم إليه رأس الحسين, ورءوس أهله وأصحابه, فحملها حتّى قدموا دمشق, وخطب زحر خطبة فيها كذب وزور, ثمّ أحضر الرّأس فوضعه بين يدي يزيد, فتكلّم بكلام قبيح قد ذكره الحاكم, والبيهقيّ وغير واحد من أشياخ أهل النّقل بطريق ضعيف وصحيح, وقد ذكر ذلك كلّه أخطب الخطباء ضياء الدّين أبو المؤيّد موفّق الدّين بن أحمد الخوارزمي (¬4) في تأليفه في مقتل الحسين - عليه السلام - وهو عندي في مجلّدين (¬5). ¬
وذكر شيخ السّنّة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي, قال: حدّثنا الحافظ أبو عبد الله محمّد بن عبد الله, سمعت أبا الحسن عليّ بن محمد الأديب يذكر بإسناد له أنّ رأس الحسين - عليه السلام - لما صلب بالشّام أخفى خالد بن عفران شخصه من أصحابه وهو من أفاضل التّابعين, فطلبوه شهراً حتّى وجدوه, فسألوه عن عزلته فقال: أما ترون ما نزل بنا؟ ثم أنشأ يقول: جاءوا برأسك يا ابن بنت محمّد ... متزمّلاً بدمائه تزميلاَ فكأنّما بك يا ابن بنت محمّد ... قتلوا جهاراً عامدين رسولاً /قتلوك عطشاناً ولم يترقّبوا ... في قتلك التّنزيل والتّأويلاً ويكبّرون بأنّ قُتلت وإنّما ... قتلوا بك التّكبير والتّهليلاً قال ابن دحية: واعجبوا -رحمكم الله- من الأمم الذين كانوا من قبلكم, وقد فضّل الله أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - عليهم, منهم: المجوس يعظّمون النّار؛ لأنّها صارت برداً وسلاماً على إبراهيم, والنّصارى يعظّمون الصّليب لادّعائهم أنّه من جنس العود الذي صلب عليه ابن مريم, وابن مرجانة, وأصحابه العدا قتلوا الحسين ابن نبيّ الهدى, ولم يتلفتوا إلى قول أصدق القائلين: ((قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى)) [الشورى/23]. قال: ولمّا قدموا برأس الحسين صرخت نساء بني هاشم؛ فقال مروان: عجّت نساء بين زياد عجّة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب قال ابن دحية: وأنا أقول قولاً هو الإيمان: هنيئاً لك الشّماتة
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا مروان!. وفي ((صحيح البخاري)) (¬1) عن ابن عمر أنّه سأله رجل في دم البعوضة, فقال: ممّن أنت؟ فقال: من أهل العراق, فقال: انظروا إلى هذا! يسألني عن دم البعوضة, وقد قتلوا ابن النّبي - صلى الله عليه وسلم -! وسمعت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((هما ريحانتاي)) وفي رواية: ((هما ريحانتي)) (¬2). قال ابن دحية: تفرّد (¬3) بإخراجه البخاريّ من طريقين في كتاب المناقب (¬4) , وفي كتاب الأدب (¬5). وقال إبراهيم النّخعيّ الإمام فيما حكاه أبو [سعد] (¬6) السّمان الرّازي (¬7) بسنده (¬8) إليه قال: لو أني كنت فيمن قاتل الحسين, ثمّ أتيت بالمغفرة من ربّي فأدخلت الجنّة لاستحييت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمرّ عليه فيراني. ¬
قال ابن دحية: عباد الله! اعجبوا من آراء هؤلاء الملاعين وعقولهم! إذ قتلوا الحسين بن فاطمة [ولد] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ثمّ أكبّوا في شمالهم على شرب شمولهم, تعساً لشيوخهم وكهولهم! أفي صلاتهم يصلّون على محمد وآله, ثم يمنعونهم من شرب نطفة (¬2) من الفرات وزلاله, ويجتمعون على قتله وقتاله, ويذبحونه ولا يستحيون من نور شيبته وجماله, أما والله إنّ حقّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمّته أن يعظّموا تراب نعل قدمه, بل تراب نعل خادم من خدمه, ليت شعري ما اعتذر هؤلاء (3الشّطّار الخبثة (¬3) الأشرار, في قتل هؤلاء الأخيار, عند محمّد المختار, ((يوم لا ينفع الظّالمين معذرتهم ولهم الّلعنة ولهم سوء الدّار)) [غافر/52]. وقد سلّط الله عليهم المختار, فقتلهم حتّى أوردهم النّار. وأخرج التّرمذي في ((جامعه الكبير)) (¬4) ما هذا نصّه: ((حدّثنا واصل بن عبد الأعلى, حدّثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن عمارة بن عمير, قال: لما جيء برأس [عبيد] (¬5) الله بن زياد وأصحابه, نضّدت في المسجد, فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت, قد جاءت, فإذا ¬
حيّة قد جاءت تخلّل الرّءوس حتّى دخلت في منخري عبيد الله, فمكثت هنيهة, ثم خرجت, فذهبت حتّى تغيّبت, ثمّ قالوا: قد جاءت, ففعلت ذلك مرّتين أو ثلاثاً. هذا حديث حسن صحيح)). انتهى المنقول من كتاب ((العلم المشهور في فضل الأيّام والشّهور)) للحافظ المحدّث الشّهير بأبي الخطّاب بن دحية. وفيما ذكره أوضح دليل على براءة المحدّثين وأهل السّنة مما افتراه عليهم المعترض من نسبتهم إلى التّشيّع ليزيد, وتصويب قتلة الحسين بن علي -عليهما السلام- وكيف وهذه رواياتهم مفصحة بضدّ ذلك كما بيّنّاه في ((مسند أحمد)) و ((صحيح البخاري)) و ((جامع التّرمذيّ)) وأمثالها!! وهذه الكتب هي مفزعهم, وإلى ما فيها مرجعهم, /وهي التي يخضعون لنصوصها, ويقصرون التّعظيم عليها بخصوصها. وقال ابن خلكان (¬1) في ترجمة أبي الحسن عليّ بن محمد الملقّب عماد الدّين, المعروف بالكيا الهرّاسي (¬2) الشّافعيّ ما لفظه: ((وسئل إلكيا عن يزيد بن معاوية فقال: إنّه لم يكن من الصّحابة, لأنّه ولد في أيّام عمر ابن الخطّاب - رضي الله عنه - , وأمّا قول السّلف؛ ففيه لأحمد قولان: تلويح وتصريح, ولمالك قولان: تلويح ¬
وتصريح, ولأبي حنيفة قولان: تلويح وتصريح, ولنا قول واحد: تصريح دون تلويح. كيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد, والمتصيّد بالفهود, ومدمن الخمر, وشعره في الخمر معلوم, ومنه قوله: أقول لصحب ضمّت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنّم خذوا بنصيب من نعيم ولذّة ... فكلّ وإن طال المدى يتصرّم وكتب فصلاً طويلاً, ثمّ قلب الورقة وكتب: لو مددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرّجل؛ وكتب فلان ابن فلان)). انتهى كلام إلكيا, وفيه ما ترى من نقل مذاهب الأئمة الأربعة؛ فأمّا الشّافعية فقد بيّن أنّ لهم فيه قولاً واحداً تصريحاً غير تلويح, وأمّا سائر الأئمة فقد صرّحوا تارة ولوّحوا أخرى, وإنّما لوّحوا بتضليله في بعض الأحوال, وفي هذا أكبر دليل على عدالتهم؛ لأنّهم حين خافوا لوّحوا بتضليله, ولو عملوا بالرّخصة لصرّحوا بالثناء عليه عند الخوف, وهذا كلام شيخ الشّافعيّة. قال ابن خلكان (¬1): ((تفقّه بالجويني مدّة إلى أن برع. قال الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي فيه: كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في الدّروس, وكان ثاني أبي [حامد] (¬2) الغزّالي, بل كان ¬
آصل وأصلح وأطيب في [الصّوت] (¬1) والنّظر, وارتفع شأنه, وتولّى القضاء, وكان محدّثاً يستعمل الحديث في مناظراته ومجالسه. ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح, طارت رؤوس المقاييس في مهبّات (¬2) الرّياح. ولمّا حكى ابن خلكان كلام الحافظ (¬3) عماد الدّين هذا, أورد بعده كلاماً رواه عن الغزّالي, فكلام الغزّالي ذلك شاهد ببراءة الغزّالي من القول بتصويب يزيد في قتل الحسين, وإنّما تكلّم في مسألتين غير ذلك: إحداهما: تحريم اللّعن ولم يخص [يزيد] (¬4) بذلك, فهو مذهبه في كلّ فاسق وكافر كما رواه عنه النّووي في ((الأذكار)) (¬5) , وقد ذكر النّووي أنّ ظاهر الأخبار خلاف ذلك, وقد أفردت الكلام على ذلك في كرّاس. وثانيهما: القول بأنّ العلم برضا يزيد بقتل الحسين متعذّر, وليس في هذا نزاع, ولو أقرّ يزيد بلفظ صريح وسمعنا ذلك منه, لم نعلم أن باطنه كما أظهر, وقد جهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواطن المنافقين, ووكل علم ذلك إلى الله تعالى, ولكن الحكم للظّاهر. ¬
الفصل الثالث
وقد روى البخاريّ -رحمه الله- في ((صحيحه)) (¬1) عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - أنّه قال: ((إنّ ناساً كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وإن الوحي قد انقطع, فمن أظهر لنا خيراً أمّنّاه وقرّبناه, وليس بنا من سريرته شيء, ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدّقه, وإن قال: إنّ سريرته حسنة)). الفصل الثّالث: في بيان موضع الخلاف. فاعلم أنّ الفقهاء [لم يخالفونا] (¬2) في شرائط الإمامة التي زعم المعترض أنّهم خالفوا فيها, قال النّووي /في ((الرّوضة)) (¬3): ((شروط الإمامة: أن يكون الإمام: مكلّفاً, مسلماً عدلاً حرّاً ذكراً, عالماً مجتهداً, شجاعاً ذا رأي وكفاية, سميعاً بصيراً, ناطقاً قرشيّاً)) ونحو ذلك, [قاله] (¬4) العمراني في كتابه ((البيان)) (¬5). ¬
وقال القاضي عيّاض: لا تنعقد الإمامة لفاسق ابتداءً (¬1) , بل قال النّووي في ((الرّوضة)) (¬2) في كتاب الزّكاة: ((يشترط في السّاعي كونه مكلّفاً مسلماً, عدلاً حرّاً, فقهياً بأبواب الزّكاة)) إلى آخر كلامه في ذلك. وقال الإمام إبراهيم بن تاج الدين (¬3) في كتابه إلى الملك المظفّر ما لفظه: ((هذا والجهابذة من أتباع الحبر العلامة محمد بن إدريس (¬4) - رضي الله عنه - يقولون: إنّه لا بدّ أن يكون في الأمّة من قائم بأمر الإسلام, من حقّه بعد المنصب أن يكون جامعاً للفضائل منزّهاً عن الرّذائل)). انتهى كلامه. وفيه شهادة لهم من خصومهم, وممن هو مقبول النّقل عند المعترض, فإن قلت: فأين موضع الخلاف بينهم وبين المعتزلة والشّيعة؟ قلت: في موضعين: الموضع الأوّل: أنّهم ذكروا أنّ الخروج على أئمة الجور متى كان مؤدياً إلى أعظم من جورهم؛ من إراقة الدّماء, وفساد ذات البين, ¬
حرّم تحريماً ظنّياً اجتهاديّاً [مختلفاً] (¬1) في صحّته بين علمائهم وسائر علماء الإسلام, كما قدّمنا في الفصل الثّاني (¬2) , وللزّيديّة والمعتزلة ما يلزمهم موافقة الفقهاء على هذا, فإنّهم نصّوا في باب النّهي عن المنكر على أنّه لا يحسن متى كان يؤدّي إلى وقوع منكر اكبر منه, والمسألة واحدة. الموضع الثّاني: -وهو محلّ الخلاف على الحقيقة- وهو في صحّة أخذ الولاية من أئمة الجور على ما يتعلّق بمصالح المسلمين من القضاء ونحوه, وقد وافقهم على أخذ ولاية القضاء من أئمة الجور: إمام الزّيديّة المؤيّد بالله, ذكره في كتاب ((الزّيادات)) , واحتجّ عليه وبالغ في ذلك, والمسألة ظنّية ليس فيها نصّ معلوم اللفظ والمعنى, ولا إجماع قطعيّ, وقد تمسّك جمهور الفقهاء في هذا الأمر بظواهر الأحاديث الواردة في طاعة السّلطان, وأنّه وليّ من لا وليّ لها من النّساء في التّزويج, والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة لا حاجة إلى ذكرها, وفي بعضها ما يدلّ على أنّ السّلطان قد يكون جائراً بلفظ خاصّ مثل الحديث المرفوع: ((وإنّما الإمام جنّة يتّقى بها ويقاتل من ورائه, فإن عدل كان له بذلك أجراً, وإن جار كان عليه بذلك وزر)) رواه البخاري (¬3). وحديث مسلم (¬4) وفيه: ((فإن كان ¬
لله خليفة في الأرض فاسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)) والحديث الذي فيه: ((أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقّنا ويسألونا حقّهم؟ قال: أعطوهم حقّهم, وسلوا الله حقّكم)) (¬1) ونحو هذا ممّا يطول ذكره, وبقيّة الأحاديث تدلّ على ذلك بإطلاقها, فإنّ المرجع (¬2) في تفسير السّلطان إلى اللّغة. وأمّا المعتزلة والشّيعة فاحتجّوا بالسّمع والرّأي؛ أمّا السّمع فبعمومات مثل قوله تعالى: ((قال إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين)) [البقرة/124]. وللفقهاء أن يجيبوا في هذه الآية بوجوه: أحدها: أنّ الإمامة المذكورة في الآية هي النّبوّة؛ لأنّ إبراهيم ... - عليه السلام - سأل لذرّيته الإمامة التي جعلها الله /تعالى له وهي النّبوّة. وثانيها: أنّ الإمامة التي في الآية مجملة محتملة لإمامة النّبوّة, ¬
الفصل الرابع
وإمامة خلافة النّبوّة, وأدلّة الفقهاء المتقدمة نصوص في خلافة النّبوّة فكانت أخصّ. وثالثها: أنّ الآية من شرع من كان قبلنا, وقد ورد في شرعنا ما يخالفها, وليس يجوز العمل بشرع من قبلنا مع مخالفة شرعنا له إجماعاً, وسائر أدلّة المعتزلة والشّيعة من هذا القبيل؛ إمّا دليل صحيح في لفظه لكنّه ليس بنصّ, أو دليل نصّ في المسألة لكن صحته غير مسلّمة. وأمّا الرّأي فقالوا: الإمام راع منصوب للمصلحة, فإذا كان مهلكاً للرّعيّة, مفسداً في الأرض, كان المسترعي له مثل المسترعي للذئب على الغنم, ومطفي مشبوب النّيران بالضّرم. وللفقهاء أن يجيبوا عن ذلك بأنّهم لم يخالفوا في جواز اختياره, فقد قدّمنا نصّ القاضي عيّاض على أنّه لا يصح نصب الفاسق ابتداءً, ولا حرّموا الخروج عليه إلا إذا غلب على الظّنّ أنّ المفسدة في الخروج عليه أعظم من مفسدة ولايته, وقد أجمع العقلاء, وأطبق أهل الرّأي على وجوب احتمال المضرّة الخفيفة متى كانت دافعة لما هو أعظم منها, ولذلك وجب قطع العضو المتآكل متى غلب على الظّنّ أنّه إن لم يقطع سرى إلى الجسد, وكان سبب الهلاك, فبان بهذا أنّ الفقهاء -أيضاً- قد تمسّكوا في هذا النًصّ السّمعي والرّأي العقلي, وسيأتي لهذا مزيد بيان في الفصل الخامس -إن شاء الله تعالى-. الفصل الرّابع: في بيان أنّهم وإن قالوا بصحة أخذ الولاية في المصالح من أئمة الجور؛ فلم يجعلوهم مثل أئمة العدل مطلقاً في
جميع الأمور, وذلك ظاهر في كتبهم, والذي يدلّ عليه وجوه: الأوّل: أنّهم نصّوا على اشتراط العدالة والعلم في الإمام. الثّاني: أنّه يحرم نصب الإمام الجائر عندهم والرّضا باختياره. الثّالث: أنّه يحرم على الجائر التّغلّب على الإمامة ويأثم بها, نصّ عليه النّووي في ((الرّوضة)). الرّابع: أنّ الخارج على الجائر لا يكون باغياً كما قدّمنا نصّ النّووي على ذلك في ((الرّوضة)) (¬1) بل رواه النّووي عن العلماء. الخامس: أنّهم منعوا من جواز تسليم بيت المال إليه على سبيل الاختيار؛ فإنّ الإمام النّووي لما ذكر في ((الرّوضة)) (¬2) عن الإمام الشّافعي -رحمه الله- أنّه يقول بميراث ذوي الأرحام, ولا يقول برد ما بقي من مال الميراث على ذوي السّهام, ذكر أنّ ذلك على الصّحيح إنّما يكون مع استقامة بيت المال بولاية العادل, وأنّه متى ولي بيت المال جائر ردّ بقية المال على الورثة, وورث ذووا الأرحام, ولم يعط الإمام الجائر, قال النّووي: وبه أفتى أكثر المتأخرين, وهو الصّحيح والأصح /عند محقّقي أصحابنا ومتقدميهم, قال ابن سراقة (¬3): وهو قول عامّة مشايخنا, وعليه الفتوى اليوم في الأمصار, ونقله صاحب ¬
الفصل الخامس
((الحاوي)) عن مذهب الشّافعي, قال: ((وغلط الشيخ أبو حامد في مخالفته)) هذا كلّه لفظ الإمام النّووي -رحمه الله-. وهو دالّ على أنّهم لا يعتقدون أنّ للجائر من الحقوق مثل ما للعادل, وكذا قال النّووي في ((الرّوضة)) (¬1) عن الماوردي أنّه قال (¬2): ((إذا كان العامل جائراً في أخذ الصّدقة عادلاً في قمستها جاز كتمها عنه ... (1ودفعها إليه, وإذا كان عادلاً في الأخذ جائراً في القسمة وجب كتمها عنه (¬3) وإنّما اختصّ بهذا الماورديّ لأنّ المسألة مفروضة في جور العامل, لا في جور الإمام, ولأنّ الامتناع من تسليم الصّدقات إليهم غير مقدور؛ لأنّ ذلك يكون سبباً في فساد عظيم كما قدّمنا. الفصل الخامس: في بيان عظيم غلط المعترض على الفقهاء, حيث ظنّ أنّهم يصوّبون أئمة الجور في قتلهم الذين يأمرون بالقسط من النّاس (2وبيان أنّ الفقهاء إنّما قصدوا حقن دماء الذين يأمرون بالقسط من النّاس (¬4) , بل نظروا في مصالح الجميع في الخاصّة والعامّة, وعملوا بمقتضى قواعد الشّريعة في رعاية المصالح, وذلك أنّه لا يشكّ من تأمّل أنّ أكثر الأقطار الإسلامية قد غلب عليها أئمة الجور من بعد انقراض عصر الصّحابة؛ فإنّ الشّام ومصر والغرب والهند والسّند, والحجاز والجزيرة, والعراقين واليمن, وسائر أقطار المملكة ¬
الإسلامية ما استدامت فيها دولة حقّ منذ قرون عديدة, ودهور طويلة, فلا شك أنّ في هذه الأقاليم من عامّة أهل الإسلام عوالم لا يخصون, وخلائق لا ينحصرون, ولا شكّ أنّهم في هذه القرون العديدة, والدّهور الطّويلة لو تركوا هملاً لا يقام فيهم حدّ, ولا يقضى فيهم بحقّ, ولا يجاهد فيهم الطّغاة, ولا يؤدّب منهم العصاة: لفشا الفساد, وتظالم العباد, ومرج أمر المسلمين, وتعطّلت أحكام ربّ العالمين. وقد علمنا على الجملة أنّ الله تعالى ما أراد بإقامة الحدود إلا زجر أهل المعاصي, ولا أراد بالجهاد إلا حفظ حوزة الإسلام وإرغام أعاديه من أهل الإجرام؛ فمتى توقّفت هذه المصالح على شرط وتعذّر تحصيله لم يعتبر ذلك الشّرط, وقد ذكر العلماء لذلك نظائر: منها: نكاح المرأة بغير إذن وليّها متى غاب وليّها, أو بَعُد مكانه, أو جهلت حياته, فقد ترك كثير من العلماء شرط العقد المشروع -وهو رضا الولي- لأجل مصلحة امرأة واحدة, وخوف مضرّتها!. ومنها: /نظرهم في تزويج امرأة المفقود, فكيف بمصلحة عوالم من المسلمين وخوف مضرّتهم؟!. ومنها: الانتفاع باللّقطة بعد تعريف سنة لأن المال مخلوق للمنفعة غالباً, فلمّا تعذّر انتفاع صاحبه به انتفع به غيره كي لا يبقى هملاً لا نفع فيه, ولهذا قال - عليه السلام - في ضالّة الغنم: ((إنّما هي لك أو لأخيك أو للذئب)) (¬1) فزال شرط حلّ المال, وهو رضا المالك ¬
لما تعذّر, فهذه مصلحة شخصيّة غير ضرورية, فكيف بالكليّة الضّروريّة!. ومنها: ما أجمع عليه الصّحابة -رضي الله عنهم- من الزّيادة في حدّ الخمر, ففي ((الصّحيح)) عن أنس - - رضي الله عنه - قال: ((جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر بالجريد والنّعال, وجلد أبو بكر أربعين, فلمّا ولي عمر دعا النّاس فقال لهم: إنّ النّاس دنوا من الرّيف, فما ترون في حدّ الخمر؟ فقال عبد الرحمن: نرى أن تجعله كأخف الحدود فجلد فيه ثمانين)). أخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2) , وأخرج البخاري (¬3) وابن ماجه (¬4) بعضه. وعن حُضين بن المنذر عن عليّ - رضي الله عنه -: ((جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين -وأحسبه قال: وجلد أبو بكر أربعين- وجلد عمر ثمانين وكلّ سنّة وهذا أحبّ إليّ)) أخرجه مسلم (¬5) , وأبو داود (¬6) , وابن ماجه (¬7). ¬
فجلد الثمانين في الخمر قد شاع في الصّحابة واستمرّ عليه عمل الأمّة إلى هذا العصر, مع أنّه غير منصوص في كتاب ولا سنّة, وإنّما عمل به للمصلحة, فدلّ على إجماع الصّحابة ومن بعدهم على جواز العمل بالمصالح ما لم تصادم النّصوص. ومن المعلوم أنّ أخذ الولاية من أئمة الجور في ممالك الإسلام, وإقامة الحدود, واستخراج الحقوق, والقضاء بين الخصوم: من أعظم المصالح العامّة, وآكد الفرائض المهمّة, وقد ورد القرآن الكريم بقتل النّفس لمصلحة غير كلّية, وذلك في قصّة يونس - عليه السلام - قال تعالى: ((فساهم فكان من المدحضين)) [الصافات/141] فألقى بنفسه الكريمة لأجل مصلحة أهل السفينة, وإن كان هذا من شرع من قبلنا؛ فالصّحيح: أنّ ما حكاه الله تعالى في كتابنا من ذلك فهو حجّة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصّة كسر سنّ الرّبيع بنت معوّذ: ((القصاص كتاب الله)) , وهو في ((الصحيح)) (¬1) ولم يرد السنّ بالسّنّ في كتاب الله إلا حكاية عن شرع من قبلنا في قوله تعالى: ((وكتبنا عليهم فيها)) الآية [المائدة/45]. وكذا في ((الصّحيح)) (¬2) مرفوعاً: ((من نام عن صلاته أو نسيها فوقتها حين يذكرها)) ثمّ تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأقم الصلاة لذكري)) [طه/14] فاحتج - عليه السلام - بالآية وهي في خطاب ¬
الوهم الثامن عشر
موسى - عليه السلام - , وفي هذا دليل على أن المصلحة يجوز أن تكون جزئية؛ لأنّ أهل السّفينة بعض المسلمين, ويجوز أن تكون ظنّيّة؛ لأنّه لا سبيل إلى العلم بما يقع فيه أهل الإسلام في المستقبل, وقد تكلّم غير واحد من العلماء في المصالح /وهذا (المختصر) لا يحتمل التّطويل بذكر ذلك, وأحسن من تكلّم في ذلك العلامة الكبير عزّ الدّين بن عبد السّلام في كتابه ((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)). الوهم الثّامن عشر: قدح المعترض على المحدّثين بالرّواية عن الزّهري, وجرح الزّهري بمخالطته للسّلاطين وإعانتهم على الظلم. فأمّا مخالطة السّلاطين فقد كانت منه, ومن غير واحد ممّن أجمع أهل العلم على عدالتهم وفضلهم, ونبلهم, مثل: الإمام عليّ بن موسى الرّضى, والقاضي أبي يوسف -رحمهما الله تعالى-, ومن لا يأتي عليه العدّ. وأمّا الإعانة على الظّلم فدعوى على الزّهري غير صحيحة, وقد ذكر العلماء -رضي الله عنهم- ما يجوز من مخالطة الظّلمة, وفرقوا بين المداراة والمداهنة. قال القاضي عياض و [المازري] (¬1) في ((شرح مسلم)): المداهنة: بما كان من أمر الدّين, مثل أن يفتيه بغير حقّ, والمداراة: ما كان من أمور الدّنيا. قلت: الحجج على جواز المخالطة إذا لم يكن معها معصية ظاهرة, ولنذكر منها وجوهاً. ¬
الوجه الأوّل: الحديث الصّحيح, والنّصّ الصّريح, وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في أئمة الجور: ((فمن غشي أبوابهم فصدّقهم في كذبهم, وأعانهم على ظلمهم فليس منّي, ولست منه, وليس بوارد عليّ الحوض يوم القيامة, ومن غشيها أو لم يغشها, فلم يصدّقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منّي وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض يوم القيامة)) رواه التّرمذي في موضعين من ((جامعه)) (¬1) بإسنادين مختلفين, أحدهما: صحيح وعليه الاعتماد, والثّاني: معلول (¬2). ومن ذلك ما روى أبو داود (¬3) عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنّه نهى عن المسألة إلا أن يسأل الرّجل ذا سلطان)) والمسألة لا تمكن إلا بضرب من المخالطة. ¬
الوهم التاسع عشر: قصة تافهة مكذوبة
الوجه الثّاني: قوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين)) الآية [الممتحنة/8] , وعمومها وسبب نزولها يستلزم جواز المخالطة ونحوها, وقد بيّنت ذلك في ((الأصل)) (¬1). الوجه الثّالث: قصّة يوسف - عليه السلام - ومخالطته لعزيز مصر وقوله: ((اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)) [يوسف/55] وقد تقدّم الكلام على ما يتعلّق بشرع من قبلنا (¬2) , وقد بسطت الكلام في هذه المسألة في ((الأصل)) (¬3) في قدر كرّاس ونصف أو يزيد, وأوضحت غلط المعترض في هذه المسألة, وبيّنت جلالة الزّهري واجتهاده واعتداد العلماء بخلافه, وقبول أصحاب المعترض لحديثه, واحتجاجهم بروايته ولله الحمد. الوهم التّاسع عشر: روى قصّة ليحيى بن عبد الله بن الحسن ... -رضي الله عنهم- مع أبي البختري وهب بن وهب القاضي المدني, والقصة مشتملة على شهادة /زور وقعت بأمر هذا القاضي مع جماعة كثيرين, وقدح (¬4) بذلك في المحدّثين وفي صحة حديثهم, وهذا غلوّ وإسراف في التّهويل والإرجاف, لأنّه لا ملازمة بين رواة الحديث وبين جماعة شهدوا زوراً في واقعة معيّنة, إلا أن يذكر المعترض من ¬
شهد تلك الشّهادة من رواة الحديث, مع أنّ في كلام المعترض ما ينقض حجّته, فإنّه ذكر أنّهم خافوا من هارون الرّشيد إن لم يشهدوا, والخوف من سطوة أئمة الجور يبيح كلمة الكفر, كيف شهادة الزور؟! قال الله تعالى: ((إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان)) [النحل/106] على أنّ هذه القصّة التي أشار إليها غير معلومة الصّحة, ولا رواها بإسناد صحيح, وهي أحقر من أن تجاب, لولا محبّة الذّبّ عن أهل السّنّة (¬1) , وهداية من يغترّ بمثل هذه الشّبهة. الوهم الموفّي عشرين: وهم المعترض أنّ أبا البختري وهب بن وهب ابن [كبير] (¬2) القاضي القرشي المدني, من رواة الصّحاح, وقد ذكرت في ((الأصل)) (¬3) اتفاق علماء الحديث على جرحه, وتصريحهم في كتب الرّجال بتكذيبه, ونقلت كلام العلامة أبي عبد الله الذّهبي فيه في كتاب ((ميزان الاعتدال, في نقد الرّجال)) (¬4) وقد وهم المسكين أنّه من رواة التّرمذي, وليس كذلك, وإنّما روى الجماعة عن أبي البختري سعيد بن فيروز الطّائي التّابعي الجليل الرّاوي عن عليّ - رضي الله عنه - وهما مختلفان نسباً واسماً, وصفة وزماناً, كما ¬
اعتراض صاحب الرسالة على أخبار كتب السنة, وأن فيها ما يثبت التجسيم والجبر ... وأنه يجب تكذيبها!! والجواب عليه, وفيه مقدمات ومراتب
أوضحته في ((الأصل)) (¬1). قال: ((الوجه الرّابع: ممّا يدلّ على أنّ في أخبار كتبهم التي يسمّونها الصّحاح ما هو مردود: أنّ في أخبار هذه الكتب ما يثبت التّجيسم والجبر والإرجاء ونسبة ما لا يجوز إلى الأنبياء, ومثل ذلك يضرب به وجه راويه, وأقلّ أحواله أن يكذّب فيه)) إلى آخر كلامه في هذا الفصل. أقول: هذا مقام وعر قد تعرّض له المعترض وأبدى صفحته, ورام أن يكذّب الرّواة فيما (¬2) لم يفهم تأويله, وهذا بحر عميق لا يمكن (¬3) ركوبه إلا في سفين البراهين القاطعة, وليل بهيم لا يحسن مسراه إلا بعد طلوع أهلّة الأدلّة السّاطعة, وسوف أجيب على ما ذكره, وأذكر من حججه ما سطّره, وقد استوفيت الجواب في ((الأصل)) (¬4) وأشبعت الكلام في هذا الفصل, وذكرت من المقدّمات ومراتب التّأويل ما لا يسع الخائض في علم الحديث جهله, وسوف أشير إلى عيون يسيرة من ذلك: المقدّمة الأولى: كلّ ما خالف الأدلّة القاطعة العلمية من الأحاديث الظّنّيّة في متنها, أو في معناها وجب العمل بالقطعيّ دون الظّنيّ إجماعاً, وفيه تنبيهان: ¬
التنبيه الأول
الأوّل: أنّ كثيراً من المتكلّمين يظنّ في بعض الشّبه دليل قطعي, فيخالف الحديث الصّحيح لذلك, معتقداً فيمن عمل بالحديث أنّه يقدّم الظّنّ على العلم, وهذا جهل مفرط, فليس في العقلاء -دع عنك المسلمين- من يقدّم المظنون على المعلوم. الثّاني: أنّ كثيراً ممّن لا يعرف الحديث ويمارس علومه يظنّ في بعض الأحادث أنّها ظنّية وهي متواترة تواتراً (¬1) لفظيّاً /أو معنوياً, فليحترز الحاذق من الوقوع في ذلك. المقدمة الثّانية: أنّ التّأويل المتعسّف مردود, وفيه تنبيهان: أحدهما: أنّ الحكم بأنّه متعسّف صعب لا يتمكّن من معرفته إلا الرّاسخون في العلم. وثانيهما: أنّه لا يلزم من ردّ بعض التّأويلات القطع بأنّه لا تأويل للحديث غير متعسّف, فإنّه قد يأتي بعض البلداء فيتعرّض للتّأويل؛ [فيقع] (¬2) ذهنه على تأويل رديء مردود فيحسب (¬3) هو أو غيره ممّن يقف على تأويله أنّه لا تأويل للحديث إلا ذلك, فإذا انكشف بطلان ذلك التأويل تطرّقوا في ذلك إلى القدح في الحديث, وهذا باطل! فإنّ أقصى ما في الباب: أن يطلب المتأوّل تأويلاً صحيحاً فلا يجد, لكن عدم الوجدان في النّظر لايدلّ على عدم المطلوب من الوجود, وذلك ¬
لأنّ الباحث عن التّأويل إمّا أن يكون من العلماء أو لا. والثّاني: ليس له أن يتأوّل قطعاً, والأوّل: إمّا أن يكون من الرّاسخين في العلم أو لا. الثّاني: ليس له أن يتأوّل ظاهراً؛ لأنّ الله تعالى لم يجعل ذلك له, في جميع أقوال المفسرين لقوله تعالى: ((وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم يقولون آمنا به)) [آل عمران/7] وأمّا الأوّل -وهم الرّاسخون في العلم- فأمّا أن يكون الجاهل بالتّأويل بعضهم أو كلّهم؛ إن كان بعضهم فلا مانع منه؛ لأنّ لم تثبت العلم بالتّأويل لبعضهم بنصّ ولا ظاهر, كما أنّ آيات الإجماع لم تثبت حرمة مخالفة بعض الأمّة (¬1). ويدلّ عليه أنّ الرّاسخين من جميع الفرق يختلفون في التّأويل على وجوه متنافية, فلو كان الواحد منهم لا يجوز عليه الخطأ في التّأويل لم يصح ذلك, ولم يكن لمن بعده مخالفته, ويدلّ عليه: أنّ موسى الكليم من الرّاسخين إجماعاً مع أنّه ما عرف تأويل ما احاط الخضر بتأويله, فكيف يحيط غير الكليم بعلم الله؟ مع أنّ علم الكليم والخضر في علم الله تعالى, كما يأخذ الطّائر بمنقاره من البحر, كما قال الخضر - عليه السلام - (¬2) , وإن كان الجاهل بالتّأويل كلّهم فههنا يظهر الخلاف في معنى الآية, والظّاهر أنّه لا يعلمه إلا الله تعالى, لقوله تعالى في هذه الآية في ذمّ الذين في قلوبهم زيغ: ((ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)) [آل عمران/7] وقد تأوّلها المخالفون بأنّ المراد ابتغاء تأويله الذي يوافق أهوائهم, فجعلوها من المتشابه, مع أنّ المرجع ¬
إليها في الفرق بين المتشابه والمحكم وهذا بعيد, وهو أيضاً تأويل بغير دليل قاطع, فلا مانع من ورود السّمع بالنّهي عن تأويل المتشابه, سواء كان الرّاسخون متمكنين (¬1) من معرفته أو لا. وأمّا قولهم: إنّه يلزم من ذلك نسبة العبث إلى الله تعالى؛ فغلط واضح, فإنّ العبث ما لاحكمة فيه, وليس الحكمة مقصورة على معرفة التّأويل, فإنّ الإيمان بالتّنزيل, والتّعظيم له والتّجليل, حكمة بالغة, وكذلك الإيمان بمراد الله تعالى على سبيل الجملة فيه تكليف. مع أنّه يقال لهم: إمّا أن توجبوا على جميع المكلّفين بذلك فهذا باطل بالقرآن والاتفاق, أمّا القرآن فالآية المقدّمة, وأمّا الإجماع فهو منعقد /على سقوط ذلك عن العامّي والعجميّ, بل على تحريمه عليهما, وإذا كان علم البعض بالتأويل يكفي فلعلّ علم الملائكة والأنبياء بذلك كافّ, فمن أين يلزم ما زعم بعض المعتزلة من استلزم ذلك للعبث في حقّه جلّ وعلا, وقد حكى القاضي عياض في كتابه ((المعلم بفوائد شرح مسلم)) (¬2): أنّ قوله تعالى في هذه الآية: ((والرّاسخون في العلم)) من المتشابه المحتمل؛ وهذا أيضاً بعيد لما قدّمنا ذكره ولنقل الفرّاء للوقف على اسم الله تعالى, ولأنّ قوله تعالى في الثّناء عليهم: ((يقولون آمنا به كلّ من عند ربّنا)) , مناسب لإيمانهم بمراد الله تعالى على سبيل ¬
المقدمة الثالثة
