الروضة الفيحاء في أعلام النساء

ياسين الخطيب

المقالة الأولى في ذكر النساء الصالحات

المقالة الأولى في ذكر النساء الصالحات [1] حواء أم البشر سميت حواء لأنها لقت ن شيء حي، ولما خلقها الله تعالى: كان في الطالع السرطان، وذكر في "المعالم" قوله تعالى: ( ... يا آدمُ اسكنْ أنتَ وزوجكَ الجنَّةَ ... (الآية، وذلك أن آدم عليه السلام لم يكن له في الجنة من يؤنسه ويجالسه، فنام، فخلق الله حواء زوجته فصيرها من شقه الأيسر، خلقها الله من غير أن أحس بها آدم عليه السلام ولا وجد ألما، ولو وجد ألماً لما عطف الرجل على امرأة، فلما استيقظ رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله، فقال لها: من أنت؟ قالت: زوجتك، خلقني الله لك؛ لكي تسكن إلي وأسكن إليك. قيل: إن آدم عليه السلام لما واقعها قالت: يا آدم زدنا منه، ما أطيبه. وذكر صاحب: "البستان" أن كل شهوة يعطيها الرجل نفسه، فإنها تسقي قلبه إلا الجماع، فإنه يصفي القلب، ولهذا كان يفعله الأنبياء عليهم السلام وفي الجماع منافع وضرر، فأما منافعه: فإن الرجل إن كان به هم فإنه [بالجماع] يقل [عنه] ذلك، ولو كان قلبه متعلقاً بحرام يزول عنه، ويزول الوسواس، ويسكن الغضب، وينفع من بعض القروح في النفس إذا كانت طبيعته الحرارة. وقال في "الفؤاد": منافع الجماع المعتدل: خفة البدن، والنوم وانتعاش الحرارة الغريزية، ويزيل الفكر الردي، وينفع أكثر الأمراض السوداوية والبلغمية، وربما يقع تارك الجماع في الأمراض مثل: الدوار، وظلمة البصر وثقل البدن، وإذا عاد إليه المرء برئ، وأما مضرته، فإنه يضعف البدن والبصر، ويحدث ويحدث منه وجع الساقين والرأس والظهر، والاستقلال منه انفع. وقال في "في المعالم": لما أراد إبليس لعنه الله ليوسوس لآدم وحواء، عزم على الدخول إلى الجنة، فمنعته الخزنة، فأتى إلى الحية، وكان لها أربع قوائم، وهي من خزان الجنة، فسألها ان تدخله الجنة، فأدخلته في فمها، فلما دخل وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعرفانه إبليس، فبكى وناح، فأحزنهما، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان هذه النعمة، فاغتما ومضى إبليس، ثم أتاهما، فقال قوله تعالى: ( ... يا آدمُ هلْ أدلُّك على شجرةِ الخلدِ وملكٍ لا يبلى (فدله على أكل شجرة الحنطة، فأبى آدم، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة، ثم ناولت آدم، فأكل منها، قوله تعالى: ( ... فبدت لهما سوءاتهما ... (. وقيل: إن حواء سقته الخمر أولاً، حتى أكل آدم. قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهم: إن الله تعالى قال: يا آدم ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب زينته لي حواء. قال: فإني أعقبتها أن [لا] تحمل إلا كرهاً [ولا تضع إلا كرهاً] وأدميتها في الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك، فقيل: عليك الرنة، وعلى بناتك، واهبطا إلى الأرض، فأهبط [آدم] بسرنديب من أرض الهند، وأهبطت حواء بجدة، وأهبط إبليس بالأبلة والحية بأصفهان، فبكى آدم وحواء على ما فاتهما مائتي سنة، ولم يأكلا ويشربا أربعين يوماً، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة. قيل: إن هبوطها تاسع ساعة من يوم الجمعة، واجتمع آدم بحواء بعد انقضاء مائة سنة، اجتمعا في عرفة، وإنما سمي جبل عرفة، لأن آدم عرف به حواء. ولما هبطا إلى الأرض كان لهما ولدان: هابيل وقابيل وتوءماتهما، وسلب آدم وحواء كل ما كانا فيه من النعمة والكرامة، وكانت توءمة قابيل، أجمل من توءمة هابيل، فأراد آدم أن يزوج هابيل بتوءمة قابيل، وتوءمة هابيل بقابيل، فلم يطب ذلك لقابيل، فأخذ توءمته وقتل أخاه هابيل وهرب قابيل، وقصتهما مشهورة، فحزن آدم وحواء على هابيل وبكيا عليه أربعين يوماً، فأوحى الله إلى آدم أن اكفف عن بكائك، فإني قد وهبت لكما غلاماً مثله، يكون أبا الأنبياء، فاجتمع آدم بحواء، فحملت بشيث عليه السلام وحده م غير توءم، فلما ولدته كان كأنه هابيل، وذلك سنة مائة وثلاثين من هبوطهما.

[2] سارة بنت هارون

وتوفي آدم سنة تسعمائة وثلاثين من هبوطه، وعاشت حواء بعده سنة وماتت سنة تسعمائة وإحدى وثلاثين ودفنت مع آدم في مشارق الفردوس عند قرية هناك، وهي أول قرية بنيت على وجه الأرض، ولم تمت حواء حتى بلغت أولادها وأولاد أولادها أربعين ألفاً، وقيل: ألفي ألف ولد، وقيل: هذا العدد كان حين وفاة آدم عليه السلام، وحواء عاشت بعده سنة، ولا بد أن أولادها ولد لهم غير هذا كثير، وقيل: إن حواء حملت من آدم أربعين ولداً بعشرين بطناً، وقيل: ثمانين، وقيل: مائة والله سبحانه وتعالى أعلم. [2] سارة بنت هارون ابن ناخور، وهو عم إبراهيم عليه السلام وهي زوجة إبراهيم عليه السلام آمنت به بعدما ألقي في النار، فهاجر بها إبراهيم إلى حران، ثم سار بها إلى مصر، وصاحبها فرعون، وقيل: سنان بن علوان، وقيل: وليس، فبلغه جمال سارة وحسنها، فأمر فرعون بإحضارها، فأحضروها ومعها إبراهيم عليه السلام فسأله فرعون، فقال إبراهيم عليه السلام: هي أختي، يعني في الإسلام فهم فرعون بها، فأيبس الله بدنه ورجليه، فتوسل بإبراهيم، وحلف أن لا يقربها بسوء، فأطلقه الله بدعوة إبراهيم عليه السلام ثم هم فرعون بها مرة ثانية، فجرى له مثل الأول فعاهد إبراهيم مرة أخرى فأطلق، وقال فرعون لهذه أن تخدم نفسها، فوهب لها هاجر جارية، فجاءت بها إلى إبراهيم عليه السلام ثم سار بهما إبراهيم من مصر إلى الشام، وأقام بهما بين الرملة وإيلياء. وكانت سارة لا تلد، فوهبت هاجر لإبراهيم عليه السلام فولدت له إسماعيل عليه السلام لمضي ست وثمانين من عمر إبراهيم عليه السلام فحزنت سارة لذلك، فوهبها الله اسحق عليه السلام وعمرها إذا ذاك تسعون سنة، وسرت سارة بهاجر وابنها ثم بعد ذلك أوحي إلى إبراهيم عليه السلام إن يأخذ هاجر وابنها إلى الحجاز، فسافر بهما إلى مكة، وماتت سارة في حياة إبراهيم قبل بثمانية وخمسين سنة، وعمرها مائة وسبع وعشرين سنة، ودفنت بمزرعة بحبزون، ودفن قريباً منها إبراهيم عليه السلام وكانت وفاتها سنة ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعين من هبوط آدم عليه السلام. وكانت قد ولدت إسحاق عليه السلام بعد إسماعيل عليه السلام باثنين وعشرين سنة. وبنى إبراهيم عليه السلام الكعبة في السنة التي ولد إسحاق عليه السلام وتزوج إبراهيم عليه السلام بعد سارة بامرأة من الكنعانيين، فولدت له ستة أولاد، فجملة أولاد إبراهيم عليه السلام ثمانية، إسحاق من سارة، وإسماعيل من هاجر، وستة أولاد من الكنعانية ولما صار لإبراهيم عليه السلام من العمر مائة سنة، ولد له إسحاق عليه السلام ولما صار لإسحاق عليه السلام ستون سنة ولد له يعقوب. [3] هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام

[4] يوحانذ بنت لاوي بن يعقوب عليه السلام

وهي جارية سارة التي وهبها لها ملك مصر فرعون، فوهبتها سارة لإبراهيم عليه السلام فحملت بإسماعيل عليه السلام وولدته سنة ثلاثة آلاف وأربعمائة من هبوط آدم في عر فريدون، وكانت بين الرملة وإيلياء، وسرن سارة بها وأوحي إلى إبراهيم بالسفر بها مع إسماعيل إلى الحجاز، فهاجر بها إبراهيم إلى مكة، وذكر في "المعالم": قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول من اتخذ المناطق من النساء هاجر أم إسماعيل، اتخذت منطقاً عند سفرها إلى الحجاز، ثم هاجر بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة ومعها إسماعيل عليه السلام ترضعه، فوضعها عند البيت وليس في مكة أحد ولا ماء، وترك عندهم جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء. ثم عاد إبراهيم عليه السلام منطلقاً فتبعته هاجر وقالت: أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فلم يجبها. وقالت ذلك مراراً وهو لا يلتفت إليها. فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت وجعلت ترضع إسماعيل عليه السلام وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش إسماعيل عليه السلام فانطلقت إلى الصفا تنظر هل ترى من أحد، فلم تر، فعادت إلى الوادي، ثم سارت إلى المروة. وفعلت ذلك سبع مرات، ولما أشرفت على المروة، سمعت صوتاً، فقالت: صه: ثم سمعت صوتاً فقالت: قد سمعت إن كان عندك غواث، فعادت، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت هاجر تحوضه. قال صلى الله عليه وسلم: "يرحمُ اللهُ أمّ إسماعيل لوْ تركتْ زمزم". وقال صلى الله عليه وسلم: "لوْ لمْ تغرفْ منَ الماءِ لكانتْ زمزمُ عيناً معيناً فشربتْ وأرضعتْ إسماعيل". فقال لها الملك: لا تخافا الضيعة، فإن هاهنا بيتاً يبنيه هذا الغلام وأبوه. فأقامت إلى أن قدمت عرب جرهم ونزلوا عندها، وكبر إسماعيل عليه السلام وتزوج امرأة من جرهم، وتعلم العربية، وماتت أمه هاجر. وذكر في "المصابيح"، حديث إبراهيم عليه السلام وسارة لما وهبها هاجر. فقال أبو هريرة رضي الله عنه في حق هاجر: تلك أمكم يا بني ماء السماء. وأراد بماء السماء، يعني العرب. وذكر في كتاب "كشف الأسرار" قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا تحويطُ هاجر وتحريصها على زمزم حين اتَّبعها جبرائيلُ، وعندَ نزولِ جرهم لكانتْ زمزمُ عينا معيناً". وذكر بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم: "ماءُ زمزمٍ لما شربَ لهُ، فمنْ شربهُ على نيَّةِ قضاءِ حاجةٍ أو شفاءٍ منْ مرضٍ، أعطاه الله تعالى". وكان الذبح في حياة هاجر وقصته مشهورة: والذبيح إسماعيل عليه السلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابنُ الذَّبيحين". وهذا هو الأصح ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابنُ الذَّبيحين". أراد به إسماعيل عليه السلام ووالده عبد الله، فإن جده عبد المطلب نذر لله تعالى إن [بلغ] ولده عشرة بنين ليذبحن أحدهم قرباناً لله، وأبو طالب، وحجل، والزبير والحارث وأبو لهب، والمقدم، والفيداق، فملا تكاملوا عزم على ذبح أحدهم، فسار إلى الكاهن وأخبره بما نذر، فأمره أن يلقي عليهم قرعة ففعل، ووقعت القرعة على عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم فوضع عشرة جمال، وألقى القرعة، فوقعت أيضاً على عبد الله، فما زال يزيد الجمال حتى بلغت مائة جمل، فوقعت القرعة على الجمال، فنحرها عبد المطلب فداءً لولده عبد الله، وتركها في البر طعاماً للخلائق والطيور، ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنا ابنُ الذَّبيحين". وهذا بخلاف من قال: الذبيح إسحاق عليه السلام وتوفيت هاجر في حياة إسماعيل عليه السلام. [4] يوحانذ بنت لاوي بن يعقوب عليه السلام

زوجة عمران أم موسى عليه السلام وكان عمران من وزراء فرعون واسمه الوليد بن مصعب، وكان قد أخبره المنجمون أن زوال ملكه على يد فتى من بني إسرائيل، فجعل فرعون يقتل الأطفال، حتى قتل سبعين طفلاً، وكان يعذب الحوامل حتى يسقطن حملهن، ولما حملت أم موسى عليه السلام به، أخبر المنجمون فرعون بحمله، فشدد فرعون على نساء بني إسرائيل، فأمر القوابل أن يطفن على نساء بني إسرائيل ففعلن، ولم يدخلن بيت عمران لقربه من الملك ولما تم حملها، وجاءها الطلق ليلاً، فولدت موسى عليه السلام وفرحت به فرحاً عظيماً، وأخفت أمرها مخافة من فرعون، فكانت ترضع موسى عليه السلام وتضعه في تنور ولم تعلم له أخته كلثم، واستمرت على ذلك أياماً، فاتفق يوماً، خرجت لبعض شأنها، وجاءت كلثم أخت موسى عليه السلام وسجرت التنور لتخبز فيه، ولم تعلم أن موسى عليه السلام فيه، وقد بلغ فرعون ولادة موسى عليه السلام من بعض القوابل، فبعث فرعون هامان والرايات معه فدخل دار عمران، ودور جميع الدار فلم ير لموسى عليه السلام أثراً، والتنور يسجر، ثم خرج من دار عمران، وأقبلت أم موسى عليه ورأت أعوان فرعون قد خرجوا من بيتها، فخافت على نفسها وعلى موسى عليه السلام وكادت أن تموت من الغم، فدخلت في سرعة، وأقبلت إلى التنور، فرأته يشتعل بالنار، فلطمت وجهها وقالت: ما نفعني الحذر! والتمست موسى عليه السلام فوجدته سالماً، فأخرجته من التنور وأرضعته، وتمرض أبوه عمران ومات، وقد صار لموسى عليه السلم من العمر أربعون يوماً، فخافت على موسى من فرعون، فأوحى الله إليها، وذلك قوله تعالى: (وأوحينا إلى أمِّ موسى أنْ أرضعيهِ فإذا خفتِ عليهِ فألقيهِ في اليمِّ ولا تخافي ولا تحزني إنَّا رآدُّوه إلي وجاعلوهُ منَ المرسلينَ (. وقيل: ألقى الله في قلبها، فوضعته في صندوق وأحكمنه لئلا يدخل إليه ماء فيغرق، فألقته في النيل ليلاً، ولم يعلم بها أحد، فسار الصندوق على وجه الماء، ودخل إلى دار فرعون، فرأته آسية بنت عم موسى عليه السلام وهي زوجة فرعون، فأمرت بإخراجه، فجملوه إليها، ففتحت الصندوق، ووجدت فيه موسى عليه السلام فحملته إلى فرعون وأخبرته بالخبر، فهم فرعون بقتله، فقالت له آسية قوله تعالى: ( ... قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ... (، ولم يكن لفرعون ولد من آسية، ولم تزل به آسية حتى تركه وسموه موسى ومعنى مو: الماء، ومعنى سا: الشجر، وعرضت آسية القوابل على موسى عليه السلام فأبى إرضاعه، وكانت أخت موسى كلثم قد تبعت الصندوق حتى إلى دار فرعون ودخلت مع المراضع وذلك قوله تعالى: (وقالتْ لأختهِ قصِّيهِ فبصرتْ بهِ عنْ جنبٍ وهمْ لا يشعرونَ (وحرَّمنا عليهِ المراضعَ منْ قبلُ فقالتْ هلْ أدلُّكمْ على أهلِ بيتٍ يكفلونهُ لكمْ وهمْ لهُ ناصحونَ (فقالت آسية: نعم، فرجعت كلثم وأخبرت أمها، فقدمت ودخلت على آسية، فوضعت موسى عليه السلام في حجرها وأعطته ثديها، فرضع، وأقامت ترضعه إلى أن كبر وفطمته من الرضاع وماتت أم موسى عليه السلام. وذكر في كتاب "خواص القرآن": قوله تعالى: (وأوحينا إلى أمِّ موسى أنْ أرضعيهِ (إلى قوله: (منَ المرسلينَ (إذا كتبت في ورقة وعلقت على امرأة قد قل حليبها، در ثديها وكثر حليبها. وقيل: إذا تليت هذه الآية سبع مرات على سبع من الزبيب الأسود على واحدة سبع مرات، وأطعمت لمن قل حليبها أكثر بإذن الله تعالى ببركة هذه الآية الشريفة. وذكر في كتاب "كشف الأسرار": ما الحكمة في إلقاء موسى عليه السلام في اليم؟ قيل: لان المنجمين إذا ألقي شيء في الماء يخفى عليهم أمره، فأراد الله أن يخفى على المنجمين حال موسى حتى لا يخبروا به فرعون، وأراد أيضاً أن يبين لأمه حفظه، فقال: ألقيه في التلف لأنجيه بالتلف من التلف. وقال أيضاً: سلميه إليَّ صبياً أسلمه لك نبياً، وأيضاً: فكما مجاه في البحر في الابتداء، كذلك أنجاه في الانتهاء، وأغرق فرعون في البحر. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنما سمِّيَ موسى لأنَّهُ ألقي بينَ شجرٍ وماءٍ، فالماءُ بالقبطيَّةِ "مو"، والشجرُ "سا". وقال الثعلبي: عاش موسى عليه السلام مائة وعشرين سنة.

[5] صفورة بنت نبي الله شعيب

وذكر في التفسير قوله تعالى: ( ... اقذفيهِ ... (ألقيه في التابوت، ( ... فاقذفيهِ في اليمِّ ... (في النيل ( ... فليلقهِ اليمُّ بالسَّاحلِ ... (الجانب ( ... يأخذهُ عدوٌّ لي وعدوٌّ لهُ ... (يعني فرعون. وروي: أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وقيرته، ثم ألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر الكبير، فبينما هو جالس على بركة مع آسية، إذ [هم] بالتابوت، فأمر به، فأخرج ففتح، فإذا صبي به أصبح الناس وجها، ً فهم فرعون بالأمر بقتله لولا موافقته لطلب ءاسية، ولم يعلم أنه قاتله إذا كبر. وقال في كتاب "تفسير مدارك" قوله تعالى (يذبِّحُ أبناءهمْ ... (إلى آخرها وسبب الذبح أن كاهناً قال لفرعون: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه. فقيل: إنه ذبح في طلب موسى تسعين ألف وليد. وروي: أنها حين ضربها الطلق، كانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها. فعالجتها حتى ولدت، فلما وقع إلى الأرض، هالها نور بين عينيه، ودخل حبه قلبها فقالت القابلة: ما جئتك إلا لأقتل مولودك، وأخبر به فرعون ليقتله، ولكني وجدت حباً ما وجدت مثله، فاحفظيه، فلما خرجت القابلة جاءت عيون فرعون فلفته في خرقة، ووضعته في تنور مسجور، ولم تعلم ما تصنع، لأنه طاش عقلها، فطلبوا، فلم يلقوا شيئاً، فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت من التنور صوته، فانطلقت وأخرجته، وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً. وذكر بعضهم قوله تعالى: (وأصبحَ فؤادُ أم موسى فارغاً (الآية، إذا تلاها إنسان وهو على مائدة وأكل لم يشبع، وإن أكل المائدة كلها ... وذكر لي بعضهم أن اسم أم موسى إذا تلي على قفل مقفول سقط من غير مفتاح، وقد جربته، فما وجدت له أصلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم. [5] صفورة بنت نبي الله شعيب عليه السلام وهي زوجة موسى عليه السلام ولما كان من أمر موسى عليه السلام ما كان، [ولما كبر وبلغ أشده دخل المدينة على حين غفلة من أهلها] قوله تعالى: (فوجدَ فيها رجلينِ يقتتلانِ هذا من شيعتهِ وهذا منْ عدوِّهِ ((فوكزهُ موسى فقضى عليهِ (ومات القبطي من ساعته فخاف موسى من فرعون. [و] قوله تعالى: ( ... يا موسى إنَّ الملأَ يأتمرونَ بكَ ليقتلوكَ فاخرجْ إنِّي لكَ منَ النَّاصحين (فخرجَ منها خائفاً يترقبُ ... (وسار قاصداً من مصر إلى مدين. قال في "المعالم" قوله تعالى (ولمَّا وردَ ماءَ مدينَ وجدَ عليهِ أمَّةً منَ النَّاسِ يسقونَ ووجدَ منْ دونهمُ امرأتينِ تذودانِ ... (إلى قوله: (فسقى لهما ... (فتقدم موسى عليه السلام وزاحم القوم وسقى غنم المرأتين ثم جلس تحت ظل شجرة من شدة الحر، وهو جائع، وذلك قوله تعالى: (ربِّ إنِّي لما أنزلتَ إليَّ منْ خيرٍ فقيرٌ (وكان يعلم أنه من الأنبياء، فرجعت المرأتان. وهما ابنتا شعيب عليه السلام بالأغنام إلى أبيهما سريعاً، فقال لهما: ما أعجلكما، وكانا إذا سقوا أغنامهم يبطئون، ولا يسقون إلا بعد قومهم، ويبطئون على أبيهم قالتا: وجدنا رجلاً رحمنا، فسقر لنا أغنامنا فقالت له إحداهما قوله تعالى: ... (يا أبتِ استأجرهُ إنَّ خيرَ منِ استأجرتَ القويُّ الأمينُ (فقال شعيب عليه السلام لإحداهما: اذهبي فادعيه، فذهبت وذلك قوله تعالى: ... (إنَّ أبي يدعوكَ ليجزيكَ أجرَ ما سقيتَ لنا ... (فدعته، وتبعها يمشي خلفها فوجد الريح تلعب بأثوابها فوقف وقال لها، امشي لامن خلفي ودليني على الطريق، [فإنا أهل بيت لا ننظر في أعقاب النساء] ففعلت، وسار موسى وهي تدله على الطريق إلى أن دخل موسى على شعيب، فقال له: اجلس يا شاب وتعش. فقال موسى عليه السلام أعوذ بالله. فقال له شعيب عليه السلام: ولم ذلك، ألست جائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون عوضاً لما سقيت لهما، فقال له: [لا] والله [يا شاب] ولكنها عادتي [وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام] فجلس موسى عليه السلام وأكل. قال في "المعالم" فعند ذلك قالت له إحدى ابنتيه ( ... يا أبتِ استأجرهُ (إلى آخرها فقال له شعيب قوله تعالى ( ... إنِّي أريدُ أنْ أنكحكَ إحدى ابنتيَّ هاتينِ على أنْ تأجرني ثماني حججٍ فإنْ أتممتَ عشراً فمنْ عندكَ ... (قال: وشرط عليه أن يرعى أغنامه ثماني سنين، وإن أتممها عامين أخريين فذاك من عنده.

[6] آسية عليها السلام

ولما تعاقدا قال شعيب عليه السلام لابنته، وأمرها أن تعطي موسى عصاً فأعطته. وأقام يرعى الأغنام إلى أن تم الأجل، وسلم شعيب عليه السلام ابنته صفورة إلى موسى عليه السلام فقال لها موسى يوماً: اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم، فطلبت من أبيها، فقال شعيب عليه السلام لها: لكما كل ما ولدت هذا العام كل أبلق وبلقاء. فأوحى الله إلى موسى عليه السلام في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستسقى الأغنام، ففعل موسى ثم سقى الأغنام فوضعت كلها ما بين أبلق وبلقاء، فوفى لهم شعيب عليه السلام بشرطه، وأقام موسى عليه السلام بعد ذلك الأجل عشر حجج أخر ثم استأذن شعيب عليه السلام بالمسير إلى مصر، فأذن له. فخرج موسى من مدين بأهله قاصداً إلى مصر، فلما انتهى إلى قريب من جبل الطور أتى امرأته الطلق، وذلك قوله تعالى: ( ... آنسَ من جانبِ الطُّورِ ناراً قالَ لأهلهِ امكثوا إنِّي آنستُ ناراً لعلِّي آتيكم منها بخبرٍ ... ) وذكر في كتاب "المدارك" في التفسير: روي أن شعيب عليه السلام كان عنده عصي الأنبياء عليهم السلام فقال لموسى عليه السلام بالليل: ادخل ذلك البيت، فخذ عصا من تلك العصي. فدخل موسى وأخذ عصاً هبط بها آدم من الجنة، ولم تزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام فمسها شعيب، وكان مكفوف البصر، فرماها بالبيت [وضن بها] وقال لموسى: خذ غيرها، فدخل موسى فما وقع في يده غيرها سبع مرات فعلم شعيب أن له شأناً، فقال له: خذها. ولما أصبح الصباح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطرق، فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها كثيراً، إلا أن فيها تنيناً أخشى عليك وعلى الغنم منه. فسار موسى بالغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر موسى على كفها، فمشى على إثرها، فإذا عشب ومرعى لم ير مثله، فنام موسى عليه السلام والأغنام ترعى. فأقبل التنين فحاربته العصا حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى دامية، فانتبه موسى عليه السلام وأبصرها دامية، والتنين مقتولاً فارتاح لذلك، ولما رجع لمس شعيب عليه السلام الأغنام فوجدها ملأى البطون، غزيرة اللبن، فأخبره موسى عليه السلام بخبر العصا والتنين، ففرح شعيب عليه السلام وحمد الله تعالى وعلم أن لموسى والعصا شأناً، وقال له: إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء، فأوحى الله إلى موسى في المنام، أن اضرب بعصاك مستقى الغنم، ففعل، ثم سقى الأغنام، فوضعت كلهن أدرعاً ودرعاء، فوفى له بشرطه. وذلك قوله تعالى: (فلمَّا قضى موسى الأجلَ ... ) قال صلى الله عليه وسلم "قضى أوفاهما، وتزوَّجَ صغراهما". قيل: ولما عاد موسى عليه السلام من الطور وجد امرأته صفورة قد ولدت ابناً، فحملها إلى مصر وأقام بمصر يدعو فرعون إلى الإيمان وماتت صفورة في حياة موسى عليه السلام. [6] آسية عليها السلام بنت مزاحم بن فاحث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام بن إسحاق عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام وهي ابنة عم موسى عليه السلام وزوجة فرعون واسمه الوليد بن مصعب، وكان أبوه يرعى البقر، وبلغ من العمر مائة وسبعين سنة ولم يرزق ولداً، فرأى بقرة يوماً ولدت عجلة فتأوه وتألم، فنادته النقرة: يا مصعب لا تحزن فسيولد لك ولد مشؤوم يكون من أهل جهنم. ورجع مصعب فواقع زوجته، فحملت بفرعون، ومات مصعب قبل وضعه وولدته أمه وربته، وتنقلت به الأحوال حتى ملك مصر، وطغى وتجبر، وادعى الربوبية، فبلغه حسن آسية وجمالها: فأرسل إلى أبيها مزاحم أخي عمران يخطبها، وحمل إليه أموالاً وتزوجها. وقيل: إن الله عصمها منه فكان إذا واقعها تتشبه بها جنية فيواقع الجنية. وقيل: إن السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام كانوا مائتي ألف وأربعين ألف ومائتين واثنين وخمسين رجلاً وهم من رؤساء السحرة وكان غرق فرعون سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين من هبوط آدم عليه السلام ووفاة آسية قبل غرق فرعون بأعوام قليلة، نحو عامين أو أكثر، والله سبحانه أعلم. وذكر في كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة": وقد قيل بنبوة نسوة دخلن مصر: مريم بنت عمران، وسارة امرأة الخليل، وأم موسى عليه السلام وآسية امرأة فرعون. وممن آمن مع آسية ماشطة بنت فرعون.

أخرج الحاكم في "المستدرك" وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمْ يتكلَّمْ في المهدِ إلا عيسى، وشاهدُ يوسف، وصاحبْ جريح، وابن ماشطة ابنة فرعون". وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم "لما كانت ليلة أسري بي أتيت على رائحة طيبة، فقلت: يا جبرائيل: ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قلت: وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط ابنة فرعون، ذات يوم، إذ وقع المدرى من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أوَ لكِ ربٌّ غيرُ أبي؟ قالت: لا، لكن ربي ورب أبيك الله تعالى. قال: فأخبرت أباها بذلك، فدعاها وقال لها: يا فلانة أو أن لك رباً غيري!؟ قالت: نعم ربي وربك الله. فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر أن تلقى بها هي وأولادها. فألقوا بين يديها واحداً واحداً إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها رضيع، فجيء به فتقاعست من أجله، فانطقه الله تعالى وقال: يا أمَّاه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت فما تجده هو من رائحتها". وذكر الرازي في تفسيره قال وهب: إن فرعون يوسف هو فرعون موسى وهذا غير صحيح إذ كان بين دخول يوسف عليه السلام مصر وموسى أكثر من أربعمائة سنة. وقال محمد بن إسحاق: هو غير فرعون يوسف، فإن فرعون يوسف اسمه الريان بن الوليد. وذكر في كتاب "حسن المحاضرة": أن فرعون موسى أقام بالملك خمسمائة سنة حتى أغرقه الله،. وطان قبطياً واسمه طلما، وقيل: كان من العمالقة وكان يكنى بأبي مرة. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كان فرعون موسى أثرم. وقيل: مكث فرعون أربعمائة سنة الشباب يغدو عليه ويروح، وقيل: مكث أربعمائة سنة لم يصدع له رأس، وكان يملك ما بين مصر إلى إفريقية، وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقعد على كراسي فرعون مائتان عليهم الديباج وأساور الذهب. وذكر فخر الدين الرازي في تفسيره: لما أراد الله غرق فرعون والقبط أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم بطلب المال، ولتبقى أموالهم في أيدي بني إسرائيل، ثم نزل جبرائيل بالعشي فقال لموسى: أخرج قزمك ليلاً، وكانوا ستمائة ألف نفس. فلما خرج بهم، بلغ فرعون ذلك، فقال فرعون: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك، وما صاح ليلته ديك. فلما أصبحوا، قال قتادة: اجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف نفس من القبط، كل واحد على فرس حصان. فتبعوهم نهاراً، وذلك قوله تعالى: (فأتبعوهمْ مُّشرقينَ) أي بعد طلوع الشمس (فلمَّا ترآءى الجمعانِ قالَ أصحابُ موسى إنَّا لمدركونَ، قال كلاَّ إنَّ معي ربِّي سيهدينِ) ، فلما سار بهم موسى وأتى البحر قال له يوشع عليه السلام أين أمرك ربك؟ فقال له: إلى أمامك، وأشار إلى البحر، فاقتحم يوشع البحر بنفسه فسبح به الفرس، ثم رجع وقال له: يا موسى أين أمرك ربك؟ فقال: البحر. ففعل ثلاث مرات فأوحى الله إلى موسى: ( ... أنِ اضرب بعصاكَ البحرَ فانفلقَ ... ) الآية، فانشق البحر اثني عشر جبلاً في كل واحد الطريق، فقال له: ادخل. وهبت الصبا فجف البحر وصار كل طريق يابساً، وأخذ كل سبط منهم طريقاً، فقال لموسى: إن بعضنا لا يرى صاحبه، فضرب البحر بعصاه فصار بين الطرق منافذ وكوى يرى بعضهم بعضاً، ثم أتبعهم فرعون فرأى إبليس واقفاً ونهاه عن الدخول فهم بالرجوع فجاء جبرائيل على مهرة أمام فرعون، وكان فرعون على فحل فتبعه، ودخل فرعون البحر فصاح ميكائيل عليه السلام بهم: ألحقوا، آخركم بأولكم، فلما دخلوا البحر كلهم أمر الله البحر فنزل عليهم الماء، فذاك قوله تعالى: ( ... وأغرقنا آل فرعونَ وانتمْ تنظرون) ذلك يوم عاشوراء فصام موسى شكراً لله تعالى.

[7] زليخا زوجة يوسف عليه السلام

وذكر في "الكشاف" قوله تعالى (فأرسلَ فرعونُ في المدآئنِ حاشرينَ) قيل: إنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه، وروي أن الله أوحى لموسى، أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت ثم يذبحوا جديا، واضربوا بدمها على أبوابكم فغني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار القبط، واخبزوا خبزاً فطيراً؛ فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي وقيل: إن بني إسرائيل لما خرجوا من البحر قالوا لموسى عليه السلام وذلك قوله تعالى: ( ... اجعلْ لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ ... ) وقصتهم مشهورة، ومن الجد المفحم قيل: إن رجلاً من اليهود قال يوماً لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما دفنتم نبيكم حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتك لموسى (اجعلَ لنا إلهاَ كما لهمْ آلهةٌ) ، انتهى والله أعلم. [7] زليخا زوجة يوسف عليه السلام كان اسمها راعيل، وكان اسم زوجها الأول قطفير، وكان على خزانة الريان ابن الوليد صاحب مصر، وهو الذي اشترى يوسف عليه السلام من القافلة التي أخرجته من الجب، وجعله قطفير مثل ولده، ولم يكن له ولد، فأحبته زوجته. ومما قيل في كتاب "معالم التنزيل" للإمام البغوي رحمه الله تعالى أ. هـ?، في تفسير قوله تعالى: (ولقد هممت به وهم بها ... ) . وقال ابن زيد: كان لملك مصر خزائن كثيرة، فسلمها ليوسف عليه السلام ومات قطفير ثم تزوج يوسف زليخا، ولما دخل عليها قال لها: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ فقالت له: أيها الصديق لا تلمني، فغني كنت امرأة حسناء وناعمة كما ترى في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، ولما دخل عليها يوسف عليه السلام وجدها عذراء فأصابها، فولدت له غلامين في بطنين أحدهما إفرائيم والآخر ميشا. وذكر في كتاب "كشف الأسرار" ما معنى قوله تعالى: (ولقد همَّتْ بهِ وهمَّ بها) قيل: همت به حراماً وهم بها حلالاً، وهمت به سفاحاً وهم بها نكاحاً، وقيل: همت به بالمضاجعة وهم بها بالمدافعة، وفيل: همت به شهوة وهم بها موعظة. وذكر في "شرح الجوهرة": الفرق بين الهم والعزم، ويعرف أنه لا مؤاخذة على يوسف لأنه لم يقع منه إلا الأول لا الثاني. كذا قيل. والتحقيق أنه لم يقع منه عليه السلام ولا غيرها. والآية عند أبي حاتم وغيره محمولة على الحذف والتقديم والتأخير والتقدير: ( ... لولا أن رأى برهان ربه ... ) أي لولا رؤية البرهان لهم بها، ولكنه لم يهم لأنه رآه. وذكر في "تأريخ ابن الوردي": أن مالك بن دعر اشترى يوسف عليه السلام من إخوته بثمن بخس، قيل: عشرون درهماً، وقيل: أربعون، وذكروا: أنه عبدهم وقد أبق فخافهم يوسف عليه السلام ولم يذكر خاله لهم فسار به مالك إلى مصر وباعه إلى العزيز على خزائن الريان، فأحضره إلى زوجته زليخة ولم يكن لهما ولد فقال لزليخا: ( ... أكرمي مثواهُ ... ) الآية. فهوته زليخا وكتمت حبه ثم أظهرته وراودته عن نفسه فامتنع وهرب فلحقته وقبضته من قميصه فانقد، وألفيا سيدها لدى الباب. فلما رأته زليخا لطمت على وجهها وقالت: إن هذا يوسف قد راودني عن نفسي فأنكر يوسف، فهم العزيز بقتله وكان عنده طفل ابن شهرين، وهو ابن داية زليخا، فقال للعزيز لا تعجل ( ... إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) . فنظر العزيز فإذا القميص قد من دبر، فظهرت براءة يوسف. وبلغ زليخا أن نسوة من نساء الأكابر قد عبنها على فعلها، فأرسلت إليهن، وأحضرتهن وأعطت كل واحدة منهن سكيناً وأترجةً، وزينت يوسف وأخرجته عليهن، فلما رأينه دهشن به وهن يقطعن الأترج، فقطعن أيديهن، وتلوثت بالدماء ولم يشعرن، فقالت زليخا لهن ( ... فذلكنَّ الذي لمتنني فيهِ ... ) وقيل: إن النساء خلون في يوسف ليعذلنه في زليخا فراودته كل واحدة منهن عن نفسها، فأبى ثم انصرفن، وما زالت زليخا تشكو يوسف إلى زوجها وتقول: إنه يقول للناس إني راودته عن نفسي، وقد فضحني بين الناس. فحبسه العزيز.

[8] رحمة

ثم إن فرعون مصر الريان غضب على الساقي والخباز فحبسهما عند يوسف. فرأى كل منهما رؤيا وقصها على يوسف، وقد اقترحاهما ليختبرا يوسف، فعبر لهما يوسف كما قال الله تعالى في القرآن: (ودخلَ معهُ السِّجنَ فتيانِ قالض أحدهما إنِّي أراني ... ) فلما عبرهما لهما، فقالا له: عجباً منك تعبر لنا رؤيتين كاذبتين! فقال يوسف قوله تعالى: ( ... قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) وبعد ثلاثة أيام رضي فرعون عن الساقي وأعاده، وصلب الخباز، ولبث يوسف في السجن بضع سنين، يعني سبع سنين، وقيل اثني عشر سنة بعدد الحروف التي قالها الساقي وهي قوله تعالى: ( ... اذكرني عند ربك ... 9 ثم إن الريان رأى الرؤيا فتذكر الساقي يوسف فوصفه للريان فأرسل إليه فعبرها له، ثم أحضره وأعجبه حسنه فاصطفاه لنفسه. ومات العزيز فجعل الريان يوسف مكانه، فأحسن يوسف عليه السلام السياسة، وجمع الأقوات في تلك السبع سنين، فلما جاءت أيام القحط إلى أرض كنعان، وباعت زليخا جميع ضياعها وصرفت جميع مالها وافتقرت، فجاءت تستطعم يوسف فعرفها، فردها إلى نزلها ورد عليها ضياعها وأموالها وأملاكها وأرسل إليها طعاماً كثيراً، ثم استأذن ربه في زواجها فأذن له فتزوجها يوسف ورد الله عليها حسنها وجمالها، ودخل عليها فوجدها عذراء، وولد منها ولدين، إفرائيم وميشا. وذكر الرازي في تفسيره: قال وهب: إن فرعون يوسف هو فرعون موسى، وهذا غير صحيح، إذ كان بين دخول يوسف مصر وموسى أكثر من أربعمائة، وقال محمد بن إسحاق: هو غير فرعون موسى عليه السلام فإن فرعون يوسف اسمه الريان بن الوليد. وذكر في كتاب "تاريخ الأنبياء والدول": قال ابن عبد الحكيم: اشتد الجوع بمصر فاشترى يوسف من أهل مصر الفضة والذهب بالطعام، ثم اشتروا بأغنامهم ومواشيهم حتى لم يبق لهم شيء في سنتين، وفي السنة الثالثة اشترى أرضهم كلها لفرعون. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فوض الريان إلى يوسف تدبير الملك وهو ابن ثلاثين سنة، وقيل: أوحى الله إلى يوسف في الصغر كما أوحى إلى يحيى عليه السلام وألقي في الجب، وعمره سبع عشرة سنة، واجتمع مع أبيه وأمه وأخوته بعد انقضاء خمس عشرة سنة، وذلك سنة ثلاثة آلاف وستمائة وثلاث عشرة سنة من هبوط آدم عليه السلام وتوفيت زليخا في حياة يوسف عليه السلام ودفنت في مصر، ثم توفي يوسف ودفن في مصر نحو ثلاثمائة سنة، ثم حمل إلى بيت المقدس، وعاش مائة وعشرين سنة. وقيل: إن يوسف عليه السلام لما ألقي في الحب دعا بهذا الدعاء وهو قوله: يا عدتي في شدتي، ويا مؤنسي في وحشتي، ويا راحم عبرتي، ويا كاشف كربتي، ويا مجيب دعوتي، ويا إلهي ويا إله آبائي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم صغر سني وضعف ركني وقلة حيلتي يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام. وذكر في "كشف الأسرار" قوله: لم قطعن أيديهن ولم تقطع زليخا يديها؟ قيل: لأن يوسف كان في منزلها، ولم تخف الفراق، وهن قطعن أيديهن للفراق، وقيل: لأنهن كن يغبن زليخا، وللبغي مصرع ويقال قطعن أيديهن لدهشتهن، والمدهوش لا يدرك وما يعقل. وقال الكرماني في "العجائب" في قوله تعالى: (نحنُ نقصُّ عليكَ أحسنَ القصصِ) قيل: هي قصة يوسف لاشتمالها على حاسد ومحسود، ومالك ومملوك، وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق، وحبس وإطلاق، وسجن وخلاص، وخصب وجدب وغيرها. وقال في "خلاصة الإتقان": وقد صحح الحاكم النهي عن التعليم سورة يوسف للنساء، وعن الحسن: أن يوسف عليه السلام ألقي في الجب وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولقي أباه بعد الثمانين، وتوفي وله مائة وعشرون سنة، والله أعلم. [8] رحمة بنت أفرائيم بن يوسف عليه السلام بن يعقوب عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام وهي زوجة أيوب عليه السلام بن موهب بن تاريخ بن روم بن العيص بن إسحاق عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام وأم أيوب عليه السلام بنت لوط عليه السلام. وتزوج أيوب عليه السلام رحمة وله حشمة وأموال وبغل وبقر وغنم وخيل وبغال وحمير، وله خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة ولد. وبعثه الله رسولاً لما بلغ من العمر أربعين سنة إلى أهل البثنية من الجولان من بلاد دمشق والجابية.

وذكر في "الجامع" قوله تعالى: (وأيُّوبَ إذْ نادى ربَّهُ أنِّي مسَّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الرَّاحمينَ) وكان نبياً مرسلاً صاحب أنعام وحرث وأولاد، فابتلاه الله بذهاب كلها، وهلاكها، ثم ابتلاه بجسده فلم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما ربه ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من اجله، وقوله تعالى: (فاستجبنا لهُ فكشفنا ما بهِ منْ ضرٍّ وآتيناهُ أهلهُ ومثلهمْ معهمْ) بإحياء من مات من أولاده، أو أعطاه مثلهم من أولاده، قيل: إنه قيل له: إن أهلك في الجنة إن شئت أتيناك بهم وإن شئت تركناهم لك فيها، وعوضناك مثلهم في الدنيا، فاختار الثانية. وذكر في كتاب "كشف الأسرار": لما قصدت رحمة زوجة أيوب أن تقطع ذوائبها فعرف أيوب ذلك، حلف غضباً لله تعالى لان امرأته كانت محرمة وطلبت قطع ذوائبها، فأبى وحلف، ولذلك لما عوفي قا [ل] له تعالى: (وخذْ بيدكَ ضغثاً فاضربْ بهِ ولاَ تحنثْ ... ) ثم أمطر الله عليه جراراَ من ذهب، وذلك عوضاً عن البلاء الذي أصاب جسمه، ولم يسلم سوى لسانه وقلبه. وذكر في "المدارك" في تفسير قوله تعالى: ( ... وآتيناه أهله ومثلهم معهم ... ) وروي، أن أيوب عليه السلام وكان له من البنين سبعون، ومن البنات سبعة، وله ثلاث آلاف بعير، وسبعة آلاف شاة، وخمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد، فابتلاه الله بذهاب أولاده وماله، وتمرض في بدنه ثماني عشرة سنة، أو ثلاث عشرة سنة، أو ثلاث سنين، فقالت له امرأته رحمة يوماً: لو دعوت الله عز وجل فقال لها: كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة، فقال: أنا أستحي من الله أن أدعوه، وما بلغت من بلائي مدة رخائي، فلما كشف الله عنه أحيا أولاده ورزقه مثلهم معهم. وذكر في "الإتقان": قال ابن أبي حيثمة: كان أيوب عليه السلام بعد سليمان عليه السلام وابتلي وهو ابن سبعين سنة ومدة بلائه سبع سنين، وروى الطبري، أن مدة عمر أيوب ثلاث وتسعون سنة. وذكر في "كشف الأسرار": اختلف في مدة بلائه. [و] روى ابن شهاب عن انس رضي الله عنه يرفعه: "أنَّ أيُّوبَ لبثَ في بلائهِ ثماني عشرة سنة" وقال وهب: ثلاث سنين لم يزد يوماً، وقال كعب: سبع سنين، وقيل: سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام. وذكر في كتاب "البستان" أن أيوب عليه السلام تزوج ليا بنت يعقوب عليه السلام وقيل: رحمة بنت ابن يوسف، وهو الأصح. وقيل: إن رحمة بنت ميشا ابن يوسف عليه السلام وذكر في "تاريخ ابن الوردي" ناقلاً عن "الكامل لابن الأثير: أن أيوب عليه السلام بن موص بن رازج بن عيص بت إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام وكان صاحب أموال عظيمة، وكانت له البثنية من أعمال دمشق ملكاً، وكانت زوجته رحمة، فابتلاه الله في جسده وكانت وتقوم بنفسها وبه، ولأنها قطعت ضفائرها، وحلف لئن عافاه الله ليضربنها مائة سوط، ولما أراد الله كشف البلاء عنه عجزت رحمة. في ذلك اليوم عن القوت فباعت ضفيرتها من امرأة برغيفين من الخبز، وأتت إلى أيوب وأخبرته فقال عند ذلك: ( ... أنِّي مسَّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الراحمينَ) قال تعالى: (فاستجبنا لهث فكشفنا ما بهِ منْ ضرٍّ ... ) فأرجل جبرائيل فبشره وأخذه بيده وأقامه، وأنبه الله له عيناً من تحت قدميه، فشرب منها، فشفي من جميع ما في بدنه من العلل، ثم اغتسل فيها فخرج كأحسن ما كان، ورد الله عليه ضعف ما فقد له من الأموال، ورد إليه أهله وأولاده، ورد إلى زوجته رحمة حسنها وجمالها، وولدا لأيوب ستة وعشرين ولداً ذكراً. ومنهم: بشر وهود والكفل عليه السلام. ولما عوفي أيوب أمره الله أن يأخذ عرجوناً من النخل فيه مائة شمراخ فيضرب به زوجته ضربة واحدة ليبر في يمينه ففعل كذلك وكان أيوب عليه السلام نبياً في عهد يعقوب عليه السلام في قول بعضهم. وذكر في "التحفة" لابن حجر: أن الرسول من البشر ذكر حر، أكمل معاصريه غير الأنبياء عقلاً وفطنةً، وقوة رأي، وخلق معصوماً، ولو من الصغيرة سهواً، ولو قبل النبوة على الأصح. سليم من دناءة أب، وخنا أم وإن عليا، ومن منفر كعمى وبرص وجذام. وذكر في "المصابيح" قال صلى الله عليه وسلم: "بينا أيُّوُب يغتسلُ عرياناً فخرَّ عليهِ جرادٌ من ذهبٍ، فجعلَ أيُّوبُ يحتثي في ثوبهِ، فناداهُ ربُّهُ: يا أيوبُ، ألمْ أكنْ أغنيتكَ عمّا ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن ركبتك".

[9] حنة بنت فاقوذا

وماتت رحمة في حياة أيوب عليه السلام وقيل: عشت بعده قليلاً، وماتت ودفنت بأرض الشام. والله أعلم. [9] حنة بنت فاقوذا وهي زوجة عمران، وأخت زوجة زكريا عليه السلام وأم مريم عليها السلام تزوجها عمران، ولم تحمل منه وأسنت، ولم يكن لها ولد فأبصرت يوماً طائراً يطعم أفراخه، فتحركت لذلك نفسها، واشتاقت للولد، وتمنت أن يكون لها ولد حتى تحن عليه مثل هذا الطائر، فهنالك دعت إلى الله تعالى أن يهب لها ولداً، وقالت: اللهم لك علي بأن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس. فواقعها زوجها عمران، فحملت مريم ولفتها في خرقة من يومها، وحملتها إلى المسجد الأقصى، ووضعتها عند الأحبار، من أبناء هارون عليه السلام وقالت لهم: دونكم وهذه النذيرة. وذلك قوله تعالى: (فلمَّا وضعتها قالتْ ربِّ إنِّي وضعتها أنثى..) الآي، فتنافس فيها الأحبار، وكان عمران قد مات قبل الولادة، فطلبها زكريا ليأخذها وقال: أنا أحق بها لأن خالتها عندي. فتقارعوا عليها فوقعت القرعة لزكريا عليه السلام قيل: إنها لم تلقم ثديا منذ ولدت، وقيل: إن أمها كانت ترضعها. وذكر في كتاب "تأريخ ابن الوردي": أن حنة أم مريم عليها السلام، وهي أخت إيشاع زوجة زكريا عليه السلام وذكر مثل ما سبق ذكره من دعاء حنة، وطلبها الولد بعد ما كبرت، وقيل: إن عمرها لما ولدت مريم كان ستين سنة، وقيل: إنها توفيت وقد بلغت مريم من العمر عشر سنين. والله أعلم. [10] مريم عليها السلام بنت عمران بن آذن بن ماثين بن فيلقوس بن آسابن ياهوثا بن إينا بن رجعيم ابن سليمان عليه السلام بن داود عليه السلام بن اثيا بن سلمون بن عدن بن جابر ابن عسوار بن عمران بن دارم بن عمر قاص بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام ابن اسحاق عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام. وأمها حنة، وقد سبق الذكر في كيفية حملها، في ترجمة أمها. ومات أبوها عمران وأمها حامل بها، ولما وضعتها، و ( ... قالتْ ربِّ إنِّي وضعتها أنثى ... ) لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد وسمتها مريم. قال في "المعالم": ومعنى مريم: العابدة والخادمة بلغتهم، وكانت مريم من أجمل النساء في وقتها، قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما منْ بني آدمَ [من] مولودٍ لا يمسُّه الشَّيطانُ حين يولدُ فيستهلُّ [الصبي] صارخاً منْ مسِّ الشيطانِ غيرِ مريم وابنها". ولما دخلت بها على الأحبار من أولاد هارون قالت: لهم دونكم وهذه المندورة. فتنافس فيها الأحبار، لأنها كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم وقد مات قبل ولادتها، فقال لهم زكريا عليه السلام: أنا أحق بها لان عندي خالتها. فلم ترض الأحبار. فتقارعوا عليها، فوقعت لزكريا، فتكلفها وذلك قوله تعالى: ( ... وكفَّلها زكريَّا ... ) وضمها إلى خالتها حتى إذا بلعت مبلغ النساء بنى لها زكريا محراباً في المسجد وجعل بابها في الوسط [لا] يرقى إليها [إلا] بسلم، وكان لا يدخل عليها غيره، يأتيها بشرابها وطعامها ودهنها كل يوم، وإذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب. قال [أبو] الحسن: منذ ولدت مريم لم تلقم ثدياً قط، بل كان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول لها زكريا ( ... أنَّى لكِ هذا) معناه من أين لك هذا؟ قالت: ( ... هوَ منْ عندِ اللهِ ... ) تكلمت وهي صغيرة. وذكر في "المصابيح" عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كملَ منَ الرِّجالِ كثيرٌ، ولمْ يكملْ منَ النِّساءِ إلا مريمُ بنتُ عمرانَ، وآسيةُ امرأةُ فرعونَ وفضلُ عائشةُ على النساءِ كفضلِ الثَّريدِ على [سائرِ] الطَّعامِ". وذكر في كتاب "كشف الأسرار": إنما سميت مريم من قولهم رمت غي طلبت ويقال: مرت في الطاعة كمرور الحوت في اليم، وسماها الله مريم باسمها سبع مرات في القرآن العظيم ولم يسم من النساء غيرها. وخاطبها فقال: (يا مريمُ ... ) ، كما خاطب الأنبياءَ، وقال: (واذكرْ في الكتابِ مريمَ ... ) كما قال لإبراهيم وغيره من الأنبياء. وقال: ( ... يا مريمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطهَّركِ ... ) .

ومن كراماتها: رزقها بغير حساب، كما أعطى سليمان، وقال: (هذا عطاؤنا فامننْ أو أمسكْ بغيرِ حسابٍ) ، وتكليم الملائكة لها، وإرسال جبرائيل إليها، وولادتها من غير مس، وبراءتها بلسان صبي، وضمها مع نبي في آية واحدة فقال تعالى: (وجعلنا ابنَ مريمَ وأمَّهُ آيةً ... ) وبهذا ذهب بعضهم إلى أنها نبية. وذكر في "حلية الأبرار" قوله مريم عليها السلام ولقمان هل هما نبيان أم لا؟ فأجاب الشيخ محي الدين النووي: إن الجماهير على أنهما ليسا نبيين، وقد شذ من قال في نبوتها، ولا التفات إليه، ولا تعريج عليه. وذكر في كتاب "شرح اللآلي"لعلي القادري قوله: ظاهر الأدلة يشير إلى نفي النبوة عن الأنثى، وعن ذي القرنين ولقمان ونحوهما كتبع، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "ولا ادري أنّّهُ نبيٌ أمْ ملك"، وكالخضر عليه السلام فإنه قيل: نبي، وقيل: ولي، وقيل: رسول على ما في "التمهيد" فلا ينبغي لأحد أن يقطع بنفي أو وذكر في "شرح الجوهرة": أن النبي الذي تظهر المعجزة على يده فذلك يحكم بنبوته وعلى هذا [ال] قول قد ذكر صاحب "كشف الأسرار" ما ظهر على مريم من المعجزات وعد منها: كان يأتيها رزقها، وتكليم الملائكة لها، وحملها بعيسى من غير رجل. فعلى قول صاحب "كشف الأسرار" أنها نبية والله أعلم. وذكر في "شرح الجوهرة": قيل بنبوة مريم بنت عمران كما اختاره القرطبي في "شرح مسلم" وآسية امرأة فرعون، وقيل: بعدم نبوتهما كما هو الصحيح وعليه الأكثر، فإن قلت: فقد صح الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه من طرق عدة "خير نساء العالمين أربع: مريمُ بنتُ عمرانَ، وآسيةُ بنتُ مزاحم امرأةُ فرعون، وخديجةُ، وفاطمةُ". وصح أيضاً حديث ابن عباس رضي الله عنه: "أفضلُ نساءِ الجنَّةِ خديجةُ وفاطمةُ ومريمُ وآسية" فهذا يقتضي التسوية بينهن، فيعارضه قوله تعالى ( ... إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطهَّركِ واصطفاكِ على نساءِ العالمين) وقد تحمل على نساء العالمين في زمانها، وفضل مريم من حيث الاختلاف في نبوتها وذكرها في القرآن مع الأنبياء عليهم السلام. وقد اختلف بنبوتها، ممن قال بنبوتها فقد احتج بقوله تعالى: (وجعلنا ابنَ مريمَ وأمَّهُ آيةً ... ) وغيرها من الآيات الدالة على نبوتها، ومن قال أنها ليست بنبية احتج بقوله: (وجعلنا ... ) أي شانها آية، وقيل: معناه جعلنا كل واحد آية. واختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدمين الذين نسخت شرائعهم، وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً فهل تصير نبوته منسوخة؟ قال: إن نسخ الشريعة لا يقتضي، نسخ النبوة قالوا: نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال، وقد تنبه لهذا بعض الفضلاء، وقد ذكر في "الفقه الأكبر" قوله صلى الله عليه وسلم: "كملَ منَ الرِّجالِ كثير، ولمْ يكملْ منَ النِّساءِ إلا ثلاثةَ: مريمُ وآسيةُ وخديجةُ". وذكر في "المعلم" في تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتابِ مريمَ إذِ انتبذتْ منْ أهلها مكاناً شرقياً) أي تنحت واعتزلت من قومها مكاناً في الدار مما يلي الشرق، وكان يوماً شاتياً شديد البرد، فجلست في مشرفة تفلي رأسها وقيل: إنها طهرت من الحيض فذهبت للغسل فضربت ستراً وتجردت للغسل من الحيض إذ عرض لها جبرائيل في صورة شاب أمرد، فلما رأته يقص نحوها نادته من بعيد، قوله تعالى: (إنِّي أعوذُ بالرَّحمنِ منكَ إنْ كنتَ تقياً) فقال لها جبرائيل: (إنَّما أنا رسولُ ربِّكِ لأهبَ لكِ غلاماً زكيّاً) فقالت له مريم: ( ... أنَّى يكونُ لي غلامٌ ولمْ يمسسني بشرٌ ولمْ أكُ بغيّاً) فقال لها جبرائيل: ( ... كذلكَ قالَ ربُّكِ هوَ عليَّ هيِّن ... ) ثم رفع جبرائيل درعها فنفخ في جيبها فحملت حين لبست درعها، وقيل نفخ في كم قميصها، وقيل: في فيها، وقيل: نفخ من بعيد فوصل إليها الريح إليها فحملت وتنحت بالحمل وانفردت بعيداً من أهلها.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الحمل والولادة في ساعة واحدة، وقيل: في تسعة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر، وقال مقاتل: حملته مريم في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، وعمرها إذ ذاك عشر سنين، ولما ولدته حملته في الحال إلى قومها فأنكروا عليها. وذلك قوله تعال: (يا أختَ هارونَ ما كانَ أبوكِ امرأ سوءٍ وما كانت أمُّكِ بغيَّاً) فلما سمعت إنكارهم وقولهم (فأشارتْ إليهِ) أي كلموه (قالوا كيفَ نكلِّمُ من كان في المهد صبياً) فقال له زكريا عليه السلام: أنطق بحجتك إن كنت أمرت بها. وقيل لماسمع عيسى عليه اليلام كلامهم وإنكارهم اتكأ على يساره، وترك الرضاع وأقبل عليهم يشير بيمينه (قال إنِّي عبدُ اللهِ آتانيَ الكتابَ وجعلني نبيّاً، وجعلني مباركاً أينَ ما كنتُ وأوصاني بالصلواتِ والزَّكوة ما دمتُ حياً، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقياً، والسَّلام عليَّ يومَ ولدتُ ويوم أموتُ ويومَ أبعثُ حيَّا) فلما كلمهم صدقوا وعلموا براءة مريم، عليها السلام. ثم سكت عيسى بعد ذلك فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان. وذكر في كتاب "كشف الأسرار": أن أسماء عيسى عليه السلام أربعة: عيسى، وكلمة، ومسيح، وروح، فعيسى هو: الأبيض في اللغة، ويقال: غير هذا الاشتقاق له. وروح لأنه من ريح جبرائيل، ويقال: لا بل خرج من الماء من تربة أمه إلى رحمها بنفخة جبرائيل، وهو من الماء لا من الريح، ويقال: ولد من ساعته، ويقال: لثمانية أشهر، ويقال: للمدة الكاملة، وأما تسميته كلمة فلأنه صار بكلمة مخلوقاً وسماه مسيحاً لأنه كان يسيح في الأرض، ويقال: ولد ممسوحاً بالدهن، ويقال: لأنه كان يمسح الضر عن الأعمى والأكمه والأبرص ويقال: المسيح الذي لا يكون لقدميه أخمص. وفيه أيضاً: لما أمرها بهز جذع النخلة بقوله تعالى: (وهزِّيَ إليكِ بجذعِ النَّخلةِ تساقطْ عليكِ رطباً جنيّاً) قيل: لأنها من ولد بغير أب فقال لها ذلك، فهزت بجذع يابسة بلا فحل ولا طلح طلع، لها أربع عجائب: الرطب من نخل يابس بلا فحل كيلا تعجب من ولد بغير أب ولا مس. وفيه أيضاً، لم أجري النهر بغير سعيها ولم يعطها الرطب إلا بسعيها؟ قيل: لان الرطب غذاء وشهوة. والماء سبب للطهارة والخدمة، ويقال: لما كانت وحيدة بعث إليها طعاماً من الجنة بلا سبب، فلما ولدت جاءت الواسطة فأمرها بهز النخلة. وذكر في "تاريخ ابن الوردي" ناقلاً من "الكامل" لابن الأثير قال: ولدت مريم عيسى في بيت لحم سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الاسكندر، ولهبوط آدم عليه السلام خمسة آلاف وخمسمائة وأربع وثمانون، ولطوفان نوح عليه السلام ثلاث آلاف وثلاثمائة واثنتان وأربعون سنة، ولمولد إبراهيم عليه السلام ألفان ومائتان وإحدى وستون، ولوفاة موسى عليه السلام ألف وسبعمائة وست عشرة سنة، ولابتداء ملك بخت نصر سبعمائة وثمان وثلاثون سنة، وقبل الهجرة بستمائة وإحدى وثلاثين سنة، ولما ولدته أتت به قومها تحمله فأخذوا الحجارة ليرموها ويرجموها فتكلم عيسى وهو في المهد معلقاً في منكبها (قال إني عبد الله..) الآية، فلما سمعوا كلام عيسى تركوها، فأخذته مريم وسارت به إلى مصر مع ابن عمها يوسف النجار ابن يعقوب، وزعم بعضهم أن يوسف تزوج مريم، ولم يقربها، ويوسف هذا هو أول من أنكر حملها ثم تحقق براءتها وسار معها، فأقاما في مصر اثنتي عشرة سنة، ثم عاد عيسى وأمه إلى الشام ونزلا الناصرة وبها سميت النصارى، وأقام بها حتى أرسل وقد صار له من العمر ثلاثون سنة، وابتدأ بالدعوة لستة أيام خلت من كانون الثاني، وأظهر المعجزات، وأحيا عازر بعد موته بثلاثة أيام، ولبس الصوف والشعر، وأكل من نبات الأرض، وبما تقوت من غزل أمه، وجعل من الطين طيراً، وأبرأ الأكمه والأبرص، ومشى على الماء. والحواريون الذين اتبعوه اثنا عشر، وهم: شمعون الصفا، وشمعون القناني، ويعقوب بن زيدي، ويعقوب بن خلفي، وقولوس، ومارقوس، واندراوس، وتمريللا، ويوحنا، ولوقا، وتوما، ومتى.

