الروح

ابن القيم

المسألة الأولى وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا قال

الْمَسْأَلَة الأولى وَهِي هَل تعرف الْأَمْوَات زِيَارَة الْأَحْيَاء وسلامهم أم لَا قَالَ ابْن عبد الْبر ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: مَا من مُسلم يمر على قبر أَخِيه كَانَ يعرفهُ فِي الدُّنْيَا فَيسلم عَلَيْهِ إِلَّا رد الله عَلَيْهِ روحه حَتَّى يرد عَلَيْهِ السَّلَام فَهَذَا نَص فِي أَنه بِعَيْنِه وَيرد عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ من وُجُوه مُتعَدِّدَة أَنه أَمر بقتلى بدر فَألْقوا فِي قليب ثمَّ جَاءَ حَتَّى وقف عَلَيْهِم وناداهم بِأَسْمَائِهِمْ يَا فلَان ابْن فلَان وَيَا فلَان ابْن فلَان هَل وجدْتُم مَا وَعدكُم ربكُم حَقًا فَإِنِّي وجدت مَا وَعَدَني ربى حَقًا فَقَالَ لَهُ عمر يَا رَسُول الله مَا تخاطب من أَقوام قد جيفوا فَقَالَ وَالَّذِي بعثنى بِالْحَقِّ مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم وَلَكنهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ جَوَابا وَثَبت عَنهُ صلى الله وَآله وَسلم أَن الْمَيِّت يسمع قرع نعال المشيعين لَهُ إِذا انصرفوا عَنهُ وَقد شرع النَّبِي لأمته إِذا سلمُوا على أهل الْقُبُور أَن يسلمُوا عَلَيْهِم سَلام من يخاطبونه فَيَقُول السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين وَهَذَا خطاب لمن يسمع وَيعْقل وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ هَذَا الْخطاب بِمَنْزِلَة خطاب الْمَعْدُوم والجماد وَالسَّلَف مجمعون على هَذَا وَقد تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَنْهُم بِأَن الْمَيِّت يعرف زِيَارَة الْحَيّ لَهُ ويستبشر بِهِ قَالَ أَبُو بكر عبد الله بن مُحَمَّد بن عبيد بن أَبى الدُّنْيَا فِي كتاب الْقُبُور بَاب معرفَة الْمَوْتَى بزيارة الْأَحْيَاء حَدثنَا مُحَمَّد بن عون حَدثنَا يحيى بن يمَان عَن عبد الله بن سمْعَان عَن زيد بن أسلم عَن عَائِشَة رضى الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله مَا من رجل يزور قبر أَخِيه وَيجْلس عِنْده إِلَّا استأنس بِهِ ورد عَلَيْهِ حَتَّى يقوم حَدثنَا مُحَمَّد بن قدامَة الجوهرى حَدثنَا معن بن عِيسَى الْقَزاز أخبرنَا هِشَام بن سعد حَدثنَا زيد بن أسلم عَن أَبى هُرَيْرَة رضى الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ إِذا مر الرجل بِقَبْر أَخِيه يعرفهُ فَسلم عَلَيْهِ رد عَلَيْهِ السَّلَام وعرفه وَإِذا مر بِقَبْر لَا يعرفهُ فَسلم عَلَيْهِ رد عَلَيْهِ السَّلَام حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن حَدَّثَنى يحيى بن بسطَام الْأَصْغَر حَدَّثَنى مسمع حَدَّثَنى رجل من آل عَاصِم الجحدرى قَالَ رَأَيْت عَاصِمًا الجحدرى فِي منامى بعد مَوته بِسنتَيْنِ فَقلت أَلَيْسَ

قدمت قَالَ بلَى قلت فَأَيْنَ أَنْت قَالَ أَنا وَالله فِي رَوْضَة من رياض الْجنَّة أَنا وَنَفر من أَصْحَابِي نَجْتَمِع كل لَيْلَة جُمُعَة وصبيحتها إِلَى بكر بن عبد الله المزنى فنتلقى أخباركم قَالَ قلت أجسادكم أم أرواحكم قَالَ هَيْهَات بليت الاجسام وَإِنَّمَا تتلاقى الارواح قَالَ قلت فَهَل تعلمُونَ بزيارتنا إيَّاكُمْ قَالَ نعم نعلم بهَا عَشِيَّة الْجُمُعَة كُله وَيَوْم السبت إِلَى طُلُوع الشَّمْس قَالَ قلت فَكيف ذَلِك دون الْأَيَّام كلهَا قَالَ لفضل يَوْم الْجُمُعَة وعظمته وَحدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن حَدَّثَنى بكر بن مُحَمَّد حَدثنَا حسن القصاب قَالَ كنت أغدو مَعَ مُحَمَّد بن وَاسع فِي كل غَدَاة سبت حَتَّى نأتى الجبان فنقف على الْقُبُور فنسلم عَلَيْهِم وندعو لَهُم ثمَّ ننصرف فَقلت ذَات يَوْم لَو صيرت هَذَا الْيَوْم يَوْم الِاثْنَيْنِ قَالَ بلغنى أَن الْمَوْتَى يعلمُونَ بزوارهم يَوْم الْجُمُعَة وَيَوْما قبلهَا وَيَوْما بعْدهَا حَدثنِي مُحَمَّد حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن ابان قَالَ حَدثنَا سُفْيَان الثورى قَالَ بلغنى عَن الضَّحَّاك أَنه قَالَ من زار قبرا يَوْم السبت قبل طُلُوع الشَّمْس علم الْمَيِّت بزيارته فَقيل لَهُ وَكَيف ذَلِك قَالَ لمَكَان يَوْم الْجُمُعَة حَدثنَا خَالِد بن خِدَاش حَدثنَا جَعْفَر بن سُلَيْمَان عَن أَبى التياح قَالَ كَانَ مطرف يَغْدُو فَإِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة أدْلج قَالَ وَسمعت أَبَا التياح يَقُول بلغنَا انه كَانَ ينور لَهُ فِي سَوْطه فَأقبل لَيْلَة حَتَّى إِذا كَانَ عِنْد مَقَابِر الْقَوْم وَهُوَ على فرسه فَرَأى أهل الْقُبُور كل صَاحب قبر جَالِسا على قَبره فَقَالُوا هَذَا مطرف يأتى الْجُمُعَة قلت وتعلمون عنْدكُمْ يَوْم الْجُمُعَة قَالُوا نعم ونعلم مَا يَقُول فِيهِ الطير قلت وَمَا يَقُولُونَ قَالُوا يَقُولُونَ سَلام سَلام حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن حَدَّثَنى يحيى بن أَبى بكير حَدَّثَنى الْفضل بن موفق ابْن خَال سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ لما مَاتَ أَبى جزعت عَلَيْهِ جزعا شَدِيدا فَكنت آتى قَبره فِي كل يَوْم ثمَّ قصرت عَن ذَلِك مَا شَاءَ الله ثمَّ انى اتيته يَوْمًا فَبينا أَنا جَالس عِنْد الْقَبْر غلبتنى عيناى فَنمت فَرَأَيْت كَأَن قبر ابى قد انفرج وَكَأَنَّهُ قَاعد فِي قَبره متوحشا أَكْفَانه عَلَيْهِ سحنة الْمَوْتَى قَالَ فَكَأَنِّي بَكَيْت لما رَأَيْته قَالَ يَا بنى مَا أَبْطَأَ بك عني قلت وَإنَّك لتعلم بمجيئي قَالَ مَا جِئْت مرّة إِلَّا علمتها وَقد كنت تأتينى فآنس بك وَأسر بك وَيسر من حولى بدعائك قَالَ فَكنت آتِيَة بعد ذَلِك كثيرا حَدثنِي مُحَمَّد حَدثنِي يحيى بن بسطَام حَدَّثَنى عُثْمَان بن سَوْدَة الطفاوى قَالَ وَكَانَت أمه من العابدات وَكَانَ يُقَال لَهَا راهبة قَالَ لما احتضرت رفعت رَأسهَا إِلَى السَّمَاء فَقَالَت يَا ذخرى

وذخيرتى وَمن عَلَيْهِ اعتمادى فِي حياتى وَبعد موتى لَا تخذلنى عِنْد الْمَوْت وَلَا توحشنى فِي قبرى قَالَ فَمَاتَتْ فَكنت آتيها فِي كل جُمُعَة فأدعو لَهَا وَأَسْتَغْفِر لَهَا وَلأَهل الْقُبُور فرأيتها ذَات يَوْم فِي منامى فَقلت لَهَا يَا أمه كَيفَ أَنْت قَالَت أى بنى ان للْمَوْت لكربة شَدِيدَة وإنى بِحَمْد الله لفي برزخ مَحْمُود نفترش فِيهِ الريحان ونتوسد فِيهِ السندس والاستبرق إِلَى يَوْم النشور فَقلت لَهَا أَلَك حَاجَة قَالَت نعم قلت وَمَا هى قَالَت لَا تدع مَا كنت تصنع من زيارتنا وَالدُّعَاء لنا فإنى لأبشر بمجيئك يَوْم الْجُمُعَة إِذا أَقبلت من أهلك يُقَال لي يَا راهبة هَذَا ابْنك قد أقبل فَأسر وَيسر بذلك من حولى من الْأَمْوَات حَدَّثَنى مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن سُلَيْمَان حَدثنَا بشر بن مَنْصُور قَالَ لما كَانَ زمن الطَّاعُون كَانَ رجل يخْتَلف إِلَى الجبان فَيشْهد الصَّلَاة على الْجَنَائِز فَإِذا أَمْسَى وقف على بَاب الْمَقَابِر فَقَالَ آنس الله وحشتكم ورحم غربتكم وَتجَاوز عَن مسيئكم وَقبل حسناتكم لَا يزِيد على هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات قَالَ فأمسيت ذَات لَيْلَة وانصرفت إِلَى أهلى وَلم آتٍ الْمَقَابِر فأدعو كَمَا كنت أَدْعُو قَالَ فَبينا أَنا نَائِم إِذا بِخلق كثير قد جاءونى فَقلت مَا أَنْتُم وَمَا حَاجَتكُمْ قَالُوا نَحن أهل الْمَقَابِر قلت مَا حَاجَتكُمْ قَالُوا إِنَّك عودتنا مِنْك هَدِيَّة عِنْد انصرافك إِلَى أهلك فَقلت وَمَا هى قَالُوا الدَّعْوَات الَّتِي كنت تَدْعُو بهَا قَالَ قلت فإنى أَعُود لذَلِك قَالَ فَمَا تركتهَا بعد حَدَّثَنى مُحَمَّد حَدَّثَنى أَحْمد بن سهل حَدَّثَنى رشد بن سعد عَن رجل عَن يزِيد بن أَبى حبيب ان سليم بن عُمَيْر مر على مَقْبرَة وَهُوَ حاقن قد غَلبه الْبَوْل فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه لَو نزلت إِلَى هَذِه الْمَقَابِر فبلت فِي بعض حفرهَا فَبكى ثمَّ قَالَ سُبْحَانَ الله وَالله إنى لأَسْتَحي من الْأَمْوَات كَمَا استحي من الْأَحْيَاء وَلَوْلَا أَن الْمَيِّت يشْعر بذلك لما استحيا مِنْهُ وأبلغ من ذَلِك أَن الْمَيِّت يعلم بِعَمَل الحى من أَقَاربه وإخوانه قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك حَدَّثَنى ثَوْر بن يزِيد عَن ابراهيم عَن أَبى أَيُّوب قَالَ تعرض أَعمال الْأَحْيَاء على الْمَوْتَى فَإِذا رَأَوْا حسنا فرحوا وَاسْتَبْشَرُوا وَإِن رَأَوْا سوءا قَالُوا اللَّهُمَّ رَاجع بِهِ وَذكر ابْن أَبى الدُّنْيَا عَن أَحْمد بن أَبى الحوارى قَالَ حَدَّثَنى مُحَمَّد أخى قَالَ دخل عباد بن عباد على ابراهيم بن صَالح وَهُوَ على فلسطين فَقَالَ عظنى قَالَ بِمَ أعظك أصلحك الله بلغنى أَن أَعمال الْأَحْيَاء تعرض على أقاربهم الْمَوْتَى فَانْظُر مَا يعرض على رَسُول الله من عَمَلك فَبكى ابراهيم حَتَّى اخضلت لحيته قَالَ ابْن أَبى الدُّنْيَا وحدثنى مُحَمَّد بن الْحُسَيْن حَدَّثَنى خَالِد بن عَمْرو الأموى حَدثنَا صَدَقَة بن سُلَيْمَان الجعفرى قَالَ كَانَت لى شرة سمجة فَمَاتَ أَبى فأنبت وندمت على مَا فرطت قَالَ ثمَّ زللت أيمازلة فَرَأَيْت أَبى فِي الْمَنَام فَقَالَ أى بنى مَا كَانَ أَشد فرحى بك أعمالك تعرض علينا فنشبهها

بأعمال الصَّالِحين فَلَمَّا كَانَت هَذِه الْمَرْأَة استحييت لذَلِك حَيَاء شَدِيدا فَلَا تخزنى فِيمَن حولى من الاموات قَالَ فَكنت أسمعهُ بعد ذَلِك يَقُول فِي دُعَائِهِ فِي السحر وَكَانَ جارا لي بِالْكُوفَةِ أَسأَلك إنابة لَا رَجْعَة فِيهَا وَلَا حور يَا مصلح الصَّالِحين وَيَا هادى المضلين وَيَا أرْحم الرَّاحِمِينَ وَهَذَا بَاب فِي آثَار كَثِيرَة عَن الصَّحَابَة وَكَانَ بعض الْأَنْصَار من أقَارِب عبد الله بن رَوَاحَة يَقُول اللَّهُمَّ إنى أعوذ بك من عمل أخزى بِهِ عِنْد عبد الله بن رَوَاحَة كَانَ يَقُول ذَلِك بعد أَن اسْتشْهد عبد الله وَيَكْفِي فِي هَذَا تَسْمِيَة الْمُسلم عَلَيْهِم زَائِرًا وَلَوْلَا أَنهم يَشْعُرُونَ بِهِ لما صَحَّ تَسْمِيَته زَائِرًا فَإِن المزور إِن لم يعلم بزيارة من زَارَهُ لم يَصح أَن يُقَال زَارَهُ هَذَا هُوَ الْمَعْقُول من الزِّيَارَة عِنْد جَمِيع الْأُمَم وَكَذَلِكَ السَّلَام عَلَيْهِم أَيْضا فَإِن السَّلَام على من لَا يشْعر وَلَا يعلم بِالْمُسلمِ محَال وَقد علم النَّبِي أمته إِذا زاروا الْقُبُور أَن يَقُولُوا سَلام عَلَيْكُم أهل الديار من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون يرحم الله الْمُسْتَقْدِمِينَ منا ومنكم والمستأخرين نسْأَل الله لنا وَلكم الْعَافِيَة وَهَذَا السَّلَام وَالْخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب وَيعْقل ويردو إِن لم يسمع الْمُسلم الرَّد وَإِذا صلى الرجل قَرِيبا مِنْهُم شاهدوه وَعَلمُوا صلَاته وغبطوه على ذَلِك قَالَ يزِيد بن هَارُون أخبرنَا سُلَيْمَان التيمى عَن أَبى عُثْمَان النهدى أَن ابْن سَاس خرج فِي جَنَازَة فِي يَوْم وَعَلِيهِ ثِيَاب خفاف فَانْتهى إِلَى قبر قَالَ فَصليت رَكْعَتَيْنِ ثمَّ اتكأت عَلَيْهِ فوَاللَّه إِن قلبى ليقظان إِذْ سَمِعت صَوتا من الْقَبْر إِلَيْك عَنى لَا تؤذنى فَإِنَّكُم قوم تَعْمَلُونَ وَلَا تعلمُونَ وَنحن قوم نعلم وَلَا نعمل وَلِأَن يكون لى مثل ركعتيك أحب إِلَى من كَذَا وَكَذَا فَهَذَا قد علم باتكاء الرجل على الْقَبْر وبصلاته وَقَالَ ابْن أَبى الدُّنْيَا حَدَّثَنى الْحُسَيْن بن على العجلى حَدثنَا مُحَمَّد بن الصَّلْت حَدثنَا اسماعيل ابْن عَيَّاش عَن ثَابت بن سليم حَدثنَا أَبُو قلَابَة قَالَ أَقبلت من الشَّام إِلَى الْبَصْرَة فَنزلت منزلا فتطهرت وَصليت رَكْعَتَيْنِ بلَيْل ثمَّ وضعت رأسى على قبر فَنمت ثمَّ انْتَبَهت فَإِذا صَاحب الْقَبْر يشتكينى يَقُول قد آذيتني مُنْذُ اللَّيْلَة ثمَّ قَالَ إِنَّكُم تَعْمَلُونَ وَلَا تعلمُونَ وَنحن نعلم وَلَا نقدر على الْعَمَل ثمَّ قَالَ الركعتان اللَّتَان ركعتهما خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثمَّ قَالَ جزى الله أهل الدُّنْيَا خيرا أقرئهم منا السَّلَام فَإِنَّهُ يدْخل علينا من دُعَائِهِمْ نور أَمْثَال الْجبَال

وحدثنى الْحُسَيْن العجلى حَدثنَا عبد الله بن نمير حَدثنَا مَالك بن مغول عَن مَنْصُور عَن زيد بن وهب قَالَ خرجت إِلَى الْجَبانَة فَجَلَست فِيهَا فَإِذا رجل قد جَاءَ إِلَى قبر فسواه ثمَّ تحول إِلَى فَجَلَسَ قَالَ فَقلت لمن هَذَا الْقَبْر قَالَ أَخ لى فَقلت أَخ لَك فَقَالَ أَخ لى فِي الله رَأَيْته فِيمَا يرى النَّائِم فَقلت فلَان عِشْت الْحَمد لله رب الْعَالمين قَالَ قد قلتهَا لِأَن أقدر على أَن أقولها أحب إِلَى من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثمَّ قَالَ ألم تَرَ حَيْثُ كَانُوا يدفنوننى فَإِن فلَانا قَامَ فصلى رَكْعَتَيْنِ لِأَن اكون أقدر على أَن أصليهما أحب إِلَى من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا حَدَّثَنى أَبُو بكر التيمى حَدثنَا عبد الله بن صَالح حَدَّثَنى اللَّيْث بن سعد حَدَّثَنى حميد الطَّوِيل عَن مطرف بن عبد الله الحرشى قَالَ خرجنَا إِلَى الرّبيع فِي زَمَانه فَقُلْنَا ندخل يَوْم الْجُمُعَة لشهودها وطريقنا على الْمقْبرَة قَالَ فَدَخَلْنَا فَرَأَيْت جَنَازَة فِي الْمقْبرَة فَقلت لَو اغتنمت شُهُود هَذِه الْجِنَازَة فشهدتها قَالَ فاعتزلت نَاحيَة قَرِيبا من قبر فركعت رَكْعَتَيْنِ خففتهما لم أَرض اتقانهما ونعست فَرَأَيْت صَاحب الْقَبْر يكلمنى وَقَالَ ركعت رَكْعَتَيْنِ لم ترض اتقانهما قلت قد كَانَ ذَلِك قَالَ تَعْمَلُونَ وَلَا تعلمُونَ وَلَا نستطيع أَن نعمل لِأَن أكون ركعت مثل ركعتيك أحب إِلَى من الدُّنْيَا بحذافيرها فَقلت من هَا هُنَا فَقَالَ كلهم مُسلم وَكلهمْ قد أصَاب خيرا فَقلت من هَا هُنَا أفضل فَأَشَارَ إِلَى قبر فَقلت فِي نفسى اللَّهُمَّ رَبنَا اخرجه إِلَى فأكلمه قَالَ فَخرج من قَبره فَتى شَاب فَقلت أَنْت أفضل من هَا هُنَا قَالَ قد قَالُوا ذَلِك قلت فبأى شَيْء نلْت ذَلِك فوَاللَّه مَا أرى لَك ذَلِك السن فَأَقُول نلْت ذَلِك بطول الْحَج وَالْعمْرَة وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله وَالْعَمَل قَالَ قد ابْتليت بالمصائب فرزقت الصَّبْر عَلَيْهَا فبذلك فضلتهم وَهَذِه المرائى وَإِن لم تصح بمجردها لاثبات مثل ذَلِك فهى على كثرتها وَأَنَّهَا لَا يحصيها إِلَّا الله قد تواطأت على هَذَا الْمَعْنى وَقد قَالَ النَّبِي أرى رُؤْيا رؤياكم قد تواطأت على أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر يَعْنِي لَيْلَة الْقدر فَإِذا تواطأت رُؤْيا الْمُؤمنِينَ على شَيْء كَانَ كتواطؤ روايتهم لَهُ وكتواطؤ رَأْيهمْ على استحسانه واستقباحه وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن وَمَا رَأَوْهُ قبيحا فَهُوَ عِنْد الله قَبِيح على أَنا لم نثبت هَذَا بِمُجَرَّد الرُّؤْيَا بل بِمَا ذَكرْنَاهُ من الْحجَج وَغَيرهَا وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن الْمَيِّت يسْتَأْنس بالمشيعين لجنازته بعد دَفنه فروى مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن شماسَة المهرى قَالَ حَضَرنَا عَمْرو بن الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاق الْمَوْت فَبكى طَويلا وحول وَجهه إِلَى الْجِدَار فَجعل ابْنه يَقُول مَا يبكيك يَا أبتاه أما يُشْرك رَسُول الله بِكَذَا فَأقبل بِوَجْهِهِ فَقَالَ إِن أفضل مَا نعد شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وإنى كنت على أطباق ثَلَاث لقد رأيتنى وَمَا اُحْدُ أَشد بغضا لرَسُول

الله منى وَلَا أحب إِلَى أَن أكون قد اسْتَمْكَنت مِنْهُ فَقتلته فَلَو مت على تِلْكَ الْحَال لَكُنْت من أهل النَّار فَلَمَّا جعل الله الاسلام فِي قلبى لقِيت رَسُول الله فَقلت ابْسُطْ يدك فلأبايعك فَبسط يَمِينه قَالَ فقبضت يدى قَالَ فَقَالَ مَالك يَا عَمْرو قَالَ قلت أردْت أَن اشْترط قَالَ تشْتَرط مَاذَا قلت أَن يغْفر لى قَالَ أما علمت أَن الْإِسْلَام يهدم مَا كَانَ قبله وَأَن الْهِجْرَة تهدم مَا كَانَ قبلهَا وَأَن الْحَج يهدم مَا كَانَ قبله وَمَا كَانَ أحد أحب إِلَى من رَسُول الله وَلَا أجل فِي عينى مِنْهُ وَمَا كنت اطيق أَن أملأ عَيْني مِنْهُ إجلالا لَهُ وَلَو سُئِلت أَن أصفه مَا أطقت لأنى لم أكن أملأ عينى مِنْهُ وَلَو مت على تِلْكَ الْحَال لرجوت أَن أكون من أهل الْجنَّة ثمَّ ولينا أَشْيَاء مَا أدرى مَا حالى فِيهَا فَإِذا أنامت فَلَا تصحبنى نائحة وَلَا نَار فَإِذا دفنتموني فسنوا على التُّرَاب سنا ثمَّ أقِيمُوا حول قَبْرِي قدر مَا تنحر جزور وَيقسم لَحمهَا حَتَّى أستأنس بكم وَأنْظر مَا أراجع بِهِ رسل رَبِّي فَدلَّ على أَن الْمَيِّت يسْتَأْنس بالحاضرين عِنْد قَبره وَيسر بهم وَقد ذكر عَن جمَاعَة من السّلف أَنهم أوصوا أَن يقْرَأ عِنْد قُبُورهم وَقت الدّفن قَالَ عبد الْحق يرْوى أَن عبد الله بن عمر أَمر أَن يقْرَأ عِنْد قَبره سُورَة الْبَقَرَة وَمِمَّنْ رأى ذَلِك الْمُعَلَّى بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ الامام أَحْمد يُنكر ذَلِك أَولا حَيْثُ لم يبلغهُ فِيهِ أثر ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِك وَقَالَ الْخلال فِي الْجَامِع كتاب الْقِرَاءَة عِنْد الْقُبُور اُخْبُرْنَا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد الدورى حَدثنَا يحيى بن معِين حَدثنَا مُبشر الحلبى حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن الْعَلَاء بن اللَّجْلَاج عَن أَبِيه قَالَ قَالَ أَبى إِذا أنامت فضعنى فِي اللَّحْد وَقل بِسم الله وعَلى سنة رَسُول الله وَسن على التُّرَاب سنا واقرأ عِنْد رأسى بِفَاتِحَة الْبَقَرَة فإنى سَمِعت عبد الله بن عمر يَقُول ذَلِك قَالَ عَبَّاس الدورى سَأَلت أَحْمد بن حَنْبَل قلت تحفظ فِي الْقِرَاءَة على الْقَبْر شَيْئا فَقَالَ لَا وَسَأَلت يحيى ابْن معِين فحدثنى بِهَذَا الحَدِيث قَالَ الْخلال وَأَخْبرنِي الْحسن بن أَحْمد الْوراق حَدَّثَنى على بن مُوسَى الْحداد وَكَانَ صَدُوقًا قَالَ كنت مَعَ أَحْمد بن حَنْبَل وَمُحَمّد بن قدامَة الجوهرى فِي جَنَازَة فَلَمَّا دفن الْمَيِّت جلس رجل ضَرِير يقْرَأ عِنْد الْقَبْر فَقَالَ لَهُ أَحْمد يَا هَذَا إِن الْقِرَاءَة عِنْد الْقَبْر بِدعَة فَلَمَّا خرجنَا من الْمَقَابِر قَالَ مُحَمَّد بن قدامَة لِأَحْمَد بن حَنْبَل يَا أَبَا عبد الله مَا تَقول فِي مُبشر الْحلَبِي قَالَ ثِقَة قَالَ كتبت عَنهُ شَيْئا قَالَ نعم فَأَخْبرنِي مُبشر عَن عبد الرَّحْمَن بن الْعَلَاء اللَّجْلَاج عَن أَبِيه أَنه أوصى إِذا دفن أَن يقْرَأ عِنْد رَأسه بِفَاتِحَة الْبَقَرَة وخاتمتها وَقَالَ سَمِعت ابْن عمر يُوصي بذلك فَقَالَ لَهُ أَحْمد فَارْجِع وَقل للرجل يقْرَأ

وَقَالَ الْحسن بن الصَّباح الزَّعْفَرَانِي سَأَلت الشَّافِعِي عَن الْقِرَاءَة عِنْد الْقَبْر فَقَالَ لَا بَأْس بهَا وَذكر الْخلال عَن الشّعبِيّ قَالَ كَانَت الْأَنْصَار إِذا مَاتَ لَهُم الْمَيِّت اخْتلفُوا إِلَى قَبره يقرءُون عِنْده الْقُرْآن قَالَ وَأَخْبرنِي أَبُو يحيى النَّاقِد قَالَ سَمِعت الْحسن بن الجروى يَقُول مَرَرْت على قبر أُخْت لي فَقَرَأت عِنْدهَا تبَارك لما يذكر فِيهَا فَجَاءَنِي رجل فَقَالَ إنى رَأَيْت أختك فِي الْمَنَام تَقول جزى الله أَبَا على خيرا فقد انتفعت بِمَا قَرَأَ أَخْبرنِي الْحسن بن الْهَيْثَم قَالَ سَمِعت أَبَا بكر بن الأطروش ابْن بنت أبي نصر بن التمار يَقُول كَانَ رجل يَجِيء إِلَى قبر أمه يَوْم الْجُمُعَة فَيقْرَأ سُورَة يس فجَاء فِي بعض أَيَّامه فَقَرَأَ سُورَة يس ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِن كنت قسمت لهَذِهِ السُّورَة ثَوابًا فاجعله فِي أهل هَذِه الْمَقَابِر فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة الَّتِي تَلِيهَا جَاءَت امْرَأَة فَقَالَت أَنْت فلَان ابْن فُلَانَة قَالَ نعم قَالَت إِن بِنْتا لي مَاتَت فرأيتها فِي النّوم جالسة على شَفير قبرها فَقلت مَا أجلسك هَا هُنَا فَقَالَت إِن فلَان ابْن فُلَانَة جَاءَ إِلَى قبر أمه فَقَرَأَ سُورَة يس وَجعل ثَوَابهَا لأهل الْمَقَابِر فأصابنا من روح ذَلِك أَو غفر لنا أَو نَحْو ذَلِك وَفِي النَّسَائِيّ وَغَيره من حَدِيث معقل بن يسَار الْمُزنِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ اقرأوا {يس} عِنْد مَوْتَاكُم وَهَذَا يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ قرَاءَتهَا على المحتضر عِنْد مَوته مثل قَوْله لقنوا مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْقِرَاءَة عِنْد الْقَبْر وَالْأول أظهر لوجوه الأول أَنه نَظِير قَوْله لقنوا مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله الثَّانِي انْتِفَاع المحتضر بِهَذِهِ السُّورَة لما فِيهَا من التَّوْحِيد والمعاد والبشرى بِالْجنَّةِ لأهل التَّوْحِيد وغبطة من مَاتَ عَلَيْهِ بقوله ياليت قومِي يعلمُونَ بِمَا غفر لي رَبِّي وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين فتستبشر الرّوح بذلك فتحب لِقَاء الله فيحب الله لقاءها فَإِن هَذِه السُّورَة قلب الْقُرْآن وَلها خاصية عَجِيبَة فِي قرَاءَتهَا عِنْد المحتضر وَقد ذكر أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ قَالَ كُنَّا عِنْد شَيخنَا أبي الْوَقْت عبد الأول وَهُوَ فِي السِّيَاق وَكَانَ آخر عهدنا بِهِ أَنه نظر إِلَى السَّمَاء وَضحك وَقَالَ {يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ بِمَا غفر لي رَبِّي وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين} وَقضى الثَّالِث إِن هَذَا عمل النَّاس وعادتهم قَدِيما وحديثا يقرأون {يس} عِنْد المحتضر الرَّابِع إِن الصَّحَابَة لَو فَهموا من قَوْله اقرأوا {يس} عِنْد مَوْتَاكُم قرَاءَتهَا عِنْد الْقَبْر لما أخلوا بِهِ وَكَانَ ذَلِك أمرا مُعْتَادا مَشْهُورا بَينهم

الْخَامِس ان انتفاعه باستماعها وَحُضُور قلبه وذهنه قرَاءَتهَا فِي آخر عَهده بالدنيا هُوَ الْمَقْصُود وَأما قرَاءَتهَا عِنْد قَبره فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على ذَلِك لِأَن الثَّوَاب إِمَّا بِالْقِرَاءَةِ أَو بالاستماع وَهُوَ عمل وَقد انْقَطع من الْمَيِّت وَقد ترْجم الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق الأشبيلى على هَذَا فَقَالَ ذكر مَا جَاءَ أَن الْمَوْتَى يسْأَلُون عَن الْأَحْيَاء ويعرفون أَقْوَالهم وأعمالهم ثمَّ قَالَ ذكر أَبُو عمر بن عبد الْبر من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي مَا من رجل يمر بِقَبْر أَخِيه الْمُؤمن كَانَ يعرفهُ فَيسلم عَلَيْهِ إِلَّا عرفه ورد عَلَيْهِ السَّلَام ويروى هَذَا الحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا قَالَ فَإِن لم يعرفهُ وَسلم عَلَيْهِ رد عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ويروى من حَدِيث عَائِشَة رضى الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت قَالَ رَسُول مَا من رجل يزور قبر أَخِيه فيجلس عِنْده إِلَّا استأنس بِهِ حَتَّى يقوم وَاحْتج الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْبَاب بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله مَا من أحد يسلم على إِلَّا رد الله على روحي حَتَّى أرد عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ وَقَالَ سُلَيْمَان بن نعيم رَأَيْت النَّبِي فِي النّوم فَقلت يَا رَسُول الله هَؤُلَاءِ الَّذين يأتونك ويسلمون عَلَيْك أتفقه مِنْهُم قَالَ نعم وأرد عَلَيْهِم قَالَ وَكَانَ يعلمهُمْ أَن يَقُولُوا إِذا دخلُوا الْمَقَابِر السَّلَام عَلَيْكُم أهل الديار الحَدِيث قَالَ وَهَذَا يدل على أَن الْمَيِّت يعرف سَلام من يسلم عَلَيْهِ وَدُعَاء من يَدْعُو لَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيذكر عَن الْفضل بن الْمُوفق قَالَ كنت آتى قبر أبي الْمرة بعد الْمرة فَأكْثر من ذَلِك فَشَهِدت يَوْمًا جَنَازَة فِي الْمقْبرَة الَّتِي دفن فِيهَا فتعجلت لحاجتي وَلم آته فَلَمَّا كَانَ من اللَّيْل رَأَيْته فِي الْمَنَام فَقَالَ لي يَا بني لم لَا تَأتِينِي قلت لَهُ يَا أَبَت وَإنَّك لتعلم بِي إِذا أَتَيْتُك قَالَ أى وَالله يَا بنى لَا أَزَال أطلع عَلَيْك حِين تطلع من القنطرة حَتَّى تصل إِلَى وتقعد عِنْدِي ثمَّ تقوم فَلَا أَزَال أنظر إِلَيْك حَتَّى تجوز القنطرة قَالَ ابْن أَبى الدُّنْيَا حَدَّثَنى إِبْرَاهِيم بن بشار الْكُوفِي قَالَ حَدثنِي الْفضل بن الْمُوفق فَذكر الْقِصَّة وَصَحَّ عَن عَمْرو بن دِينَار أَنه قَالَ مَا من ميت يَمُوت إِلَّا وَهُوَ يعلم مَا يكون فِي أَهله بعده وَأَنَّهُمْ ليغسلونه ويكفنونه وانه لينْظر إِلَيْهِم وَصَحَّ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ إِن الرجل ليبشر فِي قَبره بصلاح وَلَده من بعده

فصل ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن

فصل وَيدل على هَذَا أَيْضا مَا جرى عَلَيْهِ عمل النَّاس قَدِيما وَإِلَى الْآن من تلقين الْمَيِّت فِي قَبره وَلَوْلَا أَنه يسمع ذَلِك وَينْتَفع بِهِ لم يكن فِيهِ فَائِدَة وَكَانَ عَبَثا وَقد سُئِلَ عَنهُ الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله فَاسْتَحْسَنَهُ وَاحْتج عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ ويروى فِيهِ حَدِيث ضَعِيف ذكره الطبرانى فِي مُعْجَمه من حَدِيث أَبى أُمَامَة قَالَ قَالَ رَسُول الله إِذا مَاتَ أحدكُم فسويتم عَلَيْهِ التُّرَاب فَليقمْ أحدكُم على رَأس قَبره ثمَّ يَقُول يَا فلَان ابْن فُلَانَة فَإِنَّهُ يسمع ولايجيب ثمَّ ليقل يَا فلَان ابْن فُلَانَة الثَّانِيَة فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَاعِدا ثمَّ ليقل يَا فلَان ابْن فُلَانَة يَقُول أرشدنا رَحِمك الله وَلَكِنَّكُمْ لاتسمعون فَيَقُول أذكر مَا خرجت عَلَيْهِ من الدُّنْيَا شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وان مُحَمَّد رَسُول الله وَأَنَّك رضيت بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ نَبيا وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا فان مُنْكرا ونكيرا يتَأَخَّر كل وَاحِد مِنْهُمَا وَيَقُول انْطلق بِنَا مَا يقعدنا عِنْد هَذَا وَقد لقن حجَّته وَيكون الله وَرَسُوله حجيجه دونهمَا فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله فَإِن لم يعرف أمه قَالَ ينْسبهُ إِلَى امهِ حَوَّاء فَهَذَا الحَدِيث وَإِن لم يثبت فإتصال الْعَمَل بِهِ فِي سَائِر الْأَمْصَار والأعصار من غير انكار كَاف فِي الْعَمَل بِهِ وَمَا أجْرى الله سُبْحَانَهُ الْعَادة قطّ بِأَن أمه طبقت مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وَهِي أكمل الْأُمَم عقولا وأوفرها معارف تطِيق على مُخَاطبَة من لَا يسمع وَلَا يعقل وتستحسن ذَلِك لاينكره مِنْهَا مُنكر بل سنه الأول للْآخر ويقتدي فِيهِ الآخر بِالْأولِ فلولا ان الْمُخَاطب يسمع لَكَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة الْخطاب للتراب والخشب وَالْحجر والمعدوم وَهَذَا وان استحسنه وَاحِد فا لعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِإِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حضر جَنَازَة رجل فَلَمَّا دفن قَالَ سلوا لأخيكم التثيب فَإِنَّهُ الْآن يسْأَل فَأخْبر أَنه يسْأَل حِينَئِذٍ وَإِذا كَانَ يسْأَل فَإِنَّهُ يسمع التَّلْقِين وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْمَيِّت يسمع قرع نعَالهمْ إِذا ولوا منصرفين وَذكر عبد الْحق عَن بعض الصَّالِحين قَالَ مَاتَ أَخ لى فرأيته فِي النّوم فَقلت يَا أخي مَا كَانَ حالك حِين وضعت فِي قبرك قَالَ أَتَانِي آتٍ بشهاب من نَار فلولا أَن دَاعيا دَعَا لي لهلكت وَقَالَ شبيب بن شيبَة أوصتني أمى عِنْد مَوتهَا فَقَالَت يَا بنى إِذا دفنتني فَقُمْ عِنْد قبرى وَقل يَا أم شبيب قولى لَا إِلَه إِلَّا الله فَلَمَّا دفنتها قُمْت عِنْد قبرها فَقلت يَا أم شبيب قولى لَا إِلَه إِلَّا

الله ثمَّ انصرفت فَلَمَّا كَانَ من اللَّيْل رَأَيْتهَا فِي النّوم فَقَالَت يَا بنى كدت أهلك لَوْلَا أَن تداركني لَا إِلَه إِلَّا الله فقد حفظت وصيتى يَا بنى وَذكر ابْن أَبى الدُّنْيَا عَن تماضر بنت سهل امْرَأَة أَيُّوب بن عُيَيْنَة قَالَت رَأَيْت سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي النّوم فَقَالَ جزى الله أخى أَيُّوب عَنى خيرا فَإِنَّهُ يزورني كثيرا وَقد كَانَ عندى الْيَوْم فَقَالَ أَيُّوب نعم حضرت الجبان الْيَوْم فَذَهَبت إِلَى قَبره وَصَحَّ عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن شهر بن حَوْشَب أَن الصعب بن جثامة وعَوْف ابْن مَالك كَانَا متآخيين قَالَ صَعب لعوف أى أخى أَيّنَا مَاتَ قبل صَاحبه فليتراءا لَهُ قَالَ أَو يكون ذَلِك قَالَ نعم فَمَاتَ صَعب فَرَآهُ عَوْف فِيمَا يرى النَّائِم كَأَنَّهُ قد اتاه قَالَ قلت أى أخى قَالَ نعم قلت مَا فعل بكم قَالَ غفر لنا بعد المصائب قَالَ وَرَأَيْت لمْعَة سَوْدَاء فِي عُنُقه قلت أى أخى مَا هَذَا قَالَ عشرَة دَنَانِير استسلفتها من فلَان الْيَهُودِيّ فهن فِي قَرْني فَأَعْطوهُ إِيَّاهَا وَأعلم أَن أى أخي انه لم يحدث فِي أهلى حدث بعد موتى إِلَّا قد لحق بى خَبره حَتَّى هرة لنا مَاتَت مُنْذُ أَيَّام وَاعْلَم أَن بنتى تَمُوت إِلَى سِتَّة أَيَّام فأستوصوا بهَا مَعْرُوفا فَلَمَّا أَصبَحت قلت إِن فِي هَذَا لمعلما فَأتيت أَهله فَقَالُوا مرْحَبًا بعوف أهكذا تَصْنَعُونَ بتركة إخْوَانكُمْ لم تقربنا مُنْذُ مَاتَ صَعب قَالَ فَأتيت فأعتللت بِمَا يعتل بِهِ النَّاس فَنَظَرت إِلَى الْقرن فأنزلته فأنتثلت مَا فِيهِ فَوجدت الصرة الَّتِي فِيهَا الدَّنَانِير فَبعثت بهَا إِلَى الْيَهُودِيّ فَقلت هَل كَانَ لَك على صَعب شَيْء قَالَ رحم الله صعبا كَانَ من خِيَار أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هى لَهُ قلت لتخبرني قَالَ نعم اسلفته عشرَة دَنَانِير فنبذتها إِلَيْهِ قَالَ هى وَالله بِأَعْيَانِهَا قَالَ قلت هَذِه وَاحِدَة قَالَ فَقلت هَل حدث فِيكُم حدث بعد موت صَعب قَالُوا نعم حدث فِينَا كَذَا حدث قَالَ قلت اذْكروا قَالُوا نعم هرة مَاتَت مُنْذُ ايام فَقلت هَاتَانِ اثْنَتَانِ قلت أَيْن أبنة أخى قَالُوا تلعب فَأتيت بهَا فمسستها فَإِذا هى محمومه فَقلت اسْتَوْصُوا بهَا مَعْرُوفا فَمَاتَتْ فِي سِتَّة أَيَّام وَهَذَا من فقه عَوْف رَحمَه الله وَكَانَ من الصَّحَابَة حَيْثُ نفذ وَصِيَّة الصعب بن جثامة بعد مَوته وَعلم صِحَة قَوْله بالقرائن الَّتِي أخبرهُ بهَا من أَن الدَّنَانِير عشرَة وهى فِي الْقرن ثمَّ سَأَلَ اليهودى فطابق قَوْله لما فِي الرُّؤْيَا فَجزم عَوْف بِصِحَّة الْأَمر فَأعْطى الْيَهُودِيّ الدَّنَانِير وَهَذَا فقه إِنَّمَا يَلِيق بأفقه النَّاس وأعلمهم وهم أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَعَلَّ أَكثر الْمُتَأَخِّرين يُنكر ذَلِك وَيَقُول كَيفَ جَازَ لعوف أَن ينْقل الدَّنَانِير من تَرِكَة صَعب وهى لأيتامه وورثته إِلَى يهودى بمنام

وَنَظِير هَذَا من الْفِقْه الَّذِي خصهم بِهِ دون النَّاس قصَّة ثَابت بن قيس بن شماس وَقد ذكرهَا أَبُو عمر بن عبد الْبر وَغَيره قَالَ أَبُو عمر أخبرنَا عبد الْوَارِث بن سُفْيَان حَدثنَا قَاسم بن أصبغ حَدثنَا أَبُو الزِّنْبَاع روح بن الْفرج حَدثنَا سعيد بن عفير وَعبد الْعَزِيز بن يحيى الْمدنِي حَدثنَا مَالك بن أنس عَن ابْن شهَاب عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن ثَابت الأنصارى عَن ثَابت ابْن قيس بن شماس أَن رَسُول قَالَ لَهُ يَا ثَابت أما ترضي أَن تعيش حميدا وَتقتل شَهِيدا وَتدْخل الْجنَّة قَالَ مَالك فَقتل ثَابت بن قيس يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا قَالَ أَبُو عَمْرو روى هِشَام بن عمار عَن صَدَقَة بن خَالِد حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر قَالَ حَدثنِي عَطاء الْخُرَاسَانِي قَالَ حَدَّثتنِي ابْنة ثَابت بن قيس بن شماس قَالَت لما نزلت يَا أَيهَا الَّذين آمنو لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي دخل أَبُو هابية وأغلق عَلَيْهِ بَابه فَفَقدهُ رَسُول الله وَأرْسل إِلَيْهِ يسْأَله مَا خَبره قَالَ أَنا رجل شَدِيد الصَّوْت أَخَاف أَن يكون قد حَبط عملى قَالَ لست مِنْهُم بل تعيش بِخَير وَتَمُوت بِخَير قَالَ ثمَّ أنزل الله {إِن الله لَا يحب كل مختال فخور} فأغلق عَلَيْهِ بَابه وطفق يبكي فَفَقدهُ رَسُول الله فَأرْسل إِلَيْهِ فَأخْبرهُ فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي أحب الْجمال وَأحب أَن أسود قومى فَقَالَ لست مِنْهُم بل تعيش حميدا وَتقتل شَهِيدا وَتدْخل الْجنَّة قَالَت فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْيَمَامَة خرج مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد إِلَى مُسَيْلمَة فَلَمَّا الْتَقَوْا وأنكشفوا قَالَ ثَابت وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة مَا هَكَذَا كُنَّا نُقَاتِل مَعَ رَسُول الله ثمَّ حفر كل وَاحِد لَهُ حُفْرَة فثبتا وقاتلا حَتَّى قتلا وعَلى ثَابت يَوْمئِذٍ ذرع لَهُ نفيسة فَمر بِهِ رجل من الْمُسلمين فَأَخذهَا فَبَيْنَمَا رجل من الْمُسلمين نَائِم إِذْ أَتَاهُ ثَابت فِي مَنَامه فَقَالَ لَهُ أوصيك بِوَصِيَّة فاياك أَن تَقول هَذَا حلم فتضعيه إِنِّي لما قتلت أمس مربى رجل من الْمُسلمين فَأخذ ذرعى ومنزلة فِي أقصي النَّاس وَعند خبائه فرس يستين فِي طوله وَقد كفا على الدرْع برمة وَفَوق البرمة رجل فأت خَالِدا فمره أَن يبْعَث إِلَى درعى فيأخذها وَإِذا قدمت الْمَدِينَة على الْخَلِيفَة رَسُول الله يَعْنِي أَبَا بكر الصّديق فَقل لَهُ أَن على من الدّين كَذَا وَكَذَا وَفُلَان من رقيقى عَتيق وَفُلَان فَأتي الرجل خَالِدا فَأخْبرهُ فَبعث إِلَى الدرْع فَأتي بهَا وَحدث أَبَا بكر برؤياه فَأجَاز وَصيته قَالَ وَلَا نعلم أحدا أجيزت وَصيته بعد مَوته غير ثَابت بن قيس رَحمَه الله انْتهى مَا ذكره أَبُو عَمْرو فقد اتّفق خَالِد أَبُو بكر الصّديق وَالصَّحَابَة مَعَه على الْعَمَل بِهَذِهِ الرُّؤْيَا وتنفيذ الْوَصِيَّة بهَا وانتزاع الدرْع مِمَّن هى فِي يَده وَهَذَا مَحْض الْفِقْه وَإِذا كَانَ أَبُو حنيفَة وَأحمد وَمَالك يقبلُونَ قَول الْمُدَّعِي من الزَّوْجَيْنِ مَا يصلح لَهُ دون الآخر يقرينه صَدَقَة فَهَذَا أولى

وَكَذَلِكَ أَبُو حنيفَة يقبل قَول الدعى للحائط بِوُجُود الْآجر إِلَى جَانِبه وبمعاقد القمط وَقد شرع الله حد الْمَرْأَة بأيمان الزَّوْج وقرينة تكون لَهَا فَإِن ذَلِك من أظهر الْأَدِلَّة على صدق الزَّوْج وأبلغ من ذَلِك قتل الْمقسم عَلَيْهِ فِي الْقسَامَة بأيمان المدعين مَعَ الْقَرِينَة الظَّاهِرَة من اللوث وَقد شرع الله سُبْحَانَهُ قبُول قولى المدعين لتَركه ميتهم إِذا مَاتَ فِي السّفر وأوصي إِلَى رجلَيْنِ من غير الْمُسلمين فَاطلع الْوَرَثَة على خِيَانَة الْوَصِيّين بِأَنَّهُمَا يحلفان بِاللَّه ويستحقانه وَتَكون أيمانهما أولى من أَيْمَان الْوَصِيّين وَهَذَا أنزلهُ الله سُبْحَانَهُ فِي آخر الْأَمر فِي سُورَة الْمَائِدَة وهى من آخر الْقُرْآن وَلم ينسخها شَيْء وَعمل بهَا الصَّحَابَة بعده وَهَذَا دَلِيل على أَنه يقْضِي فِي الْأَمْوَال باللوث وَإِذا كَانَ الدَّم يُبَاح باللوث فِي الْقسَامَة فَلِأَن يقْضِي باللوث وَهُوَ الْقَرَائِن الظَّاهِرَة فِي الأمول أولى وَأَحْرَى وعَلى هَذَا عمل وُلَاة الْعدْل فِي اسْتِخْرَاج السرقات من السراق حَتَّى أَن كثيرا مِمَّن يُنكر ذَلِك عَلَيْهِم يَسْتَعِين بهم إِذا سرق مَاله وَقد حكى الله سُبْحَانَهُ عَن الشَّاهِد الَّذِي شهد بَين يُوسُف الصّديق وَامْرَأَة الْعَزِيز أَنه حكم بِالْقَرِينَةِ على صدق يُوسُف وَكذب الْمَرْأَة وَلم يُنكر الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ ذَلِك بل حَكَاهُ عَنهُ تقريرا لَهُ وَأخْبر النَّبِي عَن نَبِي الله سُلَيْمَان بن دَاوُد أَنه حكم بَين الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ادعتا الْوَلَد للصغرى بِالْقَرِينَةِ الَّتِى ظَهرت لَهُ لما قَالَ ائْتُونِي بالسكين أشق الْوَلَد بَيْنكُمَا فَقَالَت الْكُبْرَى نعم رضيت بذلك للتسلى بفقد ابْن صاحبتها وَقَالَت الْأُخْرَى لَا تفعل هُوَ ابْنهَا فقضي بِهِ لَهَا للشفقة وَالرَّحْمَة الَّتِى قَامَت بقلبها حَتَّى سمحت بِهِ لِلْأُخْرَى ويبقي حَيا وَتنظر إِلَيْهِ وَهَذَا من أحسن الْأَحْكَام وأعدلها وَشَرِيعَة الْإِسْلَام تقرر مثل هَذَا وَتشهد بِصِحَّتِهِ وَهل الحكم بالقيافة والحاق النّسَب بهَا اللاعتماد على قَرَائِن الشبة مَعَ اشتباهها وخفائها غَالِبا الْمَقْصُود أَن الْقَرَائِن الَّتِى قَامَت فِي الرُّؤْيَا عَوْف بن مَالك وقصة ثَابت بن قيس لَا تقصر عَن كثير من هَذِه الْقَرَائِن بل هى أقوى من مُجَرّد وجود الْآجر ومعاقد القمط وصلاحية الْمَتَاع للْمُدَّعى دون الآخر فِي مَسْأَلَة الزَّوْجَيْنِ والصانعين وَهَذَا ظَاهر لاخفاء بِهِ وَفطر النَّاس وعقولهم تشهد بِصِحَّتِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَالْمَقْصُود جَوَاب السَّائِل وَأَن الْمَيِّت إِذا عرف مثل هَذِه الجزيئات وتفاصليها فمعرفته بزيارة الحى لَهُ وسلامة عَلَيْهِ ودعائه لَهُ أولى وَأَحْرَى

المسألة الثانية وهى أن ارواح الموتى هل تتلاقي وتتزاور وتتذاكر أم لا

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وهى أَن ارواح الْمَوْتَى هَل تتلاقي وتتزاور وتتذاكر أم لَا وَهِي أَيْضا مَسْأَلَة شريفة كَبِيرَة الْقدر وجوابها أَن الْأَرْوَاح قِسْمَانِ أَرْوَاح معذبة وأرواح منعمة فالمعذبة فِي شغل بِمَا هى فِيهِ من الْعَذَاب عَن التزاور والتلاقي والأرواح المنعمة الْمُرْسلَة غير المحبوسة تتلاقي وتتزاور وتتذاكر مَا كَانَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا وَمَا يكون من أهل الدُّنْيَا فَتكون كل روح مَعَ رفيقها الَّذِي هُوَ على مثل عَملهَا وروح نَبينَا مُحَمَّد فِي الرفيق الْأَعْلَى قَالَ الله تَعَالَى {وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا} وَهَذِه الْمَعِيَّة ثَابِتَة فِي الدُّنْيَا وَفِي الدَّار البرزخ وَفِي دَار الْجَزَاء والمرء مَعَ من أحب فِي هَذِه الدّور الثَّلَاثَة وروى جرير عَن مَنْصُور عَن أبي الضحي عَن مَسْرُوق قَالَ قَالَ أَصْحَاب مُحَمَّد مَا يَنْبَغِي لنا أَن نُفَارِقك فِي الدُّنْيَا فَإِذا مت رفعت فَوْقنَا فَلم نرك فَأنْزل الله تَعَالَى {وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا} وَقَالَ الشّعبِيّ جَاءَ رجل من الْأَنْصَار وَهُوَ يبكي إِلَى النَّبِي فَقَالَ مَا يبكيك يَا فلَان فَقَالَ يَا نَبِي الله وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لأَنْت أحب إِلَى من أهلى ومالى وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لأَنْت أحب إِلَى من نفسى وَأَنا أذكرك أَنا وأهلى فيأخذني كَذَا حَتَّى أَرَاك فَذكرت موتك وموتى فَعرفت أَنِّي ان أجامعك إِلَّا فِي الدُّنْيَا وَإنَّك ترفع بَين النَّبِيين وَعرفت اني إِن دخلت الْجنَّة كنت فِي منزل أدني من مَنْزِلك فَلم يرد النَّبِي شَيْئا فَأنْزل الله تَعَالَى وَمن يطع الله وَرَسُول فألئك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين والصديقيين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ إِلَى قَوْله {وَكفى بِاللَّه عليما} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي} اى أدخلى جُمْلَتهمْ وكونى مَعَهم وَهَذَا يُقَال للروح عِنْد الْمَوْت وَفِي قصَّة الاسراء من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود قَالَ لما اسرى النَّبِي لَقِي إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فتذكروا السَّاعَة فبدأوا بإبراهيم فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَلم يكن عِنْده مِنْهَا علم ثمَّ بمُوسَى فَلم يكن عِنْده مِنْهَا علم حَتَّى أَجمعُوا الحَدِيث الى عِيسَى فَقَالَ عِيسَى عهد الله الى فيمادون وجبتها فَذكر خُرُوج الدَّجَّال قَالَ فأهبط

فَأَقْتُلهُ وَيرجع النَّاس إِلَى بِلَادهمْ فتستقبلهم يَأْجُوج وَمَأْجُوج وهم من كل حدب يَنْسلونَ فَلَا يَمرونَ بِمَاء إِلَّا شربوه وَلَا يَمرونَ بِشَيْء الا أفسدوه فيجأرون إِلَى فأدعو الله فيميتهم فتجأر الأَرْض الى الله من ريحهم ويجأرون الى فادعو وَيُرْسل الله السَّمَاء بِالْمَاءِ فَيحمل أجسامهم فيقذفها فِي الْبَحْر ثمَّ ينسف الْجبَال ويمد الأَرْض مد الْأَدِيم فعهد الله الى اذا كَانَ كَذَلِك فَإِن السَّاعَة من النَّاس كالحامل المتم لَا يدرى أَهلهَا مَتى تفجؤهم بولادتها لَيْلًا أَو نَهَارا ذكره الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا وَهَذَا نَص فِي تَذَاكر الْأَرْوَاح الْعلم وَقد أخبرنَا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن الشُّهَدَاء بِأَنَّهُم أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ وَأَنَّهُمْ يستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم وَإِنَّهُم يستبشرون بِنِعْمَة من الله وَفضل وَهَذَا يدل على تلاقيهم من ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَنهم عِنْد رَبهم يرْزقُونَ وَإِذا كَانُوا أَحيَاء فهم يتلاقون الثَّانِي أَنهم إِنَّمَا اسْتَبْشَرُوا باخوانهم لقدومهم ولقائهم لَهُم الثَّالِث ان لفظ يستبشرون يُفِيد فِي اللُّغَة أَنهم يبشر بَعضهم بَعْضًا مثل يتباشرون وَقد تَوَاتَرَتْ المرائى بذلك فَمِنْهَا مَا ذكره صَالح بن بشير قَالَ رَأَيْت عَطاء السلمى فِي النّوم بعد مَوته فَقلت لَهُ يَرْحَمك الله لقد كنت طَوِيل الْحزن فِي الدُّنْيَا فَقَالَ أما وَالله لقد أعقبني ذَلِك فَرحا طَويلا وسرورا دَائِما فَقلت فِي أى الدَّرَجَات أَنْت قَالَ مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك رَأَيْت سُفْيَان الثورى فِي النّوم فَقلت لَهُ مَا فعل الله بك قَالَ لقِيت مُحَمَّدًا وحزبة وَقَالَ صَخْر بن رَاشد رَأَيْت عبد الله بن الْمُبَارك فِي النّوم بعد مَوته فَقلت أَلَيْسَ قد مت قَالَ بلَى قلت فَمَا صنع الله بك قَالَ غفر لى مغْفرَة أحاطت بِكُل ذَنْب فسفيان الثورى قَالَ بخ بخ ذَاك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا وَذكر ابْن أبي الدُّنْيَا من حَدِيث حَمَّاد بن زيد عَن هِشَام بن حسان عَن يقظة بنت

رَاشد قَالَت كَانَ مَرْوَان المحلمى لى جارا وَكَانَ قَاضِيا مُجْتَهدا قَالَت فَمَاتَ فَوجدت عَلَيْهِ وجدا شَدِيدا قَالَت فرأيته فِيمَا يرى النَّائِم قلت أَبَا عبد الله مَا صنع بك رَبك قَالَ أدخلنى الْجنَّة قلت ثمَّ مَاذَا قَالَ ثمَّ رفعت إِلَى أَصْحَاب الْيَمين قلت ثمَّ مَاذَا قَالَ ثمَّ رفعت إِلَى المقربين المقربين قلت فَمن رَأَيْت من إخوانك قَالَ رَأَيْت الْحسن وَابْن سِيرِين وَمَيْمُون بن سياه قَالَ حَمَّاد قَالَ هِشَام بن حسان فحدثتني أم عبد الله وَكَانَت من خِيَار نسَاء أهل الْبَصْرَة قَالَت رَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم كَأَنِّي دخلت دَارا حَسَنَة ثمَّ دخلت بستانا فَذكرت من حسنه مَا شَاءَ الله فَإِذا أَنا فِيهِ بِرَجُل متكىء على سَرِير من ذهب وَحَوله الوصفاء بِأَيْدِيهِم الأكاويب قَالَت فَإِنِّي لمتعجبه من حسن مَا أرى إِذْ قيل هَذَا مَرْوَان المحلمى أقبل فَوَثَبَ فَاسْتَوَى جَالِسا على سَرِيره قَالَت واستيقظت من منامى فَإِذا جَنَازَة مَرْوَان قد مر بهَا على بابى تِلْكَ السَّاعَة وَقد جَاءَت سنة صَرِيحَة بتلاقي الْأَرْوَاح وتعارفها قَالَ ابْن أبي الدُّنْيَا حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيغ أَخْبرنِي فُضَيْل بن سُلَيْمَان النميري حَدثنِي يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَبِيبَة عَن جده قَالَ لما مَاتَ بشر بن الْبَراء بن معْرور وجدت عَلَيْهِ أم بشر وجدا شَدِيدا فَقَالَت يَا رَسُول الله إِنَّه لَا يزَال الْهَالِك يهْلك من بني سَلمَة فَهَل تتعارف الْمَوْتَى فَأرْسل إِلَى بشر بِالسَّلَامِ فَقَالَ رَسُول الله نعم وَالَّذِي نفسى بِيَدِهِ يَا أم بشر انهم ليتعافون كَمَا تتعارف الطير فِي رُءُوس الشّجر وَكَانَ لَا يهْلك من بنى سَلمَة إِلَّا جَاءَتْهُ أم بشر فَقَالَت يَا فلَان عَلَيْك السَّلَام فَيَقُول وَعَلَيْك فَتَقول اقْرَأ على بشر السَّلَام وَذكر ابْن أبي الدُّنْيَا من حَدِيث سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عبيد بن عُمَيْر قَالَ أهل الْقُبُور يتوكفون الْأَخْبَار فَإِذا أَتَاهُم الْمَيِّت قَالُوا مَا فعل فلَان فَيَقُول صَالح مَا فعل فلَان يَقُول صَالح مَا فعل فلَان فَيَقُول ألم يأتكم أَو مَا قدم عَلَيْكُم فَيَقُولُونَ لَا فَيَقُول أَنا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون سلك بِهِ غير سبيلنا وَقَالَ صَالح المرى بلغنى أَن الْأَرْوَاح تتلاقي عِنْد الْمَوْت فَنَقُول لأرواح الْمَوْتَى للروح الَّتِى تخرج إِلَيْهِم كَيفَ كَانَ مأواك وَفِي أى الجسدين كنت فِي طيب أم خَبِيث ثمَّ بَكَى حَتَّى غَلبه الْبكاء وَقَالَ عبيد بن عُمَيْر إِذا مَاتَ الْمَيِّت تَلَقَّتْهُ الْأَرْوَاح يستخبرونه كَمَا يستخبر الركب مَا فعل فلَان مَا فعل فلَان فَإِذا قَالَ توفّي وَلم يَأْتهمْ قَالُوا ذهب بِهِ إِلَى أمه الهاوية وَقَالَ سعيد بن الْمسيب إِذا مَاتَ الرجل استقبله وَالِده كَمَا يسْتَقْبل الْغَائِب وَقَالَ عبيد بن عُمَيْر أَيْضا لَو أَنى آيس من القاء من مَاتَ من أهلى لألفانى قد مت كمدا

المسألة الثالثة وهى هل تتلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا

وَذكر مُعَاوِيَة بن يحيى عَن عبد الله بن سَلمَة أَن أبارهم المسمعى حَدثهُ أَن أَبَا أَيُّوب الأنصارى حَدثهُ أَن رَسُول الله قَالَ إِن نفس الْمُؤمن إِذا قبضت تلقاها أهل الرَّحْمَة من عِنْد الله كَمَا يتلَقَّى البشير فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ انْظُرُوا أَخَاكُم حَتَّى يستريح فَإِنَّهُ كَانَ فِي كرب شَدِيد فيسألونه مَاذَا فعل فلَان وماذا فعلت فُلَانَة وَهل تزوجت فُلَانَة فَإِذا سَأَلُوهُ عَن رجل مَاتَ قبله قَالَ إِنَّه قد مَاتَ فبلى قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون ذهب بِهِ إِلَى أمه الهاوية فبئست المربية وَقدم تقدم حَدِيث يحيى بن بسطَام حَدثنِي مسمع بن عَاصِم قَالَ رَأَيْت عَاصِمًا الجحدرى فِي منامى بعد مَوته بِسنتَيْنِ فَقلت أَلَيْسَ قد مت قَالَ بلَى قلت وَأَيْنَ أَنْت قَالَ أَنا وَالله فِي رَوْضَة من رياض الْجنَّة أَنا وَنَفر من أصحابى نَجْتَمِع كل لَيْلَة جمعه وصبيحتها إِلَى بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ فتتلقي أخباركم قلت أجسامكم أم أرواحكم قَالَ هَيْهَات بليت الْأَجْسَام وَإِنَّمَا تتلاقي الْأَرْوَاح الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة وهى هَل تتلاقي أَرْوَاح الْأَحْيَاء وأرواح الْأَمْوَات أم لَا شَوَاهِد هَذِه الْمَسْأَلَة وأدلتها كثر من أَن يحصيها إِلَّا الله تَعَالَى والحس وَالْوَاقِع من أعدل الشُّهُود بهَا فتلقي أَرْوَاح الْأَحْيَاء والأموات كَمَا تلاقي أَرْوَاح الْأَحْيَاء وَقد قَالَ تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} قَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا عبد الله بن حُسَيْن الْحَرَّانِي حَدثنَا جدى أَحْمد بن شُعَيْب حَدثنَا مُوسَى بن عين عَن مطرف عَن جَعْفَر بن أبي الْمُغيرَة عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة قَالَ بَلغنِي أَن أَرْوَاح الْأَحْيَاء والأموات تلتقي فِي الْمَنَام فيتسألون بَينهم فَيمسك الله أَرْوَاح الْمَوْتَى وَيُرْسل أَرْوَاح الْأَحْيَاء إِلَى أجسادها وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره حَدثنَا عبد الله بن سُلَيْمَان حَدثنَا الْحُسَيْن حَدثنَا عَامر حَدثنَا اسباط عَن السدى وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} قَالَ يتوفاها فِي منامها فيلتقي روح الحى وروح الْمَيِّت فيتذاكران ويتعارفان قَالَ فترجع روح الحى إِلَى جسده فِي الدُّنْيَا إِلَى بَقِيَّة أجلهَا وتريد روح الْمَيِّت أَن ترجع إِلَى جسده فتحبس وَهَذَا أَحْمد الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَة وَهُوَ أَن الممسكة من توفيت وَفَاة الْمَوْت أَولا والمرسلة من

توفيت وَفَاة النّوم وَالْمعْنَى على هَذَا القَوْل أَنه يتوفي نفس الْمَيِّت فيمسكها وَلَا يرسلها إِلَى جَسدهَا قبل يَوْم الْقِيَامَة ويتوفي نفس النَّائِم ثمَّ يرسلها إِلَى جسده إِلَى بَقِيَّة أجلهَا فيتوفاها الْوَفَاة الْأُخْرَى وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة أَن الممسكة والمرسلة فِي الْآيَة كِلَاهُمَا توفّي وَفَاة النّوم فَمن استكملت أجلهَا أمْسكهَا عِنْده فَلَا يردهَا إِلَى جَسدهَا وَمن لم تستكمل أجلهَا ردهَا إِلَى جَسدهَا لتستكمله وَاخْتَارَ شيخ الْإِسْلَام هَذَا القَوْل وَقَالَ عَلَيْهِ يدل الْقُرْآن وَالسّنة قَالَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذكر إمْسَاك الَّتِى قضي عَلَيْهَا الْمَوْت من هَذِه الْأَنْفس الَّتِى توفاها وَفَاة النّوم وَأما الَّتِى توفاها حِين مَوتهَا فَتلك لم يصفها بامساك وَلَا بإسال بل هى قسم ثَالِث وَالَّذِي يتَرَجَّح هُوَ القَوْل الأول لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أخبر بوفاتين وَفَاة كبرى وهى وَفَاة الْمَوْت ووفاة صغرى وهى وَفَاة النّوم وَقسم الْأَرْوَاح قسمَيْنِ قضي عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ فَأَمْسكهَا عِنْده وهى الَّتِى توفاها وَفَاة الْمَوْت وقسما لَهَا بَقِيَّة أجل فَردهَا إِلَى جَسدهَا إِلَى استكمال أجلهَا وَجعل سُبْحَانَهُ الامساك والارسال حكمين للوفاتين المذكورتين أَولا فَهَذِهِ ممسكة وَهَذِه مُرْسلَة وَأخْبر أَن الَّتِى لم تمت هى الَّتِى توفاها فِي منامها فَلَو كَانَ قد قسم وَفَاة النّوم إِلَى قسمَيْنِ وَفَاة موت ووفاة نوم لم يقل {وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} فَإِنَّهَا من حِين قبضت مَاتَت وَهُوَ سُبْحَانَهُ قد أخبر أَنَّهَا لم تمت فَكيف يَقُول بعد ذَلِك {فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت} وَلمن نصر هَذَا القَوْل أَن يَقُول قَوْله تَعَالَى {فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت} بعد أَن توفاها وَفَاة النّوم فَهُوَ سُبْحَانَهُ توفاها أَولا وَفَاة نوم ثمَّ قضي عَلَيْهَا الْمَوْت بعد ذَلِك وَالتَّحْقِيق أَن الْآيَة تتَنَاوَل النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذكر وفاتين وَفَاة نوم ووفاة موت وَذكر إمْسَاك المتوفاة وإرسال الْأُخْرَى وَمَعْلُوم أَنه سُبْحَانَهُ يمسك كل نفس ميت سَوَاء مَاتَ فِي النّوم أَو فِي الْيَقَظَة وَيُرْسل نفس من لم يمت فَقَوله {يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا} يتَنَاوَل من مَاتَ فِي الْيَقَظَة وَمن مَاتَ فِي الْمَنَام وَقد دلّ التقاء أَرْوَاح الْأَحْيَاء والأموات أَن الحى يرى الْمَيِّت فِي مَنَامه فيستخبره ويخبره الْمَيِّت بِمَا لَا يعلم الحى فيصادف خَبره كَمَا أخبر فِي الْمَاضِي والمستقبل وَرُبمَا أخبرهُ بِمَال دَفنه الْمَيِّت فِي مَكَان لم يعلم بِهِ سواهُ وَرُبمَا أخبرهُ بدين عَلَيْهِ وَذكر لَهُ شواهده وأدلته وأبلغ من هَذَا أَنه يخبر بِمَا عمله من عمل لم يطلع عَلَيْهِ أحد من الْعَالمين وأبلغ من هَذَا أَنه يُخبرهُ أَنَّك تَأْتِينَا إِلَى وَقت كَذَا وَكَذَا فَيكون كَمَا أخبر وَرُبمَا أخبرهُ عَن أُمُور يقطع الحى أَنه لم يكن يعرفهَا غَيره وَقد ذكرنَا قصَّة الصعب بن جثامة وَقَوله لعوف بن مَالك مَا قَالَ لَهُ وَذكرنَا قصَّة ثَابت بن قيس بن شماس وأخباره لمن رَآهُ يدرعه وَمَا عَلَيْهِ من الدّين

وقصة صَدَقَة بن سُلَيْمَان الجعفرى وأخبار ابْنه لَهُ بِمَا عمل من بعده وقصة شبيب بن شيبَة وَقَول أمه لَهُ بعد الْمَوْت جَزَاك الله خيرا حَيْثُ لقنها لَا إِلَه إِلَّا الله وقصة الْفضل بن الْمُوفق مَعَ ابْنه وإخباره إِيَّاه بِعِلْمِهِ بزيارته وَقَالَ سعيد بن الْمسيب التقي عبد الله بن سَلام وسلمان الْفَارِسِي فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر أَن مت قبلى فالقني فاخبرني مَا لقِيت من رَبك وَإِن أَنا مت قبلك لقيتك فأخبرتك فَقَالَ الآخر وَهل تلتقي الْأَمْوَات والأحياء قَالَ نعم أَرْوَاحهم فِي الْجنَّة تذْهب حَيْثُ تشَاء قَالَ فَمَاتَ فلَان فَلَقِيَهُ فِي الْمَنَام فَقَالَ توكل وأبشر فَلم أر مثل التَّوَكُّل قطّ وَقَالَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب كنت أشتهى أَن ارى عمر فِي الْمَنَام فَمَا رَأَيْته إِلَّا عِنْد قرب الْحول فرأيته يمسح الْعرق عَن جَبينه وَهُوَ يَقُول هَذَا أَوَان فراغي إِن كَاد عَرْشِي ليهد لَوْلَا أَن لقِيت رءوفا رحميا وَلما حضرت شُرَيْح بن عَابِد الثمالى الْوَفَاة دخل عَلَيْهِ غُضَيْف بن الْحَارِث وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ فَقَالَ يَا أَبَا الْحجَّاج إِن قدرت على أَن تَأْتِينَا بعد الْمَوْت فتخبرنا بِمَا ترى فافعل قَالَ وَكَانَت كلمة مَقْبُولَة فِي أهل الْفِقْه قَالَ فَمَكثَ زَمَانا لَا يرَاهُ ثمَّ رَآهُ فِي مَنَامه فَقَالَ لَهُ أَلَيْسَ قدمت قَالَ بلَى قَالَ فَكيف حالك قَالَ تجَاوز رَبنَا عَنَّا الذُّنُوب فَلم يهْلك منا إِلَّا الاحراض قلت وَمَا الأحراض قَالَ الَّذين يشار إِلَيْهِم بالأصابع فِي الشَّيْء وَقَالَ عبد الله بن عمر بن عبد الْعَزِيز رَأَيْت أبي فِي النّوم بعد مَوته كَأَنَّهُ فِي حديقة فَدفع إِلَى تفاحات فأولتهن الْوَلَد فَقلت أى الْأَعْمَال وجدت أفضل فَقَالَ الاسْتِغْفَار أى بنى وَرَأى مسلمة بن عبد الْملك عمر بن عبد الْعَزِيز بعد مَوته فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَيْت شعرى إِلَى أى الْحَالَات صرت بعد الْمَوْت قَالَ يَا مسلمة هَذَا أَوَان فراغي وَالله مَا استرحت إِلَّا الْآن قَالَ قلت فَأَيْنَ أَنْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ مَعَ أَئِمَّة الْهدى فِي جنَّة عدن قَالَ صَالح البراد رَأَيْت زُرَارَة بن أوفي بعد مَوته فَقلت رَحِمك الله مَاذَا قيل لَك وماذا قلت فَأَعْرض عَنى قلت فَمَا صنع الله بك قَالَ تفضل على بجوده وَكَرمه قلت فَأَبُو الْعَلَاء بن يزِيد أَخُو مطرف قَالَ ذَاك فِي الدَّرَجَات العلى قلت فأى الْأَعْمَال أبلغ فِيمَا عنْدكُمْ قَالَ التَّوَكُّل وَقصر الأمل وَقَالَ مَالك بن دِينَار رَأَيْت مُسلم بن يسَار بعد مَوته فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد على السَّلَام فَقلت مَا يمنعك أَن ترد السَّلَام قَالَ أَنا ميت فَكيف أرد عَلَيْك السَّلَام فَقلت لَهُ مَاذَا لقِيت بعد الْمَوْت قَالَ لقِيت وَالله أهوالا وزلازل عظاما شدادا قَالَ قلت لَهُ فَمَا كَانَ بعد ذَلِك قَالَ وَمَا ترَاهُ يكون من الْكَرِيم قبل منا الْحَسَنَات وَعَفا لنا عَن السَّيِّئَات وَضمن عَنَّا النبعات قَالَ ثمَّ شهق مَالك شهقة خر مغشيا عَلَيْهِ قَالَ فَلبث بعد ذَلِك أَيَّامًا مَرِيضا ثمَّ انصدع قلبه فَمَاتَ

وَقَالَ سُهَيْل أَخُو حزم رَأَيْت مَالك بن دِينَار بعد مَوته فَقلت يَا أَبَا يحيى لَيْث شعرى مَاذَا قدمت بِهِ على الله قَالَ قدمت بذنوب كَثِيرَة محاها عَنى حسن الظَّن بِاللَّه عز وَجل وَلما مَاتَ رَجَاء بن حَيْوَة رَأَتْهُ امْرَأَة عابدة فَقَالَت يَا أَبَا الْمِقْدَام إلام صرتم قَالَ إِلَى خير وَلَكِن فزعنا بعدكم فزعة ظننا أَن الْقِيَامَة قد قَامَت قَالَت قلت ومم ذَلِك قَالَ دخل الْجراح وَأَصْحَابه الْجنَّة بأثقالهم حَتَّى ازدحموا على بَابهَا وَقَالَ جميل بن مرّة كَانَ مُورق العجلى لى أَخا وصديقا فَقلت لَهُ ذَات يَوْم أَيّنَا مَاتَ قبل صَاحبه فليأت صَاحبه فليخبره بِالَّذِي صَار الأيه قَالَ فَمَاتَ مُورق فرأت أهلى فِي منامها كَأَنَّهُ أَتَانَا كَمَا كَانَ يَأْتِي فقرع الْبَاب كَمَا كَانَ يقرع قَالَت فَقُمْت ففتحت لَهُ كَمَا كنت أفتح وَقلت أَدخل يَا أَبَا الْمُعْتَمِر إِلَى بَاب أَخِيك فَقَالَ كَيفَ أَدخل وَقد ذقت الْمَوْت إِنَّمَا جِئْت لأعْلم جميلا بِمَا صنع الله بى أعلميه أَنه قد جعلني فِي المقربين وَلما مَاتَ مُحَمَّد بن سِيرِين حزن عَلَيْهِ بعض أَصْحَابه حزنا شَدِيدا فَرَآهُ فِي الْمَنَام فِي حَال حَسَنَة فَقَالَ يَا أخي قد أَرَاك فِي حَال يسرني فَمَا صنع الْحسن قَالَ رفع فَوقِي بسبعين دَرَجَة قلت وَلم ذَاك وَقد كُنَّا نرى أَنَّك أفضل مِنْهُ قَالَ ذَاك بطول حزنه وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة رَأَيْت سُفْيَان الثورى فِي النّوم فَقلت أوصنى قَالَ أقل من معرفَة النَّاس وَقَالَ عمار بن سيف رَأَيْت الْحسن بن صَالح فِي منامى فَقلت قد كنت متمنيا للقائك فَمَاذَا عنْدك فتخبرنا بِهِ فَقَالَ أبشر فَإِنِّي لم أر مثل حسن الظَّن بِاللَّه شَيْئا وَلما مَاتَ ضيغم العابد رَآهُ بعض أَصْحَابه فِي الْمَنَام فَقَالَ أما صليت عَليّ قَالَ فَذكرت عِلّة كَانَت فَقَالَ أما لَو كنت على نجت رَأسك وَلما مَاتَت رَابِعَة رأتها امْرَأَة من أَصْحَابهَا وَعَلَيْهَا حلَّة استبرق وخمار من سندس وَكَانَت كفنت فِي جُبَّة وخمار من صوف فَقَالَت لَهَا مَا فعلت الْجُبَّة الَّتِى كفنتك فِيهَا وخمار الصُّوف قَالَت وَالله أَنه نزع عَنى وأبدلت بِهِ هَذَا الَّذِي تَرين على وطويت أكفاني وَختم عَلَيْهَا وَرفعت فِي عليين ليكمل لى ثَوَابهَا يَوْم الْقِيَامَة قَالَت فَقلت لَهَا هَذَا كنت تعلمين أَيَّام الدُّنْيَا فَقَالَت وَمَا هَذَا عِنْد مَا رَأَيْت من كَرَامَة الله لأوليائه فَقلت لَهَا فَمَا فعلت عَبدة بنت أبي كلاب فَقلت هَيْهَات هَيْهَات سبقتنا وَالله إِلَى الدَّرَجَات العلى قَالَت قلت وَبِمَ وَقد كنت عِنْد النَّاس أعبد مِنْهَا فَقَالَت أَنَّهَا لم تكن تبالى على أى حَال أَصبَحت من الدُّنْيَا أَو أمست فَقلت فَمَا فعل أَبُو مَالك تعنى ضيغما فَقَالَت يزور الله تبَارك وَتَعَالَى مَتى شَاءَ قَالَت

قلت فَمَا فعل بشر بن مَنْصُور قَالَت بخ بخ أعْطى وَالله فَوق مَا كَانَ يأمل قَالَت قلت مرينى بِأَمْر أَتَقَرَّب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى قَالَت عَلَيْك بِكَثْرَة ذكر الله فيوشك أَن تغتبطى بذلك فِي قبرك وَلما مَاتَ عبد الْعَزِيز بن سُلَيْمَان العابد رَآهُ بعض أَصْحَابه وَعَلِيهِ ثِيَاب خضر وعَلى رَأسه أكليل من لُؤْلُؤ فَقَالَ كَيفَ كنت بَعدنَا وَكَيف وجدت طعم الْمَوْت وَكَيف رَأَيْت الْأَمر هُنَاكَ قَالَ أما الْمَوْت فَلَا تسْأَل عَن شدَّة كربه وغمه إِلَّا أَن رَحْمَة الله وارت عَنَّا كل عيب وَمَا تلقانا إِلَّا بفضله وَقَالَ صَالح بن بشر لما مَاتَ عَطاء السلمى رَأَيْته فِي منامى فَقلت يَا أَبَا مُحَمَّد أَلَسْت فِي زمرة الْمَوْتَى قَالَ بلَى قلت فَمَاذَا صرت بعد الْمَوْت قَالَ صرت وَالله إِلَى خير كثير وَرب غَفُور شكور قَالَ قلت أما وَالله لقد كنت طَوِيل الْحزن فِي دَار الدُّنْيَا فَتَبَسَّمَ وَقَالَ وَالله لقد أعقبني ذَلِك رَاحَة طَوِيلَة وفرحا دَائِما قلت فَفِي أى الدَّرَجَات أَنْت قَالَ مَعَ الَّذين انْعمْ الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء الصَّالِحين وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا وَلما مَاتَ عَاصِم الجحدرى رَآهُ بعض أَهله فِي الْمَنَام فَقَالَ أَلَيْسَ قدمت قَالَ بلَى قَالَ فَأَيْنَ أَنْت قَالَ أَنا وَالله فِي رَوْضَة من رياض الْجنَّة أَنا وَنَفر من أَصْحَابِي نَجْتَمِع كل لَيْلَة جُمُعَة وصبيحتها إِلَى بكر بن عبد الله المزنى فنتلقى أخباركم قَالَ قلت أجسادكم أم أرواحكم قَالَ هَيْهَات بليت الأجساد وَإِنَّمَا تتلاقى الْأَرْوَاح ورئى الفضيل بن عِيَاض بعد مَوته فَقَالَ لم أر للْعَبد خيرا من ربه وَكَانَ مرّة الهمدانى قد سجد حَتَّى أكل التُّرَاب جَبهته فَلَمَّا مَاتَ رَآهُ رجل من أَهله فِي مَنَامه وَكَأن مَوضِع سُجُوده كَهَيئَةِ الْكَوْكَب الدرى فَقَالَ مَا هَذَا الْأَثر الَّذِي أرى بِوَجْهِك قَالَ كسى مَوضِع السُّجُود بِأَكْل التُّرَاب لَهُ نورا قَالَ قلت فَمَا منزلتك فِي الْآخِرَة قَالَ خير منزل دَار لَا ينْتَقل عَنْهَا أَهلهَا وَلَا يموتون وَقَالَ أَبُو يَعْقُوب القارى رَأَيْت فِي منامى رجلا آدما طوَالًا وَالنَّاس يتبعونه قلت من هَذَا قَالُوا أَو يس القرنى فاتبعته فَقلت أوصنى يَرْحَمك الله فكلح فِي وجهى فَقلت مسترشد فأرشدنى رَحِمك الله فَأقبل على فَقَالَ ابتغ رَحْمَة الله عِنْد محبته وَاحْذَرْ نقمته عِنْد مَعْصِيَته وَلَا تقطع رجاءك مِنْهُ فِي خلال ذَلِك ثمَّ ولى وتركنى وَقَالَ ابْن السماك رَأَيْت مسعرا فِي النّوم فَقلت أى الْأَعْمَال وجدت أفضل قَالَ مجَالِس الذّكر وَقَالَ الْأَجْلَح رَأَيْت سَلمَة بن كهيل فِي النّوم فَقلت أى الْأَعْمَال وجدت أفضل قَالَ قيام اللَّيْل وَقَالَ أَبُو بكر بن أَبى مَرْيَم رَأَيْت وَفَاء بن بشر بعد مَوته فَقلت مَا فعلت

يَا وَفَاء قَالَ نجوت بعد كل جهد قلت فأى الْأَعْمَال وجدتموها أفضل قَالَ الْبكاء من خشيَة الله عز وَجل وَقَالَ اللَّيْث بن سعد عَن مُوسَى بن وردان أَنه رأى عبد الله بن أَبى حَبِيبَة بعد مَوته فَقَالَ عرضت على حسناتى وسيئاتى فَرَأَيْت فِي حسناتى حبات رمان التقطتهن فأكلهن وَرَأَيْت فِي سيئاتى خيطى حَرِير كَانَا فِي قلنسوتى وَقَالَ سنيد بن دَاوُد حَدَّثَنى ابْن أخى جوَيْرِية بن أَسمَاء قَالَ كُنَّا بعبادان فَقدم علينا شَاب من أهل الْكُوفَة متعبد فَمَاتَ بهَا فِي يَوْم شَدِيد الْحر فَقلت نبرد ثمَّ نَأْخُذ فِي جهازه فَنمت فَرَأَيْت كأنى فِي الْمَقَابِر فَإِذا بقبة جَوْهَر تتلألأ حسنا وَأَنا أنظر إِلَيْهَا إِذْ انفلقت فَأَشْرَفت مِنْهَا جَارِيَة مَا رَأَيْت مثل حسنها فَأَقْبَلت على فَقَالَت بِاللَّه لَا تحبسه عَنَّا إِلَى الظّهْر قَالَ فانتبهت فَزعًا وَأخذت فِي جهازه وحفرت لَهُ قبرا فِي الْموضع الَّذِي رَأَيْت فِيهِ الْقبَّة فدفنته فِيهِ وَقَالَ عبد الْملك بن عتاب الليثى رَأَيْت عَامر بن عبد قيس فِي النّوم فَقلت أى الْأَعْمَال وجدت أفضل قَالَ مَا أُرِيد بِهِ وَجه الله عز وَجل وَقَالَ يزِيد بن هَارُون رَأَيْت أَبَا الْعَلَاء أَيُّوب بن مِسْكين فِي الْمَنَام فَقلت مَا فعل بك رَبك قَالَ غفر لي قلت بِمَاذَا قَالَ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة قلت أَرَأَيْت مَنْصُور بن زادان قَالَ هَيْهَات ذَاك نرى قصره من بعيد وَقَالَ يزِيد بن نعَامَة هَلَكت جَارِيَة فِي طاعون الجارف فلقيها أَبوهَا بعد مَوتهَا فَقَالَ لَهَا يَا بنية أخبرينى عَن الْآخِرَة قَالَت يَا أَبَت قدمنَا على أَمر عَظِيم نعلم وَلَا نعمل وتعملون وَلَا تعلمُونَ وَالله لتسبيحة أَو تسبيحتان أَو رَكْعَة أَو رَكْعَتَانِ فِي صحيفَة عَمَلي أحب إِلَى من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَقَالَ كثير بن مرّة رَأَيْت فِي منامى كأنى دخلت دَرَجَة علياء فِي الْجنَّة فَجعلت أَطُوف بهَا وأتعجب مِنْهَا فَإِذا أَنا بنساء من نسَاء الْمَسْجِد فِي نَاحيَة مِنْهَا فَذَهَبت حَتَّى سلمت عَلَيْهِنَّ ثمَّ قلت بِمَا بلغتن هَذِه الدرجَة قُلْنَ بسجدات وتكبيرات وَقَالَ مُزَاحم مولى عمر بن عبد الْعَزِيز عَن فَاطِمَة بنت عبد الْملك امْرَأَة عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَت انتبه عمر بن عبد الْعَزِيز لَيْلَة فَقَالَ لقد رَأَيْت رُؤْيا معجبة قَالَت فَقلت جعلت فداءك فأخبرنى بهَا فَقَالَ مَا كنت لأخبرك بهَا حَتَّى أصبح فَلَمَّا طلع الْفجْر خرج فصلى ثمَّ عَاد إِلَى مَجْلِسه قَالَت فاغتنمت خلوته فَقلت أخبرنى بالرؤيا الَّتِي رَأَيْت قَالَ رَأَيْت كأنى رفعت إِلَى أَرض خضراء وَاسِعَة كَأَنَّهَا بِسَاط أَخْضَر وَإِذا فِيهَا قصر أَبيض كَأَنَّهُ الْفضة وَإِذا خَارج قد خرج من ذَلِك الْقصر فَهَتَفَ بِأَعْلَى صَوته يَقُول أَيْن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب أَيْن رَسُول الله إِذْ أقبل رَسُول الله حَتَّى دخل ذَلِك الْقصر قَالَ ثمَّ إِن آخر خرج من ذَلِك الْقصر فَنَادَى

أَيْن أَبُو بكر الصّديق أَيْن ابْن أَبى قُحَافَة إِذْ أقبل أَبُو بكر حَتَّى دخل ذَلِك الْقصر ثمَّ خرج آخر فَنَادَى أَيْن عمر بن الْخطاب فَأقبل عمر حَتَّى دخل ذَلِك الْقصر ثمَّ خرج آخر فَنَادَى أَيْن عُثْمَان ابْن عَفَّان فَأقبل حَتَّى دخل ذَلِك الْقصر ثمَّ خرج آخر فَنَادَى أَيْن عَليّ بن أَبى طَالب فَأقبل حَتَّى دخل ذَلِك الْقصر ثمَّ ان آخر خرج فَنَادَى أَيْن عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ عمر فَقُمْت حَتَّى دخلت ذَلِك الْقصر قَالَ فَدفعت إِلَى رَسُول الله وَالْقَوْم حوله فَقلت بينى وَبَين نفسى أَيْن أَجْلِس فَجَلَست إِلَى جنب أَبى عمر بن الْخطاب فَنَظَرت فَإِذا أَبُو بكر عَن يَمِين النَّبِي وَإِذا عمر عَن يسَاره فتأملت فَإِذا بَين رَسُول الله وَبَين أَبى بكر رجل فَقلت من هَذَا الرجل الذى بَين رَسُول وَبَين أَبى بكر فَقَالَ هَذَا عِيسَى بن مَرْيَم فَسمِعت هاتفا يَهْتِف وبينى وَبَينه ستر نور يَا عمر بن عبد الْعَزِيز تمسك بِمَا أَنْت عَلَيْهِ وانبت على مَا أَنْت عَلَيْهِ ثمَّ كَأَنَّهُ أذن لى فِي الْخُرُوج فَخرجت من ذَلِك الْقصر فَالْتَفت خَلْفي فَإِذا أَنا بعثمان بن عَفَّان وَهُوَ خَارج من ذَلِك الْقصر يَقُول الْحَمد لله الَّذِي نصرنى وَإِذا عَليّ بن أَبى طَالب فِي أَثَره خَارج من ذَلِك الْقصر وَهُوَ يَقُول الْحَمد لله الَّذِي غفر لى وَقَالَ سعيد بن أَبى عرُوبَة عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَأَيْت رَسُول الله وَأَبُو بكر وَعمر جالسان عِنْده فَسلمت فَبينا أَنا جَالس إِذْ أَتَى بعلي وَمُعَاوِيَة فأدخلا بَيْتا وأجيف عَلَيْهَا الْبَاب وَأَنا أنظر فَمَا كَانَ بأسرع من أَن خرج على وَهُوَ يَقُول قضى لى وَرب الْكَعْبَة وَمَا كَانَ بأسرع من أَن خرج مُعَاوِيَة على أَثَره وَهُوَ يَقُول غفر لي وَرب الْكَعْبَة وَقَالَ حَمَّاد بن أَبى هَاشم جَاءَ رجل إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ رَأَيْت رَسُول الله فِي الْمَنَام وَأَبُو بكر عَن يَمِينه وَعمر عَن شِمَاله وَأَقْبل رجلَانِ يختصمان وانت بَين يَدَيْهِ جَالس فَقَالَ لَك يَا عمر إِذا عملت فاعمل بِعَمَل هذَيْن لأبى بكر وَعمر فاستحلفه عمر بِاللَّه أَرَأَيْت هَذِه الرُّؤْيَا فَحلف فَبكى عمر وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن غنم رَأَيْت معَاذ بن جبل بعد وَفَاته بِثَلَاث على فرس أبلق وَخَلفه رجال بيض عَلَيْهِم ثِيَاب خضر على خيل بلق وَهُوَ قدامهم وَهُوَ يَقُول {يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ بِمَا غفر لي رَبِّي وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين} ثمَّ الْتفت عَن يَمِينه وشماله يَقُول يَا ابْن رَوَاحَة يَا ابْن مَظْعُون {الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده وأورثنا الأَرْض نتبوأ من الْجنَّة حَيْثُ نشَاء فَنعم أجر العاملين} ثمَّ صافحنى وَسلم على

وَقَالَ قبيصَة بن عقبَة رَأَيْت سُفْيَان الثورى فِي الْمَنَام بعد مَوته فَقلت مَا فعل الله بك فَقَالَ نظرت إِلَى رَبِّي عيَانًا فَقَالَ لي ... هَنِيئًا رضايا عَنْك يَا ابْن سعيد فقد كنت قواما إِذا اللَّيْل قد دجا ... بعبرة محزون وقلب عميد فدونك فاخترأى قصر تريده ... وزرنى فإنى مِنْك غير بعيد وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة رَأَيْت سُفْيَان الثورى بعد مَوته يطير فِي الْجنَّة من نَخْلَة إِلَى شَجَرَة وَمن شَجَرَة إِلَى نَخْلَة وَهُوَ يَقُول لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ فَقيل لَهُ بِمَا أدخلت الْجنَّة قَالَ بالورع بالورع قيل لَهُ فَمَا فعل على بن عَاصِم قَالَ مَا نرَاهُ إِلَّا مثل الْكَوْكَب وَكَانَ شُعْبَة بن الْحجَّاج ومسعر بن كدام حافظين وَكَانَا جليلين قَالَ أَبُو أَحْمد البريدى فرأيتهما بعد مَوْتهمَا فَقلت أَبَا بسطَام مَا فعل الله بك فَقَالَ وفقك الله لحفظ مَا أَقُول حبانى إلهى فِي الْجنان بَقِيَّة ... لَهَا ألف بَاب من لجين وجوهرا وَقَالَ لى الرَّحْمَن يَا شُعْبَة الَّذِي ... تبحر فِي جمع الْعُلُوم فأكثرا تنعم بقربى إننى عَنْك ذُو رضَا ... وَعَن عبدى القوام فِي اللَّيْل مسعرا كفا مسعرا عزا بِأَن سيزورني ... واكشف عَن وجهى الْكَرِيم لينظرا وَهَذَا فعالى بالذين تنسكوا ... وَلم يألفوا فِي سالف الدَّهْر مُنْكرا قَالَ أَحْمد بن مُحَمَّد اللبدى رَأَيْت أَحْمد بن حَنْبَل فِي النّوم فَقلت يَا أَبَا عبد الله مَا فعل الله بك قَالَ غفر لى ثمَّ قَالَ يَا أَحْمد ضربت فِي سِتِّينَ سَوْطًا قلت نعم يارب قَالَ هَذَا وجهى قدأبحتك فَأنْظر إِلَيْهِ وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحجَّاج حَدَّثَنى رجل من أهل طوسوس قَالَ دَعَوْت الله عز وَجل أَن يرينى أهل الْقُبُور حَتَّى أسألهم عَن أَحْمد بن حَنْبَل مَا فعل الله بِهِ فَرَأَيْت بعد عشر سِنِين فِي الْمَنَام كَأَن أهل الْقُبُور قد قَامُوا على قُبُورهم فبادرونى بالْكلَام فَقَالُوا يَا هَذَا كم تَدْعُو الله عز وَجل أَن يُرِيك ايانا تسألنا عَن رجل لم يزل مُنْذُ فارقكم تحليه الْمَلَائِكَة تَحت شَجَرَة طُوبَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق وَهَذَا الْكَلَام من أهل الْقُبُور إِنَّمَا هُوَ اخبار عَن علو دَرَجَة أَحْمد بن حَنْبَل وارتفاع مَكَانَهُ وَعظم مَنْزِلَته فَلم يقدروا أَن يعبروا عَن صفة حَاله وَعَن مَا هُوَ فِيهِ إِلَّا بِهَذَا وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ

وَقَالَ أَو جَعْفَر السقاء صَاحب بشر بن الْحَارِث رَأَيْت بشرا الحافي ومعروف الكرخى وهما جائيان فَقلت من أَيْن فَقَالَا من جنَّة الفردوس زرنا كليم الله مُوسَى وَقَالَ عَاصِم الجزرى رَأَيْت فِي النّوم كأنى لقِيت بشر بن الْحَارِث فَقلت من أَيْن يَا أَبَا نصر قَالَ من عليين قلت فَمَا فعل أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ تركته السَّاعَة مَعَ عبد الْوَهَّاب الْوراق بَين يدى الله عز وَجل يأكلان ويشربان فَقلت لَهُ فَأَنت قَالَ علم قلَّة رغبتى فِي الطَّعَام فأباحنى النّظر إِلَيْهِ وَقَالَ أَبُو جَعْفَر السقاء رَأَيْت بشر بن الْحَارِث فِي النّوم بعد مَوته فَقلت أَبَا نصر مَا فعل الله بك قَالَ الطفنى ورحمنى وَقَالَ لى يَا بشر لَو سجدت لى فِي الدُّنْيَا على الْجَمْر مَا أدّيت شكر مَا حشوت قُلُوب عبادى مِنْك وأباح لى نصف الْجنَّة فأسرح فِيهَا حَيْثُ شِئْت ووعدنى أَن يغْفر لمن تبع جنازتى فَقلت مَا فعل أَبُو نصر التمار فَقَالَ ذَاك فَوق النَّاس بصبره على بلائه وَفَقره قَالَ عبد الْحق لَعَلَّه أَرَادَ بقوله نصف الْجنَّة نصف نعيمها لِأَن نعيمها نِصْفَانِ نصف روحانى وَنصف جسمانى فيتنعمون أَولا بالروحانى فَإِذا ردَّتْ الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد أضيف لَهُم النَّعيم الجسمانى إِلَى الروحانى وَقَالَ غَيره نعيم الْجنَّة مُرَتّب على الْعلم وَالْعَمَل وحظ بشر من الْعَمَل كَانَ أوفي من حَظه فِي الْعلم وَالله أعلم وَقَالَ بعض الصَّالِحين رَأَيْت أَبَا بكر الشلبى فِي الْمَنَام وَكَأَنَّهُ قَاعد فِي مجْلِس الرصافة بالموضع الَّذِي كَانَ يقْعد فِيهِ وَإِذا بِهِ قد أقبل وَعَلِيهِ ثِيَاب حسان فَقُمْت إِلَيْهِ وسلمت عَلَيْهِ وَجَلَست بَين يَدَيْهِ فَقلت لَهُ من أقرب أَصْحَابك إِلَيْك قَالَ ألهجهم بِذكر الله وأقومهم بِحَق الله وأسرعهم مبادرة فِي مرضاة الله وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الساحلى رَأَيْت ميسرَة بن سليم فِي الْمَنَام بعد مَوته فَقلت لَهُ طَالَتْ غَيْبَتِك فَقَالَ السّفر طَوِيل فَقلت لَهُ فَمَا الَّذِي قدمت عَلَيْهِ فَقَالَ رخص لى لأَنا كُنَّا نفتى بالرخص فَقلت فَمَا تأمرنى بِهِ قَالَ اتِّبَاع الْآثَار وصحبة الأخيار ينجيان من النَّار ويقربان من الْجَبَّار وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الضَّرِير رَأَيْت عِيسَى بن زَاذَان بعد مَوته فَقلت مَا فعل الله بك فَأَنْشَأَ يَقُول لَو رَأَيْت الحسان فِي الْخلد حولى ... وأكاويب مَعهَا للشراب يترنمن بِالْكتاب جَمِيعًا ... يتمشين مسبلات الثِّيَاب

وَقَالَ بعض أَصْحَاب ابْن جريج رَأَيْت كأنى جِئْت إِلَى هَذِه الْمقْبرَة الَّتِي بِمَكَّة فَرَأَيْت على عامتها سرادقا وَرَأَيْت مِنْهَا قبرا عَلَيْهِ سرادق وقسطاط وسدرة فَجئْت حَتَّى دخلت فَسلمت عَلَيْهِ فَإِذا مُسلم بن خَالِد الزنجى فَسلمت عَلَيْهِ وَقلت يَا أَبَا خَالِد مَا بَال هَذِه الْقُبُور عَلَيْهَا سرادق وقبرك عَلَيْهِ سرادق وفسطاط وَفِيه سِدْرَة فَقَالَ أَنى كنت كثير الصّيام فَقلت فَأَيْنَ قبر ابْن جريج وَأَيْنَ مَحَله فقد كنت أجالسه وَأَنا أحب أَن أسلم عَلَيْهِ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ هَيْهَات وأدار أُصْبُعه السبابَة وَأَيْنَ ابْن جريج رفعت صَحِيفَته فِي عليين وَرَأى حَمَّاد بن سَلمَة فِي النّوم بعض الْأَصْحَاب فَقَالَ لَهُ مَا فعل الله بك فَقَالَ قَالَ لى طَال مَا كددت نَفسك فِي الدُّنْيَا فاليوم أطبل راحتك وراحة المتعبين وَهَذَا بَاب طَوِيل جدا فَإِن لم تسمح نَفسك بتصديقه وَقلت هَذِه منامات وَهِي غير معصومة فَتَأمل من رأى صاحبا لَهُ أَو قَرِيبا أَو غَيره فَأخْبرهُ بِأَمْر لَا يُعلمهُ إِلَّا صَاحب الرُّؤْيَا أَو أخبرهُ بِمَال دَفنه أَو حذره من أَمر يَقع أَو بشره بِأَمْر يُوجد فَوَقع كَمَا قَالَ أَو أخبرهُ بِأَنَّهُ يَمُوت هُوَ أَو بعض أَهله إِلَى كَذَا وَكَذَا فَيَقَع كَمَا أخبر أَو أخبرهُ بخصب أَو جَدب أَو عَدو أَو نازلة أَو مرض أَو بغرض لَهُ فَوَقع كَمَا أخبرهُ وَالْوَاقِع من ذَلِك لَا يُحْصِيه إِلَّا الله وَالنَّاس مشتركون فِيهِ وَقد رَأينَا نَحن وغيرنا من ذَاك عجائب وأبطل من قَالَ أَن هَذِه كلهَا عُلُوم وعقائد فِي النَّفس تظهر لصَاحِبهَا عِنْد انْقِطَاع نَفسه عَن الشواغل الْبَدَنِيَّة بِالنَّوْمِ وَهَذَا عين الْبَاطِل والمحال فَإِن النَّفس لم يكن فِيهَا قطّ معرفَة هَذِه الْأُمُور الَّتِي يخبر بهَا الْمَيِّت وَلَا خطرت ببالها وَلَا عِنْدهَا عَلامَة عَلَيْهَا وَلَا أَمارَة بِوَجْه مَا وَنحن لَا ننكر أَن الْأَمر قد يَقع كَذَلِك وَإِن من الرُّؤْيَا مَا يكون من حَدِيث النَّفس وَصُورَة الِاعْتِقَاد بل كثير من مرائى النَّاس إِنَّمَا هِيَ من مُجَرّد صور اعْتِقَادهم المطابق وَغير المطابق فَإِن الرُّؤْيَا على ثَلَاثَة أَنْوَاع رُؤْيا من الله ورؤيا من الشَّيْطَان ورؤيا من حَدِيث النَّفس والرؤيا الصَّحِيحَة أَقسَام مِنْهَا إلهام يلقيه الله سُبْحَانَهُ فِي قلب العَبْد وَهُوَ كَلَام يكلم بِهِ الرب عَبده فِي الْمَنَام كَمَا قَالَ عبَادَة بن الصَّامِت وَغَيره وَمِنْهَا مثل يضْربهُ لَهُ ملك الرُّؤْيَا الْمُوكل بهَا وَمِنْهَا التقاء روح النَّائِم بأرواح الْمَوْتَى من أَهله وأقاربه وَأَصْحَابه وَغَيرهم كَمَا ذكرنَا وَمِنْهَا عروج روحه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وخطا بهَا لَهُ وَمِنْهَا دُخُول روحه إِلَى الْجنَّة ومشاهدتها وَغير ذَلِك فالتقاء أَرْوَاح الْأَحْيَاء والموتى نوع من أَنْوَاع الرُّؤْيَا الصَّحِيحَة الَّتِي هِيَ عِنْد النَّاس من جنس المحسوسات

وَهَذَا مَوضِع اضْطربَ فِيهِ النَّاس فَمن قَائِل إِن الْعُلُوم كلهَا كامنة فِي النَّفس وَإِنَّمَا اشتغالها بعالم الْحس يحجب عَنْهَا مطالعتها فَإِذا تجردت بِالنَّوْمِ رَأَتْ مِنْهَا بِحَسب استعدادها وَلما كَانَ تجردها بِالْمَوْتِ أكمل كَانَت علومها ومعارفها هُنَاكَ أكمل وَهَذَا فِيهِ حق وباطل فَلَا يرد كُله وَلَا يقبل كُله فَإِن تجرد النَّفس يطْلعهَا على عُلُوم ومعارف لَا تحصل بِدُونِ التجرد لَكِن لَو تجردت كل التجرد لم تطلع على علم الله الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله وعَلى تفاصيل مَا أخبر بِهِ عَن الرُّسُل الْمَاضِيَة والأمم الخالية وتفاصيل الْمعَاد وأشراط السَّاعَة وتفاصيل الْأَمر والنهى والأسماء وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يعلم إِلَّا بالوحى وَلَكِن تجرد النَّفس عون لَهَا على معرفَة ذَلِك وتلقيه من معدنه أسهل وَأقرب وَأكْثر مِمَّا يحصل للنَّفس المنغمسة فِي الشواغل الْبَدَنِيَّة وَمن قَائِل إِن هَذِه المرائى عُلُوم علقها الله فِي النَّفس ابْتِدَاء بِلَا سَبَب وَهَذَا قَول منكرى الْأَسْبَاب وَالْحكم القوى وَهُوَ قَول مُخَالف للشَّرْع وَالْعقل والفطرة وَمن قَائِل أَن الرُّؤْيَا أَمْثَال مَضْرُوبَة يضْربهَا الله للْعَبد بِحَسب استعداده الفه على يَد ملك الرُّؤْيَا فَمرَّة يكون مثلا مَضْرُوبا وَمرَّة يكون نفس مَا رَآهُ الرائى فيطابق الْوَاقِع مُطَابقَة الْعلم لمعلومه وَهَذَا أقرب من الْقَوْلَيْنِ قبله وَلَكِن الرُّؤْيَا لَيست مَقْصُورَة عَلَيْهِ بل لَهَا أَسبَاب أخر كَمَا تقدم من ملاقاة الْأَرْوَاح وأخبار بَعْضهَا بَعْضًا وَمن إِلْقَاء الْملك الَّذِي فِي الْقلب والروع وَمن رُؤْيَة الرّوح للأشياء مكافحة بِلَا وَاسِطَة وَقد ذكر أَبُو عبد الله بن مَنْدَه الْحَافِظ فِي كتاب النَّفس وَالروح من حَدِيث مُحَمَّد بن حميد حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مغراء الدروسى حَدثنَا الْأَزْهَر بن عبد الله الأزدى عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه قَالَ لقى عمر بن الْخطاب على بن أَبى طَالب فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الْحسن رُبمَا شهِدت وغبنا وَشَهِدْنَا وغبت ثَلَاث أَسأَلك عَنْهُن عنْدك مِنْهُنَّ علم فَقَالَ على ابْن أَبى طَالب وَمَا هن فَقَالَ الرجل يحب الرجل وَلم ير مِنْهُ خيرا وَالرجل يبغض الرجل وَلم ير مِنْهُ شرا فَقَالَ على نعم سَمِعت رَسُول الله يَقُول إِن الْأَرْوَاح جنود مجندة تلتقى فِي الْهَوَاء فتشأم فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف فَقَالَ عمر وَاحِدَة قَالَ عمر وَالرجل يحدث الحَدِيث إِذْ نَسيَه فَبينا هُوَ وَمَا نَسيَه إِذْ ذكره فَقَالَ نعم سَمِعت رَسُول الله يَقُول مَا فِي الْقُلُوب قلب إِلَّا وَله سَحَابَة كسحابة الْقَمَر بَينا الْقَمَر مضيء إِذا تجللته سَحَابَة الظُّلم إِذا تجلت فأضاء وَبينا الْقلب يتحدث إِذْ تجللته سَحَابَة فنسى إِذْ تجلت عَنهُ فيذكر قَالَ عمر اثْنَتَانِ قَالَ وَالرجل يرى الرُّؤْيَا فَمِنْهَا مَا يصدق وَمِنْهَا مَا يكذب

فَقَالَ نعم سَمِعت رَسُول الله يَقُول مَا من عبد ينَام يتملىء نوما إِلَّا عرج بِرُوحِهِ إِلَى الْعَرْش فالذى لَا يَسْتَيْقِظ دون الْعَرْش فَتلك الرُّؤْيَا الَّتِي تصدق وَالَّذِي يَسْتَيْقِظ دون الْعَرْش فَهِيَ الَّتِي تكذب فَقَالَ عمر ثَلَاث كنت فِي طلبهن فَالْحَمْد لله الَّذِي أصبتهن قبل الْمَوْت وَقَالَ بغية بن الْوَلِيد حَدثنَا صَفْوَان بن عَمْرو عَن سليم بن عَامر الحضرمى قَالَ قَالَ عمر بن الْخطاب عجبت لرؤيا الرجل يرى الشَّيْء لم يخْطر لَهُ على بَال فَيكون كآخذ بيد وَيرى الشَّيْء فَلَا يكون شَيْئا فَقَالَ على بن أَبى طَالب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول الله عز وَجل {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى} قَالَ والأرواح يعرج بهَا فِي منامها فَمَا رَأَتْ وَهِي فِي السَّمَاء فَهُوَ الْحق فَإِذا ردَّتْ إِلَى أجسادها تلقتها الشَّيَاطِين فِي الْهَوَاء فكذبتها فَمَا رَأَتْ من ذَلِك فَهُوَ الْبَاطِل قَالَ فَجعل عمر يتعجب من قَول عَليّ قَالَ ابْن مَنْدَه هَذَا خبر مَشْهُور عَن صَفْوَان بن عَمْرو وَغَيره وروى عَن أَبى الدَّرْدَاء وَذكر الطبرانى من حَدِيث على بن أَبى طَلْحَة أَن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ لعمر بن الْخطاب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَشْيَاء أَسأَلك عَنْهَا قَالَ سل عَمَّا شِئْت قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مِم يذكر الرجل ومم ينسى ومم تصدق الرُّؤْيَا ومم تكذب فَقَالَ لَهُ عمر إِن على الْقلب طخاوة كطخاوة الْقَمَر فَإِذا تغشت الْقلب نسى ابْن آدم فَإِذا انجلت ذكر مَا كَانَ نسى وَأما مِم تصدق الرُّؤْيَا ومم تكذب فَإِن الله عز وَجل يَقُول {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} فَمن دخل مِنْهَا فِي ملكوت السَّمَاء فهى الَّتِي تصدق وَمَا كَانَ مِنْهَا دون ملكوت السَّمَاء فَهِيَ الَّتِي تكذب وروى ابْن لَهِيعَة عَن عُثْمَان بن نعيم الرعينى عَن أَبى عُثْمَان الاصبحى عَن أَبى الدَّرْدَاء قَالَ إِذا نَام الْإِنْسَان عرج بِرُوحِهِ حَتَّى يُؤْتى بهَا الْعَرْش فَإِن كَانَ طَاهِرا أذن لَهَا بِالسُّجُود وَإِن كَانَ جنبا لم يُؤذن لَهَا بِالسُّجُود وروى جَعْفَر بن عون عَن إِبْرَاهِيم الهجرى عَن أَبى الْأَحْوَص عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ إِن الْأَرْوَاح جنود مجندة تتلاقى فتشأم كَمَا تشأم الْخَيل فَمَا تعارف منا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف وَلم يزل النَّاس قَدِيما وحديثا تعرف هَذَا وتشاهده قَالَ جميل بن معمر العذرى أظل نهاري مستهاما وتلتقى ... مَعَ اللَّيْل روحى فِي الْمَنَام وروحها فَإِن قيل فالنائم يرى غَيره من الْأَحْيَاء يحدثه ويخاطبه وَرُبمَا كَانَ بَينهمَا مَسَافَة بعيدَة وَيكون

المرئى يقظان روحه لم تفارق جسده فَكيف الْتَقت روحاهما قيل هَذَا إِمَّا أَن يكون مثلا مَضْرُوبا ضربه ملك الرُّؤْيَا للنائم أَو يكون حَدِيث نفس من الرائى تجرد لَهُ فِي مَنَامه كَمَا قَالَ حبيب بن أَوْس سقيا لطيفك من زور أَتَاك بِهِ ... حَدِيث نَفسك عَنهُ وَهُوَ مَشْغُول وَقد تتناسب الروحان وتشتد علاقَة احداهما بِالْأُخْرَى فيشعر كل مِنْهُمَا بِبَعْض مَا يحدث لصَاحبه وَإِن لم يشْعر بِمَا يحدث لغيره لشدَّة العلاقة بَينهمَا وَقد شَاهد النَّاس من ذَلِك عجائب وَالْمَقْصُود أَن أَرْوَاح الْأَحْيَاء تتلاقى فِي النّوم كَمَا تتلاقى أَرْوَاح الْأَحْيَاء والأموات قَالَ بعض السّلف أَن الْأَرْوَاح تتلاقى فِي الْهَوَاء فتتعارف أَو تتذاكر فيأتيها ملك الرُّؤْيَا بِمَا هُوَ لاقيها من خير أَو شَرّ قَالَ وَقد وكل الله بالرؤيا الصادقة ملكا علمه وألهمه معرفَة كل نفس بِعَينهَا وَاسْمهَا ومتقلبها فِي دينهَا ودنياها وطبعها ومعارفها لَا يشْتَبه عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْء وَلَا يغلط فِيهَا فَتَأْتِيه نُسْخَة من علم غيب الله من أم الْكتاب بِمَا هُوَ مُصِيب لهَذَا الْإِنْسَان من خير وَشر فِي دينه ودنياه وَيضْرب لَهُ فِيهَا الْأَمْثَال والأشكال على قدر عَادَته فَتَارَة يبشره بِخَير قدمه أَو يقدمهُ وينذره من مَعْصِيّة ارتكبها أَو هم بهَا ويحذره من مَكْرُوه انْعَقَدت أَسبَابه ليعارض تِلْكَ الْأَسْبَاب بِأَسْبَاب تدفعها ولغير ذَلِك من الحكم والمصالح الَّتِي جعلهَا الله فِي الرُّؤْيَا نعْمَة مِنْهُ وَرَحْمَة وإحسانا وتذكيرا وتعريفا وَجعل أحد طرق ذَلِك تلاقى الْأَرْوَاح وتذاكرها وتعارفها وَكم مِمَّن كَانَت تَوْبَته وصلاحه وزهده واقباله على الْآخِرَة عَن مَنَام رَآهُ أَو رئى لَهُ وَكم مِمَّن اسْتغنى وَأصَاب كنزا دَفِينا عَن مَنَام وَفِي كتاب المجالسة لأبى بكر أَحْمد بن مَرْوَان المالكى عَن ابْن قُتَيْبَة عَن أَبى حَاتِم عَن الْأَصْمَعِي عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَمَّن حَدثهُ قَالَ خرجنَا مرّة فِي سفر وَكُنَّا ثَلَاثَة نفر فَنَامَ أَحَدنَا فَرَأَيْنَا مثل الْمِصْبَاح خرج من أَنَفَة فَدخل غارا قَرِيبا مِنْهُ ثمَّ رَجَعَ فَدخل أَنفه فأستيقظ يمسح وَجهه وَقَالَ رَأَيْت عجبا رَأَيْت فِي هَذَا الْغَار كَذَا وَكَذَا فدخلناه فَوَجَدنَا فِيهِ بَقِيَّة من كنز كَانَ وَهَذَا عبد الْمطلب دلّ فِي النّوم على زَمْزَم وَأصَاب الْكَنْز الذى كَانَ هُنَاكَ وَهَذَا عُمَيْر بن وهب أَتَى فِي مَنَامه فَقيل لَهُ قُم إِلَى مَوضِع كَذَا وَكَذَا من الْبَيْت فأحفره تَجِد مَال أَبِيك وَكَانَ أَبوهُ قد دفن مَالا وَمَات وَلم يوص بِهِ فَقَامَ عُمَيْر من نَومه فأحتفر حَيْثُ أمره فَأصَاب عشرَة آلَاف دِرْهَم وتبرا كثيرا فَقضى دينه وَحسن حَاله وَحَال أهل بَيته وَكَانَ ذَلِك عقب إِسْلَامه فَقَالَت لَهُ الصُّغْرَى من بَنَاته يَا أَبَت رَبنَا هَذَا الَّذِي حيانا بِدِينِهِ خير من هُبل والعزى وَلَوْلَا أَنه كَذَلِك مَا ورثك هَذَا المَال وَإِنَّمَا عبدته أَيَّامًا قَلَائِل

قَالَ عَليّ بن أبي طَالب القيروانى العابر وَمَا حَدِيث عُمَيْر هَذَا واستخراجه المَال بالمنام بِأَعْجَب مِمَّا كَانَ عندنَا وشاهدناه فِي عصرنا بمدينتنا من أَبى مُحَمَّد عبد الله البغانشى وَكَانَ رجلا صَالحا مَشْهُورا بِرُؤْيَة الْأَمْوَات وسؤالهم عَن الغائبات وَنَقله ذَلِك إِلَى أهلهم وقراباتهم حَتَّى اشْتهر بذلك وَكثر مِنْهُ فَكَانَ الْمَرْء يَأْتِيهِ فيشكو إِلَيْهِ أَن حميمه قد مَاتَ من غير وَصِيَّة وَله مَال لَا يهتدى إِلَى مَكَانَهُ فيعده خيرا وَيَدْعُو الله تَعَالَى فِي ليلته فيترا آلَة الْمَيِّت الْمَوْصُوف فيسأله عَن الْأَمر فيخبره بِهِ فَمن نوادره ان امْرَأَة عجوزا من الصَّالِحَات توفيت وَلَا مرأة عِنْدهَا سَبْعَة دَنَانِير وَدِيعَة فَجَاءَت إِلَيْهِ صَاحِبَة الْوَدِيعَة وَشَكتْ إِلَيْهِ مَا نزل بهَا وأخبرته بأسمها وَاسم الْميتَة صاحبتها ثمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ من الْغَد فَقَالَ لَهَا تَقول لَك فُلَانَة عدى من سقف بيتى سبع خشبات تجدى الدَّنَانِير فِي السَّابِعَة فِي خرقَة صوف فَفعلت ذَلِك فَوَجَدتهَا كَمَا وصف لَهَا وَقَالَ وأخبرنى رجل لَا أَظن بِهِ كدبا استأجرتني امْرَأَة من أهل الدُّنْيَا على هدم دَار لَهَا وبنائها بِمَال مَعْلُوم فَلَمَّا أخذت فِي الْهدم لَزِمت الفعلة هى وَمن مَعهَا فَقلت مَالك قَالَت وَالله مالى إِلَى هدم هَذِه الدَّار من حَاجَة لَكِن أَبى مَاتَ وَكَانَ ذَا يسَار كثير فَلم نجد لَهُ كثير شَيْء فخلت أَن مَاله مدفون فعمدت إِلَى هدم الدَّار لعلى أجد شَيْئا فَقَالَ لَهَا بعض من حضر لقد فاتك مَا هُوَ أَهْون عَلَيْك من هَذَا قَالَت وَمَا هُوَ قَالَ فلَان تمضين إِلَيْهِ وتسألينه أَن يبيت قصتك اللَّيْلَة فَلَعَلَّهُ يرى أَبَاك فيدلك على مَكَان مَاله بِلَا تَعب وَلَا كلفة فَذَهَبت إِلَيْهِ ثمَّ عَادَتْ إِلَيْنَا فَزَعَمت أَنه كتب اسْمهَا وَاسم أَبِيهَا عِنْده فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بكرت إِلَى الْعَمَل وَجَاءَت الْمَرْأَة من عِنْد الرجل فَقَالَت ان الرجل قَالَ لى رَأَيْت أَبَاك وَهُوَ يَقُول المَال فِي الحنية قَالَ فَجعلنَا نحفر تَحت الحنية وَفِي جوانبها حَتَّى لَاحَ لي شقّ وَإِذا المَال فِيهِ قَالَ فأخذنا فِي التَّعَجُّب وَالْمَرْأَة تستخف بِمَا وجدت وَتقول مَال أَبى كَانَ أَكثر من هَذَا ولكنى أَعُود إِلَيْهِ فمضت فأعلمته ثمَّ سَأَلته المعاودة فَلَمَّا كَانَ من الْغَد أَتَت وَقَالَت انه قَالَ لَهَا أَن أَبَاك يَقُول لَك احفرى تَحت الْجَابِيَة المربعة الَّتِي فِي مخزن الزَّيْت قَالَ ففتحت المخزن فَإِذا بجابية مربعة فِي الرُّكْن فأزلناها وحفرنا تحتهَا فَوَجَدنَا كوزا كَبِيرا فَأَخَذته ثمَّ دَامَ بهَا الطمع فِي المعاودة فَفعلت فَرَجَعت من عِنْده وَعَلَيْهَا الكآبة فَقَالَت زعم انه رَآهُ وَهُوَ يَقُول لَهُ قد أخذت مَا قدر لَهَا وَأما مَا بقى فقد جلس عَلَيْهِ عفريت من الْجِنّ يَحْرُسهُ إِلَى من قدر لَهُ والحكايات فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة جدا

المسألة الرابعة وهي أن الروح هل تموت أم الموت للبدن وحده اختلف

وَأما من حصل لَهُ الشِّفَاء بإستعمال دَوَاء رأى من وَصفه لَهُ فِي مَنَامه فكثير جدا وَقد حَدَّثَنى غير وَاحِد مِمَّن كَانَ غير مائل إِلَيّ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية أَنه رَآهُ بعد مَوته وَسَأَلَهُ عَن شَيْء كَانَ يشكل عَلَيْهِ من مسَائِل الْفَرَائِض وَغَيرهَا فَأَجَابَهُ بِالصَّوَابِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا أَمر لَا يُنكره إِلَّا من هُوَ أَجْهَل النَّاس بالأرواح وأحكامها وشأنها وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة وَهِي أَن الرّوح هَل تَمُوت أم الْمَوْت للبدن وَحده اخْتلف النَّاس فِي هَذَا فَقَالَت طَائِفَة تَمُوت الرّوح وتذوق الْمَوْت لِأَنَّهَا نفس وكل نفس ذائقة الْمَوْت قَالُوا وَقد دلّت الْأَدِلَّة على أَنه لَا يبْقى إِلَّا الله وَحده قَالَ تَعَالَى {كل من عَلَيْهَا فان وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} وَقَالَ تَعَالَى {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} قَالُوا وَإِذا كَانَت الْمَلَائِكَة تَمُوت فالنفوس البشرية أولى بِالْمَوْتِ قَالُوا وَقد قَالَ تَعَالَى عَن أهل النَّار أَنهم قَالُوا {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} فالموتة الأولى هَذِه المشهودة وَهِي للبدن وَالْأُخْرَى للروح وَقَالَ آخَرُونَ لَا تَمُوت الْأَرْوَاح فَإِنَّهَا خلقت للبقاء وَإِنَّمَا تَمُوت الْأَبدَان قَالُوا وَقد دلّت على هَذَا الْأَحَادِيث الدَّالَّة على نعيم الْأَرْوَاح وعذابها بعد الْمُفَارقَة إِلَى أَن يرجعها الله فِي أجسادها وَلَو مَاتَت الْأَرْوَاح لانقطع عَنْهَا النَّعيم وَالْعَذَاب وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله ويستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم} هَذَا مَعَ الْقطع بِأَن أَرْوَاحهم قد فَارَقت أَجْسَادهم وَقد ذاقت الْمَوْت وَالصَّوَاب أَن يُقَال موت النُّفُوس هُوَ مفارقتها لأجسادها وخروجها مِنْهَا فَإِن أُرِيد بموتها هَذَا الْقدر فَهِيَ ذائقة الْمَوْت وَإِن أُرِيد أَنَّهَا تعدم وتضمحل وَتصير عدما مَحْضا فهى لَا تَمُوت بِهَذَا الِاعْتِبَار بل هِيَ بَاقِيَة بعد خلقهَا فِي نعيم أَو فِي عَذَاب كَمَا سيأتى ان شَاءَ الله تَعَالَى بعد هَذَا وكما صرح بِهِ النَّص انها كَذَلِك حَتَّى يردهَا الله فِي جَسدهَا وَقد نظم أَحْمد بن الْحُسَيْن الكندى هَذَا الِاخْتِلَاف فِي قَوْله تنَازع النَّاس حَتَّى لااتفاق لَهُم ... إِلَّا على شجب وَالْخلف فِي الشجب فَقيل تخلص نفس الْمَرْء سَالِمَة ... وَقيل تشرك جسم الْمَرْء فِي العطب

فَإِن قيل فَعِنْدَ النفخ فِي الصُّور هَل تبقى الْأَرْوَاح حَيَّة كَمَا هِيَ أَو تَمُوت ثمَّ تحيا قيل قد قَالَ تَعَالَى وَنفخ فِي الصُّور فَصعِقَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله فقد اسْتثْنى الله سُبْحَانَهُ بعض من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض من هَذَا الصَّعق فَقيل هم الشُّهَدَاء هَذَا قَول أَبى هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وَقيل هم جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت وَهَذَا قَول مقَاتل وَغَيره وَقيل هم الَّذين فِي الْجنَّة من الْحور الْعين وَغَيرهم وَمن فِي النَّار من أهل الْعَذَاب وخزنتها قَالَه أَبُو إِسْحَق بن شاقلا من أَصْحَابنَا وَقد نَص الإِمَام أَحْمد على أَن الْحور الْعين والولدان لَا يمتن عِنْد النفخ فِي الصُّور وَقد أخبر سُبْحَانَهُ أَن أهل الْجنَّة {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} وَهَذَا نَص على أَنهم لَا يموتون غير تِلْكَ الموتة الأولى فَلَو مَاتُوا مرّة ثَانِيَة لكَانَتْ موتتان وَأما قَول أهل النَّار {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} فتفسير هَذِه الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} فَكَانُوا أَمْوَاتًا وهم نطف فِي أصلاب آبَائِهِم وَفِي أَرْحَام أمهاتهم ثمَّ أحياهم بعد ذَلِك ثمَّ أماتهم ثمَّ يحييهم يَوْم النشور وَلَيْسَ فِي ذَلِك اماتة أَزوَاجهم قبل يَوْم الْقِيَامَة وَإِلَّا كَانَت ثَلَاث موتات وصعق الْأَرْوَاح عِنْد النفخ فِي الصُّور وَلَا يلْزم مِنْهُ مَوتهَا فَفِي الحَدِيث لصحيح ان النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة فَأَكُون أول من يفِيق فَإِذا مُوسَى آخذ بقائمة الْعَرْش فَلَا أدرى افاق قبلى أم جوزى بصعقة يَوْم الطّور فَهَذَا صعق فِي موقف الْقِيَامَة إِذا جَاءَ الله تَعَالَى لفصل الْقَضَاء وأشرقت الأَرْض بنوره فَحِينَئِذٍ تصعق الْخَلَائق كلهم قَالَ تَعَالَى {فذرهم حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي فِيهِ يصعقون} وَلَو كَانَ هَذَا الصَّعق موتا لكَانَتْ موتَة أُخْرَى وَقد تنبه لهَذَا جمَاعَة من الْفُضَلَاء فَقَالَ أَبُو عبد الله القرطبى ظَاهر هَذَا الحَدِيث ان هَذِه صعقة غشى تكون يَوْم الْقِيَامَة لاصعقة الْمَوْت الْحَادِثَة عَن نفخ الصُّور قَالَ وَقد قَالَ شَيخنَا أَحْمد بن عَمْرو وَظَاهر حَدِيث النَّبِي يدل على أَن هَذِه الصعقة إِنَّمَا هِيَ بعد النفخة الثَّانِيَة نفخة الْبَعْث وَنَصّ الْقُرْآن يقتضى أَن ذَلِك الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا هُوَ بعد نفخة الصَّعق وَلما كَانَ هَذَا قَالَ بعض الْعلمَاء يحْتَمل أَن يكون مُوسَى مِمَّن لم يمت من الْأَنْبِيَاء وَهَذَا بَاطِل وَقَالَ القَاضِي عِيَاض يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهَذِهِ صعقة فزع بعد النشور حِين تَنْشَق السَّمَوَات وَالْأَرْض قَالَ فتستقل الْأَحَادِيث والْآثَار ورد عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاس القرطبى فَقَالَ يرد هَذَا قَوْله فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنه حِين يخرج من قَبره يلقى مُوسَى آخِذا بقائمة الْعَرْش قَالَ وَهَذَا إِنَّمَا عِنْد نفخة الْفَزع

قَالَ أَبُو عبد الله وَقَالَ شَيخنَا أَحْمد بن عَمْرو الَّذِي يزيح هَذَا الاشكال إِن شَاءَ الله تَعَالَى ان الْمَوْت لَيْسَ بِعَدَمِ مَحْض وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَال من حَال إِلَى حَال وَيدل على ذَلِك أَن الشُّهَدَاء بعد قَتلهمْ وموتهم أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين مستبشرين وَهَذِه صفة الْأَحْيَاء فِي الدُّنْيَا وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الشُّهَدَاء كَانَ الْأَنْبِيَاء بذلك أَحَق وَأولى مَعَ أَنه قد صَحَّ عَن النَّبِي أَن الأَرْض لَا تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء وَأَنه اجْتمع بالأنبياء لَيْلَة الْإِسْرَاء فِي بَيت الْمُقَدّس وَفِي السَّمَاء وخصوصا بمُوسَى وَقد أخبر بِأَنَّهُ مَا من مُسلم يسلم عَلَيْهِ إِلَّا رد الله عَلَيْهِ روحه حَتَّى يرد عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يحصل من جملَته الْقطع بِأَن أَمُوت لأنبياء إِنَّمَا هُوَ رَاجع إِلَى أَن غَيَّبُوا عَنَّا بِحَيْثُ لَا ندركهم وَإِن كَانُوا موجودين جَاءُوا ذَلِك كالحال فِي الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُم أَحيَاء موجودون وَلَا تراهم وَإِذا تقرر أَنهم أَحيَاء فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة الصَّعق صعق كل من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله فَأَما صعق غير الْأَنْبِيَاء فموت وَأما صعق الْأَنْبِيَاء فَالْأَظْهر أَنه غشية فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة الْبَعْث فَمن مَاتَ حى وَمن غشى عَلَيْهِ أَفَاق وَلذَلِك قَالَ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته فَأَكُون أول من يفِيق فنبينا أول من يخرج من قَبره قبل جَمِيع النَّاس إِلَّا مُوسَى فَإِنَّهُ حصل فِيهِ تردد هَل بعث قبله من غَشيته أَو بقى على الْحَالة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قبل نفخة الصَّعق مفيقا لِأَنَّهُ حُوسِبَ بصعقة يَوْم الطّور وَهَذِه فَضِيلَة عَظِيمَة لمُوسَى وَلَا يلْزم من فَضِيلَة وَاحِدَة أفضليته على نَبينَا مُطلقًا لِأَن الشَّيْء الجزئي لَا يُوجب أمرا كليا انْتهى قَالَ أَبُو عبد الله الْقُرْطُبِيّ ان حمل الحَدِيث على صعقة الْخلق يَوْم الْقِيَامَة فَلَا إِشْكَال وَإِن حمل على صعقة الْمَوْت عِنْد النفخ فِي الصُّور فَيكون ذكر يَوْم الْقِيَامَة يُرَاد بِهِ أَوَائِله فَالْمَعْنى إِذا نفخ فِي الصُّور نفخة الْبَعْث كنت أول من يرفع رَأسه فَإِذا مُوسَى آخذ بقائمة من قَوَائِم الْعَرْش فَلَا أدرى أَفَاق قبلى أم جوزى بصعقة الطّور قلت وَحمل الحَدِيث ع لى هَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ ترد هَل أَفَاق مُوسَى قبله أم لم يصعق بل جوزى بصعقة الطّور فَالْمَعْنى لَا أدرى أصعق أم لم يصعق وَقد قَالَ فِي الحَدِيث فَأَكُون أول من يفِيق وَهَذَا يدل على أَنه يصعق فِيمَن يصعق وان التَّرَدُّد حصل فِي مُوسَى هَل صعق وأفاق قبله من صعقته أم لم يصعق وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ الصعقة الأولى وَهِي صعقة الْمَوْت لَكَانَ قد جزم بِمَوْتِهِ وَتردد هَل مَاتَ مُوسَى أم لم يمت وَهَذَا بَاطِل لوجوه كَثِيرَة فَعلم أَنَّهَا صعقة فزع لاصعقة موت وَحِينَئِذٍ فَلَا تدل الْآيَة على أَن الْأَرْوَاح كلهَا تَمُوت عِنْد النفخة الأولى نعم تدل على أَن موت الْخَلَائق عِنْد النفخة الأولى وكل من لم يذقْ الْمَوْت قبلهَا فَإِنَّهُ يذوقه حِينَئِذٍ وَأما من ذاق الْمَوْت أَو من لم يكْتب عَلَيْهِ الْمَوْت فَلَا تدل الْآيَة على أَنه يَمُوت موتَة ثَانِيَة وَالله أعلم

فَإِن قيل فَكيف تَصْنَعُونَ بقوله فِي الحَدِيث إِن النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة فَأَكُون أول من تَنْشَق عَلَيْهِ الأَرْض فأجد مُوسَى باطشا بقائمة الْعَرْش قيل لَا ريب أَن هَذَا اللَّفْظ قد ورد هَكَذَا وَمِنْه نَشأ الاشكال وَلكنه دخل فِيهِ على الرواى حَدِيث فِي حَدِيث فَركب بَين اللَّفْظَيْنِ فجَاء هَذَا وَالْحَدِيثَانِ هَكَذَا أَحدهمَا ان النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة فَأَكُون أول من يفِيق وَالثَّانِي هَكَذَا أَنا أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة فَفِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره من حَدِيث ابى سعيد الخدرى قَالَ قَالَ رَسُول الله أَنا سيد ولد آدم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا فَخر وبيدى لِوَاء الْحَمد وَلَا فَخر وَمَا من نَبِي يَوْمئِذٍ آدم فَمن سواهُ إِلَّا تَحت لِوَائِي وَأَنا أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض وَلَا فَخر قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح فَدخل على الراوى هَذَا الحَدِيث فِي الحَدِيث الآخر وَكَانَ شَيخنَا أَبُو الْحجَّاج الْحَافِظ يَقُول ذَلِك فَإِن قيل فَمَا تَصْنَعُونَ بقوله فَلَا أدرى أَفَاق قبلى أم كَانَ مِمَّن اسْتثْنى الله عز وَجل وَالَّذين استثناهم الله إِنَّمَا هم مستثنون من صعقة النفخة لَا من صعقة يَوْم الْقِيَامَة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَنفخ فِي الصُّور فَصعِقَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله وَلم يَقع الِاسْتِثْنَاء من صعقة الْخَلَائق يَوْم الْقِيَامَة قيل هَذَا وَالله أعلم غير مَحْفُوظ وَهُوَ وهم من بعض الروَاة وَالْمَحْفُوظ مَا تواطأت الرِّوَايَات الصَّحِيحَة من قَوْله فَلَا أدرى أَفَاق قبلى أم جوزى بصعقة الطّور فَظن بعض الروَاة ان هَذِه الصعقة هِيَ صعقة النفخة وَأَن مُوسَى دَاخل فِيمَن اسْتثْنى مِنْهَا وَهَذَا لَا يلتئم على مساق الحَدِيث قطعا فَإِن الْإِفَاقَة حِينَئِذٍ هِيَ إفاقة الْبَحْث فَكيف يَقُول لَا أدرى أبْعث قبلى أم جوزى بصعقة الطّور فَتَأَمّله وَهَذَا بِخِلَاف الصعقة الَّتِي يصعقها الْخَلَائق يَوْم الْقِيَامَة إِذا جَاءَ الله سُبْحَانَهُ لفصل الْقَضَاء بَين الْعباد وتجلى لَهُم فَإِنَّهُم يصعقون جَمِيعًا وَأما مُوسَى فَإِن كَانَ لم يصعق مَعَهم فَيكون قد حُوسِبَ بصعقته يَوْم تجلى ربه للجبل فَجعله دكا فَجعلت صعقة هَذَا التجلى عوضا من صعقة الْخَلَائق لتجلى الرب يَوْم الْقِيَامَة فَتَأمل هَذَا الْمَعْنى الْعَظِيم وَلَو لم يكن فِي الْجَواب إِلَّا كشف هَذَا الحَدِيث وشأنه لَكَانَ حَقِيقا ان يعَض عَلَيْهِ بالنواجذ وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَبِه التَّوْفِيق

المسألة الخامسة وهي أن الأرواح بعد مفارقة الأبدان إذا تجردت بأى شيء

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة وَهِي أَن الْأَرْوَاح بعد مُفَارقَة الْأَبدَان إِذا تجردت بأى شَيْء يتَمَيَّز بَعْضهَا من بعض حَتَّى تتعارف وتتلاقى وَهل تشكل إِذا تجردت بشكل بدنهَا الَّذِي كَانَت فِيهِ وتلبس صورته أم كَيفَ يكون حَالهَا هَذِه مَسْأَلَة لَا تكَاد تَجِد من تكلم فِيهَا وَلَا يظفر فِيهَا من كتب النَّاس بطائل وَلَا غير طائل وَلَا سِيمَا على أصُول من يَقُول بِأَنَّهَا مُجَرّدَة عَن الْمَادَّة وعلائقها وَلَيْسَت بداخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا لَهَا شكل وَلَا قدر وَلَا شخص فَهَذَا السُّؤَال على أصولهم مِمَّا لَا جَوَاب لَهُم عَنهُ وَكَذَلِكَ من يَقُول هِيَ عرض من أَعْرَاض الْبدن فتميزها عَن غَيرهَا مَشْرُوط بقيامها ببدنها فَلَا تميز لَهَا بعد الْمَوْت بل لَا وجود لَهَا على أصولهم بل تعدم وَتبطل بإضمحلال الْبدن كَمَا تبطل سَائِر صِفَات الحى وَلَا يُمكن جَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا على أصُول أهل السّنة الَّتِي تظاهرت عَلَيْهَا أَدِلَّة الْقُرْآن وَالسّنة والْآثَار وَالِاعْتِبَار وَالْعقل وَالْقَوْل أَنَّهَا ذَات قَائِمَة بِنَفسِهَا تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وَتخرج وَتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن وعَلى هَذَا أَكثر من مائَة دَلِيل قد ذَكرنَاهَا فِي كتَابنَا الْكَبِير فِي معرفَة الرّوح وَالنَّفس وَبينا بطلَان مَا خَالف هَذَا القَوْل من وُجُوه كَثِيرَة وَإِن من قَالَ غَيره لم يعرف نَفسه وَقد وصفهَا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالدُّخُولِ وَالْخُرُوج وَالْقَبْض والتوفي وَالرُّجُوع وصعودها إِلَى السَّمَاء وَفتح أَبْوَابهَا لَهَا وغلقها عَنْهَا فَقَالَ تَعَالَى {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي} وَهَذَا يُقَال لَهَا عِنْد الْمُفَارقَة للجسد وَقَالَ تَعَالَى {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} فَأخْبر أَنه سوى النَّفس كَمَا أخبر أَنه سوى الْبدن فِي قَوْله {الَّذِي خلقك فسواك فعدلك} فَهُوَ سُبْحَانَهُ سوى نفس الْإِنْسَان كَمَا سوى بدنه بل سوى بدنه كالقالب لنَفسِهِ فتسوية الْبدن تَابع لتسوية النَّفس وَالْبدن مَوْضُوع لَهَا كالقالب لما هُوَ مَوْضُوع لَهُ وَمن هَا هُنَا يعلم أَنَّهَا تَأْخُذ من بدنهَا صُورَة تتَمَيَّز بهَا عَن غَيرهَا فَإِنَّهَا تتأثر وتنتقل عَن الْبدن كَمَا يتأثر الْبدن وينتقل عَنْهَا فيكتسب الْبدن الطّيب والخبث من طيب النَّفس وخبثها وتكتسب النَّفس الطّيب والخبث من طيب الْبدن وخبثه فأشد الْأَشْيَاء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أَحدهمَا بِالْآخرِ الرّوح وَالْبدن وَلِهَذَا يُقَال لَهَا عِنْد الْمُفَارقَة اخْرُجِي أيتها النَّفس الطّيبَة كَانَت فِي الْجَسَد الطّيب النَّفس واخرجي أيتها النَّفس الخبيثة كَانَت فِي الْجَسَد الْخَبيث

وَقَالَ الله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى} فوصفها بالتوفي والامساك والارسال كَمَا وصفهَا بِالدُّخُولِ وَالْخُرُوج وَالرُّجُوع والتسوية وَقد أخبر النَّبِي أَن بصر الْمَيِّت يتبع نَفسه إِذا قبضت وَأخْبر أَن الْملك يقبضهَا فتأخذها الْمَلَائِكَة من يَده فيوجد لَهَا كأطيب نفخة مسك وجدت على وَجه الارض أَو كأنتن ريح جيفة وجدت على وَجه الأَرْض والأعراض لَا ريح لَهَا وَلَا تمسك وَلَا تُؤْخَذ من يَد إِلَى يَد وَأخْبر أَنَّهَا تصعد إِلَى السَّمَاء وَيصلى عَلَيْهَا كل ملك لله بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَأَنَّهَا تفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء فتصعد من سَمَاء إِلَى سَمَاء حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الله عز وَجل فتوقف بَين يَدَيْهِ وَيَأْمُر بِكِتَابَة اسْمه فِي ديوَان أهل عليين أَو ديوَان أهل سِجِّين ثمَّ ترد إِلَى الأَرْض وَإِن روح الْكَافِر تطرح طرحا وَأَنَّهَا تدخل مَعَ الْبدن فِي قبرها للسؤال وَقد أخبر النَّبِي بِأَن نسمَة الْمُؤمن وَهِي روحه طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة حَتَّى يردهَا الله إِلَى جَسدهَا وَأخْبر أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر ترد أَنهَار الْجنَّة وتأكل من ثمارها وَأخْبر أَن الرّوح تنعم وتعذب فِي البزخ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد أخبر سُبْحَانَهُ عَن أَرْوَاح قوم فِرْعَوْن أَنَّهَا تعرض على النَّار غدوا وعشيا قبل يَوْم الْقِيَامَة وَقد أخبر سُبْحَانَهُ عَن الشُّهَدَاء بِأَنَّهُم أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ وَهَذِه حَيَاة أرواحم وَرِزْقهَا دَار وَإِلَّا فالأبدان قد تمزقت وَقد فسر رَسُول الله هَذِه الْحَيَاة بِأَن أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر لَهَا قناديل معلقَة بالعرش تسرح من الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت ثمَّ تأوى إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل فَأطلع إِلَيْهِم رَبهم اطلاعة فَقَالَ هَل تشتهون شَيْئا قَالُوا أَي شَيْء نشتهي وَنحن نَسْرَح من الْجنَّة حَيْثُ شِئْنَا فعل بهم ذَلِك ثَلَاث مَرَّات فَلَمَّا رَأَوْا أَنهم لن يتْركُوا من أَن يسْأَلُوا قَالُوا نُرِيد أَن ترد أَرْوَاحنَا فِي أَجْسَادنَا حَتَّى نقْتل فِي سَبِيلك مرّة أُخْرَى وَصَحَّ عَنهُ أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي طير خضر تعلق من ثَمَر الْجنَّة وَتعلق بِضَم اللَّام أى تَأْكُل الْعلقَة وَقَالَ ابْن عَبَّاس قَالَ رَسُول الله لما أُصِيب إخْوَانكُمْ بِأحد جعل الله أَرْوَاحهم فِي أَجْوَاف طير خضر ترد أَنهَار الْجنَّة وتأكل من ثمارها وتأوى إِلَى قناديل من ذهب فِي ظلّ الْعَرْش فَلَمَّا وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وَحسن مقيلهم قَالُوا

يَا لَيْت إِخْوَاننَا يعلمُونَ مَا صنع الله لنا لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد وَلَا ينكلُوا عَن الْحَرْب فَقَالَ الله عز وَجل أَنا أبلغهم عَنْكُم فَأنْزل الله تَعَالَى على رَسُوله {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} الْآيَات رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَهَذَا صَرِيح فِي أكلهَا وشربها وحركتها وانتقالها وكلامها وَسَيَأْتِي مزِيد تَقْرِير لذَلِك عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِذا كَانَ هَذَا شَأْن الْأَرْوَاح فتميزها بعد الْمُفَارقَة يكون أظهر من تميز الْأَبدَان والاشتباه بَينهَا أبعد من اشْتِبَاه الْأَبدَان فَإِن الْأَبدَان تشتبه كثيرا وَأما الْأَرْوَاح فَقل مَا تشتبه يُوضح هَذَا أَنا لم نشاهد أبدان الْأَنْبِيَاء وَالصَّحَابَة وَالْأَئِمَّة وهم متميزون فِي علمنَا أظهر تميز وَلَيْسَ ذَلِك التميز رَاجعا إِلَى مُجَرّد أبدانهم وَإِن ذكر لنا من صِفَات أبدانهم مَا يخْتَص بِهِ أحدهم من الآخر بل التميز الَّذِي عندنَا بِمَا علمناه وعرفناه من صِفَات أَرْوَاحهم وَمَا قَامَ بهَا وتميز الرّوح عَن الرّوح بصفاتها أعظم من تميز الْبدن عَن الْبدن بصفاته أَلا ترى أَن بدن الْمُؤمن وَالْكَافِر قد يشتبهان كثيرا وَبَين روحيهما أعظم التباين وَالتَّمَيُّز وَأَنت ترى أَخَوَيْنِ شقيقين مشتبهين فِي الْخلقَة غَايَة الِاشْتِبَاه وَبَين روحيهما غَايَة التباين فَإِذا تجردت هَاتَانِ الروحان كَانَ تميزهما فِي غَايَة الظُّهُور وأخبرك بِأَمْر إِذا تَأَمَّلت أَحْوَال الْأَنْفس والأبدان شاهدته عيَانًا قل أَن ترى بدنا قبيحا وشكلا شنيعا إِلَّا وجدته مركبا على نفس تشاكله وتناسبه وَقل أَن ترى آفَة فِي بدن إِلَّا وَفِي روح صَاحبه آفَة تناسبها وَلِهَذَا تَأْخُذ أَصْحَاب الفراسة أَحْوَال النُّفُوس من أشكال الْأَبدَان وَأَحْوَالهَا فَقل أَن تخطئ ذَلِك ويحكى عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي ذَلِك عجائب وَقل أَن ترى شكلا حسنا وَصُورَة جميلَة وتركيبا لطيفا إِلَّا وجدت الرّوح الْمُتَعَلّقَة بِهِ مُنَاسبَة لَهُ هَذَا مَا لم يُعَارض ذَلِك مَا يُوجب خِلَافه من تعلم وتدرب واعتياد وَإِذا كَانَت الْأَرْوَاح العلوية وهم الْمَلَائِكَة متميزا بَعضهم عَن بعض من غير أجسام تحملهم وَكَذَلِكَ الْجِنّ فتميز الْأَرْوَاح البشرية أولى

المسألة السادسة وهي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة وَهِي أَن الرّوح هَل تُعَاد إِلَى الْمَيِّت فِي قَبره وَقت السُّؤَال أم لَا فقد كفانا رَسُول الله أَمر هَذِه المسالة وأغنانا عَن أَقْوَال النَّاس حَيْثُ صرح باعادة الرّوح إِلَيْهِ فَقَالَ الْبَراء بن عَازِب كُنَّا فِي جنازه فِي بَقِيع الْغَرْقَد فَأَتَانَا النَّبِي وَسلم فَقعدَ وقعدنا حوله كَأَن على رءوسنا الطير وَهُوَ يلْحد لَهُ فَقَالَ أعوذ بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ ان العَبْد إِذا كَانَ فِي اقبال من الْآخِرَة وَانْقِطَاع من الدُّنْيَا نزلت إِلَيْهِ مَلَائِكَة كَأَن وُجُوههم الشَّمْس فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مد الْبَصَر ثمَّ يَجِيء ملك الْمَوْت حَتَّى يجلس عِنْد رَأسه فَيَقُول أيتها النَّفس الطّيبَة أخرجى إِلَى مغْفرَة من الله ورضوان قَالَ فَتخرج تسيل كَمَا تسيل القطرة من فِي السقاء فيأخذها فَإِذا أَخذهَا لم يدعوها فِي يَده طرفَة عين حَتَّى يأخذوها فيجعلوها فِي ذَلِك الْكَفَن وَذَلِكَ الحنوط وَيخرج مِنْهَا كأطيب نفحة مسك وجدت على وَجه الأَرْض قَالَ فيصعدون بهَا فَلَا يَمرونَ بهَا يعْنى على مَلأ من الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرّوح الطّيب فَيَقُولُونَ فلَان ابْن فلَان بِأَحْسَن أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يسمونه فِي الدُّنْيَا حَتَّى ينْتَهوا بهَا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فيستفتحون لَهُ فَيفتح لَهُ فيشيعه من كل سَمَاء مقربوها إِلَى السَّمَاء الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الله تَعَالَى فَيَقُول الله عز وَجل اكتبوا كتاب عَبدِي فِي عليين وأعيدوه إِلَى الأَرْض فإنى مِنْهَا خلقتهمْ وفيهَا أعيدهم وَمنا أخرجهم تَارَة أُخْرَى قَالَ فتعاد روحه فِي جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فَيَقُولَانِ لَهُ من رَبك فَيَقُول رَبِّي الله فَيَقُولُونَ لَهُ مَا دينك فَيَقُول دينى الْإِسْلَام فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرجل الَّذِي بعث فِيكُم فَيَقُول هُوَ رَسُول الله فَيَقُولَانِ لَهُ وَمَا علمك بِهَذَا فَيَقُول قَرَأت كتاب الله فآمنت بِهِ وصدقت فينادى مُنَاد من السَّمَاء أَن صدق عبدى فأفرشوه من الْجنَّة وافتحوا لَهُ بَابا من الْجنَّة قَالَ فيأتيه من رِيحهَا وطيبها ويفسح لَهُ فِي قَبره مد بَصَره قَالَ ويأتيه رجل حسن الْوَجْه حسن الثِّيَاب طيب الرّيح فَيَقُول أبشر بِالَّذِي يَسُرك هَذَا يَوْمك الَّذِي كنت توعد فَيَقُول لَهُ من أَنْت فوجهك الْوَجْه الَّذِي يَجِيء بِالْخَيرِ فَيَقُول أَنا عَمَلك الصَّالح فَيَقُول رب أقِم السَّاعَة حَتَّى أرجع إِلَى أَهلِي وَمَالِي قَالَ وَإِن العَبْد الْكَافِر إِذا كَانَ فِي انْقِطَاع من الدُّنْيَا واقبال من الْآخِرَة نزل إِلَيْهِ من السَّمَاء مَلَائِكَة سود الْوُجُوه مَعَهم المسوح فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مد الْبَصَر ثمَّ يَجِيء ملك الْمَوْت حَتَّى يجلس عِنْد رَأسه فَيَقُول أيتها النَّفس الخبيثة اخْرُجِي إِلَى سخط من الله وَغَضب قَالَ فتتفرق فِي جسده فينتزعها كَمَا ينتزع السفود من الصُّوف المبلول فيأخذها فَإِذا أَخذهَا لم يدعوها فِي يَده طرفَة عين حَتَّى يجعلوها فِي تِلْكَ المسوح وَيخرج مِنْهَا كأنتن ريح جيفة

وجدت على وَجه الارض فيصعدون بهَا فَلَا يَمرونَ بهَا على مَلأ من الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرّيح الْخَبيث فَيَقُولُونَ فلَان ابْن فلَان بأقبح أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسمى بهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهِي بِهِ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فيستفتح لَهُ فَلَا يفتح ثمَّ قَرَأَ رَسُول الله {لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء وَلَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط} فَيَقُول الله عز وَجل اكتبوا كِتَابَة فِي سِجِّين فِي الأَرْض السُّفْلى فتطرح روحه طرحا ثمَّ قَرَأَ {وَمن يُشْرك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خر من السَّمَاء فتخطفه الطير أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق} فتعاد روحه فِي جسده ويأتيه ملكان فَيَقُولَانِ لَهُ من رَبك فَيَقُول هاه هاه لَا أدرى فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرجل الذى بعث فِيكُم فَيَقُول هاه هاه لَا أدرى فينادى مُنَاد من السَّمَاء ان كذب عَبدِي فأفرشوه من النَّار وافتحوا لَهُ بَابا إِلَى النَّار فيأتيه من حرهَا وسمومها ويضيق عَلَيْهِ قَبره حَتَّى تخْتَلف فِيهِ أضلاعه ويأتيه رجل قَبِيح الْوَجْه قَبِيح الثِّيَاب منتن الرّيح فَيَقُول أبشر بِالَّذِي يسوءك هَذَا يَوْمك الَّذِي كنت توعد فَيَقُول من أَنْت فوجهك الْوَجْه الَّذِي يَجِيء بِالشَّرِّ فَيَقُول أَنا عَمَلك الْخَبيث فَيَقُول رب لَا تقم السَّاعَة رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وروى النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَوله وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة الأسفرائينى فِي صَحِيحه وَذهب إِلَى القَوْل بِمُوجب هَذَا الحَدِيث جَمِيع أهل السّنة والْحَدِيث من سَائِر الطوائف وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كتاب الْملَل والنحل لَهُ وَأما من ظن أَن الْمَيِّت يحيا فِي قَبره قبل يَوْم الْقِيَامَة فخطأ ان الْآيَات الَّتِي ذَكرنَاهَا تمنع من ذَلِك يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {قَالُوا رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} وَقَوله تَعَالَى {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} قَالَ وَلَو كَانَ الْمَيِّت يحيا فِي قَبره لَكَانَ تَعَالَى قد أماتنا ثَلَاثًا وَأَحْيَانا ثَلَاثًا وَهَذَا بَاطِل وَخلاف الْقُرْآن إِلَّا من أَحْيَاهُ الله تَعَالَى آيَة لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم وَالَّذِي مر على قَرْيَة وَهِي خاوية على عروشها وَمن خصّه نَص وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى} فصح بِنَصّ الْقُرْآن أَن أَرْوَاح سَائِر من ذكرنَا لَا ترجع إِلَى جسده إِلَّا الْأَجَل الْمُسَمّى وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ أخبر رَسُول الله أَنه رأى الْأَرْوَاح لَيْلَة أسرى بِهِ عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا من عَن يَمِين آدم أَرْوَاح أهل السَّعَادَة وَعَن شِمَاله أَرْوَاح أهل الشقاوة وَأخْبر يَوْم بدر إِذْ خَاطب الْمَوْتَى أَنهم قد سمعُوا قَوْله قبل أَن تكون لَهُم قُبُور وَلم يُنكر على الصَّحَابَة قَوْلهم قد جيفوا وَاعْلَم أَنهم سامعون قَوْله مَعَ ذَلِك فصح أَن الْخطاب وَالسَّمَاع لأرواحهم فَقَط بِلَا شكّ وَأما الْجَسَد فَلَا حس لَهُ وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور}

فنفي السّمع عَمَّن فِي الْقُبُور وَهِي الاجساد بِلَا شكّ وَلَا يشك مُسلم أَن الَّذِي نفي الله عز وَجل عَنهُ السّمع هُوَ غير الَّذِي أثبت لَهُ رَسُول الله قَالَ وَلم يَأْتِ قطّ عَن رَسُول الله فِي خبر صَحِيح أَن أَرْوَاح الْمَوْتَى ترد إِلَى أَجْسَادهم عِنْد المساءلة وَلَو صَحَّ ذَلِك عَنهُ لقلنا بِهِ قَالَ وَإِنَّمَا تفرد بِهَذِهِ الزِّيَادَة من رد الْأَرْوَاح فِي الْقُبُور إِلَى الأجساد الْمنْهَال بن عَمْرو وَحده وَلَيْسَ بالقوى تَركه شُعْبَة وَغَيره وَقَالَ فِيهِ الْمُغيرَة بن مقسم الضبى وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة مَا جَازَت للمنهال بن عَمْرو قطّ شَهَادَة فِي الْإِسْلَام على مَا قد نقل وَسَائِر الْأَخْبَار الثَّابِتَة على خلاف ذَلِك قَالَ وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا هُوَ الَّذِي صَحَّ أَيْضا عَن الصَّحَابَة ثمَّ ذكر من طَرِيق بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بن صَفِيَّة عَن أمه صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت دخل ابْن عمر الْمَسْجِد فأبصر ابْن الزبير مطروحا قبل أَن يقبر فَقيل لَهُ هَذِه أَسمَاء بنت أَبى بكر الصّديق فَمَال ابْن عمر إِلَيْهَا فعزاها وَقَالَ ان هَذِه الجثث لَيست بِشَيْء وان الْأَرْوَاح عِنْد الله فَقَالَت أمه وَمَا يمنعنى وَقد أهْدى رَأس يحيى بن زَكَرِيَّا إِلَى بغى من بَغَايَا بنى اسرائيل قلت مَا ذكره أَبُو مُحَمَّد فِيهِ حق وباطل أما قَوْله من ظن أَن الْمَيِّت يحيا فِي قَبره فخطأ فَهَذَا فِيهِ إِجْمَال أَن أَرَادَ بِهِ الْحَيَاة الْمَعْهُودَة فِي الدُّنْيَا الَّتِي تقوم فِيهَا الرّوح بِالْبدنِ وتدبره وتصرفه وتحتاج مَعهَا إِلَى الطَّعَام وَالشرَاب واللباس فَهَذَا خطأ كَمَا قَالَ والحس وَالْعقل يكذبهُ كَمَا يكذبهُ النَّص وَإِن أَرَادَ بِهِ حَيَاة أُخْرَى غير هَذِه الْحَيَاة بل تُعَاد إِلَيْهِ إِعَادَة غير الْإِعَادَة المألوفة فِي الدُّنْيَا ليسأل ويمتحن فِي قَبره فَهَذَا حق ونفيه خطأ وَقد دلّ عَلَيْهِ النَّص الصَّحِيح الصَّرِيح وَهُوَ قَوْله فتعاد روحه فِي جسده وَسَنذكر الْجَواب عَن تَضْعِيفه للْحَدِيث إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما استدلاله بقوله تَعَالَى {قَالُوا رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} فَلَا يَنْفِي ثُبُوت هَذِه الْإِعَادَة الْعَارِضَة للروح فِي الْجَسَد كَمَا أَن قَتِيل بني إِسْرَائِيل الَّذِي أَحْيَاهُ الله بعد قَتله ثمَّ أَمَاتَهُ لم تكن تِلْكَ الْحَيَاة الْعَارِضَة لَهُ للمساءلة معتدا بهَا فَإِنَّهُ يحيى لَحْظَة بِحَيْثُ قَالَ فلَان قتلنى ثمَّ خر مَيتا على أَن قَوْله ثمَّ تُعَاد روحه فِي جسده لَا يدل على حَيَاة مُسْتَقِرَّة وَإِنَّمَا يدل على إِعَادَة لَهَا إِلَى الْبدن وَتعلق بِهِ وَالروح لم تزل مُتَعَلقَة ببدنها وَإِن بلَى وتمزق وسر ذَلِك أَن الرّوح لَهَا بِالْبدنِ خَمْسَة أَنْوَاع من التَّعَلُّق مُتَغَايِرَة الْأَحْكَام أَحدهَا تعلقهَا بِهِ فِي بطن الْأُم جَنِينا الثَّانِي تعلقهَا بِهِ بعد خُرُوجه إِلَى وَجه الأَرْض

الثَّالِث تعلقهَا بِهِ فِي حَال النّوم فلهَا بِهِ تعلق من وَجه ومفارقة من وَجه الرَّابِع تعلقهَا بِهِ فِي البرزخ فَإِنَّهَا وَإِن فارقته وتجردت عَنهُ فَإِنَّهَا لم تُفَارِقهُ فراقا كليا بِحَيْثُ لَا يبْقى لَهَا الْتِفَات إِلَيْهِ الْبَتَّةَ وَقد ذكرنَا فِي أول الْجَواب من الْأَحَادِيث والْآثَار مَا يدل على ردهَا إِلَيْهِ وَقت سَلام الْمُسلم وَهَذَا الرَّد إِعَادَة خَاصَّة لَا يُوجب حَيَاة الْبدن قبل يَوْم الْقِيَامَة الْخَامِس تعلقهَا بِهِ يَوْم بعث الأجساد وَهُوَ أكمل أَنْوَاع تعلقهَا بِالْبدنِ وَلَا نِسْبَة لما قبله من أَنْوَاع التَّعَلُّق إِلَيْهِ إِذْ تعلق لَا يقبل الْبدن مَعَه موتا وَلَا نوما وَلَا فَسَادًا وَأما قَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى} فإمساكه سُبْحَانَهُ الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت لَا يُنَافِي ردهَا إِلَى جَسدهَا الْمَيِّت فِي وَقت مَا ردا عارضا لَا يُوجب لَهُ الْحَيَاة الْمَعْهُودَة فِي الدُّنْيَا وَإِذا كَانَ النَّائِم روحه فِي جسده وَهُوَ حَيّ وحياته غير حَيَاة المستيقظ فَإِن النّوم شَقِيق الْمَوْت فَهَكَذَا الْمَيِّت إِذا أُعِيدَت روحه إِلَى جسده كَانَت لَهُ حَال متوسطة بَين الْحَيّ وَبَين الْمَيِّت الَّذِي لم ترد روحه إِلَى بدنه كَحال النَّائِم المتوسطة بَين الْحَيّ وَالْمَيِّت فَتَأمل هَذَا يزيح عَنْك إشكالات كَثِيرَة وَأما أَخْبَار النَّبِي عَن رُؤْيَة الْأَنْبِيَاء لَيْلَة أسرى بِهِ فقد زعم بعض أهل الحَدِيث أَن الَّذِي رَآهُ أشباحهم وأرواحهم قَالَ فَإِنَّهُم أَحيَاء عِنْد رَبهم وَقد رأى إِبْرَاهِيم مُسْندًا ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور مُوسَى قَائِما فِي قَبره يصلى وَقد نعت الْأَنْبِيَاء لما رَآهُمْ نعت الأشباح فَرَأى مُوسَى آدما ضربا طوَالًا كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة وَرَأى عِيسَى يقطر رَأسه كَأَنَّمَا أخرج من ديماس وَرَأى إِبْرَاهِيم فشبهه بِنَفسِهِ ونازعهم فِي ذَلِك آخَرُونَ وَقَالُوا هَذِه الرُّؤْيَة إِنَّمَا هِيَ لأرواحهم دون أَجْسَادهم والأجساد فِي الأَرْض قطعا إِنَّمَا تبْعَث يَوْم بعث الأجساد وَلم تبْعَث قبل ذَلِك إِذْ لَو بعثت قبل ذَلِك لكَانَتْ قد انشقت عَنْهَا الأَرْض قبل يَوْم الْقِيَامَة كَانَت تذوق الْمَوْت عِنْد نفخة الصُّور وَهَذِه موتَة ثَالِثَة وَهَذَا بَاطِل قطعا وَلَو كَانَت قد بعثت الأجساد من الْقُبُور لم يعدهم الله إِلَيْهَا بل كَانَت فِي الْجنَّة وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَن الله حرم الْجنَّة على الْأَنْبِيَاء حَتَّى يدخلهَا هُوَ وَهُوَ أول من يستفتح بَاب الْجنَّة وَهُوَ أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض على الْإِطْلَاق لم تَنْشَق عَن أحد قبله وَمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَن جسده فِي الأَرْض طرى مَطَرا وَقد سَأَلَهُ الصَّحَابَة كَيفَ تعرض صَلَاتنَا عَلَيْك وَقد أرمت فَقَالَ إِن الله حرم على الأَرْض أَن تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء

وَلَو لم يكن جسده فِي ضريحه لما أجَاب بِهَذَا الْجَواب وَقد صَحَّ عَنهُ أَن الله وكل بقبره مَلَائِكَة يبلغونه عَن أمته السَّلَام وَصَحَّ عَنهُ أَنه خرج بَين أبي بكر وَعمر وَقَالَ هَكَذَا نبعث هَذَا مَعَ الْقطع بِأَن روحه الْكَرِيمَة فِي الرفيق الْأَعْلَى فِي أَعلَى عليين مَعَ أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء وَقد صَحَّ عَنهُ أَنه رأى مُوسَى قَائِما يصلى فِي قَبره لَيْلَة الاسراء وَرَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة أَو السَّابِعَة فالروح كَانَت هُنَاكَ وَلها اتِّصَال بِالْبدنِ فِي الْقَبْر وإشراف عَلَيْهِ وَتعلق بِهِ بِحَيْثُ يصلى فِي قَبره وَيرد سَلام من سلم عَلَيْهِ وَهِي فِي الرفيق الْأَعْلَى وَلَا تنَافِي بَين الْأَمريْنِ فَإِن شَأْن الْأَرْوَاح غير شَأْن الْأَبدَان وَأَنت تَجِد الروحين المتماثلتين المتناسبتين فِي غَايَة التجاور والقرب وان كَانَ بَينهمَا بعد المشرقين وتجد الروحين المتنافرتين المتاغضتين بَينهمَا غَايَة الْبعد وَإِن كَانَ جسداهما متجاورين متلاصقين وَلَيْسَ نزُول الرّوح وصعودها وقربها وَبعدهَا من جنس مَا للبدن فَإِنَّهَا تصعد إِلَى مَا فَوق السَّمَوَات ثمَّ تهبط إِلَى الأَرْض مَا بَين قبضهَا وَوضع الْمَيِّت فِي قَبره وَهُوَ زمن يسير لَا يصعد الْبدن وَينزل فِي مثله وَكَذَلِكَ صعودها وعودها إِلَى الْبدن فِي النّوم واليقظة وَقد مثلهَا بَعضهم بالشمس وشعاعها فَإِنَّهَا فِي السَّمَاء وشعاعها فِي الأَرْض قَالَ شَيخنَا وَلَيْسَ هَذَا مثلا مطابقا فَإِن نفس الشَّمْس لَا تنزل من السَّمَاء والشعاع الَّذِي على الأَرْض لَيْسَ هُوَ الشَّمْس وَلَا صفتهَا بل هُوَ عرض حصل بِسَبَب الشَّمْس والجرم الْمُقَابل لَهَا وَالروح نَفسهَا تصعد وتنزل وَأما قَول الصَّحَابَة للنَّبِي فِي قَتْلَى بدر كَيفَ تخاطب أَقْوَامًا قد جيفوا مَعَ أخباره بسماعهم كَلَامه فَلَا يَنْفِي ذَلِك رد أَرْوَاحهم إِلَى أَجْسَادهم ذَلِك الْوَقْت ردا يسمعُونَ بِهِ خطابه والأجساد قد جيفت فالخطاب للأرواح الْمُتَعَلّقَة بِتِلْكَ الأجساد الَّتِي قد فَسدتْ وَأما قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور} فسياق الْآيَة يدل على أَن المُرَاد مِنْهَا أَن الْكَافِر الْمَيِّت الْقلب لَا تقدر على اسماعه اسماعا ينْتَفع بِهِ كَمَا أَن من فِي الْقُبُور لَا تقدر على إسماعهم إسماعا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلم يرد سُبْحَانَهُ أَن أَصْحَاب الْقُبُور لَا يسمعُونَ شَيْئا الْبَتَّةَ كَيفَ وَقد أخبر النَّبِي أَنهم يسمعُونَ خَفق نعال المشيعين وَأخْبر أَن قَتْلَى بدر سمعُوا كَلَامه وخطابه وَشرع السَّلَام عَلَيْهِم بِصِيغَة الْخطاب للحاضر الَّذِي يسمع وَأخْبر أَن من سلم على أَخِيه الْمُؤمن رد عَلَيْهِ السَّلَام هَذِه الْآيَة نَظِير قَوْله {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء إِذا ولوا مُدبرين} وَقد يُقَال نفي إسماع الصم مَعَ نفي إسماع الْمَوْتَى يدل على أَن المُرَاد عدم أَهْلِيَّة كل مِنْهُمَا للسماع

وَأَن قُلُوب هَؤُلَاءِ لما كَانَت ميتَة صماء كَانَ اسماعها مُمْتَنعا خطاب الْمَيِّت والأصم وَهَذَا حق وَلَكِن لَا يَنْفِي إسماع الْأَرْوَاح بعد الْمَوْت إسماع توبيخ وتقريع بِوَاسِطَة تعلقهَا بالأبدان فِي وَقت مَا فَهَذَا غير الاسماع الْمَنْفِيّ وَالله أعلم وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنَّك لَا تَسْتَطِيع أَن تسمع من لم يَشَأْ الله أَن يسمعهُ ان أَنْت إِلَّا نَذِير أى إِنَّمَا جعل الله لَك الِاسْتِطَاعَة على الانذار الَّذِي كلفك إِيَّاه لَا على إسماع من لم يَشَأْ الله إسماعه وَأما قَوْله إِن الحَدِيث لَا يَصح لِتَفَرُّد الْمنْهَال بن عَمْرو وَحده بِهِ وَلَيْسَ بالقوى فَهَذَا من مجازفته رَحْمَة الله فَالْحَدِيث صَحِيح لَا شكّ فِيهِ وَقد رَوَاهُ عَن الْبَراء بن عَازِب جمَاعَة غير زَاذَان مِنْهُم عدى بن ثَابت وَمُحَمّد بن عقبَة وَمُجاهد قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه فِي كتاب الرّوح وَالنَّفس أخبرنَا مُحَمَّد بن يَعْقُوب ابْن يُوسُف حَدثنَا مُحَمَّد بن اسحق الصفار أَنبأَنَا أَبُو النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم حَدثنَا عِيسَى بن الْمسيب عَن عدى بن ثَابت عَن الْبَراء بن عَازِب قَالَ خرجنَا مَعَ رَسُول الله فِي جَنَازَة رجل من الْأَنْصَار فانتهنا إِلَى الْقَبْر وَلما يلْحد فَجَلَسْنَا وَجلسَ كَأَن على أكتاقنا فلق الصخر وعَلى رءوسنا الطير فأرم قَلِيلا والارمام السُّكُوت فَلَمَّا رفع رَأسه قَالَ إِن الْمُؤمن إِذا كَانَ فِي قبل من الْآخِرَة ودبر من الدُّنْيَا وحضره ملك الْمَوْت نزلت عَلَيْهِ مَلَائِكَة مَعَهم كفن من الْجنَّة وحنوط من الْجنَّة فجلسوا مِنْهُ مد الْبَصَر وَجَاء ملك الْمَوْت فَجَلَسَ عِنْد رَأسه ثمَّ قَالَ اخْرُجِي أيتها النَّفس المطمئنة اخْرُجِي إِلَى رَحْمَة الله ورضوانه فتنسل نَفسه كَمَا تقطر القطرة من السقاء فَإِذا خرجت نَفسه صلى عَلَيْهِ كل من بَين السَّمَاء وَالْأَرْض إِلَّا الثقلَيْن ثمَّ يصعد بِهِ إِلَى السَّمَاء فتفتح لَهُ السَّمَاء ويشيعه مقربوها إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَالرَّابِعَة وَالْخَامِسَة وَالسَّادِسَة وَالسَّابِعَة إِلَى الْعَرْش مقربو كل سَمَاء فَإِذا انْتهى إِلَى الْعَرْش كتب كِتَابه فِي عليين وَيَقُول الرب عز وَجل ردوا عَبدِي إِلَى مضجعه فَإِنِّي وعدتهم أَنى مِنْهَا مَا خلقتهمْ وفيهَا أعيدهم وَمِنْهَا أخرجهم تَارَة أُخْرَى فَيرد إِلَى مضجعه فيأتيه مُنكر وَنَكِير يثيران الأَرْض بأنيابهما ويفحصان الأَرْض بأشعارهما فيجلسانه ثمَّ يُقَال لَهُ يَا هَذَا من رَبك فَيَقُول رَبِّي الله فَيَقُولَانِ صدقت ثمَّ يُقَال لَهُ مَا دينك فَيَقُول ديني الْإِسْلَام فَيَقُولَانِ صدقت ثمَّ يُقَال لَهُ من نبيك فَيَقُول مُحَمَّد رَسُول الله فَيَقُولَانِ صدقت ثمَّ يفسح لَهُ فِي قَبره مد بَصَره ويأتيه رجل حسن الْوَجْه طيب الرّيح حسن الثِّيَاب فَيَقُول جَزَاك الله خيرا فوَاللَّه مَا علمت إِن كنت لسريعا فِي طَاعَة الله بطيئا عَن مَعْصِيّة الله فَيَقُول وَأَنت جَزَاك الله خيرا فَمن أَنْت فَيَقُول أَنا علمك الصَّالح ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة فَينْظر

إِلَى مَقْعَده ومنزله مِنْهَا حَتَّى تقوم السَّاعَة وان الْكَافِر إِذا كَانَ فِي دبر من الدُّنْيَا وَقبل من الْآخِرَة وحضره الْمَوْت نزلت عَلَيْهِ من السَّمَاء مَلَائِكَة مَعَهم كفن من النَّار وحنوط من نَار قَالَ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مد بَصَره وَجَاء ملك الْمَوْت فيجلس عِنْد رَأسه ثمَّ قَالَ اخْرُجِي أيتها النَّفس الخبيثة اخْرُجِي إِلَى غضب الله وَسخطه فَتفرق روحه فِي جسده كَرَاهِيَة ان تخرج لما ترى وتعاين فيستخرجها كَمَا يسْتَخْرج السفود من الصُّوف المبلول فَإِذا خرجت نَفسه لَعنه كل شَيْء بَين السَّمَاء وَالْأَرْض إِلَّا الثقلَيْن ثمَّ يصعد بِهِ إِلَى السَّمَاء فتغلق دونه فَيَقُول الرب عز وَجل ردوا عَبدِي إِلَى مضجعه فإنى وعدتهم أَنى مِنْهَا خلقتهمْ وفيهَا أعيدهم وَمِنْهَا أخرجهم تَارَة أُخْرَى فَترد روحه إِلَى مضجعه فيأتيه مُنكر وَنَكِير يثيران فِي الأَرْض بأنيابهما ويفحصان الأَرْض بأشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف فيجلسانه ثمَّ يَقُولَانِ يَا هَذَا من رَبك فَيَقُول لَا أَدْرِي فينادي من جَانب الْقَبْر لَا دَريت فيضربانه بمرزبة من حَدِيد لَو اجْتمع عَلَيْهَا من بَين الْخَافِقين لم تقل ويضيق عَلَيْهِ قَبره حَتَّى تخْتَلف أضلاعه ويأتيه رجل قَبِيح الْوَجْه قَبِيح الثِّيَاب منتن الرّيح فَيَقُول جَزَاك الله شرا فوَاللَّه مَا علمت إِن كنت لبطيئا عَن طَاعَة الله سَرِيعا فِي مَعْصِيّة الله فَيَقُول وَمن أَنْت فَيَقُول أَنا عَمَلك الْخَبيث ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار فَينْظر إِلَى مَقْعَده فِيهَا حَتَّى تقوم السَّاعَة رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد ومحمود بن غيلَان وَغَيرهمَا عَن أبي النَّضر فَفِيهِ أَن الْأَرْوَاح تُعَاد إِلَى الْقَبْر وَأَن الْملكَيْنِ يجلسان الْمَيِّت ويستنطقانه ثمَّ سَاقه ابْن مَنْدَه من طَرِيق مُحَمَّد بن سَلمَة عَن خصيف الجزرى عَن مُجَاهِد عَن الْبَراء بن عَازِب قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَة رجل من الْأَنْصَار ومعنا رَسُول الله فأنتهينا إِلَى الْقَبْر وَلم يلْحد وَوضعت الْجِنَازَة وَجلسَ رَسُول الله فَقَالَ إِن الْمُؤمن إِذا احْتضرَ أَتَاهُ ملك الْمَوْت فِي أحسن صُورَة وأطيبه ريحًا فَجَلَسَ عِنْده لقبض روحه وَأَتَاهُ ملكان بحنوط من الْجنَّة وكفن من الْجنَّة وَكَانَا مِنْهُ على بعد فاستخرج ملك الْمَوْت روحه من جسده رشحا فَإِذا صَارَت إِلَى ملك الْمَوْت ابتدرها الْملكَانِ فأخذاها مِنْهُ فحنطاها بحنوط من الْجنَّة وكفناها بكفن من الْجنَّة ثمَّ عرجا بِهِ إِلَى الْجنَّة فتفتح لَهُ أَبْوَاب السَّمَاء وتستبشر الْمَلَائِكَة بهَا وَيَقُولُونَ لمن هَذِه الرّوح الطبية الَّتِي فتحت لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء ويمسى بِأَحْسَن الْأَسْمَاء الَّتِي كَانَ يُسمى بهَا فِي الدُّنْيَا فَيُقَال هَذِه روح فلَان فَإِذا صعد بهَا إِلَى السَّمَاء شيعها مقربو كل سَمَاء حَتَّى تُوضَع بَين يَدي الله عِنْد الْعَرْش فَيخرج عَملهَا من عليين فَيَقُول الله عز وَجل للمقربين اشْهَدُوا أَنى قد غفرت لصَاحب هَذَا الْعَمَل وَيخْتم كِتَابه فَيرد فِي عليين فَيَقُول الله عز وَجل

ردوا روح عَبدِي إِلَى الأَرْض فَإِنِّي وعدتهم أَنى أردهم فِيهَا ثمَّ قَرَأَ رَسُول الله {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى} فَإِذا وضع الْمُؤمن فِي قَبره فتح لَهُ بَاب عِنْد رجلَيْهِ إِلَى الْجنَّة فَيُقَال لَهُ أنظر إِلَى مَا أعد الله لَك من الثَّوَاب وَيفتح لَهُ بَاب عِنْد رَأسه إِلَى النَّار فَيُقَال لَهُ أنظر مَا صرف الله عَنْك من الْعَذَاب ثمَّ يُقَال لَهُ نم قرير الْعين فَلَيْسَ شَيْء أحب إِلَيْهِ من قيام السَّاعَة وَقَالَ رَسُول الله إِذا وضع الْمُؤمن فِي لحده تَقول لَهُ الأَرْض إِن كنت لحبيبا إِلَى وَأَنت على ظهرى فَكيف إِذا صرت الْيَوْم فِي بَطْني سأريك مَا أصنع بك فيفسح لَهُ فِي قَبره مد بَصَره وَقَالَ رَسُول الله إِذا وضع الْكَافِر فِي قَبره أَتَاهُ مُنكر وَنَكِير فيجلسانه فَيَقُولَانِ لَهُ من رَبك فَيَقُول لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ لَهُ لادريت فيضربانه ضَرْبَة فَيصير رَمَادا ثمَّ يُعَاد فيجلس فَيُقَال لَهُ مَا قَوْلك فِي هَذَا الرجل فَيَقُول أَي رجل فَيَقُولَانِ مُحَمَّد فَيَقُول قَالَ النَّاس أَنه رَسُول الله فيضربانه ضَرْبَة فَيصير رَمَادا هَذَا حَدِيث ثَابت مَشْهُور مستفيض صَححهُ جمَاعَة من الْحفاظ وَلَا نعلم أحدا من أَئِمَّة الحَدِيث طعن فِيهِ بل رَوَوْهُ فِي كتبهمْ وتلقوه بِالْقبُولِ وجعلوه أصلا من أصُول الدّين فِي عَذَاب الْقَبْر ونعيمه ومساءلة مُنكر وَنَكِير وَقبض الْأَرْوَاح وصعودها إِلَى بَين يَدي الله ثمَّ رُجُوعهَا إِلَى الْقَبْر وَقَول أَبى مُحَمَّد لم يروه غير زَاذَان فَوَهم مِنْهُ بل رَوَاهُ عَن الْبَراء غير زَاذَان وَرَوَاهُ عَنهُ عدي بن ثَابت وَمُجاهد بن جُبَير وَمُحَمّد بن عقبَة وَغَيرهم وَقد جمع الدَّارَقُطْنِيّ طرقه فِي مُصَنف مُفْرد وزاذان من الثقاة روى عَن أكَابِر الصَّحَابَة كعمر وَغَيره وروى لَهُ مُسلم فِي صَحِيحه قَالَ يحيى بن معِين ثِقَة وَقَالَ حميد بن هِلَال وَقد سُئِلَ عَنهُ هُوَ ثِقَة لَا تسْأَل عَن مثل هَؤُلَاءِ وَقَالَ ابْن عدي أَحَادِيثه لَا بَأْس بهَا إِذا روى عَن ثِقَة وَقَوله ان الْمنْهَال بن عَمْرو تفرد بِهَذِهِ الزِّيَادَة وَهِي قَوْله فتعاد روحه فِي جسده وَضَعفه فالمنهال أحد الثقاة الْعُدُول قَالَ ابْن معِين الْمنْهَال ثِقَة وَقَالَ الْعجلِيّ كُوفِي ثِقَة وَأعظم مَا قيل فِيهِ أَنه سمع من بَيته صَوت غناء وَهَذَا لَا يُوجب الْقدح فِي رِوَايَته واطراح حَدِيثه وتضعيف ابْن حزم لَهُ لَا شَيْء فَإِنَّهُ لم يذكر مُوجبا لتضعيفه غير تفرده بقوله فتعاد روحه فِي جسده وَقد بَينا أَنه لم يتفرد بهَا بل قد رَوَاهَا غَيره وَقد روى مَا هُوَ أبلغ مِنْهَا أَو نظيرها كَقَوْلِه فَترد إِلَيْهِ روحه وَقَوله فَتَصِير إِلَى قَبره فيستوي جَالِسا وَقَوله فيجلسانه وَقَوله فيجلس فِي قَبره وَكلهَا أَحَادِيث صِحَاح لَا مغمز فِيهَا وَقد أعل غَيره بِأَن زَاذَان لم يسمعهُ من الْبَراء وَهَذِه الْعلَّة بَاطِلَة فَإِن أَبَا عوَانَة الاسفرائيني رَوَاهُ فِي صَحِيحه بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ عَن أَبى عَمْرو زَاذَان الكندى قَالَ سَمِعت الْبَراء بن عَازِب وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه هَذَا إِسْنَاد مُتَّصِل مَشْهُور رَوَاهُ جمَاعَة عَن الْبَراء

وَلَو نزلنَا عَن حَدِيث الْبَراء فسائر الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة صَرِيحَة فِي ذَلِك مثل حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء عَن سعيد بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله قَالَ إِن الْمَيِّت تحضره الْمَلَائِكَة فَإِذا كَانَ الرجل الصَّالح قَالَ اخْرُجِي أيتها النَّفس الطّيبَة كَانَت فِي الْجَسَد الطّيب أَخْرِجِي حميدة وابشرى بِروح وَرَيْحَان وَرب غير غَضْبَان قَالَ فَيَقُول ذَلِك حَتَّى تخرج ثمَّ يعرج بهَا إِلَى السَّمَاء فيستفتح لَهَا فَيُقَال من هَذَا فَيَقُولُونَ فلَان فَيَقُولُونَ مرْحَبًا بِالنَّفسِ الطّيبَة كَانَت فِي الْجَسَد ادخلى حميدة وابشرى بِروح وَرَيْحَان وَرب غير غَضْبَان فَيُقَال لَهَا ذَلِك حَتَّى ينتهى بهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الله عز وَجل وَإِذا كَانَ الرجل السوء قَالَ اخرجى أيتها النَّفس الخبيثة كَانَت فِي الْجَسَد الْخَبيث اخْرُجِي ذميمة وأبشرى بحميم وغساق وَآخر من شكله أَزوَاج فَيَقُولُونَ ذَلِك حَتَّى تخرج ثمَّ يعرج بهَا إِلَى السَّمَاء فيستفتح لَهَا فَيُقَال من هَذَا فَيَقُولُونَ فلَان فَيَقُولُونَ لَا مرْحَبًا بِالنَّفسِ الخبيثة كَانَت فِي الْجَسَد الْخَبيث ارجعي ذميمة فَإِنَّهَا لن تفتح لَك أَبْوَاب السَّمَاء فترسل بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فَتَصِير إِلَى الْقَبْر فيجلس الرجل الصَّالح فِي قَبره غير فزع وَلَا معوق ثمَّ يُقَال فَمَا كنت تَقول فِي الْإِسْلَام مَا هَذَا الرجل فَيَقُول مُحَمَّد رَسُول الله جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ من قبل الله فَآمَنا وصدقنا وَذكر تَمام الحَدِيث قَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم هَذَا حَدِيث مُتَّفق على عَدَالَة ناقليه اتّفق الإمامان مُحَمَّد بن اسماعيل البُخَارِيّ وَمُسلم بن الْحجَّاج عَن ابْن أَبى ذِئْب وَمُحَمّد بن عَمْرو بن عَطاء وَسَعِيد بن يسَار وهم من شَرطهمَا وَرَوَاهُ المتقدمون الْكِبَار عَن ابْن أَبى ذِئْب مثل ابْن أَبى فديك وَعبد الرَّحِيم بن ابراهيم انْتهى وَرَوَاهُ عَن ابْن أَبى ذِئْب غير وَاحِد وَقد احْتج أَبُو عبد الله بن مَنْدَه على إِعَادَة الرّوح إِلَى الْبدن بِأَن قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن ابْن الْحسن حَدثنَا مُحَمَّد بن زيد النيسابورى حَدثنَا حَمَّاد بن قِيرَاط حَدثنَا مُحَمَّد بن الْفضل عَن يزِيد بن عبد الرَّحْمَن الصَّائِغ البلخى عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ بَيْنَمَا رَسُول الله ذَات يَوْم قَاعد تَلا هَذِه الْآيَة وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطو أَيْديهم الْآيَة قَالَ وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ مَا من نفس تفارق الدُّنْيَا حَتَّى ترى مقعدها من الْجنَّة أَو النَّار ثمَّ قَالَ فَإِذا كَانَ عِنْد ذَلِك صف لَهُ سماطان من الْمَلَائِكَة ينتظمان مَا بَين الْخَافِقين كَأَن وُجُوههم الشَّمْس فَينْظر إِلَيْهِم مَا ترى غَيرهم وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنهم ينظرُونَ إِلَيْكُم مَعَ كل مِنْهُم أكفان وحنوط فَإِن كَانَ مُؤمنا بشروه بِالْجنَّةِ وَقَالُوا

أخرجى أيتها النَّفس الطّيبَة إِلَى رضوَان الله وجنته فقد أعد الله لَك من الْكَرَامَة مَا هُوَ خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَلَا يزالون يُبَشِّرُونَهُ ويحفون بِهِ فهم ألطف وأرأف من الوالدة بِوَلَدِهَا ثمَّ يسلون روحه من تَحت كل ظفر ومفصل وَيَمُوت الأول فَالْأول ويهون عَلَيْهِ وكنتم تَرَوْنَهُ عديدا حَتَّى تبلغ ذقنه قَالَ فلهى أَشد كَرَاهِيَة لِلْخُرُوجِ من الْجَسَد من الْوَلَد حِين يخرج من الرَّحِم فيبتدرها كل ملك مِنْهُم أَيهمْ يقبضهَا فيتولى قبضهَا ملك الْمَوْت ثمَّ تَلا رَسُول {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بكم ثمَّ إِلَى ربكُم ترجعون} فيتلقاها بأكفان بيض ثمَّ يحتضنها إِلَيْهِ فَهُوَ أَشد لُزُوما لَهَا من الْمَرْأَة إِذا ولدتها ثمَّ يفوح مِنْهَا ريح أطيب من الْمسك فيستنشقون رِيحهَا ويتباشرون بهَا وَيَقُولُونَ مرْحَبًا بِالروحِ الطّيبَة وَالروح الطّيب اللَّهُمَّ صل عَلَيْهِ روحا وعَلى جَسَد خرجت مِنْهُ قَالَ فيصعدون بهَا وَللَّه عز وَجل خلق فِي الْهَوَاء لَا يعلم عددتهم إِلَّا هُوَ فيفوح لَهُم مِنْهَا ريح أطيب من الْمسك فيصلون عَلَيْهَا ويتباشرون وَيفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء فيصلى عَلَيْهَا كل ملك فِي كل سَمَاء تمر بهم حَتَّى ينتهى بهَا بَين يدى الْملك الْجَبَّار فَيَقُول الْجَبَّار جلّ جَلَاله مرْحَبًا بِالنَّفسِ الطّيبَة ويجسد خرجت مِنْهُ وَإِذا قَالَ الرب عز وَجل للشَّيْء مرْحَبًا وَحب لَهُ كل شَيْء وَيذْهب عَنهُ كل ضيق ثمَّ يَقُول لهَذِهِ النَّفس الطّيبَة أدخلوها الْجنَّة وأروها مقعدها من الْجنَّة وأعرضوا عَلَيْهَا مَا أَعدَدْت لَهَا من الْكَرَامَة وَالنَّعِيم ثمَّ اذْهَبُوا بهَا إِلَى الأَرْض فإنى قضيت أَنى مِنْهَا خلقتهمْ وفيهَا أعيدهم وَمِنْهَا أخرجهم تَارَة أُخْرَى فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لهى أَشد كَرَاهِيَة لِلْخُرُوجِ مِنْهَا حِين كَانَت تخرج من الْجَسَد وَتقول أَيْن تذهبون بى إِلَى ذَلِك الْجَسَد الَّذِي كنت فِيهِ قَالَ فَيَقُولُونَ إِنَّا مأمورون بِهَذَا فَلَا بُد لَك مِنْهُ فيهبطون بِهِ على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فَيدْخلُونَ ذَلِك الرّوح بَين جسده وأكفانه فَدلَّ هَذَا الحَدِيث أَن الرّوح تُعَاد بَين الْجَسَد والأكفان وَهَذَا عود غير التَّعَلُّق الَّذِي كَانَ لَهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبدنِ وَهُوَ نوع آخر وَغير تعلقهَا بِهِ حَال النّوم وَغير تعلقهَا بِهِ وهى فِي مقرها بل هُوَ عود خَاص للمساءلة قَالَ شيخ الْإِسْلَام الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المتواترة تدل على عود الرّوح إِلَى الْبدن وَقت السُّؤَال وسؤال الْبدن بِلَا روح قَول قَالَه طَائِفَة من النَّاس وَأنْكرهُ الْجُمْهُور وقابلهم آخَرُونَ فَقَالُوا السُّؤَال للروح بِلَا بدن وَهَذَا قَالَه ابْن مرّة وَابْن حزم وَكِلَاهُمَا غلط وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ترده وَلَو كَانَ ذَلِك على الرّوح فَقَط لم يكن للقبر بِالروحِ اخْتِصَاص