الجملة, وليس فيه مناسبة لمعرفتهم للتّأويل على التّفصيل, والعمدة في ذلك ما قدّمنا من ذمّه تعالى لمن ابتغى تأويله ونصّه (¬1) على أنّه صفة الذين في قلوبهم زيغ, والله أعلم. المقدمة الثّالثة: أنّ المتشابه من القرآن ليس هو المجاز. لأنّ المجاز وقت نزول القرآن معروف عند [أجلاف] (¬2) العرب وعبّاد الأصنام, وكلّ عربيّ اللّغة من مسلم وغيره, والمتشابه بخلافه, ألا ترى أنّ كلّ أحد منهم يعرف معنى قوله تعالى: ((واخفض لهما جناح الذّلّ من الرّحمة)) [الإسراء/24] ونحو ذلك. فإن قلت: فما المتشابه؟ قلت: عندي أنه ما [لا] (¬3) تدرك العقول معرفته, وهو قسمان: أحدهما: ما لا تعرفه العقول من حكمة الله تعالى, مثل خلق من المعلوم أنه من أهل النّار, وعنه وقع سؤال الملائكة والإجمال في الجواب عليهم. وثانيهما: ما لا تدركه العقول إلا بالسّمع, مثل كلام السّماء والأرض والنّملة ونحو ذلك ممّا ورد في السّمع, والقسم الأوّل أصعب, والدّليل على أنّه من المتشابه المحتاج إلى التّأويل: قوله تعالى في قصّة موسى والخضر -عليهما السّلام-: ((سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً)) [الكهف/78] والدّليل في هذه الآية واضح على ما ذكرته. والله أعلم. ¬
المقدمة الرابعة
المقدّمة الرّابعة: في الإشارة إلى القرائن الدّالّة على التّجوز في الكلام وهي ثلاث: عقلية وعرفية ولفظية. مثال العقلية: قوله تعالى: ((وسئل القرية التي كنّا فيها والعير)) [يوسف/82] فإنّ العقل يدرك أنّ سؤال القرية والعير لا يصح فيفهم أنّ المراد أهلهما. ومثال العرفيّة: قول القائل: بنى السّلطان سور المدينة, فإنّ مباشرة السّلطان لنقل الحجارة والتّراب غير محال في العقل ولكنّه ممتنع في العادة والعرف, فيفهم من ذلك: أنّ السلطان أمر بذلك. وما يجري مجراه, ومنه قوله تعالى: ((يا هامان ابن لي صرحاً)) [غافر/36] أي مر من يبني, لأنّه لم يكن ممن يباشر مثل ذلك. وأمّا اللّفظية: فمثل: أسد شاكي السّلاح, أو حسن الثّياب, أو نحو ذلك. ومنه قوله تعالى: ((الله نور السماوات والأرض مثل نوره)) [النور/35] فقوله: ((مثل نوره)) قرينة لفظية تدلّ على أنّه تعالى ليس بنور في ذاته, وإنّما هو خالق النّور, وأنّ معنى ((الله نور السماوات والأرض)) منوّرهما. وكذلك قوله تعالى: ((يهدي الله لنوره من يشاء)) فإنّه قرينة لفظية /تدلّ على أنّ النّور المذكور في الآية نور الهدى والعلم لا نور الشّمس والقمر. وكلّ مجاز لم يدلّ على المراد منه أحد هذه القرائن الثّلاث, لم يصحّ التّجوّز به في لغة العرب بإجماع علماء المعاني والبيان وأئمة هذ الشأن, فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القرينة العقلية إنّما يصحّ الاستدلال
[على التّجوّز] (¬1) بها متى كان العقل يقطع على أنّ المتكلّم ممّن لا يصح منه إرادة ظاهر كلامه, فلهذه النّكتة يختلف الاستدلال بها: فيصح في مواضع فيما بين النّاس ولا يصح مثله في كلام الله تعالى, وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - , مثال ذلك: أنّا نفهم التّجوّز في قول الشّاعر: شكا إلىّ جملي طول السّرى يا ... جملي ليس إليّ المشتكى (¬2) وذلك لأنّ العادة جرت أنّ العجماوات لا تكلّم النّاس, فأمّا ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: ((إنّ هذا الجمل شكا عليّ أنّك تجيعه وتُدئِبه)) (¬3) فلا يفهم منه التّجوّز؛ لأنّا لم نعلم ولا نظنّ امتناع الظّاهر في حقّه - صلى الله عليه وسلم - , بل يجوز مثل ذلك لكبار أولياء الله تعالى وخواصّ عباده الصّالحين نفع الله بهم. ومن ههنا اختلف كثير من المحدّثين والمعتزلة في تأويل كثير من الأحاديث والآيات مثل قوله تعالى: ((وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)) [الإسراء/44]. فالمعتزلة حملوه على المجاز لظنّهم أنّ الظّاهر لا يصح, وأهل الحديث لم (¬4) يتأوّلوه, لقطعهم على أنّه لا مانع من صحّة الظّاهر, بالنّظر إلى قدرة الله تعالى وعلمه, فإنّه تعالى قادر على إنطاق كلّ شيء ¬
بالإجماع من المعتزلي والمحدّث, وقد ورد في القرآن: ((عُلّمنا منطق الطّير)) [النّمل/16] وكلام الهدهد والنّملة مع سليمان - عليه السلام - وتسبيح الجبال مع داود ... - عليه السلام - وورد في السّنّة من ذلك ما لا يتّسع له هذا المكان, مثل: حنين الجذع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وتسبيح الحصى في يده الشّريفة, وقد ذكر القاضي عيّاض -رحمه الله تعالى- جميع ذلك في كتابه ((الشّفاء)) (¬1) وقسمه في ثلاثة فصول بعضها في كلام الحيوانات من العجماوات, وبعضها في كلام الشّجر, وبعضها في كلام سائر الجمادت. فإذا تقرّر هذا؛ فاعلم أنّ عامّة أهل الأثر لما رأوا هذا داخلاً في قدرة الله تعالى, لم يتأوّلوا شيئاً مما ورد من ذلك مثل قوله تعالى: ((قالتا أتينا طائعين)) [فصّلت/11] وليس يلزمهم من هذا أن يسبّح كلّ جزء من الأجسام اللّطيفة مثل ورقة التّين والقلم والسّواك, بل إذا سبّحت الأرض والسّماء ونحوهما فقد صدق أنّه يسبح لله تعالى كلّ شيء مثل ما أنّه يصدق أنّه قد سبّح لله تعالى كلّ شيء, من جنس الملائكة والأنبياء والمؤمنين, وإن لم يسبح منهم كلّ شعرة على انفرادها, على أنّه تعالى قادر على إنطاق كلّ جزء لطيف, فأصل الخلاف في تأويل هذه الآية وأمثالها على هذه النّكتة التي أشرت إليها, وقد يتوقّف المحدّث في استحالة أمور عقليّة وهي ظاهرة الاستحالة عند أهل النّظر في العقليات مثل حديث: ((إنّه يؤتى بالموت ¬
على صورة كبش يوم القيامة/فيذبح)) (¬1) فمن لم يكن له أنس بعلم العقل لم يقطع باستحالة ظاهر هذا, فربما أجراه على ظاهره, وربّما توقّف في معناه, وأمّا أهل الكلام فظاهره محال (¬2) عندهم فيجب تأويله؛ لأنّ الموت عندهم إمّا عرض أو عدم عرض, وكلّ ذلك لا يصح أن ينقلب حيواناً وإنّما تاويله عندهم: أن ذلك يخيل إلى أهل الجنّة كما يخيّل إلى النّائم أشياء لا حقيقة لها, أو يضرب ذكر ذلك مثلاً لثقتهم بالخلود, وأمانيهم من الموت كما يجري مثل ذلك في ألسنة البلغاء, ومن ذلك قول شيخ التّصوّف ابن الفارض نفع الله به (¬3): وقالوا جرت حمرّا دموعك قلت عن ... أمور جرت في كثرة الشّوق قلّت نحرت لطيف السّهد في جفني الكرى ... قرى فجرى دمعي دمّا فوق وجنتي (¬4) والخطر في تأويل مثل هذا والتّوقّف فيه يسير, ولكن قد يعرض من بعض المتكلّمين سخرية واستهانة [بمن] (¬5) خالفهم في تأويل هذا ¬
الجنس من أهل الأثر, وهذا قبيح ممّن فعله؛ لأنّ البحث عن هذا وإن كان من جليّات علم المعقول, فإنّه لا يجب البحث عنه على كلّ مسلم, بل ترك البحث عنه سنّة عند أهل الحديث, داخلة في عموم ما ورد من [الحثّ] (¬1) على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه -رضي الله تعالى عنهم- والوقف في التّأويل مع عدم العلم بالموجب له هو الواجب, ومن فعل الواجب لا تحلّ غيبته, ولا تسقط حرمته, بل من اعتقد الظّاهر لأنّه يظنّ ذلك, وقدّرنا أنّه أخطأ لم يأثم ولم تحل غيبته؛ لأنّ المسلم قد يخطىء, وليس كلّ أمر جليّ في العقل يجب على المسلمين النّظر فيه, فإنّ من الجليّات عند أهل علم المعقول صحة قولنا: إذا صدق أنّ كلّ (ألف باء) وجب بالضّرورة أنّ بعض (الباء ألف) , وهذا وإن كان علماً ضروريّاً عند من عرف مقصدهم؛ فإنّه لا يلزم المسلمين أن يعرفوه, ولا يستحق جاهله الاستهانة والسّخرية, فقد جهله خير أمّة أخرجت [للنّاس] (¬2) , وقد قدّمنا أنّ أهل علم الأثر لم يتركوا الخوض في ذلك لتبلّد (¬3) أذهانهم عن فهمه, ولا لقصور عقولهم عن علمه -فهم أهل الفطن الوقّادة والفكر النقّاد- ولكنهم كرهوا الابتداع ورغبوا إلى الاتباع, وعضّوا النّواجذ على الاقتداء بالخلفاء الرّاشدين كما أوصاهم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقد أوضحت هذا في (الوهم الثّاني عشر) فخذه من هنالك (¬4). ¬
المقدمة الخامسة: ترجيح التأويل على التكذيب تنزلا
المقدّمة الخامسة: في ذكر ترجيح التّأويل على التّكذيب فيما وجب تأويله من أحاديث الصّحاح التي ذكرها المعترض, وترجيح ذلك يظهر بذكر مرجّحات: المرجّح الأوّل: أنّ القطع أنّهم تعتمدوا الكذب [فيها] (¬1) يؤدّي إلى بطلان أمر مجمع على صحّته, وكلّ ما أدّى إلى ذلك فهو باطل, وقد تقدّم الكلام على إجماع طوائف الإسلام على الرّجوع إلى المحدّثين في علم الحديث, والاحتجاج بما رواه أئمتهم في مصنّفاتهم, فلا حاجة إلى إعادة ذلك. المرجّح الثّاني: قوله تعالى: ((ولا تقف ما ليس لك به علم)) [الإسراء/36]. والقول بأنّ ثقات الرّواة قد تعمّدوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - /مما ليس لأحد به علم, ومن قطع بذلك؛ فقد قطع بغير تقدير, ولا هدى, ولا كتاب منير, وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب أهل الكتاب في حديثهم خوفاً من تكذيب الصّدق وردّ الحقّ, فإنّ الكافر قد يصدق, فهذا في حقّ اليهود القوم البهت, فكيف بثقات المسلمين وأئمة الدّين؟! المرجّح الثّالث: أنّ الخطأ في القبول أهون من الخطأ في الرّدّ والتّكذيب؛ لأنّا متى أخطأنا في القبول كان تصديقاً للنّبي - صلى الله عليه وسلم - موقوفاً على شرط صحّة الحديث عنه, ومتى أخطأنا في التّكذيب كان تكذيباً لكلامه متى صحّ أنّه كلامه, والتّصديق الموقوف بالضّرورة, أقصى ما في الباب: أن يكون الخطأ في القبول ¬
المرجح الرابع
كذباً عليه والخطأ في الرّدّ تكذيباً لكلامه, لكن عمد الكذب عليه فسق وعمد التّكذيب كفر, والخطأ فيما عمده كفر, وهذا من ألطف المرجّحات وخفيّات المدارك النّظريّات. المرجّح الرّابع: أنّ القطع على الرواة بتعمّد الكذب تفسيق لهم, والتّأويل تصديق لهم, وتصديق المسلمين أولى من تفسيقهم لوجهين: أحدهما: أنّ الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة. وثانيهما: أنّه يخاف على من فسّق مسلماً أن يرجع الفسق عليه, فقد ورد في ((الصحيح)) (¬1): أنّ من دعا أخاه بالفسق وليس كذلك, [حار] (¬2) عليه, أو كما ورد. المرجّح الخامس: أنّا وجدنا في كتاب الله تعالى شواهد لجميع ما أنكرته المبتدعة من أحاديث الصّحاح كما أوضحته في ((الأصل)) (¬3) كما يأتي فيما نذكر تأويله إن شاء الله تعالى. المقدّمة السّادسة: في الإشارة إلى مراتب التّأويل والتّصديق, ¬
المرتبة الأولى: حمل الكلام على التخيل
وقد ذكرت في ((الأصل)) (¬1) من ذلك ست مراتب وطوّلت القول فيها, وقد رأيت الاقتصار في هذا (المختصر) على ذكر ثلاث مراتب. المرتبة الأولى: حمل الكلام على التّخيّل وهو رؤية مثال الشّيء في اليقظة, وهو كالمنام, إلا أنّه يكون في اليقظة, والأشعرية يجوّزون هذا, والمعتزلة تنكره إلا في حال النّوم, وعند تغيّر العقل من مرض أو غيره, ومن جوّزه يحتجّ له بأمور: أوّلها: قوله: ((فلما ألقوا سحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم)) [الأعراف/116] وقوله تعالى: ((يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى)) [طه/66] وهذا مع نصّ القرآن عليه معلوم من أحوال السّحرة وخواصّ السّحر, وفيه دليل على صحّة (¬2) ما أنكرته المعتزلة من رؤية ما لا وجود له في الحقيقة مع صحّة العقل. وثانيها: أنّ ذلك من العلوم الضّرورية التّجريبيّة المتواترة عن أرباب الرّياضيات وملازمة الخلوات, فإنّهم يرون في اليقظة مثل ما يرى النّاس في النّوم, ويسمعون مخاطبات من غير رؤية مخاطب, وقد ذكر الفخر الرّازي في ((المفاتيح)) أنّ هذا مما اعترفت به الفلاسفة / ولم تنكره, وإنما وقع النّزاع في ماهيّة ذلك, فأمّا جحده فعناد ودفع للضّرورة, وفيه ما يدلّ على بطلان قول المعتزلة. وثالثها: أنّه قد ثبت بالضّرورة أنّ العاقل المستيقظ قد يتخيّل الشّيء الواحد اثنين, ويتخيّل المستقيم معوجّاً, كما يتخيّل العود في ¬
الماء, وهذا ممّا وافقت عليه المعتزلة, وهو يدلّ على جواز ما ذكرناه من صحّة تخيّل العاقل لما لا وجود له؛ لأنّ كلّ ذلك بصر كاذب في حال الصّحّة واليقظة؛ وإنّما كذب بخلل وقع وعذر اتّفق. وهذه المرتبة الأولى من مراتب التّأويل, ذكرها أبو حامد الغزّالي وجعل منها حديث رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام, وهذا المثال غير مطابق؛ لأنّ الكلام في حال اليقظة غير (¬1) المنام, وكذلك أهل السّنة فإنّهم قد تأوّلوا أشياء بهذا التّأويل, ولكن بشرط المنام كما قالوا في حديث حمّاد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عبّاس في رؤية النّبي - صلى الله عليه وسلم - لربّه عزّ وجلّ على تلك الصّفة المنكرة, وقد ذكره الذّهبي في ترجمة حمّاد في كتاب ((الميزان)) (¬2) وساق طريقه ثمّ قال: ((فهذه الرّؤية إن صحّت رؤية منام)). وممّا جاء التّصريح في متن الحديث بأنّه كان في المنام قول أنس مرفوعاً في حديث المعراج: ((ثمّ دنا الجبار تعالى فتدلّى, فكان قاب قوسين أو أدنى)) (¬3). ¬
ومنه ما رواة التّرمذي (¬1) من حديث عبد الرّحمن بت عائش - رضي الله عنه - عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني ربّي في هذه اللّيلة فقال لي: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى)) , فقد جاء في الحديث ما يدلّ على أن هذا كان في المنام, فهذا كلّه متعلّق بالمنام. وأمّا ما ورد من ذلك عن النّبي صريحاً في اليقظة, وهو على سبيل التّخيّل؛ فلا أعلم أهل الحديث ذكروا من ذلك شيئاً, إلا ما ذكره ابن قتيبة في حديث موسى - عليه السلام - وأنّه فقأ عين ملك الموت - عليه السلام - كما سيأتي تحقيقه. قال ابن قتيبة (¬2): ((أذهب موسى العين التي هي تخييل وتمثيل وليست حقيقة خلقته, (2وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته (¬3) الرّوحانية كما كان لم ينقص منه شيء)) فهذا أكثر ما وجدت لأهل الحديث من التّأويل بهذا الوجه, مع أنّه لم يجعله من صريح هذا الوجه ولو جعله منه لقال: إن موسى في الحقيقة ما فقأ عيناً قط, وإنّما خيل إليه ذلك, فإن كان قصد هذا فقصرت عبارته عن مراده. وقد جاء في الأحاديث ما هو صريح في جواز وقوع هذا الوجه, ولكنّه ورد على جهة التّصريح من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا على جهة التّأويل ¬
من المحدّثين, /فلهذا لم أعدّه من التّأويل. وكذلك حديث: رؤية النّاس للنّار والماء مع الدّجال, وأنّ ناره ماء وماءه نار, وهو حديث صحيح متّفق على صحّته من غير طريق. وفي حديث حذيفة المتّفق على صحّته (¬1): ((فأمّا الذي يرى النّاس أنّه نار فماء بارد, وأمّا الذي يرى النّاس أنّه ماء فنار تحرق, فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي هو نار فهو ماء عذب بارد)). وكذا في الحديث الطّويل الثّابت صفة القيامة: ((فيتمثّل لكلّ فرقة معبودها فتتبعه حتّى يقدم بها في النّار ويتمثّل لمن كان يعبد عيسى فيتبعها حتّى تقذفه في النّار)) وهو ثابت في ((الصّحيح)) (¬2). وقد جعل الغزّالي من هذا القبيل حديث رؤية النّبي - صلى الله عليه وسلم - للجنّة والنّار وهو يصلّي بأصحابه صلاة الكسوف, وهو متفق على صحّته (¬3) , ولكن الغزّالي بنى تأويله على أنّه ورد في الحديث: أنّ الجنّة والنّار عرضا على رسول - صلى الله عليه وسلم - في عرض حائط, قال: وهو يستحيل أن يتّسع الحائط لهما على تقدير الوجود الحقيقي. قلت: ولم أجد هذه الزّيادة التي ذكرها في الكتب السّتّة ¬
المرتبة الثانية: حمل الكلام على المجاز اللغوي
(¬1) , ولكن ذكرها ابن الأثير في ((النهاية)) (¬2) , ولا شكّ أنّه قد يذكر الحديث الضّعيف في ((النّهاية)) (¬3) فإذا صحّت فهي مثال حسن في هذا المعنى, وإذا لم تصح فلا مانع على قواعد أهل الحديث من رؤيتها على الحقيقة, وهذا باب واسع يتركّب عليه في التّأويل أمور كثيرة عند من يرغب إلى التّأويل, والله سبحانه أعلم. المرتبة الثانية: حمل الكلام على المجاز اللّغوي, وأكثر التّأويل يدور عليه, وفيه: الجلي (¬4) والدّقيق والقريب والعميق, والمجاز: مرسل واستعارة, فالمرسل: الذي علاقته غير المشابهة كاليد في القدرة والنعمة, وله أقسام كثيرة, والاستعارة: حيث تكون العلاقة هي المشابهة, وهي مطلقة ومجرّدة ومرشّحة, فالمطلقة: التي لا تتبع بصفات المشبّه ولا بصفات المشبّه به, والمجرّدة: التي تتبع بصفات المشبّه مثل: أسد شاكي السّلاح, والمرشّحة: التي تتبع بصفات المشبّه به مثل قوله (¬5): * له لبد أظفاره لم تقلّم * وقرائن المجاز ثلاث: عقلية وعرفية ولفظية, كما مرّ تمثيلها في ¬
المقدّمة الرّابعة. فإذا عرفت هذا؛ فاعلم أنّ القرينة متى (¬1) كانت معروفة عند المتخاطبين, [أو] (¬2) عليها دليل قاطع يوجب اليقين حسنت المبالغة في التّجوّز ولم يدخل في باب التّعمية للمراد والإلغاز في الخطاب, هذ عند المتكلّمين, وسواء كان القاطع جليّاً أو خفيّاً, وعند أهل الحديث: متى كانت القرينة معروفة عند المتخاطبين حسن /التّجوّز وزال الإشكال. والسّرّ كلّه في هذه النّكتة هي: ظهور القرينة وخفاؤها, وعلى ذلك يدور الخلاف بين المتكلّمين والمحدّثين في كثير من التّأويل, فإنّ المتكلّمين يجعلون قرينة التّجوّز في كثير من آيات الصّفات وأحاديثها عقليّة, وإذا سألتهم عنها أحالوا في ثبوت تلك القرينة العقلية على النّظر في دقائق معارف علم المعقول التي نازعهم في صحتها من شاركهم في المعرفة بالعقليّات لدقّتها وغموضها, فكيف يتقدّر أنّ الصحابة ومن عاصرهم من العرب عرفوها؟ ومن مارس علم النّظر وعلم التّاريخ حصل له من مجموعهما علم ضروري بخلو أهل ذلك العصر الأوّل عن تلك المعارف, فأشكل الأمر حينئذ على المتكلّمين, لأنّهم إن قالوا: إنّ أهل ذلك العصر الأوّل تأوّلوا من غير دليل, وقالوا بالتّجوّز من غير قرينة فهذا لا يجوز, وهو يفتح باب القرمطة ومذهب الباطنية المجمع على بطلانه, وإن ¬
قالوا: إن أهل ذلك العصر يعرفون هذه الأدلّة التي ألجأت أهل الكلام إلى التّأويل فذلك عناد يعلمه الخاصّة من أهل ذلك العصر, وهذا الثّاني هو الذي يركبه المتكلّمون, فإنّهم يدّعون مشاركة الصّحابة في المعارف العقلية على سبيل الجملة, وقد تكلّم الرّازي في ردّ ذلك بأنّ المعرفة الجملية غير صحيحة؛ لأنّ البرهان متى تركّب من عشر مقدّمات استحال من العارف أن يزيد في مقدّماته مقدّمة واحدة, واستحال من القاصر أن ينتج له العلم بمعرفة تسع مقدّمات, وكلامه هذا حقّ لا محيص عنه, فأمّا أن يدّعي المتكلّمون مشاركة الصّحابة في علم الكلام على سبيل التفصيل فهذا عناد عظيم, أو يدّعون المشاركة فيه على سبيل الجملة فهذا عذر غير مستقيم (¬1) , فلهذا التجأ أهل الحديث إلى الإيمان الجملي, وترك الخوض مع الخائضين في بحار التّأويل, وسيأتي لهذه النّكتة مزيد من بيان, وقد مرّ من ذلك طرف صالح أيضاً. وفائدة هذا الكلام: أن تعرف أنّ القرينة متى ظهرت وعرفها المتكلّم والسّامع لم يختلف أهل اللّغة في حسن التّجوّز, وهنا يتوافق المحدّث والمتكلّم, بل يكون تناسي التشبيه أبلغ وأفصح, فإذا وصفت زيداً بأنّه أسد, جاز أن تنسب إليه جميع صفات الأسد كما في قوله: لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف ... له لبد أظفاره لم تقلّم (¬2) ¬
فوصف الرّجل بصفات الأسد من اللّبد وطول الأظفار, وكذلك لو أنّك وصفت الرّجل الشّجاع بجميع صفات الأسد وأسمائه, وذكرت محلّه وأشباله /ما ازداد المجاز إلا حسناً, ولم يكن ذلك مما يصعب تأويله في لغة العرب أبداً. قال علماء المعاني: ولأجل البناء على تناسي التّشبيه صحّ التّعجّب في قوله: قامت تظلّلني من الشّمس ... نفس أعزّ عليّ من نفسي قامت تظلّلني فواعجبا (¬1) ... شمس تظلّلني من الشّمس ولذلك صحّ النّهي عن التّعجّب في قوله: لا تعجبوا من بلى غلالته (¬2) ... قد زرّ أزراره على القمر (¬3) قالوا: ولهذا يبنى على علوّ القدر ما يبنى على علوّ المكان مثل قوله: ويصعد حتّى يظنّ الجهول ... بأنّ له حاجة في السّماء (¬4) كلّ هذا ذكره علماء المعاني والبيان, وقد رأيت تأكيد ما ذكروه ¬
بذكر جملة صالحة مما رود في هذا المعنى مطابقة لمقتضى الحال, فإنّ مقتضاه المبالغة في كشف عطاء البيان, لإنكار المعترض إمكان التّأويل في بعض الأحاديث التي لم تبلغ في التّجوّز مرتبة كثير مما نورده من كلام البلغاء, وإنّما وقع التّفاوت في ظهور القرينة الدّالة على التّجوّز في نفس الأمر. فمن ذلك ما ذكره الزّمخشري -رحمه الله- في ((كشّافه)) (¬1) في تفسير قوله تعالى: ((أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم)) [البقرة/16] فإنّه تكلّم في هذا لما يشهد بما ذكرته فقال ما لفظه: ((فإن قلت هب أنّ شراء الضّلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال؛ فما معنى ذكر الربح والتّجارة كأنّ ثمّة مبايعة على الحقيقة؟ قلت: هذا من الصّنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذّروة العليا, وهي: أن تساق كلمة مساق المجاز ثمّ تقفّى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاماً أحسن ديباجة وأكثر ماء ورونقاً منه, وهو المجاز المرشّح, وذلك نحو قول العرب في البليد: كأن أذني قلبه خطلاوان (¬2) , جعلوه كالحمار ثمّ رشّحوا ذلك روماً لتحقيق البلادة؛ فادّعوا لقلبه أذنين وادّعوا لهما الخطل, ليمثلوا البلادة تمثيلاً يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة, ونحوه: ¬
ولمّا رأيت النّسر عزّ ابن دأية (¬1) وعشّش في وكريه جاش له صدري لمّا شبّه الشّيب بالنّسر, والشّعر الفاحم بالغراب, أتبعه ذكر التّعشيش والوكر)) إلى آخر كلامه في هذا, وأنشد في غير هذا الموضع في [((كشّافه))] (¬2): ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر لي الشّطر الذي ملكت يمين ... ودونك فاعتجز منه بشطر قال: أراد بردائه سيفه (¬3) , ثمّ قال: فاعتجز منه بشطر, فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار)) انتهى كلامه. ومن ذلك قوله تعالى: ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم)) [الصف/8] فذكر الأفواه ترشيحاً لذكر الإطفاء, ومن مطربات التّرشيح قول المعرّي (¬4): وسألت كم بين العقيق وبارق ... فعجبت من بعد المدى المتطاول وعذرت طيفك في الزّيارة إنّه ... يسري فيصبح دوننا بمراحل فإنّه لما تجوّز في وصف الطّيف بالزّيادة تناسى التّجوّز حتّى عليه التّأخّر عن الزّيارة فسأل عن محلّ صديقه, فأخبر ببعده ¬
المفرط فعرف الطّيف, وعلم أنه لا يقدر قطع تلك المسافة المتطاولة في ليلة واحدة, وأنّه لا يصحّ في الطّيف أن يأتي نهاراً؛ لأنّه وقت اليقظة, وهذا معنى لطيف يهزّ البلغاء طرباً. ومما جاوز حدّ الغرابة في هذا قول الزّمخشري كناية عن الجماع: وقد خطبت على أعواد منبره ... سبعاً رقاق المعاني جزلة الكلم وقد اعترض نفسه باستعارة هذه الأمور الشّريفة لما لا حظّ له في مراتب الشّرف. وللشّيخ عمر بن الفارض في هذا من الإجادة ما ليس لغيره, من ذلك قوله (¬1): كان لي قلب بجرعاء الحمى ... ضاع منّي هل له ردّ علي فاعهدوا بطحاء وادي سلم ... فهو ما بين كداء وكدي فإنّه لما تجوّز في ضياع قلبه, بنى عليه ما يبنى على الضّياع الحقيقي فأمرهم بطلب قلبه, وعيّن لهم الموضع الذي هو فيه, وحدّه بكداء وكدي, وهما موضعان بمكة المشرّفة (¬2). ومن أطول ما سمعته في هذا المعنى وأحسنه قصيدة الشّيخ أبي حفص عمر بن الفارض الصّوفي السّعدي نفع الله به (¬3) , التي قال فيها (¬4): ¬
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم ولها البدر كأس هي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم ولولا شذاها ما اهتدينا (¬1) لحانها ... ولولا سناها ما تصوّرها الوهم فإن ذكرت في الحيّ أصبح أهله ... نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم ومن بين أحشاء الدّنان تصاعدت ... ولم يبق فيها (¬2) في الحقيقة إلا اسم وإن خطرت يوماً على خاطر امرىء ... أقامت به الأفراح وارتحل الهم ولو نظر النّدمان ختم إنائها ... لأسكرهم من دونها ذلك الختم ولو نضحوا منها ثرى قبر ميّت ... لعادت إليه الرّوح وانتعش الجسم ولو طرحوا في فيء حائط كرمها ... عليلاً وقد أشفى لفارقه السّقم ولو نال فدم القوم لثم قدامها ... لأكسبه معنى شمائلها اللّثم هنيئاً لأهل الدّير كم سكروا بها ... وما شربوا منها ولكنّهم همّوا ودونكها في ألحان فاستجلها به ... على نغم الألحان فهي بها غنم فما سكنت والهمّ يوماً بموضع ... كذلك لم يسكن مع النّغم الغمّ /يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... بصير, أجل عندي بأوصافها علم صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى ... ونور ولا نار وروح ولا جسم إلى آخر ما ذكره الشّيخ. فانظر إلى ما فيها من التّرشيح, وتناسي التّشبيه, فإنّ الشّيخ لما تولّه في حبّ الله تعالى جلّ جلاله, وارتفعت في منازل المحبّة أحواله, شبّه الحبّ في تلعُّبه بعقول المحبّين بالخمرة ¬
فاستعار اسمها للمحبّة, ثم أخذ يفتنُّ في ترشيح الاستعارة بذكر أوصاف الخمرة ومتعلّقاتها متناسياً للتّشبيه, فذكر الشّرب, والسّاقي, والشّذا, والحان, والنّشوة, والدّنان, والفدام, وختم الإناء, والنّضح منها, والكرم الذي منه عنبها, والحائط الذي كانت غروس العنب فيه, والسّكر منها, والدّير الذي شربت فيه (¬1) , وهنّأ لأهل الدّير بسكرهم منها, وذكر مزاجها وشربها صرفاً على الألحان التي تصاحبها في العادة, وزوال الهم معها, وشبّه الكأس الذي تشرب فيه بالنّجم, والسّاقي في جماله بالهلال, وأمثال ذلك. فمن زعم أنّ هذا نظم خارج عن طريقة (¬2) العرب, غير بليغ ولا مستقيم, فهو بهيميّ الطبع جامد القريحة, ومن أقرّ أنّه عربي بليغ في أرفع درجات الصّنعة البديعية عند أهل هذا الشّأن؛ لزمه ألا يقول فيما هو دونه (¬3) بدرجات كثيرة من القرآن والحديث أنّه يستحيل تأويله على قانون اللغة العربية في التّجوّز, وبطل قول من يدّعي في كثير من ذلك أن التّجوّز فيه داخل في حدّ الإلغاز والتعمية, وما لا يجوز على الله تعالى, وأنّه يتعذّر معرفة الوجه فيه على جميع من أظلّت السّماء من العلماء والبلغاء والفطناء من أوّل الدّهر إلى آخره! وانظر أيّ تجوّز في السّنّة بلغ إلى هذا المبلغ الذي ذكرته لك في البعد عن الحقيقة. فإن قلت: إنّ هذه المبالغة لا يجوز دخولها في القرآن والحديث لأنّها كذب محض, ولا يجوز ذلك في كتاب الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
قلت: هذا جهل باللغة والبلاغة, بل جهل بما في الكتاب والسّنة من ذلك. وقد تقدّم شيء من ذلك في هذا النّوع الذي نحن فيه, وفي القرآن العظيم ما هو أعظم ممّا ذكرناه, ولو لم يرد في جواز هذا, والشّهادة بالبراءة له من الكذب (¬1) إلا قول الله تعالى: ((إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً)) [الإنسان/19] فإنّا نعلم أنّ من رأى الولدان الحسان لا يحسبهم لؤلؤاً منثوراً في صفاء ألوانهم, وحسن منظرهم كالدّرّ. ووصفه للدّرّ بأنّه منثور من جملة ما ذكرنا من ترشيح الاستعارة. وكذلك قول الكاتب: كلام لو مزج به ماء البحر لَعَذُبَ/ طعمه, ليس بكذب؛ لأنّ المتكلّم به لم يقصد أن يوهم السّامع حقيقة ذلك, ولا خاف من السّامع أن يتوهّم ذلك, وإنّما قصد وصف الكلام بالبلاغة لا غير, وعرف أنّه لا يفهم من عبارته إلا ذلك, فكأنّ أهل اللسان وضعوا لوصف الكلام بالحسن عبارتين: إحداهما: أن يقول: كلام فصيح أو بليغ, أو نحو ذلك. وثانيهما: أن يقول: كلام لو مزج به ماء البحر لعَذُبَ ونحو ذلك, وهذا يخالف الكذب القبيح, فإنّ الكذب هو: ما قصد المتكلّم به إيهام السّامع ما ليس بصدق, والمتجوّز لم يقصد ذلك, (2وهذا هو الفرق بين الاستعارة والكذب, كما ذكره أهل البيان (¬2) , وقد أكثرت ¬
المرتبة الثالثة: الحكم بالوهم لدليل يوجب ذلك
من الاستشهاد على أمر جليّ لمّا ادّعى الخصم أنّ في الحديث ما لم يمكن تأويله, وما يجب تكذيب راويه, وفيما ذكرت ما يردّ عليه على ما سيأتي تفصيله ... -إن شاء الله تعالى-. المرتبة الثالثة في التّأويل: الحكم بالوهم لدليل يوجب ذلك, والوهم أنواع: فمنه الوهم في اللفظ وهو صحيح مأثور, ومنه حديث عائشة الثّابت في البخاري ومسلم (¬1) وغيرهما: وفيه عن ابن عمر عن أبيه -رضي الله عنهما- مرفوعاً: ((الميّت يعذّب في قبره بما نيح عليه)) وفيه: قالت عائشة: ((لا والله ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط إنّ الميّت يعذّب ببكاء أحد, ولكنّه قال: إنّ الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذاباً, وإنّ الله لهو أضحك وأبكى, ولا تزر وازرة وزر أخرى, ولكنّ السّمع يخطىء)). هذا لفظ البخاري ومسلم, وفيما ذكرته شهادة لجواز ظنّ الوهم في الرّاوي عند من اعتمد (¬2) القطع بأنّ الظّاهر لا يصحّ, وأنّه وقع مثل ذلك في زمن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ورضي الله عنهم, في حقّ أوثق الرّواة وأفضلهم وأروعهم ممّن يُعتقد تعظيمه وتفضيله, على أنّ المختار صحّة مثل ذلك على أصول الجميع. أمّا أهل الحديث؛ فقد ذكر الذّهبي (¬3) في ضمّة القبر أنّها مثل آلام الدّنيا تصيب المطيع والعاصي, وأمّا على أصول المعتزلة فلأنّ كلّ ألم صحّ فيه العِوَض والاعتبار فهو جائز, وكلاهما ممكن في ¬
ذلك: أما العوض فلا إشكال, وأما الاعتبار فاعتبار من يعلم بذلك من المكلّفين, وفي المعتزلة من يجيز الإيلام لأجل العوض فقط, ولكن في الحديث إشارة إلى تعليل استحقاق العذاب بالبكاء, فلذلك تأوّله البخاري (¬1) والنّووي (¬2) لمن أوصى أن يبكى عليه, ويكن الجواب بشيء (¬3) آخر, وهو: أن البكاء جعل سبباً للعذاب لا مؤثراً في استحقاقه, كما تكون أسباب الآلام في الدّنيا /أموراً غير مأثّرة في الاستحقاق. والحكمة في جعل البكاء سبباً للعذاب: ما في ذلك من الزّجر العظيم عن البكاء. وتسمية الآلام عذاباً كثير في اللّغة شائع, على أنّه قد تقدّم أنّ السّمع قد دلّ على استحقاق كلّ أحد لشيء من العذاب, فمن الجائز أن يكون عذاباً مستحقاً بذنب غير البكاء, وجعل البكاء سبباً على سبيل الزّجر عنه والله أعلم. فهذه الوجوه كلّها دالّة على سعة وجوه الحكمة الرّبّانية, وعلى أنّه يجب على المسلم ألا يعجل برمي الرّواة الثّقات بالوهم في الحديث ما أمكنه, فإن قال بذلك قائل فلا حرج (¬4) عليه, ففي عائشة -رضي الله عنها- أسوة حسنة. ومن هذا القبيل حديث قيام السّاعة لمقدار مئة سنة, وهو في ¬