ولما رفعه الله إلى السماء وقال اليهود ما قالوا، أنزله الله من السماء إلى أمه مرين وهي تبكي عليه، فقال لها: إن الله رفعني إليه، ولم يصبني إلا الخير وأمرها فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض رسلاً عن الله. ثم رفعه الله تعالى وتفرق الحواريون. وكان رفعه لمضي ثلاثمائة وست وثلاثين من غلبة الاسكندر، وكان بين رفع عيسى ومولد النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة وخمس وأربعون سنة تقريباً. وعاشت مريم عليها السلام ثلاثاً وخمسين سنة، وحملت بالمسيح ولها ثلاث عشرة سنة، وحاضت قبل حملها حيضتين، وعاشت مجتمعه معه ثلاثاً وثلاثين سنة، وبقيت بعد رفعه ست سنين. وكان ملك اليهود الذي هم بقتل عيبس اسمه هردوس. قال ابن سعيد: وكانت اليهود قد جدت في طلبه فحضر بعض الحواريين إلى هردوس ملك اليهود، وقال له ولجماعة اليهود، ما تجعلون لي إذا دللتكم على المسيح. فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فرفع الله المسيح إليه وألقى شبهه على الذي دلهم عليه، فقبضه اليهود وربطوه بحبل وقادوه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتي، أفلا تخلص نفسك من هذا الحبل ويبصقون في وجهه، ويلقون عليه الشوك وهو يستغيث بهم ويقول لهم: أنا فلان وهم لا يصدقونه وصلبوه على الخشبة ست ساعات ثم استوهبه يوسف النجار من هردوس ودفنه في قبر كان يوسف قد أعده لنفسه ثم ظهر لهم أنه هو الحواري الذي دل على عيسى، وأنزل الله عيسى على أمه وهي تبكي واجتمع بالحواريين وبعثهم رسلاً إلى البلاد. وبزعمهم قال متى في إنجيله: إن المسيح قال: إني أرسلتكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم، فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن والروح القدس. قلت: تعالى الله عن ذلك علواً كثيراً، إنما هذا من كلامهم، فإن كلام الله قوله تعالى: (لا تدع مع الله إلهاً آخر) (إنما هو إله واحد) وقال تعالى: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) والظاهر أن قول عيسى عليه السلام لهم: "الحق ليكفرن لبين أحدكم" يحتمل أنه أراد به متى، وقوله: ليبيعني.. ذلك الذي دل اليهود عليه،، اخذ ثلاثين درهماً ثم صلب [بعد] ذلك. ومن فضائح النصارى، ذكر في كتاب "تخجيل من حرف الأناجيل": أن للنصارى كنيسة يحجون إليها، ويزعمون أن يد الله تخرج إليهم من وراء الستر فتصافحهم في يوم من السنة، فبلغ ذلك بعض ملوكهم، فمضى إلى الكنيسة في ذلك اليوم، فلما ظهرت اليد قربها الأقساء إليه ليقبلها فقبضها، فصاح به الأقسة قالوا: الساعة تخسف بنا الأرض فقال: دعوا عنكم، لا أضعها حتى أرى صاحبها. فقالوا له: رجعت عن دينك فقال: لا، ولكني أردت معرفة ذلك فقالوا: إنها يد أسقف من أصحابنا فلا تفضحنا. ومن فضائحهم: كان في الروم كنيسة يحجون إليها في يوم من السنة فيرون صنماً بها، إذا قرئ الإنجيل بين يديه در ثدياه، وخرج منهما اللبن، فبحث ملكهم عن ذلك فوجد القيم قد نقب من وراء الجدار طاقة وهندمها حتى أوصلها ثدي الصنم وجعل فيها أنبوبة من نحاس. وأخفاها فإذا كان يوم العيد فتحها وصب فيها لبناً فيخرج من ثدي الصنم ويقطر قطة قطرة، فلا يشك من حضر أنها آية، فلما علم ملكهم ضرب عنق القيم وحلف أن لا يبقي في الكنائس صوراً، وكفر بعضهم [ب] بعضٍ. وزعم النصارى: أن المسيح علم هذه الأقوال إلى الحواريين، ويقولون: إنها سورة ويسمونها فاتحة الأناجيل وهي: أبانا الذي في السموات، قدوس اسمك، يأتي ملكوتك، كما في السماء كذلك يكون على وجه الأرض. آتنا خبزنا قوتاً في اليوم، واغفر لنا ما وجب علينا، كما نحب أن تغفر لمن أخطأ إلينا، ولا تدخلنا التجارب لكن نجنا من الشرير، لك المجد والقوة والملك إلى الأبد. آمين فانظر رحمك الله إلى هذه الألفاظ وانظر إلى فاتحة الكتاب، فبين الفاتحة وبين هذه الكلمات كما بين الأرض والعرش لا السحاب.

ومما يقرءونه في الساعة الأولى من صلاتهم: المسيح الإله الصالح، الطويل الروح، الكثير الرحمة، الداعي الكل إلى الإخلاص، قلت: إذا كان المسيح هو الإله فلم لا خلص نفسه من الصلب كما يزعمون، إنما هو كلمة الله وروح منه. (وما صلبوه ولكن شبه لهم..) ويقرءون في صلاة السحر: تعالوا بنا نسجد للمسيح إلهنا. وقاله تعالى (يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحث إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب* ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم..) . فتعساً لهم ما أظلمهم وأعمى أبصارهم. ولهم من هذه الخرافات والكفريات أشياء كثيرة، فمنها أنهم يقرءون في الساعة الثالثة من صلاتهم: يا والدة الله يا مريم العذراء افتحي لنا أبواب الرحمة. وغير ذلك مما تنفر عنه الطباع. ومن فضائحهم: أنه ظهر لهم في الموصل دين جديد سنة ألف ومائة وثلاث وتسعين أتت به البواتر من بلاد الفرنج، ويسمونه المسيحي، وهو أراجيف من الأول، وصارت غالب نصارى الموصل على ذلك الاعتقاد، وجعلوا يلعنون من مات قبلهم من آبائهم وأمهاتهم، ويشهدون عليهم بالكفر، فلعنهم الله وأخزاهم، ولي فيهم قصيدة ذكرت فيها فضائحهم، وقد ذكرتها في كتابي "الدر المنتشر في أدباء القرن الثالث عشر". وذكر ابن الأثير، أنه اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في مدينة القسطنطينية بمحضر من ملكهم قسطنطين، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً واتفقوا على هذه الكلمات اعتقاداً ودعوة، وهي قولهم: نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى، وبالابن الوحيد إيسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع. غله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء، الذي من أجلنا وأجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد في روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء، وجلس على يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبمعمودية واحدة، ولغفران الخطايا، وبالجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة أبد الآبدين. فانظر وفقك الله بين هذا المعتقد السخيف، والإيمان الصادق الطاهر العفيف [في] قولنا: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى. وذكر في "النقاية" أن العالم حادث، وصانعه الله واحد قديم لا ابتداء لوجوده ولا انتهاء لذاته، وذاته مخالف لسائر الذوات، وصفاته: الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر، والكلام القائم بذاته المعبر عنه بالقرآن المحفوظ بألفاظه المقروءة [ال] القديم، منزه عن التجسم واللون والطعم والعرض والحلول، ليس كمثله شيء، وما ورد في الكتاب والسنة نؤمن به، والقدر خيره وشره منه. أرسل رسله بالمعجزات الباهرات وختم بهم محمداً صلى الله عليه وسلم ونعتقد أن عذاب القبر حق، وسؤال الملكين حق، وأن الحشر والمعاد حق، وأن رؤية المؤمنين له تعالى حق، وأن المعراج بجسد المصطفى صلى الله عليه وسلم حق يقظة، وأن نزول عيسى بن مريم قرب الساعة وقتله الدجال حق، وأن رفع القرآن حق، وأن الجنة والنار حق مخلوقتان اليوم، وأن الجنة في السماء، والنار تحت الأرض السابعة، ونعتقد أن الموت بالأجل فإذا [قال] الإنسان هذه الأشياء واعتقدها فقد حظي بالإيمان الكامل. وفي سنة ألف مائتين وواحد قرأت ما ذكره ابن الأثير من معتقد النصارى على قس للنصارى فقال: هذا هوالإيمان الكامل؟ فسحقاً له من إيمان كامل، إنما هو ناقص وكفر محض، وكلام أساقفة وشمامسة لعنهم الله ما أظلمهم وأعمى أبصارهم.

[11] إيشاع بنت فاقوذا

ومن فضائح اليهود: ذكر في كتاب "تخجيل من حرف الأناجيل": أن قدماء اليهود عبدة الكواكب والزهرة، منهم عبدوا العجل الذي صنعه السامري ومنهم طائفة تعتقد أن لله مضاد من خلقه وهو فاعل الشر، وطائفة تزعم أن عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيان مرسلان لقومهما خاصة، وطائفة تقر بنبوة موسى وهارون ويوشع، وتجحد بنبوة ما عداهم من النبيين، وطائفة تعترف بنبوة [ال] كل ما عدا عيسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتزعم أن المسيح لم يبعث بعد وسيأتي. ومن فضائحهم: زعمهم أن الله حين أكمل خلق العالم قال تعالى حتى نخلق بشراً مثلنا، فخلق آدم. ولذلك اعتقد اليهود أن الله في صورة شيخ كبير، وأنه جالس على كرسي والملائكة قيام بين يديه تعالى الله عن ذلك. ومن فضائحهم: زعمهم أن الله لما خلق آدم ورأى معاصي نبيه كثرت قال: لقد ندمت إذ خلقت آدم فأرسل الطوفان، فأباد به من على وجه الأرض، ثم ندم وقال: لا أعود أفعل ذلك! وهل يخفى على علام الغيوب ما كان وما سيكون؟ قاتلهم الله إنى يؤفكون ما أعماهم عن الهدى! وغلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله رضي الله عنه وأرضاه فقال: فاسألوهم أكان في مسخهم نسخ ... لآياتِ اللهِ أمْ إنشاءُ وبداء في قولهم ندمُ الله ... على خلق آدم أم خطَّاءُ [11] إيشاع بنت فاقوذا هي زوجة زكريا عليه السلام وأخت حنة أم مريم عليها السلام بنت عمران، تزوجها زكريا عليه السلام ولم تحمل منه وكانت عاقراً، وبلغت من العمر كثيراً حتى انقطع حيضها، وكانت أكبر من أختها حنة، وقيل أصغر منها. ذكر في "المعالم" في تفسير سورة "كهيعص" قوله تعالى: (قال ربِّ إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقيا) أي قال زكريا: عودتني الإجابة فيما مضى، وقوله تعالى: (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً) أي: ابناً، وقوله تعالى: (يرثني ويرث آل يعقوب..) قال الحسن: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة والحبورة لأن زكريا عليه السلام كان نبياً مرسلاً، ورأس الأحبار. وقوله تعالى: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى..) وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لم تلد العواقر مثله. وقوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية..) أي دلالة على حمل امرأتي، لأنها عاقر وقد كبرت وأسنت قال تعالى: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) أي: صحيحاً سليماً من غير بأس ولا خرس، وكان الناس ينتظرون خروجه من وراء المحراب، فخرج عليهم متغيراً لونه، فأنكروه وقالوا له: ما لك؟ فكتب لهم في الأرض (.. أن سبحوا بكرة وعشيا ... ) لأنه كان يخرج عليهم بكرة وعشياً، فلما كان وقت حمل امرأته إنشاع ومنع من الكلام خرج إليهم وأمرهم بالصلاة [إشارة] ، ولماتم حملها ولدت يحيى عليه السلام ولما صار له من العمر ثلاث سنين أتاه الله الحكم صبياً، قرأ التوراة وهو صغير وذكر في "تاريخ ابن الوردي": أن إيشاع ولدت يحيى عليه السلام قبل ما ولدت مرين عليها السلام عيسى بستة اشهر، فكان مولد يحيى سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الاسكندر، ولهبوط آدم عليه السلام خمسة آلاف، وخمسمائة وأربع وثمانين. وكان لهردوس حاكم اليهود بنت أخ، فأراد أن يتزوجها حسبما هو جائز في دين اليهود، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فطلبت أم البنت من هردوس قتل يحيى فامتنع، فعاودته هي والبنت وألحت عليه، فأمر بذبح يحيى عليه السلام فذبح لديهما قبل رفع المسيح بمدة يسيرة. وذكر في "تاريخ الدول": ولد يحيى قبل عيسى بستة اشهر، ونبئ وهو صغير، وكان لليهود ملكاً اسمه آجب، وقيل: هردوس، وكان يكرم يحيى، وكان يحب بنت أخيه. وقيل: بنت زوجته، فشاور يحيى بأن يتزوجها، فمنعه، فبلغ [منعه] أم البنت، فعمدت حين جلس هردوس للشرب وزينت بنتها وأرسلتها إلى هردوس لتسقيه الخمر، فإذا راودها تأبى حتى يعطيها رأس يحيى في طشت، ففعلت، ولما راودها أبت وطلبنا منه ذلك، فبعث الملعون إلى يحيى، وهو يصلي في محراب داود عليه السلام فذبحوه وحملوا رأسه في طشت، وأدخلوه على هردوس، والراس يتكلم ويقول: لا تحل لك، ووضعوه قدام تلك العاهرة، ثم أمر هردوس بدفنه، والدم يغلي منه ويفور، فوضعوه في حفرة، في دار هردوس.

[12] سارة

ثم خسف الله بهردوس وزوجته وبنتها العاهرة، وذلك سنة خمسة آلاف وستمائة وأربع عشرة. وذلك الذبح قبل رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، واستمر الدم يغلي ويفور ثلاثة وأربعين سنة، حتى سلط الله على اليهود طيطرس، وقيل: بخت نصر، وقتل اليهود وخرب بيت المقدس، وقد قتل من اليهود نحو سبعين ألفاً فعند ذلك أهبط الدم الذي كان يفور من رأس يحيى، وماتت أمه إيشاع قبل ذبحه بسنين، ودفنت في بيت المقدس، وقد أسنت، والله سبحانه وتعالى أعلم. وذكر في "الإتقان" يحيى أول من سمي بنص القرآن، ولد قبل عيسى بستة أشهر، ونبئ صغيراً، وقتل ظلماً، وسلط الله على قاتله، بخت نصر وجيوشه، وإنما سمي يحيى لأنه أحياه الله بالإيمان وقيل: أنه أحيا به رحم أمه، وقيل: لأنه استشهد والشهداء أحياء، وقيل: معناه يموت، كقولهم المفازة للمهلكة، والسليم للديغ. وذكر في "كشف الأسرار" قوله: لم أعطاه الحكم صبياً؟ قال: لأن أباه قال: (واجعله رب رضياً) فأكرمه في أول الحال بالحكمة ليكون مرضياً من أول عمره إلى آخره، وأكرمه بالحكمة في صباه ليعتاد الصلاح، لأن النفس ما عودتها به تتعود [عليه] ، لأنه كان فيه ثلاثة أشياء وهي: قوله تعالى: (.. وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين..) وأما تلك الحكمة: فإن الله أكرم أربعة من الصبيان بأربعة أشياء: يوسف بالوحي في الجب، وعيسى بالنطق في المهد، وسليمان بالفهم، ويحيى بالكلمة. فإن قيل: لم ابتلاه الله بالقتل؟ قيل: لأنه ليس في الدنيا درجة بعد النبوة أبلغ من الشهادة، فأكرمه الله بها. انتهى والله أعلم. [12] سارة زوجة داود عليه السلام وقيل: اسمها آسية، وقيل: كليثمة، وهي من بني إسرائيل، وكانت حسنة في الغاية بديعة الجمال. وذكر في "المعالم" في تفسير قوله تعالى: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة..) وذكر في فتاوى ابن حجر المكي [أنه] سئل عمن لها أزواج في الدنيا؟ [فأجاب] : هي فقي الجنة لآخر أزواجها أو لأحسنهم خلقاً في الدنيا. وفي "شرح الروض في الخصائص": ولأن المرأة لآخر أزواجها كما قاله ابن القشيري في "مجموع الأحباب" نقلاً لأبي الفرج، وروي عن أبي الدرداء وحذيفة: "إن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا"، وجاء أنها تكون لأحسنهم خلقاً. وفي "حاشية الأشباه" للحموي روى الطبراني في "الكبير والأوسط": عن أم سلمة رضي الله عنها، ولفظه قلت يا رسول الله، المرأة تتزوج الزوجين والثلاثة والربعة في الدنيا، ثم تموت فتدخل الجنة، ويدخلون معها، من يكون زوجها منهم؟ قال: يا أم سلمة: "إنها تتخير فتختار أحسنهم خلقاً، فتقول: أي رب، إن هذا كان أحسنهم معي خلقاً فزوجنيه" [قالت] أم سلمة: ذهب حسن الخلق بخيري في الدنيا والآخرة. وذكر في كتاب "كشف الأسرار" قوله: سؤال: لم سمي داود عليه السلام داود؟ قال ابن عباس رضي الله عنه هو بلسان العبراني، من لا عمر له، فلذلك وهب له آدم من عمره ستين سنة، وقيل: أنه حصل له الداء بالذنب الصغير، والود من الله بالتوبة، وقلت في لغز داود. أي اسم قد تسامى ... عند رومٍ وعرب أول الاسم سقم ... آخر الاسم خشب وذكر في "تاريخ ابن الوردي" نقلاً عن الكامل: لما صار لداود عليه السلام من العمر خمس وخمسون سنة، وهي السنة الثامنة والعشرون من لكه، كانت قصته مع الخصمين، وتزوج داود زوجته، ولما صار له سبعون سنة توفي، وذلك سنة خمس وثلاثين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام ومن وفاة موسى عليه السلام إلى هبوط آدم عليه السلام، ثلاثة آلاف وثمانمائة، وثمان وستون سنة، وتوفيت زوجته في حياته قبل مماته بثلاث سنين، وقيل: بسنتين، والله سبحانه وتعالى أعلم. [13] ?بلقيس

بنت الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن وائل بن حمير بن عبد شمي بن تشخب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح علايه السلام وهي زوجة سليمان عليه السلام ملكت اليمن بعد أبيها سنة أربعة آلاف وأربعمائة وثماني عشرة سنة من هبوط آدم عليه السلام وذكر في "المعالم" أن بلقيس كانت أمها من الجن، [و] كان أبوها ملكاً في اليمن، وقد ملك قبله أربعون ملكاً، وهو آخرهم، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفواً لي أن أتزوج منكم. فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها. قال العلماء ما ثبت إنجاب أولاد من جني أو جنية وقيل أن أحد أبوي بلقيس كان جنياً، فلما مات أبوها طمعت بلقيس في الملك فأطاعها قوم، وعصاها آخرون وملكوا عليهم رجلا، وافترقت مملكة اليمن فرقتين، ثم إن الرجل أساء السيرة في مملكته وجعل يمد يده إلى حرم رعيته، ويفجر بهن، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما بلغ ذلك بلقيس أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها الملك، فأرسلت إليه أن اجمع رجال قومي واخطبني، فجمعهم وخطبها، فجاءوا إليها وأخبروها فرضيت وقالت: أجبت الولد فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثيرين فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه، وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا، ورأسه منصوب على باب دارها، فاجتمعوا إليها، وقالوا: أنت بهذا الملك أحق من غيرك، فملكوها عليهم، فملكت اليمن بأسره.

قال ابن عباس رضي الله عنه: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراع، وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً. وقال مقاتل: طوله ثمانون ذراعا في ثمانين، وطوله في السماء ثمانون، وقيل: طوله ثمانون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه ثلاثون وقيل: كان سريراً ضخما مضربا من الذهب، مكللا بالدر والياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات، على كل بيت باب مغلق وكان في ملكها في أيام سليمان عليه السلام فاتفق أن سليمان عليه السلام سار في الجهاد، وكانت الطيور تظله من الشمس، والهدهد دليله إلى الماء، يعرف الماء تحت الأرض، ويراه كما يرى في الزجاج، ويعرف قريبه وبعيده، فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيخرجون الماء. فنزل سليمان منزلا فاحتاج إلى الماء فتفقد الهدهد فلم يجده، فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ وكان سليمان قد وافى نحو صنعاء ورأى أرضا حسنة تزهر خضرتها، فنزل هناك، وقال الهدهد في نفسه: إن سليمان قد اشتغل بالنزل، فأرتفع نحو السماء وأنظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل، ورأى بستان بلقيس فنزل إليه فوجد هناك أيضاً هدهدا مثله واسمه عنفير، واسم هدهد سليمان يعفور فقال عنفير ليعفور: من أين أقبلت، وإلى أين تريد؟ قال: من الشام مع سليمان بن داود، فقال عنفير: من سليمان؟ قال يعفور: ملك الجن والشياطين والإنس والطير والوحش والهوام والرياح، فمن أنت؟ قال عنفير: أنا من هذه البلاد. فقال له: ومن يملكها؟ قال بلقيس، وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل لك أنت تنطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ فانطلق معه، ونظر إلى بلقيس وملكها، ورجع إلى عند سليمان وقت العصر، وكان سليمان قد سأل النسر عن الهدهد، فقال: ما أدري أين هو؟ فغضب سليمان وقال: لأعذبنه أو لأذبحنه، ثم دعا بالعقاب سيد الطيور فقال: علي بالهدهد. فرفع العقاب نفسه بالهواء فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض عليه، فناشده الله وقال له: ارحمني فولى عنه العقاب فقال له: إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، ثم توجها فلما وصلا العسكر لقبه النسر والطير فقالوا له أين كنت فلقد توعدك سليمان. وأخبروه. فقال الهدهد: وما استثنى قالوا: بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين. قال: نجوت إذاً، ثم أتيا سليمان، فقال العقاب أتيتك به، فلما قرب الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض. فلما دنا منه أخذ برأسه، وقال له: أين كنت؟ لأعذبنك عذابا شديداً، فقال الهدهد: جئتك بسلطان مبين، فعفا عنه، وسأله ما: الذي أبطأك عني؟ فقال قوله تعالى: (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم) الآية. قال سليمان للهدهد قوله تعالى: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) فدلهم الهدهد على الماء فشربوا ورووا الدواب، ثم كتب كتابا: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد، ألا تعلوا علي، وأتوني مسلمين، ولما تم الكتاب طبعه بالمسك. وختمه بخاتمه، قال للهدهد: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، ثم تول عنهم وتنح وكن قريباً منهم فانظر، ماذا يرجعون؟ فأخذ الهدهد الكتاب وسار به إلى اليمن، وأتى بلقيس فكانت بأرض يقال لها مأرب تبعد عن صنعاء ثلاثة أيام، فوافها في قصرها وقد غلقت الأبواب، لأنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب، ووضعت المفاتيح تحت رأسها فأتاها الهدهد وهي نائمة على قفاها، فألقى الكتاب على نحرها، هكذا رواه قتادة، وقال مقاتل: حمل الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس بلقيس، وحولها القادة والجنود فرفرف، ورفعت رأسها بلقيس تنظر إليه، فألقى الكتاب في حجرها، وقال ابن منبه: كان لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع فإذا رأتها سجدت لها: فجاء الهدهد وسد الكوة بجناحيه، فارتفعت الشمس ولم تعلم بلقيس فقامت تنظر إليها، فرمى الهدهد الكتاب إليها، فأخذته بلقيس وقرأه، فلما رأت الخاتم ارتعدت وعلمت أن الذي أرسله أعظم ملكاً منها فخرجت وجلست على سريرها وجمعت قومها وهم اثنا عشر قائداً مع كل قائد مائة ألف مقاتل. وعن ابن عباس: كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل ملك دون الملك الأعظم. وقال مقاتل: أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كل واحد منهم على عشرة آلاف، فقالت لهم بلقيس (إني ألقي إلي كتاب كريم، إنه من

سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين، قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون، قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) قوله تعالى: (فانظري ماذا تأمرين) (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) الآية. وأرسلت له هدية. قال ابن عباس: وصفاء ووصائف وألبستهم لباساً واحداً كي لا يعرف الذكر من الأنثى. وقال مجاهد: ألبست الغلمان لباس الجواري، وألبست الجواري لباس الغلمان. قيل: مائة وصيف ومائة وصيفة، وقيل: مائتي غلام ومائتي جارية، وأرسلت له لبنة من ذهب في حرير. وقال ثابت: صفائح من ذهب في أوعية ديباج، وقيل أربع لبنات من ذهب، وقال وهب: خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، وألبست الجواري لباس الغلمان، وألبست الغلمان لباس الجواري بالأساور والأطواق والأقراط، وخمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت، ومسكاً وعنبراً وعوداً، وحقة فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة معوجة الثقب ودعت رجلاً من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً، وكتبت معه كتاباً بنسخة الهدية وفيه: إن كنت نبياً فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبرني بما في الحقة، وأثقب الدرة ثقباً مستويا، وأدخل خيطاً بالخرزة المثقوبة. وأمرت الغلمان أن يكلموا سليمان بكلام تأنيث وتخنيث مثل كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام غليظ فيه حدة يشبه كلام الرجال، ثم قالت بلقيس للمنذر: إذا دخلت عليه فانظر إن نظر إليك نظر الغضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك فإني أعز منه، وإن رأيته هشاً بشاً لطيفا فاعلم أنه نبي، فافهم ورد الجواب. فانطلق المنذر بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان عليه السلام وأخبره بالخبر كله، فأمر سليمان الإنس والجن أن يضربوا لبنات الذهب والفضة، وأمرهم أن يبسطوا من مكانه إلى تسع فراسخ ميدانا واحداً بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا على طول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ففعلوا. وأمرهم فأتوه بدواب البحر وشدوها على يمين الميدان ويساره ولهم أجنحة، وألقوا لهم علفهم، وأحضر أولاد الجن وأقامهم على يمين الميدان ويساره، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ، وكذا الإنس فراسخ، وكذا الوحوش والسباع والهوام والطير عن يمينه ويساره. فلما دنا القوم من الميدان ورأوا دواب البحر تروث على لبن الذهب والفضة رموا ما معهم من الهدايا من اللبن، وقيل: إن سليمان ترك مكاناً خالياً من اللبن على عدد ما معهم، فلما دخلوا وضعوا ذلك اللبن في ذلك المكان خوف أن يتهموا بذلك، ولما رأوا الشياطين فزعوا فنادوهم: جوزوا، لا بأس عليكم فمروا على كردوس من الجن والإنس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان عليه السلام، فنظر إليهم، بوجه طلق، وسألهم فأخبره رئيس القوم بما أتى معه، وأعطاه كتاب بلقيس فقرأه. فقال أين الحقة؟ فأتى بها، فجاء جبرائيل وأخبره بما فيها: درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب. فقال الرسول: صدقت، فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة، فجاءت الأرضة وثقبت الدرة، فجعل سليمان رزقها في الشجر. ثم جاءت دودة بيضاء ودخلت ثقب الجزعة المعوجة، وفي فمها خيط وخرجت من الجانب الآخر، فجعل رزقها في الفواكه، ثم ميز سليمان بين الجواري والغلمان، ثم رد سليمان الهدية كما قال تعالى: (أتمدونن بمال) الآية. قال وهب: لما رجع رسل بلقيس أخبروها، قالت: عرفت والله أنه ليس بملك. فبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بقومي، وجعلت عرشها في بيت، وأغلقت عليه سبعة أبواب، ووكلت به حراساً يحفظونه وسارت في إثنا عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل ألوف. فلما دنت فرسخا من سليمان، رآها سليمان: فقال: ما هذه العساكر؟ قالوا: بلقيس. فقال سليمان للجن قوله تعالى: (أيكم يأتيني بعرشها) الآية. (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) فقال سليمان: أريد أسرع من هذا. (قال الذي عنده علم من الكتاب) قيل: جبرائيل، وقيل آصف بن برخيا، وكان يعرف الاسم الأعظم، قيل: خر آصف بن برخيا ساجداً، ودعا باسم الله الأعظم، فغار عرشها تحت الأرض، ونبع عند كرسي سليمان، فقال سليمان قوله تعالى (نكروا لها عرشها) أي غيروا لها سريرها فجعلوا مكان الجوهر الأحمر أخضر وبالعكس، وقال

المحققون من العلماء لما جاءت بلقيس ودخلت الصرح حسبته لجة من الماء فكشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان فناداها كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: (إنه صرح ممرد من قوارير) فتقدمت إليه فدعاها إلى الإسلام فأجابت وآمنت وأسلمت مع سليمان وأما ما ادعاه متبعو الإسرائيليات من المفسرين بأن سليمان عليه السلام قال له الشياطين إن رجليها كحافر حمار وأنها شعراء الساقين فاتخذ هذه الحيلة حتى تكشف عن ساقيها فينظر إليها فهذا ما لا يليق بنبي كريم على الله ولا يصح القول بمثله ثم لما تزوجها سليمان أحبها وأقرها على ملكها، فكان يزورها سليمان في كل شهر مرة، بعد أن ردها إلى ملكها، ويقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له ولداً ذكراً. وعن وهب قال: زعموا أنها لما أسلمت قال لها سليمان: اختاري رجلاً من قومك أزوجك. فقالت: إن كان ولابد فزوجني من تبع ملك همدان فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن. وذكر في "المدارك" في تفسير قوله تعالى: (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) أي بقبولها أم بردها، ولأنها عرفت عادة الملوك فإن كان ملكاً قبلها وانصرف، وإن كان نبياً ردها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه، فبعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن، وأركبتهن خيلاً مغشاة بالديباج، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر، وخمسمائة جارية عل رماك في زي الغلمان وألف لبنة من ذهب وفضة. وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت، وحقة فيها درة عذراء، وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رسلاً وأمرت عليهم المنذر بن عمرو، وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدايا، وقالت: إن كنت نبياً فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبرنا بما في الحقة، وأثقب الدرة، واسلك في الخرزة خيطاً، ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظرة غضب فهو ملك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبي. فعاد الهدهد وأخبر سليمان، فأمر الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة وفرشوها في ميدان طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن دواب البحر والبر أن تربط على يمين الميدان ويساره على اللبنات، وأمر أولاد الجن أن يقوموا على اليمين واليسار ثم جلس على سريره، والكراسي من جانبيه، ثم اصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ، والإنس صفوفاً فراسخ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك. فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على اللبن رموا بما معهم من الهدايا، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم سليمان بوجه طلق، فأعطوه كتاب بلقيس، فنظر فيه وقال: أين الحقة؟ فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت بالدرة، وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها بثقب الخرزة المعوجة، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيده فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها، والغلام يأخذه بيده ويضرب به وجهه فميز بينهم. ثم رد الهدية، وقال للمنذر (ارجع إليهم) الآية. فقدمت إلى عند سليمان وأسلمت وتزوجها. وفيه أيضاً، في تفسير قوله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب) أي ملك، أرسله الله عند قول العفريت (أنا أتيك به قبل أن تقوم من مقامك) الآية. أو جبرائيل أو الخضر، أو آصف بن برخيا كاتب سليمان. وهو الأصح وعليه الجمهور، وكان عنده الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وهو: يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت. وذكر في كتاب "الأزهية في أحكام الأدعية" إنه: يا ذا الجلال والإكرام. وقيل: هو في سورة الإخلاص، وقيل آية الكرسي. وذكر في "المصابيح": عن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعا باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب". وعن أسماء بنت يزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وفاتحة آل عمران (آلم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم) . وعن أنس رضي الله عنه قال كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ورجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنان المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك ...

فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى". وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "يا عائشة قد علمت أن الله قد دلني على الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب؟ فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فعلمنيه! قال: إنه لا ينبغي لك يا عائشة، فتنحيت وجلست ساعة ثم قمت فقبلت رأسه، ثم قلت: يا رسول الله علمنيه، قال: إنه لا ينبغي أن تسألي به شيئاً للدنيا. قالت: فقمت وتوضأت وصليت ركعتين وقلت: اللهم إني أدعوك الله، وأدعوك الرحمن، وأدعوك البر الرحيم، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم أن تغفر لي وترحمني. فاستضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إنه لفي الأسماء التي دعوت إليها" رواه ابن ماجة. وذكر في كتاب "حصن الحصين": أن الاسم الأعظم (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) . وفي "تحفة البركات" قال اليافعي: قال لي بعض العارفين: ألا أعلمك الإسم الأعظم؟ قلت: بلى قال: اقرأ الفاتحة والإخلاص وآية الكرسي وسورة القدر. ثم استقبل القبلة وادع بما أحببت فإنه يجيبك. وذكر في "كتاب الأزهية" أن المعتمد هو الله. وذكر الشيخ علي القارئ في "العقائد" أنه ملك شرقاً وغرباً مؤمنان، سليمان عليه السلام وذو القرنين عليه السلام وكافران: بخت نصر والنمرود بن كنعان، وقال جماعة: اختلف في نبوة ذي القرنين اسكندر فقيل ليس بنبي بل ملك مؤمن عادل وهو الحق. وقال مقاتل: هو نبي ويؤيده ما في سورة الكهف بحسب الظاهر ووافقه الضحاك، وأما سليمان عليه السلام فنبي مرسل وملك، وقال أهل التاريخ: ملك سليمان وهو ابن ثلاثة عشرة سنة، وابتدأ الملك ببناء المقدس بعد ملكه بأربع سنين، ومات وله من العمر ثلاث وخمسون سنة. وذكر في كتاب "كشف الأسرار": لم وضع ملكه في فص خاتم؟ قيل: أراه ملك الجنة، فقال: حجر من الجنة له هذه الهيئة، وأيضاً أراه أنه تعالى يعز من يشاء كما أعز الحجر الأسود والذهب والفضة، فإن قيل: لم جعل رسوله طيراً؟ قيل: أراد أن يبين لهم أحوال الجنة وطاعة الطيور له. وذكر في "المدارك" في تفسير قوله تعالى: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) الآية. قيل: إنها نملة عرجاء تسمى طاخية أو منذرة. وعن قتادة: أنه دخل الكوفة فقال: سلوا عما شئتم، فسأله أبو حنيفة رضي الله عنه وهو شاب عن نملة سليمان، أكانت ذكراً أم أنثى؟ فأفحم. فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: كانت أنثى، فقيل له: بم عرفت؟ لقوله تعالى: (قالت نملة) ولو كانت ذكراً لقال: قال نملة، وذلك أن النملة مثل الحمامة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم: حمامة ذكر، حمامة أنثى، وهو [و] هي. وذكر في "كشف الأسرار": قوله: سؤال: لم لم يأت بعرشها بدعائه؟ قيل: أراه الله عجزه في ملكه، وأراه أنه لا يعطي الكل إلى أحد، فإنه لو أعطى الكل إلى أحد، لكان ذلك الواحد كاملاً، وليس الكمال إلا لله تعالى. وقيل: إن رجلاً وامرأته اختلفا في ولد لهما أسود، فقالت المرأة: هو ابنك، وأنكر الرجل، فقال سليمان عليه السلام للرجل: هل جامعتها في الحيض، قال: نعم قال: هو ولدك إنما سود الله وجهه عقوبة لكما. وهو المراد بقوله تعالى (ففهمناها سليمان) وذكر في "المدارك" في تفسير قوله تعالى: (ففهمناها سليمان) قيل: إن الغنم رعت الحرث وأفسدته بلا راع ليلاً، فتحاكما إلى داود عليه السلام فحكم بالغنم لأهل الحرث وقد استوت قيمتاهما، فقال سليمان: وهو ابن إحدى عشرة سنة ارفق بالفريقين، فعزم عليه ليحكمن، فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وصوفها، والحرث إلى رب الغنم حتى يصلح الحرث، ويعود إلى هيئته يوم أفسد ثم يترادان. فقال داود عليه السلام: القضاء ما قضيت. وقال مجاهد: كان هذا صلحا، وما فعله داود عليه السلام حكما، والصلح خير، وأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه ليلاً كان أم نهاراً، إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد، وعند الشافعي يجب الضمان بالليل.

[14] آمنة، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفيه أيضاً في تفسير قوله تعالى (وحشر سليمان جنوده) الآية. روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ، خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة، وسبعمائة سرية وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ. فيوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب وفضة، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين، وتظلله الطيور بأجنحتها حتى لا يقع عليه حر الشمس، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد زدت في ملكك، أن لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى: أنه قد مر بحراث فقال: لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فألقته الريح في أذن سليمان، فنزل ومشى إلى الحراث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال له: لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. وذكر في "تاريخ ابن الوردي" أن سليمان عليه السلام لما ملك كان عمره اثنتي عشرة سنة، وفي السنة الرابعة من ملكه في أيار سنة تسع وثلاثين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام ابتدأ بعمارة بيت المقدس، وأقام في عمارته سبع سنين وفرغ منه في الحادي عشر من ملكه، أواخر سنة ست وأربعين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام وارتفاعه ثلاثون ذراعاً، وطوله ستون في عرض عشرين ذراعاً. وخارج البيت سور محيط به امتداده خمسمائة في خمسمائة ثم شرع في بناء دار ملكه بالقدس، وتمم عمارته في ثلاث عشرة سنة، وانتهت في الرابعة والعشرين من ملكه، وفي الخامسة والعشرين من ملكه جاءته بلقيس ملكة اليمن، وأطاعه ملوك الأرض، وتوفي وعمره اثنتان وخمسون سنة، ومدة ملكه أربعون سنة، فتكون وفاته في أواخر سنة خمس وسبعين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام وماتت بلقيس قبل وفاة سليمان عليه السلام وقيل: بعد وفاته، وهو الأصح، وملك اليمن بعدها عمها ناشر النعم، واسمه مالك، والله سبحانه وتعالى بذلك أعلم. [14] آمنة، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، بن كلاب، وهي أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عبد الله بن عبد المطلب وعمره خمس وعشرون سنة، وقيل ثلاثون سنة، وكانت آمنة في حجر عمها أهيب لأن أباها قد مات فأتى عبد المطلب إلى أهيب، وخطب ابنته هالة لنفسه، فزوجه إياها، وخطب آمنة بنت وهب لولده عبد الله، فزوجها له في مجلس واحد. وذكر في "شرح ذات الشفا" قال أهل السير: خرج عبد المطلب ومعه ولده عبد الله، وكان أحسن رجل في قريش خلقاً وخلقاً، وكان نور النبوة ظاهراً في وجهه، فخرج مع أبيه ليزوجه، فمر بامرأة منه بني أسد بن عبد العزى وهي أخت ورقة بن نوفل، وكانت قد سمعت من أخيها بقرب ظهور النبي الأمي العربي وأن علامة أبيه نور في غرته، فلما رأت عبد الله وقع في قلبها أنه هو، فقالت له: يا عبد الله لك مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع علي الآن، فأبى عبد الله، وأنشد: أما الحرامُ فالمماتُ دونه ... والحلُّ لا حلَّ فأستبينه فكيفَ بالأمرِ الذي تبغينه ... يحمي الكريمُ عرضهُ ودينه

وكان اسم هذه المرأة رقية، وقيل: فاطمة بنت مر الخثعمية، وكانت من أجمل النساء وأعفهن فدعته إلى نكاحها فظن أنها تريد الحرام، فأنشد بما قال، وأما قولها: لك مثل الإبل التي نحرت عنك، وذلك أن عبد المطلب لم يكن له ولد إلا الحارث، فجرت بينه وبين عمه عدي مخاصمة ومجاورة فعيره بقلة العدد فغضب عبد المطلب وقال: لله علي لئن رزقني الله تعالى عشرة ذكور أن أجعل أحدهم نذراً نحيرة. ثم افترقوا فلما مضت من الدهر أعوام، ولد لعبد المطلب عشرة أولاد ذكور سوى الحارث، وست بنات، فلما بلغ الذكور عشرة قال: لابد من الوفاء فجمعهم، وأقبل إلى الكعبة فأحال عليهم القداح فخرجت القدح على عبد الله، وكان يحبه، فأخذ بيده، وجاء به إلى إساف ونائلة فأضجعه وربطه، فبلغ ذلك أخواله بني مخزم فجاءوه في جماعة من قريش، فقالوا: ما هذا الذي تفعل، والله ما أحسنت عشرة أمه ثم تريد نحر ولدها، فارتحل نحو الحجاز فإن من أهله عرافة عالمة، ولها تابع من الجن، ففعل عبد المطلب، ورحل معهم فأتوها وأعطوها رشوتها، وأخبروها، فقالت: انصرفوا وأحضروا إبلاً وصاحبكم واستقسموا على عشرة من الإبل وعليه حتى تبلغوا رضى ربكم. فعادوا راجعين إلى مكة، فأوقفوا عشرة من الإبل وعبد الله، ودعوا صاحب الأزلام فاستقسم على عبد الله والإبل فخرجت على عبد الله، فزادوا عشرة فوقعت على عبد الله، فلم يزل يزيد عشرة عشرة حتى بلغت الإبل مائة، فخرج القدح على الإبل، وفعل ذلك ثلاث مرات، وهي تقع على الإبل، فخلى عن عبد الله، ونحرت الإبل لا يدفع عنها طائر ولا سبع ولا إنس، ولذلك أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن الذبيحين" يعني بهما إسماعيل عليه السلام وأباه عبد الله. ولما أتى عبد المطلب أهيب عمها، وقيل أبوها وهب، وخطب منه آمنة لعبد الله فزوجه إياها، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً فدخل بها عبد الله، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل ذلك النور إليها، وكان ذلك يوم الإثنين، في شعب أبي طالب، عند الجمرة الوسطى، وقيل: إن عبد الله بعد ما دخل على آمنة أتى المرأة التي عرضت نفسها عليه، فقال لها: مالك لا تعرضي علي ما عرضت بالأمس؟ فقالت له: فارقك النور الذي كان معك، فما لي بك حاجة. وقال الكلبي رضي الله عنه ثبت عندي للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم من قبل أمه وأبيه فما وجدت فيهن سفاحاً. وعن أنس رضي الله عنه أنه قرأ صلى الله عليه وسلم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) بفتح الفاء، وقال: "أنا أنفسكم نفساً وصهراً وحسباً، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلها نكاح".

وعن العباس رضي الله عنه قال: قال والدي عبد المطلب قدمنا اليمن فنزلنا على حبر من اليهود، فقال: ممن الرجال؟ فقلت من قريش. قال من أيهم؟ قلت من بني هاشم. قال: أتأذن لي أن أنظر بعضك؟ قلت: نعم، قال ففتح إحدى منخري، فنظر فيه ثم نظر في الأخرى، فقال: أشهد أن في إحدى منخريك ملكاً وفي الأخرى نبوة، وإنما نجد ذلك في بني زهرة، فكيف ذلك؟ قلت: لا أدري. قال: هل من شاعة؟ يعني زوجاً منهم لأنها تشايع زوجها وتناصره، قلت: أما اليوم فلا، لي زوجة منهم، فقال: إذا تزوجت فتزوج منهم، فلما رجع عبد المطلب تزوج هالة بنت وهب، وزوج عبد الله آمنة بنت وهب، فولدت هالة الحمزة رضي الله عنه، وولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: إن الحبر قال لعبد المطلب: أرى ملكاً ونبوة، وأراهما في المنافين عبد مناف بن قصي، وعبد مناف بن زهرة، واختلف في وقت حمل آمنة به صلى الله عليه وسلم فقيل: إنها حملت به يوم الاثنين من رجب، وقيل أيام منى، والأول منطبق على القول بأن ميلاده صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول، والقول الثاني موافق لما ذهب أن ميلاده صلى الله عليه وسلم كان في رمضان، وكانت آمنة تقول: ما شعرت أني حملت به، ولا وجدت له ثقلاً كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي، وربما كانت ترفع عني وتعود، وقالت آمنة: أتاني آت وأنا بين النائمة والياقظة فقال: هل شعرت أنك حملت بسيد هذه الأمة ونبيها؟ وأمهلني حتى دنت ولادتي فأتاني فقال: قولي إذا ولدته، أعيذه بالواحد الصمد من شر كل حاسد، يأخذ بالمراصد، ثم سميه محمداً، فإن اسمه في التوراة والإنجيل أحمد يحمده أهل السماء والأرض، وفي القرآن محمد وفي رواية أخرى: اسمه أحمد، وقالت آمنة: أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام. وقال لي: يا آمنة إنك حملت بخير العالمين. فإذا ولدته فسميه محمداً، واكتمي شأنك، وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان من دلالة حمل آمنة أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً، وعن كعب الأحبار: أن صبيحة تلك الليلة أصبحت أصنام الدنيا منكوسة. وقال أهل السير: وكانت السنة مجدبة والناس في ضيق، وشدة فاخضرت الأرض، وحملت الأشجار، وأتاهم الرفد من كل جانب فسميت سنة الفتح والابتهاج، وفي الحديث: "أن الله تعالى قد أذن تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكوراً" كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر الحافظ النيسابوري: أن نور النبي صلى الله عليه وسلم لما صار إلى عبد الله كان يضيء في غرته وتفوح من فمه رائحة المسك الأذفر، وكانو يستسقون به فيسقون. ونام في الحجر فانتبه مكحولاً مدهونا قد كسي حلل المهابة، والجمال، فتحير ولم يدر من فعل به ذلك، فانطلق به أبوه إلى كهنة قريش، فقالوا: إن إله السموات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، ونام مرة أخرى في الحجر فرأى رؤيا فقصها على الكاهن، فقالوا: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السموات والأرض، وليكونن للناس علماً مبينا، هذا الذي ذكره شارح الهمزية. وقال أيضاً: ولما حملت به آمنة ظهرت عليها الأنوار، وكسيت أثواب البهاء والجمال، وهتفت بها الهواتف بالبشارات، وقيل: إن راهباً كان بمر الظهران وهو مكان بمكة، كان يقول: يوشك أن يولد منكم يا أهل مكة مولود اسمه محمد تدين له العرب، ويملك العجم، وهذا زمانه، فكان لا يولد مولود إلا سئل عنه حتى ولد صلى الله عليه وسلم وأخبر الراهب جده بولادته فقال: سميه محمداً وقد طلع نجمه البارحة، وعن عائشة رضي الله عنها، أنه كان بمكة يهودي فصاح ليلة ولادته: يا أهل مكة هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقالوا: لا نعلم. فقال: ولد الليلة نبي الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس، فأدخلوه على أمه آمنة لما ولد صلى الله عليه وسلم وكشف له عن ظهره فرأى تلك العلامة فخر مغشياً عليه ثم أفاق، فقال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل. ومن آيات حمله صلى الله عليه وسلم ما كانت تراه أمه وأبوه وجده من الرؤيا الصادقة، ولما حملت به أخبرت الكاهن بقرب ظهوره، وطلوع كوكب نوره، ومنها ما سمعته قريش من الهواتف على الحجون شعراً: فأقسمُ ما أنثى منَ النَّاسِ أنجبت ... ولا ولدت أنثى من النَّاسِ واحدة

كما ولدت زهريّة ذاتَ مفخرٍ ... مجنَّبةً لؤمَ القبائلِ ماجدة ومنها أنه كان يسمع كل شهر من شهور حمله: أبشروا فقد آن أن يظهر أبو القاسم مباركاً ميموناً. ومنها أن نودي في الملكوت، أن النور المكنون قد انتقل إلى بطن أمه آمنة ذات العقل الباهر والفضل الظاهر، ولما صار لآمنة شهران من حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد المطلب ولده عبد الله أن يسافر إلى غزة من أرض الشام، ليأخذ لهم ما يحتاجون من لباس وطعام وغير ذلك، فسار مع التجار، واشترى لهم طعاماً وثياباً وغير ذلك، ولما عاد التجار عاد معهم عبد الله، فتمرض بالطريق، ولما وصلوا إلى المدينة ثقل بعبد الله المرض فتخلف بها عند أخواله بني عدي بن النجار، ولبث في المدينة أياماً ومات ودفن هناك وله من العمر ثلاثون سنة، ولما بلغ خبر وفاته إلى عبد المطلب وجد عليه وجداً شديدا، وحزن عليه وبكى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حملاً في بطن أمه، وذلك بعد شهرين، فعلى رواية أنه تزوج عبد الله بآمنة في رجب وولد صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول، فتكون وفاة عبد الله في أوائل رمضان، وخلف عبد الله جاريته أم أيمن وخمسة جمال، وقطعة غنم، فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نقل الإمام أبو حيان في تفسيره: أن جعفر الصادق قيل له: لم يتم صلى الله عليه وسلم من أبويه؟ قال: لئلا يكون عليه حق المخلوقين، وقال ابن العماد في "كشف الأسرار" إنما رباه يتيماً لينظر صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى مدارج عزه وإلى أوائل أمره فيعلم أن العزيز من أعزه الله، وأن قوته ليست من الآباء والأمهات، ولا المال، بل قوته من الله تعالى وأيضاً ليرحم الأيتام والفقراء. واختلف في مدة حمله صلى الله عليه وسلم فقيل: تسعة أشهر وقيل عشرة أشهر، وقيل: سبعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر وذكر في "السيرة الحلبية" كان حمله ووضعه في ساعة واحدة، وقيل في ثلاث ساعات، كما قيل في ولادة عيسى عليه السلام وهذا غير صحيح، واختلف في شهر ولادته صلى الله عليه وسلم فالجمهور على أنه ولد في شهر ربيع الأول، قال ابن كثير والحافظ ابن حجر، وهذا هو الصحيح، وأنه ولد يوم الاثنين لاثنتي عشر ليلة من ربيع الأول وبه جزم ابن إسحاق وتبعه ابن سيد الناس، ورواه ابن أبي شيبة عن جابر وابن عباس رضي الله عنهما هكذا ذكره في "التبيين في أنساب القرشيين" وقيل: ولد في ثاني ربيع الأول، وقيل: في ثامنه، وبهذا قال ابن حجر: أنه مقتضى أكثر الأخبار: وقيل: في عاشره، رواه الدمياطي عن جعفر الصادق وصححه، وقيل: لسبع عشرة منه، وهذا الذي رواه ابن أبي شيبة وهو حديث معلول، وقيل: لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، وقيل في صفر، وقيل في ربيع الآخر، وقيل في رجب، وقيل في رمضان، وقيل في يوم عاشوراء كعيسى عليه السلام وقيل: لخمس بقين من محرم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين من ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين من ربيع الأول، وهاجر يوم الاثنين من ربيع الأول، وأنزلت عليه سورة البقرة يوم الاثنين من ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين من ربيع الأول. وقال بعضهم: هذا غريب جداً، وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم ولد ليلاً، ويؤيده ما رواه عثمان بن عفان بن أبي العاصي عن أمه أنها شهدت ولادة النبي، صلى الله عليه وسلم ليلاً، قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نورا أو أني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى أني لأقول علي، وقال ابن دحية: هذا حديث مقطوع. وفي الحديث الصحيح أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين فقال: "فيه ولدت". وهذا ما رواه ابن عباس وقال أصحاب الإشارة: قوله تعالى: (والضحى والليل إذا سجى) إشارة إلى ليلة مولده صلى الله عليه وسلم أو ليلة معراجه وروى الحافظ ابن عساكر أن ولادته كانت حين طلوع الفجر، ويؤيد ذلك قول عبد المطلب: ولد لي الليلة مع الصبح مولود. وعن سعيد ابن المسيب أنه ولد صلى الله عليه وسلم عند إبهار النهار، وذلك في وسطه، وقال ابن سعيد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأت أمي حين وضعت سطع منها نور أضاءت له قصور بصرى"، وكان مولده، صلى الله عليه وسلم في فصل الربيع في شهر نيسان لعشرين ليلة خلت منه، وقيل: في برج الحمل: وفي بعض الأقاويل:

يقولُ لنا لسانُ الحالِ منهُ ... وقولُ الحقِّ يعذبُ للسّميعِ فوجهي والزَّمانُ وشهرُ وضعي ... ربيعٌ في ربيعٍ في ربيعِ وذكر في كتاب "التبيين" كان وضعه صلى الله عليه وسلم في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج، وكانت قبل داراً لعقيل ابن أبي طالب، ولم تزل بيد أولاده إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف بمائة ألف دينار. وقيل: إن الأصح كان مولده بمكة، وهم يزورونه في كل عام، وقيل في شعب بني هاشم وفي كلام ابن دحية، أن الدار التي ولد فيها صلى الله عليه وسلم لما حجت الخيرانة أم الرشيد أخرجتها من دار محمد بن يوسف، وبنتها مسجداً، وقيل: إن تلك الدار عند الصفا بنتها زبيدة زوجة الرشيد أم الأمين مسجداً لما حجت، وقيل: ولد في الردم، أي ردم بني جمح، ويعرف الآن بالمدعى لأنه يؤتى فيه الدعاء الذي يقال عند رؤية الكعبة، وقيل: في شعب أبي طالب، ومما نص عليه بعض الفقهاء، أنه يجب على الولي أن يعلم ولده إذا ميز أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة ومات بالمدينة، واختلف في عام ولادته صلى الله عليه وسلم فقيل في عام الفيل. وقيل: في يومه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الفيل، وعن قيس بن مخرامة: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل ضحى، وفي "تاريخ ابن حبان": ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل في اليوم الذي بعث الله الطير الأبابيل على أصحاب الفيل. وذكر في "تاريخ المؤيد" أنه ولد يوم العاشر من ربيع الأول عام الفيل، وذلك بعد الفيل بخمسين يوماً، لأن الفيل كان في منتصف المحرم، وهذا هو المشهور، وقيل: ولد بعد الفيل بخمسة وخمسين يوماً، وقال بأربعين، وقال بشهر، وقيل بعشر سنين، وقال بثلاث وعشرين سنة، وقيل: بثلاثين سنة، وقيل بأربعين سنة، وقيل: بسبعين سنة. وذكر الحافظ الدمياطي: أنه بعد الفيل بخمسة وخمسين يوماً، وهو الأصح وقال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري، لا يشك فيه أحد من العلماء، وعليه الإجماع، وقيل: أنه ولد صلى الله عليه وسلم قبل عام الفيل خمسة عشر عاماً، وهذا غريب منكر ضعيف وقال الحافظ النيسابوري: كان نور النبوة في وجه عبد المطلب يضيء كالغرة، وكانت قريش إذا أصابهم جذب أخذوا بيد عبد المطلب وصعدوا به إلى جبل ثبير يستسقون فيه فيسقون ببركة ذلك النور. وقصة أصحاب الفيل أن أبرهة الأشرم ملك الحبشة بنى له كنيسة في اليمن، وأمر الناس بالحج إليها كالكعبة، وزخرفها وجعل فيها صلبان الذهب والفضة، ومنابر العاج، والأبنوس، ثم إن بعض العرب من كنانة دخل الكنيسة، وتغوط فيها ولوث جدرانها بالعذرة، ولطخ قبلتها فحلف أبرهة ليهدمن من الكعبة فسار بعسكره إلى الكعبة ومعه أفيال، وأعظمها فيه المسمى المحمود، فقاتل العرب وأسرهم، وتقدم ونزل قريباً من الطائف، وأرسل خيله ونهبت إبل قريش، وفيها لعبد المطلب أربعمائة ناقة: وتحصنت قريش بجبال مكة، فجاء رسول أبرهة إلى عبد المطلب، وأخبره إنما جاء الملك لهدم البيت، فقال عبد المطلب: للبيت رب سوف يحميه، وسار عبد المطلب مع الرسول إلى أبرهة فأكرمه وأجلسه معه على السرير، فقال لترجمانه: قل له، فيا أتيت؟ فقال بطلب الجمال والخيل، فقال له: الجمال والخيل وتركت هدم البيت؟ فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وأما البيت فله رب إن شاء منعه. فقال أبرهة: ما كان ليمنعه مني ثم انصرف عبد المطلب بجماله وخيله وصعد على الجبل، وأحاطت عساكر أبرهة بالحرم، فأقبل عبد المطلب وأخذ بأذن الفيل محمود، وقال له: أبرك محموداً فهذا بيت الله وحرمه فبرك محمود عند وادي محسر فصاروا يضربونه فلا يقوم فوجهوه إلى اليمن فهرول، وكذا إلى الشام، وسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم يفد ذلك، وكان عبد المطلب قد دخل البيت فأخذ بحلقة الباب، ومعه نفر من قريش فقال: لاهمَّ إنَّ المرءَ يمنعُ رحلهُ ... فامنع رحالك وانصر على آلِ الصليبِ ... وعابديه اليومَ آلك لا يغلبنَّ صليبهم ... ومحالهم أبداً محالك

ثم صعد بهم إلى رؤوس الجبال، ولم تزل الحبشة تضرب رأس الفيل محمود ومراقه لينهض نحو البيت، وهو لا يفعل حتى أرسل الله عليهم الطير الأبابيل مع كل طير ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه، كل حجرة بقدر العدسة يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره، ويتساقط لحمه، ولما أحس أبرهة بالشر ركب في نفر من أصحابه وسار على وجه، والطيور على رؤوسهم مثل الخطاطيف، فجعلت ترمي واحداً واحدا وهم يتساقطون في الطرق، ورمت أبرهة فجعل يتساقط جسده شيئاً فشيئا حتى هلك، ولم ينج منهم سوى واحد دخل على النجاشي فأخبره بالخبر والطير على رأسه، فلما فرغ ألقى عليه الحجر، فخرقت البناء ونزلت على رأسه فألحقته بهم. وعظمت قريش، وتمزقت الحبشة، وبقيت كنيسة أبرهة خربة حولها الوحوش والحيات. وذكر في "حياة الحيوان" أن الأبابيل تعشش وتفرخ بين السماء والأرض. وذكر في "المعالم" أن عبد المطلب لما دخل البيت، أخذ بحلقة الباب وجعل يقول: يا ربَّ لا أرجو لهم سواكا ... يا ربِّ فامنع منهم حماكا إنَّ عدوَّ البيتِ من عاداكا ... امنعهم أن يخرّبوا قراكا وذكر فيه أيضاً: أن النجاشي ملك الحبشة بعث إلى أرض اليمن رجلاً اسمه أرياط فملك اليمن ثم ظهر أبرهة، وقتل أرياط واستولى على اليمن من قبل النجاشي، فكان منه ما كان وبعث الله إلى أبرهة داء في جسده فجعلت تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة تبعها دم وقيح حتى وصل إلى صنعاء، وعجل الله بروحه إلى النار. وقال مقاتل: كان معهم فيل واحد، وقال الضحاك: ثمانية، وقيل: إثنا عشر سوى الفيل الأعظم. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانت طير أبابيل لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب، وقال عكرمة: لها رؤوس كرؤوس السباع، وقال الربيع: لها أنياب كأنياب السباع، وقال سعيد بن جبير: طير خضر لها مناقير صفر، وقال قتادة: طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجا مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، لا يصيب شيئاً إلا هشمه، وقالت عائشة، رضي الله عنها: أدركت قائد الفيل وسائقه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس. وفي "تاريخ ابن الوردي" أن بين هبوط آدم عليه السلام ومولده صلى الله عليه وسلم ستة آلاف وثلاثاً وستين سنة. وفي "أخبار الدول" عن الشيخ محيي الدين يروي عن ابن عباس: أنه كان من آدم عليه السلام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وخمسمائة وخمس وسبعون سنة. وذكر محمد بن جرير الطبري: أن من آدم إلى انقضاء الخلق سبعة آلاف سنة، ويؤيده ما روي في الحديث "أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وأن في آخرها ألفاً" وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل قال: "مضى من الدنيا ستة آلاف وسبعمائة" وعن أبي هريرة رضي الله عنه، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ كم خلق الدنيا فقال: "أخبرني ربي عز وجل أنه خلقها منذ سبعمائة ألف سنة إلى اليوم الذي بعثني فيه رسولاً إلى الناس" وذكره البلخي وقال: يدل على ذلك ما جاء في الخبر، أن إبليس عبد الله تعالى قبل أن يخلق آدم بخمسة وثمانين ألف سنة، وأنه خلق بعدما خلقت السماوات والأرض من المدد ما شاء الله تعالى وجاء في الحديث "أن كل شيء خلقه الله تعالى كان قبل آدم، وأن آدم بعد إيجاد الخلق لأن خلق آخر الأيام، التي خلق فيها الخلق" وزعم بعضهم أنه كان قبل آدم في الأرض خلق لهم لحم ودم، قيل: إنهم كانوا خلقاً، فبعث إليهم نبياً اسمه يوسف فقتلوه، وكان إبليس منهم فأسره الملائكة فعاش فيهم وصار يتخلق بأخلاقهم إلى أن كان من أمره ما كان، وعاد إلى فطرته.

وذكر في "تاريخ ابن الوردي" أن بين مولد النبي صلى الله عليه وسلم وبين رفع عيسى عليه السلام خمسمائة وخمساً وأربعين سنة، وفيه أيضاً أن في سنة أربع وعشرين من ملك كسرى ولد عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم وولد صلى الله عليه وسلم في سنة اثنتين وأربعين من ملك كسرى وعلى هذا يكون سن عبد الله حين تزوج بآمنة ثماني عشرة سنة، وهو مخالف لما ذكر، أنه ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وولد أبوه قبل الفيل بخمس وعشرين سنة. وذكر في "شرح ذات الشفاء" روى أبو النعيم أنه أتى إلى آمنة آت بعد ستة أشهر من حملها وقال: يا آمنة إنك حملت بخير العالمين، فإذا وضعته فسميه محمداً، واكتمي شأنك، ولما أخذها الطلق وكانت وحدها رأت كأن طائراً أبيض مسح فؤادها، فذهب رعبها، وأتيت بشربة بيضاء فتناولتها وغشيتها الأنوار، ورأت نسوة طوالا أحدقن بها فقلن لها: نحن، آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وهؤلاء الحور العين، ورأت ديباجاً أبيض مد بين السماء والأرض، ورجالاً بأيديهم أباريق فضة، وقطعة من الطير أقبلت حتى غطت حجرتها، مناقيرها من الزمرد، وأجنحتها من الياقوت ورأت مشارق الأرض ومغاربها، وعلماً بالمشرق وعلماً بالمغرب، وعلماً على ظهر الكعبة فأخذها النعاس فوضعته صلى الله عليه وسلم ساجداً، رافعاً إصبعيه إلى السماء كالمتضرع، ورأت سحابة بيضاء غشيته، صلى الله عليه وسلم ثم ذهب عنها، وسمعت منادياً يقول: طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها، وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه، ونعته وصورته، ويعلموا أنه ماحي الشرك، ثم تجلت عنه وقد قبض صلى الله عليه وسلم على حريرة بيضاء مطوية طياً شديداً ينبع منها الماء، وسمعت قائلا يقول: بخ بخٍ قبض محمد على الدنيا كلها، فلم يبق أحد ورأت ثلاثة نفر بيد أحدهم، أبريق فضة، والثاني: طشت من زبرجد خالص، والثالث: حريرة بيضاء، أخرج منها خاتما يحار به الناظرون، فغسله سبع مرات ثم ختم به بين كتفيه ثم احتمله فأدخله بين أجنحته، ثم رده إلى أمه، كذا ذكره في "شرح الهمزية". وروي عن آمنة أنها قالت: لما أخذني ما يأخذ النساء وإني لوحيدة في المنزل، رأيت نسوة كالنخل طولا، كأنهن من بنات عبد مناف، وفي رواية من بنات عبد المطلب. ما رأيت أضوأ منهن وجوهاً وكأن واحدة منهن تقدمت فاستندت إليها، وأخذني المخاض، واشتد علي الطلق، وكأن واحدة منهن تقدمت إلي وناولتني شربة من الماء فشربت، وقالت الثالثة: ازدادي. فازددت ثم مسحت بيدها على بطني، وقالت: بسم الله اخرج بإذن الله، وقلن لي: نحن آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وهؤلاء من الحور العين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن آمنة سمعت منادياً ينادي طوفو به مشارق الأرض ومغاربها، وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، وفي رواية: أنها رأت سحابة عظيمة لها نور، سمعت فيها صهيل الخيل، وخفقان الأجنحة، وكلام الرجال أقبلت فغشيته صلى الله عليه وسلم وغيب عنها فسمعت منادياً ينادي: طوفوا بمحمد مشارق الأرض ومغاربها واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش. وعن عبد المطلب قال: كنت في الكعبة فرأيت الأصنام سقطت وخرت سجداً، وسمعت صوتاً من جدار الكعبة يقول: ولد المصطفى المختار الذي تهلك بيده الكفار ويطهر من عبادة الأصنام، ويأمر بعبادة الملك السلام. وأخرج أبو نعيم حديث الشفاء، أم عبد الرحمن، قالت: لما ولد صلى الله عليه وسلم وقع على يديه، فاستهل فسمعت قائلاً يقول: رحمك الله ورحم بك، فقالت: فأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى بعض قصور الروم، ثم أضجعته، فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة، ثم أسفر عن يميني، وسمعت قائلاً يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المغرب، وأسفر ذلك عني، ثم عاودني عن يساري فسمعت قائلاً يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق، قالت: فلم يزل الحديث مني على بال حتى ابتعثه الله، فكنت في أول الناس إسلاماً. وروي عن آمنة أنها قالت: رأيت كأن شهاباً خرج مني.