وَهَذَا يَتَّضِح بِجَوَاب الْمَسْأَلَة وَهِي قَول السَّائِل هَل عَذَاب الْقَبْر على النَّفس وَالْبدن أَو على النَّفس دون الْبدن أَو على الْبدن دون النَّفس وَهل يُشَارك الْبدن النَّفس فِي النَّعيم وَالْعَذَاب أم لَا وَقد سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام عَن هَذِه الْمَسْأَلَة وَنحن نذْكر لفظ جَوَابه فَقَالَ بل الْعَذَاب وَالنَّعِيم على النَّفس وَالْبدن جَمِيعًا بِاتِّفَاق أهل السّنة وَالْجَمَاعَة تنعم النَّفس وتعذب مُنْفَرِدَة عَن الْبدن وتنعم وتعذب مُتَّصِلَة بِالْبدنِ وَالْبدن مُتَّصِل بهَا فَيكون النَّعيم وَالْعَذَاب عَلَيْهَا فِي هَذِه الْحَال مُجْتَمعين كَمَا تكون على الرّوح مُنْفَرِدَة عَن الْبدن وَهل يكون الْعَذَاب وَالنَّعِيم للبدن بِدُونِ الرّوح هَذَا فِيهِ قَولَانِ مشهوران لأهل الحَدِيث وَالسّنة وَأهل الْكَلَام وَفِي الْمَسْأَلَة أَقْوَال شَاذَّة لَيست من أَقْوَال أهل السّنة والْحَدِيث قَول من يَقُول إِن النَّعيم وَالْعَذَاب لَا يكون إِلَّا على الرّوح وان الْبدن لَا ينعم وَلَا يعذب وَهَذَا تَقوله الفلاسفة المنكرون لِمَعَاد الْأَبدَان وَهَؤُلَاء كفار بِإِجْمَاع الْمُسلمين ويقوله كثير من أهل الْكَلَام من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم الَّذين يقرونَ بمعاد الْأَبدَان لَكِن يَقُولُونَ لَا يكون ذَلِك فِي البرزخ وَإِنَّمَا يكون عِنْد الْقيام من الْقُبُور لَكِن هَؤُلَاءِ يُنكرُونَ عَذَاب الْبدن فِي البرزخ فَقَط وَيَقُولُونَ إِن الْأَرْوَاح هِيَ المنعمة أَو المعذبة فِي البرزخ فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة عذبت الرّوح وَالْبدن مَعًا وَهَذَا القَوْل قَالَه طوائف من الْمُسلمين من أهل الْكَلَام والْحَدِيث وَغَيرهم وَهُوَ اخْتِيَار ابْن حزم وَابْن مرّة فَهَذَا القَوْل لَيْسَ من الْأَقْوَال الثَّلَاثَة الشاذة بل هُوَ مُضَاف إِلَى قَول من يَقُول بِعَذَاب الْقَبْر ويقر بالقيامة وَيثبت معاد الْأَبدَان والأرواح وَلَكِن هَؤُلَاءِ لَهُم فِي عَذَاب الْقَبْر ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا أَنه على الرّوح فَقَط الثَّانِي أَنه عَلَيْهَا وعَلى الْبدن بواسطتها الثَّالِث أَنه على الْبدن فَقَط وَقد يضم إِلَى ذَلِك القَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول من يثبت عَذَاب الْقَبْر وَيجْعَل الرّوح هِيَ الْحَيَاة وَيجْعَل الشاذ قَول مُنكر عَذَاب الْأَبدَان مُطلقًا وَقَول من يُنكر عَذَاب الرّوح مُطلقًا فَإِذا جعلت الْأَقْوَال الشاذة ثَلَاثَة فَالْقَوْل الثَّانِي الشاذ قَول من يَقُول إِن الرّوح بمفردها لَا تنعم وَلَا تعذب وَإِنَّمَا الرّوح هِيَ الْحَيَاة وَهَذَا يَقُوله طوائف من أهل الْكَلَام من الْمُعْتَزلَة والأشعرية كَالْقَاضِي أَبى بكر وَغَيره وَيُنْكِرُونَ أَن الرّوح تبقى بعد فِرَاق الْبدن وَهَذَا قَول بَاطِل وَقد خَالف أَصْحَابه أَبُو الْمَعَالِي الجريني وَغَيره بل قد ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة واتفاق الْأمة أَن الرّوح تبقى بعد فِرَاق الْبدن وَأَنَّهَا منعمة أَو معذبة والفلاسفة الإلهيون يقرونَ بذلك لَكِن يُنكرُونَ معاد الْأَبدَان وَهَؤُلَاء يقرونَ بمعاد الْأَبدَان لَكِن يُنكرُونَ

فصل فإذا عرفت هذه الأقوال الباطلة فلتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها

معاد الْأَرْوَاح وَنَعِيمهَا وعذابها بِدُونِ الْأَبدَان وكلا الْقَوْلَيْنِ خطأ وضلال لَكِن قَول الفلاسفة أبعد عَن أَقْوَال أهل الْإِسْلَام وَإِن كَانَ قد يوافقهم عَلَيْهِ من يعْتَقد أَنه متمسك بدين الْإِسْلَام بل من يظنّ أَنه من أهل الْمعرفَة والتصوف وَالتَّحْقِيق وَالْكَلَام وَالْقَوْل الثَّالِث الشاذ قَول من يَقُول إِن البرزخ لَيْسَ فِيهِ نعيم وَلَا عَذَاب بل لَا يكون ذَلِك حَتَّى تَقول السَّاعَة الْكُبْرَى كَمَا يَقُول ذَلِك من يَقُوله من الْمُعْتَزلَة وَنَحْوهم مِمَّن يُنكر عَذَاب الْقَبْر ونعيمه بِنَاء على أَن الرّوح لَا تبقى بعد فِرَاق الْبدن وَأَن الْبدن لَا ينعم وَلَا يعذب فَجَمِيع هَؤُلَاءِ الطوائف ضلال فِي أَمر البرزخ لكِنهمْ خير من الفلاسفة فَإِنَّهُم مقرون بالقيامة الْكُبْرَى فصل فَإِذا عرفت هَذِه الْأَقْوَال الْبَاطِلَة فلتعلم أَن مَذْهَب سلف الْأمة وأئمتها أَن الْمَيِّت إِذا مَاتَ يكون فِي نعيم أَو عَذَاب وَأَن ذَلِك يحصل لروحه وبدنه وَأَن الرّوح تبقى بعد مُفَارقَة الْبدن منعمة أَو معذبة وَأَنَّهَا تتصل بِالْبدنِ أَحْيَانًا وَيحصل لَهُ مَعهَا النَّعيم أَو الْعَذَاب ثمَّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة الْكُبْرَى أُعِيدَت الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد وَقَامُوا من قُبُورهم لرب الْعَالمين ومعاد الْأَبدَان مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى فصل وَنحن نثبت مَا ذَكرْنَاهُ فَأَما أَحَادِيث عَذَاب الْقَبْر ومساءلة مُنكر وَنَكِير فكثيرة متواترة عَن النَّبِي كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي مر بقبرين فَقَالَ انهما ليعذبان وَمَا يعذبان فِي كَبِير أما أَحدهمَا فَكَانَ لَا يستبرئ من الْبَوْل وَأما الآخر فَكَانَ يمشي بالنميمة ثمَّ دَعَا بجريدة رطبَة فَشَقهَا نِصْفَيْنِ فَقَالَ لَعَلَّه يُخَفف عَنْهُمَا مَا لم ييبسا وَفِي صَحِيح مُسلم عَن زيد بن ثَابت قَالَ رَسُول الله فِي حَائِط لبنى النجار على بغلته وَنحن مَعَه إِذْ حادت بِهِ فَكَادَتْ تلقيه فَإِذا أقبر سِتَّة أَو خَمْسَة أَو أَرْبَعَة فَقَالَ من يعرف أَصْحَاب هَذِه الْقُبُور فَقَالَ رجل أَنا قَالَ فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ قَالَ مَاتُوا فِي الْإِشْرَاك فَقَالَ إِن هَذِه الْأمة تبتلى فِي قبورها فلولا أَن لَا تدافنوا لَدَعَوْت الله أَن يسمعكم من عَذَاب الْقَبْر الَّذِي أسمع مِنْهُ ثمَّ أقبل علينا بِوَجْهِهِ فَقَالَ تعوذوا بِاللَّه من عَذَاب النَّار قَالُوا نَعُوذ بِاللَّه من عَذَاب النَّار قَالَ تعوذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر قَالُوا نَعُوذ بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر قَالَ تعوذوا بِاللَّه من الْفِتَن مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن قَالُوا نَعُوذ بِاللَّه من الْفِتَن مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن قَالَ تعوذوا بِاللَّه من فتْنَة الدَّجَّال قَالُوا نَعُوذ بِاللَّه من فتْنَة الدَّجَّال

وَفِي صَحِيح مُسلم وَجَمِيع السّنَن عَن أَبى هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ إِذا فرغ أحدكُم من التَّشَهُّد الْأَخير فليتعوذ بِاللَّه من أَربع من عَذَاب جَهَنَّم وَمن عَذَاب الْقَبْر وَمن فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات وَمن فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال وَفِي صَحِيح مُسلم أَيْضا وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي كَانَ يعلمهُمْ هَذَا الدُّعَاء كَمَا يعلمهُمْ السُّورَة من الْقُرْآن اللَّهُمَّ إنى أعوذ بك من عَذَاب جَهَنَّم وَأَعُوذ بك من عَذَاب الْقَبْر وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال وَفِي الصحيحن عَن أَبى أَيُّوب قَالَ خرج النَّبِي وَقد وَجَبت الشَّمْس فَسمع صَوتا فَقَالَ يهود تعذب فِي قبورها وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا قَالَت دخلت على عَجُوز من عَجَائِز يهود الْمَدِينَة فَقَالَت ان أهل الْقُبُور يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم قَالَت فكذبتها وَلم أنعم أَن أصدقهَا قَالَت فَخرجت وَدخل على رَسُول الله فَقَالَت يَا رَسُول الله ان عجوزا من عَجَائِز يهود أهل الْمَدِينَة دخلت فَزَعَمت أَن أهل الْقُبُور يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم قَالَ صدقت انهم يُعَذبُونَ عذَابا تسمعه الْبَهَائِم كلهَا قَالَت فَمَا رَأَيْته بعد فِي صَلَاة الا يتَعَوَّذ من عَذَاب الْقَبْر وَفِي صَحِيح ابْن حبَان عَن أم مُبشر قَالَت دخل على رَسُول الله وَهُوَ يَقُول تعوذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر فَقلت يَا رَسُول الله وللقبر عَذَاب قَالَ إِنَّهُم ليعذبون فِي قُبُورهم عذَابا تسمعه الْبَهَائِم قَالَ بَعْص أهل الْعلم وَلِهَذَا السَّبَب يذهب النَّاس بدوابهم إِذا مغلت إِلَى قُبُور الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ كالاسماعيلية والنصيرية والقرامطة من بني عبيد وَغَيرهم الَّذين بِأَرْض مصر وَالشَّام فَإِن أَصْحَاب الْخَيل يقصدون قُبُورهم لذَلِك كَمَا يقصدون قُبُور الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَالَ فَإِذا سَمِعت الْخَيل عَذَاب الْقَبْر أحدث لَهَا ذَلِك فَزعًا وحرارة تذْهب بالمغل وَقد قَالَ عبد الْحق الأشبيلى حَدَّثَنى الْفَقِيه أَبُو الحكم برخان وَكَانَ من أهل الْعلم وَالْعَمَل أَنهم دفنُوا مَيتا بقريتهم فِي شرف أشبيلية فَلَمَّا فرغوا من دَفنه قعدوا نَاحيَة يتحدثون ودابة ترعى قَرِيبا مِنْهُم فَإِذا بالدابة قد أَقبلت مسرعة إِلَى الْقَبْر فَجعلت اذنها عَلَيْهِ كَأَنَّهَا تسمع ثمَّ ولت فارة ثمَّ عَادَتْ إِلَى الْقَبْر فَجعلت أذنها عَلَيْهِ كَأَنَّهَا تسمع ثمَّ ولت فارة فعلت ذَلِك مرّة بعد أُخْرَى قَالَ أَبُو الحكم فَذكرت عَذَاب الْقَبْر وَقَول النَّبِي أَنهم ليعذبون عذَابا تسمعه الْبَهَائِم

ذكر لنا هَذِه الْحِكَايَة وَنحن نسْمع عَلَيْهِ كتاب مُسلم لما انْتهى القارىء إِلَى قَول النَّبِي أَنهم يُعَذبُونَ عذَابا تسمعه الْبَهَائِم وَهَذَا السماع وَاقع على أصوات الْمُعَذَّبين قَالَ هناد بن السرى فِي كتاب الزّهْد حَدثنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا قَالَت دخلت على يَهُودِيَّة فَذكرت عَذَاب الْقَبْر فكذبتها فَدخل النَّبِي على فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهُم ليعذبون فِي قُبُورهم حَتَّى تسمع الْبَهَائِم أَصْوَاتهم قلت وَأَحَادِيث الْمَسْأَلَة فِي الْقَبْر كَثِيرَة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن عَن الْبَراء بن عَازِب ان رَسُول الله قَالَ الْمُسلم إِذا سُئِلَ فِي قَبره فَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَذَلِك قَول الله {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} وَفِي لفظ نزلت فِي عَذَاب الْقَبْر يُقَال لَهُ من رَبك فَيَقُول الله رَبِّي وَمُحَمّد نَبِي فَذَلِك قَول الله {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} وَهَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ أهل السّنَن وَالْمَسَانِيد مطولا كَمَا تقدم وَقد صرح فِي هَذَا الحَدِيث بِإِعَادَة الرّوح إِلَى الْبدن وباختلاف أضلاعه وَهَذَا بَين فِي أَن الْعَذَاب على الرّوح وَالْبدن مُجْتَمعين وَقد روى مثل حَدِيث الْبَراء قبض الرّوح وَالْمَسْأَلَة وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب أَبُو هُرَيْرَة وَحَدِيثه فِي الْمسند وصحيح أَبى حَاتِم أَن النَّبِي قَالَ إِن الْمَيِّت إِذا وضع فِي قَبره أَنه يسمع خَفق نعَالهمْ حِين يولون عَنهُ فَإِن كَانَ مُؤمنا كَانَت الصَّلَاة عِنْد رَأسه وَالصِّيَام عَن يَمِينه وَالزَّكَاة عَن شِمَاله وَكَانَ فعل الْخيرَات من الصَّدَقَة والصلة وَالْمَعْرُوف وَالْإِحْسَان عِنْد رجلَيْهِ فَيُؤتى من قبل رَأسه فَتَقول الصَّلَاة مَا قبلى مدْخل ثمَّ يُؤْتى من يَمِينه فَيَقُول الصّيام مَا قبلى مدْخل ثمَّ يُؤْتى من يسَاره فَتَقول الزَّكَاة مَا قبلى مدْخل ثمَّ يُؤْتى من قبل رجلَيْهِ فَيَقُول فعل الْخيرَات من الصَّدَقَة والصلة وَالْمَعْرُوف وَالْإِحْسَان مَا قبلى مدْخل فَيُقَال لَهُ اجْلِسْ فيجلس قد مثلت لَهُ الشَّمْس وَقد أخذت الْغُرُوب فَيُقَال لَهُ هَذَا الرجل الذى كَانَ فِيكُم مَا تَقول فِيهِ وماذا تشهد بِهِ عَلَيْهِ فَيَقُول دعونى حَتَّى أصلى فَيَقُولُونَ انك ستصلى أخبرنَا عَمَّا نَسْأَلك عَنهُ أَرَأَيْت هَذَا الرجل الذى كَانَ فِيكُم مَا تَقول فِيهِ وَمَا تشهد عَلَيْهِ فَيَقُول مُحَمَّد أشهد أَنه رَسُول الله جَاءَ بِالْحَقِّ من عِنْد الله فَيُقَال لَهُ على ذَلِك حييت وعَلى ذَلِك مت وعَلى ذَلِك تبْعَث إِن شَاءَ الله ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة فَيُقَال لَهُ هَذَا مَقْعَدك وَمَا أعد الله لَك فِيهَا فَيَزْدَاد غِبْطَة وسرورا ثمَّ يفسح لَهُ فِي قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا وينور لَهُ فِيهِ ويعاد الْجَسَد لما بدىء

مِنْهُ وَتجْعَل نسمته فِي النسم الطّيب وَهِي طير مُعَلّق فِي شجر الْجنَّة قَالَ فَذَلِك قَول الله تَعَالَى {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} وَذكر فِي الْكَافِر ضد ذَلِك إِلَى أَن قَالَ ثمَّ يضيق عَلَيْهِ فِي قَبره إِلَى أَن تخْتَلف فِيهِ أضلاعه فَتلك الْمَعيشَة الضنك الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن لَهُ معيشة ضنكا ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمى} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث قَتَادَة عَن أنس أَن النَّبِي قَالَ إِن الْمَيِّت إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ أَصْحَابه انه ليسمع خَفق نعَالهمْ أَتَاهُ ملكان فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل مُحَمَّد فَأَما الْمُؤمن فَيَقُول أشهد أَنه عبد الله وَرَسُوله قَالَ فَيَقُول أنظر إِلَى مَقْعَدك من النَّار قد أبدلك الله بِهِ مقْعدا من الْجنَّة قَالَ رَسُول الله فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا قَالَ قَتَادَة وَذكر لنا أَنه يفسح لَهُ فِي قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا يمْلَأ عَلَيْهِ خضرًا إِلَى يَوْم يبعثون ثمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيث أنس قَالَ فَأَما الْكَافِر وَالْمُنَافِق فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول لَا ادرى كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس فَيَقُولَانِ لَا دَريت وَلَا تليت ثمَّ يضْرب بمطراق من حَدِيد بَين أُذُنَيْهِ فَيَصِيح صَيْحَة فيسمعها من عَلَيْهَا غير الثقلَيْن وَفِي صَحِيح أَبى حَاتِم عَن أَبى هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله قبر أحدكُم أَو الْإِنْسَان أَتَاهُ ملكان أسودان أزرقان يُقَال لأَحَدهمَا الْمُنكر وَللْآخر النكير فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل مُحَمَّد فَهُوَ قَائِل مَا كَانَ يَقُول فان كَانَ مُؤمنا قَالَ هُوَ عبد الله وَرَسُوله أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فَيَقُولَانِ لَهُ إِن كُنَّا لنعلم أَنَّك تَقول ذَلِك ثمَّ يفسح لَهُ فِي قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا فِي سبعين ذِرَاع وينور لَهُ فِيهِ وَيُقَال لَهُ نم فَيَقُول ارْجع إِلَى أهلى ومالى فَأخْبرهُم فَيَقُولَانِ نم كنومة الْعَرُوس الذى لَا يوقظه إِلَّا أحب أَهله إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثهُ الله من مضجعه ذَلِك وَإِن كَانَ منافقا قَالَ لَا أدرى كنت أسمع النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فَكنت أقوله فَيَقُولَانِ لَهُ كُنَّا نعلم أَنَّك تَقول ذَلِك ثمَّ يُقَال للْأَرْض التئمي عَلَيْهِ فتلتئم عَلَيْهِ حَتَّى تخْتَلف فِيهَا أضلاعه فَلَا يزَال معذبا حَتَّى يَبْعَثهُ الله من مضجعه ذَلِك وَهَذَا صَرِيح فِي أَن الْبدن يعذب وَعَن أَبى هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ إِذا احْتضرَ الْمُؤمن أَتَتْهُ الْمَلَائِكَة بحريرة بَيْضَاء فَيَقُولُونَ اخرجى أيتها الرّوح الطّيبَة راضية مرضيا عَنْك إِلَى روح وَرَيْحَان وَرب غير غَضْبَان فَتخرج كأطيب من ريح الْمسك حَتَّى أَنه ليناوله بَعضهم بَعْضًا حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَاب السَّمَاء فَيَقُولُونَ مَا أطيب هَذِه الرّيح الَّتِي جاءتكم من الأَرْض فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فهم أَشد فَرحا بِهِ من أحدكُم بغائبه يقدم عَلَيْهِ فيسألونه مَاذَا فعل فلَان قَالَ فَيَقُولُونَ

دَعْوَة يستريح فانه كَانَ فِي غم الدُّنْيَا فاذا قَالَ أَتَاكُم فَيَقُولُونَ انه ذهب بِهِ إِلَى أمه الهاوية وَإِن الْكَافِر إِذا احْتضرَ أَتَتْهُ مَلَائِكَة الْعَذَاب بمسح فَيَقُولُونَ اخرجى مسخوطا عَلَيْك إِلَى عَذَاب الله فَتخرج كأنتن ريح جيفة حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَاب الأَرْض فَيَقُولُونَ فَمَا أنتن هَذِه الرّوح حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَرْوَاح الْكفَّار رَوَاهُ النسائى وَالْبَزَّار وَمُسلم مُخْتَصرا وَأخرجه أَبُو حَاتِم فِي صَحِيحه وَقَالَ إِن الْمُؤمن إِذا حَضَره الْمَوْت حَضرته مَلَائِكَة الرَّحْمَة فاذا قبض جعلت روحه فِي حريرة بَيْضَاء فَينْطَلق بهَا إِلَى بَاب السَّمَاء فَيَقُولُونَ مَا وجدنَا ريحًا أطيب من هَذِه فَيُقَال مَا فعل فلَان مَا فعلت فُلَانَة فَيُقَال دَعوه يستريح فَإِنَّهُ كَانَ فِي غم الدُّنْيَا وَأما الْكَافِر إِذا قبضت نَفسه ذهب بهَا إِلَى الأَرْض فَتَقول خَزَنَة الأَرْض مَا وجدنَا ريحًا أنتن من هَذِه فَيبلغ بهَا إِلَى الأَرْض السُّفْلى وروى النسائى فِي سنَنه من حَدِيث عبد الله بن عمر رضى الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي قَالَ هَذَا الَّذِي تحرّك لَهُ الْعَرْش وَفتحت لَهُ أَبْوَاب السَّمَاء وَشهد لَهُ سَبْعُونَ ألفا من الْمَلَائِكَة لقد ضم ضمة ثمَّ فرج عَنهُ قَالَ النسائى يعْنى سعد بن معَاذ وروى من حَدِيث عَائِشَة رضى الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله للقبر ضغطة لَو نجا مِنْهَا أحد لنجا مِنْهَا سعد بن معَاذ رَوَاهُ من حَدِيث شُعْبَة وَقَالَ هناد بن السرى حَدثنَا مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن أَبِيه عَن ابْن أَبى مليكَة قَالَ مَا أجِير من ضغطة الْقَبْر أحد وَلَا سعد بن معَاذ الَّذِي منديل من مناديله خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا قَالَ وَحدثنَا عَبدة عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع قَالَ لقد بلغنى أَنه شهد جَنَازَة سعد ابْن معَاذ سَبْعُونَ ألف ملك لم ينزلُوا إِلَى الأَرْض قطّ وَلَقَد بلغنى أَن رَسُول الله قَالَ لقد ضم صَاحبكُم فِي الْقَبْر ضمة وَقَالَ عَليّ بن معبد حَدثنَا عبيد الله عَن زيد بن أبي أنيسَة عَن جَابر عَن نَافِع قَالَ أَتَيْنَا صَفِيَّة بنت ابي عبيد امراة عبد الله عمر وَهِي فزعه فَقُلْنَا مَا شَأْنك فَقَالَت جِئْت من عِنْد بعض نسَاء النَّبِي قَالَت فحدثتني أَن رَسُول الله قَالَ إِن كنت لأرى لَو أَن أحد اعفي من عَذَاب الْقَبْر لأعفي مِنْهُ سعد بن معَاذ لقد ضم فِيهِ ضمه

فصل وهذا كما انه مقتضى السنة الصحيحة فهو متفق عليه بين أهل السنة

وَحدثنَا مَرْوَان بن مُعَاوِيَة عَن الْعَلَاء بن الْمسيب عَن مُعَاوِيَة العبسى عَن زَاذَان ابْن عَمْرو قَالَ لما دفن رَسُول الله ابْنَته فَجَلَسَ عِنْد الْقَبْر فتربد وَجهه ثمَّ سرى عَنهُ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه رَأينَا وَجهك آنِفا ثمَّ سرى فَقَالَ النَّبِي ذكرت ابْنَتي وضعفها وَعَذَاب الْقَبْر فدعوت الله فَفرج عَنْهَا وَايْم الله لقد ضمت ضمه سَمعهَا من بَين الْخَافِقين وَحدثنَا شُعَيْب عَن ابْن دِينَار عَن ابْن إِبْرَاهِيم الغنوى عَن رجل قَالَ كنت عِنْد عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فمرت جَنَازَة صبي صَغِير فَبَكَتْ فَقلت لَهَا مَا يبكيك يَا أم الْمُؤمنِينَ فَقَالَت هَذَا الصَّبِي بَكَيْت لَهُ شَفَقَة عَلَيْهِ من ضمة الْقَبْر وَمَعْلُوم أَن هَذَا كُله للجسد بِوَاسِطَة الرّوح فصل وَهَذَا كَمَا انه مُقْتَضى السّنة الصَّحِيحَة فَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل السّنة قَالَ المروزى قَالَ أَبُو عبد الله عَذَاب الْقَبْر حق لَا يُنكره إِلَّا ضال أَو مضل وَقَالَ حَنْبَل قلت لأبى عبد الله فِي عَذَاب الْقَبْر فَقَالَ هَذِه أَحَادِيث صِحَاح نؤمن بهَا ونقر بهَا كلما جَاءَ عَن النَّبِي إِسْنَاد جيد أقررنا بِهِ إِذا لم نقر بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله ودفعناه ورددناه على الله أمره قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} قلت لَهُ وَعَذَاب الْقَبْر حق قَالَ حق يُعَذبُونَ فِي الْقُبُور قَالَ وَسمعت أَبَا عبد الله يَقُول نؤمن بِعَذَاب الْقَبْر وبمنكر وَنَكِير وَأَن العَبْد يسْأَل فِي قَبره {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} فِي الْقَبْر وَقَالَ أَحْمد بن الْقَاسِم قلت يَا أَبَا عبد الله تقر بمنكر وَنَكِير وَمَا يرْوى فِي عَذَاب الْقَبْر فَقَالَ سُبْحَانَ الله نعم نقر بذلك ونقوله قلت هَذِه اللَّفْظَة تَقول مُنكر وَنَكِير هَكَذَا أَو تَقول ملكَيْنِ قَالَ مُنكر وَنَكِير قلت يَقُولُونَ لَيْسَ فِي حَدِيث مُنكر وَنَكِير قَالَ هُوَ هَكَذَا يعْنى أَنَّهُمَا مُنكر وَنَكِير وَأما أَقْوَال أهل الْبدع والضلال فَقَالَ أَبُو الْهُذيْل والمريسى من خرج عَن سمة الْإِيمَان فَإِنَّهُ يعذب بَين النفختين وَالْمَسْأَلَة فِي الْقَبْر إِنَّمَا تقع فِي ذَلِك الْوَقْت

فصل ومما ينبغى أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزح فكل من

وَأثبت الجبائى وَابْنه البلخى عَذَاب الْقَبْر وَلَكنهُمْ نفوه عَن الْمُؤمنِينَ وأثبتوه لأَصْحَاب التخليد من الْكفَّار والفساق على أصولهم وَقَالَ كثير من الْمُعْتَزلَة لَا يجوز تَسْمِيَة مَلَائِكَة الله بمنكر وَنَكِير وَإِنَّمَا الْمُنكر مَا يَبْدُو من تلجلجه إِذا سُئِلَ والنكير تقريع الْملكَيْنِ لَهُ وَقَالَ الصالحى وَصَالح فِيهِ عَذَاب الْقَبْر يجرى على الْمُؤمن من غير رد الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد وَالْمَيِّت يجوز أَن يألم ويحس وَيعلم بِلَا روح وهذ قَول جمَاعَة من الكرامية وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة ان الله سُبْحَانَهُ يعذب الْمَوْتَى فِي قُبُورهم وَيحدث فيهم الآلام وهم لَا يَشْعُرُونَ فَإِذا حشروا وجدوا تِلْكَ الآلام وأحسوا بهَا قَالُوا وسبيل الْمُعَذَّبين من الْمَوْتَى كسبيل السَّكْرَان والمغشى عَلَيْهِ لَو ضربوا لم يَجدوا الآلام فاذا عَاد عَلَيْهِم الْعقل أحسوا بألم الضَّرْب وَأنكر جمَاعَة مِنْهُم عَذَاب الْقَبْر رَأْسا مثل ضرار بن عَمْرو وَيحيى بن كَامِل وَهُوَ قَول المريسى فَهَذِهِ أَقْوَال أهل الخزية والضلال فصل وَمِمَّا ينبغى أَن يعلم أَن عَذَاب الْقَبْر هُوَ عَذَاب البرزح فَكل من مَاتَ وَهُوَ مُسْتَحقّ للعذاب ناله نصِيبه مِنْهُ قبر أَو لم يقبر فَلَو أَكلته السبَاع أَو أحرق حَتَّى صَار رَمَادا ونسف فِي الْهَوَاء أَو صلب أَو غرق فِي الْبَحْر وصل إِلَى روحه وبدنه من الْعَذَاب مَا يصل إِلَى الْقُبُور وَفِي صَحِيح البخارى عَن سَمُرَة بن جُنْدُب قَالَ كَانَ النَّبِي إِذا صلى صَلَاة أقبل علينا بِوَجْهِهِ فَقَالَ من رأى مِنْكُم اللَّيْلَة رُؤْيا قَالَ فان رأى أحد رُؤْيا قصها فَيَقُول مَا شَاءَ الله فسألنا يَوْمًا فَقَالَ هَل رأى أحد مِنْكُم رُؤْيا قُلْنَا لَا قَالَ لكنى رَأَيْت اللَّيْلَة رجلَيْنِ اتيانى فأخذا بيدى وأخرجانى إِلَى الأَرْض المقدسة فَإِذا رجل جَالس وَرجل قَائِم بِيَدِهِ كَلوب من حَدِيد يدْخلهُ فِي شدقه حَتَّى يبلغ قَفاهُ ثمَّ يفعل بشدقه الآخر مثل ذَلِك ويلتئم شدقه هَذَا فَيَعُود فيصنع مثله قلت مَا هَذَا قَالَا انْطلق فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا على رجل مُضْطَجع على قَفاهُ وَرجل قَائِم على رَأسه بصخرة أَو فهر فيشدخ بهَا رَأسه فاذا ضربه تدهده الْحجر فأنطلق اليه ليأخذه فَلَا يرجع إِلَى هَذَا حَتَّى يلتئم رَأسه وَعَاد رَأسه كَمَا هُوَ فَعَاد إِلَيْهِ فَضَربهُ قلت مَا هَذَا قَالَا انْطلق فَانْطَلَقْنَا إِلَى نقب مثل التَّنور أَعْلَاهُ ضيق وأسفله وَاسع يُوقد تَحْتَهُ نَار فَإِذا فِيهِ رجال وَنسَاء عُرَاة فيأتيهم اللهب من تَحْتهم فَإِذا اقْترب ارتفعوا حَتَّى

كَادُوا يخرجُوا فَإِذا خمدت رجعُوا فَقلت مَا هَذَا قَالَا انْطلق فأنطلقنا حَتَّى أَتَيْنَا على نهر من دم فِيهِ رجل قَائِم وعَلى وسط النَّهر رجل بَين يَدَيْهِ حِجَارَة فَأقبل الرجل الَّذِي فِي النَّهر فَإِذا أَرَادَ أَن يخرج رمى الرجل بِحجر فِي فِيهِ فَرده حَيْثُ كَانَ فَجعل كلما جَاءَ ليخرج رمى فِي فِيهِ بِحجر فَرجع كَمَا كَانَ فَقلت مَا هَذَا قَالَا انْطلق فَانْطَلَقْنَا حَتَّى اتينا إِلَى رَوْضَة خضراء فِيهَا شَجَرَة عَظِيمَة وَفِي اصلها شيخ وصبيان واذا رجل قريب من الشَّجَرَة بَين يَدَيْهِ نَار يوقدها فصعدا بى الشَّجَرَة وأدخلانى دَارا لم أرقط أحسن مِنْهَا فِيهَا شُيُوخ وشبان ثمَّ صعدا بى فأدخلانى دَارا هِيَ أحسن وَأفضل قلت طوفتمانى اللَّيْلَة فأخبرانى عَمَّا رَأَيْت قَالَا نعم الَّذِي رَأَيْته يشق شدقه كَذَّاب يحدث بالكذبة فَتحمل عَنهُ حَتَّى تبلغ الْآفَاق فيصنع بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة والذى رَأَيْته يشدخ رَأسه فَرجل علمه الله الْقُرْآن فَنَامَ عَنهُ بِاللَّيْلِ وَلم يعْمل بِهِ بِالنَّهَارِ يفعل بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأما الَّذِي رَأَيْت فِي النقب فهم الزناة وَالَّذِي رَأَيْته فِي النَّهر فَآكل الرِّبَا وَأما الشَّيْخ الَّذِي فِي اصل الشَّجَرَة فإبراهيم وَالصبيان حوله فأولاد النَّاس وَالَّذِي يُوقد النَّار فمالك خَازِن النَّار وَالدَّار الأولى دَار عَامَّة الْمُؤمنِينَ وَأما هَذِه الدَّار فدار الشُّهَدَاء وَأَنا جِبْرَائِيل وَهَذَا مِيكَائِيل فَارْجِع رَأسك فَرفعت رأسى فَإِذا قصر مثل السحابة قَالَا ذَلِك مَنْزِلك قلت دعانى أَدخل منزلى قَالَا انه بقى لَك عمر لم تستكمله فَلَو اسكملته أتيت مَنْزِلك وَهَذَا نَص فِي عَذَاب البرزخ فَإِن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وحى مُطَابق لما فِي نفس الْأَمر وَقد ذكر الطحاوى عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي قَالَ امْر بِعَبْد من عباد الله ان يضْرب فِي قَبره مائَة جلدَة فَلم يزل يسْأَل ويدعوه حَتَّى صَارَت وَاحِدَة فَامْتَلَأَ قَبره عَلَيْهِ نَارا فَلَمَّا ارْتَفع عَنهُ أَفَاق فَقَالَ علام جلدتمونى قَالُوا إِنَّك صليت صَلَاة بِغَيْر طهُور ومررت على مظلوم فَلم تنصره وَذكر البيهقى حَدِيث الرّبيع بن أنس عَن أَبى الْعَالِيَة عَن أَبى هُرَيْرَة عَن النَّبِي فِي هَذِه الْآيَة {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} إِلَّا أَنه أَتَى بفرس فَحمل عَلَيْهِ قَالَ كل خطْوَة مُنْتَهى أقْصَى بَصَره فَسَار وَسَار مَعَه جِبْرِيل فَأتى على قوم يزرعون فِي يَوْم ويحصدون فِي يَوْم كلما حصدوا عَاد كَمَا كَانَ فَقَالَ يَا جِبْرَائِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ المجاهدون فِي سَبِيل الله يُضَاعف لَهُم الْحَسَنَة بسبعمائة {وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه وَهُوَ خير الرازقين} ثمَّ أَتَى على قوم ترضخ رُءُوسهم بالصخر كلما رضخت عَادَتْ كَمَا كَانَت لَا يفتر عَنْهُم شَيْء من ذَلِك قَالَ يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذين تتثاقل رُءُوسهم عَن الصَّلَاة قَالَ ثمَّ أَتَى على قوم على اقبالهم رقاع وعَلى أدبارهم يسرحون كَمَا تسرح الْأَنْعَام على الضريع والزقوم ورضف جَهَنَّم وحجارتها قَالَ مَا هَؤُلَاءِ يَا جِبْرَائِيل قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذين لَا يؤدون صدقَات أَمْوَالهم

وَمَا ظلمهم الله وَمَا الله بظلام للعبيد ثمَّ أَتَى على قوم بَين أَيْديهم لحم من قدر نضيج وَلحم آخر خَبِيث فَجعلُوا يَأْكُلُون من الْخَبيث وَيدعونَ النضيج الطّيب فَقَالَ يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ هَذَا الرجل يقوم وَعِنْده امْرَأَة حَلَالا طيبا فيأتى الْمَرْأَة الخبيثة فتبيت مَعَه حَتَّى تصبح ثمَّ أَتَى على خَشَبَة على الطَّرِيق لَا يمر بهَا شَيْء إِلَّا قصفته يَقُول الله تَعَالَى {وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط توعدون} ثمَّ مر على رجل قد جمع حزمه عَظِيمَة لَا يَسْتَطِيع حملهَا وَهُوَ يزِيد عَلَيْهَا قَالَ يَا جِبْرِيل مَا هَذَا قَالَ هَذَا رجل من أمتك عَلَيْهِ أَمَانه لَا يَسْتَطِيع أداءها وَهُوَ يزِيد عَلَيْهَا ثمَّ أَتَى على قوم تقْرض شفاههم بمقاريض من حَدِيد كلما قرضت عَادَتْ كَمَا كَانَت لَا يفتر عَنْهُم شَيْء قَالَ يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ خطباء الفتنه ثمَّ أَتَى على حجر صَغِير يخرج مِنْهُ نور عَظِيم فَجعل النُّور يُرِيد ان يدْخل من حَيْثُ خرج وَلَا يَسْتَطِيع قَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ هَذَا الرجل يتَكَلَّم با لكلمه فيندم عَلَيْهَا فيريد ان يردهَا فَلَا يَسْتَطِيع وَذكر الحَدِيث وَذكر الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي حَدِيث الاسراء من رِوَايَة أَبى سعيد الخدرى عَن النَّبِي فَصَعدت أَنا وَجِبْرِيل فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل فَإِذا بِآدَم كَهَيْئَته يَوْم خلقه الله على صورته تعرض عَلَيْهِ أَرْوَاح ذُريَّته الْمُؤمنِينَ فَيَقُول روح طيبه وَنَفس طيبه اجْعَلُوهَا فِي عليين ثمَّ تعرض عَلَيْهِ أَرْوَاح ذُريَّته الْفجار فَيَقُول روح خبيثة وَنَفس خبيثة اجْعَلُوهَا فِي سِجِّين ثمَّ مضيت هنيَّة فَإِذا أَنا بأخونة عَلَيْهَا لحم مشرح لَيْسَ بقربها أحد وَإِذا بأخونة أُخْرَى عَلَيْهَا لحم قد أروح ونتن وَعِنْدهَا نَاس يَأْكُلُون مِنْهَا قلت يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ يتركون الْحَلَال ويأتون الْحَرَام قَالَ ثمَّ مضيت هنيهة فاذا أَنا بِأَقْوَام بطونهم أَمْثَال الْبيُوت كلما نَهَضَ أحدهم خر يَقُول اللَّهُمَّ لَا تقم السَّاعَة قَالَ وهم على سابلة آل فِرْعَوْن قَالَ فتجىء السابلة فتطأهم فيصيحون قلت يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ {الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} قَالَ ثمَّ مضيت هنيهة فاذا أَنا بِقوم مشافرهم كمشافر الْإِبِل فتفتح أَفْوَاههم فيلقمون الْجَمْر ثمَّ يخرج من أسافلهم فَسَمِعتهمْ يصيحون قلت من هَؤُلَاءِ قَالَ الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما ثمَّ مضيت هنيهة فاذا أَنا بنساء معلقات بثديهن فسمعتهن يصحن قلت من هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ الزوانى ثمَّ مضيت هنيهة فاذا أَنا بِقوم يقطع من جنُوبهم اللَّحْم فيلقمون فَيُقَال كل كَمَا كنت تَأْكُل لحم أَخِيك قلت من هَؤُلَاءِ قَالَ الهمازون من أمتك وَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ

المسألة السابعة وهى قول للسائل ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين

وَفِي سنَن أَبى دَاوُود من حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله لما عرج بى مَرَرْت بِقوم لَهُم أظفار من نُحَاس يخمشون وُجُوههم وصدورهم فَقلت يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ الَّذين يَأْكُلُون لُحُوم النَّاس ويقعون فِي أعراضهم وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطيالسى فِي مُسْنده حَدثنَا شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله على قبرين فَقَالَ إنَّهُمَا ليعذبان فِي غير كَبِير أما أَحدهمَا فَكَانَ يَأْكُل لُحُوم النَّاس وَأما الآخر فَكَانَ صَاحب نميمة ثمَّ دَعَا بجريدة فَشَقهَا نِصْفَيْنِ فَوضع نصفهَا على هَذَا الْقَبْر وَنِصْفهَا على هَذَا الْقَبْر وَقَالَ عَسى أَن يُخَفف عَنْهُمَا مَا دامتا رطبتين وَقد اخْتلف النَّاس فِي هذَيْن هَل كَانَا كَافِرين أَو مُؤمنين كَانَا كَافِرين وَقَوله وَمَا يعذبان فِي كَبِير يعْنى بالاضافة إِلَى الْكفْر والشرك قَالُوا وَيدل عَلَيْهِ أَن الْعَذَاب لم يرْتَفع عَنْهُمَا وَإِنَّمَا خفف وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خفف مُدَّة رُطُوبَة الجريدة فَقَط وَأَيْضًا فانهما لَو كَانَا مُؤمنين لشفع فيهمَا ودعا لَهما النَّبِي فَرفع عَنْهُمَا بِشَفَاعَتِهِ وَأَيْضًا فَفِي بعض طرق الحَدِيث أَنَّهُمَا كَانَا كَافِرين وَهَذَا التعذيب زِيَادَة على تعذيبهما بكفرهما وخطاياهما وَهُوَ دَلِيل على أَن الْكَافِر يعذب بِكُفْرِهِ وذنوبه جَمِيعًا وَهَذَا اخْتِيَار أَبى الحكم بن برخان وَقيل كَانَا مُسلمين لنفيه بِسَبَب غير السببين الْمَذْكُورين وَلقَوْله وَمَا يعذبان فِي كَبِير وَالْكفْر والشرك أكبر الْكَبَائِر على الْإِطْلَاق وَلَا يلْزم أَن يشفع النَّبِي لكل مُسلم يعذب فِي قَبره على جريمة من الجرائم فقد أخبر عَن صَاحب الشملة الذى قتل فِي الْجِهَاد أَن الشملة تشتعل عَلَيْهِ نَارا فِي قَبره وَكَانَ مُسلما مُجَاهدًا وَلَا يعلم ثُبُوت هَذِه اللَّفْظَة وهى قَوْله كَانَا كَافِرين ولعلها لَو صحت وكلا فهى من قَول بعض الروَاة وَالله أعلم وَهَذَا اخْتِيَار أَبى عبد الله القرطبى الْمَسْأَلَة السَّابِعَة وهى قَول للسَّائِل مَا جَوَابنَا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب الْقَبْر وسعته وضيقه وَكَونه حُفْرَة من حفر النَّار أَو رَوْضَة من رياض الْجنَّة وَكَون الْمَيِّت لَا يجلس وَلَا يقْعد فِيهِ قَالُوا فانا نكشف الْقَبْر فَلَا نجد فِيهِ مَلَائِكَة عميا صمًّا يضْربُونَ الْمَوْتَى بمطارق من حَدِيد وَلَا نجد هُنَاكَ حيات وَلَا ثعابين وَلَا نيرانا تأجج وَلَو كشفنا حَالَة من الْأَحْوَال لوجدناه لم يتَغَيَّر وَلَو وَضعنَا على عَيْنَيْهِ الزئبق وعَلى صَدره الْخَرْدَل لوجدناه على حَاله وَكَيف يفسح

فصل الأمر الأول أن يعلم أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا

مد بَصَره أَو يضيق عَلَيْهِ وَنحن ونجده بِحَالهِ ونجد مساحته على حد مَا حفرناها لم يزدْ وَلم ينقص وَكَيف يسع ذَلِك اللَّحْد الضّيق لَهُ وللملائكة وللصورة الَّتِي تؤنسه أَو توحشه قَالَ إخْوَانهمْ من أهل الْبدع والضلال وكل حَدِيث يُخَالف مُقْتَضى الْعُقُول والحس يقطع بتخطئة قَائِله قَالُوا وَنحن نرى المصلوب على خَشَبَة مُدَّة طَوِيلَة لَا يسْأَل وَلَا يُجيب وَلَا يَتَحَرَّك وَلَا يتوقد جِسْمه نَارا وَمن افترسته السبَاع ونهشته الطُّيُور وَتَفَرَّقَتْ أجزاؤه وَفِي أَجْوَاف السبَاع وحواصل الطُّيُور وبطون الْحيتَان ومدارج الرِّيَاح كَيفَ تسْأَل أجزاؤه مَعَ تفرقها وَكَيف يتَصَوَّر مَسْأَلَة الْملكَيْنِ لمن هَذَا وَصفه وَكَيف يصير الْقَبْر على هَذَا رَوْضَة من رياض الْجنَّة أَو حُفْرَة من حفر النَّار وَكَيف يضيق عَلَيْهِ حَتَّى تلتئمه أضلاعه وَنحن نذْكر أمورا يعلم بهَا الْجَواب فصل الْأَمر الأول أَن يعلم أَن الرُّسُل صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم لم يخبروا بِمَا تحيله الْعُقُول وتقطع باستحالته بل اخبارهم قِسْمَانِ أَحدهمَا مَا تشهد بِهِ الْعُقُول وَالْفطر الثَّانِي مَالا تُدْرِكهُ الْعُقُول بمجردها كالغيوب الَّتِي أخبروا بهَا عَن تفاصيل البرزخ وَالْيَوْم الآخر وتفاصيل الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَلَا يكون خبرهم محالا فِي الْعُقُول أصلا وكل خبر يظنّ أَن الْعقل يحيله فَلَا يَخْلُو من أحد أَمريْن أما يكون الْخَبَر كذبا عَلَيْهِم أَو يكون ذَلِك الْعقل فَاسِدا وَهُوَ شُبْهَة خيالية يظنّ صَاحبهَا أَنَّهَا مَعْقُول صَرِيح قَالَ تَعَالَى {وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَن يعلم أَنما أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق كمن هُوَ أعمى} وَقَالَ تَعَالَى الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يفرحون بِمَا أنزل اليك وَمن الْأَحْزَاب من يُنكر بعضه والنفوس لَا تفرح بالمحال وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس قد جاءتكم موعظة من ربكُم وشفاء لما فِي الصُّدُور وَهدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} والمحال لَا يشفي وَلَا يحصل بِهِ هدى وَلَا رَحْمَة وَلَا يفرح بِهِ فَهَذَا أَمر من لم يسْتَقرّ فِي قلبه خير وَلم يثبت لَهُ على الْإِسْلَام قدم وَكَانَ أحسن أَحْوَاله الْحيرَة وَالشَّكّ فصل الْأَمر الثانى أَن يفهم عَن الرَّسُول مُرَاد من غير غلو وَلَا تَقْصِير فَلَا يحمل كَلَامه مَالا يحْتَملهُ وَلَا يقصر بِهِ عَن مُرَاده وَمَا قَصده من الْهدى وَالْبَيَان

وَقد حصل باهمال ذَلِك والعدول عَنهُ من الضلال والعدول عَن الصَّوَاب وَمَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله بل سوء الْفَهم عَن الله وَرَسُوله أصل كل بِدعَة وضلالة نشأت فِي الْإِسْلَام بل هُوَ أصل كل خطأ فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع وَلَا سِيمَا إِن أضيف إِلَيْهِ سوء الْقَصْد فيتفق سوء الْفَهم فِي بعض الْأَشْيَاء من الْمَتْبُوع مَعَ حسن قَصده وَسُوء الْقَصْد من التَّابِع فيا محنة الدّين وَأَهله وَالله الْمُسْتَعَان وَهل أوقع الْقَدَرِيَّة والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وَسَائِر الطوائف أهل الْبدع إِلَّا سوء الْفَهم عَن الله وَرَسُوله حَتَّى صَار الدّين بأيدى أَكثر النَّاس هُوَ مُوجب هَذِه الإفهام والذى فهمه الصَّحَابَة وَمن تَبِعَهُمْ عَن الله وَرَسُوله فمهجور لَا يلْتَفت اليه وَلَا يرفع هَؤُلَاءِ بِهِ رَأْسا ولكثرة أَمْثِلَة هَذِه الْقَاعِدَة تركناها فانا لَو ذَكرنَاهَا لزادت على عشرَة الوف حَتَّى أَنَّك لتمر على الْكتاب من أَوله إِلَى آخِره فَلَا تَجِد صَاحبه فهم عَن الله وَرَسُوله وَمرَاده كَمَا ينبغى فِي مَوضِع وَاحِد وَهَذَا إِنَّمَا يعرفهُ من عرف مَا عِنْد النَّاس وَعرضه على مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَأما من عكس الْأَمر بِعرْض مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول على مَا اعتقده وانتحله وقلد فِيهِ من أحسن بِهِ الظَّن فَلَيْسَ يجدى الْكَلَام مَعَه شَيْئا فَدَعْهُ وَمَا اخْتَارَهُ لنَفسِهِ وَوَلِهَ مَا تولى وَاحْمَدْ الذى عافاك مِمَّا ابتلاه بِهِ فصل الْأَمر الثَّالِث أَن الله سُبْحَانَهُ جعل الدّور ثَلَاثًا دَار الدُّنْيَا وَدَار البرزخ وَدَار الْقَرار وَجعل لكم دَار أحكاما تخْتَص بهَا وَركب هَذَا الانسان من بدن وَنَفس وَجعل أَحْكَام دَار الدُّنْيَا على الْأَبدَان والأرواح تبعا لَهَا وَلِهَذَا جعل أَحْكَامه الشَّرْعِيَّة مرتبَة على مَا يظْهر من حركات اللِّسَان والجوارح وان أضمرت النُّفُوس خِلَافه وَجعل أَحْكَام البرزخ على الْأَرْوَاح والأبدان تبعا لَهَا فَكَمَا تبِعت الْأَرْوَاح الْأَبدَان فِي أَحْكَام الدُّنْيَا فتألمت بألمها والتذت براحتها وَكَانَت هى الَّتِي باشرت أَسبَاب النَّعيم وَالْعَذَاب تبِعت الْأَبدَان الْأَرْوَاح فِي نعيمها وعذابها والأرواح حِينَئِذٍ هى الَّتِي تباشر الْعَذَاب وَالنَّعِيم فالأبدان هُنَا ظَاهِرَة والأرواح خُفْيَة والأبدان كالقبور لَهَا والأرواح هُنَاكَ ظَاهِرَة والأبدان خُفْيَة فِي قبورها تجرى أَحْكَام البرزخ على الْأَرْوَاح فتسرى إِلَى أبدانها نعيما أَو عذَابا كَمَا تجرى أَحْكَام الدُّنْيَا على الْأَبدَان فتسرى إِلَى أرواحها نعيما أَو عذَابا فأخط بِهَذَا الْموضع علما واعرفه كَمَا ينبغى يزِيل عَنْك كل اشكال يُورد عَلَيْك من دَاخل وخارج وَقد أرانا الله سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَرَحمته وهدايته من ذَلِك أنموذجا فِي الدُّنْيَا من حَال النَّائِم فَإِن مَا ينعم بِهِ أَو يعذب فِي نَومه يجرى عل ى روحه أصلا وَالْبدن تبع لَهُ وَقد يقوى حَتَّى يُؤثر

الفصل الأمر الرابع أن الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها

فِي الْبدن تاثيرا مشاهدا فَيرى النَّائِم فِي نَومه أَنه ضرب فَيُصْبِح وَأثر الضَّرْب فِي جِسْمه وَيرى أَنه قد أكل أَو شرب فيستيقظ وَهُوَ يجد أثر الطَّعَام وَالشرَاب فِي فِيهِ وَيذْهب عَنهُ الْجُوع والظمأ وأعجب من ذَلِك أَنَّك ترى النَّائِم يقوم فِي نَومه وَيضْرب ويبطش ويدافع كَأَنَّهُ يقظان وَهُوَ نَائِم لَا شُعُور لَهُ بشىء من ذَلِك وَذَلِكَ أَن الحكم لما جرى على الرّوح استعانت بِالْبدنِ من خَارجه وَلَو دخلت فِيهِ لاستيقظ وأحس فَإِذا كَانَت الرّوح تتألم وتتنعم ويصل ذَلِك إِلَى بدنهَا بطرِيق الاستتباع فَهَكَذَا فِي البرزخ بل أعظم فَإِن تجرد الرّوح هُنَالك أكمل وَأقوى وهى مُتَعَلقَة ببدنها لم تَنْقَطِع عَنهُ كل الِانْقِطَاع فَإِذا كَانَ يَوْم حشر الأجساد وَقيام النَّاس من قُبُورهم صَار الحكم وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب على الْأَرْوَاح والأجساد ظَاهرا باديا أصلا وَمَتى أَعْطَيْت هَذَا الْموضع حَقه تبين لَك أَن مَا أخبر بِهِ الرَّسُول من عَذَاب الْقَبْر ونعيمه وضيقه وسعته وضمه وَكَونه حُفْرَة من حفر النَّار أَو رَوْضَة من رياض الْجنَّة مُطَابق لِلْعَقْلِ وَأَنه حق لَا مرية فِيهِ وَإِن من أشكل عَلَيْهِ ذَلِك فَمن سوء فهمه وَقلة علمه أَتَى كَمَا قيل وَكم من عائب قولا صَحِيحا ... وآفته من الْفَهم السقيم وأعجب من ذَلِك أَنَّك تَجِد النائمين فِي فرَاش وَاحِد وَهَذَا روحه فِي النَّعيم وَيَسْتَيْقِظ وَأثر النَّعيم على بدنه وَهَذَا روحه فِي الْعَذَاب وَيَسْتَيْقِظ وَأثر الْعَذَاب على بدنه وَلَيْسَ عِنْد أَحدهمَا خبر عِنْد الآخر فَأمر البرزخ أعجب من ذَلِك الْفَصْل الْأَمر الرَّابِع أَن الله سُبْحَانَهُ جعل أَمر الْآخِرَة وَمَا كَانَ مُتَّصِلا بهَا غيبا وحجها عَن إِدْرَاك الْمُكَلّفين فِي هَذِه الدَّار وَذَلِكَ من كَمَال حكمته وليتميز الْمُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ من غَيرهم فَأول ذَلِك أَن الْمَلَائِكَة تنزل على المحتضر وتجلس قَرِيبا مِنْهُ ويشاهدهم عيَانًا وَيَتَحَدَّثُونَ عِنْده وَمَعَهُمْ الأكفان والحنوط إِمَّا من الْجنَّة وَإِمَّا من النَّار ويؤمنون على دُعَاء الْحَاضِرين بِالْخَيرِ وَالشَّر وَقد يسلمُونَ على المحتضر وَيرد عَلَيْهِم تاره بِلَفْظِهِ تَارَة باشارته وتاره بِقَلْبِه حَيْثُ لَا يتَمَكَّن من نطق وَلَا إِشَارَة وَقد سمع بعض المحتضرين يَقُول أَهلا وسهلا ومرحبا بِهَذِهِ الْوُجُوه وَأَخْبرنِي شَيخنَا عَن بعض المحتضرين فَلَا ادرى أشاهده وَأخْبر عَنهُ انه سمع وَهُوَ يَقُول عَلَيْك السَّلَام هَا هُنَا فاجلس وَعَلَيْك السَّلَام هَا هُنَا فاجلس

وقصة خير النساج رَحمَه الله مَشْهُورَة حَيْثُ قلا عِنْد الْمَوْت اصبر عافاك الله فَإِن مَا أمرت بِهِ لَا يفوت وَمَا أمرت بِهِ يفوت ثمَّ استدعى بِمَاء فَتَوَضَّأ وَصلى ثمَّ قَالَ امْضِ لما أمرت بِهِ وَمَات وَذكر ابْن أَبى الدُّنْيَا أَن عمر بن عبد الْعَزِيز لما كَانَ فِي يَوْمه الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ أجلسونى فَأَجْلَسُوهُ فَقَالَ أَنا الذى أمرتنى فقصرت ونهيتنى فعصيت ثَلَاث مَرَّات وَلَكِن لَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ رفع رَأسه فأحد النّظر فَقَالُوا انك لتنظر نظرا شَدِيدا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ إنى لأرى حَضْرَة مَا هم بانس وَلَا جن ثمَّ قبض وَقَالَ مسلمة بن عبد الْملك لما احْتضرَ عمر بن عبد الْعَزِيز كُنَّا عِنْده فِي قبَّة فَأومى إِلَيْنَا أَن اخْرُجُوا فخرجنا فَقَعَدْنَا حول الْقبَّة وبقى عِنْده وصيف فسمعناه يقْرَأ هَذِه الْآيَة {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} مَا أَنْتُم بانس وَلَا جَان ثمَّ خرج الوصيف فَأومى إِلَيْنَا أَن ادخُلُوا فَدَخَلْنَا فَإِذا هُوَ قد قبض وَقَالَ فضَالة بن دِينَار حضرت مُحَمَّد بن وَاسع وَقد سجى للْمَوْت فَجعل يَقُول مرْحَبًا بملائكة ربى وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وشممت رَائِحَة طيب لم أَشمّ قطّ أطيب مِنْهَا ثمَّ شخص ببصره فَمَاتَ والْآثَار فِي ذَلِك أَكثر من أَن تحصر وأبلغ وأكفى من ذَلِك كُله قَول الله عز وَجل {فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون} أى أقرب إِلَيْهِ بملائكتنا وَرُسُلنَا وَلَكِنَّكُمْ لَا ترونهم فَهَذَا أول الْأَمر وَهُوَ غير مرئى لنا وَلَا مشَاهد وَهُوَ فِي هَذِه الدَّار ثمَّ يمد الْملك يَده إِلَى الرّوح فيقبضها ويخاطبها والحاضرون لَا يرونه وَلَا يسمعونه ثمَّ تخرج فَيخرج لَهَا نور مثل شُعَاع الشَّمْس ورائحة أطيب من رَائِحَة الْمسك والحاضرون لَا يرَوْنَ ذَلِك وَلَا يشمونه ثمَّ تصعد بَين سماطين من الْمَلَائِكَة والحاضرون لَا يرونهم ثمَّ تأتى الرّوح فتشاهد غسل الْبدن وتكفينه وَحمله وَتقول قدمونى قدمونى أَو إِلَى أَيْن تذهبون بى وَلَا يسمع النَّاس ذَلِك فَإِذا وضع فِي لحده وَسوى عَلَيْهِ التُّرَاب لم يحجب التُّرَاب الْمَلَائِكَة عَن الْوُصُول إِلَيْهِ بل لَو نقر لَهُ حجر فأودع فِيهِ وَختم عَلَيْهِ بالرصاص لم يمْنَع وُصُول الْمَلَائِكَة إِلَيْهِ فَإِن هَذِه الاجسام الكثيفة لَا تمنع خرق الْأَرْوَاح لَهَا بل الْجِنّ لَا يمْنَعهَا ذَلِك بل قد جعل الله سُبْحَانَهُ الْحِجَارَة وَالتُّرَاب للْمَلَائكَة بِمَنْزِلَة الْهَوَاء للطير واتساع الْقَبْر وانفساحه للروح

فصل الأمر الخامس أن النار التي في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا

بِالذَّاتِ وَالْبدن تبعا فَيكون الْبدن فِي لحد أضيق من ذِرَاع وَقد فسح لَهُ مد بَصَره تبعا لروحه وَأما عصرة الْقَبْر حَتَّى تخْتَلف بعض أَجزَاء الْمَوْتَى فَلَا يردهُ حس وَلَا عقل وَلَا فطْرَة وَلَو قدر أَن أحدا نبش عَن ميت فَوجدَ أضلاعه كَمَا هى لم تخْتَلف لم يمْنَع أَن تكون قد عَادَتْ إِلَى حَالهَا بعد العصرة فَلَيْسَ مَعَ الزَّنَادِقَة والملاحدة إِلَّا مُجَرّد تَكْذِيب الرَّسُول وَلَقَد أخبر بعض الصَّادِقين أَنه حفر ثَلَاثَة أقبر فَلَمَّا فرغ مِنْهَا اضْطجع ليستريح فَرَأى فِيمَا يرى النَّائِم ملكَيْنِ نزلا فوقفا على أحد الأقبر فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه اكْتُبْ فرسخا فِي فَرسَخ ثمَّ وقف على الثانى فَقَالَ اكْتُبْ ميلًا فِي ميل ثمَّ وقف على الثَّالِث فَقَالَ اكْتُبْ فترا فِي فتر ثمَّ انتبه فجىء بِرَجُل غَرِيب لَا يؤبه لَهُ فَدفن فِي الْقَبْر الأول ثمَّ جىء بِرَجُل آخر فَدفن فِي الْقَبْر الثانى ثمَّ جىء بِامْرَأَة مترفة من وُجُوه الْبَلَد حولهَا نَاس كثير فدفنت فِي الْقَبْر الضّيق الذى سَمعه يَقُول فترا فِي فتر والفتر مَا بَين الْإِبْهَام والسبابة فصل الْأَمر الْخَامِس أَن النَّار الَّتِي فِي الْقَبْر والخضرة لَيست من نَار الدُّنْيَا وَلَا من زروع الدُّنْيَا فيشاهده من شَاهد نَار الدُّنْيَا وخضرها وَإِنَّمَا هى من نَار الْآخِرَة وخضرها وهى أَشد من نَار الدُّنْيَا فَلَا يحس بِهِ أهل الدُّنْيَا فان الله سُبْحَانَهُ يحمى عَلَيْهِ ذَلِك التُّرَاب وَالْحِجَارَة الَّتِي عَلَيْهِ وَتَحْته حَتَّى يكون أعظم حرا من جمر الدُّنْيَا وَلَو مَسهَا أهل الدُّنْيَا لم يحسوا بذلك بل أعجب من هَذَا أَن الرجلَيْن يدفنان أَحدهمَا إِلَى جنت الآخر وَهَذَا فِي حُفْرَة من حفر النَّار لَا يصل حرهَا إِلَى جَاره وَذَلِكَ فِي رَوْضَة من رياض الْجنَّة لَا يصل روحها وَنَعِيمهَا إِلَى جَاره وقدرة الرب تَعَالَى اوسع وأعجب من ذَلِك وَقد أرانا الله من آيَات قدرته فِي هَذِه الدَّار مَا هُوَ أعجب من ذَلِك بِكَثِير وَلَكِن النُّفُوس مولعة بالتكذيب بِمَا لم تحط بِهِ علما إِلَّا من وَفقه الله وَعَصَمَهُ فيفرش للْكَافِرِ لوحان من نَار فيشتعل عَلَيْهِ قَبره بهما كَمَا يشتعل التَّنور فاذا شَاءَ الله سُبْحَانَهُ أَن يطلع على ذَلِك بعض عبيده اطلعه وغيبه عَن غَيره إِذْ لَو طلع الْعباد كلهم لزالت كلمة التَّكْلِيف وَالْإِيمَان بِالْغَيْبِ وَلما تدافن النَّاس كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ لَوْلَا أَن لَا تدافنوا لَدَعَوْت الله أَن يسمعكم من عَذَاب الْقَبْر مَا أسمع وَلما كَانَت هَذِه الْحِكْمَة منفية فِي حق الْبَهَائِم سَمِعت ذَلِك وادركته كَمَا حادت برَسُول الله بغلته وكادت تلقيه لما مر بِمن يعذب فِي قَبره وحدثنى صاحبنا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الرزيز الحرانى أَنه خرج من دَاره بعد الْعَصْر بآمد إِلَى بُسْتَان قَالَ فَلَمَّا كَانَ قبل غرُوب الشَّمْس توسطت الْقُبُور فاذا بِقَبْر مِنْهَا وَهُوَ جَمْرَة

نَار مثل كوز الزّجاج وَالْمَيِّت فِي وَسطه فَجعلت أَمسَح عينى واقول انائم أَنا ام يقظان ثمَّ الْتفت إِلَى سور الْمَدِينَة وَقلت وَالله مَا انا بنائم ثمَّ ذهبت إِلَى أهلى وَأَنا مدهوش فأتونى بِطَعَام فَلم استطع أَن آكل ثمَّ دخلت الْبَلَد فَسَأَلت عَن صَاحب الْقَبْر فَإِذا بِهِ مكاس قد توفّي ذَلِك الْيَوْم فرؤية هَذِه النَّار فِي الْقَبْر كرؤية الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ تقع احيانا لمن شَاءَ الله ان يرِيه ذَلِك وَقد ذكر ابْن أَبى الدُّنْيَا فِي كتاب الْقُبُور عَن الشعبى أَنه ذكر رجلا قَالَ للنَّبِي مَرَرْت بدر فَرَأَيْت رجلا يخرج من الأَرْض فيضربه رجل بمقمعة حَتَّى نعيب فِي الأَرْض ثمَّ يخرج فيفعل بِهِ ذَلِك فَقَالَ رَسُول الله ذَلِك أَبُو جهل بن هِشَام يعذب إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَذكر من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه قَالَ بَينا أَنا اسير بَين مَكَّة وَالْمَدينَة على رَاحِلَة وَأَنا محقب اداوة اذ مَرَرْت بمقبرة فَإِذا رجل خَارج من قَبره يلتهب نَارا وَفِي عُنُقه سلسلة يجرها فَقَالَ يَا عبد الله انْضَحْ يَا عبد الله انْضَحْ فوَاللَّه مَا أدرى اعرفنى باسمى أم كَمَا تَدْعُو النَّاس قَالَ فَخرج آخر فَقَالَ يَا عبد الله لَا تنضج يَا عبد الله لَا تنضج ثمَّ اجتذب السلسلة فاعاده فِي قَبره وَقَالَ ابْن أَبى الدُّنْيَا حَدَّثَنى أَبى حَدثنَا مُوسَى بن دَاوُد حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام ابْن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ بَيْنَمَا رَاكب يسير بَين مَكَّة وَالْمَدينَة غذ مر بمقبرة فَإِذا بِرَجُل قد خرج من قبر يلتهب نَارا مصفدا فِي الْحَدِيد فَقَالَ يَا عبد الله انضج يَا عبد الله انضج قَالَ وَخرج آخر يتلوه فَقَالَ يَا عبد الله لَا تنضج يَا عبد الله لَا تنضج قَالَ وغشى على الرَّاكِب وَعدلت بِهِ رَاحِلَته إِلَى العرج قَالَ وَأصْبح قد ابيض شعره فَأخْبر عُثْمَان بذلك فَنهى أَن يُسَافر الرجل وَحده وَذكر من حَدِيث سُفْيَان حَدثنَا دَاوُد بن شَابُور عَن ابى قزعة قَالَ مَرَرْنَا فِي بعض الْمِيَاه الَّتِي بَيْننَا وَبَين الْبَصْرَة فسمعنا نهيق حمَار فَقُلْنَا لَهُم مَا هَذَا النهيق قَالُوا هَذَا رجل كَانَ عندنَا كَانَت أمه تكَلمه بالشَّيْء فَيَقُول لَهَا إنهقى نهيقك فَلَمَّا مَاتَ سمع هَذَا النهيق من قَبره كل لَيْلَة وَذكر أَيْضا عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ كَانَ رجل من أهل الْمَدِينَة وَكَانَت لَهُ أُخْت فِي نَاحيَة الْمَدِينَة فاشتكت وَكَانَ يَأْتِيهَا يعودها ثمَّ مَاتَت فدفنها فَلَمَّا رَجَعَ ذكر أَنه نسى شَيْئا فِي

الْقَبْر كَانَ مَعَه فاستعان بِرَجُل من أَصْحَابه قَالَ فنبشنا الْقَبْر وَوجدت ذَلِك الْمَتَاع فَقَالَ للرجل تَنَح حَتَّى انْظُر على أى حَال أختى فَرفع بعض مَا على اللَّحْد فَإِذا الْقَبْر مشتعل نَارا فَرده وَسوى الْقَبْر فَرجع إِلَى أمه فَقَالَ مَا كَانَ حَال أختى فَقَالَت مَا تسْأَل عَنْهَا وَقد هَلَكت فَقَالَ لتخبرينى قَالَت كَانَت تُؤخر الصَّلَاة وَلَا تصلى فِيمَا أَظن بِوضُوء وتأتى أَبْوَاب الْجِيرَان فتلقم أذنها أَبْوَابهم وَتخرج حَدِيثهمْ وَذكر عَن حُصَيْن الأسدى قَالَ سَمِعت مرْثَد بن حَوْشَب قَالَ كنت جَالِسا عِنْد يُوسُف ابْن عمر وَإِلَى جنبه رجل كَأَن شقة وَجهه صفحة من حَدِيد فَقَالَ لَهُ يُوسُف حدث مرثدا بِمَا رَأَيْت فَقَالَ كنت شَابًّا قد أتيت هَذِه الْفَوَاحِش فَلَمَّا وَقع الطَّاعُون قلت أخرج إِلَى ثغر من هَذِه الثغور ثمَّ رَأَيْت ان احْفِرْ الْقُبُور فاذا بى لَيْلَة بَين الْمغرب وَالْعشَاء قد حفرت وَأَنا متكىء على تُرَاب قبر آخر إِذْ جىء بِجنَازَة رجل حَتَّى دفن فِي ذَلِك وسووا عَلَيْهِ فَأقبل طائران أبيضان من الْمغرب مثل البعيرين حَتَّى سقط أَحدهمَا عِنْد رَأسه وَالْآخر عِنْد رجلَيْهِ ثمَّ اثاراه ثمَّ تدلى أَحدهمَا فِي الْقَبْر وَالْآخر على شفيره فَجئْت حَتَّى جَلَست على شَفير الْقَبْر وَكنت رجلا لَا يمْلَأ جوفي شَيْء قَالَ فَسَمعته يَقُول أَلَسْت الزائر اصهارك فِي ثَوْبَيْنِ ممصرين تسحبهما كبرا تمشى الْخُيَلَاء فَقَالَ أَنا أَضْعَف من ذَلِك قَالَ فَضَربهُ ضَرْبَة امْتَلَأَ الْقَبْر حَتَّى فاض مَاء ودهنا ثمَّ عَاد فَأَعَادَ إِلَيْهِ القَوْل حَتَّى ضربه ثَلَاث ضربات كل ذَلِك يَقُول ذَلِك وَيذكر أَن الْقَبْر يفِيض مَاء ودهنا قَالَ ثمَّ رفع رَأسه فَنظر إِلَى فَقَالَ انْظُر أَيْن هُوَ جَالس بلسه الله قَالَ ثمَّ ضرب جَانب وجهى فَسَقَطت فَمَكثت لبلتى حَتَّى أَصبَحت قَالَ ثمَّ أخذت انْظُر إِلَى الْقَبْر فَإِذا هُوَ على حَاله فَهَذَا المَاء والدهن فِي رأى الْعين لهَذَا الرائى هُوَ نَار تأجج للْمَيت كَمَا أخبر النَّبِي عَن الدَّجَّال أَنه يأتى مَعَه بِمَاء ونار فَالنَّار مَاء بَارِد وَالْمَاء نَار تأجج وَذكر ابْن أَبى الدُّنْيَا ان رجلا سَأَلَ أَبَا اسحاق الفزارى عَن النباش هَل لَهُ تَوْبَة فَقَالَ نعم إِن صحت نِيَّته وَعلم الله مِنْهُ الصدْق فَقَالَ لَهُ الرجل كنت أنبش الْقُبُور وَكنت أجد قوما وُجُوههم لغير الْقبْلَة فَلم يكن عِنْد الفزارى فِي ذَلِك شَيْء فَكتب إِلَيْهِ الأوزاعى يُخبرهُ بذلك فَكتب إِلَيْهِ الأوزاعى تقبل تَوْبَته إِذا صحت نِيَّته وَعلم الله الصدْق من قلبه وَأما قَوْله انه كَانَ يجد قوما وُجُوههم لغير الْقبْلَة فَأُولَئِك قوم مَاتُوا على غير السّنة وَقَالَ ابْن أَبى الدُّنْيَا حَدَّثَنى عبد الْمُؤمن بن عبد الله بن عِيسَى القيسى أَنه قيل لنباش قد تَابَ مَا أعجب مَا رَأَيْت قَالَ نبشت رجلا فَإِذا هُوَ مسمر بالمسامير فِي سَائِر جسده ومسمار كَبِير فِي رَأسه وَآخر فِي رجلَيْهِ

قَالَ وَقيل لنباش آخر مَا أعجب مَا رَأَيْت قَالَ رَأَيْت جمجمة انسان مصبوب فِيهَا رصاصا قَالَ وَقيل لنباش آخر مَا كَانَ سَبَب توبتك قَالَ عَامَّة من كنت أنبش كنت أرَاهُ محول الْوَجْه عَن الْقبْلَة قلت وحدثنى صاحبنا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مساب السلامى وَكَانَ من خِيَار عباد الله وَكَانَ يتحَرَّى الصدْق قَالَ جَاءَ رجل إِلَى سوق الحدادين بِبَغْدَاد فَبَاعَ مسامير صغَار المسمار برأسين فَأَخذهَا الْحداد وَجعل يحمى عَلَيْهَا فَلَا تلين مَعَه حَتَّى عجز عَن ضربهَا فَطلب البَائِع فَوَجَدَهُ فَقَالَ من أَيْن لَك هَذِه المسامير فَقَالَ لقيتها فَلم يزل بِهِ حَتَّى أخبرهُ انه وجد قبرا مَفْتُوحًا وَفِيه عِظَام ميت منظومة بِهَذِهِ المسامير قَالَ فعالجتها على أَن أخرجهَا فَلم أقدر فَأخذت حجرا فَكسرت عِظَامه وجمعتها قَالَ وَأَنا رَأَيْت تِلْكَ المسامير قلت لَهُ فَكيف صفتهَا قَالَ المسمار صَغِير برأسين قَالَ ابْن أَبى الدُّنْيَا وحدثنى ابى عَن أَبى الْحَرِيش عَن أمه قَالَت لما حفر أَبُو جَعْفَر خَنْدَق الْكُوفَة حول النَّاس موتاهم فَرَأَيْنَا شَابًّا مِمَّن حول عاضا على يَده وَذكر عَن سماك بن حَرْب قَالَ مر أَبُو الدَّرْدَاء بَين الْقُبُور فَقَالَ مَا أسكن ظواهرك وَفِي داخلك الدواهى وَقَالَ ثَابت البنانى بَينا أَنا أمشى فِي الْمَقَابِر وَإِذا صَوت خَلْفي وَهُوَ يَقُول يَا ثَابت لَا يغرنك سكونها فكم من مغموم فِيهَا فَالْتَفت فَلم أر أحدا وَمر الْحسن على مقبره فَقَالَ يالهم من عَسْكَر مَا أسكنهم وَكم فيهم من مكروب وَذكر ابْن أَبى الدُّنْيَا أَن عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ لمسلمة بن عبد الْملك يَا مسلمة من دفن أَبَاك قَالَ مولاى فلَان قَالَ فَمن دفن الْوَلِيد قَالَ مولاى فلَان قَالَ فَأَنا أحَدثك مَا حَدَّثَنى بِهِ أَنه لما دفن أَبَاك والوليد فوضعهما فِي قبورهما وَذهب ليحل العقد عَنْهُمَا وجد وجوهما قد حولت فِي اقفيتهما فَانْظُر يَا مسملة إِذا أَنا مت فالتمس وجهى فَانْظُر هَل نزل بى مَا نزل بالقوم أَو هَل عوفيت من ذَلِك قَالَ مسلمة فَلَمَّا مَاتَ عمر وَضعته فِي قَبره فلمست وَجهه فَإِذا هُوَ مَكَانَهُ وَذكر ابْن أَبى الدُّنْيَا عَن بعض السّلف قَالَ مَاتَت ابْنة لى فأنزلتها الْقَبْر فَذَهَبت أصلح اللبنة فَإِذا هى قد حولت عَن الْقبْلَة فاغتممت لذَلِك غما شَدِيدا فرأيتها فِي النّوم فَقَالَت يَا أَبَت اغتممت لما رَأَيْت فَإِن عَامَّة من حولى محولين عَن الْقبْلَة قَالَ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الَّذين مَاتُوا مصرين على الْكَبَائِر

وَقَالَ عَمْرو بن مَيْمُون سَمِعت عمر بن عبد الْعَزِيز يَقُول كنت من دلى الْوَلِيد بن عبد الْملك فِي قَبره فَنَظَرت إِلَى رُكْبَتَيْهِ قد جمعتا فِي عُنُقه فَقَالَ ابْنه عَاشَ أَبى وَرب الْكَعْبَة فَقلت عوجل أَبوك وَرب الْكَعْبَة فاتعظ بهَا عمر بعده وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز ليزِيد بن الْمُهلب لما اسْتَعْملهُ على الْعرَاق يَا يزِيد اتَّقِ الله فانى حِين وضعت الْوَلِيد فِي لحده فَإِذا هُوَ يرْكض فِي أَكْفَانه وَقَالَ يزِيد بن هَارُون أخبر هِشَام بن حسان عَن وَاصل مولى أَبى عُيَيْنَة عَن عمر بن زَهْدَم عَن عبد الحميد بن مَحْمُود قَالَ كنت جَالِسا عِنْد ابْن عَبَّاس فَأَتَاهُ قوم فَقَالُوا إِنَّا خرجنَا حجاجا ومعنا صَاحب لنا إِذْ أَتَيْنَا فاذا الصفاح مَاتَ فهيأناه ثمَّ انطلقنا فَحَفَرْنَا لَهُ ولحدنا لَهُ فَلَمَّا فَرغْنَا من لحده إِذا نَحن بأسود قد مَلأ اللَّحْد فَحَفَرْنَا لَهُ آخر فَإِذا بِهِ قد مَلأ لحده فحفر ناله آخر فاذا بِهِ فَقَالَ ابْن عَبَّاس ذَاك الغل الذى يغل بِهِ انْطَلقُوا فادفنوه فِي بَعْضهَا فوالذى نفسى بِيَدِهِ لَو حفرتم الأَرْض كلهَا لوجدتموه فِيهِ فَانْطَلَقْنَا فوضعناه فِي بَعْضهَا فَلَمَّا رَجعْنَا أَتَيْنَا أَهله بمتاع لَهُ مَعنا فَقُلْنَا لامْرَأَته مَا كَانَ يعْمل زَوجك قَالَت كَانَ يَبِيع الطَّعَام فَيَأْخُذ مِنْهُ كل يَوْم قوت أَهله ثمَّ يقْرض الْفضل مثله فيلقيه فِيهِ وَقَالَ ابْن أَبى الدُّنْيَا حَدَّثَنى مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ حَدَّثَنى أَبُو اسحاق صَاحب الشَّاط قَالَ دعيت إِلَى ميت لأغسله فَلَمَّا كشفت الثَّوْب عَن وَجهه إِذا بحية قد تطوقت على حلقه فَذكر من غلظها قَالَ فَخرجت فَلم أغسله فَذكرُوا أَنه كَانَ يسب الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَذكر ابْن أَبى الدُّنْيَا عَن سعيد بن خَالِد بن يزِيد الأنصارى عَن رجل من أهل الْبَصْرَة كَانَ يحْفر الْقُبُور قَالَ حفرت قبرا ذَات يَوْم وَوضعت رأسى قَرِيبا مِنْهُ فأتتنى امْرَأَتَانِ فِي منامى فَقَالَت احداهما يَا عبد الله نشدتك بِاللَّه الا صرفت عَنَّا هَذِه الْمَرْأَة وَلم تجاورنا بهَا فَاسْتَيْقَظت فَزعًا فَإِذا بِجنَازَة امْرَأَة قد جىء بهَا فَقلت الْقَبْر وَرَائِكُمْ فصرفتهم عَن ذَلِك الْقَبْر فَلَمَّا كَانَ بِاللَّيْلِ إِذا أَنا بالمرأتين فِي منامى تَقول إِحْدَاهمَا جَزَاك الله عَنَّا خيرا فَلَقَد صرفت عَنَّا شرا طَويلا قلت مَا لصاحبتك لَا تكلمنى كَمَا تكلمينى أَنْت قَالَت إِن هَذِه مَاتَت عَن غير وَصِيَّة وَحقّ لمن مَاتَ عَن غير وَصِيَّة أَلا يتَكَلَّم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَهَذِه الْأَخْبَار وأضعافها وأضعاف اضعافها مِمَّا لَا يَتَّسِع لَهَا الْكتاب مِمَّا أرَاهُ الله سُبْحَانَهُ لبَعض عباده من عَذَاب الْقَبْر ونعيمه عيَانًا وَأما رُؤْيَة الْمَنَام فَلَو ذَكرنَاهَا لجاءت عدَّة أسفار وَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا فَعَلَيهِ بِكِتَاب المنامات لِابْنِ أَبى الدُّنْيَا وَكتاب الْبُسْتَان للقيروانى وَغَيرهمَا من الْكتب المتضمنة لذَلِك وَلَيْسَ عِنْد الْمَلَاحِدَة والزنادقة إِلَّا التَّكْذِيب بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ

فصل الأمر السابع أن الله سبحانه وتعالى يحدث في هذه الدار ما هو أعجب

فصل الْأَمر السَّابِع أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحدث فِي هَذِه الدَّار مَا هُوَ أعجب من ذَلِك فَهَذَا جِبْرِيل كَانَ ينزل على النَّبِي ويتمثل لَهُ رجلا فيكلمه بِكَلَام يسمعهُ وَمن إلأى جَانب النبى لَا يرَاهُ وَلَا يسمعهُ وَكَذَلِكَ غَيره من الْأَنْبِيَاء وَأَحْيَانا يَأْتِيهِ الوحى فِي مثل صلصة الجرس وَلَا يسمعهُ غَيره من الْحَاضِرين وَهَؤُلَاء الْجِنّ يتحدثون ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بَيْننَا وَنحن لَا نسمعهم وَقد كَانَت الْمَلَائِكَة تضرب الْكفَّار بالسياط وتضرب رقابهم وتصيح بهم والمسلمون مَعَهم لَا يرونهم وَلَا يسمعُونَ كَلَامهم وَالله سُبْحَانَهُ قد حجب بنى آدم عَن كثير مِمَّا يحدثه فِي الأَرْض وَهُوَ بَينهم وَقد كَانَ جِبْرِيل يقرئ النَّبِي ويدارسه الْقُرْآن والحاضرون لَا يسمعونه وَكَيف يستنكر من يعرف الله سُبْحَانَهُ ويقر بقدرته أَن يحدث حوادث يصرف عَنْهَا أبصار بعض خلقه حِكْمَة مِنْهُ وَرَحْمَة بهم لأَنهم لَا يُطِيقُونَ رؤيتها وسماعها وَالْعَبْد أَضْعَف بصرا وسمعا من أَن يثبت لمشاهدة عَذَاب الْقَبْر وَكَثِيرًا مِمَّن أشهده الله ذَلِك صعق وغشى عَلَيْهِ وَلم ينْتَفع بالعيش زَمنا وَبَعْضهمْ كشف قناع قلبه فَمَاتَ فَكيف يُنكر فِي الْحِكْمَة الإلهية اسبال غطاء يحول بَين الْمُكَلّفين وَبَين مُشَاهدَة ذَلِك حَتَّى إِذا كشف الغطاء رَأَوْهُ وشاهدوه عيَانًا ثمَّ إِن العَبْد قَادر على أَن يزِيل الزئبق والخردل عَن عين الْمَيِّت وصدره ثمَّ يردهُ بِسُرْعَة فَكيف يعجز عَنهُ الْملك وَكَيف لَا يقدر عَلَيْهِ من هُوَ على كل شَيْء قدير وَكَيف تعجز قدرته عَن إبقائه فِي عَيْنَيْهِ وعَلى صَدره لَا يسْقط عَنهُ وَهل قِيَاس أَمر للبرزخ على مَا يُشَاهِدهُ النَّاس فِي الدُّنْيَا إِلَى مَحْض الْجَهْل والضلال وَتَكْذيب أصدق الصَّادِقين وتعجيز رب الْعَالمين وَذَلِكَ غَايَة الْجَهْل وَالظُّلم وَإِذا كَانَ أَحَدنَا يُمكنهُ توسعة الْقَبْر عشرَة أَذْرع وَمِائَة ذِرَاع وَأكْثر طولا وعرضا وعمقا وَيسْتر توسيعه عَن النَّاس ويطلع عَلَيْهِ من يَشَاء فَكيف يعجز رب الْعَالمين أَن يوسعه مَا يَشَاء على من يَشَاء وَيسْتر ذَلِك عَن أعين بنى آدم فيراه بَنو آدم ضيقا وَهُوَ أوسع شَيْء وأطيبه ريحًا وأعظمه إضاءة ونورا وهم لَا يرَوْنَ ذَلِك وسر الْمَسْأَلَة أَن هَذِه السعَة والضيق والإضاءة والخضرة وَالنَّار لَيْسَ من جنس الْمَعْهُود فِي هَذَا الْعَالم وَالله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أشهد بنى آدم فِي هَذِه الدَّار مَا كَانَ فِيهَا وَمِنْهَا فَأَما مَا كَانَ من أَمر الْآخِرَة فقد أسبل عَلَيْهِ الغطاء ليَكُون الاقرار بِهِ والايمان سَببا لسعادتهم فاذا كشف عَنْهُم

فصل الأمر الثامن أنه غير ممتنع أن ترد الروح إلى المصلوب والغريق

الغطاء صَار عيَانًا مشاهدا فَلَو كَانَ الْمَيِّت بَين النَّاس مَوْضُوعا لم يمْتَنع أَن يَأْتِيهِ الْملكَانِ ويسألانه من غير أَن يشْعر الْحَاضِرُونَ بذلك ويجيبهما من غير أَن يسمعوا كَلَامه ويضربانه من غير أَن يُشَاهد الْحَاضِرُونَ ضربه وَهَذَا الْوَاحِد منا ينَام إِلَى جنب صَاحبه فيعذب فِي النّوم وَيضْرب ويألم وَلَيْسَ عِنْد المستيقظ خبر من ذَلِك الْبَتَّةَ وَقد سرى أثر الضَّرْب والألم إِلَى جسده وَمن أعظم الْجَهْل استبعاد شقّ الْملك الأَرْض وَالْحجر وَقد جَعلهمَا الله سُبْحَانَهُ لَهُ كالهواء للطير وَلَا يلْزم من حجبها للأجسام الكثيفة أَن تتولج حجبها للارواح اللطيفة وَهل هَذَا إِلَّا من أفسد الْقيَاس وَبِهَذَا وَأَمْثَاله كذبت الرُّسُل صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم فصل الْأَمر الثَّامِن أَنه غير مُمْتَنع أَن ترد الرّوح إِلَى المصلوب والغريق والمحرق وَنحن لَا نشعر بهَا لِأَن ذَلِك الرَّد نوع آخر غير الْمَعْهُود فَهَذَا الْمغمى عَلَيْهِ والمسكوت والمبهوت أَحيَاء وارواحهم مَعَهم وَلَا تشعر بحياتهم وَمن تَفَرَّقت أجزاؤه لَا يمْتَنع على من هُوَ على كل شَيْء قدير أَن يَجْعَل للروح اتِّصَالًا بِتِلْكَ الْأَجْزَاء على تبَاعد مَا بَينهَا وقربه وَيكون فِي تِلْكَ الْأَجْزَاء شُعُور بِنَوْع من الْأَلَم واللذة وَإِذا كَانَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل فِي الجمادات شعورا وإدراكا تسبح رَبهَا بِهِ وَتسقط الْحِجَارَة من خَشيته وتسجد لَهُ الْجبَال وَالشَّجر وتسبحه الْحَصَى والمياه والنبات قَالَ تَعَالَى {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} وَلَو كَانَ التَّسْبِيح هُوَ مُجَرّد دلالتها على صانعها لم يقل {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} فَإِن كل عَاقل يفقه دلالتها على صانعها وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق} وَالدّلَالَة على الصَّانِع لَا تخْتَص بِهَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا جبال أوبي مَعَه} وَالدّلَالَة لَا تخْتَص معيته وَحده وَكذب على الله من قَالَ التأويب رَجَعَ الصدى فَإِن هَذَا يكون لكل مصوت وَقَالَ تَعَالَى ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَكثير من النَّاس وَالدّلَالَة على الصَّانِع لَا تخْتَص بِكَثِير من النَّاس وَقد قَالَ تَعَالَى ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صِفَات كل قد علم صلَاته وتسبيحه فَهَذِهِ صَلَاة وتسبيح حَقِيقَة يعلمهَا الله وَإِن جَحدهَا الجاهلون المكذبون وَقد أخبر تَعَالَى عَن الْحِجَارَة أَن بَعْضهَا يَزُول عَن مَكَانَهُ وَيسْقط من خَشيته وَقد أخبر عَن الأَرْض وَالسَّمَاء أَنَّهُمَا يأذنان لَهُ وقولهما ذَلِك أى يستعمان كَلَامه وَأَنه خاطبهما فسمعا خطابه وأحسنا جَوَابه فَقَالَ لَهما {ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وَقد كَانَ الصَّحَابَة يسمعُونَ تَسْبِيح الطَّعَام

فصل الأمر التاسع أنه ينبغى أن يعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب

وَهُوَ يُؤْكَل وسمعوا حنين الْجذع الْيَابِس فِي الْمَسْجِد فاذا كَانَت هَذِه الاجسام فِيهَا الاحساس والشعور فالأجسام الَّتِي كَانَت فِيهَا الرّوح والحياة أولى بذلك وَقد أشهد الله سُبْحَانَهُ عباده فِي هَذِه الدَّار إِعَادَة حَيَاة كَامِلَة إِلَى بدن قد فارقته الرّوح فَتكلم وَمَشى وَأكل وَشرب وَتزَوج وَولد لَهُ كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم أَو كالذى مر على قَرْيَة وهى خاوية على عروشها قَالَ أَنى يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه قَالَ كم لَبِثت لَبِثت قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَو بعض يَوْم وكقتيل بنى إِسْرَائِيل أَو كَالَّذِين قَالَ لمُوسَى {لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة} فأماتهم الله ثمَّ بَعثهمْ من بعد مَوْتهمْ وكأصحاب الْكَهْف وقصة إِبْرَاهِيم فِي الطُّيُور الاربعة فاذا أعَاد الْحَيَاة التَّامَّة إِلَى هَذِه الأجساد بعد مَا بردت بِالْمَوْتِ فَكيف يمْتَنع على قدرته الباهرة أَن يُعِيد إِلَيْهَا بعد مَوتهَا حَيَاة مَا غير مُسْتَقِرَّة يقْضى بهَا مَا أمره فِيهَا ويستنطقها بهَا ويعذبها أَو ينعمها بأعمالها وَهل إِنْكَار ذَلِك إِلَّا مُجَرّد تَكْذِيب وعناد وجحود وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فصل الْأَمر التَّاسِع أَنه ينبغى أَن يعلم أَن عَذَاب الْقَبْر ونعيمه اسْم لعذاب البرزخ ونعيمه وَهُوَ مَا بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالَ تَعَالَى {وَمن ورائهم برزخ إِلَى يَوْم يبعثون} وَهَذَا البرزخ يشرف أَهله فِيهِ على الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وسمى عَذَاب الْقَبْر ونعيمه وَأَنه رَوْضَة أَو حُفْرَة نَار بِاعْتِبَار غَالب الْخلق فالمصلوب والحرق وَالْغَرق وأكيل السبَاع والطيور لَهُ من عَذَاب البرزخ ونعيمه قسطه الذى تَقْتَضِيه أَعماله وَإِن تنوعت أَسبَاب النَّعيم وَالْعَذَاب وكيفياتهما فقد ظن بعض الْأَوَائِل انه إِذا حرق جسده بالنَّار وَصَارَ رَمَادا وذرى بعضه فِي الْبَحْر وَبَعضه فِي الْبر فِي يَوْم شَدِيد الرّيح أَنه ينجو من ذَلِك فأوصى بنيه أَن يَفْعَلُوا بِهِ ذَلِك فَأمر الله الْبَحْر فَجمع مَا فِيهِ وَأمر الْبر فَجمع مَا فِيهِ ثمَّ قَالَ قُم فَإِذا هُوَ قَائِم بَين يدى الله فَسَأَلَهُ مَا حملك على مَا فعلت فَقَالَ خشيتك يَا رب وَأَنت أعلم فَمَا تلافاه أَن رَحمَه فَلم يفت عَذَاب البرزخ ونعيمه لهَذِهِ الْأَجْزَاء الَّتِي صَارَت فِي هَذِه الْحَال حَتَّى لَو علق الْمَيِّت على رُؤُوس الْأَشْجَار فِي مهاب الرِّيَاح لأصاب جسده من عَذَاب البرزخ حَظه ونصيبه وَلَو دفن الرجل الصَّالح فِي أتون من النَّار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصِيبه وحظه فَيجْعَل الله النَّار على هَذَا بردا وَسلَامًا والهواء على ذَلِك نَارا وسموما فعناصر الْعَالم ومواده منقادة لِرَبِّهَا وفاطرها وخالقها يصرفهَا كَيفَ يَشَاء وَلَا يستعصى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْء أَرَادَهُ بل هى طُلُوع مَشِيئَته مذللة منقادة لقدرته وَمن أنكر هَذَا فقد جحد رب الْعَالمين وَكفر بِهِ وَأنكر ربوبيته

فصل الأمر العاشر أن الموت معاد وبعث أول فإن الله سبحانه وتعالى جعل

فصل الْأَمر الْعَاشِر أَن الْمَوْت معاد وَبعث أول فَإِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لِابْنِ آدم معادين وبعثين يجزى فيهمَا الَّذين أساءوا بِمَا عمِلُوا ويجزى الَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى فالبعث الأول مُفَارقَة الرّوح للبدن ومصيرها إِلَى دَار الْجَزَاء الأول والبعث الثانى يَوْم يرد الله الْأَرْوَاح إِلَى أجسادها ويبعثها من قبورها إِلَى الْجنَّة أَو النَّار وَهُوَ الْحَشْر الثانى وَلِهَذَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح وتؤمن بِالْبَعْثِ الآخر فَإِن الْبَعْث الأول لَا يُنكره أحد وَإِن أنكر كثير من النَّاس الْجَزَاء فِيهِ وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب وَقد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَاتين القيامتين وهما الصُّغْرَى والكبرى فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ وَسورَة الْوَاقِعَة وَسورَة الْقِيَامَة وَسورَة المطففين وَسورَة الْفجْر وَغَيرهَا من السُّور وَقد اقْتضى عدله وحكمته أَن جعلهَا دارى جَزَاء المحسن والمسىء وَلَكِن تَوْفِيَة الْجَزَاء إِنَّمَا يكون يَوْم الْمعَاد الثانى فِي دَار الْقَرار كَمَا قَالَ تَعَالَى {كل نفس ذائقة الْمَوْت وَإِنَّمَا توفون أجوركم يَوْم الْقِيَامَة} وَقد اقْتضى عدله وأوجبت سماؤه الْحسنى وكماله الْمُقَدّس تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم فَلَا بُد أَن يُذِيق بدن الْمُطِيع لَهُ وروحه من النَّعيم واللذة مَا يَلِيق بِهِ وَيُذِيق بدن الْفَاجِر العاصى لَهُ وروحه من الْأَلَم والعقوبة مَا يسْتَحقّهُ هَذَا مُوجب عدله وحكمته وكماله الْمُقَدّس وَلما كَانَت هَذِه الدَّار دَار تَكْلِيف وامتحان لَا دَار جَزَاء لم يظْهر فِيهَا ذَلِك وَأما البرزخ فَأول دَار الْجَزَاء فَظهر فِيهَا من ذَلِك مَا يَلِيق بِتِلْكَ الدَّار وتقتضى الْحِكْمَة إِظْهَاره فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة الْكُبْرَى وَفِي أهل الطَّاعَة وَأهل الْمعْصِيَة مَا يستحقونه من نعيم الْأَبدَان والأرواح وعذابهما فعذاب البرزخ ونعيمه أول عَذَاب الْآخِرَة وَنَعِيمهَا وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْهُ وواصل إِلَى أهل البرزخ هُنَاكَ كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالسّنة الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة فِي غير مَوضِع دلَالَة صَرِيحَة كَقَوْلِه فَيفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة فيأتيه من روحها وَنَعِيمهَا وَفِي الْفَاجِر فَيفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار فيأتيه من حرهَا وسمومها وَمَعْلُوم قطعا ان الْبدن يَأْخُذ حَظه من هَذَا الْبَاب كَمَا تَأْخُذ الرّوح حظها فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة دخل من ذَلِك الْبَاب إِلَى مَقْعَده الذى هُوَ دَاخله وَهَذَانِ البابان يصل مِنْهُمَا إِلَى العَبْد فى هَذِه الدَّار أثر خَفِي مَحْجُوب بالشواغل والغوشي الحسية والعوارض وَلَكِن يحس بِهِ كثير من النَّاس وَإِن لم يعرف سَببه وَلَا يسحن التَّعْبِير عَنهُ فوجود الشَّيْء غير الاحساس بِهِ وَالتَّعْبِير عَنهُ فَإِذا مَاتَ كَانَ وُصُول ذَلِك الْأَثر إِلَيْهِ من ذَيْنك الْبَابَيْنِ أكمل فَإِذا بعث كمل وصل ذَلِك الْأَثر إِلَيْهِ فحكمة الرب تَعَالَى منتظمة لذَلِك أكمل انتظام فِي الدّور الثَّلَاث