((الصّحيح)) (¬1) وليس المراد به القيامة, وذلك لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنّما قال: ((لا يأتي مئة سنة حتّى أتتكم ساعتكم)) هكذا ورد في بعض ألفاظ ((الصّحيح)) (¬2) وساعتهم هي الموت, وهو معنى صحيح قرآني. قال الله تعالى في تسمية الموت بالسّاعة: ((ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتّى تأتيهم السّاعة بغتةً أو يأتيهم عذاب يوم عقيم, الملك يومئذ لله يحكم بينهم)) [الحج/55 - 56] قال الجوهري في ((صحاحه)) (¬3) سمّي يوم القيامة عقيماً؛ لأنّه لا موت بعده, قلت: ويدلّ على ما قاله الجوهريّ قوله تعالى: ((الملك يومئذ لله يحكم بينهم)) فدلّ على أنّ السّاعة في الآية هي الموت. وقد ظنّ بعض السّامعين للحديث أنّه أراد القيامة فإنّ في التّرمذي (¬4) وأبي داود (¬5) عن ¬
ابن عمر أنّ النّاس وهلوا في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك فيما يتحدثونه بتلك الأحاديث نحو مئة سنة, وإنّما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد)) يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن, فهذا نصّ ابن عمر على أنّ النّاس وهلوا في ذلك, والوهل هنا: بمعنى الوهم في معنى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن الأثير في ((جامع الأصول)) (¬1): تقول: وهل إلى الشّيء إذا ذهب وهمه إليه: وقد يكون الوهل بمعنى الفزع, ولكنّه لا يلائم كلام ابن عمر ههنا, لقول ابن عمر في الرّدّ على من وهل: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أراد إلا انخرام ذلك القرن, فدلّ على أنّهم وهموا أنّه أراد القيامة, كما قد جاءت أحاديث توهم ذلك, ولعلّها من رواية أولئك الذين وهموا (¬2) والله أعلم. ومثل هذا إذا وقع نادر في بعض الأحاديث, لم يوجب التّشكيك في الرّجوع إلى الأحاديث الصّحيحة, فإنّ الثّقة لا يعصم من الخطأ. وفي ((الصّحيح)) (¬3): ((من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار)) فقيّد الوعيد بالتّعمّد, وأجمع العلماء على أنّ الثّقة لا يجرح بالخطأ إلا إذا كثر كما تقدّم تفصيله (¬4). ¬
ومن أنواع الوهم: رفع الموقوف على الصّحابي, وجعله مرفوعاً إلى النّبي - صلى الله عليه وسلم -. وأشدّ منه: الإدراج, وهو ان يتكلّم راوي الحديث بكلام بعد فراغه من رواية الحديث, فيحسبه السّامع من الحديث لاتصاله به. ومن أنواع الوهم: أن يروي الحديث أحد الضّعفاء, وله اسم أو كنية أو نسبة يوافق فيها بعض الثّقات, فيحسب السّامع أنّه عن الثّقة فيرويه عن الثّقة لا (¬1) على وجه يميّز الثّقة عن الضّعيف فيلصق بالثّقة ما لم يقله, وقد بالغ الحفّاظ في الاحتراز من هذا الخلل /وصنّفوا في ذلك كتب العلل؛ فهذا [آخر] (¬2) وجوه المحامل, ومع إمكانه لا يجوز الحكم على الثّقات بتعمّد الكذب, ومثل هذا لا يبطل به علم الأثر لوجهين: أحدهما: أنّ الخطأ قد يقع من أئمة أهل النّظر في نظرهم, فكما لم يبطل بذلك (3علم النّظر عندهم فكذلك (¬3) لا يبطل علم الأثر بمثله عند أهل الأثر. وثانيهما: أنّه لو وجب الاحتراز من الوهم للزم الرّاوي ألا يعمل بشيء مما حفظه وسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لأنّه يجوز فيما لم يعلمه بالضّرورة على نفسه من الوهم ما يجوز على سائر الثّقات, وهذا خلاف العقل والنّقل, فإذا قدحنا بالوهم لم يختص أهل الأثر, ولزم ¬
بداية الجواب على المعترض فيما يتعلق بأخبار كتب السنة. وفيه فصلان
أهل النّحو واللّغة والفقه والتّفسير, فإذا كان الوهم مجوّزاً فأقل الحديث وهماً: كتب أئمة الحديث المنقّحة المصحّحة, التي حكم بعلوّ قدرها في الصّحة أئمة النّقد, وعكف الأفاضل على تحقيقها من قبل ومن بعد. وهذا القدر كاف في التّمهيد للجواب بذكر هذه المقدّمات. ولنشرع الآن في الجواب, ونتكلّم على فصلين, أحدهما: في الجواب الجملي, وثانيهما: في طرف من المعارضات, فأمّا التّحقيق؛ فلا مكانه ولا زمانه ولا فرسانه ولا ميدانه. أمّا الفصل الأوّل: فالجواب أنّ المعترض ذكر أحاديث معيّنة وذكر أنّه لا يصح لها تأويل, فنقول له: مرادك لا يصحّ لها تأويل في فهمك؟ فمسلّم ولا يضرّ تسليمه, أو مرادك لا يصحّ لها تأويل في علم الله تعالى, ولا في علم أحد من الرّاسخين في العلم؟ فهذا ممنوع لوجهين: الوجه الأوّل: أنّ موسى كليم الله لما لم يعلم تأويل فعل الخضر - عليه السلام - لم يجب أن لا يعلمه الخضر, فإذا جاز على موسى الكليم - عليه السلام - أن يجهل ما علمه غيره؛ جاز على المعترض أكثر من ذلك. الوجه الثّاني: أنّ الملائكة -عليهم السلام- ما عرفوا حكمة الله تعالى على التّعيين في استخلافه لآدم - عليه السلام - في الأرض, وسألوا الله تعالى عن ذلك فقالوا: ((أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)) بالبقرة/30] , فلم يخبرهم تعالى بوجه الحكمة على التّعيين, بل أجاب عليهم بالجواب الجملي فقال
الفصل الثاني: المعارضات وهو نوعان
تعالى: ((إنّي أعلم ما لا تعلمون)) [البقرة/30] فإذا كفى الملائكة الجواب (¬1) الجملي كفى كثيراً من المسلمين, فأمّا فهم معنى الآيات؛ فقد قدّمنا أنّه لا يجب على جميع المسلمين من العامّة والعجم إجماعاً, وانّ معرفة البعض إذا كانت كافية في ذلك, فلا مانع من أن معرفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكفي في ذلك. الفصل الثاني: وهو في المعارضات فهو نوعان: أحدهما: معارضة الخصم بتأويل أصحابه المعتزلة لما هو أصعب تأويلاً من تلك الأحاديث, من آيات القرآن العظيم, الدّالّة على أنّه تعالى سميع بصير مريد, وأنّه الذي أوجب الواجبات الشّرعيّة, وحرّم المحرّمات الشّرعية, ورفع الحرج فيها عن المسلمين, وأراد اليسر في ذلك بالمؤمنين ونحو ذلك مما لا يصح عند المعتزلة إلا بتأويل ظاهر, وهذا النّوع ظاهر (¬2) لا سبيل إلى استقصائه, وقد ذكر قاضي القضاة, عبد الجبّار بن أحمد -وهو أحد علمائهم- ما يخالف مذهبهم من القرآن العظيم, فجاء في مجلّد كبير (¬3) , فلنقتصر في هذا الوجه على هذه الاشارة, ففيها تنبيه على كيفية معارضتهم بهذه الطريقة, وقد ذكرت /في ((الأصل)) (¬4) طرفاً من الآيات التي تعسّفوا في تأويلها وحكموا بصحّة ذلك التّأويل, وبيّنت أنّ تأويل الأحاديث التي ذكرها المعترض أقرب من تأويلهم لتلك الآيات. ¬
الثاني: إيراد شواهد ما زعم عدم إمكان تأويله, من القرآن العظيم, فمن أقر بصحة تلك التأويلات لزمه الإقرار بصحة تأويل الأحاديث
النوع الثّاني: معارضة الخصم بإيراد شواهد تلك الأحاديث التي زعم أنّه لا يمكن تأويلها بذكر ما هو مثلها من القرآن العظيم, وأنّه يلزم من أقرّ بصحّة تأويل تلك الآيات أن يصحّح تأويل تلك الأحاديث التي انتقاها المعترض من أدقّ ما وجد في الحديث, وأبعد ما فيه عن التّأويل, وسوف أجيب عن جميعها, وأبيّن أنّ في القرآن ما هو مثلها, فمن تأوّله تأوّلها, ومن آمن به آمن بها, ومن ردّها لزمه أن يردّ ما هو في معناها من كلام الله تعالى: وهي هذه مرتّبة على ترتيب المورد لها: الحديث الأوّل: الحديث الطّويل الوارد في صفة يوم القيامة وفي الشّفاعة, وفيه: ((وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها, فيأتيهم الله فيقول: أنا ربّكم, فيقولون: هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا فإذا جاء ربّنا عرفناه, فيأتيهم الله فيقول: أنا ربّكم)) هذه رواية البخاري ومسلم (¬1) في حديث أبي هريرة. وفي البخاري ومسلم (¬2) من حديث أبي سعيد: ((حتّى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برّ وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها فيقول: أنا ربّكم, فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً, فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم, فيكشف عن ساق, فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسّجود, ولا يبقى من كان يسجد اتّقاء ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه)) الحديث. ¬
وفي ((صحيح مسلم)) (¬1) من طريق أبي (¬2) الزّبير عن جابر بن عبد الله بلفظ السّماع من جابر - رضي الله عنه - نحو ذلك. وللحديث طرق ليس هذا موضع استيفائها, وفي بعض ألفاظ الحديث, ذكر التّجلّي, وفي بعضها ذكر وضع القدم في النّار, وفي بعضها ذكر الضّحك. والجواب (¬3): أنّه قد ثبت أنّ علماء التّأويل من أهل (¬4) المعاني والبيان وأهل الكلام قد أوّلوا آيات كثيرة في القرآن مثل قوله تعالى: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)) [البقرة/210] وقوله تعالى: ((هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربّك)) [الأنعام/158] وقالوا في هذه الآيات وأمثالها: إنّ إسناد المجيء والإتيان إلى الله تعالى مجاز وهو من باب الإيجاز, أحد ¬
علوم المعاني, وهو: حذف بعض الكلام لدلالة القرينة على حذفه, والقرينة الدّالّة هنا هي القرينة العقليّة كالقرينة في قوله تعالى: ((وسئل القرية التي كنّا فيها والعير)) [يوسف/82] أي أهل القرية وأهل العير, قالوا: والمعنى: وجاء أمر ربّك أو عذابه أو نحو ذلك من المقدّرات المحذوفة. فنقول: إذا كان مثل هذا صحيحاً عندكم صحّ في الحديث مثله فيقال: إنّ إسناد المجيء فيه إلى الله تعالى مجاز وهو في الحقيقة مسند إلى ملك من ملائكة الله. وقوله في الحديث: ((أنا ربّكم)) أي: رسول ربّكم, وكذلك قولهم: ((أنت ربّنا)) أي: رسول ربّنا, وإذا جاز تأويل لفظ على معنى جاز تأويله على ذلك المعنى, وإن كرّر مئة مرة, وهذا التأويل مفحم للمبتدعة, وقد كان /وقع في خاطري وكنت محباً أن أقف على مثل ذلك لأحد من أهل العلم لاستأنس بموافقته, فأسلم من وحشة الشّّذوذ, فوقفت عليه في ((شرح مسلم للنووي)) (¬1) -رحمه الله- ووجدته قد تأوّل الحديث بذلك فقال -رحمه الله- ما لفظه: ((وقيل المراد ((يأتيهم الله)) أي: يأتيهم بعض ملائكته. قال القاضي عياض: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصّورة التي أنكروها من سمات الحدث (¬2) الظّاهرة على الملك والمخلوق, قال: أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة, أي: بصورة ويظهر لهم من صورة ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات ¬
الإله [ليختبرهم] (¬1) , وهذا آخر امتحان المؤمنين, وإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة: ((أنا ربّكم)) رأوا عليه من سمات المخلوق ما يعلمون به أنّه ليس بربّهم ويستعيذون بالله منه. وأمّا قوله: ((فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها)) فالمراد بالصّورة هنا الصّفة, ومعناه فيتجلّى لهم على الصّفة التي يعرفونها, وإنّما عبّر عن الصّفة بالصّورة لمشابهتهما ولمجانسة الكلام فإنّه تقدم ذكر الصورة, وأمّا قولهم: ((نعوذ بالله منك)) فقال الخطّابي: يحتمل أن تكون الاستعاذة من المنافقين خاصّة, وأنكر القاضي عياض هذا, قال النّووي: وما قاله القاضي عياض هو الصّواب, ولفظ الحديث مصرّح به أو ظاهر فيه, وإنّما استعاذوا منه لما قدّمناه من كونهم رأوا سمات المخلوق. وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فيتبعونه)) فمعناه يتبعون أمره إيّاهم بذهابهم إلى الجنّة)) انتهى ما ذكره النّووي - رضي الله عنه -. وقوله في هذا التّأويل: فيتجلّى لهم على الصّفة التي يعرفونها, أراد به تجلّي الرّؤية على مذهب أهل الحديث والأشعرية وغيرهم, وقد صرّح به لكنّه سقط التّصريح له من هذا الكلام (¬2) , ولم يحضرني ((شرح مسلم)) فانقل منه كلامه بنصّه (¬3). ¬
وأمّا على مذهب المعتزلة فتأويل التّجلّي عندهم كتأويله في قوله تعالى: ((فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكاً)) [الأعراف/143] , ويكون المعنى عند المعتزلة على مقتضى أساليبهم في التأويل: فيتجلّى ما يدلّ على عظيم قدرة الله تعالى, وإحاطة علمه من عجائب أفعاله المعجزة لجميع المخلوقين التي يعلم بها أنّه المكلم. وإنّما ذكرت تأويل الحديث على كلّ مذهب ليظهر للمعترض بطلان قوله: إنّ تأويل الحديث غير ممكن على مذهب المعتزلة, وأنه يجب على أصولهم ردّه, وقد ظهر أنّه لا يمكنهم ردّه, مع إقرارهم بما هو مثله في كتاب الله تعالى, وليس في الحديث الذي أورده المعترض ما يظنّ أنّه زائد على ما في القرآن إلا ثلاثة أمور: أحدها: ذكر أنّهم سجدوا لتلك الصّورة, والجواب عنه من وجهين: الوجه الأوّل: أنّه يجوز أن يكونوا قصدوا بالسّجود التّعبّد لله تعالى عند رؤيتهم لذلك الملك, تعظيماً لله تعالى حين رأوا من عظيم مخلوقاته ما يوجب ذلك. الوجه الثاني: أنّه يجوز السّجود للملك على سبيل التّعظيم والتّكرمة, كما سجدت الملائكة لآدم - عليه السلام - , وكما سجد إخوة يوسف له, فإنّ تحريم السّجود لغير الله حكم شرعي يجوز تغيّره إجماعاً.
ذكر ثلاثة أمور وردت في الحديث ليست في القرآن, مع تخريجها
الأمر الثّاني: مما ورد في الحديث, وليس في كتاب الله تعالى: ذكر الصّورة /وأنّه جاءهم على صورتين, والجواب من وجهين: الوجه الأوّل: ما ذكره النّووي والقاضي عياض وقد تقدّم. الوجه الثاني: وهو القاطع للّجاج أنّا قد ذكرنا أنّ الذي جاءهم ملك من ملائكة الله تعالى. فإن قلت: لا يجوز أن يكون للملك صورتان, وإنّما المعروف أن له صورة واحدة. فالجواب من وجوه: الأوّل: أنّه لا مانع من ذلك فهو داخل في قدرة الله تعالى. الوجه الثاني: أنّه قد جاء حديث صحيح يرفع الإشكال في ذلك, و [أنّه] (¬1) جاءهم في الصّورة الأولى محتجباً عنهم, وفي الثانية متجليّاً لهم, رواه شيخنا النّفيس العلوي في ((كتابه الأربعين)) (¬2) وهو صحيح خرّجه الإمام شمس الدّين ابن قيّم الجوزية (¬3). الوجه الثالث: ما تقدّم ذكره عن القاضي عياض والنّووي في تأويل الصّورة بالصّفة. الأمر الثّالث: أنّه كثر في الحديث ذكر ما يقتضي التّشبيه الكثير حتّى صار ذلك فيه كالتّصريح, وليس في القرآن مثل ذلك. والجواب عليه: أنّ هذا على أصول أهل التّأويل أقلّ إشكالاً لأنّ ¬
صفات المخلوقين كلما [كثرت] (¬1) كانت أظهر دلالة على التّجوّز, وعلى حذف المسند إليه, وكان هذا أشبه بالاستعارة المجرّدة (¬2) التي يذكر فيها صفات المشبّه مثل قولنا: أسد شاكي السّلاح, حسن الثّياب, لطيف الأخلاق, فصيح الكلام, ونحو ذلك من تكثير القرائن اللفظيّة الدّالّة على التّجوّز, ولو أنّه بعد إسناد الإتيان إلى الله تعالى ذكر الصّفات المختصّة بالله تعالى كان أبعد عند أهل الصّنعة من التّجوّز, وكان أشبه بالاستعارة المرشّحة التي يذكر بعدها صفات المشبّه به كقوله في البيت المشهور: * له لبد أظفاره لم تقلّم * ونحو ذلك, وقد تقدّم ذكر ذلك في المقدّمة السّادسة في المرتبة الثّانية من مراتب التّأويل (¬3) , وإنّما قلنا: إنّ هذا الوارد في الحديث مثل المجاز الوارد في القرآن عند أهل التأويل؛ لأنّ كلّ واحد منهما مجاز في الإسناد وحذف المسند إليه من طرق الإيجاز في الكلام, وكلّما أردف التّجوّز من صفات المحذوف أو المذكور لم يكن في ذلك شيء من التّجوّز, وإنّما تكون فيه قرائن لفظية تدلّ على المبالغة في إظهار المقصود أو المبالغة في معنى التّجوّز, وأمّا التّجوّز فليس إلا في الإسناد على ما يعرفه علماء المعاني والبيان, والله أعلم. وقد أبرق المعترض وأرعد على البخاري - رضي الله عنه - ¬
لروايته في الحديث ((فيكشف عن ساقه)) وهذا من الجهل المفرط, فإنّه لا فرق بين كشف السّاق, والمجيء عند أهل التّأويل في جواز إسناد الجميع من ذلك إلى غير الله, وامتناع إسناده إليه سبحانه وتعالى, وكذلك قوله في الحديث: ((فيضع الرّبّ قدمه)) أي فيضع رسول الرَّبِّ قدمه, أو نحو ذلك, وهذا النّوع من التّأويل عربي فصيح, ومنه قول جبريل - عليه السلام - فيما حكى الله عنه: ((لأهب لك غلاماً زكيّاً)) [مريم/19] في إحدى القراءتين (¬1)؛ ومنه قول عيسى - عليه السلام -: ((وأحيي الموتى بإذن الله)) [آل عمران/49] أراد: ويحيي الله الموتى عند إرادتي لذلك, ومنه الحديث الصّحيح الذي أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (¬2) عن أبي هريرة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني /, قال: يارب! كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده, أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده)) الحديث إلى آخره. وهو صحيح صريح في صحة مجاز الحذف الذي نحن فيه, وكذلك ما ورد في الحديث من ذكر الضّحك فهو أسهل من هذا كلّه, إن شئنا جعلناه من قبيل الإيجاز وحذف المسند إليه, ويكون مسنداً في الحقيقة إلى الملك, وإن شئنا جعلنا التّجوّز في الضّحك لا في ¬
الإسناد, ويبقى الضّحك المجازيّ مسنداً إلى الله تعالى, فقد صحّ نسبة العجب والغضب والرّضا إلى الله تعالى, وكلام أهل التّأويل في هذه الأمور متقارب, وقد اشتهر في لغة العرب التّجوّز في الضّحك, وشحن البلغاء أشعارهم بذكر ضحك البروق والأزهار والأنوار, وقد فسّروا ضحك الرّبّ برضاه. وذكر ابن متّويه المعتزلي ضحك الأرض في المجاز وأنشد في ذلك: * تضحك الأرض من بكاء السّماء * وقد اتّسع البلغاء في ذلك حتّى نسبوا الضّحك إلى القبور, فدع نسبته إلى الأنوار والزّهور! قال المعرّي (¬1): ربّ قبر صار [قبراً] (¬2) مراراً ... ضاحك (¬3) من تزاحم الأضداد وقد أذكرني التّجوّز في الضّحك ليلة عجيبة كانت مرّت بي, طلع القمر فيها, وهو في غاية (¬4) التّمام والإنارة, وكان طلوعه من الجانب الشّرقي في حال التماع بروق منيرة من الجانب الغربي, مع مطر وحنين رعود, واجتمعت الأنوار مع زهور رياض مختلفة الألوان في المكان الذي نحن فيه, وكان ذلك عقيب وداعنا لبعض إخواننا رعاه الله تعالى, فقلت في ذلك: ¬
وليلة ضحكت أنوارها طرباً ... بروقها (¬1) وزهور الأرض (¬2) والقمر ... فكدت أضحك لولا حنّ راعدها ... حنين شاكّ ولولا أن بكى المطر فذكّر الرّعد قلبي في تحنّنه ... حنين خلّي لمّا أن دنا السّفر فنحت حتّى تباكت كلّ ضاحكة ... من الثّلاث وحتّى رقّ لي الشّجر وهذا المعنى مطروق مشهور في أشعار المتقدّمين والمتأخّرين. فإن قلت: إنّ هذه التّجوّزات التي في الأشعار تخالف ما في القرآن والسّنّة, فإنّ من سمع الآيات والأحاديث الواردة في الصّفات لم يفهم التّجوّز إلا أن يكون من العلماء الذين قد خاضوا في الكلام وسمعوا التّأويل, وأمّا الأشعار المذكورة فكلّ من سمعها فهم التّجوّز فيها من الخاصّة والعامّة. والجواب: أنّ السّبب في ذلك ظاهر, وهو أنّ القرينة الدّالّة على التّجوّز في الأشعار معلومة بالضّرورة لكلّ سامع, فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ الضّحك الحقيقيّ يستحيل صدوره من الرّياض والبروق والشّمس والقمر, ونحو ذلك, بخلاف ما قدّمنا, فإن القرينة فيه خفيّة دقيقة, قد اختلف في تحرير الدّليل عليها أذكياء الخاصّة من أئمة الكلام, وردّ بعضهم دليل بعض. ومن هنا ترك أهل الحديث التّأويل مدّعين أنّ شرط حسن المجاز عندهم /سامع الكلام للقرينة الدّالّة على التّجوّز حتّى تصرفه معرفته بها عن اعتقاد ظاهر الكلام, ولذلك ¬
أجمعوا على تأويل حديث: ((الرّكن يمين الله تعالى)) (¬1) , وحديث: ((إنّي أجد نفس الرّحمن من جهة اليمن)) (¬2) ونحوهما. وأجمعوا على تأويل قوله تعالى ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) [ق/16] وقوله تعالى: ((إلا هو معهم أين ما)) [المجادلة/7] ونحوهما لما كانت القرينة معروفة عند المخاطب, قالوا: والمعلوم من أحوال المسلمين في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدم المعرفة بالأدلّة الكلاميّة الموجبة للتّأويل. وأمّا المتكلّمون ومن اختار التّأويل؛ فإنّهم لم يشترطوا في حسن المجاز إلا تمكّن السّامع من معرفة القرينة ولو بالنّظر الدّقيق والبحث الطّويل, ولما اضطرب النّاس في هذا ودقّ الكلام فيه, وعظم الخطر, اعتصم الجماهير من أهل السّنّة بالإقرار بما ورد في الآيات والأحاديث, على الوجه الذي أراده الله تعالى, مذعنين للعلم بذلك الوجه, لا رادّين لما ورد في ذلك من السّمع, ولا مشبّهين لله تعالى بما لحقه من صفات النّقص, معتقدين أنّ الله تعالى كما وصف نفسه في قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)) [الشورى/11] منزّهين لله تعالى ¬
من كلّ ما يقتضي النّقص من شبه المخلوقين في أفعالهم وذواتهم وصفاتهم, وهذه عقيدة صالحة منجية لمن اعتقدها, ومن ضلّل أهلها لزمه تضليل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتضليل جميع المسلمين إلا طائفة المتكلّمين, وذلك يعود إلى الإدغال في الدّين والقدح على سيّد المرسلين, ونعوذ بالله من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين. وقد دخل تحت هذه الجملة تأويل حديثين أوردهما المعترض في هذا المعنى, ثمّ إنّه أردفهما بحديث جرير بن عبد الله البجلي في الرّؤية, وهو الحديث الثّالث, ونظمه في سلكهما, وقد تقدّم الكلام على صحته, وأنّه متواتر المعنى, وأنّ شواهده مرويّة عن أكثر من ثلاثين صحابيّاً في أكثر من ثمانين حديثاً. وأمّا الكلام على معناه: فأمّا أهل الحديث: فيؤمنون به كما ورد على الوجه الذي أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأمّا المتكلّمون من الأشعرية والمعتزلة والشّيعة: فيجتمعون على أنّه تعالى لا يرى في جهة متحيزاً كما يرى القمر, ثمّ يفترقون في تفسير معناه, ولا حاجة إلى نقل ألفاظهم في ذلك فإنّه معروف في مواضعه, وإنّما غرضنا هنا بيان بطلان ما زعم المعترض من اشتمال كتب الحديث الصّحيحة على ما يجب تكذيب راويه, وهذا الحديث مما لا يمكن تكذيب راويه لأنّه حديث متواتر كما قدّمنا, ومن أنكر ذلك لم يزد على أنّه ادّعى على نفسه (¬1) الجهل بتواتره, ونحن نسلّم له ¬
حديث خروج أهل التوحيد من النار وفيه فائدتان
ما ادّعاه لنفسه من الجهل ولا ننازعه, فإن ادّعى على أحد غيره أنّه يجب أن يشاركه في الجهل؛ لم يساعده على ذلك دليل من العقل ولا من السّمع, إلا أن يدّعي أحد مثل دعواه فنسلّم له /من الجهل ما ادّعاه, ومن أحبّ معرفة تواتر هذا الحديث فليطالع كتب أهل الحديث الحافلة الجامعة لطرقه الكثيرة وفوائده الغزيرة, ولا طريق إلى إقامة البرهان على التواتر إلا ما ذكرناه كما يعرف ذلك أهل الصّناعة, ولو كان إلى ذلك سبيل غير ما أشرنا لفتحنا أبوابها وذلّلنا صعابها. وبعد, فكلام الفريقين في هذه المسألة معروف المواضع مكشوف البراقع, فاختصرنا التّطويل بنقل المعروف, وبيان المكشوف. الحديث الرّابع: حديث خروج أهل التّوحيد من النّار, والشّفاعة لهم إلى الوهّاب الغفّار, وتمييزهم بذلك من بين الكفّار, فإنّ المعترض أنكر ذلك أشدّ الإنكار, ونظمه في سلك ما يجب تكذيب راويه من الأخبار, وبنى كلامه في ذلك على شفا جرف هار, وتوهّم أنّه في ذلك موافق لإجماع أهل البيت الأطهار, وخطؤه ينكشف بذكر فائدتين يتّضح بهما المذهب الحقّ المختار: الفائدة الأولى: في تعريف المعترض أنّه قد جهل في ذلك مذهب أصحابه, وظنّ أنّ هذا المذهب مما يختصّ بالقول به خصومه, ولم يعلم أن ذلك مذهب مشترك بين السّني والشّيعي والمعتزلي والأشعري, فقد ظهر القول به في كلّ الطّوائف, واشترك في نصرته أجناس أهل المعارف, ونحن ننقل ما يدلّ على ذلك من مصنّفات
أصحاب المعترض: فمن ذلك من ذكره الحاكم أبو سعد في ((شرح العيون)) فإنّه أورد فصلاً في ذكر المرجئه, وأخطأ في هذه التّسمية كما سيأتي بيانه, ونسب الإرجاء إلى جلّة وافرة من أكابر شيوخ المعتزلة, ذكر ذلك في تراجمهم عند الكلام عليها في طبقاتهم من كتابه هذا, حتّى نسب إلى زيد بن عليّ - رضي الله عنه - مخالفة المعتزلة المبالغين في هذه المسألة, وصرّح بأنّه يخالف المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين, ذكره في ترجمة زيد بن علي - رضي الله عنه - مختصرة بعد ترجمته البسيطة, وأسند إلى صاحب ((المصابيح)) وإنّما ذكرت هذا عن زيد ابن علي - رضي الله عنه -؛ لأن الخصوم يقبلون (¬1) رواية هذا الرجل, وإلا فأهل الحديث يرون عنه مخالفة المعتزلة, وحسبك أن أبا عبد الله الذّهبي لم يذكره في ((الميزان)) وقد شرط ألا يترك أحداً تكلّم فيه بحق أو باطل إلا ذكره. وقال الحاكم المذكور في ((شرح العيون)) في فصل عقده فيما أجمع عليه أهل التّوحيد والعدل /: ((إن اسم الاعتزال صار في العرف لمن يقول بنفي التّشبيه والرؤية والجبر, وافق في الوعيد أو خالف, وافق في مسائل الإمامة أو خالف, وكذا في فروع الكلام, ولذا تجد الخلاف بين الشّيخين والبصرية والبغدادية يزيد على الخلاف بينهم وبين سائر المخالفين, وكذا تراهم يعدّون من نفى الرؤية, وقال بحدوث القرآن, ومسائل العدل: معتزليّاً وإن خالف في الوعيد ككثير من مشايخنا, منهم الصّالحي والخالديّ وغيرهما, وكذا ترى من ¬
خالف في هذه الأصول لا يعدّ منهم, وإن قال بالوعيد كالنّجارية والخوارج وغيرهم)). انتهى. وقال حميد بن أحمد المحلّي الزّيدي في كتابه ((عمدة المسترشدين في أصول الدين)) (¬1): ((إن القائلين بالشّفاعة لأهل الكبائر والخروج من النّار صنفان: عدلية وغير عدلية, وذكر للعدلية القائلين بذلك مذاهب أربعة. وذكر القاضي عبد الله بن حسن الدّواري الزّيدي في ((تعليق الخلاصة)): انقسام القائلين بذلك إلى عدلية, وغير عدلية, قال: ((فمن أهل العدل القائلين بذلك: أبو القاسم البستي, وكان من الزّيدية من أصحاب المؤيد بالله, وغيره من المعتزلة منهم: محمد بن شبيب, وغيلان الدّمشقي رأس المعتزلة, ومُوَيْس بن عمران, وأبو شمر, وصالح قبّة, والرّقاشي, والصّالحي, والخالدي وغيرهم, ومن القدماء (¬2): سعيد بن جبير!! , وحمّاد بن [أبي] سليمان, وأبو حنيفة وأصحابه)). انتهى كلامه. قلت: وإلى ذلك ذهب من أئمة الزّيديّة الدّعاة: يحيى بن ¬
الثانية
المحسّن المعروف بالدّاعي, والمهدي أحمد بن يحيى المتأخّر, وكان الفقيه علي بن عبد الله بن أبي الخير يذهب إلى هذا, وغيره من أهل المعرفة, فثبت بما ذكرناه أنّ المعترض قد جهل مذاهب أصحابه. أمّا الفائدة الثانية: فهي في الإشارة إلى ضعف كلامه وبطلان شبهته, فإنّه ذكر أنّ الأحاديث الدّالّة على خروج أهل الإسلام من النّار تعارض آيات الوعيد الدّالّة على خلود أهل النّار, وهذا جهل مفرط, فإنّ العموم والخصوص لا يتناقضان على القطع عند أحد من فرق الإسلام بحيث يقطع على كذب أحدهما في نفس الأمر, ولو جحد ذلك أحد من أهل الجهل كان الرّدّ عليه متسهّلاً على أقل أهل المعارف الإسلامية بصيرة, وكيف يستطيع مسلم أن يشكّ في جواز ذلك, والقرآن مشحون بالعموم والخصوص, كما يعرف ذلك أهل التّمييز, دع أهل الخصوص: مثال ذلك قوله تعالى: ((من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة)) [البقرة/254] , فأطلق نفي الخلّة والشّفاعة في هذه الآية عن كلّ أحد, ثمّ قيّده في قوله تعالى: ((الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوٌ إلا المتّقين)) [الزخرف/67] , وقال /تعالى: ((ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون)) [الأنبياء/28] , فأثبت الخلّة والشّفاعة لمن اتّقى, ولمن ارتضى بعد أن نفاهما مطلقاً, وكذلك ما ورد في خروج أهل الإسلام من النّار من صحيح الأخبار, المتواتر معناها عند العلماء الأحبار, وقد أوضحت ذلك في ((الأصل)) (¬1) بما لا فائدة لذكره في هذا ((المختصر)) , لأنّه من جليّات ¬
محاجة آدم وموسى
مبادىء الأصول الفقهيّة لا من خفيّات المعارف النّظرية, والأمر في هذه المسألة عند علماء الزّيدية قريب, وقد ذكر القاضي حسن بن محمد النّحوي في كتابه ((التذكرة في الفقه)) (¬1) الذي هو مدرسهم الآن: أنّ المخالف في هذه المسألة لا يكفّر ولا يفسّق, فلا حاجة إلى التّطويل بذكرها, وإنّما أحببت تعريف المعترض أنّه قد جاوز حدود الزّيدية والعتزلة فيها؛ فزاد على معلّمه كما تقول العامّة. الحديث الخامس: حديث محاجّة آدم وموسى (¬2) -عليهما السلام-, والجواب على ما ذكره: أنّ المحدّثين أبرياء عما اتّهمهم به من افتراء ذلك في نصرة مذهبهم, ولو كان المعترض من أهل التمييز لعلم أنّ ظاهر ذلك الحديث ليس بمذهب لأحد من أهل الإسلام, وعرف أنّ رجال الحديث وأهل السّنّة قد نصّوا على تأويله في شروح ¬
الفصل الأول
الحديث النّبويّ على صاحبه السّلام, لأنّ ظاهره يقتضي أن يحتجّ العصاه بالقدر على الله تعالى, وذلك ممنوع بإجماع المسلمين, وإنّما يحتجّ به من تاب من ذنبه عند أهل السّنّة كما ذكره شرّاح الحديث على صاحبه السّلام. وعندي في الجواب عنه وجه واضح, وقبل الكلام عليه أشير إلى تمهيد (قاعدة) , وهي: أن الأمّة أجمعت على عصمة الأنبياء -عليهم السّلام- عن الجهل بالله تعالى وصفاته وقواعد شرائعه, وعلى صحّة عقائدهم فيما يتعلّق بأفعال الله وحكمته وجلاله. وهذه القاعدة تقتضي المنع من تجويز وقوع المنازعة بين الأنبياء -عليهم السلام- في أمر من الأمور الدينية, فإن وقع بينهم ما يشبه ذلك علمنا أنّه ليس على طريق دفع الحقّ بالمماراة, ولا على سبيل اللّجاجة في المجادلة, وإنّما يكون على سبيل الموعظة والمعاتبة وطلب الزّيادة في المعرفة, مثال ذلك: ما جرى بين موسى وهارون, وبين موسى والخضر -سلام الله عليهم-, فمناظرتهم على /سبيل الموعظة والعتاب, لا على سبيل الجهل بالحقّ في أمر الدّين ولا الدّفع له, فهم معصومون عن ذلك, وإذا (¬1) كانت محاجّتهم من هذا القبيل, لم تدخلها البراهين العقلية, ولم تقرّر على القواعد القطعيّة, وحسن منهم فيها الاسترواح إلى الاحتجاج بما يجري به الاعتذار في مألوف العادات ولطيف المخاطبات, فلنتكلّم في ثلاثة فصول: الفصل الأول: في الدّليل على أنّ محاجّتهما -عليهما السلام- ¬