وروى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم لما وقع على الأرض وقع مقبوضة أصابع يده مشيراً كالمسبح بها، وفي رواية عن ابن سعد: وقع على يده رافعاً رأسه إلى السماء وقبض قبضة من تراب فبلغ ذلك بعض العرب فقال: لئن صدق الفال ليغلبن هذا المولود أهل الأرض، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم وقع على كفيه وركبتيه شاخصاً بصره إلى السماء. وروى ابن الجوزي عن ابن البراء قال: قالت آمنة: وجدته جاثياً على ركبتيه ينظر إلى السماء ثم قبض قبضة من الأرض وأهوى ساجداً. وفي "شرح البخاري" أنه صلى الله عليه وسلم تكلم أول ما ولد. وذكر صاحب "الخصائص": أن مهده صلى الله عليه وسلم كان يتحرك بتحريك الملائكة، وأن أول كلامه قوله: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً. وذكر في السير: ورأت آمنة عند ولادته نورا خرج منها أضاءت له قصور الشام، وفي رواية: حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى. وإلى ذلك أشار عمه العباس بقوله من أبيات: وأنتَ لمّا ولدتَ أشرقتِ ال ... أرضُ وضاءت بنورك الأفقُ فنحنُ في ذلكَ الضّياءِ وفي ... النُّورِ سبيلَ الرّشادِ نخترقُ وذكر أهل السير: أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى وانشق وانصدع وسقط منه أربع عشرة شرفة، وكان له شرفات كثيرة، فلما أصبح كسرى أجزعه ما رأى فجمع وزراءه يتحدثون في شأن الإيوان فجاءهم الخبر بخمود النيران ولم تكن تخمد من ألف عام، فازدادوا غماً، ودخل عليهم المؤبذان عالم الفرس وخادم النيران، وقص عليهم رؤيا رآها وهي كأن إبلاً صعاباً تقود خيلاً عرابا قد عبرت دجلة وانتشرت في بلادهم، ثم ورد على كسرى كتاب صاحب طبرية يخبره أن الماء لم يجر في بحريتها ثم ورد كتاب صاحب الشام يخبره بإفاضة وادي سماوة، فلما رأى ذلك كسرى داخله الفزع والجزع فأرسل إلى النعمان يأمره أن يرسل رجلاً من علمائهم، فأرسل له بعد المسيح الغساني وعمره مائة وخمسون سنة، فلما دخل على كسرى حدثه بما رآى وما سمع، فدله على خاله سطيح وهو بالشام، وكان عمره إذ ذاك ثلاثمائة سنة، وقيل: سبعمائة، وكان جسداً بلا جوارح وكان وجهه في صدره، وليس له رأس ولا عنق، وهو مثل الضرف تطوى رجلاه ويداه، وإذا أريدت أخباره يحرك فينفتح ويمتلئ ويعلوه النفس، ويجلس إذا غضب، فيخبر عما يسأل وهو أول كاهن في العرب، فأمر كسرى عبد المسيح بالمسير إلى سطيح، فسار ولما دخل على سطيح، ناداه سطيح: يا عبد المسيح أقبل على جمل مشيح إلى سطيح، وقد وافى على الضريح، بعثك ملك ساسان لاتجاج الإيوان وخمود النيران، ورؤيا المؤبذان، رأى إبلاً صعابا، تقود خيلاً عرابا، وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهرواة، وغاضت بحيرة سماوة وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاما ولا الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آتٍ آت. ثم مات سطيح من ساعته، فنهض عبد المسيح بعد موت سطيح إلى راحلته، وجعل ينشد ويقول شعراً: شمّر فإنَّكَ ماضي العزمِ شمّيرُ ... ولا يغرّنّكَ تفريقٌ وتغييرُ والنّاسُ أولادُ علاّتٍ فمن علموا ... أن قد أقلَّ فمحقورٌ ومهجورُ وهم بنوا ألامّ إمّا أن رأوا نشباً ... فذاك بالغيبِ محفوظٌ ومنظور والخيرُ والشّرُ مقرونانِ في قرنِ ... فالخيرُ متّبعٌ والشّرُّ محذورُ وسار فلما دخل على كسرى أخبره بما قال له سطيح، فقال كسرى: إلى أن يملك أربعة عشر ملكاً كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وقول سطيح، ملكات، المراد بها: بوران وأختها أرزمي بخت بنتا برويز كسرى.

ومن آيات مولده صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه ولد مسروراً أي مقطوع السرة وعن أنس رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كرامتي على ربي أن ولدت مختوناً، ولم ير أحد سوأتي" وعن عكرمة رضي الله عنه أن إبليس لعنه الله، لما ولد صلى الله عليه وسلم ورأى تساقط النجوم، قال: لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا، ثم أمر أولاده أن يأتوه بتربة، من كل أرض وهو يشمها فلما شم تربة تهامة: قال: من ههنا دهينا. وذكر في تفسير "ابن مخلد" رن إبليس أربع رنات، أي صوّت صوت كآبة وحزن، رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم، ورنة حين نزلت الفاتحة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يهودياً صاح في تلك الليلة على أطمة أي مكان عالٍ يا معشر اليهود، فأقبلوا عليه فقالوا: ما بالك؟ فقال طلع نجم أحمد الذي ولد هذه الليلة، وقيل: لما ولد صلى الله عليه وسلم لم يرضع لليلتين، قيل: أن عفريتاً من الجن وضع يده على فمه صلى الله عليه وسلم ولما رآه ذلك اليهودي خر مغشياً عليه، وقال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل، أما والله ليسطون عليكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب، وتزلزلت الكعبة ثلاثة أيام بلياليها، ولم تسكن حتى ولد صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يناغي القمر في مهده ويحدثه. ويروى عن العباس رضي الله تعالى عنه قال: دعاني إلى الدخول في دينك رأيتك تناغي القمر فتشير إليه، بإصبعك فحيثما أشرت إليه مال، قال صلى الله عليه وسلم: "كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عن البكاء وأسمع وجبته، أي سقطته، حين يسجد تحت العرش" وروى البيهقي: أنه لما كان يوم السابع من ولادته، صلى الله عليه وسلم ذبح له جده، ودعا قريشاً فلما أكلوا قالوا: ما سميته؟ قال: محمدا. قالوا: لم رغبت عن أسماء أهل بيته؟ قال أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض. وعن محمد الباقر رضي الله عنه قال: أمرت آمنة في المنام، وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه أحمد. قال صلى الله عليه وسلم: "من ولد له مولود فسماه محمداً حباً لي وتبركاً باسمي كان هو ومولده في الجنة". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمداً فقد جهل. وذكر في "شرح ذات الشفاء" أنه لما ولد صلى الله عليه وسلم سارت ثويبة مولاة أبي لهب فبشرته بولادة النبي المنتخب فأعتقها، ومما لا يجوز القول به لمخالفته القرآن الكريم قول من قال إنه يخفف العذاب عن أبي لهب كل يوم اثنين أو ليلته وأما الرؤيا التي ذكرت عن العباس أنه رأى فيها أبا لهب بالمنام فسأله عن حاله فقال له يخفف عني العذاب كل ليلة اثنين وأمص من بين أصابعي ماء مثل هذا وأشار إلى نقرة إبهامه وأن ذلك بإعتاقي لثويبة حين بشرتني بولادة محمد ابن أخي وبإرضاعها له فهذا لا يرد ما جاء في قوله تعالى عن الكفار في النار (فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) سورة البقرة. ولما ولد صلى الله عليه وسلم أرضعته أمه آمنة سبعة أيام، ثم أرضعته ثويبة الأسلمية مولاة أبي لهب وقيل: أرضعته أمه سبعة أشهر وأرضعته ثلاث أبكار من سليم يسمين العواتك، وضعت أثداءهن في فمه فدرت له قال صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن العواتك من سليم" قيل: العاتكة: الملطخة بالطيب أو الطاهرة، ثم أرضعته أم فروة، ثم أرضعته أم أيمن بركة مولاة أبيه، ثم أرضعته خولة بنت المنذر، ثم أرضعته حليمة السعدية، وذكر في "الخصائص" لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت، ولما بلغ من العمر صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يسمع كلامه، وفي تسعة أشهر تكلم بالكلام الفصيح، وفي عشرة كان يرمي مع الصبيان، وكانت أخته الشيماء ترقصه صلى الله عليه وسلم وتقول شعراً: هذا أخي لم تلدهُ أمّي ... وليسَ من نسلِ أبي وعمّي فديتهُ من مخولِ معمِّ والشيماء أخته من الرضاع، وهي بنت حليمة السعدية سبيت يوم هوازن، فقالت لمن سباها أنا أخت صاحبكم، فحملوها إليه، فقالت يا رسول الله أنا أختك، قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة منك في ظهري. فعرفها، فقام صلى الله عليه وسلم وبسط رداءه وأجلسها عليه، ودمعت لها عيناه وإلى هذا أشار صاحب الهمزية، بقوله شعراً:

أتى السبيُّ فيه أختُ رضاعِ ... وضعَ الكفرُ قدرها والسّباءُ بسط المصطفى له من رداءٍ ... أي فضلٍ حواهُ ذاكَ الرداءُ فحباها بّراً توهّمت النّاسُ ... به، إنّما النساءُ هداءُ وتوفيت آمنة أمه صلى الله عليه وسلم وعمره أربع أو ست سنين، وقيل: سبع سنين وقيل: ثمان سنين، وقيل تسع سنين، وقيل اثنتي عشر سنة وشهراً وعشرة أيام، والأول أرجح ثم الثاني. وروى أبو نعيم عن أسماء بنت أبي رهم، عن أمها قالت: شهدت آمنة في علتها ومحمد صلى الله عليه وسلم غلام يقع عند رأسها، له خمس سنين، فنظرت إلى وجهه صلى الله عليه وسلم ثم قالت شعراً: باركَ فيكَ الله من غلامٍ ... يا ابنَ الذي من حومةِ الحمامِ نجا بعونِ الملكِ المنعام ... فدى غداةَ القرعِ بالسّهامِ بمائةٍ من إبلٍ سوامٍ ... إن صحَّ ما أبصرتُ في المنامِ فأنتَ مبعوثٌ إلى الأنامِ ... من عند ذي الجلالِ والإكرامِ تبعثُ في الحلِّ وفي الحرامِ ... تبعثُ بالتخفيف والإسلامِ دينُ أبيكَ البرِ إبراهام ... فالله أنهاكَ عن الأصنامِ أن لا تواليها مع الأقوامِ ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بالٍ. وأنا ميتة وذكري باق. وقد تركت خيرا، وولدت طهرا. ثم ماتت فكنا نسمع نواح الجن عليها، وكان موتها بالأبواء موضع قريب إلى المدينة، وكان موتها وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم من المدينة من زيارة أخواله، فمكث عندهم شهراً، ومرضت في الطريق ومعها أم أيمن بركة، فماتت ودفنت بالأبواء وقيل: بالحجون في شعب أبي ذر، وفي "القاموس" دار رابعة بمكة مدفن آمنة، وتوفيت آمنة ولها من العمر نحو عشرين سنة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر على عقبة الحجون، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم طفق يقول: "يا حمراء استمسكي فاستندت إلى جانب البعير، فمكث عني طويلاً ثم عاد وهو فرح مبتسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله نزلت من عندي وأنت باك حزين ثم عدت إلي وأنت فرح مبتسم فمم ذاك؟ قال "ذهبت لقبر أمي فسألت الله أن يحييها فأحياها فآمنت فردها الله تعالى وفي "الأشباه والنظائر"لابن نجيم، من مات على الكفر أبيح لعنه إلا والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لثبوت أن الله أحياهما له حتى آمنا به. كذا في "مناقب الكردري" وما أحسن ما قاله الشيخ شمس الدين، محمد بن ناصر الدين الدمشقي شعراً: حبُّ النّبيّ مزيدُ فضلٍ ... على فضلٍ وكان به رؤوفا فأحيا أمّهُ وكذا أباهُ ... لإيمانٍ به فضلاً مسيّفا فسلّم فالقديمُ بذا قديرٌ ... وإن كانَ الحديثُ به ضعيفا

وعلى كل حال، فالحذر الحذر بذكرهما بما فيه نقص فإن ذلك قد يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات" ولا ريب أن أذاه كفر يقتل فاعله إن لم يتب منه خصوصاً وهما ناجيان من التعذيب في الدار الآخرة لأنهما من أهل الفطرة، وقد دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة لقوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وذكر في "شرح الجوهرة": قال الجلال السيوطي في "مسالك الحنفاء في والدي المصطفى": نقلت من مجموع بخط الشيخ كمال الدين والد شيخنا تقي الدين ما نصه: سئل القاضي أبو بكر بن العربي عن: من قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار؟ فأجاب: بأنه ملعون، لأن الله تعالى قال: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) قال: ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه أنه في النار. ولما توفيت آمنة قدمت أم أيمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى عند عبد المطلب بعد خمسة أيام فضمه إليه، ورق عليه رقة لم يرقها على أحد من ولده فكان إذا أتى بطعام أجلسه إلى جنبه وربما أقعده على فخذه وكان يقول: إن لابني هذا شأنا، ولما صار له صلى الله عليه وسلم من العمر سبع سنين أصابه رمد شديد فعولج بمكة فلم يغن عنه، فأخذه عبد المطلب وسار إلى عكاظ، وكان دير قريب منها وفيه راهب يحسن معالجة الرمد، فدنا منه عبد المطلب، وكان الدير مغلقاً فنادى الراهب فلم يجبه، فتزلزل الدير فخاف الراهب سقوطه فخرج مبادرا، فقال: يا عبد المطلب، إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج لخر علي ديري، فارجع به واحفظه، ثم عالجه وعاد به عبد المطلب إلى مكة ومات عبد المطلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين وشهرين، وعاش عبد المطلب خمساً وتسعين سنة، وقيل: مائة وأربعين. وذكر الدمياطي: أنه اثنتان وثمانون سنة، وعن أم أيمن: أنه كان صلى الله عليه وسلم يبكي خلف سرير عبد المطلب، وهو ابن ثمان سنين ودفن بالحجون عند قصي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يبعث جدي عبد المطلب في زي الملوك" ولما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى به صلى الله عليه وسلم إلى عمه شقيق أبيه أبي طالب واسمه عبد مناف فكفله، وقيل: الزبير رضي الله عنه وقيل: كفلاه معاً، ومات الزبير ولرسول الله من العمر أربع عشرة سنة، وقيل: نيف وعشرون سنة، ومات أبو طالب قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: بسنة وعمره سبع وثمانون سنة، وكان مصدقاً بنبوته صلى الله عليه وسلم ومصدقاً بالوحدانية، وإنما منعته الأنفة والحمية الجاهلية. ومن شفقته على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فقده يومين فشق عليه ذلك، وظن أنهم اغتالوه، فالتمسه فلم يجده، فدعا أهله وأقاربه، وأعطى كل واحد سكيناً وقال لهم: ليجلس كل واحد منكم إلى جنب رجل من قريش، وأنا أصعد هذا الجبل أدور على محمد فإن وجدته فلا يحدث أحد منكم شيئا، وإن نعيته لكم فليضرب كل منكم من بجانبه، ونثيرها حربا، ثم صعد فوجده فقال: يا ابن أخي ظننت أنك قتلت وكدت أفتك في قومك، فأعلمني إذا خرجت إلى أي مكان تريد، فقال له: يا عم ألا أريك معجزة، فإني أحب أن يسعدك الله مما بعثت به؟ ثم دعا صلى الله عليه وسلم شجرة هناك فجاءت إليه، فقال: يا عم خذ من غصونها، ثم قال لها: عودي، فعادت، فقال: يا ابن أخي لهذا يقول لك قومك إنك ساحر. ثم أخذ بيده، وأقبل به ينادي إلى نادي قريش، فظنوا أنه يريد أن يسلمهم إياه. ثم قال لهم: قد كنت أراكم قتلتموه، ورب هذا البيت لئن كنتم فعلتم لقتل كل واحد من هؤلاء جليسه، أخرجوا شفاركم فأخرجوها، فلما رأت قريش ذلك يئسوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شعر أبيات أبي طالب فيه قوله: ألا بلّغنا عنّي على ذاتِ بيننا ... لوياً وخصّا، من لؤيٍّ بني كعبِ بأنّا وجدنا في الكتابِ محمّداً ... نبيّاً كموسى خطَّ في أوّلِ الكتبِ

[15] أم أيمن بركة الحبشية

ولكن أبا طالب خشي أن يعير بإسلامه، ولعل تلك المواقف تنفعه، والصحيح أنه مات كافراً، وجاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم سينفع بشفاعته صلى الله عليه وسلم فيوضع في نار قليلة، ثم بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام توفيت خديجة، رضي الله عنها، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وظهر الضعف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، فنالت منهم الكفار ما لم تكن قبل ذلك تصل إليه، قال علي رضي الله عنه: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت قريش تتجاذبه وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر رضي الله عنه فصار يضرب هذا ويدفع هذا، ويقول: أتقتلون رجلاً يقول ربي الله؟ ولما أسلم عمر رضي الله عنه قال المشركون: لقد انتصف القوم منا. رواه ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضاً: لما أسلم عمر نزل جبرائيل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر رضي الله عنه، وعن ابن مسعود، رضي الله عنه ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب. وعن صهيب: لما أسلم عمر رضي الله عنه جلسنا حول البيت حلقا، وقيل: لما أسلم عمر رضي الله عنه وثب عليه عتبة بن ربيعة فألقاه عمر رضي الله عنه على الأرض وبرك عليه، وجعل يضربه وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، وصار لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشرا سيفه، وهي أطراف أضلاعه، وما زال الإسلام يعلو وينمو، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. وذكر في "كشف الأسرار" قوله: لم رباه صلى الله عليه وسلم يتيما؟ قيل: لأن الأساس كل كبير صغير، وعقبى كل حقير خطير، وأيضاً لينظر صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى مدارج عزه إلى أوائل أمره ليعلم أن العزيز من أعزه الله تعالى وأن قوته ليست من الآباء والأمهات، ولا من المال، بل قوته من الله تعالى وأيضاً ليرحم الفقراء والأيتام، ودل على ذلك قوله تعالى: (ألم يجدك يتيماً فآوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى) وفي الكتب القديمة: إن من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم موت أبيه وهو حمل، وموت أمه وكفالة جده وعمه، وما أحسن قول الجمال بن نباتة شعراً: ودعاهُ في الذّكرِ اليتيمِ وإنّما ... أسنى الجواهرَ ما يقالُ يتيمُ وذكر في "المصابيح" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه" وذكر في "شرح ذات الشفاء" أن الشيعة تقول: اسم أبي طالب عمران ليكون قوله تعالى: (وآل عمران) أي فيه نزلت، وعموا عن قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) قاتلهم الله أنى يؤفكون. فوا أسفا عليه، لم يكن فيه خصلة مذمومة غير الشرك فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومن شعر أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم يخاطب النجاشي فيه: تعلّم خيارَ الناسِ أن محمّداً ... نبيٌّ كموسى والمسيح ابن مريم أتى بالهدى مثل الذي أتيا بهِ ... فكلُّ بأمرِ الله يهدي ويعصم وإنّكم تلونه في كتابكم ... بصدقِ حديثٍ لا حديثَ المترجم فلا تجعلوا الله ندّاً وأسلموا ... فإن طريقَ الحقِّ ليس بمظلمِ وهذا يدل على تصديقه بنبوته صلى الله عليه وسلم وإقراره بوحدانية الله تعالى. [15] أم أيمن بركة الحبشية

جارية عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم كانت زوجة عبيد الحبشي، وولدت منه أيمن، أسلمت هي وولدها أيمن قديماً، وزوّجها النبي بعد ممات زوجها عبيد، بعد النبوة زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما رغب فيها زيد لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج بأم أيمن" فجاءت منه بأسامة، فكان يقول له الحب بن الحب. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم أعتقها حين تزوج بخديجة، وزوجها عبيد الحبشي، وقيل: بل تزوجها قبل ذلك، وقيل: أعتقها عبد الله بعد موته، وورث معها خمسة جمال وقطعة غنم وهي من سبي الحبشة أصحاب الفيل، ولما تمرضت في الطريق آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي راجعة من المدينة كانت معها أم أيمن بركة فلما توفيت آمنة تولت حضانته صلى الله عليه وسلم أم أيمن وجاءت إلى جده عبد المطلب بعد خمسة أيام. وذكر في "شرح ذات الشفاء": أن أم أيمن كانت بمكة فبلغها موت آمنة بالأبواء، فقدمت إلى الأبواء فاحتملته صلى الله عليه وسلم والمشهور الأول، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أم أيمن أمي بعد أمي" ولما كبر النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها، وهذا على خلاف ما تقدم من أن أباه عبد المطلب أعتقها، وزوجها صلى الله عليه وسلم بمولاه زيد بن حارثة الطائي، وكان مولى لخديجة، رضي الله عنها، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، وكان أول الموالي إسلاماً. وذكر في "السيرة الحلبية": ثم بعد إسلام علي، رضي الله عنه أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما ظهر الإسلام وهاجر إلى المدينة، وأقام في المدينة، صلى الله عليه وسلم أرسل زيداً في سرية ومعه مائة راكب، وكان قد بلغه صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان وصفوان معهم عير كثيرة، فبعثه صلى الله عليه وسلم لحربهم فأصاب عيرهم، وعاد زيد بالعير والغنيمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان خمسها عشرين ألف درهم، وكانت على رأس ثمانية وعشرين شهراً من الهجرة، فأرسله أيضاً، النبي صلى الله عليه وسلم في سرية أخرى في مائة وسبعين راكباً وقد بلغه أن عيراً لقريش أقبلت من الشام وفيها أبو العاص ابن الربيع فسار إليهم زيد، وملك العير وعاد إلى المدينة، وذلك سنة ثمان من الهجرة ثم أرسله صلى الله عليه وسلم في سرية إلى جذام في خمسمائة راكب، فغنم وعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالغنائم، وذكر في "شرح ذات الشفاء" أن أم أيمن كانت سوداء لأنها من سبي الحبشة فزوجها صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان زيد أبيض فولدت له أسامة رضي الله عنه، فطعن المنافقون في نسب أسامة، وكان صلى الله عليه وسلم يتشوش لذلك ودخل مجزر القايف على النبي صلى الله عليه وسلم وزيد وأسامة تحت قطيفة وأرجلهم خارجة منها، فقال مجزر: هذه الأقدام بعضها من بعض. فانسر لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[16] الشفاء رضي الله عنها

وعن أم أيمن قالت: كنت أحضن النبي صلى الله عليه وسلم فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلا بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول: يا بركة، قلت لبيك، قال أتدرين أني وجدت النبي؟ قالت: لا أدري! قال: وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، لا تغفلي عن ابني، فإن أهل الكتاب يزعمون أنه نبي هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم، وقالت أم أيمن: ما رأيته صلى الله عليه وسلم يشكو جوعاً ولا عطشا لا في صغره ولا في كبره، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغذاء فقال: أنا شبعان. وقيل: إن أم أيمن هاجرت في يوم حر شديد فأصابها عطش شديد، فتدلى لها دلو من السماء برشاء أبيض فشربت منه حتى رويت، قالت: فما أصابني عطش بعدها، ولو تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر. وكان في لسانها عسرة فكانت إذا دخلت على قوم قالت: سلام لا عليكم بدل سلام الله عليكم. فرخص لها صلى الله عليه وسلم أن تقول: سلام عليكم. وقيل: إن أم أيمن هاجرت مع رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهي زوجة عثمان رضي الله عنه وذكر في "السيرة الحلبية" أن أم أيمن هاجرت الهجرتين. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "أم أيمن أمي بعد أمي" وكان صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها، وكذلك كان يفعل الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه بعده صلى الله عليه وسلم يزورانها في بيتها تعظيماً لها، ولما مات زوجها عبيد زوجها النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة. قيل: إن أناساً من كليب قدموا إلى الحج، فرآهم زيد وعرفوه، فقال لهم: أبلغوا أهلي هذه الأبيات: أحنُّ إلى قومٍ، وإن كنتُ نائياً ... فإنّي قعيدُ البيت عندَ المشاعرِ فكفّوا عن الوجدِ الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرضِ نصَّ الأباعرِ فإنّي بحمد الله في خير أسرةٍ ... كرامِ ومعدٍ كابراً عن أكابرِ فأعلموه أباه فقدم مع عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فيه فقال صلى الله عليه وسلم نخيره فإن اختاركم علي فهو لكم فخيره فاختار النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبوه: ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية؟ فخرج صلى الله عليه وسلم وجعل يدور به مجالس قريش ويقول: اشهدوا أن زيداً ابني وارثاً وموروثاً، فطابت نفس أبيه ودعي زيد من حينئذ ابن محمد، إلى أن جاء الإسلام، وأنزل قوله تعالى: (أدعوهم لآبائهم) فقيل: زيد بن حارثة. ويقال أنه أول من أسلم وشهد بدراً. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "أحب الناس إلي من أنعم الله عليه وأنعمت عليه" يعني بذلك زيداً، أنعم الله عليه بالإيمان، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق، وقتل زيد رضي الله عنه بأرض الشام. وقتل معه جعفر رضي الله عنه فقال صلى الله عليه وسلم: "أخواي ومؤنساي ومحدثاي" وعاشت أم أيمن بركة إلى خلافة عمر رضي الله عنه سنة ثلاثة عشرة، وتوفيت أم أيمن بعد خلافة عمر رضي الله عنه بعشرين يوماً، ودفنت بالمدينة المنورة، وتوفيت أم أيمن رضي الله عنها، على ما ذكر المؤرخون في خلافة الصديق رضي الله عنه وذلك بعد وفاة فاطمة الزهراء رضي الله عنها. وذكر بعضهم أن أم أيمن كانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم لا مرضعته، لأنه لا يعرف لها ولد إلا أيمن وأسامة، إلا أن يقال أن لبنها در له صلى الله تعالى عليه وسلم، ويروى أن أم أيمن شربت بوله صلى الله عليه وسلم ولم تشعر به لأنه لم يكن كالمعهود، ولما أخبرته ضحك ولم ينكر عليها. وقال لها: "أما والله لا تجعن بطنك أبدا" ويروى أن أم أيمن لما كانت غزوة أحد، وهي في المدينة، فلما هرب المسلمون ودخل المدينة طائفة منهم تلقتهم أم أيمن، وجعلت تحثو التراب في وجوههم، وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك، ويروى أن أم أيمن كانت في الجيش تسقي الجرحى فرماها الحبان بن عرفة بسهم فأصابها، فشق ذلك على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدفع إلى سعد سهماً لا نصل له وقال: ارم به فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حتى بدت نواجذه ثم قال: "استقاد لها سعد أجاب الله دعوته". [16] الشّفّاء رضي الله عنها

[17] ثويبة الإسلمية

أم عبد الرحمن بن عوف، وهي أول الناس إسلاماً بعد الصديق رضي الله عنها، فخديجة وعلي، رضي الله عنه ومما يدل على ذلك حديثها أخرج أبو نعيم حديث الشفاء، قالت: لما ولد صلى الله عليه وسلم وقع على يديه فاستهل فسمعت قائلاً يقول: رحمك الله ورحم بك. قالت الشفاء: وكنت جالسة عند آمنة، وأسمع كلام الهاتف، فأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى بعض قصور الروم، ثم أضجعته صلى الله عليه وسلم فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة عن يميني، وسمعت قائلاً يقول: أين ذهبت به؟ قلت إلى المغرب: وأسفر ذلك عني، ثم عاودني عن يساري فسمعت قائلاً يقول أين ذهبت به؟ قلت إلى المشرق، قالت الشفاء رضي الله عنها: فلم يزل الحديث مني على بال حتى ابتعثه الله رسولاً فكنت في أول الناس إسلاماً. هكذا ذكر في "السيرة الحلبية" الشفاء بالفتح والتشديد، والكسر للفاء مخففاً، وروي في "شرح ذات الشفاء" في رواية: كانت عندها الشفاء أم عبد الرحمن رضي الله عنها، قالت: فوقع صلى الله عليه وسلم لما ولد على يدي فاستهل، فسمعت قائلاً يقول: يرحمك الله أو يرحمك ربك، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم عطس حين سقط فشمتته الملائكة. وقيل: إنه صلى الله تعالى عليه وسلم حمد الله بعد العطاس، وقال العلامة والحبر الفهامة السيوطي: لم أقف على حديث يدل على أنه عطس عند الولادة. وأما ما ذكرت آمنة من قولها: كنت وحدي حين أتاني الطلق فقد يجوز الجمع بين هذا وبين قول الشفاء، فإن كانت آمنة أول الطلق وحدها، ثم دخلت عليها الشفاء حين الوضع فرأت من كرامته صلى الله تعالى عليه وسلم ما رأت. الشفاء هي أم عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عبد الرحمن بن عوف سيد من سادات المسلمين" توفي في سنة اثنين وثلاثين ولم أقف على عام وفاة أمه الشفاء والله سبحانه وتعالى أعلم. [17] ثويبة الإسلمية مولاة أبي لهب. قال ابن سيد الناس: أسلمت ثويبة ولم تهاجر ومن الناس من ينكر إسلامها، وقد ألف في إسلامها علاء الدين مغلطاي جزءاً ثم ذكر في سيرته: أن ابن حبان صحح حديثاً دل على إسلامها، وقد أثبت ابن منده إسلامها. وذكر في "الخصائص" أنه لم ترضعه صلى الله عليه وسلم مرضعة إلا أسلمت، وكان إرضاعها له صلى الله عليه وسلم بلبن ابن لها اسمه مسروح وقال جماعة بإسلامه، وقيل مات على الكفر، وقيل: قبل النبوة، وكانت أرضعت قبل النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو سفيان يألف النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وعاداه بعدها وهجره وهجاه، ثم أسلم وعاد إلى مودته، ووقف مع النبي صلى الله عليه وسلم المواقف العظيمة، ولما عاد أبو سفيان منهزماً يوم بدر لقيه عمه أبو لهب وقال له: ما وراءك؟ قال: البلايا والرزايا، ما هو إلا أن لقينا القوم حتى منحناهم أكتافنا يأسرون ويقتلون كما شاءوا ولما أسلم أبو سفيان قربه النبي صلى الله عليه وسلم وأدناه لأنه ابن عمه، ولما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، رثاه أبو سفيان ابن الحرث فقال: أرقتُ فباتَ ليلي لا يزولُ ... وليلُ أخي المصيبةِ فيه طولُ وأسعدني البكاءُ وذاكَ فيما ... أصيبَ المسلمونَ بهِ قليلُ لقد عظمت مصيبتنا وجلّت ... عشيّة قيلَ قد قبضَ الرسولُ وأضحت أرضنا ما عراها ... تكادُ بنا جوانبها تميلُ فقدنا الوحي والتنزيلَ فينا ... يروحُ به ويغدو جبرائيلُ وذاكَ أحقُّ ما سالت عليهِ ... نفوسُ النّاسِ أو كادت تسيلُ نبيٌّ كانَ يجلو الشّكَّ عنّا ... بما يوحى إليه وما يقولُ ويهدينا فلا يخشى علينا ... ضلالاً، والرسولُ لنا دليلُ أفاطمُ إن جزعتِ فذاكَ عذرٌ ... وإن لم تجزعي ذاك السّبيلُ فقبرُ أبيكِ سيّدُ كلِّ قبرٍ ... وفيه سيّدُ النّاسِ الرسولُ وتوفي أبو سفيان رضي الله عنه سنة عشرين وكان أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع، وكان أولا صديقاً لرسول الله ثم عاداه، وهجاه، فأجابه حسان رضي الله عنه، بقوله: ألا بلّغ أبا سفيانَ عنّي ... مغلغلةً فقد برحَ الجفاءُ

[18] حليمة السعدية رضي الله عنها

هجوتَ محمداً فأجبت عنهُ ... وعندَ الله في ذاكَ الجزاءُ وكان قد قدم أبو سفيان ومعه ولده جعفر وعبد الله ابن عمته وهو أخو أم سلمة رضي الله عنها، في غزوة الفتح إلى عند النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم فقالت أم سلمة، رضي الله عنها: يا رسول الله لا يكون ابن عمك وأخو ابن عمك أشقى الناس بك، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أما ابن عمي فهو الذي هجاني، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال يعني قوله تعالى (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) ثم قدما مسلمين فقبل إسلامهما ورضي عنهما، وشهدا معه الفتح وحنين والطائف، ويروى أن أبا سفيان ما رفع رأسه إلى النبي حياء منه. ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أبو سفيان من شباب أهل الجنة أو سيد فتيان الجنة" ويروى أن أبا سفيان حفر قبر نفسه قبل موته بثلاثة أيام وسبب موته أنه حج فلما حلق قطع الحلاق ثألولاً كان في رأسه، وتمرض ومات وصلى عليه عمر ودفن في دار عقيل، وكان صلى الله عليه وسلم يقول فيه: "إني لأرجو أن يكون خلفاً من حمزة" وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: "أبو سفيان خير أهلي، أو من خير أهلي" ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: "هلمي فانظري إلى ابن عمتي الذي كان يهجو أول من يدخل المسجد وآخر من يخرج منه" وكانت ثويبة أرضعت قبل النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان والحمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان أسن من النبي بسنتين أو بأربعة. ولما ولد سارت ثويبة إلى مولاها أبي لهب، وبشرته بولادة النبي المنتخب فأعتقها، وقد ذكرنا سابقا أن مما لا يجوز القول به لمخالفته القرآن من قال إنه يخفف العذاب عن أبي لهب كل يوم اثنين أو ليلته وأما الرؤيا التي ذكرت عن العباس أنه رأى فيها أبا لهب بالمنام فسأله عن حاله فقال له يخفف عني العذاب كل ليلة اثنين وأمص من بين أصابعي ماء مثل هذا وأشار إلى نقرة إبهامه وأن ذلك بإعتاقي لثويبة حين بشرتني بولادة محمد صلى الله عليه وسلم ابن أخي وبإرضاعها له فهذا لا يقبل ومردود عليه لمخالفته ما جاء في قوله تعالى عن الكفار في النار (فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) سورة البقرة. وذكر في "شرح ذات الشفاء" أنه إنما أعتقها لما هاجر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة، وكانت خديجة تكرمها، وطلبت من أبي لهب ابتياعها فأبى، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم أعتقها وكان صلى الله عليه وسلم يبعث لها بصلة وكسوة، وهي بمكة. وجاء خبر موتها مرجعه من خيبر، سنة سبع من الهجرة، والله أعلم. [18] حليمة السعدية رضي الله عنها بنت أبي ذؤيب السعدية، وزوجها الحارث وهي من بني سعد بن بكر ابن هوازن أدركت الإسلام وأسلمت هي وزوجها الحارث وبنوها: عبد الله والشيماء وأنيسة، قيل كان صلى الله عليه وسلم جالساً على ثوب فأقبل أبوه من الرضاعة وهو الحارث فوضع له شق ثوبه، فقعد عليه، ثم: أقبلت أمه حليمة فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر، فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاع فقام وأجلسه مكانه، وقعد قبالته، وقيل: إن الحارث أسلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا غير صحيح، لأنه لما قدم مكة قبل الهجرة فأخبرته قريش بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه، فقال: أي بني إن قومك يشكونك ويزعمون أنك قلت: إن الناس يبعثون بعد الموت ثم يصيرون إلى جنة أو نار فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم أنا أقول ذلك ولو كان ذلك اليوم فلآخذن بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم" فأسلم الحارث وكان يقول حين أسلم: لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني حتى يدخلني الجنة.

ووفدت حليمة رضي الله عنها على رسول صلى الله عليه وسلم في أيام خديجة فأعطتها خديجة رضي الله عنها عشرين رأساً من الغنم، وبكرات من الإبل، وفي رواية: أربعين شاة وبعيراً. ثم وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فبسط لها رداءه فجلست عليه. قال القاضي عياض: وزارت أبا بكر، رضي الله عنه ففعل كذلك وزارت عمر رضي الله عنه وفعل مثل ذلك، والظاهر أنها توفيت قبل خلافة الصديق، رضي الله عنه ولما سبيت أخته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة الشيماء يوم هوازن، فقالت لمن سباها: أنا أخت صاحبكم. فحملوها إليه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أنا أختك. فقال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة منك في ظهري. فعرفها صلى الله عليه وسلم فقام لها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت لها عيناه وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله: وأتى السبيُّ فيه أختُ رضاعِ ... وضعَ الكفرُ قدرها والسّباءُ بسطَ المصطفى لها من رداءٍ ... أي فضلٍ حواهُ ذاك الرداءُ وذكر الأموي في مغازيه عن حليمة، قالت: خرجت مع نسوة إلى مكة نريد الرضاع ومعي أتان ضعيف وشارف لنا لا ترض علينا بقطرة، وصبي لا ينام الليل من بكائه، فلما قدمنا مكة عرض علينا صلى الله عليه وسلم فما منا امرأة قبلته، وكان أبوه قد مات، فكرهت أن أرجع ولم آخذ شيئاً، وقد أخذت صواحباتي، فقلت لزوجي: لأرجعن إلى ذلك اليتيم فآخذه، قال قد أصبت، عسى أن يجعل الله فيه خيراً. قالت حليمة: فانطلقت وأخذته في حجري، فدر ثديي عليه فشرب وشرب أخوه حتى رويا ثم ناما وقام زوجي من الليل إلى شارفنا فإذا قد حفلت قالت: فشرب وسقاني وقال: إني أرجو أن تكوني قد أصبت نسمة مباركة، قالت حليمة: ثم خرجنا فذهبت الأتان أمام الركب فقالوا: يا حليمة أليست الأتان التي نعرف؟ قلت بلى. فقدمنا بلادنا وهي مجدبة، فوالذي نفس حليمة بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم إذا أصبحوا ويسرح راعي غنمي، فترجع أغنامهم جياعاً وترجع غنمنا شباعاً، فما كان في أرضنا من يشرب اللبن غيرنا، وذكر في بعض السير، قالت حليمة: لما بلغ صلى الله عليه وسلم سنتين قدمنا به إلى أمه فلما نزل بها حتى قالت: ارجعا به. وذكر أن عبد المطلب خرج يلتمس له مرضعة فعثر بحليمة فدفعه إليها. وقيل: إن أتانها كانت تنطق وتقول إن شأناً ثم شأناً، وتسبق الركب وكان صلى الله عليه وسلم حين بلغ ثمانية أشهر يتكلم بحيث يسمع كلامه، وفي تسعة أشهر تكلم بالكلام الفصيح، وفي عشرة أشهر، كان يرمي مع الصبيان، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن أول كلام تكلم به صلى الله عليه وسلم حين فطمته حليمة: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وفي رواية: أنه تكلم صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي، وهو عند حليمة بقوله: لا إله إلا الله قدوساً نامت العيون، والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم. وفي رواية: أنه كان لا يمس شيئاً إلا قال: بسم الله. قالت حليمة: كان ينزل عليه كل يوم نور كنور الشمس ثم ينجلي عنه. وكان يشم من منازل سعد نسيم المسك، حين حصل فيهم وأخصبت أراضيهم، وكانت حليمة ترقصه بقولها: يا رب إذا أعطيتهُ فأبقهِ ... وأعلهِ إلى العلى ورقّهِ وادحض أباطيلَ العدا بحقّهِ وكانت أخته الشيماء ترقصه بقولها: هذا أخي ولم تلدهُ أمي ... وليس من أبي ونسل عميّ فديته من مخوّل معمِّ

[19] عاتكة عمة النبي صلى الله عليه وسلم

وذكر في "شرح ذات الشفاء" أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ سنتين خرج مع أخيه من الرضاع عبد الله بن حليمة إلى المرعى، وقيل: يلعبان خلف البيت، وذلك بعد ما ذهبت به حليمة إلى أمه آمنة وعادت به خوفاً عليه من وباء مكة ووخمها، فرجعت به حليمة إلى منازلها، فبينما هو يلعب مع أخيه إذ جاء أخوه يشتد فقال: أدركا أخي فقد جاء رجلان فأضجعاه فشقا بطنه، قالت حليمة: فخرجنا حتى انتهينا فوجدناه قائماً، فقلنا ما لك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: جاءني رجلان فشقا بطني واستخرجا قلبي قالت حليمة: فقال لي زوجي: أرى الغلام قد عرض فلو رددناه قبل أن يظهر به إلى أمه، قالت حليمة: فرددناه إلى أمه، فقالت ما بالكما، قد كنتما ضنين به وإن لكما شأناً، فأخبرناها فقالت: أتخوفتما عليه؟ والله إن لابني هذا شأناً، وأخبرتهما ببعض ما رأت من، وقال أنس رضي الله عنه: كنت أرى الخيط في صدره صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس رضي الله عنهما رجع صلى الله عليه وسلم إلى أمه وهو ابن خمس سنين وقال غيره: وهو ابن أربع سنين. وقال الواقدي ست سنين، وفي رواية: أن نفراً من الحبشة رأوه صلى الله عليه وسلم مع حليمة، وكان لهم علم من الكتاب فأرادوا حمله إلى ملكهم، فما زالت بهم حتى تكفوا عنه. وذكر في "شرح ذات الشفاء" أن شق صدره صلى الله عليه وسلم تكرر ثلاث مرات: إحداهما عند حليمة، والثانية عند مجيء جبرائيل له بالوحي في غار حراء، والثالثة ليلة الإسراء غسل بماء زمزم، وقيل: تكرر أربع مرات، وقيل: خمس مرات. وأعلم أنه يجب الإيمان بشق صدره صلى الله عليه وسلم وإخراج القلب وطرح العلقة منه، وإن كان خارقاً للعادة والقدرة صالحة لذلك والأحاديث فيه مشهورة. وذكر في "المصابيح" عن قتادة عن أنس ابن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به: "بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضجعاً إذ أتاني آت، فشق ما بين هذه إلى هذه يعني: من ثغرة نحره إلى شعرته فاستخرج قلبه، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد وفي رواية: ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ إيماناً وحكمة" الحديث وقد سبق الكلام عن وفاة حليمة، والله سبحانه وتعالى أعلم. [19] عاتكة عمة النبي صلى الله عليه وسلم بنت عبد المطلب، هي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيقة أبيه عبد الله وعمه أبي طالب، والزبير، وعبد الكعبة، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائد بنت عمران بنت مخزوم، وتزوج عاتكة أبو أمية بن المغيرة، فولدت له عبد الله وزهيرا واختلف في إسلامها، وأشعارها تدل على إسلامها وتصديقها برسالة ابن أخيها صلى الله عليه وسلم ومن قولها: فهلاَّ صبرتم للنبيِّ محمّدٍ ... ببدر، ومن يغشى الوغى حق صابرِ ولم ترجعوا عن مرهفاتٍ، كأنّها ... حريقٌ بأيدي المؤمنين بواترِ ووليّتم نفراً وما البطلُ الذي ... يقاتلُ من وقعِ السيوفِ بنافرِ أتاكم بما جاءَ النّبيونَ قبلهُ ... وما ابن أخي البرّ الصّدوق بشاعرِ ومن قولها: وقلتم، ولم أكذب، كذبتِ، وإنّما ... يكذبني بالصدقِ وهو كاذبُ فما بالُ قتلى في القليب ومثلهم ... لدى ابن أخي أسرى له ما تضاربُ أكانوا نساءً أم أتى بنفوسهم ... من الله حين ساقَ والحينُ جالبُ فكيف رأى عندَ اللّقاءِ محمّداً ... بنو عمّهِ والحربُ فيها التجاربُ ألم يغشهم ضرباً يحارُ لوقعهِ ... الجبانُ وتبدو بالنّهارِ الكواكبُ

[20] البيضاء بنت عبد المطلب

وعاتكة هي التي رأت الرؤيا قبل وقعة بدر الكبرى، وأخبرت بها العباس رضي الله عنه وذلك أنها رأت راكبا أقبل على بعير له فوقف بالأبطح فنادى: انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث، صرخ بها ثلاث مرات، فاجتمع الناس إليه. ثم مثل لها على هيئة أبي قبيس راكباً بعيره فصرخ مثل الأولى ورمى بصخرة فتكسرت، فما بقي بيت ولا دار إلا ودخلتها منها فلقة، فسمعت قريش بمنام عاتكة فقال أبو جهل: ما رضوا بكذب الدجال، جاءونا بكذب النساء، فأنكر العباس المنام. فلما كان اليوم الثالث دخل ضمضم وهو ينادي: الغوث، الغوث، وأخبرهم بخر العير فخرجت أشراف قريش، وتخلف أبو لهب خوفاً من رؤيا عاتكة، وأرسل مكانه العاص بن هشام استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ديناً، وقيل: إنها كانت ربا، وقيل: قماراً، فصدق الله تعالى رؤيا عاتكة، وذلك في وقعة بدر. [20] البيضاء بنت عبد المطلب هي البيضاء بيت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي توأمة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم وكانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، فولدت له عامراً وبناتا، ولما توفي أخوها أبو طالب رثته فقالت: يا عينُ جودي لأبي طالبٍ ... منكِ بدمعٍ دائمٍ ساكبِ وابكي أخا الجودِ ومأوى الندى ... ومنتهى السائلِ والراغبِ والفارسِ المقدامِ عندَ الوغى ... في الجحفل المستهلك الحاربِ وهي طويلة جداً، ولم أطلع على عام وفاتها والله تعالى بذلك أعلم. [21] أروى بنت عبد المطلب، عمه النبي صلى الله عليه وسلم هي شقيقة الأولين وقيل، شقيقة الحارث، أمها صفية بنت جندب، واختلف في إسلامها، وذكرها بعضهم في الصحابة، وأبى ذلك غيرهم وأما الذي صرح في إسلامها، أبو جعفر العقيلي، وكانت أروى تحت عمير بن وهب بن عبد مناف بن قصي، فولدت له طليباً رضي الله عنه ولما كبر طليب أسلم في دار الأرقم، ثم دخل على أمه وأخبرها بإسلامه، فقالت: إن الحق ما ازورت وعاضدت ابن خالك، ولو قدرنا على ما تقدر عليه الرجال لذببنا عنه ومنعناه، فقال طليب رضي الله عنه: فما لك لا تسلمين وقد أسلم أخوك حمزة؟ فقالت: أنظر ما تصنع أخواتي فأكون إحداهن! فقال لها: أسألك بالله إلا أسلمت وشهدت برسالته فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وكانت بعد ذلك تحضن ابنها على نضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامها ثم مات عمير بن وهب عنها قبل ما أسلمت، وتزوجها كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. [22] برة بنت عبد المطلب، شقيقة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع لها ذكر في الإسلام، كانت تحت أبي رهم بن عبد العزي، فمات وتزوجها عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وقيل: إنه كان قبل أبي رهم فمات وتزوجها أبو رهم، والله أعلم. [23] أميمة بنت عبد المطلب، شقيقة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تحت جحش بن رئاب الأسدي، فولدت له عبد الله، وعبيد الله وزينب رضي الله عنها أم المؤمنين، وكانت عند زيد، وهي التي ذكرها الله في القرآن العظيم (فلما قضى زيداً منها وطراً زوجناكها) فتزوجها، صلى الله عليه وسلم ومن أولاد أميمة، أبو أحمد، وحمنة، وأم حبيبة، وكلهم هاجر وأسلم إلا عبيد الله غضب الله عليه وارتد، نعوذ بالله ومات كافراً ( ... ) . [24] صفية رضي الله عنها

[25] خديجة الكبرى رضي الله عنها

بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي شقيقة حمزة، رضي الله عنه أمها هالة بنت وهيب عم آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم أسلمت صفية رضي الله عنها ولا خلاف في إسلامها، وكانت في الجاهلية عند الحارث بن حرب بن أمية فهلك عنها فتزوجها العوام بن خويلد فولدت له السائب وعبد الكعبة والزبير رضي الله عنه ثم أسلمت وهاجرت، وكانت حازمة ذات قوة وشجاعة، وكانت مع النساء في وقعة الأحزاب في أطم ومعهن حسان بن ثابت رضي الله عنه فإذا بيهودي يطوف بالأطم فقالت لحسان: انزل فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، ما لي بهذا من حاجة، فأخذت صفية رضي الله عنها عموداً ونزلت إليه وقتلته ثم قالت لحسان: انزل وخذ سلبه فما منعني من سلبه إلا أنه رجل فقال: لا حاجة لي بسلبه، وكان حسان شجاعاً فيما تقدم ثم أصابته ضربة على رأسه أضرت دماغه، وتولد له من تلك الضربة نوع من الجبن، وعاشت صفية إلى خلافة عمر رضي الله عنه وتوفيت سنة عشرين ولها من العمر ثلاث وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع، ومن شعرها ترثي النبي صلى الله عليه وسلم. ألا يا رسولَ اللهِ كنتَ رجاءنا ... وكنتَ بنا براً ولمْ تكُ جافيا وكنتَ رحيماً هادياً ومعلِّماً ... لبيكِ عليكَ اليوم منْ كانَ باكيا كأنَّ على قلبي لذكر محمَّدٍ ... وما خفتُ من بعدِ النبيِّ المكاويا لعمركَ ما أبكي النبيَّ لفقده ... ولكنْ لما أخشى من الهرج آتيا أفاطمَ صلّى الله ربُّ محمَّدٍ ... على جدثٍ أمسى بيثربَ ثاويا فدىً لرسول الله أمَّي وخالتي ... وعمِّي وآبائي ونفسي وماليا صدقتَ وبلغتَ الرسالةَ صادقاً ... ومتَّ صليبَ العودِ أبلجَ صافيا فلو أنَّ ربَّ الناسِ أبقى محمَّداً ... سعدنا، لكنَّ أمره كان ماضياً عليكَ منَ اللهِ السلامُ تحيَّةً ... وأدخلت جنَّاتٍ من العدنِ راضياً أرى حسناً أيتمته وتركته ... يبكي ويدعو جدّه اليوم نائيا [25] خديجة الكبرى رضي الله عنها أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى [بن] قصي، وأمها: فاطمة بنت زائدة بن الأصم، كانت تدعى بالجاهلية الطاهرة، تزوجها صلى الله عليه وسلم وهي أم أولاده كلهم إلا ابراهيم، وكانت خديجة رضي الله عنها قبل [رسول الله صلى الله عليه وسلم] عند أبي هالة بن زرارة بن نباش التميمي، ثم خلف عليها عتيق بن عابد بن عمرو بن مخزوم، وكانت خديجة رضي الله عنها أول الخلق على الإطلاق إسلاماً بعد البعثة، وذكر في "الجامع الصغير" عنه صلى الله تعالى عليه وسلم، أنه قال: "أجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوصتين"، وقيل: إن أبا طالب قال لخديجة: هل لك أن تستأجري محمداً، وقد استأجرت فلاناً ببكرتين ولسنا نرضى لمحمد دون أربع بكرات؟ فقالت": لو سألت لبعيد بغيض فكيف وقد سألت لحبيب قريب؟ فرضيت خديجة واستأجرته صلى الله عليه وسلم وأرسلته مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة، وهو بأرض اليمن على ست ليال من مكة، فابتاع منه بزاً، ورجعا فربحا ربحاً حسناً، وأرسلته في الثانية إلى إسلام مع مسيرة، فابتاعا وربحا وعادا، فقال مسيرة للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك أن تسبقني إلى خديجة فتخبرها بالذي جرى فلعلها تزيدك بكرة إلى بكراتك، فركب صلى الله عليه وسلم وتقدم ودخل معه في الظهيرة، وخديجة في غرفتها مع نساء، فرأته حين دخل وملكان يظلانه، فأرته نساءها فعجبت من ذلك، فأخبرها بما ربحوا فسرت، وقالت: عجل إلى ميسرة ليعجل وصعدت إلى الغرفة فرأته، صلى الله عليه وسلم على الحالة الأولى، فلما دخل ميسرة أخبرته خديجة بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بقول نسطور لما رآه نزل تحت [شجرة مخصوصة] فقال: هذا آخر الأنبياء. وقال النيسابوري: لما رأى الراهب الغمامة تظله دنا إلى النبي وقبل رأسه وقدمه، وقال: آمنت بك، فلما سمعت خديجة ذلك حدثت ابن عمها ورقة بن نوفل بذلك، فقال لها: إن كان حقاً ما ذكرت فمحمد نبي هذه الأمة المنتظر.

وذكر في "شرح ذات الشفاء": أن خديجة كانت من أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً وأكثرهن مالاً وأحسنهن جمالاً، فخطبوها فأبت، وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دسيسة امرأة تقول: ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قالت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال والجمال والشرف ألا تجيب؟ قال: ومن هي؟ قالت: خديجة. قال: ومن لي بذلك؟ فقالت: المرأة: بلى، أنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، وذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأعمامه، فخرج معه حمزة رضي الله عنه حتى دخل على أبيها فخطبها فأجاب. وأصدقها عشرين بكرة، وحضر أبو بكر رضي الله عنه ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم عن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به، فإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا، وهو والله بعد هذا له بناء عظيم، وخطر جليل. وقيل: أصدقها اثنتي عشرة أوقية ذهباً، ونصف أوقية، وكانت أقل أوقية إذ ذاك أربعين درهماً. وقيل: إن والمزوج لها عمها عمرو بن أسد، وإنه قال لما خطبها عمه: هذا الفحل لا يقرع أنفه، أي لا يضرب أنفه؛ لأن الفحل الخسيس يضرب على أنفه ليرتدع عنة الناقة الكريمة، وقيل: إن المزوج لها أخوها عمرو، وقيل: إن أباها كان يرغب عنه فلما سكر خطبت منه فزوجها، ثم صحا فأنكر ذلك، ثم رضيه وأمضاه، وقيل: إن أختها عرضتها عليه صلى الله عليه وسلم وعمره خمس وعشرون سنة، وقيل: ست وعشرون، وقيل: إحدى وعشرون، وقيل: ثلاثون سنة، وكانت خديجة رضي الله عنها بنت أربعين سنة، وقيل: خمس وأربعين، وقيل: ثلاثين، وقيل ثمان وعشرين، وقيل: خمس وثلاثون، وقيل: خمس وعشرين، وكان تزوجه بها، صلى الله عليه وسلم في صفر، بعد رجوعه بشهرين وخمسة وعشرين عاماً. ولما بعث صلى الله عليه وسلم جاءه جبرائيل بقوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) قيل: أتاه جبرائيل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له برسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان فجاءه جبرائيل في حراء، وإليه أشار الصرصري بقوله: وأنتَ عليهِ أربعونَ فأشرقتْ ... شمسُ الرِّسالةِ منهُ في رمضانِ وذكر في كتاب "التبيين": أنه صلى الله عليه وسلم أخبر خديجة فقالت: أبشر يا محمد، وقيل: يا ابن عم فإني أرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما رأى وما سمع، فقال: قدوس قدوس، والذي نفسي بيده لئن صدقت ياخديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت. فأخبرته بما أخبرها ورقة فسري عنه صلى الله عليه وسلم بعض ما هو فيه من الهم، ثم لقيه بالطوق، فاستخبره فأخبره، فقال: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء لموسى، ولئن أدركت ذلك لأنصرن الله نصراً تعلمه، ثم أدنى رأسه فقبل يأفوخه فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل في رواية: إن خديجة رضي الله عنها قالت: أبشر يا رسول الله، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. وفي رواية: إنها ذهبت إلى عداس، وكان نصرانياً من أهل نينوى، قالت: يا عداس، أذكرك الله إلا ما أخبرتني، هل عندكم علم من جبرائيل؟ فقال عداس: قدوس قدوس، هو أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى، وفي رواية: أنها كتبت إلى بحيري تسأله عن ذلك وعن جبرائيل فقال: قدوس قدوس يا سيدة قريش أنى لك بهذا الاسم؟ إنه السفير بين الله وبين أنبيائه وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين لأنه آمن بي وصدقني". وجزم ابن كثير بإسلامه. وقال البلقيني: إنه أول من آمن من الرجال. وكذا قال الحافظ العراقي. ونقل الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن خديجة أول من أسلم. قال النووي: إنه الصواب وتبعه ابن الأثير.

[26] سودة رضي الله عنها

وتوفيت خديجة رضي الله عنها بعدما أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين سنة ولم يتزوج حتى توفيت، وكانت وفاتها في رمضان، وهي بقنت خمس وستين سنة، ودفنت بالحجون، ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها. وزعم ابن إسحاق أنها توفيت بعد الإسراء بعد أن صلت الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنت بالحجون، ولم تكن صلاة الجنازة. وبعد ستة أشهر مات أبو طالب، مات كافراً، وصرح بهذه العبارة أبو حنيفة رضي الله عنه في "الفقه الأكبر" وسبق حديث: "أنه سينتفع شفاعتي فيوضع في نار قليلة". وقيل: إن خديجة رضي الله عنها، توفيت بعد أبي طالب بثلاثة أيام، وقيل: بخمسة، وقيل: قبل أبي طالب بخمسة وثلاثين يوماً. قال صلى الله عليه وسلم: "خير النساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد". وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً، فقد بدلك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: "لا والله ما أبدلاني خيراً منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبوني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً غذ حرمني أولاد النساء" فقلت في نفسي: لا اذكرها بسبة، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم صويحباتها بعدها، فيقول: "هذه كانت تأتينا أيام خديجة، وهذه كانت من صواحبها". وروي أن جبرائيل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرئ خديجة عن الله وعني السلام. قال الجاحظ بن حجر: أفضل أمهات المؤمنين: خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة، وقال صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: مريم وآسية وخديجة، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقال الإمام الأعظم: إن عائشة بعد خديجة الكبرى أفضل نساء العالمين. وذكر في "شرح الجوهرة" عن أبي هريرة رضي الله عنه: "خير نساء العالمين أربع: "ريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، امرأة فرعون، وخديجة وفاطمة". وصح من حديث ابن عباس: "أفضل نساء الجنة: خديجة وفاطمة ومريم وآسية". وذكر الكرماني في أول شرحه البخاري: أن خديجة وعائشة سواء: وذكر في "كشف الأسرار" قال صلى الله عليه وسلم: "شارطت ربي أن لا أتزوج إلا من تكون معي في الجنة" ولأجل ذلك حرمت نساؤه علينا، فلأنهن لو تزوجن لكان في ذلك إيذاء للنبي، صلى الله عليه وسلم وتركاً لمراعاة حقه وحرمته قال تعالى: (لستن كأحد من النساء) وقال النيسابوري: إنما سمى نساءه أمهاتنا ولم يسمه أباً لأنه لو سماه أبا لكان يحرم عليه نكاح أولاده. [26] سودة رضي الله عنها بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك، وأمها من بني النجار، وهي أم المؤمنين، أسلمت قديماً وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها السكران بن عمرو، ثم قدمت معه مكة فمات زوجها، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرت عنده فهم بطلاقها، فقالت: دعني في أزواجك وأنت في حل من شأني، وقد وهبت يومي لعائشة فكان صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: وكان، صلى الله عليه وسلم قد تزوجها قريباً من تزوجه بعائشة رضي الله عنها وقيل: إن في سودة رضي الله عنها نزلت هذه الآية: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً) ولما تزوجها صلى الله عليه وسلم كان أخوها عبد الله في الحج، فلما قدم جعل يحثو على رأسه التراب، فلما أسلم كان يقول: لعمرك إني لسفيه، كيف أحثو التراب على رأسي؟ ولما توفيت خديجة رضي الله عنها جاءت خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون إليه صلى الله عليه وسلم فقالت: ألا تتزوج؟ قال: "بمن؟ " قال: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً قال: "من البكر ومن الثيب؟ " فقالت: أما البكر فعائشة رضي الله عنها وأما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك، قال: "فاذهبي فاخطبيها". فدخلت خولة على سودة وخطبتها بعد أن خطبت عائشة رضي الله عنها وتزوج صلى الله عليه وسلم بسودة قريباً من تزوجه بعائشة. وذكر في "البستان": أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بسودة بمكة قبل عائشة رضي الله عنها.

[27] عائشة رضي الله عنها

وقال في "شرح الجوهرة": زوجاته صلى الله عليه وسلم أفضل النساء، وهذا هو الصحيح. وتوفيت أم المؤمنين سودة في آخر خلافة عمر رضي الله عنه والله أعلم. [27] عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ذكرنا حديث خولة لما قالت له صلى الله عليه وسلم: ألا تتزوج؟ فقال: "بمن؟ " فذكرت عائشة وسودة، فقال: "اذهبي فاخطبيهما". فدخلت خولة على أم رومان زوجة الصديق. فقالت: أبشرى بالخير والكرامة. فأخبرتها الخبر. فشاورت الصديق: فقال: هي بنت أخيه فإن تصلح له زوجتها منه. فقال صلى الله عليه وسلم: "هو أخي وأنا أخوه، وابنته تصلح لي فزوجه إياها". وذكر في "مختصر ابن الوردي": أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بعائشة رضي الله عنها قبل الهجرة بعد وفاة خديجة ودخل بها الهجرة بثمانية أشهر، وهي بنت تسع سنين، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة، وذكر أنه تزوج بها بمكة.

