الروزنامجة

الصاحب بن عباد

فصل

بسم الله الرحمن الرحيم قال الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد: فصلٌ وردتُ - أدام الله عزَّ مولانا - العراق، فكان أوَّل ما اتفق لي استدعاء مولاي الأستاذ أبي محمد أيَّده الله، وجمعه بين ندمائه من أهل الفضل وبيني، وكان الذي كلَّمني منهم شيخ ظريف، خفيف الروح أديب، متقعِّر في كلامه

لطيف يُعرفَ بالقاضي ابن قريعة، فإنه جاراني في مسائل خفَّتُها تمنع من ذكرها واقتصاصها، إلا أني استظرفت قوله في حشو كلامه: هذا الذي أورْدَتهُ الصافَّة عن الصافَّة، والكافَّة عن الكافة، والحافَّة عن الحافة. وله نوادر غريبة ومِلحُ عجيبة منها: إن كهلاً تطايب بحضرة الأستاذ أبي محمد أيَّدَه الله، فسأله عن حدِّ القفا مريداً تخجيله، فقال هو ما اشتمل عليه جِربّانُك، ومازحك فيه إخوانك، وباسطك فيه غلمانك، وأدَّبك عليه سلطانُك، فهذه حدودُ أربعة.

فانصرفت وقد ورد الخبرً بِمُضيِّ أبي الفضل صاحب البريد - رضي الله عنه ورحمه، وأنسأ أَجَلَ مولانا ومدَّ فيه -، فساعدتُ القومَ على الجلوس للتعزية عنه، لِمَا كان من الحال الذي يُعْرَف بيني وبينه: صِلةٌ غدتْ في الناسِ وهيَ قطيعةٌ ... عجباً وبِرٌّ راح وهو جفاءُ فما تمكَّنْتُ أنْ جاءني رسولُ الأستاذ أبي محمد - أيَّده الله - يستدعيني، فعرَّفته عذري وحسبته يعفيني، فعاودني بمن استحضرني، فدخلتُ عليه وقد قعد. . . .، ثم قال: أتعرف أحسنَ صنيعاً منّي بك؟ وقد نقلتك عن وا حرباه إلى وا طرباه، وسمعت عنده خادمه المسمَّى سلافاً وهو يضرب بالطنبور، ويجيد ويغنّي ويحسن، وفيه يقول - وقد شربنا عنده سلافاً -: قد سمعنا وقد شربنا سلافاً ... وجَمَعنا بلطفه أوصافا وشاهدت من حسن مجلسه، وخفَّة روح أدبه، وإنشاده

الصنوبري وطبقته، ما طاب به الوقت، وهشَّت له النفس، وشاكل رقَّة ذلك الهوى، وعذوبة ذلك اللمى. وكان فيما أنشدني لنفسه، وقد عمله في بعض غلمانه: خطط مقوَّمةٌ ومفرقُ طُرَّةٍ ... فكأنَّ سُنَّةَ وجهه محراب وَرَّيْتُ في كشفِ الذي ألقى به ... فتعطَّل النَّمام والمغتاب فانصرفتُ عنه، وجعلت ألقاه في دار الإمارة، وهو على جملةٍ من البرِّ والتكرمة، حتى عرفتُ خروجَه إلى بستانٍ بالياسريَّة لم يُرَ أحسن منه ولا أطيبُ من يومه فيه، لا أنَي حضرتُه ولكني حُدِّثْتُ بما جرى له، فكتبتُ إليه شعراً: قل للوزير أبي محمدٍ الذي ... من دون محتدِهِ السهى والفرقَدُ

فصل

مَنْ أن سما هبط الزمانُ وريبُه ... أو قام فالدهرُ المغالِبُ يقعدُ سقَّيتني مشمولةً ذهبيةً ... كالنار في نور الزجاجة توقَدُ لمَّا تخون صرفُ دهرٍ عارضٍ ... صبري وقلبي مستهامٌ مُكمدُ وفطمتني من بعدها عنها فقد ... أصبحتُ ذا حزنٍ يقيم ويقعدُ من أين لي مهما أردتُ الشربَ عن ... دك يأخا العلياء صبرٌ يوجدُ فاستطاب هذا الشعر وأُعجِبَ به، واستدعاني من غده فصلٌ استدعاني الأستاذ أبو محمد فحضرتُ، وابنا المنجِّم في مجلسه، وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعهما من النشيد