ليست برهانية, والدّليل على ذلك: أنّهما لم يتنازعا في أمر يصح فيه من مثلهما الجهل المحض الذي لا يغسل أدرانه إلا صريح البراهين القاطعة, ولا يجلو ظلامه إلا شروق الأدلّة الصّادعة, وقد ظهر هذا من كلامهما ظهوراً لا يخفى. أمّا موسى فإنه هو الذي بدأ الخطاب, وفتح هذا الباب, فسأل آدم - عليه السلام - عن كيفية ذنبه, وأكله الشّجرة وأتى بكيف الإنكارية, ولا شكّ أنّ السّؤال عن الكيفية المحقّقة غير مقصود, فإنّه يعرف كيف أكل الشّجرة, فلم يقصد حقيقة السّؤال, وإنّما قصد إظهار التّعجّب والاستنكار (¬1) لما فعله آدم - عليه السلام - وورود ((كيف)) بمعنى ذلك كثير شهير, من ذلك قوله تعالى: ((كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم)) [البقرة/28] فإنّه تعالى لم يرد محض السّؤال عن كيفية الكفر, ويؤيّد ما ذكرته: أنّ موسى - عليه السلام - قدّم قبل السؤال, عن كيفية أكل الشجرة, السّؤال عن اصطفاء الله تعالى لآدم, ثمّ عقب ذلك السّؤال عن كيفية وقوع الذّنب منه, فظهر أنّه أراد كيف كان منك الذي كان من الذّنب, وأنت من الله تعالى بتلك المنزلة الرّفيعة والمحلّ العظيم!؟ ويؤيّد ما ذكرته من أنّ موسى - عليه السلام - قصد المعاتبة, أو معرفة هذا السّبب العجيب الذي أوقع آدم - عليه السلام - في ذلك مع جلالة قدره: أنّ موسى - عليه السلام - أجلّ من أن يجهل أنّ التّائب من الذّنب غير مستحق للذّمّ, وأدنى أهل ¬
التّمييز يعرف ذلك في جميع العصاة, فكيف لا يعرفه موسى - عليه السلام - في حقّ أوّل أنبياء الله -عليهم السّلام- الذي أسجد الله له الملائكة الكرام!؟ فيجب ألا يكون قصد موسى - عليه السلام - مجرّد اللوام, وإنّما أخرج الكلام مخرج التّعجّب والاستغراب من وقوع مثل ذلك من أهل مقام النّبوّة, سيّما ممّن أسكنه الله الجنّة وأسجد له الملائكة, وعلّمه الأسماء, وهداه واصطفاه, وحذّره من الشّيطان, ونهاه عن الشّجرة بعينها, وقطع معه الأعذار كلّها, فأراد موسى السّؤال عن السّبب الموقع /في ذلك مع استغراب شديد لوقوع الذّنب ممّن هذه حاله, واستطراف عظيم يهيج أسباب التنديم والتّحزين على ما كان. وأمّا آدم - عليه السلام - فجوابه يحتمل وجهين: الوجه الأول: أن يكون قصد تهوين ما ظهر من موسى - عليه السلام - من عظيم الاستغراب, وشديد الاستطراف لوقوع الذّنب منه, فأتى بما يمحو آثار الاستغراب والتّعجّب, ويحسم مادّة الاستنكار العتابي, وهو: سبق العلم, وجفوف القلم بجميع ما كان منه, ولا شك أنّها حجّة مسكتة للمتعجّب من وقوع الشّيء المستغرب له السّائل عن وقوعه بكيف الإنكارية, وبيان ذلك: أنّ الله تعالى لو أخبرنا بوقوع أمر من أفعالنا في وقت ثمّ لم يقع لكان هذا بالضّرورة ممّا يتحيّر العقلاء في الجواب عنه, ويتبلّد الأذكياء في معرفة وجهه, فإذا تقرّر ذلك؛ ثبت أنّ وقوع الشّيء مطابقاً لما مضى فيه من علم الله تعالى غير مستنكر في العقل ولا يدفع في النّظر, إذ من المستقبح أن يقول القائل: كيف وقع ما أخبر الله به مثل ما أخبر؟ أو كيف وقع الذي علم
الفصل الثاني
الله كما علم؟ ولا شك أنّه إذا ثبت أنّ تقدير وقوع خلاف معلوم الله تعالى محارة للعقول, مضلّة للأفهام, لم يصح أن يكون نقيضه كذلك, إذ يستحيل في الشّيء ونقيضه أن يكون وقوع كلّ واحد منهما غريباً في العقل بديعاً في النّظر, فثبت بهذا أنّه لا معنى لاستغراب موسى - عليه السلام - لوقوع ما كتبه الله تعالى على آدم وتعجّبه من ذلك, وثبت بذلك صحّة قول من أوتي جوامع الكلم ((فحجّ آدم موسى)) والله أعلم. الاحتمال الثاني: أن يكون آدم - عليه السلام - فهم من موسى - عليه السلام - أنّه أراد إثارة أحزانه على فعل الذّنب, فقصد التّسلّي بالقدر؛ لأنّه قد خرج من دار التّكليف، ولم يبق عليه (¬1) أن يندم, وهذا وجه لا غبار عليه, أمّا على أصول السّنّة؛ فظاهر, وأمّا على أصول المعتزلة؛ فإنّ تألّم آدم - عليه السلام - في تلك الحال ممكن بشرط العوض من الله تعالى والاعتبار وهما حاصلان, أمّا العوض: فظاهر, وأمّا الاعتبار: فلأنّه يمكن أن يعتبر بذلك أحد من الملائكة -عليهم السلام- أو يعتبر به أحد من المكلّفين الذين عرفوا ذلك بتعريف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فظهر بذلك بطلان ما توهّمه المعترض على كلّ مذهب, وسقوطه على كلّ تقدير. الفصل الثّاني: في بطلان احتجاج الجبريّة بقدر الله تعالى الذي هو علمه السّابق وقضاؤه النّافذ, ولنورد في هذا الفصل فوائد نفيسة من كلام علماء السّنّة وأئمة الحديث, يشتمل على تعريف ماهيّة القدر ¬
عندهم, ويردّ على من يقول بالجبر ممّن ينتحل مذهبهم, فمن ذلك: قول الخطّابي في ((معالم السّنن)) (¬1) ما لفظه: ((قد يحسب كثير من النّاس أنّ معنى القدر من الله سبحانه والقضاء [منه, معنى] الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدّره, ويتوهّم أنّ قوله: ((فحجّ آدم موسى)) من هذا الوجه, وليس كذلك, وإنّما معنى القدر الإخبار عن تقدّم علم الله تعالى بما يكون من /أفعال العباد وصدورها من تقدير منه وخلق لها. وكذا ذكر هذا أبو السّعادات ابن الأثير في ((جامع الأصول)) (¬2) ومحيي الدّين النّووي في ((شرح مسلم)) (¬3). وقال الإمام الجويني في كتابه ((البرهان)) (¬4) ما لفظه: ((إن قيل: ما علم الله أنّه لا يكون, وأخبر عن وفق علمه بأنه لا يكون فلا يكون, والتّكليف بخلاف المعلوم جائز. قلنا: إنّما يسوغ ذلك لأن خلاف المعلوم مقدور في نفسه وليس امتناعه بالعلم بأنّه لا يقع, ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه؛ فالعلم يتعلّق به على ما هو عليه, وتعلّق العلم بالمعلوم لا يغيّره ولا يوجبه, بل يتبعه في النّفي والإثبات, ولو كان العلم يؤثّر في المعلوم لما تعلّق العلم بالقديم. وتقرير ذلك في فنّ الكلام)) انتهى كلامه. ¬
وفي كلام الفخر ابن الخطيب الرّازي أشياء في ذلك فاتني لفظها, وقد ذكرت جملة صالحة ممّا يدلّ على براءة أئمة السّنّة من الجبر, ونقلت في ذلك ألفاظهم من كتبهم الشّهيرة, وأشرت إلى معنى قولهم بخلق أفعال العباد, وقد تقدّم ذلك في ((الوهم الثالث عشر)) من هذا ((المختصر)) (¬1) فخذه من هنالك, فإنّه قد يتوهّم أن قولهم بالاختيار مع قولهم بخلق الأفعال مناقضة صريحة, وليس هذا بلازم من مجرّد إطلاق هذا اللّفظ, مع فرقهم بين خلق الله تعالى وفعله, وقولهم: إن أفعال العباد لا توصف بأنّها فعل الله تعالى, فقد عنوا بخلق الأفعال غير ما توهّمه منهم المعتزلة, ومما يدلّ على ذلك: أنّ العلم لو كان يخرج القادر عن القدرة لقدح ذلك في كونه تعالى قادراً, ولكان تعالى غير قادر على ترك ما علم أنّه سيخلقه, ولا على خلق ما علم أنّه لا يخلقه, ولكان العلم كافياً في إيجاد المخلوقات من غير قدرة ولا خلق, ونحو ذلك مما أجمعت الأمّة بل العقلاء على بطلانه, وقد وردت الآيات الكريمة والأحاديث الصّحيحة بما يدلّ على نفي الجبر وثبوت الاختيار: قال الله تعالى: ((لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها)) [البقرة/286] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث القسم للنساء: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك, فلا تؤاخذني فيما لا أملك)) رواه أبو داود في ((السّنن)) (¬2) , قال ¬
الفصل الثالث
الحافظ ابن كثير الشّافعي في كتابه ((إرشاد الفقيه)) (¬1): ((إنّه حديث صحيح)). وروى مسلم بن الحجّاج في ((صحيحه)) (¬2) من حديث أبي ذرّ ... - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((فمن وجد خيراً فليحمد الله, ومن وجد شراً فلا يلومنّ إلا نفسه)). وفي الأحاديث الصّحيحة من ذلك ما يطول ذكره, والقصد الإشارة, وقد علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعمل ويجتهد في العبادة ويأمر بذلك, ويحترز في الحروب, ويلبس الدّروع, ويستشير في الرّأي ويدبّر الأمور, وقال - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن هذه الشّبهة بعينها: ((اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له)) (¬3) فصلّى الله عليه وسلّم لقد أوتي جوامع الكلم, (2وجمع في اللفظ القليل متفرّقات الحكم (¬4). الفصل الثّالث: في الدّليل على حسن الاحتجاج بالقدر من غير العاصي لله تعالى على ما قدّمنا في (الفصل الأول) من الاعتبار, وعلى شريطة عدم الاحتجاج به على الجبر ونفي الاختيار, والدّليل على ذلك أنّه قد ورد في الشّرع وروداً كثيراً, فمن ذلك قوله تعالى: ((لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)) [الحديد/23] فالله تعالى في هذه الآية الكريمة نصّ على حسن التّسلّي بالقدر, ولا معنى للتّسلّي ¬
إلا القطع بأنّ المقدر واقع لا محالة, وإن كان ممكناً في ذاته لم يخرج تركه عن القدرة, ومن ذلك أنّ المنافقين لما قالوا لإخوانهم: ((لو أطاعونا ما قتلوا)) [آل عمران/168] ردّ الله ذلك عليهم (¬1) , واحتجّ بالقدر فقال تعالى: ((قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم)) [آل عمران/154] , وأصرح من هذه الآية في المقصود قوله تعالى: ((قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)) [آل عمران/168] فسوّى بين القتل الذي هو من فعل المخلوقين, وبين الموت الذي هو من فعله تعالى في أنّه لا يغني الاحتراز من (4القتل كما لا يغني الاحتراز من (¬2) الموت, ومن ذلك قوله تعالى: ((إلا امرأته قدّرناها من الغابرين)) [النّمل/57] فقوله: ((قدّرناها)) تعليل لهلاكها لا خبر مستقبل (¬3) , لأنّه لا يحسن أن يقال: إلا امرأته جعلناها من الغابرين (¬4) , لما لم يكن بينهما ملازمة تصلح للتعليل, ومن ذلك قوله تعالى: ((وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه)) [الإسراء/13] قال في ((الكشّاف)) (¬5): ((أي عمله)) ومنه قوله تعالى: ((وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين)) [الإسراء/4] قال في ((الكشّاف)) (¬6) ¬
في تفسيرها: ((وأوحينا إليهم وحياّ مقضيّاً -أي مقطوعاً مبتوتاً- بأنّهم يفسدون في الأرض لا محالة)) , هذا لفظه مع غلوّه في مذهبه. ومنه قوله تعالى: ((قضي الأمر الذي فيه تستفتيان)) [يوسف/41] وقوله تعالى: ((ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم)) [يونس/19] وقوله تعالى: ((لقد حقّ القول على أكثرهم)) [يس/7] وقول يعقوب - عليه السلام -: ((يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرّقة وما أغني عنكم من الله من شيء)) [يوسف/67] إلى قوله تعالى: ((إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنّه لذو علم لما علّمناه)) [يوسف/68] وقال الزّمخشري (¬1) في تفسيرها: ((خاف أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم)) إلى قوله: ((وما أغني عنكم من الله من شيء)) [يوسف/67] يعني إن أراد الله بكم سوءاً لم ينفعكم, ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التّفرق وهو مصيبكم لا محالة ((إن الحكم إلا لله)) [يوسف/67] ثمّ قال: ((ولمّا دخلوا من حيث أمرهم أبوهم)) [يوسف/68] يعني متفرّقين ((ما كان يغني عنهم)) رأي يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئاً حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرّقهم من إضافة السّرقة إليهم, وأخذ أخيهم بوجدان الصّواع (¬2) في رحله, وتضاعف المصيبة على أبيهم ((إلا حاجة في نفس يعقوب)) استثناء منقطع على معنى: ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها, وهي: شفقته عليهم وإظهارها بما قال لهم ووصّاهم به: ((وإنّه لذو علم لما علّمناه)) يعني قوله: وما ¬
أغني عنكم, وعلمه بأنّ القدر لا يغني عنه الحذر)) انتهى كلام الزّمخشري. وإنّما اخترت كلامه دون كلام غيره من المفسّرين؛ ليكون حجّة على المعترض, فإنّه أنكر احتجاج آدم - عليه السلام - بالقدر, والاحتجاج به والتعزّي والاعتذار مشهور في السّنّة والقرآن, وألسنة أهل الإسلام/, وإذا كان هذا الزّمخشري على أنّه داعية الاعتزال كما ترى, فكيف بغيره!؟ ولم يزل العقلاء يتسلّون بالقدر, وينظمون ذلك في أشعارهم, وقد تداول البلغاء هذا المعنى فقال بعضهم: ما قد قضي يا نفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر ثمّ اعلمي أنّ المقدّر كائن ... حتماً عليك صبرت أم لم تصبري (¬1) وقال آخر: نفذ القضاء بكلّ ما هو كائن ... فأرح فؤادك من لعلّ ومن لو وقال آخر: ومن الدّليل على القضاء وكونه ... بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق وقال آخر: ما ثمّ إلا ما يريـ ... ـــد فألق همّك واسترح واقطع علائقك التي ... يشغلن قلبك واطّرح وهي قصيدة كعب بن زهير الشّهيرة (¬2): ¬
* وكلّ ما قدّر الرّحمن مفعول * ونحو هذا مما لا سبيل إلى التقصّي عليه ممّا اشتهر بين المسلمين من غير نكير على المتعزّي به, فكيف أنكر المعترض ما لا يخفى!؟ فإن قال: إنّما أنكر ذلك لوقوعه من آدم - عليه السلام - جواباً على من لامه على الذّنب, والمذنب لا يجوز له أن يتسلّى بالقدر. فالجواب: أنّ ذلك صحيح في حقّ المذنب, ولكن آدم - عليه السلام - تائب من الذّنب, والتّائب من الذّنب كمن لا ذنب له. وعلى هذا الجواب بحث, وهو أن يقال: إنه لا يحسن من التّائب منّا أن يتسلّى بالقدر, بل المشروع من التّائب (¬1) أن يلوم نفسه ويتذكّر ما يهيج حزنه على ما فرط منه كما لم يزل عليه أهل الصّلاح. فالجواب على هذا البحث: أنّ المبالغة في النّدم بعد التّوبة إنّما لزمتنا لبقاء توجّه التّكليف علينا, وأمّا آدم - عليه السلام - فإنّه ما تكلّم بهذا إلا بعد الخروج من دار التّكليف, ولا شكّ أنّه لا يلزم المكلّف في دار الآخرة أن يتأسّف على ما فرط منه, ولو كان ذلك لازماً في دار الآخرة؛ للزم في أهل الجنّة وحسن منهم ولا قائل بهذا, وهذا هو لباب الجواب في هذه المباحث, وقد اقتصرت على هذا ((المختصر)) وقد أودعت ((الأصل)) (¬2) أكثر من هذا, ولولا لجاج الخصم الألدّ ما احتجنا إلى ذكر هذا ولا بعضه, نسأل الله السّلامة, ونرغب إليه في الاستقامة!. ¬
حديث موسى وملك الموت وعنه جوابان معارضة وتحقيق
وقد أورد المعترض في الحديث ما ليس منه, فروى عن آدم - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال -بعد ذكر تقدير الله ذلك عليه-: ((وخلقه فيّ قبل أن يخلقني بألفي عام)) , وأوهم المعترض أنّ هذه الرّواية في الصّحاح, والصّحاح برئية من هذا الإفك, فخلق المعصية في آدم قبل أن يخلق محال, والشيء لا يكون ظرفاً لغيره في حال العدم, وكم بين هذه الرواية وبين ما ثبت في دواوين الإسلام!!. الحديث السّادس: حديث موسى وملك الموت -عليهما السلام-, وقد جعله المعترض ختام الأحاديث التي لا يمكن تأويلها, لمّا لم يعرف وجه ما ورد فيه من لطم موسى للملك -عليهما السلام- حين جاء الملك ليقبض روحه الشّريفة, وعن هذا الحديث جوابان: معارضة وتحقيق. أمّا المعارضة: فإنّه قد ورد في القرآن العظيم أنّ موسى أخذ برأس أخيه -عليهما السلام- يجرّه إليه, وذلك من غير ذنب علمه من أخيه, ولا دفع مضرّة خافها منه, وأخوه هارون نبي كريم بنص القرآن وإجماع المسلمين/, وحرمة الأنبياء مثل حرمة الملائكة, وقد بطش موسى بهارون بطشاً شديداً, ولهذا قال هارون متلطّفاً ومستعطفاً له: يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي, ولا برأسي, ولا تشمت بي الأعداء, فإن كان المعترض يكذّب القرآن فذلك حسبه من الكفران, وإن كان يتأوّل أفعال الأنبياء -عليهم السلام- على ما يليق حسب الإمكان, ويرجع فيما لم يمكن تأويله إلى الإيمان؛ فما باله لا يفعل مثل ذلك في الأحاديث الصّحيحة والسّنن المأثورة؟ وما له والتقحّم في المهالك,
وأما التحقيق: فيه وجهان
والميل إلى متوعّرات المسالك, والقطع بتكذيب الرّواة, والمتابعة لبادىء رأيه وهواه؟. فإن قال: إنّ موسى - عليه السلام - إنّما فعل ذلك غضباً لله تعالى؛ لأنّه ظنّ أن هارون قصّر في النّهي عما فعل قومه من عبادة العجل ومجاوزته للحدّ في الغضب لأجل مجاوزة فعلهم للحدّ في القبح, ولما بقي عليه من طبيعة البشر في الغضب, وقد ورد في ((الصّحيح)) (¬1) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهمّ إنّي بشر آسف كما يأسف البشر)) فكذلك موسى - عليه السلام -. قلنا: هذا كلام صحيح, ولكن يجب أن نتطلب لما ورد في السّنّة وجهاً حسناً -أيضاً- كما تطلّبنا مثل ذلك لما ورد في القرآن العظيم, فنقول وهو التّحقيق: إنّ ذلك يحتمل وجهين: الوجه الأوّل (¬2): وهو المعتمد أن يكون الملك أتاه على صورة رجل من البشر, ولم يعرف أنّه ملك, مثل ما أتى جبريل - عليه السلام - إلى مريم البتول -رضي الله عنها- فتمثّل لها بشراً سويّاً ففزعت منه فقالت: إنّي أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّاً, ولو علمت أنّه جبريل الأمين لما استعاذت منه, فلمّا أتى ملك الموت إلى موسى ¬
على هذه الصّفة, وأراد أن يقتله دفع موسى عن نفسه. فإن قلت: أليس في الحديث أنّ ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال: يا ربّ أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وهذا يدلّ على أنّه قد أخبره أنّه ملك الموت, وأنّه جاء لقبضه. والجواب: أنّ هذا لا يدلّ على معرفة موسى لملك الموت, لأنّ معرفة ملك الموت لكراهة موسى للموت لا تستلزم معرفة موسى للملك بنصّ ولا مفهوم, ولا معقول ولا مسموع, ولو أنّ الملك جاء على صورة البشر وادّعى أنه ملك, ولم يظهر لموسى ما يدلّ على صدقه, ولا خلق الله فيه علماً ضروريّاً بذلك, لم يكن لموسى أن يصدّقه في ذلك, وإلا جاز أن يدّعي بعض شياطين الجنّ أو الإنس مثل ذلك على الأنبياء -عليهم السّلام- ويجوز عليهم, وهذا ما لا يجوز أبداً. ويدلّ على ما ذكرناه من عدم (¬1) معرفة موسى للملك: أنّه قد ثبت في الحديث الصّحيح أنّ الله تعالى لا يقبض نبيّاً حتّى يخيّره (¬2) , فلمّا جاء ملك الموت لقبض روح موسى من غير تخيير, أمكن أن يكون موسى قد علم أنّه لا يقبض حتّى يخيّر, فشكّ في صدقه لذلك, والذي يدلّ على هذا دلالة ظاهرة, أنّه قد ورد في هذا الحديث بعينه أنّ ¬
الوجه الثاني
ملك الموت لما رجع إلى موسى - عليه السلام - وخيّره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم, ويؤيد هذا أنّ الله تعالى لو أراد موته في المرة الأولى, وتسليط الملك عليه لنفذ مراد الله فيه, ولم يقدر على دفع ملك الموت, ولكن الله تعالى أراد الذي كان منه لحكمة بالغة, وليعلم من يثبت إيمانه, ومن يستحوذ عليه شيطانه, كما قال تعالى في تحويل القبلة: ((وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه)) [البقرة/143] وبمثل هذه الأمور يميز الله الخبيث من الطّيب, والمؤمن من المتريّب, نسأل الله أن يثبّت قلوبنا على الإيمان, ويعصمنا من وساوس الشّيطان. الوجه الثّاني: أن نقول: سلّمنا أنّ الملك /جاء إلى موسى -عليهما السلام- على صورة (¬1) يعرفه عليها, ولكن ما المانع أن يكون موسى فعل ذلك وقد تغيّر عقله, فإنّ تلك الحال مظنّة لتغيّر العقول, فقد خرّ موسى صعقاً لأجل اندكاك الطّور, فكيف بهول المطلع, فإنّه عند العلماء بجلال الله -سبحانه وتعالى- أعظم وأجلّ من اندكاك الجبل, وهذا الاحتمال ايضاً يمكن فيه حالان: أحدهما: أن يكون الملك أتاه وقد تغيّر عقله من غمرات الألم, وسكرات النّزع. وثانيهما: أن يكون جاءه وهو صحيح غير أليم, وإنّما تغيّر عقله حين أخبره بأزوف الرّحلة من دار العمل, وانقطاع المهلة والأمل, وذلك لأنّ أمل الأنبياء -عليهم السلام- عظيم في الترقّي في مراتب ¬
الخدمة لله تعالى, وبلوغ أقصى المراتب في ذلك, والآخرة دار انقطاع من ذلك, فارتاع موسى - عليه السلام - لذلك, ويحتمل غير ذلك مما يحتاج إلى تأويل بعض ألفاظ الحديث فتركته اختصاراً. وأمّا ما ورد من أنّه فقأ عين الملك فقال ابن قتيبة (¬1): ((أذهب موسى العين التي هي تخييل وتمثيل وليست على حقيقة خلقته, وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته الرّوحانية كما كان لم ينقص منه شيء)). والوجه في الحديث عندي هو الأوّل, وإنّما ذكرت الوجه الثّاني لبيان سعة المحامل لمن طلبها, وتعريف المعترض ببطلان ما توهّم من عدم إمكان تأويل هذا الحديث. * * * ¬
كلام المعترض على كفار وفساق التأويل والكلام فيها يشتمل على فوائد
ثم إنّ المعترض قدح على أهل الصّحاح بروايتهم لأحاديث فسّاق التأويل, وكفّار التأويل, (1وادّعى الإجماع على تحريم قبول كفّار التّأويل (¬1) , والقطع على تحريم قبول فسّاق التّأويل, وركب الصّعب والذّلول في استنتاج (¬2) القطع بذلك من الأدلّة الظّنّيّة, وقد أوردت كلامه بلفظه في ((الأصل)) (¬3) واستوفيت نقضه, واستوعبت الكلام فيه في قدر سبعين ورقة كباراً, وبلّغت ما يرد عليه من الإشكالات إلى نيّف ومئتي إشكال, وقدر رأيت أن أقتصر في هذا ((المختصر)) على نكت يسيرة من ذلك فأقول: الكلام في أهل التأويل يشتمل على فوائد: الفائدة الأولى: في تعريف المعترض أنّ في كلامه هذا هدم قواعد مذهبه, وخالف جميع سلفه, وكذّب ثقات أصحابه, وقدح على كبار أئمته, وذلك أنّ الظّاهر من مذهب الزّيديّة قبول أهل التّأويل مطلقاً كفّارهم وفسّاقهم, وادّعوا على جواز ذلك إجماع الصّحابة -رضي الله عنهم-, وذلك في كتب الزّيديّة ظاهر لا يدفع, مكشوف لا يتقنّع. ولنذكر هنا ثماني طرق للإجماع, من طريق أئمة الزّيديّة وعلمائهم, الذين يجب عند (¬4) المعترض قبول رواياتهم: الطريق الأولى: عن الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة, فإنّه ادّعى الإجماع على ذلك في كتابيه ((صفوة الاختيار)) , و ((المهذب)) لكنّه في ((الصفوة)) بالنّصّ الصّريح, وفي ((المهذّب)) بالعموم الظّاهر. ¬
الطّريق الثانية: طريق الإمام يحيى بن حمزة ذكره في ((الانتصار)) في كتاب الأذان مرّة, وفي كتاب الشّهادات أخرى. الطّريق الثّالثة: طريق القاضي زيد بن محمد صاحب ((شرح التحرير)) (1ذكرها في ((شرح التحرير)) (¬1) في كتاب الشّهادات, ورواها عنه الأمير الحسين في ((التقرير)). الطّريق الرّابعة: طريق الفقيه عبد الله بن زيد العنسي ذكرها في كتابه ((الدّرر المنظومة)) في أصول الفقه. الطّريق الخامسة: طريق الشّيخ أبي الحسين البصريّ المعتزليّ ذكرها في كتابه ((المعتمد)) (¬2) في أصول الفقه. الطّريق السّادسة: طريق الحاكم أبي سعيد المحسّن بن كرّامة المعتزلي ذكرها في كتابه ((شرح العيون)). الطّريق السّابعة: طريق الشّيخ /الحسن بن محمد بن الحسن الرّصّاص الزّيدي رواها عنه حفيده أحمد بن محمد بن الحسن في كتابه ((غرر الحقائق)) (¬3). الطّريق الثّامنة: طريق حفيده هذا أحمد بن محمد الرّصّاص ذكرها في كتابه ((جوهرة الأصول)). وفي هؤلاء من اقتصر على دعوى الإجماع, على قبول فسّاق التّأويل دون الكفار, ومنهم من ادّعى الإجماع على قبول كفّار التّأويل ¬
ذكر ثمانية طرق للزيدية لإثبات قبولهم فساق التأويل وكفاره
أيضاً, وهم: الإمام يحيى بن حمزة في ((الانتصار)) [نصّاً] (¬1) صريحاً, والإمام المنصور في ((المهذّب)) عموماً ظاهراً, وعبد الله بن زيد في ((الدّرر)) نصّاً صريحاً, والقاضي زيد في ((الشّرح)) كذلك. وقال المؤيّد في ((اللّمع)) -الذي هو مدرس الزّيديّة- في كفّار التّأويل ما لفظه: ((فعلى هذا شهادتهم جائزة عند أصحابنا)) ثبت هذا اللّفظ عنه في كتاب ((اللّمع)) وكتاب ((التقرير)) وهذا في الشّهادة التي هي آكد من الرّواية, وأكثر من هذا أنّ السّيد أبا طالب قال في كتاب ((اللّمع)): ((إنّ كلّ من قبلهم ادّعى الإجماع على ذلك, وهذا يدلّ على أنّ المدّعين للإجماع عدد كثير من ثقات العلماء وأهل المعرفة التّامّة, فكيف يجترىء المعترض بالقدح بذلك على المحدّثين موهماً أنّه لا يذهب إلى جواز لك أحد من الزّيديّة والمعتزلة, وقد أجمعت الزّيديّة على قبول مراسيل من يقبل من كفّار التّأويل وفسّاقه؛ كالمنصور بالله والمؤيد بتخطئة المجتهدين الذين قبولهم وبنوا الأحكام على روايتهم, ويستلزم ذلك عدم الاعتداد بأقوالهم, وانعقاد الإجماع على رءوسهم, وتحريم التقليد لهم, ونحو ذلك من الشّناعات المستلزمة لمخالفة الإجماع. الفائدة الثّانية: في بيان كلام أئمة الحديث في ذلك, فقد ذكروا في فسّافق التأويل أقوالاً: الأول: أنّهم لا يقبلون كالمصرّحين, يروى عن مالك, وقال ابن ¬
الصّلاح (¬1): ((إنه بعيد مباعد للشّائع عن أئمة الحديث, فإنّ كتبهم طافحة بالرّواية عن المبتدعة غير الدّعاة)) كما سيأتي. الثّاني: أنّه إن كان يستحلّ الكذب لنصرة مذهبه لم يقبل, وإلا قبل, وهو مذهب أحمد, كما قال الخطيب. قال ابن الصّلاح (1): وهذا مذهب الكثير أو الأكثر, وهو أعدلها وأولاها. قال ابن حبّان: ((هو قول أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم فيه خلافاً)) وكذا حكى بعض أصحاب الشّافعي عن أصحاب الشّافعي أنّهم لم يختلفوا في ذلك (¬2). وأمّا كفّار التّأويل فمن لم يكفّرهم فحكمهم عنده على ما تقدّم, وأمّا من كفّرهم فحكى زين الدّين ابن العراقي (¬3) عن الحافظ الخطيب البغدادي الشّافعي أنّه حكى عن جماعة من أهل النّقل والمتكلّمين أنّهم يقبلون أهل التّأويل وإن كانوا كفّاراً, قال زين الدّين: واختاره صاحب ((المحصول)). قلت: الجمهور منهم على ردّ الكافر, قال زين الدين: ونقله السّيف الآمدي عن الأكثرين/, وبه جزم أبو عمرو ابن الحاجب. ¬
الفائدة الثالثة: حجج القابلين لهم والرادين
وقال صاحب ((المحصول)) (¬1): ((الحقّ أنّه إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته, وإلا فلا, لأنّ اعتقاده حرمة الكذب يمنعه منه)). الفائدة الثّالثة: في ذكر بعض حجج القابلين لهم والمخالفين في ذلك, أمّا القابلون لهم فلهم حجج: الحجّة الأولى: الإجماع, وبيانه أنّ أهل الحديث وأهل السّنة قاطبة أجمعوا على صحة حديث ((الصّحيحن)) , مع أنّ في حديثهما ما هو مستند إلى المبتدعة: القدريّة والمرجئة وغيرهم, من غير ظهور متابعة, ولا استشهاد, ولا تصريح من البخاري ومسلم بأنّ المتأوّل غير مقبول عندهما, فيجب حملهما على معرفة متابعات وشواهد تقوّي حديث أولئك المبتدعة, ويجب الحكم بصحّة حديثهم لأجل تلك المتابعات والشّواهد, لا لأجل الثّقة لهم. هذا إجماع ظاهر من أهل السّنة. وأمّا المعتزلة والشّيعة: فقد ذكرنا رواية ثقاتهم للإجماع على ذلك, وذكرنا إجماعهم على الرّجوع إلى ((الصّحيحين)) وغيرهما من كتب أهل السّنة, وبيّنا أنّهم يقبلون مراسيل من يقبل أهل التّأويل, وأنّه لا يمكنهم تمييز حديثهم من حديث أهل التّأويل عندهم ألبتّة. فإن قيل: كيف نصغي إلى دعوى الإجماع, وقد علم وقوع الخلاف؟. قلنا: ذلك يصحّ؛ لأنّ الإجماع المدّعى ليس بإجماع جميع ¬
الأمّة, وإنّما هو إجماع أهل عصر منهم, وهو إجماع الصّدر الأوّل من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم, فإنّ أهل العصر قد يجمعون فيعلم إجماعهم بعض أهل العلم فيرويه ويتبعه, ولا يعلم ذلك بعض أهل العلم فيخالف, ويروى الخلاف والإجماع, ومثل هذا كثير الوقوع, وقد عيّن كثير من أهل العلم ذلك العصر المدّعى إجماع أهله, وذكر أنّه عصر الصّحابة والتّابعين, واحتجّوا بإجماع الصّحابة على قبول القائمين على عثمان - رضي الله عنه - من الصّحابة, ممّن روى هذا أبو عمرو بن الحاجب في ((مختصر المنتهى)) (¬1) وأجاب عنه بوجهين: الأوّل: عدم تسليم الإجماع. وهذا الوجه ليس بشيء, لأنّ راوي الإجماع إذا كان ثقة عارفاً مطّلعاً موافقاً في الطّريق التي يعرف بها ثبوت الإجماع؛ وجب قبوله كما يجب قبول راوي الحديث. ولم يعارض إلا بنقل الخلاف بطريقة صحيحة, ولو جاز مقابلة نقلة الأدلّة بذلك أمكن ردّ كلّ راوٍ وتكذيب كلّ عالم. الوجه الثّاني: أنّه يجوز أنّهم قبلوا حديث أولئك لعدم اعتقادهم فسقهم, أو لتوقّفهم في ذلك, أو لعدم معرفتهم بوقوع ذلك منهم, أو لاعتقاد بعضهم إصابتهم. والجواب عنه من وجوه: الأول: أنّه إذا روى الإجماع ثقة لم يقدح تجويز وهمه في روايته ¬
لما لا حقيقة له, ولو قدح بمثل ذلك في هذا الإجماع أمكن/ القدح بمثله في كلّ إجماع, بل في كلّ رواية طريقها النقل في الأخبار واللّغات ونحوها, فيقال في الخبر المرفوع: لعلّ السّامع له وهم أنّه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وإنّما حكاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن غيره, أو لعلّه توهّمه مرفوعاً وهو موقوف, أو مسنداً وهو مقطوع, أو نحو ذلك. الوجه الثّاني: أنّ مدّعي الإجماع ادّعى العلم, ومن ردّ ذلك لم ينقل خلافاً في ذلك وإنّما استبعد أن يعلم ذلك غيره مع أنّه لا يعلمه, ومن علم حجّة على من جهل, وقد يختلف النّاس في معرفة أخبار السّلف وأحوالهم, ويحصل لبعض العلماء بشدّة البحث للأخبار والتّواريخ علم بأمور كثيرة لا يشاركه فيها غيره, وفي قبول مدّعي الإجماع حمل الجميع على السّلامة أمّا المدّعي فلظنّ صدقه وتورّعه عن رواية ما لا يعرف, وأمّا المنكر فلظنّ عدم معرفته لما عرف مدّعي الإجماع, وحمله على عدم العناد, وعلى أنّه لو عرف لوافق. الوجه الثّالث: أنّ اختلافهم في العلّة لا يقدح في صحّة التّمسّك بالإجماع, كما لو أجمعوا على قتل رجل اختلفوا في العلّة, فقيل: بالقصاص, وقيل: بالرّدة, وقيل: بغير ذلك, فإن قتله يجوز قطعاً, وكذلك قبول رواية فاسق التأويل إذا أجمعوا عليه واختلفوا في علّته, فمنهم من قبله لأن فسق التأويل لا يوجب ردّ الرّواية, ومنهم من قبله؛ لأنّ مذهبه أنّه ليس بفسق عنده, فإنّ حديث ذلك الرّجل يكون مقبولاً بالإجماع, وأمّا فسقه فمأخوذ من دليل آخر. ويتعلّق بهذا بحث دقيق يتعلّق بالحديث المتلقّى بالقبول؛ هل