المسألة الثامنة وهي قول السائل ما الحكمة فيكون عذاب القبر لم يذكر

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة وَهِي قَول السَّائِل مَا الْحِكْمَة فَيكون عَذَاب الْقَبْر لم يذكر فِي الْقُرْآن مَعَ شدَّة الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته وَالْإِيمَان بِهِ ليحذر ويتقى فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن مُجمل ومفصل أما الْمُجْمل فَهُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل على رَسُوله وحيين وَأوجب على عباده الْإِيمَان بهما وَالْعَمَل بِمَا فيهمَا وهما الْكتاب وَالْحكمَة وَقَالَ تَعَالَى {وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة} وَقَالَ تَعَالَى هُوَ الذى بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم ويعلهم الْكتاب وَالْحكمَة وَقَالَ تَعَالَى واذكرن مَا يُتْلَى فِي بُيُوتكُمْ من آيَات الله وَالْحكمَة وَالْكتاب هُوَ الْقُرْآن وَالْحكمَة هى السّنة بانفاق السّلف وَمَا أخبر بِهِ الرَّسُول عَن الله فَهُوَ فِي وجوب تَصْدِيقه وَالْإِيمَان بِهِ كَمَا أخبر بِهِ الرب تَعَالَى على لِسَان رَسُوله هَذَا أصل مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل الْإِسْلَام لَا يُنكره إِلَّا من لَيْسَ مِنْهُم وَقد قَالَ النَّبِي إنى أُوتيت الْكتاب وَمثله مَعَه وَأما الْجَواب الْمفصل فَهُوَ أَن نعيم البرزخ وعذابه مَذْكُور فِي الْقُرْآن فِي غير مَوضِع فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطو أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تَقولُونَ على الله غير الْحق وكنتم عَن اياته تستكبرون وَهَذَا خطاب لَهُم عِنْد الْمَوْت وَقد أخْبرت الْمَلَائِكَة وهم الصادقون أَنهم حِينَئِذٍ يجزون عَذَاب الْهون وَلَو تَأَخّر عَنْهُم ذَلِك إِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا لما صَحَّ أَن يُقَال لَهُم الْيَوْم تُجْزونَ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فوقاه الله سيئات مَا مكروا وحاق بآل فِرْعَوْن سوء الْعَذَاب النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا وَيَوْم الْقِيَامَة تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب فَذكر عَذَاب الدَّاريْنِ ذكرا صَرِيحًا لَا يحْتَمل غَيره وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فذرهم حَتَّى يلاقوا يومهم الذى فِيهِ يصعقون يَوْم لَا يغنى عَنْهُم كيدهم شَيْئا وَلَا هم ينْصرُونَ وَإِن للَّذين ظلمُوا عذَابا دون وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ وَهَذَا يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ عَذَابهمْ بِالْقَتْلِ وَغَيره فِي الدُّنْيَا وَأَن يُرَاد بِهِ عَذَابهمْ فِي البرزخ وَهُوَ أظهر لِأَن كثيرا مِنْهُم مَاتَ وَلم يعذب فِي الدُّنْيَا وَقد يُقَال وَهُوَ أظهر أَن من مَاتَ مِنْهُم عذب فِي البرزخ وَمن بقى مِنْهُم عذب فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَغَيره فَهُوَ وَعِيد بعذابهم فِي الدُّنْيَا وَفِي البرزخ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُم يرجعُونَ}

وَقد احْتج بِهَذِهِ الْآيَة جمَاعَة مِنْهُم عبد الله بن عَبَّاس على عَذَاب الْقَبْر وَفِي الِاحْتِجَاج بهَا شَيْء لِأَن هَذَا عَذَاب فِي الدُّنْيَا يستدعى بِهِ رجوعهم عَن الْكفْر وَلم يكن هَذَا مَا يخفي على حبر الْأمة وترجمان الْقُرْآن لَكِن من فقهه فِي الْقُرْآن ودقة فهمه فِيهِ فهم مِنْهَا عَذَاب الْقَبْر فانه سُبْحَانَهُ أخبر أَن لَهُ فيهم عذابين أدنى وأكبر فَأخْبر أَنه يذيقهم بعض الْأَدْنَى ليرجعوا فَدلَّ على أَنه بقى لَهُم من الْأَدْنَى بَقِيَّة يُعَذبُونَ بهَا بعد عَذَاب الدُّنْيَا وَلِهَذَا قَالَ من الْعَذَاب الْأَدْنَى وَلم يقل ولنذيقنهم الْعَذَاب الْأَدْنَى فَتَأَمّله وَهَذَا نَظِير قَول النَّبِي فَيفتح لَهُ طَاقَة إِلَى النَّار فيأتيه من حرهَا وسمومها وَلم يقل فيأتيه حرهَا وسمومها فَإِن الذى وصل إِلَيْهِ بعض ذَلِك وبقى لَهُ أَكْثَره والذى ذاقه أَعدَاء الله فِي الدُّنْيَا بعض الْعَذَاب وبقى لَهُم مَا هُوَ أعظم مِنْهُ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم وتصلية جحيم إِن هَذَا لَهو الْحق الْيَقِين فسبح باسم رَبك الْعَظِيم فَذكر هَاهُنَا أَحْكَام الْأَرْوَاح عِنْد الْمَوْت وَذكر فِي أول السُّورَة أَحْكَامهَا يَوْم الْمعَاد الْأَكْبَر وَقدم ذَلِك على هَذَا تَقْدِيم الْغَايَة للعناية إِن هى أهم وَأولى بِالذكر وجعلهم عِنْد الْمَوْت ثَلَاثَة أَقسَام كَمَا جعلهم فِي الْآخِرَة ثَلَاثَة أَقسَام وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعى إِلَى بك راضية مرضية فادخلى فِي عبادى وادخلى جنتى وَقد اخْتلف السّلف مَتى يُقَال لَهَا ذَلِك فَقَالَت طَائِفَة يُقَال لَهَا عِنْد الْمَوْت وَظَاهر اللَّفْظ مَعَ هَؤُلَاءِ فانه خطاب للنَّفس الَّتِي قد تجردت عَن الْبدن وَخرجت مِنْهُ وَقد فسر ذَلِك النَّبِي بقوله فِي حَدِيث الْبَراء وَغَيره فَيُقَال لَهَا اخرجى راضية مرضيا عَنْك وسيأتى تَمام تَقْرِير هَذَا فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي يذكر فِيهَا مُسْتَقر الْأَرْوَاح فِي البرزخ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَوله تَعَالَى {فادخلي فِي عبَادي} مُطَابق لقَوْله اللَّهُمَّ الرفيق الْأَعْلَى وَأَنت إِذا تَأَمَّلت أَحَادِيث عَذَاب الْقَبْر ونعيمه وَجدتهَا تَفْصِيلًا وتفسيرا لما دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

المسألة التاسعة وهي قول السائل ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور

الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة وَهِي قَول السَّائِل مَا الْأَسْبَاب الَّتِي يعذب بهَا أَصْحَاب الْقُبُور جوابها من وَجْهَيْن مُجمل ومفصل أما الْمُجْمل فانهم يُعَذبُونَ على جهلهم بِاللَّه وإضاعتهم لأَمره وارتكابهم لمعاصيه فَلَا يعذب الله روحا عَرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نَهْيه وَلَا بدنا كَانَت فِيهِ أبدا فان عَذَاب الْقَبْر وَعَذَاب الْآخِرَة أثر غضب الله وَسخطه على عَبده فَمن أغضب الله وأسخطه فِي هَذِه الدَّار ثمَّ لم يتب وَمَات على ذَلِك كَانَ لَهُ من عَذَاب البرزخ بِقدر غضب الله وَسخطه عَلَيْهِ فمستقل ومستكثر ومصدق ومكذب وَأما الْجَواب الْمفصل فقد أخبر النَّبِي عَن الرجلَيْن الَّذين رآهما يعذبان فِي قبورهما يمشى أَحدهمَا بالنميمة بَين النَّاس وَيتْرك الآخر الِاسْتِبْرَاء من الْبَوْل فَهَذَا ترك الطَّهَارَة الْوَاجِبَة وَذَلِكَ ارْتكب السَّبَب الْموقع للعداوة بَين النَّاس بِلِسَانِهِ وَإِن كَانَ صَادِقا وَفِي هَذَا تَنْبِيه على أَن الْموقع بَينهم الْعَدَاوَة بِالْكَذِبِ والزور والبهتان أعظم عذَابا كَمَا أَن فِي ترك الِاسْتِبْرَاء من الْبَوْل تَنْبِيها على أَن من ترك الصَّلَاة الَّتِي الِاسْتِبْرَاء من الْبَوْل بعض واجباتها وشروطها فَهُوَ أَشد عذَابا وَفِي حَدِيث شُعْبَة أما أَحدهمَا فَكَانَ يَأْكُل لُحُوم النَّاس فَهَذَا مغتاب وَذَلِكَ نمام وَقد تقدم حَدِيث ابْن مَسْعُود رضى الله عَنهُ فِي الذى ضرب سَوْطًا امْتَلَأَ الْقَبْر عَلَيْهِ بِهِ نَارا لكَونه صلى صَلَاة وَاحِدَة بِغَيْر طهُور وَمر على مظلوم فَلم ينصره وَقد تقدم حَدِيث سَمُرَة فِي صَحِيح البخارى فِي تَعْذِيب من يكذب الكذبة فتبلغ الْآفَاق وتعذيب من يقْرَأ الْقُرْآن ثمَّ ينَام عَنهُ بِاللَّيْلِ وَلَا يعْمل بِهِ بِالنَّهَارِ وتعذيب الزناة والزوانى وتعذيب آكل الرِّبَا كَمَا شاهدهم النَّبِي فِي البرزخ وَتقدم حَدِيث أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ الذى فِيهِ رضخ رُءُوس أَقوام بالصخر لتثاقل رُءُوسهم عَن الصَّلَاة والذى يسرحون بَين الضريع والزقوم لتركهم زَكَاة أَمْوَالهم وَالَّذين يَأْكُلُون اللَّحْم المنتن الْخَبيث لزناهم وَالَّذين تقْرض شفاههم بمقاريض من حَدِيد لقيامهم فِي الْفِتَن بالْكلَام والخطب وَتقدم حَدِيث أَبى سعيد وعقوبة أَرْبَاب تِلْكَ الجرائم فَمنهمْ من بطونهم أَمْثَال الْبيُوت وهم على سابلة آل فِرْعَوْن وهم أَكلَة الرِّبَا وَمِنْهُم من تفتح أَفْوَاههم فيلقمون الْجَمْر حَتَّى يخرج من أسافلهم وهم أَكلَة أَمْوَال الْيَتَامَى وَمِنْهُم المعلقات بثديهن وَهن الزوانى وَمِنْهُم من تقطع جنُوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون وَمِنْهُم من لَهُم أظفار من نُحَاس يخمشون وُجُوههم وصدورهم وهم الَّذين يغمتون أَعْرَاض النَّاس

وَقد أخبرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم عَن صَاحب الشملة الَّتِي غلها من الْمغنم انها تشتعل نَارا فِي قَبره هَذَا وَله فِيهَا حق فَكيف بِمن ظلم غَيره مَا لَا حق لَهُ فِيهِ فعذاب الْقَبْر عَن معاصي الْقلب وَالْعين والاذن والفم وَاللِّسَان والبطن والفرج وَالْيَد وَالرجل وَالْبدن كُله فالنمام والكذاب والمغتاب وَشَاهد الزُّور وقاذف الْمُحصن والموضع فِي الْفِتْنَة والداعي إِلَى الْبِدْعَة وَالْقَائِل على الله وَرَسُوله مَالا علم لَهُ بِهِ والمجازف فِي كَلَامه وآكل الرِّبَا آكل أَمْوَال الْيَتَامَى وآكل السُّحت من الرِّشْوَة والبرطيل وَنَحْوهمَا وآكل مَال أَخِيه الْمُسلم بِغَيْر حق أَو مَال الْمعَاهد وشارب الْمُسكر وآكل لقْمَة الشَّجَرَة الملعونة وَالزَّانِي واللوطي وَالسَّارِق والخائن والغادر والمخادع والماكر وآخذ الرِّبَا ومعطيه وكاتبه وشاهداه والمحلل والمحلل لَهُ والمحتال على إِسْقَاط فَرَائض الله وارتكاب مَحَارمه ومؤذي الْمُسلمين ومتتبع عَوْرَاتهمْ وَالْحَاكِم بِغَيْر مَا أنزل الله والمفتي بِغَيْر مَا شَرعه الله والمعين على الاثم والعدوان وَقَاتل النَّفس الَّتِي حرم الله والملحد فِي حرم الله والمعطل لحقائق أَسمَاء الله وَصِفَاته الملحد فِيهَا والمقدم رَأْيه وذوقه وسياسته على سنة رَسُول والنائحة والمستمع إِلَيْهَا ونواحوا جَهَنَّم وهم المغنون الْغناء الذى حرمه الله وَرَسُوله والمستمع إِلَيْهِم وَالَّذين يبنون الْمَسَاجِد على الْقُبُور ويوقدون عَلَيْهَا الْقَنَادِيل والسرج والمطففون فِي اسْتِيفَاء مَا لَهُم إِذا أَخَذُوهُ وهضم مَا عَلَيْهِم إِذا بذلوه والجبارون والمتكبرون والمراؤون والهمازون واللمازون والطاعنون على السّلف وَالَّذين يأْتونَ الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم وَأَعْوَان الظلمَة الَّذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غَيرهم والذى إِذا خوفته بِاللَّه وذكرته بِهِ لم يرعو وَلم ينزجر فاذا خوفته بمخلوق مثله خَافَ وارعوى وكف عَمَّا هُوَ فِيهِ والذى يهدى بِكَلَام الله وَرَسُوله فَلَا يهتدى وَلَا يرفع بِهِ رَأْسا فاذا بلغه عَمَّن يحسن بِهِ الظَّن مِمَّن يُصِيب ويخطىء عض عَلَيْهِ بالنواجذ وَلم يُخَالِفهُ والذى يقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن فَلَا يُؤثر فِيهِ وَرُبمَا استثقل بِهِ فاذا سمع قُرْآن الشَّيْطَان ورقية الزِّنَا ومادة النِّفَاق طَابَ سره وتواجد وهاج من قلبه دواعى الطَّرب وود أَن المغنى لَا يسكت والذى يحلف بِاللَّه ويكذب فاذا حلف بالبندق أَو برِئ من شَيْخه أَو قَرِيبه أَو سَرَاوِيل الفتوة أَو حَيَاة من يُحِبهُ ويعظمه من المخلوقين لم يكذب وَلَو هدد وعوقب والذى يفتخر بالمعصية ويتكثر بهَا بَين اخوانه وَأَضْرَابه وَهُوَ المجاهر والذى لَا تأمنه على مَالك وحرمتك والفاحش اللِّسَان البذىء الذى تَركه الْخلق اتقاء شَره وفحشه والذى يُؤَخر الصَّلَاة إِلَى آخر وَقتهَا وينقرها وَلَا يذكر الله فِيهَا إِلَّا قَلِيلا وَلَا يُؤدى زَكَاة مَاله طيبَة بهَا نَفسه وَلَا يحجّ مَعَ قدرته على الْحَج وَلَا يُؤدى مَا عَلَيْهِ من الْحُقُوق مَعَ قدرته عَلَيْهَا وَلَا يتورع من لَحْظَة وَلَا لَفْظَة وَلَا أَكلَة وَلَا

المسألة العاشرة الأسباب المنجية من عذاب القبر جوابها أيضا من وجهين

خطْوَة وَلَا يبإلى بِمَا حصل من المَال من حَلَال أَو حرَام وَلَا يصل رَحمَه وَلَا يرحم الْمِسْكِين وَلَا الأرملة وَلَا الْيَتِيم وَلَا الْحَيَوَان البهيم بل يدع الْيَتِيم وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين ويرائى للْعَالمين وَيمْنَع الماعون ويشتغل بعيوب النَّاس عَن عَيبه وبذنوبهم عَن ذَنبه فَكل هَؤُلَاءِ وأمثالهم يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم بِهَذِهِ الجرائم بِحَسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها وَلما كَانَ أَكثر النَّاس كَذَلِك كَانَ أَكثر أَصْحَاب الْقُبُور معذبين والفائز مِنْهُم قَلِيل فظواهر الْقُبُور تُرَاب وبواطنها حسرات وَعَذَاب ظواهرها بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَة المنقوشة مبنيات وَفِي بَاطِنهَا الدواهى والبليات تغلى بالحسرات كَمَا تغلى الْقُدُور بِمَا فِيهَا ويحق لَهَا وَقد حيل بَينهَا وَبَين شهواتها وأمانيها تالله لقد وعظت فَمَا تركت لواعظ مقَالا وَنَادَتْ يَا عمار الدُّنْيَا لقد عمرتم دَارا موشكة بكم زوالا وخربتم دَارا أَنْتُم مسرعونى إِلَيْهَا انتقالا عمرتم بُيُوتًا لغيركم مَنَافِعهَا وسكناها وخربتم بُيُوتًا لَيْسَ لكم مسَاكِن سواهَا هَذِه دَار الاستباق ومستودع الاعمال وبذر الزَّرْع وَهَذِه مَحل للعبر رياض من رياض الْجنَّة أَو حفر من حفر النَّار الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة الْأَسْبَاب المنجية من عَذَاب الْقَبْر جوابها أَيْضا من وَجْهَيْن مُجمل ومفصل أما الْمُجْمل فَهُوَ تجنب تِلْكَ الْأَسْبَاب الَّتِي تقتضى عَذَاب الْقَبْر وَمن انفعها ان يجلس الرجل عِنْدَمَا يُرِيد النّوم لله سَاعَة يُحَاسب نَفسه فِيهَا على مَا خسره وَربحه فِي يَوْمه ثمَّ يجدد لَهُ تَوْبَة نصُوحًا بَينه وَبَين الله فينام على تِلْكَ التَّوْبَة ويعزم على أَن لَا يعاود الذَّنب إِذا اسْتَيْقَظَ وَيفْعل هَذَا كل لَيْلَة فَإِن مَاتَ من ليلته مَاتَ على تَوْبَة وَإِن اسْتَيْقَظَ اسْتَيْقَظَ مُسْتَقْبلا للْعَمَل مَسْرُورا بِتَأْخِير أَجله حَتَّى يسْتَقْبل ربه ويستدرك مَا فَاتَهُ وَلَيْسَ للْعَبد انفع من هَذِه النومة وَلَا سِيمَا إِذا عقب ذَلِك بِذكر الله وَاسْتِعْمَال السّنَن الَّتِي وَردت عَن رَسُول الله عِنْد النّوم حَتَّى يغله النّوم فَمن أَرَادَ الله بِهِ خيرا وَفقه لذَلِك وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَأما الْجَواب الْمفصل فَنَذْكُر أَحَادِيث عَن رَسُول الله فِيمَا يُنجى من عَذَاب الْقَبْر فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن سلمَان رضى الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُول رِبَاط يَوْم وَلَيْلَة خير من صِيَام شهر وقيامه وان مَاتَ اجرى عَلَيْهِ عمله الذى كَانَ يعمله واجرى عَلَيْهِ رزقه وَأمن الفتان

وَفِي جَامع الترمذى من حَدِيث فضَالة بن عبيد عَن رَسُول الله قَالَ كل ميت يخْتم على عمله إِلَّا الذى مَاتَ مرابطا فِي سَبِيل الله فَإِنَّهُ ينمى لَهُ عمله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ويأمن من فتْنَة الْقَبْر قَالَ الترمذى هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَفِي سنَن النسائى عَن رشدين بن سعد عَن رجل من اصحاب النَّبِي صلى الله أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله مَا بَال الْمُؤمنِينَ يفتنون فِي قُبُورهم إِلَّا الشَّهِيد قَالَ كفي ببارقة السيوف على رَأسه فتْنَة وَعَن الْمِقْدَام بن معد يكرب قَالَ قَالَ رَسُول الله للشهيد عِنْد الله سِتّ خِصَال يغْفر لَهُ فِي أول دفْعَة من دَمه وبرى مَقْعَده من الْجنَّة ويجار من عَذَاب الْقَبْر ويأمن من الْفَزع الْأَكْبَر وَيُوضَع على رَأسه تَاج الْوَقار الياقوتة مِنْهُ خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ويزوج اثْنَتَيْنِ وَسبعين زَوْجَة من الْحور الْعين ويشفع فِي سبعين من اقاربه رَوَاهُ ابْن مَاجَه والترمذى وَهَذَا لَفظه وَقَالَ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَعَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ ضرب رجل من أَصْحَاب رَسُول الله خباءه على قبر وَهُوَ لَا يحْسب أَنه قبر فَإِذا قبر قبر إِنْسَان يقْرَأ سُورَة الْملك حَتَّى خَتمهَا فاتى النَّبِي فَقَالَ يَا رَسُول الله ضربت خبائى على قبر وَأَنا لَا أَحسب أَنه قبر فَإِذا قبر إِنْسَان يقْرَأ سُورَة الْملك حَتَّى خَتمهَا فَقَالَ النَّبِي هى الْمَانِعَة هِيَ المنجية تنجيه من عَذَاب الْقَبْر قَالَ الترمذى هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب وروينا فِي مُسْند بن حميد عَن إِبْرَاهِيم بن الحكم عَن ابيه عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ لرجل أَلا أتحفك بِحَدِيث تفرح بِهِ قَالَ الرجل بلَى قَالَ اقْرَأ {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك وَهُوَ على كل شَيْء قدير} احفظها وعلما أهلك وولدك وصبيان بَيْتك وَجِيرَانك فَإِنَّهَا المنجية والمجادلة تجَادل أَو تخاصم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد رَبهَا لِقَارِئِهَا وتطلب لَهُ إِلَى رَبهَا أَن ينجيه من عَذَاب النَّار إِذا كَانَت فِي جَوْفه وينجى الله بهَا صَاحبهَا من عَذَاب الْقَبْر قَالَ رَسُول الله لودت أَنَّهَا فِي قلب كل إِنْسَان من أمتى قَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر وَصَحَّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ إِن سُورَة ثَلَاثِينَ آيَة شفعت فِي صَاحبهَا حَتَّى غفر لَهُ {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} وَفِي سِنِين ابْن مَاجَه من حَدِيث أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ بِرَفْعِهِ من مَاتَ مبطونا مَاتَ شَهِيدا وَوُقِيَ فتْنَة الْقَبْر وغدى وريح عَلَيْهِ برزق من الْجنَّة وَفِي سنَن النسائى عَن جَامع بن شَدَّاد قَالَ سَمِعت عبد الله بن يشْكر يَقُول كنت جَالِسا مَعَ سُلَيْمَان بن صره وخَالِد بن عرفطة فَذكرُوا أَن رجلا مَاتَ ببطنه فَإِذا هما يشتهيان أَن

يَكُونَا شَهدا جنَازَته فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر ألم يقل رَسُول الله من قَتله بَطْنه لم يعذب فِي قَبره وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطيالسى فِي مُسْنده حَدثنَا شُعْبَة حَدَّثَنى أَحْمد بن جَامع بن شَدَّاد قَالَ أَبى فَذكره وَزَاد فَقَالَ الآخر بلَى وَفِي الترمذى من حَدِيث ربيعَة بن سيف عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ قَالَ رَسُول الله مَا من مُسلم يَمُوت يَوْم الْجُمُعَة أَو لَيْلَة الْجُمُعَة إِلَّا وَقَاه الله فتْنَة الْقَبْر قَالَ الترمذى هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب وَلَيْسَ إِسْنَاده بِمُتَّصِل ربيعَة بن سيف إِنَّمَا يرْوى عَن أَبى عبد الرَّحْمَن الحبلى عَن عبد الله بن عَمْرو وَلَا يعرف لِرَبِيعَة بن سيف سَماع من عبد الله ابْن عَمْرو انْتهى وَقد روى الترمذى الْحَكِيم من حَدِيث ربيعَة بن سيف هَذَا عَن عِيَاض بن عقبَة الفهرى عَن عبد الله بن عَمْرو وَقد رَوَاهُ أَبُو نعيم الْحَافِظ عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر مَرْفُوعا وَلَفظه من مَاتَ لَيْلَة الْجُمُعَة أَو يَوْم الْجُمُعَة أجِير من عَذَاب الْقَبْر وَجَاء يَوْم الْقِيَامَة وَعَلِيهِ طَابع الشُّهَدَاء تفرد بِهِ عمر بن مُوسَى الوجيهى وَهُوَ مدنى ضَعِيف وَقَوله كفي ببارقة السيوف على رَأسه فتْنَة مَعْنَاهُ وَالله أعلم قد امتحن نفَاقه من إيمَانه ببارقة السَّيْف على رَأسه فَلم يفر فَلَو كَانَ منافقا لما صَبر ببارقة السَّيْف على رَأسه فَدلَّ على أَن إيمَانه هُوَ الذى حمله على بذل نَفسه لله وتسليمها لَهُ وهاج من قلبه حمية الْغَضَب لله وَرَسُوله واظهار دينه وإعزاز كَلمته فَهَذَا قد أظهر صدق مَا فِي ضَمِيره حَيْثُ برز للْقَتْل فاستغنى بذلك عَن الامتحان فِي قَبره قَالَ أَبُو عبد الله القرطبى إِذا كَانَ الشَّهِيد لَا يفتن فالصديق أجل خطرا وَأعظم أجرا أَن لَا يفتن لِأَنَّهُ مقدم ذكره فِي التَّنْزِيل على الشُّهَدَاء وَقد صَحَّ فِي المرابط الذى هُوَ دون الشَّهِيد أَنه لَا يفتن فَكيف بِمن هُوَ أَعلَى رُتْبَة مِنْهُ وَمن الشَّهِيد وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ترد هَذَا القَوْل وَتبين أَن الصّديق يسْأَل فِي قَبره كَمَا يسْأَل غَيره وَهَذَا عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ رَأس الصديقين وَقد قَالَ النبيى لما أخبرهُ عَن سُؤال الْملك فِي قَبره فَقَالَ وَأَنا على مثل حالتي هَذِه فَقَالَ نعم وَذكر الحَدِيث وَقد اخْتلف فِي الْأَنْبِيَاء هَل يسْأَلُون فِي قُبُورهم على قَوْلَيْنِ وهما وَجْهَان فِي مَذْهَب أَحْمد

وَغَيره وَلَا يلْزم من هَذِه الخاصية الَّتِي اخْتصَّ بهَا الشَّهِيد أَن يُشَارِكهُ الصّديق فِي حكمهَا وَإِن كَانَ أَعلَى مِنْهُ فخواص الشُّهَدَاء وَقد تَنْتفِي عَمَّن هُوَ أفضل مِنْهُم وَإِن كَانَ أَعلَى مِنْهُم دَرَجَة وَأما حَدِيث ابْن مَاجَه من مَاتَ مَرِيضا مَاتَ شَهِيدا وَوقى فتْنَة الْقَبْر فَمن إِفْرَاد ابْن مَاجَه وَفِي إِفْرَاده غرائب ومنكرات وَمثل هَذَا الحَدِيث مِمَّا يتَوَقَّف فِيهِ وَلَا يشْهد بِهِ على رَسُول الله فان صَحَّ فَهُوَ مُقَيّد بِالْحَدِيثِ الآخر وَهُوَ الذى يقْتله بَطْنه فان صَحَّ عَنهُ أَنه قَالَ المبطون شَهِيد فَيحمل هَذَا الْمُطلق على ذَلِك الْمُقَيد وَالله أعلم وَقد جَاءَ فِيمَا يُنجى من عَذَاب الْقَبْر حَدِيث فِيهِ الشِّفَاء رَوَاهُ أَبُو مُوسَى المدينى وَبَين علته فِي كِتَابه فِي التَّرْغِيب والترهيب وَجعله شرحا لَهُ رَوَاهُ من حَدِيث الْفرج بن فضَالة حَدثنَا هِلَال أَبُو جبلة عَن سعيد بن الْمسيب عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة قَالَ خرج علينا رَسُول الله وَنحن فِي صفة بِالْمَدِينَةِ فَقَامَ علينا فَقَالَ إنى رَأَيْت البارحة عجبا رَأَيْت رجلا من أمتى أَتَاهُ ملك الْمَوْت ليقْبض روحه فَجَاءَهُ بره بِوَالِديهِ فَرد ملك الْمَوْت عَنهُ وَرَأَيْت رجلا من أمتى قد احتوشته الشَّيَاطِين فجَاء ذكر الله فطير الشَّيَاطِين عَنهُ وَرَأَيْت رجلا من أمتى قد احتوشته مَلَائِكَة الْعَذَاب فَجَاءَتْهُ صلَاته فاستنقذته من أَيْديهم وَرَأَيْت رجلا من أمتى يَلْهَث عطشا كلما دنا من حَوْض منع وطرد فَجَاءَهُ صِيَام شهر رَمَضَان فاسقاه وأرواه وَرَأَيْت رجلا من أمتى وَرَأَيْت النَّبِيين جُلُوسًا حلقا حلقا كلما دنا إِلَى حَلقَة طرد وَمنع فَجَاءَهُ غسله من الْجَنَابَة فَأخذ بِيَدِهِ فأقعده إِلَى جَنْبي وَرَأَيْت رجلا من أمتى من بَين يَدَيْهِ ظلمَة وَمن خَلفه وَعَن يَمِينه ظلمَة وَعَن يسَاره ظلمَة وَمن فَوْقه ظلمَة وَهُوَ متحير فِيهِ فَجَاءَهُ حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمَة وأدخلاه فِي النُّور وَرَأَيْت رجلا من أمتى يتقى وهج النَّار وشررها فَجَاءَتْهُ صدقته فَصَارَت سترا بَينه وَبَين النَّار وظلا على رَأسه وَرَأَيْت رجلا من أمتى يكلم الْمُؤمنِينَ وَلَا يكلمونه فَجَاءَتْهُ صلته لرحمه فَقَالَت يَا معشر الْمُؤمنِينَ انه كَانَ وصُولا لرحمه فكلموه الْمُؤْمِنُونَ وصافحوه وصافحهم وَرَأَيْت رجلا من أمتى قد احتوشته الزَّبَانِيَة فَجَاءَهُ أمره بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيه عَن الْمُنكر فاستنقذه من أَيْديهم وَأدْخلهُ فِي مَلَائِكَة الرَّحْمَة وَرَأَيْت رجلا من أمتى جاثيا على رُكْبَتَيْهِ وَبَينه وَبَين الله حجاب فَجَاءَهُ حسن خلقه فَأخذ بِيَدِهِ فَأدْخلهُ على الله عز وَجل وَرَأَيْت رجلا من أمتى قد ذهبت صَحِيفَته من قبل شِمَاله فَجَاءَهُ خَوفه من الله عز وَجل فَأخذ صَحِيفَته فوضعها فِي يَمِينه فوضعها فِي يَمِينه ورايت رجلا من أمتى خف مِيزَانه فَجَاءَهُ أفراطه فثقلوا مِيزَانه وَرَأَيْت رجلا من أمتى قَائِما على شَفير جَهَنَّم فَجَاءَهُ رجاؤه من الله عز وَجل فاستنقذه من ذَلِك وَمضى وَرَأَيْت رجلا من أمتى قد هوى

المسألة الحادية عشر

فِي النَّار فَجَاءَتْهُ دمعته الَّتِي قد بَكَى من خشيَة الله عز وَجل فاستنقذته من ذَلِك وَرَأَيْت رجلا من أمتى قَائِما على الصِّرَاط يرعد كَمَا ترْعد السعفة فِي ريح عاصف فَجَاءَهُ حسن ظَنّه بِاللَّه عز وَجل فسكن روعه وَمضى وَرَأَيْت رجلا من أمتى يزحف على الصِّرَاط يحبو أَحْيَانًا وَيتَعَلَّق أَحْيَانًا فَجَاءَتْهُ صلَاته فأقامته على قَدَمَيْهِ وأنقذته وَرَأَيْت رجلا من أمتى انْتهى إِلَى أَبْوَاب الْجنَّة فغلقت الْأَبْوَاب دونه فَجَاءَتْهُ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ففتحت لَهُ الْأَبْوَاب وأدخلته الْجنَّة قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى هَذَا حَدِيث حسن جدا رَوَاهُ عَن سعيد بن الْمسيب وَعمر بن ذَر وعَلى ابْن زيد بن جدعَان وَنَحْو هَذَا الحَدِيث مِمَّا قيل فِيهِ أَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وحى فَهُوَ على ظَاهرهَا لَا كنحو مَا روى عَنهُ أَنه قَالَ رَأَيْت كَأَن سَيفي انْقَطع فَأَوَّلْته كَذَا وَكَذَا وَرَأَيْت بقرًا تنحر وَرَأَيْت كأنا فِي دَار عقبَة بن رَافع وَقد روى فِي رُؤْيَاهُ الطَّوِيلَة من حَدِيث سَمُرَة فِي الصَّحِيح وَمن حَدِيث على وأبى أُمَامَة وَرِوَايَات هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة قريب بَعْضهَا من بعض مُشْتَمِلَة على ذكر عقوبات جمَاعَة من الْمُعَذَّبين فِي البرزخ فَأَما فِي هَذِه الرِّوَايَة فَذكر الْعقُوبَة وأنبعها بِمَا يُنجى صَاحبهَا من الْعَمَل وراوى هَذَا الحَدِيث عَن ابْن الْمسيب هِلَال أَبُو جبلة مدنى لَا يعرف بِغَيْر هَذَا الحَدِيث ذكره ابْن أَبى حَاتِم عَن ابيه هَكَذَا ذكره الْحَاكِم أَبُو أَحْمد وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله أَبُو جبل بِلَا هَاء وحكياه عَن مُسلم وَرَوَاهُ عَنهُ الْفرج بن فضَالة وَهُوَ وسط فِي الرِّوَايَة لَيْسَ بالقوى وَلَا الْمَتْرُوك وَرَوَاهُ عَنهُ بشر ابْن الْوَلِيد الْفَقِيه الْمَعْرُوف بأبى الْخَطِيب كَانَ حسن الْمَذْهَب جميل الطَّرِيقَة وَسمعت شيخ الْإِسْلَام يعظم أَمر هَذَا الحَدِيث وَقَالَ أصُول السّنة تشهد لَهُ وَهُوَ من أحسن الْأَحَادِيث الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشر وهى أَن السُّؤَال فِي الْقَبْر هَل هُوَ عَام فِي حق الْمُسلمين وَالْمُنَافِقِينَ وَالْكفَّار أَو يخْتَص بِالْمُسلمِ وَالْمُنَافِق قَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي كتاب التَّمْهِيد والْآثَار الدَّالَّة تدل على أَن الْفِتْنَة فِي الْقَبْر لَا تكون إِلَّا لمُؤْمِن أَو مُنَافِق كَانَ مَنْسُوبا إِلَى أهل الْقبْلَة وَدين الْإِسْلَام بِظَاهِر الشَّهَادَة وَأما الْكَافِر الجاحد الْمُبْطل فَلَيْسَ مِمَّن يسْأَل عَن ربه وَدينه وَنبيه وَإِنَّمَا يسْأَل عَن هَذَا أهل الْإِسْلَام فَيثبت الله الَّذين آمنُوا ويرتاب المبطلون

وَالْقُرْآن وَالسّنة تدل على خلاف هَذَا القَوْل وَأَن السُّؤَال للْكَافِرِ وَالْمُسلم قَالَ الله تَعَالَى {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين وَيفْعل الله مَا يَشَاء} وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَنَّهَا نزلت فِي عَذَاب الْقَبْر حِين يسْأَل من رَبك وَمَا دينك وَمن نبيك وَفِي الصحيحن عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي أَنه قَالَ إِن العَبْد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ أَصْحَابه انه ليسمع قرع نعَالهمْ وَذكر الحَدِيث زَاد البخارى وَأما الْمُنَافِق وَالْكَافِر فَيُقَال لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول لَا أدرى كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس فَيُقَال لَا دَريت وَلَا تليت وَيضْرب بِمِطْرَقَةٍ من حَدِيد يَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا من يَلِيهِ إِلَّا الثقلَيْن هَكَذَا فِي البخارى وَأما الْمُنَافِق وَالْكَافِر بِالْوَاو وَقد تقدم فِي حَدِيث أَبى سعيد الخدرى الذى رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْإِمَام أَحْمد كُنَّا فِي جَنَازَة مَعَ النَّبِي فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس إِن هَذِه الْأمة تبتلى فِي قبورها فاذا الْإِنْسَان دفن وَتَوَلَّى عَنهُ أَصْحَابه جَاءَ ملك وَفِي يَده مطراق فأقعده فَقَالَ مَا تَقول فِي هَذَا الرجل فَإِن كَانَ مُؤمنا قَالَ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فَيَقُول لَهُ صدقت فَيفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار فَيَقُول هَذَا مَنْزِلك لَو كفرت بِرَبِّك وَأما الْكَافِر وَالْمُنَافِق فَيَقُول لَهُ مَا تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول لَا أدرى فَيُقَال لَا دَريت وَلَا اهتديت ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة فَيَقُول لَهُ هَذَا مَنْزِلك لَو آمَنت بِرَبِّك فَأَما إِذْ كفرت فان الله أبدلك بِهِ هَذَا ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار ثمَّ يقمعه الْملك بالمطراق قمعة يسمعهُ خلق الله إِلَّا الثقلَيْن فَقَالَ بعض الصَّحَابَة يَا رَسُول الله مَا أحد يقوم على رَأسه ملك إِلَّا هيل عِنْد ذَلِك فَقَالَ رَسُول الله يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين وَيفْعل الله مَا يَشَاء وَفِي حَدِيث الْبَراء بن عَازِب الطَّوِيل وَأما الْكَافِر إِذا كَانَ فِي قبل من الْآخِرَة وَانْقِطَاع من الدُّنْيَا نزل عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة من السَّمَاء مَعَهم مسوح وَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ ثمَّ تُعَاد روحه فِي جسده فِي قَبره وَذكر الحَدِيث وَفِي لفظ فاذا كَانَ كَافِر جَاءَهُ ملك الْمَوْت فَجَلَسَ عِنْد رَأسه فَذكر الحَدِيث إِلَى قَوْله مَا هَذِه الرّوح الخبيثة فَيَقُولُونَ فلَان بأسو أَسْمَائِهِ فاذا انْتهى بِهِ إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا أغلقت دونه قَالَ يرْمى بِهِ من السَّمَاء ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَمن يُشْرك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خر من السَّمَاء فتخطفه الطير أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق} قَالَ فتعاد روحه فِي جسده ويأتيه ملكان شَدِيدا الِانْتِهَار فيجلسانه وينتهرانه فَيَقُولَانِ من رَبك فَيَقُول هاه لَا أدرى فَيَقُولَانِ لَا دَريت فَيَقُولَانِ مَا هَذَا النَّبِي الذى بعث فِيكُم فَيَقُول سَمِعت

النَّاس يَقُولُونَ ذَلِك لَا ادرى فَيَقُولَانِ لَهُ لَا دَريت وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ويضل الله الظَّالِمين وَيفْعل الله مَا يَشَاء} وَذكر الحَدِيث وَاسم الْفَاجِر فِي عرف الْقُرْآن وَالسّنة يتَنَاوَل الْكَافِر قطعا كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم} وَقَوله تَعَالَى {كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين} وَفِي لفظ آخر فِي حَدِيث الْبَراء وَإِن الْكَافِر إِذا كَانَ فِي قبل من الْآخِرَة وَانْقِطَاع من الدُّنْيَا نزل اليه مَلَائِكَة شَدَّاد غضاب مَعَهم ثِيَاب من نَار وسرابيل من قطران فيحتوشونه فتنزع روحه كَمَا ينْزع السفود الْكثير الشّعب من الصُّوف المبتل فاذا أخرجت لَعنه كل ملك بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وكل ملك فِي السَّمَاء وَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ انه ليسمع خَفق نعَالهمْ إِذا ولوا مُدبرين فَيُقَال يَا هَذَا من رَبك وَمَا دينك وَمن نبنيك فَيَقُول لَا أدرى فَيُقَال لَا دَريت وَذكر الحَدِيث رَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن يُونُس بن خباب عَن الْمنْهَال بن عَمْرو عَن زَاذَان عَن الْبَراء وَفِي حَدِيث عِيسَى بن الْمسيب عَن عدى بن ثَابت عَن الْبَراء خرجنَا مَعَ رَسُول فِي جَنَازَة رجل من الْأَنْصَار وَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ وَإِن الْكَافِر إِذا كَانَ فِي دبر من الدُّنْيَا وَقبل من الْآخِرَة وحضره الْمَوْت نزلت عَلَيْهِ مَلَائِكَة مَعَهم كفن من نارو وحنوط من نَار فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ فَترد روحه إِلَى مضجعه فيأتيه مُنكر وَنَكِير يثيران الأَرْض بأنيابهما ويفحصان الأَرْض بأشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف فيجلسانه ثمَّ يَقُولَانِ يَا هَذَا من رَبك فَيَقُول لَا أدرى فينادى من جَانب الْقَبْر لادريت فيضربانه بمرزبة من حَدِيد لَو اجْتمع عَلَيْهَا من بَين الْخَافِقين لم تقل ويضيق عَلَيْهِ قَبره حَتَّى تخْتَلف أضلاعه وَذكر الحَدِيث وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده عَن أَبى النّظر هَاشم بن الْقَاسِم حَدثنَا عِيسَى بن الْمسيب فَذكره وَفِي حَدِيث مُحَمَّد بن سَلمَة عَن خصيف عَن مُجَاهِد عَن الْبَراء قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَة رجل من الْأَنْصَار ومعنا رَسُول الله فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ وَقَالَ رَسُول الله وَإِذا وضع الْكَافِر أَتَاهُ مُنكر وَنَكِير فيجلسانه فَيَقُولَانِ لَهُ من رَبك فَيَقُول لَا أدرى فَيَقُولَانِ لَهُ لادريت الحَدِيث وَقد تقدم وَبِالْجُمْلَةِ فعامة من روى حَدِيث الْبَراء بن عَازِب قَالَ فِيهِ وَأما الْكَافِر بِالْجَزْمِ وَبَعْضهمْ قَالَ وَأما الْفَاجِر وَبَعْضهمْ قَالَ وَأما الْمُنَافِق والمرتاب وَهَذِه اللَّفْظَة من شكّ بعض الروَاة هَكَذَا فِي الحَدِيث لَا أدرى أى ذَلِك قَالَ

المسألة الثانية عشرة وهى أن سؤال منكر ونكير هل هو مختص بهذه الأمة أو

وَأما من ذكر الْكَافِر والفاجر فَلم يشك وَرِوَايَة من لم يشك مَعَ كثرتهم أولى من رِوَايَة من شكّ مَعَ انْفِرَاده على أَنه لَا تنَاقض بَين الرِّوَايَتَيْنِ فان الْمُنَافِق يسْأَل كَمَا يسْأَل الْكَافِر وَالْمُؤمن فَيثبت الله أهل الْإِيمَان ويضل الله الظَّالِمين وهم الْكفَّار والمنافقون وَقد جمع أَبُو سعيد الخدرى فِي حَدِيثه الذى رَوَاهُ أَبُو عَامر العقدى حَدثنَا عباد بن رَاشد عَن دَاوُد بن أَبى هِنْد عَن أَبى نَضرة عَن أَبى سعيد قَالَ شَهِدنَا مَعَ رَسُول الله جَنَازَة فَذكر الحَدِيث وَقَالَ وَإِن كَانَ كَافِرًا أَو منافقا يَقُول لَهُ مَا تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول لَا أدرى وَهَذَا صَرِيح فِي أَن السُّؤَال للْكَافِرِ وَالْمُنَافِق وَقَول أَبى عمر رَحمَه الله وَأما الْكَافِر الجاحد الْمُبْطل فَلَيْسَ مِمَّن يسْأَل عَن ربه وَدينه فَيُقَال لَهُ لَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ من جملَة المسئولين وَأولى بالسؤال من غَيره وَقد أخبر الله فِي كِتَابه أَنه يسْأَل الْكَافِر يَوْم الْقِيَامَة قَالَ تَعَالَى {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين} وَقَالَ تَعَالَى فوربكم لنسألنهم أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ وَقَالَ تَعَالَى {فلنسألن الَّذين أرسل إِلَيْهِم ولنسألن الْمُرْسلين} فَإِذا سئلوا يَوْم الْقِيَامَة فَكيف لَا يسْأَلُون فِي قُبُورهم فَلَيْسَ لما ذكره أَبُو عمر رَحمَه الله وَجه الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة وهى أَن سُؤال مُنكر وَنَكِير هَل هُوَ مُخْتَصّ بِهَذِهِ الْأمة أَو يكون لَهَا ولغيرها هَذَا مَوضِع تكلم فِيهِ النَّاس فَقَالَ أَبُو عبد الله الترمذى إِنَّمَا سُؤال الْمَيِّت فِي هَذِه الْأمة خَاصَّة لِأَن الْأُمَم قبلنَا كَانَت الرُّسُل تأتيهم بالرسالة فاذا أَبَوا كفت الرُّسُل واعتزلزهم وعولجو بِالْعَذَابِ فَلَمَّا بعث الله مُحَمَّدًا بِالرَّحْمَةِ إِمَامًا لِلْخلقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين} أمسك عَنْهُم الْعَذَاب وَأعْطى السَّيْف حَتَّى يدْخل فِي دين الْإِسْلَام من دخل لمهابة السَّيْف ثمَّ يرسخ الْإِيمَان فِي قلبه فأمهلوا فَمن هَا هُنَا ظهر أَمر النِّفَاق وَكَانُوا يسرون الْكفْر ويعلنون الْإِيمَان فَكَانُوا بَين الْمُسلمين فِي ستر فَلَمَّا مَاتُوا قبض الله لَهُم فتانى الْقَبْر ليستخرجا سرهم بالسؤال وليميز الله الْخَبيث من الطّيب فَيثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين وَيفْعل الله مَا يَشَاء وَخَالف فِي ذَلِك آخَرُونَ مِنْهُم عبد الْحق الأشبيلى والقرطبى وَقَالُوا السُّؤَال لهَذِهِ الْأمة ولغيرها

المسألة الثالثة عشرة وهي أن الأطفال هل يمتحنون في قبورهم اختلف

وَتوقف فِي ذَلِك آخَرُونَ مِنْهُم أَبُو عمر بن عبد الْبر فَقَالَ وَفِي حَدِيث زيد بن ثَابت عَن النَّبِي أَنه قَالَ إِن هَذِه الْأمة تبتلى فِي قبورها وَمِنْهُم من يرويهِ تسْأَل وعَلى هَذَا اللَّفْظ يحْتَمل أَن تكون هَذِه الْأمة خصت بذلك فَهَذَا أَمر لَا يقطع عَلَيْهِ وَقد احْتج من خصّه بِهَذِهِ الْأمة بقوله إِن هَذِه الْأمة تبتلى فِي قبورها وَبِقَوْلِهِ أوحى إِلَى أَنكُمْ تفتنون فِي قبوركم وَهَذَا ظَاهر فِي الِاخْتِصَاص بِهَذِهِ الْأمة قَالُوا وَيدل عَلَيْهِ قَول الْملكَيْنِ لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل الذى بعث فِيكُم فَيَقُول الْمُؤمن أشهد أَنه عبد الله وَرَسُوله فَهَذَا خَاص بِالنَّبِيِّ وَقَوله فِي الحَدِيث الآخر إِنَّكُم بِي تمتحنون وعني تسْأَلُون وَقَالَ آخَرُونَ لَا يدل هَذَا على اخْتِصَاص السُّؤَال بِهَذِهِ الْأمة دون سَائِر الْأُمَم فَإِن قَوْله ان الْأمة اما ن يُرَاد بِهِ أمة النَّاس كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم وكل جنس من أَجنَاس الْحَيَوَان يُسمى أمة وَفِي الحَدِيث لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها وَفِيه أَيْضا حَدِيث النَّبِي الَّذِي قرصته نملة فَأمر بقرية النَّمْل فأحرقت فَأوحى الله اليه من أجل أَن قرصتك نملة وَاحِدَة أحرقت أمة من الْأُمَم تسبح الله وَإِن كَانَ المُرَاد بِهِ أمته الَّذِي بعث فيهم لم يكن فِيهِ مَا يَنْفِي سُؤال غَيرهم من الْأُمَم بل قد يكون ذكرهم اخبارا بِأَنَّهُم مسئولون فِي قُبُورهم وَأَن ذَلِك لَا يخْتَص بِمن قبلهم لفضل هَذِه الْأمة وشرفها على سَائِر الْأُمَم وَكَذَلِكَ قَوْله أوحى إِلَى أَنكُمْ تفتنون فِي قبوركم وَكَذَلِكَ اخباره عَن قَول الْملكَيْنِ مَا هَذَا الرجل الَّذِي بعث فِيكُم هُوَ اخبار لأمته بِمَا تمتحن بِهِ فِي قبورها وَالظَّاهِر وَالله أعلم أَن كل نَبِي مَعَ أمته كَذَلِك وَأَنَّهُمْ معذبون فِي قُبُورهم بعد السُّؤَال لَهُم وَإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم كَمَا يُعَذبُونَ فِي الْآخِرَة بعد السُّؤَال وَإِقَامَة الْحجَّة وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة وَهِي أَن الْأَطْفَال هَل يمْتَحنُونَ فِي قُبُورهم اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك على قَوْلَيْنِ هما وَجْهَان لأَصْحَاب أَحْمد وَحجَّة من قَالَ أَنهم يسْأَلُون أَنه يشرع الصَّلَاة عَلَيْهِم وَالدُّعَاء لَهُم وسؤال الله أَن يقيهم عَذَاب الْقَبْر وفتنة الْقَبْر كَمَا ذكر مَالك فِي موطئِهِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه على جَنَازَة صبي فَسمع من دُعَائِهِ اللَّهُمَّ قه عَذَاب الْقَبْر

وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ على بن معبد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنه مر عَلَيْهَا بِجنَازَة صبي صَغِير فَبَكَتْ فَقيل لَهَا مَا يبكيك يَا أم الْمُؤمنِينَ فَقَالَت هَذَا الصَّبِي بَكَيْت لَهُ شَفَقَة عَلَيْهِ من ضمة الْقَبْر وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ هناد بن السرى حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِنَّه كَانَ ليُصَلِّي على المنفوس وَمَا ان عمل خَطِيئَة قطّ فَيَقُول اللَّهُمَّ أجره من عَذَاب الْقَبْر قَالُوا وَالله سُبْحَانَهُ يكمل لَهُم عُقُولهمْ ليعرفوا بذلك منزلهم ويلهمون الْجَواب عَمَّا يسْأَلُون عَنهُ قَالُوا وَقد دلّ على ذَلِك الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة الَّتِي فِيهَا أَنهم يمْتَحنُونَ فِي الْآخِرَة وَحَكَاهُ الْأَشْعَرِيّ عَن أهل السّنة والْحَدِيث فَإِذا امتحنوا فِي الْآخِرَة لم يمْتَنع امتحانهم فِي الْقُبُور قَالَ الْآخرُونَ السُّؤَال أَنما يكون لمن عقل الرَّسُول والمرسل فَيسْأَل هَل آمن بالرسول وأطاعه أم لَا فَيُقَال لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل الَّذِي بعث فِيكُم فَأَما الطِّفْل الَّذِي لَا تَمْيِيز لَهُ بِوَجْه مَا فَكيف يُقَال لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل الَّذِي بعث فِيكُم وَلَو رد إِلَيْهِ عقله فِي الْقَبْر فَإِنَّهُ لَا يسْأَل عَمَّا لم يتَمَكَّن من مَعْرفَته وَالْعلم بِهِ وَلَا فَائِدَة فِي هَذَا السُّؤَال وَهَذَا بِخِلَاف امتحانهم فِي الْآخِرَة فَإِن الله سُبْحَانَهُ يُرْسل اليهم رَسُولا وَيَأْمُرهُمْ بِطَاعَة أمره وعقولهم مَعَهم فَمن أطاعه مِنْهُم نجا وَمن عَصَاهُ أدخلهُ النَّار فَذَلِك امتحان بِأَمْر يَأْمُرهُم بِهِ يَفْعَلُونَهُ ذَلِك الْوَقْت لَا أَنه سُؤال عَن أَمر مضى لَهُم فِي الدُّنْيَا من طَاعَة أَو عصيان كسؤال الْملكَيْنِ فِي الْقَبْر وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فَلَيْسَ المُرَاد بِعَذَاب الْقَبْر فِيهِ عُقُوبَة الطِّفْل على ترك طَاعَة أَو فعل مَعْصِيّة قطعا فان الله لَا يعذب أحدا بِلَا ذَنْب عمله بل عَذَاب الْقَبْر قد يُرَاد بِهِ الْأَلَم الَّذِي يحصل للْمَيت بِسَبَب غَيره وَإِن لم يكن عُقُوبَة على عمل عمله وَمِنْه قَوْله إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ أَي يتألم بذلك ويتوجع مِنْهُ لَا أَنه يُعَاقب بذنب الْحَيّ وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَهَذَا كَقَوْل النَّبِي السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب فالعذاب أَعم من الْعقُوبَة وَلَا ريب أَن فِي الْقَبْر من الآلام والهموم والحسرات مَا قد يسرى أَثَره إِلَى الطِّفْل فيتألم بِهِ فيشرع الْمصلى عَلَيْهِ أَن يسْأَل الله تَعَالَى لَهُ أَن يَقِيه ذَلِك الْعَذَاب وَالله أعلم

المسألة الرابعة عشرة وهي قوله عذاب القبر دائم أم منقطع جوابها أنه

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة وَهِي قَوْله عَذَاب الْقَبْر دَائِم أم مُنْقَطع جوابها أَنه نَوْعَانِ نوع دَائِم سوى مَا ورد فِي بعض الْأَحَادِيث أَنه يُخَفف عَنْهُم مَا بَين النفختين فَإِذا قَامُوا من قُبُورهم قَالُوا {يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا} وَيدل على دَوَامه قَوْله تَعَالَى {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا مَا تقدم فِي حَدِيث سَمُرَة الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي رُؤْيا النَّبِي وَفِيه فَهُوَ يفعل بِهِ ذَلِك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي قصَّة الجريدتين لَعَلَّه يُخَفف عَنْهُمَا مَا لم تيبسا فَجعل التَّخْفِيف مُقَيّدا برطوبتهما فَقَط وَفِي حَدِيث الرّبيع بن أنس عَن أبي الْعَالِيَة عَن أبي هُرَيْرَة ثمَّ أَتَى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عَادَتْ لَا يفتر عَنْهُم من ذَلِك شَيْء وَقد تقدم وَفِي الصَّحِيح فِي قصَّة الَّذِي لبس بردين وَجعل يمشي يتبختر فَخسفَ الله بِهِ الأَرْض فَهُوَ يتجلجل فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَفِي حَدِيث الْبَراء بن عَازِب فِي قصَّة الْكَافِر ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار فَينْظر إِلَى مَقْعَده فِيهَا حَتَّى تقوم السَّاعَة رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَفِي بعض طرقه ثمَّ يخرق لَهُ خرقا إِلَى النَّار فيأتيه من غمها ودخانها إِلَى الْقِيَامَة النَّوْع الثَّانِي إِلَى مُدَّة ثمَّ يَنْقَطِع وَهُوَ عَذَاب بعض العصاة الَّذين خفت جرائمهم فيعذب بِحَسب جرمه ثمَّ يُخَفف عَنهُ كَمَا يعذب فِي النَّار مُدَّة ثمَّ يَزُول عَنهُ الْعَذَاب وَقد يَنْقَطِع عَنهُ الْعَذَاب بِدُعَاء أَو صَدَقَة أَو اسْتِغْفَار أَو ثَوَاب حج أَو قِرَاءَة تصل إِلَيْهِ من بعض أَقَاربه أَو غَيرهم وَهَذَا كَمَا يشفع الشافع فِي المعذب فِي الدُّنْيَا فيخلص من الْعَذَاب بِشَفَاعَتِهِ لَكِن هَذِه شَفَاعَة قد لَا تكون باذن الْمَشْفُوع عِنْده وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يتَقَدَّم أحد بالشفاعة بَين يَدَيْهِ إِلَّا من بعد إِذْنه فَهُوَ الَّذِي يَأْذَن للشافع أَن يشفع إِذا أَرَادَ أَن يرحم الْمَشْفُوع لَهُ وَلَا تغتر بِغَيْر هَذَا فَإِنَّهُ شرك وباطل يتعالى الله عَنهُ من ذَا الذى يشفع عِنْده إِلَّا باذنه وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى مَا من شَفِيع إِلَّا من بعد إِذْنه وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ قَالَ لله الشَّفَاعَة جَمِيعًا لَهُ ملك السَّمَوَات والارض وَقد ذكر ابْن أَبى الدُّنْيَا حَدَّثَنى مُحَمَّد بن مُوسَى الصَّائِغ حَدثنَا عبد الله بن نَافِع قَالَ مَاتَ رجل من أهل الْمَدِينَة فَرَآهُ رجل كَأَنَّهُ من أهل النَّار فاغتنم لذَلِك ثمَّ أَنه بعد سَاعَة أَو

ثَانِيه رَآهُ كَأَنَّهُ من أهل الْجنَّة فَقَالَ ألم تكن قلت انك من أهل النَّار قَالَ قد كَانَ ذَلِك إِلَّا أَنه دفن مَعنا رجل من الصَّالِحين فشفع فِي اربعين من جِيرَانه فَكنت أَنا مِنْهُم قَالَ ابْن أَبى الدُّنْيَا وَحدثنَا أَحْمد بن يحيى قَالَ حَدَّثَنى بعض أَصْحَابنَا قَالَ مَاتَ أخى فرأيته فِي النّوم فَقلت مَا كَانَ حالك حِين وضعت فِي قبرك قَالَ أتانى آتٍ بشهاب من نَار فلولا أَن دَاعيا دَعَا لى لرأيت أَنه سيضربنى بِهِ وَقَالَ عَمْرو بن جرير إِذا دَعَا العَبْد لِأَخِيهِ الْمَيِّت أَتَاهُ بهَا ملك إِلَى قَبره فَقَالَ يَا صَاحب الْقَبْر الْغَرِيب هَدِيَّة من أَخ عَلَيْك شفيق وَقَالَ بشار بن غَالب رَأَيْت رَابِعَة فِي منامى وَكنت كثير الدُّعَاء لَهَا فَقَالَت لى يَا بشار بن غَالب هداياك تَأْتِينَا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الْحَرِير قلت كَيفَ ذَلِك قَالَت هَكَذَا دُعَاء الْمُؤمنِينَ الاحياء إِذا دعوا للموتى اسْتُجِيبَ لَهُم وَاجعَل ذَلِك الدُّعَاء على أطباق النُّور وخمر بمناديل الْحَرِير ثمَّ أَتَى بهَا الذى دعى لَهُ من الْمَوْتَى فَقيل هَذِه هَدِيَّة فلَان إِلَيْك قَالَ ابْن أَبى الدُّنْيَا وحدثنى أَبُو عبيد بن بحير قَالَ حَدَّثَنى بعض أَصْحَابنَا قَالَ رَأَيْت أَخا لى فِي النّوم بعد مَوته فَقلت أيصل إِلَيْكُم دُعَاء الْأَحْيَاء قَالَ أى وَالله يترفرف مثل النُّور ثمَّ يلْبسهُ وسيأتى إِن شَاءَ الله تَعَالَى تَمام لهَذِهِ فِي جَوَاب السُّؤَال عَن انْتِفَاع الْأَمْوَات بِمَا تهديه إِلَيْهِم الْأَحْيَاء المسالة الْخَامِسَة عشرَة وهى أَيْن مُسْتَقر الْأَرْوَاح مَا بَين الْمَوْت إِلَى الْقِيَامَة هَل هى فِي السَّمَاء أم فِي الأَرْض وَهل هِيَ فِي الْجنَّة أم لَا وَهل تودع فِي أجساد غير أجسادها الَّتِي كَانَت فِيهَا فتنعم وتعذب فِيهَا أم تكون مُجَرّدَة هَذِه مسالة عَظِيمَة تكلم فِيهَا للنَّاس وَاخْتلفُوا فِيهَا وهى إِنَّمَا تتلقى من السّمع فَقَط وَاخْتلف فِي ذَلِك فَقَالَ قَائِلُونَ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ عِنْد الله فِي الْجنَّة شُهَدَاء كَانُوا أم غير شُهَدَاء إِذا لم يحبسهم عَن الْجنَّة كَبِيرَة وَلَا دين وتلقاهم رَبهم بِالْعَفو عَنْهُم وَالرَّحْمَة لَهُم وَهَذَا مَذْهَب أَبى هُرَيْرَة وَعبد الله بن عمر رضى الله عَنْهُم وَقَالَت طَائِفَة هم بِفنَاء الْجنَّة على بَابهَا يَأْتِيهم من روحها وَنَعِيمهَا وَرِزْقهَا وَقَالَت طَائِفَة الْأَرْوَاح على افنية قبورها

وَقَالَ مَالك بلغنى أَن الرّوح مُرْسلَة تذْهب حَيْثُ شَاءَت وَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة ابْنه عبد الله أَرْوَاح للْكفَّار فِي النَّار وأرواح الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة وَقَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه وَقَالَ طَائِفَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ عِنْد الله عز وَجل وَلم يزِيدُوا على ذَلِك قَالَ روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بالجابية وأرواح الْكفَّار ببرهوت بِئْر بحضرموت وَقَالَ صَفْوَان بن عَمْرو سَأَلت عَامر بن عبد الله أَبَا الْيَمَان هَل لأنفس الْمُؤمنِينَ مُجْتَمع فَقَالَ إِن الأَرْض الَّتِي يَقُول الله تَعَالَى {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد الذّكر أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون} قَالَ هى الأَرْض الَّتِي يجْتَمع إِلَيْهَا أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ حَتَّى يكون الْبَعْث وَقَالُوا هى الأَرْض الَّتِي يُورثهَا الله الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا وَقَالَ كَعْب أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ عليين فِي السَّمَاء السَّابِعَة وأرواح الْكفَّار فِي سِجِّين فِي الأَرْض السَّابِعَة تَحت جند إِبْلِيس وَقَالَت طَائِفَة أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ ببئر زَمْزَم وأرواح الْكفَّار ببئر برهوت وَقَالَ سلمَان الفارسى أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فِي برزخ من الأَرْض تذْهب حَيْثُ شَاءَت وأرواح الْكفَّار فِي سِجِّين وَفِي لفظ عَنهُ نسمَة الْمُؤمن تذْهب فِي الأَرْض حَيْثُ شَاءَت وَقَالَت طَائِفَة أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ عَن يَمِين آدم وأرواح الْكفَّار عَن شِمَاله وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى مِنْهُم ابْن حزم مستقرها حَيْثُ كَانَت قبل خلق أجسادها وَقَالَ والذى نقُول بِهِ فِي مُسْتَقر الْأَرْوَاح هُوَ مَا قَالَه الله عز وَجل وَنبيه لَا نتعداه فَهُوَ الْبُرْهَان الْوَاضِح وَهُوَ أَن الله عز وَجل قَالَ وَإِذا أَخذ رَبك من بنى آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} فصح أَن الله تَعَالَى خلق الْأَرْوَاح جملَة وَكَذَلِكَ أخبر أَن الْأَرْوَاح جنود مجندة فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف وَأخذ الله عهدها وشهادتها لَهُ بالربوبية وهى مخلوقة مصورة عَاقِلَة قبل أَن يَأْمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لآدَم وَقبل أَن يدخلهَا فِي الأجساد والأجساد يَوْمئِذٍ تُرَاب وَمَاء ثمَّ أقرها حَيْثُ شَاءَ وَهُوَ البرزخ الذى ترجع إِلَيْهِ عِنْد الْمَوْت ثمَّ لَا يزَال يبْعَث مِنْهَا الْجُمْلَة بعد الْجُمْلَة فينفخها فِي الأجساد المتولدة من المنى إِلَى أَن قَالَ فصح أَن الْأَرْوَاح أجساد حاملة لأغراضها من التعارف والتناكر وَأَنَّهَا عارفة مُمَيزَة فيبلوهم الله فِي الدُّنْيَا كَمَا يَشَاء ثمَّ يتوفاها فَيرجع إِلَى

البرزخ الذى رَآهَا فِيهِ رَسُول الله لَيْلَة أسرى بِهِ عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا أَرْوَاح أهل السَّعَادَة عَن يَمِين آدم وأرواح أهل الشقاوة عَن يسَاره وَذَلِكَ عِنْد مُنْقَطع العناصر ويعجل أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء وَالشُّهَدَاء إِلَى الْجنَّة قَالَ وَقد ذكر مُحَمَّد بن نصر المروزى عَن اسحاق بن رَاهَوَيْه أَنه ذكر هَذَا الذى قُلْنَا بِعَيْنِه قَالَ وعَلى هَذَا أجمع أهل الْعلم قَالَ ابْن حزم وَهُوَ قَول جَمِيع أهل الْإِسْلَام قَالَ وَهَذَا هُوَ قَول الله تَعَالَى فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشئمة مَا أَصْحَاب المشئمة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم ثلة من الْأَوَّلين وَقَلِيل من الآخرين وَقَوله تَعَالَى {فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم} إِلَى خرها فَلَا تزَال الْأَرْوَاح هُنَالك حَتَّى يتم عدد الْأَرْوَاح إِلَى أجسادها ثَانِيَة وهى الْحَيَاة الثَّانِيَة يُحَاسب الْخلق فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير مخلدين ابدا انْتهى وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي الْجنَّة وأرواح عَامَّة الْمُؤمنِينَ على أفنية قُبُورهم وَنحن نذْكر كَلَامه وَمَا احْتج بِهِ ونبين مَا فِيهِ وَقَالَ ابْن الْمُبَارك عَن ابْن جريج فِيمَا قرىء عَلَيْهِ من مُجَاهِد لَيْسَ هى فِي الْجنَّة وَلَكِن يَأْكُلُون من ثمارها ويجدون رِيحهَا وَذكر مُعَاوِيَة بن صَالح عَن سعيد بن سُوَيْد أَنه سَأَلَ ابْن شهَاب عَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فَقَالَ بلغنى أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء كطير خضر معلقَة بالعرش تَغْدُو وَتَروح إِلَى رياض الْجنَّة تأتى رَبهَا فِي كل يَوْم تسلم عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي شرح حَدِيث ابْن عمر أَن أحدكُم إِذا مَاتَ عرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشى إِن كَانَ من أهل الْجنَّة فَمن أهل الْجنَّة وَإِن كَانَ من أهل النَّار فَمن أهل النَّار يُقَال لَهُ هَذَا مَقْعَدك حَتَّى يَبْعَثك الله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ وَقد اسْتدلَّ بِهِ من ذهب إِلَى أَن الْأَرْوَاح على أفنية الْقُبُور وَهُوَ أصح مَا ذهب اليه فِي ذَلِك وَالله أعلم لِأَن الْأَحَادِيث بذلك أحسن مجيئا وَأثبت نقلا من غَيرهَا قَالَ وَالْمعْنَى أَنَّهَا قد تكون على أفنية قبورها لَا على أَنَّهَا تلْزم وَلَا تفارق أفنية الْقُبُور كَمَا قَالَ مَالك رَحمَه الله أَنه بلغنَا أَن الْأَرْوَاح تسرح حَيْثُ شَاءَت قَالَ وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ الْأَرْوَاح على أفنية الْقُبُور سَبْعَة أَيَّام من يَوْم دفن الْمَيِّت لَا تفارق ذَلِك وَالله أعلم

وَقَالَت فرقة مستقرها الْعَدَم الْمَحْض وَهَذَا قَول من يَقُول ان النَّفس عرض من أَعْرَاض الْبدن كحياته وإدراكه فتعدم بِمَوْت الْبدن كَمَا تعدم سَائِر الْأَعْرَاض الْمَشْرُوطَة بحياته وَهَذَا قَول مُخَالف لنصوص الْقُرْآن وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كَمَا سنذكر ذَلِك إِن شَاءَ الله وَالْمَقْصُود أَن عِنْد هَذِه الْفرْقَة المبطلة ان مُسْتَقر الْأَرْوَاح بعد الْمَوْت الْعَدَم الْمَحْض وَقَالَت فرقة مستقرها بعد الْمَوْت أَرْوَاح أخر تناسب أخلاقها وصفاتها الَّتِي اكتسبتها فِي حَال حَيَاتهَا فَتَصِير كل روح إِلَى بدن حَيَوَان يشاكل تِلْكَ الْأَرْوَاح فَتَصِير النَّفس السبعية إِلَى ابدان السبَاع والكلبية إِلَى أبدان الْبَهَائِم والدنية والسفلية إِلَى أبدان الحشرات وَهَذَا قَول المتناسخة منكرى الْمعَاد وَهُوَ قَول خَارج عَن أَقْوَال أهل الْإِسْلَام كلهم فَهَذَا مَا تلخص لى من جمع أَقْوَال النَّاس فِي مصير أَرْوَاحهم بعد الْمَوْت وَلَا تظفر بِهِ مجموعا فِي كتاب وَاحِد غير هَذَا الْبَتَّةَ وَنحن نذْكر مَأْخَذ هَذِه الْأَقْوَال وَمَا لكل قَول وَمَا عَلَيْهِ وَمَا هُوَ الصَّوَاب من ذَلِك الذى دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة على طريقتنا الَّتِي من الله بهَا وَهُوَ مرجو الْإِعَانَة والتوفيق فصل فَأَما من قَالَ هى فِي الْجنَّة فاحتج بقوله تَعَالَى {فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم} قَالَ وَهَذَا ذكره سُبْحَانَهُ عقيب ذكر خُرُوجهَا من الْبدن بِالْمَوْتِ وَقسم الْأَرْوَاح إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام مقربين وَأخْبر أَنَّهَا فِي جنَّة النَّعيم وَأَصْحَاب يَمِين حكم لَهَا بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يتَضَمَّن سلامتها من الْعَذَاب ومكذبة ضَالَّة وَأخْبر أَن لَهَا نزلا من حميم وتصلية جحيم قَالُوا وَهَذَا بعد مفارقتها للبدن قطعا وَقد ذكر سُبْحَانَهُ حَالهَا يَوْم الْقِيَامَة فِي أول السُّورَة فَذكر حَالهَا بعد الْمَوْت وَبعد الْبَعْث وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي} وَقد قَالَ غير وَاحِد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ان هَذَا يُقَال لَهَا عِنْد خُرُوجهَا من الدُّنْيَا يبشرها الْملك بذلك وَلَا يُنَافِي ذَلِك قَول من قَالَ ان هَذَا يُقَال لَهَا فِي الْآخِرَة فانه يُقَال لَهَا عِنْد الْمَوْت وَعند الْبَعْث وَهَذِه من الْبُشْرَى الَّتِي قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة أَلا تخافوا وَلَا تحزنوا وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم توعدون} وَهَذَا التنزل يكون عِنْد الْمَوْت وَيكون فِي الْقَبْر وَيكون عِنْد الْبَعْث وَأول بِشَارَة الْآخِرَة عِنْد الْمَوْت وَقد تقدم فِي حَدِيث الْبَراء بن عَازِب أَن الْملك يَقُول لَهَا عِنْد قبضهَا أبشرى بِروح وَرَيْحَان وَهَذَا من ريحَان الْجنَّة

وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن ابْن شهَاب عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك أخبرهُ أَن أَبَاهُ كَعْب بن مَالك كَانَ يحدث أَن رَسُول الله قَالَ إِنَّمَا نسمَة الْمُؤمن طَائِر تعلق فِي شجر الْجنَّة حَتَّى يرجعه الله إِلَى حَيَاة يَوْم يَبْعَثهُ قَالَ أَبُو عمر وَفِي رِوَايَة مَالك هَذِه بَيَان سَماع الزهرى لهَذَا الحَدِيث من عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُس عَن الزهرى قَالَ سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك يحدث عَن أَبِيه وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الأوزاعى عَن الزهرى حَدَّثَنى عبد الرَّحْمَن بن كَعْب وَقد أعل مُحَمَّد بن يحيى الذهلى هَذَا الحَدِيث بِأَن شُعَيْب بن أَبى حَمْزَة وَمُحَمّد بن أخى الزهرى وَصَالح بن كيسَان رَوَوْهُ عَن الزهرى عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن كَعْب بن مَالك عَن جده كَعْب فَيكون مُنْقَطِعًا وَقَالَ صَالح بن كيسَان عَن ابْن شهَاب عَن عبد الرَّحْمَن انه بلغه أَن كَعْبًا بن مَالك كَانَ يحدث قَالَ الذهلى وَهَذَا الْمَحْفُوظ عندنَا وَهُوَ الذى يُشبههُ حَدِيث صَالح وَشُعَيْب وَابْن أخى الزهرى وَخَالفهُ فِي هَذَا غَيره من الْحفاظ فحكموا لمَالِك والأوزاعى قَالَ أَبُو عمر فاتفق مَالك وَيُونُس بن يزِيد والأوزاعى والْحَارث بن فُضَيْل على رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن الزهرى عَن عبد الرَّحْمَن ابْن كَعْب بن مَالك عَن أَبِيه وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره قَالَ أَبُو عمر وَلَا وَجه عندى لما قَالَه مُحَمَّد بن يحيى من ذَلِك وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ واتفاق مَالك وَيُونُس بن زيد والأوزاعى وَمُحَمّد بن إِسْحَاق أولى بِالصَّوَابِ وَالنَّفس إِلَى قَوْلهم وروايتهم أسكن وهم من الْحِفْظ والاتقان بِحَيْثُ لَا يُقَاس بهم من خالفهم فِي هَذَا الحَدِيث انْتهى وَقد قَالَ مُحَمَّد الذهلى سَمِعت على بن المدينى يَقُول ولد كَعْب خَمْسَة عبد الله وَعبيد الله ومعبد وَعبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد قَالَ الذهلى فَسمع الزهرى من عبد الله بن كَعْب وَكَانَ قَائِد أَبِيه حِين عمى وَسمع من عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن كَعْب وروى عَن بشير بن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب وَلَا أرَاهُ سمع مِنْهُ انْتهى فَالْحَدِيث ان كَانَ لعبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه كَعْب كَمَا قَالَ مَالك وَمن مَعَه فَظَاهر وَإِن كَانَ لعبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن كَعْب عَن جده كَمَا قَالَ شُعَيْب وَمن مَعَه فنهايته أَن يكون مُرْسلا من هَذَا الطَّرِيق وموصولا من الْأُخْرَى وَالَّذين وصلوه لَيْسُوا بِدُونِ الَّذين أَرْسلُوهُ قدرا وَلَا عددا فَالْحَدِيث من صِحَاح الْأَحَادِيث وَإِنَّمَا لم يُخرجهُ صاحبا الصَّحِيح لهَذِهِ الْعلَّة وَالله أعلم قَالَ أَبُو عَمْرو أما قَوْله نسمَة الْمُؤمن فالنسمة هَا هُنَا الرّوح يدل على ذَلِك قَوْله فِي الحَدِيث نَفسه حَتَّى يرجعه الله إِلَى جسده يَوْم يَبْعَثهُ وَقيل النَّسمَة الرّوح وَالنَّفس وَالْبدن وأصل هَذِه اللَّفْظَة اعنى النَّسمَة الانسان بِعَيْنِه وَإِنَّمَا قيل للروح نسمَة وَالله أعلم لِأَن حَيَاة الانسان بِرُوحِهِ وَإِذا فَارقه عدم أَو صَار كَالْمَعْدُومِ وَالدَّلِيل على أَن النَّسمَة الانسان قَوْله من أعتق نسمَة مُؤمنَة وَقَول على رضى الله عَنهُ والذى فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة وَقَالَ الشَّاعِر فأعظم مِنْك تقى فِي الْحساب ... إِذا النسمات نفضن الغبارا

يعْنى إِذا بعث النَّاس من قُبُورهم يَوْم الْقِيَامَة وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد النَّسمَة الْإِنْسَان قَالَ والنسمة الرّوح والنسيم هبوب الرّيح وَقَوله تَعَالَى فِي شجر الْجنَّة يرْوى بِفَتْح اللَّام وَهُوَ الْأَكْثَر ويروى بِضَم اللَّام وَالْمعْنَى وَاحِد وَهُوَ الْأكل والرعى يَقُول تَأْكُل من ثمار الْجنَّة وتسرح بَين أشجارها والعلوقة والعلوق الْأكل والرعى تَقول الْعَرَب مَا ذاق الْيَوْم علوقا أى طَعَاما قَالَ الرّبيع بن زِيَاد يصف الْخَيل ومجنبات مَا يذقن علوقة ... يمصعن بالمهرات والأمهار وَقَالَ الْأَعْشَى وفلاة كَأَنَّهَا ظهر ترس ... لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الرجيع علاق قلت وَمِنْه قَول عَائِشَة وَالنِّسَاء إِذْ ذَاك خفاف لم يغشهن اللَّحْم إِنَّمَا يأكلن الْعلقَة من الطَّعَام وأصل اللَّفْظَة من التَّعَلُّق وَهُوَ مَا يعلق الْقلب وَالنَّفس من الْغذَاء قَالَ وَاخْتلف الْعلمَاء فِي معنى هَذَا الحَدِيث فَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُم أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ عِنْد الله فِي الْجنَّة شُهَدَاء كَانُوا أم غير شُهَدَاء إِذا لم يحبسهم عَن الْجنَّة كَبِيرَة وَلَا دين وتلقاهم رَبهم بِالْعَفو عَنْهُم وَالرَّحْمَة لَهُم قَالَ وَاحْتَجُّوا بِأَن هَذَا الحَدِيث لم يخص فِيهِ شَهِيدا من غير شَهِيد وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا روى عَن أَبى هُرَيْرَة أَن أَرْوَاح الْأَبْرَار فِي عليين وأرواح الْفجار فِي سِجِّين وَعَن عبد الله بن عَمْرو مثل ذَلِك قَالَ أَبُو عمر وَهَذَا قَول يُعَارضهُ من السّنة مَا لَا مدفع فِي صِحَة نَقله وَهُوَ قَوْله إِذا مَاتَ أحدكُم عرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشى إِن كَانَ من أهل الْجنَّة فَمن أهل الْجنَّة وَإِن كَانَ من أهل النَّار فَمن أهل النَّار يُقَال لَهُ هَذَا مَقْعَدك حَتَّى يَبْعَثك الله إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّمَا معنى هَذَا الحَدِيث فِي الشُّهَدَاء دون غَيرهم لِأَن الْقُرْآن وَالسّنة إِنَّمَا يدلان على ذَلِك أما الْقُرْآن فَقَوله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله} الْآيَة وَأما الْآثَار فَذكر حَدِيث أَبى سعيد الخدرى رضى الله عَنهُ من طَرِيق بقى بن مخلد مَرْفُوعا الشُّهَدَاء يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ ثمَّ يكون مأواهم إِلَى قناديل معلقَة بالعرش فَيَقُول لَهُم الرب تبَارك وَتَعَالَى هَل تعلمُونَ كَرَامَة أفضل من كَرَامَة أكرمتكموها فَيَقُولُونَ لَا غير

أَنا وَدِدْنَا أَنَّك أعدت أَرْوَاحنَا فِي أَجْسَادنَا حَتَّى نُقَاتِل مرّة أُخْرَى فنقتل فِي سَبِيلك رَوَاهُ عَن هناد عَن اسماعيل بن الْمُخْتَار عَن عَطِيَّة عَنهُ ثمَّ سَاق حَدِيث ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله لما أُصِيب إخْوَانكُمْ يعْنى يَوْم أحد جعل الله أَرْوَاحهم فِي أَجْوَاف طير خضر ترد أَنهَار الْجنَّة وتأكل من ثمارها وتأوى إِلَى قناديل من ذهب مدلاة فِي ظلّ الْعَرْش فَلَمَّا وجدوا طيب مَأْكَلهمْ وَمَشْرَبهمْ وَمَقِيلهمْ قَالُوا من يبلغ إِخْوَاننَا أَنا أَحيَاء فِي الْجنَّة نرْزق لِئَلَّا ينكلُوا عَن الْحَرْب وَلَا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد قَالَ فَقَالَ الله عز وَجل أَنا أبلغهم عَنْكُم فَأنْزل الله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} والْحَدِيث فِي مُسْند أَحْمد وَسنَن أَبى دَاوُد ثمَّ ذكر حَدِيث الْأَعْمَش عَن عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق قَالَ سَأَلَ عِنْد الله بن مسود رضى الله عَنهُ عَن هَذِه الْآيَة {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} فَقَالَ أما أَنا قد سَأَلنَا عَن ذَلِك فَقَالَ أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر تسرح فِي الْجنَّة فِي ايها شَاءَت ثمَّ تأوى إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل فَاطلع اليهم رَبك إطلاعه فَقَالَ هَل تشتهون شَيْئا قَالُوا وأى شَيْء نشتهى وَنحن نَسْرَح من الْجنَّة حَيْثُ شِئْنَا فَفعل بهم ذَلِك ثَلَاث مَرَّات فَلَمَّا رَأَوْا أَنهم لم يتْركُوا من أَن يسْأَلُوا قَالُوا يَا رب نُرِيد أَن ترد أَرْوَاحنَا فِي أَجْسَادنَا حَتَّى نقْتل فِي سَبِيلك مرّة أُخْرَى فَلَمَّا رأى أَن لَيْسَ لَهُم حَاجَة تركُوا والْحَدِيث فِي صَحِيح مُسلم قلت وَفِي صَحِيح البخارى عَن أنس أَن أم الرّبيع بنت الْبَراء وهى أم حَارِثَة بن سراقَة أَتَت النَّبِي فَقَالَت يَا نَبِي الله أَلا تحدثنى عَن حَارِثَة وَكَانَ قتل يود بدر أَصَابَهُ سهم غرب قان كَانَ فِي الْجنَّة صبرت وَإِن كَانَ فِي غير ذَلِك اجتهدت عَلَيْهِ فِي الْبكاء قَالَ يَا أم حَارِثَة إِنَّهَا جنان وَإِن ابْنك أصَاب الفردوس الْأَعْلَى ثمَّ سَاق من طَرِيق بقى بن مخلد حَدثنَا يحيى بن عبد الحميد حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عبيد الله ابْن أَبى يزِيد سمع ابْن عَبَّاس يَقُول أَرْوَاح الشُّهَدَاء تجول فِي أَجْوَاف طير خضر تعلق فِي تتمر الْجنَّة ثمَّ ذكر عَن معمر عَن قَتَادَة قَالَ بلغنَا أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي صور طير بيض تَأْكُل من ثمار الْجنَّة وَمن طَرِيق أَبى عَاصِم النَّبِيل عَن ثَوْر بن يزِيد عَن خَالِد بن معدان عَن عبد الله بن عَمْرو أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي طير كالزرازير يَتَعَارَفُونَ وَيُرْزَقُونَ من ثَمَر الْجنَّة

قَالَ أَبُو عمر هَذِه الْآثَار كلهَا تدل على أَنهم الشُّهَدَاء دون غَيرهم وَفِي بَعْضهَا فِي صور طير وَفِي بَعْضهَا فِي أَجْوَاف طير وَفِي بَعْضهَا كطير خضر قَالَ والذى يشبه عندى وَالله أعلم أَن يكون القَوْل قَول من قَالَ كطير أَو صور طير لمطابقته لحديثنا الْمَذْكُور يُرِيد حَدِيث كَعْب ابْن مَالك وَقَوله فِيهِ نسمَة الْمُؤمن كطائر وَلم يقل فِي جَوف طَائِر قَالَ وروى عِيسَى بن يُونُس حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن الْأَعْمَش عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق عَن عبد الله كطير خضر قلت والذى فِي صَحِيح مُسلم فِي أَجْوَاف طير خضر قَالَ أَبُو عمر فعلى هَذَا التَّأْوِيل كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا نسمَة الْمُؤمن من الشُّهَدَاء طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة قلت لَا تنَافِي بَين قَوْله نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة وَبَين قَوْله إِن أحدكُم إِذا مَاتَ عرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشى إِن كَانَ من أهل الْجنَّة فَمن أهل الْجنَّة وَإِن كَانَ من أهل النَّار فَمن أهل النَّار وَهَذَا الْخطاب يتَنَاوَل الْمَيِّت على فرَاشه والشهيد كَمَا أَن قَوْله نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة يتَنَاوَل الشَّهِيد وَغَيره وَمَعَ كَونه يعرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشى ترد روحه أَنهَار الْجنَّة وتأكل من ثمارها وَأما المقعد الْخَاص بِهِ وَالْبَيْت الذى أعد لَهُ فانه إِنَّمَا يدْخلهُ يَوْم الْقِيَامَة وَيدل عَلَيْهِ أَن منَازِل الشُّهَدَاء ودورهم وقصورهم الَّتِي أعد الله لَهُم لَيست هِيَ تِلْكَ الْقَنَادِيل الَّتِي تأوى اليها أَرْوَاحهم فِي البرزخ قطعا فهم يرَوْنَ مَنَازِلهمْ ومقاعدهم من الْجنَّة وَيكون مستقرهم فِي تِلْكَ الْقَنَادِيل الْمُعَلقَة بالعرش فان الدُّخُول التَّام الْكَامِل إِنَّمَا يكون يَوْم الْقِيَامَة وَدخُول الْأَرْوَاح الْجنَّة فِي البرزخ أَمر دون ذَلِك وَنَظِير هَذَا أهل الشَّقَاء تعرض أَرْوَاحهم على النَّار غدوا وعشيا فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة دخلُوا مَنَازِلهمْ ومقاعدهم الَّتِي كَانُوا يعرضون عَلَيْهَا فِي البرزخ فتنعم الْأَرْوَاح بِالْجنَّةِ فِي البرزخ شَيْء وتنعمها مَعَ الْأَبدَان يَوْم الْقِيَامَة بهَا شَيْء آخر فغذاه الرّوح من الْجنَّة فِي البرزخ دون غذائها مَعَ بدنهَا يَوْم الْبَعْث وَلِهَذَا قَالَ تعلق فِي شجر الْجنَّة أى تَأْكُل الْعلقَة وَقَامَ الْأكل وَالشرب واللبس والتمتع فَإِنَّمَا يكون إِذا ردَّتْ إِلَى أجسادها يَوْم الْقِيَامَة فَظهر أَنه لَا يُعَارض هَذَا القَوْل من السّنَن شَيْء وَإِنَّمَا تعاضده السّنة وتوافقه وَأما قَول من قَالَ إِن حَدِيث كَعْب فِي الشُّهَدَاء دون غَيرهم فتخصيص لَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يدل عَلَيْهِ وَهُوَ حمل اللَّفْظ الْعَام على أقل مسمياته فَإِن الشُّهَدَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُوم الْمُؤمنِينَ

قَلِيل جدا وَالنَّبِيّ علق هَذَا الْجَزَاء بِوَصْف الْإِيمَان فَهُوَ الْمُقْتَضى لَهُ وَلم يعلقه بِوَصْف الشَّهَادَة أَلا ترى أَن الحكم الذى اخْتصَّ بِالشُّهَدَاءِ علق بِوَصْف الشَّهَادَة كَقَوْلِه فِي حَدِيث الْمِقْدَام بن معد يكرب للشهيد عِنْد الله سِتّ خِصَال يغْفر لَهُ فِي أول دفقة من دَمه وَيرى مَقْعَده من الْجنَّة ويحلى حلَّة الْإِيمَان ويزوج من الْحور الْعين ويجار من عَذَاب الْقَبْر ويأمن من الْفَزع الْأَكْبَر وَيُوضَع على رَأسه تَاج الْوَقار الياقوتة مِنْهُ خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ويزوج اثْنَتَيْنِ وَسبعين من الْحور الْعين ويشفع فِي سبعين إنْسَانا من أَقَاربه فَلَمَّا كَانَ هَذَا يخْتَص بالشهيد قَالَ إِن للشهيد وَلم يقل إِن لِلْمُؤمنِ وَكَذَلِكَ قَوْله فِي حَدِيث قيس الجذامى يعْطى الشَّهِيد سِتّ خِصَال وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَحَادِيث والنصوص الَّتِي علق فِيهَا الْجَزَاء بِالشَّهَادَةِ وَأما مَا علق فِيهِ الْجَزَاء بِالْإِيمَان فَإِنَّهُ يتَنَاوَل كل مُؤمن شَهِيدا كَانَ أَو غير شَهِيد واما النُّصُوص والْآثَار الَّتِي ذكر فِي رزق الشُّهَدَاء وَكَون أَرْوَاحهم فِي الْجنَّة فَكلهَا حق وَهِي لَا تدل على انْتِفَاء دُخُول أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ الْجنَّة وَلَا سِيمَا الصديقين الَّذين هم أفضل من الشُّهَدَاء بِلَا نزاع بَين النَّاس فَيُقَال لهَؤُلَاء مَا تَقولُونَ فِي أَرْوَاح الصديقين هَل هى فِي الْجنَّة أم لَا فَإِن قَالُوا أَنَّهَا فِي الْجنَّة وَلَا يسوغ لَهُم غير هَذَا القَوْل فَثَبت أَن هَذِه النُّصُوص لَا تدل على اخْتِصَاص أَرْوَاح الشُّهَدَاء بذلك وَإِن قَالُوا لَيست فِي الْجنَّة لَزِمَهُم من ذَلِك أَن تكون أَرْوَاح سَادَات الصَّحَابَة كابى بكر الصّديق وأبى بن كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود وأبى الدَّرْدَاء وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان وأشباههم رضى الله عَنْهُم لَيست فِي الْجنَّة وأرواح شُهَدَاء زَمَاننَا فِي الْجنَّة وَهَذَا مَعْلُوم الْبطلَان ضَرُورَة فَإِن قيل فَإِن كَانَ هَذَا حكم يخْتَص بِالشُّهَدَاءِ فَمَا الْمُوجب لتخصيصهم بِالذكر فِي هَذِه النُّصُوص قلت التَّنْبِيه على فضل الشَّهَادَة وعلو درجتها وَأَن هَذَا مَضْمُون لأَهْلهَا وَلَا بُد وَأَن لَهُم مِنْهَا أوفر نصيب فَنصِيبهُمْ من هَذَا النَّعيم فِي البرزخ أكمل من نصيب غَيرهم من الْأَمْوَات على فراشهم وَإِن كَانَ الْمَيِّت على فرَاشه أَعلَى دَرَجَة مِنْهُم فَلهُ نعيم يخْتَص بِهِ لَا يُشَارِكهُ فِيهِ من هُوَ دونه وَيدل على هَذَا أَن الله سُبْحَانَهُ جعل أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي أَجْوَاف اطير خضر فَإِنَّهُم لما بذلوا أنفسهم لله حَتَّى أتلفهَا أعداؤه فِيهِ أعاضهم مِنْهَا فِي البرزخ أبدانا خيرا مِنْهَا تكون فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَيكون نعيمها بِوَاسِطَة تِلْكَ الْأَبدَان أكمل من نعيم الْأَرْوَاح الْمُجَرَّدَة عَنْهَا وَلِهَذَا كَانَت نسمَة الْمُؤمن فِي صُورَة طير أَو كطير ونسمة الشَّهِيد فِي جَوف طير وَتَأمل لفظ الْحَدِيثين فانه قَالَ نسمَة الْمُؤمن طير فَهَذَا يعم الشَّهِيد وَغَيره ثمَّ خص للشهيد بِأَن قَالَ

فصل وأما قول مجاهد ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون

هِيَ فِي جَوف طير وَمَعْلُوم أَنَّهَا إِذا كَانَت فِي جَوف طير صدق عَلَيْهَا أَنَّهَا طير فصلوات الله وَسَلَامه على من يصدق كَلَامه بعضه بَعْضًا وَيدل على أَنه حق من عِنْد الله وَهَذَا الْجمع أحسن من جمع أَبى عمر وترجيحه رِوَايَة من روى أَرْوَاحهم كطير خضر بل الرِّوَايَتَانِ حق وصواب فَهِيَ كطير خضر وَفِي أَجْوَاف طير خضر فصل وَأما قَول مُجَاهِد لَيْسَ هِيَ فِي الْجنَّة وَلَكِن يَأْكُلُون من ثمارها ويجدون رِيحهَا فقد يحْتَج لهَذَا القَوْل بِمَا رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث ابْن اسحق عَن عَاصِم بن عمر عَن مَحْمُود ابْن لبيد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الشُّهَدَاء على بارق نهر بِبَاب الْجنَّة فِي قبَّة خضراء يخرج عَلَيْهِم رزقهم من الْجنَّة بكرَة وَعَشِيَّة وَهَذَا لَا يُنَافِي كَونهم فِي الْجنَّة فَإِن ذَلِك النَّهر من الْجنَّة ورزقهم يخرج عَلَيْهِم من الْجنَّة فهم فِي الْجنَّة وَإِن لم يصيروا إِلَى مَقَاعِدهمْ مِنْهَا فمجاهد نفي الدُّخُول الْكَامِل من كل وَجه وَالتَّعْبِير يقصر عَن الْإِحَاطَة بتمييز هَذَا وأكمل الْعبارَة ادلها على المُرَاد عبارَة رَسُول الله ثمَّ عبارَة أَصْحَابه وَكلما نزلت رَأَيْت الشِّفَاء وَالْهدى والنور وَكلما نزلت رَأَيْت الْحيرَة والدعاوى وَالْقَوْل بِلَا علم قَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه وروى مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن عبد الله بن يزِيد عَن أم كَبْشَة بنت الْمَعْرُور قَالَت دخل علينا رَسُول الله فَسَأَلْنَاهُ عَن هَذِه الْأَرْوَاح فوصفها صفة أبكى أهل الْبَيْت فَقَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فِي حواصل الطير خضر ترعى فِي الْجنَّة وتأكل من ثمارها وتشرب من مَائِهَا وتأوى إِلَى قناديل من ذهب تَحت الْعَرْش يَقُولُونَ رَبنَا ألحق بِنَا إِخْوَاننَا وآتنا مَا وعدتنا وان أَرْوَاح الْكفَّار فِي حواصل طير سود تَأْكُل من النَّار وتشرب من النَّار وتأوى إِلَى جُحر فِي النَّار يَقُولُونَ رَبنَا لَا تلْحق بِنَا إِخْوَاننَا وَلَا تؤتنا مَا وعدتنا وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ حَدثنَا أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي حَدثنَا عبد الله بن صَالح حَدثنِي مُعَاوِيَة ابْن صَالح عَن ضَمرَة بن حبيب قَالَ سُئِلَ النَّبِي عَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فَقَالَ فِي طير خضر تسرح فِي الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت قَالُوا يَا رَسُول الله وأرواح الْكفَّار قَالَ محبوسة فِي سِجِّين رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ عَن هِشَام بن يُونُس عَن عبد لله بن صَالح وَرَوَاهُ أَبُو الْمُغيرَة عَن أَبى بكر بن أَبى مَرْيَم عَن ضَمرَة بن حبيب وَذكر أَبُو عبد الله بن مَنْدَه من حَدِيث غُنْجَار عَن الثورى عَن ثَوْر بن يزِيد عَن