لأحضره، فأنشدا قعوداً وجَوَّداً، بعد تشبيب طويل وحديث كثير، فانَّ لأبي الحسن رسماً أخشى تكذيب سيدنا إن شرحتُه، وعتابه إنْ طويته، ولئن أحصل عنده في صورة متزيِّد أحبَّ إليَّ من أن أحصل عنده في رتبة مقصِّر: يبتدئ فيقول ببحّة عجيبة - بعد إرسال دموعه، وتردد الزفرات في حلقه، واستدعائه من جؤذر غلامه منديل عبراته: والله والله، وإلا فأيمان البيعة تلزمه بحلِّها وحرامها وطلاقها وعتاقها، وما ينقلب إليه حرام، وعبيده أحرار لوجه الله تعالى، إن كان هذا الشعر في استطاعة أحدٍ مثله، واتفق من عهد أبي دؤاد الإيادي إلى زمان ابن الرومي لأحدٍ شكله، بل عيبه إن

محاسنه تتابعت، وبدائعه ترادفت، فقد كان في الحق أن يكون كل بيتٍ منه في ديوان يحمله ويسود به شاعره. ثم ينشد، فإذا بلغ بيتاً يعجب به ويتعجب من نفسه فيه قال: أيها الوزير! من يستطيع هذا إلا عبدك علي بن هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور بن المنجم جليس الخلفاء وأنيس الوزراء. ثم ينشد الابن، والأب يعوِّذه ويهتزُّ له ويقول: أبو عبد الله - أستودعه الله - وليُّ عهدي، وخليفتي من بعدي، ولو اشتجر

فصل

اثنان من مصر وخراسان لما رضيتْ لفصل ما بينهما سواه. أمتعنا الله به ورعاه. وحديثهُ عجب، وإن استوفيتُه ضاع الغرض الذي قصدتُه، على أنه - أيَّد الله مولانا - من سعة النفس والخلق، ووفور الأدب والفضل، وتمام المروءة والظرف، بحالٍ أعجزُ عن وصفها. وأدلُ على جملتها: أنه - مع كثرة عياله واختلال أحواله - طلب سيف الدولة جاريته المغنِّية بعشرين ألف درهم أحضرها صاحبه، فامتنع من بيعها، وأعتقها وتزوَّج بها. فصلٌ وسمعتُ عنده أبا الحسن بن طرخان، وقد نمِي إلى

سيدنا خبر فنِّه وحذقه، والفتى يُبرز مع التمسك بمذهبه، وليس بالعراق ولا شيءٍ من الآفاق طنبوريٌّ يشاكله أو يقاربه. ومما يُغَنّى به من شعر أبي الحسن ويُحْلَفُ على الرسم أنْ لا مُداني له فيه: بيني وبين الدهر فيك عتابُ ... سيطولُ إنْ لم يمحهُ الاعتابُ يا غائباً بوصاله وكتابِهِ ... هل يُرتجى من غَيْبَتَيْكَ ايابُ وإذا بعدت فليس لي متعلَّلٌ ... إلا رسولٌ بالرضا وعتابُ وإذا دعوت مساعداً فهو المنى ... سعد المحبُّ وساعد الأحباب

لولا التعلل بالرجاء تقطَّعَتْ ... نفسٌ عليك شعارُها الأوصاب لا يأس من رَوْح الإله فربَّما ... يصل القطوع وتحضر الغيّابُ وقال الصاحب: توفَرْتُ على عِشْرة فضلاء البلد، فأولُ مَنْ كارثني أولاد المنجِّم، لفضل أبي الحسن علي بن هارون وغزارته، واستكثاري من روايته، وطيب سماعه ولذيذ عِشْرته، فسمعتُ منه أخباراً عجيبة، وحكايات غريبة، ومن ستارته أصواتاً نادرة مشنَّفةً مقرطقة، يقول في كلٍّ منها: الشعر لفلان والصنعة لفلان، أخَذَتْهُ هذه عن فلانٍ أو فلانة، حتى يتصل النسب بإسحاق أو غيره من أبناء جنسه، وكان أكثر ما يعجَبُ به مولاها أبيات له، أولها: ضلَّ الفراق ولا اهتدى ... ونأتْ فلا دنت النوى