الحجة الثانية
نقطع بصحّته أم لا؟ وقد اختلف العلماء فيه وأوضحته في ((الأصل)) بما لا مزيد عليه. الوجه الرّابع: وهو المعتمد أنّا وإن سلّمنا عدم العلم بإجماع الصّحابة على ذلك فلا نسلّم عدم العلم بإجماع المتأخّرين على قبول ما اتّفق البخاري ومسلم على تصحيحه من حديث المبتدعة, وقد قدّمنا بيان إجماع المعتزلة والشّيعة على ذلك, وبيّنا اضطرارهم إلى القول به, وبسطناه في ((الأصل)) بسطاً يضطر المعاند إلى الوفاق, ويخضع له منهم أهل اللّجاج والشّقاق, ومن وقف على كلام أبي عبد الله الذّهبي في ((ميزان الاعتدال في نقد الرّجال)) (¬1) أيقن أنّه لا سبيل إلى رواية السّنن إلا على هذه الطريقة. ولله درّ الإمام الشّافعي - رضي الله عنه - ما أوضح مناره وأقوى أنظاره, وأصحّ اختياره, وأحسن اعتباره! فهذه نبذة يسيرة ممّا يتعلّق بالحجّة الأولى وهي حجّة الإجماع. الحجّة الثّانية: أنّ الأمّة أجمعت على أنّه يحرم على العالم ¬
الحجة الثالثة
العمل بالعموم مع ظنّ وجود الخاصّ, والعمل بالحديث الظّنّي مع ظنّ وجود ناسخه, والعمل بالقياس مع ظنّ وجود النّصّ, ولا شكّ أنّ أخبارهم توجب ظنّ وجود الخاصّ والنّاسخ والنّصّ المانعة من العمل بالعامّ والمنسوخ والقياس. الحجّة الثّالثة: أنّ في ردّ حديثهم مضرّة مظنونة, ودفع المضرّة عن النّفس واجب./ وأمّا أنّ في ذلك مضرّة مظنونة فذلك معلوم؛ فإنّ أهل الصّدق والأمانة لو أخبرونا بأنّ الطّعام مسموم؛ لوجب علينا تجنّبه عند الأشعرية والمعتزلة عقلاً وشرعاً, وإذا كان هذا في مضارّ الدّنيا -مع حقارتها- فكيف إذا أخبرونا بأنّ فعل بعض الأمور يغضب الله جلّ جلاله, ويستحقّ به عقابه ونكاله. الحجّة الرّابعة: أنّه يحصل بخبرهم الظّنّ, والعمل بالظنّ حسن عقلاً, أمّا عند المعتزلة فظاهر, وأمّا عند الأشعرية فلأنّ الفخر الرّازي ذكر في ((المحصول)) وغيره أنّهم لم يخالفوا في هذا القدر, وإنّما خالفوا في أنّ تارك ما أوجبه العقل يستحق الذّمّ عاجلاً والعقاب آجلاً. وتقرير هذا الوجه: أنّ العقلاء اتّفقوا على حسن الخبر والاستخبار, واعتمدوا في المهمّات على إرسال الرّسول, وكتابة الكتّاب, وبعث النّذير إلى من يخاف عليه, والطّليعة إلى من يُخاف منه, وكلّ هذا لا يفيد إلا الظّنّ, وكذلك تصرّفاتهم فإنّ عامّتها مبنيّ على استحسان العمل بالظّنّ, فسفر التّاجر على ظنّ الرّبح, وزرع الزّارع على ظنّ التّمام, وغزو الملوك على ظنّ الظفر, وقراءة القرّاء على ظنّ حصول المعرفة, ولهذا فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث رسله إلى
الحجة الخامسة
أهل عصره يخبرونهم بالشّريعة ويبلّغونهم الأحكام اتفق أهل ذلك العصر بفطر عقولهم السّليمة على وجوب العمل بما أخبرهم به رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يعلموا جواز ذلك بنصّ شرعيّ متواتر قطعي, ومن غير أن يستقبح ذلك منهم أحد, ولم يختلفوا ويتناظروا في ذلك, فثبت بهذا أنّ العمل بالظّنّ حسن عقلاً, وأن العمل له لم يزل بين المسلمين ظاهراً قديماً وحديثاً, ولا يخص من ذلك إلا ما خصّه الدّليل الشّرعي, وقد تعرّض ابن الحاجب لإبطال هذا الوجه فلم يأت بشيء, ولولا خوف التّطويل لبيّنت ذلك. الحجّة الخامسة: قوله تعالى: ((فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى فله ما)) [البقرة/275] وقوله تعالى: ((فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى)) [طه/123] وأمثال ذلك, وهذا عام في كلّ ما جاء عن الله, سواء كان من كلامه -سبحانه- أو على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وسواء كان معلوماً أو مظنوناً, بل الأكثر من ذلك هو الذي جاء مظنوناً, وقد ثبت أنّ معنى القرآن الكريم منقسم إلى: معلوم ومظنون, وأنّا متعبّدون بهما معاً, وأنّ المعنى المظنون من جملة ما جاءنا من عند الله تعالى, فكذلك السّنّة فيها معلوم ومظنون, وكلّ منهما مما جاءنا من عند الله. الحجّة السّادسة: قوله تعالى: ((وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السّعير)) [الملك/10] فذمّهم الله تعالى بعدم الاستماع على الإطلاق, ولابدّ من تقييده بعدم استماع ما جاء من عند الله تعالى من معلوم أو مظنون, وإنّما قدّرنا ذلك لأنّ تقدير المعلوم وحده على خلاف الإجماع, فإنّ الأمّة أجمعت على وجوب الرّجوع إلى الأدلّة
الحجة السابعة
الظّنية من المعاني القرآنية/ والأخبار الآحادية, وإنّما لم يؤثّموا المجتهدين إذا خالفوا شيئاً من الأدلّة الظّنيّة؛ لأنّهم اتّبعوا ما ظنّوا صحّته. الحجّة السّابعة: قوله تعالى: ((خذوا ما آتيناكم بقوّة واذكروا ما فيه لعلّكم تتقون)) [البقرة/63] وهي عامّة في كلّ ما آتانا الله من معلوم ومظنون, وقد ثبت في ((الصّحيح)) (¬1) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) فيجب بذل الاستطاعة في تعرّف ما آتانا الله تعالى من معلوم ومظنون, فأعلى المراتب: أن نعلم اللفظ والمعنى, ودون ذلك: أن نعلم اللفظ ونظنّ المعنى. ودون ذلك: أن نعلم المعنى ونظنّ اللّفظ أو نظنّهما معاً, على أنّ في علم المعنى مع ظنّ اللفظ بحثاً ليس هذا موضعه. الحجّة الثّامنة: قوله تعالى: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) [المائدة/44] وفي آية: ((الفاسقون)) [المائدة/47] وفي آية ((الظّالمون)) [المائدة/45] وقد ثبت أنّ ما أنزل الله منقسم إلى معلوم ومظنون وقد مرّ تقريره. الحجّة التّاسعة: حديث الحسن بن علي -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) وهو حديث حسن معمول به, ذكره النّووي في ((مباني الإسلام)) وحسّنه (¬2) وأخرجه ¬
الترمذي في ((جامعه)) (¬1) وهو يصلح حجّة في المسألة هو وما في معناه من الحديث, لمن ثبت له صحته من غير طرق المبتدعة بفسق أو بكفر, وهو يدلّ على قبول من يظنّ صدقه لأنّ ردّه مما يريب. فإن قلت: إنّ تصديقهم مما يريب أيضاً. فالجواب من وجهين: أحدهما: أنّا لا نسلّم أنّ ذلك يسمّى ريباً؛ لأنّه راجح مظنون, والرّاجح المظنون صحته لا يسمّى تجويز خلافه ريباً في اللغة, فإنّ الإنسان إذا غاب من منزله ساعة من نهار, وعهده بعمارته قائمة صحيحة؛ فإنّه لا يسمّى مريباً في انهدام الدّار, وإن كان يجوز ذلك, وكذا إذا أخبره ثقة بخوف عدوّ, فإنّه يسمى مريباً من خوف العدوّ لا صدق الثّقة الذي أخبره. الوجه الثّاني: أنّا لو سلّمنا أنّ ذلك يسمّى ريباً لما سلّمنا سقوط التّكليف بقبولهم, وذلك لأنّ في قبولهم ريباً مرجوحاً, وفي ردّهم ريباً راجحاً, ولا شكّ أنّ الاحتراز من المضرّة الرّاجح وقوعها أولى من الاحتراس من المضرّة المرجوح وقوعها, وإلا لزم قبح التّصديق للنذير, وإن كان ثقة, لتجويز الكذب أو الوهم عليه, ونحو ذلك, ويعضد هذا المعنى كلّ ما ورد فيه مثل حديث: ((الحلال بيّن والحرام بيّن, وبينهما أمور مشتبهات, فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) (¬2) الحديث, وهو صحيح, ويدخل في الشّبهات, ارتكاب ما ¬
الحجة العاشرة
رووا تحريمه, وترك ما رووا وجوبه, بل هو أقرب إلى الحرام؛ لأنّه من قبيل ارتكاب ما يغلب على الظّنّ تحريمه, فتأمّل ذلك ونظائره في الحديث. الحجّة العاشرة: أنّه يحرم عليهم كتم ما يعرفونه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ورد في تحريم ذلك من القرآن والسّنّة والإجماع, فلا يرتفع وجوب ذلك عنهم إلا بدليل يعارض أدلّة تحريم كتم العلم في القوّة والظّهور, ولا شكّ أنّه لا يوجد ما يماثل ذلك في إسقاط تحريم الكتم عليهم, وإذا ثبت أنّه يجب عليهم التّبليغ ويحرم عليهم الكتم/ ثبت أنّه يجب قبولهم وإلا لم يكن لتبليغهم فائدة, ولا لوجوب ذلك عليهم معنى. وأمّا المصرّح بالكفر والفسق؛ فغير متعبّد بذلك في حال فسقه, لانعقاد الإجماع على اشتراط توبته في القبول. وأمّا المتأوّل؛ فلم ينعقد الإجماع على ذلك بل ادّعى غير واحد من أهل الفقه انعقاد الإجماع على قبولهم كما قدّمنا فافترقا. وفي هذا بحث لطيف تركته اختصاراً. وهذه عشر حجج اختصرتها من نيّف وثلاثين حجّة ذكرتها في ((الأصل)) (¬1) , وأردفتها بذكر بضعة عشر مرجّحاً لقبولهم على ردّهم. وأمّا الرّادّون لحديث كفار التّأويل وفسّاقه, فقد احتجّوا بأمور ¬
الحجة الأولى: والجواب عليها
ضعيفة, وقد أوردتها في ((الأصل)) (¬1) وأضحت الجواب عليها, وأنا أورد هنا أقوى ما تمسّكوا به, وألوّح إلى جمل كافية في الجواب على ذلك. فممّا احتجّوا به قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة)) [الحجرات/6]. قال المعترض: وهذا في معنى العموم كأنّه قال: إن جاءكم فاسق أيّ فاسق. والجواب من وجوه: الوجه الأوّل: أنّ المتأوّل لا يستحق اسم الفسوق في عرف العرب؛ لأنّه في عرف أهل اللّغة: الذي يتعمّد ارتكاب الفواحش تمرّداً أو خلاعة, وليس هو من يكفّ نفسه عن كلّ ما يعلم تحريمه أو يظنّه, ولا يفعل قبيحاً إلا بتأويل, وإذا لم يكن يسمّى فاسقاً في عرفهم لم تتناوله الآية, سواء كان يسمّى في وضع اللغة أم لا, لأنّ الحقيقة العرفية مقدّمة على الحقيقة اللّغوية, والذي يدلّ على ذلك العرف آيات كثيرة, منها: قوله تعالى في الكفّار: ((وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين)) [الأعراف/102] وقوله تعالى في المشركين: ((كيف يكون للمشركين عهد عند الله -إلى قوله- وأكثرهم فاسقون)) [التوبة/7 - 8] وقوله تعالى في اليهود: ((وأنّ أكثركم فاسقون)) [المائدة/59] وهذه الآيات الكريمة دالّة على أنّ في المشركين وسائر الكفّار من ليس بفاسق, وقد فسّر الزّمخشري هذه ¬
الآيات على المعنى الذي ذكرته, فقال (¬1) في قوله تعالى: ((وأكثرهم فاسقون)) [التوبة/8] ((متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم, ولا شمائل مرضيّة تردعهم, كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التّفادي عن الكذب والنّكث, والتّعفّف عمّا يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السّوء)) انتهى. وهو تصريح منه بما ذكرته في تفسير الفاسق, فكيف يدخل فيه المتأوّل المتعبّد المتورّع المتخشّع!؟ وقد فهم هذا المعنى في هذه الآية بخصوصها غير واحد من أهل العلم بتفسير كتاب الله تعالى, فقال عبد الصّمد (¬2) في تفسيرها: سمّى الله الوليد فاسقاً لكذبه الذي وقع به الإغراء, وقال القرطبي في هذه الآية في ((تفسيره)) (¬3): ((وسمّى الله الوليد فاسقاً أي: كاذباً)) قال القرطبي (¬4): ((وقال العلماء: الفاسق ¬
الكذّاب, وقيل: الذي لا يستحي من الله)). انتهى كلامه. وفيه شهادة للمعنى الذي ذكرته, أقصى ما في الباب: أنّ هذا الاحتمال غير ظاهر, لكنّه محتمل غير مرجوح, وذلك يمنع من الاحتجاج بها في المتأوّلين. الوجه الثّاني: أنّ الله تعالى قال: ((إن جاءكم فاسق بنبأ فنبيّنوا)) [الحجرات/6] ولم يقل: فلا تقبلوه, والتّبيّن هو تطلّب/ البيان, وليس القطع على أنّه كاذب يسمّى تبيّناً في اللغة ولا في العرف ولا في الشّرع, وقد جاء الأمر بالتّبيّن في القرآن الكريم, وليس المراد به الرّدّ والتّكذيب, وذلك في قوله تعالى في سورة النّساء: ((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا)) [النساء/94] فروى البخاريّ ومسلم (¬1) من حديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّ المسلمين لحقوا رجلاً في غُنيمة له, فقال: السّلام عليكم, فقتلوه وأخذوا غُنيمته فنزلت, وهو حديث صحيح مرويّ من غير طريق, فثبت أنّ التّبيّن طلب البيان لا ردّ المتّهم. فنقول: من جملة التّبيّن أنّا ننظر إلى المخبر أهو من أهل الصّدق والتّحري أم لا؟ فإن لم يكن منهم لم نقبله, وإن كان منهم نظرنا هل أخبرنا بأمر يتعلّق بحقوق المخلوقين, أو بأمر من أمور (¬2) الدّين, فإن كان ممّا يتعلّق بأمر الدّين؛ اكتفينا فيه بظنّ صدقه وأمانته ما لم يجرح بأمر يعارض أدلّة قبوله, وإن كان في حقوق المخلوقين لم نصدقه حتّى ¬
يشهد معه شاهد آخر غالباً, ولا شكّ أنّ الآية نزلت في حقوق المخلوقين وأنّ الوليد لم يكن في المتأوّلين باتّفاق العارفين. الوجه الثّالث: أنّ الله تعالى علّل التبيّن بخوف الإصابة بالجهالة, وهذه العلّة غير حاصلة في خبر المتديّن (¬1) , فإنّ خبره يفيد الظّنّ الرّاجح وذلك لا يسمّى جهالة لوجهين: الوجه الأوّل: أنّه يسمّى علماً في لغة العرب لقوله تعالى: ((وما شهدنا إلا ما علمنا)) [يوسف/81] وغير ذلك, وما ثبت أنّه يسمّى علماً في لسان العرب فلا يسبق إلى الفهم أنّه يسمّى جهالة, ولا يجوز ذلك إلا بدليل. الوجه الثّاني: وهو المعتمد أنّا نظرنا في الجهالة هل هي عدم العلم أو عدم الظّنّ؟ فوجدناها عدم الظّنّ لا عدم العلم, وإنّما قلنا ليست عدم العلم؛ لأنّ العلم لا يحصل أيضاً بخبر المسلم الثّقة ولا بخبر الثّقتين, فثبت أنّ الجهالة تنتفي بحصول الظّنّ, وهو حاصل بخبر المتأوّل المتديّن, وقد قال القرطبي (¬2): ((في هذه الآية الكريمة سبع مسائل, وذكر منها: أنّ القاضي إذا قضى على الظّنّ لم يكن ذلك عملاً بجهالة كالقضاء بشاهدين عدلين, وقبول قول عالم مجتهد)) انتهى. وهو صريح في المعنى الذي ذكرته ولله الحمد. وللزّمخشري (¬3) ¬
مثل ذلك ذكره في تفسير قوله تعالى: ((فإن علمتموهمّ مؤمنات)) [الممتحنة/10]. الوجه الرّابع: أنّ الآية خاصّة في حقوق المخلوقين (2لا عامّة في جميع أخبار المخبرين, ولا شكّ أنّ خبر الواحد الثقة غير مقبول في حقوق المخلوقين (¬1) على الإطلاق, وأنّ الثّقات غير مقبولين في حقوقهم إذا كانت بينهم أحنة عداوة, والوليد كان بينه وبين الذين كذب عليهم عداوة, فلا حجّة في الآية لا في عمومها, ولا في (3مفهومها, ولا في (¬2) تعليلها المقتضي للقياس عليها. الوجه الخامس: أنّا لو قدّرنا عمومها وسلّمنا تسليم جدل لم يمنع ذلك من تخصيصها, ولا شكّ أنّ في أدلّتنا المتقدّمة ما هو أخصّ منها كالإجماع, ودليل المعقول وغيرهما. الوجه السّادس: أنّا لو سلّمنا عدم وجود المخصّص, لم يلزم ما ذكره الخصوم؛ لأنّ ما أوردناه من الآيات الكريمة معارضة لعموم هذه الآية, لو سلّمنا /أنّها عامّة وتلك الآيات أرجح لكثرتها, ولما في قبول المتأوّلين من الاحتياط غالباً, ولما في مخالفة ذلك من خوف مخالفة الإجماع, ولغير ذلك من المرجّحات المذكورة في ((الأصل)) وقد ذكرت في ((الأصل)) (¬3) سبعة عشر وجهاً في القدح على المعترض ¬
الحجة الثانية: والجواب عليها
في احتجاجه بهذه الآية الكريمة, وفي هذا القدر كفاية -إن شاء الله تعالى-. الحجّة الثّانية: ممّا احتجّوا به: القياس على الكافر والفاسق المصرّحين, قالوا: فإنّ العلّة في ردّهما الكفر والفسق, وهي حاصلة في المتأوّلين, والجواب من وجوه: الأوّل: أنّ هذا قياس مصادم للإجماع والدّليل العقلي, فلا يقبل وفاقاً, فإنّ كلّ واحد منهما يمنع منه. الوجه الثّاني: أنّه مخصّص لكثير من الآيات القرآنية (¬1) والآثار الصّحيحة, وكلّ قياس على هذه الصّفة لم يلزم المصير إليه, بل يقف ذلك على حسب مذهب العالم في تجويز تخصيص العموم به, وعلى حسب قوّة العموم أو (¬2) قوّة القياس أو ضعفهما, أو قوّة أحدهما وضعف الآخر. الوجه الثّالث: أنّ التّعليل بالفسق غير مسلّم, وإذا لم تسلّم العلّة انهدم أساس القياس, وذلك أنّ الخصم ادّعى أنّ العلّة في قبول العدل: أنّ قبول منصب تعظيم وتشريف, والفاسق المتأوّل غير أهل لذلك, وعندي أنّ العلّة هي ظنّ الصّدق ورجحانه, والدّليل على ذلك وجوه: الوجه الأوّل: قوله تعالى: ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم)) [البقرة/282] , فلو كانت العلّة مجرّد العدالة, وكونها منصباً شريفاً, مستحقّاً للتعظيم, مانعاً من قبول الرّدّ لما فيه من الاستهانة بالمردود ¬
والتهمة له, لكفى العدل الواحد, فإن قيل: هذا ينعكس عليكم, فإنّه لو كان العلّة الظّنّ لكفى الوحد أيضاً, فالجواب من وجوه (¬1): أحدهما: أنّ القصد في حقوق المخلوقين الظّنّ الأقوى حسب الإمكان المتيسّر, وفي حقوق الله تعالى مجرّد الظّنّ. وثانيهما: أنّه إذا بطل بهذا تعليلنا بطل به تعليل الخصم, وذلك يضرّ الخصم ولا يضرّنا, لأنّ بطلان به تعليل يستلزم بطلان القياس وبذلك تبطل حجّة الخصم القياسية. وأمّا نحن؛ فلم (¬2) نحتج إلى القياس في هذه المسألة وإنّما قصدنا بطلانه. وثالثها: أنّ سائر أدلّتنا في استنباط التعليل بالظّنّ غير معارضة بما يساويها في القوّة. الوجه الثّاني: (¬3) قوله تعالى: ((او آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت)) [المائدة/106] فأباح الله تعالى قبول كافر التّصريح عند الضّرورة الدّنيوية, حين لم يوجد من يحفظ المال بالشّهادة سواه, فدلّ على أنّ قبولها ليس بمنصب تشريف لا يستحقه إلا مؤمن, فأولى وأحرى أن نقبل المتأوّل من أهل القبلة, إذا اضطررنا إلى ذلك في أمر ديننا, بأن يحفظ عن نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - حكماً ونظنّ صدقه فيه ولا نجد غيره أحداً يرويه, فإنّ الشّرع قد جعل الشّهادة في حقوق المخلوقين آكد من الخبر عن أمور الدّين, لما ورد فيها من اعتبار ¬
شاهدين اثنين, وعدم الاجتزاء بامرأة واحدة عن احد الشّاهدين ونحو ذلك, فإذا جاز في الضّرورة اعتبار كافر التّصريح في الشّهادة, مع تغليظ حكمها, فجواز اعتبار كافر التّأويل في الرّواية أولى, وفي هذه الآية أوضح دليل على جواز تخصيص العلّة, فتأمّل ذلك. الوجه الثّالث: قوله تعالى: ((ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها)) [المائدة/108] فعلّل بما يفيد قوّة الظّنّ. الوجه الرّابع: قوله تعالى في /الكتابة: ((ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا)) [البقرة/282] وهذا أوضح دليل على اعتبار ما يبعد عن الرّيبة, دون اعتبار منصب العدالة الرّاجع إلى ما يستحقه المسلم من التّعظيم. الوجه الخامس: ورود الشّرع بشاهد ويمين عند من يقول بذلك من أهل العلم, ولا شكّ أنّ شرع اليمين يدلّ على اعتبار قوّة الظّنّ ولا يناسب مقام تعظيم المؤمن, بل فيها تهمة للشّاهد والحالف, ولو صُدّقا من غير شهادة ولا يمين كان أكثر تعظيماً لهما. الوجه السّادس: أنّه يجب ردّ حديث العدل في دينه إذا كان سيء الحفظ [يترجّح] (¬1) خطؤه على صوابه, وهذا إجماع, وفيه أكبر دليل على أن العبرة الظّنّ, ولهذا وجب ردّ المسلم المتديّن حيث زال الظّنّ لصدقه, ولو كانت العلّة ما ذكره المعترض من استحقاقه لمنصب القبول بإسلامه وإيمانه وديانته؛ لوجب قبول سيء الحفظ, وإن كان ¬
خطؤه أكثر من صوابه, لأنّه لم يتعمّد ولا إثم [عليه] (¬1) في ذلك ولا حرج باتفاق المسلمين. الوجه السّابع: أنّ علماء الأصول عملوا في باب التّرجيح بتقديم خبر من قوي الظّنّ بإصابته وصدقه, ولم يقدّموا خبر من كثر ثوابه وعظمت منزلته عند الله تعالى, فاعتبروا في التّرجيح جودة الحفظ, وملازمة الفنّ, وموافقة أهل الإتقان, ولم يعتبروا أسباب عظم المنزلة عند الله من كثرة الجهاد والصّدقة والذّكر, وقد ضعّفوا [جماعة] (¬2) لكثرة اشتغالهم بالعبادة وانقطاعهم في الذكر, حتّى غفلوا عن الحديث وساء حفظهم, وهذا أوضح دليل على تعليل القبول بالظّنّ لا باستحقاق منصب التعظيم. الوجه الثّامن: أنّه يجب على المجتهد العمل بما يُفيده الظّنّ في المعاني القرآنية اللفظيّة ونحوها, فيجب عليه تقديم دليل المنطوق على دليل المفهوم ونحو ذلك, وليس العلّة أنّ دليل المنطوق منصب (¬3) للتعظيم, ودليل المفهوم منصب للاستهانة, وإنّما العلّة وجوب قبول الرّاجح وتقديمه على المرجوح, فيجب مثل ذلك في رواة الأخبار النّبويّة, فإنّ العلّة واحدة وهي حصول الظّنّ الرّاجح. قال المعترض: يلزم وجوب قبول من ظنّ صدقه من المصرّحين ¬
مسألة المصرحين بالمعاصي إذا ظن صدقهم, وحكم قبول روايتهم
بالمعاصي. والجواب: أنّه مخصوص بالإجماع على ردّه, وهذا لا يبطل العلّة لأنّه تخصيص, وتخصيص العلّة جائز كما في تعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان, مع أنّه يخص من ذلك الأب إذا قتله ابنه عمداً عدواناً, فإنّه لا يقتل به قصاصاً, وإن كانت علّة وجوب القصاص قد وجدت فيه للدّليل الذي خصّه, ولابدّ للمخالف من تخصيص العلّة, فإنّ من علّل بالعدالة خصّص من العدول سيء الحفظ الذي خطؤه أكثر من صوابه. وقد ذكرنا أنّ قوله تعالى: ((أو آخران من غيركم)) [المائدة/106] حجّة ظاهرة على جواز تخصيص العلّة, على أنّ الشّيخ العلامة عزّ الدّين بن عبد السّلام قد روى خلافاً في قبول فاسق التّصريح المظنون صدقه, فروى عن الإمام الأعظم أبي حنيفة - رضي الله عنه -: أنّ فاسق التّصريح متى كان معروفاً بالصّدق مشهوراً بالأنفة العظيمة من رذيلة الكذب, بحيث أنه اختبر في ذلك وعرف منه أنّه يجتنبه كما يجتنب المؤمن الحرام قُبلت شهادته, ذكره في كتاب ((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)) (¬1) وبه قال المنصور بالله من أئمة الزّيديّة, وشرط في جواز قبوله خلوّ الأرض -التي يقبل فيها- عن وجود أهل العدالة؛ لأنّه قاس ذلك على جواز قبول الكافر في السّفر عند عدم المسلمين. واحتج سائر أهل العلم على المنع من قبول المصرّحين: بأنّ ¬
وازع المصرّح عن (¬1) الكذب إنّما هو الحياء عن (¬2) ظهور هذه الرّذيلة عليه والأنفة من ذلك, وهذا الوازع وإن عظم فإنّه /لا يقوم مقام وازع التّقوى والمراقبة لله تعالى, لأنّ خوف العار وحبّ المحمدة يضعف فيما يخفى ويظنّ صاحبه أنّه لا ينكشف للنّاس, والوازع الأخروي, والحياء من الله, والخوف من غضبه وعقوبته مستو في الباطن والظّاهر, والفاسق المصرّح وإن حصل بخبره ظنّ, فالظّنّ بخبر الثّقة من أهل العدالة أقوى, ولا يمنع أن يرد الشّرع باعتبار ظنّ دون ظنّ في حقوق الله تعالى لزيادة قوّة أحدهما على الآخر, كما ورد باعتبار ذلك في حقوق المخلوقين لهذه العلّة, فوجب الحكم بالظّنّ الصادر عن شهادة عدلين دون الظّنّ الصّادر عن شهادة عدلتين, وكذلك حقوق الله تعالى فلا يمنع وجوب قبول الظّنّ الصّادر عن العدل دون غيره, ولكن هذا خلاف الظّاهر فلا يصار إليه إلا بدليل, وذلك الدّليل هو قوله تعالى: ((شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم)) [المائدة/106] , وقوله تعالى: ((ممّن ترضون من الشهداء)) [البقرة/282] ونحو ذلك ممّا ورد في السّنّة النّبويّة, فلهذا تركنا الفاسق والكافر المصرّحين. وأمّا الفرق بين الكافر والفاسق تأويلاً, وقبول الفاسق دون الكافر فضعيف؛ لأنّ التّأويل إن أثّر في القبول لعلّة ظنّ الصّدق اعتبر فيهما معاً, وإلا لم يعتبر, وأمّا من لم يقبل الدّعاة منهم فله وجهان: ¬
الفائدة الرابعة: في ذكر ثلاث طوائف
أحدهما: أنّهم يتّهمون لشدّة حرصهم على الدّعاء إلى بدعتهم بتدليس خفيّ عن بعض الضّعفاء فيما ينصر مذهبهم, ونحو ذلك, وهذا يضعف فيما لا يتعلّق بمذهبهم, ويوقف فيه فيما يتعلّق بذلك على حسب القرائن. الوجه الثّاني: للزّجر عن مخالطة الطّلبة لهم خوفاً على الطّلبة من فتنتهم, وهذا نظر مصلحي (¬1) لا يسقط بمثله وجوب العمل بالحديث الرّاجح المظنون صحّته, ولا سيما وقد بلغنا ما رووه بعد موتهم أو في حياتهم من غير مخالطة لهم, ولم أقف للقائلين بذلك على وجه, وإنّما تكلّفت هذين الوجهين لهم, والعجب من مصنّفي علوم الحديث كيف لم يتعرضوا لذكر وجه ذلك! على أنّ الرّواية عن الدّاعية الثّقة ثابتة في ((الصحيح)) كرواية حديث قتادة مع أنّه كان قدريّاً, روى الذّهبي عنه في ((التّذكرة)) (¬2) أنّه لم يكن يقنع حتّى يصيح به صياحاً, رواه بصيغة الجزم عن ضمرة بن ربيعة عن (¬3) عبد الله بن شوذب ثقة عن ثقة, ولنقتصر على هذا القدر من إيراد ما تمسّكوا به وبيان الجواب عليهم, فليس لهم متمسّك أقوى مما ذكرناه. الفائدة الرّابعة: في ذكر ثلاث طوائف خصّهم بالذكر, وأورد في الاحتجاج على جرحهم في الرّواية ما لم يورد في غيرهم: الطّائفة الأولى المجبّرة: لكنّه أراد بهم من ليس بجبريّ من ¬
الأشعرية وأهل الحديث, وهذا لفظه قال: أمّا المجبّرة فعندهم أنّ الله تعالى يحوز أن يعاقب المطيع وأن يثيب العاصي فلا فائدة في الطّاعة, وأيضاً فعندهم أنّ أفعالهم من الله تعالى, فالإثابة عليها والعقاب لا معنى له, فإن قالوا: هذا من جهة العقل, لكن قد ورد السّمع أنّه يدخل المطيع الجنّة والعاصي النّار, قلنا: إنّه إنّما وعد ذلك مقروناً بمشيئته لقوله: ((يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء)) [الفتح/14] وهم لا يعلمون من الذين يشاء الله أن يغفر لهم. أقول: الجواب عليه من وجوه/: الوجه الأوّل: أنّا قد بيّنّا غير مرّة أنّ الأشعرية وأهل الحديث لا يقولون بالجبر, وبيّنّا نصوص أئمتهم على ثبوت الاختيار ونفي الإجبار كالجويني والخطّابي والنّووي وابن الحاجب, وغير واحد ممّن قدّمنا ذكره, وهم أعرف بمذاهبهم من غيرهم, والرّجوع إليهم في تفسير مقاصدهم في عباراتهم أولى من الرّجوع إلى من عداهم؛ وإذا جاز أن يُنسب إليهم ما هم مفصحون بالبراءة منه, جاز أن ينسب إلى الشّيعة والمعتزلة مثل ذلك, فوجب اطّراحه والرّجوع إلى العدل والإنصاف, والحكم بما ظهر من أهل الخلاف. الوجه الثّاني: أنّ المعلوم ضرورة من مذهبهم خلاف ما ذكره, وإنّما ألزمتهم ذلك المعتزلة مجرّد إلزام, كما أنّهم ألزموا المعتزلة القول بأقبح من ذلك في كثير من مسائل الكلام, والفريقان أعقل من أن يرتكبوا من الكذب المعلوم بالضّرورة ما ارتكبه المعترض, فإن
الكذّاب إنّما غرضه أن يعتقد صحّة باطله وصدق كذبه, فإذا كان معلوماً بالضّرورة لم يستفد بكذبه إلا أن يُعلم أنّه كاذب, فإن كان الذي جرّأه على هذا كراهيته للأشعرية؛ فما أصاب السّنّة, ولا عمل بمقتضى الشّريعة, قال الله تعالى: ((ولا يجرمنّكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى)) [المائدة/8] وإن كان قال ذلك طمعاً في التّمويه على خصمه, فأدنى العوام (¬1) يعرف أنّه ليس في أهل القبلة من يعتقد أنّ الله تعالى يعاقب المطيع ويثيب العاصي, بل ما علمنا في ملل الشّرك وعبّاد الأوثان من يعتقد ذلك في معبوده. الوجه الثّالث: أنّ هذا الاستدلال هو المعروف في علم المنطق بالمغالطة, قال المنطقيّون: والمورد لها إن قابل بها الحكيم فهو سوفسطائي, وإن قابل بها الجدليّ فهو مشاغبيّ. وإنّما قلت ذلك؛ لأنّ المغالطة قياس يتركّب من مقدّمات شبيهة بالحقّ تفسد صورته بألا يكون على هيئة منتجة لاختلال شرط معتبر, وهذا حاصل في كلام المعترض, وبيانه من وجهين: الوجه الأوّل: قوله عندهم: أنّه يجوز أن يعاقب الله المطيع ويثيب العاصي, فهذه مقدّمة باطلة تشبه الحقّ. ¬
أمّا بطلانها؛ فلأنّهم مصرّحون بأنّ ذلك لا يجوز بدليل السّمع القاطع, بل مجوّز ذلك يكفر عندهم بشكّه فيما هو معلوم من الدّين بالضّرورة. وأمّا شبهها بالحقّ؛ فلأنّ عبارة بعض الأشعرية في علم الكلام توهم أنّ ذلك عندهم جائز في العقل فقط, وقد بيّنا فيما مضى موضع الخلاف بينهم وبين المعتزلة في التحسين والتقبيح, وأنّهم لم يخالفوا في أنّ المستقبح بضرورة العقل صفة نقص, وأنّ الله تعالى منزّه عن صفة النّقص, وإنّما خالفوا في أنّ فاعل صفة النّقص يستحق الذّمّ والعقاب بمجرّد العقل, وعلى كلّ تقدير فإنّهم يمنعون مما ذكر أنّهم يجيزون إمّا عقلاً وسمعاً, وإمّا سمعاً, ومنعهم من ذلك سمعاً كاف في تحريم نسبة تجويز ذلك إليهم (¬1) , ألا ترى أنّ المعتزلة والشّيعة يقولون بأنّ نكاح الأمّهات والأخوات حسن عقلاً, لكنّه قبيح شرعاً, لم يلزمهم تجويز ذلك على الإطلاق. الوجه الثّاني: في بيان سلوكه مسلك المغالطة قوله: فلا فائدة في الطّاعة, فإنّه أوهم أنّ هذا من جملة مذهبهم ليتمّ له ما قصد من الاستدلال على تجرّئهم على الكذب/ على الله تعالى ورسوله, فهذا باطل من هذا الوجه, وهو شبيه بالحقّ لأنّه يوهم الجاهل أنّ مذهبهم ¬
في نفي التحسين والتقبيح عقلاً يوجب ذهابهم إلى ذلك. الوجه الرّابع (¬1): أنّهم لو ذهبوا إلى ذلك؛ لوجب تكفير المعتزلة والزّيدية وسائر الشّيعة إلا أبا الهذيل, وبيان ذلك: أنّ في المعتزلة والزّيدية من لا يقول بتكفيرهم, وبقيّتهم لا يكفّرون من لم يكفّر الجبرية من شيوخهم إلا رواية عن أبي الهذيل, ولو كانوا يجوّزون تعذيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وأنّ أبا لهب يكون صاحب الشّفاعة يوم القيامة؛ لكان كفرهم معلوماً من ضرورة الدّين وكفر من لم يكفّرهم كذلك, وكان يلزم كفر المعتزلة والزّيديّة, أمّا من لا يكفّر [هم] (¬2) مثل السّيد الإمام المؤيّد بالله, والإمام يحيى بن حمزة وغيرهما فظاهر لأنّهم حينئذ يكونون بمنزلة من شكّ في كفر المشركين واليهود, والنصارى, وأمّا سائر المعتزلة والزّيدية فلأنّهم لا يكفّرون أئمتهم وشيوخهم الذين منعوا من تكفير الأشعرية, ولا شكّ أن من شكّ في كفر عابد الأصنام وجب تكفيره, ومن لم يكفّره, ولا علّة لذلك إلا أنّ كفره معلوم من الدّين ضرورة, فثبت بهذه الوجوه أنّ المعترض كاذب بالضّرورة. وقد طوّلت في الرّدّ عليه في ((الأصل)) (¬3) على سبيل التوبيخ له, وإن كان مثل هذا غير محتاج إلى الجواب. وبقيّة كلامه في المجبّرة على هذا الأسلوب كما أوضحته في ((الأصل)) ولم يبق في كلامه ما يحسن إيضاح بطلانه إلا قوله: ¬