فصل وأما قول من قال الأرواح على أفنية قبورها فان أراد أن هذا

خَالِد بن معدان عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ قَالَ رَسُول الله أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فِي طير خضر كالزرازير تَأْكُل من ثَمَر الْجنَّة وَرَوَاهُ غَيره مَوْقُوفا وَذكر يزِيد الرقاشِي عَن أنس وَأَبُو عبد الله الشَّامي عَن تَمِيم الدارى عَن النَّبِي إِذا عرج ملك الْمَوْت بِروح الْمُؤمن إِلَى السَّمَاء استقبله جِبْرَائِيل فِي سبعين ألفا من الْمَلَائِكَة كل مِنْهُم يَأْتِيهِ بِبِشَارَة من السَّمَاء سوى بِشَارَة صَاحبه فَإِذا انتهي بِهِ إِلَى الْعَرْش خر سَاجِدا فَيَقُول الله عز وَجل لملك الْمَوْت انْطلق بِروح عبدى فضعه فِي سدر مخضود وطلح منضود وظل مَمْدُود وَمَاء مسكوب رَوَاهُ بكر بن خُنَيْس عَن ضرار بن عَمْرو عَن يزِيد وأبى عبد الله فصل وَأما قَول من قَالَ الْأَرْوَاح على أفنية قبورها فان أَرَادَ أَن هَذَا أَمر لَازم لَهَا لَا تفارق أفنية الْقُبُور أبدا فَهَذَا خطأ ترده نُصُوص الْكتاب وَالسّنة من وُجُوه كَثِيرَة قد ذكرنَا بَعْضهَا وَسَنذكر مِنْهَا مَا لم نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَإِن أَرَادَ أَنَّهَا تكون على أفنية الْقُبُور وقتا أَولهَا إشراف على قبورها وَهِي فِي مقرها فَهَذَا حق وَلَكِن لَا يُقَال مستقرها أفنية الْقُبُور وَقد ذهب إِلَى هَذَا الْمَذْهَب جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عمر بن عبد الْبر قَالَ فِي كِتَابه فِي شرح حَدِيث ابْن عمر إِن أحدكُم إِذا مَاتَ عرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشى وَقد استبدل بِهِ من ذهب إِلَى ان الْأَرْوَاح على أفنية الْقُبُور وَهُوَ أصح مَا ذهب إِلَيْهِ فِي ذَلِك من طَرِيق الْأَثر أَلا ترى أَن الْأَحَادِيث الدَّالَّة على ذَلِك ثَابِتَة متواترة وَكَذَلِكَ أَحَادِيث السَّلَام على الْقُبُور قلت يُرِيد الْأَحَادِيث المتواترة مثل حَدِيث ابْن عمر هَذَا وَمثل حَدِيث الْبَراء ابْن عَازِب الَّذِي تقدم وَفِيه هَذَا مَقْعَدك حَتَّى يَبْعَثك الله يَوْم الْقِيَامَة وَمثل حَدِيث أنس أَن للْعَبد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ أَصْحَابه انه ليسمع قرع نعَالهمْ وَفِيه أَنه يرى مَقْعَده من الْجنَّة وَالنَّار وَأَنه يفسح لِلْمُؤمنِ فِي قَبره سبعين ذِرَاعا ويضيق على الْكَافِر وَمثل حَدِيث جَابر إِن هَذِه الْأمة تبلى فِي قبورها فَإِذا دخل الْمُؤمن من قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ أَصْحَابه أَتَاهُ ملك الحَدِيث وَأَنه يرى مَقْعَده من الْجنَّة فَيَقُول دَعونِي أبشر أَهلِي فَيُقَال لَهُ أسكن فَهَذَا مَقْعَدك أبدا وَمثل سَائِر أَحَادِيث عَذَاب الْقَبْر ونعيمه الَّتِي تقدّمت وَمثل أَحَادِيث السَّلَام على أهل الْقُبُور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الْأَحْيَاء لَهُم وَقد تقدم ذكر ذَلِك كُله وَهَذَا القَوْل ترده السّنة الصَّحِيحَة والْآثَار الَّتِي لَا مدفع لَهَا وَقد تقدم ذكرهَا وكل مَا ذكره

من الْأَدِلَّة فَهُوَ يتَنَاوَل الْأَرْوَاح الَّتِي هِيَ فِي الْجنَّة بِالنَّصِّ وَفِي الرفيق الْأَعْلَى وَقد بَينا أَن عرض مقْعد الْمَيِّت عَلَيْهِ من الْجنَّة وَالنَّار لَا يدل على أَن الرّوح فِي الْقَبْر وَلَا على فنائه دَائِما من جَمِيع الْوُجُوه بل لَهَا إشراف واتصال بالقبر وفنائه وَذَلِكَ الْقدر مِنْهَا يعرض عَلَيْهِ مَقْعَده فَإِن الرّوح شَأْنًا آخر تكون فِي الرفيق الْأَعْلَى فِي أَعلَى عليين وَلها اتِّصَال بِالْبدنِ بِحَيْثُ إِذا سلم الْمُسلم على الْمَيِّت رد الله عَلَيْهِ روحه فَيرد عَلَيْهِ السَّلَام وَهِي فِي الْمَلأ الْأَعْلَى وَإِنَّمَا يغلط أَكثر النَّاس فِي هَذَا الْموضع حَيْثُ يعْتَقد أَن الرّوح من جنس مَا يعْهَد من الْأَجْسَام الَّتِي إِذا شغلت مَكَانا لم يُمكن أَن تكون فِي غَيره وَهَذَا غلط مَحْض بل الرّوح تكون فَوق السَّمَوَات فِي أَعلَى عليين وَترد إِلَى الْقَبْر فَترد السَّلَام وَتعلم بِالْمُسلمِ وَهِي فِي مَكَانهَا هُنَاكَ وروح رَسُول الله فِي الرفيق الْأَعْلَى دَائِما ويردها الله سُبْحَانَهُ إِلَى الْقَبْر فَترد السَّلَام على من سلم عَلَيْهِ وَتسمع كَلَامه وَقد رأى رَسُول الله مُوسَى قَائِما يصلى فِي قبر وَرَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة وَالسَّابِعَة فإمَّا أَن تكون سريعة الْحَرَكَة والانتقال كلمح الْبَصَر وَإِمَّا أَن يكون الْمُتَّصِل مِنْهَا بالقبر وفنائه بِمَنْزِلَة شُعَاع الشَّمْس وجرمها فِي السَّمَاء وَقد ثَبت أَن روح النَّائِم تصعد حَتَّى تخترق السَّبع الطباق وتسجد لله بَين يَدي الْعَرْش ثمَّ ترد إِلَى جسده فِي أيسر زمَان وَكَذَلِكَ روح الْمَيِّت تصعد بهَا الْمَلَائِكَة حَتَّى تجَاوز السَّمَوَات السَّبع وتقف بَين يَدي الله فتسجد لَهُ وَيقْضى فِيهَا قَضَاء ويريها الْملك مَا أعد الله لَهَا فِي الْجنَّة ثمَّ تهبط فَتشهد غسله وَحمله وَدَفنه وَقد تقدم فِي حَدِيث الْبَراء بن عَازِب أَن النَّفس يصعد بهَا حَتَّى توقف بَين يَدي الله فَيَقُول تَعَالَى اكتبوا كتاب عبدى فِي عليين ثمَّ أعيدوه إِلَى الأَرْض فيعاد إِلَى الْقَبْر وَذَلِكَ فِي مِقْدَار تَجْهِيزه وتكفينه فقد صرح بِهِ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس حَيْثُ قَالَ فيهبطون على قدر فَرَاغه من غسله وأكفانه فَيدْخلُونَ ذَلِك الرّوح بَين جسده وأكفانه وَقد ذكر أَبُو عبد الله بن مَنْدَه من حَدِيث عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن حَدثنَا ابْن شهَاب حَدثنَا عَامر بن سعد عَن إِسْمَاعِيل بن طَلْحَة بن عبيد الله عَن أَبِيه قَالَ أردْت مَالِي بِالْغَابَةِ فأدركنى اللَّيْل فأويت إِلَى قبر عبد الله بن عمر بن حرَام فَسمِعت قِرَاءَة من الْقَبْر مَا سَمِعت أحسن مِنْهَا فَجئْت إِلَى رَسُول الله فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ ذَلِك عبد الله ألم تعلم أَن الله قبض أَرْوَاحهم فَجَعلهَا فِي قناديل من زبرجد وَيَاقُوت ثمَّ علقها وسط الْجنَّة فَإِذا كَانَ اللَّيْل ردَّتْ إِلَيْهِم أَرْوَاحهم فَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى إِذا طلع الْفجْر ردَّتْ أَرْوَاحهم إِلَى مكانهم الَّذِي كَانَت بِهِ فَفِي هَذَا الحَدِيث بَيَان سرعَة انْتِقَال أَرْوَاحهم من الْعَرْش إِلَى الثرى ثمَّ انتقالها من الثرى إِلَى مَكَانهَا وَلِهَذَا قَالَ مَالك وَغَيره من الْأَئِمَّة أَن الرّوح مُرْسلَة تذْهب حَيْثُ شَاءَت وَمَا

فصل ومما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب

يرَاهُ النَّاس من أَرْوَاح الْمَوْتَى ومجيئهم إِلَيْهِم من الْمَكَان الْبعيد أَمر يُعلمهُ عَامَّة النَّاس وَلَا يَشكونَ فِيهِ وَالله أعلم وَأما السَّلَام على أهل الْقُبُور وخطابهم فَلَا يدل على أَن أَرْوَاحهم لَيست فِي الْجنَّة وَأَنَّهَا على أفنية الْقُبُور فَهَذَا سيد ولد آدم الَّذِي روحه فِي أَعلَى عليين مَعَ الرفيق الْأَعْلَى عِنْد قَبره وَيرد سَلام الْمُسلم عَلَيْهِ وَقد وَافق أَبُو عمر رَحمَه الله على أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي الْجنَّة وَيسلم عَلَيْهِم عِنْد قُبُورهم كَمَا يسلم على غَيرهم كَمَا علمنَا النَّبِي أَن نسلم عَلَيْهِم وكما كَانَ الصَّحَابَة يسلمُونَ على شُهَدَاء أحد وَقد ثَبت أَن أَرْوَاحهم فِي الْجنَّة تسرح حَيْثُ شَاءَت كَمَا تقدم وَلَا يضيق عقلك عَن كَون الرّوح فِي الْمَلأ الْأَعْلَى تسرح فِي الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت وَتسمع سَلام الْمُسلم عَلَيْهَا عِنْد قبرها وتدنو حَتَّى ترد عَلَيْهِ السَّلَام وللروح شَأْن آخر غير شَأْن الْبدن وَهَذَا جِبْرِيل صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ رَآهُ النَّبِي وَله سِتّمائَة جنَاح مِنْهَا جَنَاحَانِ قد سد بهما مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب وَكَانَ من النَّبِي حَتَّى يضع رُكْبَتَيْهِ بَين رُكْبَتَيْهِ وَيَديه على فَخذيهِ وَمَا أَظُنك يَتَّسِع بظنك أَنه كَانَ حِينَئِذٍ فِي الْمَلأ الْأَعْلَى فَوق السَّمَوَات حَيْثُ هُوَ مستقره وَقد دنا من النَّبِي هَذَا الدنو فَإِن التَّصْدِيق بِهَذَا لَهُ قُلُوب خلقت لَهُ وأهلت لمعرفته وَمن لم يَتَّسِع بطانة لهَذَا فَهُوَ أضيق أَن يَتَّسِع للْإيمَان بالنزول الإلهي إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كل لَيْلَة وَهُوَ فَوق سماواته على عَرْشه لَا يكون فَوْقه شَيْء الْبَتَّةَ بل هُوَ العالي على كل شَيْء وعلوه من لَوَازِم ذَاته وَكَذَلِكَ دنوه عَشِيَّة عَرَفَة من أهل الْموقف وَكَذَلِكَ مَجِيئه يَوْم الْقِيَامَة لمحاسبة خلقه وإشراق الأَرْض بنوره وَكَذَلِكَ مَجِيئه إِلَى الأَرْض حِين دحاها وسواها ومدها وبسطها وهيأها لما يُرَاد مِنْهَا وَكَذَلِكَ مَجِيئه يَوْم الْقِيَامَة حِين يقبض من عَلَيْهَا وَلَا يبْقى بهَا أحد كَمَا قَالَ النَّبِي فَأصْبح رَبك يطوف فِي الأَرْض وَقد خلت عَلَيْهِ الْبِلَاد هَذَا وَهُوَ فَوق سماواته على عَرْشه فصل وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يعلم أَن مَا ذكرنَا من شَأْن الرّوح يخْتَلف بِحَسب حَال الْأَرْوَاح من الْقُوَّة والضعف وَالْكبر والصغر فللروح الْعَظِيمَة الْكَبِيرَة من ذَلِك مَا لَيْسَ لمن هُوَ دونهَا وَأَنت ترى أَحْكَام الْأَرْوَاح فِي الدُّنْيَا كَيفَ تَتَفَاوَت أعظم تفَاوت بِحَسب تفارق الْأَرْوَاح فِي كيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لَهَا فللروح الْمُطلقَة من أسر الْبدن وعلائقه وعوائقه من التَّصَرُّف وَالْقُوَّة والنفاذ والهمة وَسُرْعَة الصعُود إِلَى الله والتعلق بِاللَّه مَا لَيْسَ للروح المهينة المحبوسة فِي علائق الْبدن وعوائقه فَذا كَانَ هَذَا وَهِي محبوسة فِي بدنهَا فَكيف إِذا تجردت

وفارقته وَاجْتمعت فِيهَا قواها وَكَانَت فِي أصل شَأْنهَا روحا علية زكيه كَبِيرَة ذَات همة عالية فَهَذِهِ لَهَا بعد مُفَارقَة الْبدن شَأْن آخر وَفعل آخر وَقد تَوَاتَرَتْ الرُّؤْيَا فِي أَصْنَاف بنى آدم على فعل الْأَرْوَاح بعد مَوتهَا مَا لَا تقدر على مثله حَال اتصالها بِالْبدنِ من هزيمَة الجيوش الْكَثِيرَة بِالْوَاحِدِ والاثنين وَالْعدَد الْقَلِيل وَنَحْو ذَلِك وَكم قد رئى النَّبِي وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر فِي النّوم قد هزمت أَرْوَاحهم عَسَاكِر الْكفْر وَالظُّلم فَإِذا بجيوشهم مغلوبة مَكْسُورَة مَعَ كَثْرَة عَددهمْ وعددهم وَضعف الْمُؤمنِينَ وقلتهم وَمن الْعجب أَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ المتحابين المتعارفين تتلاقى وَبَينهَا أعظم مَسَافَة وأبعدها فتتألم وتتعارف فَيعرف بَعْضهَا بَعْضًا كَأَنَّهُ جليسه وعشيرة فَإِذا رَآهُ طابق ذَلِك مَا كَانَ عَرفته روحه قبل رُؤْيَته قَالَ عبد الله بن عَمْرو ان أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ تتلاقى على مسيرَة يَوْم وَمَا أرى أَحدهمَا صَاحبه قطّ وَرَفعه بَعضهم إِلَى النَّبِي وَقَالَ عِكْرِمَة وَمُجاهد إِذا نَام الْإِنْسَان فان لَهُ سَببا يجرى فِيهِ الرّوح وَأَصله فِي الْجَسَد فتبلغ حَيْثُ شَاءَ الله مَا دَامَ ذَاهِبًا فالإنسان نَائِم فَإِذا رَجَعَ إِلَى الْبدن انتبه الْإِنْسَان وَكَانَ بِمَنْزِلَة شُعَاع الشَّمْس الَّذِي هُوَ سَاقِط بِالْأَرْضِ فأصله مُتَّصِل بالشمس وَقد ذكر أَبُو عبد الله بن مَنْدَه عَن بعض أهل الْعلم أَنه قَالَ إِن الرّوح يَمْتَد من منخر الْإِنْسَان ومركبه وَأَصله فِي بدنه فَلَو خرج الرّوح بِالْكُلِّيَّةِ لمات كَمَا أَن السراج لَو فرق بَينه وَبَين الفتيلة أَلا ترى أَن مركب النَّار فِي الفتيلة وضؤوها وشعاعها يمْلَأ الْبَيْت فَكَذَلِك الرّوح تمتد من منخر الْإِنْسَان فِي مَنَامه حَتَّى تأتى السَّمَاء وتجول فِي الْبلدَانِ وتلتقي مَعَ أَرْوَاح الْمَوْتَى فَإِذا أرَاهُ الْملك الْمُوكل بأرواح الْعباد مَا أحب أَن يرِيه وَكَانَ المرئي فِي الْيَقَظَة عَاقِلا ذكيا صَدُوقًا لَا يلْتَفت فِي يقظته إِلَى شَيْء من الْبَاطِل رَجَعَ إِلَيْهِ روحه فَأدى إِلَى قلبه الصدْق مِمَّا أرَاهُ الله عز وَجل على حسب خلقه وَإِن كَانَ خَفِيفا نزقا يحب الْبَاطِل وَالنَّظَر إِلَيْهِ فَإِذا نَام وَأرَاهُ الله أمرا من خيرا وَشر رجعت روحه إِلَيْهِ فَحَيْثُ مَا رَأْي شَيْئا من مخاريق الشَّيْطَان أَو الْبَاطِل وقفت روحه عَلَيْهِ كَمَا تقف فِي يقظته فَكَذَلِك لَا يُؤدى إِلَى قلبه فَلَا يعقل مَا رَأْي لِأَنَّهُ خلط الْحق بِالْبَاطِلِ فَلَا يُمكن معبر أَن يعبر لَهُ وَقد خلط الْحق بِالْبَاطِلِ

فصل وأما قول من قال أرواح المؤمنين عند الله تعالى ولم يزد على

وَهَذَا من أحسن الْكَلَام وَهُوَ دَلِيل على معرفَة قَائِله وبصيرته بالأرواح وأحكامها وَأَنت ترى الرجل يسمع الْعلم وَالْحكمَة وَمَا هُوَ أَنْفَع شَيْء لَهُ ثمَّ يمر بباطل وَلَهو من غناء أَو شُبْهَة أَو زور أَو غَيره فيصغي إِلَيْهِ وَيفتح لَهُ قلبه حَتَّى يتَأَدَّى إِلَيْهِ فيتخبط عَلَيْهِ ذَلِك الَّذِي سَمعه من الْعلم وَالْحكمَة ويلتبس عَلَيْهِ الْحق بِالْبَاطِلِ فَهَكَذَا شَأْن الْأَرْوَاح عِنْد النّوم وَأما بعد الْمُفَارقَة فَإِنَّهَا تعذب بِتِلْكَ الاعتقادات والشه الْبَاطِلَة الَّتِي كَانَت حظها حَال اتصالها بِالْبدنِ وينضاف إِلَى ذَلِك عَذَابهَا بِتِلْكَ الإرادات والشهوات الَّتِي حيل بَينهَا وَبَينهَا وينضاف إِلَى ذَلِك عَذَاب آخر ينشئه الله لَهَا ولبدنها من الْأَعْمَال الَّتِي اشتركت مَعَه فِيهَا وَهَذِه هِيَ الْمَعيشَة الضنك فِي البرزخ والزاد الَّذِي تزَود بِهِ إِلَيْهِ وَالروح الزكيه العلوية المحقة الَّتِي لَا تحب الْبَاطِل وَلَا تألفه بضد ذَلِك كُله تنعم بِتِلْكَ الاعتقادات الصَّحِيحَة والعلوم والمعارف الَّتِي تلقتها من مشكاة النُّبُوَّة وَتلك الإرادات والهمم الزكية وينشئ الله سُبْحَانَهُ لَهَا من أَعمالهَا نعيما ينعمها بِهِ فِي البرزخ فَتَصِير لَهَا رَوْضَة من رياض الْجنَّة ولتلك حُفْرَة من حفر النَّار فصل وَأما قَول من قَالَ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ عِنْد الله تَعَالَى وَلم يزدْ على ذَلِك فانه تأدب مَعَ لفظ الْقُرْآن حَيْثُ يَقُول الله عز وَجل {بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} وَقد احْتج أَرْبَاب هَذَا القَوْل بحجج مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصغانى حَدثنَا يحيى بن أَبى بكير حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبى ذِئْب عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء عَن سعيد بن يسَار عَن أَبى هُرَيْرَة عَن النَّبِي قَالَ إِن الْمَيِّت إِذا خرجت نَفسه يعرج بهَا إِلَى السَّمَاء حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الله عز وَجل وَإِذا كَانَ الرجل السوء يعرج بهَا إِلَى السَّمَاء فانه لَا يفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء فترسل من السَّمَاء فَتَصِير إِلَى الْقَبْر وَهَذَا إِسْنَاد لَا تسْأَل عَن صِحَّته وَهُوَ فِي مُسْنده أَحْمد وَغَيره وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطيالسى حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة عَن أَبى وَائِل عَن مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ تخرج روح الْمُؤمن أطيب من ريح الْمسك فتنطلق بهَا الْمَلَائِكَة من دون السَّمَاء فَيَقُولُونَ مَا هَذَا فَيَقُولُونَ هَذَا فلَان ابْن فلَان كَانَ يعْمل كَيْت وَكَيْت لمحاسن عمله فَيَقُولُونَ مرْحَبًا بكم وَبِه فيقبضونها مِنْهُم فيصعد بهَا من الْبَاب الَّذِي كَأَن يصعد مِنْهُ عمله فتشرق فِي السَّمَوَات وَلها برهَان برهَان كبرهان الشَّمْس حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الْعَرْش وَأما الْكَافِر فَإِذا قبض انْطلق بِرُوحِهِ فَيَقُولُونَ مَا هَذَا فَيَقُولُونَ هَذَا فلَان ابْن فلَان كَانَ يعْمل كَيْت وَكَيْت لمساوى عمله فَيَقُولُونَ لَا مرْحَبًا لَا مرْحَبًا ردُّوهُ فَيرد إِلَى أَسْفَل الأَرْض إِلَى الثرى

وَقَالَ الملكي بن إِبْرَاهِيم عَن دَاوُد بن يزِيد الأودى قَالَ أرَاهُ عَن عَامر الشّعبِيّ عَن حُذَيْفَة ابْن الْيَمَان أَنه قَالَ الْأَرْوَاح مَوْقُوفَة عِنْد الرَّحْمَن عز وَجل تنْتَظر موعده حَتَّى ينْفخ فِيهَا وَذكر سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بن صَفِيَّة عَن أمه أَنه دخل ابْن عمر الْمَسْجِد بعد قتل ابْن الزبير وَهُوَ مصلوب فَأتى أَسمَاء يعزيها فَقَالَ لَهَا عَلَيْك بتقوى الله وَالصَّبْر فان هَذِه الجثث لَيست بِشَيْء وَإِنَّمَا الْأَرْوَاح عِنْد الله فَقَالَت وَمَا يَمْنعنِي من الصَّبْر وَقد أهْدى رَأس يحيى ابْن زَكَرِيَّا إِلَى بغى من بَغَايَا بنى إِسْرَائِيل وَذكر جرير عَن الْأَعْمَش عَن شمر بن عَطِيَّة عَن هِلَال بن يسَاف قَالَ كُنَّا جُلُوسًا إِلَى كَعْب وَالربيع بن خَيْثَم وخَالِد بن عرْعرة فِي أنَاس فجَاء ابْن عَبَّاس فَقَالَ هَذَا ابْن عَم نَبِيكُم قَالَ فأوسع لَهُ فَجَلَسَ فَقَالَ يَا كَعْب كل مَا فِي الْقُرْآن قد عرفت غير أَرْبَعَة أَشْيَاء فَأَخْبرنِي عَنْهُن مَا سِجِّين وَمَا عليون وَمَا سِدْرَة المنتهي وَمَا قَول الله لإدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا} قَالَ أما عليون فالسماء السَّابِعَة فِيهَا أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ وَأما سِجِّين فالأرض السَّابِعَة السُّفْلى وأرواح الْكفَّار تَحت جَسَد إِبْلِيس وَأما قَول الله سُبْحَانَهُ لإدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا} فَأوحى الله إِلَيْهِ أَنى رَافع لَك كل يَوْم مثل أَعمال بنى آدم وكلم صديقا لَهُ من الْمَلَائِكَة أَن يكلم لَهُ ملك الْمَوْت فيؤخره حَتَّى يزْدَاد عملا فَحَمله بَين جناحيه فعرج بِهِ حَتَّى إِذا كَانَ فِي السَّمَاء الرَّابِعَة لقِيه ملك الْمَوْت فَكَلمهُ فِي حَاجته فَقَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ هُوَ ذَا بَين جناحي قَالَ فالعجب أَنى أمرت أَن أَقبض روحه فِي السَّمَاء الرَّابِعَة فَقبض روحه وَأما سِدْرَة المنتهي فَإِنَّهَا سِدْرَة على رُؤُوس حَملَة الْعَرْش يَنْتَهِي إِلَيْهَا علم الْخَلَائق ثمَّ لَيْسَ لأحد وَرَاءَهَا علم فَلذَلِك سميت سِدْرَة المنتهي قَالَ ابْن مَنْدَه وَرَوَاهُ وهب بن جرير عَن أَبِيه وَرَوَاهُ يَعْقُوب القمى عَن شمر وَرَوَاهُ خَالِد بن عبد الله عَن الْعَوام بن حَوْشَب عَن الْقَاسِم بن عَوْف عَن الرّبيع بن خَيْثَم قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد كَعْب فَذكره وَذكر يعلى بن عبيد عَن الْأَجْلَح عَن الضَّحَّاك قَالَ إِذا قبض روح العَبْد الْمُؤمن عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَينْطَلق مَعَه المقربون إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة ثمَّ الثَّالِثَة ثمَّ الرَّابِعَة ثمَّ الْخَامِسَة ثمَّ السَّادِسَة ثمَّ السَّابِعَة حَتَّى يَنْتَهِي بِهِ إِلَى سِدْرَة المنتهي قلت للضحاك لم سميت سِدْرَة المنتهي إِلَيْهَا كل شَيْء من أَمر الله عز وَجل لَا يعدوها فَيَقُول ربى عَبدك فلَان وَهُوَ أعلم بِهِ مِنْهُم فيبعث الله إِلَيْهِ بصك مختوم يُؤمنهُ من الْعَذَاب وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى كلا إِن كتاب الْأَبْرَار لفي عليين وَمَا أَدْرَاك مَا علييون كتاب مرقوم يشهده المقربون وَهَذَا القَوْل لَا يُنَافِي قَول من قَالَ

فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار

هم فِي الْجنَّة فَإِن الْجنَّة عِنْد سِدْرَة المنتهي وَالْجنَّة عِنْد الله وَكَأن قَائِله رَأْي أَن هَذِه الْعبارَة أسلم وأوفق وَقد أخبر الله سُبْحَانَهُ أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء عِنْده وَأخْبر النَّبِي أَنَّهَا تسرح فِي اللجنة حَيْثُ شَاءَت فصل وَأما قَول من قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بالجابية وأرواح الْكفَّار بحضرموت ببرهوت فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم هَذَا من قَول الرافضة وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بل قد قَالَه جمَاعَة من أهل السّنة وَقَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بالجابية ثمَّ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن يُونُس حَدثنَا احْمَد بن عَاصِم حَدثنَا أَبُو دَاوُد سُلَيْمَان ابْن دَاوُد حَدثنَا همام حَدثنِي قَتَادَة حَدثنِي رجل عَن سعيد بن الْمسيب عَن عبد الله بن عَمْرو وَأَنه قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ تَجْتَمِع بالجابية وان أَرْوَاح الْكفَّار تَجْتَمِع فِي سبخَة بحضرموت يُقَال لَهَا برهوت ثمَّ سَاق من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن عبد الْجَلِيل بن عَطِيَّة عَن شهر بن حَوْشَب أَن كَعْبًا رأى عبد الله بن عَمْرو وَقد تكلب النَّاس عَلَيْهِ يسألونه فَقَالَ لرجل سَله أَيْن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ وأرواح الْكفَّار فَسَأَلَهُ فَقَالَ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بالجابية وأرواح الْكفَّار ببرهوت قَالَ ابْن مَنْدَه وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره عَن عبد الْجَلِيل ثمَّ سَاق من حَدِيث سُفْيَان عَن فرات الْقَزاز عَن أَبى الطُّفَيْل عَن على قَالَ خير بِئْر فِي الأَرْض زَمْزَم وَشر بِئْر فِي الأَرْض برهوت فِي حَضرمَوْت وَخير وَاد فِي الأَرْض وَادي مَكَّة والوادي الَّذِي أهبط فِيهِ آدم بِالْهِنْدِ مِنْهُ طيبكم وَشر وَاد فِي الأَرْض الْأَحْقَاف وَهُوَ فِي حَضرمَوْت ترده أَرْوَاح الْكفَّار قَالَ ابْن مَنْدَه وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن على بن زيد عَن يُوسُف بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس عَن على أبْغض بقْعَة فِي الأَرْض وَاد بحضرموت يُقَال لَهُ برهوت فِيهِ أَرْوَاح الْكفَّار وَفِيه بِئْر مَاؤُهَا بِالنَّهَارِ أسود كَأَنَّهُ قيح تأوي إِلَيْهِ الْهَوَام ثمَّ سَاق من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القَاضِي حَدثنَا على بن عبد الله حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا إبان بن تغلب قَالَ قَالَ رجل بت فِيهِ يعْنى وَادي برهوت فَكَأَنَّمَا حشرت فِيهِ أصوات النَّاس وهم يَقُولُونَ يَا دومه يَا دومه قَالَ إبان فحدثنا رجل من أهل الْكتاب أَن دومة هُوَ الْملك الَّذِي على أَرْوَاح الْكفَّار

فصل وأما قول من قال إنها تجتمع في الأرض التي قال الله فيها

وَقَالَ سُفْيَان وَسَأَلنَا الحضرميين فَقَالُوا لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يبيت فِيهِ بِاللَّيْلِ فَهَذَا جملَة مَا عَلمته فِي هَذَا القَوْل فَإِن أَرَادَ عبد الله بن عَمْرو بالجابية التَّمْثِيل والتشبيه وَأَنَّهَا تجمع فِي مَكَان فسيح يشبه الجابيه لسعته وَطيب هوائه فَهَذَا قريب وَإِن أَرَادَ نفس الْجَابِيَة دون سَائِر الأَرْض فَهَذَا لَا يعلم إِلَّا بالتوقيت وَلَعَلَّه مِمَّا تَلقاهُ عَن بعض أهل الْكتاب فصل وَأما قَول من قَالَ إِنَّهَا تَجْتَمِع فِي الأَرْض الَّتِي قَالَ الله فِيهَا {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد الذّكر أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون} فَهَذَا إِن كَانَ قَالَه تَفْسِير الْآيَة فَلَيْسَ هُوَ تَفْسِيرا لَهَا وَقد اخْتلف النَّاس فِي الأَرْض الْمَذْكُورَة هُنَا فَقَالَ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس هِيَ أَرض الْجنَّة وَهَذَا قَول أَكثر الْمُفَسّرين وَعَن ابْن عَبَّاس قَول آخر أَنَّهَا الدُّنْيَا الَّتِي فتحهَا الله على أمة مُحَمَّد وَهَذَا القَوْل هُوَ الصَّحِيح وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى فِي سروة النُّور {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم} وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي قَالَ زويت لي الأَرْض مشارقها وَمَغَارِبهَا وسيبلغ ملك أمتِي مَا زوى لي مِنْهَا وَقَالَت طَائِفَة من الْمُفَسّرين المُرَاد بذلك أَرض بَيت الْمُقَدّس وَهِي من الأَرْض الَّتِي أورثها الله عباده الصَّالِحين وَلَيْسَت الْآيَة مُخْتَصَّة بهَا فصل وَأما قَول من قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فِي عليين فِي السَّمَاء السَّابِعَة وأرواح الْكفَّار فِي سِجِّين فِي الأَرْض السَّابِعَة فَهَذَا قَول قد قَالَه جمَاعَة من السّلف وَالْخلف وَيدل عَلَيْهِ قَول النَّبِي اللَّهُمَّ الرفيق الْأَعْلَى وَقد تقدم حَدِيث أَبى هُرَيْرَة أَن الْمَيِّت إِذا خرجت روحه عر ج بهَا إِلَى السَّمَاء حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة الَّتِي فِيهَا الله عز وَجل وَتقدم قَول أَبى مُوسَى أَنَّهَا تصعد حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى الْعَرْش وَقَول حُذَيْفَة أَنَّهَا مَوْقُوفَة عِنْد الرَّحْمَن وَقَول عبد الله بن عمر إِن هَذِه الْأَرْوَاح عِنْد الله وَتقدم قَول النَّبِي أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء تأوي إِلَى قناديل تَحت الْعَرْش وَتقدم حَدِيث الْبَراء بن عَازِب أَنَّهَا تصعد من سَمَاء إِلَى سَمَاء ويشيعها من كل سَمَاء مقربوها حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة وَفِي لفظ إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الله عز وَجل وَلَكِن هَذَا لَا يدل على استقرارها هُنَاكَ بل يصعد بهَا إِلَى هُنَاكَ للعرض على رَبهَا فَيقْضى فِيهَا أمره وَيكْتب كِتَابه من أهل عليين أَو من أهل سِجِّين ثمَّ تعود إِلَى الْقَبْر للمسألة ثمَّ ترجع إِلَى مقرها الَّتِي أودعت فِيهِ فأرواح الْمُؤمنِينَ فِي عليين بِحَسب مَنَازِلهمْ وأرواح الْكفَّار فِي سِجِّين بِحَسب مَنَازِلهمْ

فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين تجتمع ببئر زمزم فلا دليل

فصل وَأما قَول من قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ تَجْتَمِع ببئر زَمْزَم فَلَا دَلِيل على هَذَا القَوْل من كتاب وَلَا سنة يجب التَّسْلِيم لَهَا وَلَا قَول صَاحب يوثق بِهِ وَلَيْسَ بِصَحِيح فَإِن تِلْكَ الْبِئْر لَا تسع أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ جَمِيعهم وَهُوَ مُخَالف لما ثَبت بِهِ السّنة الصَّرِيحَة من أَن نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا من أبطل الْأَقْوَال وأفسدها وَهُوَ أفسد من قَول من قَالَ أَنَّهَا بالجابية فَإِن ذَلِك مَكَان متسع فضاء بِخِلَاف الْبِئْر الضيقة فصل وَأما قَول من قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فِي برزخ من الأَرْض تذْهب حَيْثُ شَاءَت فَهَذَا مروى عَن سلمَان الْفَارِسِي والبرزخ هُوَ الحاجز بَين شَيْئَيْنِ وَكَأن سلمَان أَرَادَ بهَا فِي أَرض بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مُرْسلَة هُنَاكَ تذْهب حَيْثُ شَاءَت وَهَذَا قَول قوى فَإِنَّهَا قد فَارَقت الدُّنْيَا وَلم تلج الْآخِرَة بل هِيَ فِي برزخ بَينهمَا فأرواح الْمُؤمنِينَ فِي برزخ وَاسع فِيهِ الرّوح وَالريحَان وَالنَّعِيم وأرواح الْكفَّار فِي برزخ ضيق فِيهِ الْغم وَالْعَذَاب قَالَ تَعَالَى {وَمن ورائهم برزخ إِلَى يَوْم يبعثون} فالبرزخ هُنَا مَا بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأَصله الحاجز بَين الشَّيْئَيْنِ فصل وَأما قَول من قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ عَن يَمِين آدم وأرواح الْكفَّار عَن يسَاره فلعمر وَالله لقد قَالَ قولا يُؤَيّدهُ الحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ حَدِيث الْإِسْرَاء فان النَّبِي رَآهُمْ كَذَلِك وَلَكِن لَا يدل على تعادلهم فِي الْيَمين وَالشمَال بل يكون هَؤُلَاءِ عَن يَمِينه فِي الْعُلُوّ وَالسعَة وَهَؤُلَاء عَن يسَاره فِي السّفل والسجن وَقد قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم ان ذَلِك البرزخ الَّذِي رَآهُ فِيهِ رَسُول الله لَيْلَة أسرى بِهِ عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا قَالَ وَذَلِكَ عِنْد مُنْقَطع العناصر قَالَ وَهَذَا يدل على أَنَّهَا عِنْده تَحت السَّمَاء حَيْثُ تَنْقَطِع العناصر وَهِي المَاء وَالتُّرَاب وَالنَّار والهواء وَهُوَ دَائِما يشنع على من قَالَ قولا لَا دَلِيل عَلَيْهِ فَأَي دَلِيل لَهُ على هَذَا القَوْل من كتاب وَسنة وَسَيَأْتِي إشباع الْكَلَام على قَوْله إِذا انتهينا إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن قيل فَإِذا كَانَت أَرْوَاح أهل السعاده عَن يَمِين آدم وآدَم فِي السَّمَاء الدُّنْيَا وَقد ثَبت أَن

فصل وأما قول أبى محمد بن حزم أن مستقرها حيث كانت قبل خلق

أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي ظلّ الْعَرْش وَالْعرش فَوق السَّمَاء السَّابِعَة فَكيف تكون عَن يَمِينه وَكَيف يَرَاهَا النَّبِي هُنَاكَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا فَالْجَوَاب من وُجُوه أَحدهَا أَنه لَا يمْتَنع كَونهَا عَن يَمِينه فِي جِهَة الْعُلُوّ كَمَا كَانَت أَرْوَاح الأشقياء عَن يسَاره فِي جِهَة السّفل الثَّانِي أَنه غير مُمْتَنع أَن تعرض على النَّبِي فِي سَمَاء الدُّنْيَا وَإِن كَانَ مستقرها فَوق ذَلِك الثَّالِث أَنه لم يخبر أَنه رأى أَرْوَاح السُّعَدَاء جَمِيعًا هُنَاكَ بل قَالَ فَإِذا عَن يَمِينه أَسْوِدَة وَعَن يسَاره أَسْوِدَة وَمَعْلُوم قطعا أَن روح إِبْرَاهِيم ومُوسَى فَوق ذَلِك فِي السَّمَاء السَّادِسَة وَالسَّابِعَة وَكَذَلِكَ الرفيق الْأَعْلَى أَرْوَاحهم فَوق ذَلِك وأرواح السُّعَدَاء بَعْضهَا أَعلَى من بعض بِحَسب مَنَازِلهمْ كَمَا أَن أَرْوَاح الْأَشْيَاء بَعْضهَا أَسْفَل من بعض بِحَسب مَنَازِلهمْ وَالله أعلم فصل وَأما قَول أَبى مُحَمَّد بن حزم أَن مستقرها حَيْثُ كَانَت قبل خلق أجسادها فَهَذَا بِنَاء مِنْهُ على مذْهبه الَّذِي اخْتَارَهُ وَهُوَ أَن الْأَرْوَاح مخلوقة قبل الأجساد وَهَذَا فِيهِ قَولَانِ للنَّاس وجمهورهم على أَن الْأَرْوَاح خلقت بعد الأجساد وَالَّذين قَالُوا أَنَّهَا خلقت قبل الأجساد لَيْسَ مَعَهم على ذَلِك دَلِيل من كتاب وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع إِلَّا مَا فهموه من نُصُوص لَا تدل على ذَلِك أَو أَحَادِيث لَا تصح كَمَا احْتج بِهِ أَبُو مُحَمَّد بن حزم من قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا} الْآيَة وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا} قَالَ فصح أَن الله خلق الْأَرْوَاح جملَة وَهِي الْأَنْفس وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الْأَرْوَاح جنود مجندة فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف قَالَ وَأخذ عز وَجل عهدها وشهادتها وَهِي مخلوقة مصورة عَاقِلَة قبل أَن يَأْمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لآدَم وَقبل أَن يدخلهَا فِي الأجساد والأجساد يَوْمئِذٍ تُرَاب وَقَالَ لِأَن الله تَعَالَى خلق ذَلِك بِلَفْظَة ثمَّ الَّتِى توجب التعقيب والمهلة ثمَّ أقرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيْثُ شَاءَ وَهُوَ البرزخ الَّذِي ترجع إِلَيْهِ عِنْد الْمَوْت وَسَنذكر مَا فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال عِنْد جَوَاب سُؤال السَّائِل عَن الْأَرْوَاح هِيَ مخلوقة مَعَ الْأَبدَان أم قبلهَا إِذْ الْغَرَض هُنَا الْكَلَام على مُسْتَقر الْأَرْوَاح بعد الْمَوْت وَقَوله أَنَّهَا تَسْتَقِر فِي البرزخ الَّذِي كَانَت فِيهِ قبل خلق الأجساد مبْنى على هَذَا الِاعْتِقَاد الَّذِي اعتقده

فصل وأما قول من قال مستقرها العدم المحض فهذا قول من قال إنها

وَقَوله أَن أَرْوَاح السُّعَدَاء عَن يَمِين آدم وأرواح الْكفَّار الأشقياء عَن يسَاره حق كَمَا أخبر بِهِ النَّبِي وَقَوله إِن ذَلِك عِنْد مُنْقَطع العناصر لَا دَلِيل عَلَيْهِ من كتاب وَلَا سنة وَلَا يشبه أَقْوَال أهل الْإِسْلَام وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة تدل على أَن الْأَرْوَاح فَوق العناصر فِي الْجنَّة عِنْد الله وأدلة الْقُرْآن تدل على ذَلِك وَقد وَافق أَبُو مُحَمَّد على أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي الْجنَّة وَمَعْلُوم أَن الصديقين أفضل مِنْهُم فَكيف تكون روح أَبى بكر الصّديق وَعبد الله بن مَسْعُود وأبى الدَّرْدَاء وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان وأشباههم رضى الله عَنْهُم عِنْد مُنْقَطع العناصر وَذَلِكَ تَحت هَذَا الْفلك الْأَدْنَى وَتَحْت السَّمَاء الدُّنْيَا وَتَكون أَرْوَاح شُهَدَاء زَمَاننَا وَغَيرهم فَوق العناصر وَفَوق السَّمَوَات وَأما قَوْله قد ذكر مُحَمَّد بن نصر المروزى عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَنه ذكر هَذَا الَّذِي قُلْنَا بِعَيْنِه قَالَ وعَلى هَذَا جَمِيع أهل الْعلم وَهُوَ قَول جَمِيع أهل الْإِسْلَام قلت مُحَمَّد بن نصر المروزى ذكر فِي كتاب الرَّد على ابْن قُتَيْبَة فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم} الْآثَار الَّتِي ذكرهَا السّلف من اسْتِخْرَاج ذُرِّيَّة آدم من صلبه ثمَّ أَخذ الْمِيثَاق عَلَيْهِم وردهم فِي صلبه وَأَنه أخرجهم مثل الذَّر وَأَنه سُبْحَانَهُ قسمهم إِذْ ذَاك إِلَى شقي وَسَعِيد وَكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وَمَا يصيبهم من خير وَشر ثمَّ قَالَ قَالَ إِسْحَاق أجمع أهل الْعلم أَنَّهَا الْأَرْوَاح قبل الأجساد استنطقهم {وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل} هَذَا نَص كَلَامه وَهُوَ كَمَا ترى لَا يدل على أَن مُسْتَقر الْأَرْوَاح مَا ذكر أَبُو مُحَمَّد حَيْثُ تَنْقَطِع العناصر بِوَجْه من الْوُجُوه بل وَلَا يدل على أَن الْأَرْوَاح كائنة قبل خلق الأجساد بل إِنَّمَا يدل على أَنه سُبْحَانَهُ أخرجهَا حِينَئِذٍ فخاطبها ثمَّ ردهَا إِلَى صلب آدم وَهَذَا القَوْل وَإِن كَانَ قد قَالَه جمَاعَة من السّلف وَالْخلف فَالْقَوْل الصَّحِيح غَيره كَمَا ستقف عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله إِذْ لَيْسَ الْغَرَض فِي جَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة الْكَلَام فِي الْأَرْوَاح هَل هِيَ مخلوقة قبل الأجساد أم لَا حَتَّى لَو سلم لأبى مُحَمَّد هَذَا كُله لم يكن فِيهِ دَلِيل على أَن مستقرها حَيْثُ تَنْقَطِع العناصر وَلَا أَن ذَلِك الْموضع كَانَ مستقرها أَولا فصل وَأما قَول من قَالَ مستقرها الْعَدَم الْمَحْض فَهَذَا قَول من قَالَ إِنَّهَا عرض من أَعْرَاض الْبدن وَهُوَ الْحَيَاة وَهَذَا قَول ابْن الباقلانى وَمن تبعه وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْهُذيْل العلاف النَّفس عرض من الْأَعْرَاض وَلم يُعينهُ بِأَنَّهُ الْحَيَاة كَمَا عينه ابْن الباقلانى ثمَّ قَالَ هِيَ عرض كَسَائِر أَعْرَاض الْجِسْم

وَهَؤُلَاء عِنْدهم أَن الْجِسْم إِذا مَاتَ عدمت روحه كَمَا تقدم وَسَائِر أعراضه الْمَشْرُوطَة بِالْحَيَاةِ وَمن يَقُول مِنْهُم أَن الْعرض لَا يبْقى زمانين كَمَا يَقُوله أَكثر الأشعرية فَمن قَوْلهم إِن روح الْإِنْسَان الْآن هِيَ غير روحه قبل وَهُوَ لَا يَنْفَكّ يحدث لَهُ روح ثمَّ تغير ثمَّ روح ثمَّ تغير هَكَذَا أبدا فيبدل لَهُ ألف روح فَأكْثر فِي مِقْدَار سَاعَة من الزَّمَان فَمَا دونهَا فَإِذا مَاتَ فَلَا روح تصعد إِلَى السَّمَاء وتعود إِلَى الْقَبْر وتقبضها الْمَلَائِكَة ويستفتحون لَهَا أَبْوَاب السَّمَوَات وَلَا تنعم وَلَا تعذب وَإِنَّمَا ينعم ويعذب الْجَسَد إِذا شَاءَ الله تنعيمه أَو تعذيبه رد إِلَيْهِ الْحَيَاة فِي وَقت يُرِيد نعيمه أَو عَذَابه وَإِلَّا فَلَا أَرْوَاح هُنَاكَ قَائِمَة بِنَفسِهَا الْبَتَّةَ وَقَالَ بعض أَرْبَاب هَذَا القَوْل ترد الْحَيَاة إِلَى عجب الذَّنب فَهُوَ الَّذِي يعذب وينعم وَحسب وَهَذَا قَول يردهُ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وأدلة الْعُقُول والفطن والفطرة وَهُوَ قَول من لم يعرف روحه فضلا عَن روح غَيره وَقد خَاطب الله سُبْحَانَهُ النَّفس بِالرُّجُوعِ وَالدُّخُول وَالْخُرُوج ودلت النُّصُوص الصَّحِيحَة للصريحة على أَنَّهَا تصعد وتنزل وتقبض وَتمسك وَترسل وتستفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء وتسجد وتتكلم وَأَنَّهَا تخرج تسيل كَمَا تسيل القطرة وتكفن وتحنط فِي أكفان الْجنَّة وَالنَّار وَأَن ملك الْمَوْت يَأْخُذهَا بِيَدِهِ ثمَّ تتناولها الْمَلَائِكَة من يَده ويشم لَهَا كأطيب نفحة مسك أَو أنتن جيفة وتشيع من سَمَاء إِلَى سَمَاء ثمَّ تُعَاد إِلَى الأَرْض مَعَ الْمَلَائِكَة وَأَنَّهَا إِذا خرجت تبعها الْبَصَر بِحَيْثُ يَرَاهَا وَهِي خَارِجَة وَدلّ الْقُرْآن على أَنَّهَا تنْتَقل من مَكَان إِلَى مَكَان حَتَّى تبلغ الْحُلْقُوم فِي حركتها وَجَمِيع مَا ذكرنَا من جمع الْأَدِلَّة الدَّالَّة على تلاقى الْأَرْوَاح وتعارفها وَأَنَّهَا أجناد مجندة إِلَى غير ذَلِك تبطل هَذَا القَوْل وَقد شَاهد النَّبِي الْأَرْوَاح لَيْلَة الْإِسْرَاء عَن يَمِين آدم وشماله وَأخْبر النَّبِي إِن نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة وَأَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر وَأخْبر تَعَالَى عَن أَرْوَاح آل فِرْعَوْن أَنَّهَا تعرض على النَّار غدوا وعشيا وَلما أورد ذَلِك على ابْن الباقلانى لج فِي الْجَواب وَقَالَ يخرج على هَذَا أحد وَجْهَيْن إِمَّا بِأَن يوضع عرض من الْحَيَاة فِي أول جُزْء من أَجزَاء الْجِسْم وَإِمَّا أَن يخلق لتِلْك الْحَيَاة وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب جَسَد آخر وَهَذَا قَول فِي غَايَة الْفساد من وُجُوه كَثِيرَة أَي قَول أفسد من قَول من يَجْعَل روح الْإِنْسَان عرضا من الْأَعْرَاض تتبدل كل سَاعَة الوفا من المرات فَإِذا فَارقه هَذَا الْعرض لم يكن بعد الْمُفَارقَة روح تنعم وَلَا تعذب وَلَا تصعد وَلَا تنزل وَلَا تمسك وَلَا ترسل فَهَذَا قَول

فصل وأما قول من قال إن مستقرها بعد الموت أبدان أخر غير هذه

مُخَالف لِلْعَقْلِ ونصوص الْكتاب وَالسّنة والفطرة وَهُوَ قَول من لم يعرف نَفسه وَسَيَأْتِي ذكر الْوُجُوه الدَّالَّة على بطلَان هَذَا القَوْل فِي مَوْضِعه من هَذَا الْجَواب إِن شَاءَ الله وَهُوَ قَول لم يقل بِهِ أحد من سلف الْأمة وَلَا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا أَئِمَّة الْإِسْلَام فصل وَأما قَول من قَالَ إِن مستقرها بعد الْمَوْت أبدان أخر غير هَذِه الْأَبدَان فَهَذَا القَوْل فِيهِ حق وباطل فَأَما الْحق فَمَا أخبر الصَّادِق المصدوق عَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء أَنَّهَا فِي حواصل طير خضر تأوي إِلَى قناديل معلقَة بالعرش هِيَ لَهَا كالأوكار للطائر وَقد صرح بذلك فِي قَوْله جعل الله أَرْوَاحهم فِي أَجْوَاف طير خضر وَأما قَوْله نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة يحْتَمل أَن يكون هَذَا الطَّائِر مركبا للروح كالبدن لَهَا وَيكون ذَلِك لبَعض الْمُؤمنِينَ وَالشُّهَدَاء وَيحْتَمل أَن يكون الرّوح فِي صُورَة طَائِر وَهَذَا اخْتِيَار أَبى مُحَمَّد بن حزم وأبى عمر بن عبد الْبر وَقد تقدم كَلَام أَبى عمر وَالْكَلَام عَلَيْهِ وَأما ابْن حزم فانه قَالَ معنى قَوْله نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق هُوَ على ظَاهِرَة لَا على ظن أهل الْجَهْل وَإِنَّمَا أخبر أَن نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق بِمَعْنى أَنَّهَا تطير فِي الْجنَّة لَا أَنَّهَا تمسخ فى صُورَة الطير قَالَ فَإِن قيل إِن النَّسمَة مُؤَنّثَة قُلْنَا قد صَحَّ عَن عَرَبِيّ فصيح أَنه قَالَ أتتك كتابي فاستخففت بهَا فَقيل لَهُ أتؤنث الْكتاب قَالَ أوليس صحيفَة وَكَذَلِكَ النَّسمَة تذكر كَذَلِك قَالَ وَأما الزِّيَادَة الَّتِي فِيهَا أَنَّهَا فِي حواصل طير خضر فَإِنَّهَا صفة تِلْكَ الْقَنَادِيل الَّتِي تأوي إِلَيْهَا وَالْحَدِيثَانِ مَعًا حَدِيث وَاحِد وَهَذَا الَّذِي قَالَه فِي غَايَة الْفساد لفظا وَمعنى فَإِن حَدِيث نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة غير حَدِيث أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر وَالَّذِي ذكره مُحْتَمل فِي الحَدِيث الأول وَأما الحَدِيث الثَّانِي فَلَا يحْتَملهُ بِوَجْه فَإِنَّهُ أخبر أَن أَرْوَاحهم فِي حواصل طير وَفِي لفظ فِي أَجْوَاف طير خضر وَفِي لفظ بيض وان تِلْكَ الطير تسرح فِي الْجنَّة فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها ثمَّ تأوي إِلَى قناديل تَحت الْعَرْش هِيَ لَهَا كالأوكار للطائر وَقَوله ان حواصل تِلْكَ الطير هِيَ صفة الْقَنَادِيل الَّتِي تأوي إِلَيْهَا خطأ قطعا بل تِلْكَ الْقَنَادِيل مأوى لتِلْك الطير فهاهنا ثَلَاثَة أُمُور صرح بهَا الحَدِيث أَرْوَاح وطير هِيَ فِي أجوافها وقناديل هِيَ مأوى لتِلْك الطير والقناديل مُسْتَقِرَّة تَحت الْعَرْش لَا تسرح وَالطير تسرح وَتذهب وتجيء والأرواح فِي أجوافها

فَإِن قيل يحْتَمل أَن تجْعَل نَفسهَا فِي صُورَة طير لَا أَنَّهَا تركب فِي بدن طير كَمَا قَالَ تَعَالَى {فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي اللَّفْظ الآخر أَرْوَاحهم كطير خضر كَذَلِك رَوَاهُ ابْن أَبى شيبَة حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق عَن عبد الله قَالَ أَبُو عمر وَالَّذِي يشبه عِنْدِي وَالله أعلم أَن يكون القَوْل قَول من قَالَ كطير أَو صُورَة طير لمطابقته لحديثنا الْمَذْكُور يعْنى حَدِيث كَعْب بن مَالك فِي نسمَة الْمُؤمن فَالْجَوَاب أَن هَذَا الحَدِيث قد روى بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَالَّذِي رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح من حَدِيث الْأَعْمَش عَن مَسْرُوق فَلم يخْتَلف حَدِيثهمَا أَنَّهَا فِي أَجْوَاف طير خضر وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَقَالَ عُثْمَان بن أَبى شيبَة حَدثنَا عبد الله بن إِدْرِيس عَن مُحَمَّد ابْن إِسْحَاق عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله لما أُصِيب إخْوَانكُمْ يعْنى يَوْم أحد جعل الله أَرْوَاحهم فِي أَجْوَاف طير خضر ترد أَنهَار الْجنَّة وتأكل من ثمارها وتأوى إِلَى قناديل من ذهب مدلاة فِي ظلّ الْعَرْش فَلَمَّا وجدوا طيب مَأْكَلهمْ وَمَشْرَبهمْ وَمَقِيلهمْ قَالُوا من يبلغ إِخْوَاننَا عَنَّا أَنا أَحيَاء فِي الْجنَّة نرْزق لِئَلَّا ينكلُوا عَن الْحَرْب وَلَا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد فَقَالَ الله تَعَالَى أَنا أبلغهم عَنْكُم فَأنْزل الله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} وَأما حَدِيث كَعْب بن مَالك فَهُوَ فِي السّنَن الْأَرْبَعَة ومسند أَحْمد وَلَفظه لِلتِّرْمِذِي أَن رَسُول الله قَالَ إِن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي طير خضر تعلق من ثَمَر الْجنَّة أَو شجر الْجنَّة قَالَ الترمذى هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَلَا مَحْذُور فِي هَذَا وَلَا يبطل قَاعِدَة من قَوَاعِد الشَّرْع وَلَا يُخَالف نصا من كتاب وَلَا سنة عَن رَسُول الله بل هَذَا من تَمام إكرام الله للشهداء أَن أعاضهم من أبدانهم الَّتِي مزقوها لله أبدانا خيرا مِنْهَا تكون مركبا لأرواحهم ليحصل بهَا كَمَال تنعمهم فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة رد أَرْوَاحهم إِلَى تِلْكَ الْأَبدَان الَّتِي كَانَت فِيهَا فِي الدُّنْيَا

فان قيل فَهَذَا هُوَ القَوْل بالتناسخ وحلول الْأَرْوَاح فِي أبدان غير أبدانها الَّتِي كَانَت فِيهَا قيل هَذَا الْمَعْنى الَّذِي دلّت عَلَيْهِ السّنة الصَّرِيحَة حق يجب اعْتِقَاده وَلَا يُبطلهُ تسميه الْمُسَمّى لَهُ تناسخا كَمَا أَن إِثْبَات مَا دلّ عَلَيْهِ الْعقل وَالنَّقْل من صِفَات الله عز وَجل وحقائق أَسْمَائِهِ الْحسنى حق لَا يُبطلهُ تَسْمِيَة المعطلين لَهَا تركيبا وتجسيما وَكَذَلِكَ مَا دلّ عَلَيْهِ الْعقل وَالنَّقْل من إِثْبَات أَفعاله وَكَلَامه بمشيئته ونزوله كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا ومجيئه يَوْم الْقِيَامَة للفصل بَين عباده حق لَا يُبطلهُ تَسْمِيَة المعطلين لَهُ حُلُول حوادث كَمَا أَن مَا دلّ عَلَيْهِ الْعقل وَالنَّقْل من علو الله على خلقه ومباينته لَهُم واستوائه على عَرْشه وعروج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ ونزولها من عِنْده وصعود الْكَلم الطّيب إِلَيْهِ وعروج رَسُوله إِلَيْهِ ودنوه مِنْهُ حَتَّى صَار قاب قوسين أَو أدنى وَغير ذَلِك من الْأَدِلَّة حق لَا يُبطلهُ تَسْمِيَة الْجَهْمِية لَهُ حيزا وجهة وتجسيما قَالَ الإِمَام أَحْمد لَا نزيل عَن الله صفة من صِفَاته لأجل شناعة المشنعين فان هَذَا شَأْن أهل الْبدع يلقبون أهل السّنة وأقوالها بِالْأَلْقَابِ الَّتِي ينفرون مِنْهُ الْجُهَّال ويسمونها حَشْوًا وتركيبا وتجسيما ويسمون عرش الرب تبَارك وَتَعَالَى حيزا وجهة ليتوصلوا بذلك إِلَى نفي علوه على خلقه واستوائه على عَرْشه كَمَا تسمى الرافضة مُوالَاة أَصْحَاب رَسُول الله كلهم ومحبتهم وَالدُّعَاء لَهُم نصا وكما تسمى الْقَدَرِيَّة الْمَجُوسِيَّة إِثْبَات الْقدر جبرا فَلَيْسَ الشَّأْن فِي الألقاب وَإِنَّمَا الشَّأْن فِي الْحَقَائِق وَالْمَقْصُود أَن تَسْمِيَة مَا دلّت عَلَيْهِ الصَّرِيحَة من جعل أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي أَجْوَاف طير خضر تناسخا لَا يبطل هَذَا الْمَعْنى وَإِنَّمَا التناسخ الْبَاطِل مَا تَقوله أَعدَاء الرُّسُل من الْمَلَاحِدَة وَغَيرهم الَّذين يُنكرُونَ الْمعَاد أَن الْأَرْوَاح تصير بعد مُفَارقَة الْأَبدَان إِلَى أَجنَاس الْحَيَوَان والحشرات والطيور الَّتِي تناسبها وتشاكلها فَإِذا فَارَقت هَذِه الْأَبدَان انْتَقَلت إِلَى أبدان تِلْكَ الْحَيَوَانَات فتنعم فِيهَا أَو تعذب ثمَّ تفارقها وَتحل فِي أبدان أخر تناسب أَعمالهَا وأخلاقها وَهَكَذَا أبدا فَهَذَا معادها عِنْدهم وَنَعِيمهَا وعذابها لَا معاد لَهَا عِنْدهم غير ذَلِك فَهَذَا هُوَ التناسخ الْبَاطِل الْمُخَالف لما اتّفقت عَلَيْهِ الرُّسُل والأنبياء من أَوَّلهمْ إِلَى آخِرهم وَهُوَ كفر بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَهَذِه الطَّائِفَة يَقُولُونَ أَن مُسْتَقر الْأَرْوَاح بعد الْمُفَارقَة أبدان الْحَيَوَانَات الَّتِي تناسبها وَهُوَ ابطل قَول وأخبثه ويليه قَول من قَالَ إِن الْأَرْوَاح تعدم جملَة بِالْمَوْتِ وَلَا تبقى هُنَاكَ روح تنعم وَلَا تعذب بل النَّعيم وَالْعَذَاب يَقع على أَجزَاء الْجَسَد أَو جُزْء مِنْهُ أما عجب أَو غَيره فيخلق الله فِيهِ الْأَلَم واللذة أما بِوَاسِطَة رد الْحَيَاة

إِلَيْهِ كَمَا قَالَه بعض أَرْبَاب هَذَا القَوْل أَو بِدُونِ رد الْحَيَاة كَمَا قَالَه آخَرُونَ مِنْهُم فَهَؤُلَاءِ عِنْدهم لَا عَذَاب فِي البرزخ إِلَّا على الأجساد ومقابلهم من يَقُول أَن الرّوح لَا تُعَاد إِلَى الْجَسَد بِوَجْه وَلَا تتصل بِهِ وَالْعَذَاب وَالنَّعِيم على الرّوح فَقَط وَالسّنة الصَّرِيحَة المتواترة ترد قَول هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء وَتبين أَن الْعَذَاب على الرّوح والجسد مُجْتَمعين ومنفردين فَإِن قيل فقد ذكرْتُمْ أَقْوَال النَّاس فِي مُسْتَقر الْأَرْوَاح ومأخذهم فَمَا هُوَ الرَّاجِح من هَذِه الْأَقْوَال حَتَّى نعتقده قيل الْأَرْوَاح مُتَفَاوِتَة فِي مستقرها فِي البرزخ أعظم تفَاوت فَمِنْهَا أَرْوَاح فِي أَعلَى عليين فِي الملا الْأَعْلَى وَهِي أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم وهم متفاوتون فِي مَنَازِلهمْ كَمَا رَآهُمْ النَّبِي لَيْلَة الْإِسْرَاء وَمِنْهَا أَرْوَاح فِي حواصل طير خضر تسرح فِي الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت وَهِي أَرْوَاح بعض الشُّهَدَاء لَا جَمِيعهم بل من الشُّهَدَاء من تحبس روحه عَن دُخُول الْجنَّة لدين عَلَيْهِ أَو غَيره كَمَا فِي الْمسند عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن جحش أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي فَقَالَ يَا رَسُول الله مَالِي إِن قتلت فِي سَبِيل الله قَالَ الْجنَّة فَلَمَّا ولى قَالَ إِلَّا الَّذين سَارَّنِي بِهِ جِبْرِيل آنِفا وَمِنْهُم من يكون مَحْبُوسًا على بَاب الْجنَّة كَمَا فِي الحَدِيث الآخر رَأَيْت صَاحبكُم مَحْبُوسًا على بَاب الْجنَّة وَمِنْهُم من يكون مَحْبُوسًا فِي قَبره كَحَدِيث صَاحب الشملة الَّتِي غلها ثمَّ اسْتشْهد فَقَالَ النَّاس هَنِيئًا لَهُ الْجنَّة فَقَالَ النَّبِي وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن الشملة الَّتِي غلها لتشتعل عَلَيْهِ نَارا فِي قَبره وَمِنْهُم من يكون مقره بَاب الْجنَّة كَمَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الشُّهَدَاء على بارق نهر بِبَاب الْجنَّة فِي قبَّة خضراء يخرج عَلَيْهِم رزقهم من الْجنَّة بكرَة وَعَشِيَّة رَوَاهُ أَحْمد وَهَذَا بِخِلَاف جَعْفَر بن أَبى طَالب حَيْثُ أبدله الله من يَدَيْهِ جناحين يطير بهما فِي الْجنَّة حَيْثُ شَاءَ وَمِنْهُم من يكون مَحْبُوسًا فِي الأَرْض لم لَعَلَّ روحه إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى فَإِنَّهَا كَانَت روحا سفلية أرضية فَإِن الْأَنْفس الأرضية لَا تجامع الْأَنْفس السماوية كَمَا لَا تجامعها فِي الدُّنْيَا وَالنَّفس الَّتِي لم تكتسب فِي الدُّنْيَا معرفَة رَبهَا ومحبته وَذكره والأنس بِهِ والتقرب إِلَيْهِ بل هِيَ أرضية سفلية لَا تكون بعد الْمُفَارقَة لبدنها إِلَّا هُنَاكَ كَمَا أَن النَّفس العلوية الَّتِي كَانَت فِي الدُّنْيَا عاكفة

على محبَّة الله وَذكره والقرب إِلَيْهِ والأنس بِهِ تكون بعد الْمُفَارقَة مَعَ الْأَرْوَاح العلوية الْمُنَاسبَة لَهَا فالمرء مَعَ من احب فِي البرزخ وَيَوْم الْقِيَامَة وَالله تَعَالَى يُزَوّج النُّفُوس بَعْضهَا بِبَعْض فِي البرزخ وَيَوْم الْمعَاد كَمَا تقدم فِي الحَدِيث وَيجْعَل روحه يعْنى الْمُؤمن مَعَ النسم الطّيب أَي الْأَرْوَاح الطّيبَة المشاكلة فالروح بعد الْمُفَارقَة تلْحق بأشكالها وَأَخَوَاتهَا وَأَصْحَاب عَملهَا فَتكون مَعَهم هُنَاكَ وَمِنْهَا أَرْوَاح تكون فِي تنور الزناة وَالزَّانِي وأرواح فِي نهر الدَّم تسبح فِيهِ وتلقم الْحِجَارَة فَلَيْسَ للأرواح سعيدها وشقيها مُسْتَقر وَاحِد بل روح فِي أَعلَى عليين وروح أرضية سفلية لَا تصعد عَن الأَرْض وَأَنت إِذا تَأَمَّلت السّنَن والْآثَار فِي هَذَا الْبَاب وَكَانَ لَك بهَا فضل اعتناء عرفت حجَّة ذَلِك وَلَا تظن أَن بَين الْآثَار الصَّحِيحَة فِي هَذَا الْبَاب تَعَارضا فَإِنَّهَا كلهَا حق يصدق بَعْضهَا بَعْضًا لَكِن الشَّأْن فِي فهمها وَمَعْرِفَة النَّفس وأحكامها وان لَهَا شانا غير شَأْن الْبدن وَأَنَّهَا مَعَ كَونهَا فِي الْجنَّة فَهِيَ فِي السَّمَاء وتتصل بِفنَاء الْقَبْر وبالبدن فِيهِ وَهِي أسْرع شَيْء حَرَكَة وانتقالا وصعودا وهبوطا وَأَنَّهَا تَنْقَسِم إِلَى مُرْسلَة ومحبوسة وعلوية وسفلية وَلها بعد الْمُفَارقَة صِحَة وَمرض وَلَذَّة ونعيم والم أعظم مِمَّا كَانَ لَهَا حَال اتصالها بِالْبدنِ بِكَثِير فهنالك الْحَبْس والألم وَالْعَذَاب وَالْمَرَض وَالْحَسْرَة وهنالك اللَّذَّة والراحة وَالنَّعِيم وَالْإِطْلَاق وَمَا أشبه حَالهَا فِي هَذَا الْبدن بِحَال ولد فِي بطن أمه وحالها بعد الْمُفَارقَة بِحَالهِ بعد خُرُوجه من الْبَطن إِلَى هَذِه الدَّار فلهذه الْأَنْفس أَربع دور كل دَار أعظم من الَّتِي قبلهَا الدَّار الأولى فِي بطن الْأُم وَذَلِكَ الْحصْر والضيق وَالْغَم والظلمات الثَّلَاث وَالدَّار الثَّانِيَة هِيَ الدَّار الَّتِي نشأت فِيهَا والفتها واكتسبت فِيهَا الْخَبَر وَالشَّر وَأَسْبَاب السَّعَادَة والشقاوة وَالدَّار الثَّالِثَة دَار البرزخ وَهِي أوسع من هَذِه الدَّار وَأعظم بل نسبتها إِلَيْهِ كنسبة هَذِه الدَّار إِلَى الأولى وَالدَّار الرَّابِعَة دَار الْقَرار وَهِي الْجنَّة أَو النَّار فَلَا دَار بعْدهَا وَالله ينقلها فِي هَذِه الدّور طبقًا بعد طبق حَتَّى يبلغهَا الدَّار الَّتِي لَا يصلح لَهَا غَيرهَا وَلَا يَلِيق بهَا سواهَا وَهِي الَّتِي خلقت لَهَا وهيئت للْعَمَل الْموصل لَهَا إِلَيْهَا وَلها فِي كل دَار من هَذِه الدّور حكم وشأن غير شَأْن الدَّار الْأُخْرَى فَتَبَارَكَ الله فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها الَّذِي فاوت بَينهَا فِي دَرَجَات سعادتها وشقاوتها كَمَا فاوت بَينهَا فِي مَرَاتِب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها فَمن

المسألة السادسة عشرة

عرفهَا كَمَا يَنْبَغِي شهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك كُله وَله الْحَمد كُله وَبِيَدِهِ الْخَيْر كُله وَإِلَيْهِ يرجع الْأَمر كُله وَله الْقُوَّة كلهَا وَالْقُدْرَة كلهَا والعز كُله وَالْحكمَة كلهَا والكمال الْمُطلق من جَمِيع الْوُجُوه وَعرف بِمَعْرِِفَة نَفسه صدق أنبيائه وَرُسُله وَأَن الَّذِي جَاءُوا بِهِ هُوَ الْحق الَّذِي تشهد بِهِ الْعُقُول وتقر بِهِ الْفطر وَمَا خَالفه هُوَ الْبَاطِل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة وَهِي هَل تنْتَفع أَرْوَاح الْمَوْتَى بِشَيْء من سعى الْأَحْيَاء أم لَا فَالْجَوَاب أَنَّهَا تنْتَفع من سعى الْأَحْيَاء بأمرين مجمع عَلَيْهِمَا بَين أهل السّنة من الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث وَالتَّفْسِير أَحدهمَا مَا تسبب إِلَيْهِ الْمَيِّت فِي حَيَاته وَالثَّانِي دُعَاء الْمُسلمين لَهُ واستغفارهم لَهُ وَالصَّدَََقَة وَالْحج على نزاع مَا الَّذِي يصل من ثَوَابه هَل ثَوَاب الْإِنْفَاق أَو ثَوَاب الْعَمَل فَعِنْدَ الْجُمْهُور يصل ثَوَاب الْعَمَل نَفسه وَعند بعض الْحَنَفِيَّة إِنَّمَا يصل ثَوَاب الْإِنْفَاق وَاخْتلفُوا فِي الْعِبَادَة الْبَدَنِيَّة كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَالذكر فمذهب الإِمَام أَحْمد وَجُمْهُور السّلف وصولها وَهُوَ قَول بعض أَصْحَاب أَبى حنيفَة نَص على هَذَا الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن يحيى الكحال قَالَ قيل لأبى عبد الله الرجل يعْمل الشَّيْء من الْخَيْر من صَلَاة أَو صَدَقَة أَو غير ذَلِك فَيجْعَل نصفه لِأَبِيهِ أَو لأمه قَالَ أَرْجُو أَو قَالَ الْمَيِّت يصل إِلَيْهِ كل شَيْء من صَدَقَة أَو غَيرهَا وَقَالَ أَيْضا اقْرَأ آيَة الْكُرْسِيّ ثَلَاث مَرَّات وَقل هُوَ الله أحد وَقل اللَّهُمَّ إِن فَضله لأهل الْمَقَابِر وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك أَن ذَلِك لَا يصل وَذهب بعض أهل الْبدع من أهل الْكَلَام أَنه لَا يصل إِلَى الْمَيِّت شَيْء الْبَتَّةَ لادعاء وَلَا غَيره فالدليل على انتفاعه بِمَا تسبب إِلَيْهِ فِي حَيَاته مَا رَوَاهُ مُسلم فِي صحيه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ أَن رَسُول الله قَالَ إِذا مَاتَ الْإِنْسَان انْقَطع عَنهُ عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ فاستثناء هَذِه الثَّلَاث من عمله يدل على أَنَّهَا مِنْهُ فانه هُوَ الَّذِي تسبب إِلَيْهَا وَفِي سنَن ابْن مَاجَه من حَدِيث أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله

فصل والدليل على انتفاعه بغير ما تسبب فيه القرآن والسنة والإجماع

إِنَّمَا يلْحق الْمُؤمن من عمله وحسناته بعد مَوته علما علمه ونشره أَو ولدا صَالحا تَركه أَو مُصحفا وَرثهُ أَو مَسْجِدا بناه أَو بَيْتا لِابْنِ السَّبِيل بناه أَو نَهرا إِكْرَاه أَو صَدَقَة أخرجهَا من مَاله فِي صِحَّته وحياته تلْحقهُ من بعد مَوته وَفِي صَحِيح مُسلم أَيْضا من حَدِيث جرير بن عبد الله قَالَ قَالَ رَسُول الله من سنّ فِي الْإِسْلَام سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا من بعده من غير أَن ينقص من أُجُورهم شَيْء وَمن سنّ فِي الْإِسْلَام سنة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بهَا من بعده من غير أَن ينقص من أوزارهم شَيْء وَهَذَا الْمَعْنى روى عَن النَّبِي من عدَّة وُجُوه صِحَاح وَحسان وَفِي الْمسند عَن حُذَيْفَة قَالَ سَأَلَ رجل على عهد رَسُول الله فامسك الْقَوْم ثمَّ أَن رجلا أعطَاهُ فَأعْطى الْقَوْم فَقَالَ النَّبِي من سنّ خيرا فاستن بِهِ كَانَ لَهُ أجره وَمن أجور من تبعه غير منتقص من أُجُورهم شَيْئا وَمن سنّ شرا فاستن بِهِ كَانَ عَلَيْهِ وزره وَمن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شَيْئا وَقد دلّ على هَذَا قَوْله لَا تقتل نفس ظلما إِلَّا كَانَ على ابْن آدم الأول كفل من دَمهَا لِأَنَّهُ أول من سنّ الْقَتْل فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْعَذَاب وَالْعِقَاب فَفِي الْفضل وَالثَّوَاب أولى وَأَحْرَى فصل وَالدَّلِيل على انتفاعه بِغَيْر مَا تسبب فِيهِ الْقُرْآن وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وقواعد الشَّرْع أما الْقُرْآن فَقَوله تَعَالَى {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان} فَأثْنى الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِم باستغفارهم للْمُؤْمِنين قبلهم فَدلَّ على انتفاعهم باستغفار الْأَحْيَاء وَقد يُمكن أَن يُقَال إِنَّمَا انتفعوا باستغفارهم لأَنهم سنوا لَهُم الْإِيمَان بسبقهم إِلَيْهِ فَلَمَّا اتَّبَعُوهُمْ فِيهِ كَانُوا كالمستنين فِي حُصُوله لَهُم لَكِن قد دلّ على انْتِفَاع الْمَيِّت بِالدُّعَاءِ إِجْمَاع الْأمة على الدُّعَاء لَهُ فِي صَلَاة الْجِنَازَة وَفِي السّنَن من حَدِيث أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله إِذا صليتم على الْمَيِّت فأخلصوا لَهُ الدُّعَاء وَفِي صَحِيح مُسلم مد حَدِيث عَوْف بن مَالك قَالَ على جَنَازَة فَحفِظت من دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُول اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وارحمه وعافه واعف عَنهُ وَأكْرم نزله وأوسع

فصل وأما وصول ثواب الصدقة ففي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أن

مدخله واغسله بِالْمَاءِ والثلج وَالْبرد ونقه من الْخَطَايَا كَمَا نقيت الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس وأبدله دَارا خيرا من دَاره وَأهلا خيرا من أَهله وزوجا خيرا من زوجه وَأدْخلهُ الْجنَّة وأعذه من عَذَاب الْقَبْر وَعَذَاب النَّار وَفِي السّنَن عَن وائلة بن الْأَسْقَع قَالَ على رجل من الْمُسلمين فَسَمعته يَقُول اللَّهُمَّ إِن فلَانا ابْن فلَان فِي ذِمَّتك وحبل جوارك فقه من فتْنَة الْقَبْر وَعَذَاب النَّار وَأَنت أهل الْوَفَاء وَالْحق فَاغْفِر لَهُ وارحمه إِنَّك الغفور الرَّحِيم وَهَذَا كثير فِي الْأَحَادِيث بل هُوَ الْمَقْصُود بِالصَّلَاةِ على الْمَيِّت وَكَذَلِكَ الدُّعَاء لَهُ بعد الدّفن وَفِي السّنَن من حَدِيث عُثْمَان بن عَفَّان رضى الله عَنهُ قَالَ كَانَ النَّبِي إِذا فرغ من دفن الْمَيِّت وقف عَلَيْهِ فَقَالَ اسْتَغْفرُوا لأخيكم واسألوا لَهُ التثبيت فانه الْآن يسْأَل وَكَذَلِكَ الدُّعَاء لَهُم عِنْد زِيَارَة قُبُورهم كَمَا فِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث بُرَيْدَة بن الخصيب قَالَ كَانَ رَسُول الله يعلمهُمْ إِذا خَرجُوا إِلَى الْمَقَابِر أَن يَقُولُوا السَّلَام عَلَيْكُم أهل الديار من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون نسْأَل الله لنا وَلكم الْعَافِيَة وَفِي صَحِيح مُسلم أَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا سَأَلت النَّبِي كَيفَ نقُول إِذا استغفرت لأهل الْقُبُور قَالَ قولي السَّلَام على أهل الديار من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين وَيرْحَم الله الْمُسْتَقْدِمِينَ منا والمستأخرين وانا إِن شَاءَ الله بكم للاحقون وَفِي صَحِيحه عَنْهَا أَيْضا أَن رَسُول الله خرج فِي لَيْلَتهَا من آخر اللَّيْل إِلَى البقيع فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين وأتاكم مَا توعدون غَدا مؤجلون وانا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون اللَّهُمَّ اغْفِر لأهل بَقِيع الْغَرْقَد وَدُعَاء النَّبِي للأموات فعلا وتعليما وَدُعَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْمُسْلِمين عصرا بعد عصر أَكثر من أَن يذكر وَأشهر من أَن يُنكر وَقد جَاءَ ان الله يرفع دَرَجَة العَبْد فِي الْجنَّة فَيَقُول أَنى لى هَذَا فَيُقَال بِدُعَاء ولدك لَك فصل وَأما وُصُول ثَوَاب الصَّدَقَة فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا أَن رجلا أَتَى النَّبِي فَقَالَ يَا رَسُول الله أَن أُمِّي افتلت نَفسهَا وَلم توص وأظنها لَو تَكَلَّمت تَصَدَّقت أفلها أجر إِن تَصَدَّقت عَنْهَا قَالَ نعم

فصل وأما وصول ثواب الصوم ففي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أن

وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عبد الله بن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا أَن سعد بن عبَادَة توفيت أمه وَهُوَ غَائِب عَنْهَا فَأتى النَّبِي فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن أُمِّي توفيت وَأَنا غَائِب عَنْهَا فَهَل ينفعها إِن تَصَدَّقت عَنهُ قَالَ نعم قَالَ فَإِنِّي أشهدك أَن حائطي المخراف صَدَقَة عَنْهَا وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ أَن رجلا قَالَ للنَّبِي ان أَبى مَاتَ وَترك مَالا وَلم يوص فَهَل يكفى عَنهُ أَن أَتصدق عَنهُ قَالَ نعم وَفِي السّنَن ومسند أَحْمد عَن سعد بن عبَادَة أَنه قَالَ يَا رَسُول الله ان أم سعد مَاتَت فأى الصَّدَقَة أفضل قَالَ المَاء فحفر بِئْر وَقَالَ هَذِه لأم سعد وَعَن عبد الله بن عَمْرو أَن الْعَاصِ بن وَائِل نذر فِي الْجَاهِلِيَّة أَن ينْحَر مائَة بَدَنَة وَإِن هِشَام بن الْعَاصِ نحر خَمْسَة وَخمسين وَأَن عمرا سَأَلَ النَّبِي عَن ذَلِك فَقَالَ أما أَبوك فَلَو أقرّ بِالتَّوْحِيدِ فَصمت وتصدقت عَنهُ نَفعه ذَلِك رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فصل وَأما وُصُول ثَوَاب الصَّوْم فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا أَن رَسُول الله قَالَ من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قلا جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي فَقَالَ يَا رَسُول الله أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم شهر أفأقضيه عَنْهَا قَالَ نعم فدين الله أَحَق أَن يقْضى وَفِي رِوَايَة جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله فَقَالَت يَا رَسُول الله إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم نذر أفأصوم عَنْهَا قَالَ أَفَرَأَيْت لَو كَانَ على أمك دين فقضيته أَكَانَ يُؤدى ذَلِك عَنْهَا قَالَت نعم قَالَ فصومي عَن أمك وَهَذَا اللَّفْظ للْبُخَارِيّ وَحده تَعْلِيقا وَعَن بُرَيْدَة رضى الله عَنهُ قَالَ بَينا أَنا جَالس عِنْد رَسُول الله إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَة فَقَالَت إِنِّي تَصَدَّقت على أُمِّي بِجَارِيَة وَأَنَّهَا مَاتَت فَقَالَ وَجب أجرك وردهَا عَلَيْك الْمِيرَاث فَقَالَت يَا رَسُول الله انه كَانَ عَلَيْهَا صَوْم شهر أفأصوم عَنْهَا قَالَ صومي عَنْهَا قَالَت إِنَّهَا لم تحج قطّ أفأحج عَنْهَا قَالَ حجى عَنْهَا رَوَاهُ مُسلم وَفِي لفظ صَوْم شَهْرَيْن وَعَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا أَن امْرَأَة ركبت الْبَحْر فنذرت إِن الله نجاها أَن تَصُوم شهرا فنجاها الله فَلم تصم حَتَّى مَاتَت فَجَاءَت بنتهَا أَو أُخْتهَا إِلَى رَسُول الله

فصل وأما وصول ثواب الحج ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضى الله

فَأمرهَا أَن تَصُوم عَنْهَا رَوَاهُ أهل السّنَن وَالْإِمَام أَحْمد وَكَذَلِكَ روى عَنهُ وُصُول ثَوَاب بدل الصَّوْم وَهُوَ الاطعام فَفِي السّنَن عَن ابْن عمر رضى الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام شهر فليطعم عَنهُ لكل يَوْم مِسْكين رَوَاهُ الترمذى وَابْن مَاجَه قَالَ الترمذى وَلَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه وَالصَّحِيح عَن ابْن عمر من قَوْله مَوْقُوفا وَفِي سنَن أَبى دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ إِذا مرض الرجل فِي رَمَضَان وَلم يصم أطْعم عَنهُ وَلم يكن عَنهُ قَضَاء وَإِن نذر قضى عَنهُ وليه فصل وَأما وُصُول ثَوَاب الْحَج فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا أَن امْرَأَة من جُهَيْنَة جَاءَت إِلَى النَّبِي فَقَالَت إِن أُمِّي نذرت أَن تحج فَلم تحج حَتَّى مَاتَت أفأحج عَنْهَا قَالَ حجى عَنْهَا أَرَأَيْت لَو كَانَ على أمك دين أَكنت قاضيته اقضوا الله فَالله أَحَق بِالْقضَاءِ وَقد تقدم حَدِيث بُرَيْدَة وَفِيه أَن أُمِّي لم تحج قطّ أفأحج عَنْهَا قَالَ حجى عَنْهَا وَعَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ إِن امْرَأَة سِنَان بن سَلمَة الْجُهَنِيّ سَأَلت رَسُول الله أَن أمهَا مَاتَت وَلم تحج أفيجزىء أَن تحج عَنْهَا قَالَ نعم لَو كَانَ على أمهَا دين فقضته عَنْهَا ألم يكن يجزىء عَنْهَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وروى أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا أَن امْرَأَة سَأَلت النَّبِي عَن ابْنهَا مَاتَ وَلم يحجّ قَالَ حجى عَن ابْنك وروى أَيْضا عَنهُ قَالَ قَالَ رجل يَا نَبِي الله ان أَبى مَاتَ وَلم يحجّ أفأحج عَنهُ قَالَ أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين أَكنت قاضيه قَالَ نعم قَالَ فدين الله أَحَق وَأجْمع الْمُسلمُونَ على أَن قَضَاء الدّين يسْقطهُ من ذمَّته وَلَو كَانَ من أَجْنَبِي أَو من غير تركته وَقد دلّ عَلَيْهِ حَدِيث أَبى قَتَادَة حَيْثُ ضمن الدينارين عَن الْمَيِّت فَلَمَّا قضاهما قَالَ لَهُ النَّبِي الْآن بردت عَلَيْهِ جلدته وَأَجْمعُوا على أَن الْحَيّ إِذا كَانَ لَهُ فِي ذمَّة الْمَيِّت حق من الْحُقُوق فأحله مِنْهُ أَنه يَنْفَعهُ وَيبرأ مِنْهُ كَمَا يسْقط من ذمَّة الْحَيّ فَإِذا سقط من ذمَّة الْحَيّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع مَعَ إِمْكَان أَدَائِهِ لَهُ بِنَفسِهِ وَلَو لم يرض بِهِ بل

رده فسقوطه من ذمَّة الْمَيِّت بالابراء حَيْثُ لَا يتَمَكَّن من أَدَائِهِ أولى وَأَحْرَى وَإِذا انْتفع بِالْإِبْرَاءِ والإسقاط فَكَذَلِك ينْتَفع بِالْهبةِ والإهداء وَلَا فرق بَينهمَا فَإِن ثَوَاب الْعَمَل حق المهدى الْوَاهِب فَإِذا جعله للْمَيت انْتقل إِلَيْهِ كَمَا أَن مَا على الْمَيِّت من الْحُقُوق من الدّين وَغَيره هُوَ مَحْض حق الْحَيّ فَإِذا أَبرَأَهُ وصل الْإِبْرَاء إِلَيْهِ وَسقط من ذمَّته فكلاهما حق للحى فَأَي نَص أَو قِيَاس أَو قَاعِدَة من قَوَاعِد الشَّرْع يُوجب وُصُول أَحدهمَا وَيمْنَع وُصُول الآخر هَذِه النُّصُوص متظاهرة على وُصُول ثَوَاب الْأَعْمَال إِلَى الْمَيِّت إِذا فعلهَا الْحَيّ عَنهُ وَهَذَا مَحْض للْقِيَاس فَإِن الثَّوَاب حق لِلْعَامِلِ فَإِذا وهبه لِأَخِيهِ الْمُسلم لم يمْنَع من ذَلِك كَمَا لم يمْنَع من هبة مَاله فِي حَيَاته وإبرائه لَهُ من بعد مَوته وَقد نبه النَّبِي بوصول ثَوَاب الصَّوْم الَّذِي هُوَ مُجَرّد ترك وَنِيَّة تقوم بِالْقَلْبِ لَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا الله وَلَيْسَ بِعَمَل الْجَوَارِح على وُصُول ثَوَاب الْقِرَاءَة الَّتِي هِيَ عمل بِاللِّسَانِ تسمعه الْأذن وتراه الْعين بطرِيق الأولى ويوضحه أَن الصَّوْم نِيَّة مَحْضَة وكف النَّفس عَن المفطرات وَقد أوصل الله ثَوَابه إِلَى الْمَيِّت فَكيف بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ عمل وَنِيَّة بل لَا تفْتَقر إِلَى النِّيَّة فوصول ثَوَاب الصَّوْم إِلَى الْمَيِّت فِيهِ تَنْبِيه على وُصُول سَائِر الْأَعْمَال والعبادات قِسْمَانِ مَالِيَّة وبدنية وَقد نبه الشَّارِع بوصول ثَوَاب الصَّدَقَة قَالَ على وُصُول ثَوَاب سَائِر الْعِبَادَات الْمَالِيَّة وَنبهَ بوصول ثَوَاب الصَّوْم على وُصُول ثَوَاب سَائِر الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة وَأخْبر بوصول ثَوَاب الْحَج الْمركب من الْمَالِيَّة والبدنية فالأنواع الثَّلَاثَة ثَابِتَة بِالنَّصِّ وَالِاعْتِبَار وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق قَالَ المانعون من الْوُصُول قَالَ الله تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} وَقَالَ {وَلَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَقَالَ {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ إِذا مَاتَ العَبْد انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة عَلَيْهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ أَو علم ينْتَفع بِهِ من بعد فَأخْبر أَنه إِنَّمَا ينْتَفع بِمَا كَانَ تسبب إِلَيْهِ فِي الْحَيَاة وَمَا لم يكن قد تسبب إِلَيْهِ فَهُوَ مُنْقَطع عَنهُ وَأَيْضًا فَحَدِيث أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ الْمُتَقَدّم وَهُوَ قَوْله إِن مِمَّا يلْحق الْمَيِّت من عمله وحسناته بعد مَوته علما نشره الحَدِيث يدل على أَنه إِنَّمَا ينْتَفع بِمَا كَانَ قد تسبب فِيهِ وَأَيْضًا فَحَدِيث أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ الْمُتَقَدّم وَهُوَ قَوْله إِن مِمَّا يلْحق الْمَيِّت من عمله وحسناته بعد مَوته علما نشره الحَدِيث يدل على أَنه إِنَّمَا ينْتَفع بِمَا كَانَ قد تسبب فِيهِ وَكَذَلِكَ حَدِيث أنس يرفعهُ سبع يجرى على العَبْد أجرهن وَهُوَ فِي قَبره بعد مَوته من علم

علما أَو أكرى نَهرا أَو حفر بِئْرا أَو غرس نخلا أَو بنى مَسْجِدا أَو ورث مُصحفا أَو ترك ولدا صَالحا يسْتَغْفر لَهُ بعد مَوته وَهَذَا يدل على أَن مَا عدا ذَلِك لَا يحصل لَهُ مِنْهُ ثَوَاب وَإِلَّا لم يكن للحصر معنى قَالُوا والإهداء حِوَالَة وَالْحوالَة إِنَّمَا تكون بِحَق لَازم والأعمال لَا توجب الثَّوَاب وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد تفضل الله وإحسانه فَكيف يحِيل العَبْد على مُجَرّد الْفضل الَّذِي لَا يجب على الله بل إِن شَاءَ آتَاهُ وَإِن لم يَشَأْ لم يؤته وَهُوَ نَظِير حِوَالَة الْفَقِير على من يَرْجُو أَن يتَصَدَّق عَلَيْهِ وَمثل هَذَا لَا يَصح إهداؤه وهبته كصلة ترجى من ملك لَا لتحَقّق حُصُولهَا قَالُوا وَأَيْضًا فالإيثار بِأَسْبَاب الثَّوَاب مَكْرُوه وَهُوَ الإيثار بِالْقربِ فَكيف الإيثار بِنَفس الثَّوَاب الَّذِي هُوَ غَايَة إِذا كره الإيثار بالوسيلة فالغاية أولى وَأَحْرَى وَكَذَلِكَ كره الإِمَام أَحْمد التَّأَخُّر عَن الصَّفّ الأول وإيثار الْغَيْر بِهِ لما فِيهِ من الرَّغْبَة عَن سَبَب الثَّوَاب قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة حَنْبَل وَقد سُئِلَ عَن الرجل يتَأَخَّر عَن الصَّفّ الأول وَيقدم أَبَاهُ فِي مَوْضِعه قَالَ مَا يُعجبنِي هُوَ يقدر أَن يبر أَبَاهُ بِغَيْر هَذَا قَالُوا أَيْضا لَو سَاغَ الإهداء إِلَى الْمَيِّت لساغ نقل الثَّوَاب والإهداء إِلَى الْحَيّ وَأَيْضًا لَو سَاغَ ذَلِك لساغ لهَذَا نصف الثَّوَاب وربعه وقيراط مِنْهُ وَأَيْضًا لَو سَاغَ ذَلِك لساغ إهداؤه بعد أَن يعمله لنَفسِهِ وَقد قُلْتُمْ أَنه لَا بُد أَن ينوى حَال الْفِعْل إهداءه إِلَى الْمَيِّت وَإِلَّا لم يصل إِلَيْهِ فَإِذا سَاغَ لَهُ نقل الثَّوَاب فَأَي فرق بَين أَن ينوى قبل الْفِعْل أَو بعده وَأَيْضًا لَو سَاغَ الإهداء لساغ إهداء ثَوَاب الْوَاجِبَات على الْحَيّ كَمَا يسوغ إهداء ثَوَاب التطوعات الَّتِي يتَطَوَّع بهَا قَالُوا وَإِن التكاليف امتحان وابتلاء لَا تقبل الْبَدَل فَإِن الْمَقْصُود مِنْهَا عين الْمُكَلف الْعَامِل الْمَأْمُور الْمنْهِي فَلَا يُبدل الْمُكَلف الممتحن بِغَيْرِهِ وَلَا يَنُوب غَيره عَنهُ فِي ذَلِك أَن الْمَقْصُود طَاعَته هُوَ نَفسه وعبوديته وَلَو كَانَ ينْتَفع بإهداء غَيره لَهُ من غير عمل مِنْهُ لَكَانَ أكْرم الأكرمين أولى بذلك وَقد حكم سُبْحَانَهُ أَنه لَا ينْتَفع إِلَّا بسعيه وَهَذِه سنته تَعَالَى فِي خلقه وقضاؤه كَمَا هِيَ سنته فِي أمره وشرعه فَإِن الْمَرِيض لَا يَنُوب عَنهُ غَيره فِي شرب الدَّوَاء والجائع والظمآن والعاري لَا يَنُوب عَنهُ غَيره فِي الْأكل وَالشرب واللباس قَالُوا وَلَو نَفعه عمل غَيره لنفعه تَوْبَته عَنهُ

قَالُوا وَلِهَذَا لَا يقبل الله إِسْلَام أحد وَلَا صلَاته عَن صلَاته فَإِذا كَانَ رَأس الْعِبَادَات لَا يَصح إهداء ثَوَابه فَكيف فروعها قَالُوا وَأما الدُّعَاء فَهُوَ سُؤال ورغبة إِلَى الله أَن يتفضل على الْمَيِّت ويسامحه وَيَعْفُو عَنهُ وَهَذَا إهداء ثَوَاب عمل الْحَيّ إِلَيْهِ قَالَ المقتصرون على وُصُول الْعِبَادَات الَّتِي تدْخلهَا النِّيَابَة كالصدقة وَالْحج والعبادات نَوْعَانِ نوع لَا تدخله النِّيَابَة بِحَال كالإسلام وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَالصِّيَام فَهَذَا النَّوْع يخْتَص ثَوَابه بفاعله لَا يتعداه وَلَا ينْقل عَنهُ كَمَا أَنه فِي الْحَيَاة لَا يَفْعَله أحد عَن أحد وَلَا يَنُوب فِيهِ عَن فَاعله غَيره وَنَوع تدخله النِّيَابَة كرد الودائع وَأَدَاء الدُّيُون وَإِخْرَاج الصَّدَقَة وَالْحج فَهَذَا يصل ثَوَابه إِلَى الْمَيِّت لِأَنَّهُ يقبل النِّيَابَة ويفعله العَبْد عَن غَيره فِي حَيَاته فَبعد مَوته بِالطَّرِيقِ الأولى والأحرى قَالُوا وَأما حَدِيث من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه فَجَوَابه من وُجُوه أَحدهَا مَا قَالَه مَالك فِي موطئِهِ قَالَ لَا يَصُوم أحد عَن أحد قَالَ وَهُوَ أَمر مجمع عَلَيْهِ عندنَا لَا خلاف فِيهِ الثَّانِي أَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا هُوَ الَّذِي روى حَدِيث الصَّوْم عَن الْمَيِّت وَقد روى عَنهُ النَّسَائِيّ أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا حجاج الْأَحول حَدثنَا أَيُّوب بن مُوسَى عَن عَطاء بن أَبى رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ لَا يصلى أحد عَن أحد الثَّالِث أَنه حَدِيث اخْتلف فِي إِسْنَاده هَكَذَا قَالَ صَاحب الْمُفْهم فِي شرح مُسلم الرَّابِع أَنه معَارض بِنَصّ الْقُرْآن كَمَا تقدم من قَوْله تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} الْخَامِس أَنه معَارض بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي أَنه قَالَ لَا يصلى أحد عَن أحد وَلَا يَصُوم أحد عَن أحد وَلَكِن يطعم عَنهُ مَكَان كل يَوْم مدا من حِنْطَة السَّادِس أَنه معَارض بِحَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبى ليلى عَن نَافِع عَن ابْن عمر رضى الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي من مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم رَمَضَان يطعم عَنهُ