وهوى فلا وجد القرا ... رَ مُعَنِّفٌ أهلَ الهوى فاتفق أنْ سألتُ - أولَ ما سمعتُ اللحن فيه - عن قائله، فغضب واستشاط، وتنكّر واستوفز، ونفر وتنمَّر وقال: تقول لمن هذا؟ أما يدلُّ على قائله؟ أما يُعرب عن جوهره؟ أما ترى أثَرَ بني المنجم على صفحته؟ أما يحميه لألاؤه أو لوذعيَّته من أن يُدال بمَنْ وممَّنْ هو الرجل؟ وحدَّث في كتاب الروزنامجة: وانتهيتُ إلى أبي سعيدٍ السيرافيِّ، وهو شيخ البلد، وفرد الأدب، وحسن التصرف، ووافر الحظ من علوم الأوائل، فسَّلمتُ عليه، وقعدتُ إليه وبعضهم يقرأ الجمهرة، فقرأ

ألْمَقْتُ، فقلت: لَمَقْتُ، فدافعني الشيخ ساعة ثم رجع إلى الأصل فوجد حكايتي صحيحة. واستمر القارئ حتى أنشد - وقد استشهد -: رسمُ دارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ ... كدتُ أُقَضِّي الغَداة من جَلَلِهْ فقلتُ: أيها الشيخ! هذا لا يجوز، والمصراعان على هذا النشيد يخرجان من بحريَنْ، لأنَّ: رسم دارٍ وقفتُ في طلَلَهْ ... كدتُ أُقَضِّي الغداة من جلَلَهْ فاعلاتُنْ مفاعِلُنْ فَعِلُنْ ... مفتعِلُنْ مَفْعلاتٌ مفتعِلُنْ فذاك من الخفيف وهذا من المنسرح. فقال: لم لا تقول: الجميع من المنسرح والمصراع الأول مخزوم؟، فقلتُ: لا يدخل الخزم هذا البحر، لأن أوَّله مستفعلن مفاعلن، هذه مزاحَفةٌ عنه. وإذا حذفنا متحركاً بقَّيْنا ساكناً، وليس في كلام العرب ابتداءٌ به، وإنما هو: كدتُ أقْضِي الغداةَ من جلله بتخفيف الضاد. فأمر بتغييره، ورفعني إلى جنبه.

وابتدأ فقرئ عليه من كتاب المقتضب باب ما يجري وما لا يجري، إلى أن ذكر وسحَر وأنه لا ينصرف إذا كان لسحر بعينه، لأنه معدول عن الأول. فقلتُ: ما علامة العدل فيه؟ فقال: إنّا قلنا: السحر، ثم قلنا سحر، فعلمنا أن الثاني معدول عن الأول. قلتُ: لو كان كذلك لوجب أن تطَّرد العلَّة في عتمة، لأنك تقول: العتمة، ثم تقول: عتمة. فضجر واحتدَّ، وصاح واربدَّ، وادَّعيتُ أنه ناقص، والتمس التحاكُم، فكتبتُ رسالةً أخذتُ فيها خطوط أهل النظر، وقد أنفذتُ درجَ كتابي نسختها، وفيها خط أبي عبد الله بن رذامر عين مشايخهم. ورأيت الشيخ بعد ذلك غزيراً فاضلاً، متوسعاً عالماً، فعلَّقت عليه، وأخذتُ منه، وحصلت تفسيره لكتاب سيبويه، وقرأتُ صدراً منه. وهناك أبو بكر بن مقسم، وما في أصحاب

ثعلب أكثر دراية وما أصح رواية منه، وقد سمعتُ مجالسه، وفيها غرائب ونكت، ومحاسن وطرف، من بين كلمة نادرة، أو مسألة غامضة، وتفسير بيت مشكل، وحلِّ عقد معضل. وله قيام بنحو الكوفيين وقراءاتهم، ورواياتهم ولغاتهم. والقاضي أبو بكر بن كامل بقية الدنيا في علوم شتى، يعرف الفقه والشروط والحديث، وما ليس من حديثنا، ويتوسَّع في النحو توسُّعاً مستحسناً، وله في حفظ الشعر بضاعة واسعة، وفي