فإن قالوا هذا من جهة العقل, لكن قد ورد السّمع بأنّه يدخل المطيع الجنّة والعاصي النّار. قلنا: إنّه إنّما وعد ذلك مقروناً بمشيئته لقوله: ((يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء)) [المائدة/18] وهم لا يعلمون من يشاء الله أن يغفر لهم. والجواب عليه: أنّه جحد للضّرورة, فإنّهم يعلمون أنّ الذين يشاء الله أن يغفر لهم هم من أهل الإسلام دون المشركين, وأنّ أهل الكبائر من أهل الإسلام قد توعّدهم الله بالعقاب, وأنّ وعيد الله تعالى لهم صادق, لكنّه عموم يجوز تخصيصه بالمغفرة لبعضهم من غير تعيين, وبهذا يبقى الخوف والرّجاء مع كلّ مؤمن, وهذا مذهبهم معلوم بالضّرورة, لا يمكن التّشكيك فيه, والآية وإن كانت مجملة, فقد ورد بيانها, وقد أجمع أهل ملّة الإسلام على وجوب العمل ببيان المجمل, فإمّا أن يقول المعترض: إنّه لم يرد لهذه الآية بيان في السّمع, أو يقول: إنّ مذهبهم العمل بالمجمل وطرح المبيّن, وأيّ هذين ارتكب لم يزد على أنّه عرّف خصمه بجرأته على البهت, وقلّة حيائه من أهل العلم. * فاختر وما فيهما حظ لمختار * ومن العجائب الدّالّة على إسراف المعترض, وغلوّه: أنّه احتجّ بما ذكره على أنّ الجبرية لا يتنزهّون عن الكذب, وقد قال في البراهمة: إنّهم يتحرّزون عن الكذب أشدّ التّحرّز, ويتنزّهون عنه أعظم التّنزّه, مع أنّ البراهمة يصرّحون بتكذيب جميع كتب الله المنزّلة, ويفصحون بتضليل جميع الأنبياء والرّسل الكرام, وينسبونهم
الطائفة الثانية: المرجئة
إلى السّحر وطلب العيش في الدّنيا بالكذب على الله تعالى, ويسخرون منهم سخر الله منهم, ولهم عذاب أليم, ولا يعتقدون ثبوت النّار, ولا يخافون العقاب على ذنب من الذنوب, فهؤلاء نصّ المعترض على تنزيههم عن الكذب! وبالغ في المنع من ذلك في حقّ من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله, وجميع ما جاءوا به, وأقام أركان الإسلام وأحلّ الحلال وحرّم الحرام!! فهذا هو الكلام على الطّائفة الأولى من المتأوّلين الذين خصّهم بالذّكر, وتجاهل في رميهم بالجبر. الطّائفة الثانية: المرجئة, وهذا لفظه فيهم قال: ((ولأنّ المرجئة والمجبّرة لا يرتدعون عن الكذب وغيره من المعاصي, أمّا المرجئة: فعندهم أنّهم مؤمنون, وأنّ الله لا يدخل النّار من في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان, وإن زنا وإن سرق, وإن قتل, والكذب أخفّ من ذلك. أقول: حلّ هذه الشّبهة التي أوردها المعترض /في هذا الموضع متوعّر المسالك, بعيد الأغوار, دقيق المأخذ, ولم يورد في رسالته أعوص منها, وما أعدّ ما ألهمني الله تعالى إليه من الجواب فيها إلا من الفتوحات الرّبانية والألطاف الخفيّة, وإنّما قدّمت هذا قبل ذكر الجواب؛ لتكون معرفة الجواب عندك أيّها السّنّي بالمحل السّنِي (¬1) , وإنّما استوعرت مسلك الجواب عنها؛ لأنّ ما نسبه إليهم من المذهب حقّ, واستلزامه لعدم خوف الله تعالى أشبه شيء بالحقّ, ولا يميّز بين الحقّ, وما يعظم شبهه به إلا من أمدّه الله تعالى بألطافه, وبصّره من ¬
وجواب المؤلف عليه, وهو من الفتوحات الربانية
الحقّ مطالع أنواره. وتحرير الجواب على ما ذكره يتمّ بذكر وجوه: الوجه الأوّل: أنّ قوله: ((إن المرجئة لا يرتدعون عن الكذب وغيره من المعاصي)) مباهتة عظيمة وإنكار للضّرورة, فإنّ كلامنا إنّما هو فيمن عرف منهم بالدّيانة والأمانة وأداء الواجبات وترك المحرّمات, والمعلوم بالضّرورة أنّ في المرجئة من هو من أهل العبادة والزّهادة, والعلم والإفادة, والمراتب الشّريفة والخصال الحميدة, والمحافظة على النّوافل على ما هو أشق من المفروضات, وأصعب من ترك المقبّحات؛ من إطعام الطعام, وسرد الصيام, والصّلاة والنّاس نيام, والبكاء العظيم من التقصير في حقّ الملك العلام. فقول المعترض: إنّهم لا يرتدعون عن الكذب وسائر المعاصي باطل بالضّرورة؛ لأنّه إمّا أن يدّعي أنّ فعل المعاصي يقع من عبّادهم وثقاتهم في الباطن قطعاً, وإن أظهروا الصّلاح فهذا من علم الغيب المحجوب عن الخلق, ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما علم هذا في حق من عاصره إلا بالوحي في بعضهم, والحكم بهذا حرام بإجماع المسلمين, فلا نطوّل في الكلام عليه. وإمّا أن يدّعي أنّ فعل الطّاعة وترك المعصية غير واقع منهم ظاهراً لبطلان خوف العقوبة من الله تعالى؛ فذلك لا يصحّ لأمرين: أحدهما: أنّه استدلّ على بطلان أمر معلوم بالضّرورة, وذلك لا يصحّ, وبيانه: أنّ فعلهم للطّاعة معلوم بالضّرورة, فالاستدلال على أنّهم لا يفعلون الطّاعة لا يصحّ. وثانيهما: أن نقول: إمّا يسلم المعترض أنّ فعل الطّاعة وترك
المعصية مقدور لهم أو لا, إن قال: إنّه غير مقدور لهم, وجاز وقوعه منهم؛ فلا وجه لقطعه بأنّهم لا يفعلون أحد الجائزين. وهلا ذكر قوله في رسالته: إنّه لا يجوز للإنسان أن يخبر بخبر يجوّز أنّه كذب؟ فكيف أخبر عن جميع المرجئة بارتكاب الكذب وغيره من المعاصي!؟ وليس يجوز [مثل] (¬1) هذا في حقّ الفسّاق المصرّحين إلا فيما شوهد من معاصيهم, فليس لك أن تقول في قاطع الصّلاة: إنّه يشرب الخمر, ولا في الزّاني: إنّه مُربِ, ولا في المربي: إنّه يقتل النّفس التي حرّم الله, وأمثال ذلك, فكيف قلت فيمن أرجأ ولم يعرف منه إلا معصية الإرجاء: إنّه يفعل غيرها من المعاصي؟ وهلا قلت: إنّ قوله هذا يضعف الظنّ بقيامه بالواجبات واجتنابه للمحرّمات حتّى تجاب بما يجاب به من أورد الشّبهات, وتميّز نفسك عن منكري الضّرورات؟ والعجب من المعترض أنّه نزّه البراهمة عن الكذب مع إنكارهم للنبوّات, وجحدهم لجميع الشّرائع الإسلامية, وقد تقدّم تقرير هذا في آخر الجواب عما أورده في حقّ الجبرية, فهذا الوجه الأول من وجوه الجواب عن المرجئة يصلح (¬2) جواباً على ما أورده في حقّ الجبرية فإنّه قال فيهم الجميع: إنّهم لا يرتدعون عن الكذب وسائر المعاصي. الوجه الثّاني: اعلم أنّ الحامل على المحافظة على الخيرات ¬
والمجانبة للمكروهات ليس مجرّد اعتقاد أنّ الله تعالى يعاقب على الذّنب, وإنّما هو شرف في النّفوس وحياء في القلوب من مبارزة المنعم /بجميع النّعم بالمعاصي, ولهذا فإنّ أكثر الخلق محافظة على الخير ومجانبة للمكروه أشدهم حياء من الله تعالى وإجلالاً له, وأمّا مجرّد الاعتقاد فهو واحد لا يزيد ولا ينقص؛ ولهذا تجد الوعيديّة مختلفين مع اتحاد معتقدهم, ولكن تفاضلوا في شرف النّفوس وأنفتها من دناءة المعاصي, ومذلّة كفران المنعم (¬1) , وتفاوتت مراتبهم في شدّة الحياء من ملك الملوك وربّ الأرباب, وتباينت هممهم في التعظيم والإجلال لمن بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير, ولهذا فإن أقرب الخلق إلى الله أخوفهم منه وآنسهم به وأطوعهم له. ولهذا اشتدّ خوف الأنبياء والأولياء من الله تعالى وعظم أنسهم به, وكانوا أطوع خلقه لو وأرغبهم إليه, وقد كان كثير من الصّالحين لا يرضى أن يعبد الله تعالى خوفاً من العذاب ولا رغبة في الثّواب. وقالت المعتزلة (¬2): إن نوى ذلك بعبادته لم تصح, ولهذا اختلفت حال (¬3) الكفّار المنكرين للمعاد من المشركين والفلاسفة: فكان منهم ¬
المتلطّخون بالرّذائل, ومنهم المتحمّلون لأثقال المكارم والفضائل, وكان فيهم السّادة والأتباع, وكان في سادتهم المخذول والمطاع, على قدر (¬1) تفاضلهم في الصّبر على المكاره, واحتمال مشاقّ المكارم, وقالوا في أمثالهم: ((تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها)) (¬2) وقالت هند: أو تزني الحرّة (¬3)؟ وقال حاتم (¬4): وإنّك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذّمّ أجمعا وهذا كلّه من غير خوف العقاب ولا رجاء الثّواب, فكيف يقال: إنّ من لم يخف العقاب قال الزّور وارتكب الفجور؟ هذا كلام من لم يتأمّل, فقد علمنا بالضّرورة أنّ في المرجئة عبّاداً خاشعين ورهباناً ¬
خاضعين, وكثير منّا إذا تأملّنا وأنصفنا يقصر عن كثير منهم في الأعمال لا في العقيدة ولله الحمد والمنّة, وذلك لأنّ من صبر على مشاقّ الطّاعات وترك الشّهوات من غير خوف العذاب؛ فهو شريف النّفس, حرّ الطّبيعة, عزيز الهمّة, عظيم المروءة, كثير الحياء من الله تعالى, ومن لا يقوم إلى الطّاعة حتّى يخاف العذاب من النّار؛ فطبعه طبع شرار العبيد وخساس الهمم, وما أحسن قول ابن دريد (¬1) في هذا المعنى: واللّوم للحرّ مقيم رادع ... والعبد لا تردعه إلا العصا وإنّ كثيراً من المتحابّين من المخلوقين لا يعصي محبوبه ولا يغضبه, وإن كان لا يخاف منه مضرّة, ولهذا قال بعض الظّرفاء في المعنى: أهابك إجلالاً وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها (¬2) فإن كان هذا ما بين الأحباب من عبيد الله؛ فالذين آمنوا أشدّ حبّاً لله, وفي الحديث المرفوع: ((نِعم العبد صهيب, لو لم يخف الله لم يعصه)) (¬3) وفي هذا الجواب موعظة لأهل الحقائق والأحوال. وقد ¬
أجاد من قال (¬1): تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا محال في العقول بديع /لو كنت تضمر حبّه لأطعته ... إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع (¬2) وقد ظنّ المعترض أنّ من لم يكن من أهل مقام الخوف فليس من أهل الطّاعة, ولم يعرف المسكين أنّ مقام المحبّة فوق مقام الخوف عند العارفين, ولهذا قال الشّيخ أبو عمر بن الفارض (¬3) -وما أنفع قوله هذا لأهل القلوب-: فدع عنك دعوى الحبّ وادع غيره فؤادك وادفع عنك غيّك بالتي وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن وها أنت حيّ إن تكن صادقاً مت ولهذا قالت الحكماء: المرء أسير أكبر (¬4) ما في قلبه, ولا شكّ أنّ أكثر ما في القلب هو المحبوب لا المخوف, فإن المخوف قد يكون عدوّاً بغيضاً بخلاف المحبوب, وقد نظم ابن الفارض هذا المعنى فقال وأجاد: (¬5) ¬
أنت القتيل بأيّ من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي الوجه الثّالث: أن نقول: ما سبب تخصيص المرجئة بالذكر؟ هل تجويزهم لدخول أهل الكبائر من المسلمين الجنّة, وتجويزهم لنجاتهم من النّار, أو قطعهم بذلك؟ الثّاني: وهو القطع بذلك ممنوع, لأنّهم يجوّزون أن يموت صاحب الكبيرة المسلم كافراً, ويخافون من كبائر الذّنوب أن يكون ارتكابها سبباً للوقوع في ذنب الكفر الذي لا يغفر إلا بالتّوبة, وأمّا الأوّل وهو: تجويزهم لدخول أهل الكبائر من المسلمين الجنّة, فقد شاركهم في ذلك سائر الفرق, ولكنّ المعتزلي يجوّز ذلك بشرط التّوبة أو المغفرة. فإن قلت: إنّ المرجىء يقطع بأنّ من مات مسلماً وهو مصرّ على الفسق لم يعذّبه الله تعالى, والسّنّي والمعتزلي لا يقولان بذلك. قلت: ذلك مسلّم؛ ولكنّه لا يقطع بأنّه يموت مسلماً مثلما أنّ المعتزلي لا يقطع بأنّه يموت تائباً, بل هذا الإشكال لا يلزم المعتزلة ولا يلزم المرجئة, وذلك لأنّ المعتزلة فريقان: أحدهما يقول: إنّ من مضى له وقت أدّى فيه جميع ما كلّفه الله تعالى علم أنّه من أهل الجنّة؛ لأنّ الله تعالى لو علم أنّه يموت على حال يستحق فيه النّار؛ لقبح منه تبقيته, ووجب عليه أن يميته في ذلك الوقت الذي أتى فيه بالطّاعة, وهذا هو قول من يوجب الأصلح على الله تعالى, كأبي القاسم الكعبيّ إمام البغدادية من المعتزلة ومن يقول بقوله, وهذا الإشكال يتّجه عليهم أكثر من المرجئة لأنّهم يجيزون أن
يأتي المكلّف في بعض الأوقات بجميع تكليف ذلك الوقت, وأن يعلم المكلّف إتيانه بذلك, وحينئذ يقطع بأنّه من أهل الجنّة. وأمّا الفرقة الثّانية: وهم الذين لا يوجبون على الله الأصلح للعبد فإنّهم يوجبون على الله -سبحانه- أن يبقى العاصي بعد المعصية وقتاً يتمكّن فيه من التّوبة, وبهذا قال شيخ الاغتزال أبو عليّ الجُبّائي وأصحابه, ووافقه عليه أبو القاسم الكعبيّ -أيضاً- فلو كان ما ذكره المعترض في حقّ المرجئة يدلّ على الكذب في الحديث, لدلّت مذاهب المعتزلة هذه على مثل ذلك, فيقول من يوجب الأصلح للعبد على الله تعالى: المعاصي لا تضرّني لعلمي أنّي من أهل الجنّة بسبب طاعتي لله تعالى يوماً أو ساعة أو لحظة, /ويقول من لا يرى ذلك: أنا أقدم على هذه المعصية وأتوب عقيبها, ولا أخشى (¬1) مفاجأة الموت قبل التمكّن من التّوبة. ولكن ليس وقوع المعاصي على حسب الاعتقاد, وإنّما ذلك على حسب شرف الطّباع, وارتفاع الهمم, وشهامة النّفوس, كما قدمنا في الوجه الأوّل, ولو كان السبب في العصيان هو تجويز النّجاة من عذاب الله؛ إمّا اتكالاً على التوبة أو اتكالاً على الرّحمة, لم توجد فرقة من فرق الإسلام إلا وهي مجروحة, ولكان العدل من اعتقد أنّ الله لا يقبل التّوبة ولا يقيل العثرة, ولا يغفر الخطيئة, لكن الذّاهب إلى هذا كافر بالإجماع, خارج عن ملّة الإسلام. الوجه الرّابع: أنّ من اعتقد أنّ الله تعالى يتفضّل على أهل ¬
الإسلام بمغفرة جميع الذّنوب من غير توبة, لم يلزم من ذلك أن يتعمّد الكذب على الله تعالى ويجاهر بجميع المعاصي, ودليل ذلك: أن عبداً من عبيد المخلوقين لو اعتقد في سيده أنّه في غاية الحلم, ونهاية الجود والسماحة (¬1) , لم يدلّ ذلك على أنه كثير العصيان لسيّده والكذب عليه, بل قد يكون في غاية الإجلال لسيّده والطّاعة له, مع اعتقاد حلمه ومسامحته والأمان من عقوبته, محبة منه لسيّده ورغبة في شكر نعمة وارتفاع المنزلة عنده, وكذلك عمل النّاس مع إخوانهم وأهل الحلم والكرم منهم, ولم يكن أصحاب الأحنف وعشيرته يعصونه ويكذبون عليه ويعفّون رحمه لأجل حلمه, وكم من مهيب يعصى وتتحمّل عقوبته لأجل بغضه ومساوىء أخلاقه! وكم من حليم يطاع وكريم يمتثل (¬2) وتفنى الأموال والأرواح في طاعته! فمن أين للمعترض أنّ المرجئة لما اعتقدوا أنّ الله تعالى يغفر لأهل الإسلام استهانوا بجلال الله وانهمكوا في معاصي الله وصار دأبهم الكذب على الله وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ولقد رأينا في الصّالحين من يزداد عملاً ونشاطاً مع الرّجاء, ويزداد ضعفاً وفتوراً مع الخوف, وهذا معروف عند أهل الذّوق, وأنشدوا في ذلك: لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن أياديك في أعقابها حادي لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن المنام وتلهيها عن الزّاد ¬
الوجه الخامس: أنّ القول بالإرجاء وإن كان حراماً فليس بكفر ولا فسق, وكلّ بدعة محرّمة تأوّل فيها صاحبها, ولم تكن كفراً, ولا فسقاً فصاحبها مقبول بالإجماع. أمّا أنّ الإرجاء ليس بكفر ولا فسق؛ فذلك مقتضى الدّليل, ومذهب أصحاب الخصم. أمّا الدّليل: فلأنّ التّكفير والتّفسيق يحتاج إلى دليل سمعي وهو مفقود, ومخالفتهم للنّصوص تأويلاً لا يكفي في [الكفر] (¬1) , على أنّ ابن الحاجب اختار عدم التّأثيم لمن خالف القطعي مجتهداً وهو قوي, والموضع يضيق عن ذكر الحجج في المسألة. وقد ذكر الذّهبي في ((الميزان)) (¬2) ما معناه: ((إنّ بدعة الإرجاء ليست بكبيرة)). وأمّا الحديث الذي فيه: ((ليس للمرجئة في الإسلام نصيب (¬3))) (¬4) ¬
[وأمّا مذهب الخصم: فقد نصّ عليه القاضي شرف الدين في ((تذكرته)) , وذكر معنى ذلك القاضي العلامة عبد الله بن حسن] (¬1) ... (2الدواري في ((تعليق الخلاصة)) , والحاكم في ((شرح العيون)) وغيرهم. وأمّا دعوى الإجماع: فذكرها الأمير علي بن الحسين في ((اللمع)) الذي /هو مدرسهم (¬2). وفي هذا القدر كفاية في الذّبّ عن السّنن الصّحيحة المنقولة عن ثقات المرجئة, وقد تركت بعض ما في ((الأصل)) من التّطويل في ذلك, وقد أكثرت من الانتصار لظنّ صدقهم وقبول روايتهم, حتّى ربما توهّم بعض الضعفاء أني أميل رأيهم, ومعاذ الله تعالى من ذلك, فعقيدة أهل السّنّة أصح مباني واوضح معاني, وحسبك أنّها جامعة لمحاسن العقائد؛ من حسن الظّنّ بالله ورجاء مغفرته مع خوف عذابه, والحذر من غضبه, وإن مات العاصي على الإسلام فلابدّ من الخوف والرّجاء لذي الجلال والإكرام, فقد قال الله تعالى في الملائكة مع أمانهم من الموت عن الكفر, ومن ارتكاب الكبائر: ((يخافون ربّهم من فوقهم)) [النحل/50] وقال فيهم: ((هم من خشية ربّهم مشفقون)) [المؤمنون/57] فإذا كان هذا حال الملائكة -عليهم السلام-, فكيف بحال العبد العاصي!! وفي ((الصّحيح)) (¬3) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو ¬
الطائفة الثالثة: معاوية والمغيرة وعمرو بن العاص
تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً)) فنسأل الله السّلامة, وأن يجعلنا ممّن يشفق من ذنبه, بل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه, آمين آمين. الطّائفة الثّالثة: معاوية والمغيرة وعمرة بن العاص, ومن تقدّم ذكره في الأوهام, فإنّ كثيراً من الشّيعة ذكروا أنّها ظهرت على هؤلاء الثّلاثة قرائن تدلّ على التّأويل, وقدحوا بتصحيح حديثهم في حديث الكتب الصّحاح كالبخاري ومسلم. وأمّا أهل الحديث فمذهبهم أنّهم من أهل التّأويل والاجتهاد والصّدق, لكونهم أظهروا التّأويل فيما يحتمله, وعلم البواطن محجوب عن الجميع, وبين الفريقين في هذا مالا يتسع له هذا ((المختصر)) , والقصد: مجرّد تصحيح الحديث الصّحيح, والذّبّ عنه لا غيره فيما (¬1) بين أهل المذهبين, وقد اجتهدت في هذا الكتاب في نصرة الحديث الصّحيح بالطّرق التي يتّفق الفريقان على صحّتها أو يتّفقون على قواعد تستلزم صحّتها, كما يعرف ذلك من تأمّل هذا الكتاب كلّه, وفي هذا الموضع لم أجد طريقاً قريبة مجمعاً عليها إلا طريقاً واحدة, وهي: بيان صدق هؤلاء المذكورين في روايتهم بشهادة من لم تجرحه الشّيعة من الصّحابة لهم بصّحة الرّواية في كلّ حديث على التّعيين, خاصّة في أحاديث الأحكام المعتمدة في معرفة الحلال والحرام. فأمّا أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عمرو بن العاص ونحوهم ¬
سرد أحاديث معاوية في الكتب الستة مما له تعلق بالأحكام مع ذكر شواهدها ((وله ثلاثون حديثا))
ممّن لم يصحّ عنه حرب لعلي - رضي الله عنه - ولا سبّ؛ فقد تقدّم الجواب عمّا ذكر المعترض فيهم. وأمّا هؤلاء الثلاثة المذكورون فهم الذين أذكر هنا ما يدلّ على صحّة حديثهم, وأقتصر على ما يتعلق بالأحكام من ذلك اختصاراً, وذلك يتمّ بذكر ما لهم من الأحاديث المتعلّقة بالأحكام وما لأحاديثهم من الشّواهد المرويّة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , ونشير إلى ذلك على أقل ما يكون من الاختصار المفيد -إن شاء الله تعالى- فنقول: المرويّ في الكتب السّتّة من طريق معاوية في الأحكام ثلاثون حديثاً. الأوّل: حديث تحريم الوصل في شعور النّساء, رواه عنه البخاري ومسلم (¬1) وغيرهما, ويشهد لصحّته رواية أسماء لذلك وعائشة وجابر /أمّا حديث أسماء فخرّجه البخاري ومسلم والنّسائي (¬2). وأمّا حديث عائشة فخرّجه البخاري ومسلم والنّسائي (¬3) أيضاً. وأمّا حديث جابر فخرّجه مسلم (¬4). الثّاني: ((لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ)) أخرجه عنه ¬
البخاريّ ومسلم (¬1). وقد رواه مسلم عن سعد بن أبي وقّاص (¬2). ورواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان (¬3). ورواه الترمذي عن معاوية بن قرّة (¬4). ورواه أبو داود عن عمران بن حصين (¬5). الثّالث: حديث النّهي عن الرّكعتين بعد العصر, رواه البخاري عنه (¬6). وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنّسائي عن أمّ المؤمنين أمّ سلمة (¬7). وروى مسلم (¬8) عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - أنّه كان يضرب من يفعل ذلك, ولم ينكر ذلك من فعله فجرى مجرى الإجماع, وهو قول طوائف من أهل العلم. ¬
الرّابع: حديث النّهي عن الإلحاف في المسألة رواه عنه مسلم (¬1). ورواه البخاري ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمر (¬2). وأبو داود والترمذي والنّسائي عن سمرة بن جندب (¬3). والنّسائي عن عائد بن عمرو (¬4). والبخاري عن الزبير بن العوّام (¬5). والبخاري ومسلم ومالك في ((الموطأ)) والتّرمذي والنّسائي عن أبي هريرة (¬6). وأبو داود والنّسائي عن ثوبان (¬7). ومالك في ((الموطأ)) عن عبد الله بن أبي بكر (¬8). والبخاري ومسلم والترمذي والنّسائي عن حكيم بن حزام (¬9). ¬
وأبو داود والنسائي عن ابن الفراسيّ عن أبيه (¬1). الخامس: ((إنّ هذا الأمر لا يزال في قريش)) رواه عنه البخاري (¬2). ورواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر (¬3). وروى مسلم نحوه عن جابر بن عبد الله (¬4). ورواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (¬5). السّادس: حديث جلد شارب الخمر وقتله في الرّابعة, رواه عنه أبو داود والتّرمذي (¬6). وأمّا جلده فمعلوم من الدّين ضرورة, والأحاديث فيه كثيرة مأثورة, وأمّا قتله في الرّابعة فرواه التّرمذي وأبو داود عن أبي هريرة (¬7). ورواه أبو داود (¬8) عن قبيصة بن ذؤيب, وعن نفر من الصحابة ... -رضي الله عنهم-. ¬
ورواه الإمام الهادي يحيى بن الحسين في ((كتاب الأحكام)) ولكن هذا الحكم منسوخ عند كثير من أهل العلم. السّابع: حديث ((النّهي عن لباس الحرير والذّهب, وجلود السّباع)) رواه عنه أبو داود والنّسائي, والترمذي بعضه بغير لفظه (¬1) , فأمّا شواهد تحريم لباس الحرير والذّهب فأشهر من أن تذكر. وأمّا جلود السّباع؛ فله عليه شاهد عن أبي المليح خرّجه التّرمذي وأبو داود والنّسائي (¬2). الثّامن: حديث افتراق الأمّة إلى نيّف وسبعين فرقة, رواه عنه أبو داود (¬3). وروى الترمذي (¬4) مثله عن ابن عمرو (¬5). وروى الترمذي2) وأبو داود مثله عن أبي هريرة (¬6). التّاسع: النّهي عن سبق الإمام بالرّكوع والسّجود, رواه عنه ¬
أبو داود (¬1) و [ابن ماجه] (¬2). وقد رواه البخاريّ ومسلم وأبو داود والترمذيّ والنسائي عن أبي هريرة, ومالك في ((الموطأ)) عنه (¬3) -أيضاً-. ومسلم والنّسائي عن أنس (¬4). العاشر: النّهي عن الشّغار, رواه عنه أبو داود (¬5). وقد رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر (¬6) , وهو مشهور عن غير واحد من الصّحابة, ومجمع على القول بمقتضاه. الحادي عشر: أنّه توضّأ كوضوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو داود (¬7) , وليس فيه ما يحتاج إلى شاهد إلا زيادة صبّ الماء على النّاصية والوجه. ¬
وقد رواه أبو داود (¬1) عن علي - رضي الله عنه -. /الثّاني عشر: النّهي عن النّوح, رواه عنه ابن ماجه (¬2) , وهو أشهرمن أن يحتاج إلى ذكر شواهده. الثّالث عشر: النّهي عن الرّضا بالقيام, رواه عنه الترمذي وأبو داود (¬3) , وله شواهد: في الترمذي (¬4) عن أنس, وفي ((سنن أبي داود)) (¬5) عن أبي أمامة. وفي كتاب (([الترخيص] (¬6) في القيام)) (¬7) للنّووي عنهما, وعن أبي بكرة, وصحّح حديث أنس. الرّابع عشر: النّهي عن التّمادح, رواه عنه ابن ماجه (¬8). وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي بكرة (¬9). ¬
والبخاري ومسلم عن أبي موسى (¬1). ومسلم والتّرمذي وأبو داود عن عبد الله بن سخرة [عن المقداد بن الأسود] (¬2). والتّرمذي عن أبي هريرة (¬3). الخامس عشر: تحريم كلّ مسكر, رواه عنه ابن ماجه (¬4) , ورواه الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن عمر (¬5) , ومسلم والنّسائي عن جابر (¬6) وأبو داود عن ابن عبّاس, والنّسائي عنه أيضاً (¬7). السّادس عشر: حكم من سها في الصّلاة, رواه عنه النّسائي (¬8) ¬
وله شاهد في ((سنن أبي داود)) (¬1) عن ثوبان. السّابع عشر: النّهي عن القران بين الحج والعمرة, رواه عنه أبو داود (¬2) , وله شاهد عن ابن عمر رواه مالك في ((الموطأ)) (¬3) مرفوعاً, وعن عمر وعثمان رواه مسلم (¬4) موقوفاً عليهما. الثّامن عشر: أنّه قصر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص بعد عمرته - صلى الله عليه وسلم - , وبعد (¬5) حجّه, رواه عنه البخاري ومسلم وأبو دواد والنّسائي (¬6) , وله شواهد عن عليّ خرّجه مسلم, وعن عثمان - رضي الله عنه - في مسلم أيضاً (¬7) , وعن سعد بن أبي وقّاص رواه مالك في ((الموطأ)) والنّسائي والتّرمذي وصحّحه (¬8) , رواه النّسائي عن ابن عبّاس عن عمر (¬9) , والتّرمذي عن ابن عمر (¬10) , والبخاري ومسلم عن عمران بن ¬
الحصين (¬1). وروى التّرمذي والنّسائي: أنّ معاوية لما روى هذا الحديث, قال ابن عباس: هذه على معاوية؛ لأنّه ينهى عن المتعة (¬2). التّاسع عشر: ما روى عن أخته أمّ المؤمنين أمّ حبيبة - رضي الله عنه - ((أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي في الثّوب الذي يجامعها فيه, ما لم ير فيه أذى)) رواه أبو داود والنّسائي (¬3) , ويشهد لمعناه أحاديث كثيرة, منها: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كان يصلّي في نعليه ما لم ير بهما أذى)) رواه البخاري ومسلم عن سعيد بن [يزيد] (¬4) ورواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري (¬5). ويشهد لذلك حديث: ((فلا ينصرفنّ حتّى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً)) وهو متفق على صحته (¬6) , إلى أشباه لذلك كثيرة تدلّ على ¬
جواز الاحتجاج بالاستصحاب للحكم المتقدّم, وعلى ذلك عمل العلماء في فطر يوم الشّكّ من آخر شعبان, وصوم يوم الشّكّ من آخر رمضان. الموفّي عشرين حديثاً: ((نهي من أكل الثّوم أو البصل عن دخول مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) وهو من روايته عن أبيه (¬1) , وله شواهد كثيرة, فرواه البخاري ومسلم (¬2) ومالك في ((الموطأ)) (¬3) عن جابر بن عبد الله, والبخاري ومسلم عن أنس (¬4) , ومسلم (¬5) ومالك في ((الموطأ)) (¬6) عن أبي هريرة, وأبو داود عن حذيفة والمغيرة (¬7) , والبخاريّ ومسلم وأبو داود عن ابن عمر (¬8) , والنّسائي عن عمر (¬9) , مسلم وأبو داود عن أبي سعيد (¬10). ¬
وأمّا النّهي عن هاتين الشّجرتين مطلقاً من غير تقييده بدخول المسجد, فرواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله (¬1) , وأبو داود والتّرمذي عن عليّ بن أبي طالب (¬2) - رضي الله عنه -. الحادي والعشرون: حديث: ((هذا يوم عاشوراء لم يكتب عليكم)) رواه عنه البخاري ومسلم ومالك والنّسائي (¬3). وقد روى البخاري ومسلم (¬4) عن ابن عبّاس ما يشهد لصحة معناه, وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشار إليه, بعد سؤاله عن سبب صوم اليهود له: ((فأنا أحقّ بموسى)) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فنحن نصومه تعظيماً له)). الثاني والعشرون: حديث: ((لا تنقطع الهجرة)) رواه عنه أبو داود (¬5) , ولم يصح عنه, قال الخطّابي (¬6): ((في إسناده مقال)) , وله شاهد رواه النسائي عن عبد الله بن السّعدي (¬7). ¬
الثّالث والعشرون: حديث النّهي عن لباس الذّهب إلا مقطّعاً رواه عنه أبو داود (¬1) , وله شاهد/ عن جمع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه النّسائي (¬2). الرّابع والعشرون: النّهي عن المغلوطات (¬3) , قال الخطّابي (¬4): الأغلوطات. ولم يصح عنه, في إسناده مجهول (¬5) , مع أنّ أبا السّعادات ابن الأثير, روى في ((جامع الأصول)) (¬6) له شاهداً عن أبي هريرة, وفي البخاري (¬7) عن أنس: ((نهينا عن التّكلّف)) , وهذا يشهد لمعناه. الخامس والعشرون: حديث الفصل بين الجمعة والنافلة بعدها ¬
بالكلام أو الخروج, رواه عنه مسلم (¬1) , وله شاهد في البخاري ومسلم (¬2) عن ابن عمر من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وروى أبو داود عن أبي مسعود الزّرقي (¬3) نحو ذلك في حقّ الإمام (¬4). ¬
السّابع والعشرون: حديث: ((كلّ ذنب عسى الله أن يغفره, إلا الشّرك بالله وقتل المؤمن)) رواه عنه النّسائي (¬1) , وله شاهد عن أبي الدرداء (2رواه أبو داود (¬2) (¬3) , وله شاهد في كتاب الله تعالى (¬4). الثّامن والعشرون: رواه عنه أبو داود (¬5) حديث: ((اشفعوا تؤجروا)) وهو حديث معروف, رواه البخاري ومسلم (¬6) عن أبي موسى, وفي القرآن ما يشهد لمعناه, وهو مجمع على مقتضاه. التّاسع والعشرون: كراهة تتبّع عورات النّاس, رواه عنه أبو داود (¬7) , وله شواهد, في الترمذي (¬8) عن ابن عمر وحسّنه, وفي ((سنن أبي داود)) (¬9) عن أبي برزة الأسلمي, وعقبة بن عامر, وزيد بن وهب, وفي ((صحيح مسلم)) (¬10) عن أبي هريرة. ¬
أحاديثه في غير الأحكام
الموفّي ثلاثين حديثاً: حديث: ((من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدّين)) رواه عنه البخاري (¬1) , وله شاهدان عن ابن عبّاس وأبي هريرة ذكرهما التّرمذي في ((الجامع)) (¬2) وصحّح حديث ابن عباس. فهذه عامّة أحاديث معاوية التي هي صريحة في الأحكام أو يستنبط منها حكم, وهي موافقة لمذهب الشّيعة والفقهاء, وليس فيها ما لم يذهب إليه جماهير العلماء, إلا قتل شارب الخمر في الرّابعة لأجل النّسخ, وقد رواه إمام الزّيدية كما قدّمنا, وقد وافقه ثقات الصّحابة فيما روى. فاعجب لمن يشنّع على أهل الصّحاح برواية هذه الأحاديث, وإدخالها في الصّحيح!!. وله غير هذه أحاديث يسيرة شهيرة تركنا إيرادها وإيراد شواهدها اختصاراً, ونشير إليها إشارة لطيفة ليعرف ما هي, وذلك حديثه في فضل المؤذّنين (¬3) , وفضل إجابة المؤذّن (¬4) , وفضل حلق الذّكر (¬5) , وليلة القدر ليلة سبع وعشرين (¬6) , وفضل حبّ ¬
الأنصار (¬1) وفضل طلحة (¬2) , وتاريخ وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وستين سنة (¬3). وحديث: ((اللّهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)) (¬4) وقد رواه مسلم (¬5) عن عليّ رضي الله تعالى عنه. وحديث: ((الخير عادة والشّرّ لجاجة)) (¬6) و ((لم يبق في الدنيا إلا بلاء وفتنة)) (¬7) و ((إنّما الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه)) (¬8). ¬
سرد أحاديث عمرو بن العاص مما له تعلق بالأحكام مع ذكر شواهدها ((وله عشرة أحاديث))