وفي كتاب "الدر المكنون": أنه صلى الله عليه وسلم دخل بعائشة رضي الله عنها في شوال في السنة الثانية بعد وقعة بدر الكبرى، فإن غزوة بدر كانت في رمضان، ودخل بها صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنوات وروى البخاري عنى عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أريتك في النوم مرتين أرى ملكاً يحملك في سرقة أي: شقة حرير فيقول: هذه امرأتك، فأكشف فأراك، فأقول: إن كان [هذا] من عند الله فيمضه". ولم يتزوج رسول الله بكراً غيرها، وبعد أن نبي بها صلى الله عليه وسلم بأربعة أشهر ونصف، دخل علي رضي الله [عنه] بفاطمة، رضي الله عنها، وذكر في "شرح ذات الشفاء": أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث بعد موت خديجة رضي الله عنها قبل سودة، وقيل: بعدها وهي بنت ست سنين أو سبع، وبنى عليها بالمدينة، وهي بنت تسع سنين وأصدقها أربعمائة درهم، وكان صلى الله عليه وسلم قد رأى صورتها في المنام في حريرة، ومكثت عنده تسع سنين، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة، ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أحب الناس إليه، قال عمرو بن العاص: قلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة". قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها". قال عروة رضي الله [عنه] : ما رأيت أعلم بفقه ولا شعر ولا طب من عائشة رضي الله عنها. وكانت تكنى بأم عبد الله، وهو عبد الله بن أسماء أختها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كناها بأم عبد الله في حجة الوداع. ويقال: إنها أتت منه صلى الله عليه وسلم بسقط وسمي عبد الله. وقال الدمياطي: لم يثبت هذا. وفي "المعالم": قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين أزواجه أيتهن خرج سهمها خرج بها، ولما كانت غزوة بني المصطلق [في ال] سنة السادسة أقرع بيننا فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أحمل في هودج حتى إذا فرغ من غزوته وقفل، [و] دنونا من المدينة فقمت حين رحلوا وجاوزت الجيش فلما قضيت حاجتي عدت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع قد انقطع، فعدت ورأيته، وكان الرهط الذين يرحلونني احتملوا هودجي على بعيري ورحلوا يحسبون أني فيه، ولما وجدت عقدي عدت فلم أر أحداً فجلست ونمت وكان صفوان بن معطل قد عرس من وراء الجيش فأدلج، وأصبح عند منزلي. فعرفني فخمرت وجهي، والله ما كلمني بكلمة ولا سمعت غير استرجاعه، وأناخ ناقته فركبتها، وانطلق يقود زمامها حتى أتينا الجيش في الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي [ابن] سلول. قالت: فقدمنا المدينة فاشتكيت شهراً والناس يفيضون بقول أصحاب الإفك ولا أعرف منه شيئاً، حتى نقهت فخرجت مع أم مسطح لقضاء حاجتي، وعدنا فعثرت أم مسطح [في مرطها] ، فقالت: تعس مسطح! فقلت لها: تسببن من شهد بدراً؟ فقالت: أو ما سمعت ما قال؟ وأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي، ودخلت بيتي، ودخل علي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أتأذن لي أن آتى أبوي؟ فأذن، فسرت إلى أمي، وقلت لها: ماذا يتحدث الناس؟ قالت: هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها [و] لها ضرائر إلا كثرن عليها، فقلت: أوقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة وأصبحت لا يرقأ لي دمع، فدعا صلى الله عليه وسلم علياً وأسامة يستشيرهما في فراقي، فقال أسامة: أهلك ولا نعلم إلا خيراً. وقال علي: رضي الله عنه: لم يضيق الله عليك، والنساء كثيرة فأسأل الجارية تصدقك. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: أي بريرة! هل رأيت من شيء يربيك؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام صلى الله عليه وسلم وصعد المنبر وقال: "يا معشر المسلمين من [يعذرني من] رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا الخير". فقام سعد بن معاذ فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس أضرب عنقه، وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقال له سيد الخزرج سعد بن عبادة: كذبت! لا تقتله ولا تقدر على قتله! فقام أسيد بن حضير وقال لسعد بن عبادة: كذبت أنت، لنقتلنه، وإنك منافق تجادل عنى المنافقين! فثارت الأوس والخزرج وهموا بالقتال ورسول الله على المنبر، ثم أسكتهم، فبكيت

يومي كله فكان يوماً وليلتين، فقدمت علي امرأة من الأنصار وجلست تبكي معي، فدخل علي صلى الله عليه وسلم وجلس ولم يكن عندي منذ قيل ما قيل، ولبث الوحي شهراً، فتشهد صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: "أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري [الله] وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف [بذنبه] ، ثم تاب، تناب الله عليه" فقلت لأبي أجب رسول الله، فقال: إني والله لا أدري ما أقول. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله فيما قال، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت: إني جارية حديثة السن لا أقرأ القرآن كثيراً. إني والله، لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث، واستق في أنفسكم، وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة منه لا تصدقوني لئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقوني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال: (فصبر جميل) ثم تحولت ونمت على فراشي، فوالله ما رام رسول الله مجلسه ولا خرج أحد حتى أنزل الله عليه الوحي، فسري عن رسول الله ونهو يضحك، وقال: "يا عائشة أما والله فقد براك الله" فقالت أمي: قومي إليه! فقلت: والله لا أقوم إليه. ولا أحمد إلا الله، وأنزل الله: (أظن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) وهي عشر آيات. وذكر في "المدارك في تفسير القرآن" في براءة عائشة رضي الله عنها قوله: ولم يغلظ الله في القرآن في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة، فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر، وما ذاك إلا لأمر. قال ابن عباس رضي الله عنه: من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة رضي الله عنها وهذا منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك، ولقد برأ الله أربعة بأربعة، برأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها، وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهودي فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها عيسى قال: (إني عبد الله) وبرأ عائشة رضي الله عنها بالآي العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر بهذه المبالغات، فانظر كم بينها وبين [تبرئة] أولئك، وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر في "شرح الجوهرة": قد أجمع المسلمون على حرمة سب آل بيته صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه وتنقيصهم، وذكر في "المدارك" في تفسير سورة النور قوله: وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح، وامرأة لوط، ولم يجز أن تكون فاجرة لأن النبي المبعوث ليدعو إلى الإيمان فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه، والكفر غير منفر عندهم، وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات، وفي "شرح الجوهرة" هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أهل الإفك؟ نعم، بعد نزول البراءة حد رجلين: حسان ومسطح، وامرأة هي حمنة أخت زينب بنت جحش، وقيل: حد ابن سلول، والأصح أنه لم يحده لأنه ليس أهلاً الكفارة، [و] لأنه من المنافقين. وذكر "أهل السير": لما دخلت [ال?] سنة الحادية عشرة ليلة الأربعاء، وبدأ المرض به صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها وكان صلى الله عليه وسلم في البقيع وعاد [ف] وجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأسي. فقال: صلى الله عليه وسلم "بل وارأساه، وما يضرك لو مت قبلي، قمت عليك، وكفنتك وصليت عليك ودفنتك"، قالت عائشة: فقلت: واثكلاه والله إنك لتحب موتي، فلو كان ذلك لظللت يومك معرساً ببعض أزواجك! فتبسم، صلى الله عليه وسلم فقال: "بل وأنا وارأساه" وتمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار يدور على نسائه فاشتد به المرض عند ميمونة، فاستأذن نساءه أن يمرض في بيتي فأذن له، وصار يقول وزهو عند ميمونة: "أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ " يريد يوم عائشة رضي الله عنها وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة رضي الله عنها. وذكر أصحاب التاريخ والسير: أنه صلى الله عليه وسلم قال يوماً لزوجاته: "أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها، وعن شمالها قتلى كثيرة وتنجو بعدما كادت". وقال صلى الله عليه وسلم لعلي، رضي الله عنه: "سيكون بينك وبين عائشة أمر قال: فأنا أشقاهما يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فازددها إلى مأمنها".

[28] حفصة رضي الله عنها

ولما كانت سنة ست وثلاثين كانت وقعة الجمل وسببها، لما بويع علي رضي الله عنه بالخلافة ندم طلحة رضي الله عنه والزبير رضي الله عنه على خذلان عثمان رضي الله عنه فاجتمعوا واتفقوا مع عائشة رضي الله عنها، واشتروا لها جملاً، وحملوها وساروا إلى البصرة فنزلوا على بعض المياه فنبحت الكلاب، فقالت عائشة: أي ماء هذا؟ قالوا: الحوأب، فتذكرت الحديث السابق، قالت: ما أظنني إلا راجعة، ثم ساروا بها، فلما تلاقى العسكران واقتتلوا وقتل طلحة رضي الله عنه وبلغت القتلى ثلاثة عشر ألفاً وعقروا جمل عائشة رضي الله عنها واحتملها محمد إلى عند علي رضي الله عنه فلم يعنفها، وتذكر الحديث فأرجعها إلى مأمنها_ انتهى. وفي سنة سبع وخمسين توفيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تزوجها صلى الله عليه وسلم بكراً، وكانت أحب الناس إليه، وكانت من أعلم الناس، ودفنت بالبقيع والله أعلم. [28] حفصة رضي الله عنها أم المؤمنين بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهي شقيقة عبد الله، أمها زينب بنت مظعون، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث على راس ثلاثين شهراً من الهجرة، وقيل: سنة لاثنتين، وكانت قبله عند خميس بن حذافة رضي الله عنه فمات بجراحات أصابته في بدر، وكانت ولادة حفصة قبل النبوة بخمس سنين، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما تأيمت حفصة من خنيس لقيت عثمان رضي الله عنه بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في ذلك، فليثبت ليالي، فلقيني فقال: ما أريد أن أتزوج يومي هذا، قال عمر رضي الله عنه فلقيت أبا بكر له فقلت له ما قلت لعثمان، فلم يرجع علي شيئاً، فكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي فخطبها صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين لم أرجع عليك شيئاً؟ فقلت: نعم. قال: ذاك لأني سمعت رسول الله [صلى الله] عليه وسلم، يذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو تركها لنكحتها، أخرجه البخاري، كذا في كتاب "شرح ذات الشفا" وذكر في "المعالم". قالت عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء ويحب العسل، وكان ذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسلاً، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم [منها] شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت: إذا دخل عليك رسول الله فقولي له: أكلت مغافير؟ فإن قال لا، فقولي له: ما هذه الريح. ثم قلت لصفية كذلك، فلما دخل صلى الله عليه وسلم على سودة قالت له: أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت. فما بال هذه الريح؟ قال صلى الله عليه وسلم: سقتني حفصة شربة عسل، قالت: جرست نحلة العرفط فلما دخل علي صلى الله عليه وسلم قلت له مثل ذلك، فلما دخل علي صفية قالت له مثل ذلك. فلما دخل على حفصة قالت له: ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به.

[29] أم حبيبة رضي الله عنها

مغافير: صمغ العوسج، له رائحة كريهة، وحرم [على نفسه] صلى الله عليه وسلم العسل، فأنزل الله تعالى عليه: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك) وذكر في "شرح ذات الشفا" أنه صلى الله عليه وسلم شرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فغارت حفصة وعائشة، وقالتا له: أكلت مغافير؟ وفي "المعالم": كان صلى الله عليه وسلم يقسط بين نسائه. فلما كان يوم حفصة رضي الله عنها استأذنت في زيارة أبيها فأذن لها. فلما خرجت دعا صلى الله عليه وسلم جاريته مارية وأدخلها بيت حفصة وواقعها، فعادت حفصة ووجدت الباب مغلقاً فجلست تبكي، فخرج صلى الله عليه وسلم فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: إنما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي ثم واقعتها في يومي على فراشي! فقال لها: "اسكتي فهي علي حرام فلا تخبري بهذا امرأة منهن" فلما خرج صلى الله عليه وسلم أخبرت حفصة عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه مارية، وذلك قوله تعالى: (وغذ اسر النبي إلى بعض أزواجه) إلى قوله تعالى: (.. أظهره الله) فعند ذلك طلق حفصة رضي الله عنها فلما بلغ عمر رضي الله عنه قال: لو كان خيراً في آل الخطاب ما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه جبرائيل وأمره بمراجعتها، وذكر في "شرح ذات الشفاء": أن حفصة رضي الله عنها لما عادت من عند أبيها أبصرت مارية في بيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت وقالت له: إني رأيت من كان معك في البيت، وغضبت وبكت وقالت: يا رسول الله في يومي وفي بيتي وعلى فراشي جئت إلي بشيء ما جئت به إلى أحد من أزواجك؟ ورأى الغيرة في وجهها، فقال: اسكتي فهي علي حرام، ابتغي بذلك رضاك، ثم أخبرها بخلافة أبيها بعد أبى بكر رضي الله عنه واستكتمها ذلك، فأخبرت به عائشة رضي الله عنها فقالت: أراحنا الله من مارية، وقصت عليها القصة. فغضب حين أطلعه الله على ذلك، ونزلت: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) وطلقها طلقة رجعية جبرائيل وأمره بمراجعتها، وقال: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة. وقيل: إن سبب نزول الآية ما ذكره في "المعالم": حين حرم على نفسه العسل. وفي رواية: أن عمر، رضي الله عنه، لما سمع غضب النبي على حفصة وطلاقها حثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها، فجاء جبرائيل من الغد، فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر، وقيل: إنه لم يطلقها ولكنه هم بطلاقها. وتوفيت حفصة، رضي الله عنها في شعبان سنة خمس وأربعين بالمدينة، وعمرها ثلاث وستون سنة. وصلى عليها مروان بن الحكم، أمير المدينة يومئذ، وحمل سريرها، وحمله أبو هريرة، ودفنت بالمدينة، وقيل: توفيت سنة إحدى وأربعين لما بويع معاوية بالخلافة، والله أعلم. [29] أم حبيبة رضي الله عنها

بنت [صخري أبي سفيان بن حرب تزوجها رسول الله، صلى الله عليه وسلم سنة سبع، وأسلمت قديماً وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش الهجرة الثانية فولدت له حبيبة، وبها كانت تكنى وهي ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت في حجره، وتنصر عبيد الله وتثبتت على الإسلام، وبانت منه وهلك بأرض الحبشة فتزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار. وذكر في كتب التواريخ: أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها سنة ست وبنى بها سنة سبع، وذكر في "شرح ذات الشفاء: أنه لما ارتد عبيد الله وبانت منه أم حبيبة، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة يخطبها وأرسل كتاباً إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام فأسلم، على يد جعفر بعد أن سأل عنه القسوس والرهبان، فقالوا: إنا نجده في التوراة والإنجيل وهو الذي بشر به المسيح، واسلم النجاشي أصحمة، وهو ملك الحبشة ثم كتب له صلى الله عليه وسلم أن يزوجه بأم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مع المهاجرين عنده فزوجه بها وأعطاها الصداق عنه صلى الله عليه وسلم وكان الذي أرسله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري افتتاح سنة سبع ليزوجه بأم حبيبة، فأرسل النجاشي إليها جاريته تخطبها فقالت: بشرك الله بالحير، فوكلت [خالد] بن سعيد، وأعطت الجارية سوارين وخلخالين وخواتم فضة، وخطب النجاشي على أصحاب رسول الله خطبةً بليغةً حين العقد، وقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله هو، وأن محمداً رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم عليه السلام، أما بعد: فإن رسول الله كتب إلى أن زوجة أم حبيبة، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله، وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فقال خالد بن سعيد وكيلهما: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأشهد أن لا إله إلا لله، وأن محمداً عبده ورسوله وأرسله بالهدي ودين الحق ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وزوجته أم حبيبة فبارك الله له فيها وقيض خالد الدنانير وأحضر النجاشي الطعام فأكلوا وقيل إنه ولي تزويجها من رسول الله عثمان بن عفان، وبعث رسول الله شرحبيل بن حسنة فجاءه بها، وأرسلت نساء النجاشي إلى أم حبيبة رضي الله عنها، العطر والطيب، وأعادت الجارية عليها ما أعطتاه إياه أم حبيبة رضي لله عنها بأمر النجاشي، وقالت: سلمي لي عليه ففعلت أم حبيبة، رضي الله عنها وذلك ورد، صلى الله عليه وسلم عليها السلام، وقدم جعفر، رضي اله عنه من الحبشة ومعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم حبيبة رضي الله عنها وصحبته الأشعريون والدوسيون، وسمعوا أنه صلى الله عليه وسلم في خيبر فوافوه هناك، ولما أقبل جعفر رضي الله عنه قام له النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بين عينيه واعتنقه، ولما رآه جعفر حجل إليه، وأي مشى على رجلٍ واحدة إعظاماً له، لأن الحبشة يفعلون ذلك التعظيم، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم والله ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر، وكان معه اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام أصحاب رهبنة وصوامع فقرأ عليهم (سورة يس) فبكوا واسلموا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، عليه السلام وكان صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه لإكرامهم أصحابه، وكان أبو هريرة رضي الله عنه وقومه في جملة القادمين، وهم ثمانون بيتاً، وقدمت معهم أم حبيبة رضي الله عنها ومكان أبو سفيان مشركاً فأخبر بذلك فقال: ذاك الفحل لا يقرع أنه، وأصل هذا المثل أن الفحل من الإبل إذا أراد ضرب الناقة الكريمة إن كان كرماً لا يقرع أنفه، وإن كان لئيماً قرع أنفه بالعصا ورد عنها، وأم حبيبة رضي الله عنها عمة عثمان بن عفان رضي الله عنهما وقيل: وإن أبا سفيان دخل يوماً على أم حبيبة، رضي الله عنها، وهو مشرك وعمد ليجلس على فراش رسول الله فقامت أم حبيبة ورفعت الفراش حتى لا يجلس عليه فقال لها أبو سفيان: لم رفعت الفراش، علمت أني لا أجلس عليه؟ فقالت: ورب محمد ما رفعته إلا مخافة ينجس لأنك مشرك بالله، فيكف أمكنك أن تجلس على فراش جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن اجلس على الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بذلك وأحبها، وذكر في السيرة، قالت عائشة رضي الله عنها: دعتني أم

[30] أم سلمة هند رضي الله عنها

حبيبة رضي الله عنها عند موتها فقالت: قد كاد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، وتوفيت سنة أربع وأربعين ف خلافة معاوية رضي الله عنه وروي عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم قال: حفرت ناحيةً من منزلي في دار جدي علي بن أبي طالب فأخرجنا منه حجراً، فإذا فيه مكتوب، هذا قبر رملة أم المؤمنين بنت صخر، فأعدناه مكانه، وكذا في كتب التواريخ والسير والله تعالى بذلك أعلم توفيت سنة 43. [30] أم سلمة هند رضي الله عنها أم المؤمنين بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وقيل: اسمها رملة وأبوها أبو أمية أحد أجواد العرب، وكان يسمى زاد الراكب لأنه كان يغني رفيقه في السفر عن الزاد، وكانت أم سلمة عند أبي سلمة بن عبد الأسد، وهما أو لن هاجر إلى الحبشة، وثم قدما إلى المدينة المنورة وتوفي أبو سلمة سنة ثلاث، وترك من الأولاد سلمة وعمرو وزينب ودرة وأم كلثوم، ولما خطبها، صلى الله عليه وسلم قالت: إني امرأة غيراء ولي صبية، وقد دخلت في السن وليس أحد من، ليائي حاضراً، فقال صلى الله عليه وسلم: أما الصبية فلهم الله ورسوله، وأما الغيرة فيذهبها الله، وأما السن فأنا أسن منك، وأما أولياؤك فليس فيهم من يكره ذلك. فتزوجها صلى الله عليه وسلم فكانت من أفضل نسائه، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة أربع قيل: إن زوجها أبا سلمة لما مات قال: اللهم اخلفني في أهلي بخير، فخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر في "حاشية الأشباه للحموي" روى الطبراني "في الكبير" و"الأوسط" عن أم سلمة رضي الله عنها ولفظه: قلت: يا رسول الله، المرأة تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة، في الدنيا ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها منهم؟ قال: "يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً فتقول: أي رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقاً فزوجنيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة"، وذكر في السيرة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أسكنها بيت زوجته أم المساكين، وكانت قد توفيت قال أم سلمة رضي الله عنها فوجدت جرة من شعيرٍ، ورحى، وبرمة، وقدراً، وكعباً أي ضرفاً من أديم، فطحنت الِعير ثم عصدته في البرمة وأدمته من الكعب فكان ذلك طعام رسول الله وطعام ليلة عرسه، وتوفيت أم سلمة رضي اله عنها سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة ستين، وقيل: سنة إحدى وستين، وقيل: اثنتين وستين، وعمرها أربع وثمانون سنة، وصلى عليا أبو هريرة رضي الله عنه وقيل: سعيد بن زيد، ودخل قبرها ابناها وعبد الله بن ونهب بن زمعة وهي آخر من مات من نسائه صلى الله عليه وسلم ودفنت بالبقيع رضي الله عنها. [31] أم المؤمنين زينب رضي الله عنها بنت جحش بن رئاب بن يعمر، أمها أميمة بنت عبد الطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من المهاجرات، وكانت امرأة قصيرة، وكانت تكنى أم الحكم، ولما خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة رأى منها ومن أهلها كراهة، ثم رضوا لرضا لله ورسوله بذلك، وذكر في "شرح ذات الشفاء": إن زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى من آل قضاعة، وأمه قد ذهبت إلى زيارة أخواله فمر به ناسٌ من العرب فسبوه وباعوه في سوق عكاظ فاشتراه حكيم بن حزام لعتمته خديجة رضي الله عنها فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكبر منه بعشر سنين، ولما فقده حارثة قال يرثيه شعراً: بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعلْ ... أحيٌ يرجى أمْ أتى دونه الأجلُ فواللهِ ما أدري، وإنْ كنتُ سائلاً ... أغالكَ سهلُ الأرضِ أم غالك الجبلُ تذكرنيه الشَّمسُ عند طلوعها ... وتعرضُ ذكراهُ إذا قاربَ الطفلُ إذا هبتِ الأرواحُ هيجنَ ذكرهَ ... فيا طولَ ما حزني عليهِ ويا وجل

وتبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقال له، حبُّ رسول لله لقوله صلى الله عليه وسلم "أحب الناسِ إليَّ من أنعمَ اله عليهِ وأنعمتُ عليه" يعني زيداً، وزوجه أولاً رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته أم أيمن فولدت أسامة، ولما توفيت أم أيمن زوجه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت عمته، وروى أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزيد: اذكرها علي، قال: فذهب إليها فجعلت ظهري إلى الباب، فقلت: يا زينب أبشري إن رسول الله [أرسل] يذكرك، فقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن "فلمّا قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها". وفي "المعالم": أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد اشترى زيداً وأعتقه وتبناه، ولما خطب له زينب ظنت أنه خطبها لنفسه، فلما علمت [أنه يخطبها] لزيد أبت، وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول اله فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة، فيها حدة وكبرة، وكذلك [كره] أخوها عبد الله، فأنزل الله تعالى قوله: (وما كان مؤمنٍ) يعني عبد الله بن جحش، (ولا مؤمنةٍ) يعني زينب، (إذا قضى الله ورسوله أمراً) وهو نكاح زيدٌ، (أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) فلما سمعا ذلك رضيا، وجعلت أمرها بيد رسول الله فأنكحها زيداً، وساق رسول الله مهرها عشرة دنانير وستين درهماً، وخماراً، ودرعاً، وإزاراً، وملحفةً، وخمسين مداً من طعام، وثلاثين صاعاً من تمر، ودخل عليها منها شيء، قال: لا والله يا رسول الله، وما رأت منها إلا خيراً، ولكنها تتعظم علي لشرفها، وتؤذيني بلسانها، فقال له رسول الله، أمسك عليك زوجك، واتق الله، ثم طلقها زيدٌ فنزل جبرائيل بقوله تعالى: (وإذْ تقولُ للذي أنعم اللهُ عليهِ) بالإسلام، و (أنعمتَ عليهِ) بالعتق (أمسكْ عليك زوجكَ واتقِ الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه) إلى (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكهما) فتزوجها صلى الله عليه وسلم سنة خمس وأولم عليها بشاةٍ، وقال انس رضي الله عنه كانت زينب تفخر على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبعه سماوتٍ، وقال أيضاً: ما أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه، وقالت عائشة رضي الله عنها: كانت زينب هي التي تساميني من أزواج النبي، فعصمها الله بالورع ولم أر امرأة أكثر خيراً، وصدقة، وأوصل رحماً، وأبذل نفساً، في كل شي تتقرب إلى اله تعالى، من زينب ويروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه "إن زينب أواهةٌ" فقال رجلٌ: ما الأواه يا رسول الله؟ فقال: "الخاشع المتضرع" وقالت عائشة رذي الله عنها: قال صلى الله عليه وسلم يوماً لنسائه: "أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً" قالت: فكنا نتطاول بعده في الحائط، حتى توفيت زينب رضي الله عنها، ولم تكن أطول يداً، فعرفنا أنه أراد بطول اليد الصدفة وكانت تعمل بيدها، أي الدبغ، وتتصدق، وعن برزة بنت رافع قالت: لما جاء العطاء بعث عمر، رضي الله عنه إلى زينب بالذي لها، قالت: غفر الله لعمر غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني، قالوا: هذا كله لك؟ قالت: سبحان الله، واستمرت دونه بثوبٍ، وقالت: صبوه واطرحوه عليه ثوباً ففعلوا فقالت: ادخلي يدك واقبضي قبضة لآل فلان فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقلت: غفر الله لك، ولقد كان لنا حظٌ في هذا المال، قالت: فلكم ما تحت الثوب فعرفناه فوجدناه خمس وثمانين درهماً ثم رفعت يدها فقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت في عامها، ولما تزوج صلى الله عليه وسلم بزينب، قال المنافقون: تزوج محمد زوجة ابنه، فأنزل الله قوله تعالى: (ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم) وقيل: قوله تعالى: (ادعوهمْ لآبائهم..) فكان يقولون زيد بن حارقة، كذا في السيرة وقال النووي: أجع أهل السير على أن زينب أول من مات من نسائه، صلى الله عليه وسلم وقيل: إن سودة ماتت قبلها وذكر في الكتاب "الدر المكنون": كانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول: أنا خيرهن منكحاً، وأكرمهن سفيراً، زوجني الله من فوق سبع سماوات وكان السفير بذلك جبرائيل، وأنا ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم وليس من نسائه قريبة غيري، وذكر الفقيه أبو الليث في كتابه "البستان" إن زينب بنت جحش كانت امرأة [زيد] ابن حارثة ويقال لها: أم المساكين لسخاوتها، وهي أول

[32] أم المؤمنين صفية رضي الله عنها

من مات من نسائه صلى الله عليه وسلم بعده، وتوفيت زينب رضي لله عنها سنة عشرين عام فتحت مصر، وقيل: سنة إحدى وعشرين ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة، وقيل: إنها غير أم المساكين كما مر، والله أعلم. [32] أم المؤمنين صفية رضي الله عنها بنت حيي بن أخطب سيد بن النضير، قتله النبي صلى الله عليه وسلم مع بني قريظة، وسبى صفية يوم خيبر، وكانت عند إسلام بن مشكم، وكان شاعراً ثم خلف عليها كنانة بن [الربيع بن] أبي الحقيق، وكان أيضاً شاعراً، وكان، اسمها زينب فلما تزوجها صلى الله عليه وسلم سماها صفية، ولما توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح خيبر فابتدأ بحصون النطاة، وفتح منها حصن ناعم ثم حصن الصعب، وثم حصن قلة ثم حصن القموص ومنه سبيت صفية ثم حصن الوطيح، وثم حصن السالم، ولما جمع السبي جاء دحية الله عنه فقال: أعطني جارية من السبي: فقال له صلى الله عليه وسلم "اذهب فخذ جارية" فذهب وأخذ صفية، فقيل: يا رسول الله إنها سيدة قريظة والنضير فما تصلح إلا لك! فقال صلى الله عليه وسلم خذ غيرها، واصطفاها صلى الله عليه وسلم لنفسه، ثم أعتقها، وجعل عتقها صداقها، وحجبا وألم عليها بتمر وسويق وقسم لها وصارت إحدى أمهات المؤمنين، وذلك في سنة سبع وذكر في "شرح ذات الشفاء" أنه صلى الله عليه وسلم دخل يوماً على صفية وهي تبكي فقال: مالك؟ قالت: عائشة وحفصة تنالان منين وتقولان: نحن خير منك، نحن بنات عم رسول الله وأزواجه، فقال لها: "ألا قلت لهما كيف تكن خيراً مني وأبي هارون وعمي موسى ووجي محمد" وكانت رضي الله عنها عاقلة، فاضلة، حليمة، وذكر في المصابيح قال أنس رضي الله قد بلغ صفية أن حفصة، رضي الله عنها قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبكي فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنك لابنة نبي أي إسحاق عليه السلام وإن عملك لنبي يعني إسماعيل عليه السلام وإنك لتحت نبي فبم تفخر عليك" ثم قال: اتقي الله يا حفصة. ومن كمال فضلها ما ذكره أهل السير، أن جارية لها جاءت لعمر، رضي الله عنه، فقالت: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود، فبعث إليها عمر رضي الله عنها فسألها، فقالت: أما السبت فإني لا أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت، قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة، وعن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصفية يوم خيبر وقد قتل أبوها وزوجها، فقال لبلال: خذ بيد صفية فأخذ بيدها بين القتلى، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤى في وجهه، ثم قام فدخل عليها فنزعت شيئاً تحتها فألقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفاها صلى الله عليه وسلم لنفسه فأسلمت وأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، وذكر في "شرح ذات الشفاء" ن صفية رضي الله عنها كان اسمها زينب، فلما صارت من صفي رسول اله سميت صفية، والصفي ما كان يصطفيه لنفسه صلى الله عليه وسلم من الغنيمة قبل أن تقسم ويروى أنه صلى الله عليه وسلم رأى في وجهها أثراً فسألها عنه، فقالت: رأيت أن القمر دفع في حجري، فذكرت لأبي أو لزوجي كنانة، فضرب وجهي ضربة أثرت فيه ذلك الأثر، وقال: لتمدن عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب. وتوفيت صفية رضي الله عنها في شهر رمضان سنة خمس وخمسين، أو اثنتين وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنه ودفنت بالبقيع، وتركت مالاً قيمته ألف درهم من أرض وعرض، وأوصت لابن أختها، وقيل: ابن أخيها، وكان يهودياً، بثلاثين ألفاً أو بثلث ما تركت. [33] أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها

[34] أم المؤمنين ميمونة

اسمها برة بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقي، تزوجها صلى الله عليه وسلم سنة ست وقيل: سنة خمس، وكانت قبله عند مسافع بن صفوان المصطلقي، فسباها صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبته على نفسها، فأدى صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها وذكر في كتاب "الدر المكنون" أن غزوة بني المصطلق كانت سنة ست، وممن سبي منهم: برة بنت الحارث فوقعت في سهم ثابت، فطلب منها الفدية تسع أواقٍ من الذهب، فجاءت برة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إني أسلمت، وإن برة بنت الحارث سيد قومه، وكاتبني ثابت على ما لا أطيقه، وإني رجوتك فأعني، فقال لها: أو خير من ذلك؟ قالت: ما هو؟ قال: أودي عنك كابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثابت فطلبها منه، فقال: وهي لك يا رسول الله، فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان كاتبها عليه وتزوجها صلى الله عليه وسلم وهي بنت عشرين، وسماها جويرية وذكر في "شرح ذات الشقاء" قالت عائشة رضي الله عنها: كانت جويرية عليها ملاحة وحلاوة ولا يكاد يراها أحد إلا أحبها ووقعت فينفسه، فأتت رسول الله تسعينه فيكاتبها، فوالله ما هو إلا أن رايتها على باب الحجرة فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت. فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي وجئتك أستعينك! فقال لها: "فهل لك في خير من ذلك" قالت: وما هو يا رسول الله، قال: "أقضي كنابك وأتزوجك" قالت: نعم، قال: "قد فعلت" وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: صهراء رسول الله يسترقون؟ فأعتقوا ما بأيديهم من سبايا بني المصطلق فلا يعلم امرأة كانت أعظم بركة منها على قومها، وروي عنها أنها قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتنا اسبح ثم انطلق لحاجته ورجع قريباً من نصف النهار فقال: "ما زلت على الحالة التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم، فقال: ألا أعلمك كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتن، سبحان الله وبحمده عدد خلقه، وسبحان الله وبحمده رضا نفسه، سبحان الله وبحمده زنة عرشه، وسبحان الله وبحمده مداد كلماته، ثلاث مرات" أخرجه مسلم، وتوفيت جويرية رضي الله عنها سنة خمسين، وهي بنت ست وستين سنة، وقيل: ماتت سنة ست وخمسين، وقد بلغت سبعين، وقيل: خمس وستين، وروي: أنه اشتراها من ثابت وأعتقها وتزوجها، وأصدقها أربعمائة درهم. [34] أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن من بني هلال، وذكر في "شرح ذات لشفاء": قال أبو عبيدة ري الله عنه: لما فرغ صلى الله عليه وسلم من خيبر توجه إلى مكة معتمراً سنة سبع، وقدم عليه م الحبشة جعفر رضي الله عنه فبعثه إلى ميمونة فخطبها فجعلت أمرها إلى العباس رضي الله عنه فزوجها برسول الله صلى الله عليه وسلم ونى بها بسرف وقيل: إنها بلغها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لها وهي على بعير فقالت: البعير وما عليه لله ورسوله، فأنزل الله (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وقيل: إن التي وهبت تنفسها للنبي أم شريك غزية بنت دودان، والصحيح أنه لم يدخلا بها. وذكر في "المعالم" في تفسير قوله تعالى: (وامرأة مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي) قال الشعبي: هي أم المساكين زينب بنت خزيمة الهلالية، وقال قتادة: وهي ميمونة بنت الحارث، وقال الضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر من بني أسد، وقال عروة بن الزبير: هي خولة بنت حكيم. وتوفيت ميمونة سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ست وستين، وصلى عليها ابن عباس رضي الله عنهما ابن أختهما لبابة الكبرى أم الفضل، والله أعلم. [35] أم المؤمنين زينب رضي الله عنها

أم المساكين بنت خزيمة القيسية الهلالية تزوجها صلى الله عليه وسلم على رأس واحد وثلاثين شهراً من الهجرة قبل غزو أحد بشهر، وكانت تحت الطفيل بن الحارث، فطلقها فتزوجها أخوه عبيدة، فقتل يوم بدر شهيداً، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أمرها إليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدها اثنتي عشرة أوقية، وقيل في رواية: إنها كانت تحت عبد الله بن جحش، فقتل عنها يوم أحد فتزوجها صلى الله عليه وسلم هكذا في ذكر المواهب وهو الأصح، وكذا في السيرة الحلبية وهي أخت ميمونة رضي الله عنها لأمها مكثت عنده صلى الله عليه وسلم ثمانية اشهر وقيل شهرين: [وتوفيت] وقيل: ثلاثة، وذكر في "الحلبية" إنها سميت أم المساكين لأنها كانت تلاحظهم وتعط عليهم الإحسان والصدقة. وذك في المعالم في تفسير قوله تعالى: (وامرأةً مؤمنةً إنْ وهبتْ نفسها للنبي) قال الشعبي: هي أم المساكين زينب بنت خزيمة الهلالية وتوفيت رضي الله عنها في السنة الثالثة من الهجرة، وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنها بالبقيع وقد بلغت ن العمر ثلاثين سنة والله أعلم. وذكر في "شرح ذات الشفاء" إن هؤلاء الإحدى عشرة بن خديجة رضي الله عنها إلى أم المساكين اللائي دخل بهن صلى الله عليه وسلم اتفاقاً. قال الحلبي: الحاصل أن جملة من خطبهن من النساء ثلاثون امرأة، منهن من لم يعقد عليها، ومنهن من عقد عليها، ومنهن من دخل بها، ومنهن من لم يدخل بها واللائي دخل بهن اثنتي عشرة بخلاف ما تقدم، قال صلى الله عليه وسلم "ما تزوجت شيئاً من نسائي ولا زوجت شيئاً من بناتي إلا جاءني [به] جبرائيل ربي عز وجل". وممن تزوج بهن: ليلى بنت الخطيم، الأنصارية فضربت ظهره، فقال لها: "أكلك الأسود" ثم قالت: أقلني فأقالها: فأكلها الذئب. وخطب صلى الله عليه وسلم أم هانئ بنت أبي طالب فاعتذرت بأن لها أولاداً صغاراً يشغلونها عنه فعذرها. وخطب امرأة من بني مرة فقال أبوها: إن بها برصاً، فلما رجع أبوها إلى البيت صارت برصاء. وخطب أخرى فقال أبوها يصفها بصحة المزاج: إنه لم تمرض، فقال: لها عند الله من خير، وأمسك عنها، وقيل: تزوجها ثم طلقها لما وصفها أبوها. وممن اختلف فيهن، أمية بنت النعمان: علمها نساؤه صلى الله عليه وسلم أن تقول إذا دنا منها: أعوذ بالله منك، ففعلت فألحقها بأهلها، وقتيلة بنت قيس الكندي: زوجها إياه أخوها وحملها إلى حضرموت فمات قبل قدومها عليه، وأوصى بأن تخير فإن شاءت ضرب علها الحجاب، وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فتنكح من شاءت، فاختارت الفراق فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر، فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها، فقال عمر رضي الله عنه: ما هي من أمهات المؤمنين، ودا دخل عليها رسول الله ولا ضرب عليها الحجاب. مليكة بنت كعب الليثية: قيل: دخل بها صلى الله عليه وسلم، وماتت عنده، وقيل: هي المتعوذة وقيل: هي التي قال لها: هبي لي نفسك، فقالت ما قالت. وعمرة بنت يزيد: تزوجها فلما دخل عليها رأى بها بياضاً، فقال: (دلستم علي، وردها إلى أهلها) . والعالية بنت ظبيان مكثت عنده ثم طقها. وإساف بنت خليفة: أخت دحية الكلبي، ماتت من الفرح لما علمت أنه تزوجها. وأسماء بنت الصلت: أيضاً ماتت من الفرح لما علمت أنه تزوجها. وأسماء بنت النعمان: دعاها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ائت أنت، وأبت المجيء، وقيل إنه قال لها: هيئي لي نفسك، فقالت: تهيئ الملكة نفسها للسوقة؟ فأهوى بيده إليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: (عذت بمعاذٍ) فألحقها بأهلها. وخولة أم شريك بنت الهذيل، وقيل: بنت حكيم التي قيل فيها إنها وهبت نفسها للنبي، قال في (المعالم) قال عروة بن الزبير: وهبت نفسها للنبي خولة بنت حكيم وفاطمة بنت الضحاك الكلابي: تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد وفاة بنته زينب وخيرها لما نزلت آية التخيير فخسرت واختارت الدنيا على الآخرة ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول: أنا الشقية اخترت الدنيا على الآخرة.

[36] مارية القبطية رضي الله عنها

وريحانه بنت عمرو: وهو شمعون مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من المدخول بهن، وكانت قبله عند رجل من قريظة، وهي نضرية، وقيل: قريظة اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وأعتقها وتزوجها صلى الله عليه وسلم فاختارت أن تكون رقيقة له، فكانت مع السراري، والصحيح الأول فتكون [تمام] الاثنتي عشرة التي دخل بهن، صلى الله عليه وسلم وماتت مرجعه من حجة الوداع في السنة العاشرة، وهكذا وجدنا في كتب السير، والله أعلم. [36] مارية القبطية رضي الله عنها بنت شمعون أهدها المقوقس وملك القبط إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أختها سيرين، وأرسل معها البغلة التي كان يركبها، وسماها دلدل، وغلاماً اسمه مأبور، وعسلاً، وذلك لفي سنة سبع، فوهب سيرين لحسان بن ثابت، وهي أم عبد الرحمن، واصطفى لنفسه مارية ودخل بها، وأقامت عنده فولدت له إبراهيم عليه السلام في السنة الثامنة، وكان مولد إبراهيم عليه السلام في العالية وعق عنه النبي بكبشين يوم سابعه، وسماه، وتصدق شعره ورقاً على المساكين بعد حلقه، ثم دفن شعره في الأرض، قد دفعه إلى امرأة يقال لها أم سيف زوجها قين بالمدينة يسمى أبو يف، وذكر في "شرح ذات الشفاء": قال أنس: ري الله عنه: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم ولد الليلة لي غلام فسمته باسم أبي إبراهيم، قال أنس: ذلك حين بلغه أن إبراهيم عليه السلام مريض، فانطلق رسول الله، وانطلقت معه فصادفنا أبا سيف ينفخ [في] كير، وقد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت في المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا أبا سيف أمسك، جاء رسول [صلى الله عليه وسلم فأمسك] فدعا رسول الله بالصبي فضمه إليه وقال: "ما شاء الله، إن يقول قال" قال: فلقد رايته يكيد بنفسه فدمعت عينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزنون". وتوفي إبراهيم عليه السلام يوم الثلاثاء لعشر خلت من ربيع الأول سنة عشر، وعمره ثمانية عشر شهراً، وذكر أهل التاريخ: أن الشمس كسفت يوم موت إبراهيم، فقيل: كفت الشمس لموت إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تكسف لموت أحدٍ، إنما هي آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وأراد بهما خسوف القمر وكسوف الشمس وقال ابن السكيت: مارية بن رقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة من آل مزيقياء وابنة الحارث الأعرج المعني بقول حسان بن ثابت رضي الله عنه شعراً: أولادُ جفنةَ حول قبرِ أبيهم ... قبرَ ابن مارية الكريمِ المفضلِ وذكر في "شرح ذات الشفاء" عن سيرين قالت: لما نزل بإبراهيم الموت صرت كلما صحت أنا وأختي مارية، ينهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصياح، وقيل: إنه لما بكى النبي، صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر وعمر: أنت أحق من عم الله حقه. فقال: "تدمع العين ويحزن القلب" الحديث، وقال له: عبد الرحمن بن عوف: أو لم نهيت عن البكاء؟ قال: (لا ولكني نهيت عن صوتين أحمقين: صوت عند مصيبة، وصوت عند نغمة لهوٍ، وهذه نغمة من لا يرحم، ولا يرحم) . ويرى أن أسامة صرخ فنهان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رايتك تبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البكاء من الرحمة، والصراخ من الشيطان" وقيل: لما مات إبراهيم كان صلى الله عليه وسلم مستقبلاً للجبل، فقال: "يا جبل لو كان بك مثل ما بي [لهدك] ولكن إنا لله إنا إليه راجعون".

[37] زينب رضي الله عنها

وذكر في (السيرة) : لما مات إبراهيم غسله الفضل بن العباس، ونزل على قبره هو وأسامة، وجلس صلى الله عليه وسلم على شفير القبر، ورش على قبره ماء، وعلم على قبره بعلامة وخبر لم يصل عليه منكر بنص الإمام أحمد، والصحيح انه صلى عليه وكسفت الشمس يوم موته فقال قائل: كسفت له، فقال صلى الله عليه وسلم: "ولا تكسف لموت أحد ولا لحياته" وقال صلى الله عليه وسلم عند دفنه: الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون، وروي أنه، قال: لو عاش إبراهيم لوضعت عنه ف أن يضع الجزية عن أهل بلدة مارية، وهي مدينة حفنة، من قرى الصعيد، فعل معاوية رعاية لحرمتهم، وذكر في (شرح ذات الشفاء) : أنه كان صلى الله عليه وسلم معجباً بمارية لأنها كانت بيضاء جميلة، وغارت نساؤه، ومنها لما جاءت بإبراهيم عليه السلام، وكان معها ابن عمها يقال له مأبور كان محبوباً وكان يأتي إليها فاتهمها به المنافقون، فأمر صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه بقتل مأبور، وأمر مر رضي الله عنه وبعثه ليقتله، فكشف مأبور نفسه فإذا هو محبوب. ونزل جبرائيل عليه السلام ببراءتها ونزاهتها، وبشره بإبراهيم، وأمره عن ربه تعالى بتسميته بإبراهيم، ومأبور مات نصراناً وقيل: أسلم. وتوفيت مارية في خلافة عمر سنة ست عشرة، وشهد عمر جنازتها وصلى عليها، ودفنت بالبقع. [37] زينب رضي الله عنها بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمها خديجة الكبرى، وهي ثاني أولاده صلى الله عليه وسلم ولدت بعد القاسم عليه السلام مولدها سنة ثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم زوجها قبل البعثة لأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس فلما بعث صلى الله عليه وسلم كلفه قومه فراقها فأبى، وكان يحبها ويحسن إليها، وقد أثنى عليه النبي، صلى لله تعالى عليه وسلم فقال: "إن أبا العاص حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي" وولت له زينب رضي الله عنها، علياً وأمامة وهي التي كان يحملها صلى الله تعالى عليه وسلم، في صلاته ثم خرجت زينب من مكة مهاجرة إلى المدينة لما امتنع زوجها من المهاجرة، وأرسل معها ابن عمه كنانة بن عدي إلى المدينة، فعرض لهم رجال من قريش وهي راكبة على ناقتها، فخوفوها ودفعوها على صخرة، فوقعت زينب رضي الله تعالى عنها واهراقت الدماء، وتمرضت وقدمت إلى المدينة ولم يزل بها مرضها إلى أن ماتت وثم قدم زوجها ابن العاص وأسلم فردها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بالنكاح السابق في أصح الروايات، وقيل: بنكاح جيد، وكان صلى اله تعالى عليه وسلم يردف ولدها علياً خلفه يوم الفتح، وتزوج علي رضي الله تعالى عنه بنتها أمامة بعد خالتها فاطمة رضي الله تعالى عنها، وقتل عنها فتزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب. وذكر العلامة سعدي جلبي، أنه أجمع أهل السير على أن أولاده: القاسم، ثم زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم، ثم ولد في الإسلام عبد الله فسمي الطيب الطاهر وكلهم من خديجة، رضي الله تعالى عنها، ثم ولد إبراهيم من مارية وقد نظموه: فأولَّ ولدِ المصطفى القاسمُ الرضا ... بهِ كنبةُ فافهمْ وحصلا وزينب تتلوهُ، ورقيةُ بعدها ... وفاطمةُ الزهراءُ جاءتْ على الولاَ كذا أمُّ كلثومٍ تعددَ بعدها ... في الإسلامِ عبدُ اللهِ جاءَ مكملاً هو الطَّيبُ الميمون والطاهرُ الرضي ... وقد جاء إبراهيم في طيبةَ تلا من المرأةِ الحسناءِ مارية فقلْ ... عليهم سلامُ الله مسكاً ومندلاً وتوفيت زينب رضي الله تعالى عنها، في المدينة سنة ثمان ودفنت بالبقيع. [38] رقية رضي الله تعالى عنها

[39] فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها

بنت النبي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولدت سنة ثلاثة وثلاثين من مولده صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك بعد زينب، رضي الله تعالى عنها، بثلاث سني، وزوجها صلى الله تعالى ليه وسلم عتبة بن أبي لهب، وأقامت عنده إلى أن نزلت: (تبتْ بدا أبي لهبٍ) فقال أبو لهب لوالده عتبة: يهجوني محمد وابنته عندك؟ رأسي من رأسك حرامٌ إن لم تفارق ابنة محمد، ففارقها فزوجها صلى الله تعالى عليه وسلم لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فهاجر بها إلى الحبشة وكانت بارعة الجمال، قيل: إن فتياناً من الحبشة تعرضوا لها لينظروا إليها، ويبصروا جمالها، فأذاها ذلك، فدعت عليهم، فهلكوا جميعاً من يومهم، ولدت رقية لعثمان، رضي الله تعالى نه عبد الله وبه كنى، وعاش عبد اله ستة أعوام، ثم نقر ديك عينة فتورمت ومات في جمادى الأولى، سنة أربع بعد موت أمه بعامين، وصلى عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولما عاد عثمان رضي الله تعالى عنه من الحبشة ومعه زوجته رقية قدم إلى مكة، ثم هاجر بها إلى المدينة ولما خرج صلى الله تعالى عليه وسلم لغزوة بدرٍ سنة اثنتين كانت رقية قد تمرضت بالحصبة، فتخلف عثمان رضي الله عنه عن الجهاد بأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليمرضها، فماتت قبل مجيء زيد بن حارثة تبشيراً بقتلى بدر فهم في دفنها ووصل زي بالبشارة في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وذكر في البستان أن رقية ماتت بعد ما خرج صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر، ولما عاد صلى الله تعالى عليه وسلم، وجدها ميتة فزوج عثمان أختها أم كلثوم رضي الله تعالى عنها. [39] فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها بنت النبي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولدت سنة إحدى وأربعين من مولده صلى الله تعالى عليه وسلم وصحح ابن عبد البر، وصاحب التبيين كونها اصغر من أم كلثوم، وكون أم كلثوم أصغر من رقية، وهي أفضل بناته وسيدة نساء العالمين، زوجها صلى الله تعالى عليه وسلم علياً رضي الله تعالى عنه بعد وقعة أحدٍ، وقيل: بعد أن ابتنى بعائشة رضي الله تعالى عنها بأربعة أشهر ونصف، وكان عمرها خمس عشرة سنة وخمسة اشهر ونصف، وسن علي ورضي الله عنه إحدى وعشرين سنة وخمس اشهر، وأصدقها درعه، وقيل: أربعمائة وثمانين درهماً، فأمره [صلى الله عليه وسلم] أن يجعل ثلثها في الطيب، فولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب، ولم يتزوج غيرها علي، رضي الله عنه حتى ماتت. وذكر في بعض الكتب، يقال لفاطمة الزهراء: بتولة، أي منقطعة عن حب الدنيا، وقيل: عن الحيض أصلاً، كذا نقله كردي وذكر في شرح الجوهرة: صح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أفضل نساء الجنة: خديجة وفاطمة ومريم وآسية، وفي المعالم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون". وذكر في سيرة العراقي، قال الحافظ السيوطي في الخصائص: ذكر الإمام علم الدين العراقي، أن فاطمة رضي الله تعالى عنها وأخاها إبراهيم أفضل من الخلفاء الأربعة باتفاق، ونقل عن مالك، أنه قال: لا أفضل على بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعارض ما ذكره في شرح الجوهرة: أفضل الناس بعد الأنبياء أبو بكر رضي الله عنه فهو الأفضل من فاطمة وأمها لا من حيث البضيعة، فيكون أفضل من مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم لأن فاطمة رضي الله تعالى عنها أفضل منهما ومن الخضر وإسكندر على القول بولايتهما لا على القول بنبؤتهما وهو الحق. وذكر في شرح ذات الشفاء عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة رضي الله عنها قالت: أسر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: "إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن كل سنة مرة، وإنه العام عارضني مرتين ولا أدري إلا أنه قد حضر جلي وأنك أول هل بيتي لحوقاً بي، ونعم السلف أنا لك"، قالت: فبكيت، فقال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة، أو نساء العالمين، فضحكت. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما رأيت أحداً كان أشبه برسول الله كلاماً وحديثاً من فاطمة رضي الله تعالى عنها وكانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبلها، ورحب بها كما كانت تصنع هي به.

[40] أم كلثوم رضي اله عنها

وذكر في المصابيح روى عن أم سلمة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة عام الفتح فناجاها فبكت ثم حدثها فضحكت، فلما توفي صلى الله عليه وسلم سألتها عن بكائها وضحكها؟ قالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بت عمرنا فضحكت. ولما توفي صلى الله تعالى عليه وسلم وبويع بالخلافة أبو بكر رضي الله عنه في السنة الحادية عشرة، جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى أبي بكر تطلب إرثها مما أعطاها الأنصار له صلى الله تعالى عليه وسلم من أرضهم وما أوصى به إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو وصية مخيريق عند إسلامه، وهو سبعة حوائط بني النضير، وهو أول من وقف في الإسلام، ومما أفاء الله على رسوله من أرض بني النضير وفدك، ونصيبه من خيبر وما حصن الوطيح، وحصن السلالم، فقال لها أبو بكر: لست بالذي أقسم من ذلك شيئاً، ولست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به فيها إلا عمته، وأخشى إن تركت أمره أو شيئاً من أمره أن أزيغ، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" ولكن أعول من كان رسول الله يعوله، وأنفق على من كان ينفق عليه، وكذلك منه أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم لما جئن يطلبن ثمنهن. وذكر في (شرح ذات الشفاء) قال: وإنما قال لفاطمة رضي الله عنها الزهراء لطهارتها ووضاءتها، والبتول لانقطاعها إلى الله، أو لانقطاعها بالفضل عن الناس، أو لأنها لم تحض قط. وتوفيت فاطمة، رضي الله عنها، بعد أبيها، صلى الله عليه وسلم بستة اشهر، وقال ابن شهاب: بثلاثة اشهر، وقال عمرو بن دينار: بثمانية اشهر، وقال ابن بريدة: بسبعين يوماً، وقيل: بخمس وسبعين ليلةً وقيل: بستة أشهر إلا يومين، وقيل: بمائة يوم، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث خلت من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وغسلها علي رضي الله عنه وأسماء بنت عميس وصلى عليها علي رضي الله عنها وقيل: العباس، ودخل قبرها العباس وعلي والفضيل. وذكر في التبيين: أنها ولدت ثالثاً غير الحسن والحسين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم محسناً. ولما احتضرت قالت لأسماء بنت عميس: إني أستقبح ما يصنع بالنساء يوضع عليها الثوب فيصفها، فأرتها أسماء نعشاً من جرائد كالهودج تصنعه الحبشة فاستحسنته، وأمرت أن تحمل به، وأرادت عائشة رضي الله عنها، أن تدخل عليها وهي تغسلها مع علي رضي لله عنه فقالت لها أسماء: لا تدخلي، فششتها إلى أبيها الصديق رضي الله عنه فاعتذرت إليه بأنها أوصت أن لا يدخل عليها أحد. وكان عمرها ثلاثين سنة، وقال الكلبي: خمساً وثلاثين فأنكره عبد اله بن الحسن رضي الله تعالى عنه. [40] أم كلثوم رضي اله عنها بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت عند عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت (تبت يدا أبي لهب..) قال أبوه: رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق بنت محمد، فطلقها اصغر من فاطمة رضي الله عنها، وقال مصعب: هي أكبر من رقية، وخالفه أهل الأنساب، تزوجها عثمان بن عفان بعد وفاة رقية سنة ثلاثة من الهجرة، وكان ذلك بعد ما عرض عمر رضي الله عنه حفصة على عثمان وسكت لأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أدل عثمان على من هي خير من حفصة، وأدلها على من هو خير من عثمان" ثم زوج أم كلثوم رضي الله عنها من عثمان وتزوج صلى الله عليه وسلم حفصة، كذا ذكره في الاستيعاب وعقد عثمان، رضي الله عنه على أم كلثوم في سنة الثالثة في ربيع الأول، وبنى بها في جمادى الآخرة.

[41] أم معبد عاتكة بنت خالد الخزاعية

وتوفيت أم كلثوم سنة تسع من الهجرة في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم، وصلى عليها رسول الله ونزل [في] حفرتها علي رضي الله عنه وأسامة بن زيد رضي الله عنه، وذكر في شرح ذات الشفاء: أنا أبا طلحة الأنصاري استأذن قال لأصحابه: "هل منكم أحد لم يقارف ذنباً؟ " فقال أبو طلحة: أنا فأمره فنزل لحفرتها، وغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وشهدت أم عطية وحكت قوله صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن " قالت ليلى الثقفية: كنت فيمن غسلنها، فأول ما أعطانا النبي من كفنها الحقو، أي الإزار، ثم الدرع، ثم الخمار ثم الملحة، ثم أدرجت في الثوب الأكبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الباب يناولنا. وذكر في التبيين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتيبة بن أبي لهب فقال: "سلط الله عليك كلباً من كلابه" فخرج في تجارة إلى الشام، فلما كان في أرض مسبعة تذكر دعاءه، صلى الله عليه وسلم فنضد الحمول ودخل وسطها فإذا بأسد مقبل، فلم يقدر الركب دفعه، ووثب عليه، فافترسه. وذكر في كتاب البستان: لما زوج صلى الله عليه وسلم رقية لعثمان وأقامت عنده إلى أن ماتت فزوجه أم كلثوم، ولهذا سمي ذو النورين. [41] أم معبد عاتكة بنت خالد الخزاعية كانت من الأجواد.. وكانت تطعم وتسقي من يمر بها، ولما هاجر صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وكانت سنة جدبة وكان معه الصديق وعامر بن فهيرة، فمروا في طريقهم بقديد على أم معبد، فطلبوا منها لبناً، ولحماً يشترونه فلم يجدوه، فنظر إلى شاةٍ خلفها الجهد عن الغنم فسألها صلى الله عليه وسلم "هل بها من لبنٍ؟ " فقالت: هي أجهد من ذلك، فاستأذنها في حلبها، فقالت: نعم فدعا ومسح ضرعها وسمى بالله تعالى، فدرت وسقى القوم حتى رووا ثم شرب صلى الله عليه وسلم ثم حلب ثانياً عللاً بعد نهل، وتركوها، وذهبوا فجاء زوج أم معبد واسمه أكثم، وقيل: خنيس، وقيل: عبد الله فأخبرته الخير فقال: هذا صاحب قريش لو رايته لأتبعته، وذكر "في شرح ذات الشفاء": روى أو نعيم وغيره أن الشاة بقيت عندهم يحلبونها ليلاً ونهاراً إلى زمان عمر رضي الله عنه وأسلمت أم معبد رضي الله عنها وأخوها حبيش بن الأشعر، واستشهد يوم الفتح: وقيل: إن زوج أم معبد لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه ورجع إلى بيته ولقيهما الزبير رضي الله نه عائداً إلى مكة فكساها ثياباً بيضاء.. توفيت أم معبد في خلافة الفاروق، وفي كلام ابن الجوزي إنها أسلمت وهاجرت وكذا زوجها. [42] هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وهي أم معاوية رضي الله عنها وكانت تعرف بآكلة الأكباد لأنها كانت مع الكفار في وقعة أحد فاجتمعن مع نساء قريش لما التحم القتال فقامت هند في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويقلن: ويهاً [بني] عبدَ الدارِ ... ويهاً حماةِ الأدبارِ ضرباً بكل بتَّارِ وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع ذلك يقول: اللهم بك أحول، وبك أصول، وفيك أقاتل حسبي الله ونعم الوكيل، ولما تل حمزة رضي اله عنه وكسرت رباعيته وشج وجهه، مثلت هند وصاحبها بقتلى المسلمين، فجذعن آنافهم وآذانهم، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند بن حمزة، رضي الله عنه، وأخرجت كبده فمضغته ولفظته، وقيل: إنها شوته وأكلته وكان يقال لها: آكلة الأكباد، ثم أسلمت بعد ذلك، وما كان الله ليعذبا بعد أ، تابت من كفرها، وإن كان ما فعلته عند الله ورسوله عظيم، وأشرفت هند على الجيل، وأنشدت أبياتاً، وكذلك فعل زوجها سفيان أشرف على الجبل ونادى: أنعمت فعال، إن الحرب سجال مرة لنا ومرة علينا، يم أحد ليوم بدر، ثم نادى أبو سفيان: أعل هبل أي اظهر دينك، فقال: صلى الله تعالى عليه وسلم لعمر: قم فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل لا سواء، قتلاناً في الجنة في النار، فقال أبو سفيان: إنكم تزعمون ذلك لقد خبنا إذا وخسرنا، ثم قال: إن لنا العزى ولا عزى لكم فقال: صلى الله عليه وسلم "الله مولانا ولا مولى لكم".