جودة التصنيف قوة تامة، ومن كبار رواة المبرد وثعلب والبحتري وأبي العيناء وغيرهم، وقد سمعتُ قدراً صالحاً مما عنده، وكنت أُحبُّ أن أسمع كلام أهل النظر بالعراق، لما تتابع في حذقهم من الأوصاف. ومن كتاب الروزنامجة قال الصاحب:

ما زال أحداث بغداد يذكِّرونني بابن سمعون المتصوف وكلامه على الناس في مكان الشبلي فجمَّعتُ يوماً في المدينة وعليَّ طيلسان ومُصْمتةَ، ووقعتُ عليه وقد لبس فوطة قصب، وقعد على كرسيِّ ساج، بوجهٍ حسن ولفظ عذب، فرأيتُه يقطع مسائله بهوسٍ يطيله ويسهب فيه، فقلتُ: لا بد من أن أسأله عمَّا أقطع به، وابتدرتُ فقلت: يا شيخ ما تقول في قدسيكونيّات العلم إذا وقعتْ قبل التوهم، فورد عليه ما لم يسمع به، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: لم أؤخر إجابتك عجزاً عن مسألتك بل لأعطشك إلى الجواب، وأخذ في ضرب من الهذيان، فلما سكت قلتُ: هذا بعد التوهم، وإنما سألتُك قبله، إلى أن ضَجر فانصرفتُ عنه.

فصل

ومن كلامه ما رواه الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد. . . قال: سمعتُ ابنَ سمعون يوماً وهو على الكرسيِّ في مجلس وعظِهِ يقول: سبحان مَنْ أنطق باللحم، وبصَّر بالشحم، وأسمع بالعظم. إشارة إلى اللسان والعين والأذن. فصلٌ قد حضرنا حجرةً تُعرف بحجرة الريحان، فيها حوض مستدير ينصب إليه الماء من دجلة بالدواليب، وقد مُدَّتْ الستارة، وفيها حُسْن العكبراوية، فغنَّتْ: سلامٌ أيها الملكُ اليماني ... لقد غلب البعاد على التداني فطرب الأستاذ أبو محمد - أيده الله تعالى - بغنائها، واستعادها الصوت مراراً، وأتْبَعَتْهُ أبياتاً وهي: تطوي المنازلَ عن حبيبك دائماً ... وتظلُّ تبكيه بدمعٍ ساجمِ هلاَّ أقمتَ ولو على جمر الغضا ... قُلِّبْتَ أوحَدِّ الحسام الصارمِ

فصل

وتبَعتَهْا جاريةُ ابن مقلة، ولا غناء أطيب وأطرب وأحسن من غنائها، فغنَّتْ بيتين للاستاذ، وهما: يا مَنْ له رُتَبٌ مُمَكْ ... كَنةُ القواعد في الفؤادِ أيحلُّ أخْذُ الماء من ... متلهِّبِ الأحشاء صادي؟ فَفَتَنَتْ الجميع. ثم انبسطنا. . . .، واشتُغِل في الشدو، وارتفع الأمر عن الضبط، والأصوات عن الحفظ، واتفقتْ في أثناء ذّلك مذاكرات ومناشدات ومجاوبات، وافترقنا. فصل وعلى ذكر عكبرا، حضرنا مع الأستاذ أبي محمد - أيَّده الله تعالى - بها، فاستدعى دنّاً للوقت، وخماراً من الدير، وريحاناً من الحانة، واقترح غناءاً من الماخور، وأخذنا في فنٍّ من الانخلاع عجيب، بطريق من الاسترسال رحيب، ورسم أن يقول مَنْ حضر شيئاً في اليوم، فاستنظروا وركبتُ فرسي، فاتفقتْ أبياتٌ لم تكن عندي مستحقةً لأن تكتب أو تسمع، لكن رضاء

القوم جمَّل لديَّ صورتها، ولولا حذري من توبيخ مولانا لطويتها، وهي: تركتُ لسافي الريح بانةَ عرعرا ... وزرتُ لصافي الراح حانة عكبرا وقلتُ لعلجٍ يعبد الخمر: زُفَّها ... مشعشعةً قد شاهدتْ عصر قيصرا فناوَلنيها لو تفرَّق نورُها ... على الدهر نال الليل منها تحيُّرا وأوسَعَني آساً وورداً ونرجساً ... وأحضرني ناياً وطبلاً ومزهرا هنالك أعطيتُ البطالة حقَّها ... وألفيتُ هتكَ الستر مجداً ومفخرا كأني الصَّبا جَرْياً إلى حومة الصِّبا ... أُناغي صبياً من جلندا مزنَّرا وصدَّ عن المعنى النعاسُ وصادني ... إلى أنْ تصدّى الصبح يلمع مسفرا