وفيمن نزل: ((والذين يكنزون الذّهب والفضّة)) (¬1) [التوبة/34]. وأثران موقوفان عليه؛ في ذكر كعب الأحبار (¬2) , وفي تقبيل الأركان كلّها (¬3). فهذا جملة ما له في جميع دواوين الإسلام السّتّة, لا يشذّ عنّي من ذلك شيء, إلا ما لا يُعصم عنه البشر من السّهو. وليس في حديثه ما ينكر قطّ, على أنّ فيها ما لم يصحّ عنه أو ما في صحّته عنه خلاف, وجملة ما اتّفق على صحّته عنه منها كلّها في الفضائل والأحكام: ثلاثة عشر حديثاً؛ اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة/ وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة, وهذا دليل صدق أهل ذلك العصر, وعدم انحطاطهم إلى مرتبة الكذّابين خذلهم الله تعالى, ولو لم يدلّ على ذلك إلا أنّ معاوية لم يرو شيئاً قطّ في ذمّ عليّ - رضي الله عنه - , ولا في استحلال حربه (¬4) , ولا في فضائل عثمان, ولا في ذمّ القائمين عليه, مع تصديق جنده له, وحاجته إلى تنشيطهم بذلك فلم يكن منه في ذلك شيء على طول المدّة, لا في حياة عليّ ولا بعد وفاته, ولا تفرّد برواية ما يخالف الإسلام ويهدم القواعد, ولهذا روى عن معاوية غير واحد ¬
من أعيان الصّحابة والتّابعين؛ كعبد الله بن عبّاس, وأبي سعيد الخدريّ, وعبد الله بن الزّبير, وسعيد بن المسيب, وأبي صالح السّمّان, وأبي إدريس الخولاني, وأبي سلمة بن عبد الرّحمن, وعروة بن الزّبير, وسالم بن عبد الله, ومحمد بن سيرين, وخلق كثير. وروى عن هؤلاء عنه أمثالهم, وإنّما ذكرت هذا ليعرف أنّ المحدّثين لم يختصّوا برواية حديثه, فإنّ من المعلوم أنّهم لا يقبلون من الحديث إلا ما اتّصل إسناده برواية الثّقات, فلولا رواية ثقات كلّ عصر لحديثه عن أمثالهم لم يصحّ للمحدّثين أنّه حديثه, ولو لم يصحّ لهم أنّه حديثه لم يرووه عنه في الكتب الصّحيحة, وإنّما ذكرت هذا على سبيل الاستئناس. والعمدة في الحجّة ما قدّمته, والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد قبلت الشّيعة والمعتزلة ما هو أعظم من قبوله على أصولهم وهو مرسل الثّقة, فإنّه مقبول عندهم على الإطلاق, فقبلوا بذلك أحاديث معاوية وهم لا يشعرون! بل فقبلوا موضوعات كثيرة رواها بعض ثقاتهم بسلامة صدر عن بعض من لم يعرف من المجاهيل, أو (¬1) طبقات المجروحين. ومن قبل مرسل الثّقة على الإطلاق دخل ذلك عليه من حيث لا يدري, فإنّ من الثّقات من يقبل المجاهيل, وفيهم من يقبل كفّار ¬
التّأويل, وفيهم من هو كافر تأويل عند جمهور المعتزلة والشّيعة, وفيهم من يقبل الفاسق المصرّح إذا عرف بالصّدق والأنفة من الكذب, ولقد روي هذا عن الإمام الأعظم أبي حنيفة - رضي الله عنه - كما قدّمنا ذكر ذلك. وقبول المرسل على هذه الصّفة, أعظم مفسدة وأدخل في قبول الأكاذيب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فينبغي للعاقل أن ينظر في عيب القريب وعيب الصّديق, كما ينظر في عيب الخصم والبعيد, نسأل الله التّوفيق لذلك آمين آمين. وأمّا حديث عمرو بن العاص فله في الأحكام عشرة أحاديث: الأول: في النّهي عن صيام أيّام التّشريق, رواه عنه أبو داود (¬1) وله شواهد؛ فرواه أبو داود والترمذي والنّسائي عن عقبة بن عامر (¬2) , ومسلم عن نبيشة الهذلي (¬3) , ومسلم (¬4) ومالك في ((الموطأ)) (¬5) عن ¬
عبد الله بن حذافة, والنّسائي (¬1) عن بشر بن سحيم, ومسلم (¬2) عن كعب بن مالك, ومالك في ((الموطأ)) (¬3) عن سليمان بن يسار مرسلاً, والبخاري (¬4) عن ابن عمر وعائشة بلفظ: ((لم يرخّص في صومها إلا لمن لا يجد الهدي)). الثّاني: التّكبير في صلاة عيد الفطر سبعاً في الأولى, وخمساً في الثّانية, رواه أبو داود (¬5) , وفي سنده عمرو بن شعيب, وفي صحّة حديثه خلاف, وأكثر المتأخّرين على صحّته, وقد رواه أبو داود و [ابن ماجه] (¬6) عن عائشة (¬7) , والترمذي (¬8) عن عمرو بن عوف (¬9) , وقال ابن النّحوي: في الباب أحاديث كثيرة أخر, والله أعلم. ¬
الثّالث: حديث أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة من القرآن, منها: ثلاث من المفصّل, وفي سورة الحجّ سجدتان, رواه عنه أبو داود وابن ماجه القزويني (¬1) , وفي إسناده ابن ماجه ابن لهيعة وضعفه مشهور. وهذا الحديث لم يصح عن عمرو قاله ابن النّحوي, وعزاه إلى ابن القطّان وابن الجوزي (¬2) , ومع ذلك فلهذا الحديث شاهد عام وشواهد خاصّة: فأمّا الشّاهد العامّ, فروى البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمر (¬3) /ما يدلّ على أنّ السّجود مشروع في كلّ موضع سجدة في كتاب الله تعالى, قال: ولكنّا منعنا ما زاد على الخمس عشرة للإجماع على المنع من الزّيادة على ذلك, رواه أبو محمد بن حزم (¬4) وغيره. وأمّا الشّواهد الخاصّة: فاعلم أنّه لا نزاع بين الأمّة على قول ابن حزم, وبين الجماهير على قول غيره إلا في خمس سجدات هي: ثلاث في المفصّل, وسجدة في (ص) , والسجدة الثّانية من سورة الحجّ. ¬
فأمّا سجدات المفصّل فإحداهنّ في (النّجم) رواها البخاري والتّرمذي من حديث ابن عبّاس (¬1) , وأبو داود عن ابن مسعود (¬2) , والنّسائي عن المطلب بن أبي وداعة (¬3) , والبخاري عن ابن عمر (¬4) , ومالك في ((الموطأ)) (¬5) عن عمر, والبخاري ومسلم والتّرمذي وأبو داود والنّسائي عن زيد بن ثابت (¬6). والسّجدة الثّانية: في (انشقت) وقد رواها البخاري ومسلم ومالك في ((الموطأ)) وأبو داود والنّسائي عن أبي هريرة (¬7). والسّجدة الثّالثة: في سورة (اقرأ) وقد رواها مسلم وأبو داود والتّرمذي والنّسائي عن أبي هريرة (¬8). ¬
(¬1) وأمّا سجدة (ص) فقد رواها أبو داود عن أبي سعيد الخدري (¬2) , والبخاري والترمذي وأبو داود والنّسائي عن ابن عباس (¬3) 2). وأمّا السّجدة الثانية في الحجّ: فقد رواها أبو داود والتّرمذي عن عقبة بن عامر (¬4) , ورواها مالك في ((الموطّأ)) (¬5) عن عمر بن الخطّاب وولده عبد الله, ولكن موقوفاً عليهما. فهذه الخمس السّجدات المختلف فيها قد تابعه في كلّ واحدة منها من ذكرنا, وأمّا العشر البواقي فإنّ أبا محمد بن حزم ادّعى إجماع الأمّة على السّجود فيها (¬6) , وذكر ابن هبيرة (¬7) أنّه قول فقهاء الأمّة ¬
الأربعة وأتباعهم. قلت: وهو قول الزّيدية (¬1) , بل (¬2) مذهب الزّيدية أنّ السّجدات خمس عشرة على ما روى عمرو بن العاص وهو مذهب أحمد ابن حنبل وغيره من أهل العلم, إلا أنّ الفقيه جمال الدين الرّيمي ذكر في كتابه ((عمدة الأمّة في إجماع الأئمة)) (¬3): أنّ الإجماع لم ينعقد على عشر سجدات وإنّما انعقد على أربع, والصّواب قبول رواية ابن حزم فإنّه ثقة مُطّلع, ووجود الخلاف الشّاذّ لا يقدح في رواية ثقات العلماء في الإجماع؛ لأنّه يمكن أنّهم ادّعوا إجماع أهل عصر من الأعصار, وأنّ ذلك الخلاف تقدّم الإجماع أو تأخّر عنه ممّن لم يصحّ له الإجماع. وأمّا حديث أبي الدّرداء في سجوده مع النّبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرة سجدة فقد رواه أبو داود والتّرمذي (¬4) , ولكن قال أبو داود: ((إسناده واهٍ)). ¬
وأمّا حديث ابن عباس: ((أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في المفصّل بعد هجرته إلى المدينة)) (¬1) فضعيف ومعارض بما هو أصحّ منه من حديث غيره, فقد صحّ عن أبي هريرة (¬2) أنّه سجد في المفصّل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسلم أبو هريرة إلا بعد الهجرة, وهذا أولى لصحّة إسناده, ولأنّ المثبت أولى من النّافي, وابن عباس إنّما قال إنّه لم يسجد, وهذا نفي, ولعلّه سجد ولم يعلم ابن عباس, فيقبل المثبت لما في ذلك من حمل الجميع على السّلامة. وهذه السّجدات العشر في: الأعراف, والرّعد, والنّحل, وسبحان, ومريم, والأولى من الحجّ, والفرقان, والنّمل, والجرز (¬3) , والسّجدة. الحديث الرّابع: حديث تقريره - صلى الله عليه وسلم - لعمرو على التيمّم حين احتجّ بما يدلّ أنّه خاف على نفسه الموت من شدّة البرد وهو (¬4) قوله تعالى: ((ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيما)) (¬5) [النساء/29] ¬
وله شاهد على ذلك, وهو الإجماع/ أولاً (¬1) , وما أخرجه أبو داود عن ابن عبّاس (¬2) ثانياً. الحديث الخامس: حديث: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران)) الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنّسائي و [ابن ماجه] (¬3) , وقد رواه التّرمذي, والنّسائي عن أبي هريرة (¬4). السّادس: حديثه في الحثّ على السّحور, لكونه فصلاً بين صيامنا وصيام أهل الكتاب, رواه عنه مسلم وأهل السّنن (¬5) إلا ابن ¬
ماجه. وقد وردت في الحثّ على ذلك أحاديث؛ فرواه البخاري ومسلم والترمذي والنّسائي (¬1) عن أنس, ورواه النّسائي وأبو داود عن عرباض بن سارية (¬2) , ورواه النّسائي عن المقدام بن معدي, وعن خالد بن معدان (¬3) , ورواه أبو داود عن أبي هريرة (¬4). السّابع: حديث: ((أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندخل على النّساء بغير إذن أزواجهنّ)) رواه عنه التّرمذي وحسّنه (¬5) , وله شاهد عن عمرو بن الأحوص رواه الترمذي وصححه (¬6) , وفيه: ((فحقّكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم من تكرهون, ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون)). وفي ((صحيح مسلم)) (¬7) عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: ((لا يدخل رجل بعد يومي هذا سرّاً على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان)) فقوله: ((سرّاً)) تقييد يقتضي إباحة ذلك بإذن الزّوج لأنّه يخرج ¬
به عن السّرّ, وإنّما يذكر إذن الزّوج في هذا الحديث؛ لأنّه في المغيبة, وحديث عمرو بن الأحوص, وعمرو بن العاص في الحاضر زوجها, فهذان شاهدان على تحريم الدّخول إلا بإذن الزّوج, وأمّا تحريم الدّخول مطلقاً فيشهد له مع الشّاهدين المذكورين: حديث عقبة بن عامر خرّجه البخاري ومسلم والترمذي (¬1). وحديث جابر خرّجه مسلم (¬2). وحديث ابن عبّاس خرّجه البخاري ومسلم (¬3) , فهذه خمسة شواهد على أصل النّهي وعمومه, واثنان على بيانه وخصوصه. الثّامن: حديثه في تكفير الإسلام والحجّ والهجرة لما قبلها رواه عنه مسلم (¬4). فأمّا تكفير الإسلام لما قبله؛ فإجماع, والشّواهد عليه كثيرة. وأمّا تكفير الحجّ لما قبله؛ فله شاهد في التّرمذي والنّسائي عن ابن مسعود (¬5) , ورواه النّسائي عن ابن عباس (¬6) , ورواه البخاري ومسلم والتّرمذي والنّسائي ومالك عن أبي هريرة (¬7). ¬
وأمّا تكفير الهجرة ما قبلها؛ ففي النّسائي (¬1) عن فضالة بن عبيد ما يشهد لمعنى ذلك, لكن بزيادة الإيمان والإسلام, وهذه الزّيادة في حكم المذكورة في حديث عمرو, إذ لا عبرة بهجرة الكافر إجماعاً بل صحّتها غير متصوّرة (¬2) , كصلاته وسائر قرباته الشّرعية, مع ماله من الشّواهد العامّة من القرآن والسّنة كقوله تعالى: ((إنّ الحسنات يذهبن السّيئات)) [هود/114] , وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واتبع السّيئة الحسنة تمحها)) رواه النّووي في ((مباني الإسلام)) (¬3). التّاسع: حديث: ((قلت يا رسول الله أيّ النّاس أحبّ إليك؟ قال: عائشة. قلت: من الرّجال؟ قال: أبوها)) فأمّا ما يخصّ عائشة من هذا فرواه عنه مسلم والتّرمذي والنّسائي (¬4) , وله [شواهد] (¬5) , أمّا في حبّها فعن أبي موسى بلفظ حديث عمرو رواه (¬6) التّرمذي (¬7) , وأمّا في ¬
تفضيلها على النّساء فله شاهدان: أحدهما: عن أنس رواه البخاري ومسلم والتّرمذي (¬1) , وثانيهما: عن أبي موسى رواه البخاري ومسلم والتّرمذي والنّسائي (¬2). وأمّا ما يخصّ أبا بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - من هذا الحديث فرواه عن عمرو: التّرمذي والنّسائي (¬3) , وله شاهد (¬4) بمعناه, وهو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة: ((لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر خليلاً)) رواه البخاري (¬5) / من حديث ابن مسعود (¬6) , ورواه مسلم من حديث جندب بن عبد الله (¬7) , وله شاهد أيضاً موقوف على عمر بن الخطّاب ¬
- رضي الله عنه - رواه التّرمذي (¬1). العاشر: قوله في عدّة المتوفّى عنها: ((إنّها أربعة أشهر وعشر)) يعني وإن كانت أمّ ولد, رواه أبو داود وابن ماجه (¬2) وهو موقوف عليه, وعموم القرآن حجّة لقوله. فهذه جملة ما لعمرو بن العاص في الكتب السّتّة مما فيه حكم ظاهر, أو يمكن استخراج حكم منه, على أنّ فيما ذكرته من أحاديثه ما يمكن القدح في صحّته عنه, فالذي في ((الصحيحين)) له ستة أحاديث اتّفاقاً على ثلاثة, وانفرد البخاري بحديث ومسلم بحديثين, والذي بقي من حديثه شيء قليل لا يتعلّق به حكم, وهو أقلّ الثلاثة حديثاً, وفيما بقي حديثان لم أعرف ما فيهما: أحدهما: حديث: ((كنّا مع عمرو في حجّ أو عمرة فلمّا كان بمرّ الظّهران إذا نحن بامرأة في هودجها)) (¬3). وثانيهما: حديث: ((فزع النّاس بالمدينة فرأيت سالماً احتبى ¬
سرد أحاديث المغيرة بن شعبة مما له تعلق بالأحكام مع ذكر شواهدها ((وله ثلاثة وعشرون حديثا))
بسيفه وجلس في المسجد)) (¬1) لم أعرف تمامها, يبحث هل فيهما حكم شرعيّ؟ وهل له شاهد؟ ويُلحق ذلك. وأمّا حديث المغيرة: فله -فيما يتعلّق بالحلال والحرام- ثلاثة وعشرون حديثاً أو أقل: الأوّل: حديث (¬2) المسح على الخفّين, وهو حديث مجمع على صحّته, لكن ادّعى بعض الشّيعة أنّه منسوخ, لنزول المائدة بعده وفيها الأمر بالغسل, وقال الفقهاء: إنّ المسح كان قبل المائدة وبعدها كما ثبت ذلك في حديث جرير المتفق على صحّته (¬3) , وهذا الحكم مع صحته (¬4) مرويّ من طرق كثيرة: فرواه البخاري ومسلم وأبو داود والتّرمذي والنّسائي عن جرير بن عبد الله (¬5) , ورواه البخاري ومالك ¬
وأبو داود (¬1) والنّسائي عن سعد بن أبي وقّاص (¬2) , ورواه مسلم وأبو داود والتّرمذي والنّسائي عن بلال (¬3) , ورواه التّرمذي عن جابر بن عبد الله (¬4) , ورواه البخاري والنّسائي عن عمرو بن أميّة (¬5) , ورواه أبو داود والتّرمذي عن بريدة (¬6) , ورواه الحسن البصريّ عن سبعين صحابيّاً (¬7). وأمّا المسح على الجوربين فلم يصح عن المغيرة كما قاله الحافظ الكبير عبد الرّحمن بن مهدي (¬8) , ومع ذلك فله شاهد عن أبي موسى (¬9) , وكذلك مسح أسفل الخفّ فإنّه لم يصح عن ¬
المغيرة (¬1). وقال أبو عيسى التّرمذي (¬2): هذا حديث معلول, قال: وسألت أبا زرعة ومحمداً -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقالاً: ليس بصحيح. الثّاني: حديثه في الصّلاة على الطّفل (¬3) وله شواهد, فرواه أبو داود (¬4) عن عبد الله البهي مولى مصعب بن الزّبير, ورواه عن عطاء مرسلاً, ورواه التّرمذي (¬5) عن جابر بشرط الاستهلال. ورواه مالك في ((الموطّأ)) (¬6) عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة موقوفاً. ورواه البخاري (¬7) عن الحسن البصريّ موقوفاً عليه. وأمّا ما رواه أبو داود (¬8) عن عائشة: ((أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلّ على ابنه إبراهيم)) فمعارض برواية عطاء وعبد الله البهي أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلّى عليه, والمثبت أولى (¬9) , ويعتضد حكم روايتهما بعموم حديث جابر ¬
المتقدّم, وفي رفعه ووقفه خلاف يترجّح على حسب القواعد. /الثّالث: حديث ((بعث عمر النّاس في أفناء الأمصار)) أخرجه البخاري (¬1) , وفيه ((أنّ المغيرة قال لكسرى (¬2): إنّ نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نقاتلكم حتّى تعبدوا الله وحده أو تؤدّوا الجزية)) , وهذا يشهد له حديث عبد الرّحمن بن عوف في المجوس: ((سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب)) (¬3) , وهو صحيح, وإنّما قلت ذلك لأنّ كسرى مجوسيّ, فحديث عبد الرّحمن يشهد لحديث المغيرة هذا. الرّابع: للنّسائي وابن ماجه (¬4) حديث النّهي عن إسبال الإزار, ¬
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنّسائي عن ابن عمر (¬1) , والنّسائي عن ابن عبّاس (¬2). الخامس: لمسلم والنّسائي والتّرمذي وأبي داود حديث المسح على العمامة (¬3) , وقد رواه أبو داود عن ثوبان وأنس (¬4) , ورواه أحمد وأبو داود وسعيد بن منصور عن بلال (¬5) , ذكره عبد السلام في ((المنتقى)) (¬6). السّادس: لأبي داود (¬7) حديث تحريم بيع الخمر, وشواهده أكثر من أن تذكر. السّابع: للبخاري ومسلم والنّسائي (¬8): ((كسفت الشّمس يوم موت إبراهيم)) , فأمّا تاريخ الكسوف بيوم مات (¬9)؛ فرواه مسلم ¬
وأبو داود والنّسائي عن جابر (¬1) , وأمّا بقيّة الحديث الذي يتعلّق به الحكم فهو أشهر من أن تذكر شواهده. الثّامن: لأبي داود والتّرمذي (¬2) حديث: ترك التّشهّد الأوسط وسجود السّهو لنسيانه, وله شاهد من حديث عبد الله بن بحينة خرجه البخاري ومسلم ومالك وأهل السّنن إلا ابن ماجه (¬3). وأمّا روايته فيه لسجود السّهو قبل التّسليم فله شواهد: منها حديث ابن بحينة المقدّم خرجه من تقدّم ذكره, وخرّجه التّرمذي عن عمران بن حصين (¬4) , وأبو داود عن ابن مسعود (¬5) , ومسلم ومالك والنسائي والتّرمذي وأبو داود عن أبي سعيد الخدري (¬6) , والتّرمذي عن عبد الرّحمن بن عوف وأبي هريرة (¬7). ¬
وقال أبو داود (¬1) -بعد رواية حديث المغيرة-: ((وفعل مثل ما فعل المغيرة: سعد بن أبي وقّاص, وعمران بن حصين, والضّحّاك, ومعاوية, وأفتى به ابن عبّاس, وعمر بن عبد العزيز)). التّاسع: (¬2) حديث: ((لا تسبّوا الأموات)) , فقد رواه البخاريّ وأبو داود والنّسائي عن عائشة (¬3) , وأبو داود والتّرمذي عن ابن عمر (¬4). العاشر: [لابن ماجه] (¬5) حديث: ((أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم فبال قائماً)) , وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والتّرمذي والنّسائي عن حذيفة (¬6). الحادي عشر: (¬7) حديث: ((دية الجنين غرّة)) (¬8) , وقد رواه ¬
البخاري ومسلم والتّرمذي عن أبي هريرة (¬1). الثّاني عشر: لأبي داود وابن ماجه حديث: ((لا يصلّي الإمام في الموضع الذي صلّى فيه حتّى يتحوّل)) , رواه عنه أبو داود وابن ماجه (¬2) , وقد رواه أبو داود عن أبي هريرة (¬3). الثّالث عشر: للتّرمذي والنّسائي وابن ماجه حديث: ((من اكتوى [أو] استرقى فقد برىء من التّوكّل)) , رواه عنه التّرمذي والنّسائي وابن ماجه (¬4) , وقد رواه أو معناه أبو داود (¬5) عن عبد الله بن عمرو بن العاص, وجابر بن عبد الله, وعبد الله بن عكيم, ورواه عن ابن عمر, ورواه البخاري ومسلم والتّرمذي عن ابن عبّاس (¬6) , ورواه مسلم عن عمران بن الحصين (¬7). الرّابع عشر: حديث: ((من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من ¬
النّار)) , رواه عنه البخاري ومسلم والتّرمذي (¬1) , وهو حديث متواتر مستغن عن ذكر الشّواهد. الخامس عشر: حديث: ((من نيح عليه فهو يعذّب بما نيح عليه)) , وهو طرف من الحديث قبله, وله شواهد كثيرة: فرواه البخاري ومسلم والتّرمذي والنّسائي عن عمر بن الخطّاب (¬2) , ورواه النّسائي عن عمران ابن حصين (¬3) , ورواه التّرمذي عن أبي موسى (¬4) , /وله شواهد غير هذه, وقد ذكرنا وجهه فيما تقدّم. السّادس عشر: حديث: ((فرض الجدّة السّدس)) , وقد رواه محمد بن مسلمة رواه عنه البخاري (¬5) وأبو داود والتّرمذي (¬6) , ورواه التّرمذي (¬7) عن ابن مسعود (¬8) , وأبو داود عن بُريدة (¬9) , وهو إجماع. ¬
السّابع عشر: [للبخاري ومسلم] (¬1) حديث: ((ما سأل أحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدّجّال أكثر ممّا سألته, يقولون: إنّ معه جنّة وناراً, فقال: هو أهون على الله من ذلك (¬2))) , وله شواهد, ومن العجب أنّ من النّاس من يتوهّمها معارضات له, وذلك [أنّ] جميع ما ورد في ((الصحيحين)) وغيرهما من دواوين الإسلام عن غير واحد من الصّحابة رضي الله عنهم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّ ناره جنّة وماءه (¬3) نار)) وهذا يعضد حديث المغيرة فإنّها متّفقة على نفي أن يكون مع الدّجال جنّة ونار على الحقيقة, وإنّما أوردت هذا الحديث وإن لم يكن تحته شيء من الأحكام, للتنبيه على هذه النّكتة اللطيفة, ففيها جمع بين الأحاديث (¬4) , والله أعلم. الثّامن عشر: [لمسلم والبخاري] (¬5) حديث: ((لا يزال أناس من أمّتي ظاهرين على الحقّ حتّى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون (¬6))) وقد وقد مرت شواهده في أحاديث معاوية (¬7). التّاسع عشر: حديث: ((إنّ المرأة يعقل عنها عصبتها ويرثها بنوها)) ¬
رواه عنه أبو داود (¬1) , وله شواهد منها: عن أبي هريرة رواه الجماعة إلا ابن ماجه (¬2) , وهو مثل حديث المغيرة, وذكر الدّية فيه فقط فيما تقدّم من حديث أبي هريرة, وفي ((الموطّأ)) (¬3) والنّسائي (¬4) عن ابن المسيّب مرسل. وفي ((سنن أبي داود)) والنّسائي عن ابن عبّاس (¬5). الموفّي عشرين: حديث: ((ترك الوضوء مما مسّت النّار)) رواه عنه مسلم وأبو داود والنّسائي (¬6) , وله شواهد: فرواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عبّاس (¬7) , وعمرو بن أميّة (¬8) , وميمونة (¬9). ورواه مسلم عن أبي رافع (¬10) , ومالك في ((الموطّأ)) (¬11) , وأبو داود والتّرمذي عن جابر (¬12). ¬
الحادي والعشرون: [للبخاري ومسلم] (¬1) حديث سعد بن عبادة وفيه: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ إنّه لغيور)) وفيه: ((ما أحد أغير من الله (¬2))) , ولهذا المعنى المتعلّق بأحاديث الصفّات شاهد في ((الصّحيحين)) عن عائشة (¬3). الثّاني والعشرون: حديث: نهي آكل الثّوم من دخول المسجد (¬4) , وقد مرّت شواهده في أحاديث معاوية (¬5). الثّالث والعشرون: حديث: مشي الرّاكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها (¬6) , وفيها وجهان: أحدهما: أنّه مما لا يتعلّق به تحليل محرّم ولا تحريم محلّل, وإنّما هو في آداب المشيّع للجنازة. وثانيهما: أنّه مما لم يصححه إلا بعضهم كالحاكم وابن السّكن, وقد ضعّفه غير واحد من أهل النّقد, ولم يصححوه عن المغيرة. فقال الإمام المجتهد أبو الوليد المالكي في كتابه ((نهاية ¬
المجتهد)) (¬1). وقد ذكر هذا الحديث وغيره من أحاديث المشي خلف الجنازة ما لفظه: ((وهي أحاديث يصحّحونها -يعني أهل الكوفة- ويضعّفها غيرهم)). وقد أشار إلى تضعيفه الإمام أبو عمر بن عبد البرّ (¬2) , والقاضي ابن العربي (¬3) المالكيّان فإنّهما أشارا إلى ضعف أحاديث الباب كلّه إلا حديث ابن عمر مع أنّه مرسل من مراسيل الزّهري على الصّحيح عند أكثر الحفّاظ, فإذا كان أصحها مع تعليله بالإرسال فما ظنّك بغيره؟ ولهذا ترك الشّيخان تخريج شيء من هذه الأحاديث في كتابيهما, مع خلوّ كتابيهما عمّا يقوم مقامهما, وذلك نادر فيهما, ومع عدم الصّحّة عن المغيرة لا يلزم ذكر الشّواهد في رعاية ما قصدته من مراعاة ما يتفق الشّيعة وأهل السّنة عليه, من وجوب العمل بأحاديث ((الصحيحين)) وما حكم الأئمة بصحّته من أحاديث دواوين الإسلام السّتّة. ومن العجب أنّ الحاكم هو المصحّح لحديث المغيرة هذا على تشيّعه (¬4) , وكلامنا إنّما هو في دفع اعتراض بعض الشّيعة, فهذا شاهد على المعترض من أصحابه ودليل على أنّ أهل السّنة لم /يختصّوا بذلك. الرّابع العشرون: حديث: ((كان إذا ذهب المذهب أبعد)). رواه ¬
عنه أهل ((السّنن)) (¬1) إلا ابن ماجه, وقد رواه النّسائي عن عبد الرّحمن بن أبي قراد (¬2) , والعجب أنّ هذا الحديث وحديثاً نحوه من رواية المغيرة أيضاً هما أوّل ما في كتاب ((شفاء الأوام)) (¬3) من كتب الزّيدية أوردهما مصنّفه ناسباً لهما إلى المغيرة, واحتجّ بهما من غير ذكر غيرهما, وهم ينكرون على المحدّثين مثل ذلك!! وهذا آخر ما عرفت من أحاديث المغيرة مما يتعلّق بالتّحليل والتّحريم, ولم يبق من حديثه إلا القليل مما يتعلّق بذلك. على أنّ فيها ما يمكن القدح في صحّته عنه: فالذي في ((صحيحي البخاري وملسم)) منها اثنا عشر حديثاً اتّفقا على تسعة وانفرد البخاريّ بحديث (¬4) ومسلم بحديثين. وقد عرفت بهذه الجملة بطلان ما توهّمه المعترض من دعوى بطلان أحاديثهم, وسقط قوله على كلّ مذهب, وصحّت أحاديثهم [هذه] (¬5) على وجه لا شبهة فيه على قواعد الخصوم, والله سبحانه أعلم. ¬
حث المعترض على تعلم الكلام
قال المعترض: ويقال: ما تقول إذا وردت شبهات الملحدين ومشكلات المشبّهة والمجبّرة المتمرّدين, وقد ساعدك النّاس إلى إهمال النّظر في علم الكلام؟ وهل هذا إلا مكيدة للّدين؟ إلى آخر ما ذكره. أقول: لا يخلو الكفرة إمّا أن يطالبوا (¬1) منّا أدلّتنا حتّى يسلموا أو يوردوا علينا شبههم حتّى نترك الإسلام, فهاتان مسألتان. أمّا المسألة الأولى: وهي إذا سألونا أدلّتنا حتّى يسلموا, فالجواب من وجوه: الوجه الأوّل: أن نقول لأهل الكلام: ما تقولون للكفرة إذا قالوا: إنّ أدلّتكم [المحرّرة] (¬2) في علم الكلام شبهه ضعيفة وخيالات باردة, كما قد قالوا ذلك وأمثاله, فما أجبتم به عليهم بعد الاستدلال (¬3) والنّزاع والخصومة؛ فهو جوابنا عليهم قبل ذلك كلّه. فإن قالوا: إنّه يحسن منا بعد (¬4) إقامة البراهين العقليّة (¬5) أن نحكم عليهم بالعناد ونرجع إلى الإعراض عنهم وإلى الجهاد, وأمّا أنتم فإنّه يقبح منكم ذلك قبل إقامة البراهين. قلنا لهم: إنّ الحجة لله تعالى عليهم قد تمت -قبل أن تذكروا ¬
لهم تلك البراهين- بما خلق الله تعالى لهم من العقول, وأرسل إليهم من الرّسل, فكما أنّهم لو ماتوا على كفرهم قبل مناظرتكم لهم حسن من الله تعالى أن يعذّبهم بالنّار, فكذلك يحسن منّا أن نقول لهم قد أقام الله الحجّة عليكم وعرّفكم صحة ما أمركم بالإقرار به من الإسلام, وإنّما كلّفنا ... (1أن ندعوكم إلى الإقرار مما قد عرّفكم به وكلّفنا (¬1) بجهادكم إن لم تجيبوا إلى ذلك, وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولنا فيه أسوة حسنة في فعله وقوله؛ أمّا فعله فظاهر فإنّه معلوم من الدّين ضرورة أنّه كان يقاتل الكفّار قبل المناظرة بالأدلّة, وإنّما اختلف في قتالهم قبل الدّعوة وصحّ أنّه - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم قبل الدّعوة, في آخر الأمر. وأمّا قوله: فإنّه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: ((أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) (¬2) الحديث, ولم يقل فيه: أمرت أن أجادل النّاس حتّى يقولوا ذلك, وكذلك قال الله تعالى: ((إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد)) [الرعد/7] وقالت الرسل الكرام عليهم السلام: ((وما علينا إلا البلاغ المبين)) [يس/17]. وتحقيق هذا الجواب: أنّ أهل الكلام إمّا أن يحكموا على الكفّار قبل المناظرة وفي خلالها بأنّهم معذورون لا إثم عليهم في الكفر, أو لا, فإن قالوا بالأوّل, خالفوا المعلوم من ضرورة الدّين وإجماع المسلمين, وإن قالوا بالثّاني قلنا/ لهم: فالحكم الذي حكمتهم عليهم به بعد المناظرة قد كان حاصلاً قبلها, فإن كان قصدكم ¬
بالمناظرة العلم بعنادهم فهو معلوم قبلها, إذ لو لم يكونوا معاندين كانوا معذورين غير معذّبين عند الله ولا ملومين, لأنّ التّكليف بما لا يعلم ولا يمكن غير جائز ولا واقع, على ما هو مقرّر في مواضعه, وإن كان قصدكم بالمناظرة تمكينهم من معرفة الله فقد مكّنهم الله تعالى من ذلك وهو غير متّهم في إقامة الحجّة وقطع العذر. وفي ((صحيح البخاري)) (¬1) مرفوعاً: ((ما أحد أحب إليه العذر من الله, من أجل ذلك أرسل الرّسل)). الوجه الثّاني: أنّ الكفّار متى سألونا الدّليل على ثبوت الإسلام, قلنا لهم: انظروا في ملكوت السّماوات والأرض ومعجزات الأنبياء ونحو ذلك من أدلّة الإسلام على الإنصاف وطلب معرفة الحق, فإنّ نظرنا لأنفسنا لا يولّد العلم لكم (¬2) , وذكرنا للأدلّة التي نظرنا في صحّتها لا ينفعكم أيضاً, فإنّ ذكرها لكم من غير أن تنظروا في صحّتها لا يولّد العلم لكم, وعلى الجملة؛ فإيجاد العلم بصحة الإسلام في قلوب الكفّار غير مقدور للمسلمين لا بأدلة الكلام, ولا بأدلّة السّلف. لأنّ وجود العلم متوقف إمّا على نظر الكفّار على الوجه الصّحيح أو على خلق الله تعالى له, وكلاهما غير مقدور لنا, فلم يبق إلا أنا نأمرهم بأن ينظروا فيما نظرنا فيه على مقتضى ما خلق الله في عقولهم السّليمة, ومقتضى ما علّمهم الله على ألسنة أنبيائه الكرام عليهم الصّلاة والسّلام, فبمجموع العقل وبعثة الرّسل تمّت الحجّة عليهم بإجماع ¬
المسلمين بل إجماع العقلاء المنصفين, قال الله تعالى: ((لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل)) [النساء/165] وأمثال ذلك, وإذا كانت حجّة الله علينا وعليهم إنّما هي العقل, وبعثة الرّسل, ونحن فيهما على سواء في القدر الذي تقوم به الحجّة, ويحصل معه التّمكّن من الإسلام, لم يجب علينا أن نعرّفهم بأمر قد شاركونا في التّمكّن من معرفته بغير علم منّا. ألم تر أنّه لم يجب على المفتي أن يفتي العامّيّ في حضرة الرّسول, فكذلك لا يجب علينا أن نعرّف الكفّار بمقتضى العقول مع وجود العقول, فإن قال الكافر: إنّي قد نظرت في جميع ما ذكرتم بجهدي فلم أجد شيئاً ممّا ذكرتم يدلّ على الإسلام, فإنا نقطع على أنّه كاذب معاند, مثلما أنّ المتكلّمين يقطعون على ذلك بعد المناظرة, فإنّما علمنا أنّهم معاندون في ذلك -مع أنّه غيب لا سبيل لنا إلى معرفته- لأنّ الله تعالى أخبرنا بذلك حيث يقول: ((قل فلله الحجّة البالغة)) [الأنعام/149] وغير هذه الآية الكريمة. وبمعنى هذا الجواب جاء القرآن صريحاً, قال الله تعالى: ((إنّ الدّين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب, فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)) [آل عمران/19 - 20] فما تركت هذه الآية شيئاً مما ذكرناه والحمد لله. فإن قلت: قد يكون في النّاس من هو بليد لا يستطيع أن ينظر وحده, ولا يعرف الأدلّة إلا بالتّعليم فيجب تعليمه.