السَّابِع أَنه معَارض بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ على الصَّلَاة وَالْإِسْلَام وَالتَّوْبَة فان أحدا لَا يَفْعَلهَا عَن أحد قَالَ الشَّافِعِي فِيمَا تكلم بِهِ على خبر ابْن عَبَّاس لم يسم ابْن عَبَّاس مَا كَانَ نذر أم سعد فَاحْتمل أَن يكون نذر حج أَو عمْرَة أَو صَدَقَة فَأمره بِقَضَائِهِ عَنْهَا فَأَما من نذر صَلَاة أَو صياما ثمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يكفر عَنهُ فِي الصَّوْم وَلَا يصام عَنهُ وَلَا يصلى عَنهُ وَلَا يكفر عَنهُ فِي الصَّلَاة ثمَّ قَالَ فَإِن قيل أفأروى عَن رَسُول الله أَمر أحد أَن يَصُوم عَن أحد قيل نعم روى ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي فَإِن قيل فَلم لَا تَأْخُذ بِهِ قيل حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي نذرا وَلم يسمعهُ مَعَ حفظ الزُّهْرِيّ وَطول مجالسه عبيد الله لِابْنِ عَبَّاس فَلَمَّا جَاءَ غَيره عَن رجل عَن ابْن عَبَّاس بِغَيْر مَا فِي حَدِيث عبيد الله أشبه أَن لَا يكون مَحْفُوظًا فَإِن قيل فتعرف الرجل الَّذِي جَاءَ بِهَذَا الحَدِيث يغلط عَن ابْن عَبَّاس قيل نعم روى أَصْحَاب ابْن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ لِابْنِ الزبير أَن الزبير حل من مُتْعَة الْحَج فروى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا مُتْعَة النِّسَاء وَهَذَا غلط فَاحش فَهَذَا الْجَواب عَن فعل الصَّوْم وَأما فعل الْحَج فَإِنَّمَا يصل مِنْهُ ثَوَاب الْإِنْفَاق وَأما أَفعَال الْمَنَاسِك فَهِيَ كأفعال الصَّلَاة إِنَّمَا تقع عَن فاعلها قَالَ أَصْحَاب الْوُصُول لَيْسَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرْتُمْ مَا يُعَارض أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة واتفاق سلف الْأمة وَمُقْتَضى قَوَاعِد الشَّرْع وَنحن نجيب عَن كل مَا ذكرتموه بِالْعَدْلِ والإنصاف أما قَوْله تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} فقد اخْتلفت طرق النَّاس فِي المُرَاد بِالْآيَةِ فَقَالَت طَائِفَة المُرَاد بالإنسان هَا هُنَا الْكَافِر وَأما الْمُؤمن فَلهُ مَا سعى وَمَا سعى لَهُ بالأدلة الَّتِي ذَكرنَاهَا قَالُوا وَغَايَة مَا فِي هَذَا التَّخْصِيص وَهُوَ جَائِز إِذا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل وَهَذَا الْجَواب ضَعِيف جدا وَمثل هَذَا الْعَام لَا يُرَاد بِهِ الْكَافِر وَحده بل هُوَ للْمُسلمِ وَالْكَافِر وَهُوَ كالعام الَّذِي قبله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى أَن لَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى والسياق كُله من أَوله إِلَى آخِره كَالصَّرِيحِ فِي إِرَادَة الْعُمُوم لقَوْله تَعَالَى {وَأَن سَعْيه سَوف يرى ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى} وَهَذَا يعم الشَّرّ وَالْخَيْر قطعا ويتناول الْبر والفاجر وَالْمُؤمن وَالْكَافِر كَقَوْلِه تَعَالَى {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَكَقَوْلِه لَهُ فِي الحَدِيث الإلهي يَا عبَادي إِنَّمَا هِيَ أَعمالكُم أحصيها لكم ثمَّ أوفيكم إِيَّاهَا فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد غير ذَلِك فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه وَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى {يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا فملاقيه} وَلَا تغتر بقود كثير من الْمُفَسّرين فِي لفظ الْإِنْسَان فِي

الْقُرْآن الْإِنْسَان هَا هُنَا أَبُو جهل وَالْإِنْسَان هَا هُنَا عقبَة ابْن أَبى معيط وَالْإِنْسَان هَاهُنَا الْوَلِيد ابْن الْمُغيرَة فالقرآن أجل من ذَلِك بل الْإِنْسَان هُوَ الْإِنْسَان من حَيْثُ هُوَ من غير اخْتِصَاص بِوَاحِد بِعَيْنِه كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} و {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} و {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا} و {إِن الْإِنْسَان ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} و {إِن الْإِنْسَان لظلوم كفار} و {وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} فَهَذَا شَأْن الْإِنْسَان من حَيْثُ ذَاته وَنَفسه وَخُرُوجه عَن هَذِه الصِّفَات بِفضل ربه وتوفيقه لَهُ ومنته عَلَيْهِ لَا من ذَاته فَلَيْسَ لَهُ من ذَاته إِلَّا هَذِه الصِّفَات وَمَا بِهِ من نعْمَة فَمن الله وَحده فَهُوَ الذى حبب إِلَى عَبده الْإِيمَان وزينه فِي قلبه وَكره إِلَيْهِ الْكفْر والفسوق والعصيان وَهُوَ الَّذِي كتب فِي قلبه الْإِيمَان وَهُوَ الَّذِي يثبت أنبياءه وَرُسُله وأولياءه على دينه وَهُوَ الَّذِي يصرف عَنْهُم السوء والفحشاء وَكَانَ يرتجز بَين يَدي النَّبِي وَالله لَوْلَا الله مَا اهتدينا ... وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين فَهُوَ رب جَمِيع الْعَالم ربوبية شَامِلَة لجَمِيع مَا فِي الْعَالم من ذَوَات وأفعال وأحوال وَقَالَت طَائِفَة الْآيَة أَخْبَار بشرع من قبلنَا وَقد دلّ شرعنا على أَنه لَهُ مَا سعى وَمَا سعى لَهُ وَهَذَا أَيْضا أَضْعَف من الأول أَو من جنسه فان الله سُبْحَانَهُ أخبر بذلك أَخْبَار مُقَرر لَهُ مُحْتَج بِهِ لَا أَخْبَار مُبْطل لَهُ وَلِهَذَا قَالَ {أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى} فَلَو كَانَ هَذَا بَاطِلا فِي هَذِه الشَّرِيعَة لم يخبر بِهِ أَخْبَار مُقَرر لَهُ مُحْتَج بِهِ وَقَالَت طَائِفَة اللَّام بِمَعْنى على أَي وَلَيْسَ على الْإِنْسَان إِلَّا مَا سعى وَهَذَا أبطل من الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين فَإِنَّهُ قَول مَوْضُوع الْكَلَام إِلَى ضد مَعْنَاهُ الْمَفْهُوم مِنْهُ وَلَا يسوغ مثل هَذَا وَلَا تحتمله اللُّغَة وَأما نَحْو وَلَهُم اللَّعْنَة فَهِيَ على بَابهَا أَي نصِيبهم وحظهم وَأما أَن الْعَرَب تعرف فِي لغاتها لي دِرْهَم بِمَعْنى على دِرْهَم فكلا وَقَالَت طَائِفَة فِي الْكَلَام حذف تَقْدِيره {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} أَو سعى لَهُ وَهَذَا أَيْضا من النمط الأول فَإِنَّهُ حذف مَالا يدل السِّيَاق عَلَيْهِ بِوَجْه وَقَول على الله وَكتابه بِلَا علم وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ بِإِيمَان ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ} وَهَذَا مَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا

وَلَا يرفع حكم الْآيَة بِمُجَرَّد قَول ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا وَلَا غَيره أَنَّهَا مَنْسُوخَة والجميع بَين الْآيَتَيْنِ غير مُتَعَذر وَلَا مُمْتَنع فَإِن الْأَبْنَاء تبعوا الْآبَاء فِي الْآخِرَة كَمَا كَانُوا تبعا لَهُم فِي الدُّنْيَا وَهَذِه التّبعِيَّة هِيَ من كَرَامَة الْآبَاء وثوابهم الَّذِي نالوه بسعيهم وَأما كَون الْأَبْنَاء لَحِقُوا بهم فِي الدرجَة بِلَا سعى مِنْهُم فَهَذَا لَيْسَ هُوَ لَهُم وَإِنَّمَا هُوَ للآباء أقرّ الله أَعينهم بإلحاق ذُرِّيتهمْ بهم فِي الْجنَّة وتفضل على الْأَبْنَاء بِشَيْء لم يكن لَهُم كَمَا تفضل بذلك على الْوَالِدَان والحور الْعين والخلق ألذين ينشئهم للجنة بِغَيْر أَعمال وَالْقَوْم الَّذين يدخلهم الْجنَّة بِلَا خير قدموه وَلَا عمل عملوه فَقَوله تَعَالَى أَن لَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَقَوله {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} آيتان محكمتان يقتضيهما عدل الرب تَعَالَى وحكمته وكما لَهُ الْمُقَدّس وَالْعقل والفطرة شَاهِدَانِ بهما فَالْأول تَقْتَضِي أَنه لَا يُعَاقب بجرم غَيره وَالثَّانيَِة تَقْتَضِي أَنه لَا يفلح إِلَّا بِعَمَلِهِ وسعيه فَالْأولى تؤمن العَبْد من أَخذه بجريرة غَيره كَمَا يَفْعَله مُلُوك الدُّنْيَا وَالثَّانيَِة تقطع طمعه من نجاته بِعَمَل آبَائِهِ وسلفه ومشايخه كَمَا عَلَيْهِ أَصْحَاب الطمع الْكَاذِب فَتَأمل حسن اجْتِمَاع هَاتين الْآيَتَيْنِ وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى {من اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فَحكم سُبْحَانَهُ لأعدائه بأَرْبعَة أَحْكَام هِيَ غَايَة الْعدْل وَالْحكمَة أَحدهَا إِن هدى الْعباد بِالْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح لنَفسِهِ لَا لغيره الثَّانِي أَن ضلاله بِفَوَات ذَلِك وتخلفه عَنهُ على نَفسه لَا على غَيره الثَّالِث أَن أحدا لَا يُؤَاخذ بجريرة غَيره الرَّابِع أَنه لَا يعذب أحدا إِلَّا بعد إِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِ يُرْسِلهُ فَتَأمل مَا فِي ضمن هَذِه الْأَحْكَام الْأَرْبَعَة من حكمته تَعَالَى وعدله وفضله وَالرَّدّ على أهل الْغرُور والأطماع الكاذبة وعَلى أهل الْجَهْل بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى المُرَاد بالإنسان هَا هُنَا الْحَيّ دون الْمَيِّت وَهَذَا أَيْضا من النمط الأول فِي الْفساد وَهَذَا كُله من سوء التَّصَرُّف فِي اللَّفْظ الْعَام وَصَاحب هَذَا التَّصَرُّف لَا ينفذ تصرفه فِي دلالات الْأَلْفَاظ وَحملهَا على خلاف موضوعها وَمَا يتَبَادَر إِلَى الذِّهْن مِنْهَا وَهُوَ تصرف فَاسد قطعا يُبطلهُ السِّيَاق وَالِاعْتِبَار وقواعد الشَّرْع وأدلته وعرفه وَسبب هَذَا التَّصَرُّف السيىء أَن صَاحبه يعْتَقد قولا ثمَّ يرد كلما دلّ على خِلَافه بِأَيّ طَرِيق اتّفقت لَهُ فالأدلة الْمُخَالفَة لما

اعتقده عِنْده من بَاب الصَّائِل لَا يُبَالِي بِأَيّ شَيْء دَفعه وأدلة الْحق لَا تتعارض وَلَا تتناقض بل يصدق بَعْضهَا بَعْضًا وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى وَهُوَ جَوَاب أَبى الْوَفَاء بن عقيل قَالَ الْجَواب الْجيد عِنْدِي إِن يُقَال الْإِنْسَان بسعيه وَحسن عشرته اكْتسب الأصدقاء وأولد الْأَوْلَاد ونكح الْأزْوَاج وأسدى الْخَيْر وتودد إِلَى النَّاس فترحموا عَلَيْهِ وأهدوا لَهُ الْعِبَادَات وَكَانَ ذَلِك أثر سَعْيه كَمَا قَالَ إِن أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه وان وَلَده من كَسبه وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي الحَدِيث الآخر إِذا مَاتَ العَبْد انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث علم ينْتَفع بِهِ من بعده وَصدقَة جَارِيَة عَلَيْهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَمن هُنَا قَول الشَّافِعِي إِذا بذل لَهُ وَلَده طَاعَة الْحَج كَانَ ذَلِك سَببا لوُجُوب الْحَج عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ فِي مَاله زَاد وراحلة بِخِلَاف بذل الْأَجْنَبِيّ وَهَذَا جَوَاب متوسط يحْتَاج إِلَى تَمام فَإِن العَبْد بإيمانه وطاعته لله وَرَسُوله قد سعى فِي انتفاعه بِعَمَل إخوانه الْمُؤمنِينَ مَعَ عمله كَمَا ينْتَفع بعملهم فِي الْحَيَاة مَعَ عمله فَإِن الْمُؤمنِينَ ينْتَفع بَعضهم بِعَمَل بعض فِي الْأَعْمَال الَّتِي يشتركون فِيهَا كَالصَّلَاةِ فِي جمَاعَة فَإِن كل وَاحِد مِنْهُم تضَاعف صلَاته إِلَى سَبْعَة وَعشْرين ضعفا لمشاركة غَيره لَهُ فِي الصَّلَاة فَعمل غَيره كَانَ سَببا لزِيَادَة أجره كَمَا أَن عمله سَبَب لزِيَادَة أجر الآخر بل قد قيل إِن الصَّلَاة يُضَاعف ثَوَابهَا يعدد الْمُصَلِّين وَكَذَلِكَ اشتراكهم فِي الْجِهَاد وَالْحج وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والتعاون على الْبر وَالتَّقوى وَقد قَالَ النَّبِي الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا وَشَبك بَين أَصَابِعه وَمَعْلُوم أَن هَذَا بِأُمُور الدّين أولى مِنْهُ بِأُمُور الدُّنْيَا فدخول الْمُسلم مَعَ جملَة الْمُسلمين فِي عقد الْإِسْلَام من أعظم الْأَسْبَاب فِي وُصُول نفع كل من الْمُسلمين إِلَى صَاحبه فِي حَيَاته وَبعد مماته ودعوة الْمُسلمين تحيط من ورائهم وَقد أخبر الله سُبْحَانَهُ عَن حَملَة الْعَرْش وَمن حوله أَنهم يَسْتَغْفِرُونَ للْمُؤْمِنين وَيدعونَ لَهُم وَاخْبَرْ عَن دُعَاء رسله واستغفارهم للْمُؤْمِنين كنوح وَإِبْرَاهِيم وَمُحَمّد فَالْعَبْد بإيمانه قد تسبب إِلَى وُصُول هَذَا الدُّعَاء إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ من سَعْيه يُوضحهُ أَن الله سُبْحَانَهُ جعل الْإِيمَان سَببا لانتفاع صَاحبه بِدُعَاء إخوانه من الْمُؤمنِينَ وسعيهم فَإِذا أَتَى بِهِ فقد سعى فِي السَّبَب الَّذِي يُوصل إِلَيْهِ وَقد دلّ على ذَلِك قَول النَّبِي لعَمْرو بن الْعَاصِ إِن أَبَاك لَو كَانَ أقرّ بِالتَّوْحِيدِ نَفعه ذَلِك يعْنى الْعتْق الَّذِي فعل عَنهُ بعد مَوته فَلَو أَتَى بِالسَّبَبِ لَكَانَ قد سعى فِي يعْمل يُوصل إِلَيْهِ ثَوَاب الْعتْق وَهَذِه طَريقَة لَطِيفَة حَسَنَة جدا وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى الْقُرْآن لم ينف انْتِفَاع الرجل بسعي غَيره وَإِنَّمَا نفي ملكه لغير سَعْيه

فصل وكذلك قوله تعالى

وَبَين الْأَمريْنِ من الْفرق مَالا يخفي فَأخْبر تَعَالَى أَنه لَا يملك إِلَّا سَعْيه وَأما سعى غَيره فَهُوَ ملك لساعيه فَإِن شَاءَ أَن يبذله لغيره وَإِن شَاءَ أَن يبقيه لنَفسِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لم يقل لَا ينْتَفع إِلَّا بِمَا سعى وَكَانَ شَيخنَا يخْتَار هَذِه الطَّرِيقَة ويرجحها فصل وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} وَقَوله {وَلَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} على أَن هَذِه الْآيَة أصرح فِي الدّلَالَة على أَن سياقها وَإِنَّمَا يَنْفِي عُقُوبَة العَبْد بِعَمَل غَيره وَأَخذه بجريرته فَإِن الله سُبْحَانَهُ قَالَ {فاليوم لَا تظلم نفس شَيْئا وَلَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فنفي أَن يظلم بِأَن يُزَاد عَلَيْهِ فِي سيئاته أَو ينقص من حَسَنَاته أَو يُعَاقب بِعَمَل غَيره وَلم ينف أَن ينْتَفع بِعَمَل غَيره لَا على وَجه الْجَزَاء فَإِن انتفاعه بِمَا يهدى إِلَيْهِ لَيْسَ جَزَاء على عمله وَإِنَّمَا هُوَ صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْهِ وتفضل بهَا عَلَيْهِ من غير سعى مِنْهُ بل وهبه ذَلِك على يَد بعض عباده لَا على وَجه الْجَزَاء فصل وَأما استدلالكم بقوله إِذا مَاتَ العَبْد انْقَطع عمله فاستدلال سَاقِط فانه لم يقل انْقَطع انتفاعه وَإِنَّمَا أخبر عَن انْقِطَاع عمله وَأما عمل غَيره فَهُوَ لعامله فان وهبه لَهُ وصل إِلَيْهِ ثَوَاب عمل الْعَامِل لَا ثَوَاب عمله هُوَ فالمنقطع شَيْء والواصل إِلَيْهِ شَيْء آخر وَكَذَلِكَ الحَدِيث الآخر وَهُوَ قَوْله إِن مِمَّا يلْحق الْمَيِّت من حَسَنَاته وَعَمله فَلَا يَنْفِي أَن يلْحقهُ غير ذَلِك من عمل غَيره وحسناته فصل وَأما قَوْلكُم الإهداء حِوَالَة وَالْحوالَة إِنَّمَا تكون بِحَق لَازم فَهَذِهِ حِوَالَة الْمَخْلُوق على الْمَخْلُوق وَأما حِوَالَة الْمَخْلُوق على الْخَالِق فَأمر آخر لَا يَصح قياسها على حِوَالَة العبيد بَعضهم على بعض وَهل هَذَا إِلَّا من أبطل الْقيَاس وأفسده وَالَّذِي يُبطلهُ إِجْمَاع الْأمة على انتفاعه بأَدَاء دينه وَمَا عَلَيْهِ من الْحُقُوق وإبراء الْمُسْتَحق لذمته وَالصَّدَََقَة وَالْحج عَنهُ بِالنَّصِّ الَّذِي لَا سَبِيل إِلَى رده وَدفعه وَكَذَلِكَ الصَّوْم وَهَذِه الأقيسة الْفَاسِدَة لَا تعَارض نُصُوص الشَّرْع وقواعده فصل وَأما قَوْلكُم الإيثار بِسَبَب الثَّوَاب مَكْرُوه وَهُوَ مسالة الإيثار بِالْقربِ فَكيف الإيثار الثَّوَاب بِنَفس الَّذِي هُوَ الْغَايَة فقد أُجِيب عَنهُ بأجوبة

فصل وأما قولكم لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ إلى الحي فجوابه من وجهين

الْجَواب الأول ان حَال الْحَيَاة حَال لَا يوثق فِيهَا بسلامة الْعَاقِبَة لجَوَاز إِن يرْتَد الْحَيّ فَيكون قد آثر بالقربة غير أَهلهَا وَهَذَا قد أَمن بِالْمَوْتِ فَإِن قيل والمهدى إِلَيْهِ أَيْضا قد لَا يكون مَاتَ على الْإِسْلَام بَاطِنا فَلَا ينْتَفع بِمَا يهدى إِلَيْهِ وَهَذَا سُؤال فِي غَايَة الْبطلَان فَإِن الإهداء لَهُ من جنس الصَّلَاة عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَار لَهُ وَالدُّعَاء لَهُ فَإِن كَانَ أَهلا وَإِلَّا انْتفع بِهِ الدَّاعِي وَحده الْجَواب الثَّانِي أَن الإيثار بِالْقربِ يدل على قلَّة الرَّغْبَة فِيهَا والتأخر عَن فعلهَا فَلَو سَاغَ الإيثار بهَا لأفضى إِلَى التقاعد والتكاسل والتأخر بِخِلَاف إبداء ثَوَابهَا فَإِن الْعَامِل يحرص عَلَيْهَا لأجل ثَوَابهَا لينْتَفع بِهِ أَو ينفع بِهِ أَخَاهُ الْمُسلم فبينهما فرق ظَاهر الْجَواب الثَّالِث أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحب الْمُبَادرَة أَو المسارعة إِلَى خدمته والتنافس فِيهَا فَإِن ذَلِك ابلغ فِي الْعُبُودِيَّة فَإِن الْمُلُوك تحب المسارعة والمنافسة فِي طاعتها وَخدمتهَا فالإيثار بذلك منَاف لمقصود الْعُبُودِيَّة فَإِن الله سُبْحَانَهُ أَمر عَبده بِهَذِهِ الْقرْبَة أما إِيجَابا وَأما اسْتِحْبَابا فَإِذا أثر بهَا ترك مَا أمره وولاه غَيره بِخِلَاف مَا إِذا فعل مَا أَمر بِهِ طَاعَة وقربة ثمَّ أرسل ثَوَابه إِلَى أَخِيه الْمُسلم وَقد قَالَ تَعَالَى {سابقوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض} وَقَالَ فاستبقوا الْخيرَات وَمَعْلُوم أَن الإيثار بهَا يُنَافِي الاستباق إِلَيْهَا والمسارعة وَقد كَانَ الصَّحَابَة يسابق بَعضهم بَعْضًا بِالْقربِ وَلَا يُؤثر الرجل مِنْهُم غَيره بهَا قَالَ عمر وَالله مَا سابقني أَبُو بكر إِلَى خير إِلَّا سبقني إِلَيْهِ حَتَّى قَالَ وَالله لَا أسابقك إِلَى خير أبدا وَقد قَالَ تَعَالَى {وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ} يُقَال نافست فِي الشَّيْء مُنَافَسَة ونفاسا إِذا رغبت فِيهِ على وَجه المباراة وَمن هَذَا قَوْلهم شَيْء نَفِيس أَي هُوَ أهل أَن يتنافس فِيهِ ويرغب فِيهِ وَهَذَا أنفس مَالِي أَي أحبه إِلَى وأنفسني فلَان فِي كَذَا أَي أرغبني فِيهِ وَهَذَا كُله ضد الإيثار بِهِ وَالرَّغْبَة عَنهُ فصل وَأما قَوْلكُم لَو سَاغَ الإهداء إِلَى الْمَيِّت لساغ إِلَى الْحَيّ فَجَوَابه من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه قد ذهب إِلَى ذَلِك بعض الْفُقَهَاء من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيرهم قَالَ القَاضِي وَكَلَام أَحْمد لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيص بِالْمَيتِ فانه قَالَ يفعل الْخَيْر وَيجْعَل نصفه لِأَبِيهِ وَأمه وَلم يفرق وَاعْترض عَلَيْهِ أَبُو الْوَفَاء بن عقيل وَقَالَ هَذَا فِيهِ بعد وَهُوَ تلاعب بِالشَّرْعِ وَتصرف فِي أَمَانَة الله واسجال على الله سُبْحَانَهُ بِثَوَاب على عمل يَفْعَله إِلَى غَيره وَبعد الْمَوْت قد جعل لنا طَرِيقا إِلَى إِيصَال النَّفْع كالاستغفار وَالصَّلَاة على الْمَيِّت

ثمَّ أورد على نَفسه سؤالا وَهُوَ فَإِن قيل أَلَيْسَ قَضَاء الدّين وَتحمل الْكل حَال الْحَيَاة كقضائه بعد الْمَوْت فقد اسْتَوَى ضَمَان الْحَيَاة وَضَمان الْمَوْت فِي أَنَّهُمَا يزيلان الْمُطَالبَة عَنهُ فَإِذا وصل قَضَاء الدُّيُون بعد الْمَوْت وَحَال الْحَيَاة فإجعلوا ثَوَاب الإهداء واصلا حَال الْحَيَاة وَبعد الْمَوْت وَأجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ لَو صَحَّ هَذَا وَجب أَن تكون الذُّنُوب تكفر عَن الْحَيّ بتوبة غَيره عَنهُ ويندفع عَنهُ مآثم الْآخِرَة بِعَمَل غَيره واستغفاره قلت وَهَذَا لَا يلْزم بل طرد ذَلِك انْتِفَاع الْحَيّ بِدُعَاء غَيره لَهُ واستغفاره لَهُ وَتصدقه عَنهُ وَقَضَاء دُيُونه وَهَذَا حق وَقد أذن النَّبِي فِي أَدَاء فَرِيضَة الْحَج عَن الْحَيّ المعضوب وَالْعَاجِز وهما حَيَّان وَقد أجَاب غَيره من الْأَصْحَاب بِأَن حَال الْحَيَاة لَا نثق بسلامة الْعَاقِبَة خوفًا أَن يرْتَد المهدى لَهُ فَلَا ينْتَفع بِمَا يهدى إِلَيْهِ قَالَ ابْن عقيل وَهَذَا عذر بَاطِل بإهداء الْحَيّ فَإِنَّهُ لَا يُؤمن أَن يرْتَد وَيَمُوت فيحبط عمله وَمن جملَته ثَوَاب مَا أهْدى إِلَى الْمَيِّت قلت هَذَا لَا يلْزمهُم وموارد النَّص وَالْإِجْمَاع تبطله وترده فان النَّبِي أذن فِي الْحَج وَالصَّوْم عَن الْمَيِّت وَأجْمع النَّاس على بَرَاءَة ذمَّته من الدّين إِذا قَضَاهُ عَنهُ الْحَيّ مَعَ وجود مَا ذكر من الِاحْتِمَال وَالْجَوَاب أَن يُقَال مَا أهداه من أَعمال الْبر إِلَى الْمَيِّت فقد صَار ملكا لَهُ فَلَا يبطل بردة فَاعله بعد خُرُوجه عَن ملكه كتصرفاته الَّتِي تصرفها قبل الرِّدَّة من عتق وَكَفَّارَة بل لَو حج عَن معضوب ثمَّ ارْتَدَّ بعد ذَلِك لم يلْزم المعضوب أَن يُقيم غَيره يحجّ عَنهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤمن فِي الثَّانِي وَالثَّالِث ذَلِك على أَن الْفرق بَين الْحَيّ وَالْمَيِّت أَن الْحَيّ لَيْسَ بمحتاج كحاجة الْمَيِّت إِذْ يُمكنهُ أَن يُبَاشر ذَلِك الْعَمَل أَو نَظِيره فَعَلَيهِ اكْتِسَاب الثَّوَاب بِنَفسِهِ وسعيه بِخِلَاف الْمَيِّت وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى اتكال بعض الْأَحْيَاء على بعض وَهَذِه مفْسدَة كَبِيرَة فان أَرْبَاب الْأَمْوَال إِذا فَهموا ذَلِك واستشعروه استأجروا من يفعل ذَلِك عَنْهُم فَتَصِير الطَّاعَات معاوضات وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى إِسْقَاط الْعِبَادَات والنوافل وَيصير مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الله يتَقرَّب بِهِ إِلَى الْآدَمِيّين فَيخرج عَن الْإِخْلَاص فَلَا يحصل الثَّوَاب لوَاحِد مِنْهُمَا

فصل وأما قولكم لو ساغ إهداء نصف الثواب وربعه إلى الميت فالجواب من

وَنحن نمْنَع من أَخذ الْأُجْرَة على كل قربَة ونحبط بِأخذ الْأجر عَلَيْهَا كالقضاء والفتيا وَتَعْلِيم الْعلم وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَغَيرهَا فَلَا يثيب الله عَلَيْهَا إِلَّا لمخلص اخلص الْعَمَل لوجهه فَإِذا فعله للأجرة لم يثب عَلَيْهِ الْفَاعِل وَلَا الْمُسْتَأْجر فَلَا يَلِيق بمحاسن الشَّرْع أَن يَجْعَل الْعِبَادَات الْخَالِصَة لَهُ معاملات تقصد بهَا الْمُعَاوَضَات والإكساب الدُّنْيَوِيَّة وَفَارق قَضَاء الدُّيُون وضمانها فَإِنَّهَا حُقُوق الْآدَمِيّين يَنُوب بَعضهم فِيهَا عَن بعض فَلذَلِك جَازَت فِي الْحَيَاة وَبعد الْمَوْت فصل وَأما قَوْلكُم لَو سَاغَ إهداء نصف الثَّوَاب وربعه إِلَى الْمَيِّت فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا منع الْمُلَازمَة فَإِنَّكُم لم تَذكرُوا عَلَيْهَا دَلِيلا إِلَّا مُجَرّد الدَّعْوَى الثَّانِي الْتِزَام ذَلِك وَالْقَوْل بِهِ نَص عَلَيْهِ الإِمَام احْمَد فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن يحيى الكحال وَوجه هَذَا أَن الثَّوَاب ملك لَهُ فَلهُ أَن يهديه جَمِيعه وَله أَن يهدى بعضه يُوضحهُ أَنه لَو أهداه إِلَى أَرْبَعَة مثلا يحصل لكل مِنْهُم ربعه فَإِذا أهْدى الرّبع وَأبقى لنَفسِهِ الْبَاقِي جَازَ كَمَا لَو أهداه إِلَى غَيره فصل وَأما قَوْلكُم لَو سَاغَ ذَلِك لساغ إهداؤه بعد أَن يعمله لنَفسِهِ وَقد قُلْتُمْ انه لَا بُد أَن ينوى حَال الْفِعْل إهداءه إِلَى الْمَيِّت وَإِلَّا لم يصل فَالْجَوَاب ان هَذِه الْمَسْأَلَة غير منصوصة عَن أَحْمد وَلَا هَذَا الشَّرْط فِي كَلَام الْمُتَقَدِّمين من أَصْحَابه وَإِنَّمَا ذكره الْمُتَأَخّرُونَ كَالْقَاضِي وَأَتْبَاعه قَالَ ابْن عقيل إِذا فعل طَاعَة من صَلَاة وَصِيَام وَقِرَاءَة قُرْآن وأهداها بِأَن جعل ثَوَابهَا للْمَيت الْمُسلم فَإِنَّهُ يصل إِلَيْهِ ذَلِك وينفعه بِشَرْط أَن يتَقَدَّم نِيَّة الْهَدِيَّة على الطَّاعَة أَو تقارنها وَقَالَ أَبُو عبد الله بن حمدَان فِي رعايته وَمن تطوع بقربة من صَدَقَة وَصَلَاة وَصِيَام وَحج وَعمرَة وَقِرَاءَة وَعتق وَغير ذَلِك من عبَادَة بدنية تدْخلهَا النِّيَابَة وَعبادَة مَالِيَّة وَجعل جَمِيع ثَوَابهَا أَو بعضه لمَيت مُسلم حَتَّى النَّبِي ودعا لَهُ أَو اسْتغْفر لَهُ أَو قضى مَا عَلَيْهِ من حق شَرْعِي أَو وَاجِب تدخله النِّيَابَة نَفعه ذَلِك وَوصل إِلَيْهِ أجره وَقيل إِن نَوَاه حَال فعله أَو قبله وصل إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وسر المسالة أَن أَو ان شَرط حُصُول الثَّوَاب أَن يَقع لمن أهْدى لَهُ أَولا وَيجوز أَن يَقع لِلْعَامِلِ ثمَّ ينْتَقل عَنهُ إِلَى غَيره فَمن شَرط أَن ينوى قبل الْفِعْل أَو الْفَرَاغ مِنْهُ وُصُوله قَالَ

فصل وأما قولكم لو ساغ الإهداء لساغ إهداء ثواب الواجبات التي تجب على

لَو لم يُنَوّه وَقع الثَّوَاب لِلْعَامِلِ فَلَا يقبل انْتِقَاله عَنهُ إِلَى غَيره فَإِن الثَّوَاب يَتَرَتَّب على الْعَمَل ترَتّب الْأَثر على مؤثره وَلِهَذَا لَو أعتق عبدا عَن نَفسه كَانَ وَلَاؤُه لَهُ فَلَو نقل وَلَاؤُه إِلَى غَيره بعد الْعتْق لم ينْتَقل بِخِلَاف مَا لَو أعْتقهُ عَن الْغَيْر فَإِن ولاءه يكون للْمُعْتق عَنهُ وَكَذَلِكَ لَو أدّى دينا عَن نَفسه ثمَّ أَرَادَ بعد الْأَدَاء ان يَجعله عَن غَيره لم يكن لَهُ ذَلِك وَكَذَلِكَ لَو حج أَو صَامَ أَو صلى لنَفسِهِ ثمَّ بعد ذَلِك أَرَادَ أَن يَجْعَل ذَلِك عَن غَيره لم يملك ذَلِك وَيُؤَيّد هَذَا أَن الَّذين سَأَلُوا النَّبِي عَن ذَلِك لم يسألوه عَن إهداء ثَوَاب الْعَمَل بعده وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ عَمَّا يَفْعَلُونَهُ عَن الْمَيِّت كَمَا قَالَ سعد أينفعها أَن أَتصدق عَنْهَا وَلم يقل أَن أهْدى لَهَا ثَوَاب مَا تَصَدَّقت بِهِ عَن نَفسِي وَكَذَلِكَ قَول الْمَرْأَة الْأُخْرَى أفأحج عَنْهَا وَقَول الرجل الآخر أفأحج عَن أَبى فأجابهم بِالْإِذْنِ فِي الْفِعْل عَن الْمَيِّت لَا بإهداء ثَوَاب مَا عملوه لأَنْفُسِهِمْ إِلَى موتاهم فَهَذَا لَا يعرف أَنه صلى سُئِلَ عَنهُ قطّ وَلَا يعرف عَن أحد من الصَّحَابَة أَنه فعله وَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَل لفُلَان ثَوَاب عَمَلي الْمُتَقَدّم أَو ثَوَاب مَا عملته لنَفْسي فَهَذَا سر الِاشْتِرَاط وَهُوَ افقه وَمن لم يشْتَرط ذَلِك يَقُول الثَّوَاب لِلْعَامِلِ فَإِذا تبرع بِهِ وأهداه إِلَى غَيره كَانَ بِمَنْزِلَة مَا يهديه إِلَيْهِ من مَاله فصل وَأما قَوْلكُم لَو سَاغَ الإهداء لساغ إهداء ثَوَاب الْوَاجِبَات الَّتِي تجب على الْحَيّ فَالْجَوَاب أَن هَذَا الْإِلْزَام محَال على أصل من شَرط فِي الْوُصُول نِيَّة الْفِعْل عَن الْمَيِّت فَإِن الْوَاجِب لَا يَصح أَن يَفْعَله عَن الْغَيْر فَإِن هَذَا وَاجِب على الْفَاعِل يجب عَلَيْهِ أَن ينوى بِهِ الْقرْبَة إِلَى الله وَأما من لم يشْتَرط نِيَّة الْفِعْل عَن الْغَيْر فَهَل يسوغ عِنْده أَن يَجْعَل للْمَيت ثَوَاب فرض من فروضه فِيهِ وَجْهَان قَالَ ابو عبد الله بن حمدَان وَقيل إِن جعل لَهُ ثَوَاب فرض من الصَّلَاة أَو صَوْم أَو غَيرهمَا جَازَ وأجزأ فَاعله قلت وَقد نقل عَن جمَاعَة أَنهم جعلُوا ثَوَاب أَعْمَالهم من فرض وَنقل للْمُسلمين وَقَالُوا نلقى الله بالفقر والإفلاس الْمُجَرّد والشريعة لَا تمنع من ذَلِك فالأجر ملك الْعَامِل فغن شَاءَ أَن يَجعله لغيره فَلَا حجر عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَالله أعلم فصل وَأما قَوْلكُم إِن التكاليف امتحان وابتلاء لَا تقبل الْبَدَل إِذْ الْمَقْصُود مِنْهَا عين الْمُكَلف الْعَامِل إِلَى آخِره

فصل وأما قولكم انه لو نفعه عمل غيره لنفعه توبته عنه وإسلامه عنه

الْجَواب عَنهُ أَن ذَلِك لَا يمْنَع إِذن الشَّارِع للْمُسلمِ أَن ينفع أَخَاهُ بِشَيْء من عمله بل هَذَا من تَمام إِحْسَان الرب وَرَحمته لِعِبَادِهِ وَمن كَمَال هَذِه الشَّرِيعَة الَّتِي شرعها لَهُم الَّتِي مبناها على الْعدْل وَالْإِحْسَان والتعارف والرب تَعَالَى أَقَامَ مَلَائكَته وَحَملَة عَرْشه يدعونَ لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُم ويسألونه لَهُم أَن يقيهم السَّيِّئَات وَأمر خَاتم رسله أَن يسْتَغْفر للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات وبقيمة يَوْم الْقِيَامَة مقَاما مَحْمُودًا ليشفع فِي العصاة من أَتْبَاعه وَأهل سنته وَقد أمره تَعَالَى أَن يصلى على أَصْحَابه فِي حياتهم وَبعد مماتهم وَكَانَ يقوم على قُبُورهم فيدعو لَهُم وَلَقَد اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَة على أَن المأثم الَّذِي على الْجَمِيع بترك فروض للكفايات يسْقط إِذا فعله من يحصل الْمَقْصُود بِفِعْلِهِ وَلَو وَاحِد وَأسْقط سُبْحَانَهُ الارتهان وحرارة الْجُلُود فِي الْقَبْر بِضَمَان الْحَيّ دين الْمَيِّت وأدائه عَنهُ وَإِن كَانَ ذَلِك الْوُجُوب امتحانا فِي حق الْمُكَلف وَأذن النَّبِي فِي الْحَج وَالصِّيَام عَن الْمَيِّت وَإِن كَانَ الْوُجُوب امتحانا فِي حَقه وَأسْقط عَن الْمَأْمُوم سُجُود السَّهْو بِصِحَّة صَلَاة الإِمَام وخلوها من السَّهْو وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة بتحمل الإِمَام لَهَا فَهُوَ يتَحَمَّل عَن الْمَأْمُوم سَهْوه وقراءته وسترته لقِرَاءَة الإِمَام وسترته قِرَاءَة لمن خَلفه وسترة لَهُ وَهل الْإِحْسَان إِلَى الْمُكَلف بإهداء الثَّوَاب إِلَيْهِ إِلَّا تأس بِإِحْسَان الرب تَعَالَى وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ والخلق عِيَال الله فأحبهم إِلَيْهِ أنفعهم لِعِيَالِهِ وَإِذ كَانَ سُبْحَانَهُ يحب من ينفع عِيَاله بِشَربَة مَاء ومذاقة لبن وكسرة خبز فَكيف من يَنْفَعهُمْ فِي حَال ضعفهم وفقرهم وَانْقِطَاع أَعْمَالهم وحاجتهم إِلَى شَيْء يهدى إِلَيْهِم أحْوج مَا كانونا اليه فَأحب الْخلق إِلَى الله من ينفع عِيَاله فِي هَذِه الْحَال وَلِهَذَا جَاءَ أثر عَن بعض السّلف أَنه من قَالَ كل يَوْم سبعين مرّة رب اغْفِر لي ولوالدي وللمسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات حصل لَهُ من الْأجر بِعَدَد كل مُسلم ومسلمة وَمُؤمن ومؤمنة وَلَا تستبعد هَذَا فَإِنَّهُ إِذا اسْتغْفر لإخوانه فقد أحسن إِلَيْهِم وَالله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ فصل وَأما قَوْلكُم انه لَو نَفعه عمل غَيره لنفعه تَوْبَته عَنهُ وإسلامه عَنهُ فَهَذِهِ الشُّبْهَة تورد على صُورَتَيْنِ صُورَة تلازم يدعى فِيهَا اللُّزُوم بَين الْأَمريْنِ ثمَّ يبين انْتِفَاء اللَّازِم فَيَنْتَفِي ملزومه وَصورتهَا هَكَذَا لَو نَفعه علم الْغَيْر عَنهُ لنفعه إِسْلَامه وتوبته عَنهُ لَكِن لَا يَنْفَعهُ ذَلِك فَلَا يَنْفَعهُ عمل الْغَيْر

فصل وأما قولكم العبادات نوعان نوع تدخله النيابة فيصل ثواب إهدائه

وَالصُّورَة الثَّانِيَة إِن يُقَال لَا ينْتَفع بِإِسْلَام الْغَيْر وتوبته عَنهُ فَلَا ينْتَفع بِصَلَاتِهِ وصيامه وقراءته عَنهُ وَمَعْلُوم أَن هَذَا التلازم والإقران بَاطِل قطعا أما أَولا فُلَانُهُ قِيَاس مصادم لما تظاهرت بِهِ النُّصُوص وَاجْتمعت عَلَيْهِ الْأمة وَأما ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ جمع بَين مَا فرق الله بَينه فَإِن الله سُبْحَانَهُ فرق بَين إِسْلَام الْمَرْء عَن غَيره وَبَين صدقته وحجه وعتقه عَنهُ فَالْقِيَاس المسوى بَينهمَا من جنس قِيَاس الَّذين قاسوا الْميتَة على المذكى والربا على البيع وَأما ثَالِثا فَإِن الله سُبْحَانَهُ جعل الْإِسْلَام سَببا لنفع الْمُسلمين بَعضهم بَعْضًا فِي الْحَيَاة وَبعد الْمَوْت فَإِذا لم يَأْتِ بِسَبَب انتفاعه بِعَمَل الْمُسلمين لم يحصل لَهُ ذَلِك النَّفْع كَمَا قَالَ النَّبِي لعَمْرو إِن أَبَاك لَو كَانَ أقرّ بِالتَّوْحِيدِ فَصمت أَو تَصَدَّقت عَنهُ نَفعه ذَلِك وَهَذَا كَمَا جعل سُبْحَانَهُ الْإِسْلَام سَببا لانتفاع العَبْد مِمَّا عمل من خير فَإِذا فَاتَهُ هَذَا السَّبَب لم يَنْفَعهُ خير عمله وَلم يقبل مِنْهُ كَمَا جعل الْإِخْلَاص والمتابعة سَببا لقبُول الْأَعْمَال فَإِذا فقد لم تقبل الْأَعْمَال وكما جعل الْوضُوء وَسَائِر شُرُوط الصَّلَاة سَببا لصحتها فَإِذا فقدت فقدت الصِّحَّة وَهَذَا شَأْن سَائِر الْأَسْبَاب مَعَ مسبباتها الشَّرْعِيَّة والعقلية والحسية فَمن سوى بني حَالين وجود السَّبَب وَعَدَمه فَهُوَ مُبْطل وَنَظِير هَذَا الهوس أَن يُقَال لَو قبلت الشَّفَاعَة فِي العصاة لقبلت فِي الْمُشْركين وَلَو خرج أهل الْكَبَائِر من الْمُوَحِّدين من النَّار لخرج الْكفَّار مِنْهَا وأمثال ذَلِك من الأقيسة الَّتِي هِيَ من نجاسات معد أَصْحَابهَا ورجيع أَفْوَاههم وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأولى بِأَهْل الْعلم الْأَعْرَاض عَن الِاشْتِغَال بِدفع هَذِه الهذيانات لَوْلَا أَنهم قد سودوا بهَا صحف الْأَعْمَال والصحف الَّتِي بَين النَّاس فصل وَأما قَوْلكُم الْعِبَادَات نَوْعَانِ نوع تدخله النِّيَابَة فيصل ثَوَاب إهدائه إِلَى الْمَيِّت وَنَوع لَا تدخله فَلَا يصل ثَوَابه فَهَذَا هُوَ نفس الْمَذْهَب وَالدَّعْوَى فَكيف تحتجون بِهِ وَمن أَيْن لكم هَذَا الْفرق فَأَي كتاب أم أَي سنة أم أَي اعْتِبَار دلّ عَلَيْهِ حَتَّى يجب الْمصير إِلَيْهِ

فصل وأما رد حديث رسول الله وهو قوله من مات وعليه صيام

وَقد شرع النَّبِي الصَّوْم عَن الْمَيِّت مَعَ أَن الصَّوْم لَا تدخله النِّيَابَة وَشرع للْأمة أَن يَنُوب بَعضهم عَن بعض فِي أَدَاء فرض الْكِفَايَة فَإِذا فعله وَاحِد نَاب عَن البَاقِينَ فِي فعله وَسقط عَنْهُم المأثم وَشرع لقيم الطِّفْل الَّذِي لَا يعقل أَن يَنُوب عَنهُ فِي الْإِحْرَام وأفعال الْمَنَاسِك وَحكم لَهُ بِالْأَجْرِ بِفعل نَائِبه وَقد قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يحرم الرّفْقَة عَن الْمغمى عَلَيْهِ فَجعلُوا إِحْرَام رفقته بِمَنْزِلَة إِحْرَامه وَجعل الشَّارِع إِسْلَام الْأَبَوَيْنِ بِمَنْزِلَة إِسْلَام أطفالهما وَكَذَلِكَ إِسْلَام السابي وَالْمَالِك على القَوْل الْمَنْصُوص فقد رَأَيْت كَيفَ عدت هَذِه الشَّرِيعَة الْكَامِلَة أَفعَال الْبر من فاعلها إِلَى غَيرهم فَكيف يَلِيق بهَا أَن تحجر على العَبْد أَن ينفع وَالِديهِ ورحمه وإخوانه من الْمُسلمين فِي أعظم أَوْقَات حاجاتهم بِشَيْء من الْخَيْر عَلَيْهِ الشَّارِع فِي ثَوَاب عمله أَن يصرف مِنْهُ مَا شَاءَ إِلَى من شَاءَ من الْمُسلمين وَالَّذِي أوصل ثَوَاب الْحَج وَالصَّدَََقَة وَالْعِتْق هُوَ بِعَيْنِه الَّذِي يُوصل ثَوَاب الصّيام وَالصَّلَاة وَالْقِرَاءَة وَالِاعْتِكَاف وَهُوَ إِسْلَام المهدى وتبرع المهدى وإحسانه وَعدم حجر الشَّارِع عَلَيْهِ فِي الْإِحْسَان بل نَدبه إِلَى الْإِحْسَان بِكُل طَرِيق وَقد تواطأت رُؤْيا الْمُؤمنِينَ وتواترت أعظم تَوَاتر على أَخْبَار الْأَمْوَات لَهُم بوصول مَا يهدونه إِلَيْهِم من قِرَاءَة وَصَلَاة وَصدقَة وَحج وَغَيره وَلَو ذكرنَا مَا حكى لنا من أهل عصرنا وَمَا بلغنَا عَمَّن قبلنَا من ذَلِك لطال جدا وَقد قَالَ النَّبِي أرى رؤياكم قد تواطأت على أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر فأعتبر تواطؤ رُؤْيا الْمُؤمنِينَ وَهَذَا كَمَا يعْتَبر تواطؤ روايتهم لما شاهدوه فهم لَا يكذبُون فِي روايتهم وَلَا فِي رؤياهم إِذا تواطأت فصل وَأما رد حَدِيث رَسُول الله وَهُوَ قَوْله من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه بِتِلْكَ الْوُجُوه الَّتِي ذكرتموها فَنحْن ننتصر لحَدِيث رَسُول الله ونبين مُوَافَقَته للصحيح من تِلْكَ الْوُجُوه وَأما الْبَاطِل فيكفينا بُطْلَانه من معارضته للْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح الَّذِي لَا تغمز قناته وَلَا سَبِيل إِلَى مُقَابلَته إِلَّا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة والإذعان وَالْقَبُول وَلَيْسَ لنا بعده الْخيرَة بل الْخيرَة وكل الْخيرَة فِي التَّسْلِيم لَهُ وَالْقَوْل بِهِ وَلَو خَالفه من بَين الْمشرق وَالْمغْرب فَأَما قَوْلكُم نرده بقول مَالك فِي موطئِهِ لَا يَصُوم أحد عَن أحد فمنازعوكم يَقُولُونَ بل نرد قَول مَالك هَذَا بقول النَّبِي فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بِالصَّوَابِ وَأحسن ردا

فصل أما قولكم ابن عباس هو راوي حديث الصوم عن الميت وقد قال

وَأما قَوْله وَهُوَ أَمر مجمع عَلَيْهِ عندنَا لَا خلاف فِيهِ فمالك رَحمَه الله لم يحك إِجْمَاع الْأمة من شَرق الأَرْض وغربها وَإِنَّمَا حكى قَول أهل الْمَدِينَة فِيمَا بلغه وَلم يبلغهُ خلاف بَينهم وَعدم اطِّلَاعه رَحمَه الله على الْخلاف فِي ذَلِك لَا يكون مسْقطًا لحَدِيث رَسُول الله بل لَو أجمع عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة كلهم لَكَانَ الْأَخْذ بِحَدِيث الْمَعْصُوم أولى من الْأَخْذ بقول أهل الْمَدِينَة الَّذين لم تضمن لنا الْعِصْمَة فِي قَوْلهم دون الْأمة وَلم يَجْعَل الله وَرَسُوله أَقْوَالهم حجَّة يجب الرَّد عِنْد التَّنَازُع إِلَيْهَا بل قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} وان كَانَ مَالك وَأهل الْمَدِينَة قد قَالُوا لَا يَصُوم أحد عَن أحد فقد روى الحكم بن عتيبة وَسَلَمَة بن كهيل عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَنه أفتى فِي قَضَاء رَمَضَان يطعم عَنهُ وَفِي النّذر يصام عَنهُ وَهَذَا مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَكثير من أهل الحَدِيث وَقَول أَبى عبيد وَقَالَ أَبُو ثَوْر يصام عَنهُ النّذر وَغَيره وَقَالَ الْحسن بن صَالح فِي النّذر يَصُوم عَنهُ وليه فصل أما قَوْلكُم ابْن عَبَّاس هُوَ رَاوِي حَدِيث الصَّوْم عَن الْمَيِّت وَقد قَالَ لَا يَصُوم أحد عَن أحد فغاية هَذَا أَن يكون الصَّحَابِيّ قد أفتى بِخِلَاف مَا رَوَاهُ وَهَذَا لَا يقْدَح فِي رِوَايَته فَإِن رِوَايَته معصومة وفتواه غير معصومة وَيجوز أَن يكون نسى الحَدِيث أَو تَأَوَّلَه أَو اعْتقد لَهُ مُعَارضا راجحا فِي ظَنّه أَو لغير ذَلِك من الْأَسْبَاب على أَن فَتْوَى ابْن عَبَّاس غير مُعَارضَة للْحَدِيث فَإِنَّهُ أفتى فِي رَمَضَان أَنه لَا يَصُوم أحد عَن أحد وَأفْتى فِي النّذر أَنه يصام عَنهُ وَلَيْسَ هَذَا بمخالف لروايته بل حمل الحَدِيث على النّذر ثمَّ إِن حَدِيث من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه هُوَ ثَابت من رِوَايَة عَائِشَة رضى الله عَنْهَا فَهَب أَن ابْن عَبَّاس خَالفه فَكَانَ مَاذَا فخلاف ابْن عَبَّاس لَا يقْدَح فِي رِوَايَة أم الْمُؤمنِينَ بل رد قَول ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة عَائِشَة رضى الله عَنْهَا أولى من رد رِوَايَتهَا بقوله وَأَيْضًا فَإِن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قد اخْتلف عَنهُ فِي ذَلِك وَعنهُ رِوَايَتَانِ فَلَيْسَ إِسْقَاط الحَدِيث للرواية الْمُخَالفَة لَهُ عَنهُ أولى من إِسْقَاطهَا بالرواية الْأُخْرَى بِالْحَدِيثِ فصل وَأما قَوْلكُم انه حَدِيث اخْتلف فِي إِسْنَاده فَكَلَام مجازف لَا يقبل قَوْله فَالْحَدِيث صَحِيح ثَابت مُتَّفق على صِحَّته رَوَاهُ صاحبا الصَّحِيح وَلم يخْتَلف فِي إِسْنَاده

قَالَ ابْن الْبر ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه وَصَححهُ الإِمَام أَحْمد وَذهب إِلَيْهِ وعلق الشَّافِعِي القَوْل بِهِ على صِحَّته فَقَالَ وَقد روى عَن النَّبِي فِي الصَّوْم عَن الْمَيِّت شَيْء فَإِن كَانَ ثَابتا صيم عَنهُ كَمَا يحجّ عَنهُ وَقد ثَبت بِلَا شكّ فَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي كَذَلِك قَالَ غير وَاحِد من أَئِمَّة أَصْحَابه قَالَ البيهقى بعد حكايته هَذَا اللَّفْظ عَن الشَّافِعِي قد ثَبت جَوَاز الْقَضَاء عَن الْمَيِّت بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير وَمُجاهد وَعَطَاء وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس وَفِي رِوَايَة أَكْثَرهم إِن امْرَأَة سَأَلت فَأشبه أَن تكون غير قصَّة أم سعد وَفِي رِوَايَة بَعضهم صومي عَن أمك وَسَيَأْتِي تَقْرِير ذَلِك عِنْد الْجَواب عَن كَلَامه رَحمَه الله وقولكم أَنه معَارض بِنَصّ الْقُرْآن وَهُوَ قَوْله {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} إساءة أدب فِي اللَّفْظ وَخطأ عَظِيم فِي الْمَعْنى وَقد أعاذ الله رَسُوله أَن تعَارض سنته لنصوص الْقُرْآن بل تعاضدها وتؤيدها ويالله مَا يصنع التعصب ونصرة التَّقْلِيد وَقد تقدم من الْكَلَام على الْآيَة مَا فِيهِ كِفَايَة وَبينا أَنَّهَا لَا تعَارض بَينهَا وَبَين سنة رَسُول الله بِوَجْه وَإِنَّمَا يظنّ التَّعَارُض من سوء الْفَهم وَهَذِه طَريقَة وخيمة ذميمة وَهِي رد السّنَن الثَّابِتَة بِمَا يفهم من ظَاهر الْقُرْآن وَالْعلم كل الْعلم تَنْزِيل السّنَن على الْقُرْآن فَإِنَّهَا مُشْتَقَّة مِنْهُ ومأخوذة عَمَّن جَاءَ بِهِ وَهِي بَيَان لَهُ لَا أَنَّهَا مناقضة لَهُ وقولكم أَنه معَارض بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن النَّبِي انه قَالَ لَا يصلى أحد عَن أحد وَلَا يَصُوم أحد عَن أحد وَلَكِن يطعم عَنهُ كل يَوْم مد من حِنْطَة فخطأ قَبِيح فَإِن النَّسَائِيّ رَوَاهُ هَكَذَا أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا حجاج الْأَحول حَدثنَا أَيُّوب بن مُوسَى عَن عَطاء بن أَبى رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ لَا يصلى أحد عَن أحد وَلَا يَصُوم أحد عَن أحد وَلَكِن يطعم عَنهُ مَكَان كل يَوْم مد من حِنْطَة هَكَذَا رَوَاهُ قَول ابْن عَبَّاس لَا قَول رَسُول الله فَكيف يُعَارض قَول رَسُول الله بقول ابْن عَبَّاس ثمَّ يقدم عَلَيْهِ مَعَ ثُبُوت الْخلاف عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا وَرَسُول الله لم يقل هَذَا الْكَلَام قطّ وَكَيف يَقُوله وَقد ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه قَالَ من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه وَكَيف يَقُوله وَقد قَالَ فِي حَدِيث بُرَيْدَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه أَن امْرَأَة قَالَت لَهُ إِن أمى مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم شهر قَالَ صومي عَن أمك وَأما قَوْلكُم انه معَارض بِحَدِيث ابْن عمر رضى الله عَنْهُمَا من مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم رَمَضَان يطعم عَنهُ فَمن هَذَا النمط فَإِنَّهُ حَدِيث بَاطِل على رَسُول الله

فصل وأما كلام الشافعي رحمه الله في تغليط راوي حديث ابن عباس رضى

قَالَ البيهقى حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبى ليلى عَن نَافِع عَن ابْن عمر رضى الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي من مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم رَمَضَان يطعم عَنهُ لَا يَصح وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن كثير الْوَهم وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَصْحَاب نَافِع عَنهُ نَافِع عَن ابْن عمر رضى الله عَنْهُمَا من قَوْله وَأما قَوْلكُم أَنه معَارض بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ على الصَّلَاة وَالْإِسْلَام وَالتَّوْبَة فَإِن أحدا لَا يَفْعَلهَا عَن أحد فلعمر الله انه لقياس جلى الْبطلَان وَالْفساد لرد سنة رَسُول الله الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة لَهُ وشهادتها بِبُطْلَانِهِ وَقد أوضحنا الْفرق بَين قبُول الْإِسْلَام عَن الْكَافِر بعد مَوته وَبَين انْتِفَاع الْمُسلم بِمَا يهديه إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسلم من ثَوَاب صِيَام أَو صَدَقَة أَو صَلَاة ولعمر الله إِن الْفرق بَينهمَا أوضح من أَن يخفي وَهل فِي الْقيَاس أفسد من قِيَاس انْتِفَاع الْمُسلم بعد مَوته بِمَا يهديه إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسلم من ثَوَاب عمله على قبُول الْإِسْلَام عَن الْكَافِر بعد مَوته أَو قبُول التَّوْبَة عَن المجرم بعد مَوته فصل وَأما كَلَام الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي تغليط رَاوِي حَدِيث ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا أَن نذر أم سعد كَانَ صوما فقد أجَاب عَنهُ أنْصر النَّاس لَهُ هُوَ البيهقى وَنحن نذْكر كَلَامه بِلَفْظِهِ قَالَ فِي كتاب الْمعرفَة بعد أَن حكى كَلَامه قد ثَبت جَوَاز الْقَضَاء عَن الْمَيِّت بِرِوَايَة سعيد ابْن جُبَير وَمُجاهد وَعَطَاء وَعِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا وَفِي رِوَايَة أَكْثَرهم أَن امْرَأَة سَأَلت فَأشبه أَن تكون غير قصَّة أم سعد وَفِي رِوَايَة بَعضهم صومي عَن أمك قَالَ وَتشهد لَهُ بِالصِّحَّةِ رِوَايَة عبد الله بن عَطاء الْمدنِي قَالَ حَدثنِي عبد الله بن بُرَيْدَة الأسلمى عَن أَبِيه قَالَ كنت عِنْد النَّبِي فَأَتَتْهُ امْرَأَة فَقَالَت يَا رَسُول الله إِنِّي كنت تَصَدَّقت بوليدة على أُمِّي فَمَاتَتْ وَبقيت الوليدة قَالَ قد وَجب أجرك وَرجعت إِلَيْك فِي الْمِيرَاث قَالَت فَإِنَّهَا مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم شهر قَالَ صومي عَن أمك قَالَت وَإِنَّهَا مَاتَت وَلم تحج قَالَ فحجى عَن أمك رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه من أوجه عَن عبد الله بن عَطاء انتهي قلت وَقد روى أَبُو بكر بن أَبى شيبَة حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن مُسلم البطين عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صِيَام شهر أفأقضيه عَنْهَا فَقَالَ النَّبِي لَو كَانَ عَلَيْهَا دين أَكنت قاضيه عَنْهَا قَالَ نعم قَالَ فدين الله أَحَق أَن يقْضى

فصل ونحن نذكر أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت لئلا يتوهم أن

وَرَوَاهُ أَبُو خَيْثَمَة حَدثنَا مُعَاوِيَة بن عَمْرو حَدثنَا زَائِدَة عَن الْأَعْمَش فَذكره وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا عَبْثَر عَن الْأَعْمَش فَذكره فَهَذَا غير حَدِيث أم سعد إِسْنَادًا ومتنا فان قصَّة أم سعد رَوَاهَا مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا أَن سعد بن عبَادَة استفتى رَسُول الله فَقَالَ إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا نذر فَقَالَ النَّبِي اقضه عَنْهَا هَكَذَا أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَهَب أَن هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ فِي هَذَا الحَدِيث أَنه نذر مُطلق لم يسم فَهَل يكون هَذَا فِي حَدِيث الْأَعْمَش عَن مُسلم البطين عَن سعيد بن جُبَير على أَن ترك استفصال النَّبِي لسعد فِي النّذر هَل كَانَ صَلَاة أَو صَدَقَة أَو صياما مَعَ أَن النَّاذِر قد ينذر هَذَا وَهَذَا يدل على أَنه لَا فرق بَين قَضَاء نذر الصّيام وَالصَّلَاة وَإِلَّا لقَالَ لَهُ مَا هُوَ النّذر فان النّذر إِذا انقسم إِلَى قسمَيْنِ نذر يقبل الْقَضَاء عَن الْمَيِّت وَنذر لَا يقبله لم يكن من الاستفصال فصل وَنحن نذْكر أَقْوَال أهل الْعلم فِي الصَّوْم عَن الْمَيِّت لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن فِي الْمَسْأَلَة إِجْمَاعًا بِخِلَافِهِ قَالَ عبد الله بن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا يصام عَنهُ فِي النّذر وَيطْعم عَنهُ فِي قَضَاء رَمَضَان وَهَذَا مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَقَالَ أَبُو ثَوْر يصام عَنهُ النّذر وَالْفَرْض وَكَذَلِكَ قَالَ دَاوُد بن على وَأَصْحَابه يصام عَنهُ نذرا كَانَ أَو فرضا وَقَالَ الأوزاعى يَجْعَل وليه مَكَان الصَّوْم صَدَقَة فان لم يجد صَامَ عَنهُ وَهَذَا قَول سُفْيَان الثَّوْريّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام يصام عَنهُ النّذر وَيطْعم عَنهُ فِي الْفَرْض وَقَالَ الْحسن إِذا كَانَ عَلَيْهِ صِيَام شهر فصَام عَنهُ ثَلَاثُونَ رجلا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ فصل وَأما قَوْلكُم أَنه يصل إِلَيْهِ فِي الْحَج ثَوَاب النَّفَقَة دون أَفعَال الْمَنَاسِك فدعوى مُجَرّدَة بِلَا برهَان وَالسّنة تردها فان النَّبِي قَالَ حج عَن أَبِيك وَقَالَ للْمَرْأَة حجى عَن أمك فَأخْبر أَن الْحَج نَفسه عَن الْمَيِّت وَلم يقل إِن الْإِنْفَاق هُوَ الَّذِي يَقع عَنهُ

فصل فإن قيل فهل تشترطون في وصول الثواب ان يهديه بلفظه أم يكفي

وَكَذَلِكَ قَالَ للَّذي سَمعه يلبى عَن شبْرمَة حج عَن نَفسك ثمَّ حج عَن شبْرمَة وَلما سَأَلته الْمَرْأَة عَن الطِّفْل الَّذِي مَعهَا فَقَالَت أَلِهَذَا حج قَالَ نعم وَلم يقل إِنَّمَا لَهُ ثَوَاب الْإِنْفَاق بل أخبر أَن لَهُ حجا مَعَ أَنه لم يفعل شَيْئا بل وليه يَنُوب عَنهُ فِي أَفعَال الْمَنَاسِك ثمَّ إِن النَّائِب عَن الْمَيِّت قد لَا ينْفق شَيْئا فِي حجَّته غير نَفَقَة مقَامه فَمَا الَّذِي يَجْعَل نَفَقَة ثَوَاب نَفَقَة مقَامه للمحجوج عَنهُ وَهُوَ لم ينفقها على الْحَج بل تِلْكَ نَفَقَته أَقَامَ أم سَافر فَهَذَا القَوْل ترده السّنة وَالْقِيَاس وَالله أعلم فصل فَإِن قيل فَهَل تشترطون فِي وُصُول الثَّوَاب ان يهديه بِلَفْظِهِ أم يَكْفِي فِي وُصُوله مُجَرّد نيه الْعَامِل أَن يهديها إِلَى الْغَيْر قيل السّنة لم تشْتَرط التَّلَفُّظ بالإهداء فِي حَدِيث وَاحِد بل أطلق الْفِعْل عَن الْغَيْر كَالصَّوْمِ وَالْحج وَالصَّدَََقَة وَلم يقل لفاعل ذَلِك وَقل اللَّهُمَّ هَذَا عَن فلَان ابْن فلَان وَالله سُبْحَانَهُ يعلم نِيَّة العَبْد وقصده بِعَمَلِهِ فان ذكره جَازَ وَإِن ترك ذكره واكتفي بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْد وصل إِلَيْهِ وَلَا يحْتَاج أَن يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي صَائِم غَدا عَن فلَان ابْن فلَان وَلِهَذَا وَالله أعلم اشْترط من اشْترط نِيَّة الْفِعْل عَن الْغَيْر قبله ليَكُون وَاقعا بِالْقَصْدِ عَن الْمَيِّت فَأَما إِذا فعله لنَفسِهِ ثمَّ نوى أَن يَجْعَل ثَوَابه للْغَيْر لم يصر الْغَيْر بِمُجَرَّد النِّيَّة كَمَا لَو نوى أَن يهب أَو يعْتق أَو يتَصَدَّق لم يحصل ذَلِك بِمُجَرَّد النِّيَّة وَبِمَا يُوضح ذَلِك أَنه لَو بنى مَكَانا بنية أَن يَجعله مَسْجِدا أَو مدرسة أَو ساقية وَنَحْو ذَلِك صَار وَقفا بِفِعْلِهِ مَعَ النِّيَّة وَلم يحْتَج إِلَى تلفظ وَكَذَلِكَ لَو أعْطى الْفَقِير مَالا بنية الزَّكَاة سَقَطت عَنهُ الزَّكَاة وَإِن لم يتَلَفَّظ بهَا وَكَذَلِكَ لَو أدّى عَن غَيره دينا حَيا كَانَ أَو مَيتا سقط من ذمَّته وَإِن لم يقل هَذَا عَن فلَان فَإِن قيل فَهَل يتَعَيَّن عَلَيْهِ تَعْلِيق الإهداء بِأَن يَقُول اللَّهُمَّ إِن كنت قبلت هَذَا الْعَمَل وأثبتنى عَلَيْهِ فَاجْعَلْ ثَوَابه لفُلَان أم لَا قيل لَا يتَعَيَّن ذَلِك لفظا وَلَا قصدا بل لَا فَائِدَة فِي هَذَا الشَّرْط فان الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يفعل هَذَا سَوَاء شَرطه أَو لم يشرطه فَلَو كَانَ سُبْحَانَهُ يفعل غير هَذَا بِدُونِ الشَّرْط كَانَ فِي الشَّرْط فَائِدَة وَأما قَوْله اللَّهُمَّ إِن كنت اثبتنى على هَذَا فَاجْعَلْ ثَوَابه لفُلَان فَهُوَ بِنَاء على ان الثَّوَاب يَقع لِلْعَامِلِ ثمَّ ينْتَقل مِنْهُ إِلَى من أهْدى لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِك بل إِذا نوى حَال الْفِعْل

انه عَن فلَان وَقع الثَّوَاب أَولا عَن الْمَعْمُول لَهُ كَمَا لَو أعتق عَبده عَن غَيره لَا نقُول ان الْوَلَاء يَقع للْمُعْتق ثمَّ ينْتَقل عَنهُ إِلَى الْمُعْتق عَنهُ فَهَكَذَا هَذَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فَإِن قيل فَمَا الْأَفْضَل انه يهدى إِلَى الْمَيِّت قيل الْأَفْضَل مَا كَانَ أَنْفَع فِي نَفسه فالعتق عَنهُ وَالصَّدَََقَة أفضل من الصّيام عَنهُ وَأفضل الصَّدَقَة مَا صادفت حَاجَة من الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ وَكَانَت دائمة مستمرة وَمِنْه قَول النَّبِي افضل الصَّدَقَة سقى المَاء وَهَذَا فِي مَوضِع يقل فِيهِ المَاء وَيكثر فِيهِ الْعَطش وَإِلَّا فسقى المَاء على الْأَنْهَار والقنى لَا يكون أفضل من إطْعَام الطَّعَام عِنْد الْحَاجة وَكَذَلِكَ الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار لَهُ إِذا كَانَ بِصدق من الدَّاعِي وإخلاص وتضرع فَهُوَ فِي مَوْضِعه افضل من الصَّدَقَة عَنهُ كَالصَّلَاةِ على الْجِنَازَة وَالْوُقُوف للدُّعَاء على قَبره وَبِالْجُمْلَةِ فأفضل مَا يهدى إِلَى الْمَيِّت الْعتْق وَالصَّدَََقَة وَالِاسْتِغْفَار لَهُ وَالدُّعَاء لَهُ وَالْحج عَنهُ وَأما قِرَاءَة الْقُرْآن وإهداؤها لَهُ تَطَوّعا بِغَيْر أُجْرَة فَهَذَا يصل إِلَيْهِ كَمَا يصل ثَوَاب الصَّوْم وَالْحج فَإِن قيل فَهَذَا لم يكن مَعْرُوفا فِي السّلف وَلَا يُمكن نَقله عَن وَاحِد مِنْهُم مَعَ شدَّة حرصهم على الْخَيْر وَلَا أرشدهم النَّبِي وَقد أرشدهم إِلَى الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار وَالصَّدَََقَة وَالْحج وَالصِّيَام فَلَو كَانَ ثَوَاب الْقِرَاءَة يصل لأرشدهم إِلَيْهِ ولكانوا يَفْعَلُونَهُ فَالْجَوَاب أَن مورد هَذَا السُّؤَال إِن كَانَ معترفا بوصول ثَوَاب الْحَج وَالصِّيَام وَالدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار قيل لَهُ مَا هَذِه الخاصية الَّتِي منعت بوصول ثَوَاب الْقُرْآن واقتضت وُصُول ثَوَاب الْقُرْآن واقتضت وُصُول ثَوَاب هَذِه الْأَعْمَال وَهل هَذَا إِلَّا تَفْرِيق بَين المتماثلات وان لم يعْتَرف بوصول تِلْكَ الْأَشْيَاء إِلَى الْمَيِّت فَهُوَ محجوج بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وقواعد الشَّرْع وَأما السَّبَب الَّذِي لأَجله يظْهر ذَلِك فِي السّلف فَهُوَ أَنهم لم يكن لَهُم أوقاف على من يقْرَأ ويهدى إِلَى الْمَوْتَى وَلَا كَانُوا يعْرفُونَ ذَلِك الْبَتَّةَ وَلَا كَانُوا يقصدون الْقَبْر للْقِرَاءَة عِنْده كَمَا يَفْعَله النَّاس الْيَوْم وَلَا كَانَ أحدهم يشْهد من حَضَره من النَّاس على أَن ثَوَاب هَذِه الْقِرَاءَة لفُلَان الْمَيِّت بل وَلَا ثَوَاب هَذِه الصَّدَقَة وَالصَّوْم

ثمَّ يُقَال لهَذَا الْقَائِل لَو كلفت أَن تنقل عَن وَاحِد من السّلف أَنه قَالَ اللَّهُمَّ ثَوَاب هَذَا الصَّوْم لفُلَان لعجزت فَإِن الْقَوْم كَانُوا أحرص شَيْء على كتمان أَعمال الْبر فَلم يَكُونُوا ليشهدوا على الله بإيصال ثَوَابهَا إِلَى أمواتهم فَإِن قيل فَرَسُول الله أرشدهم إِلَى الصَّوْم وَالصَّدَََقَة وَالْحج دون الْقِرَاءَة قيل هُوَ يبتدئهم بذلك بل خرج ذَلِك مِنْهُ مخرج الْجَواب لَهُم فَهَذَا سَأَلَهُ عَن الْحَج عَن ميته فَإِذن لَهُ وَهَذَا سَأَلَهُ عَن الصّيام عَنهُ فَإِذن لَهُ وَهَذَا سَأَلَهُ عَن الصَّدَقَة فَإِذن لَهُ وَلم يمنعهُم مِمَّا سوى ذَلِك وَأي فرق بَين وُصُول ثَوَاب الصَّوْم الَّذِي هُوَ مُجَرّد نِيَّة وإمساك بَين وُصُول ثَوَاب الْقِرَاءَة وَالذكر وَالْقَائِل أَن أحدا من السّلف لم يفعل ذَلِك قَائِل مَالا علم لَهُ بِهِ فَإِن هَذِه شَهَادَة على نفي مَا لم يعمله فَمَا يدريه أَن السّلف كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك وَلَا يشْهدُونَ من حضرهم عَلَيْهِ بل يَكْفِي اطلَاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لَا سِيمَا والتلفظ بنية الإهداء لَا يشْتَرط كَمَا تقدم وسر الْمَسْأَلَة أَن الثَّوَاب ملك الْعَامِل فَإِذا تبرع بِهِ وأهداه إِلَى أَخِيه الْمُسلم أوصله الله إِلَيْهِ فَمَا الَّذِي خص من هَذَا ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن وَحجر على العَبْد أَن يوصله إِلَى أَخِيه وَهَذَا عمل سَائِر النَّاس حَتَّى المنكرين فِي سَائِر الإعصار والأمصار من غير نَكِير من الْعلمَاء فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِي الإهداء إِلَى رَسُول الله قيل من الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين من استحبه وَمِنْهُم من لم يستحبه وَرَآهُ بِدعَة فان الصَّحَابَة لم يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ وَأَن النَّبِي لَهُ أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أَن ينقص من أجر الْعَامِل شَيْء لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دلّ أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إِلَيْهِ وَمن دَعَا إِلَى هدى فَلهُ من الْأجر مثل أجور من تبعه من غير أَن ينقص من أُجُورهم شَيْء وكل هدى وَعلم فَإِنَّمَا نالته أمته على يَده فَلهُ مثل أجر من اتبعهُ أهداه إِلَيْهِ أول لم يهده وَالله أعلم

المسألة السابعة عشرة

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة وَهِي هَل الرّوح قديمَة أَو محدثة مخلوقة وَإِذا كَانَت محدثة مخلوقة وَهِي من أَمر الله فَكيف يكون أَمر الله مُحدثا مخلوقا وَقد أخبر سُبْحَانَهُ أَنه نفخ فِي آدم من روحه فَهَذِهِ الْإِضَافَة إِلَيْهِ هَل تدل على أَنَّهَا قديمَة أم لَا وَمَا حَقِيقَة هَذِه الْإِضَافَة فقد أخبر عَن آدم أَنه خلقه بِيَدِهِ وَنفخ فِيهِ من روحه فأضاف الْيَد وَالروح إِلَيْهِ إِضَافَة وَاحِدَة فَهَذِهِ مَسْأَلَة زل فِيهَا عَالم وضل فِيهَا طوائف من بنى آدم وَهدى الله اتِّبَاع رَسُوله فِيهَا للحق الْمُبين وَالصَّوَاب المستبين فأجمعت الرُّسُل صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم على أَنَّهَا محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مُدبرَة هَذَا مَعْلُوم بالاضطرار من دين الرُّسُل صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم كَمَا يعلم بالاضطرار من دينهم أَن الْعَالم حَادث وَأَن معاد الْأَبدَان وَاقع وَأَن الله وَحده الْخَالِق وكل مَا سواهُ مَخْلُوق لَهُ وَقد انطوى عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم وهم الْقُرُون الْفَضِيلَة على ذَلِك من غير اخْتِلَاف بَينهم فِي حدوثها وَأَنَّهَا مخلوقة حَتَّى نبغت نَابِغَة مِمَّن قصر فهمه فِي الْكتاب وَالسّنة فَزعم أَنَّهَا قديمَة غير مخلوقة وَاحْتج بِأَنَّهَا من أَمر الله وَأمره غير مَخْلُوق وَبِأَن الله تَعَالَى أضافها إِلَيْهِ كَمَا أضَاف إِلَيْهِ علمه وَكتابه وَقدرته وسَمعه وبصره وَيَده وَتوقف آخَرُونَ فَقَالُوا لَا نقُول مخلوقة وَلَا غير مخلوقة وَسُئِلَ عَن ذَلِك حَافظ أَصْبَهَان أَبُو عبد الله بن مَنْدَه فَقَالَ أما بعد فَإِن سَائِلًا سَأَلَني عَن الرّوح الَّتِي جعلهَا الله سُبْحَانَهُ قوام نفس الْخلق وأبدانهم وَذكر أَن أَقْوَامًا تكلمُوا فِي الرّوح وَزَعَمُوا أَنَّهَا غير مخلوقة وَخص بَعضهم مِنْهَا أَرْوَاح الْقُدس وَأَنَّهَا من ذَات الله قَالَ وَأَنا أذكر اخْتِلَاف أقاويل متقدميهم وَأبين مَا يُخَالف أقاويلهم من الْكتاب والأثر وأقاويل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأهل الْعلم وأذكر بعد ذَلِك وُجُوه الرّوح من الْكتاب والأثر وأوضح خطأ الْمُتَكَلّم فِي الرّوح بِغَيْر علم وَأَن كَلَامهم يُوَافق قَول جهم وَأَصْحَابه فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي معرفَة الْأَرْوَاح ومحلها من النَّفس فَقَالَ بَعضهم الْأَرْوَاح كلهَا مخلوقة وَهَذَا مَذْهَب أهل الْجَمَاعَة والأثر وَاحْتَجُّوا بقول النَّبِي الْأَرْوَاح جنود مجنده فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف والجنود المجندة لَا تكون إِلَّا مخلوقة وَقَالَ بَعضهم الْأَرْوَاح من أَمر الله أُخْفِي الله حَقِيقَتهَا وَعلمهَا عَن الْخلق وَاحْتَجُّوا بقول الله تَعَالَى {قل الرّوح من أَمر رَبِّي}

وَقَالَ بَعضهم الْأَرْوَاح نور من أنوار الله تَعَالَى وحياة من حَيَاته واحتجت بقول النَّبِي إِن الله خلق خلقه فِي ظلمَة وَألقى عَلَيْهِم من نوره ثمَّ ذكر الْخلاف فِي الْأَرْوَاح هَل تَمُوت أم لَا وَهل تعذب مَعَ الأجساد فِي البرزخ وَفِي مستقرها بعد الْمَوْت وَهل هِيَ النَّفس أَو غَيرهَا وَقَالَ مُحَمَّد بن نصر المروزى فِي كِتَابه تَأَول صنف من الزَّنَادِقَة وصنف من الروافض فِي روح آدم مَا تأولته النَّصَارَى فِي روح عِيسَى وَمَا تَأَوَّلَه قوم من أَن الرّوح انْفَصل من ذَات الله فَصَارَ فِي الْمُؤمن فعبد صنف من النَّصَارَى عِيسَى وَمَرْيَم جَمِيعًا لِأَن عِيسَى عِنْدهم روح من الله صَار فِي مَرْيَم فَهُوَ غير مَخْلُوق عِنْدهم وَقَالَ صنف من الزَّنَادِقَة وصنف من الروافض أَن روح آدم مثل ذَلِك أَنه غير مَخْلُوق وتأولوا قَوْله تَعَالَى {ونفخت فِيهِ من روحي} وَقَوله تَعَالَى {ثمَّ سواهُ وَنفخ فِيهِ من روحه} فزعموا إِن روح آدم لَيْسَ بمخلوق كَمَا تَأَول من قَالَ إِن النُّور من الرب غير مَخْلُوق قَالُوا ثمَّ صَارُوا بعد آدم فِي الْوَصِيّ بعده ثمَّ هُوَ فِي كل نَبِي ووصى إِلَى أَن صَار فِي على ثمَّ فِي الْحسن وَالْحُسَيْن ثمَّ فِي كل وصّى وَإِمَام فِيهِ يعلم الإِمَام كل شَيْء وَلَا يحْتَاج أَن يتَعَلَّم من أحد وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين أَن الْأَرْوَاح الَّتِي فِي آدم وبنيه وَعِيسَى وَمن سواهُ من بنى آدم كلهَا مخلوقة لله خلقهَا وأنشأها وَكَونهَا واخترعها ثمَّ أضافها إِلَى نَفسه كَمَا أضَاف إِلَيْهِ سَائِر خلقه قَالَ تَعَالَى وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية روح الْآدَمِيّ مخلوقة مبدعة بإتفاق سلف الْأمة وأئمتها وَسَائِر أهل السّنة وَقد حكى إِجْمَاع الْعلمَاء على أَنَّهَا مخلوقة غير وَاحِد من أَئِمَّة الْمُسلمين مثل مُحَمَّد ابْن نصر المروزى الإِمَام الْمَشْهُور الَّذِي هُوَ من أعلم أهل زَمَانه بِالْإِجْمَاع وَلَا اخْتِلَاف وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة قَالَ فِي كتاب اللَّفْظ لما تكلم على الرّوح قَالَ النسم الْأَرْوَاح قَالَ وَأجْمع النَّاس على أَن الله تَعَالَى هُوَ فالق الْحبَّة وبارىء النَّسمَة أَي خَالق الرّوح وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق ابْن شاقلا فِيمَا أجَاب بِهِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة سَأَلت رَحِمك الله عَن الرّوح مخلوقة هِيَ أَو غير مخلوقة قَالَ وَهَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ من وفْق للصَّوَاب أَن الرّوح من الْأَشْيَاء المخلوقة وَقد تكلم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة طوائف من أكَابِر الْعلمَاء والمشايخ وردوا على من يزْعم إِنَّهَا غير مخلوقة وصنف الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه فِي ذَلِك كتابا كَبِيرا وَقَبله الإِمَام مُحَمَّد بن نصر المروزى وَغَيره وَالشَّيْخ أَبُو سعيد الخراز وَأَبُو يَعْقُوب النَّهر جوري وَالْقَاضِي أَبُو يعلى وَقد نَص على ذَلِك الْأَئِمَّة الْكِبَار وَاشْتَدَّ نكيرهم على من يَقُول ذَلِك فِي روح عِيسَى ابْن مَرْيَم فَكيف بِروح

فصل والذي يدل على خلقها وجوه الوجه الأول قول الله تعالى

غَيره كَمَا ذكره الإِمَام أَحْمد فِيمَا كتبه فِي مَجْلِسه فِي الرَّد على الزَّنَادِقَة والجهمية ثمَّ أَن الجهمى ادّعى أمرا فَقَالَ أَنا أجد آيَة فِي كتاب الله مِمَّا يدل على أَن الْقُرْآن مَخْلُوق قَول الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ} وَعِيسَى مَخْلُوق قُلْنَا لَهُ إِن الله تَعَالَى مَنعك الْفَهم لِلْقُرْآنِ ان عِيسَى تجرى عَلَيْهِ أَلْفَاظ لَا تجرى على الْقُرْآن لأَنا نُسَمِّيه مولودا وطفلا وصبيا وَغُلَامًا يَأْكُل وَيشْرب وَهُوَ مُخَاطب بِالْأَمر وَالنَّهْي يجرى عَلَيْهِ الْخطاب والوعد والوعيد ثمَّ هُوَ من ذُرِّيَّة نوح وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم فَلَا يحل لنا أَن نقُول فِي الْقُرْآن مَا نقُول فِي عِيسَى فَهَل سَمِعْتُمْ الله يَقُول فِي الْقُرْآن مَا قَالَ فِي عِيسَى وَلَكِن الْمَعْنى فِي قَوْله تَعَالَى إِن الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ فالكلمة الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم حِين قَالَ لَهُ كن فَكَانَ عِيسَى بكن وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ كن وَلَكِن كَانَ بكن فَكُن من الله قَول وَلَيْسَ كن مخلوقا وكذبت النَّصَارَى والجهمية على الله فِي أَمر عِيسَى وَذَلِكَ أَن الْجَهْمِية قَالُوا روح هَذِه الْخِرْقَة من هَذَا الثَّوَاب قُلْنَا نَحن أَن عِيسَى بِالْكَلِمَةِ كَانَ وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ الْكَلِمَة وَإِنَّمَا الْكَلِمَة قَول الله تَعَالَى كن وَقَوله {وروح مِنْهُ} يَقُول من أمره كَانَ الرّوح فِيهِ كَقَوْلِه تَعَالَى وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ يَقُول من أمره وَتَفْسِير روح الله إِنَّمَا مَعْنَاهَا بِكَلِمَة الله خلقهَا كَمَا يُقَال عبد الله وسماء الله وَأَرْض الله فقد صرح بِأَن روح الْمَسِيح مخلوقة فَكيف بِسَائِر الْأَرْوَاح وَقد أضَاف الله إِلَيْهِ الرّوح الَّذِي أرْسلهُ إِلَى مَرْيَم وَهُوَ عَبده وَرَسُوله وَلم يدل على ذَلِك أَنه قديم غير مَخْلُوق فَقَالَ تَعَالَى {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سويا قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا} فَهَذَا الرّوح هُوَ روح الله وَهُوَ عَبده وَرَسُوله وَسَنذكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَقسَام الْمُضَاف إِلَى الله وأنى يكون الْمُضَاف صفة لَهُ قديمَة وَإِنِّي يكون مخلوقا وَمَا ضَابِط ذَلِك فصل وَالَّذِي يدل على خلقهَا وُجُوه الْوَجْه الأول قَول الله تَعَالَى {الله خَالق كل شَيْء} فَهَذَا اللَّفْظ عَام لَا تَخْصِيص فِيهِ بِوَجْه مَا وَلَا يدْخل فِي ذَلِك صِفَاته فَإِنَّهَا دَاخِلَة فِي مُسَمّى بإسمه فَالله سُبْحَانَهُ هُوَ الْإِلَه الْمَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال فَعلمه وَقدرته وحياته وإرادته وسَمعه وبصره وَسَائِر صِفَاته دَاخل فِي مُسَمّى اسْمه لَيْسَ دَاخِلا فِي الْأَشْيَاء المخلوقة كَمَا لم تدخل ذَاته فِيهَا فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَصِفَاته الْخَالِق وَمَا سواهُ مَخْلُوق

وَمَعْلُوم قطعا أَن الرّوح لَيست هِيَ الله وَلَا صفة من صِفَاته وَإِنَّمَا هِيَ مَصْنُوع من مصنوعاته فوقوع الْخلق عَلَيْهَا كوقوعه على الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ وَالْإِنْس الْوَجْه الثَّانِي قَوْله تَعَالَى زَكَرِيَّا {وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا} وَهَذَا الْخطاب لروحه وبدنه لَيْسَ لبدنه فَقَط فَإِن الْبدن وَحده لَا يفهم وَلَا يُخَاطب وَلَا يعقل وَإِنَّمَا الَّذِي يفهم وَيعْقل ويخاطب هُوَ الرّوح الْوَجْه الثَّالِث قَوْله تَعَالَى {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} الْوَجْه الرَّابِع قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} وَهَذَا الْإِخْبَار إِنَّمَا يتَنَاوَل أَرْوَاحنَا وأجسادنا كَمَا يَقُوله الْجُمْهُور واما أَن يكون وَاقعا على الْأَرْوَاح قبل خلق الأجساد كَمَا يَقُوله من يزْعم ذَلِك وعَلى التَّقْدِير فَهُوَ صَرِيح فِي خلق الْأَرْوَاح الْوَجْه الْخَامِس النُّصُوص الدَّالَّة على أَنه سُبْحَانَهُ رَبنَا وَرب آبَائِنَا الْأَوَّلين وَرب كل شَيْء وَهَذِه الربوبية شَامِلَة لأرواحنا وأبداننا فالأرواح مربوبة لَهُ مَمْلُوكَة كَمَا ان الْأَجْسَام كَذَلِك وكل مربوب مَمْلُوك فَهُوَ مَخْلُوق الْوَجْه السَّادِس أول سُورَة فِي الْقُرْآن وَهِي الْفَاتِحَة تدل على أَن الْأَرْوَاح مخلوقة من عدَّة أوجه أَحدهَا قَوْله تَعَالَى {الْحَمد لله رب الْعَالمين} والأرواح من جملَة الْعَالم فَهُوَ رَبهَا الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} فالأرواح عابدة لَهُ مستعينة وَلَو كَانَت غير مخلوقة لكَانَتْ معبودة مستعانا بهَا الثَّالِث إِنَّهَا فقيرة إِلَى هِدَايَة فاطرها وربها تسأله أَن يهديها صراطه الْمُسْتَقيم الرَّابِع أَنَّهَا منعم عَلَيْهَا مَرْحُومَة ومغضوب عَلَيْهَا وضالة شقية وَهَذَا شَأْن المربوب والمملوك لَا شَأْن الْقَدِيم غير الْمَخْلُوق الْوَجْه السَّابِع النُّصُوص الدَّالَّة على أَن الْإِنْسَان عبد بجملته وَلَيْسَت عبوديته وَاقعَة على بدنه دون روحه بل عبوديته الرّوح أصل وعبودية الْبدن تبع كَمَا أَنه تبع لَهَا فِي الْأَحْكَام وَهِي الَّتِي تحركه وتستعمله وَهُوَ تبع لَهَا فِي الْعُبُودِيَّة الْوَجْه الثَّامِن قَوْله تَعَالَى {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر لم يكن شَيْئا مَذْكُورا} فَلَو كَانَت روحه قديمَة لَكَانَ الْإِنْسَان لم يزل شَيْئا مَذْكُورا فَإِنَّهُ إِنَّمَا هُوَ إِنْسَان بِرُوحِهِ لَا بِبدنِهِ فَقَط كَمَا قيل يَا خَادِم الْجِسْم كم تشقى بخدمته ... فَأَنت بِالروحِ لَا بالجسم إِنْسَان

الْوَجْه التَّاسِع النُّصُوص الدَّالَّة على أَن الله سُبْحَانَهُ كَانَ وَلم يكن شَيْء غَيره كَمَا ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث عمرَان حُصَيْن أَن أهل الْيمن قَالُوا يَا رَسُول الله جئْنَاك لنتفقه فِي الدّين ونسألك عَن أول هَذَا الْأَمر فَقَالَ كَانَ الله وَلم يكن شَيْء غَيره وَكَانَ عَرْشه على المَاء وَكتب فِي الذّكر كل شَيْء فَلم يكن مَعَ الله أَرْوَاح وَلَا نفوس قديمَة يساوى وجودهَا وجوده تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا بل هُوَ الأول وَحده لَا يُشَارِكهُ غَيره فِي أوليته بِوَجْه الْوَجْه الْعَاشِر النُّصُوص الدَّالَّة على خلق الْمَلَائِكَة وهم أَرْوَاح مستغنية عَن أجساد تقوم بهَا وهم مخلوقون قبل خلق الْإِنْسَان وروحه فَإِذا كَانَ الْملك الَّذِي يحدث الرّوح فِي جَسَد ابْن آدم بنفخته مخلوقا فَكيف تكون الرّوح الْحَادِثَة بنفخه قديمَة وَهَؤُلَاء الغالطون يظنون ان الْملك يُرْسل إِلَى الْجَنِين بِروح قديمَة أزلية ينفخها فِيهِ كَمَا يُرْسل الرَّسُول بِثَوْب إِلَى الْإِنْسَان يلْبسهُ إِيَّاه وَهَذَا ضلال وَخطأ وَإِنَّمَا يُرْسل الله سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ الْملك فينفخ فِيهِ نفخة تحدث لَهُ الرّوح بِوَاسِطَة تِلْكَ النفخة فَتكون النفخة هِيَ سَبَب حُصُول الرّوح وحدوثها لَهُ كَمَا كَانَ الْوَطْء والإنزال سَبَب تكوين جِسْمه والغذاء سَبَب نموه فمادة الرّوح من نفخة الْملك ومادة الْجِسْم من صب المَاء فِي الرَّحِم فَهَذِهِ مَادَّة سَمَاوِيَّة وَهَذِه مَادَّة أرضية فَمن النَّاس من تغلب عَلَيْهِ الْمَادَّة السماوية فَتَصِير روحه علوِيَّة شريفة تناسب الْمَلَائِكَة وَمِنْهُم من تغلب عَلَيْهِ الْمَادَّة الأرضية فَتَصِير روحه سفلية ترابية مهينة تناسب الْأَرْوَاح السفلية فالملك أَب لروحه وَالتُّرَاب أَب لبدنه وجسمه الْوَجْه الْحَادِي عشر حَدِيث أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ الَّذِي فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَغَيره عَن النَّبِي الْأَرْوَاح جنود مجندة فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف والجنود المجندة لَا تكون إِلَّا مخلوقة وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عَن النَّبِي أَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وسلمان الْفَارِسِي وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله ابْن مَسْعُود وَعبد الله بن عَمْرو وعَلى بن أَبى طَالب وَعَمْرو بن عبسة رضى الله عَنْهُم الْوَجْه الثَّانِي عشر أَن الرّوح تُوصَف بالوفاة وَالْقَبْض والإمساك والإرسال وَهَذَا شَأْن الْمَخْلُوق الْمُحدث المربوب قَالَ الله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} والأنفس هَا هُنَا هِيَ الْأَرْوَاح قطعا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عبد الله بن أَبى قَتَادَة الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه قَالَ سرنا مَعَ رَسُول الله فِي سفر ذَات لَيْلَة فَقُلْنَا يَا رَسُول الله لَو عرست بِنَا فَقَالَ إِنِّي أَخَاف أَن تناموا فَمن يوقظنا للصَّلَاة فَقَالَ بِلَال أَنا يَا رَسُول الله فعرس بالقوم فاضطجعوا واستند بِلَال إِلَى رَاحِلَته فغلبته عَيناهُ فَاسْتَيْقَظَ

رَسُول الله وَقد طلع جَانب الشَّمْس فَقَالَ يَا بِلَال أَيْن مَا قلت لنا فَقَالَ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا ألقيت على نومَة مثلهَا فَقَالَ رَسُول الله ان الله قبض أرواحكم حِين شَاءَ وردهَا حِين شَاءَ فَهَذِهِ الرّوح المقبوضة هِيَ النَّفس الَّتِي يتوفاها الله حِين مَوتهَا وَفِي منامها الَّتِي يتوفاها ملك الْمَوْت وَهِي الَّتِي تتوفاها رسل الله سُبْحَانَهُ وَهِي الَّتِي يجلس الْملك عِنْد رَأس صَاحبهَا ويخرجها من بدنه كرها ويكفنها بكفن من الْجنَّة أَو النَّار ويصعد بهَا إِلَى السَّمَاء فتصلى عَلَيْهَا الْمَلَائِكَة أَو تلعنها وَتوقف بَين يَدي رَبهَا فَيقْضى فِيهَا أمره ثمَّ تُعَاد إِلَى الأَرْض فَتدخل بَين الْمَيِّت وأكفانه فَيسْأَل ويمتحن ويعاقب وينعم وَهِي الَّتِي تجْعَل فِي أَجْوَاف الطير الْخضر تَأْكُل وتشرب من الْجنَّة وَهِي الَّتِي تعرض على النَّار غدوا وعشيا وَهِي الَّتِي تؤمن وتكفر وتطيع وتعصى وَهِي الأمارة بالسوء وَهِي اللوامة وَهِي المطمئنة إِلَى رَبهَا وَأمره وَذكره وَهِي الَّتِي تعذب وتنعم وتسعد وتشقى وتحبس وَترسل وَتَصِح وتسقم وتلذ وتألم وَتخَاف وتحزن وَمَا ذَاك إِلَّا سمات مَخْلُوق مبدع وصفات منشأ مخترع وَأَحْكَام مربوب مُدبر مصرف تَحت مَشِيئَة خالقه وفاطره وبارئه وَكَانَ رَسُول الله يَقُول عِنْد نَومه اللَّهُمَّ أَنْت خلقت نَفسِي وَأَنت توفاها لَك مماتها ومحياها فَإِن أَمْسَكتهَا فإرحمها وَإِن أرسلتها فأحفظها بِمَا تحفظ بِهِ عِبَادك الصَّالِحين وَهُوَ تعلى بارىء النُّفُوس كَمَا هُوَ بارىء الأجساد قَالَ تَعَالَى {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها إِن ذَلِك على الله يسير} قيل من قبل أَن نبرأ الْمُصِيبَة وَقيل من قبل أَن نبرأ الأَرْض وَقيل من قبل أَن نبرأ الْأَنْفس وَهُوَ أولى لِأَنَّهُ أقرب مَذْكُور إِلَى الضَّمِير وَلَو قيل يرجع إِلَى الثَّلَاثَة أَي من قبل أَن نبرأ الْمُصِيبَة وَالْأَرْض والأنفس لَكَانَ أوجه وَكَيف تكون قديمَة مستغنية عَن خَالق مُحدث مبدع لَهَا وشواهد الْفقر وَالْحَاجة والضرورة أعدل شَوَاهِد على أَنَّهَا مخلوقة مربوبة مصنوعة وَأَن وجود ذَاتهَا وصفاتها وأفعالها من رَبهَا وفاطرها لَيْسَ لَهَا من نَفسهَا إِلَّا الْعَدَم فَهِيَ لَا تملك لنَفسهَا ضرا وَلَا نفعا وَلَا موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا لَا تَسْتَطِيع أَن تَأْخُذ من الْخَيْر إِلَّا مَا أَعْطَاهَا وتتقى من الشَّرّ إِلَّا مَا وقاها وَلَا تهتدي إِلَى شَيْء من صَالح دنياها وأخراها إِلَّا بهداه وَتصْلح إِلَّا بتوفيقه لَهَا وإصلاحه إِيَّاهَا وَلَا تعلم إِلَّا مَا علمهَا وَلَا تتعدى مَا ألهمها فَهُوَ الَّذِي خلقهَا فسواها وألهمها فجورها وتقواها فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه خَالِقهَا ومبدعها وخالق أفعالها من الْفُجُور وَالتَّقوى خلافًا لمن يَقُول إِنَّهَا لَيست مخلوقة وَلمن يَقُول إِنَّهَا وَإِن كَانَت مخلوقة فَلَيْسَ خَالِقًا لأفعالها بل هِيَ الَّتِي تخلق أفعالها وهما قَولَانِ لأهل الضلال والغي