فصل أيضا منه

وهبَّت شمالٌ نظَّمتْ شمل بغيتي ... فطارتْ بها عني الشمول تطيُّرا فكان الذي لولا الحياء أذعتُهُ ... ولا خير في عيش الفتى إن تستَّرا فصل أيضاً منه وحضرتُ الأستاذ أبا محمد - أيَّده الله تعالى - في منظرةٍ له على دجلة تنفتح منها أبوابٌ إلى بساتين، فعمل بيتين صُنعا في الوقت وغُنِّيَ بهما، وهما: لئن عرفت جريراً ... أو اعتمدت قطيعاً فلا ظفرتُ بعاصٍ ... ولا أطعتُ المطيعا والبيت الأول يحتاج إلى تفسير، فالمراد بالجرير: جريرة، وبالقطيع: قطيعة. وأنفذ الأستاذ أبو محمد - أيده الله - ليلةً وقد مضى الثلث منها فاستدعاني، وقاد دابة نوبته كي لا أتأخر انتظاراً لدابتي، فمضيتُ وألفَيتْهُ قد انتهى من بستانه الكبيرة إلى مصبِّها من دجلة على ميادين ريحان نضرةٍ، فاستحسن الموضع، وقعد فيه. . . مع خدمه: أبي الكأس، وسلاف، وأبي المدام، وشراب،

وخندريس، وشمول، وراح. وأمر فَنُصبتْ نحو مائة شمعة في أصول تلك الميادين، صغيرة. وقعدتُ، فغنّى سلاف: يا شقيقَ النفس من حكمِ ... نمتَ عن ليلي ولم أنَمِ فقال الأستاذ: بل غنِّ: يا شقيق النفس من خدمي ... لم يَنَمْ ليلي ولم أنَمِ غنِّني من شعر ذي حكم ... يا شقيقَ النفس من حكمِ ولم نزلْ. . . إلى أن باح الصباح بسرِّه، وقام كلٌّ منّا يتعثَّر في سكره. يقول الثعالبي في ترجمة الأحنف العكبري: قرأتُ للصاحب فصلاً في ذكره فأورَدْتُه، وهو: لو أنشدتُك ما أنشدنيه الأحنف العكبري لنفسه، وهو

فرد بني ساسانَ اليوم بمدينة السلام، وحَسَنُ الطريقة في الشعر، لامتلأتَ عجباً من ظرفه، وإعجاباً بنظمه، ولا أقل من إيراد موضع افتخاره، فإنه يقول: على أنّي بحمد الل ... هِ في بيتٍ من المجدِ بإخواني بني ساسا ... نَ أهلِ الجِدِّ والجَدِّ لهم أرض خراسانَ ... فقاشان إلى الهندِ إلى الروم إلى الزنج ... إلى البلغار والسندِ إذا ما أعوز الطَرْق ... على الطُّرّاقِ والجندِ حذاراً من أعاديهِمْ ... من الأعراب والكردِ قطعنا ذلك النهج ... بلا سيفٍ ولا غمدِ ومَنْ خاف أعاديهِ ... بنا في الروع يستعدي ولهذا البيت الأخير معنىً بديع، وتفسيره: يريد أن ذوي الثروة وأهل الفضل والمروءة إذا وقع أحدهم في أيدي قُطاع الطريق وأحبَّ التخلص قال: أنا مكدّي. فانظر كيف غاص، وأبرز هذا المعنى المعتاص.

يقول الثعالبي في ترجمة المتنبي: وقوله: تألم درزه والدرزُ لينٌ ... كما يتألَّم العضب الصنيعا وعلى ذكر الدرز فقد حكى الصاحب في كتاب الروزنامجة من حديث لحظة الطولونية المغنية ما يشبه معنى هذا البيت، وهو أنه قال: سمعتُها تقول: يا جارية عليَّ بالقميص المعمول في النسج فقد آذاني ثقل الدروز.

§1/1