[43] أم حرام رضي الله عنها

ولما سار صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة وقبض على أبي سفيان وآمنه قال: "من دخل دار سفيان فهو آمن، ومن أغلق داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آن، ومن دخل دار حكيم بن حزم فهو آمن". فركض أبو سفيان إلى مكة وهو يصرخ بأعلى صوت يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فأخذت محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فأخذت زوجته هند بلحيته ونادت، يا آل غالب، اقتلوا الشيخ الأحمق، هلا قاتلتم ودافعتم عن أنفسكم؟ فقال لها: ويحك اسكتي، وادخلي بيتك، ودخل صلى الله عليه وسلم إلى مكة وطاف وكسر الأصنام، وجلس عل الصفا يبايع الناس فجاءه الكبار والصغار، والرجال والنساء فبايعوه مسلمين أفواجاً أفواجاً، (إذا جاءَ نصرُ اللهِ والفتحُ، ورأتَ الناسَ يدخلون في دينِ الله أفواجاً) . وذكر في جامع البيان في تفسير القرآن، عن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم لما نزلت (إذا جاءَ نصرُ الله والفتحُ) نعيت إلى نفسي كأني مقبوض في تلك السنة. وفي مسلم والطبراني والنسائي، أنها آخر سورة نزلت من القرآن، وعن البيهقي أنها نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع، فيكون نزولها بعد فتح مكة بسنتين. وبايع صلى الله عليه وسلم النساء من غي مصافحة، وفيهن هند متنقبة متنكرة، فلما [قال] لهن: "ولا تقتلن أولادكن"، قال هند: ربيناهم صغاراً فقتلتهم كباراً فضحك عمر رضي لله عنه حتى استلقى، وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم أو ضحك، ولما أسلمت هند عمدت إلى صنم كان في بيتها وجعلت تضربه بالقدوم وتقول: كنا منك في غرور. وماتت هند في خلافة عمر رضي الله عنه في أواخرها وقيل: في خلافة عثمان رضي الله عنه والله أعلم بذلك. [43] أم حرام رضي الله عنها بنت ملحان بن خالد من بني النجار، وهي خالة أنس بن مالك، وهي زوجة عبادة بن الصامت، وكانت من الصالحات، وكان صلى الله عليه وسلم يزورها ويقيل في بيتها، ونام عندها يوماً، فاستيقظ (وهو) يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله قال: (عرض علي ناس من أمتي يركبون البحر ملوكاً) قالت: فادع الله لي أن أكون منهم؟ فدعا لها، ثم نام ثانياً، واستيقظ (وهو يضحك) وقال ثانياً ما قال أولاً، فسألته أيضاً، أم حرامٍ أن يدعو لها بأن تكون منهم، فقال لها: (أنت من الأولين) ولما ولي الخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه جهز جيشاً مع معاوية رضي الله عنه إلى فتح جزيرة قبرص فخرجت أم حرام مع زوجها عبادة غازية فلما وصلوا إلى جزيرة قبرص وخرجوا إلى البر، وخرجت أم حرام من البحر فقدموا إليها دابة لتركبها فركبت، ولم تستقر حتى صرعتها ووقعت إلى الأرض وماتت ودفنت في جزيرة قبرص رحمة الله تعالى عليها. [44] أم عمارة رضي الله عنها

[45] أسماء رضي الله تعالى عنها

بنت كعب، كانت تحت وهب الأسلمي، فولدت له حبيب، ومات وهب فتزوجها زيد بن عاصم فولدت له عبد الله وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب. في رواية قالت أم عمارة: كان والداي حبيب وعبد الله مع عمرو بن العاص في عمان، فلما عاد بعد وفاة رسول الله اعترضهم مسيلمة فنجا عمرو وقبض عل ولدي حبيب وعبد الله، فقال مسيلمة لحبيب: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا اسمع، فحسب عنده، ثم قال لعبد الله كذلك، وحبسه، ثم قال لحبيب: أتشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم، فأمر به فقطعت أعضاؤه، وأحرق بالنار، ولما جهز الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد بالعساكر لحرب مسيلمة الكذاب خرجت معه أم عمارة، قالت: فلما انتهينا إلى الحديقة بعد قتال شديد، وجهد عظيم، واقتحمنا الحديقة فضاربناهم ساعة وجعلت قصد عدو الله مسيلمة لأن أراه وخرس القوم فلا صوت إلا صوت السيوف حتى بصرت بعدو لله، فشددت عليه، وعرض لي رجل منهم فقطع يدي، فوالله ما عرجت عليها حتى انتهيت إلى الخبيث وه صريع، وأجد ابني عبد الله قد قتله، وفي رواية ابني عبد الله يمسح سيفه بثيابه، فقلت: اقتله؟ قال: نعم يا أماه، فسجدت لله شكراً، وقطع دابر الكافرين، فلما انقضت الحرب، جعت إلى مكاني فجاءني خالد بن الوليد بطيبٍ من العرب فداواني بالزيت المغلي، وكان والله، أشد علي من القطع وكان خالد كثير التعاهد لي، حسن الصحبة، ويعرف حقنا، ويحفظ فينا وصية نبينا صلى الله عليه وسلم. وعن محمد بن يحيى بن حيان قال: جرحت أم عمارة، يومئذٍ اثني عشر جرحاً بين ضربة بسيف أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وقطعت يدها، وكان أبو بكر رضي الله (عنه) يأتيها يسأل عنها. وتوفيت في خلافة عمر رضي الله عنه وقيل: إن قاتل مسيلمة هو وحشي لأنه كان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، يعني حمزة رضي الله عنه وشر الناس في الإسلام، يعني مسيلمة، وقيل: قتلهما بحربة واحدة، وقيل: بل قتله معاوية رضي الله عنه وقيل: أبو دجانة رضي الله عنه. قال في البخاري قال وحشي: خرجت مع الناس فإذا رجل قائم في ثلمة جدار جملاً أورق سافر الرأس فرميته في حربتي، فوضعتها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، ووثب إلى رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته، فقالت جارية على ظهر بيت: واَ أمير المؤمنين قتله العبد الأسود، وفي المنتقى: أشك أن الأنصاري أبو دجانة رضي الله عنه. وكان مسيلمة الكذاب صاحب نيرنجات وكان يدعي النبوة، ويظهر أنه أنزل عليه مثل القرآن ومن خلطه: يا ضفدعُ نقي كمْ تنقينَ ... أعلاكِ في الماءِ وأسفلكِ في الطينِ لا الشربَ تمنعينَ ولا الماءَ تدرينَ ومن آراجيزه، لعنة الله: أخرج لكم حنطة وزوانا، ورطباً وتمراً.. [45] أسماء رضي الله تعالى عنها بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي شقيقة عبد الله بن الصديق، تزوجها الزبير رضي الله عنه فولدت له عبد الله، وكان يقال لها: ذات النطاقين. لقبها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ولدت عروة، رضي الله عنه بن الزبير رضي الله عنه أحد الفقهاء السبعة، قيل: أن أسماء الفقهاء "السبعة" إذا كتبت أسماؤهم، ووضعت في الحبوب منع السوس ببركتهم، وهم: عروة رضي الله عنه وعبيد الله رضي الله عنه وقاسم رضي الله عنه وسعيد رضي الله عنه وأبو بكر رضي الله عنه، وسليمان رضي الله عنه وخارجة رضي الله عنه. وعاشت أسماء رضي الله عنها إلى أن قتل ولدها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وكان كثير العبادة، مكث أربعين سنة لم ينزع الثوب عن ظهره، قتله الخيث الحجاج سنة ثلاث وسبعين، ثم صلب جثته عل عود وبقي أياماً معلقاً، فدخلت أمه أسماء على اللعين الحجاج، فقالت له: أما آن لهذا الركب أن يترجل؟ وقيل: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ فقال الحجاج: دعوها وجيفتها!. ولما رأته معلقاً حاضت ودر ثديها، فقالت: حنت إليه مراتعه ومراضعه. كانت تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثة عبد الله، فلما أنزلوه من الخشبة غسلته بماء زمزم، وكفنته ودفنته وماتت بعده بأيام يسيرة. وكانت قد أسلمت قديماً وتزوجها الزبير، رضي الله تعالى عنه، وهاجر بها إلى المدينة، وهي حامل بعبد الله، فوضعته بقبا، وكف بصرها في آخر عمرها، وكانت مدة عمرها مائة سنة، واله أعلم.

[46] أم كلثوم

[46] أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه أمها حبيبة بنت خارجة بن زيد الأنصاري، وهي أصغر بنات الصديق رضي الله عن توفي أبو بكر وأمها حما بها، فلما كبرت خطبها عمر رضي الله عنه من عائشة رضي الله تعالى عنها فأنعمت له بها، فكرهت أم كلثوم ذلك لخشونة عيشة عمر رضي الله عنه وقالت: أريد فتىً واسع العيش، فتزوجها طلحة رضي الله عنه بعد أن احتالت عائشة رضي الله عنها حتى أمسك عنها عمر رضي الله عنه ثم علم بالحال، فلم يعاتب عائشة، ولم أطلع على عام وفاتها. [47] رقية رضي الله عنها بنت عمر بن الخطاب، أمها أم كلثوم بنت علي رضي الله تعالى عنه، تزوجها إبراهيم بن نعيم بن عبد الله بن النحام، فلم تلد منه، وماتت عنده، ولم تطل مدتها وكانت حسنة في الغاية، ولها خلق حسن، وتوفيت في خلافة أبيها، وقد قاربت العشرين سنة، والله أعلم. [48] زينب الصغرى رضي الله عنها بنت عقيل بن بي طالب، كانت من أهل الفصاحة، ولما قتل الحسين رضي الله عنه قتل معه من آل عقيل تسعة فخرجت زينب رضي الله تعالى عنها تبكي قتلاها، وتنشد وتقول: شعراً ماذا تقولونَ إنْ قالَ النبيَّ لكمْ ... ماذا فعلتمْ وكنتمْ أخيرَ الأمم بأهلِ بيتي وأنصاري وذريتي ... منهمْ أسارى وقتلى ضرَّجوا بدمِ ما كانَ هذا جزائي إذْ نصحتُ لكمْ ... أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمِ [49] أم كلثوم رضي الله عنها بنت علي بن أبي طالب، أمها فاطمة الزهراء، ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عمر رضي الله عنه ثم تزوجها بعده محمد بن جعفر بن أبي طلب، ومات، وتزوجها أخوه عون بن جعفر، فقتل ثم تزوجها عبد الله بن جعفر ري الله عنه فماتت عنده، وتوفيت هي وولها زيد بن عمر رضي الله عنه في يوم واحد، ولم يعلم أيهما مات أولاً، وصلى عليهما عبد الله بن عمر رضي الله عنه قدمه الحسن رضي الله تعالى عنه فكان بهما سنتان لم يورث أحدهما من الآخر، ويروى أن عمر رضي الله عنه لما خطبها من علي رضي الله عنه قال: إنها صغيرة فقال عمر رضي الله عنه: زوجنيها يا أبا الحسن، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد، فقال علي رضي الله عنه: أنا أبعثها إليك فإن أرضيتها فقد زوجتكها، فبعثها إليه بردٍ وقال لها: قولي له: هذا البردُ الذي قلت لك، فقالت لك لعمر رضي الله عنه فقال لها عمر رضي الله عنه: قولي له، قد رضيت رضي الله عنك يده على ساقها وكشفها فقالت: أتفعل هذا؟ لولا أنك أمير المؤمنين، لكسرت أنفك، ثم خرجت وجاءت إلى أبيها وأخبرته، وقالت: بعثتني إلى شيخ سوءٍ: قال: يا بنية إنه زوجك ثم جاء عمر رضي الله عنه إلى مجلس المهاجرين فقال: زفوني قالوا: بماذا؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل سببٍ ونسبٍ وصهرٍ منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري" فكان لي به صلى الله عليه وسلم [السبب] ولنسب وأردت أن أجمع إليه الصهر، فزفوه. وروى أبو نعيم، قال: دخل عمر رضي الله عنه إلى أم كلثوم يوماً، فقال لها: ألا تخرجين فتسلمين على ضيفك، فقالت: وهل تركتنا نستطيع أن نبرز لأحد ن العري؟ فقال: وما يكفيك أن تقول الناس امرأة أمير المؤمنين. [50] أم هانئ بنت أبي طالب، أخت علي عليه السلام لأبويه، كانت تحت هبيرة، فولدت له: هانئ وعمرو ويوسف وجعدة، أسلمت عام الفتح، وهرب زوجها إلى نجران، وأتت هي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني قد أجرت حموين لي فزعم ابني أنه قاتلهما، فقال صلى الله عليه وسلم: "وقد أجرنا من أجرت، وآمنا من أمنت". وهي التي روت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ثماني ركعات في ذلك اليوم، وقيل: هند ولما هرب زوجها هبيرة أنشد: وشاقكَ هندٌ أمْ نآك سؤالها ... كذاكَ النوى أسبابها وانفتالُها وقدْ أرقتُ في رأسِ حصنٍ ممردٍ ... بنجران يسرى بعدَ يومِ خيالُها فإنْ كنتِ قد تابعت دين محمد ... وقطعتِ الأرحام مني حبالُها فكوني على أعلى سحيقٍ بهضبةٍ ... ممنعةٍ لا يستطاعُ قلالُها وإنَّ كلام المرءِ في غير كنيةٍ ... لكالنبلِ تهوي ليس فيها نصالها

[51] جمانة بت أبي طالب

[51] جمانة بت أبي طالب أسلمت وأعطاها صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ثلاثين وسقاً، وأمها فاطمة بنت أسد. [52] ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها بن عبد المطلب، تزوجها المقداد، فولدت له عبد لله وكريمة، وقتل عبد الله [وكان] مع عائشة يوم الجمل، ودخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي شاكية فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج، وأجدني شاكية، فقال: "حجي واشرطي، إن محلي حيث حسبتني". [53] أم حكيم بنت الزبير ابن عبد المطلب، تزوجها ابن عمها ربيعة بن الحارث روت عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل على ضباعة ونهش عندها كتفها، ثم صلى وما توضأ، وهي أخته صلى الله عليه وسلم من الرضاع. [54] درة بنت أبي لهب تزوجها [ابن] بن عمها الحرث بن نوفل بن عبد المطلب، فولدت له: عقبة والوليد وأبا مسلم، روت عنه صلى الله عليه وسلم قالت: قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل، قال: "أتقاهم [لله] وأمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم". روت عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يؤذي حيٍّ بميتٍ". [55] أمامة بنت حمزة رضي الله عنها قيل: اسمها أمة الله، أمها سلمى بنت عميس، ولما دخل صلى الله عليه وسلم مكة على عهد [بنيه] وبين أهل مكة، فلما خرج قعدت أمامة على الطريق، فمر صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إلى من تدعني؟ فمضى ولم يلتفت، ومر الناس فنادتهم فلم يلتفتوا إليها، فمر علي رضي الله عنه فقالت: يا علي إلى من تدعني؟ فمال إليها، فقال: ناوليني يدك فحملها فلما استقر بهم المنزل [اختلف] فيها علي رضي الله عنه وجعفر رضي الله عنه وزيد رضي اله عنه فقال جعفر: أنا أحق وقال علي رضي الله عنه: أنا أحق، وقال زيد: ابنة أخي وأنا أحق بها، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا علي أنت مني وأنا منك، ويا جعفر أشبهت خلْقي وخلُقي، وأما أنت يا زيد فمولاي ومولاها، وخالتها أحق بها"، وكانت خالتها عند جعفر رضي الله [عنه] وهي أسماء بنت عميس، وزوجها صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، وهلك قبل اجتماعهما. [56] أم الفضل بنت حمزة روى عنها عبد الله بن شداد قال: قالت توفي مولى لنا وترك ابنةً وأختاً فأتيا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطى البنت النصف، وأعطى للأخت النصف. وعنه قال: هلك مولى لبنت حمزة رضي الله عنه وترك بنتاً ومولاته، فأعطى صلى الله عليه وسلم ابنته النصف وأعطى الباقي لبنت حمزة رضي الله عنه. [57] فاطمة بنت حمزة رضي الله عنها عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بحلة مشيرة، وقال: "شققها حمراً بين الفواطم" قال: فشققت منها ثلاثة أخمرة، خماراً لفاطمة بنت أسد أمه، وخمار لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وخماراً لفاطمة بنت حمزة رضي الله عنه. [58] أم حبيبة بنت العباس رضي الله عنها أمها أم الفضل، روت أم الفضل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ""لو بلغت أم حبيبة بنت العباس وأنا حي لتزوجتها وتزوجها الأسود بن سفيان. [59] عائشة بنت معاوية ابن المغيرة بن أبي العاص، وهي أم عبد لملك بن مروان، وأبوها معاوية جدع أنف حمزة، رضي الله عنه وقتله صلى الله عليه وسلم بعد أحد بثلاثة أيام، وذلك أنه ضل ن الطريق، فوجده بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتى به إلى النبي فقتله علي رضي الله عنه. [60] عاتكة بنت أسيد ابن أبي العيص، هي أخت عتاب، لها صحبة أرسل عمر رضي الله عنه إلى الشفاء بنت عبد الله العدوية أن تمر عليه، قالت: فغدوت فوجدت عاتكة ببابه، فدخلنا وتحدثنا، فدعا بمط فأعطاها إياه، ودعا بنمط دونه فأعطانيه، قالت: فقلت: تربت يداك يا عمر، أنا قبلها إسلاماً، وأنا بنت عمك، وأرسلت إلي، وجاءتك من قبل نفسها، فقال: ما كنت رفعت ذاك إلا لك فلما اجتمعتا ذكرت أنها أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منك. [61] أم الحكم بنت أبي سفيان هي أم عبد الرحمن كانت من مسلمات الفتح، وكانت حين نزول قومه تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) تحت عياض بن غنم الفهري، ففارقها وتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي.

[62] عزة بنت أبي سفيان

[62] عزة بنت أبي سفيان روى عن أم حبيبة رضي الله عنها أم المؤمنين أنها قالت: يا رسول الله هل لك في أختي؟ قال: [ما] أصنع بها، قالت: تنكحها، قال: "أتحبين ذلك" قالت: نعم لست بمخلية لك، وأحب من شركتني في خير أختي. [63] أم كلثوم بنت عقبة بن بي معيط، كانت من المهاجرات المبايعات، أسلمت بمكة قبل أن يأخذ النساء في الهجرة، ثم هاجرت وبايعت ومشت من مكة إلى المدينة، وأنزل الله في شأنها قوله تعالى: (يا أيها الذينَ آمنوا إذا جاءكمْ المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحونهنَّ) وذلك أن هجرتها كانت سنة سبع في الهدنة التي كانت بين رسول الله والمشركين، وكانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يرد من جاء مؤمناً، فلحقها أخواها الوليد وعمارة ليرداها فمنعها الله، ونزلت الآية فمنع الله رد النساء، وأذن في نكاحهن فتزوجها زيد بن حارثة فقتل عنها يوم حضر موته فتزوجها الزبير رضي الله عنه فولدت له زينب ثم طلقها، فتزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميداً ومحمداً وإسماعيل، ومات عنها، فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهراً وماتت. وروى عنها ولدها حميد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذَّابَ الذي يقولُ خيراً، وينمى خيراً ليصلح بين النَّاسِ". [64] هند بنت عتبة أم معاوية رضي الله عنه أسلمت يوم الفتح، وبايعت بعد إسلام زوجها أبي سفيان، فأقاما على نكاحهما، ولما أخذ صلى الله عليه وسلم البيعة على النساء، تلا عليهن (ولا يسرقنّ ولا يزنين) قالت هند: وهل تزني الحرة أو تسرق يا رسول الله؟ فلما قال (ولا يقتلن أولادهن) قالت: ربوا أبناءهم صغراً وقتلنهم أنت كباراً. وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكهة بن المغيرة، وكان أحد فرسان قريش [و] كان له مجلس تأتيه ندماؤه، فيدلون من غير استئذان، فدخلته هند يوماً، وليس فيه أحد، ونامت فيه [فأقبل] بعض ندماء الفاكهة ودخل المجلس فرأى هند نائمة، [فرجع هارباًن وأبصره الفاكهة، فأقبل إليها] فقذفها بالرجل، وسرى الأمر، فاتفقوا على أن يتحاكموا إلى كاهن، فحملها أبوها عتبة، وسار معها الفاكهة، فلما قربوا من لكاهن رآها أبوها متغيرة مصفرة فقال لها: يا بنية، مالك مصفرة إن كنت ألممت بذنبٍ فأخبريني حتى أفل، هذا الأمر من قبل أن نفتضح، فقالت: ولله يا أبتي إني لبريئة، ولكن اعلم أن نأتي بشراً يخطئ ويصيب، وأخشى أن يخطئ في فيكون عاراً علينا، فقال أبوها: إني سأختبره. فخبأ له حبة بر في إحليل مهر، فلما أتى الكاهن قال: قد خبأت لك خبياً فما هو؟ قال ثمرة في كمرة، قال: بين؟ قال: حبة بر في إحليل مهر، وأجلسوا هنداً بين النساء ثم سألوا الكاهن، فقام وضرب بيده بين كتفي هند وقال: قومي حصاناً غير زانية، ولتلدين ملكاً يقال معاوية، فوثب الفاكهة فأخذ بيدها وقال: امرأتي! فنزعت يدها منه، وقالت: لأحرصن أن يكون من غيرك، فتزوجها أبو سفيان رضي الله عنه. ويروى: أن رجلاً مر بها وهي ترقص معاوية رضي الله عنه صغيراً فقال: إني أراه يسود قومه! فقالت: ثكلتك أمك إن لم يسد قومه، وتوفيت يوم توفي أبو قحافة رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه. [65] فاطمة بنت عتبة تزوجها عقيل بن أبي طالب، وقالت له: اصبر علي وأنا أنفق عليك، وكانت كبيرة السن، وكان إذا دخل عليها تفتخر وتقول: ابنة عتبة وشيبة، فقالتها فقال لها يوماً: إذا دخلت النار فانظري عن يسارك تجديهما، فغضبت وأتت إلى عثمان، رضي الله عنه تشكوه فبعث عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين، فقال البن عباس: لأفرق بينهما وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من قريش، فلما أتياهما وجداهما أغلقا الباب واصطلحا. [66] فاطمة بنت الوليد ابن عتبة، قيل: اسمها هند، وزوجها عمها حذيفة لمولاه سالم، وكانت من أفضل أيامى قريش، وكانت في الشام، تلبس الثياب الحرير ثم تتأزر، فقيل لها: أما يغنيك هذا عن الإزار؟ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالإزار. [67] رملة بنت شيبة ابن ربيعة تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه وهاجرت معه، وقالت فيها هند أم معاوية شعراً، نعت عليها الإسلام واتباعها دين من قتل آبائها.

[68] قتيلة بنت النضر

[68] قتيلة بنت النضر ابن الحارث، أسلمت يوم الفتح، وكانت تحت عبد الله بن الحرث بن أمية، فولدت له: علياً ومحمداً والوليد، ولما قتل صلى الله عليه وسلم أباها كتبت إليه قتيلة قبل إسلامها. شعر: يا راكباً إنَّ الأثيلَ مظنَّةٌ ... منْ صبح خامسةٍ وأنتَ موفَّقُ أبلغْ بهِ ميتاً بأنَّ تحيَّةً ... ما إنْ تزالُ بها النَّجائبُ تخفقُ منِّي إليهِ وعبرةً مسفوحةً ... جادتْ لمائحها وأخرى تخنقُ هل يسمعنَّ النَّضرُ إنْ ناديتهُ ... بل كيفَ يسمعُ ميَّتٌ لا ينطقُ ظلّتْ سيوفُ بني أبيهِ تنوشهُ ... للهِ أرحامٌ هناكَ تشقَّقُ قسراً يقادُ إلى المنَّيةِ متعباً ... رسفَ المقيَّدِ وهوَ عانٍ موثقُ أمحمَّدٌ أوَ لستَ صنو نجيبةٍ ... في قومها، والفحلُ فحلٌ معرقُ ما كانَ ضرَّكَ لوْ مننتَ وربَّما ... منَّ الفتى وهوَ المغيظُ المحنقُ فالنَّضرُ أقربُ منْ قتلتَ قرابةً ... وأحقُّهمْ إنْ كانَ عتقٌ يعتقُ أو كنتَ قابلَ فديةٍ فلقيتَ منْ ... بأنعزِّ ما يغلو بهِ ما ينفقُ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ذلك بكى] حتى اخضلت بالدموع لحيته، وقال: "لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه". انتهى. [69] بسرة بنت صفوان ابن نوفل بن أسد، وهي من المبيعات، كانت عند المغيرة فولدت له: معاوية وعائشة أم عبد الملك بن مروان، روت عنه صلى الله عليه وسلم: "من مس ذكره فليتوضأ". [70] الحولاء بنت تويت لبن حبيب [بن أسد] بن عبد العزى، هاجرت إلى المدينة، وكانت من العابدات، وهي التي جاء فيها الحديث: "إنها كانت لا تنام الليل". انتهى. [71] أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه أسلمت قديماً، وتزوجها الزبير وهاجر بها إلى المدينة، وهي حامل بعبد الله فوضعته بقباء، وكانت تسمى ذات النطاقين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد الهجرة فعسر عليه ما يشد السفرة، فشقت نطاقها وانتطقت بنصفه وشدت السفرة بنصفه، فسماها صلى الله عليه وسلم: "ذات النطاقين". ولما بلغ ولدها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن الحجاج يعيره بابن ذات النطاقين. أنشد قول الهلالي: شعراً: وعيّرها الواشوان أنَّي أحبّها ... وتلكَ شكاةٌ بارحٌ عنكَ عارها فإنْ أعتذرْ منها فإنّي مكذَّبٌ ... وإنْ تعتذرْ يردد عليها اعتذارها قيل: "إنها أسلمت بعد سبعة عشر نفساً، وعاشت حتى قتل ابنها، وقد كف بصرها، وكانت تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجسده. وقيل: إنها لما رأت ولدها عبد الله مصلوباً در ثديها وحاضت. فقالت: حنت إليه مراتعه ودرت عليه مراضعه. فلما دخلت على الحجاج لعنه الله [لعنة] مؤبدة عدد ما خلق الله، فقالت له: أما آن لهذا الراكب أن يترجل؟ فقال: خلو بينها وبين جيفتها. اللهم ألعنه كما لعنت أصحاب السبت، حيث لم يرع حق الصديق. ولما أنزلوه غسلته وكفنته، وصلوا عليه، ودفنته، وماتت بعده بأيام يسيرة، وقد عاشت رضي الله عنها مائة سنة ودفنت بمكة. [72] أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنها ولدت بعد وفاة أبيها لأن أمها كانت حاملاً بها، فقال أبو بكر رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها كنت نحلتك جراد عشرين وسقاً وددت أنك كنت جربته: وإنما هو مال الوارث، وإنما هو أخواك وأختاك. فقالت: إنما هي أسماء: فمن الأخرى؟ فقال: دويطر بنت خارجة. فإني أظنها جارية. فصدق الله ظنه، وولدتها فسمتها عائشة رضي الله عنها أم كلثوم، ولما كبرت خطبها كعمر، رضي الله عنه من عائشة رضي الله عنها فلما ذهب قالت الجارية: تزوجيني عمر رضي الله عنه وقد عرفت خشونة عيشه، والله لئن فعلت لأخرجن إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصيحن به إنما أريد فتى من قريش يصب علي الدنيا صبا.

[73] أم فروة أخت الصديق رضي الله عنه

فأرسلت عائشة رضي الله عنها، إلى عمرو بن العاص فأخبرته، فقال: أنا أكفيك. فذهب إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، لو جمعت إليك امرأة. فقال: عسى أن يكون ذلك. قال: من ذكر أمير المؤمنين؟ قال: أم كلثوم بنت أبي بكر رضي الله عنه قال: ما لك ولجارية، سعى إليك إياها بكره عيش. فقال عمر رضي الله عنه: أعائشة أمرتك بذلك؟ قال: نعم فتركها فتزوجها طلحة بن عبيد الله فولدت له زكريا وعائشة. فقال علي رضي الله عنه لقد تزوجها أفتى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. [73] أم فروة أخت الصديق رضي الله عنه أسلمت وبايعت، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إن] "أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة في أول وقتها". تزوجها الأشعث بن قيس الكندي، فولدت له محمداً وإسحاق وجمانة وقريبة. ويروى أن أبا قحافة قال لابنته يوم الفتح، خذي بيدي إلى جبل أبي قبيس ففعلت، فقال لها: ما ترين؟ قالت: أرى سواداً مجتمعاً. قال: تلك الخيل. قالت: وبين أيديهم فارس يقبل ويدبر. قال: ذاك الوازع. قالت: قد انتشر السواد. قال: غارت الخيل فأدركي في المنزل فنزلت به فأدركها الخيل قبل بلوغ المنزل، فأخذ بعضهم طوقاً كان في عنقها، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال أبو بكر: أنشد الله رجلاً أخذ طوق أختي إلا رده. فلم يرد. فقال أبو بكر رضي الله عنه لأخته: احتسبي طوقك فإن الأمانة اليوم في الناس قليل. [74] أم الخير بنت صخر ابن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، هي أم أبي بكر الصديق أسلمت قديماً، في اليوم الذي ضرب فيه أبو بكر رضي الله عنه وكانت قد خرجت بأبي بكر وهي وأم جميل بنت الخطاب، حين هدأت الرجل فدخلوا عليه صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم. فقال أبو بكر: يا رسول الله هذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك، فادع الله له، فدعا لها صلى الله عليه وسلم ودعاها [إلى] الإسلام فأسلمت، ولم يجتمع لأحد من العشرة إسلام أبويه غير أبي بكر رضي الله عنه. [75] أُمُّ حَكِيم بِنْتُ الَحارِثِ ابن هشام، تزوجها عكرمة بن أبي جهل، أسلمت قبله يوم الفتح، وهرب عكرمة فأخذت له أماناً من النبي صلى الله عليه وسلم وعاد وخرجت معه إلى الشام. ولما غزا وقتل عنها بأجنادين فاعتدت (عنه أربعة أشهر وعشراً) ، وتزوجها خالد بن سعيد بن العاص على أربعمائة دينارٍ، فلما نزل المسلمون مرج الصفرِ أراد خالد أن يعرس بها فقالت له: لو أخرت الدخول حتى يفض الله هذه الجموع! فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم، قالت: فدونك. فأعرس بها عن القنطرة التي بالصفر فسميت قنطرة أم حكيم، وأولم عليها، ودعا أصحابه على الطعام، فما فرغوا (من الطعام) حتى صفت الروم صفوفها، وبرز خالد رضي الله عنه وقاتل حتى قتل رضي الله عنه وشدت أم حكيم عليها (ثيابها) وعدت، وإن عليها لردع الخلوق، فاقتتلوا أشد القتال على النهر، وأخذت السيوف بعضها بعضاً. وقتلت سبعة رجالٍ أم حكيم بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد معرساً، ثم تزوج أم حكيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فولدت له فاطمة بنت عمر. [76] دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي جَهْل أسلمت، وأراد علي بن أبي طالب أن يتزوجها على فاطمة الزهراء، فقالصلى الله عليه وسلم لا أحرم شيئاً أحله الله، ولكن لا تجتمع ابنة نبي الله، وابنة عدو الله تحت رجل واحدٍ أبداً. فإن كان يريد ذلك فليطلق فاطمة رضي الله عنها فترك علي رضي الله عنه الخطبة. [77] جُويْرِيَّةُ بِنْتُ أَبِي جَهْل أسلمت يوم الفتح مع أخيها درة، قال الزبير رضي الله عنه هي التي أراد علي رضي الله نكاحها ثم تركها فتزوجها عتاب بن أسيد، فولدت له عبد الرحمن بن عتاب. قتل يوم الجمل. [78] دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَة هي التي جاء ذكرها في حديث أم حبيبة، رضي الله عنها إذ قالت لرسول الله: إِنَّا لنتحدث أنك ناكح درة بنت أبي سلمة! قال: بنت أم سلمة رضي الله عنها، قالت: نعم. قال: "والله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي. إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وإياه ثويبة". [79] زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَة

[80] أم كلوم بنت أبي سلمة رضي الله عنها

كانت ترضع حين تزوجصلى الله عليه وسلم أمها، فجاء عمار رضي الله عنه وأخذها من حجر أمها، فذهب بها. وقال: هذه التي حاولت بين رسول الله وبين أهله، وقيل: إنها ولدت قبل الحبشة، والأول أصح، وقالت زينب: كان اسمي برة فسماني، صلى الله عليه وسلم زينب. روي أنها دخلت عليه صلى الله عليه وسلموهو يغتسل فنصح في وجهها الماء، فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت. وأرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت زينب: وكنت أرى الزبير رضي الله عنه يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ ببعض قروني ويقول: أقبلي علي فحدثيني، أراه أباً ويراني ولداً. وتزوجها عبد الله بن زمعة رضي الله عنه وكانت أفقه نساء زمانها. قال الحسن رضي الله عنه: لما كان يوم الحرة وقتل أهل المدينة، فكان فيمن قتل ابنا زينب فحملا ووضعا بين يديها. فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله 'ن المصيبة علي فيهما لكبيرة، وهي علي هذا أكبر منها في هذا، أما هذا فحضر بيته وكف يده فدخل عليه فقتل مظلوماً (وأنا أرجو له الجنة) وأما هذا فبسط يده فقاتل فقتل فلا أدري على ما هو من ذلك، فالمصيبة علي به أعظم منها في هذا. [80] أمُّ كُلْوُم بِنْتُ أبِي سلمة رضي الله عنها روت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة حين تزوجها: "إني قد أهديت للنجاشي أواقي (من) مسك وحلة، ولا أواه إلا قد مات، ولا أرى الهدية إلا سترد إلي، فإن ردت فهي لك، فكان كما قال"صلى الله عليه وسلم مات النجاشي وردت الهدية إلى النبيصلى الله عليه وسلم فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك، وأعطى باقيه لأم سلمة رضي الله عنها. [81] أَمُّ جَمِيل فَاطمَةُ بِنْتُ الخطَّابِ رضي الَّلهُ عَنْهَا هي أخت عمر رضي الله عنه تزوجها ابن عمها سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل، أسلمت قبل عمر رضي الله عنه هي وزوجها سعيد، وكانت هي سبب إسلام عمر رضي الله عنه ولما ضرب أبو بكر رضي الله عنه على الإسلام حمل إلى بيته وهم لا يشكون في موته، ثم أفاق فأول ما تكلم قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أمه: مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه. فذهبت وقالت لها: إن أبا بكر يسألك عن محمد صلى الله عليه وسلم قالت: لا أعرف أبا بكر ولا محمداً، ولكن أذهب معك إلى ابنك! فأتت معها، فلما دخلت ورأت ما به رنت وأعلنت بالصياح وقالت: إن قوماً نالوا منك هذا، (فهو كفر وفسوق) ، وإني أرجو أن ينتقم الله لك منهم، فقال أبو بكر: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع! قال: لا ضير عليك منها. قالت: هو صالح سالم في دار الأرقم. قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى آتي رسول الله. فأمهلتاه حتى هدأت الرجل فخرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلاه على رسول الله، ودعا صلى الله عليه وسلم لأم أبي بكر، وعرض عليها الإسلام فأسلمت.

[82] عاتكة بنت زيد بن عمرو

وأما إسلام عمر رضي الله عنه فكانت أخيه قد أسلمت هي وزوجها وهم مستخفون، وكان نعيم بن عبد الله النجار، أسلم، وكان خباب بن الأرت أسلم ويقرئ أم جميل القرآن خفية، فخرج عمر، متقلداً بسيفه، يريد أن يقتل رسول الله وأصحابه، وقد علم أنه في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين رجلاً وامرأة مع النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة رضي الله عنه وعلي وأبي بكر، فلقي نعيم عمر رضي الله عنه وقال له: أين تريد؟ فقال أريد محمداً! هذا الصابئ الّذي فرق أمر قريش فأقتله. فقال له نعيم والّله لقد غرّتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً! أفلا ترجع إلى ترجع أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال عمر: من هم؟ قال: أختك وزوجها سعيد، فقد أسلما. فرجع عمر إليهما وعندها خباب في مخدع فاختفى لما رأى عمر، وأخذت الصحيفة أخته فجعلتها تحت فخذها. ودنا عمر رضي الله عنه فلما دخل قال: ما هذه الهينمة؟ قد تابعتما محمداً؟ وضرب سعيداً، رضي الله عنه فقامت أخيه فاطمة لتكفه، فضربها فشجها، فقالت له أخيه: نعم أسلمنا وآمنا فاصنع ما بدا لك! فلما رأى عمر رضي الله عنه ما بأخته من الدين ارتعد، وقال لها: أعطني الصحيفة أنظر فيها! فقالت: إنك نجس، وأنه لا يمسها إلا طاهر. ولم يزل بها حتى أخذ الصحيفة، وكان يقرأ ويكتب، فوجد فيها (سورة طه) فلما قرأها، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه وقال: يا عمر إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس يقول: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب". فقال عمر: فدلني على محمد. فقال: هو في بيت عند الصفا. فسار عمر متقلداً بسيفه، فلما قرب ضرب الباب فلما سمعوا صوته، خرج رجل من الصحابة فرأى عمر متوشحاً بسيفه، فقال حمزة رضي الله عنه: ائذن له، فإن جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن أراد شراً قتلته بسيفه. فقال صلى الله عليه وسلم ائذن له. فأذن له الرجل، فدخل وقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله. وأسلم وتفرق أصحاب النبي من مكانهم فرحين مستبشرين بإسلام حمزة وعمر رضي الله تعالى عنهما. [82] عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيدِ بْنِ عَمْرو من المهاجرات، تزوجها عبد الله بن الصديق، رضي الله عنه وكانت جميلة فغلبت على عقله وشغلته عن الجهاد فأمره أبو بطلاقها، فأنشد: يقُولُونَ: طَلَّقهَا وخيّم مكانَهَا ... مُقيمٌ عليكَ الهمُّ أحلامُ نائمِ وأنَّ فراقِي أَهلَ بيتٍ جمعتُهُمْ ... على كبرٍ منَّي لإِحدَى العَظَائِمٍ أَرَانِي وَأَهْلِي كَالعُجُولِ تَزَوَّجت ... إلَى بَرَّهَا قبلَ العَشَارِ الروائِمِ ثم طلقها، فدخل عليه أبوه وهو ينشد ويقول: أَعَاتِكَ لاَ أَنْساكِ مَا دَّر شَارِق ... وَمَا نَاحَ قمريّ الحَمَام المُطَوّق أَعَاتِكَ قَلْبِي كُلَّ يَومٍ وَلَيْلَةٍ ... عَلَيْكِ بما تُخْفي الُّنفُوسُ مُعَلّقُ وَلَمْ أَرَ مِثْلِي طَلَّقَ اليَوْم مثْلَهَا ... وَلاَ مثْلَهَا فيِ غَيْرِ جُرْمٍ تُطَلَّقُ لَهَا كَلَفٌ جَزْلٌ وَرَأْيٌ وَمَنْصِبٌ ... وَخُلْقٌ سَوِيّ فِي الحَيَاءِ وَمَصْدَقُ فرق له أبوه وأمره فراجعها وأنشد يقول: أَعَاِتِكَ قَدْ طُلَّقْتِ في غَيْر رَيْبَةٍ ... وَروُجِعتِ للأمرِ الّذِي هُو كَائِنُ كَذَلِكَ أمَرُ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحُ ... عَلَى النَّاسِ فيهِ أُلْفةٌ وَتَباُيُنُ وَمَا زَالَ قَلْبِي للَّتفَُّرقِ طَائِراً ... عَلَى النَّاسِ فِيِه أُلْفَةٌ وتبايُنُ لَيهنك إنَّي لاَ أرَى فيكِ سخطةً ... وإنَّكِ قَدْ تَمَّتْ عَلَيْكِ المحاسِنُ وَإِنَّكِ ممّن زَيَّن اللَّهُ وَجْهَهُ ... وَلَيْسَ لوَجْهٍ زَانَةُ اللَّهُ شَائِنُ ثم شهد عبد الله الطائف فأصيب بسهمٍ ومات بالمدينة فقالت عاتكة ترثيه: رُزِيتُ بخَيرِ النَّاسِ بعدَ نَبِيهَّم ... وبعدَ أبي بكْر وما كَانَ قَصَّراَ فيا ليتَ لاَ تنفكُّ عيني حزينة ... عليْكَ وَلَا ينفكُّ جلدي أغبرا فللَّه عَيْنَا مَنْ رأى مثلَهُ فتى ... أكرّ وأحمى في الهياج وأصبرا

[83] الشفاء بنت عبد الله

إذا شرعَتْ فيه الأسَّنةُ خاضها ... إلى الموت حتى يترك الرمح أحمرا ثم تزوجها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه سنة اثنتي عشرة فلما قتل قالت عاتكة ترثيه. عيني جودِي بعبرةٍ، ونحيبِ ... لا تملَّي على الجوادِ النَّجيبِ فَجَعتِني المنوُنُ بِالفَارِسِ المع ... لم يومَ الهَيَاجِ وَالتَّأييبِ قُلْ لأَهْلِ الضَّرَّاءِ وَالبُؤْسِ مُوتُوا ... قَدْ سَقَتْهُ المَنُونُ كَأْسَ شُعُوبِ ثم تزوجها الزبير بن العوام رضي الله عنه وكانت تخرج للمسجد للصلاة وكان الزبير غيوراً، فيمنعها فنقول: لا أزال أخرج حتى تمنعني وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" فتنكر لها ليلة في مكان مظلم وقرصها في عجيزتها، فرجعت إلى بيتها فكان يقول لها: لم لا تخرجين؟ فتقول: كنت أخرج والناس ناس، وأما إذ فسد الناس فبيتي أوسع لي. ولما قتل الزبير رضي الله عنه رثته بقولها: غَدَرَ اْبْنُ جُرْمُوزٍ بِفَارِسٍ همًّةٍ ... يَوْمَ اللَّقاءِ وًكَانَ غَيْرَ مُعَرَّدِ يَا عَمْرُو لَوْ نَبَّهْتَهُ لَوَجَدْتَهُ ... لاَ طَائِشاً رَعْش الجَنَانِ وَلاَ اليَدِ كَمْ غَمْرةٍ قَدْ خَاضَهَا لَمْ يُثْنِهِ ... عنا طرادك يا ابن فقع القردد ثكلتك أمك إن ظفرت يمثله ... فِيَما مَضَى ممَّنْ يَرُوحُ وَيَغْتَدِي وَللَّه رَبّك إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِماً ... حَلّتْ عَلَيْك عُقُوبَةُ المُتَعَمَّدِ ولما قتل الزبير رضي الله عنه صالحها ولده على ثمانين ألف درهم، ثم تزوجها محمد بن أبي بكر، رضي الله عنه، فقيل عنها بمصر فقالت ترثيه: إِنْ تَقْتُلُوا وَتُمَثَّلُوا بِمُحَمَّدٍ ... فَمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ النَّسَاءِ وَلاَ الخَمْرِ ثم خطبها علي أبي طالب رضي الله عنه فقالت: إني لأضن بك يا بن عم رسول الله (أن) تحب القتل؟ وكان يقال: من أحب الشهادة فليتزوج عاتكة رضي الله عنها. [83] الشَّفَّاءُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ ابن عبد شمس بن خلف واسمها ليلى وهي من المبايعات المهاجرات كان صلى الله عليه وسلم يأتيها ويقيل عندها، وكانت قد اتخذت له فراشاً، وإزاراً ينام فيه، ومازال عندهم حتى أخذه مروان، وأقطعها صلى الله عليه وسلم دارها عند الحكاكين، وصلى به صلى الله عليه وسلم وكان عمر رضي الله عنه يقدمها (في الرأي) ويرضاها، وربما ولاَّها شيئاً من أمر السوقِ. وانتهى. [84] سهلة بنت سهيل ابن عمرو زوجة أبي حذيفة بن عتبة، أسلمت قديماً، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها فولدت له محمداً، ثم قدموا مكة فأقاموا بها حتى هاجروا إلى المدينة، وهي التي أتت رسول الله فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالماً ولداً وكان يدخل علينا، ويرني وأنا أصلي، وقد أنزل الله فيهم ما أنزل، فما ترى؟ قال: "أرضعيه تحرمي عليه" وقتل أبو حذيفة يوم اليمامة، فتزوجها عبد الرحمن ابن عوف، فولدت له سالماً. ولما مات تزوجها عبد الله بن الأسود فولدت له سليطاً. ولما مات تزوجها عبد الله بن الأسود فولدت له سليطاً. ولم مات تزوجها شماخ بن فولدت له بكيراً. [85] حبيبة بنت عبد الله ابن جحش، ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت مع أبيها. وأمها بها تكنى. [86] حمنةُ بنتُ جحش تزوجها مصعب بن عمير فولدت له زينب ثم قتل يوم أحد، فتزوجها طلحة ابن عبيد الله، فولدت له محمداً وعمران، وكانت ممن خاض في حديث الإفك فجلدت فيمن جلد. [87] أم حبِيبة بِنتُ جحش تزوجها عبد الرحمن بن عوفْ رضي الله عنه وكانت تستحاض فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة. [88] أم قيس بنت محصن أخت عكاشة، أسلمت قديماً، وهاجرت وبايعت وهي التي أتت النبي بابن لها صغير، فوضعه صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال عليه فدعا صلى الله عليه وسلم بماء فأتبعه بوله ولم يغسله انتهى. [89] أم عبد الله بنت الوليد تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه فولدت له سعيد بن عثمان رضي الله عنه وتوفيت رضي الله عنها. [90] فاطمة بنت عمر رضي الله عنها.

[91] زينب بنت عمر رضي الله عنها.

ابن الخطاب، وأمها أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة. تزوجها ابن عمها عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب. فولدت له عبد الله، وتوفيت في خلافه عثمان رضي الله عنه. [91] زينب بنت عمر رضي الله عنها. ابن الخطاب رضي الله عنه أمها فكيهة كانت من الصالحات، روت عن أختها حفصة رضي الله عنها أم المؤمنين كذا ذكره في "الرياض النضرة" و"التبيين"، وتزوجها عبد الله بن عبد الله بن سراقة العدوي فأقامت عنده أعواماً. [92] أمُّ كُلْثُوم بِنتُ علي رضي الله عنها. ابن أبي طالب رضي الله عنه وأمها فاطمة الزهراء رضي الله عنها تزوجها الإمام عمر رضي الله عنه في السنة السابعة عشرة وأصدقها أربعين ألف درهم، فولدت له زيداً الأكبر، ورقية، وتوفي عنها. [93] عَائِشةُ بِنْتُ طَلْحَة الَّتيمَّية كانت فائقة الحسن والجمال، لم ير الزمان من يشابهها بالجمال، تزوجها مصعب بن الزبير رضي الله عنه وأصدقها مائة ألف دينار، وأقامت عنده إلى أن توفيت سنة إحدى ومائة. [94] فاطمة بنت الحسين رضي الله (عنه) بن علي، رضي الله عنه ذات جمال، تزوجها ابن عمها الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنه وأقامت عنده إلى أن توفي رحمه الله فلما حضرته الوفاة قال لها: كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان رضي الله عنه قد رحل عمامته ولبس حلته، وعرض لك ليتزوجك، وهذا أهم شيء عندي. فعاهدته زوجته فاطمة، أن لا تتزوجه، وحلفت بعتق عبيدها وإمائها، وصدقة مالها، فلما توفي الحسن بن الحسن رضي الله عنه وخرجت جنازته إذا بعبد الله بن عمرو بن عثمان قد عرض لفاطمة على الصفة التي ذكرها الحسن، فلما أحلت وانقضت عدتها أرسل يخطبها فقالت: قد حلفت بصدقة مالي وعتق رقيقي. فقال: أنا أخلف لك كل شيء بشيئين. فرضيت وأعتقت عبيدها وتصدقت بمالها فتزوجها عبد الله وضاعف لها العبيد والأموال ودخل بها فولدت له محمداً الذي كان يسمى بالديباج. وتوفيت فاطمة سنة عشر ومائة. [95] الخيزرانة زوجة الخليفة المهدي العباسي، وولدت له الخليفة موسى الهادي وهارون الرشيد، وكانت صاحبة جود وخيرات، ولما توفي المهدي سنة تسعٍ وستين ومائة، بويع بالخلافة ولدها موسى الهادي وكان طويلاً جسيماً، وكان بشفته العليا تقلص فكان يفتح فمه، فوكل به أبوه خادماً كلما فتح فاه صاح به: يا موسى أطبق. فلقبه الناس بذلك، ولما استقر موسى بالخلافة هم بقتل أمه الخيزران، وقتل أخيه الرشيد، فاتفقت الخيزران مع ولدها الرشيد، وقتلا موسى الهادي سنة سبعين ومائة، وقيل: مات بقرحةٍ، وخلافته سنة وشهراٍ وكان كريماً مدحه مروان بن أبي حفصة بقصيدة فلما قرأها عليه ووصل إلى قوله منها شعراً: تَشَاَبَهَ يَوْماً وَنَوَالِهِ ... فَمَا أَحَدٌ يَدْرِي لأَيَّهِمَا الفَضْلُ فقال له: أيما أحب إليك، ثلاثون ألفاً معجلة، أو سبعون ألفاً موجلة؟ فقال: بل المعجل. فقال له: لك المعجل والمؤجل. وبويع بعده الخليفة هارون الرشيد، ثم سار إلى الحج سنة إحدى وسبعين، ومعه أمه الخيزرانة فتصدقت بالحرمين، واشترت دوراً بالصفا وألحقته بالحرم الشريف، ويعرف الآن بدار الخيزرانة.. وتوفيت الخيزرانة سنة اثنتين وسبعين ومائة، ودفنت في بغداد، وكانت كثيرة الخيرات والصدقات رحمها الله تعالى. آمين. [96] فاطمة بنت عبد الملك بن مروان الأموي

[97] خولة بنت ثعلبة

كانت زوجة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكانت من الصالحات، ولما ولي الخلافة عمر قال لامرأته فاطمة، ولها حلي أخذته من عند أبيها: اختاري إما أن تردي حليك إلى بيت مال المسلمين. وإما تأذني لي بفراقك! فقالت: أختارك عليه. فأمر عمر رضي الله عنه بحمل الحلي إلى بيت مال المسلمين ووضع فيه، ولما مات عمر قال لها أخوها يزيد: يا فاطمة إن شئت رددت عليك حليك، فقالت: لا والله لا أطيب به نفساً في حياة عمر وأرجع فيه بعد مماته. كانت تقول: والله ما أغتسل عمر عن جنابة ولا حلم منذ ولي الخلافة. وكانت ترفع من نفقتهم شيئاً يسيراً حتى اجتمع عندها مال فاشترت به ثياباً لا بنتها، فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فأخذ الثياب وأعادها إلى بيت المال وقلل من نفقته. وتوفيت فاطمة زوجة عمر سنة مائة وخمس وقيل: مائة وسبع والله أعلم. [97] خَوْلُة بِنْتُ ثَعْلَبَةَ تزوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه وكانت حسنة الجسم، وكان في جسد زوجها لمم، وقيل: برص، فطلبها يوماً ليواقعها، فأبت وتطيرت، وذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: " فر من المجذوم فرارك من الأسد"، وظنت أنه نوع من الجذام فغضب لذلك أوس، فقال لها: أنت علي كظهر أمي. ثم ندم على ما قال، وكان الظهار والإيلاء من طلاق الجاهلية، قال في "الهداية": الإيلاء إذا قال الرجل لامرأته: والله لا أقربك أو لا أقربك أو لا أقربك أربعة أشهر فهو مول لقوله تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ... (فإن وطئها في الأربعة أشهر حنث في يمينه، ولزمته الكفارة، لأن الكفارة توجب الحنث، وسقط الإيلاء لأن اليمين ترفع بالحنث، وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت منه لأن اليمين ترتفع بالحنث، قال في"الهداية": إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فقد حرمت عليه، ولا يحل له وطؤها، لا مسها، ولا تقبيلها حتى يكفر لقوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم (إلى قوله تعالى: (فتحرير رقبة (وإن قال: أنت علي (مثل) أمي، أو كأمي، يرجع إلى نيته، فإن قال: أردت الكرامة فهو كما قال، وإن نوى الظهار كان ظهاراً، وكفارة الظهار عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً، ويجزى في العتق الرقبة الكافرة المسلمة، والذكر والأنثى، والصغير والكبير لأن اسم الرقبة ينطلق على هؤلاء، ولا تجزي العمياء والمقطوعة اليدين أو الرجلين لأن الفائدة جنس المنفعة، ويجوز الأصم، والقياس أن لا يجوز. قال في (المعالم) : ثم إن أوس الصامت ندم، وقال لزوجته خولة: ما أظنك إلا قد حرمت علي! فقالت: والله ما ذاك بطلاق، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شق رأسه، وذكرت له ما قال أوس، وشكت حالها، فأنزل الله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما (وكان هذا أول ظهار في الإسلام. [98] ?حَبِيبةُ بِنْتُ سَهْل كانت جميلة، تزوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكان يحبها وهي تبغضه ولا تحبه، وكان إذا طلبها لحاجته امتنعت وأبت، فكان يضربها، فأتت يوماً إلى أبيها سهل وشكت إليه، زوجها، وقالت: إنه يضربني ويسبني. فقال لها أبوها: ارجعي إلى زوجك، فإني أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها وقد سمعت ما قاله صلى الله عليه وسلم: "لو أمرت أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"فغضبت وخرجت من عند أبيها، وعادت إلى زوجها، ولما رأت أن أباها لم يشكها، فأتت إلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكت إليه زوجها وأرته أثار الضرب، وقالت: لا أنا ولا هو. فدعا صلى الله عليه وسلم ثابت وسأله فقال: والذي بعثك بالحق بشيراً ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك! فقال لها صلى الله عليه وسلم (ما تقولين؟) فقالت: صدق يا رسول اله ولكن خشيت أن يهلكني، فاخرني منه وهو من أكرم الناس حباً لزوجته، ولكني أبغضه فلا أنا ولا هو. فعند ذلك طلب منها ثابت ما أصدقها وما أعطاها، فأعطته وخلى سبيلها. قوله تعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن (. قال في (المعالم) : (للرجال نصيب مما اكتسبوا (إن كان لهم فضل الجهاد فللنساء، فضل طاعة الأزواج، وحفظ الفروج، والله سبحانه أعلم. [99] الَّسّيدةُ نَفِيسة

[100] ميسون بنت بحدل

بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، رضي الله عنهم، كانت من العابدات، الصالحات القانتات، ولها كرامات واضحة، وأسرار لائحة، توفيت سنة ثمان ومائتين، ودفنت في مصر، وقبرها هناك يزار، ولها في الموصل مرقدان في مسجدين، ويعرف المسجد الذي يعزى إليها بمسجد السيدة نفيسة وذكر في الطبقات: انه إذا أحد نذر شيئاً لله، وثوابه إلى السيدة نفيسة ونوى حاجته قضيت ببركتها في عاجل الحال وإن كان يصعب قضاؤها فإن الله يسهل عليه ذلك الأمر، وإذا انقضى أمره ومطلبه فيجب عليه أن يوفي بنذره لقوله تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً (، ذكر بعضهم أن السيدة نفيسة كان زوجها رجلاً من أبناء عمها، فكانت إذا أمسى المساء تتطيب وتلبس أفخر ثيابها، وتعرض نفسها على زوجها، فإن كان له بها حاجة قضتها واغتسلت، وعادت إلى عبادتها، إن لم يكن له بها حاجة نزعت ثيابها الناعمات، ولبست الثياب الخشنة، وأقامت ليلها بالعبادات إلى الصباح. وكانت تقول: نحن آل بيت النبوة أحق بالعبادة من غيرنا أن القرآن نزل على جدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكانت تقول: ويل لمن عصى ربه وخالف أمره وأعرض عن ذكره واتبع هوى نفسه وكانت تقول: الطاعة قلب الإيمان والعبادة جسده، والزهد رداؤه، والصدق حجته والإخلاص بهجته، والعفو عمن أساء أجمل وأحسن بالمؤمن لقوله تعالى (وأن تعفوا أرب للتقوى (والله أعلم، ومن كلامها: العبد الطائع حجة على العبادة العصاة. ومن إملاتها: اللهم إني أعوذ بك من كلام السوء، وفعل السوء، ومرام السوء، وجار السوء، اللهم لا تكلني إلى نفسي فأعجز، ولا إلى أحد من خلقك فأضيع. اللهم ألهمني رشدي، وأحسن رفدي، وقني عثرتي واغفر زلتي، وقني شر وساوس الشيطان، وأجرني منه يا رحمن لا يكون له علي سلطان، وصلى الله على سيدنا محمد صاحب الشريعة والبرهان، آمين وروى الشيخ أبو الحسن عن السيدة نفيسة أنها قالت: إذا واظب المؤمن على قراءة (قل يا أيها الكافرون (دبر كل فريضة ثلاث مراتٍ أماته على الإيمان الكامل. ومن قرأ (سورة الإخلاص) دبر كل صلاة مرة أمن وسواس الشيطان، وكان ممن أخلص نيته وعمله الله تعالى. وذكر في كتاب "الدار النظيم": قال صلى الله عليه وسلم "إن في القرآن سورة تدعى العزيزة عند الله ويدعى صاحبها الشريف عند الله، تشفع يوم القيامة لصاحبها أكثر من ربيعة ومضر ". قالوا: يا رسول الله أي سورة؟ قال: (سورة ليس~) . وقال لصلى الله عليه وسلم: "من بقراءة (قل يا أيها الكافرون (ومن أراد النجاة من عذاب القبر فعلته بقراءة (تبارك الذي بيده الملك (ومن أراد النجاة من شر الحساب فعليه بقراءة المعوذتين ومن أراد النجاة من عطش يوم القيامة فعليه بقراءة (الفاتحة) ومن أراد الشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم فعليه بقراءة (إنا أعطيناك الكوثر) . وهكذا وجدته في هامش كتاب"المصابيح" والله أعلم. [100] مَيْسُون بِنْتُ َبْحدَل كانت جميلة الأوصاف حسنة الأطراف، فائقة الجمال، نظمها السحر الحلال. وهي من بادية العرب، ومن أهل الحسب والنسب، فخطبها معاوية، رضي اله عنه وتزوجها وأصدقها عشرين ألف درهم، ودخل بها فحملت منه بيزيد، وهي من بني كلاب الإنجاب ولما تم حملها ولدت يزيداً، زاد الله عقابه وأقامت عند معاوية نحو ثلاثة أعوام، فدخل يوماً معاوية عليها وهو يتجسس فوجدها تنشد شعراً: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أَحبُّ إلَيَّ من لُبْسِ الشَّفُوفِ وَبَيْتٌ َتْخُفقُ الأرْيَاحُ فِيه ... أَحَبُّ إَلَّي مِنْ قَصْرٍ مَنِيفٍ وَبكر يتبعُ الأظعان صعبٌ ... أحَبّ إِلَّي مِن بغْل زَفُوفِ وَكْلبٌ ينبحُ الأضيَافَ دُوِني ... أحَبُّ إلَّي من هرَّ أليفِ وخرقُ مِن بَنِي عَمَّي ثَقيف ... أحبُّ إلَّي من عِلج عَنِيف فدخل معاوية، رضي الٌله عنه عليها وقال لها: ما رضيتني يا ابنة بجدل حتى جعلتني علجاً عنيفا؟ الحقي بأهلك. وطلقها، فمضت إلى أهلها وأخذت معها ولدها يزيد. وأقام مع أمه، وتفصح وشعر ببادية بني كلب إلى أن كبر وتضعضع عاد إلى أبيه، وماتت أمه ميسون في خلافة معاوية رضي الًله عنه وقيل: إنها توفيت في خلافة ابنها يزيد، وقيل غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[101] أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان بن الحكم

[101] أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان بن الحكم وهي أخت أمير المؤمنين عمر بن العزيز، (وأمها: ليلى بنت سهيل بن حنظلة بن الطفيل، تزوجها ابن عمها الوليد بن عبد الملك) . حكي: أن عزة بنت حميل صاحبة كثير دخلت يوماً على أم البنين فقالت: لها أم البنين: ما معنى قول كثير فيك. شعر: قَضَى كُلُّ ذِي دَيْنٍ فَوَقَّى غَرِيمَهُ ... وَعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى غَرِيمُهَا فقالت: وعته بقبلة ثم رجعت عنها، فقالت لها أم البنين: أنجزيها وعلي إثمها. فاستأثمت أم البنين، وحجت وأعتقت عند الكعبة أربعين عبداً وقالت: اللهم إني أتبرأ إليك مما قلت لغزة، ذكر في (الهداية) : في أول كتاب الإعتاق قال: الإعتاق تصرف مندوب إليه، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "أيما مسلم أعتق مؤمناً أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار". وذكر في " مختارات ولسان الحكام" هذا الحديث وقال: ولهذا استحبوا أن يعتق الرجل العبد، والامرأة الأمة لتحقق مقابلة الأعضاء بالأعضاء وذكر في "الاختيار": العتق في الشرع زوال الرق عن المملوك، وفي اللغة: العتق: القوة. يقال لها: عتق الطائر إذا قوي على الطيران، وعتقت الخمر إذا قويت واشتدت، وسمي الصديق عتيقاً لجماله. والبيت العتق الكريم. ولما تزوج سليمان أم البنين شغف بها لجمالها وحسن أخلاقها، وكانت على سيرة أخيها عمر أمير المؤمنين، وكان سليمان أكولا يأكل مائة رطل شامي، وقبل: إنه اصطبح يوماً بأربعين دجاجة وأربعمائة بيضة، وأربع وثمانين كلوة، وثمانين جر دقة، ثم أكل الناس السماط. وأكل مرة في مجلس واحد سبعين رمانة. وخروفاً، وفي أيامه ظهرت الكنافة فكان كل ليلة يتسحر بعشرين رطل منها، وتوفي سليمان سنة تسع وتسعين، واستمرت أم البنين بعد سليمان مشتغلة بالعبادات والصدقات إلى أن توفيت في خلافة يزيد، وقيل: في خلافة هشام. [102] بوران بنت الحسن بن سهل وزير المأمون كانت بارعة في الحسن، صاحبة عقل وكمال وعفة، فبلغ خبرها إلى المأمون فخطبها من أبيها سنة تسع ومائتين ودخل بها سنة عشرة ومائتين، تزوجها في مدينة واسط. ولما أدخلت عليه نثر يوم عرسها على الهاشميين والقواد بنادق مسك فيها رقع بأسماه ضياع وجوار وخيل وكل من وقع بيده رقعة ملك ما هو مكثوب فيها. نثر على الناس دنانير ودراهم، وأوقد ليلة زفافها شمعة عنبر وزنها أربعون مناً في فانوس من ذهب، ولما دخل المأمون على بوران نثرت على رأسه جدتها ألف حبة لؤلؤ نفيسة، ولما خلا المأمون بها حاضت من هيبة الخلافة. فقالت له: (أتى أمر الله فلا تستعجلو ... (. وحذقت الهاء لئلا تكون آية كاملة، ففطن المأمون لذلك، وأعجب بها، وخرج في الحال وأنشد ذلك: فًارِسٌ مَاضٍ بِحَربتِهِ ... عَارِفٌ بِالطَّعنِ في الظُّلَمِ رَامَ يُدْمِي فَرِيسَتَهُ ... فَاتَّقَتْهُ مِنْ دمٍ بِدَمِ

[103] زبيدة بنت جعفر بن المنصور العباسي

وذكر في "الكامل"، لما أكل آدم وحواء من الشجرة، وبدت لهما سوآتهما، ناداه ربه، يا آدم من أين أتيت؟ قال: من قبل حواء يا رب. فقال الله: فإن لها علي أن أدميها في كل شهر، وأن أجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً وتضع كرهاً، وتشرف على الموت مراراً (وقد كنت جعلته تحمل يسراً وتضع يسراً) ولولا بليتها لكن النساء لا يحضن. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى قال: يا آدم ماحملك على ماصنعت؟ قال: يا رب زينته لي حواء؟ قال: فإني أعقبتها لا تحمل إلا كرهاً، ودميتها في الشهر مرتين. كذا في"المعالم". قال: في "صدر الشريعة"، الحيض هو دم ينفضه رحم البالغة لا داء بها ولم تبلغ اليأس. وأقله ثلاثة أيام بلياليها، وأكثره عشرة بلياليها، هذا عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف أقله يومان، وأكثره الثالث، وعند الشافعي رضي الله عنه أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً، وقال في"الهدية": ويسقط عن الحائض الصلاة ولا تقضيها، ويحرم عليها الصوم، ولا تدخل المسجد ولا يأتيها زوجها لقوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن (وفي هذا كفاية، وما مضى لبوران أيام قلائل عند المأمون، إلا والمأمون قبض على إبراهيم ابن المهدي وسجنه وهم بقتله، فتشفعت فيه بوران، فعفى عنه وأطلقه، وذكر في "تاريخ المؤيد": إن الحسن بن سهل لما بلغه أن المأمون يخطب ابنته فرح فرحاً عظيماً، ولما عقد عليها كتب الحسن أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد رغبة في مصاهرة الخلفة، وافتتن المأمون في بوران لحسنها، وذكائها. ومما حكي عن أذكياء النساء: قال المدني: خرج ابن زياد في فوارس فلقوا رجلاً ومعه جارية لم ير مثلها في الحسن، فصاحوا به: خل عنها، وكان مع الرجل قوس فرمى أحدهم فهابوه، وعاد يرمي فانقطع الوتر فهجموا عليه، وأخذوا الجارية، واشتغلوا عنه بها، فمد أحدهم يده إلى أذنها، وفيها قرط فيه درة نفيسة. فقالت: وما قد ر هذه الدرة، وإنكم لو رأيتم في قلنسوته من درة لاستحقرتم هذه! فتركوها واتبعوا! وقالوا: ألق (ما) في القلنسوة. وكان فيها تر أعد لمثل ذلك نسيه من الدهشة، فلما ذكروه ما في القلنسوة ركبه ف ي القوس، وقاتل القوم، وهزمهم وملك الجارية ونجا بها. وحكي عن بعض أذكياء النساء من بعض الأدباء بحي (مر) للعرب فرأى امرأة فقال لها: ممن المرأة؟ قالت؟ من بني فلان. فأراد العبث بها. فقال لها: أتكتنون؟ قالت: نعم نكتني. فقال لها: لو فعلت لاغتسلت. فأجابته: أتعرف العروض؟ قال: نعم، قالت لي قول الشاعر: حَوَّلُوا عَتَّا كنِيسَتَكُمْ ... يَا بَني حَمَّالَة الحَطَبِ فلما أخذ يقطع قال: حولوا عن نكني. قالت: من هو؟ فتعجب الرجل وقال: الله أكبر إن للباغي مصرعاً. وقيل: مر الأصمعي بثلاث نساء، إحداهن قصيرة، وعن يمينها امرأة طويلة، وعن شمالها امرأة طويلة، فأراد بهن العبث فقال: أنتن لنا. فخرجت القصيرة من الوسط، وقامت في الرأس وقالت: نحن لله، فتعجب من ذكائها وفطنتها. واستمرت بوران عند المأمون في أرغد عيش إلى أن توفي المأمون سنة ثماني عشرة ومائتين، ودفن في طرسوس وفيه يقول الشاعر: خَلَّفُوهُ بِعَرْصَتي طَرْسُوسِ ... مِثلَمَا خَلَّفُوا أَبَاهُ بِطَوْسِ وسبب دفنه في طرسوس أنه سافر إلى مصر، ثم دخل إلى بلاد الروم، وسبب موته أنه كان جالساً على نهر ومعه أخوه المعتصم وأرجلهما في الماء، فتذكر الرطب فأحضروه له، وجيء به في سلتين، وكان قد حملوه من بغداد، وقدموا عليه في تلك الساعة فحمد الله وشكره، وأكلا منه وشربا من الماء، فحما ولم يزل المعتصم مريضاً حتى دخل العراق، ومات المأمون، ودفن هناك. وتوفيت بوران سنة إحدى وسعين ومائتين في بغداد. [103] زُبَيْدةُ بِنتُ جَعْفَرِ بْنِ المَنْصُورِ العَبَّاسي

واسمها آمنة، ولقبها جدها المنصور زبيدة لبياضها ونضارتها تزوجها الخليفة هارون الرشيد، فولدت له الأمين، وكانت صاحبة معروف وخير، وكان لها مائة جارية يحفظن القرآن، وكانت قد شرطت على واحدة تقرأ عشرة أجزاء فكان يسمع في دوي كدوي النحل من قراءة القرآن، وأجرت عين ماء من مكة عشرة أميال تحت الجبال والصخور حتى أدخلته من الحل إلى الحرم، وقالت: لو كيلها لما اشتكى كثرة الإنفاق، اعمل ولو ضربت الفأس بدينار، وهي باقية إلى الآن عن يمين الذاهب إلى منى، هكذا ذكره اليافعي، وقيل: إنها بنت حائطاً من بغداد إلى مكة، وحفرت آبار في كل مرحلة، وقيل: حائطين بحيث كان الأعمى إذا أراد الحج لمس الحائط وسار. وإذا عطش شرب من الآبار ولا يقربه شيء من الحيوانات والأسود لأن الطريق محصن بالحيطان، ولها صدقات كثيرة، وعاشت بعد زوجها الرشيد نحو عشرين سنة. ولما توفي الرشيد سنة ثلاث وتسعين ومائة في مدينة طوس، عهد بالخلافة لولده الأمين بن زبيدة، وكان منهمكاً على شرب وجمع المغاني وقسم الجواهر على النساء لشغفه بهن، واشترى عربية المغنية بمائة ألف دينار، واشترى جارية ابن عمه إبراهيم بعشرين ألف دينار، وفيه يقول الشاعر: إِذَا غَدَا مَلِكاً بِالَّلهْوِ مُشْتَغِلاً ... فَاحْكُم عَلَى مُلْكِهِ بِالوَيْلِ وَالخَرَبِ أَما تَرَى الشَّمْسَ فيِ المَيْزَانِ هَابطَةُّ ... لمَّا غَدَا وهُو بُرْجُ اللُّهوِ والطرب ولما استقر بالخلافة خلع أخاه المأمون وكتب إليه شعراً: يَا بْن الّذي بِيعَتْ بِأَبْخَسَ قِيمَةٍ ... بَيْنَ الوَرَى فيِ سُوقِ هَلْ منْ زَايِدِ ما فيكَ مَوْضعُ غُرزًةٍ من إِبرةٍ ... إِلاَّ وَفيهِ نُطْفَةٌ من واحدِ وكان الأمين يفتخر بأمه زبيدة، فأجابه المأمون. وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ الَّناسِ أَوعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وللإِماءِ آباءُ فَرُبَّ مُعْرِبةٍ ليْسَتْ بمُنْجِبةٍ ... وَطَالَ مَا أَنْجَبَتْ في الخدْرِ عَجْمَاءُ ثم إن المأمون حارب الأمين، وقتله سنة ثمان وتسعين ومائة. وبويع بالخلافة المأمون فاتفق أنه مر يوماً على زبيدة فرآها تتكلم ولا يفهمه، فقال: يا أماه أتدعين علي؟ قالت: لا. فألح فقالت: قبح الله اللحاح. فقال لها: كيف؟ قالت: لعنت يوماً مع أبيك بالشطرنج، على شرط، فغلبني فجردني من ثيابي وطاف بي القصر وأنا عريانة، ثم عاد إلى اللعب فغلبته فأمرته أن يذهب المطبخ يطأ أقبح جارية فيه، فرضي فلم أجد أقبح من أمك ولا أقذر منها فواقعها فحملت من بك، فكنت سبباً لقتل ولدي، فسكت المأمون وذهب وهو يقول: لعن الله اللحاح قتل الأمين، وتوفيت زبيدة سنة ست عشرة ومائتين. حكي أنه رآها في المنام بعض الصالحين، فقال لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لي، قال: بما غفر لك؟ قالت: كنت جالسة يوماً وعندي جوار يغنين، فسمعت صوت المؤذن يؤذن فأمرتهم بالسكوت إلى أن تم الآذان، فغفر لي بذلك. ونظير ذلك ما حكي أن أبا نواس لما توفي رآه رجل في المنام، فقال له: ما هي؟ فقال. شعر. تأمَّل في رِيَاضِ الأرضِ وانظُر ... إلى آثارِ مَا صَنعَ المليكُ عُيُونٌ من لجينٍ شاخصاتٌ ... على أحدا قها الذهبُ السبيكُ على قصب الزبرجد شاهداتٌ ... بِأَنَّ اللَّه ليس له شريكُ وحكي أن الرشيد العباسي طرقه ذات ليلة قلق وسهر، فدار على جواريه، ودخل على بعضهن، وهي نائمة فكشف عن وجهها وقبلها فانتهيت فزعاً، وقالت: من هذا فقال الرشيد: ضيف. فقالت الجارية: نكرم الضيف بسمعي والبصر، فلما أصبح الرشيد استدعى أبا نواس، قال له: أحب أن تضمن لي هذه هذا الشطر، وقرأه عليه، فقال: حباً وكرامة، وأنشد: طَالَ لَيليِ وعاوَدَني السَهَرْ ... ثمَّ فكَّرتُ وأَحسنْتُ النَظرْ جِئْتُ أَمشِي في زَوَايَاتِ الَخَبا ... ثمَّ طَورَاً في مقاصيرِ الَحجَر إِذْ بِوَجهِ قَمَر قَدْ لاحَ لِي ... زَاَنهُ الرَّحَمنُ من بينِ البَشَرْ َثمَّ أَقبلتُ إِليهِ مُسرِعاً ... ثَّم طَأْطَأْتُ وَقَبَّلْتُ الأَثَرْ فَاسْتَقَامَتْ فَزَعاً قَاِئلَةً ... يَا أَمِينَ اللَّهِ مَا هَذَا الخَبَرْ

[104] الحرة سيدة بنت أحمد بن جعفر بن موشى الصليحي.