فصل وأما ما احتجت به هذه الطائفة فأما ما أتوا به من اتباع

وَمَعْلُوم أَنَّهَا لَو كَانَت قديمَة غير مخلوقة لكَانَتْ مستغنية بِنَفسِهَا فِي وجودهَا وصفاتها وكمالها وَهَذَا من ابطل الْبَاطِل فَإِن فقرها إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي وجودهَا وكمالها وصلاحها هُوَ من لَوَازِم ذَاتهَا لَيْسَ مُعَللا بعلة فَإِنَّهُ أَمر ذاتي لَهَا كَمَا أَن غنى رَبهَا وفاطرها ومبدعها من لَوَازِم ذَاته لَيْسَ مُعَللا بعلة فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْغنى بِالذَّاتِ وَهِي الفقيرة إِلَيْهِ بِالذَّاتِ فَلَا يُشَارِكهُ سُبْحَانَهُ فِي غناهُ مشارك كَمَا لَا يُشَارِكهُ فِي قدمه وربوبيته وَملكه التَّام وكماله الْمُقَدّس مشارك فشواهد الْخلق والحدوث على الْأَرْوَاح كشواهده على الْأَبدَان قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} وَهَذَا الْخطاب بالفقر إِلَيْهِ للأرواح والأبدان لَيْسَ هُوَ للأبدان فَقَط وَهَذَا الْغنى التَّام لله وَحده لَا يشركهُ فِيهِ غَيره وَقد أرشد الله سُبْحَانَهُ عباده إِلَى أوضح دَلِيل على ذَلِك بقوله {فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي فلولا ان كُنْتُم غير مملوكين ومقهورين ومربوبين ومجازين بأعمالكم تردون الْأَرْوَاح إِلَى الْأَبدَان إِذا وصلت إِلَى هَذَا الْموضع أَو لَا تعلمُونَ بذلك أَنَّهَا مَدِينَة مَمْلُوكَة مربوبة محاسبة مجزية بعملها وَكلما تقدم ذكره فِي هَذَا الْجَواب من أَحْكَام الرّوح وشأنها ومستقرها بعد الْمَوْت فَهُوَ دَلِيل على أَنَّهَا مخلوقة مربوبة مُدبرَة لَيست بقديمة وَهَذَا الْأَمر أوضح من أَن تساق الْأَدِلَّة عَلَيْهِ وَلَوْلَا ضلال من المتصوفة وَأهل الْبدع وَمن قصر فهمه فِي كتاب الله وَسنة رَسُوله فَأتى من سوء الْفَهم لَا من النَّص تكلمُوا فِي أنفسهم وأرواحهم بِمَا دلّ على أَنهم من أَجْهَل النَّاس بهَا وَكَيف يُمكن من لَهُ أدنى مسكة من عقل أَن يُنكر أمرا تشهد عَلَيْهِ بِهِ نَفسه وَصِفَاته وأفعاله وجوارحه وأعضاؤه بل تشهد بِهِ السَّمَوَات وَالْأَرْض والخليقة فَللَّه سُبْحَانَهُ فِي كل مَا سواهُ آيَة بل آيَات تدل على أَنه مَخْلُوق مربوب وانه خالقه وربه وبارؤه ومليكه وَلَو جحد ذَلِك فمعه شَاهد عَلَيْهِ فصل وَأما مَا احتجت بِهِ هَذِه الطَّائِفَة فَأَما مَا أَتَوا بِهِ من اتِّبَاع متشابه الْقُرْآن والعدول عَن محكمَة فَهَذَا شَأْن كل ضلال ومبتدع فمحكم الْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره يدل على أَن الله تَعَالَى خَالق الْأَرْوَاح ومبدعها وَأما قَوْله تَعَالَى {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} فمعلوم قطعا أَنه لَيْسَ المُرَاد هَا هُنَا بِالْأَمر الطّلب الَّذِي هُوَ أحد أَنْوَاع الْكَلَام فَيكون المُرَاد أَن الرّوح كَلَامه الَّذِي يَأْمر بِهِ وَإِنَّمَا المُرَاد

بِالْأَمر هَا هُنَا الْمَأْمُور وَهُوَ عرف مُسْتَعْمل فِي لُغَة الْعَرَب وَفِي الْقُرْآن مِنْهُ كثير كَقَوْلِه تَعَالَى {أَتَى أَمر الله} أَي مَأْمُور الَّذِي قدره وقضاه وَقَالَ لَهُ كن فَيكون وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما جَاءَ أَمر رَبك} أَي مأموره الَّذِي أَمر بِهِ من إهلاكهم وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَمر السَّاعَة إِلَّا كلمح الْبَصَر} وَكَذَلِكَ الْخلق يسْتَعْمل بِمَعْنى الْمَخْلُوق كَقَوْلِه تَعَالَى للجنة أَنْت رَحْمَتي فَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} مَا يدل على أَنَّهَا قديمَة غير مخلوقة بِوَجْه مَا وَقد قَالَ بعض السّلف فِي تَفْسِيرهَا جرى بِأَمْر الله فِي أجساد الْخلق وبقدرته اسْتَقر وَهَذَا بِنَاء على أَن المُرَاد بِالروحِ فِي الْآيَة روح الْإِنْسَان وَفِي ذَلِك خلاف بَين السّلف وَالْخلف وَأكْثر السّلف بل كلهم على أَن الرّوح الْمَسْئُول عَنْهَا فِي الْآيَة لَيست أَرْوَاح بنى آدم بل هُوَ الرّوح الَّذِي أخبر الله عَنهُ فِي كِتَابه أَنه يقوم يَوْم الْقِيَامَة مَعَ الْمَلَائِكَة وَهُوَ ملك عَظِيم وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح من حَدِيث الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله قَالَ بَينا أَنا أمشى مَعَ رَسُول الله فِي حرَّة الْمَدِينَة وَهُوَ متكىء على عسيب فمررنا على نفر من الْيَهُود فَقَالَ بَعضهم لبَعض سلوه عَن الرّوح وَقَالَ بَعضهم لَا تسألوه عَسى أَن يخبر فِيهِ بِشَيْء تكرهونه وَقَالَ بَعضهم نَسْأَلهُ فَقَامَ رجل فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِم مَا الرّوح فَسكت عَنهُ رَسُول الله فَعلمت أَنه يوحي إِلَيْهِ فَقُمْت فَلَمَّا تجلى عَنهُ قَالَ {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} وَمَعْلُوم أَنهم إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَن أَمر لَا يعرف إِلَّا بِالْوَحْي وَذَلِكَ هُوَ الرّوح الَّذِي عِنْد الله لَا يعلمهَا النَّاس وَأما أَرْوَاح بنى آدم فَلَيْسَتْ من الْغَيْب وَقد تكلم فِيهَا طوائف من النَّاس من أهل الْملَل وَغَيرهم فَلم يكن الْجَواب عَنْهَا من أَعْلَام النُّبُوَّة فَإِن قيل فقد قَالَ أَبُو الشَّيْخ حَدثنَا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم بن الحكم عَن أَبِيه عَن السدى عَن أَبى مَالك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ بعثت قُرَيْش عقبَة بن أَبى معيط وَعبد الله ابْن أَبى أُميَّة بن الْمُغيرَة إِلَى يهود الْمَدِينَة يَسْأَلُونَهُمْ عَن النَّبِي فَقَالُوا لَهُم انه قد خرج فِينَا رجل يزْعم أَنه نَبِي وَلَيْسَ على ديننَا وَلَا على دينكُمْ قَالُوا فَمن تبعه قَالُوا سفلتنا والضعفاء وَالْعَبِيد وَمن لَا خير فِيهِ وَأما أَشْرَاف قومه فَلم يتبعوه فَقَالُوا انه قد أظل زمَان نَبِي يخرج وَهُوَ على مَا تصفون من أَمر هَذَا الرجل فائتوه فَاسْأَلُوهُ عَن ثَلَاث خِصَال نأمركم بِهن فَإِن أخْبركُم بِهن فَهُوَ نَبِي صَادِق وَإِن لم يُخْبِركُمْ بِهن فَهُوَ كَذَّاب سلوه عَن الرّوح الَّتِي نفخ الله تَعَالَى فِي آدم فَإِن قَالَ لكم هِيَ من الله فَقولُوا كَيفَ يعذب الله فِي النَّار شَيْئا هُوَ

مِنْهُ فَسَأَلَ جِبْرِيل عَنْهَا فَأنْزل الله عز وَجل {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} يَقُول هُوَ خلق من خلق الله لَيْسَ هُوَ من الله الله ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث قيل مثل هَذَا الْإِسْنَاد لَا يحْتَج بِهِ فَإِنَّهُ من تَفْسِير السدى عَن أَبى مَالك وَفِيه أَشْيَاء مُنكرَة وَسِيَاق هَذِه الْقِصَّة فِي السُّؤَال من الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد كلهَا تخَالف سِيَاق السدى وَقد رَوَاهَا الْأَعْمَش والمغيرة بن مقسم عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله قَالَ مر النَّبِي على مَلأ من الْيَهُود وَأَنا أمشى مَعَه فَسَأَلُوهُ عَن الرّوح قَالَ فَسكت فَظَنَنْت أَنه يوحي إِلَيْهِ فَنزلت {ويسألونك عَن الرّوح} يعْنى الْيَهُود قل الرّوح من أَمر ربى وَمَا أُوتُوا من الْعلم إِلَّا قَلِيلا وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَة عبد الله فَقَالُوا كَذَلِك نجد مثله فِي التَّوْرَاة أَن الرّوح من أَمر الله عز وَجل رَوَاهُ جرير بن عبد الحميد وَغَيره عَن الْمُغيرَة وروى يحيى بن زَكَرِيَّا بن أَبى زَائِدَة عَن دَاوُد بن أَبى هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ أَتَت الْيَهُود إِلَى النَّبِي فَسَأَلُوهُ عَن الرّوح فَلم يجبهم النَّبِي بِشَيْء فَأنْزل الله عز وَجل {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} فَهَذَا يدل على ضعف حَدِيث السدى وَأَن السُّؤَال كَانَ بِمَكَّة فَإِن هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث ابْن مَسْعُود صَرِيح فِي أَن السُّؤَال كَانَ بِالْمَدِينَةِ مُبَاشرَة من الْيَهُود وَلَو كَانَ قد تقدم السُّؤَال وَالْجَوَاب بِمَكَّة لم يسكت النَّبِي ولبادر إِلَى جوابهم بِمَا تقدم من إِعْلَام الله لَهُ وَمَا أنزلهُ عَلَيْهِ وَقد اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة أعظم اضْطِرَاب فَأَما أَن تكون من قبل الروَاة أَو تكون أَقْوَاله قد اضْطَرَبَتْ فِيهَا وَنحن نذْكر فقد ذكرنَا رِوَايَة السدى عَن أَبى مَالك عَنهُ وَرِوَايَة دَاوُد بن أَبى هِنْد عَن عِكْرِمَة عَنهُ تخالفها وَفِي رِوَايَة دَاوُد بن أَبى هِنْد هَذِه اضْطِرَاب فَقَالَ مَسْرُوق بن الْمَرْزُبَان وَإِبْرَاهِيم بن أَبى طَالب عَن يحيى ابْن زَكَرِيَّا عَنهُ أَن الْيَهُود أَتَت النَّبِي الحَدِيث وَقَالَ مُحَمَّد بن نصر المروزى حَدثنَا إِسْحَاق أَنبأَنَا يحيى بن زَكَرِيَّا عَن دَاوُد بن أَبى هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَت قُرَيْش للْيَهُود أعطونا شَيْئا نسْأَل عَنهُ هَذَا الرجل فَقَالُوا سلوه عَن الرّوح فَنزلت {ويسألونك عَن الرّوح} الْآيَة

وَهَذَا يُخَالف الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَنهُ وَحَدِيث ابْن مَسْعُود وَعَن ابْن عَبَّاس رِوَايَة ثَالِثَة قَالَ هشيم حَدثنَا أَبُو بشر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس قل الرّوح أَمر من أَمر الله عز وَجل وَخلق من خلق الله وصور مثل صور بنى آدم وَمَا نزل من السَّمَاء ملك إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِد من الرّوح وَهَذَا يدل على أَنَّهَا غير الرّوح الَّتِي فِي ابْن آدم وَعنهُ رِوَايَة رَابِعَة قَالَ ابْن مَنْدَه روى عبد السَّلَام بن حَرْب عَن خصيف عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} قد نزل من الْقُرْآن بِمَنْزِلَة كن نقُول كَمَا قَالَ تَعَالَى {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} ثمَّ سَاق من طَرِيق خصيف عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ لَا يُفَسر أَرْبَعَة أَشْيَاء الرقيم والغسلين وَالروح وَقَوله تَعَالَى وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ وَعنهُ رِوَايَة خَامِسَة رَوَاهَا جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَنهُ أَن الْيَهُود سَأَلُوا رَسُول الله عَن الرّوح فَقَالَ قَالَ الله تَعَالَى {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} يعْنى خلقا من خلقي {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} يعْنى لَو سئلتم عَن خلق أَنفسكُم وَعَن مدْخل الطَّعَام وَالشرَاب ومخرجهما مَا وصفتم ذَلِك حق صفته وَمَا اهْتَدَيْتُمْ لصفتها وَعنهُ رِوَايَة سادسة روى عبد الْغنى بن سعيد حَدثنَا مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس وَعَن مقَاتل عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {ويسألونك عَن الرّوح} وَذَلِكَ أَن قُريْشًا اجْتمعت فَقَالَ بَعضهم لبَعض وَالله مَا كَانَ مُحَمَّد يكذب وَلَقَد نَشأ فِينَا بِالصّدقِ وَالْأَمَانَة فأرسلوا جمَاعَة إِلَى الْيَهُود فاسألوهم عَنهُ وَكَانُوا مستبشرين بِهِ ويكثرون ذكره وَيدعونَ نبوته ويرجون نصرته موقنين بِأَنَّهُ سيهاجر إِلَيْهِم وَيَكُونُونَ لَهُ أنصارا فَسَأَلُوهُمْ عَنهُ فَقَالَت لَهُم الْيَهُود سلوه عَن ثَلَاث سلوه عَن الرّوح وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ فِي التَّوْرَاة قصَّته وَلَا تَفْسِيره إِلَّا ذكر اسْم الرّوح فَأنْزل الله تَعَالَى {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} يُرِيد من خلق ربى عز وَجل وَالروح فِي الْقُرْآن على عدَّة أوجه أَحدهَا الْوَحْي كَقَوْلِه تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} وَقَوله تَعَالَى {يلقِي الرّوح من أمره على من يَشَاء من عباده} وسمى الْوَحْي روحا لما يحصل بِهِ من حَيَاة الْقُلُوب والأرواح الثَّانِي الْقُوَّة والثبات والنصرة الَّتِي يُؤَيّد بهَا من شَاءَ من عباده الْمُؤمنِينَ كَمَا قَالَ {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ}

فصل وأما استدلالهم بإضافتها إليه سبحانه بقوله تعالى

الثَّالِث جِبْرِيل كَقَوْلِه تَعَالَى {نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك} وَقَالَ تَعَالَى {من كَانَ عدوا لجبريل فَإِنَّهُ نزله على قَلْبك} وَهُوَ روح الْقُدس قَالَ تَعَالَى {قل نزله روح الْقُدس} الرَّابِع الرّوح الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا الْيَهُود فأجيبوا بِأَنَّهَا من أَمر الله وَقد قيل أَنَّهَا الرّوح الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا لَا يَتَكَلَّمُونَ} وَأَنَّهَا الرّوح الْمَذْكُور فِي قَوْله {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا بِإِذن رَبهم} الْخَامِس الْمَسِيح ابْن مَرْيَم قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ} وَأما أَرْوَاح بنى آدم فَلم تقع تَسْمِيَتهَا فِي الْقُرْآن إِلَّا بِالنَّفسِ قَالَ تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة} وَقَالَ تَعَالَى {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} وَقَالَ تَعَالَى أخرجُوا أَنفسكُم وَقَالَ تَعَالَى {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} وَقَالَ تَعَالَى {كل نفس ذائقة الْمَوْت} وَأما فِي السّنة فَجَاءَت بِلَفْظ النَّفس وَالروح وَالْمَقْصُود أَن كَونهَا من أَمر الله لَا يدل على قدمهَا وَأَنَّهَا غير مخلوقة فصل وَأما استدلالهم بإضافتها إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بقوله تَعَالَى {ونفخت فِيهِ من روحي} فَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن الْمُضَاف إِلَى الله سُبْحَانَهُ نَوْعَانِ صِفَات لَا تقوم بأنفسها كَالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَالْكَلَام والسمع وَالْبَصَر فَهَذِهِ إِضَافَة صفة إِلَى الْمَوْصُوف بهَا فَعلمه وَكَلَامه وإرادته وَقدرته وحياته وصفات لَهُ غير مخلوقة وَكَذَلِكَ وَجهه وَيَده سُبْحَانَهُ وَالثَّانِي إِضَافَة أَعْيَان مُنْفَصِلَة عَنهُ كالبيت والناقة وَالْعَبْد وَالرَّسُول وَالروح فَهَذِهِ إِضَافَة مَخْلُوق إِلَى خالقه ومصنوع إِلَى صانعه لَكِنَّهَا إِضَافَة تَقْتَضِي تَخْصِيصًا وتشريفا يتَمَيَّز بِهِ الْمُضَاف عَن غَيره كبيت الله وَإِن كَانَت الْبيُوت كلهَا ملكا لَهُ وَكَذَلِكَ نَاقَة الله والنوق كلهَا ملكه وخلقه لَكِن هَذِه إِضَافَة إِلَى إلهيته تَقْتَضِي محبته لَهَا وتكريمه وتشريفه بِخِلَاف الْإِضَافَة الْعَامَّة إِلَى ربوبيته حَيْثُ تَقْتَضِي خلقه وإيجاده فالإضافة الْعَامَّة تَقْتَضِي الإيجاد والخاصة تَقْتَضِي الِاخْتِيَار وَالله يخلق مَا يَشَاء ويختار مِمَّا خلقه كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار} وَإِضَافَة الرّوح إِلَيْهِ من هَذِه الْإِضَافَة الْخَاصَّة لَا من الْعَامَّة وَلَا من بَاب إِضَافَة الصِّفَات فَتَأمل هَذَا الْموضع فَإِنَّهُ يخلصك من صلالات كَثِيرَة وَقع فِيهَا من شَاءَ الله من النَّاس فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {ونفخت فِيهِ من روحي} فأضاف النفخ إِلَى نَفسه وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُبَاشرَة مِنْهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْله خلقت بيَدي وَلِهَذَا فرق بَينهمَا فِي الذّكر فِي الحَدِيث الصَّحِيح فِي قَوْله

فَيَأْتُونَ آدم فَيَقُولُونَ أَنْت آدم أَبُو الْبشر خلقك الله بِيَدِهِ وَنفخ فِيك من روحه وأسجد لَك مَلَائكَته وعلمك أَسمَاء كل شَيْء فَذكرُوا لآدَم أَربع خَصَائِص اخْتصَّ بهَا عَن غَيره وَلَو كَانَت الرّوح الَّتِي فِيهِ إِنَّمَا هِيَ من نفخة الْملك لم يكن لَهُ خصيصة بذلك وَكَانَ بِمَنْزِلَة الْمَسِيح بل وَسَائِر أَوْلَاده فَإِن الرّوح حصلت فيهم من نفخة الْملك وَقد قَالَ تَعَالَى {فَإِذا سويته ونفخت فِيهِ من روحي} فَهُوَ الَّذِي سواهُ بِيَدِهِ وَهُوَ الَّذِي نفخ فِيهِ من روحه قيل هَذَا الْموضع الَّذِي أوجب لهَذِهِ الطَّائِفَة أَن قَالَت بقدم الرّوح وَتوقف فِيهَا آخَرُونَ وَلم يفهموا مُرَاد الْقُرْآن فَأَما الرّوح المضافة إِلَى الرب فَهِيَ روح مخلوقة أضافها إِلَى نَفسه إِضَافَة تَخْصِيص وتشريف كَمَا بَينا وَأما النفخ فقد قَالَ تَعَالَى فِي مَرْيَم {الَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} وَقد أخبر فِي مَوضِع آخر أَنه أرسل إِلَيْهَا الْملك فَنفخ فِي فرجهَا وَكَانَ النفخ مُضَافا إِلَى الله أمرا وإذنا وَإِلَى الرَّسُول مُبَاشرَة يبْقى هَا هُنَا أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن يُقَال فَإِذا كَانَ النفخ حصل فِي مَرْيَم من جِهَة الْملك وَهُوَ الَّذِي ينْفخ الْأَرْوَاح فِي سَائِر الْبشر فَمَا وَجه تَسْمِيَة الْمَسِيح روح الله وَإِذا كَانَ سَائِر النَّاس تحدث أَرْوَاحهم من هَذِه الرّوح فَمَا خاصية الْمَسِيح الثَّانِي أَن يُقَال فَهَل تعلق الرّوح بِآدَم كَانَت بِوَاسِطَة نفخ هَذَا الرّوح هُوَ الَّذِي نفخها فِيهِ بِإِذن الله كَمَا نفخها فِي مَرْيَم أم الرب تَعَالَى هُوَ الَّذِي نفخها بِنَفسِهِ كَمَا خلقه بِيَدِهِ قيل لعمر الله انهما سؤالان مهمان فَأَما الأول فَالْجَوَاب عَنهُ أَن الرّوح الَّذِي نفخ فِي مَرْيَم هُوَ الرّوح الْمُضَاف إِلَى الله الَّذِي اختصه لنَفسِهِ وأضافه إِلَيْهِ وَهُوَ روح خَاص من بَين سَائِر الْأَرْوَاح وَلَيْسَ بِالْملكِ الْمُوكل بالنفخ فِي بطُون الْحَوَامِل من الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار فَإِن الله سُبْحَانَهُ وكل بالرحم ملكا ينْفخ الرّوح فِي الْجَنِين فَيكْتب رزق الْمَوْلُود وأجله وَعَمله وشقاوته وسعادته وَأما هَذَا الرّوح الْمُرْسل إِلَى مَرْيَم فَهُوَ روح الله الَّذِي اصطفاه من الْأَرْوَاح لنَفسِهِ فَكَانَ لِمَرْيَم بِمَنْزِلَة الْأَب لسَائِر النَّوْع فان نفخته لما دخلت فِي فرجهَا كَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة لقاح الذّكر للْأُنْثَى من غير أَن يكون هُنَاكَ وَطْء وَأما مَا اخْتصَّ بِهِ آدم فَإِنَّهُ لم يخلق كخلقة الْمَسِيح من أم وَلَا كخلقة سَائِر النَّوْع من أَب وَأم وَلَا كَانَ الرّوح الَّذِي نفخ الله فِيهِ مِنْهُ هُوَ الْملك الَّذِي ينْفخ الرّوح فِي سَائِر أَوْلَاده وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يكن لآدَم بِهِ اخْتِصَاص وَإِنَّمَا ذكر فِي الحَدِيث مَا اخْتصَّ بِهِ على غَيره وَهُوَ أَرْبَعَة أَشْيَاء خلق الله لَهُ بِيَدِهِ وَنفخ فِيهِ من روحه واسجاد مَلَائكَته لَهُ وتعليمه أَسمَاء كل شَيْء فنفخه فِيهِ من روحه يسْتَلْزم نافخا ونفخا ومنفوخا مِنْهُ فالمنفوخ مِنْهُ هُوَ الرّوح المضافة إِلَى الله فَمِنْهَا سرت النفخة فِي طِينَة آدم وَالله تَعَالَى هُوَ الَّذِي نفخ فِي طينته من

المسألة الثامنة عشرة

تِلْكَ الرّوح هَذَا هُوَ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ النَّص وَأما كَون النفخة بِمُبَاشَرَة مِنْهُ سُبْحَانَهُ كَمَا خلقه بِيَدِهِ أَن أَنَّهَا حصلت بأَمْره كَمَا حصلت فِي مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام فَهَذَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل وَالْفرق بَين خلق الله لَهُ بِيَدِهِ ونفخه فِيهِ من روحه أَن الْيَد غير مخلوقة وَالروح مخلوقة والخلق فعل من أَفعَال الرب وَأما النفخ فَهَل هُوَ من أَفعاله الْقَائِمَة بِهِ أَو هُوَ مفعول من مفعولاته الْقَائِمَة بِغَيْر الْمُنْفَصِلَة عَنهُ وَهَذَا مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل وَهَذَا بِخِلَاف النفخ فِي فرج مَرْيَم فَإِنَّهُ مفعول من مفعولاته وأضافه إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بِإِذْنِهِ وَأمره فنفخه فِي آدم هَل هُوَ فعل لَهُ أَو مفعول وعَلى كل تَقْدِير فالروح الَّذِي نفخ مِنْهَا فِي آدم روح مخلوقة غير قديمَة وَهِي مَادَّة روح آدم فروحه أولى أَن تكون حَادِثَة مخلوقة وَهُوَ المُرَاد الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة وَهِي تقدم خلق الْأَرْوَاح على الأجساد أَو تَأَخّر خلقهَا عَنْهَا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة للنَّاس فِيهَا قَولَانِ معروفان حَكَاهُمَا شيخ الإسلاح وَغَيره وَمِمَّنْ ذهب إِلَى تقدم خلقهَا مُحَمَّد بن نصر المروزى وَأَبُو مُحَمَّد بن حزم وَحَكَاهُ ابْن حزم إِجْمَاعًا وَنحن نذْكر حجج الْفَرِيقَيْنِ وَمَا هُوَ الأولى مِنْهَا بِالصَّوَابِ قَالَ من ذهب إِلَى تقدم خلقهَا على خلق الْبدن قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا} قَالُوا ثمَّ للتَّرْتِيب والمهلة فقد تَضَمَّنت الْآيَة أَن خلقهَا مقدم على أَمر الله للْمَلَائكَة بِالسُّجُود لآدَم وَمن الْمَعْلُوم قطعا أَن أبداننا حَادِثَة بعد ذَلِك فَعلم أَنَّهَا الْأَرْوَاح قَالُوا وَيدل عَلَيْهِ قَوْله سُبْحَانَهُ {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} قَالُوا وَهَذَا الاستنطاق وَالْإِشْهَاد إِنَّمَا كَانَ لأرواحنا إِذْ لم تكن الْأَبدَان حِينَئِذٍ مَوْجُودَة فَفِي الْمُوَطَّأ حَدثنَا مَالك عَن زيد ابْن أَبى أنيسَة أَن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب أخبرهُ عَن مُسلم بن يسَار الْجُهَنِىّ أَن عمر بن الْخطاب سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} فَقَالَ سَمِعت رَسُول الله يسْأَل عَنْهَا فَقَالَ خلق الله آدم ثمَّ مسح ظَهره بِيَمِينِهِ فإستخرج مِنْهُ ذُريَّته فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ وخلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله فَفِيمَ الْعَمَل فَقَالَ رَسُول الله إِن الله إِذا خلق الرجل للجنة اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال أهل الْجنَّة فيدخله بِهِ الْجنَّة وَإِذا خلق العَبْد للنار اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال أهل النَّار فيدخله بِهِ النَّار قَالَ الْحَاكِم هَذَا حَدِيث على شَرط مُسلم

وروى الْحَاكِم أَيْضا من طَرِيق هِشَام بن سعد عَن زيد أسلم عَن أَبى صَالح عَن أَبى هُرَيْرَة مَرْفُوعا لما خلق الله آدم مسح ظَهره فَسقط من ظَهره كل نمسة هُوَ خَالِقهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أَمْثَال الذَّر ثمَّ جعل بَين عَيْني كل إِنْسَان مِنْهُم وبيصا من نور ثمَّ عرضهمْ على آدم فَقَالَ من هَؤُلَاءِ يَا رب قَالَ هَؤُلَاءِ ذريتك فرأي رجلا مِنْهُم أعجبه وبيص مَا بَين عَيْنَيْهِ فَقَالَ يَا رب من هَذَا فَقَالَ هَذَا ابْنك دَاوُد يكون فِي آخر الْأُمَم قَالَ كم جعلت لَهُ من الْعُمر قَالَ سِتِّينَ سنة قَالَ يَا رب زده عمري أَرْبَعِينَ سنة فَقَالَ الله تَعَالَى إِذا يكْتب وَيخْتم فَلَا يُبدل فَلَمَّا انْقَضى عمر آدم جَاءَ ملك الْمَوْت قَالَ أَو لم يبْق من عمرى أَرْبَعُونَ سنة فَقَالَ أَو لم تجعلها لأبنك دَاوُد قَالَ قَالَ فَجحد فَجحدت ذُريَّته ونسى فنسيت ذُريَّته وخطىء فخطئت ذُريَّته قَالَ هَذَا على شَرط مُسلم وَرَوَاهُ الترمذى وَقَالَ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ لما نزلت آيَة الدّين قَالَ رَسُول الله ان أول من جحد آدم وَزَاد مُحَمَّد بن سعد ثمَّ أكمل الله لآدَم ألف سنة ولداود مائَة سنة وَفِي صَحِيح الْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث أَبى جَعْفَر الرَّازِيّ حَدثنَا الرّبيع بن أنس عَن أَبى الْعَالِيَة عَن أَبى بن كَعْب فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} الْآيَة قَالَ جمعهم لَهُ يَوْمئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فجعلهم أرواحا ثمَّ صورهم واستنطقهم فتكلموا وَأخذ عَلَيْهِم الْعَهْد والميثاق {وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} قَالَ فَإِنِّي أشهد عَلَيْكُم السَّمَوَات السَّبع وَالْأَرضين السَّبع وَأشْهد عَلَيْكُم أَبَاكُم آدم {أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} فَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئا فَإِنِّي أرسل إِلَيْكُم رُسُلِي يذكرونكم عهدي وميثاقي وَأنزل عَلَيْكُم كتبي فَقَالُوا نشْهد أَنَّك رَبنَا وإلهنا لَا رب لنا غَيْرك وَرفع لَهُم أبوهم آدم فرأي فيهم الْغنى وَالْفَقِير وَحسن الصُّورَة وَغير ذَلِك فَقَالَ رب لَو سويت بَين عِبَادك فَقَالَ إِنِّي أحب أَن أشكر ورأي فيهم الْأَنْبِيَاء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فَذَلِك قَوْله وَإِذا خذنا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {هَذَا نَذِير من النّذر الأولى} وَقَوله تَعَالَى {وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين} وَكَانَ روح عِيسَى من تِلْكَ الْأَرْوَاح الَّتِي أَخذ عَلَيْهَا الْمِيثَاق فَأرْسل ذَلِك الرّوح إِلَى مَرْيَم حِين انتبذت من أَهلهَا مَكَانا شرقيا فَدخل من فِيهَا وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح

فَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ حَدثنَا بغية بن الْوَلِيد قَالَ أَخْبرنِي الزبيدى مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن رَاشد بن سعد عَن عبد الرَّحْمَن بن قَتَادَة الْبَصْرِيّ عَن أَبِيه عَن هِشَام بن حَكِيم بن حزَام ان رجلا قَالَ يَا رَسُول الله أتبتدأ الْأَعْمَال أم قد مضى الْقَضَاء فَقَالَ ان الله لما أخرج ذُرِّيَّة آدم من ظَهره أشهدهم على أنفسهم ثمَّ أقاض بهم فِي كفيه فَقَالَ هَؤُلَاءِ للجنة وَهَؤُلَاء للنار فَأهل الْجنَّة ميسرون لعمل أهل الْجنَّة وَأهل النَّار ميسرون لعمل أهل النَّار قَالَ إِسْحَاق وأنبأنا النَّضر حَدثنَا أَبُو معشر عَن سعيد المقبرى وَنَافِع مولى الزبير عَن أَبى هُرَيْرَة قَالَ لما أَرَادَ الله أَن يخلق آدم فَذكر خلق آدم فَقَالَ لَهُ يَا آدم أَي يَدي أحب إِلَيْك أَن أريك ذريتك فِيهَا فَقَالَ يَمِين ربى وكلتا يَدي ربى يَمِين فَبسط يَمِينه فَإِذا فِيهَا ذُريَّته كلهم مَا هُوَ خَالق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الصَّحِيح على هَيئته والمبتلى على هَيئته والأنبياء على هيئتهم فَقَالَ أَلا أعفيتهم كلهم فَقَالَ أَنى أحب ان أشكر وَذكر الحَدِيث وَقَالَ مُحَمَّد بن نصر حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا سعيد بن أَبى مَرْيَم أخبرنَا اللَّيْث بن سعد حَدثنِي ابْن عجلَان عَن سعد بن أَبى سعيد المقبرى عَن أَبِيه عَن عبد الله بن سَلام قَالَ خلق الله آدم ثمَّ قَالَ بيدَيْهِ فقبضهما فَقَالَ اختر يَا آدم فَقَالَ اخْتَرْت يَمِين ربى وكلتا يَدَيْهِ يَمِين فبسطها فَإِذا فِيهَا ذُريَّته فَقَالَ من هَؤُلَاءِ يَا رب قَالَ من قضيت أَن اخلق من ذريتك من أهل الْجنَّة إِلَى أَن تقوم السَّاعَة قَالَ واخبرنا إِسْحَاق حَدثنَا جَعْفَر بن عون أَنبأَنَا هِشَام بن سعد عَن زيد بن أسلم عَن أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ عَن النَّبِي قَالَ لما خلق الله آدم مسح ظَهره فَسقط من ظَهره كل نسمَة هُوَ خَالِقهَا من ذُريَّته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَحدثنَا إِسْحَاق وَعمر بن زُرَارَة أخبرنَا إِسْمَاعِيل عَن كُلْثُوم بن جبر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} الْآيَة قَالَ مسح رَبك ظهر آدم فَخرجت مِنْهُ كل نسمَة هُوَ خَالِقهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة بنعمان هَذَا الَّذِي رَوَاهُ عَرَفَة فَأخذ ميثاقهم {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا} وَرَوَاهُ أَبُو جَمْرَة الضبعى وَمُجاهد وحبِيب بن أَبى ثَابت وَأَبُو صَالح وَغَيرهم عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ إِسْحَاق أخبرنَا جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن عبد الله بن عَمْرو فِي هَذِه الْآيَة قَالَ أَخذهم كَمَا يُؤْخَذ الْمشْط بِالرَّأْسِ وَحدثنَا حجاج عَن ابْن جريج عَن الزبير بن مُوسَى عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ إِن الله ضرب مَنْكِبه الْأَيْمن فَخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بَيْضَاء نقية فَقَالَ هَؤُلَاءِ أهل الْجنَّة ثمَّ ضرب مَنْكِبه الْأَيْسَر فَخرجت كل نفس مخلوقة لنار سَوْدَاء فَقَالَ

هَؤُلَاءِ أهل النَّار ثمَّ أَخذ عَهده على الْإِيمَان بِهِ والمعرفة لَهُ ولأمره والتصديق بِهِ وبأمره من بنى آدم كلهم وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وَصَدقُوا وَعرفُوا وأقروا وَذكر مُحَمَّد بن نصر من تَفْسِير السدى عَن أَبى مَالك وأبى صَالح عَن ابْن عَبَّاس وَعَن مرّة الهمدانى عَن ابْن مَسْعُود عَن أنَاس من أَصْحَاب النَّبِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} الْآيَة لما أخرج الله آدم من الْجنَّة قبل ان يهْبط من السَّمَاء مسح صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى فَأخْرج مِنْهُ ذُرِّيَّة بَيْضَاء مثل اللُّؤْلُؤ وكهيئة الذَّر فَقَالَ لَهُم ادخُلُوا الْجنَّة برحمتي وَمسح صفحة ظَهره الْيُسْرَى فَأخْرج مِنْهُ ذُرِّيَّة سَوْدَاء كَهَيئَةِ الذَّر فَقَالَ ادخُلُوا النَّار وَلَا أُبَالِي فَذَلِك حَيْثُ يَقُول وَأَصْحَاب الْيَمين وَأَصْحَاب الشمَال ثمَّ أَخذ مِنْهُم الْمِيثَاق فَقَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} فَأعْطَاهُ طَائِفَة طائعين وَطَائِفَة كارهين على وَجه التقية فَقَالَ هُوَ وَالْمَلَائِكَة {شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ} فَلَيْسَ أحد من ولد آدم إِلَّا وَهُوَ يعرف أَن الله ربه وَلَا مُشْرك إِلَّا وَهُوَ يَقُول إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} وَقَوله تَعَالَى وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وَقَوله تَعَالَى {فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} قَالَ يعْنى يَوْم أَخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق قَالَ إِسْحَاق وَأخْبرنَا روح بن عبَادَة حَدثنَا مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذى قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن كَعْب القرظى يَقُول فِي هَذِه الْآيَة {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} الْآيَة أقرُّوا لَهُ بِالْإِيمَان والمعرفة الْأَرْوَاح قبل أَن يخلق أجسادها قَالَ حَدثنَا الْفضل بن مُوسَى عَن عبد الْملك عَن عَطاء فِي هَذِه الْآيَة قَالَ اخْرُجُوا من صلب آدم حِين أَخذ مِنْهُم الْمِيثَاق ثمَّ ردوا فِي صلبه قَالَ إِسْحَاق وَأخْبرنَا على بن الْأَجْلَح عَن الضَّحَّاك قَالَ ان الله أخرج من ظهر آدم يَوْم خلقه مَا يكون إِلَى أَن تقوم السَّاعَة فَأخْرجهُمْ مثل الذَّر فَقَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} قَالَت الْمَلَائِكَة {شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} ثمَّ قبض قَبْضَة بِيَمِينِهِ فَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَقبض أُخْرَى فَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي النَّار قَالَ إِسْحَاق وَأخْبرنَا أَبُو عَامر الْعَقدي وَأَبُو نعيم الملائى قَالَ حَدثنَا هِشَام بن سعد عَن يحيى وَلَيْسَ بِابْن سعيد قَالَ قلت لِابْنِ الْمسيب مَا تَقول فِي الْعَزْل قَالَ إِن شِئْت حدثتك حَدِيثا هُوَ حق إِن الله سُبْحَانَهُ لما خلق آدم أرَاهُ كَرَامَة لم يرهَا أحدا من خلق الله أرَاهُ كل نسمَة هُوَ خَالِقهَا من ذُريَّته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَمن حَدثَك أَن يزِيد فيهم شَيْئا أَو ينقص مِنْهُم فقد كذب وَلَو كَانَ لي سَبْعُونَ مَا باليت

فصل واحتجوا أيضا بما رواه أبو عبد الله بن منده اخبرنا محمد بن

وَفِي تَفْسِير ابْن عُيَيْنَة عَن الرّبيع بن أنس عَن أَبى عالية وَله اسْلَمْ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها قَالَ يَوْم أَخذه الْمِيثَاق قَالَ إِسْحَاق فقد كَانُوا فِي ذَلِك الْوَقْت مقرين وَذَلِكَ أَن الله عز وَجل أخبر أَنه قَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} وَالله تَعَالَى لَا يُخَاطب إِلَّا من يفهم عَنهُ المخاطبة وَلَا يُجيب إِلَّا من فهم السُّؤَال فأجابتهم إِيَّاه بقَوْلهمْ دَلِيل على أَنهم قد فَهموا عَن الله وعقلوا عَنهُ استشهاده إيَّاهُم {أَلَسْت بربكم} فَأَجَابُوهُ من بعد عقل مِنْهُم للمخاطبة وَفهم لَهَا بِأَن {قَالُوا بلَى} فأقروا لَهُ بالربوبية فصل وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه اُخْبُرْنَا مُحَمَّد بن صابر البُخَارِيّ حَدثنَا مُحَمَّد ابْن الْمُنْذر بن سعد الهروى حَدثنَا جَعْفَر بن مُحَمَّد بن هَارُون المصيصى حَدثنَا عتبَة بن السكن حَدثنَا أَرْطَأَة بن الْمُنْذر حَدثنَا عَطاء بن عجلَان عَن يُونُس بن حَلبس عَن عَمْرو بن عبسة قَالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُول ان الله خلق أَرْوَاح الْعباد قبل الْعباد بألفي عَام فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف فَهَذَا بعض مَا احْتج بِهِ هَؤُلَاءِ قَالَ الْآخرُونَ الْكَلَام مَعكُمْ فِي مقامين أَحدهمَا ذكر الدَّلِيل على الْأَرْوَاح إِنَّهَا خلقت بعد خلق الْأَبدَان الثَّانِي الْجَواب عَمَّا استدللتم بِهِ فَأَما الْمقَام الأول فقد قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى} وَهَذَا خطاب للْإنْسَان الذى هُوَ روح وبدن فَدلَّ على أَن جملَته مخلوقة بعد خلق الْأَبَوَيْنِ واصرح مِنْهُ قَوْله {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة وَخلق مِنْهَا زَوجهَا وَبث مِنْهُمَا رجَالًا كثيرا وَنسَاء وَاتَّقوا الله} الْآيَة وَهَذَا صَرِيح فِي أَن خلق جملَة النَّوْع الإنساني بعد خلق اصله فَإِن قيل فَهَذَا لَا يَنْفِي تقدم خلق الْأَرْوَاح على أجسادها وَإِن خلقت بعد خلق أَبى الْبشر كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْآثَار الْمُتَقَدّمَة قيل سنبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَن الْآثَار الْمَذْكُورَة لَا تدل على سبق الْأَرْوَاح الأجساد سبقا مُسْتَقرًّا ثَابتا وغايتها أَن تدل بعد صِحَّتهَا وثبوتها على أَن بارئها وفاطرها سُبْحَانَهُ صور النسم وَقدر خلقهَا وآجالها وأعمالها واستخرج تِلْكَ الصُّور من مادتها ثمَّ أَعَادَهَا إِلَيْهَا وَقدر خُرُوج كل فَرد من أفرادها فِي وقته الْمُقدر لَهُ وَلَا تدل على أَنَّهَا خلقت خلقا مُسْتَقرًّا ثمَّ استمرت مَوْجُودَة حَيَّة عَالِمَة ناطقة كلهَا فِي مَوضِع وَاحِد ثمَّ ترسل مِنْهَا إِلَى الْأَبدَان جملَة بعد جملَة كَمَا قَالَه

أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَهَل تحمل الْآثَار مَالا طَاقَة لنا بِهِ نعم الرب سُبْحَانَهُ يخلق مِنْهَا جملَة بعد جملَة على الْوَجْه الذى سبق بِهِ التَّقْدِير أَولا فيجىء الْخلق الْخَارِجِي مطابقا للتقدير السَّابِق كشأنه تَعَالَى فِي جَمِيع مخلوقاته فانه قدر لَهَا أقدارا وآجالا وصفات وهيئات ثمَّ أبرزها إِلَى الْوُجُود مُطَابقَة لذَلِك التَّقْدِير الذى قدره لَهَا لَا تزيد عَلَيْهِ وَلَا تنقص مِنْهُ فالآثار الْمَذْكُورَة إِنَّمَا تدل على إِثْبَات الْقدر السَّابِق وَبَعضهَا يدل على أَنه سُبْحَانَهُ استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السَّعَادَة من أهل الشقاوة وَأما مخاطبتهم واستنطاقهم وإقرارهم لَهُ بالربوبية وشهادتهم على أنفسهم بالعبودية فَمن قَالَه من السّلف فَإِنَّمَا هُوَ بِنَاء مِنْهُ على فهم الْآيَة وَالْآيَة لم تدل على هَذَا بل دلّت على خِلَافه وَأما حَدِيث مَالك فَقَالَ أَبُو عمر هُوَ حَدِيث مُنْقَطع مُسلم بن يسَار لم يلق عمر بن الْخطاب وَبَينهمَا فِي هَذَا الحَدِيث نعيم بن ربيعَة وَهُوَ أَيْضا مَعَ هَذَا الْإِسْنَاد لَا يقوم بِهِ حجَّة وَمُسلم ابْن يسَار هَذَا مَجْهُول قيل أَنه مدنِي وَلَيْسَ بِمُسلم بن يسَار الْبَصْرِيّ قَالَ ابْن أَبى خَيْثَمَة قَرَأت على يحيى بن معِين حَدِيث مَالك هَذَا عَن زيد بن أَبى أنيسَة فَكتب بِيَدِهِ على مُسلم بن يسَار لَا يعرف ثمَّ سَاقه أَبُو عمر من طَرِيق النَّسَائِيّ أخبرنَا مُحَمَّد بن وهب حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلمَة قَالَ حَدثنِي أَبُو عبد الرَّحِيم قَالَ حَدثنِي زيد بن أنيسَة عَن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن عَن مُسلم بن يسَار عَن نعيم بن ربيعَة ثمَّ سَاقه من طَرِيق سَخْبَرَة حَدثنَا أَحْمد بن عبد الْملك بن وَاقد حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلمَة عَن أَبى عبد الرَّحِيم عَن زيد بن أَبى أنيسَة عَن عبد الحميد عَن مُسلم عَن نعيم قَالَ أَبُو عَمْرو وَزِيَادَة من زَاد فِي هَذَا الحَدِيث نعيم بن ربيعَة لَيست حجَّة أَن الذى لم يذكرهُ احفظ وَإِنَّمَا الزِّيَادَة من الْحَافِظ المتقن وَجُمْلَة القَوْل فِي هَذَا الحَدِيث أَنه حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بالقائم لِأَن مُسلم بن يسَار ونعيم بن ربيعَة جَمِيعًا غير معروفين بِحمْل الْعلم وَلَكِن معنى هَذَا الحَدِيث قد صَحَّ عَن النَّبِي من وُجُوه كَثِيرَة ثَابت يطول ذكرهَا من حَدِيث عمر بن الْخطاب وَغَيره وَجَمَاعَة يطول ذكرهم وَمُرَاد أَبُو عمر الْأَحَادِيث الدَّالَّة على الْقدر السَّابِق فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي سَاقهَا بعد ذَلِك فَذكر حَدِيث عبد الله بن عمر فِي الْقدر وَقَالَ فِي آخِره وَسَأَلَهُ رجل من مزينة أَو جُهَيْنَة فَقَالَ يَا رَسُول

الله فَفِيمَ الْعَمَل فَقَالَ أَن أهل الْجنَّة ييسرون لعمل أهل الْجنَّة وَأهل النَّار ييسرون لعمل أهل النَّار قَالَ وروى هَذَا الْمَعْنى فِي الْقدر عَن النَّبِي عَن على بن أَبى طَالب وأبى بن كَعْب وَعبد الله بن عَبَّاس وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد وَأَبُو سريحَة الغفارى وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَمْرو وَعمْرَان بن حُصَيْن وَعَائِشَة وَأنس بن مَالك وسراقة ابْن جعْشم وَأَبُو مُوسَى الأشعرى وَعبادَة بن الصَّامِت وَأكْثر أَحَادِيث هَؤُلَاءِ لَهَا طرق شَتَّى ثمَّ ساقي كثيرا مِنْهَا بِإِسْنَادِهِ وَأما حَدِيث أَبى صَالح عَن أَبى هُرَيْرَة فَإِنَّمَا يدل على اسْتِخْرَاج الذُّرِّيَّة وتمثلهم فِي صور الذَّر وَكَانَ مِنْهُم حِينَئِذٍ الْمشرق والمظلم وَلَيْسَ فِيهِ أَنه سُبْحَانَهُ خلق أَرْوَاحهم قبل الأجساد وأقرها بِموضع وَاحِد ثمَّ يُرْسل كل روح من تِلْكَ الْأَرْوَاح عِنْد حُدُوث بدنهَا اليه نعم هُوَ سُبْحَانَهُ يخص كل بدن بِالروحِ الَّتِي قدر أَن تكون لَهُ فِي ذَلِك الْوَقْت وَأما أَنه خلق نفس ذَلِك الْبدن فِي ذَلِك الْوَقْت وَفرغ من خلقهَا وأودعها فِي مَكَان معطلة عَن بدنهَا حَتَّى إِذا أحدث بدنهَا أرسلها إِلَيْهِ من ذَلِك الْمَكَان فَلَا يدل شَيْء من الْأَحَادِيث على ذَلِك الْبَتَّةَ لمن تأملها وَأما حَدِيث أَبى بن كَعْب هُوَ عَن النَّبِي وغايته لَو صَحَّ وَلم يَصح أَن يكون من كَلَام أَبى وَهَذَا الْإِسْنَاد يرْوى بِهِ أَشْيَاء مُنكرَة جدا مَرْفُوعَة وموقوفة وَأَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ وثق وَضعف وَقَالَ على بن المدينى كَانَ ثِقَة وَقَالَ أَيْضا كَانَ يخلط وَقَالَ ابْن معِين هُوَ ثِقَة وَقَالَ أَيْضا يكْتب حَدِيثه إِلَّا أَنه يُخطئ وَقَالَ الإِمَام أَحْمد لَيْسَ بقوى فِي الحَدِيث وَقَالَ أَيْضا صَالح الحَدِيث وَقَالَ الفلاس سيء الْحِفْظ وَقَالَ أَبُو زرْعَة ييهم كثيرا وَقَالَ ابْن حبَان ينْفَرد بِالْمَنَاكِيرِ عَن الْمَشَاهِير وَمِمَّا يُنكر من هَذَا الحَدِيث قَوْله فَكَانَ روح عِيسَى من تِلْكَ الْأَرْوَاح الَّتِي أَخذ عَلَيْهَا الْمِيثَاق فَأرْسل ذَلِك الرّوح إِلَى مَرْيَم حِين انتبذت من أَهلهَا مَكَانا شرقيا فَدخل فِي فِيهَا وَمَعْلُوم إِن الرّوح الذى أرسل إِلَى مَرْيَم لَيْسَ هُوَ روح الْمَسِيح بل ذَلِك الرّوح نفخ فِيهَا فَحملت بالمسيح قَالَ تَعَالَى {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سويا قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا} فَروح الْمَسِيح لَا يخاطبها عَن نَفسه بِهَذِهِ المخاطبة قطعا وَفِي بعض طرق حَدِيث أَبى جَعْفَر هَذَا أَن روح الْمَسِيح هُوَ الذى خطابها وَهُوَ الذى أرسل إِلَيْهَا

وَهَا هُنَا أَربع مقامات أَحدهَا أَن الله سُبْحَانَهُ استخرج صورهم وأمثالهم فميز شقيهم وسعيدهم ومعافاهم من مبتلاهم الثَّانِي أَن الله سُبْحَانَهُ أَقَامَ عَلَيْهِم الْحجَّة حِينَئِذٍ وأشهدهم بربوبيته وَاسْتشْهدَ عَلَيْهِم مَلَائكَته الثَّالِث أَن هَذَا هُوَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} الرَّابِع أَنه أقرّ تِلْكَ الْأَرْوَاح كلهَا بعد إخْرَاجهَا بمَكَان وَفرغ من خلقهَا وَإِنَّمَا يَتَجَدَّد كل وَقت إرْسَال جملَة مِنْهَا بعد جملَة إِلَى أبدانها فَأَما الْمقَام الأول فالآثار متظاهرة بِهِ مَرْفُوعَة وموقوفة فَأَما الْمقَام الثَّانِي فَإِنَّمَا أَخذ من أَخذه من الْمُفَسّرين من الْآيَة وظنوا أَنه تَفْسِيرهَا وَهَذَا قَول جُمْهُور الْمُفَسّرين من أهل الْأَثر قَالَ أَبُو إِسْحَاق جَائِز أَن يكون الله سُبْحَانَهُ جعل لأمثال الذَّر الَّتِي أخرجهَا فهما تعقل بِهِ كَمَا قَالَ {قَالَت نملة يَا أَيهَا النَّمْل ادخُلُوا مَسَاكِنكُمْ} وَقد سخر مَعَ دَاوُد الْجبَال تسح مَعَه وَالطير وَقَالَ ابْن الأنبارى مَذْهَب أهل الحَدِيث وكبراء أهل الْعلم فِي هَذِه الْآيَة أَن الله أخرج ذُرِّيَّة آدم من صلبه وأصلاب أَوْلَاده وهم فِي صور الذَّر فَأخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق أَنه خالقهم وَأَنَّهُمْ مصنوعون فَاعْتَرفُوا بذلك وقبلوا وَذَلِكَ بعد أَن ركب فيهم عقولا عرفُوا بهَا مَا عرض عَلَيْهِم كَمَا جعل للجبل عقلا حِين خُوطِبَ وكما فعل ذَلِك بالبعير لما سجد والنخلة حَتَّى سَمِعت وانقادت حِين دعيت وَقَالَ الجرجانى لَيْسَ بَين قَول النَّبِي إِن الله مسح ظهر آدم فَأخْرج مِنْهُ ذُريَّته وَبَين الْآيَة اخْتِلَاف بِحَمْد الله لِأَنَّهُ عز وَجل إِذا أَخذهم من ظهر آدم فقد أَخذهم من ظُهُور ذُريَّته لِأَن ذُرِّيَّة آدم لذريته بَعضهم من بعض وَقَوله تَعَالَى {أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} أَي عَن الْمِيثَاق الْمَأْخُوذ عَلَيْهِم فَإِذا قَالُوا ذَلِك كَانَت الْمَلَائِكَة شُهُودًا عَلَيْهِم بِأخذ الْمِيثَاق قَالَ وَفِي هَذَا دَلِيل على التَّفْسِير الذى جَاءَت بِهِ الرِّوَايَة من أَن الله تَعَالَى قَالَ للْمَلَائكَة اشْهَدُوا فَقَالُوا شَهِدنَا قَالَ وَزعم بعض أهل الْعلم أَن الْمِيثَاق إِنَّمَا أَخذ على الْأَرْوَاح دون الأجساد إِن الْأَرْوَاح هِيَ الَّتِي تعقل وتفهم وَلها الثَّوَاب وَعَلَيْهَا الْعقَاب والأجساد أموات لَا تعقل وَلَا تفهم قَالَ وَكَانَ إِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ يذهب إِلَى هَذَا الْمَعْنى وَذكر أَنه قَول أَبى هُرَيْرَة قَالَ إِسْحَاق وَأجْمع أهل الْعلم أَنَّهَا الْأَرْوَاح قبل الأجساد

فصل ونازع هؤلاء غيرهم في كون هذا معنى الآية وقالوا معنى قوله

أستنطقهم وأشهدهم قَالَ الجرجانى وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء} والأجساد قد بليت وضلت فِي الأَرْض والأرواح ترزق وتفرح وَهِي الَّتِي تلذ وتألم وتفرح وتحزن وتعرف وتنكر وَبَيَان ذَلِك فِي الأحلام مَوْجُود أَن الْإِنْسَان يصبح وَأثر لَذَّة الْفَرح وألم الْحزن بَاقٍ فِي نَفسه مِمَّا تلاقى الرّوح دون الْجَسَد قَالَ وَحَاصِل الْفَائِدَة فِي هَذَا الْفَصْل أَنه سُبْحَانَهُ قد أثبت الْحجَّة على كل النُّفُوس مِمَّن يبلغ وَمِمَّنْ لم يبلغ بالميثاق الذى أَخذه عَلَيْهِم وَزَاد على من بلغ مِنْهُم الْحجَّة بِالْآيَاتِ والدلائل الَّتِي نصبها فِي نَفسه وَفِي الْعَالم وبالرسل المنفذة إِلَيْهِم مبشرين ومنذرين وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إِلَيْهِم أَخْبَارهَا غير أَنه عز وَجل لَا يُطَالب أحدا مِنْهُم من الطَّاعَة إِلَّا بِقدر مَا لزمَه من الْحجَّة وَركب فيهم من الْقُدْرَة وآتاهم من الْأَدِلَّة وَبَين سُبْحَانَهُ مَا هُوَ عَامل فِي الْبَالِغين الَّذين أدركوا الْأَمر وَالنَّهْي وحجب عَنَّا علم مَا قدره فِي غير الْبَالِغين إِلَّا أَنا نعلم أَنه عدل لَا يجوز فِي حكمه وَحَكِيم لَا تفَاوت فِي صنعه وقادر لَا يسْأَل عَمَّا يفعل لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين فصل وَنَازع هَؤُلَاءِ غَيرهم فِي كَون هَذَا معنى الْآيَة وَقَالُوا معنى قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} أَي إخرجهم وأنشأهم بعد أَن كَانُوا نطفا فِي أصلاب الْآبَاء إِلَى الدُّنْيَا على ترتيبهم فِي الْوُجُود وأشهدهم على أنفسهم أَنه رَبهم بِمَا أظهر لَهُم من آيَاته وبراهينه الَّتِي تضطرهم إِلَى أَن يعلمُوا أَنه خالقهم فَلَيْسَ من أحد إِلَّا وَفِيه من صَنْعَة ربه مَا يشْهد على أَنه بارئه ونافذ الحكم فِيهِ فَلَمَّا عرفُوا ذَلِك ودعاهم كل مَا يرَوْنَ ويشاهدون إِلَى التَّصْدِيق بِهِ كَانُوا بِمَنْزِلَة الشَّاهِدين والمشهدين على أنفسهم بِصِحَّتِهِ كَمَا قَالَ فِي غير هَذَا الْموضع {شَاهِدين على أنفسهم بالْكفْر} يريدهم بِمَنْزِلَة الشَّاهِدين وَإِن لم يَقُولُوا نَحن كفرة كَمَا تَقول كَمَا شهِدت جوارحي بِقَوْلِك تُرِيدُ قد عَرفته فَكَأَن جوارحى لَو استشهدت وَفِي وسعهَا أَن تنطق لشهدت وَمن هَذَا إِعْلَامه وتبيينه أَيْضا شهد الله أَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ يُرِيد أعلم وَبَين فأشه ذَلِك شَهَادَة من شهد عِنْد الْحُكَّام وَغَيرهم هَذَا كَلَام ابْن الأنبارى وَزَاد الْجِرْجَانِيّ بَيَانا لهَذَا القَوْل فَقَالَ حَاكما عَن أَصْحَابه أَن الله لما خلق الْخلق وَنفذ علمه فيهم بِمَا هُوَ كَائِن وَمَا لم يكن بعد مِمَّا هُوَ كَائِن كالكائن إِذْ علمه بِكَوْنِهِ مَانع من غير كَونه شَائِع فِي مجَاز الْعَرَبيَّة أَن يوضع مَا هُوَ منتظر بعد مِمَّا لم يَقع بعد موقع الْوَاقِع لسبق علمه بِوُقُوعِهِ كَمَا قَالَ عز وَجل فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن كَقَوْلِه تَعَالَى {ونادى أَصْحَاب النَّار} {ونادى أَصْحَاب الْجنَّة} {ونادى أَصْحَاب الْأَعْرَاف} قَالَ فَيكون تَأْوِيل قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك} وَإِذ يَأْخُذ رَبك وَكَذَلِكَ قَوْله

{وأشهدهم على أنفسهم} أَي ويشهدهم مِمَّا رَكبه فيهم من الْعقل الذى يكون بِهِ الْفَهم وَيجب بِهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب وكل من ولد وَبلغ الْحِنْث وعقل الضّر والنفع وَفهم الْوَعْد والوعيد وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب صَار كَأَن الله تَعَالَى أَخذ عَلَيْهِ الْمِيثَاق فِي التَّوْحِيد بِمَا ركب فِيهِ من الْعقل وَأرَاهُ من الْآيَات والدلائل على حُدُوثه وَأَنه لَا يجوز أَن يكون قد خلق نَفسه وَإِذا لم يجز ذَلِك فَلَا بُد لَهُ من خَالق هُوَ غَيره لَيْسَ كمثله وَلَيْسَ من مَخْلُوق يبلغ هَذَا الْمبلغ وَلم يقْدَح فِيهِ مَانع من فهم إِلَّا إِذا حز بِهِ أَمر يفزع إِلَى الله عز وَجل حِين يرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء وَيُشِير إِلَيْهَا بإصبعه علما مِنْهُ بِأَن خالقه تَعَالَى فَوْقه وَإِذا كَانَ الْعقل الذى مِنْهُ الْفَهم والإفهام مُؤديا إِلَى معرفَة مَا ذكرنَا ودالا عَلَيْهِ فَكل من بلغ هَذَا الْمبلغ فقد أَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد والميثاق وَجَائِز أَن يُقَال لَهُ قد أقرّ وأذعن وَأسلم كَمَا قَالَ الله عز وَجل وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها قَالَ وَاحْتَجُّوا بقوله رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث عَن الصبى حَتَّى يَحْتَلِم وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق وَعَن النَّائِم حَتَّى ينتبه وَقَوله عز وَجل إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا ثمَّ قَالَ تَعَالَى وحلمها الْإِنْسَان الْأَمَانَة هَا هُنَا عهد وميثاق فامتناع السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال من حمل الْأَمَانَة لأجل خلوها من الْعقل الذى يكون بِهِ الْفَهم والإفهام وَحمل الْإِنْسَان إِيَّاهَا لمَكَان الْعقل فِيهِ قَالَ وللعرب فِيهَا ضروب نظم فَمِنْهَا قَوْله ضمن القنان الفقعس بثباتها ... ان القنان لفقعس لَا يأتلى والفنان جبل فَذكر أَنه قد ضمن لفقعس وضمانه لَهَا أَنهم كَانُوا إِذا حزبهم أَمر من هزيمَة أَو خوف لجأوا إِلَيْهِ فَجعل ذَلِك كالضمان لَهُم وَمِنْه قَول النَّابِغَة كأرجاف الجولان هلل ربه ... وجوران مِنْهَا خاشع متضائل وأرجاف الجولان جبالها وجوران الأَرْض الَّتِي إِلَى جَانبهَا وَقَالَ هَذَا الْقَائِل إِن فِي قَوْله تَعَالَى {أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا}

من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ دَلِيلا على هَذَا التَّأْوِيل لِأَنَّهُ عز وَجل أعلم أَن هَذَا الْأَخْذ للْعهد عَلَيْهِم لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة انا كُنَّا عَن هَذَا غافلين والغفلة هَا هُنَا لَا تَخْلُو من أحد وَجْهَيْن أما أَن تكون عَن يَوْم الْقِيَامَة أَو عَن أَخذ الْمِيثَاق فَأَما يَوْم الْقِيَامَة فَلم يذكر سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه أَنه أَخذ عَلَيْهِم عهدا وميثاقا بِمَعْرِِفَة الْبَعْث والحساب وَإِنَّمَا ذكر مَعْرفَته فَقَط وَأما أَخذ الْمِيثَاق فالأطفال والإسقاط إِن كَانَ هَذَا الْعَهْد مأخوذا عَلَيْهِم كَمَا قَالَ الْمُخَالف فهم لم يبلغُوا بعد أَخذ هَذَا الْمِيثَاق عَلَيْهِم مبلغا يكون مِنْهُم غَفلَة عَنهُ فيجحدونه وينكرونه فَمَتَى تكون هَذِه الْغَفْلَة مِنْهُم وَهُوَ عز وَجل لَا يؤاخذهم بِمَا لم يكن مِنْهُم وَذكر مَا لَا يجوز وَلَا يكون محَال وَقَوله تَعَالَى {أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ} فَلَا يَخْلُو هَذَا الشّرك الذى يؤاخذون بِهِ أَن يكون مِنْهُم أنفسهم أَو من آبَائِهِم فان كَانَ مِنْهُم فَلَا يجوز أَن يكون ذَلِك إِلَّا بعد الْبلُوغ وَثُبُوت الْحجَّة عَلَيْهِم إِذْ الطِّفْل لَا يكون مِنْهُ شرك وَلَا غَيره وان كَانَ من غَيرهم فالأمة مجمعة على أَن لَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى كَمَا قَالَ عز وَجل فِي الْكتاب وَلَيْسَ هَذَا بمخالف لما روى عَن النَّبِي أَن الله مسح ظهر آدم وَأخرج مِنْهُ ذُريَّته فَأخذ عَلَيْهِم الْعَهْد لِأَنَّهُ اقْتصّ قَول الله عز وَجل فجَاء مثل نظمه فَوضع الْمَاضِي من اللَّفْظ مَوضِع الْمُسْتَقْبل قَالَ وَهَذَا شَبيه الْقِصَّة بِقصَّة قَوْله تَعَالَى وَإِذ أَخذ مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لنؤمن بِهِ فَجعل سُبْحَانَهُ مَا أنزل على الْأَنْبِيَاء من الْكتاب وَالْحكمَة ميثاقا أَخذه من أممهم بعدهمْ يدل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى {ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه} ثمَّ قَالَ للأمم {أأقررتم وأخذتم على ذَلِكُم إصري قَالُوا أقررنا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعكُمْ من الشَّاهِدين} فَجعل سُبْحَانَهُ الْأُمَم كِتَابه الْمنزل على أَنْبِيَائهمْ حجَّة كأخذ الْمِيثَاق عَلَيْهِم وَجعل معرفتهم بِهِ إِقْرَارا مِنْهُم قلت وشبيه بِهِ أَيْضا قَوْله تَعَالَى {واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وميثاقه الَّذِي واثقكم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سمعنَا وأطعنا} فَهَذَا ميثاقه الذى أَخذه عَلَيْهِم بعد إرْسَال رسله إِلَيْهِم بِالْإِيمَان بِهِ وتصديقه وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى وَالَّذين يُوفونَ بِعَهْد الله وَلَا ينقضون الْمِيثَاق وَقَوله تَعَالَى {ألم أَعهد إِلَيْكُم يَا بني آدم أَن لَا تعبدوا الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين وَأَن اعبدوني هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} فَهَذَا عَهده إِلَيْهِم على السّنة رسله وَمثله قَوْله تَعَالَى لبنى إِسْرَائِيل {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وَمثله وَإِذ أَخذ مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبينه للنَّاس وَلَا تكتمونه وَقَوله تَعَالَى {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ابْن مَرْيَم وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا} فَهَذَا مِيثَاق أَخذه مِنْهُم بَعثهمْ كَمَا أَخذ من أممهم بعد إِنْذَارهم

وَهَذَا الْمِيثَاق الذى لعن سُبْحَانَهُ من نقضه وعاقبه بقوله تَعَالَى {فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية} فَإِنَّمَا عاقبهم بنقضهم الْمِيثَاق الذى أَخذه عَلَيْهِم على أَلْسِنَة رسله وَقد صرح بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} وَلما كَانَت هَذِه الآيه ونظيرها فِي سُورَة مَدَنِيَّة خَاطب بالتذكير بِهَذَا الْمِيثَاق فِيهَا أهل الْكتاب فَإِنَّهُ مِيثَاق أَخذه عَلَيْهِم بِالْإِيمَان بِهِ ويرسله وَلما كَانَت هَذِه آيَة الْأَعْرَاف فِي سُورَة مَكِّيَّة ذكر فِيهَا الْمِيثَاق وَالْإِشْهَاد الْعَام لجَمِيع الْمُكَلّفين مِمَّن أقرّ بربوبيته ووحدانيته وَبطلَان الشّرك وَهُوَ مِيثَاق وإشهاد تقوم بِهِ عَلَيْهِم الْحجَّة وَيَنْقَطِع بِهِ الْعذر وَتحل بِهِ الْعقُوبَة وَيسْتَحق بمخالفته الإهلاك فَلَا بُد أَن يَكُونُوا ذاكرين لَهُ عارفين بِهِ وَذَلِكَ مَا فطرهم عَلَيْهِ من الْإِقْرَار بربوبيته وَأَنه رَبهم وفاطرهم وانهم مخلوقين مربوبون ثمَّ أرسل إِلَيْهِم رسله يذكرونهم مِمَّا فِي فطرهم وعقولهم ويعرفونهم حَقه عَلَيْهِم وَأمره وَنَهْيه ووعده ووعيده ونظم الْآيَة إِنَّمَا يدل على هَذَا من وُجُوه مُتعَدِّدَة أَحدهَا أَنه قَالَ {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} وَلم يقل آدم وَبَنُو آدم غير آدم الثَّانِي أَنه قَالَ {من ظُهُورهمْ} وَلم يقل ظهر وَهَذَا يدل بعض من كل أَو بدل اشْتِمَال وَهُوَ أحسن الثَّالِث أَنه قَالَ ذرياتهم وَلم يقل ذُريَّته الرَّابِع أَنه قَالَا {وأشهدهم على أنفسهم} أَي جعلهم شَاهِدين على أنفسهم فَلَا بُد أَن يكون الشَّاهِد ذَاكِرًا لما شهد بِهِ إِنَّمَا يذكر شَهَادَته بعد خُرُوجه إِلَى هَذِه الدَّار لَا يذكر شَهَادَة قبلهَا الْخَامِس أَنه سُبْحَانَهُ أخبر أَن حِكْمَة هَذَا الْإِشْهَاد إِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين وَالْحجّة إِنَّمَا قَامَت عَلَيْهِم بالرسل والفطرة الَّتِي فطروا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {رسلًا مبشرين ومنذرين لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} السَّادِس تذكيرهم بذلك لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة {إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} وَمَعْلُوم أَنهم غافلون بِالْإِخْرَاجِ لَهُم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جَمِيعًا ذَلِك الْوَقْت فَهَذَا لَا يذكرهُ أحد مِنْهُم السَّابِع قَوْله تَعَالَى {أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ} فَذكر حكمتين فِي هَذَا التَّعْرِيف وَالْإِشْهَاد إِحْدَاهمَا أَن لَا يدعوا الْغَفْلَة وَالثَّانيَِة أَن لَا يدعوا التَّقْلِيد فالغافل لَا شُعُور والمقلد مُتبع فِي تَقْلِيده لغيره الثَّامِن قَوْله تَعَالَى {أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون} أَي لَو عذبهم بجحودهم وشركهم

لقالوا ذَلِك وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يُهْلِكهُمْ لمُخَالفَة رسله وتكذيبهم فَلَو أهلكهم بتقليد آبَائِهِم فِي شركهم من غير إِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم بالرسل لأهلكهم بِمَا فعل المبطلون أَو أهلكهم مَعَ غفلتهم عَن معرفَة بطلَان مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَقد أخبر سُبْحَانَهُ أَنه لم يكن ليهلك الْقرى بظُلْم وَأَهْلهَا غافلون وَإِنَّمَا يُهْلِكهُمْ بعد الْأَعْذَار والإنذار التَّاسِع أَنه سُبْحَانَهُ أشهد كل وَاحِد على نَفسه أَنه ربه وخالقه وَاحْتج عَلَيْهِم بِهَذَا الْإِشْهَاد فِي غير مَوضِع من كِتَابه كَقَوْلِه تَعَالَى وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون أَي فَكيف يصرفون عَن التَّوْحِيد بعد هَذَا الْإِقْرَار مِنْهُم أَن الله رَبهم وخالقهم وَهَذَا كثير فِي الْقُرْآن فَهَذِهِ هِيَ الْحجَّة الَّتِي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بهَا رسله بقوله تَعَالَى أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض فَالله تَعَالَى إِنَّمَا ذكرهم على أَلْسِنَة رسله بِهَذَا الْإِقْرَار والمعرفة وَلم يذكرهم قطّ بِإِقْرَار سَابق على إيجادهم وَلَا أَقَامَ بِهِ عَلَيْهِم حجَّة الْعَاشِر أَنه جعل هَذَا آيه وَهِي الدّلَالَة الْوَاضِحَة الْبَيِّنَة المستلزمة لمدلولها بِحَيْثُ لَا يتَخَلَّف عَنْهَا الْمَدْلُول وَهَذَا شَأْن آيَات الرب تَعَالَى فَإِنَّهَا أَدِلَّة مُعينَة على مَطْلُوب معِين مستلزمة للْعلم بِهِ فَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات} أَي مثل هَذَا التَّفْصِيل والتبيين نفصل الْآيَات لَعَلَّهُم يرجعُونَ من الشّرك إِلَى التَّوْحِيد وَمن الْكفْر إِلَى الْإِيمَان وَهَذِه الْآيَات الَّتِي فصلها هِيَ الَّتِي بَينهَا فِي كِتَابه من أَنْوَاع مخلوقاته وَهِي آيَات أفقية وحسية آيَات فِي نُفُوسهم وذواتهم وخلقهم وآيات فِي الأقطار والنواحي مِمَّا يحدثه الرب تبَارك وَتَعَالَى مِمَّا يدل على وجوده ووحدانيته وَصدق رسله وعَلى الْمعَاد وَالْقِيَامَة وَمن أبينها مَا أشهد بِهِ كل وَاحِد على نَفسه من أَنه ربه وخالقه ومبدعه وَأَنه مربوب مَخْلُوق مَصْنُوع حَادث بعد أَن لم يكن ومحال أَن يكون حدث بِلَا مُحدث أَو يكون هُوَ الْمُحدث لنَفسِهِ فَلَا بُد لَهُ من موجد أَو جده لَيْسَ كمثله شَيْء وَهَذَا الْإِقْرَار والمشاهدة فطْرَة فطروا عَلَيْهَا لَيست بمكتسبة وَهَذِه الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} مُطَابقَة لقَوْل النَّبِي كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَلقَوْله تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ منيبين إِلَيْهِ} وَمن الْمُفَسّرين من لم يذكر إِلَّا هَذَا القَوْل فَقَط كالزمخشري وَمِنْهُم من يذكر إِلَّا القَوْل الأول فَقَط وَمِنْهُم من حكى الْقَوْلَيْنِ كَابْن الجوزى والواحدي والماوردى وَغَيرهم قَالَ الْحسن بن يحيى الْجِرْجَانِيّ فَإِن اعْتِرَاض معترض فِي هَذَا الْفَصْل بِحَدِيث يرْوى عَن النَّبِي أَنه قَالَ أَن الله مسح ظهر آدم فَأخْرج مِنْهُ ذُريَّته وَأخذ عَلَيْهِم الْعَهْد ثمَّ ردهم فِي ظَهره وَقَالَ إِن هَذَا مَانع من جَوَاز التَّأْوِيل الَّذِي ذهبت إِلَيْهِ لِامْتِنَاع ردهم فِي الظّهْر

إِن كَانَ أَخذ الْمِيثَاق عَلَيْهِ بعد الْبلُوغ وَتَمام الْعقل قيل لَهُ أَن معنى ثمَّ ردهم فِي ظَهره ثمَّ يردهم فِي ظَهره كَمَا قُلْنَا إِن معنى أَخذ رَبك يَأْخُذ رَبك فَيكون مَعْنَاهُ ثمَّ يردهم فِي ظَهره بوفاتهم لأَنهم إِذا مَاتُوا ردوا إِلَى الأَرْض للدفن وآدَم خلق مِنْهَا ورد فِيهَا فَإِذا ردوا فِيهَا فقد ردوا فِي آدم وَفِي ظَهره إِذْ كَانَ آدم خلق مِنْهَا وفيهَا رد وَبَعض الشَّيْء من الشَّيْء وَفِيمَا ذهبتم إِلَيْهِ من تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث على ظَاهره تفَاوت بَينه وَبَين مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن فِي هَذَا الْمَعْنى إِلَّا أَن يرد تَأْوِيله إِلَى مَا ذكرنَا لِأَنَّهُ عز وَجل قَالَ {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} وَلم يذكر آدم فِي الْقِصَّة إِنَّمَا هُوَ هَاهُنَا مُضَاف إِلَيْهِ لتعريف ذُريَّته أَنهم أَوْلَاده وَفِي الحَدِيث أَنه مسح ظهر آدم فَلَا يُمكن رد مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن وَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث إِلَى الِاتِّفَاق إِلَّا بالتأويل الذى ذَكرْنَاهُ قَالَ الْجِرْجَانِيّ وَأَنا أَقُول وَنحن إِلَى مَا روى فِي الْآيَة عَن رَسُول الله وَمَا ذهب إِلَيْهِ أهل الْعلم من السّلف الصَّالح أمثل وَله أقبل وَبِه آنس وَالله ولي التَّوْفِيق لما هُوَ أولى وَأهْدى على أَن بعض أَصْحَابنَا من أهل السّنة قد ذكر فِي الرَّد على هَذَا الْقَائِل معنى يحْتَمل ويسوغ فِي النّظم الْجَارِي ومجاز الْعَرَبيَّة بسهولة وَإِمْكَان من غير تعسف وَلَا استكراه وَهُوَ أَن يكون قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} مُبْتَدأ خبر من الله عز وَجل عَمَّا كَانَ مِنْهُ فِي أَخذ الْعَهْد عَلَيْهِم وَإِذ تَقْتَضِي جَوَابا يَجْعَل جَوَابه قَوْله تَعَالَى {قَالُوا بلَى} وَانْقطع هَذَا الْخَبَر بِتمَام قصَّته ثمَّ ابْتَدَأَ عز وَجل خَبرا آخر بِذكر مَا يَقُوله الْمُشْركُونَ يَوْم الْقِيَامَة فَقَالُوا شَهِدنَا يَعْنِي نشْهد كَمَا قلا الحطيئة شهد الحطيئة حِين يلقى ربه ... أَن الْوَلِيد أَحَق بالعذر بِمَعْنى يشْهد الحطيئة يَقُول تَعَالَى نشْهد أَنكُمْ ستقولون يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين أَي عَمَّا هم فِيهِ من الْحساب والمناقشة والمؤاخذة بالْكفْر ثمَّ أضَاف إِلَيْهِ خَبرا آخر فَقَالَ {أَو تَقولُوا} بِمَعْنى وَأَن تَقولُوا لِأَن أَو بِمَعْنى وَاو النسق مثل قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} فتأويله ونشهد أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة {إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ} أَي أَنهم أشركوا وحملونا على مَذْهَبهم فِي الشّرك فِي صبانا فجرينا على مذاهبهم وافتدينا بهم فَلَا ذَنْب إِذْ كُنَّا مقتدين بهم والذنب فِي ذَلِك لَهُم قُولُوا {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون} يدل على ذَلِك قَوْلهم {أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون} أَي حملهمْ إيانا على الشّرك فَتكون الْقِصَّة الأولى خَبرا عَن جَمِيع المخلوقين بِأخذ الْمِيثَاق عَلَيْهِم والقصة الثَّانِيَة خبر عَمَّا يَقُول الْمُشْركُونَ يَوْم الْقِيَامَة من الِاعْتِذَار وَقَالَ فِيمَا ادَّعَاهُ الْمُخَالف أَنه تفَاوت فِيمَا بَين الْكتاب وَالْخَبَر لاخْتِلَاف ألفاظهما فيهمَا قولا يجب قبُوله بالنظائر والعبر الَّتِي تأيد بهَا لمُخَالفَته فَقَالَ إِن الْخَبَر عَن رَسُول الله

إِن الله مسح ظهر آدم أَفَادَ زِيَادَة خبر كَانَ فِي الْقِصَّة الَّتِي ذكر الله تَعَالَى فِي الْكتاب بَعْضهَا وَلم يذكر كلهَا وَلَو أخبر بسوى هَذِه الزِّيَادَة الَّتِي أخبر بِمَا مِمَّا عَسى أَن يكون قد كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي أَخذ فِيهِ الْعَهْد مِمَّا لم يضمنهُ الله كِتَابه لما كَانَ فِي ذَلِك خلاف وَلَا تفَاوت بل كَانَ زِيَادَة فِي الْفَائِدَة وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظ إِذا اخْتلفت فِي ذَاتهَا كَانَ مرجعها إِلَى أَمر وَاحِد لم يُوجب ذَلِك تناقضا كَمَا قَالَ عز وَجل فِي كِتَابه فِي خلق آدم فَذكر مرّة أَنه خلق من تُرَاب وَمرَّة أَنه خلق من حمأ مسنون وَمرَّة من طين لازب وَمرَّة من صلصال كالفخار فَهَذِهِ الْأَلْفَاظ مُخْتَلفَة ومعانيها أَيْضا فِي الْأَحْوَال مُخْتَلفَة أَن الصلصال غير الحمأة والحمأة غير التُّرَاب إِلَّا أَن مرجعها كلهَا فِي الأَصْل إِلَى جَوْهَر وَاحِد وَهُوَ التُّرَاب وَمن التُّرَاب تدرجت هَذِه الْأَحْوَال فَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} وَقَوله أَن الله مسح ظهر آدم فاستخرج مِنْهُ ذُريَّته معنى وَاحِد فِي الأَصْل إِلَّا أَن قَوْله مسح ظهر آدم زِيَادَة فِي الْخَبَر عَن الله عز وَجل ومسحه عز وَجل ظهر آدم واستخراج ذُريَّته من مسح لظُهُور ذُريَّته واستخراج ذرياتهم من ظُهُورهمْ كَمَا ذكر تَعَالَى لأَنا قد علمنَا أَن جَمِيع ذُرِّيَّة آدم لم يَكُونُوا من صلبه لَكِن لما كَانَ الطَّبَق الأول من صلبه ثمَّ الثَّانِي من صلب الأول ثمَّ الثَّالِث من صلب الثَّانِي جَازَ أَن ينْسب ذَلِك كُله إِلَى ظهر آدم لأَنهم فَرعه وَهُوَ أصلهم وكما جَازَ أَن يكون مَا ذكر الله عز وَجل أَنه استخرجه من ظُهُور ذُرِّيَّة آدم من ظهر آدم جَازَ أَن يكون مَا ذكر انه استخرجه من ظهر آدم من ظُهُور ذُريَّته إِذْ الأَصْل وَالْفرع شَيْء وَاحِد وَفِيه أَيْضا أَنه عز وَجل لما أضَاف الذُّرِّيَّة إِلَى آدم فِي الْخَبَر احْتمل أَن يكون الْخَبَر عَن الذُّرِّيَّة وَعَن آدم كَمَا قَالَ عز وَجل {فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين} وَالْخَبَر فِي الظَّاهِر عَن الْأَعْنَاق والنعت للأسماء المكنية فِيهَا وَهُوَ مُضَاف إِلَيْهَا كَمَا كَانَ آدم مُضَافا إِلَيْهِ هُنَاكَ وليسا جَمِيعًا بالمقصودين فِي الظَّاهِر بالْخبر وَلَا يحْتَمل أَن يكون قَوْله خاضعين للأعناق لِأَن وَجه جمعهَا خاضعات وَمِنْه قَول الشَّاعِر وتشرق بالْقَوْل الَّذِي قد أذعته ... كَمَا شَرقَتْ صدر الْقَنَاة من الدَّم فالصدر الْمُذكر وَقَوله شَرقَتْ أنث لاضافة الصَّدْر الى الْقَنَاة

فصل فهذا بعض كلام السلف والخلف في هذه الآية وعلى كل تقدير فلا

فصل فَهَذَا بعض كَلَام السّلف وَالْخلف فِي هَذِه الْآيَة وعَلى كل تَقْدِير فَلَا تدل على خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد خلقا مُسْتَقرًّا وَإِنَّمَا غايتها أَن تدل على إِخْرَاج صورهم وأمثالهم فِي صور الذَّر واستنطاقهم ثمَّ ردهم إِلَى أصلهم أَن صَحَّ الْخَبَر بذلك وَالَّذِي صَحَّ إِنَّمَا هُوَ إِثْبَات الْقدر السَّابِق وتقسيمهم إِلَى شقي وَسَعِيد وَأما اسْتِدْلَال أَبى مُحَمَّد بن حزم بقوله تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} فَمَا أليق هَذَا الِاسْتِدْلَال بظاهريته لترتيب الْأَمر بِالسُّجُود لآدَم على خلقنَا وتصويرنا وَالْخطاب للجملة المركبة من الْبدن وَالروح وَذَلِكَ مُتَأَخّر عَن خلق آدم وَلِهَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ} يَعْنِي آدم {ثمَّ صورناكم} لذريته وَمِثَال هَذَا مَا قَالَه مُجَاهِد {خَلَقْنَاكُمْ} يَعْنِي آدم وصورناكم فِي ظهر آدم وَإِنَّمَا قَالَ خَلَقْنَاكُمْ بِلَفْظ الْجمع وَهُوَ يُرِيد آدم كَمَا تَقول ضربناكم وَإِنَّمَا ضربت سيدهم وَاخْتَارَ أَبُو عبيد فِي هَذِه الْآيَة قَول مُجَاهِد لقَوْله تَعَالَى بعد ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا وَكَانَ قَوْله تَعَالَى للْمَلَائكَة اسجدوا قبل خلق ذُرِّيَّة آدم وتصويرهم فِي الْأَرْحَام وَثمّ توجب التَّرَاخِي وَالتَّرْتِيب فَمن جعل الْخلق والتصوير فِي هَذِه الْآيَة لأَوْلَاد آدم فِي الْأَرْحَام يكون قد رَاعى حكم ثمَّ فِي التَّرْتِيب إِلَّا أَن يَأْخُذ بقول الْأَخْفَش فَإِنَّهُ يَقُول ثمَّ هَا هُنَا فِي معنى الْوَاو قَالَ الزّجاج وَهَذَا خطأ لَا يُجِيزهُ الْخَلِيل وسيبويه وَجَمِيع من يوثق بِعِلْمِهِ قَالَ أَبُو عبيد وَقد بَينه مُجَاهِد حِين قَالَ إِن الله تَعَالَى خلق ولد آدم وصورهم فِي ظَهره ثمَّ أَمر بعد ذَلِك بِالسُّجُود قَالَ وَهَذَا بَين فِي الحَدِيث وَهُوَ أَنه أخرجهم من ظَهره فِي صور الذَّر قلت وَالْقُرْآن يُفَسر بعضه بَعْضًا وَنَظِير هَذِه الْآيَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة فأوقع الْخلق من تُرَاب عَلَيْهِم وَهُوَ لأبيهم آدم إِذْ هُوَ أصلهم وَالله سُبْحَانَهُ يُخَاطب الْمَوْجُودين وَالْمرَاد آباؤهم كَقَوْلِه تَعَالَى وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر على طَعَام وَاحِد الْآيَة وَقَوله تَعَالَى وَإِذ قتلتم {نفسا فادارأتم فِيهَا} وَقَوله تَعَالَى {وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور} وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن يخاطبهم وَالْمرَاد بِهِ آباؤهم فَهَكَذَا قَوْله {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم} وَقد يستطرد سُبْحَانَهُ من ذكر الشَّخْص إِلَى ذكر النَّوْع كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين} فالمخلوق من سلالة من طين آدم والمجعول نُطْفَة فِي قَرَار مكين ذُريَّته

فصل وأما الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق أبدانها فمن وجوه

وَأما حَدِيث خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد بألفي عَام فَلَا يَصح إِسْنَاده فَفِيهِ عتبَة بن السكن قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ مَتْرُوك وأرطأة بن الْمُنْذر قَالَ ابْن عدي بعض أَحَادِيثه غلط فصل وَأما الدَّلِيل على أَن خلق الْأَرْوَاح مُتَأَخّر عَن خلق أبدانها فَمن وُجُوه أَحدهَا أَن خلق أَبى الْبشر وأصلهم كَانَ هَكَذَا فَإِن الله سُبْحَانَهُ أرسل جِبْرِيل فَقبض قَبْضَة من الأَرْض ثمَّ خمرها حَتَّى صَارَت طينا ثمَّ صوره ثمَّ نفخ فِيهِ الرّوح بعد أَن صوره فَلَمَّا دخلت الرّوح فِيهِ صَار لَحْمًا ودما حَيا ناطقا فَفِي تَفْسِير أَبى مَالك وأبى صَالح عَن ابْن عَبَّاس وَعَن مرّة عَن ابْن مَسْعُود وَعَن أنَاس من أَصْحَاب النَّبِي لما فرغ عز وَجل من خلق مَا أحب اسْتَوَى على الْعَرْش فَجعل إِبْلِيس ملكا على سَمَاء الدُّنْيَا وَكَانَ من الْخزَّان قلبه من مَلَائِكَة يُقَال لَهُم الْجِنّ وَإِنَّمَا سموا الْجِنّ لأَنهم خزان خزان أهل الْجنَّة وَكَانَ إِبْلِيس مَعَ ملكه خَازِنًا فَوَقع فِي صَدره وَقَالَ مَا أَعْطَانِي الله هَذَا إِلَّا لمزيد لي وَفِي لفظ لمزية لي على الْمَلَائِكَة فَلَمَّا وَقع ذَلِك الْكبر فِي نَفسه اطلع الله على ذَلِك مِنْهُ فَقَالَ الله للْمَلَائكَة {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} قَالُوا رَبنَا وَمَا يكون حَال الْخَلِيفَة وَمَا يصنعون فِي الأَرْض قَالَ الله تكون لَهُ ذُرِّيَّة يفسدونه فِي الأَرْض ويتحاسدون وَيقتل بَعضهم بَعْضًا قَالُوا رَبنَا {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك قَالَ إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} يَعْنِي من شَأْن إِبْلِيس فَبعث جِبْرِيل إِلَى الأَرْض ليَأْتِيه بطين مِنْهَا فَقَالَت الأَرْض إِنِّي أعوذ بِاللَّه مِنْك أَن تقبض مني فَرجع وَلم يَأْخُذ وَقَالَ رب إِنَّهَا عاذت بك فأعذتها فَبعث مِيكَائِيل فعاذت مِنْهُ فأعاذها فَبعث ملك الْمَوْت فعاذت مِنْهُ فَقَالَ وَأَنا أعوذ بِاللَّه أَن أرجع وَلم أنفذ أمره فَأخذ من وَجه الأَرْض وخلط فَلم يَأْخُذ من مَكَان وَاحِد فَأخذ من تربة حَمْرَاء وبيضاء وسوداء وَلذَلِك خرج بَنو آدم مُخْتَلفين فَصَعدَ بِهِ قبل الرب عز وَجل حَتَّى عَاد طينا لازبا واللازب هُوَ الَّذِي يلزق بعضه بِبَعْض ثمَّ قَالَ للْمَلَائكَة {إِنِّي خَالق بشرا من طين فَإِذا سويته ونفخت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين} فخلقه الله بِيَدِهِ لكيلا يتكبر إِبْلِيس عَنهُ ليقول لَهُ تتكبر عَمَّا عملت بيَدي وَلم أتكبر أَنا عَنهُ فخلقه بشرا فَكَانَ جسدا من طين أَرْبَعِينَ سنة فمرت بِهِ الْمَلَائِكَة ففزعوا مِنْهُ لما رَأَوْهُ وَكَانَ أَشَّدهم مِنْهُ فَزعًا إِبْلِيس فَكَانَ يمر بِهِ فيضربه فيصوت الْجَسَد كَمَا يصوت الفخار تكون لَهُ صلصة فَذَلِك حِين يَقُول {من صلصال كالفخار} وَيَقُول لأمر مَا خلقت وَدخل من فِيهِ فَخرج من دبره فَقَالَ للْمَلَائكَة لَا ترهبوا من هَذَا فَإِن ربكُم صَمد وَهَذَا أجوف لَئِن سلطت عَلَيْهِ لأهلكنه فَلَمَّا بلغ الْحِين الَّذِي يُرِيد الله جلّ ثَنَاؤُهُ أَن ينْفخ فِيهِ الرّوح قَالَ للْمَلَائكَة

إِذا نفخت فِيهِ من روحي فأسجدوا لَهُ فَلَمَّا نفخ فِيهِ الرّوح فَدخل الرّوح فِي رَأسه عطس فَقَالَت الْمَلَائِكَة قل الْحَمد لله فَقَالَ الْحَمد لله فَقَالَ لَهُ الله يَرْحَمك رَبك فَلَمَّا دخل الرّوح فِي عَيْنَيْهِ نظر إِلَى ثمار الْجنَّة فَلَمَّا دخل فِي جَوْفه اشتهي الطَّعَام قبل أَن يبلغ الرّوح رجلَيْهِ فَنَهَضَ عجلَان إِلَى ثمار الْجنَّة فَذَلِك حِين يَقُول {خلق الْإِنْسَان من عجل} وَذكر بَاقِي الحَدِيث وَقَالَ يُونُس بن عبد الْأَعْلَى أخبرنَا ابْن وهب حَدثنَا ابْن زيد قَالَ لما خلق الله النَّار ذعرت مِنْهَا الْمَلَائِكَة ذعرا شَدِيدا وَقَالُوا رَبنَا لم خلقت هَذِه النَّار ولأي شَيْء خلقتها قَالَ لمن عَصَانِي من خلقي وَلم يكن لله يَوْمئِذٍ خلق إِلَّا الْمَلَائِكَة وَالْأَرْض لَيْسَ فِيهَا خلق إِنَّمَا خلق آدم بعد ذَلِك وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر لم يكن شَيْئا مَذْكُورا} قَالَ عمر بن الْخطاب يَا رَسُول الله لَيْت ذَلِك الْحِين ثمَّ قَالَ وَقَالَت الْمَلَائِكَة وَيَأْتِي علينا دهر نَعْصِيك فِيهِ لَا يرَوْنَ لَهُ خلقا غَيرهم قَالَ لَا إِنِّي أُرِيد أَن أخلق فِي الأَرْض خلقا وَأَجْعَل فِيهَا خَليفَة وَذكر الحَدِيث قَالَ ابْن إِسْحَاق فَيُقَال وَالله أعلم خلق الله آدم ثمَّ وَضعه ينظر إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ عَاما قبل أَن ينْفخ فِيهِ الرّوح حَتَّى عَاد صلصالا كالفخار وَلم تمسسه نَار فَيُقَال وَالله أعلم لما انتهي الرّوح إِلَى رَأسه عطس فَقَالَ الْحَمد لله وَذكر الحَدِيث وَالْقُرْآن والْحَدِيث والْآثَار تدل على أَنه سُبْحَانَهُ نفخ فِيهِ من روحه بعد خلق جسده فَمن تِلْكَ النفخة حدثت فِيهِ الرّوح وَلَو كَانَت روحه مخلوقة قبل بدنه مَعَ جملَة أَرْوَاح ذُريَّته لما عجبت الْمَلَائِكَة من خلقه وَلما تعجبت من خلق النَّار وَقَالَت لأي شَيْء خلقتها وَهِي ترى أَرْوَاح بني آدم فيهم الْمُؤمن وَالْكَافِر وَالطّيب والخبيث وَلما كَانَت أَرْوَاح الْكفَّار كلهَا تبعا لإبليس بل كَانَت الْأَرْوَاح الْكَافِرَة مخلوقة قبل كفره فَإِن الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا حكم عَلَيْهِ بالْكفْر بعد خلق بدن آدم وروحه وَلم يكن قبل ذَلِك كَافِرًا فَكيف تكون الْأَرْوَاح قبله كَافِرَة ومؤمنة وَهُوَ لم يكن كَافِرًا إِذْ ذَاك وَهل حصل الْكفْر للأرواح إِلَّا بتزيينه وإغوائه فالأرواح الْكَافِرَة إِنَّمَا حدثت بعد كفره إِلَّا أَن يُقَال كَانَت كلهَا مُؤمنَة ثمَّ ارْتَدَّت بِسَبَبِهِ وَالَّذِي احْتَجُّوا بِهِ على تَقْدِيم خلق الْأَرْوَاح يُخَالف ذَلِك وَفِي حَدِيث أَبى هُرَيْرَة فِي تخليق الْعَالم الْأَخْبَار عَن خلق أَجنَاس الْعَالم تَأَخّر خلق آدم إِلَى يَوْم الْجُمُعَة وَلَو كَانَت الْأَرْوَاح مخلوقة قبل الأجساد لكَانَتْ من جملَة الْعَالم الْمَخْلُوق فِي سِتَّة أَيَّام فَلَمَّا لم يخبر عَن خلقهَا فِي هَذِه الْأَيَّام علم أَن خلقهَا تَابع لخلق الذُّرِّيَّة وَأَن خلق آدم وَحده هُوَ الَّذِي وَقع فِي تِلْكَ الْأَيَّام السِّتَّة وَأما خلق ذُريَّته فعلى الْوَجْه الْمشَاهد المعاين