والجواب/ من وجوه: الأوّل: لا سبيل على قواعدكم إلى العلم القاطع بوجود من هو كذلك. سلّمنا, فإنّ الله تعالى حين يعلم منه النّظر وطلب الحقّ يلهمه ويمكّنه لا محالة. وسلمنا أنّ الله تعالى لم يمكّنه من ذلك لبلادته, فمن أين أنّه مكلّف بالعلم؟ وما المانع من أنّه غير مكلّف عند من لا يجيز التّقليد في هذه المعارف, ويكون لاحقاً بالصّبيان المميّزين العارفين بالعلوم الضّرورية؟ أو يكون مكلّفاً بالتقليد أو ما يقوم مقامه من الظّنّ عند من يجيز ذلك, كأبي القاسم الكعبي من المعتزلة, والمؤيّد من الزّيدية, وغير واحد من أهل السّنة. الوجه الثّاني: أن نقول: قد يكون في النّاس من لا يفهم الأدلّة المحقّقة بالتعليم -أيضاً- لشدّة بلادته, فما أجبتم به (¬1) فهو جوابنا. فإن قلتم: الأدلّة تمنع وجود مثل هذا, فإن وجد فغير مكلّف, قلنا: ونحن نقول بمثل هذا فيمن لا يتمكّن من معرفة الإسلام بمجرّد خلق العقل وبعثة الرّسل. الوجه الثّالث: أنّ الذي يعرفه أهل الجهل من المسلمين يكفي أهل البلادة من الكفّار, فإنّه لا يطالب بالأدلّة الدّقيقة -التي لا يعرفها إلا علماء الكلام- إلا أهل الذّكاء من الكفّار, وأهل الذّكاء منهم قد تمّت عليهم الحجّة ومكّنهم الله من المعرفة, ولا يجب علينا تعريفهم بما هم ممكّنون من معرفته من غير تعريفنا كما تقدّم. ¬
الوجه الثالث: من (الأصل) (¬1) أنّ (¬2) كلّ مسلم يبذل جهده في دعاء الكفّار إلى الله تعالى بالدّليل والموعظة, على قدر قوّة عقله وبلاغة منطقه, من متكلّم أو محدّث أو عامّيّ, ولا يجب تعلّم الكلام لذلك, فليس كلّ من قرأ الكلام تمكّن من تمييل القلوب المصرّة على الكفر إلى الإسلام, وإنّما يتمكّن من ذلك من أهل الكلام من آتاه الله تعالى صفاء الذّهن, وحسن الفهم, والبراعة في تعليم غوامض العلم, وأهل هذه الصّفة العزيزة قليل من المتكلّمين وغير محتاجين إلى تعلم الكلام, بل في فطرهم ما يكفيهم, كما كان الذين ابتكروا علم الكلام وسبقوا إليه. الوجه الرابع: سلّمنا أنّه من عرف علم الكلام تمكّن من محاجّة الكفّار وإفحامهم دون غيره, ولكن ذلك لا يجب ولا يستحب, أمّا أنّه لا يجب فلعدم ما يدلّ على وجوبه, وأمّا أنّه لا يستحب فلما يخاف من المضرّة الحاصلة بمعرفته كما تقدّم تحقيق ذلك في (الوهم الثّاني عشر) (¬3). فإن قيل: قد ورد في السّمع ما يدلّ على وجوب البيان على العلماء؛ فالجواب من وجوه: الوجه الأوّل: أنّ المراد بذلك بيان ما لم يبيّنه الله تعالى للعامّة إلا بواسطة علماء الشّريعة, من أحكام الفروع وأركان الشّريعة, وأمّا العلوم العقلية التي ساوى الله تعالى بين الجميع فيها فلا يجب ¬
تعليمها لأنّ ما لم يتعلّق بالإسلام من ذلك لم (¬1) يجب إجماعاً, وما يتعلّق بالإسلام منه فقد بينه الله تعالى, وما بينه الله لم تجب إعادة البيان, ألا ترى أنّ ما بيّنه بعض العلماء لم تجب إعادة بيانه, مع أنّه ربما ظنّ أنّه قد بيّن للخصم ولم يتبيّن للخصم صحّة ما ذكره, فأولى وأحرى أن لا تجب إعادة بيان ما بينه الله تعالى, لأنّه يعلم البواطن ويعلم أنّه قد أقام الحجّة, وقد أعلمنا بذلك فعلمنا بخبره لنا قيام الحجّة على الكفّار, وكان ذلك أتمّ من مناظرتنا لهم, غاية ما في الأمر أنّ هذا تخصيص للعمومات الموجبة لتعلّم (¬2) الجاهل, فهو تخصيص صحيح لأنّه تخصيص بالعقل, وتخصيص العموم جائز عند جماهير (¬3) العلماء بالقياس الظّنّي, كيف بالدّليل العقلي!. الوجه الثّاني: أنّا نخصّص تلك العمومات بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فإنّه - عليه السلام - لم يشتغل ببيان كيفية النّظر وتعليم العقلاء ذلك, بل دعا النّاس إلى الإسلام, وقاتلهم عليه وبلّغ ما أوحي إليه, والعلماء ليسوا أبلغ من الأنبياء, وقال تعالى في حقّ الأنبياء: ((وما علينا/إلا البلاغ المبين)) [يس/17] كذلك العلماء فإنّما هم ورثة الأنبياء, وأهل السّنة قد قاموا بحقّ الوراثة للعلم النّبوي, وقد علمنا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرنا بالمناظرة قبل قتال الكفّار, وإنّما أمرنا بالدّعاء قبل القتال حتّى اشتهرت الدّعوة النبوية وقاتل - عليه السلام - قبل الدّعوة. ومن المعلوم أنّ الكفّار لو اعتذروا بالشّبه وجاءوا بفيلسوف ¬
يجادل عنهم, وطلبوا من النّبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الجهاد حتّى يتعلّموا أدلّة علم الكلام، ويجيب النّبي - صلى الله عليه وسلم - على (¬1) جميع شُبه الفلاسفة القادحة في العلم حتّى يؤمنوا على يقين، ما عذرهم النّبي - صلى الله عليه وسلم - في الكفر يوماً واحداً، وكيف يمهلهم ويترك جهادهم حتّى يتعلّموا ذلك! وتعلّم ذلك على الوجه المرضيّ لم يحصل لأهل الّدربة في النّظر إلا في مدّة طويلة، وإذا جازت المهلة في مدّة النّظر حتّى يحصل للنّاظر العلم بما ذكره المعتزلة، وجب الرّجوع في معرفة مدّة المهلة إلى النّاظر، لأنّ النّاس يختلفون في سُرعة حصول العلم بالنّظر على حسب فطنهم، ومعرفة ذلك بالوحي بعد انقطاعه غير ممكنة، فلزم الخصم أمهال من اعتذر بذلك حتّى يقرّ بحصول العلم له وأنّه معاند، أو الرّجوع إلى ما بدأ به أهل الحديث من الدّعاء والجهاد والاكتفاء ببيان الله تعالى. الوجه الخامس: أنّها وردت نصوص تقتضي العلم أو الظّنّ أنّ الخوض في الكلام على وجه التحكيم للأدلّة العقلية في المحارات الخفيّة، وتقديمها على النّصوص السّمعية مضرّة عظيمة، ودفع المضرّة المظنونة واجب عقلاً بإجماع الخصوم ودليل المعقول. فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام خوف مضرّة أيضاً. فالجواب: أنّ تسمية المرجوح خوفاً غيرُ مسلّم، وإلاّ لسُمّينا خائفين لسقوط الأبنية القائمة الصّحيحة علينا. وسلّمنا أنه يسمّى خوفاً. لكن دفع المضرّة الموهومة أو المجوّزة لا يجب، لا سيما إذا لم يندفع إلا بارتكاب ما فيه مضرّة ¬
المسألة الثانية
مظنونة فإنّ ذلك قبيح بالضّرورة مع تساوي المضرّتين أو احتمال تساويهما. الوجه السّادس: من قبيل المعارضة لبعض المتكلّمين، وذلك أنّ في المتكلّمين من المعتزلة طائفتين عظيمتين لا توجبان النّظر: أحدهما: من يُجيز التقليد في أصول الدّين مثل شيخ البغدادية أبي القاسم الكعبى وأتباعه، وإمام الزّيدية المؤيّد بالله وأتباعه. ثانيهما: من يقول: بأنّ المعارف ضرورية من المعتزلة وعلماء الزّيدية، والمعتزلة مطبقون على تعظيم هاتين الطّائفتين منهم، وإن قطعوا ببطلان ماقالاه فنقول لهم: جواب المحدّثين على أهل الفلسفة والكفر مثل جواب هاتين الطّائفتين وقد قال بهما جلّة من شيوخهم (¬1) النظّار المتحذلقين (¬2) الكبار، فلا تسرفوا في التشنيع على أهل الأثر، فقد شاركهم في ذلك جماعة من أهل (¬3) النّظر. ويتعلّق بهذا بحثٌ وجوابه تركتهما اختصاراً. وأمّا المسألة الثّانية: وهي قولهم: ما يصنع المحدّثون/ عند ورود الشّبه الدّقيقة من الفلاسفة وغيرهم، وذكرهم لحكاية ملك الرّوم، وإرساله إلى الرّشيد يطلب المناظرة، وإنّ الرشيد أمر بمحدّث فسألوه عن الدّليل على ثبوت الصّانع فاحتجّ عليهم بقول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس دعائم)) (¬4) الحديث فكتبوا إلى الرّشيد في ¬
ذلك وطلبوا غيره، فأرسل بمتكلّم فدسوا عليه من فهّمه (¬1) في طريقه فوجدوه كما يحذرون، فسمّوه قبل الوصول إليهم. والجواب على ذلك من وجهين: الوجه الأوّل: معارضة وهي أن نقول: أخبرنا ما كان يصنع الصّحابة والتابعون ومن أجاز التقليد في الأصول من المتكلّمين وأهل المعارف الضّرورية منهم، وأوّل من ابتكر علم الكلام، فإنّه لا يمكن من لا يعرف الكلام أن يصنع مثلهم (¬2)؟ فإن قالوا: إنّه كان في الصّحابة وكّل من ذكرتم من يتمكّن من ذلك من غير تعليم ولا رياضة في الكلام لفرط ذكائه، قلنا: ما المانع أن يكون في كّل عصر من هو كذلك مثل أوائل مشايخ الكلام، بل أوائل أهل الفلسفة والبراهمة، بل الذي يتمكّن من حلّ الشّبه من أهل الكلام وهو من خصّه الله تعالى بالذكاء والفطنة، وليس كل من قرأ الكلام صلح للذّبّ عن الدّين ومناظرة الملحدين، وإذا كانت الصّلاحية لذلك لذلك موقوفة على الذّكاء وحسن الإيراد والإصدار، فذلك موجود في المتكلّمين وغيرهم كما أقرّ المتكلّمون أنه كان في الصّحابة من يعرف ذلك ويتمكن منه من غير رياضة في تعلّم الكلام، وإذا اتفق لبعض أهل الحديث البلداء مالا يخفى على الأذكياء ضعفه، فذلك (¬3) قد يتّفق لبعض أهل الكلام من الاختيارات الرّكيكة مالا يخفى الأذكياء ضعفه كما قدّمنا في ¬
(الوهم الثّاني عشر) (¬1). الوجه الثّاني: أن أصولكم تقتضي عدم الخوف من ذلك، لأنّ عندكم أنّ النّظر واجب على العبد، والبيان واللّطف واجبان على الله تعالى، فنقول: لا حاجة على هذا إلى تعلّم الكلام بل نقف حتّى ترد الشّبهة، فإن لم تقدح في أحد أركان الدّليل لم توجب شكّا ولا تستحق جواباً، وإن قدحت فعلنا ما يجب علينا وهو النّظر عند المعتزلة، والله تعالى يفعل عندهم ما يجب في حكمته وهو البيان لنا والهداية واللطف المطلع على أسباب الدّراية، ومع ذلك تجلّى لنا المشكلات، ونسلم من مداحض الشّبهات. فإن قيل: فهل تقولون بقبح النّظر؟ فقد أبطلتم كلّ النّظر ببعض النّظر، لأنّ أدلّتكم هذه نظرية وهذا متناقض. والجواب أنّا لا نقبّح النّظر، وكيف وقد أمر الله تعالى به! ونحن إنّما دفاعنا عن الكتاب والسّنة، ولكنّا نبطلُ مبتدع النّظر بمسنونه، فنبطل من الأنظار ما أدّى إلى القدح على الصّحابة - رضي الله عنه - وإلى تفكير المسلمين، وإلى القطع في صفات الله تعالى بغير تقدير ولا هدى ولا كتاب منير، وقد بيّنّا في (الوهم الثّاني عشر) (¬2) أنّ الذي يبطله أهل السّنة من النّظر نوعان: أحدهما: ما كان متوقفاً على المراء واللّجاج الذي لا يفيد اليقين، ويثير الشّرّ. ¬
وثانيهما: الانتصار للحقّ بالخوض في أمور يستلزم الخوض فيها الشكوك والحيرة والبدعة لما في تلك الأمور من الكلام بغير علم في محار العقول ومواقفها، وقد أوضحت ذلك في (الوهم الثاني عشر) وذكرت أقوال فحول المتكلّمين فيه واعترافهم بذلك فخذه من هنالك، فقد أبطل أهل الحديث بعض النّظر ببعضه كما فعل أهل الكلام في إبطال أنظار خصومهم بأنظارهم، وهذا صحيح عند/ الجميع. وأمّا الحكاية الني شنّع بها أهل الكلام على المحدّثين من إرسال ملك الرّوم إلى هارون الرّشيد وطلب المناظرة وعجز المحدّث عنها وسخرية أولئك الفلاسفة به فقد كثر الكلام في التبجّح بذلك وبحكاية أخرى تشبهها. والجوابُ عليهم في ذلك: أنّهم إن أرادوا الاستدلال على أنّهم أجدل من المحدّثين، فذلك مسلّم لهم، بل مسلّم لهم أنهم أجدل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن أرادوا بذلك أنّهم أعلم بالله وأفضل عند الله فليس ذلك يدلّ على هذا، لأنّا نعلم وكلّ عارف أنّه لم يصدر شيء من الكلام ومجادلة الفلاسفة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من جميع أصحابه - رضي الله عنه - ولا اشتغلوا بممارستهم لمماراة أهل اللجاج، وارتياضهم على النّظر في شبه أهل الباطل، وليس يلزم من ذلك أنّهم أقلّ معرفة بالله، ولا أقل نصرة لدين الله, ولو أحبوا الخوض في الكلام واشتغلوا بتعلمه وتعليمه لبلغوا فيه ما أرادوا، وعرفوا ما عرف المتكلّمون وزادوا، وكذلك من اقتدى بهم من أهل السّنة وسائر من اشتغل بالعبادة أو الجهاد، ولكنّهم أعرضوا عن هذا الفنّ إعراض مستغن عنه فارغ
القلب (¬1) منه، لا يعرفون له مراساً ولا رفعوا إليه رأساً. وقد عرضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسباب تقتضي الخوض في ذلك، كذلك أصحابه رضي الله عنهم فلم يخض أحد منهم في ذلك على أساليب أهل الكلام، وقد كان رسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالله وأحب للدعاء بالحكمة (¬2) إلى الله، فأعرض عمن خاض بالباطل في آيات الله ولم يزدهم على تبليغ آيات الله. كما فعل مع ابن الزّبعرى فإنّه لما نزل قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصبُ جهنّم) [الأنبياء/98] تعرّض المخذول للجدال وزعم أنّ المسيح والملائكة-عليهم السّلام- ممن يعبدون وأنه يلزم من ذلك أنّهم معذّبون، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجب عليه بشيء حتّى نزل قوله تعالى: (إنّ الذين سبقت لهم مّنّا الحسنى أولئك عنها مبعدون). وكذلك أبو سفيان فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يشهد له بالنّبوّة فقال: أمّا هذه ففي النّفس منها شيء حتّى الآن، فسكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأراد أن يضرب عنقه فشهد الشّهادتين. وكذلك الوليد بن المغيرة فإنّه كلّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ترك النّبوّة، وعرض عليه المال والرّياسة، فلم يجب عليه إلا بتلاوة سورة السّجدة، وكذلك نصارى نجران الذين نزلت فيهم آية المباهلة تعرّضوا لمباهلته ... -عليه (¬3) الصلاة والسلام- في أنّ عيسى ابن الله، تعالى الله ¬
عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيراً، فلم يخض معهم في شيء من أساليب المتكلّمين ودعاهم إلى المباهلة كما ذلك معروف في مواضعه، وهذه الأمور وإن نقل بعضها أو كلّها آحاد فمعناها في الجملة معلوم بالضّرورة لمن طالع السّير والأخبار، وكذلك أصحابه -رضي الله عنهم- ألا ترى إلى قصّة جعفر بن أبي طالب، ومهاجرة الحبشة مع النّجاشي، وما راجعه به خطيبهم جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين قيل للنجاشي: إنّهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، وكانت النّصارى يعبدون عيسى، ويستعظمون القول بأنه عبدً من عبيد الله، فلمّا سألهم النّجاشي عن ذلك؟ أجابوا بكلام الله تعالى واحتجّوا به على صحّة عقيدتهم، وتلا جعفر على النجاشي صدر سورة مريم، حتّى بكى النّجاشي وأصحابه، وكان ذلك سبب إسلام النّجاشي، وكلّ هذه المحاجّات التي أشرنا إليها لا تصحّ على قواعد المتكلّمين، ولا تنفق في سوق الجدليين، فإنّه لا يصح عندهم الاحتجاج بالقرآن ولا بالمعجز إلاّ على من قد صحّ له وجود الباري تعالى، وأنّه عالم قادر، عدل حكيم صادق، بالأدلّة المحقّقة في علم الكلام، على ماذلك مقرّرً بأدلته في مصنّفاتهم. والعجب من تشنيعهم على المحدّث الذي أرسله هارون إلى الرّوم فبلغهم ما عنده من دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليت شعري ما الذي أنكروه من ذلك؟ فإن كان المنكر عندهم هو تبليغ كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا نكارة في هذا، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - /يبلّغ عن الله تعالى من غير زيادة استدلال ولا تجديد احتجاج، وإن كان المنكر عندهم كونهم طلبوا منه الحجّة العقلية فلم يأت وعدل إلى ذكر أركان الإسلام، فغير
مستنكر أيضاً، فقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك فقال تعالى: (فإن حآجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن) [آل عمران/20] وأما قولهم: كيف يحتج على الخصوم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسلّموا له صحة نبوته؟ فذلك جهل منهم، فإنه يصح الاحتجاج بذلك لأنّ الله تعالى قد أقام عليهم الحجّة بذلك وإن جحدوه كما قال تعالى: ((وما اختلف الذّين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم)) [آل عمران/19] وقال: ((وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)) [آل عمران/20] وقد ثبت في فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعلوم في الجملة ما يردّ عليهم, فإنّه - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى هرقل عظيم الرّوم من كان في صفة المحدّث الذي أرسله هارون وهو دحية بن خليفة الكلبي ولم يعلمه ما يجيب به عليهم إن أوردوا عليه ما يدقّ من شبههم, فإنّهم اليونان أهل الفنّ المنطقيّ وسائر الدّقائق النّظرية, وكذلك سائر رسله - عليه السلام - فإنّه بعث إلى النجاشي صاحب الحبشة, وإلى المقوقس صاحب الإسكندرية, وبعث أبا عبيدة إلى البحرين يعلّمهم الإسلام, وبعث عليّاً ومعاذاً وأبا موسى إلى اليمن, وبعث إلى سائر الملوك, وكذلك كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أنفذها إلى الآفاق البعيدة للدّعاء إلى الإسلام لم يضمّنها شيئاً من ذلك مع أنّه موضعه, مثل كتابه (¬1) إلى خرقل, وإلى كسرى, وإلى جهينة. وبالجملة؛ فالعلم حاصل بأنّ أهل الحديث أشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أهل الكلام في أمر العقيدة والرّجوع إلى القرآن والسّنّة, ¬
لا يشكّ في ذلك إلا من قصرت معرفته بالأحوال النّبوية والآثار الصّحابية. فإن قيل: أليس قد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالجدال في قوله تعالى: ((وجادلهم بالتي هي أحسن)) [النحل/125] فالجواب من وجهين: أحدهما: أنّ الله تعالى قيّد ذلك بالتي هي أحسن, ولم يأمره بمطلق الجدال والنزاع, إنّما هو في كيفية ذلك وتفسير التي هي أحسن. وحجّة المحدّثين فيه واضحة, وذلك أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد امتثل ما أمر به من الجدال في هذه الآية, ومع ذلك فلم ينقل عنه أنّه جادل بأساليب المتكلّمين وهذا واضح, وكذلك جميع ما أخبر الله تعالى به عن الأنبياء ... -عليهم السّلام- من مجادلة الكفّار والاحتجاج عليهم, فإنّه لا يعجز عن مثله محدّث ولا يطابق أساليب أهل الكلام, مثل ما حكى الله تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام - في قوله للذي حاجّه في الله تعالى: ((فإنّ الله يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب)) [البقرة/258] ومثل ما علم الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحاجّهم به في قوله تعالى: ((قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد, قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كلّ شيء شهيد)) [سبأ/46 - 47]. ومثل ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك؛ ففي ((الصّحيحين)) (¬1) من حديث ¬
ابن عباس ((لما نزلت: ((وأنذر عشيرتك الأقربين)) صعد - صلى الله عليه وسلم - على الصّفا فجعل ينادي: ((يا بني فهر! يا بني عديّ!)) -لبطون قريش- حتّى اجتمعوا فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم كنتم مصدّقيّ؟)) قالوا: نعم, ما جرّبنا عليك إلا صدقاً, قال: ((فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد)). وفي ((الصّحيحين)) (¬1) عن أبي موسى عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -:/ ((إنّما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إنّي (¬2) رأيت الجيش بعينيّ, وإنّي أنا النّذير العُريان [فالنّجاء] , فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم (¬3) , وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم وصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم)) الحديث, وأمثال ذلك مما في القرآن والحديث الصّحيح معلوم, فالسّني يفهم مثل هذا ويهتدي إلى الاحتجاج به على قدر فهمه وذكائه, وفهم مثل هذا لا يحتاج إلى خوض في لطيف الكلام, وأهل البلادة من أهل الكلام ¬
وأهل السّنة لا يكادون يفهمون ما دقّ من السّمع والعقل, ولهم من الفهم ما تقوم عليهم به الحجّة ويلزمهم معه التّكليف, وقد ذكر الله تعالى في سورة هود في محاجّة الأنبياء وجدالهم, ما معرفته مغن (¬1) عن ذكره, وكذا ذكر محاجّة إبراهيم لقومه, ومحاجّة يوسف لصاحبي السّجن, ونحو ذلك مما يطول ذكره. الوجه الثّاني: أنّ الله تعالى أجمل كيفية الجدال بالتي هي أحسن في تلك الآية وببيّنه في غيرها بتعليمه في القرآن العظيم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: ((إنّ الدّين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب, فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن وقل للّذين أوتوا الكتاب والأمّيين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)) [آل عمران/19 - 20] فهذه الآية الكريمة على ما يتمنّاه السّني في وضوح الدّلالة على المقصود في هذا الباب, من النّصّ الصّريح على أنّ ما ذهبوا إليه وأجابوا به أهل اللّجاج في الدّين, هو الذي أمر الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الاقتصار على مجرّد الدّعاء إلى الإسلام, والاتّكال في إيضاح الحجّة على ما قد فعله الله تعالى لهم من خلق العقول, وبعثة الرّسول, وإنزال الآيات, وظهور (¬2) المعجزات وتكثير موادّ البيّنات, كما قال سبحانه وتعالى في تمثيل نور هدايته للخلق إلى معرفة الحقّ: ((الله نور السّماوات والأرض مثل نوره ¬
كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزّجاجة كأنها كوكب درّيّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم)) [النور/35] فمن ادّعى عدم بيان أدلّة الإسلام بعد هذا لم يقبل منه ولا يلتفت إليه, وقد نصّ الله على ما يكذّب القائل لذلك في قوله تعالى في الآية المتقدّمة: ((وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)) [آل عمران/19] في العلم ببواطنهم, وما أقام عليهم من الحجّة حتّى استوجبوا العقوبة والغضب من الله تعالى, فأمّا الخوض مع أهل المراء واللّجاج, والطّمع في هدايتهم بالجدال والحجاج, فذلك ما لا يطمع فيه بصير, ولا جاء به كتاب منير, وكيف تطمع في أهل الزّيغ وقد حكى الله تعالى عنهم (¬1) أنّهم جادلوه يوم القيامة (¬2) وأنكروا ما صنعوا من معاصيه -سبحانه- حتّى شهدت عليهم أيديهم وأرجلهم, وبعد أن شهدت عليهم لم يكل حدّ حجاجهم ولا خمد شواظ جدالهم, بل قالوا لأعضائهم: لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء. فمن بلغ في اللّجاج إلى هذا الحدّ, كيف يطمع السّنّي أو الجدلي أن يفحمه بالدّليل ويهديه إلى/ سواء السّبيل؟! هيهات أن يكون ذلك أبداً, وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً!. ¬
وقد تأوّل هذه الآية المصرحة بجدال الكفّار يوم القيامة بعض أهل الكلام فلم يأت بما يساوي سماعه, والله الذي خلق الخلق هو أعلم منهم بطباعهم وهو الذي أخبر عنهم بذلك وبأنّهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه, والحكيم من اكتفى بحكمة الله وبيانه في حقّ هؤلاء الذين لا يعرف طباعهم سواه ولا يعلم غلاظهم غيره, ولهذا وعد الله تعالى بالفصل بينهم يوم القيامة وسمّاه يوم الفصل, فأي جدليّ مغفّل يظنّ أنّه يفصل بجدله بين الخلق قبل يوم القيامة؟ والحكيم الخبير قد أنبأنا من عتوّهم وإصرارهم على الباطل بما لم نكن نعرفه إلا بتعريفه (¬1) سبحانه وتعالى فقال: ((ولو فتحنا عليهم باباً من السّماء فظلّوا فيه يعرجون, لقالوا إنّما سكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)) [الحجر/14] وقال سبحانه وتعالى: ((ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله)) [الأنعام/111] فكيف تنفع المناظرة من لم تنفعه مثل (¬2) هذه الآيات الباهرة, وإنّما الحكمة أن يوكلوا إلى الذي قال في بيان القدرة على هدايتهم بما هو أعظم من تلك الآيات من ألطافه التي ليسوا لها أهلا: ((ولو شئنا لآتينا كلّ نفس هداها)) [السجدة/13]: ((ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعاً)) [يونس/99] وقال تعالى في بيان علمه ببواطنهم, وحكمته في ترك هداية غواتهم (¬3): ((ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهعم معرضون)) [الأنفال/23] وقال ¬
نصيحة المؤلف في الاهتمام بالقرآن العظيم
تعالى في إقامة الحجّة عليهم بخلق العقول وبعثة الرّسول: ((وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)) [فصلت/17] وقال تعالى: ((وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولاً)) [الإسراء/15] وقال تعالى: ((لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل)) [النساء/165]. فهذه الآيات الكريمة وأمثالها تعرّف السّنّي قيام حجّة الله تعالى على الخلق في إيضاح سبيل الحقّ, فيدعوهم إلى الله تعالى مقتدياً برسله الكرام -عليهم أفضل الصّلاة والسّلام- مكتفياً من البيان بما في القرآن, مقتصراً في الفرق بين الحقّ والباطل بالفرقان, يستصبح بنوره في ظلم الحيرات, ويمتثل مطاع أمره في: ((فاستبقوا الخيرات)) [البقرة/148] ولا يتعدّى حدود نصحه في الإعراض عن الجاهلين والمجانبة للخائضين في آيات ربّ العالمين. إخواني! فلا يستخفّنكم الذين لا يوقنون, ولا يستهوينّكم الذين يسمّون المؤمنين بالسّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء ولكن لا يعلمون, ولا يطيشنّ (¬1) وقاركم الذين يسخرون منكم, سخر الله منهم ولهم عذاب أليم, فقد استهزأوا قبلكم بجميع الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين, وقد حكى الله عنهم أنّهم: ((كانوا من الذين آمنوا يضحكون, وإذا مرّوا بهم يتغامزون, وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين, وإذا رأوهم قالوا إنّ هؤلاء لضآلّون)) [المطففين/29 - 32] فتأسّوا رحمكم الله بمن تقدّم من المؤمنين في الإعراض عن المستهزئين: ((الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون, أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت ¬
تجارتهم وما كانوا مهتدين)) [البقرة/15 - 16] وعليكم بالقرآن فإنّه الطّبيب الآسي, والكريم المواسي, ارتعوا في رياض ((حواميمه)) وانتفعوا ببيان ((طواسيمه)) , اقتدوا بأنوار مصابيحه, واستسقوا بأنواء مجاديحه/ فإنّه المعجز الذي لا تتناوله طاقات العباد, والحجّة البالغة على أهل العناد, والجديد الذي لا يخلق على طول التّرداد, ولا يبلى على مرور الآباد, قرآن بلي قشيب الزّمان وإعجازه جديد, وهرم شباب الأيام ورونقه إلى مزيد, قد خالف (¬1) المعجزات باستحالة السّحر في حقّه, وسطوع نور الحقّ من مشكاة بلاغته وصدقه, وذلك لأنّ إعجازه في أمور كثيرة, ووجوه حججه (¬2) منيره: منها: حسن تركيبه وإحكام ترصيفه, ومطابقة أفانينه للطيف حالتي القبض والبسط, وموافقة أساليبه لدقيق شأني القطع والرّبط, فوعيده يبكي العيون, ويستحلب الشّؤون (¬3) , وتقشعرّ له الجلود, ويقطع نياط القلوب ويمنع الهجود, ووعده يثير النّشاط ويبعث داعية الانبساط, وأقاصيصه تثبّت الإيمان في القلوب, وتجلي عنها غياهب الكروب, وتزيد في الإيمان وتهدي إلى الإحسان, وهذا لا يستطيعه السّحرة والمشعوذون, إنّهم عن السّمع لمعزولون, ولو كان ذلك من المجوّزات لجوّز مثل ذلك على جميع الأشعار المدوّنات, ولكنّا إذا سمعنا كلاماً بليغاً ونظاماً بديعاً, قد وشيت بعلوم البيان بردته, وحكيت في أفانين المعاني لحمته, وقمعت بطرائف الأمثال أساليبه, ¬
وطرّزت بمطابقة الأحوال أفانينه. جوّزنا أنّه من طمطمة العجوم, وهمهمة علوم الرّوم!! ومتى سمعنا رطن الأعاجم وأصوات البهائم جوّزنا أنّها من رسائل البديع المضمّنة لعلوم البديع! ولو كانت الفصاحة من مقدورات السّحرة, وحيل حذّاقهم المهرة لقدروا بذلك على معارضة القرآن, فكيف وقد عجزوا عن يسير البيان! فأكثرهم لا يعرف وزن بيت من أيّ الأوزان, ولا يدري كيف الجولان في هذا الميدان! فانظروا في هذه المعجزة العظيمة الباقية على مرّ الدّهور الطويلة, التي أخرست مهرة الكلام من العرب وأسكنتهم وأردت فرسان البلاغة (¬1) فنكستهم, أظهر الله به عجزهم, وأبطل به عزاهم وعزّهم, وقد مرّ اليوم نيّف على ثمان مئة سنة من الهجرة النّبوية على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام ولم يقدر على معارضته إنسان, ولا نطق بمثل سوره لسان, على أنّ هذه المدّة الطّويلة مرّت على سحرة الكتابة والخطابة, ومهرة اليراعة والبراعة, أساة أساليب الكلام إذا اعتلّ/, وبناة أساسات البيان إذا اختل. يرمون بالخطب الطّوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرّقباء فسبحان من أخرس أمراء البيان عن معارضة هذا القرآن! وجعله عصمة لأهل الإيمان في جميع الأزمان: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)) [الإسراء/88]. فاستنصحوا القرآن واستهدوه واستخبروه واستشفوه, فإنّه النّاصح الذي لا يغش, والهادي الذي لا يضلّ, ¬
والمحدّث الذي لا يكذب, الطّبيب الذي لا يخطىء. فاتّهموا فيه (¬1) آراءكم, واستغشوا [فيه] (¬2) أهواءكم, واستغنوا بمنطق القرآن عن منطق اليونان, وانظروا فيما أمركم بالنّظر فيه, متّبعين في كيفية النّظر لرسوله الذي أثنى على متّبعيه, فسرّحوا أبصار بصائركم وأفكار ضمائركم في سماء مرفوعة, وأرض موضوعة, ونجوم في مقدّرات منازلها سيّارة, وعلى محكمات أفلاكها دوّارة (¬3) , زينة تجتليها أعين المعتبرين, ومصابيح تتوهّج أنوارها للمتفكّرين, منها ثواقب وثوابت, ومعالم ورواجم, وأقمار نوّارة وبحار موّارة, وأرواح خفّاقة, وأنهار دفّاقة, وسحائب ثقال مطّارة, وعيون سيّالة وقطّارة, وأودية غير منسدة (¬4) المهارق, نافذة في المغارب والمشارق, وحيوانات حسّاسة منها في الأجواء طيّارة, ومنها على الأقدام سيّارة, ومنها أمم مكلّفة ومنها أخرى مسخّرة, ولكلّ أرزاق مقدّرة, وأحوال مقرّرة, ونعم ونقم وعبرة وعبر, وفيهم المهنّى والمعزّى والمعافى والمرزى, والضّاحك والباكي, والمغبوط والشّاكي, ورسل الله تعالى في خلال ذلك تترى, وكتبه سبحانه لا تزال تقرأ. فسبحانك اللهم ما أعظم ما يرى من خلقك وما أصغره في جنب قدرتك, وما أجلّ ما نشاهده من سلطانك وما أحقر ذلك في جنب ما غاب عنّا في ملكوتك, وما أصدق ما قلت في كتابك المبين يا أصدق القائلين: ¬
خاتمة الكتاب وفيها ذكر نبذ من الأشعار الحاثة على الاتباع الناهية عن الابتداع
((ولو أنّما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إنّ الله عزيز حكيم)) [لقمان/27]. وهذا آخر ما وفّق الله من هذا (المختصر) , وقد رأيت أن أختمه بما بدأت به, بذكر شيء من الأبيات (¬1) المتضمّنة للحثّ على الاتباع وترك التّعمّق والابتداع, فمن ذلك قولي في هذا المعنى: /منطق الأولياء والأديان ... منطق الأنبياء والقرآن ولأهل اللّجاج عند التّماري (¬2) ... منطق الأذكياء واليونان فإذا ما جمعت علم الفريقين ... (م) فكن مائلاً إلى الفرقان وإذا ما اكتفيت يوماً بعلم ... كان علم المحدّث الرّبّاني إنّ علم الحديث علم رجال ... ورثوا هدي ناسخ الأديان جمعوا طرق ما تواتر عنه ... ورووا بعده صحيح المباني ورووا بعده حسان الأحاديث ... (م) ووهّوا ما دون شرط الحسان واعتنوا بالنّفيس من غير خبط (¬3) ... في دعاوى معنى بغير بيان وأبانوا نقد الرّواة بياناَ ... يكشف الغامضات للعميان فانظروا في ((مصنّف ابن عديّ)) (¬4) ... وكتاب ((التكميل)) (¬5) و ((الميزان)) (¬6) ¬
تعلموا أنّهم قد اعتمدوا النّصح ... (م) وصحوا عن علّة الإذهان واستدلّوا بالمسندات العوالي ... في تفاريع دينهم والمباني عملاً بالمظنون منها وقطعاً ... باعتقاد المعلوم في الأديان فإذا جئتهم تريدن مراء (¬1) ... شمت هدي المبعوث من عدنان قد رضوا ما رماهم منطقيّ ... بهدي أهل بيعة الرّضوان فلقاهم عندي أجلّ الأماني ... وهواهم علامة الإيمان ومما قلت في هذا المعنى: عليك بأصحاب الحديث الأفاضل ... تجد عندهم كلّ الهدى والفضائل أحن إليهم كلّما هبّت الصّبا ... وأدعوا إليهم في الضّحى والأصائل لئن شحّت الأيّام في الجمع بيننا ... سخت بالتّوالي بيننا والرّسائل وقد تلتقي الأرواح والبون نازح ... على الجمع للأشباح ذات الهياكل فياليت شعري والأماني ضلة ... متى نلتقي بعد النّوى المتطاول شيوخ حديث المصطفى ومعادن الـ ... ـتقى وبدور نورهم غير آفل شفوا علل الأكباد منه فأصبحوا ... وقد لبسوا منه نفيس الغلائل هم نقّحوا منه (¬2) الصّحيح وبيّنوا ... معارفه في الممتعات الحوافل فهم في مبانيهم جبالّ منيفة ... وهم في مغانيهم شموس المحافل يذبّون عن دين النّبيّ محمد ... بألسنة مثل السّيوف الفواصل دليلهم قول الرّسول وفعله ... وذلك يوم الفصل أقوى الدّلائل ومدرسهم آي الكتاب وإنّه ... لأقمع برهان لكلّ مناضل ¬
هما حجّة الإسلام لا ما يطيش من ... دماغ ألدّ في الخصام مجادل ولولاهما كان ابن سينا منزّلاً ... من العلم في أعلى بروج المنازل وكان ابن مسعود وأعلام عصره ... من الصّحب في مهوّى من الجهل نازل فلا تقتدوا إلا بهم وتيمّموا ... لهم منهجاً كالقدح ليس بمائل ألم تر أنّ المصطفى يوم جاءه الـ ... ــوليد بقول الأحوذيّ المجادل (¬1) تجنّب منهاج المرا وتلا له ... من السّجدة الآيات ذات الفواصل ولم يجعل القرآن غير مصدّق ... إذا لم تقدمه دروس الأوائل كذا فعل الطّيّار يوم خطابه ... لأصحمة بين الخصوم المقاول تلا لهم آي الكتاب فأيقنوا ... بها بشهادات الدّموع الهواطل إلى ذاك صار الأذكياء من الورى ... وعادوا إليه بعد بُعد المراحل أبو حامد وابن الخطيب وهكذا الـ ... إمام الجوينيّ الذي لم يماثل كذا ابن عقيل وهو أبرع عاقل ... غدا وهو معقول كبعض العقائل فلا تسبحوا في لجّة البحر وابعدوا ... عن الخوض فيه واكتفوا بالسّواحل فإن لم يكن بدّ من الخوض فاجعلوا ... مواردكم مستعذبات المناهل عليكم بقول المصطفى فهو عصمة ... وما عاقل (¬2) , عمّا يقول بعادل ¬
سعدت بذبّي عن حماه وحبّه ... كما شقيت بالصّدّ عنه عواذلي. * * *