قُلْتُ ضَيْفاً طَارِقَاً في دَارِكُمْ ... هَلْ تَضيفُونَ إِلى وقَت السَحَرْ فأجابَتْ بِسُرُورٍ سيدي ... نكرِمُ الضَيْفَ بِسَمْعي وَالْبَصَرْ فقال له الرشيد: يل فاعل! يا تارك! أكنت البارحة معنا؟! فاضربوا عنقه! فحلف ما كان. فعفى عنه وأجازه. وفي ذكر الأحلام ما حكاه الخرائطي الهمام: قال كان لبعض الحلفاء غلام وجارية متحابين فكتب الغلام إلى الجارية. وَلَقَدْ رَأَيْتُكِ في المَناَمِ كَأَنَّمَا ... عَاطَيْتنِي منْ رِيقِ فِيكِ الَبارِدِ وَكَأَنَّ كَفَّكِ في يَدي وَكَأَنَّنَا ... بِتْنَا جَمِعياً في فِرَاشٍ وَاحِدِ فَطَفِقْتُ لَيليِ كُلَّه مُتَرَاقِداً ... لأَرَاكِ في نومِي وَلَستُ برَاقِدِ فأجبت الجارية، وكتبت له شِعْر: خَيْراً رَأَيْتَ وكُلَّمَا أَبْصَرْتَه ... سَتَنَالَهُ منَّي بِرَغْمِ الحَاسِدِ إِنَّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مُعَانِقِي ... فَتَبِيتَ منَّي فِرِاشٍ وَاحِدِ وَأَرَاكَ بَيْنَ خَلاَخِلِي وَدَمَالِجِي ... وَأَرَاكِ بَيْنَ تَرَائِبِي وَمَجَاسِدي فبلغ ذلك مولا هما الخليفة فأنكحهما وأحسن إليها، والله سبحانه أعلم. [104] الحُرَّةُ سَيّدَةُ بِنْتُ أَحْمَد بنِ جَعْفَر بنِ مُوشَى الصَّليحي. ملكة اليمن مولدها سنة أربعمائة وأربعين تزوجها المالك المكرم أحمد بن علي الصليحي صاحب صنعاء، وكانت قد قامت بتربيتها أسماء بنت شهاب زوجة علي الصليحي، وزوجتها لولدها أحمد المكرم سنة إحدى وستين وأربعمائة، فأقامت الحرة في تدبير الملك والحروب أحسن قيام، واشتغل أحمد بالمأكول المشروب، وطالت مدتها، وتوفي زوجها أحمد سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وهي في الملك، ملك بعد أحمد سبأ بن أحمد، إحدى عشرة سنة، وهي في الملك، ومات سبأ سنة خمس وتسعين وأربعمائة، ثم قدم من مصر علي بن إبراهيم بن نجيب الدولة، وملك اليمن، وهي بصنعاء ملكة، وقبض على ابن إبراهيم بعد مضي ستة أعوام، وهي ملكة، واستمرت بالملك إلى أن توفيت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وعمرها اثنتان وتسعون سنة. وكان المفضل يحكم بين يدي الحرة وتحتجب عنه لئلا يطمع فيها، توفي المفضل سنة أربع وخمسمائة، واستقلت. الحرة بالمملكة إلى أن توفيت. [105] أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر كانت في غاية الجمل والبهاء والكمال، تزوجها الخليفة المعتضد بالله أحمد بن الموفق العباسي سنة مائتين واثنتين. وأصدقها ألف ألف درهم، وأرسها أبوها من مصر إلى بغداد، فأحبها المعتضد حباً شديداً ولقبها قطر الندى، وحظيت عنده، وكانت من أهل الكمال والذكاء، وحكي: أنها لما زفت إلى المعتضد أحبها حباً شديداً، وكان إذ نام يضع رأسه في حجرها، فأتفق أنه ليلة نام على ووضع رآه في حجرها، فلما فرفعت رأسه وسدته وخرجت فلما استيقظ ذعر وناداها فأجابته من قرب. فقل لها: تركتني وذهبت عني؟ فقالت: والله لم أزل كالئة لأمير المؤمنين قال: فما أخرجك عني؟ قالت: مما أدبني به والدي أن لا أجلس مع النائمين ولا أنام مع الجلوس. ومما حكي عن بعض أذكياء النساء أن الخليفة المتوكل على الله العباسي بلغه أن جارية في المدينة جميلة الصورة، حسنة السيرة تحسن الغناء، وضرب العود، فأرسل إلى مولاها يطلبها منه. فكاد أن يزول عقل مولاها لفرط حبة إياها، فقالت له: أحسن ظنك بالله وبي فإني كفيلة بما تحب. فحملت إلى المتوكل، وأدخلت عليه فقال لها: أقرئي شيئاً من القرآن. فقالت: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة (إلى تمام الآية. ففطن المتوكل (إلى) ما أرادت فردها إلى مولاها. وتوفيت قطر الندى سنة أربع وثمانين ومائتين. [106] أُمَُ خالَدِ

[107] قبيحة جارية الخليفة المتوكل على الله جعفر.

هي زوجة يزيد بن معاوية، وخالد ولدها من يزيد تزوجها يزيد وحظيت عنده، وولدت له خالداً ومات يزيد سنة أربع وستين، وصار الناس في الشام فرقتين، اليمانية مع مروان بن الحكم، والقيسية مع الضحاك بن قيس، وكانوا مبايعين لابن الزبير رضي الله عنه فقاتلهم مروان فانهزم الضحاك وهربت القيسية ثم قتل الضحاك، وذلك في الغوطة، ودخل مروان دمشق ونزل بدار معاوية رضي الله عنه، واجتمع عليه الناس فتزوج أم خالد خوفاً من خالد. وأقامت عنده سنة، فاتفق أنه يوماً خاصمها وشتمها، فغضبت لذلك، فدعت جواريها وقبضن على مروان فوضعت مخدّة على وجهه، وجلست هي وجواريها فوقه حتى مات. وأظهرت للناس أنه مات فجأة، وذلك لثلاث خلون من رمضان، وهذا مروان كان يقال له الطريد لأن النبي صلى الله عليه وسلم طرده من المدينة، عن مكانه مرحلة، ولما توفي الصديق، رضي الله عنه وولي الخلافة عمر رضي الله عنه أبعده مرحلة أخرى، ولما توفي عمر رضي الله عنه وولي الخلافة عثمان رضي الله عنه أعاده إلى المدينة، ومما نقموا على الإمام عثمان، رضي الله عنه عودة مروان المدينة وتوفيت أم خالد في خلافة عبد الملك والله أعلم. [107] قَبِيحَةُ جَارِيَةُ الخَلِيفَة المُتوكل علَىَ اللَّه جَعْفَر. العباسي، وهي أم ولده المعتز بالله محمد، وكان المتوكل سماها قبيحة لفرط حسنها وجمالها واعتدالها، وسماها بهذا الاسم كما يسمى العبد الأسود كافوراً، والأمة السوداء فضة، وقتل المتوكل سنة سبع وأربعين ومائتين، وأقامت قبيحة عند ولدها المعتز، وكان المتوكل حين ولي الخلافة أحيا السنة وأمات البدعة، ورفع المحنة بقول خلق القرآن وخذل المعتزلة. وأكرم العلماء. ولم يكن له سيئة إلا أنه كان يبغض الأمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمر بهدم قبة الحسين رضي الله عنه وهدم ما حولها من المنازل، وجعلها مزرعة وفي ذلك يقول الشاعر: تَااللَّهِ إن كانَتْ أُمَيةُ قَدْ أَتَتْ ... قَتْلَ ابْن بِنْتِ نَبِيَّهَا مَظْلُومَا فَلَقَدْ أَتَى بَنُوا أَبِيهِ بِمِثْلِهِ ... هَذَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومَا أَسِفُوا عَلَى أَنْ يَكُونُوا شَارَكُوا ... في قَتْلِهِ فَتَتَبُّعُوهُ رَمِيمَا وفيه يقول ابن الوردي: وَكَمْ قَدْ سَحْى خَيْرٌ بِشَرًّكَماَ انْمَحَتْ ... بِبُغْضِ عَليًّ سِيرَة المُتَوكَّل تَعَمَّقَ في عَدلٍ وَلَمَّا جَنَى على ... جِنَابِ عَليًّ حَطَّهُ الَّسيل منْ عَلِ ولما بويع المعتز بالله سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكان حسن الصورة كمثل أمه، والفرع يلحق بالأصول ويقتفي، ولم يكن يلي الخلافة أصغر منه، وكان مغلوباً مع الأتراك فتغلب عليه ابن وصيف، وخلعه من الخلافة سنة مائتين وخمس وخمسين، وأدخله الحمام ولطمه ومنعه شرب الماء ثم سقوه ماء الثلج فمات من ساعته، واختفت أمه قبيحة ثم ظهرت في هذه السنة، في رمضان، فبلغ صالح بن وصيف ظهور قبيحة فقبض عليه، وأخذ منها ألف ألف دينار، وسفط زمرد، وسفط لؤلؤ، وسفط ياقوت أحمر لم يوجد مثله، وقال صالح: قبح الله قبيحة عرضت ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار، وعندها هذه الأموال! ثم نفاها إلى مكة، وأقامت هناك تدعو على صالح بصوت عال، وتقول: هتك ستري، وقتل ولدي، وأخذ أموالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني وفي ذلك يقول الشاعر: جَزَى ابْنُ وَصيفَ مَوْلاَه بِشَرَّ ... وَلَكِن هَكَذَا صِفَةُ الوَصِيفِ ولم يمض على صالح سنة حتى تغلب عليه الأمير موسى بن بغا التركي، وقتله واستولى على أمواله. وتوفيت قبيحة في مكة، وقيل عادت إلى بغداد (وتوفيت) في خلافة المعتمد على الله أحمد بن المتوكل على الله. [108] شَغَب جَارِيَة الخَلِيفَة المُعْتَضِد بِالله أَحْمَد

[109] جميلة بنت ناصر الدولة الحسن بن عبد الله

ابن الموفق العباسي، وقيل: بل زوجته تزوجها فولدت له المقدر بالله جعفر، وكان يقال لها: القهرمانة، وكانت جميلة الأطراف، حسنة الأوصاف، فأحبها المعتضد، وشغف بها، ومات عنها سنة تسع وثمانين، وقيل: تسعين، وقيل: إحدى وتسعين ومائتين، فأقامت عند ولدها المقتدر بالله جعفر، وولي الخلافة المكتفي بالله علي بن المعتضد أخو المقتدر لأبيه، ومات سنة خمس وتسعين ومائتين، وولي الخلافة المقتدر وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة فدبرت مملكته أمه القهرمانة، وكان المقتدر مولعاً بحب النساء حتى إنه أعطاهن جميع ما عنده من الجواهر النفيسة، واستمرت القهرمانة تدبر المملكة إلى أن كثر الضرر، وعم الناس في البحر والبر. وغارت الروم على الثغور الحزرية، وملك المهدي العلوي مدينة الإسكندرية، فعند ذلك أيقظت همة ولدها المقتدر، وأمرته أن يجلس للمظالم، ووهبت وأعطت، وأنعمت على أرباب الدولة، وذلك سنة خمس ثلاثمائة، وقدم رسول الروم إلى بغداد فاصطفت العساكر، وكانوا مائة ألف وستين ألفاً، ووقفت الغلمان، والخصيان والخدم وهم سبعة آلاف. أربعة آلاف أبيض، وثلاثة آلاف أسود، وقفت الحجاب وهم سبعمائة، وزينت الدار بثمانية آلاف وثلاثين ألف ستر، ومائة سبع مع مائة سباع. وألقيت المراكب في الدجلة، بالزينة، وأدخل الرسول دار الشجرة، وفيها بركة ماءٍ عليها شجرة من الذهب والفضة ولها ثمانية عشرة غصن على كل غصن طير من الذهب والفضة وورق الشجرة من الفضة والذهب، والطيور تصفر. بحركات مرتبة، وكان يوماً مشهوداً. واستمر المقتدر على خلافته إلى أن حصل بيته وبين الحاجب مؤنس الخادم وحشة فهرب مؤنس إلى الموصل وملكها، وجمع العساكر وعاد إلى بغداد فخرج إلى حربه المقتدر فقتل وحمل رأسه على رمح إلى عند مؤنس سنة تسع عشرة وثلاثمائة، ثم صلبوا جثة المقتدر وهو مكشوف العورة، فلا رحم اله مؤنساً، ثم صادر أصحاب المقتدر وقبض على أمه القهرمانة وتبعه بذلك الخليفة القاهر محمد أخو المقتدر لأبيه، وعذب القهرمانة وسألها عن الأموال فاعترفت بما عندها من المصاغ والثياب فضربها الشديد، وعلقها من رجليها منكسة حتى كان يجري بولها على وجهها. وماتت سنة عشرين وثلاثمائة. ثم قبض المماليك على القاهر وخلعوه وسلموا عينيه وبقي يسأل لناس الصدقة وذلك لشدة ظلمه، وقطع رحمه، والله أعلم ونظير ما فعل مؤنس الخادم بالخليفة المقتدر ما فعله الخبيث الحجاج لما قتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقطع رأسه وأمر بحثته فصلب، وهو مكشوف العورة وقيل: بل عليه ثيابه وتركه أياماً، فدخلت على الحجاج أمه أسماء ذات النطاقين، بيت الصديق رضي الله عنه وقالت له: أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟ فقال الخبيث: خلوا عنها وعن جيفتها! ولما رأته أمه أسماء حاضت ودر ثديها وعمرها مائة سنةٍ، فقالت: حنت عليه مرا تعه ومراضعه. ونظير ذلك ما فعله اللعين يوسف الثقفي (حين) . قبض على الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما. فقطع رأسه ثم صلب جثته وهو مكشوف العورة فجاء العنكبوت ونسج على عورته، وأقام أياماً مصلوباً ثم أنزله وحرقه النار. فلعنه الله على قاتله. وقبر زيد رضي الله عنه بالموصل في محلة تعرف بالطارق. [109] جميلة بنت ناصر الدولة الحسن بن عبد الله

[110] تركان زوحة السلطان ملك شاه بن البارسلان السلجوقي

ابن حمدان صاحب مدينة الموصل، كانت من أجمل النساء عقلاً وجمالاً، وقيل: إنها لم تتزوج لشهامة عندها حتى لا يحكم عليها أحد من الرجال، وقد ذكر الثعالبي في كتاب "يتيمة الدهر": فقال: كانت بنو حمدان أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة. وكانت جميلة من أشرف نساء زمانها، تكرم العلماء وتعظم الفضلاء، ولما تغلب على أبيها أخوها أبو تغلب وقبض على أبيه، وسجنه في قلعة الجراحية، ووكل به من يخدمه لكبر سنه، وضعف فوته ورأيه، فلم تجد بداً جميلة من متابعة أخيها، وذلك سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وفي سنة ست وستين وثلاثمائة، حجت جميلة بنت ناصر الدولة، وكان معها أربعمائة جارية، وتصدقت على أهل الحرمين، نثرت على الكعبة الشريفة عشرة آلاف دينار، ولما تغلب عضد الدولة بن ركن الدولة سلطان العراق على أبي تغلب وملك الموصل، وهرب أبو تغلب إلى الدولة سنة تسع وستين وثلاثمائة، وكان معه سبعمائة غلام من ممالكيه ومماليك أبيه، ومعه أخته جميلة وزوجته بنت عمه سيف الدولة، فخرج عليهم أمير طيء دغفل بن مفرج، وقتل أبا تغلب وتفرقت غلمانه، وحملوا أخته جميلة وزوجته بنت سيف الدولة إلى حلب، فأخذ سعد الدولة صاحب حلب أخته وتركها عنده، وأرسل جميلة بنت عمه إلى بغداد فاعتقلها عضد الدولة في حجرة، ثم أركبها على جمل سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، ونادى عليها: هذه قبيحة أخت أبي مغلوب. ثم ألقاها في الدجلة وغرقها وماتت. [110] تركان زوحة السلطان ملك شاه بن البارسلان السلجوقي تزوجها سنة ثمانين وأربعمائة فولدت له السلطان محمود سنة أحدى وثمانين وأربعمائة ومات ملك شاه سنة خمس وثمانين وأربعمائة في بغداد، ولما أخفت تركان موته وفرقت الأموال على الأمراء والعساكر وسارت بهم إلى أصفهان، واستخلفت العساكر لولدها السلطان محمود، وعمره إذ ذاك أربع سنين، وقامت بتدبير الملك أحسن قيام، ودبر الأمر بين يديها تناج الملك بن نظام الملك. وكان من أصفهان السلطان بركيارق، بن السلطان ملك شاه فهرب من أصفهان خوفاً من تركان خاتون وتوجه نحو بغداد، وأرسلت تركان خاتون إلى بغداد، وخطبوا لولدها محمود في بغداد، وتقوى بركيارق، واجتمع عليه خلق عظيم، وملك بعض البلاد، فبلغ ذلك تركان خاتون فجهزت العساكر لحرب بركيارق مع الوزير تاج الملك، فحاربهم بركيارق وهزمهم، وقتل: تاج الملك سنة ست ثمانين وأربعمائة وقدم بركيارق وحاصر أصفهان وكانت تركان خاتون مريضة وماتت وهي محاصرة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وأصاب ولدها السلطان محمود جدري ومات بعدها بأيام قلائل، ومدة ملكه سنتان وأيام قلائل، وطمع بركيارق وملك أصفهان وجميع مملكة أبيه، واستقر الملك له، والله الباقي. [111] زمرد بنت جاولي صاحب مدينة الموصل تزوجها تاج الدين بوري بن صغتكين صاحب مدينة دمشق، وأصدقها أربعين ألف دينار وتحف، وحظيت عنده، وولدت له مونح ومحمداً وشمس الملوك إسماعيل وشهاب الدين محمود، وهي التي بنت المدرسة ظاهر دمشق سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وأوقفت لها أوقافاً كثيرة، وتوفي زوجها تاج الملك بوري سنة ست وعشرين وخمسمائة وسبب موته أن الباطنية وثبوا عليه وجرحوه جرحين برأ واحد منهما والآخر نسر ومات به، وملك الشام بعده ولده شمس الملوك إسماعيل وكان ظالماً قبض على أخيه وقتله، سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة اتفقت أمه زمرد مع رجل من أمراء دولته وسقته السم، ومات وقيل: كرهت ظلمه على الرعية فدست إليه من قتله. وملك دمشق بعده أخوه شهاب الدين محمود واستمر الملك بيده إلى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة فقدم عماد الدين زنكي وملك حمص وحصن المجدل، وتزوج زمرد خاتون طمعاً بدمشق، وقتل محمود سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وكره عماد زمرد خاتون لما عجز عن ملك دمشق وطلقها، وأقامت إلى أن مات عماد الدين فتزوجت زمرد برجل باقلاني لفقرها وشدة احتياجها، فكان إذا لطمها زوجها تقول: لو عرفتني لما ضربتني، وتوفيت زمرد سنة خمس وأربعين وخمسمائة. [112] زمرد زوجة الأمير طغتكين بن أيوب الأيوبي صاحب بلاد اليمن

[113] ضيفة بنت الملك العادل أبي بكر أيوب

ولد له المعز إسماعيل والناصر أيوب، ومات طغتكين في اليمن سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، فملك اليمن بعده ولده المعز إسماعيل، وكان ظالماً مخبطاً، ادعى أنه قرشي أموي ولبس الخضرة، وخطب لنفسه بالخلافة فقتله مماليك أبيه بعدما وافقتهم أمه زمرد، وأقامت ولدها الصغير أيوب. وصار أتابكه الأمير سيف الدين سنقر، ومات بعد أربع سنين وصار أتابكه الأمير غازي بن جبرائيل، وتزوج زمرد أم الناصر، ثم طغى الأمير غازي، وطمع في بلاد اليمن فسم الناصر فمات، فاجتمعت العرب وقتلوا الأمير غازي وخلت اليمن فتغلبت زمرد أم الناصر، وملكت زبيد، وأخرجت الأموال وأنفقت على العساكر، وأقامت تنتظر من يقدم من بني أيوب ليملك بلاد اليمن وتتزوج به، وأرسلت زمرد بعض غلمانها إلى مكة في موسم الحج ليأتيها بأخبار مصر والشام، فوجد سليمان بن شاهنشاه بن أيوب، وكان فقيراً، فحمله معه ذلك الغلام إلى اليمن، وأحضره عند زمرد فتزوجت به وملكته اليمن فملأ اليمن جوراً، ولم يرع حق زمرد وطرحها وأعرض عنها، وكتب إلى عمه الملك العادل كتاباً أوله "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" فاستقل عقله وأهمله، وتوفيت زمرد أم الناصر في حدود سنة ستمائة والله أعلم. وفي سنة اثنتي عشرة وستمائة، أرسل الملك الكامل ابن العادل ابنه الملك المسعود يوسف إلى اليمن في جيش عظيم فملك اليمن وقبض على سليمان وبعثه إلى مصر فأجرى له الكامل ابن العادل ولده الملك المسعود يوسف إلى اليمن في جيش عظيم فملك اليمن وقبض على سليمان وبعثه إلى مصر فأجرى له الكامل ما يقوم به إلى أن مات. [113] ضيفة بنت الملك العادل أبي بكر أيوب مولدها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، ولما ولدت كان عند أبيها ضيف فسماها أبوها ضيفة تزوجها الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب سنة تسع وستمائة، وذلك بعد وفاة أختها ملكة، ولما عقد عليها أصدقها خمسين ألف دينار، واحتفل الظاهر لملتقاها بالنفائس، ومات عنها الظاهر سنة ثلاث عشرة وستمائة فملك حلب ابنها الملك العزيز محمد، ودبرته أمه ضيفة خاتون إلى أن كبر وطالت أيامه، وتوفي العزيز محمد سنة أربع وثلاثين وستمائة. فملكت حلب ضيفة خاتون إلى أن كبر الملك الناصر يوسف بن العزيز محمد، ودبرت الملك أحسن تدبير إلى أن بلغ عمر ابن ابنها. [115] ملك بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب كانت منى أجمل النساء خلقاً، وأحسنهن خلقا، وأزكاهن فرعاً، وأوفاهن طبعاً، تزوجها الملك المنصور محمد بن عبد الملك، وقيل: محمد بن محمود بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وهو صاحب حماة، وأصدقها أربعين ألف دينار، ودخل بها وحملت منه بالمظفر محمود وشغف فيها، ولما كبر المظفر أخذ له المنصور أبوه العهد على حماة سنة ست عشرة وستمائة، وجعله ولي عهده، وأرسل معه جيشاً لنجدة الملك الكامل بمصر فسار المظفر محمود وقدم إلى مصر فأكرمه الكامل، وأنزله في الميمنة منزلة أبيه وجده، وبعد توجه المظفر من حماة تمرضت ملكة أياماً، وماتت فحزن عليها الملك المنصور، ولبس الحداد. قال ابن واصل: رأيته، وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، يومئذ، وقد لبس ثوباً أزرق وعمامة زرقاء، وفي ذلك يقول حسام الدين بن الجندي الكردي من قصيدة يرثيها: الظرف في لجة والقلب في سعر ... له دخان زفير طار بالشرر لو كان من مات يفدي قبلها لفدى ... أم المظفر آلاف من البشر ما كنت أعلم أن الشمس قد غربت ... حتى رأيت الدجى ملقى على القمر وفي المراثي قولي أرثي أحد أولاد العم، فمنها قولي: لو كنت تفدى من أذى ومنية ... لفديت بالآباء والأبناء أو كنت تشترى لاشتريتك رابحاً ... بالمال والأملاك والأحياء يا دهر ويحك ما تركت مصيبة ... إلا وقد ألقيتها بفناء ولأخي أمين العمري الخطيب يرثي والده خير الله العمري فمنها: فلو استطع جعلت نعشك مهجتي ... وتركت شخصك في ضميري يقبر ولو أن محزوناً تكلف فوق ما ... في وسعه لبكى عليك المنبر ونعاك محراب بقيت بجوفه ... لله في جنح الظلام تكبر وبكاك أوراد ألفت دعاءه ... حججاً وحن لك الكتاب الأزهر فالفقه بعدك في حين متيم ... والنحو والتصريف عنك مقرر

[114] ملكة بنت العادل أبي بكر بن أيوب

وهي طويلة، ومثلها قول عبد الملك بك بن أمين بك يرثي والدي، ومنها: فلا خير في أوقاته لذوي النهى ... إذا كان خير الله في لوحه ممحو كريم نشا بالمكرمات فعمره ... تناهى بكسب الخير من بعضه النصح قضى فقضى من بعده العلم والحجا ... ومن أفق ليل الجهل قد أفقد الصبح وقولي من قصيدة أخرى أرثي أحد أولاد العم فمنها: يعز لعيني أن تمل من البكا ... عليه وقلبي أن يمل من الصبر فمن لمريد الفقه والنحو بعده ... ومن لذوي التسآل والفهم والفكر فيا قلب لا تجزع ونادي تأسفاً ... لقد غاب في بطن الثرى غرة البدر ثلاث عشرة سنة، فأشهد عليه أنه بلغ وأدرك الحلم فاستلم حلب ومضافاتها، والمرجع إلى إقبال الأسود الخصي، وتوفيت ضيفة خاتون بالحمى والقرحة، ودفنت في قلعة حلب وعاشت نحو تسع وخمسين سنة وكانت من أصحاب الرأي والكمال. [114] ملكة بنت العادل أبي بكر بن أيوب تزجها الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب قبل أختها ضيفة، وأصدقها خمسين ألف دينار، وكانت من أجمل نساء زمانها وأحبها وشغف بها، فولدت له الملك المظفر محمود وقيل: كان اسمها غازية، وماتت سنة تسع وستمائة. [116] ربيع بنت نجم الدين أيوب وهي أخت السلطان صلاح الدين يوسف لأمه وأبيه كانت من أهل الصلاح والدين، تكرم العلماء، وتنعم على الفضلاء، أراد أن يزوجها الملك الكامل بن العادل لوزيره الفاضل فامتنعت وأبت، وهي التي بنت المدرسة الحنبلية في جبل الصالحية، وجعلت لها أوقافاً، وجعلت للمدرس كل يوم درهمين وللمعيد درهماً، وللطلبة كل واحد نصف درهم، ويكون طلبة العلم عشرين، استمرت المدرسة زماناً إلى أن انقرضت دولة الأيوبيين فلم تبق على الترتيب وانهدمت، وتوفيت ربيع خاتون سنة ثلاثة وأربعين وستمائة، وقد جاوزت الثمانين سنة، ولم يسقط ضرس من أضراسها. [117] شجر الدر جارية الصالح أيوب وقيل: زوجته، ولفرط جمالها سماها الصلح شجر الدر، وحظيت عنده وأحبها، ولم تحمل منه، وقيل: ولدت له ولداً سماه خليل ومات، وهو صغير ولما مات الصالح أيوب سنة سبع وأربعين وستمائة، فأحضرت شجر الدر فخر الدين بن الشيخ، ومحسن الطواشي، وجمعوا الأمراء من وراء حجاب، وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا لولده المعظم، فإنه عهد له بالملك من بعده وجعل أتابكه ابن الشيخ فخر الدين، ويأمركم أن تحلفوا أيضاً لأتابكه، فحلفوا له، ثم أظهرت شجر الدر موت الصالح أيوب. بعدما أرسلت واستدعت المعظم ابن الصالح أيوب. وكان في مدينة كيفا، وشاع موت الصالح فتقدمت الإفرنج إلى جهة مصر، وطمعوا في المسلمين، ووقعت وقعة عظيمة، وقتل فخر الدين بن الشيخ مستهل رمضان، ثمة نصر الله المسلمين، وأخذوا من الإفرنج اثنين وثلاثين مركباً وهرب الإفرنج. ثم قدم المعظم وبايعوه، وجددوا البيعة بمصر، وذلك سنة سبع وأربعين وستمائة وتجهز بالعساكر من مصر سنة ثمان وأربعين وستمائة وحارب الإفرنج وكسرهم. وقتل من الإفرنج سبعة آلاف ومن المسلمين مائة، وأسر ملك الإفرنج ثم أطلقه، وشرع المعظم في إبعاد أمراء أبيه، وتقرب غيرهم فمقتوه ثم قتلوه، فأقامت بالمملكة شجر الدر، وخطب باسمها، وضرب السكة باسمها، وكان نقش السكة: المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة الملك المنصور خليل. وجعلت علامتها إلى التواقيع والمناشير: والدة خليل. وصار أتابك العساكر عز الدين أيبك. ثم إن فرنس ملك الإفرنج تقدم إلى نوابه وسلم دمياط للمسلمين، وأطلق فرنس. وفي ذلك يقول ابن مطروح: قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قؤول نصيح أتيت مصر تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح وكل أصحابك أوردتهم ... بحسن تدبيرك الضريح خمسون ألفاً لا ترى منهم ... غير قتيل أو أسير جريح وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لقصد صحيح دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح

[118] أم الواحد بنت القاضي العلامة الحسين المحاملي

ثم إن شجر الدر تزوجت عز الدين أيبك، واستقل بالسلطنة وطالت أيامه، وخطب بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فبلغ ذلك شجر الدر فغضبت لذلك فلما دخل عز الدين أيبك الحمام جهزت شجر الدر الجوهري والخدام. فدخلوا على أيبك وقتلوه في الحمام، وبلغ ذلك مماليك أيبك فعزموا على قتل شجر الدر فحماها مماليك الصالح، ونقلت شجر الدر إلى البرج الأحمر، ثم قتلوها سنة خمس وخمسين وستمائة. [118] أم الواحد بنت القاضي العلامة الحسين المحاملي كانت من أهل الدين والصلاح، قرأت القرآن وحفظته مجوداً، وكانت حسنة الصوت، ثم قرأت الفقه، والنحو وعلم الفرائض، وأتقنت الجميع، ودرست في دارها النساء المخدرات، قرأ عليها كثير من النساء، وكان في عصرها وقطرها لا تحتاج النساء إلى سؤال مسألة لأحد من العلماء لأنها كفت الجميع ما يحتاجون إليه، وهو قراءة القرآن، ومسائل الفقه والفرائض، قيل: إن امرأة سألتها يوماً فقالت: ما تقول سيدتنا في جنب وحائض وميت، كانوا في البر وعندهم ماء يكفي لأحدهم، أيهما يتقدم؟ فقالت تقدم الحائض لأن ماء غسلها فرض على زوجها الجنب، ويتيم هو ثم الميت أيضاً، وإنما تقدم لأنها عورة فربما ظفرت بالماء وليس القدرة على الاغتسال، فلأجل ذلك تقدم على الرجل الميت. ووجدت في هامش كتاب "الهداية" ناقلاً عن العلامة ابن همام الحنبلي: أولى بالماء المباح إذا وجدوه، هو وحائض ومعهم ميت، فيغتسل الجنب ويتيم الميت والحائض، وكذا المحدث. وهذا يدل على أن الرجل الجنب أولى من الامرأة والله أعلم، توفيت أم الواحد سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. [119] أم الفضل بنت عبد الصمد الهروية صاحبة الأدب والفضل قرأت العلوم على الفقيه الفاضل ابن أبي شريح، ولها جزء مشهور ترويه أيضاً عن ابن أبي شريح، ولها غير ذلك، توفيت سنة سبع وسبعين وأربعمائة. [120] فاطمة بنت الحسن بنت علي الأقرع كانت أجود أهل زمانها بالأدب والفضل، وكانت حسنة الخط في الغاية مع سرعة الكتابة وفرط صحته. حكي أنها كتبت يوماً، ورقة وأرسلتها إلى الوزير الكندري فتعجب من حسن خطها وبلاغة معانيها، فأعطاها ألف دينار. وكان لها اطلاع تام في معرفة التواريخ، وتحفظ شيئاً كثيراً من أشعار العرب. حكي أن رجلاً سائلاً أتى دار فاطمة بنت الحسن يسألها شيئاً يستعين به على البرد، في يوم شديد البرد، وذكر لها أنه كثير التهجد بالليل وقد رمدت عيناه من السهر فقلت له: بما تداوي عينيك؟ قال بالعبادة والصوم والدعاء. فقالت له: لو خلطت الثلاثة بالمثلثة مع قليل انزروت لكان أسرع للإجابة. فقال لها: ما المثلثة؟ قالت: النوم والراحة وعدم السؤال. فولى الرجل وهو يقول: لا أفلح سائل سأل سائلاً. وتوفيت فاطمة بنت الحسن سنة ثمانين وأربعمائة والله أعلم. [121] فاطمة أم الخير بنت علي المعروفة ببنت زعبل كانت أوحد أهل زمانها بعلم الحديث، زولها مشاركة بالفقه والنحو والفرائض، وروت صحيح مسلم، كذا ذكره اليافعي، وكانت تتميز بالمسند والمرفوع والمتصل والمعنعن والمرسل والمتقطع والموضوع والمتواترة والغريب والمصحف والمسلسل. ذكر في "الصفوة" المسند هو المتصل، والمقطوع هو المرسل، المنقطع المغضل هو الشاذ المعلل والمدلس المضطرب، والموضوع ما أضيف إليه صلى الله عليه وسلم والمعنعن هو الذي يقال في سنده فلان عن فلان، والمتواتر ما رواه جماعة كثيرة، والغريب ما انفرد به شخص واحد، والمصحف تغير لفظ أو معنى عن ظن الصواب. والمسلسل هو ما تتابع رجال إسناده على صفه أو حالة، والمرسل هو قول التابعي الكبير، والموضوع هو المختلق المصنوع.

[122] شهدة بنت أحمد بن الفرج

وذكر الشيخ علي القاري، قال الزركشي: بين قولنا لم يصح، وقولنا: موضوع، فرق بين لأن الوضع إثبات الكذب، وقولنا: لم يصح، إنما هو إخبار عن عدم الثبوت، ولا يلزم منه إثبات العدم. ومما يستحب للمحدث ذكره في "الصفوة": أن يقدم الصالحات، ويحرص على نشر الحديث، وإذا أراد الحضور في مجلس الحديث فليتطهر، ويتطيب، ويسرح شعره، ويجلس متمكناً بوقار، ويفتتح بتحميد الله تعالى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وينبغي إلا يحدث بحضرة من هو أولى به، ومما يجب على الطالب تصحيح النية، وتقديم العمل الصالح، والإخلاص، وينبغي أن يعظم شيخه ومن يسمع منه، فذلك من إجلال العلم وأسباب الانتفاع به. وفيه أيضاً يجوز التساهل عندهم في أسانيد الضعيف وروايته سوى الموضوع، ولا يثبت شيء من الأحكام الخمسة بالضعيف، غير أنه يجوز العمل بالضعيف في الفضائل. وتوفيت أم الخير فاطمة سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. والله أعلم. [122] شهدة بنت أحمد بن الفرج العالمة، الفاضلة، الصالحة، الورعة، العابدة، التقية، برعت في العلوم، وأتقنت المنطوق والمفهوم، وكانت تصوم الاثنين والخمسين، وتعظ النساء الوعظ النفيس. اشتهر فضلها في الآفاق ونما بالعراق، ولها مشاركة في كثير من العلوم ولا سيما الفقه، وعلم التفسير، وعلم الحديث، وكانت تجلس من وراء حجاب، وتقرئ الطلاب، وتتلمذ عليها خلق كثير مثل الشيخ أبي الحسن والفقيه أبي المعالي أحمد بن خلف. توفيت غي حدود سنة أربع وسبعين وخمسمائة وتعرف بالكاتبة. [123] تقية بنت غوث بن علي الصوري كانت أوحد أهل زمانها بالأدب، ولها مشاركة في بعض العلوم، وأتقنت النحو، ولها شعر جيد، فمن ذلك قولها في وصف مليح، وحمرة خده الصحيح: خد من أهواه يحكي زحلا ... صبغوه من دمي كالعندم ولماه عسل فيه الشفا ... وحماه كعبتي بل حرمي وعلى هذا القول بعضهم، وأجاد أهيف خده من ماء ورد ... يحوز الحسن فهو بلا شبيه فلو أخجلته بالقول جهدي ... لحمرة خده ما بان فيه وقال آخر: ونار خديه الذي أضرمت ... غدا بها كان لقلبي غرام اخترته مولى ويا ليته ... لو قال يا بشراي هذا غلام حكي: أن تقية مدحت الملك المظفر عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين بقصيدة طويلة فأجازها وتوفيت سنة ثمانين وخمسمائة. [124] تعيسة أو عبد الله الطرابلسي كانت من المخدرات، ذكر ابن كثير قال: لما دخلت سنة أربع وخمسين وسبعمائة، كانت تعيسة بنتاً باكرة قريباً من البلوغ، فزوجت لرجل، فلم يقدر على وقاعها فطلقها ثم تزوجها آخر، ولم يقدر عليها وطلقها، وتزوجها الثالث وعجز عنها فطلقها، ولم يقدر أحد عليها، يظن أن بها رتقاً فلما بلغت خمس عشرة غار ثدياها، ثم جعل يخرج من محل الفرج شيئاً قليلاً قليلاً مثل البنت إلى أن صار قد أصبح ذكراً وتحته أنثيان، واشتهرت هذه الحكاية، وتزوجت بامرأة بعدما كانت امرأة. ونظير هذا ما ذكره لي من أثق به، وحلف لي أنه رأى في كتاب: أن رجلاً من أهل الصلاح وأهل العلم كان له بنت، وقد جاوزت عشر سنين، فأرسل بعض الأشرار ممن هو ليس كفوءاً يخطب منه ابنته، فأنكر ذلك الرجل الصالح البنت، وقال: ليس لي بنت إنما هو ولد ثم دخل إلى بيته وأخبر زوجته بذلك فأحضروا البنت فوجدوها ولد ذكراً وقد صار له ذكر، وأنثيان. وصدق الله قول ذلك الصالح وكفاه شر ذلك الطالح. ولا يبعد هذا عن قدرة الله تعالى فإن القدرة صالحة لكل شيء والله أعلم. ومما حكي: أن إماماً كان بمدينة حلب يصلي سنة سبع مائة واثنين وثمانين، فجاء شخص وعبث به وهو يصلي فلم يقطع الإمام صلاته، حتى سلم فانقلب ذلك العابث وجهه وجه خنزير، وهرب من وقته إلى غابة خارج حلب، ومات بعد ثلاثة أيام.

[125] فاطمة بنت القاضي جلال الدين البلقيني

وحكي: أنه كان لرجل اسمه القاروبي جمال، فلما دخلت سنة ثمانمائة وخمس عشرة حمل جملاً منها فوق طاقته قريباً من مكة، فهرب الجمل، ودخل البيت وجعل يطوف الناس حوله يريدون قبضه فلا يمكنهم من نفسه، ويعضهم ويرمحهم فتركوه واحداً وعشرين يوماً، وهو يطوف ولا يأكل ولا يشرب ثم سار إلى الحجر الأسود، وقبله، ثم توجه إلى مقام الحنفية، ووقف تجاه الميزاب، وبكى، وألقى نفسه في الأرض ومات، فحمله الناس ودفنوه ما بين الصفا والمروة. وفي سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ولدت بمدينة بلبيس جاموسة ولداً برأسين وعنقين وأربع أيدي وسلسلتي ظهر، ودبر واحد، ورجلين وفرج أنثى وذنبين وذبح في مدينة غزة جمل فأضاء لحمه مثل السراج فألقوا منه قطعة لحم لكلب فلم يأكلها، وذلك سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة. [125] فاطمة بنت القاضي جلال الدين البلقيني كانت من أهل الذكاء، وهي من أجمل أهل زمانها تزوجها رجل كفء لها سنة ثمانمائة وثلاث وعشرين فولدت ولداً ذكراً سنة ثمانمائة وخمس وعشرين وله يدان زائدتان في كتفه، وفي رأسه قرنان كقرني الثور، وعاش ساعة ومات. ونظير هذا ما رأيته، وشاهدته بعيني: أن امرأة من بنات العم من العمرية كانت عند رجل من أبناء عمنا أيضاً، فلم تحمل منه ومات عنها في الطاعون الواقع في الموصل سنة ألف ومائة وست وثمانين، ثم تزوجت تلك المرأة برجل آخر، فولدت له ولداً صورته كاملة وله يد واحدة والأخرى قصيرة بلا كف إلى حد الزند من اليد، وعاش نحو ستة أعوام ومات. ومما شاهدته بعيني إن رجلاً من الأكراد قدم الموصل وله يدان في رأس الكتف والكف منها بقدر كف غلام عمره شهر، ومه هذا فإنه يصلي، أقام بالموصل أعواماً يسأل الناس ويتصدقون عليه، وفي سنة ألف ومائتين منة الهجرة ولدت امرأة في الموصل ولدين في بطن واحدة، الأول على صورة البشر والأخر برأسين وفمين وأربع عيون ويدين ورجلين ومات بعد ساعة وذلك يوم الخميس آخر جمادى الأخر. وفي سنة ألف ومائة وخمس وتسعين على ما ذكر لي من أثق به: أن كلبة في بعض قرى الموصل ولدت جروا له طرف مثل الغنم، وبقي أياماً ومات. ورأيت في "تاريخ اليمن"، أنه سنة اثنين وثلاثين وثمانمائة، ولدت امرأة، نواحي اليمن، ولد له أنفان واحد على التكوين المعروف، والأخر خارج من قصبة الأنف الأصلية، وله عين واحدة، والأخرى طلساً فيها نقطة سوداء فعاش أياماً ومات. ومثلها أنه في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة ولد قفي مدينة زبيد، ولد وجهه منقسم نصفين، وفي كل خد عين، وتحت العين أنف وفم، ثم ولد فيها عجل سطيحة بلا يدين ولا رجلين ولا ذيل، وإحدى عينيه مطموسة، وأنفه من داخل الفم وليس له لسان. ذكر أهل التواريخ: أن في سنة ثمانمائة وإحدى وثمانين في مدينة مصر، ولد لبعض أمراء الجراكسة ولد له أربع عيون، عينان في محلهما، وعينان في وسط جبهته وله أنف غير مثقوب من جهة الشمال، وله في كل يد سبع أصابع، وله أسنان في فمه، وشعره برأسه بطول شبر فعاش عشرين يوماً ومات، وقيل: قتله أبوه. [126] خانم سلطان بنت السلطان سليمان

المقالة الثانية في ذكر النساء الطالحات

أم الخيرات كانت أوحد بنات الملوك، بالكرم، وفعل الجميل، ولما بلغها سنة تسعمائة وتسع وستين أن أهل مكة يشتكون قلة الماء، وقد يبست العيون والآبار، وأن الحاج يقاسون العذاب الأليم من شدة العطش، طلبت صاحبة الخيرات فأذن لها، فأمرت دفتردار مصر إبراهيم بك بن تغري ويردي المهمندار، وكان قد عزل وأمر بالتفتيش عليه، فلما أمرتاه بذلك عفا السلطان سليمان عنه، وأعطته خمسين ألف دينار لعمل العيون، وعشرين ألف دينار لقضاء مهماته، فركب في البحر، وتوجه إلى مكة، فأول ما بدأ حفر الأبار ليكثر ماؤهم، ثم شرع سنة تسعمائة وسبعين في الكشف عن ذيول عين عرفات وأقام لهاذ العمل نحو ألف نفس من العمال والبنائين والمهندسين والحدادين، وعين لكل فرقة قطعة من الأرض إلى أن وصل إلى عمل زبيدة الذي عجزت عنه فلما وصلوا إلى الصخرة مائة حمل من الحطب، ويوقده بالنار ثم يصبون عليه الخل ويكسرونه بالحديد، ثم يعيدون الحطب والنار إلى أن فرغ الحطب من جبال مكة، واستمر على هذا العمل لأربع سنين، وأرسلت له خانم سلطان مائة ألف وخمسين ألف دينار، وتوفي إبراهيم بك ولم يتم عمله لعين عرفة في مكة سنة تسعمائة وأربع وسبعين، وكان قد صرف لهذا العمل خمسمائة ألف دينار، وكل ذلك من عند خانم سلطان ولما مات إبراهيم بك أقيم مكانه قاسم بك حاكم جدة فأقام بأداء هذه الخدمة إلى أن مات سن تسعمائة وتسع وسبعين ولم يتم عمله لعين عرفة، فأقيم مكانه لأداء هذه الخدمة قاضي مكة السيد حسين فتقدم بهمته إلى مكان كمال هذا العمل فساعدته السعادة، فكمل العمل فيما دون خمسة أشهر، وجرت عين عرفات، ووصل الماء في تلك الذيول إلى أن دخل مكة، وعمل في ذلك اليوم سماط طعام في الأسطح، وذبح مائتي رأس من الغنم، ونحوها من الإبل، وخلع على عشرة من المعلمين، وعرض ذلك إلى الأبواب العلية فحصل للقاضي ترقيات، وصارت المدرسة السليمانية التي في يده كل يوم مائة عثماني. المقالة الثانية في ذكر النساء الطالحات [1] الزهرة ملكة فارس ذكر في المعالم........

[2] دلوكة بنت الزباء

ذكر في كتاب "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة". السحر عزائم ورمي وعقد يؤثر في الأبدان والقلوب فيمرض ويقتل ويفرق بين المرأة وزوجها وله حقيقة عند الأئمة الثلاثة وقال أبو حنيفة لا حقيقة له ولا تأثير في الجسم وقال الاستربادي من الشافعية وتعلمه حرام بالإجماع واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويعلمه فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك ومن أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه من قال إن تعلمه ليتجنبه أو ليتقيه لم يكفر وإن تعلمه معتقداً جوازه أو معتقداً بنفعه كفر وإن اعتقد أن الشياطين تفعل للساحر ما يشاء فهو كافر وهل يقتل الساحر بمجرد تعلمه أو استعماله؟ قال مالك وأحمد يقتل وقال أبو حنيفة لا يقتل حتى يتكرر منه وهل تقبل توبة الساحر أم لا؟ قال أبو حنيفة ومالك لا تقبل وقال أحمد روايتين أظهرهما لا تقبل وقال الشافعي تقبل توبته واختلفوا في ساحر أهل الكتاب فقال الشافعي ومالك وأحمد لا يقتل وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم وهل حكم الساحرة المسلمة حكم الساحر المسلم؟ فقال مالك والشافعي وأحمد حكمها حكم الرجل وقال أبو حنيفة تحبس ولا تقتل وذكر في "الفتاوى الخانية" رجل يتخذ لعبة ليفرق بين المرأة وزوجها بتلك المرأة قال هو مرتد يقتل بردته ويقتل إذا كان يعتقد بها وذكر في "نصاب الاحتساب". الساحر إذا تاب قبل أن يؤخذ تقبل توبته وإن أخذ ثم تاب لم تقبل توبته وذكر في "سير المحيط". سئل القاضي الفضيلي عن معنى قول صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" فقال الكاهن هو الساحر وذكر في "شرح الجوهرة" إن السحر من الخوارق إذ هو عبارة عن ظهور أمر خبيث في خيوط ينفث عليها وفي "شرح المقاصد" السحر إظهار أمر خارق للعادة من نفس شريرة خبيثة لمباشرة أعمال مخصوصة يجري فيها التعلم والتعليم وذكر في "شرح الجوهرة" حكى الأوزاعي عن يهودي كان معه في سفر فأخذ اليهودي ضفدعاً وسحرها فصارت خنزيراً فباعه للنصارى فلما صاروا إلى بيوتهم عاد ضفدعا فلحقوا اليهودي وهو مع الأوزاعي فلما قربوا منه رأوا رأسه قد سقط ففزعوا وولوا هاربين وبقي الرأس يقول للأوزاعي يا أبا عمر هل غابوا؟ إلا أن بعدوا عنه فصار الرأس متصلاً بالجسد وقال إمام الحرمين لا يظهر السحر إلا على فاسق وقال مالك السحر زندقة وإذا قال الرجل ما أحسنه قتل ولم تقبل توبته وقال النووي في "الروضة" إتيان الكاهن وتعلم الكهانة والتنجيم والضرب بالرمل والشعوذة وتعليمها حرام بالنص الصحيح وقال ابن قدامة في "الكافي" الكاهن له رثي من الجن وذكر في كتاب "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة" سئل ابن المسيب عن الرجل يؤخذ عن امرأته فليلتمس من يداويه؟ فقال إنما نهى الله غما يضر ولم ينه عما ينفع إن استطعت أن تنفع أخاك فافعل وهذا يدل على أن من يفعل مثل هذا لا يكفر صاحبه ولا يقتل. وفي شرح البخاري ومما ينفع الرجل إذا حبس عن أهله أي منع الجماع، يأخذ سبع ورقات من شجرة سدر أخضر وتدق بين حجرين ويخلطه بماء ويقرأ عليه آية الكرسي وكل سورة أولها (قل) ويلحس منه ثلاث لحسات ثم يغتسل بالباقي. وذكر في "نزهة المجالس"قتال كعب الأحبار: لولا هذه الكلمات لجعلتني اليهود حماراً، يعني من سحرهم، وهي: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها ومل لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ. ونقل العلامة عن ابن عباس رضي الله عنه: من قرأ عند النوم (قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين) الآية. لم يضره كيد ساحر ولا تكتم على مسحور إلا رفع الله عنه السحر. ومما جربته مراراً: يكتب على ثلاث بيضات مسلوقات بعد التقشير على الأولى: (قال موسى ما جئتم به من السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين) وغلى الثانية (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا تؤمنون) وعلى الثالثة (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً) ويأكل المربوط عن النساء، وهو المسحور كل ليلة واحدة، ينحل بإذن الله. وقد جربته مراراً. [2] دلوكة بنت الزباء

كانت صاحبة عقل وكمال، وتجارب ومعرفة وكانت في زمن موسى عليه السلام ولما أغرق الله فرعون كان لها من العمر مائة وستين سنة، وذكر في كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة": إنه لما أغرق الله فرعون في النيل هو وجنوده وأشراف أهل مصر وأكابرهم ووجوههم، كانوا أكثر من ألفي ألف فبقيت مصر خالية من الأشراف، ولم يبق بها إلا العبيد والأجراء والنساء، وصارت المرأة تعتق عبدها وتتزوجه، وتتزوج الأخرى أجيرها، فاجتمع أشراف من بمصر من النساء، وعقدت رأيهن على أن يولين عليهن دلوكة بنت الزباء، فملكوها عليهن فخافت أن يتناولها ملوك الأرض، فجمعت نساء الأشراف وقالت لهن: إن بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد، وقد هلك أكابرنا وأشرافنا وذهب السحرة الذين كن نتقوى بهم، وقد رأيت أن أبني حصناً أحدق به جميع بلادنا، وأضع عليه المحارس، فبنت جداراً أحاطت على جميع أرض مصر كلها حتى المزارع والمدن والقرى، وجعلت دونه خليجاً يجري فيه الماء، وأقامت عليه القناطر، وجعلت فيه محارس ومسالح. على كل ثلاثة أميال محرس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار، وجعلت في كل محرس رجالاً وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس، فإذا أتاهم أحد يخافونه ضربوا الأجراس من أية جهة كانت فيتحصنون، وفرغت من بنائه في ستة أشهر، وكان عندهم عجوز ساحرة اسمها تدورة، وكانت السحرة تعظمها وتقدمها في السحر، فأرسلت إليها دلوكة تقول: إنا قد احتجنا إلى سحرك فاعملي لنا شيئاً نغلب به من حولنا، فقد كان فرعون مع ملكه محتاجاً إليك، فقدمت إليهم وعملت بيتاً من حجارة في وسط مدينة منف، وجعلت له أربعة أبواب، وصورت فيه صور الخيل والبغال والحمير والسفن والرجال، وقالت لهم: هذا يغنيكم عن الحصن، فما أتاكم من أية جهة فتتحرك الصور من تلك الجهة يأتون منها، فما فعلتم بالصور من شيء أصاب العدو ذلك في أنفسهم، ولما بلغ الملوك ولاية النساء النساء طمعوا فيها، ولما دنوا منها، تحركت تلك الصور [التي في البيت] ، وأصاب ذلك الجيش الذي أقبل من قطع الرؤوس، وقلع العيون، وبقر البطون، فيعودون بالخيبة، وملكتهم دلوكة عشرين سنة حتى بلغ من أبناء أكابرهم رجل يقال له دركون بن بطلوس فملكوه عليهم.

[3] قطام وقبال

وذكر في "تفسير الفخر الرازي": قال وهب: إن فرعون يوسف هو فرعون موسى، وهذا غير صحيح، إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين دخول موسى، عليه السلام، أكثر من أربعمائة سنة، وذكر في كتاب "عجائب مصر": قال الكندي: أجمعت الرواة على أنه لا يعلم جماعة أسلموا في ساعة واحدة أكثر من جماعة القبط، وهم السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام وأخرج ابن عبد الحكم عن عبد الله بن هبيرة قال: كان السحرة اثني عشر جزءاً رؤساء تحت يد كل ساحر منهم عشرون عريفاً تحت يد كل عريف منهم ألف من السحرة، فكان جميع السحرة مائتي ألف وأربعين ألف ومائتين واثنين وخمسين بالرؤساء والعرفاء. وذكر في "تفسير فخر الدين الرازي": لما أراد الله أن يعرق فرعون والقبط أمر موسى عليه السلام أن يأمر بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط، وذلك لغرضين أحدهما: ليخرجوا خلفهم لأجل المال، والثاني: أن تبقى أموال القبط في أيديهم، ونزل جبرائيل بالعشي فقال لموسى: أخرج قومك ليلاً، وذلك قوله تعالى (وأوحينا إلى موسى أن ٍأسر بعبادي إنكم متبعون) وكانوا ستمائة ألف نفس فلما خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. فما صاح ديك تلك الليلة. فلما أصبح فرعون اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط، وقيل ألف ألف ومائتا ألف نفس، فتتبعوهم نهاراً، وذلك قوله تعالى: (فأتبعوهم مشرقين) أي بعد شروق الشمس (فلما ترآءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين) فلما سار موسى وأتى البحر قال له يوشع بن نون، عليه السلام: أين أمرك ربك؟ فقال: إلى أمامك، وأشار إلى البحر، فأقحم يوشع فرسه البحر، فكان يمشي في الماء حتى سبح الفرس ثم عاد وقال: يا موسى أين أمرك ربك؟ فقال: البحر. فقال والله ما كذبت، وفعل كذلك ثلاث مرات، فأوحى الله إلى موسى ( ... أن اضرب بعصاك البحر ... ) الآية، فانشق البحر اثنا عشر جبلاً في كل واحد منها طريق. فقال له: أدخل فكان فيه وحل، فهبب الصبا فجف البحر حتى صار يابساً، وذلك قوله تعالى: ( ... طريقاً في البحر يبساً ... ) وأخذ كل سبط طريقاً، ثم اتبعهم فرعون فلمتا بلغ شاطئ البحر إبليس واقفاً ينهاه عن الدخول، فجاء جبرائيل، عليه السلام على مهرة فتقدم فرعون، وكان إلى فحل فتبعه ودخل البحر فصاح ميكائيل عليه السلام الحقوا آخركم بأولكم، فلما دخلوا البحر أمر الله الماء فنزل عليهم، وذلك قوله تعالى: ( ... وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) وكان ذلك يوم عاشوراء، فصام موسى عليه السلام شكراً لله تعالى، ذكر في "تفسير المدارك": أن شعيباً عليه السلام كان عنده عصي الأنبياء، فقال لموسى بالليل: ادخل إلى ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام فمسها، فضن بها وقال: خذ غيرها فما وقع بيد موسى عليه السلام إلا هي سبع مرات، فعلم أن له شأنناً فأعطاه إياها وفيه: أيضاً لما انتهى موسى عليه السلام إلى البحر، قال يوشه لموسى: أين أمرت فهذا البحر أمامك، وقد عشيك آل فرعون؟ فقال موسى: ههنا. فخاض يوشع الماء، وضرب موسى بعصا البحر فدخلوا. وروي, أن موسى عليه السلام قال عند ذلك: يا من كان قبل كل شيء، والمكون لكل شيء، والكائن بعد كل شيء. انتهى، وكان غرق فرعون وقومه في النيل سنة ثلاث آلاف وثمانمائة وعشرين من هبوط آدم عليه السلام. [3] قطام وقبال هما امرأتان كانت في ثمود في زمن صالح عليه السلام وكان ملك ثمود واسمه مقدار يهوى قطام، وأخوه، وقيل: ابن عمه مصدع يهوى قبال وكانا يجتمعان بهما. ففي بعض الليالي قالت قطام، وقبال لملكهما قدار، ومصدع: لا سبيل لكما علينا حتى تقتلا الناقة! فقالا: نعم، ثم إنهما جمعاً أصحابهما وقصدوا الناقة، وكانت على حوضها فجلس قدار ومصدع في مكان، وجعلا يبعثان، رجالاً لقتل الناقة فلا يقدرون، ويعظم ذلك عليهم، ويعودون، فعند ذلك مشى إليها قدار وقيل: مصدع وضرب عرقوبها فوقعت على الأرض، وقامت تركض وذلك قوله تعالى: ( ... فعقروها فدمدم عليهم ربهم..) وكان ذلك يوم الأربعاء، واسم ذلك اليوم بلغتهم جبار، وكان هلاكهم يوم الأحد، وهو عنهم أول يوم.

[4] رقاش

ذكر في كتاب "الكامل": فلما قتلت الناقة أتى رجل منهم إلى صالح عليه السلام وخرج قومه يتلقونه يقولون يا بني الله: إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا، فقال: أدركوا فصيلها فإن أدركتم فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب، فخرجوا يطلبون الفصيل، فهرب وقصد الجبل، وجعل كلما صعد يتطاول الجبل إلى السماء، حتى ما يقي يناله الطائر، فعادوا عنه وعاد الصالح عليه السلام إلى القرية، فبكى الفصيل ثم استقبل صالحاً عليه السلام ثلاث مرات، فقال صالح: لكل دعوة أجل يوم، وذلك قوله تعالى ( ... تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) وآية العذاب الذي ينزل بكم أن وجوهكم تصبح في اليوم الأول مصفرة، وفي اليوم الثاني محمرة، وفي اليوم الثالث مسودة، فكان مثلما قال. فلما كان اليوم الثالث تكفنوا، واحتنطوا بالصبر والمر، وكانت أكفانهم النطاع، وألقوا أنفسهم إلى الأرض فلما كان اليوم الرابع أتتهم صيحة في السماء فيها صوت كل صاعقة، فتقطعت قلوبهم في صدورهم، وذلك قوله تعالى: ( ... فأصبحوا في ديارهم جاثمين) وهلكوا كلهم ولم يسلم منهم إلا أبو رغال، وهو أبو ثقيف، لأنه كان في الحرم، ولما مر صلى الله عليه وسلم على قرية ثمود قال لأصحابه: "لا يدخلن أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائها"، وأراهم مرتع الفصيل في الجبل، وأراهم الفج الذي كانت الناقة ترد منه الماء) . وذكر في كتاب "مختصر المؤيد": أن قوم صالح اقترحوا عليه أن يخرج لهم ناقة من حجر صلد، فدعى الله تعالى فخرجت الناقة من الصخرة، وكانت هي سبب هلاكهم لما عقروها بامرأتين فاجرتين بينهم، وذكر في كتاب "قصص الأنبياء"أنه آمن بصالح من قومه أربعة آلاف نفر، وخرج بمن آمن معه ليلة الأحد، ونزل في مكان من أعمال فلسطين، وأهلك الله قومه سنة ثلاثة آلاف ومائتين وثلاثة وخمسين سنة من هبوط آدم عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة وأكمل التسليم. وقال في كتاب "البستان": ثمود اسم بئر بأرض الحجر، منه سميت تلك القبيلة ثمود، وكان عاقر الناقة رجلاً أحمر أزرق العينين يقال له: قدار بن سالف، وهو أشقى القوم: قال تعالى: (إذ انبعث أشقاها) . [4] رقاش هي أخت جذيمة الأبرش، كانت حسنة جميلة، وكان أخوها جذيمة من أجل ملوك العرب، فبلغه أن في بني لخم غلاماً حسن الصورة اسمه عدي فأرسل إليه واستدعاه، فلما قدم ودخل عليه رآه جميلاً حسناً فضمه إليه، وولاه شرابه، وجعله هو الساقي، فكان يسقيه ويتملى به، كما قيل: أدار الكأس ساقينا ... فكانت مثله خديه بياضاً في احمرار قد ... سبتنا مثل عينيه يا معشر العذال أقبل قاتلي ... فقفوا لرؤية وجهه وتفرجوا فالخد ياقوت ورائق ثغره ... در، وعقرب صدره فيروزج فأرسلت إليه ليخطبها من أخيه جذيمة فأرسل إليها يعتذر إليها، ويقول: إني لا أقدر على هذا فاستدعته إليها، وضمته إلى صدرها، وجعلت تقبله، يقبلها، وتلاعبه ويلاعبها، ولسان حالها يقول: ولما تلاقينا وعندي من الأسى ... بقية وجد، وهو نشوان من خمر لثمت ثناياه العذاب فكلما ... تنفس عن خمر تنفست عن جمر ثم إنها قالت له: إذا جلس جذيمة على شرابه فاسقه صرفاً، وأسقي القوم ممزوجاً، فإذا أخذت الخمرة فيه فاخطبني إليه، فلن يردك، فإذا زوجك فاشهد القوم، ففارقها ولما حضر جذيمة في مجلسه، وأمر بالشراب، فقدمها إليه عدي وفعل ما أمرته رقاش، ثم خطب رقاش من خذيمة فزوجه إياها، وأشهد القوم، فلما انق4ضى المجلس انصرف عدي إلى عند رقاش فأعرس بها من ليلته، وأصبح بالخلوق فرآه جذيمة، فقال: ما هذه الآثار، فقال عدي آثار العرس. فقال أي عرس؟ قال عدي: عرس رقاش! فقال جذيمة: من زوجك بها ويحك؟ قال الملك. فعند ذلك ندم جذيمة، وتذكر ما قاله له، حين خطبها منه، وبدا في وجه جذيمة الغضب، فهرب عدي خوفاً من القتل، واتصل عدي في قبيلته، لم يعلم له مكان، ثم إن جذيمة كتب إلى رقاش يقول: خبريني، وأنت لا تكذبيني ... أبحر زنيت أم بهجين أم بعبد، فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون

[5] عفيرة بنت عباد

فلما رأته رقاش قالت: لا، بل أنت زوجتني امرءاً عربياً حسيبا، فعند ذلك عذرها، وحملت رقاش في ليلتها، ولما تكاملت عدتها، ولدتن غلاماً فسمته عمرو، ولما انتشى وترعرع أحبه خاله جذيمة، ثم إن الجن اختطفت عمرو، وأقام عنهم زماناً، ولما أفلت منهم، وعاد وهو عريان، أشعث، أغبر فلقي في طريقه من بني قضاعة رجلين وامرأة، وهما تكلان، فأقبل عمرو عليهم ومد يده إلى المرأة فناولته طعاماً كراعاً فأكله، ثم مد يده ثانياً، فقالت المرأة: لا تعط العبد الكراع فيطمع في الذراع، فصارت مثلاً. ثم إن المرأة سقتهما شراباً، وأوكت زقها، فقال عند ذلك عمرو. شعر: صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا ثم إن القوم سألوا عمرو فعرفهم نفسه، فحملوه إلى جذيمة فأصلح حاله. [5] عُفيرةُ بنتُ عباَّد ويقال لها الشموس، وهي أخت الأسود من قبيلة جديس، وكان الملك في طسمٍ، والملك اسمه عمليق، وكان ظالماً جباراً، وبلغ من ظلمه أن لا تزف بكر على زوجها حتى يفتض هو بكارتها ثم يعمل له أبو بكر وليمة، ويدعو إليها طسم، وقصده بذلك فضيحة جديس، فلما تزوجت عفيرة حملوها إلى عمليق، على عادتهم، فافتض بكارتها، وخرجت من عنده، ودماؤها تجري على أثوابها، وقد شقت درعها، من قبل ومن دبر، وقالت: لاَ أَحدَ أَذَلُّ مَنْ جَديْسِ ... أَهَكَذَا يُفْعَلُ بِالعَرُوسِ؟ يَرْضَى بِذَا يَا قَوْم بَعْلٌ حُرَّ ... أَهْدَى وَقَدْ أَعْطَى وسِيقَ المَهْرِ ثم إنها بكت، وأنشدت تحرض قومها، وتقول: شعراً أَتَرْضَوْنَ مَا يُقْضَى إلَى فَتَيَاتِكُمْ ... وأَنْتُمْ رِجَالٌ فِيكُمُ عَدَد النَّملِ وتُصْبِحُ عُفْيراً بالدماءِ غَرِيْقَةً ... جِهَاراً، وقد زُفَّتْ عَرُوساً إلى البَعْلِ فَلَوْ أننا كُنَّا رِجَالاً وَكُنْتُمْ ... نَسَاءً لَكُنَّا لاَ نَقِرُّ لِذا الفِعلِ وإِنْ أَنْتُمُ لَمْ تَغْضَبُوا بَعْدَ هذِهِ ... فَكُونُوا نَسَاءً لا تَغيبُوا منَ الكُحْلِ وَدُونَكُمُ طِيبُ العَرُوسِ فإنَّمَا ... خُلقْتُمْ لأثْوَابِ الْعَرُوسِ ولِلنَّسْلِ فَبُعْداً وَسُحْقاً للَّذِي لَيْسَ دَافِعاً ... وَيَخْتَالُ يَمْشِي بَيْنَنَا مَشْيَةَ الفَحْلِ

[6] النضيرة بنت الساطرون

فلما رآها أخوها الأسود، وسمع مقالها نهض إليها وأدخلها الخباء، وأحضر قومه، وكان هو سيد قومه،، واستشارهم في والوليمة، قتل عمليق وطسم، فعمل وليمة عظيمة ودعا عمليق فحضر هو وقبيلته، وأجلسهم على الطعام، فوجد عمليق طعاماً كثيراً، فتعجب من كثرته، وحمد الأسود رجل من القوم: رب أكلة منعت أكلات. فصارت مثلاً. ثم جرد الأسود سيفه وكان واقفاً على رأس عمليق وسيوفهم تحت أرجلهم في الرمل فجردتها جديس، وأول من قتل عمليق ضربه الأسود بسيف أطاح رأسه عن بدنه، ووضع السيف في طسم فلم ينج منهم أحد، ومن كان غائباً من طسم ونسائهم وأطفالهم ساروا إلى حسان بن تبع، ملك اليمن أو استجاروا به فسار حسان لنصرتهم، فلما بقي من اليمامة مسيرة ثلاثة أيام، قال له رجل من طسم: إن في جديس امرأة تبصر من مسيرة ثلاثة أيام يقال لها زرقاء اليمامة، فعند ذلك أمر حسان العساكر أن يقطع كل فارس شجرة، ويحملها أمامه، ففعلوا فأبصرتهم اليمامة فقالت لقومها أرى أشجاراً تقدم إليكم: فكذبوها فصحبهم حسان وأبادهم، وقلع عيني زرقاء اليمامة، فوجد فيها عروقاً سوداً، فسألها: فقالت: هذا إثمد كنت أكتحل به. وهي أول من أكتحل بالإثمد. وفي عدم الغيرة، ما حكي (من) أن رجلاً من أهل حمص وجد جاريته تحت رجل وهو يجامعها، فهرب الرجل وقبض الحمصي على جارتيه وسألها: لم فعلت هذا الفعل القبيح؟ فقالت له: يا مولاي أقسم علي بحياتك، وأنت تعلم صدق محبتي لك، فسكت وصدقها. وحكي في كتاب "كليلة ودمنة": أن رجلاً كان له امرأة يحبها، وكان قد علق بها رجل واطلع عليها جيرانه فأخبروا زوجها أن يستبين له ذلك، فقال لامرأته أريد أن أذهب إلى مكان، وذكر قرية وأمكث فيها مدة، وخرج من بيته، فلما خرج دخل في بيت جاره، واختفى في بيت جاره، فلما أمسى المساء تسلق الجدار، وانحدار على داره، واختفى تحت سريره، وأرسلت امرأته تدعو صاحبها، فقدم إليها، وجلس عندها يأكل، ويشرب معها، ويلاعبها، وجلسا على سرير، جعل يواقعها، زوجها تحت السرير، وقد نام، فخرجت رجلاه من تحت السرير ونظرتها امرأته، فقالت لصاحبها، هذا زوجي قد أخفى نفسه تحت السرير، وأظن قد بلغه عني وعنك هذا الفعل، فاسألني ظاهراً أيما أحب إليك أنا أم زوجك؟ فسألها صاحبها، فقالت له: ألم تعلم أننا معاشرة النساء، إنما نريد بذلك قضاء شهوتنا لأجل النفقة والكسوة، طلباً بذلك مساعدة الزوج، وإن الزوج عندنا أعلى منزلة من الأب والأخ، وإن الصاحب إذا قضى مناً المأرب صار عندنا كالعدو المحارب، وسود الله وجه امرأة لا يكون زوجها أعز عندها من كل صاحب. فانتبه زوجها وسمع مقالتها، وذهب صاحبها، فخرج الزوج من تحت السرير، وقعد عند رأس زوجته، وجعل يكش الذباب عن وجهها ففتحت عينيها ونظرته، فقال لها: نامي يا حبيبة قلبي فقد سهرت البارحة مع صاحبك، وقد سمعت ما وقع لك معه من الخصام. فانظر رحمك الله إلى أفعال هذا القرنين وتصديقه بهذا الكلام، والله أعلم. [6] الَّنضيرةُ بِنْتُ السَّاطُرون

[7] الزباء بنت عمرو بن الظرب

واسمه الضيزن، وهو من قبيلة قضاعة، وهو ملك مدينة الحضر، وأصله من الجرامقة، وكان ظالماً جباراً، وكان يشن الغارات على القبائل، فبلغ خبره إلى الملك كسرى سابور، فتجهز بالعساكر سابور، وقدم إلى حرب الساطرون، وحاصر مدينة الحضر أربع سنين، وقتل: سنتين، ولم يقدر سابور إلى أخذها، فاتفق أن النضيرة بنت الضيزن بنت حاضت فأخرجت إلى ربض المدينة، وهذه عادتهم، وكانت من أجمل النساء فنظرت إلى سابور، وهو أجمل أهل زمانه، فعشقته وعشقها وأرسلت إليه: ما تجعل لي: إذا ملكتك البلد؟ فقال: أرفع قدرك، وأحكمك على نسائي، فقالت له: فخذ حمامة ورقاء مطوقة، فاكتب على رجلها من دم حيض بكر زرقاء، ثم أرسلها فإنها تقع على السور فينهدم. ففعل سابور ذلك، وانهدم السور، وملك المدينة سابور، وقتل الضيزن وأصحابه، وكان هذا طلسم ذلك البلد، وأخرب المدينة، وهي إلى الآن خراب، وأخذ النضيرة، فأعرس بها بعين التمر، فلم تزل ليلتها تتضور وتتألم، فالتمس فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكن بطنها، فقال لها: ما كان يغذوك به أبوك. قالت: بالزبد والمخ و (شهد) الأبكار من النحل، وصفو الخمر، فقال لها: إذاً، هذا كان منك جزاء لأبيك، قتلته وقتلت أصحابه. وخربت دياره، فأمر رجلاً من خدامه فركب فرساً جموحاً، ثم عصب غدائر النضيرة بذنب الفرس واستركضها فقطعها قطعاً وماتت. ونظير هذا المكر ومثال هذا الغدر، ما تحكي: أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة زوجة الحسن، رضي الله عنه يقول لها: إن سقيت سماً زوجك الحسن ومات تزوجتك. فصدقت الرعنة وسقت الحسن رضي الله عنه سماً ومات، ولم يتزوجها يزيد، وخسرت جعدة الدنيا والآخرة ذلك الضلال البعيدة. ومما شاهدته وسمعته ما وقع في الموصل: أن بنتاً بكراً أحبت رجلاً لم يكن لها كفواً، وعملت أن أباها لا تزوجها إياه، فأطعمت أباها سماً ومات به، وأكل من ذلك الطعام بعض أهل البيت. وتمرضوا ثم عوفوا منه. [7] الَّزباءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ الظَّرِب

[8] س سودة الكاهنة بنت زهرة

كان أبوها قد قتله جذيمة الأبرش، وكان له من البلاد من غزة إلى تدمر، فملكت بعده ابنته الزباء، ولم يكن له ذكر، ولما استحكم أمرها جعلت تطلب ثأر أبيها، وعزمت على قتاله، فأشارت عليها أختها بترك القتال، ونصب حبال الاحتيال، فكتبت الزباء إلى جذيمة تخطبه إلى نفسها. وتملكه ملكها، فطمع في ذلك جذيمة، فجمع أرباب دولته وشاورهم بذلك، فقالوا كلهم: سر إليها، وتزوجها واملك بلدها، وكان بهم قصير بن سعد فنهاه عن ذلك، وذكر قتل أبيها وخوفه من غدرها. فأبى جذيمة وخالف قصيراً ثم جمع أرباب دولته، وسار بهم إلى بلاد الزباء، فلما قرب من القوم، قال له قصير: اركب فرسك العصا، فإن رأيت القوم على حذر فاهرب، فأبى جذيمة، فركبها قيصر، وساروا فتلقتهم المواكب، وتقدم جذيمة، وقد أحاط به القوم، فهرب قصير وقطع أرضاً بعيدة ونجا، وأدخل جذيمة على الزباء، فتكشفت له، فإذا هي مضفورة الأسب، وهو شعر الأست وقالت له: (أدب عروس ترى؟ فصارت مثلاً، ثم قالت له: أنبئت أن دم الملوك شفا من عضة الكلب الكلب، فأجلسته على نطع، وأحضرت طشتاً من ذهب، وفصدت جذيمة حتى هلك ومات، وقتلت أصحابه، ثم إن الزباء خافت من عمرو بن عدي فصدرت صورته عندها، وبنت له قصراً ينزل إليه من مجلسها، وهو دهليز عميق، ثم يصعد إلى قصر عال منه، حذراً من عمرو لأن الكهان حذروها منه، وأما قصير فإنه وصل إلى عمرو، وأخبره بقتل خاله جذيمة ثم أمره أن يجدع أنفه ويضرب ظهره، فأبى عمرو، فجذع قصير أنفه، وخرج من عند عمرو كأنه هارب، وقدم إلى الزباء، ودخل عليها فوجدت عليها فوجدت قد جدع أنفه، فقالت: "لأمر ما جذع قصير أنفه"فصار مثلاً، ثم سألته عن حاله، فأخبرها أن عمرو فعل به هذا فأكرمته وجربته وقربته، وبقي إلى أن علم أنها وثقت به فقال لها يوماً: إن لي مالاً بالعراق فأحب أن آتي به. فسيرت معه عيراً وسار حتى قدم إلى العراق والتقى مع عمرو متخفياً، أمر عمرو أن يجهز له أموالاً في البر، ففعل عمرو فأخذ قيصر الأموال، وعاد إلى الزباء، فأعجبها وازدادت به حباً وثقة، ثم جهزيه مرة ثانية ففعل كذلك، ووثقت به فسار ثالثاً، وقدم إلى عمرو، وأشار عليه أن يعمل ثمانين صندوقاً ويترك في كل صندوق رجلاً، ويكون عمرو في إحدى الصناديق، ففعل وجعل قصير يتفقد الرجال، وينزل لهم الطعام، والصندوق يفتح من داخل، ففعل عمرو، وحملهم قصير إلى عند الزباء، وأرسل أمامه مبشراً بقدوم الصناديق، يأمرها أن تخرج إلى لقائه لتبصر ما حمل من الأمتعة، والأموال، فخرجت الزباء وأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض مما عليها، فقالت الزباء: شعر ما للجِمَالِ مَشْيُهَا رُوَيْداً ... أَجِنْدَلاً يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيداً أًمِ الرَّجالَ في الغِرَارِ السَّودَا ... أَم الرَّجَالَ بُرَّكاً قُعُوداً ودخلت الإبل المدينة، فلما توسطوا البلد خرجت من (الصناديق) الرجال، وفي أوائلهم عمرو، فهربت الزباء، فتبعتها عمرو، فأكلت الزباء سماً كان عندها، وأتبعها عمرو بضربة بالسيف وماتت، وملك عمرو المدينة ودان له الخلق وذكر في"مختصر المؤيد": أن الزباء لما ملكت بعد قتل أبيها، بنت على الفرات مدينتين متقابلتين، ثم أخذت في الحيلة على جذيمة وقتلته، وذكر من أثق به أنه رأى المدينتين اللتين عمرتهما الزباء وهما خراب. وقصر الزباء على مرتفع قد أشرف على الهدم، وهما على الفرات متقابلتين، وذكر في "تاريخ ابن الوردي": أن قصيراً لما جدع أنفه سار إلى عند الزباء، كأنه مغاضب وجعل يتجر لها، يأخذ الأموال من عمرو ويظهر أنها ربح تجارته، فأتى إليها يوما بقافلة نحو ألف حمل كلها، صناديق مقفلة من داخل، وفيها أبطال فارتابت الزباء منها، وقالت: شعر ماللجمال سيرها وئداً ... أجندلاً تحمل أم حديداَ أم زخرقات بادر صديدا فقال قصير: بل الرجال بركا قعودا ولم دخلوا الحصن ملكوه، وقتلوا الزباء وأخذ بثأر جذيمة قصير. وذكر ابن الجوزي في كتاب "الأذكياء": أن قصيراً ابن عم جذيمة. وفي "صحاح الجوهري": هو صاحب جذيمة الأبرش وقيل: هو من بني لخم، والله أعلم. [8] س سودةُ الكاهنة بنت زهرة

[9] زينت بنت الحارث اليهودية

وهي أخت عبد مناف الذي هو جد آمنة أم النبي كانت كاهنة قريش، ولدت زرقاء شيماء سوداء، فأراد أبوها زهرة أن يدفنها وهي حية لأن العرب كانت تئد بناتها، وكان عمرو بن نفيل يحيى الموءودة، يأخذها من أبيها فيربيها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت رفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها؟ وكان صعصعة جد الفرزدق يصنع كذلك، فلما ولدت سودة أرسلها أبوها زهرة مع رجل من العرب إلى الحجون ليدفنها فسمع الرجل هاتفاً يقول: لا تئد الصبية ... وخلها البرية فكف عنها وأخبرها وأباها فتركتها ورباها، فلما كبرت صارت كاهنة قريش فقالت يوماً لبني زهرة: أعرضوا علي بناتكم! فعرضوهن، فجعلت تقول في واحدة قولاً ظهر بعد حين، فلما عرضت عليها آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لها تلدين نذيراً، له شأن وبرهان منيراً، فبلغ كلامها عبد المطلب فاختارها لولده عبد الله فزوجها له فولدت البشير النذير، والسراج المنير نبيناً محمداً صلى الله عليه وسلم. ومثله ذكر في"السيرة الحلبية": أن أبا طالب قبل أن يصل إلى بحيرا نزل بدير فقال صاحب الدير: ما هذا الغلام منك؟ فقال: ابني: قال له: ما هذا ابنك، وما ينبغي لهذا أن يكون له أب حي، هذا نبي! فقال أبو الطالب: وما البني؟ قال: الذي يأتيه الخبر من السماء فينبىء أهل الأرض. قال أبو طالب: اله أجل مما تقول: قال: فاتق عليه اليهود. ثم خرج حتى نزل براهب آخر، أي صاحب دير، فقال له: ماهذا الغلام منك؟ قال: ابني فقال مثل الأول، قال ولم قال لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي. وذكر في "شرح ذات الشفاء": كان بسوق عكاظ عراف يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى خاتم النبوة والحمرة التي بعينيه صاح: يا معشر العرب، اقتلوا الصبي، فليقتلن أهل دينكم، وليكسرن أصنامكم، وليظهرن أمره عليكم، إن هذا لينتظر أمراً من السماء. وجعل يعزي بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يلبث أن وله وذهب عقله، ومات ذلك العراف، والعراف هو المنجم. ذكر في كتاب"نصاب الاحتساب": سئل الفضيلي عن قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد": صلى الله عليه وسلم فقال: الكاهن الساحر فقيل له: هذا الرجل أو الإمرأة تقول أنا علم المسروقات، هل يدخل تحت هذا الخبر؟ قال: نعم، ثم قيل له: فإن قال هذا الرجل: أنا أخبر عن أخبار الجن؟ قال: ومن قال هكذا فهو ساحر كاهن، ومن صدقه (أنه يعلم الغيب) فقد كفر لأن إخباره يقع على الغيب، والغيب لا يعمله إلا لله تعالى ألا ترى قوله تعالى (: ... فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب.... (الآية فعلم الغيب لا يعمله جني ولا إنسي. انتهى. [9] زينت بنت الحارث اليهودية

[10] سجاح بنت الحارث التميمية

وهي زوجة سلام بن مشكم اليهودي، كانت من أهل البغي والغدر، وهي التي سمت الشاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرت السم في الذراع، لأنها بلغها أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الذراع، فأكل منها صلى الله عليه وسلم وأكل معه بعض أصحابه، ثم أحس به صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه، "ارفعوا أيديكم، فإنها أخبرتني، أي الشاة، أنها مسمومة". فكف الصحابة أيديهم، ثم قال، صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اجمعوا من هنا من اليهود، فجمعوهم فسألهم صلى الله عليه وسلم عن أشياء فأجابوا، وكذبهم صلى الله عليه وسلم ثم قال لهم: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم فقال صلى الله عليه وسلم: ولم ذاك؟ قالوا أردنا بذلك إن كنت كاذباً استرحنا منك، وإن كنت نبياً مرسلاً لم يضرك منها شيء، فعفى صلى الله عليه وسلم عن اليهودية ولم يعاقبها، ومات بعض من أكل من ذلك الطعام ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعدما كلمته الشاة، وأخبرته أنها مسمومة، ومنع أصحابه من الأكل، احتجم من أجل ذلك على كاهله، وممن مات من ذلك السم بشر بن البراء، فقيل: إنه صلى الله عليه وسلم دفع اليهودية إلى أهل بشر فقتلوها، والصحيح أنه عفى عنها صلى الله عليه وسلم وقال ابن إسحاق: إن المسلمين ليرون أنه ما تصلى الله عليه وسلم شهيداً يعني من ذلك السم، لأن في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه: إن أكله خيبر ما زالت توجعه وتعادوه حتى قطعت أبهرة. والأبهر عرق في الظهر وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك في مرض موته. وحكي: أن الإمام عمر رضي الله عنه أهدى له ملك الروم سماً في زجاجة، وقال له: إذا أردت أن تهلك أحداً من أعداءك فضع قطرة من هذا الطعام وأطعمه، فإنه يموت لوقته، فأخذ عمر رضي الله عنه الزجاجة من يد الرسول وقال: إن شر العداة لي نفسي، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم وشرب ذلك السم كله فلم يضره شيئاً بأذن الله. وجعل رسول ملك الروم يتعجب من ذلك وظن أنه يموت من ساعته. وهذا الذي فعله الإمام عمر رضي الله عنه ترغيباً في الإسلام. وإلا فإن السم أثر فيه صلى الله عليه وسلم وكذا في الحسن بن علي رضي الله عنه فإن زوجته سقته السم ومات به وهي جعدة بنت الأشعث، دس إليها يزيد أن تسم الحسن رضي الله عنه ليتزوجها، وبذل لها مائة ألف درهم فتابعته، وفعلت ما أمرها، فمرض الحسن رضي الله عنه أن يخبره من سقاه السم فلم يخبره وقال له: إني لأجد كبدي ينقطع وإني لعارف من أين دهيت، فأنا أخاصمه إلى الله، فبحقي عليك لا تكلمن في ذلك بشيء وتوفي سنة تسع وأربعين، ولا يبعد ذلك عن الإمام عمر، رضي الله عنه إنه شربه ولم يضره، فإن الإمام عمر رضي الله عنه به أظهر الله الدين، وكان إسلامه بدعوة رسول الله حين قال"اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين". وفي رواية بأعز الرجلين. فأسلم عمر رضي الله عنه وكراماته كثيرة، وهذه من بعض كراماته، وذكر في كتاب "نصاب الاحتساب ". أنه كانت زلزلة في الأرض، في خلافة عمر رضي الله عنه فخرج مع أصحابه وضرب بالدرة على الأرض، وقال: اسكني بإذن الله. فسكنت وهذه أعظم من شرب السم. وقيل: إن ماء النيل في مصر غار مرة في زمن عمر رضي الله عنه فسأل عمر رضي الله عنه: أكان قبل الإسلام؟ فقالوا: نعم. قال: فما كانوا يصنعون به؟ فقالوا: يوقعون فيه بيتاً بكراً بثيابها وحليها فينبع الماء. فكتب عمر رضي الله عنه: من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى وادي النيل، أما أنا فلا أشتغل برسم الجاهلية، ولكن سر بإذن الله تعالى، وأمر تلك الورقة أن تلقى في النيل، ففعلوا فنبع الماء، وهو يسير كذلك إلى يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى أعلم. [10] سجاح بنت الحارث التميمية

كانت صاحبةُ نيرنجات وشعبذات، وبلغ منها أنها ادّعت النبوة، وذلك في العام الذي تُوفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعها بنو عمِّها، وأظهرت لهم أنها أُنزل عليها سورة مِثل القرآن، فمنها: يا أيها المتَّقون لنا نصفُ الأرض، ولقريش نصفها ولكن قريش يبغون. فتبعها بنو عمّها بنو تميم، وأخوالها بنو تغلب وبنو ربيعة، وعظُمتْ عندهم، وكثرت جيوشها واشتهرت بين الناس، وأظهرت دعوتها، وقصدت مُسيلمة الكذّاب، وكان في اليمن مقامه، وقومه بنو حنيفة، وهو الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم [في وفد بني حنيفة وأسلم وأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم] لكل واحد بخمس أواق من الفضة، فقال مسيلمة: إن جعل لي هذا الأمر من بعده اتّبعته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لو سألتني هذا ما أعطيتك؛ وكان بيده عسيبُ نخل، فلمّا رجع عدوّ الله إلى مكانه ارتدّ، وادّعى النبوّة استقلالا، ثم مشاركة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وذُكر في "مختصر ابن الوردي": لمّا قُتل حمزة رضي الله عنه قال بعضهم: ويل لوحشيٍّ من النار! فقال صلى الله عليه وسلم: "أمّا حمزة فأجله قد انقضى، وأما وحشي فسوف يدرك الشرف من بعده". فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "هو يقتل مُسيلمة الكذّاب" فكان كما قال. ولما قربت سجاح من اليمّامة، خرج إلى قتالها مسيلمة، ونزل قريبا منها، ثم أرسل لها مسيلمة قبّة مبخّرة، بخّرها بالعود والعنبر والمسك، وطيّبها، وسبب ذلك الطيب أن النساء إذا شممن رائحة الطيب هجن للجماع، فسارت سجاح إليه ودخلت القبّة، واجتمعت به تحت القبّة وقالت له: ما أوحي إليك؟ فقال: ألم تر كيف فعل ربُّك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاوق وحشا، ثم قالت: ما أنزل عليك أيضا؟ قال: إن الله خلق للنساء أفراجا، وجعل الرجال لهنّ أزواجا، لهنّ أزواجا، فيولجن فيهنّ أولاجا، ثم يخرج ما يشاء إخراجا. فقالت: أشهد أنك نبي: حق، فقال: هل لكِ أن أتزوّجكِ؟ قالت: نعم. فقال لها، وأرجز، لعنه الله: ألا قومي إلى ... ... فقد هيي لك المضجع فإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع وإن شئت ضجعناك ... وإن شئت على أربع وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع فقالت: بل به أجمع يا رسول الله! فقال لها: وبذلك أوحي إليّ. فأقامت عنده ثلاث ليال. ثم خرجت من عنده، وقدمَت إلى عند قومها، وهم لها منتظرون فلما دنت منهم سألوها عنه، فقالت: وجدته نبيا حقا فاتبعته وصدّقت به، ثم بعث مسيلمة يخطبها من قومها، فزوّجوه إياها، وطلبوا مهرها منه. فقال لهم: قد وضعتُ عنكم صلاة العصر. وذلك لزيادة تأكيدها بالفريضة لقوله تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ... " الآية. قيل: هي صلاة العصر. فبنو تميم لا يُصلّون العصر، ويقولون: هذا مهر كريمتنا. ودخل عليها مسيلمة وصب نبوَّته في رحمها ولم تحمل منه. وقتل مسيلمة الكذّاب في أول خلافة الصِّدِّيق رضي الله عنه. وكان لمسيلمة نيرنجات، وبذلك اغترَّ قومه، ومن أراجيزه قوله: يا ضفدع نقِّي كم تنقِّين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين. وقوله: أُخرجُ لكم حنطة وزوانا ورطبا وتمرنا. ولمّا قُتل مسيلمة الكذّاب، انتقلت سجاح إلى أخوالها بني تغلب، وقد ذهبت نبوّتها بقتل زوجها، قال الشاعر: إذا ذهبَ الحمارُ بأمِّ عمرو ... فلا عادتْ ولا عادَ الحمارُ وأقامت في بني تغلب، وهم أخسّ العرب، فلله درّ القائل: والتّغلبيّ إذا تنحنحَ للقرى ... حكَّ استه وتمثّل الأمثالا فلمّا ولي الخلافة معاوية ونفى بني تغلب أسلمت سجاح وانتقلت إلى البصرة، وأقامت هناك إلى أن ماتت. وممّن سوّلت له نفسه العصيان، وتابع الشيطان أحمد بن الحسين المتنبّي، الشاعر المشهور، ادّعى النبوّة في بريّة سماوة، وتبعه خلق من بني كلب، وفيه يقول بعضهم: أيُّ فضلٍ لشاعرٍ يطلبُ الفضلَ ... منَ الناسِ بُكرةً وعيشَّا عاشَ حيناً يبيعُ في الكوفةِ الماءَ ... وحيناً يبيعُ ماءَ المحيَّا ولمّا ادّعى النبوّة، وأظهر الدّعوة وأغوى كثيرا من الناس قبض عليه ابن علي الهاشمي واسمه لؤلؤ في قرية كوثلين من أعمال حمص، وحبسه وجعل في رجليه وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف فقال:

زعمَ المقيمُ بكوثلينَ بأنّهُ ... مِنْ آلِ هاشم وبنِ عبد منافِ فأجبته مذُ صرتَ منْ أبنائهمْ ... صارت قيودهمْ منَ الصفصافِ وله عبارات يزعم أنّها مثل القرآن، فمنها: [والنّجم] السّيّار والفلك الدّوّار، والّليل والنّهار، إنّ الكافر لفي أخطار، امض على سننك: واقفُ على أثر من قبلك من المرسلين، فإنّ الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين، وضلّ عن سبيله. وسئل مرة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: أخبر بنبوتي بقوله: لا نبي بعدي، وأنا اسمي في السماء لا. ثم تاب المتنبي وأسلم ولبعضهم فيه: يا نسمة الصبح هبّي ... من قفا المتنبيّ ويا قفاهُ تدانى ... حتى تكونَ بقربي ويا يدايا اصفعيه ... ولا ترفقا بضربِ إن كنتَ أنتَ نبيا ... لا شكَّ أن القردَ ربي وممّن أظهر الزندقة فغضب الله عليه، ومحقه أحمد بن عبد الله الضرير أبو العلاء المعرّي الشاعر المشهور، فإنه كان يُظهر الزندقة، وعارض القرآن العظيم بكلام ذميم، وممّا ظهر من كلامه السخيف قوله: أقسم بخالق الخيل، والريح الهابّة بالليل، بين الشّرط ومطالع سُهيل، إن الكافر لطويل الويل، وإن العمر لمكفوف الزّيل، اتّق مدراج السيل، وطالع التوبة من قبيل تنجُ، وما إخالك بناج ومِنْ شعره وجرأته قوله: إذا ما ذكرنا آدمَ وفعالهِ ... وتزويجهُ بنتيهِ ابنيه ِبالخنا علمنا بأنَّ الخلقَ منْ نسلِ فاجر ... وأنَّ جميعَ الناسِ منْ عنصرِ الزّنا قبّحه الله ما أجرأه على الفكر، وقد ردّ أهل ملّة الإسلام، وأثبتوا أنّه هو مقرٌّ بالزنا، فإقراره عليه هكذا ذكره السّيوطي، وقال في "تاريخ ابن الوردي": كان علاّمة عصره في النحو واللغة، وله تصانيف، وله من النظم "لزوم ما لا يلزم" في خمس مجلدات و"سقط الزّند" ولا يبعد أنّه تاب وأناب. وممّن أظهر الكفر والخلاف، وتخلّق بالكفر وقلّة الإنصاف كرمنيّة إمام القرامطة، ظهر بسواد الكوفة، وتبعه خلق كثير، وأظهر لهم كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان من قرية نصرانة أنّه داعية المسيح، وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفيّة، وهو جبرائيل، وأنا المسيح تصوّر في جسم إنسان وقال: إنك الدّاعية، وإنك النّاقة، وإنك الدّابة، وإنك يحيى بن زكريا، وإنك روح القدس وعرفة، وإن الصلاة أربع ركعات، ركعتان قبل الشمس، وركعتان بعد الغروب، وإن الأذان، الله أكبر ثلاث مرات، أشهد أن لا إله إلا الله مرّتان، أشهد أن آدم رسول الله، أشهد أن نوحا رسول الله، أشهد أن إبراهيم رسول الله، أشهد أن عيسى رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفيّة رسول الله، انتهى. ويقول الخبيث: القِبلة بيت المقدس. وممّن استحقّ اللعان، وطرد عن باب الرحمن: ابن يحيى بن إسحاق المعروف [بابن الرّواندي] . مات إلى لعنة الله سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وكان له في الكفر والإلحاد، ومناقضة الشريعة الغرّاء مصنفات منها "قضيب الذهب" و"والدّامع" و"الفريد" و"الزّمرّد". وقد أجابه العلماء عن معارضته السمجة والرّكيكة، وكان الخبيث وضع كتابا لليهود، وقال لهم: إن موسى عليه السلام قال: لا نبيّ بعدي. وقال العلاّمة ابن الجوزي: إن الله يُعذّب هذا الزنديق أشدّ كم إبليس [الذي] خاطب الله تعالى، بالأدب فقال: " ... فبعزّتك ... " وهذا الملعون أساء الأدب مع الله، وتكلم بكل كفر، ومن العجيب أنّ العوام يضحكون لأقواله، ويغفلون عن كونه سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في مصنفاته. شعر: ألا ليتني مكِّنتُ منهُ ... فكنتُ فعلتُ فيهِ ما أشاءُ فإنَّ أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمدٍ منهُ وقاءُ وممّن بدمشق ظهر وادّعى النبوة وكفر عيسى الدمشقي، ادّعى أنه نبي الله عيسى بن مريم، عليه السلام وأضلّ طائفة، وكان يزعم أنّه أُنزلت عليه هذه السورة، وهي معارضة ل"سورة الكوثر" قوله: لعنه الله: إنّا أعطيناك الجماهر، فصلّ لربِّك، ولا تجاهر، ولا تطع كلّ ساحر. ولمّا شاع ذكره قبض عليه صاحب دمشق وصلب على عود، فوقف عنده الظّرفاء وقال له مخاطبا: يا لعين، إنّا أعطيناك العود، فصلّ لربّك قعود، وأنا ضامن لك أن لا تعود، انتهى. وفي ذكر هؤلاء الزّنادق كفاية.

[11] حبابة جارية الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي

حُكي: أنّ الرئيس ابن سينا اجتمعت عنده فرقة من تلاميذته، وحرّضوه على أن يدّعي النبوّة فأبى وأعرض عنهم، وهم يلحّون عليه بذلك، فاتّفق أن ليلةً شاتية كان عنده بعض تلامذته فاستيقظ الشيخ الرئيس في السَّحر، وقال لتلامذته: ما أشدّ برد هذه الليلة! فقال له الرجل: نعم. فقال: أريد منك أن تذهب إلى رأس العين وتأتيني منه بماء حار حتّى أتوضّأ. فأبى ذلك الرجل وقال: إنّي لا أقدر أذهب من شدّة البرد، وكان المؤذّن فوق المنارة يؤذّن فقال له الشيخ الرئيس: أنتم تأمروني أن أدّعي النبوّة، والنبيّ لا يُردّ كلامه، وأنا أطلب منك شيئا يسيراً، وأنت تمتنع أن تفعله خوفا على نفسك، أما تسمع هذا المؤذّن في المنارة يدعو الناس إلى الصلاة ممتثلاً لأمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم فأفٍّ لكم، أتريدون أن تضلّوني بعد إذ هداني الله؟ فالنبوّة لا تحصل بالكسب بل هي من عند الله يرسل جبرائيل، ويأمر الأنبياء والرسل بإظهار الدّعوة، وقد علمتم أن نبيّناً محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: "لا نبيّ بعدي" فمن اعْتقد هذا فهو مؤمن، ومن جحد هذا فقد كفر. [11] حبابة جارية الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي كانت من أجمل نساء زمانها، اشتراها يزيد قبل أن يلي الخلافة بأربعة آلاف دينار، وأحبّها حبّاً شديداً، وهام بها، وترك القراءة، ومعاناة أمور المملكة فبلغ ذلك أخاه أمير المؤمنين سليمان، وحجر عليه، وأخذ منه الجارية حبابة وباعها، واستمر يزيد مقهوراً إلى أن ولي الخلافة، فاتّفق يوماً أنّ زوجته قالت له: هل بقي في نفسك شيء من الدنيا؟ قال: نعم قالت: وما هو؟ قال: حبابة. فأرسلت زوجته واشترت حبابة، من غير علمه، وزيّنتها وطيّبتها وأجلستها من وراء الستار، وهو لا يعلم، وقالت له: هل بقي في نفسك شيء من الدنيا؟ فقال يزيد: أما قلت [لك] بقي حبابة؟ فقالت: ها أنت وحبابة. وأمرتها بالخروج فخرجت عليه فرحّب بها، وقرّبها إليه، وخرجت زوجته من عنده، فكان ما كان ثم غلبت حبابة على عقل يزيد، وترك سياسة المملكة، ولم ينتفع بالخلافة، وقد شغف بحبابة فقال يوماً: الناس يقولون لم يصفُ الدهر لأحدٍ من الملوك يوماً واحداً، وإني أريد أكذّبهم: فأقبل على لذّاته واختلى مع حبابة يوماً بعد ما أحضر آنية المدام والطعام. فبينما هو في صفو عيش، وهو يلاعب حبابة، إذ تناولت حبابة حبّة رمان، وهي تضحك، فشرقت بها، وماتت من وقتها فطاش عقل زيد، واختلّ وذهبت مروّته، واعتلّ وتركها عنده أياماً لم يدفنها حتى جافت وهو يقبّلها ويلاعبها ويلعب بها. فاجتمع بنو أميّة، وعنّفوه، وهو لا يزداد إلاّ عشقاً، ثم دفنها فهاجت بلابله ونبشها بعد أيّام وقد تفصّلت مفاصلها ثم دفنها، ولم يعش بعدها سوى خمسة عشر يوماً، ومات سنة مائة وخمس. قال في الطب: العشق مرض وسواسي يجلبه الإنسان إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور والشمائل التي تكون في المحبوب، وقال أرسطو: هو عماء الحس عن إدراك عيوب المحبوب، وأكثر ما يعتري الغرباء والبطّالين، وعلامة العشق غور العينين وجفافها، وسمن الجفن مع قلّة الحركة والسّهر، وهزل البدن، واختلاف النّبض عند الذكر الحبيب، وتغيّر اللون، قال الشاعر: علامةُ منْ أخفى الهوى بفؤادهِ ... إذا ما رأى محبوبهُ يتغيّرُ ويصفرُّ منهُ الوجهُ بعدَ احمرارهِ ... وإنْ خاطبوهُ بالكلامِ تعثّرُ

[12] قطام

وعلاج العشق، قال في "الفوائد": لا شيء أنفع للعاشق من وصال المعشوق، وإن لم يتّفق بالوجه الشرعي، فتسليط العجائز على العاشق حتى تُكرِّهه المعشوق بإظهار بعض العيوب. وإن كان من أهل الكمال فتنفعه النصيحة والاستهافة، وإلا بتصوير صورة المحبوب، وإلا فبالاشتغال بالعلوم العقلية والمحاكاة، وكثرة الجماع واللعب، وإلا فبسفر طويل، وقال في الأسباب: الجماع لغير المعشوق ينقص العشق. وقال في الكامل: ينفع العاشق الرياضة المعتدلة والنظر إلى البساتين والمزارع والأزهار، ويهيج العاشق المخاصمة والمنازعة، وذكر بعضهم: أن عظم اللقلق إذا علق على العاشق سلى عن محبوبه، وكذلك أربع شعيران نيل محلول بالماء إذا شربه العاشق سلي. وفي ذكر العشاق المشهورين في الآفاق ما حكى، أن الملك العزيز الأيوبي كان في أيام أبيه السلطان صلاح الدين يوسف يهوى جارية فبلغ أباه ذلك. فمنعه عن صحبتها، فحزن ولم يقدر على الاجتماع بها، فأرسلت له الجارية مع خادم لها كرة عنبر، فكسرها فوجد فيها زراً من الذهب فلم يفطن لذلك فحدث به القاضي الفاضل، فأنشد القاضي: أهدت لك العنبر في وسطه ... زرٌّ من التبر رقيقُ اللحام فالزرُّ بالعنبرِ تفسيرهُ ... زر هكذا مستتراً في الظلامِ ففهم الملك العزيز المراد واجتمع بها في الليل، وحكى الجاحظ أن محمد بن حميد الطوسي كان جالساً مع ندمائه وقد أخذ الشراب برؤوسهم إذ غنت جارية له من وراء الستارة هذين البيتين شعراً: يا قمرَ القصرِ متى تطلعُ ... أشقى وغيركَ يستمتعُ إن كان ربّي قضى كل ذا ... منك على رأسي فماذا أصنعُ وكان على رأس محمد غلام أحسن ما يكون، وبيده قدح فوضعه، وقال: تصنعين مثل ذا، وألقى بنفسه من الدار إلى دجلة، فلما رأت الجارية ذلك هتكت الستارة وألقت بنفسها على إثره فغرقا جميعاً فحزن لذلك محمد، وقطع الشراب شهراً كاملاً. وذكر في كتاب "ديوان الصبابة" أن رجلاً من بني عذرة عشق جارية فراسلها، وأظهرت له الجفاء فوقع مضنى، وظهر أمره فلم تزل النساء يكلمن الجارية حتى جاءت تعوده فلما دخلت عليه ونظر إليها بكى، وأنشد يقول شعر: أريتك إن مرّت عليكِ جنازتي ... تلوحُ بها أيدٍ طوالٍ وشرّعِ أما تتبعين النّعشَ حتى تسلمي ... على رمم ميّت بالحفيرة مودعِ فبكت الجارية رحمة له، وقالت: ما ظننت الأمر يبلغ بك إلى هذا، فوالله لأواصلك متى عوفيت فهملت عيناه بالدمع. وأنشد: دنت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصلِ لا ينقطع الوصلُ وشهق ومات فوقعت عليه الجارية تبكي، وأغشي عليها، وما مكثت بعده إلا أياماً قلائل، وماتت. وحكى أحمد بن الفضل: أن غلاماً وجارية كانا في كتاب فعشق الغلام الجارية، ولم يزل يتلطف بمعلمه حتى قربه إليها، فكتب الغلام في لوح الجارية هذا البيت. مفرد: ماذا تقولينَ فيمنْ شفّه سقم ... منْ طولِ حبّك حتّى صارَ حيرانا فقرأته الجارية وذرّفت عيناها بالدموع رحمة له، وكتبت تحته: مفرد: إذا رأينا محبّاً قدْ أضرَّ به ... طولُ الصبابةِ أوليناهُ إحسانا فقدم المعلّم، وسمع ذلك، فأخذ اللوح وكتب فيه هذين [البيتين: شعر] . صلي العريفَ ولا تخشينَ منْ أحدٍ ... إن العريفَ صغيرُ السنِ ولهانا أمّا الفقيهُ فما يسطوا إذاً أبداً ... لأنّه قدْ بُلي بالعشقِ ألوانا وحكي: أنّ بعض الأدباء كان يعشق جارية فقالت له: أنت صحيح الحبّ كامل الوفاء؟ فقال: نعم. قالت: فامض بنا حيث شئت. فلمّا حصلت في منزله لم يكن له همّة، إلاّ أن رفع ساقيها، وجعل يجامعها بجميع جواره، فقالت له، وهي في القالب، وأنشدت، مفرد: أسرفتَ في.. و.... مصلحة ... أرفق بصبّك إنّ الرِّفق محمود فأجابها وهو في عمله لا يفترّ عنه. مفرد: ولمْ ... منْ تبقى مودّته ... لكن ... هذا فيك مجهود فنفرت من تحته، وقالت: أراك يا فاسق على خلاف العادة كأنك جماعي سببا لذهاب حبّك، والله ما جمعني وإياك بعد هذا سقف. انتهى. [12] قطام

هي من الخوارج، وهي امرأة من تيم الرّباب، وكانت فائقة الجمال، وكان قد قُتل أبوها وأخوها يوم معركة النّهروان، في قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج فلقيها ابن ملجم لعنه الله، فأحبّها وهام بها، ثم أرسل إليها يخطبها لنفسه، فقالت له، لا أتزوجك حتى تُشفي قلبي! قال: ما تريدين؟ قالت: ثلاثة آلاف. وعبد، وقنية، وقتل علي بن أي طالب رضي الله عنه فقال اللعين: أما قتل علي رضي الله عنه فأراك ذكرته وهو قصدي، وأنت تريديني! فقالت: أريد ألتمس الغرّة فإن أصبت شفيت نفسك ونفسي ونفعك العيش معي، وإن قُتلتَ فما عند الله خير وأبقى من الدنيا وما فيها، فقال لها: والله ما جاء بي إلا قتل علي رضي الله عنه ولك ما سألت. فقالت له: سأطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك، فدعت رجلاً من قومها، اسمه وردان وكلّمته بذلك، فأجابها إلى ما طلبت، واتّفق مع ابن ملجم، وسارا إلى قتل علي. فكان من ابن ملجم ما كان، وغدر بعلي رضي الله عنه وقتله، ثم قُتل ابن ملجم لعنه الله وفي قطام يقول ابن أبي ميّاس المرادي: ولمْ أرَ مهراً ساقهُ ذو سفاهةٍ ... كمهرِ قطام بينَ عُربٍ وأعجمِ ثلاثةُ آلافٍ وعبدٍ وقنيةٍ ... وضربُ عليٍّ بالحسامِ المسمّمِ فلا مهرَ أغلى منْ عليِّ وإن غلا ... ولا فتكَ إلاّ دونَ فتك ابنِ ملجمِ وفي ابن ملجم لعنه الله يقول شاعر الخوارج، وقوله خطأ: شعر: يا ضربة منْ تقيٍّ ما أرادَ بها ... إلاّ ليبلغَ منْ ذي العرشِ رضوانا إنّي لأذكرُه يوماً فأحسبهُ ... أوفى البريّة عند اللهِ ميزانا ولله درّ أخي أمين العمري حيث غيّرهما، وحرّفهما فأصاب: شعر: أيا ضربة منْ شقيِّ ما أرادَ بها ... إلاّ ليدخلَ يومَ البعثِ نيرانا إنّي لأذكرُه يوماً فأحسبهُ ... أوفى البريّةَ عند اللهِ خُسرانا ذكر المؤرخون أنّ عليّاً، رضي الله عنه لمّا اصطلح مع أهل الشام على التّحكيم، وكتبوا بذلك محضراً، غضب القرّاء، واعتزلوا عليّاً رضي الله عنه، وقالوا: كفر عليٌّ، وكفر معاوية، وارتحلوا عن علي رضي الله عنه ونزلوا حرزراء بقرب الكوفة، وهم ستّة آلاف مقاتل، [وقيل] : ثمانية آلاف، وقيل: أربعة آلاف، وقيل: ألف وأكثر، وقيل: غير ذلك، وبايعوا عبد الله بن وهب الرّاسبيّ وخرج بهم إلى النّهروان، فتبعهم علي رضي الله عنه فأوقع بهم، وقتل منهم ألفين، وثمانمائة، وقيل: قُتلوا عن آخرهم، وقُتل من أصحاب علي رضي الله عنه سبعة، أولهم يزيد بن نويرة، شهد أُحداً. وذكر في شرح ذات الشفاء سميت الخوارج طائف الكلاب لقوله: صلى الله عليه وسلم "الخوارج كلاب النار" وقال في شرح المواقف: كانوا بع فرق من قبائل شتى، واعتقادهم يخالف بعضهم بعضا، وذكر في شرح ذات الشفاء: أن الخوارج اجتمعوا وقالوا: إن علي رضي الله عنه والحجاج بن عبد الله الضميري لقتل معاوية وزادويه العنبري التميمي لقتل عمرو بن العاص، ودبروا أن يكون مقتل لثلاثة ليلة السابع عشر من رمضان، فدخل ابن ملجم الكوفة، واشترى سيفاً بألف وسقاه السم وكمن لعلي رضي الله عنه ليلة السابع عشر من رمضان، فلما خرج علي رضي الله عنه إلى صلاة الفجر ضرب ابن ملجم على يأفوخه، وضرب معاوية في تلك الليلة فخرجت أليته، وكان معاوية كبير الأوراك فقطع منه عرق النكاح، فلم يولد له بعد ذلك، وأما وزادويه فضرب إمام الجماعة في تلك الصلاة ليلة سبع عشرة، وكان نائب عمرو ولأنه وجعه بطنه فأناب عنه خارجة بن حذاقة فقتله، فلما تبين أنه خارجة قال: أردت عمرو، وأراد الله خارجة، فذهبت مثلاً، وفي ذلك يقول عبد المجيد بن تعبدون الأندلسي: شعر. وليتها إذْ فدت تعمراً بخارجةِ ... فدتْ علياً بما شاءتْ من البشرْ وسلم عمرو كمان يقول ما نفعني بطني قط إلا تلك الليلة، وقال معاوية: نجوت وقد بلَّ المرادي سيفهُ ... من ابن شيخ الأباطح طالبِ ولما ضرب معاوية بض على الحجاج، فقال لهم: لكم البشارة فقد قتل علي رضي الله عنه في هذه الليلة، وحكى لهم ما عزموا عليه فاستبقاه حتى أتاه الخبر بذلك فقطع يده ورجله وأطلقه فسكن البصرة.

[13] ست الملك بنت العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل بن القائم العبيدي

ولما خرج عل رضي الله عنه تلك لصبيحة أقبلت الأوز يصحن في وجهه فصردوهن، فقال: دعوهن فإنهن نوائح، وقيل لعلي رضي الله عنه، إن ابن ملجم سم يفه يزعم أنه يقتلك به قتلة تتحدث بها العرب، فبعث إليه فقال له، لم تسم سيفك قال: لعدوي وعدوك، فخلاه وقال: لم يقتلني بعد، وذكر في رشح ذات الشفاء، لما دخل المؤذن، وقال الصلاة قام علي رضي لله تعالى عنه يمشي، والمؤذن أمامه، والحسن رضي الله تعالى عنه، خلفه، فلما خرج من الباب نادى أيها الناس: الصلاة، الصلاة، فاعترضه ابن ملجم وضربه بسيفه فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه، فقال علي رضي الله تعالى عنه: فزت ورب الكعبة، لا يفوتكم الكلب، فشد الناس عليه وحمل ابن ملجم على الناس بسيفه ففرجوا له، فتلقاه المغيرة بن نوفل رضي الله عنه بقطيفة فرماها عليه واحتمله وضرب به الأرض، وقعد على صدره وانتزع سيفه منه، ثم أخذ ودخل على علي رضي لله تعالى عنه فقال: احبسوه، وأطيبوا طعامه، وألينوا فراشه، فإن أعش فأمره إلي قصاصاً وعفواً، وإن أمت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين، ومكث علي رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة والسبت وتوفي ليلة الأحد، وتوفي رضي الله تعالى عنه فقام الحسين رضي الله عنه ومحمد ن الحنفية، ودخلا على ابن ملجم فقطعاه وحرقاه ونهاها الحسن ورضي الله عنه وقيل: قطعوه إرباً واجتمع الناس وأحرقوا جثته لنه الله، شعر: وما كنتُ من أنداده يا ابن ملجمٍ ... ولولا قضاءُ ما أطقت له عيناً سئل علي رضي الله تعالى عنه [عن قوله تعالى] : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) فقال: اللهم اغفر لهؤلاء، ونزلت في وفي عمي حمزة، وابن عمي عبيدة بن الحارث، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر، وحمزة شهيداً يوم أحد، وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه منة هذا، وأشار بيده إلى لحيته ورأسه، عهد عهداً إلى حبيبي أبو القاسم محمد صلى الله عليه وسلم انتهى. [13] ست الملك بنت العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل بن القائم العبيدي كانت في غاية الحسن والكمال، ولها شجاعة الرجال الأبطال لما ولي الخلافة بمصر أخوها الحاكم بأمر الله منصور سنة ست وثمانين وثلاثمائة، وأظهر الجور، وأمات العدل، وأحدث من البدع ما ينفر عن سماعها أولوا الألباب، فمنها أنه أنشأ دار العلم وأحضر العلماء، وعمر الجامع، أقام على ذلك ثلاث سنين، ثم عاد إلى خسة أصله وسوء فعله، وقتل أهل العلم، وأغلق المدارس، ومنع من فعل خيراً، وادعى أنه يعلم الغيب، وأظهر الرفض، فكتب له رقعة بعض الأدباء فيها: بالظلمِ والجورِ قد رضينا ... وليسَ بالكفرِ والحماقةْ إن كنتَ أعطيتَ علمَ غيبٍ ... بيِّن لنا كاتبَ البطاقةْ وصنف له بعض الباطنية كتاباً كر فيه أن روح آدم عليه السلام انتقلت إلى علي رضي الله تعالى عنه [وأن روح علي] انتقلت إلى الحاكم فزاد ظلمه وطالت أيامه، وهم بقتل أخته ست الملك فبلغها ذلك، فأرسلت إلى بعض القواد واتفقت معهم وحرضتهم على قتل أخيها، وذكرتهم غدره، وحذرتهم شره، فاجتمعوا عليه وقتلوه، وأخفوا أثره، ثم إن ست الملك أقامت بعده ولده الظاهر بالله علي بعد شهرين من قتل أبيه، وأقامت هي في تدبير المملكة، وسياسة الرعية، وكانت هي قد أقامت بالملك استقلالاً لنفسها شهرين، ثم نزلت عنه وعهدت لابن أخيها كما ذكرنا، ودبرته إلى أن توفيت سنة خمس عشرة وأربعمائة بعد أخيها بأربع سنين، ودفنت بتربتها التي أنشاتها بمصر، وضعفت دولة العبيديين بموتها، وكانت أحد أركان الرفض لا عمر الله قبرها، ولا رحمها، ولا عفا عنها.

[14] زنبى ملكة الروم

أقول الباطنية فرقة من الروافض ذكر الإمام أبو عبد الله الشيرازي: الرافضة أجناس وهم اثنا عشر صنفاً فمنهم: الجبرية: وهم ينسبون القبائح إلى الله تعالى ويبرئون العباد من الذنوب، والجهمية: فهم ينكرون صفات الله تعالى وشبهوه بلا شيء. والحرورية يقولون: لا نعلم أحداً مؤمناً بعد وفاة رسول الله، والعلوية يقولون: إن الرسالة كانت لعلي رضي الله عنه ولهذا يصلون على علي رضي الله عنه والآمرية يقولون: إن علياً رضي الله عنه كان شريك محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتَ منِّي بمنزلةِ هارونَ منْ موسى". والزبيدية يقولون: ولد الحسين آية، وأما في الصلاة فلا يجوز الإقتداء خلف غيرهم. والرجعية يقولون: إن علياً رضي الله عنه وأولاده يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائهم، واللعنية يلعنون طلحة رضي الله عنه والزبير رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها، ومعاوية وغيرهم، والأزرقية وهم أصحاب نافع بن الأزرق جوزوا أن يبعث الله نبياً كافراً تعالى الله عن ذلك والغاذرية: وهم فرقة من الرفضة يعذرون علياً رضي الله عنه في تركه الخلافة للصديق والفاروق وعثمان، والأباضية وهم أشد ضلالاً من سائر الفرق، وقيل: الباطنية. والعجادرة وهم مثل الأباضية إلا أنهم لا يسبون عائشة رضي الله عنها، لقرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج البراز وأبو يعلى والحاكم عن علي رضي الله عنه قال: دعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنَّ فيكَ مثلاً منْ عيسى عليهِ السَّلام أبغضتهُ اليهودُ حتى بغضوا اللهَ تعالى، وأحبَّتهُ النَّصارى حتى أنزلوهُ بالمنزلِ الذي ليس بهِ". قال علي رضي الله عنه: يهلك في اثنان محب مفرط يقرضني بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، وفي المصابيح عن أنس بن مالك رضي اله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكونُ في أمَّتي اختلافٌ وفرقةٌ يحسنونَ القيلَ، ويسيئونَ الفعلَ، يقرؤون القرآن لا يجاوزُ تراقيهمْ، يمرقونَ منَ الدِّينِ مروقَ السَّهمِ منَ الرَّميةِ، لا يرجعونَ حتى يرتدَّ السَّهمُ على فوقهِ، همْ شرّ الخلقِ والخليقةِ، طوبى لمن قتلهمْ وقتلوهُ، يدعونَ إلى كتابِ اللهِ، وليسوا منَّا في شيءٍ من قاتلهم كان أولى باللهِ منهمْ". قالوا: يا رسول الله، ما سيماهم؟ قال: التحليق. أي: حلق شعر الرأس، قيل هم الخوارج، يل هم الرفضة قاتلهم الله ما أظلمهم وأعمى أبصارهم. [14] زنبى ملكة الروم كانت من بيت الملك، ولها حسن رأي وتدبير بسياسة الرعية، ملكت الروم سنة ثمانين ومائة، وقامت بالملك سبع سنين، وكانت مطيعة للخليفة هارون الرشيد ترسل له الجزية كل عام مع هدايا وتحف وأنعام إلى أن خرج عليها نقفور؛ الكلب العقور، وجمع الجموع وحاربها ثم قبض عليها وقتلها، وقيل: إنها شربت سماً لما أحست بالغلبة وماتت وذلك لما بلغها أن الروم قد اجتمعوا على خلعها، وملكوا عليها نقفور، وكان يدعي أنه من أولاد جفنة الغساني الذي تنصر في خلافة الفاروق رضي الله عنه ولما استقر بالملك نقفور طغى وتجبر، وكتب إلى الخليفة هارون الرشيد: من تقفور، ملك الروم، إلى هارون الرشيد، مالك العرب، أما بعد، فغن الملكة زنبى أقامت مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت لك من أموالها، وذلك لضعفها وحمق النساء، فإن قرأت كتابي فاردد ما حصل لك منها، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا وبينك. فلما قرأه الرشيد غضب، وكتب بيده على ظهر الكتاب: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور، كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافر، والجواب ما تراه دون ما تسمعه. وأرسله من ساعته، وتجهز الرشيد من يومه، وركب وسار حتى نزل على مدينة هرقلة، وحاصرها وقتل وسبى، وذل نقفور وأرسل يطلب الصلح من الرشيد، ويحمل له الخراج كل عام. فصالحه وعد إلى بغداد، ثم نقض العهد نقفور فلم يجسر أحد أن يخبر الرشيد، فأمر الوزير يحيى البرمكي أبا العتاهية الشاعر، فكتب له شعراً: ألا بادتك هرقلةُ بالخرابِ ... منَ الملكِ الموفّقِ للصَّوابِ عدا هارونَ يرعدُ بالمنايا ... ويبرقُ بالمذكّرة القضابِ وراياتٌ يحلُ النَّصرُ فيها ... تمرُّ كأنَّها قطعُ السَّحابِ وقيل: ما جسر إلا شاعر من أهل جدة كتب له: شعر:

[15] تفانوا ملكة الروم وهي زوجة أرمانوس ملك الروم

نقضَ الذي عاهدتهُ نقفور ... فعليهِ دائرةُ البوارِ تدورُ أبشرْ أميرَ المؤمنينَ فإنَّهُ ... فتحٌ أتاكَ منَ الإلهِ كبيرُ فقال الرشيد: أو قد فعل. فتجهز من يومه، وسار إلى حربه، فذل نقفور وأطاع. [15] تفانوا ملكة الروم وهي زوجة أرمانوس ملك الروم كانت من أهل الشجاعة والبراعة، ومن شجاعتها وشدة براعتها، قتلت زوجها أرمانوس، وكان لها منه ولدان أحدهما بسيل والآخر قسطنطين، ثم تزوجت بعد أرمانوس بالملك نقفور، وأقام بالملك وطغى وتجبر، وغزا بلاد المسلمين وقتل ونهب وسلب وأعطب، ثم أن نقفور طمع بالملك، وأراد أن ينقل الملك بعده إلى عقبه فهم بقتل ولدي تفانوا زوجته، وقيل: بل أراد أن يخصيهم ليقطع نسلهم، فبلغ ذلك زوجته فاتفقت مع الدمستق على قتل نقفور، فألبست الدمستق لباس النساء وأدخلته مع النساء إلى كنيسة متصلة بدار نقفور، وانتظروا نقفور حتى نام، فهجموا عليه وقتلوه، وأراح الله المسلمين من شره، ثم تزوجت تفانوا بالملك يانس بن شمشيق، وولته الملك، ثم إنها خافته فأرستله مع جيش عظيم إلى بلاد الشام فغنم وسبى، وقتل وأسر، ثم دست عليه زوجته تفانوا من سقاه سماً فمات يانس ولم تطل مدته، ثم ملكت بعدها ولدها بسيل سنة سبع وستين وثلاثمائة، وأقام بالملك وحاصر حمص وفتحها سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وكذا شيزر، ثم سار إلى طرابلس وحاصرها أياماً، ثم [رحل] عنها إلى بلاد الروم. وقام بالملك خمسين سنة، ومات سنة ست عشرة وأربعمائة. ونظير ذلك ما حكاه لي رجل من طائفة العسكر، قال كنا يوماً في نواحي الشام من جهة القدس، فرأينا ديراً فقصدناه ودخلنا إليه ونزلنا فيه، وكان في الدير رهبان، وكنت مقدم العسكر، فسألت الرهبان عن كبيرهم، فأنكروه، فجعلت أدور في مقاصير الدير، فسمعت صوتاً ضعيفاً من داخل حجرة هناك، فقصدت الصوت حتى انتهيت إلى باب نغلق، وذلك الصوت يخرج من هناك، فأصغيت له سمعي، فإذا صوت قراءة القرآن، فقرعت الباب، فسكت وقال من هذا؟ قلت أنا، مقدم العسكر. فعند ذلك فتح الباب، ودخلت عليه، وقلت له لقد رابني أمرك أنت كبير النصارى وقد سمعت عندك صوت قراءة القرآن، فأقسم علي أن لا أظهر أمره بين النصارى، وقال الحمد لله أنا مؤمن أصلي الخمس وأصوم رمضان وأقرأ القرآن، وأنا ليلي ونهاري، مختف عن الكفار لئلا يطلعون على أحوالي، فبحق محمد صلى الله عليه وسلم وبحق هذا القرآن لا تفضحني عند عبدة الصلبان، فخرجت من عنده ولم أعلم بحاله أحداً من النصارى، غير أني سألت أهل العلم من المسلمين عن حال هذا الرجل، فقالوا أما سمعت قوله تعالى ( ... منهم قسِّيسينَ ورهباناً ... ) . وعلى ذكر ما فعله نقفور من أنه أراد أن يخصي ولدي زوجته حضرني: أن ملكاً من الملوك كتب إلى عامله بالمدينة المنورة كتاباً فيه: أحصى المخنثين وأرسله إليه، وكان من تقدير الله أن ذبابة وقفت على حاء، أحصي، وذرقت ولم يشعر الكاتب، فلما وصل الكتاب إلى العامل وقرأه وجد فيه: أخصي المخنثين. فجمعهم وخصاهم كلهم فكانوا يمرون بالأزقة ويسألهم الناس عما أصابهم، فيقول احدهم: هذا نوع من السلاح، وإني لا أقدر أضرب به. والآخريقول: نحن في الصيف، ولا نحتاج إلى مزراب. وبلغ ذلك الملك فأرسل يعتب عامله، فأرسل له الكتاب، فقرأه ووجد فيه أخصي، فعاتب الكاتب فاعتذر إليه، ومرر إصبعه على النقطة فانقلعت، فعلم أنها ذرق الذباب. [16] عزة بنت حميل كانت من أحسن نساء زمانها، تزوجها رجل من بني عمها، وحظيت عنده، فاتفق يوماً أن عبد الرحمن المعروف بكثير رأى عزة فشغف بها وهام وأسقمه الغرام، ولم يمكنه الوصول إلى الحرام، وكان كثير شيعياً وجعل ينظم الأشعار ويتغزل بعزة، ودام على هذا أعواما فاتفق يوماً انه رأى عزة وهي خارجة من الحي، فجعل يتلطف بها، ويشكوها الغرام، فوقفت رحمة له، وجعل يخاطبها فرأته ينظر إلى ظهر كفها، فقالت له: مه يا كثير لا تفسد بي بيننا المحبة، وفرقته. قيل أن عزة دخلت يوماً على أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز، فقالت لها أم البنين: ما معنى قول كثير: مفرد: قضى كلٌ ذي دينٍ غريمه ... وعزَّةُ ممطولٌ معنَّى غريمها؟

فقالت لها: وعدته في قبلة ثم رجعت عنها. فقالت لها أم البنين [إنجزيها] وعلي إثمها، فاستأثمت وأعتقت أم البنين] أربعين عبداً عند الكعبة، وقالت: اللهم إني أتبرأ إليك مما قلت لعزة، ولكثير فيها من الشعر كثير: وما روضةٌ بالحزنِ طاهرةُ النَّدى ... يمجُّ النَّدى جثجاثها وعرارها بأطيبَ منْ أردان عزَّة موهنا ... وقدْ أوقدتْ بالمندلِ الرطبِ نارها وفي سنة مائة خمس، سار زوج عزة إلى الحاج، ومعه عزة، فبلغ ذلك كثير فتبعهم طمعاً بأن يحظى بنظرة من عزة فلما كان وقت الطواف نظر كثير إلى عزة قد مضت إلى جمله، ومسحت ما بين عينه، فبادر كثير إليها ففاتته خوفاً من زوجها، فوقف كثير على الجمل وقال: حيَّتكَ عزَّةُ بعدَ الحاجِّ وانصرفتْ ... فحيِّ، ويحكَ منْ حياكَ يا جملُ لو كنتَ حييتها ما مازلتَ ذا مقّةٍ ... عندي، ولا مسَّكَ الإدلاجُ والعملُ فسمعه الفرزدق فقال له: من أنت؟ قال: كثير عزة، فأنت من أنت؟ قال: الفرزدق. قال: أنت القائل: شعر: جدّتْ جمالهمْ بكلّ خريدة ... تركتْ فؤادي هائماً مخبولاً لو كنتُ أملكهمْ إذا لمْ يرحلوا ... حتى أودعَ قلبيَ المبتولا ساروا بقلبي في الحذورِ وغادروا ... جسمي يعالجُ زفرةً وعويلا فقال الفرزدق: نعم: فقال كثير: والله لولا أني في الحرم لأصيحن صيحة أفزع منها هشام على سرير ملكه بالشام! فقال الفرزدق: والله لأعرفن هشام بذلك! ثم افترقا ولم يلتق كثير بعزة سوى تلك المرة، ودخل الفرزدق على هشام وحكى له حديث كثير، فقال له: اكتب له بالحضور إلى عندنا حتى نطلق عزة من زوجها ونزوجها له. فكتب الفرزدق له، وقدم كثير يريد الشام فمر على بني فهد فنظر شيخاً جالساً، وكان كثير قد رأى قبله غراباً على بانة يتفلى وريشه يتساقط، وقد تغير لون كثير، فقال له الشيخ: ما أصابك؟ هل رأيت شيئاً رأيك؟ قال كثير: رأيت غراباً على بانة وريشه يتساقط فقال الشيخ: الغراب غربة: والبانة بين، والتفلي فرقة، فازداد كثير حزناً، وسار ودخل دمشق فوجد الناس يصلون على جنازة، فنزل عن ناقته، وصلى معهم، فلما تمت الصلاة صاح رجل: لا إله إلا الله ما أغفلك يا كثير عن هذا اليوم؟ فقال كثير: وما هذا ليوم؟ فقال هذه جنازة عزة! فخر مغشياً عليه، ثم أفاق وشهق شهقة فمات ... ودفن مع عزة في يوم واحد، وذلك سنة مائة وخمس. ونظير هذا ممن مات في عشقه كمداً ماحكي أن الجاحظ ذكر للواثق فأحضره ليؤدب أولاده، فلما رآه الواثق استشبع منظره، وأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه، قال الجاحظ: فقبضتها وخرجت فلقيت محمد بن إبراهيم، وهو يريد الانحدار إلى مدينة السلام، فطلبني فانحدرت معه ونصبت بيننا ستارة وبين جواربه وأمر بالغناء، فأحضرت الملاهي، واندفعت العوادة تغني. شعر: كلُ يومِِ قطيعة وعتابُ ... ينقضي دهرنا ونحنُ غضابُ ليتَ شعري إنَّا خصصنا بهذا ... دون ذا الخلقِ أم كذا الأحبابُ ثم سكتت فأمر الطنبورية، فغنت: شعر: وارحمهُ للعاشقينا ... ما إنْ أرى هم معينا كمْ يهجرونَ ويعرضونَ ... ويقطعونَ فيصبرونا فقالت العوادة: فما يصنعون؟ قالت: يصنعون هكذا، فرفعت الستارة، وبدت كأنها قمر، ثم رمت بنفسها في الماء، وكان على رأس محمد غلام حسن، وفي يده مدية فألقاها من يده وأتى إلى الموضع الذي ألقت نفسها الجارية [فيه] وأنشد: أنتَ التي غرقتني ... بعدَ القضا لوْ تعلمنا ورمى نفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة فإذا بهما متعانقين ثم غاصا. فقال: يامحمد، ياعمرو [والله] إن لم تحدثن بحديث يسليني، وإلا لحقت بهما. قال الجاحظ: فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك، وقد جلس للمظالم، وعرضت عليه القصص فوجد قصة مكتوب فيها: إن رأى أمير المؤمنين أعزه الله أن يخرج لي جاريته فلانة حتى تغنى ثلاث أصوات فعل إن شاء الله. فغضب سليمان وأمر بقتله، ثم عفا عنه وأحضره، وقال له: ماحملك على هذا؟ فأجلسه وخرج بنو أمية، وأمر بالجارية فأحضرت ومعها عود فقال لها سليمان: غني مايقول لك. فقال لها: غني: تألَّق البرقُ نجدياً فقلتُ لهُ ... ياأيُّها البرقُ إنِّي عنك مشغولُ فغنته فقال لسليمان: أتأمر لي برطل خمر فأتى به وشرب. وقال لها: غني.

[17] مزنة بنت عبد الله الكناني

حبَّذا رجعها إلينا يداها ... في يدي ذرعها تحل الإزار فغنته، فقال لسليمان: مر لي برطل ثان، فأتوه وشرب. وقال: غني: أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا الَّتدلُّلِ ... وإن كنتِ قدْ أزمعتِ صرمي فأجملي فغنته، فقال: مر لي برطل ثالث. وصعد على قبة سليمان، وألقى بنفسه على رأسه، ومات من ساعته، فقال سليمان: إنا لله وإنا إليه راجعون ظن هذا الأحمق [أني] أخرج له جاريتي وأعيدها إلى ملكي، خذوا بيدها إلى بيت هذا الرجل يبيعونها وينفقون ثمنها على أولاده، فأخذوها وساروا، وكان في دار سليمان حفرة للمطر، فجذبت نفسها وأنشدت. من مات عشقاً فليمتْ هكذا ... لاخير في عشقٍ بلا موتِ وألقت نفسها في الحفرة وماتت فدفنوها إلى جنب الرجل. [17] مزنة بنت عبد الله الكناني كانت من أجمل أهل زمانها وجهاً ومنظراً تزوجها رجل من بني عمها، وذلك قبل الإسلام وكان لزوجها أخ أصغر منه، فأقامت عندهم زماناً ولم ينظرها الأخ الصغير، ولا هي أظهرت له نفسها لفرط حسنها، فاتفق [في] يوم من الأيام أن زوجها سافر إلى بيت الله الحرام، فخرجت يوماً، مزنة، لبعض حاجاتها، وهي حاسرة تخجل الشمس في الصاحية، فنظرها أخو زوجها فأحبها، فلما رأته يطيل النظر إليها غطت وجهها بمعصمها، فزاد ذلك بلابله، وتغيرت أحواله، وحمل الشوق على بدنه حتى لم يبق إلا رأسه، وعيناه تدوران في وجهة، فقدم أخوه الكبير فوجده عليلاً، فأرسل إلى الحارث بن كلدة طبيب العرب، فقدم إليه ولمس عروق ذلك المريض، فإذا ساكنها ومتحركان فقال الحارث: ما به إلا العشق. فقال له: سبحان الله، هذا ميت، وأنت تقول: عاشق! فاستدعى الحارث بشراب وسقاه، فلما انتشى أنشد يقول: ألاَ رفقاً ألا رفقاً ... قليلاً ما أكونهْ ألما بي على الأبياتِ ... منْ حيفٍ إذا رهنهْ غزالٌ ما رأيتُ اليومَ ... في دورِ بني كنَّهْ أسيلُ الخدِّ مربوبٌ ... وفي منطقهِ غنّهَ فقال: هذه دور قومنا، فليت شعري من هي؟ فقال الحارث: من الغد أغدوا إليكم: وأفعل هكذا فربما، أظهر محبوبه بشعره، وأما هو فلا حياة له، فأتى الحارث وفعل، مثل الأول فأنشد: أيُّها الجيزةُ أسلموا ... وقفوا كي تكلِّموا وتقصفوا لبانة ... وتحيوا لتغنموا خرجتْ مزنةُ من ... السَّجف ريَّا تجمجمُ هي ما كنَّتني وتزْ ... عمُ أنِّي لها حمُ فقالَ: اشهدوا أنها طلقة ليرجع إلى أخي فؤاده، فإن المرآة توجد، والأخ لا يوجد، فقال المريض: أشهدوا علي، هي علي كظهر أمي إن تزوجها، ومات كمداً بها.

[18] عنان جارية الناطفي

قال في " الهداية ": الظهار كان طلاقاً في الجاهلية. فقرر الشرع أصله، ونقل حكمه إلى تحريم مؤقت بالكفارة غير مزيل للنكاح، وهذا لأنه جناية، لكونه منكراً من القول وزوراً، فيتناسب المجازات عليها بالحرمة وارتفاعها بالكفارة، والظهار هو إذا قال الرجل لامرأته، أنت علي كظهر أمي. فقد حرمت عليه، لايحل له وطؤها، ولامسها، ولا تقبيلها حتى يكفر لقوله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم (إلى أن قال: (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا (فإن وطئها قبل أن [يكفر بتحرير رقبة] يكفر، أستغفر الله، ولاشيء عليه غير الكفارة، وإن قال: رأسك علي كظهر أمي، أوفرجك، أووجهك، أورقبتك، أونصفك، أوثلثك، كله ظهار، لأنه يعبر بها عن جميع البدن، وإن قال: أنت علي مثل أمي أو كأمي، يرجع إلى نيته، فإن قال: أردت الكرامة فهو كما قال، وإن أراد الظهار كان ظهاراً، وإن قال أردت الطلاق فهو طلاق بائن لأنه تشبيه بالأم في الحرمة. فكأنه قال، أنت علي حرام، ونوي به الطلاق، وكفارة الظهار عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً وكل ذلك قبل المسيس، ويجزي في عتق الرقبة الكافرة والمسلمة والذكر والأنثى، والصغير والكبير، ولايجزي العمياء، ولا مقطوعة اليدين أو الرجلين، ويجوز الأصم والعوراء، ومقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين، وفي "التتار خانية": لو قال: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي مائة مرة فعليه لكل مرة كفارة وفي "الجوهرة": وظهارها منه لغو، أي: ظهار المرأة بقولها لزوجها: أنت علي حرام كأبي أو أخي، فلا حرمه فيه، ولا كفارة وبه فتى. وقال صدر الشريعة: الظهار هو تشبيه زوجته أو ما عبر به عنها، أو جزء شائع منها بعضو، يحرم نظره إليه من أعضاءٍ محرمة نسباً أو إرضاعاً، وفيه إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي. هذا ظهار لا غير. وفي"الينابيع": لو قال ظهرك علي كظهر أمي أو بطنك أو فخذك لا يكون مظاهراً، وفيه عن الحسن: المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي كظهر أمي فعليها كفارة يمين. وقال أبو يوسف رضي الله عنه: يجب عليها كفارة ظهار، وهذا على خلاف ما ذكره في "الجوهرة". [18] عنان جارية الناطفي كانت جميلة الصورة، حسنة السيرة، ما رآها أحد إلا وأحبها وكانت تحسن الغناء، والألحان بحسن صوت يذهل الألباب، وكان أبو نواس قد شغف بها، وله فيها أشعار تحير الأفكار، فاتفق يوماً من الأيام [أن] أصاب عنان مرض منعها عن القيام، ولم يعلم بذلك أبو نواس، فتمرض لمرضها وامتنع من الخروج، فدخل عليه بعض أصحابه يعودونه فوجدوا فيه خفة فجلس معهم وسألهم، من أين أقبلتم: فقالوا: من عند عنان عدناها. فقال أبو نواس: أو كانت عليلة. قالوا: نعم، وقد عوفيت، فقال: والله لقد أنكرت علتي هذه، ولم أعرف لها سبباً غير أني توهمت وظننت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب، ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت، وقلت: عسى أن يكون عافاه الله قبلي، ثم دعا بداوة، وكتب إلى عنان. إنِّي حممتُ، ولمْ أشعر بحمَّاك ... حتَّى تحدَّث عوَّادي بشكواكِ فقلتُ ما كانتْ الحمَّى لتطرقني ... من غيرِ ما سببٍ إلاَّ بحمَّاكِ وخصلة كنت فيها غيرُ متَّهم ... عافاني اللهُ منها حيت عافاكِ حتَّى إذا اتَّفقتْ تفسي ونفسكِ في ... هذا وذاكَ وفي هذا وفي ذاكِ وأرسلها إلى عنان فشكرته على صدق محبته لها. ونظير ذلك ماحكي: أن مجنون ليلى كان جالساً عند جماعة من قومه، فل يشعر إلا والدم يجري على محل الفصد، وذلك بغير مبضع فتعجب الناس منه. ثم انقطع فسأل عن ذلك، فقيل إن ليلى قد فصدت وهي في حيها، ولما قطعته، انقطع دم المجنون، والله أعلم. وهذا يدل على صدق المحبة، وأما في زماننا هذا فكثير من يعشق الصبح، ويواصل الظهر، ويسلو العصر، ثم يعشق غير محبوبه، وأما مجنون ليلى فقلما يوجد مثله. روى المرزباني: أن المجنون خرج مع أصحابه يوماً ليمتار من وادي العزى فمر بجبل نعمان، وقد كانت ليلى تنزله، وهما جبلان، فسأل المجنون أصحابه: أي ريح تهب من نحو أرضها؟ فقالوا: الصبا. فقال. والله لا أبرح حتى تهب الصبا، فأقام في ناحية الجبل، ومضى أصحابه وامتاروا لهم وله، ثم عادوا إليه فحبسهم حتى هبت الصبا، وسار معهم، وأنشد يقول:

[19] بديعة بنت عبد الله زوجة السلطان قايتباي

أيا جبلي نعمانَ باللهِ خلِّيا ... نسيم الصَّبا يخلصُ إليَّ نسيمها أجدُ بردها أو تشفّ منّي حرارةً ... على كبدٍ لمْ يبقَ إلاّ صميمها فإنَّ الصَّباريحٌ إذا ما تنسَّمتْ ... على نفسِ مهمومٍ تجلَّتْ همومها [19] بديعة بنت عبد الله زوجة السلطان قايتباي الجركسي المحمودي سلطان مصر كانت في نهاية الجمال، يضرب المثل بحسنها، وهي مثل اسمها، وتزوجها السلطان قايتباي في أيام إمارته فولدت له الملك الناصر محمد، وحظيت عنده، وكانت من أغفل النساء، ولما توفي زوجها السلطان قايتباي سنة اثنين وتسعين، وثمانمائة، وكان غرة جبهة السلاطين الجراكسة بالعدل والمروءة والكرم والنباهة، وولي السلطنة وله الناصر محمد فكانت أخلاقه ذميمة، في غاية ضعف العقل أخذه عن أمه بديعة وكان مولعاً في حب النساء، فكان إذا سمع بإمرآة حسناء هجم عليها، وقطع دائرة فرجها ونظمه في خيط أعده لنظم فروج النساء، وكانت أمه تعلم به ولا تنهاه عن أفعاله، فعمدت أمه بديعة إلى جارية لها حسناء ليس يوجد لها نظير فطيبتها وزينتها ووهبتها لولدها الناصر، الخاسر، محمد بزعمها أنه يرتدع عما كان عليه، فأخذ الناصر الجارية، وأغلق الباب وعاد إلى قلة عقله ورأيه الفاسد، وربط الجارية، وشرع يسلخ جلدها، وهي تصرخ، فأرادت أمه بديعة الهجوم عليه، فما أمكنها، إلى أن تم عمله، وسلخ الجارية وحشى جلدها بالثياب النفيسة ثم خرج إلى عند أمه وأظهر لها أستاذيته بالسلخ، واستمر على هذا الفعل إلى أن قتل سنة خمس وتسعين وثمانمائة. وفي ذكر المغفلين: ماحكي: أن رجلاً من أهل حمص نظر إلى بئر فيه ماء فرأى خيال وجهه في الماء فذهب إلى أمه وقال: يا أماه في البئر لص، فجاءت أمه ونظرت في البئر مع ابنها، فقالت: لص ومعه قحبة. وتقدم رجل من أهل حمص يصلي المغرب إماماً، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو، فلما أتم قيل له: ما رأيناك سهوت! فقال: نعم، ولكني تذكرت أني صليت بكم على غير وضوء، فسجدت للسهو، والله أعلم. [20] عباسة بنت الخليفة محمد المهدي العباسي

هي أخت الخليفة الرشيد، وهي التي كانت سبباً لقتل البرامكة، وذلك أن الوزير جعفر بن يحيى البرمكي كان يدخل إلى حرم الرشيد، وكان للرشيد أخت اسمها عباسة، وكانت حسنة جميلة إلا أنها رعنة فقال الرشيد يوماً لوزيره جعفر: إني قد أذنت لك إلى حرمي، ولكن النظر منك إلى أختي عباسة حرام، فإني أريد أنى أعقد النكاح ليحل لك النظر إليها، ولكن بشرط أن لا تقربها، فقبل الوزير فأمر الرشيد بإحضار القاضي والأعيان وعقد الوزير على عباسة وشرط عليه أن لا يقربها، فأقاما على ذلك برهة من الزمان، فاشتاقت عباسة للرجل فلبست أفخر ثيابها، وتطيبت وأمرت دايتها أن تأخذ بيدها، وتذهب بها إلى عند الوزير جعفر، وتقول له: هذه جارية عباسة أخت الخليفة أهدتها إليك، ففعلت العجوز ما أمرتها الرعنة، فأخذت بيدها ودخلت على الوزير جعفر وقد لعب برأسه السكر، وبقي لا يشعر فقالت له الداية: يا جعفر هذه جارية عباسة أهدتها أليك، فتلقاها بالقبول واخذ الجارية، وجعل يلاعبها وهي من تحت الستار إلى أن غلب عليه الباه فواقعها، وقد أطاعته مثل الأرض العطشانة لوابل المطر، فلما تم عمله وحقق النظر بها، فإذا هي عباسة فقال لها: ما هذه الصنيعة؟ قتلتني وقتلت البرامكة! فقلت له: لا بأس عليك! ألست زوجي؟ وحملت من وقتها، وأخفت حملها إلى أن قرب أوان وضعها، فاستشارت جعفر بما تصنع، وقد ظهر حملها، وندمت على ما فعلت وليس ينفعها الندم، خوفاً من القتل، فأشار عليها جعفر بالمسير إلى الحج، فاستأذنت من أخيها الرشيد، فأذن لها وأرسل معها جعفر، فسارت من بغداد، ومن تقدير الله تعالى أنها وضعت غلاماً جميلاً قبل وصولها إلى المدينة المنورة، ومن تقدير الله على جعفر أن أحب ذلك الغلام، ولم يعلم أنه سبباً لقتله، وإلا لو علم لكان قتله وأخفاه ثم أن عباسة الرعنة أعطت الغلام لبعض نساء مكة، وأعطنها مالاً جزيلاً لتربيه إلى أن يكبر، وحجا وعادا ولم يعلم الرشيد بذلك إلى أن كان يوماً من الأيام بلغ الوزير ابن الربيع الفضل خبر الغلام، وكان بينه وبين جعفر عداوة، فقص خبر الغلام على الرشيد فاغتاظ لذلك، وهم بقتل البرامكة، فحذرته بطش ربة زوجته زبيدة وقالت له: أليس هي زوجته؟ ثم حرضه ابن الربيع الفضل على قتل جعفر فقتله سنة سبع وثمانين ومائة وحبس أباه يحيى البرمكي وأخاه الفضل، وأقاما بالحبس إلى أن ماتا. فكانت عباسة سبباً لقتلهم، وذهاب دولتهم، وقد كانوا غرة في جبين الدهر فرحمهم الله، وفي قتلهم يقول الرقاشي، وقيل: أبو نواس: وقل للمنايا قد ظفرتِ بجعفرٍ ... ولمْ تظفرْ من ْ بعدهِ بمسوَّدِ وقلْ للعطايا بعدَ فضلٍ تعطَّلي ... وقلْ للرزايا كلَّ يومٍ تجدَّدي ودونك سيفاً برمكياً مهنَّداً ... أضيفَ بسيفٍ هاشمي مهنَّد حكي: أن الرشيد سأل يوماً وزيره جعفر عن جواريه فقال: يا أمير المؤمنين. كنت البارحة مضطجعاً وعندي جاريتان، إحداهما مكية، والأخرى مدنية، وهما يكبساني، فتناومت عنهما لأنظر فعلهما، فمدت المدنية يدها إلى ذلك الشيء ولعبت به حتى انتصب قائماً، فوثبت المكية وجلست عليه، فقالت المدنية: أنا أحق به فضحك الرشيد حتى استلقى على قفاه وقال لجعفر، هل سلوت عنهما؟ فقال جعفر: هما ومولاهما إلى أمير المؤمنين، وقريباً من هذا ماحكي في كتاب "تحفة الألباب": أن رجلاً من المترفين قال: تزوجت ثلاث نسوة: عبية وفارسية وقبطية. فقلت ليلة للعربية، أي وقت هذا؟ قالت هو سحر. قلت: وما يدريك؟ قالت: برد سواري وخلخالي، وقلت للفارسية: أي وقت هذا؟ قالت: سحر. قلت: وما يدريك هبوب النسيم، وصبح بسيم، وقلت للقبطية. أي وقت هذا؟ قالت سحر. قلت وما يدريك؟ قالت حركت بطني. فقهقه الرجل ضاحكاً: وقال: سبحان الله خالق الأصول والطباع. وفيه أيضاً. وقد ذكرتها اعتراضاً على الرشيد حيث قتل جعفراً لما واقع زوجته. حكى المفضل قال: دخلت على الرشيد وعنده طبق ورد وجارية جميلة واقفة، قد أهديت له فقال لي: يا مفضل قل بهذا الورد شيئاً، فقلت: كأنَّه خدُّ معشوقٍ يقبِّله ... فم المحبِّ وقد أبقى بهِ خجلا قال المفضل: فتبسمت الجارية، وأنشدت تقول: كأنَّه لونُ خدِّي حين تدفعني ... كفُّ الرشيدِ لأمرٍ يوجبُ الغسلاَ

[21] بيرخان بنت الشاه طهماس بن الشاه إسماعيل بن حيدر

فقال الرشيد: قم يا مفضل فإن هذه الماجنة هيجتني، فقمت وأرخيت عليهما الستور. أقول: كيف سمحت نفس الرشيد بأن يواقع جاريته ويطرد جليسه وهو كامل العقل؟ وكيف سمحت له نفسه بقتل وزيره حيث واقع منكوحته وهو سكران لا يعقل ولا يعلم هي أم غيرها؟ فإن قيل: قتله لخسة أصله. أقول قد رفعه الإسلام وعظمه جوده الذي شمل الخاص والعام، ولكن ذلك بتقدير الملك العليم العلام، وعند الله تصير الأمور، انتهى. [21] بيرخان بنت الشاه طهماس بن الشاه إسماعيل بن حيدر ابن جنيد بن إبراهيم بن الخواجا علي بن صدر الدين بن صفي الدين بن جبرائيل، ينتهي نسبة إلى الإمام رضي الله عنه وبيرخان أخت الشاه إسماعيل لامه وأبيه وكانت كاملة العقل حسنة التدبير، وكان لها أخ من أبيها اسمه حيدر، وأمه مقربة عند الشاه طهماسب، وكان الشاه قد غضب على ابنه إسماعيل وسجنه في قلعة الموت فخافت زوجة الشاه طهماسب على الملك أن يليه ابن زوجها اسماعيل، وهي التي عملت على حبسه، فعمدت إلى زوجها ووضعت له سماً في النورة، ولما تنور وقعت مذاكيره، وعلم أن ذلك بأمر ولده حيدر فاستدعاه وقال له: لم فعلت هذا، أتظن تتمتع بعدي بالملك؟ وخرج حيدر من عند أبيه، فاستدعى الشاه ابنته بيرخان وخبرها بما فعلته زوجته بأمر ولدها حيدر، وأعطاها الخاتم وقال لها: دبري على هلاك حيدر، واستدعى أخاك إسماعيل من الموت فخرجت بيرخان واستدعى بعض مماليك أبيها، وأرسلتهم إلى داخل خزينة الشاه، وأمرتهم أن يكمنوا إلى أن يأتي حيدر ويقتلوه، فقبلوا وكمنوا، ثم استدعت أخاها حيدر وأعطته الخاتم، وقالت له: امض إلى الخزينة، وانظر ما فيها. فسار من وقته فلما حصل في الخزينة لم يشعر إلا والرجال قد أحدقوا به، وضربوه بالسيوف وقتلوه، ومات الشاه طهماسب في ذلك الوقت سنة أربع وثمانين وتسعمائة، ودفن معه ولده حيدر ثم ركبت بيرخان وسارت إلى قلعة الموت، وأطلقت أخاها من الحبس، وفوضت إليه أمر المملكة، وكان الشاه إسماعيل أولاً شيعياً، ثم صار سنياً، وسبب أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأصحابه الأربعة عنده فتقدم إلى علي رضي الله عنه فأعرض عنه، فقال له: لأي شيء يا إمام؟ قال: لبغضك الصديق، فتقدم إلى الصديق واعتذر وتاب. فبشره الصديق، رضي الله عنه بالخلاص من الحبس على يد رجل فلا تجتمع به فإنه يغدر بك. ثم يأتيك آخر فصدقه وتوجه معه، فلما مات أبوه أرسل أخوه حيدر يدعوه ليقبض عليه ويقتله، فما قدر. وقتل حيدر وجاءت أخته بيرخان فصدق كلامها، وسار معها وجلس على سرير الملك، وصار سنياًَ، وقتل الرفضة ثم غدر بأخته بيرخان وقتلها سنة أربع وثمانين وتسعمائة مفرد: والغدرُ منْ شيمِ النفوسِ فإنْ تجدْ ... ذا عفَّةٍ فلعلَّةٍ لايظلمُ ولم تطل أيام الشاه إسماعيل ومات سنة خمسٍ وثمانين وتسعمائة، قيل: هجم عليه خدام أبيه وقتلوه حيث خالفهم، وبلغ من قتل في أيامه فكانوا ثلاثين ألف رافضي. وهذا لولا غدره بأخته لحمدت سيرته لأن سلفه كانوا سبباً لظهور الرفض وأول من أظهره في بلاد العجم جده الشاه إسماعيل بن حيدر، وعمل له بعض أدباء الشيعة تاريخاً [أسماه] مذهبنا حق. فبلغ أهل السنة فقالوا: مذهبنا حق، على النفي والله أعلم. حكي: أن رجلاً من أهل السنة خرج يوماً في البر إلى خربة، فوجد شخصاً من الرفضة جالساً وأمامه صورة، فاختفى السني، وجعل الرافضي يخاطب تلك الصورة، ويعني بها الصديق رضي الله تعالى عنه ويقول له: لم أخذت الخلافة من علي؟ وضرب عنق الصورة، ثم أخرج صورة أخرى، يعني بها عمر رضي الله تعالى عنه وجعل يعاتبها، وضربها بالسيف فأطاح رأسها، ثم أخرج أخرى يعني بها عثمان، ورضي الله عنه وعاتبها وضربها بالسيف، وخرج أخرى، وهي حسنة الشكل يعني بها علي رضي الله عنه وقال له: الذنب لك حيث تركت غيرك يتقدم للخلافة وضرب عنق الصورة وأخرج أخرى يعني بها صورة النبي صلى الله عليه وسلم وعاتبها وقال: أنت الذي قدمت أبا بكر على علي وغير ذلك من الخلط الفاحش، وضرب على الصورة بالسيف وأخرج صورة أخرى يعني بها الحق جل جلاله تعالى لله عن ذلك (ليس كمثله شيء) وأطال العتاب، وهم بضرب الصورة، وقد ملئ غيظاً فأخذ ذلك الرجل سلبه، وكان عنده دنانير فأخذها ومضى إلى بيته، وكان فقيراً، أعلم بالصواب.

[22] بدونة زوجة توقيل ملك الروم

[22] بدونة زوجة توقيل ملك الروم كانت أكفر من زوجها وأظلم منه، ولما مات زوجها سنة سبع وعشرين ومائتين خلف ولداً صغيراً اسمه ميخائيل من زوجته الملعونة بدونة فملكت الروم بدونة وأظهرت ما عندها من المكر والغدر، واستمرت إلى سنة ثمان وثلاثين ومائتين وجهزت في البحر ثلاثمائة مركب بالعساكر والعدد إلى قتال المسلمين، فقدموا إلى دمياط، وكبسوا المدينة واسروا ستمائة امرأة سوى الأطفال، وقتلوا كثيراً من الرجال وعادوا إلى بلادهم، فكانت تفتخر وتقول: أنا امرأة دبرت وعلمت على أسر ستمائة امرأة، وكثر شرها على المسلمين، ثم تسلم روحها ملك (الموت) وسجنها ي سجين، وأراح الله منها الموحدين سنة مائتين وأربعين، وعهدت بالملك لولدها ميخائيل، وفي الأمثال: لا تلد الذيبة إلا ذيبة. [23] أم جنكزخان أصلها من قبيلة التتار، وتسمى تلك القبيلة قتات، حملت في جنكزخان من غير زوج، وقيل: إنها كانت متزوجة ن رجل من أقاربها ومات زوجها، ثم بعد أعوام حملت من غير زوج، والظاهر يدل على أنه من لسفاح، فأنكر عليها أهلها حملها ن غير بعل فقالت لهم: إني رأيت في المنام كأن نوراً دخل في فرجي ثلاث مرات، فأمهلوني فإني حامل في ثلاثين بنين ذكوراً، فإن صدقت وإلا فاعلموا بي ما شئتم، فلما تم حملها وضعت ثلاثة أولاد ذكوراً، فعند ذلك ظهرت براءتها، بزعمهم فسمت أحدهن بوقن، والثاني ماعي، والثالث: نود بحر وهو جنكزخان. وعلى ما ذكروا من أنه ظهرت براءتها بقولها، قال في الهداية: المطلقة الرجعية إذا جاءت بولد لسنتين أو أكثر ما لم تقر بانقضاء العدة لاحتمال العلوق في حالة العدة، وعلى هذا القول فتكون أم جنكزخان صادقة، ويلحق جنكز بأبيه، وقال أيضاً في الهداية: أكثر مدة الحمل سنتان، لقول عائشة، رضي الله عنها: الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين ولو بظل مغزل، أقله ستة أشهر. فعلى هذا قد يكون بين وضع جنكيز خان وبين ممات أبيه أقل من سنتين وقول هل التواريخ أعوام، يحتمل وصاعداً، وقال في الدر المختار: أكثر مدة الحمل سنتان لخبر عائشة رضي الله عنها وعند الأئمة الثلاثة أربع سنين وأقلها ستة أشهر، على هذا فقد ظهرت براءة أم جنكزخان، ولا يتوهم من أن المرأة لا تحمل أكثر من تسعة أشهر فقد قيل إن (وليداً) أقام في بطن أمه أربعة أعوام فلما ولدته ضحك وله أسنان في فمه، والله أعلم. واعلم أن مملكة الصين متسعة، ودورتها ستة اشهر وانقسمت قديماً ستة أجزاء، كل جزء مسير شهر كامل، ولكل جزء خان يملكه، وكان خانهم الكبير ذلك الزمان اسمه الطن خان، ورث الخانية كابراً عن كابر، بل كافراً عن كافر، ومن عادة خانهم الأعظم الإقامة بمدينة طوغاج، وفي ذلك الوقت كان أحد الخانات الستة دوشى خان زوج عمة جنكزخان فمات فعمدت عمة جنكزخان إليه وولته مملكة زوجها بعد أن استأذنت كشلوخان وغيره، فبلغ خبره الطن خان فسار لحربهم كسروه، وتمكن جنكز خان فمات (الطن) خان وملك جنكزخان مملكته وإضافة لما في يده، ثم مات كشلوخان وأقام ابنه مكانه، فحاربه جنكزخان وقتله وضم إليه مملكته، وبقي يملك نصف الصين، وثم قاتل خوارزم شاه محمد وملك بلاده، واتسعت مملكة جنكزخان حتى ملك الصين والأغوات، وإيران والعراق، وعمت سراياه، الآفاق فلا رحم الله روحه. وكان جنكزخان أمياً لا يقرأ ولا يكتب وعسكره مسلمون ويهود ونصارى، وكان لا يتعرض لأحد منهم، وهو لا دين له، بل يعظم علم كل طائفة، ولم يكن [له] علم فوضعوا قلم المغل، ورتبوا له كتاباً سماه (الباسق الكبير) وذكروا فيه لكل حسنة مثوبة، ولكل سيئة عقوبة، وصلب السارق، وخنق الزاني، وإن شهد عليه واحد، واستبعاد الأحرار، وتوريث نكاح الزوجة لأقارب في العدة، والأخذ بقول الجواري والصبيان ومطالبة الجار بالجار وغير ذلك من القواعد الملعونة على خلاف الشريعة الميمونة. [24] تركان خاتون من قبيلة بيارون من فروع يمك

[25] سلطان بخت تيمورلنك المغرور

وهي بنت ملك منهم، وكانت من أجمل النساء هيبة ووقاراً مع حسن رأى وأفكار تزوجها خوارزم شاه تكش بن أرسلان شاه بن أطسن شاه بن محمد شاه بن آنوش تكين، وحظيت تركان عند تكش وولدت منه محمد شاه، ولما مات تكش ملك بعده ولده محمد شاه، وكان صغيراً، فدبرته أمه تركان خاتون، وكان لها رأي وهيبة، وتنتصف للمظلوم من الظالم، جسورة على القتل، ولها في كل إليهم ناحية جليلة تقدم من توقيعها وتوقيع ابنها تاريخاً، وطغر توقيعها، عصمة الدنيا والدين الخ بركان ملكة نساء العالمين، وعلامتها: اعتصمت لله وحده. تجودها بقلم غليظ وأقامت في أرغد عيش إلى ظهر التتار، وحاربوا ولدها محمد شاه، وهرب إلى جزيرة، ولحقه مرض ذات الجنب وأقام بالجزيرة إلى أن مات وكفن وفي قميصه لعدم الكفن، فسبحان من يعز من يشاء ويذل من يشاء. ونظير ذلك ما حكي: أن صاحب الأندلس المعتمد بالله محمد بن المعتضد باله بن عباد بن القاضي محمد بن إسماعيل اللخمي، وكان ملكاً جليلاً شاعراً نبيلاً، ملك من بلاد الأندلس وثلاثين سوراً، وأقام بالملك نيفاً وعشرين سنة، وإلى أن خرج عليه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وتغلب عليه، وملك البلاد وقبض على المعتمد، وسجنه في مدينة أغمات أربع سنين، ومات وهو في السجن سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وخلف ثمانمائة جارية، ومائة وثلاثة وسبعين ولداً، ودخلت عليه بناته، وهو بالسجن وكان يم عيد وعليهم أطمار رثة، وقد صرن يغزلن بالأجرة، فلما رآهن أنشد أبوهم يقول: فيما مضى كنتَ بالأعيادِ مسروراً ... فساءك العيدُ في أغمات مأسورا ترى بناتكَ في الأطمار جائعةً ... يغزلن للناسِ لا يملكن قطميرا يطأن في الطينِ والأقدامُ حافيةٌ ... كأنها لن تطأ مسكاً وكافورا قد كان دهركَ إن تأمره ممتثلاً ... فردكَ الدهرُ منهياً ومأمورا فسبحان من يعطي ويمنع، ويضر وينفع لا راد لما قضى، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويرفع ويضع، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون: [25] سلطان بخت تيمورلنك المغرور يتصل نسبه إلى جنكزخان، وهو من قرية إيلغا من مدائن ما وراء النهر، قيل: أنه لما ولد سقط وكفاه مملوءة دم غبيط، فقيل: يصير شرطياً، وقيل: لصا فأصاب القائل لأنه سرق غنمة، وقيل: يصير قصاباً وقيل جلاداً يضرب أعناق العباد، فلا رحمه الله، ولما كبر ظهر فسار، وخرب البلاد، وأهلك العباد، وكانت بنته سلطان بخت في حال حياة أبيها، لا تحب الرجال، بل مشغوفة بحب النساء وقنعه منهن بالسحاق، شعر: قلْ للتي تدَّعي السحاق ... إلى كمْ تساحقي ليسَ يشفي غليلك ... منْ جميعِ الخلائقِ غير ذا الأقرعِ الحليقِ ... رأسه الجوالقي ذكر في ديوان الصبابة أن رجلاً مر في كان خال، فوجد فيه امرأتين تتساحقان فرفع الفوقانية، وجامع التحتانية، وقال: هذا جرح يحتاج إلى فتيلة إش تنفعه اللزقات. يا شهدُ لا واللهِ وما أقنعُ ... أن أعاود قبلتكِ ما أنني عندي شهوة ... حتى أذوقَ عسيلتك وقيل: إن التحتانية قالت للفاعل: وأنشدت: من حاز والأكفُّ تلمسه ... عنقَ ظليم بغير منقار أنعظ حتى أضحى كفيشلةٍ ... مشدودةٍ في نارِ بيطار يشقق حينَ يدخله ... كأنه بطومار ثم لما مات تيمور سنة سبع وثمانمائة، أقامت ابنته سلطان بخت في بغداد، فأفسدتها العواهر، فصارت لا تفتر عن الجماع، ولها حكايات غريبة يشمئز منها السمع وكان لسان حالها يقول: المرد يصبوا إليهمُ السفلُ ... وفي الغواني الجمالُ والغزلُ فالدبر مأوى لغائطٍ وأذىً ... وفي الزنابيرُ يجتنى العسل ومثله قول الآخر مضمناً: دع اللواط وخلِّ عنك وعج ... على النساء بالقبل والقبل فإنما رجلُ الدنيا وواحدها=من لا يعولُ في الدنيا على رجل وأقامت سلطان بخت على هذه الحال حتى كرهت من فعلها لرجال، واستمرت على ذلك أعواماً وشهوراً وليال، إلى أن تسلم روحها مالك وقيدها بالسلاسل والأغلال، وعليها الذل والوبال. أذكياء النساء 1 ذكر في "كتاب النزهة": أن امرأة وقفت على قيس بن سعد بن عبادة فقالت: أشكو إليك قلة النيران: فقاله لخدامه، املأوا لها دارها لحماً وسمنة ورزاً وخبزاً.

2 حكى أم الملك العزيز كان في أيام أبيه يهوى جارية قينة فمنعه أبوه عنها، فسيرت له كرة عنبر مع الخادم فكسرها فوجد فيها زراً من الذهب فلم يفهم مرادها، ونقل ذلك إلى القاضي الفاضل فأنشده، ارتجالاً يقول: أهدتْ لك العنبر في وسطه ... زرٌ من التبر رقيقُ اللحامِ فالزرُّ في العنبر تفسيره ... زر هكذا مستتراً في الظلام 3 حكى أنه مر بعض لأدباء على حي من أحياء العرب فرأى امرأة خارجة من الحي فقال لها: من المرأة؟ قالت: من بني فلان، فأراد العبث بها، فقال: أتكتنون فقال: عم نكتني فقال لها: معاذ لله! لو فعلت لاغتسلت، فأجابته على الفور: أتعرف الروض؟ قال: نعم فقالت: قطعْ لي قول الشاعر. مفرد: حولَّوا عنا كنيستكُمْ ... يا بني حمَّالةَ الحطبِ فلما أخذ يقطع قال: حولوا عن ناكني، فقالت: المرأة من هو؟ فتعجب وقال: الله أكبر إن للباغي مصرعاً، والله إنها لمن أهل الذكاء. 4 حكي، أن بعض الماجنات أرادت السفر، فلقيها رجل فقال لها: خذي مع هذا الكتاب، وأشار إلى ذكره، فقالت على الفور: إن لم أجد لك أمك أعطه لأختك؟ فسكت وأفحم وتعجب من ذكائها وسرعة جوابها. 5 وحكي: أن رجلاً حدث فيه قولنج فمنع خروج الريح، طول ليلته، وهو يدعو الله أن يفرج عنه ما يجده، فلم يذهب ما به حتى طلع الفجر فقام وتوضأ وصلى الصبح، ولما فرغ من صلاته قال: اللهم ارزقني الجنة فقالت له زوجته: يا هذا لم أرى أحمق أنك، أنت طول ليلتك ترجو من الله أن يخرج من بطنك فسوة فلم يعطك، وأنت تطلب منه جنة عرضها السماء والأرض، فسكت ولم يرد جواباً. 6 حكي: أن الخليفة لمتوكل على الله العباسي بلغه أن جارية ممول الجيش في المدينة، في غاية الحسن، وفرط الذكاء وحسن الصوت، فأرسل إلى عامله ليرسلها له فلما أخذها من مولاها، كاد يزول علقه لفرط حبه لها، فقالت له: أحسن ظنك بالله وبي، فإني كفيلة لك بما تحب، فحملت إلى المتوكل، ولما دخلت عليه قال لها: اقرئي، فشرعت بقراءة القرآن وقالت: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ) ففهم المتوكل ما أرادت وتعجب من ذكائها وردها إلى مولاها. 7 حكي: أن المأمون وكان يوماً يصيد نواحي الكوفة فبينما هو يسير في اثر غزال حتى أشرف على نهر، وإذا جارية عربية خماسية القد، قاعدة على النهر، كأنها القمر ليلة تمامه، وبيدها قربة قد ملأتها (ماء) وحملتها على أكتفها وصعدت وقد انحل وكاء القربة، فصاحت رفيع صوتها: يا أبت أدرك فاها، فقد غلبني فوها، ولا طاقة لي بفيها، فتعجب المأمون من فصاحتها وذكائها، وألقت من يدها، فتقدم إليها المأمون وقال لها: من أي العرب أنت؟ قالت: من بني كلاب، فقال: ما حملك أن تكوني من الكلاب؟ فقالت: والله لست من الكلاب، وأما أنا من قوم كرامٍ، غير لئام، يقرون الضيف، ويضربون بالسيف، فأنت من أي ناس؟ فقال لها: أو عندك علم بالأنساب: قالت: نعم قال لها: أنا من مضر، فقالت: من أي مضر؟ قال من أكرمها نسباً، وأعظمها حسباً، وخيرها أما وأباً ممن تهابه مضر فقالت: أظنك من كنانة؟ قال: نعم قالت: من أي كنانة؟ قال: من أكرمها مولداً وأشرفها محتداً، وأطولها في الحكومات يداً، ممن تهابه كنانة وتحافه، قالت: إذاً، أنت من قريش؟ قال: نعم، قالت: من أي قريش؟ قال: من أجلها، ذكراً، وأعظمها منزلاً وأشرفها قبيلة [ممن تهابه قريش كلها وتخشاه، قالت: أنت والله من بني هاشم، قال: أنا من بني هاشم قالت من أي هاشم؟] قال: من أعلاها منزلة وأشرفها قبيلة ممن تهابه هاشم وتخافه، قال فعند ذلك قبلت الجارية الأرض وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، فتعجب المأمون ثم قال: والله لا ابرح حتى أتزوج هذه الجارية، وتلاحقت العساكر، وأنفذ خلف أبيها، وخطبها وتزوجها، ودخل بها وعاد مسروراً بها. 8 حكى الأصمعي: أن عجوزاً من العرب جلست عند فتيان يشربون نبيذ التمر فسقوها فطابت نفسها، وتبسمت ثم سقوها ثانياً فاحمر وجهها، ثم سقوها ثالثاً فضحكت وقالت: أخبروني عن نسائكم بالعراق، وهل يشربن من هذا الشراب؟ قالوا: نعم فقالت: إذاً والله زنين، ورب الكعبة.

9 حكي أنه كان في المدينة جارية، حسنة قرأت القرآن وردت الشعار، فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأحبها وقال لها: أما لك قرابة حتى أسدي إليهم جميلاً؟ فقالت: أما القرابة فلا، لكن لي، في المدينة، ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاي فاستدعاهم يزيد وأمر لكل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فلما وصلوا إلى يزيد أكرمهم وقضى حوائج اثنتين منهم وأما الثالث فلم يكن له حاجة، فألح عليه يزيد فقال: ولي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فقال: أريد أن تأمر لي جاريتك أن تغني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال خمر، فغضب يزيد ودخل على جاريته وأعلمها فقالت له: وما عليك؟ فأمر بالفتي ونصبت ثلاثة كراس فقعد على كل واحد على كرسي، ثم دعا بصنوف الرياحين، وثلاث أرطال خمر، وقال للفتى، سل حاجتك! فقال: تأمرها أن تغني وأنشد: لا أستطيعُ سلواً عنْ محبتها ... أو ينصعُ الحبُّ بي فوقَ الذي صنعا أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلتُ هذا صادقٌ نزعا فغنت وشربوا ثم قال: تأمرها تغني، وأنشد: مني الوصالُ ومنكم الهجرُ ... حتى يفرق بيننا الدهرُ واللهِ لا أسلوكمو أبداً ... ما لاح أو بدا فجر فغنت وشربوا ثم أمرها تغني: وأنشد: تخيرتُ من نعمانَ عودَ أراكة ... بهندٍ، ولكنْ من يبلغه هندا ألا عرجاً بي بارك اللهُ فيكما ... وإنْ لمْ تكنْ هندٌ لأرضكما قصدا فم تتم الأبيات حتى خر الفتى، مفشياً عليه، فقال: يزيد للجارية: انظري إليه فحركته فإذا هو ميت، فقال لها: ابكه فقالت: أبكيه وأنت حي؟ قال: ابكه فلو عاش ما انصرف إلا بك، فبكت وبكي يزيد، ودفن الفتي ولم تلبث الجارية بعده إلا أياماً قلائل وماتت، قال الراوي هذه الحكاية أبو القاسم بن إسماعيل: ولم أر أذكى من هذه الجارية، حيث إنه سألها، هل من قريب؟ قالت: لا، ولكن ثلاثة أنفار، كان قصدها واحداً منهم، ولكن خافت فأخفت، ولما سأل الفتى إحضارها، وغضب يزيد، ودخل عليها وذكر لها ذلك، وكان قصدها الاجتماع بمن تهواه، فقالت: وما عليك يا أمير المؤمنين، ولما قال لها: ابكه، قالت: ابكيه وأنت حي، وهذا كله من فرط ذكائها لئلا تنفضح بين الناس، ويقولون عنها، فلانة أحبت فلاناً، وفيما ذكرناه كفاية. 10 ولنذكر نبذة فيها للسامع فائدة ذكر في كتاب "نصاب الاحتساب": روى الإمام الشعبي بإسناده عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المؤمنين من الرجال، والمذكرات من النساء"، وفي "شرح الكرخي": كان في بيت أم سلمة رضي الله عنها: هيت المخنث فلما حاصر صلى الله عليه وسلم الطائف، قال هيت لعمرو بن أبي سلمة: إذا فتح الله علينا الطائف دللتك على بادية بنت غيلان فنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا الخبيث يعرف هذا، لا يدخل عليكم" ومعنى قوله: تقبل بأربع: عكن البطن، وتدبر بثمان، أطرافها، لكل عكنة طرفين أي جنبيها. ويكره للنساء اتخاذ الجلاجل في أرجلهن لأنه مبني حالهن على الستر، وفيه إظهارهن مع أنه من أسباب اللهو. 11 وذكر في "تلخيص البرهان": قال الأصمعي: كان يقال شباب المرأة من خمس عشرة إلى الثلاثين، وفيما بين الثلاثين والأربعين يقال لها: مستمتع ثم قد آيست. 12 وذكر في "الأشباه": ليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن ثم تستمر في الجنة إلا الإيمان والنكاح. 13 وذكر في "تفسير المدارك": إنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأتي نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم، فيجب ألا يكون معه ما ينفرهم وعنه، والكفر غير منفر عندهم، وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات.

منازل السعود في النكاح

منازل السعود في النكاح في الشرطين: إذا عقد النكاح تموت المرأة في عامها، وفي البطين يموت الرجل قبل الامرأة، وفي الثريا كان العقد جيداً، وفي الدبران يحصل للزوجين الفقر، وفي الهقعة الفراق بينهما في الطلاق، وفي الذراع جيد في الغابة، وفي النشرة أيضاً فهو جيد، وفي الطرف يحصل بغض بين الرجل والمرأة، وفي الجبهة يقع الفراق بينهما، وفي بزبزة جيد حسن، وفي الصرفة نحسن عظيم، وفي الزبان أيضاً فقر، وفي الإكليل نحس، وفي القلب جيد، وفي الشولة نحس، وفي النعائم جيد، وفي سعد ذابح موت الزوج في أقل من سنة، وفي بلغ السعود جيد، وفي سعد السود جيد، في سعد أخبية جيدا، وفي الحوت جيد، في مقدم جيد والله أعلم. وعلى ذكر السعد والنحس فالأيام كما زعم المنجمون منها سعد ونحس. فمحرم ثاني يوم وسابع عشر نحس، وصفر أول يوم والثالث نحس، وربيع الأول عاشر يوم والثالث عشر نحس، وجمادى الثانية ثاني يوم والرابع عشر نحس، ورجب رابع يوم ويوم العشرين نحس، وشعبان ثالث يوم ويوم العشرين نحس، ورمضان سادس سوم والثامن نحس، وشوال سادس سوم والسابع نحش وذو القعدة ثالث يوم والثامن نحس، وذو الحجة يوم السادس والعشرين نحس. ويروي عبد الله بن عبد المطلب أنه قال: الأيام كلها لله بعضها نحس وبعضها سعود، وما من شهر إلا وفيه سبعة أيام نحسات: اليوم الثالث من كل شهر لأن فيه قتل هابيل، واليوم الخامس من كل شهر نحس لأن آدم أخرج فيه من الجنة وأرسل فيه لعذاب على قوم يونس، عليه السلام وفيه ولد قابيل، وفيه ألقي يوسف، عليه السلام في الجب، واليوم الثالث عشر من كل شهر نحس لأنه فيه سلب مال أيوب وأرسل عليه البلاء واليوم السادس عشر نحس لأن فيه سلب ملك سليمان، وفيه قتلت الأنبياء، ويوم الحادي والعشرين، نحس من كل شهر لأن فيه خسف بقوم لوط، وفيه مسخ سبعمائة نصراني خنزيراً، ومسخت اليهود قردة، وفيه شق اليهود بالمنشار زكريا، ويوم الرابع والعشرين نحس من كل شهر لأن الله فيه خلق فرعون وفيه ادعى الربوبية، وفيه أرسل الطوفان، وفيه أرسل الجراد والضفادع والدم، ويوم الخامس والعشرين نحس من كل شهر لأن فيه شق النمرود بطون سبعين امرأة حاملاً، وفيه ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، وفيه عقرت ناقة صالح، والله أعلم. وذكر بعضهم: أن أيام السعود من كل شهر يصلح فيه النكاح والبناء والسفر والتجارة: وهي: اليوم الثاني من كل شهر، واليوم السابع من كل شهر، واليوم الثاني عشر واليوم السابع عشر [من] كل شهر، واليوم الثاني والعشرون من كل شهر، واليوم السابع والعشرون من كل شهر وطريق حفظ هذا تعد من أول الشهر في أصابع اليد فتبدأ بالخنصر، وما وقع على البنصر سعد من الواحد إلى تمام سبع وعشرين فيظهر ستة أيام. والصحيح لا تعاد الأيام فتعاديك وقال صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة في الإسلام" ومما ينسبوبه إلى الإمام علي رضي الله عنه: لنعمَ يومُ السبتِ حقاً ... لصيدٌ إن أردت بلا امتراء وفي الأحدِ البناءِ لأن فيهِ ... بدأ الهُ في خلقِ السَّماءِ وفي الاثنين إن سافرتَ فيه ... ستظفرُ بالنجاحِ وبالشراءِ ومن يرد الحجامة فالثلاثا ... ففي ساعاته خرقُ الدماءِ وإنْ شرب امرؤ يوماً دواءً ... فنعم اليوم يومُ الأربعاءِ وفي يومِ الخميسِ قضاء حاج ... ففيه الله يأذن بالدعاءِ وفي الجمعات تزويج وعرس ... ولذات الرجال من النساءِ ومما يرد على من اعتقد بنحس الأيام وسعدها، ما حكي أن الملك لمعظم عزم على الصيد، فقال له بعض الحاضرين: أيها الملك القمر في العقرب والسفر فيه مذموم، والمصلحة الصبر إلى ن يحل في القوس، فلما عزم على الصبر وهو متفكر إذا دخل عليه مملوك له من أحسن الناس وجهاً، ووقف قدامه وهو متوشح في قوس، فقال بعض من حضر: يا مولانا بالله اركب في هذه الساعة، فهذا القمر، أشار إلى المملوك قد دخل في القوس فقام وركب لوقته فلم ير أطيب من تلك السرة، ولا أكثر صيداً منه، وهذا هو الصواب، ولو كانت حكاية، لأن الضار والنافع وهو الله تعال وأما ما تقوله المنجمون وأهل الرمل وغيرهم فالصواب أن لا يعتقد فيه، شعر: ألا قلْ للمنجمِ كيف تدري ... بأحوالِ السعادةِ والشقاءِ

أرى أحوال بيتكَ عنك تخفي ... فكيفَ عرفتَ أحوالَ السَّماءِ حكي: أنه صلب منجم، فقيل له قبل أن يصلب: هل رأيت هذا في طالعك؟ قال: نعم رأيت رفعة ولكن لا أعلم أنها فوق خشبة. وقال العماد: أجمع المنجمون سنة اثنين وثمانين وخمسمائة على أن خراب العالم في هذا العام في شهر شعبان عند اجتماع الكواكب الست في الميزان بطوفان الريح، وخوفوا بذلك ملوك الأعاجم والروم، وشرعوا في حفر مغارات، ونقلوا إليها الماء والطعام، فلما كانت تلك الليلة التي عينها المنجمون لمثل ريح عاد، ونحن جلوس عند السلطان والشموع وتوقد ولا تتحرك لم تهب ريح ولا رأينا ليلةً مثلها في ركودها. والحمد لله رب العالمين تمت النسخة في عصر يوم الثلاثاء أول يوم من ذي القعدة على يد جامعها ومؤلفها الفقير إليه سبحانه، ياسين الخطيب العمري بن خير الله الخطيب العمري بن محمود الخطيب العمري ابن موسى الخطيب العمري غفر الله لهما، آمين يا رب العالمين، وذلك في سنة ألف ومائتين وأربع من هجرة النبي المكرم، في سنة 1024.

§1/1