وَلَو كَانَ للروح وجود قبل الْبدن وَهِي حَيَّة عَالِمَة ناطقة لكَانَتْ ذاكرة لذَلِك فِي هَذَا الْعَالم شاعرة بِهِ وَلَو بِوَجْه مَا وَمن الْمُمْتَنع أَن تكون حَيَّة عَالِمَة ناطقة عارفة بربها وَهِي بَين مَلأ من الْأَرْوَاح ثمَّ تنْتَقل إِلَى هَذَا الْبدن وَلَا تشعر بِحَالِهَا قبل ذَلِك بِوَجْه مَا وَإِذا كَانَت بعد الْمُفَارقَة تشعر بِحَالِهَا وَهِي فِي الْبدن على التَّفْصِيل وَتعلم مَا كَانَت عَلَيْهِ هَا هُنَا مَعَ أَنَّهَا اكْتسبت بِالْبدنِ أمورا عاقتها عَن كثير من كمالها فلَان تشعر بِحَالِهَا الأول وَهِي غير معوقة هُنَاكَ بطرِيق الأولى إِلَّا أَن يُقَال تعلقهَا بِالْبدنِ واشتغالها بتدبيره منعهَا من شعورها بِحَالِهَا الأول فَيُقَال هَب أَنه منعهَا من شعورها بِهِ على التَّفْصِيل والكمال فَهَل يمْنَعهَا عَن أدنى شُعُور بِوَجْه مَا مِمَّا كَانَت عَلَيْهِ قبل تعلقهَا بِالْبدنِ وَمَعْلُوم أَن تعلقهَا بِالْبدنِ لم يمْنَعهَا عَن الشُّعُور بِأول أحوالها وَهِي فِي الْبدن فَكيف يمْنَعهَا من الشُّعُور بِمَا كَانَ قبل ذَلِك وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَو كَانَت مَوْجُودَة قبل الْبدن لكَانَتْ عَالِمَة حَيَّة ناطقة عَاقِلَة فَلَمَّا تعلّقت بِالْبدنِ سلبت ذَلِك كُله ثمَّ حدث لَهَا الشُّعُور وَالْعلم وَالْعقل شَيْئا فَشَيْئًا وَهَذَا لَو كَانَ لَكَانَ أعجب الْأُمُور أَن تكون الرّوح كَامِلَة عَاقِلَة ثمَّ تعود نَاقِصَة ضَعِيفَة جاهلة ثمَّ تعود بعد ذَلِك إِلَى عقلهَا وقوتها فَأَيْنَ فِي الْعقل وَالنَّقْل والفطرة مَا بدل على هَذَا وَقد قَالَ تَعَالَى {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون} فَهَذِهِ الْحَال الَّتِي أخرجنَا عَلَيْهَا هِيَ حَالنَا الْأَصْلِيَّة وَالْعلم وَالْعقل والمعرفة وَالْقُوَّة طارىء علينا حَادث فِينَا بعد أَن لم يكن وَلم نَكُنْ نعلم قبل ذَلِك شَيْئا الْبَتَّةَ إِذْ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل بِهِ وَأَيْضًا فَلَو كَانَت مخلوقة قبل الأجساد وَهِي على مَا هِيَ الْآن من طيب وخبث وَكفر وإيمان وَخير وَشر لَكَانَ ذَلِك ثَابتا لَهَا قبل الْأَعْمَال وَهِي إِنَّمَا اكْتسبت هَذِه الصِّفَات والهيئات من أَعمالهَا الَّتِي سعت فِي طلبَهَا واستعانت عَلَيْهَا بِالْبدنِ فَلم تكن لتصف بِتِلْكَ الهيئات وَالصِّفَات قبل قِيَامهَا بالأبدان الَّتِي بهَا عملت تِلْكَ الْأَعْمَال وَإِن كَانَ قدر لَهَا قبل إيجادها ذَلِك ثمَّ خرجت إِلَى هَذِه الدَّار على مَا قدر لَهَا فَنحْن لَا ننكر الْكتاب وَالْقدر السَّابِق لَهَا من الله وَلَو دلّ دَلِيل على أَنَّهَا خلقت جملَة ثمَّ أودعت فِي مَكَان حَيَّة عَالِمَة ناطقة ثمَّ كل وَقت تبرز إِلَى أبدانها شَيْئا فَشَيْئًا لَكنا أول قَائِل بِهِ فَالله سُبْحَانَهُ على كل شَيْء قدير وَلَكِن لَا نخبر عَنهُ خلقا وأمرا إِلَّا بِمَا أخبر بِهِ عَن نَفسه على لِسَان رَسُوله وَمَعْلُوم أَن الرَّسُول لم يخبر عَنهُ بذلك وَإِنَّمَا أخبر بِمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن خلق ابْن آدم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة ثمَّ يكون علقه مثل ذَلِك ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك ثمَّ يُرْسل إِلَيْهِ الْملك فينفخ فِيهِ الرّوح فالملك وَحده يُرْسل إِلَيْهِ

المسألة التاسعة عشرة

فينفخ فِيهِ فَإِذا نفخ فِيهِ كَانَ ذَلِك سَبَب حُدُوث الرّوح فِيهِ وَلم يقل يُرْسل الْملك إِلَيْهِ بِالروحِ فيدخلها فِي بدنه وَإِنَّمَا أرسل إِلَيْهِ الْملك فأحدث فِيهِ الرّوح بنفخته فِيهِ لَا أَن الله سُبْحَانَهُ أرسل إِلَيْهِ الرّوح الَّتِي كَانَت مَوْجُودَة قبل ذَلِك بِالزَّمَانِ الطَّوِيل مَعَ الْملك فَفرق بَين أَن يُرْسل إِلَيْهِ ملك ينْفخ فِيهِ الرّوح وَبَين أَن يُرْسل إِلَيْهِ روح مخلوقة قَائِمَة بِنَفسِهَا مَعَ الْملك وَتَأمل مَا دلّ عَلَيْهِ النَّص من هذَيْن الْمَعْنيين وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة وَهِي مَا حَقِيقَة النَّفس هَل هِيَ جُزْء من أَجزَاء الْبدن أَو عرض من أعراضه أَو جسم مسَاكِن لَهُ مُودع فِيهِ أَو جَوْهَر مُجَرّد وَهل هِيَ الرّوح أَو غَيرهَا وَهل الْإِمَارَة واللوامة والمطمئنة نفس وَاحِدَة لَهَا هَذِه الصِّفَات أم هِيَ ثَلَاث أنفس فَالْجَوَاب أَن هَذِه مسَائِل قد تكلم النَّاس فِيهَا من سَائِر الطوائف واضطربت أَقْوَالهم فِيهَا وَكثر فِيهَا خطؤهم وَهدى الله أَتبَاع الرَّسُول أهل سنته لما اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ وَالله يهدى من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم فَنَذْكُر أَقْوَال النَّاس وَمَا لَهُم وَمَا عَلَيْهِم فِي تِلْكَ الْأَقْوَال وَنَذْكُر الصَّوَاب بِحَمْد الله وعونه قَالَ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ فِي مقالاته اخْتلف النَّاس فِي الرّوح وَالنَّفس والحياة وَهل الرّوح هِيَ الْحَيَاة أَو غَيرهَا وَهل الرّوح جسم أم لَا فَقَالَ النظام الرّوح هِيَ جسم وَهِي النَّفس وَزعم أَن الرّوح حَيّ بِنَفسِهِ وَأنكر أَن تكون الْحَيَاة وَالْقُوَّة معنى غير الْحَيّ الْقوي وَقَالَ آخَرُونَ الرّوح عرض وَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُم جَعْفَر بن حَرْب لَا نَدْرِي الرّوح جَوْهَر أَو عرض كَذَا قَالَ وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} وَلم يخبر عَنْهَا مَا هِيَ لَا أَنَّهَا جَوْهَر وَلَا عرض قَالَ وأظن جعفرا أثبت أَن الْحَيَاة غير الرّوح أثبت أَن الْحَيَاة عرضا وَكَانَ الجبائي يذهب إِلَى أَن الرّوح جسم وَأَنَّهَا غير الْحَيَاة والحياة عرض ويعتل بقول أهل اللُّغَة خرجت روح الْإِنْسَان وَزعم أَن الرّوح لَا تجوز عَلَيْهَا الْأَعْرَاض

وَقَالَ قَائِلُونَ لَيْسَ الرّوح شَيْئا أَكثر من اعْتِدَال الطبائع الْأَرْبَع وَلم يرجِعوا من قَوْلهم اعْتِدَال إِلَّا إِلَى المعتدل وَلم يثبتوا فِي الدُّنْيَا شَيْئا إِلَّا الطبائع الْأَرْبَع الَّتِي هِيَ الْحَرَارَة والبرودة والرطوبة واليبوسة وَقَالَ قَائِلُونَ أَن الرّوح معنى خَامِس غير الطبائع الْأَرْبَع وَأَنه لَيْسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الطبائع الْأَرْبَع وَالروح وَاخْتلفُوا فِي أَعمال الرّوح فثبتها بَعضهم طباعا وثبتها بَعضهم اخْتِيَارا وَقَالَ قَائِلُونَ الرّوح الدَّم الصافي الْخَالِص من الكدر والعفونات وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْقُوَّة وَقَالَ قَائِلُونَ الْحَيَاة هِيَ الْحَرَارَة الغريزية وكل هَؤُلَاءِ الَّذين حكينا أَقْوَالهم فِي الرّوح من أَصْحَاب الطبائع يثبتون أَن الْحَيَاة هِيَ الرّوح وَكَانَ الْأَصَم لَا يثبت للحياة وَالروح شَيْئا غير الْجَسَد وَيَقُول لَيْسَ أَعقل إِلَّا الْجَسَد الطَّوِيل العريض العميق الَّذِي أرَاهُ وأشاهده وَكَانَ يَقُول النَّفس هِيَ هَذَا الْبدن بِعَيْنِه لَا غير وَإِنَّمَا جرى عَلَيْهَا هَذَا الذّكر على جِهَة الْبَيَان والتأكيد بِحَقِيقَة الشَّيْء لَا على أَنَّهَا معنى غير الْبدن وَذكر عَن أرسططا لَيْسَ أَن النَّفس معنى مُرْتَفع عَن الْوُقُوع تَحت التَّدْبِير والنشوء والبلى غير دَائِرَة وَأَنَّهَا جَوْهَر بسيط منبث فِي الْعَالم كُله من الْحَيَوَان على جِهَة الْأَعْمَال لَهُ وَالتَّدْبِير وَأَنه لَا تجوز عَلَيْهِ صفة قلَّة وَلَا كَثْرَة قَالَ وَهِي على مَا وصفت من انبساطها فِي هَذَا الْعَالم غير منقسمة الذَّات والبنية وَأَنَّهَا فِي كل حَيَوَان الْعَالم بِمَعْنى وَاحِد لَا غير وَقَالَ آخَرُونَ بل النَّفس معنى مَوْجُود ذَات حُدُود وأركان وَطول وَعرض وعمق وَأَنَّهَا غير مُفَارقَة فِي هَذَا الْعَالم لغَيْرهَا مِمَّا يجْرِي عَلَيْهِ حكم الطول وَالْعرض والعمق وكل وَاحِد مِنْهُمَا يجمعهما صفة الْحَد وَالنِّهَايَة وَهَذَا قَول طَائِفَة من الثنوية يُقَال لَهُم المثانية وَقَالَت طَائِفَة أَن النَّفس مَوْصُوفَة بِمَا وصفهَا هَؤُلَاءِ الَّذين قدمنَا ذكرهم من معنى

الْحُدُود والنهايات إِلَّا أَنَّهَا غير مُفَارقَة لغَيْرهَا مِمَّا لَا يجوز أَن يكون مَوْصُوفا بِصفة الْحَيَوَان وَهَؤُلَاء الديصانية وَحكى الحريري عَن جَعْفَر بن مُبشر أَن النَّفس جَوْهَر لَيْسَ هُوَ هَذَا الْجِسْم وَلَيْسَ بجسم لكنه معنى بِابْن الْجَوْهَر والجسم وَقَالَ آخَرُونَ النَّفس معنى غير الرّوح وَالروح غير الْحَيَاة والحياة عِنْده عرض وَهُوَ أَبُو الْهُذيْل وَزعم أَنه قد يجوز أَن يكون الْإِنْسَان فِي حَال نَومه مسلوب النَّفس وَالروح دون الْحَيَاة وَاسْتشْهدَ على ذَلِك بقوله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} وَقَالَ جَعْفَر بن حَرْب النَّفس عرض من الْأَعْرَاض يُوجد فِي هَذَا الْجِسْم وَهُوَ أحد الْآلَات الَّتِي يَسْتَعِين بهَا الْإِنْسَان على الْفِعْل كالصحة والسلامة وَمَا أشبههما وَأَنَّهَا غير مَوْصُولَة بِشَيْء من صِفَات الْجَوَاهِر والأجسام هَذَا مَا حَكَاهُ الْأَشْعَرِيّ وَقَالَت طَائِفَة النَّفس هِيَ النسيم الدَّاخِل وَالْخَارِج بالتنفس قَالُوا وَالروح عرض وَهُوَ الْحَيَاة فَقَط وَهُوَ غير النَّفس وَهَذَا قَول القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني وَمن اتبعهُ من الأشعرية وَقَالَت طَائِفَة لَيست النَّفس جسما وَلَا عرضا وَلَيْسَت النَّفس فِي مَكَان وَلَا لَهَا طول وَلَا عرض وَلَا عمق وَلَا لون وَلَا بعض وَلَا هِيَ فِي الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا مجانبة لَهُ وَلَا مباينة وَهَذَا قَول الْمَشَّائِينَ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْأَشْعَرِيّ عَن ارسططا لَيْسَ وَزَعَمُوا أَن تعلقهَا بِالْبدنِ لَا بالحلول فِيهِ وَلَا بالمجاورة وَلَا بالمساكنة وَلَا بالالتصاق وَلَا بالمقابلة وَإِنَّمَا هُوَ التَّدْبِير لَهُ فَقَط وَاخْتَارَ هَذَا الْمَذْهَب البسنجي وَمُحَمّد بن النُّعْمَان الملقب بالمفيد وَمعمر بن عباد الْغَزالِيّ وَهُوَ قَول ابْن سينا وَأَتْبَاعه وَهُوَ أردى الْمذَاهب وأبطلها وأبعدها من الصَّوَاب قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم وَذهب سَائِر أهل الْإِسْلَام والملل المقرة بالمعاد إِلَى أَن النَّفس جسم طَوِيل عريض عميق ذَات مَكَان جثة متحيزة مصرفة للجسد قَالَ وَبِهَذَا نقُول قَالَ وَالنَّفس وَالروح اسمان مُتَرَادِفَانِ لِمَعْنى وَاحِد ومعناهما وَاحِد وَقد ضبط أَبُو عبد الله بن الْخَطِيب مَذَاهِب النَّاس فِي النَّفس فَقَالَ مَا يُشِير إِلَيْهِ كل إِنْسَان بقوله إِنَّا إِمَّا أَن نَكُون جسما أَو عرضا ساريا فِي الْجِسْم أَو لَا جسما وَلَا عرضا ساريا فِيهِ أما الْقسم الأول وَهُوَ أَنه جسم فَذَلِك الْجِسْم إِمَّا أَن يكون هَذَا الْبدن وَإِمَّا أَن يكون جسما مشاركا لهَذَا الْبدن وَإِمَّا أَن يكون خَارِجا عَنهُ وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ أَن نفس الْإِنْسَان

عبارَة عَن جسم خَارج عَن هَذَا الْبدن فَهَذَا لم يقلهُ أحد وَأما الْقسم الأول وَهُوَ أَن الْإِنْسَان عبارَة عَن هَذَا الْبدن والهيكل الْمَخْصُوص فَهُوَ قَول جُمْهُور الْخلق وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد أَكثر الْمُتَكَلِّمين قلت هُوَ قَول جُمْهُور الْخلق الَّذين عرف الرَّازِيّ أَقْوَالهم من أهل الْبدع وَغَيرهم من المضلين وَأما أَقْوَال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأهل الحَدِيث فَلم يكن لَهُ بهَا شُعُور الْبَتَّةَ وَلَا أعتقد أَن لَهُم فِي ذَلِك قولا على عَادَته فِي حِكَايَة الْمذَاهب الْبَاطِلَة فِي الْمَسْأَلَة وَالْمذهب الْحق الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالسّنة وأقوال الصَّحَابَة لم يعرفهُ وَلم يذكرهُ وَهَذَا الَّذِي نسبه إِلَى جُمْهُور الْخلق من أَن الْإِنْسَان هُوَ هَذَا الْبدن الْمَخْصُوص فَقَط وَلَيْسَ وَرَاءه شَيْء هُوَ من ابطل الْأَقْوَال فِي الْمَسْأَلَة بل هُوَ أبطل من قَول ابْن سينا وَأَتْبَاعه بل الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعُقَلَاء أَن الْإِنْسَان هُوَ الْبدن وَالروح مَعًا وَقد يُطلق اسْمه على أَحدهمَا دون الآخر بِقَرِينَة فَالنَّاس لَهُم أَرْبَعَة أَقْوَال فِي مُسَمّى الْإِنْسَان هَل هُوَ الرّوح فَقَط أَو الْبدن فَقَط أَو مجموعهما أَو كل وَاحِد مِنْهُمَا وَهَذِه الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة لَهُم فِي كَلَامه هَل هُوَ اللَّفْظ فَقَط أَو الْمَعْنى فَقَط أَو مجموعهما أَو كل وَاحِد مِنْهُمَا فَالْخِلَاف بَينهم فِي النَّاطِق ونطقه قَالَ الرَّازِيّ وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ أَن الْإِنْسَان عبارَة عَن جسم مَخْصُوص مَوْجُود فِي دَاخل هَذَا الْبدن فالقائلون بِهَذَا القَوْل اخْتلفُوا فِي تعْيين ذَلِك الْجِسْم على وُجُوه الأول أَنه عبارَة عَن الأخلاط الْأَرْبَعَة الَّتِي مِنْهَا يتَوَلَّد هَذَا الْبدن وَالثَّانِي انه الدَّم وَالثَّالِث أَنه الرّوح اللَّطِيف الَّذِي يتَوَلَّد فِي الْجَانِب الْأَيْسَر من الْقلب وَينفذ فِي الشريانات إِلَى سَائِر الْأَعْضَاء وَالرَّابِع أَنه الرّوح الَّذِي يصعد فِي الْقلب إِلَى الدِّمَاغ ويتكيف بالكيفية الصَّالِحَة لقبُول قُوَّة الْحِفْظ والفكرة وَالذكر وَالْخَامِس أَنه جُزْء لَا يتَجَزَّأ فِي الْقلب وَالسَّادِس أَنه جسم مُخَالف بالماهية لهَذَا الْجِسْم المحسوس وَهُوَ جسم نور أَنى علوي خَفِيف حَيّ متحرك ينفذ فِي جَوْهَر الْأَعْضَاء ويسري فِيهَا سريان المَاء فِي الْورْد وسريان الدّهن فِي الزَّيْتُون وَالنَّار فِي الفحم فَمَا دَامَت هَذِه الْأَعْضَاء صَالِحَة لقبُول الْآثَار الفائضة عَلَيْهَا من هَذَا الْجِسْم اللَّطِيف بَقِي ذَلِك الْجِسْم اللَّطِيف مشابكا لهَذِهِ الْأَعْضَاء وأفادها هَذِه الْآثَار من الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية

وَإِذا فَسدتْ هَذِه الْأَعْضَاء بسب اسْتِيلَاء الأخلاط الغليظة عَلَيْهَا وَخرجت عَن قبُول تِلْكَ الْآثَار فَارق الرّوح الْبدن وانفصل إِلَى عَالم الْأَرْوَاح وَهَذَا القَوْل هُوَ الصَّوَاب فِي الْمَسْأَلَة هُوَ الَّذِي لَا يَصح غَيره وكل الْأَقْوَال سواهُ بَاطِلَة وَعَلِيهِ دلّ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وأدلة الْعقل والفطرة وَنحن نسوق الْأَدِلَّة عَلَيْهِ على نسق وَاحِد الدَّلِيل الأول قَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى} نفي الْآيَة ثَلَاثَة أَدِلَّة الْأَخْبَار بتوفيها وإمساكها وإرسالها الرَّابِع قَوْله تَعَالَى {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} وفيهَا أَرْبَعَة أَدِلَّة أَحدهَا بسط الْمَلَائِكَة أَيْديهم لتناولها الثَّانِي وصفهَا بِالْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوج الثَّالِث الْإِخْبَار عَن عَذَابهَا فِي ذَلِك الْيَوْم الرَّابِع الْإِخْبَار عَن مجيئها إِلَى رَبهَا فَهَذِهِ سَبْعَة أَدِلَّة الثَّامِن قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ وَيعلم مَا جرحتم بِالنَّهَارِ ثمَّ يبعثكم فِيهِ ليقضى أجل مُسَمّى ثمَّ إِلَيْهِ مرجعكم} إِلَى قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذا جَاءَ أحدكُم الْمَوْت توفته رسلنَا وهم لَا يفرطون} وفيهَا ثَلَاثَة أَدِلَّة أَحدهَا الْإِخْبَار بتوفي الْأَنْفس بِاللَّيْلِ الثَّانِي بعثها إِلَى أجسادها بِالنَّهَارِ الثَّالِث توفّي الْمَلَائِكَة لَهُ عِنْد الْمَوْت فَهَذِهِ عشرَة أَدِلَّة الْحَادِي عشر قَوْله تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي} وفيهَا ثَلَاثَة أَدِلَّة أَحدهَا وصفهَا بِالرُّجُوعِ

الثَّانِي وصفهَا بِالدُّخُولِ الثَّالِث وصفهَا بِالرِّضَا وَاخْتلف السّلف هَل يُقَال لَهَا ذَلِك عِنْد الْمَوْت أَو عِنْد الْبَعْث أَو فِي الْمَوْضِعَيْنِ على ثَلَاثَة أَقْوَال وَقد روى فِي حَدِيث مَرْفُوع أَن النَّبِي قَالَ لأبي بكر الصّديق أما أَن الْملك سيقولها لَك عِنْد الْمَوْت قَالَ زيد بن أسلم بشرت بِالْجنَّةِ عِنْد الْمَوْت وَيَوْم الْجمع وَعند الْبَعْث وَقَالَ أَبُو صَالح {ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية} هَذَا عِنْد الْمَوْت فأدخلي عبَادي وادخلي جنتي قَالَ هَذَا يَوْم الْقِيَامَة فَهَذِهِ أَرْبَعَة عشر دَلِيلا الْخَامِس عشر قَوْله إِن الرّوح إِذا قبض تبعه الْبَصَر فَفِيهِ دليلان أَحدهمَا وَصفه بِأَنَّهُ يقبض الثَّانِي أَن الْبَصَر يرَاهُ السَّابِع عشر مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ حَدثنَا أَبُو دَاوُد عَن عَفَّان عَن حَمَّاد عَن أَبى جَعْفَر عَن عمَارَة بن خُزَيْمَة أَن أَبَاهُ قَالَ رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أَسجد على جبهة النَّبِي فَأَخْبَرته بذلك فَقَالَ إِن الرّوح ليلقى الرّوح فأقنع رَسُول الله هَكَذَا قَالَ عَفَّان بِرَأْسِهِ إِلَى حلقه فَوضع جَبهته على جبهة النَّبِي فَأخْبر أَن الْأَرْوَاح تتلاقى فِي الْمَنَام وَقد تقدم قَول ابْن عَبَّاس تلتقي أَرْوَاح الْأَحْيَاء والأموات فِي الْمَنَام فيتساءلون بَينهم فَيمسك الله أَرْوَاح الْمَوْتَى الثَّامِن عشر قَوْله فِي حَدِيث بِلَال إِن الله قبض أرواحكم وردهَا إِلَيْكُم حِين شَاءَ فَفِيهِ دليلان وصفهَا بِالْقَبْضِ وَالرَّدّ الْعشْرُونَ قَوْله نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة وَفِيه دليلان أَحدهمَا كَونهَا طائرا الثَّانِي تعلقهَا فِي شجر الْجنَّة وأكلها على اخْتِلَاف التفسيرين الثَّانِي وَالْعشْرُونَ قَوْله أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر تسرح فِي الْجنَّة حَيْثُ

شَاءَت وتأوي إِلَى قناديل معلقَة بالعرش فَأطلع إِلَيْهِم رَبك اطلاعة فَقَالَ أَي شَيْء تُرِيدُونَ الحَدِيث وَقد تقدم وَفِيه سِتَّة أَدِلَّة أَحدهَا كَونهَا مودعة فِي جَوف طير الثَّانِي أَنَّهَا تسرح فِي الْجنَّة الثَّالِث أَنَّهَا تَأْكُل من ثمارها وتشرب من أنهارها الرَّابِع أَنَّهَا تأوي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل أَي تسكن إِلَيْهَا الْخَامِس أَن الرب تَعَالَى خاطبها واستنطقها فأجابته وخاطبته السَّادِس أَنَّهَا طلبت الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا فَعلم أَنَّهَا مِمَّا يقبل الرُّجُوع فَإِن قيل هَذَا كُله صفه الطير لَا صفة الرّوح قيل بل الرّوح المودعة فِي الطير قصد وعَلى الرِّوَايَة الَّتِي رجحها أَبُو عمر وَهِي قَوْله أَرْوَاح الشُّهَدَاء كطير يَنْفِي السُّؤَال بِالْكُلِّيَّةِ التَّاسِع وَالْعشْرُونَ قَوْله فِي حَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله أردْت مَالِي بِالْغَابَةِ فأدركني اللَّيْل فأويت إِلَى قبر عبد الله بن عَمْرو بن حزَام فَسمِعت قِرَاءَة من الْقَبْر مَا سَمِعت أحسن مِنْهَا فَقَالَ رَسُول الله ذَاك عبد الله ألم تعلم أَن الله قبض أَرْوَاحهم فَجَعلهَا فِي قناديل من زبرجد وَيَاقُوت ثمَّ علقها وسط الْجنَّة فَإِذا كَانَ اللَّيْل ردَّتْ إِلَيْهِم أَرْوَاحهم فَلَا تزَال كَذَلِك حَتَّى إِذا طلع الْفجْر ردَّتْ أَرْوَاحهم إِلَى مَكَانهَا الَّتِي كَانَت وَفِيه أَرْبَعَة أَدِلَّة سوى مَا تقدم أَحدهَا جعلهَا فِي الْقَنَادِيل الثَّانِي انتقالها من حيّز إِلَى حيّز الثَّالِث تكلمها وقراءتها فِي الْقَبْر الرَّابِع وصفهَا بِأَنَّهَا فِي مَكَان الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ حَدِيث الْبَراء بن عَازِب وَقد تقدم سِيَاقه وَفِيه عشرُون دَلِيلا أَحدهَا قَول ملك الْمَوْت لنَفسِهِ {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية} وَهَذَا الْخطاب لمن يفهم وَيعْقل الثَّانِي قَوْله اخْرُجِي إِلَى مغْفرَة من الله ورضوان الثَّالِث قَوْله فَتخرج تسيل كَمَا تسيل القطرة من فِي السقاء

الرَّابِع قَوْله فَلَا يدعونها فِي يَده طرفَة عين حَتَّى يأخذوها مِنْهُ الْخَامِس قَوْله حَتَّى يكفنوها فِي ذَلِك الْكَفَن ويحنطوها بذلك الحنوط فَأخْبر أَنه تكفن وتحنط السَّادِس قَوْله ثمَّ يصعد بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاء السَّابِع قَوْله وَيُوجد مِنْهَا كأطيب نفحة مسك وجدت الثَّامِن قَوْله فتفتح لَهُ أَبْوَاب السَّمَاء التَّاسِع قَوْله ويشيعه من كل سَمَاء مقربوها حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الرب تَعَالَى الْعَاشِر قَوْله فَيَقُول تَعَالَى ردوا عَبدِي إِلَى الأَرْض الْحَادِي عشر قَوْله فَترد روحه فِي جسده الثَّانِي عشر قَوْله فِي روح الْكَافِر فَتفرق فِي جسده فيجذبها فتنقطع مِنْهَا الْعُرُوق والعصب الثَّالِث عشر قَوْله وَيُوجد لروحه كأنتن ريح وجدت على وَجه الأَرْض الرَّابِع عشر قَوْله فيقذف بِرُوحِهِ عَن السَّمَاء وتطرح طرحا فتهوى إِلَى الأَرْض الْخَامِس عشر قَوْله فَلَا يَمرونَ بهَا على مَلأ من الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرّوح الطّيب وَمَا هَذَا الرّوح الْخَبيث السَّادِس عشر قَوْله فيجلسان ويقولان لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل فَإِن كَانَ هَذَا للروح فَظَاهر وَإِن كَانَ للبدن فَهُوَ بعد رُجُوع الرّوح إِلَيْهِ من السَّمَاء السَّابِع عشر قَوْله فَإِذا صعد بِرُوحِهِ قيل أَي رب عَبدك فلَان الثَّامِن عشر قَوْله أرجعوه فأروه مَاذَا أَعدَدْت لَهُ من الْكَرَامَة فَيرى مَقْعَده من الْجنَّة أَو النَّار التَّاسِع عشر قَوْله فِي الحَدِيث إِذا خرجت روح الْمُؤمن صلى عَلَيْهَا كل ملك لله بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فالملائكة تصلى على روحه وَبني آدم يصلونَ على جسده الْعشْرُونَ قَوْله فَينْظر إِلَى مَقْعَده من الْجنَّة أَو النَّار حَتَّى تقوم السَّاعَة وَالْبدن قد تمزق وتلاشى وَإِنَّمَا الَّذِي يرى الْمَقْعَدَيْنِ الرّوح

فصل الرابع والخمسون حديث أبي موسى تخرج نفس المؤمن أطيب من ريح المسك

فصل الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ حَدِيث أبي مُوسَى تخرج نفس الْمُؤمن أطيب من ريح الْمسك فتنطلق بهَا الْمَلَائِكَة الَّذين يتوفونه فَتَلقاهُمْ مَلَائِكَة من دون السَّمَاء فَيَقُولُونَ هَذَا فلَان ابْن فلَان كَانَ يعْمل كَيْت وَكَيْت بمحاسن عمله فَيَقُولُونَ مرْحَبًا بكم وَبِه فيقبضونها مِنْهُم فيصعد بِهِ من الْبَاب الَّذِي كَانَ يصعد مِنْهُ عمله فيشرق فِي السَّمَوَات وَهُوَ كبرهان الشَّمْس حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى الْعَرْش وَأما الْكَافِر فَإِذا قبض انْطلق بِرُوحِهِ فَيَقُولُونَ من هَذَا فَيَقُولُونَ فلَان ابْن فلَان كَانَ يعْمل كَيْت وَكَيْت لمساوي أَعماله فَيَقُولُونَ لَا مرْحَبًا لَا مرْحَبًا ردُّوهُ فَيرد إِلَى أَسْفَل الأَرْض إِلَى الثرى فَفِيهِ عشرَة أَدِلَّة أَحدهَا خُرُوج نَفسه الثَّانِي طيب رِيحهَا الثَّالِث انطلاق الْمَلَائِكَة بهَا الرَّابِع تَحِيَّة الْمَلَائِكَة لَهَا الْخَامِس قبضهم لَهَا السَّادِس صعودهم بهَا السَّابِع إشراق السَّمَوَات لضوئها الثَّامِن انتهاؤها إِلَى الْعَرْش التَّاسِع قَول الْمَلَائِكَة من هَذَا وَهَذَا سُؤال عَن عين وَذَات قَائِمَة بِنَفسِهَا الْعَاشِر قَوْله ردُّوهُ إِلَى أَسْفَل الْأَرْضين فصل الرَّابِع وَالسِّتُّونَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة إِذا خرجت روح الْمُؤمن تَلقاهُ ملكان فيصعدانه إِلَى السَّمَاء فَيَقُول أهل السَّمَاء روح طيبَة جَاءَت من قبل الأَرْض صلى الله عَلَيْك وعَلى جَسَد كنت تعمرينه وَذكر الْمسك ثمَّ يصعد بِهِ إِلَى ربه عز وَجل فَيَقُول ردُّوهُ إِلَى آخر الْأَجَليْنِ فَفِيهِ سِتَّة أَدِلَّة أَحدهَا قَوْله تَلقاهُ ملكان الثَّانِي قَوْله فيصعدانه إِلَى السَّمَاء الثَّالِث قَول الْمَلَائِكَة روح طيبَة جَاءَت من قبل الأَرْض

فصل الحادي والسبعون حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن المؤمن تحضره

الرَّابِع صلَاتهم عَلَيْهَا الْخَامِس طيب رِيحهَا السَّادِس الصعُود بهَا إِلَى الله عز وَجل فصل الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن الْمُؤمن تحضره الْمَلَائِكَة فَإِذا كَانَ الرجل الصَّالح قَالُوا أَخْرِجِي أيتها النَّفس الطّيبَة كَانَت فِي الْجَسَد الطّيب أَخْرِجِي حميدة وَأَبْشِرِي بِروح وَرَيْحَان وَرب غير غَضْبَان فَلَا يزَال يُقَال لَهَا ذَلِك حَتَّى تخرج فيعرج بهَا حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء فيستفتح لَهَا فَيُقَال من هَذَا فَيُقَال فلَان ابْن فلَان فَيُقَال مرْحَبًا بِالنَّفسِ الطّيبَة كَانَت فِي الْجَسَد الطّيب ادخلي حميدة وأبشرى بِروح وَرَيْحَان وَرب غير غَضْبَان فَلَا يزَال يُقَال لَهَا ذَلِك حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الله عز وَجل وَإِذا كَانَ الرجل السوء قَالَ أَخْرِجِي أيتها النَّفس الخبيثة كَانَت فِي الْجَسَد الْخَبيث أَخْرِجِي ذميمة وَأَبْشِرِي بحميم وغساق وَآخر من شكله أَزوَاج فَلَا يزَال يُقَال لَهَا حَتَّى تخرج فينتهي بهَا إِلَى السَّمَاء فَيُقَال من هَذَا فَيُقَال فلَان ابْن فلَان فَيُقَال لَا مرْحَبًا بِالنَّفسِ الخبيثة كَانَت فِي الْجَسَد الْخَبيث ارجعي ذميمة فَإِنَّهُ لَا تفتح لَك أَبْوَاب السَّمَاء فترسل إِلَى الأَرْض ثمَّ تصير إِلَى الْقَبْر وَهُوَ حَدِيث صَحِيح وَفِيه عشرَة أَدِلَّة أَحدهَا قَوْله كَانَت فِي الْجَسَد الطّيب وَكَانَت فِي الْجَسَد الْخَبيث فها هُنَا حَال وَمحل الثَّانِي قَوْله أَخْرِجِي حميدة الثَّالِث قَوْله وَأَبْشِرِي بِروح وَرَيْحَان فَهَذَا بِشَارَة بِمَا تصير إِلَيْهِ بعد خُرُوجهَا الرَّابِع قَوْله فَلَا يزَال يُقَال لَهَا ذَلِك حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء الْخَامِس قَوْله فيستفتح لَهَا السَّادِس قَوْله أدخلي حميدة السَّابِع قَوْله حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الله تَعَالَى الثَّامِن قَوْله لنَفس الْفَاجِر ارجعي ذميمة التَّاسِع فَإِنَّهُ لَا تفتح لَك أَبْوَاب السَّمَاء الْعَاشِر قَوْله فترسل إِلَى الأَرْض ثمَّ تصير إِلَى الْقَبْر

فصل الحادي والثمانون قوله الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف

فصل الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ قَوْله الْأَرْوَاح جنود مجندة فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف فوصفها بِأَنَّهَا جنود مجندة والجنود ذَوَات قَائِمَة بِنَفسِهَا ووصفها بالتعارف والتناكر ومحال أَن تكون هَذِه الْجنُود أعراضا أَو تكون لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا بعض لَهَا وَلَا كل الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ قَوْله فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ على الْأَرْوَاح تتلاقى وتتشامم كَمَا تشام الْخَيل وَقد تقدم الثَّالِث وَالثَّمَانُونَ قَوْله فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ تتلاقى على مسيرَة يَوْمَيْنِ وَمَا رَأْي أَحدهمَا صَاحبه الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ الْآثَار الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي خلق آدم وَأَن الرّوح لما دخل فِي رَأسه عطس فَقَالَ الْحَمد لله فَلَمَّا وصل الرّوح إِلَى عَيْنَيْهِ نظر إِلَى ثمار الْجنَّة فَلَمَّا وصل إِلَى جَوْفه اشتهي الطَّعَام فَوَثَبَ قبل أَن يبلغ الرّوح رجلَيْهِ وَأَنَّهَا دخلت كارهة وَتخرج كارهة وَتخرج كارهة الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ الْآثَار الَّتِي فِيهَا إِخْرَاج الرب تَعَالَى النسم وتمييز شقيهم من سعيدهم وتفاوتهم حِينَئِذٍ فِي الْإِشْرَاق والظلمة وأرواح الْأَنْبِيَاء فيهم مثل السرج وَقد تقدم السَّادِس وَالثَّمَانُونَ حَدِيث تَمِيم الدَّارِيّ أَن روح الْمُؤمن إِذا صعد بهَا إِلَى الله خر سَاجِدا بَين يَدَيْهِ وَأَن الْمَلَائِكَة تتلقى الرّوح بالبشرى وَأَن الله تَعَالَى يَقُول الْملك الْمَوْت انْطلق بِروح عبدى فضعه فِي مَكَان كَذَا وَكَذَا وَقد تقدم السَّابِع وَالثَّمَانُونَ الْآثَار الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي مُسْتَقر الْأَرْوَاح بعد الْمَوْت وَاخْتِلَاف النَّاس فِي ذَلِك وَفِي ضمن ذَلِك الِاخْتِلَاف إِجْمَاع السّلف على أَن للروح مُسْتَقرًّا بعد الْمَوْت وَإِن اخْتلف فِي تَعْيِينه الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ مَا قد علم بِالضَّرُورَةِ أَن رَسُول الله جَاءَ بِهِ وَأخْبر بِهِ الْأمة أَنه تنْبت أَجْسَادهم فِي الْقُبُور فَإِذا نفخ فِي الصُّور رجعت كل روح إِلَى جَسدهَا فَدخلت فِيهِ فانشقت الأَرْض عَنهُ فَقَامَ من قَبره وَفِي حَدِيث الصُّور أَن إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام يَدْعُو الْأَرْوَاح فَتَأْتِيه جَمِيعًا أَرْوَاح الْمُسلمين نورا وَالْأُخْرَى مظْلمَة فيجمعها جَمِيعًا فيعلقها فِي الصُّور ثمَّ ينْفخ فِيهِ فَيَقُول الرب جلّ جَلَاله وَعِزَّتِي ليرجعن كل روح إِلَى جسده فَتخرج الْأَرْوَاح من الصُّور مثل النَّحْل قد مَلَأت مَا بَين

السَّمَاء وَالْأَرْض فَيَأْتِي كل روح إِلَى جسده فَيدْخل وَيَأْمُر الله الأَرْض فَتَنْشَق عَنْهُم فَيخْرجُونَ سرَاعًا إِلَى رَبهم يَنْسلونَ مهطعين إِلَى الدَّاعِي يسمعُونَ الْمُنَادِي من مَكَان قريب فَإِذا هم قيام ينظرُونَ وَهَذَا مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَن الرَّسُول أخبر بِهِ وَإِن الله سُبْحَانَهُ لَا ينشىء لَهُم أرواحا غير أَرْوَاحهم الَّتِي كَانَت فِي الدُّنْيَا بل هِيَ الْأَرْوَاح الَّتِي اكْتسبت الْخَيْر وَالشَّر أنشأ أبدانها نشأة أُخْرَى ثمَّ ردهَا إِلَيْهَا التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ أَن الرّوح والجسد يختصمان بَين يَدي الرب عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة قَالَ عَليّ بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا أَحْمد بن يُونُس حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن أَبى سعيد الْبَقَّال عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ مَا تزَال الْخُصُومَة بَين النَّاس يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يُخَاصم الرّوح الْجَسَد فَيَقُول الرّوح يَا رب إِنَّمَا كنت روحا مِنْك جَعَلتني فِي هَذَا الْجَسَد فَلَا ذَنْب لي وَيَقُول الْجَسَد يَا رب كنت جسدا خلقتني وَدخل فِي هَذَا الرّوح مثل النَّار فِيهِ كنت أقوم وَبِه كنت أقعد وَبِه أذهب وَبِه أجىء لَا ذَنْب لي قَالَ فَيُقَال أَنا أَقْْضِي بَيْنكُمَا أخبراني عَن أعمى ومقعد دخلا حَائِطا فَقَالَ المقعد للأعمى إِنِّي أرى ثمرا فَلَو كَانَت لي رجلَانِ لتناولت فَقَالَ الْأَعْمَى أَنا أحملك على رقبتي فَحَمله فَتَنَاول من الثَّمر فأكلا جَمِيعًا فعلى من الذَّنب قَالَا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَقَالَ قضيتما على أنفسكما التِّسْعُونَ الْأَحَادِيث والْآثَار الدَّالَّة على عَذَاب الْقَبْر ونعيمه إِلَى يَوْم الْبَعْث فمعلوم أَن الْجَسَد تلاشى واضمحل وَأَن الْعَذَاب وَالنَّعِيم المستمرين إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِنَّمَا هُوَ على الرّوح الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ أَخْبَار الصَّادِق المصدوق فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن الشُّهَدَاء إِنَّهُم لما سئلوا مَا تُرِيدُونَ قَالُوا نُرِيد أَن ترد أَرْوَاحنَا فِي أَجْسَادنَا حَتَّى نقْتل فِيك مرّة أُخْرَى فَهَذَا سُؤال وَجَوَاب من ذَات حَيَّة عَالِمَة ناطقة تقبل الرَّد إِلَى الدُّنْيَا وَالدُّخُول فِي أجساد خرجت مِنْهَا وَهَذِه الْأَرْوَاح سُئِلت وَهِي تسرح فِي الْجنَّة والأجساد قد مزقها البلى الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ مَا ثَبت عَن سلمَان الْفَارِسِي وَغَيره من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فِي برزخ تذْهب حَيْثُ شَاءَت وأرواح الْكفَّار فِي سِجِّين وَقد تقدم الثَّالِث وَالتِّسْعُونَ رُؤْيَة النَّبِي لأرواح النَّاس عَن يَمِين آدم ويساره لَيْلَة الْإِسْرَاء فرآها متحيزة بمَكَان معِين

الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ رُؤْيَته أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء فِي السَّمَوَات وسلامهم عَلَيْهِ وترحيبهم بِهِ كَمَا أخبر بِهِ وَأما أبدانهم فَفِي الأَرْض الْخَامِس وَالتِّسْعُونَ رُؤْيَته أَرْوَاح الْأَطْفَال حول إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام السَّادِس وَالتِّسْعُونَ رُؤْيَته أَرْوَاح الْمُعَذَّبين فِي البرزخ بأنواع الْعَذَاب فِي حَدِيث سَمُرَة الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَقد تلاشت أَجْسَادهم واضمحلت وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي رَآهُ أَرْوَاحهم ونسمهم يفعل بهَا ذَلِك السَّابِع وَالتِّسْعُونَ أخباره سُبْحَانَهُ عَن الَّذين قتلوا فِي سَبيله أَنهم أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ وَأَنَّهُمْ فَرِحُونَ مستبشرين بإخوانهم وَهَذَا للأرواح قطعا لِأَن الْأَبدَان فِي التُّرَاب تنظر عود أَرْوَاحهم إِلَيْهَا يَوْم الْبَعْث الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ مَا تقدم من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَنحن نسوقه ليتبين كم فِيهِ من دَلِيل على بطلَان قَول الْمَلَاحِدَة وَأهل الْبدع فِي الرّوح وَقد ذكرنَا إِسْنَاده فِيمَا تقدم قَالَ بَيْنَمَا رَسُول الله ذَات يَوْم قَاعِدا تَلا هَذِه الْآيَة {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت} الْآيَة ثمَّ قَالَ وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ مَا من نفس تفارق الدُّنْيَا حَتَّى ترى مقعدها من الْجنَّة أَو النَّار فَإِذا كَانَ عِنْد ذَلِك صف لَهُ سماطان من الْمَلَائِكَة ينتظمان مَا بَين الْخَافِقين كَأَن وُجُوههم الشَّمْس فَينْظر إِلَيْهِم مَا يرى غَيرهم وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنه ينظر إِلَيْكُم مَعَ كل ملك مِنْهُم أكفان وحنوط فَإِن كَانَ مُؤمنا بشروه بِالْجنَّةِ وَقَالُوا أَخْرِجِي أيتها النَّفس المطمئنة إِلَى رضوَان الله وجنته فقد أعد الله لَك من الْكَرَامَة مَا هُوَ خير لَك من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَلَا يزالون يُبَشِّرُونَهُ فهم ألطف بِهِ وأرأف من الوالدة بِوَلَدِهَا ثمَّ يسلون روحه من تَحت كل ظفر ومفصل يَمُوت الأول فَالْأول ويبرد كل عُضْو الأول فَالْأول ويهون عَلَيْهِم وَإِن كُنْتُم تَرَوْنَهُ شَدِيدا حَتَّى تبلغ ذقنه فلهي أَشد كَرَاهِيَة لِلْخُرُوجِ من الْجَسَد من الْوَلَد حِين يخرج من الرَّحِم فيبتدرونها كل ملك مِنْهُم أَيهمْ يقبضهَا فيتولى قبضهَا ملك ثمَّ تَلا رَسُول الله {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بكم ثمَّ إِلَى ربكُم ترجعون} فيتلقاها بأكفان بيض ثمَّ يحتضنها إِلَيْهِ فَلَهو أَشد لُزُوما من الْمَرْأَة لولدها ثمَّ يفوح مِنْهَا ريح أطيب من الْمسك فيستنشقون ريحًا طيبا ويتباشرون بهَا وَيَقُولُونَ مرْحَبًا بِالرِّيحِ الطّيبَة وَالروح الطّيب اللَّهُمَّ صل عَلَيْهِ روحا وصل على جَسَد خرجت مِنْهُ قَالَ فيصعدون بهَا فتفوح لَهُم ريح أطيب من الْمسك فيصلون عَلَيْهَا ويتباشرون بهَا وتفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء وَيصلى عَلَيْهَا كل ملك فِي كل سَمَاء تمر بهم حَتَّى تَنْتَهِي بَين يَدي الْجَبَّار جلّ جَلَاله فَيَقُول الْجَبَّار عز وَجل مرْحَبًا بِالنَّفسِ

فصل المائة ما قد اشترك في العلم به عامة أهل الأرض من لقاء

الطّيبَة ادخلوها الْجنَّة وأروها مقعدها من الْجنَّة وأعرضوا عَلَيْهَا مَا أَعدَدْت لَهَا من الْكَرَامَة وَالنَّعِيم ثمَّ اذْهَبُوا بهَا إِلَى الأَرْض فَإِنِّي قضيت أَنِّي مِنْهَا خلقتهمْ وفيهَا أعيدهم وَمِنْهَا أخرجهم تَارَة أُخْرَى فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لهي أَشد كَرَاهِيَة لِلْخُرُوجِ مِنْهَا حِين كَانَت تخرج من الْجَسَد وَتقول أَيْن تذهبون بِي إِلَى ذَلِك الْجَسَد الَّذِي كنت فِيهِ فَيَقُولُونَ إِنَّا مأمورون بِهَذَا فَلَا بُد لَك مِنْهُ فيهبطون بِهِ على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فَيدْخلُونَ ذَلِك الرّوح بَين الْجَسَد وأكفانه فَتَأمل كم فِي الحَدِيث من مَوضِع يشْهد بِبُطْلَان قَول المبطلين فِي الرّوح التَّاسِع وَالتِّسْعُونَ مَا ذكره عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن زيد بن أسلم عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ إِذا توفّي الْمُؤمن بعث إِلَيْهِ ملكان بريحان من الْجنَّة وخرقة تقبض فِيهَا فَتخرج كأطيب رَائِحَة وجدهَا أحد قطّ بِأَنْفِهِ حَتَّى يُؤْتى بِهِ الرَّحْمَن جلّ جَلَاله فتسجد الْمَلَائِكَة قبله وَيسْجد بعدهمْ ثمَّ يدعى مِيكَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَيُقَال اذْهَبْ بِهَذِهِ النَّفس فإجلعها مَعَ أنفس الْمُؤمنِينَ حَتَّى أَسأَلك عَنْهَا يَوْم الْقِيَامَة وَقد تظاهرت الْآثَار عَن الصَّحَابَة أَن روح الْمُؤمن تسْجد بَين يَدي الْعَرْش فِي وَفَاة النّوم ووفاة الْمَوْت وَأما حِين قدومها على الله فَأحْسن تحيتها أَن تَقول اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام ومنك السَّلَام تَبَارَكت يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام وحَدثني القَاضِي نور الدّين بن الصَّائِغ قَالَ كَانَت لي خَالَة وَكَانَت من الصَّالِحَات العابدات قَالَ عدتهَا فِي مرض مَوتهَا فَقَالَت لي الرّوح إِذا قدمت على الله ووقفت بَين يَدَيْهِ مَا تكون تحيتها وَقَوْلها لَهُ قَالَ فعظمت على مسألتها وفكرت فِيهَا ثمَّ قلت تَقول اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام ومنك السَّلَام تَبَارَكت يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام قَالَ فَلَمَّا توفيت رَأَيْتهَا فِي الْمَنَام فَقَالَت لي جَزَاك الله خيرا لقد دهشت فَمَا أَدْرِي مَا أقوله ثمَّ ذكرت تِلْكَ الْكَلِمَة الَّتِي قلت لي فقلتها فصل الْمِائَة مَا قد اشْترك فِي الْعلم بِهِ عَامَّة أهل الأَرْض من لِقَاء أَرْوَاح الْمَوْتَى وسؤالهم لَهُم وإخبارهم إيَّاهُم بِأُمُور خفيت عَلَيْهِم فرأوها عيَانًا وَهَذَا أَكثر من أَن يتَكَلَّف إِيرَاده وأعجب من هَذَا الْوَجْه الْحَادِي وَالْمِائَة أَن روح النَّائِم يحصل لَهَا فِي الْمَنَام آثَار فَتُصْبِح يَرَاهَا على الْبدن عيَانًا وَهِي من تَأْثِير للروح فِي الرّوح كَمَا ذكر القيراوني فِي كتاب الْبُسْتَان

قَالَ كَانَ لي جَار يشْتم أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم أَكثر من شتمهما فتناولته وتناولي فأنصرفت إِلَى منزلي وَأَنا مغموم حَزِين فَنمت وَتركت الْعشَاء فَرَأَيْت رَسُول الله فِي الْمَنَام فَقلت يَا رَسُول الله فلَان يسب أَصْحَابك قَالَ من أَصْحَابِي قلت أَبُو بكر وَعمر فَقَالَ خُذ هَذِه المدية فأذبحه بهَا فأخذتها فأضجعته وذبحته وَرَأَيْت كَأَن يَدي أَصَابَهَا من دَمه فألقيت المدية وأهويت بيَدي إِلَى الأَرْض لأمسحها فأنتبهت وَأَنا أسمع الصُّرَاخ من نَحْو دَاره فَقلت مَا هَذَا الصُّرَاخ قَالُوا فلَان مَاتَ فَجْأَة فَلَمَّا أصحنا جِئْت فَنَظَرت إِلَيْهِ فَإِذا خطّ مَوضِع الذّبْح وَفِي كتاب المنامات لِابْنِ أبي الدُّنْيَا عَن شيخ من قُرَيْش قَالَ رَأَيْت رجلا بِالشَّام قد أسود نصف وَجهه وَهُوَ يغطيه فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ قد جعلت لله على أَن لَا يسألني أحد عَن ذَلِك إِلَّا أخْبرته بِهِ كنت شَدِيد الوقيعة فِي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَبينا أَنا ذَات لَيْلَة نَائِم إِذْ أَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي فَقَالَ لي أَنْت صَاحب الوقيعة فِي فَضرب شقّ وَجْهي فَأَصْبَحت وشق وَجْهي أسود كَمَا ترى وَذكر مسْعدَة عَن هِشَام بن حسان عَن وَاصل مولى أبي عُيَيْنَة عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت كنت عِنْد عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فأتتها امْرَأَة مُشْتَمِلَة على يَدهَا فَجعل النِّسَاء يولعن بهَا فَقَالَت مَا أَتَيْتُك إِلَّا من أجل يَدي أَن أبي كَانَ رجلا سَمحا وَأَنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَام حياضا عَلَيْهَا رجال مَعَهم آنِية يسقون من أَتَاهُم فَرَأَيْت أبي قلت أَيْن أُمِّي فَقَالَ انظري فَنَظَرت فَإِذا أُمِّي لَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا قِطْعَة خرقَة فَقَالَ أَنَّهَا لم تَتَصَدَّق قطّ إِلَّا بِتِلْكَ الْخِرْقَة وحمة من بقرة ذبحوها فَتلك الشحمة تذاب وتطرى بهَا وَهِي تَقول وأعطشاه قَالَت فَأخذت إِنَاء من الْآنِية فسقيتها فنوديت من فَوقِي من سَقَاهَا أيبس الله يَده فَأَصْبَحت يَدي كَمَا تَرين وَذكر الْحَارِث بن أَسد المحاسبي واصبغ وَخلف بن الْقَاسِم وَجَمَاعَة عَن سعيد بن مسلمة قَالَ بَيْنَمَا امْرَأَة عِنْد عَائِشَة إِذْ قَالَت بَايَعت رَسُول الله على أَن لَا أشرك بِاللَّه شَيْئا وَلَا أسرق وَلَا أزني وَلَا أقتل وَلَدي وَلَا آتِي بِبُهْتَان أفتريه من بَين يَدي ورجلي وَلَا أعصي فِي مَعْرُوف فوفيت لرَبي ووفا لي رَبِّي فوَاللَّه لَا يُعَذِّبنِي الله فَأَتَاهَا فِي الْمَنَام ملك فَقَالَ لَهَا كلا إِنَّك تتبرجين وزينتك تبدين وخيرك تكندين وجارك تؤذين وزوجك تعصين ثمَّ وضع أَصَابِعه الْخمس على وَجههَا وَقَالَ خمس بِخمْس وَلَو زِدْت زدناك فَأَصْبَحت وَأثر الْأَصَابِع فِي وَجههَا

وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم صَاحب مَالك سَمِعت مَالِكًا يَقُول إِن يَعْقُوب بن عبد الله بن الْأَشَج كَانَ من خِيَار هَذِه الْأمة نَام فِي الْيَوْم الَّذِي اسْتشْهد فِيهِ فَقَالَ لأَصْحَابه إِنِّي قد رَأَيْت أمرا ولأخبرنه أَنِّي رَأَيْت كَأَنِّي أدخلت الْجنَّة فسقيت لَبَنًا فأستبقاء فقاء اللَّبن وَاسْتشْهدَ بعد ذَلِك قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَكَانَ فِي غَزْوَة فِي الْبَحْر بِموضع لَا لبن فِيهِ وَقد سَمِعت غير مَالك يذكرهُ وَيذكر أَنه مَعْرُوف فَقَالَ أَنِّي رَأَيْت كَأَنِّي أَدخل الْجنَّة فسقيت فِيهَا لَبَنًا فَقَالَ لَهُ بعض الْقَوْم أَقْسَمت عَلَيْك لما تقيأت فقاء لَبَنًا يصلد أَي يَبْرق وَمَا فِي السَّفِينَة لبن وَلَا شَاة قَالَ ابْن قُتَيْبَة قَوْله يصلد أَي يَبْرق يُقَال صلد اللَّبن وَمِنْه يصلد وَمِنْه حَدِيث عمر أَن الطَّبِيب سقَاهُ لَبَنًا فَخرج من الطعنة أَبيض يصلد وَكَانَ نَافِع القارىء إِذا تكلم يشم من فِيهِ رَائِحَة الْمسك فَقيل لَهُ كلما قعدت تتطيب فَقَالَ مَا أمس طيبا وَلَا أقربه وَلَكِن رَأَيْت النَّبِي فِي الْمَنَام وَهُوَ يقْرَأ فِي فمي فَمن ذَلِك الْوَقْت يشم من فِي هَذِه الرَّائِحَة وَذكر مسْعدَة فِي كِتَابه فِي الرُّؤْيَا عَن ربيع بن الرقاشِي قَالَ أَتَانِي رجلَانِ فقعدا إِلَى فأغتابا رجلا فنهيتهما فَأَتَانِي أَحدهمَا بعد فَقَالَ إِنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَن زنجيا أَتَانِي بطبق عَلَيْهِ جنب خِنْزِير لم أر لَحْمًا قطّ اسمن مِنْهُ فَقَالَ لي كل فَقلت آكل لحم خِنْزِير فتهددني فَأكلت فَأَصْبَحت وَقد تغير فمي فَلم يزل يجد الرّيح فِي فَمه شَهْرَيْن وَكَانَ الْعَلَاء بن زِيَاد لَهُ وَقت يقوم فِيهِ فَقَالَ لأَهله تِلْكَ اللَّيْلَة إِنِّي أجد فَتْرَة فَإِذا كَانَ وَقت كَذَا فأيقظوني فَلم يَفْعَلُوا قَالَ فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي فَقَالَ قُم يَا عَلَاء بن زِيَاد اذكر الله يذكرك وَأخذ بشعرات فِي مقدم رَأْسِي فَقَامَتْ تِلْكَ الشعرات فِي مقدم رَأْسِي فَلم تزل قَائِمَة حَتَّى مَاتَ قَالَ يحيى بن بسطَام فَلَقَد غسلناه يَوْم مَاتَ وإنهن لقِيَام فِي رَأسه وَذكر ابْن أبي الدُّنْيَا عَن أبي حَاتِم الرَّازِيّ عَن مُحَمَّد بن عَليّ قَالَ كُنَّا بِمَكَّة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام قعُودا فَقَامَ رجل نصف وَجهه أسود وَنصفه أَبيض فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس اعتبروا بِي فَإِنِّي كنت أتناول الشَّيْخَيْنِ وأشتمهما فَبَيْنَمَا أَنا ذَات لَيْلَة نَائِم إِذْ أَتَانِي آتٍ فَرفع يَده فلطم وَجْهي وَقَالَ لي يَا عَدو الله يَا فَاسق أَلَسْت تسب أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَأَصْبَحت وَأَنا على هَذِه الْحَالة وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الله المهلبي رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي فِي رحبة بني فلَان وَإِذا النَّبِي جَالس على أكمة وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر وَاقِف قدامه فَقَالَ لَهُ عمر

يَا رَسُول الله إِن هَذَا يَشْتمنِي ويشتم أَبَا بكر فَقَالَ جِيءَ بِهِ يَا أَبَا حَفْص فَأتى بِرَجُل فَإِذا هُوَ الْعمانِي وَكَانَ مَشْهُورا بسبهما فَقَالَ لَهُ النَّبِي أضجعه فأضجعه ثمَّ قَالَ اذبحه فذبحه قَالَ فَمَا نبهني إِلَّا صياحه فَقلت مَالِي لَا أخبرهُ عَسى أَن يَتُوب فَلَمَّا تقربت من منزله سَمِعت بكاء شَدِيدا فَقلت مَا هَذَا الْبكاء فَقَالُوا الْعمانِي ذبح البارحة على سَرِيره قَالَ فدنوت من عُنُقه فَإِذا من أُذُنه إِلَى أُذُنه طَريقَة حَمْرَاء كَالدَّمِ المحصور وَقَالَ القيرواني أَخْبرنِي شيخ لنا من أهل الْفضل قَالَ أَخْبرنِي أَبُو الْحسن المطلبي أَمَام مَسْجِد النَّبِي قَالَ رَأَيْت بِالْمَدِينَةِ عجبا كَانَ رجل يسب أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَبينا نَحن يَوْمًا من الْأَيَّام بعد صَلَاة الصُّبْح إِذْ أقبل رجل وَقد خرجت عَيناهُ وسالتا على خديه فَسَأَلْنَاهُ مَا قصتك فَقَالَ رَأَيْت البارحة رَسُول الله وعَلى بَين يَدَيْهِ وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر فَقَالَا يَا رَسُول الله هَذَا الَّذِي يؤذينا ويسبنا فَقَالَ لي رَسُول الله من أَمرك بِهَذَا يَا أَبَا قيس فَقلت لَهُ على وأشرت عَلَيْهِ فَأقبل عَليّ بِوَجْهِهِ وَيَده وَقد ضم أَصَابِعه وَبسط السبابَة وَالْوُسْطَى وَقصد بهَا إِلَى عَيْني فَقلت إِن كنت كذبت ففقأ الله عَيْنَيْك وادخل أصبعيه فِي عَيْني فانتهت من نومي وَأَنا على هَذِه الْحَال فَكَانَ يبكي يخبر النَّاس وأعلن بِالتَّوْبَةِ قَالَ القيرواني وَأَخْبرنِي شيخ من أهل الْفضل قَالَ أَخْبرنِي فَقِيه قَالَ كَانَ عندنَا رجل يكثر الصَّوْم ويسرده وَلكنه كَانَ يُؤَخر الْفطر فرأي فِي الْمَنَام كَأَن أسودين آخذين بضبعيه وثيابه إِلَى تنور محمى ليلقياه قَالَ فَقلت لَهما على مَاذَا فَقَالَا على خِلافك لسنة رَسُول الله فَإِنَّهُ أَمر بتعجيل الْفطر وَأَنت تؤخره قَالَ فأصح وَجهه قد اسود من وهج النَّار فَكَانَ يمشي متبرقعا فِي النَّاس وأعجب من هَذَا الرجل يرى فِي الْمَنَام وَهُوَ شَدِيد الْعَطش والجوع والألم أَن غَيره قد سقَاهُ وأطعمه أَو داواه بدواء فيستيقظ وَقد زَالَ عَنهُ ذَلِك كُله وَقد رَأْي النَّاس من هَذَا عجائب وَقد ذكر مَالك عَن أبي الرِّجَال عَن عمْرَة عَن عَائِشَة أَن جَارِيَة لَهَا سحرتها وَأَن سنديا دخل عَلَيْهَا وَهِي مَرِيضَة فَقَالَ إِنَّك سحرت قَالَت وَمن سحرني قَالَ جَارِيَة فِي حجرها صبي قد بَال عَلَيْهَا فدعَتْ جاريتها فَقَالَت حَتَّى أغسل بولا فِي ثوبي فَقَالَت لَهَا أسحرتني قَالَت نعم قَالَت وَمَا دعَاك إِلَى ذَلِك قَالَت أردْت تَعْجِيل الْعتْق فَأمرت أخاها أَن يَبِيعهَا من الْأَعْرَاب مِمَّن يسئ ملكهَا فَبَاعَهَا ثمَّ إِن عَائِشَة رَأَتْ فِي منامها أَن اغْتَسِلِي من ثَلَاثَة آبار يمد بَعْضهَا بَعْضًا فأستسقى لَهَا فأغتسلت فبرأت

فصل الوجه الثاني بعد المائة قوله تعالى

وَكَانَ سماك بن حَرْب قد ذهب بَصَره فرأي إِبْرَاهِيم الْخَلِيل فِي الْمَنَام فَمسح على عَيْنَيْهِ وَقَالَ اذْهَبْ إِلَى الْفُرَات فتنغمس فِيهِ ثَلَاثًا فَفعل فأبصر وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن بِلَال الْحَضْرَمِيّ قد عمى فَأتى فِي الْمَنَام فَقيل لَهُ قل يَا قريب يَا مُجيب يَا سميع الدُّعَاء يَا لطيف بِمن يَشَاء رد على بَصرِي فَقَالَ اللَّيْث بن سعد أَنا رَأَيْته قد عمى ثمَّ أبْصر وَقَالَ عبيد الله بن أبي جَعْفَر اشتكيت شكوى فجهدت مِنْهَا فَكنت أَقرَأ آيَة الْكُرْسِيّ فَنمت فَإِذا رجلَانِ قائمان بَين يَدي فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه أَن يقْرَأ آيَة فِيهَا ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ رَحْمَة أَفلا يُصِيب هَذَا الْمِسْكِين فِيهَا رَحْمَة وَاحِدَة فأستيقظت فَوجدت خفَّة قَالَ ابْن أبي الدُّنْيَا اعتلت امْرَأَة من أهل الْخَيْر وَالصَّلَاح بوجع المعده فرأت فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله المغلي وشراب الْورْد فَشَربته فَأذْهب الله عَنْهَا مَا كَانَت تَجِد قَالَ وَقَالَت أَيْضا رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أَقُول السناء وَالْعَسَل وَمَاء الحمص الْأسود شِفَاء لوجع الْأَوْرَاك فَلَمَّا استيقظت أَتَتْنِي امْرَأَة تَشْكُو وجعا بوركها فوصفت لَهَا ذَلِك فأستنفعت بِهِ وَقَالَ جالينوس السَّبَب الَّذِي دَعَاني إِلَى فصد الْعُرُوق الضوارب أَنِّي أمرت بِهِ فِي مَنَامِي مرَّتَيْنِ قَالَ كنت إِذْ ذَاك غُلَاما قَالَ وَأعرف إنْسَانا شفَاه الله من وجع كَانَ بِهِ فِي جنبه بفصد الْعرق الضَّارِب لرؤيا رَآهَا فِي مَنَامه وَقَالَ ابْن الخراز كنت أعالج رجلا ممعودا فَغَاب عني ثمَّ لَقيته فَسَأَلته عَن حَاله فَقَالَ رَأَيْت فِي الْمَنَام إنْسَانا فِي زِيّ ناسك متوكئا على عَصا وقف عَليّ وَقَالَ أَنْت رجل ممعود فَقلت نعم فَقَالَ عَلَيْك بالكباء والجلنجبين فَأَصْبَحت فَسَأَلت عَنْهُمَا فَقيل لي الكباء المصطكي والجلنجبين الْورْد المربي بالعسل فأستعملتهما أَيَّامًا فبرأت فَقلت لَهُ ذَلِك جالينوس والوقائع فِي هَذَا الْبَاب أَكثر من أَن تذكر قَالَ بعض النَّاس إِن أصل الطِّبّ من المنامات وَلَا ريب أَن كثيرا من أُصُوله مُسْتَند إِلَى الرُّؤْيَا كَمَا أَن بَعْضهَا عَن التجارب وَبَعضهَا عَن الْقيَاس وَبَعضهَا عَن الْهَام وَمن أَرَادَ الْوُقُوف على ذَلِك فَلْينْظر فِي تَارِيخ الْأَطِبَّاء وَفِي كتاب الْبُسْتَان للقيرواني وَغير ذَلِك فصل الْوَجْه الثَّانِي بعد الْمِائَة قَوْله تَعَالَى إِن الَّذين كسبوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء وَهَذَا دَلِيل على أَن الْمُؤمنِينَ تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء وَهَذَا التفتيح هُوَ تفتيحها لأرواحهم

فصل الوجه الثالث بعد المائة قول النبي يا بلال ما دخلت الجنة

عِنْد الْمَوْت كَمَا تقدم فِي الْأَحَادِيث المستفيضة أَن السَّمَاء تفتح لروح الْمُؤمن حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى بَين يَدي الرب تَعَالَى وَأما الْكَافِر فَلَا تفتح لروحه أَبْوَاب السَّمَاء وَلَا تفتح لجسده أَبْوَاب الْجنَّة فصل الْوَجْه الثَّالِث بعد الْمِائَة قَول النَّبِي يَا بِلَال مَا دخلت الْجنَّة إِلَّا سَمِعت خشخشتك بَين يَدي فَبِمَ ذَاك قَالَ مَا أحدثت فِي ليل أَو نَهَار إِلَّا تَوَضَّأت وَصليت رَكْعَتَيْنِ قَالَ بهما وَمَعْلُوم أَي الَّذِي سمع خشخشته بَين يَدَيْهِ هُوَ روح بِلَال وَإِلَّا فجسده لم ينْقل إِلَى الْجنَّة الْوَجْه الرَّابِع بعد الْمِائَة الْأَحَادِيث والْآثَار الَّتِي فِي زِيَارَة الْقُبُور وَالسَّلَام على أَهلهَا ومخاطبتهم وَالْأَخْبَار عَن معرفتهم بزوارهم وردهم عَلَيْهِم السَّلَام وَقد تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهَا الْوَجْه الْخَامِس بعد الْمِائَة شكاية كثير من أَرْوَاح الْمَوْتَى إِلَى أقاربهم وَغَيرهم أمورا مؤذية فيجدونها كَمَا شكوه فيزيلونها الْوَجْه السَّادِس بعد الْمِائَة لَو كَانَت الرّوح عبارَة عَن عرض من أَعْرَاض الْبدن أَو جَوْهَر مُجَرّد لَيْسَ بجسم وَلَا حَال فِيهِ لَكَانَ قَول الْقَائِل خرجت وَذَهَبت وَقمت وَجئْت وَقَعَدت وتحركت وَدخلت وَرجعت وَنَحْو ذَلِك كُله أقوالا بَاطِلَة لِأَن هَذِه الصِّفَات ممتنعة الثُّبُوت فِي حق الْأَعْرَاض والمجردات وكل عَاقل يعلم صدق قَوْله وَقَول غَيره ذَلِك فالقدح ذَلِك قدح فِي أظهر المعلومات من بَاب السفسطة لَا يُقَال حَاصِل هَذَا الدَّلِيل التَّمَسُّك بِأَلْفَاظ النَّاس وإطلاقاتهم وَهِي تحْتَمل الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَلَعَلَّ مُرَادهم دخل جسمي وَخرج لأَنا إِنَّمَا استدللنا بِشَهَادَة الْعقل والفطرة بمعاني هَذِه الْأَلْفَاظ فَكل أحد يشْهد عقله وحسه بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دخل وَخرج وانتقل لَا مُجَرّد بدنه فشهادة الْحس وَالْعقل بمعاني هَذِه الْأَلْفَاظ وإضافتها إِلَى الرّوح أصلا وَإِلَى الْبدن تبعا من أصدق الشَّهَادَات والاعتماد على ذَلِك مُجَرّد الْإِطْلَاق اللَّفْظِيّ الْوَجْه السَّابِع بعد الْمِائَة أَن الْبدن مركب وَمحل لتصرف النَّفس فَكَانَ دُخُول الْبدن وَخُرُوجه وانتقاله جَارِيا مجْرى دُخُول مركبه من فرسه ودابته فَلَو كَانَت النَّفس غير قابله للدخول وَالْخُرُوج والانتقال وَالْحَرَكَة والسكون لَكَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة دُخُول مركب الْإِنْسَان إِلَى الدَّار وَخُرُوجه مِنْهَا دون دُخُوله هُوَ وَهَذَا مَعْلُوم الْبطلَان بِالضَّرُورَةِ وكل أحد يعلم أَن نَفسه

وروحه هِيَ الَّتِي دخلت وَخرجت وانتقلت وصرفت الْبدن وَجَعَلته تبعا لَهَا فِي الدُّخُول وَالْخُرُوج فَهُوَ لَهَا بِالْأَصْلِ وللبدن بالتبع كلنه للبدن بِالْمُشَاهَدَةِ وللروح بِالْعلمِ وَالْعقل الْوَجْه الثَّامِن بعد الْمِائَة أَن النَّفس لَو كَانَت كَمَا يَقُوله أَنَّهَا عرض لَكَانَ الْإِنْسَان كل وَقت قد يُبدل مائَة ألف نفس أَو أَكثر وَالْإِنْسَان إِنَّمَا هُوَ إِنْسَان بِرُوحِهِ وَنَفسه لَا بِبدنِهِ وَكَانَ الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ الْإِنْسَان غير الَّذِي قبله بلحظة وَبعده بلحظة وَهَذَا من نوع الهوس وَلَو كَانَت الرّوح مُجَرّدَة وتعلقها بِالْبدنِ بِالتَّدْبِيرِ فَقَط لَا بالمساكنة والمداخلة لم يمْتَنع أَن يَنْقَطِع تعلقهَا بِهَذَا الْبدن وتتعلق بِغَيْرِهِ كَمَا يجوز انْقِطَاع تَدْبِير الْمُدبر لبيت أَو مَدِينَة عَنْهَا وَيتَعَلَّق بتدبير غَيرهَا وعَلى هَذَا التَّدْبِير فنصير شاكين فِي أَن هَذِه النَّفس الَّتِي لزيد هِيَ النَّفس الأولى أَو غَيرهَا وَهل زيد هُوَ ذَلِك الرجل أم غَيره وعاقل لَا يجوز ذَلِك فَلَو كَانَت الرّوح عرضا أَو أمرا مُجَردا لحصل الشَّك الْمَذْكُور الْوَجْه التَّاسِع بعد الْمِائَة أَن كل أحد يقطع أَن نَفسه مَوْصُوفَة بِالْعلمِ والفكر وَالْحب والبغض وَالرِّضَا والسخط وَغَيرهَا من الْأَحْوَال النفسانية وَيعلم أَن الْمَوْصُوف لَيْسَ بذلك عرضا من أَعْرَاض بدنه وَلَا جوهرا مُجَردا مُنْفَصِلا عَن بدنه غير مجاور لَهُ وَيقطع ضَرُورَة بِأَن هَذِه الإدراكات لأمر دَاخل فِي بدنه كَمَا يقطع بِأَنَّهُ إِذا سمع وَأبْصر وشم وذاق ولمس وتحرك وَسكن فَتلك أُمُور قَائِمَة بِهِ مُضَافَة إِلَى نَفسه وَأَن جَوْهَر النَّفس هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ ذَلِك كُله لم يقم بِمُجَرَّد وَلَا بِعرْض بل قَامَ بمتحيز دَاخل الْعَالم منتقل من مَكَان إِلَى مَكَان يَتَحَرَّك ويسكن وَيخرج وَيدخل وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا الْبدن والجسم الساري فِيهِ المشابك لَهُ الَّذِي لولاه لَكَانَ بِمَنْزِلَة الجماد الْوَجْه الْعَاشِر بعد الْمِائَة إِن النَّفس لَو كَانَت مُجَرّدَة وتعلقها بِالْبدنِ تعلق التَّدْبِير فَقَط كتعلق الملاح بالسفينة وَالْجمال بِحمْلِهِ لأمكنها ترك تَدْبِير هَذَا الْبدن واشتغالها بتدبير بدن آخر كَمَا يُمكن الملاح وَالْجمال ذَلِك وَفِي ذَلِك تَجْوِيز نقل النُّفُوس من أبدان إِلَى أبدان وَلَا يُقَال أَن النَّفس اتّحدت ببدنها فَامْتنعَ عَلَيْهَا الِانْتِقَال أَو أَنَّهَا لَهَا عشق طبيعي وشوق ذاتي إِلَى تَدْبِير هَذَا الْبدن فَلهَذَا السَّبَب امْتنع انتقالها لأَنا نقُول الِاتِّحَاد مَا لَا يتحيز بالمتحيز محَال وَلِأَنَّهَا لَو اتّحدت بِهِ لبطلت بِبُطْلَانِهِ وَلِأَنَّهَا بعد الِاتِّحَاد إِن بقيا فهما اثْنَان لَا وَاحِد وَإِن عدما مَعًا وَحدث ثَالِث فَلَيْسَ من الِاتِّحَاد فِي شَيْء وَإِن بَقِي أَحدهمَا وعد الآخر فَلَيْسَ باتحاد أَيْضا وَأما عشق النَّفس الطبيعي للبدن فَالنَّفْس إِنَّمَا تعشقه لِأَنَّهَا تتَنَاوَل اللَّذَّات بواسطته وَإِذا كَانَت الْأَبدَان مُتَسَاوِيَة فِي حُصُول مطلوبها كَانَت نسبتها إِلَيْهَا على السوَاء فقولكم أَن النَّفس

الْمعينَة عاشقة للبدن الْمعِين بَاطِل وَمِثَال ذَلِك العطشان إِذا صَادف آنِية مُتَسَاوِيَة كل مها يحصل غَرَضه امْتنع عَلَيْهِ أَن يعشق وَاحِدًا مِنْهَا بِعَيْنِه دون سائرها الْوَجْه الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة أَن نفس الْإِنْسَان لَو كَانَت جوهرا مُجَردا لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا مُتَّصِلَة بالعالم وَلَا مُنْفَصِلَة عَنهُ وَلَا مباينة وَلَا مجانبة لَكَانَ يعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه مَوْجُود بِهَذِهِ الصّفة لِأَن علم الْإِنْسَان بِنَفسِهِ وصفاتها أظهر من كل مَعْلُوم وَأَن علمه بِمَا عداهُ تَابع لعلمه بِنَفسِهِ وَمَعْلُوم قطعا أَن ذَلِك بَاطِل فَإِن جَمَاهِير أهل الأَرْض يعلمُونَ أَن إِثْبَات هَذَا الْوُجُود محَال فِي الْعُقُول شَاهدا وغائبا فَمن قَالَ ذَلِك فِي نَفسه وربه فَلَا نَفسه عرف وَلَا ربه عرف الْوَجْه الثَّانِي عشر بعد الْمِائَة أَن هَذَا الْبدن الْمشَاهد مَحل لجَمِيع صِفَات النَّفس وإدراكاتها الْكُلية والجزئية وَمحل للقردة على الحركات الإرادية فَوَجَبَ أَن يكون الْحَامِل لتِلْك الإدراكات وَالصِّفَات هُوَ الْبدن وَمَا سكن فِيهِ أما أَن يكون محلهَا جوهرا مُجَردا لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه فَبَاطِل بِالضَّرُورَةِ الْوَجْه الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة أَن النَّفس لَو كَانَت مُجَرّدَة عَن الجسمية والتحيز لامتنع أَن يتَوَقَّف فعلهَا على مماسة مَحل الْفِعْل لِأَن مَا لَا يكون متحيزا يمْتَنع أَن يصير مماسا للمتحيز وَلَو كَانَ الْأَمر كَذَلِك لَكَانَ فعلهَا على سَبِيل الاختراع من غير حَاجَة إِلَى حُصُول مماسة وملاقاة بَين الْفَاعِل وَبَين مَحل الْفِعْل فَكَانَ الْوَاحِد منا يقدر على تَحْرِيك الْأَجْسَام من غير أَن يماسها أَو يماس شَيْئا يماسها فَإِن النَّفس عنْدكُمْ كَمَا كَانَت قادرة على تَحْرِيك الْبدن من غير أَن يكون بَينهَا وَبَينه مماسة كَذَلِك لَا تمنع قدرتها على تَحْرِيك جسم غَيره من غير مماسة لَهُ وَلَا لما يماسه وَذَلِكَ بَاطِل بِالضَّرُورَةِ فَعلم أَن النَّفس لَا تقوى على التحريك إِلَّا بِشَرْط أَن تماس مَحل الْحَرَكَة أَو تماس مَا يماسه وكل مَا كَانَ مماسه للجسم أَو لما يماسه فَهُوَ جسم فَإِن قيل يجوز أَن يكون تَأْثِير النَّفس فِي تَحْرِيك بدنهَا الْخَاص غير مَشْرُوط بالمماسة وتأثيرها فِي تَحْرِيك غَيره مَوْقُوف على حُصُول المماسة بَين بدنهَا وَبَين ذَلِك الْجِسْم فَالْجَوَاب أَنه لما كَانَ قبُول الْبدن لتصرفات النَّفس لَا يتَوَقَّف على حُصُول المماسة بَين النَّفس وَبَين الْبدن وَجب أَن تكون الْحَال كَذَلِك فِي غَيره من الْأَجْسَام لِأَن الْأَجْسَام مُتَسَاوِيَة فِي قبُول الْحَرَكَة وَنسبَة النَّفس إِلَى جَمِيعهَا سَوَاء لِأَنَّهَا إِذا كَانَت مُجَرّدَة عَن الحجمية وعلائق الحجمية كَانَت نِسْبَة ذَاتهَا إِلَى الْكل بِالسَّوِيَّةِ وَمَتى كَانَت ذَات الْفَاعِل نسبتها إِلَى الْكل بِالسَّوِيَّةِ والقوابل نسبتها إِلَى ذَلِك الْفَاعِل بِالسَّوِيَّةِ كَانَ التَّأْثِير بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكل على السوَاء فَإِذا اسْتغنى الْفَاعِل عَن مماسة مَحل الْفِعْل فِي حق الْبَعْض وَجب أَن يَسْتَغْنِي فِي حق الْجَمِيع وَإِن افْتقر إِلَى المماسة فِي الْبَعْض

وَجب افتقاره فِي الْجَمِيع فَإِن قيل النَّفس عاشقة لهَذَا الْبدن دون غَيره فَكَانَ تأثيرها فِيهِ أقوى من تأثيرها فِي غَيره قيل هَذَا الْعِشْق الشَّديد يَقْتَضِي أَن يكون تعلقهَا بِالْبدنِ أَكثر وتصرفها فِيهِ أقوى فَأَما أَن يتَغَيَّر مُقْتَضى ذَاتهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِه الْأَجْسَام فَذَلِك محَال وَهَذَا دَلِيل فِي غَايَة الْقُوَّة الْوَجْه الرَّابِع عشر بعد الْمِائَة أَن الْعُقَلَاء كلهم متفقون على أَن الْإِنْسَان هُوَ هَذَا الْحَيّ النَّاطِق المتغذي النامي الحساس المتحرك بالإرادة وَهَذِه الصِّفَات نَوْعَانِ صِفَات لبدنه وصفات لروحه وَنَفسه الناطقة فَلَو كَانَت الرّوح جوهرا مُجَردا لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا مُتَّصِلَة بِهِ وَلَا مُنْفَصِلَة عَنهُ لَكَانَ الْإِنْسَان لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا مُتَّصِلا بِهِ وَلَا مُنْفَصِلا عَنهُ أَو كَانَ بعضه فِي الْعَالم وَبَعضه لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وكل عَاقل يعلم بِالضَّرُورَةِ بطلَان ذَلِك وَأَن الْإِنْسَان بجملته دَاخل الْعَالم بدنه وروحه وَهَذَا فِي الْبطلَان يضاهي قَول من قَالَ أَن نَفسه قديمَة غير مخلوقة فَجعلُوا نصف الْإِنْسَان مخلوقا وَنصفه غير مَخْلُوق فَإِن قيل نَحن نسلم أَن الْإِنْسَان كَمَا ذكرْتُمْ إِلَّا أَنا نثبت جوهرا مُجَردا يدبر الْإِنْسَان الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات قُلْنَا فَذَلِك الْجَوْهَر الَّذِي أثبتموه مُغَاير للْإنْسَان أَو هُوَ حَقِيقَة الْإِنْسَان وَلَا بُد لكم من أحد الْأَمريْنِ فَإِن قُلْتُمْ هُوَ غير الْإِنْسَان رَجَعَ كلامكم إِلَى أَنكُمْ أثبتم للْإنْسَان مُدبرا غَيره سميتموه نَفسهَا وكلامنا الْآن إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَة الْإِنْسَان لَا فِي مدبره فَإِن مُدبر الْإِنْسَان وَجَمِيع الْعَالم الْعلوِي والسفلي هُوَ الله الْوَاحِد القهار الْوَجْه الْخَامِس عشر بعد الْمِائَة أَن كل عَاقل إِذا قيل لَهُ مَا الْإِنْسَان فَإِنَّهُ يُشِير إِلَى هَذِه البنية وَمَا قَامَ بهَا لَا يخْطر بِبَالِهِ أَمر مُغَاير لَهَا مُجَرّد لَيْسَ فِي الْعَالم وَلَا خَارجه وَالْعلم بذلك ضَرُورِيّ لَا يقبل شكا وَلَا تشكيكا الْوَجْه السَّادِس عشر بعد الْمِائَة أَن عقول الْعَالمين قاضيه بِأَن الْخطاب مُتَوَجّه إِلَى هَذِه البنية وَمَا قَامَ بهَا وساكها وَكَذَلِكَ الْمَدْح والذم وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالتَّرْغِيب والترهيب وَلَو أَن رجلا قَالَ الْمَأْمُور والمنهي والممدوح والمذموم والمخاطب والعاقل جَوْهَر مُجَرّد لَيْسَ فِي الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا مُتَّصِل بِهِ وَلَا مُنْفَصِل عَنهُ لأضحك الْعُقَلَاء على عقله ولأطبقوا على تَكْذِيبه وكل مَا شهِدت بدائه الْعُقُول وصرائحها بِبُطْلَانِهِ كَانَ الِاسْتِدْلَال على ثُبُوته اسْتِدْلَالا على صِحَة وجود الْمحَال وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

فصل فإن قيل قد ذكرتم الأدلة الدالة على جسميتها وتحيزها فما جوابكم

فصل فَإِن قيل قد ذكرْتُمْ الْأَدِلَّة الدَّالَّة على جسميتها وتحيزها فَمَا جوابكم عَن أَدِلَّة المنازعين لكم فِي ذَلِك فَإِنَّهُم استدلوا بِوُجُوه أَحدهَا اتِّفَاق الْعُقَلَاء على قَوْلهم الرّوح والجسم وَالنَّفس والجسم فيجعلونها شَيْئا غير الْجِسْم فَلَو كَانَت جسما لم يكن لهَذَا القَوْل معنى الثَّانِي وَهُوَ أقوى مَا يحتجون بِهِ أَنه من الْمَعْلُوم أَن فِي الموجودات مَا هُوَ قَابل للْقِسْمَة كالنقطة والجوهر الْفَرد بل ذَات وَاجِب الْوُجُود فَوَجَبَ أَن يكون الْعلم بذلك غير قَابل للْقِسْمَة فَوَجَبَ أَن يكون الْمَوْصُوف بذلك الْعلم وَهُوَ مَحَله غير قَابل للْقِسْمَة وَهُوَ النَّفس فَلَو كَانَت جسما لكَانَتْ قَابِلَة للْقِسْمَة ويقرر هَذَا الدَّلِيل على وَجه آخر وَهُوَ أَن مَحل الْعُلُوم الْكُلية لَو كَانَ جسما أَو جسمانيا لانقمست تِلْكَ الْعُلُوم لِأَن الْحَال فِي المنقسم وانقسام تِلْكَ الْعُلُوم مُسْتَحِيل الثَّالِث أَن الصُّور الْعَقْلِيَّة الْكُلية مُجَرّدَة بِلَا شكّ وتجردها إِمَّا أَن يكون بِسَبَب الْمَأْخُوذ عَنهُ أَو بِسَبَب الْأَخْذ وَالْأول بَاطِل لِأَن هَذِه الصُّور إِنَّمَا أخذت عَن الْأَشْخَاص الموصوفة بالمقادير الْمُخْتَلفَة والأوضاع الْمعينَة فَثَبت أَن تجردها إِنَّمَا هُوَ بِسَبَب الْأَخْذ لَهَا وَالْقُوَّة الْعَقْلِيَّة الْمُسَمَّاة بِالنَّفسِ الرَّابِع أَن الْقُوَّة الْعَاقِلَة تقوى على أَفعَال غير متناهية فَإِنَّهَا تقوى على إداراكات لَا تتناهي وَالْقُوَّة الجسمانية لَا تقوى على أَفعَال غير متناهية لِأَن الْقُوَّة الجسمانية تَنْقَسِم بانقسام محلهَا فَالَّذِي يقوى عَلَيْهِ بَعْضهَا يجب أَن يكون أقل من الَّذِي يقوى عَلَيْهِ الْكل فَالَّذِي يقوى عَلَيْهِ الْكل يزِيد على الَّذِي يقوى عَلَيْهِ الْبَعْض أضعافا متناهية وَالزَّائِد على المتناهي بمتناه متناه الْخَامِس أَن الْقُوَّة الْعَاقِلَة لَو كَانَت حَالَة فِي آلَة جسمانية لوَجَبَ أَن تكون الْقُوَّة الْعَاقِلَة دائمة الْإِدْرَاك لتِلْك الْآيَة أَو ممتنعة الْإِدْرَاك لَهَا بِالْكُلِّيَّةِ ولكلاهما بَاطِل لِأَن إِدْرَاك الْقُوَّة الْعَاقِلَة لتِلْك الْآلَة إِن كَانَ عين وجودهَا فَهُوَ محَال وَإِن كَانَ صُورَة مُسَاوِيَة لوجودها وَهِي حَالَة فِي الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة الْحَالة فِي تِلْكَ الْآلَة لزم اجْتِمَاع صُورَتَيْنِ متماثلتين وَهُوَ محَال وَإِذا بَطل هَذَا ثَبت أَن الْقُوَّة الْعَاقِلَة لَو أدْركْت آلتها لَكَانَ إِدْرَاكهَا عبارَة عَن نفس حُصُول تِلْكَ الْآلَة عِنْد الْقُوَّة الْعَاقِلَة فَيجب حُصُول الْإِدْرَاك دَائِما إِن كفي هَذَا الْقدر فِي حُصُول

الْإِدْرَاك وَإِن لم يكف امْتنع حُصُول الْإِدْرَاك فِي وَقت من الْأَوْقَات إِذْ لَو حصل فِي وَقت دون وَقت لَكَانَ بِسَبَب أَمر زَائِد على مُجَرّد حُضُور صُورَة الْآلَة السَّادِس أَن كل أحد يدْرك نَفسه وَإِدْرَاك الشَّيْء عبارَة عَن حُضُور مَاهِيَّة الْمَعْلُوم عِنْد الْعَالم فَإِذا علمنَا أَنْفُسنَا فَهُوَ إِمَّا أَن يكون لأجل حُضُور ذواتنا لذواتنا أَو لأجل حُضُور صُورَة مُسَاوِيَة لذواتنا فِي ذواتنا وَالْقسم الثَّانِي بَاطِل وَإِلَّا لزم اجْتِمَاع المثلين فَثَبت أَنه لَا معنى لعلمنا بذاتنا إِلَّا حُضُور ذاتنا عِنْد ذاتنا وَهَذَا إِنَّمَا يكون إِذا كَانَت ذاتا قَائِمَة بِالنَّفسِ غنية عَن الْمحل لِأَنَّهَا لَو كَانَت حَالَة فِي مَحل كَانَت حَاضِرَة عِنْد ذَلِك الْمحل فَثَبت أَن هَذَا الْمَعْنى إِنَّمَا يحصل إِذا كَانَت النَّفس قَائِمَة بِنَفسِهَا غنية عَن مَحل تحل فِيهِ السَّابِع مَا احْتج بِهِ أَبُو البركات الْبَغْدَادِيّ وأبطل مَا سواهُ فَقَالَ لَا نشك أَن الْوَاحِد منا يُمكنهُ أَن يتخيل بحرا من زئبق وجبلا من ياقوت وشموسا وأقمارا فَهَذِهِ الصُّور الخيالية لَا تكون مَعْدُومَة لِأَن قُوَّة المتخيل تُشِير إِلَى تِلْكَ الصُّور وتميز بَين كل صُورَة وَغَيرهَا وَقد يقوى ذَلِك المتخيل إِلَى أَن يصير كالمشاهد المحسوس وَمَعْلُوم أَن الْعَدَم الْمَحْض وَالنَّفْي الصّرْف لَا يثبت ذَلِك وَنحن نعلم بِالضَّرُورَةِ ان هَذِه الصُّور لَيست مَوْجُودَة فِي الْأَعْيَان فَثَبت أَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الأذهان فَنَقُول مَحل هَذِه الصُّورَة إِمَّا أَن يكون جسما أَو حَالا فِي الْجِسْم أَو لَا جسما وَلَا حَالا فِي الْجِسْم والقسمان الْأَوَّلَانِ باطلان لِأَن صُورَة الْبَحْر والجبل صُورَة عَظِيمَة والدماغ وَالْقلب جسم صَغِير وانطباع الْعَظِيم فِي الصَّغِير محَال فَثَبت أَن مَحل هَذِه الصُّورَة الخيالية لَيْسَ بجسم وَلَا جسماني وَالثَّامِن لَو كَانَت الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة جسدانية لضعفت فِي زمَان الشيخوخة دَائِما وَلَيْسَ كَذَلِك التَّاسِع أَن الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة غنية فِي أفعالها عَن الْجِسْم وَمَا كَانَ غَنِيا فِي فعله عَن الْجِسْم وَجب أَن يكون غَنِيا فِي ذَاته عَن الْجِسْم بَيَان الأول أَن الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة تدْرك نَفسهَا وَمن الْمحَال أَن يحصل بَينهَا وَبَين نَفسهَا آلَة متوسطة أَيْضا وتدرك إِدْرَاكهَا لنَفسهَا وَلَيْسَ هَذَا الْإِدْرَاك بِآلَة وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تدْرك الْجِسْم الَّذِي هُوَ آلتها وَلَيْسَ بَينهَا وَبَين آلتها آلَة أُخْرَى وَبَيَان للثَّانِي من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن القوى الجسمانية كالناظرة والسامعة والخيال وَالوهم لما كَانَت جسمانية يقدر عَلَيْهَا إِدْرَاك ذواتها وإدراكها لكَونهَا مدركة لذواتها وإدراكها الْأَجْسَام الحالمة لَهَا فَلَو كَانَت الْقُوَّة الْعَاقِلَة جسمانية لتعذر عَلَيْهَا هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة

الثَّانِي أَن مصدر الْفِعْل هُوَ النَّفس فَلَو كَانَت النَّفس مُتَعَلقَة فِي قوامها ووجودها بالجسم لم تحصل تِلْكَ الْأَفْعَال إِلَّا بشركة من الْجِسْم وَلما ثَبت أَنه لَيْسَ كَذَلِك ثَبت أَن الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة غنية عَن الْجِسْم الْعَاشِر أَن الْقُوَّة الجسمانية تكل بِكَثْرَة الْأَفْعَال وَلَا تقوى بعد الضعْف وَسَببه ظَاهر فَإِن القوى الجسمانية بِسَبَب مزاولة الْأَفْعَال تتعرض موادها للتحلل والذبول وَهُوَ يُوجب الضعْف وَأما الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة فَإِنَّهَا لَا تضعف بِسَبَب كَثْرَة الْأَفْعَال وتقوى على القوى بعد الضعْف فَوَجَبَ أَن لَا تكون جسمانية الْحَادِي عشر أَنا إِذا حكمنَا بِأَن السوَاد مضاد للبياض وَجب أَن يحصل فِي الذِّهْن مَاهِيَّة السوَاد وَالْبَيَاض والبداهة حاكمة بِأَن اجْتِمَاع السوَاد وَالْبَيَاض والحرارة والبرودة فِي الْأَجْسَام محَال فَلَمَّا حصل هَذَا الِاجْتِمَاع فِي الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة وَجب أَن لَا تكون قُوَّة جسمانية الثَّانِي عشر أَنه لَو كَانَ مَحل الإدراكات جسما وكل جسم منقسم لَا محَالة لم يمْنَع أَن يقوم بِبَعْض أَجزَاء الْجِسْم علم بالشَّيْء وبالبعض الآخر مِنْهُ جهل وَحِينَئِذٍ فَيكون الْإِنْسَان فِي الْحَال الْوَاحِد عَالما بالشَّيْء وجاهلا بِهِ الثَّالِث عشر أَن الْمَادَّة الجسمانية إِذا حصلت فِيهَا نقوش مَخْصُوصَة فَإِن وجود تِلْكَ النقوش فِيهَا يمْنَع من حُصُول نقوش غَيرهَا وَأما النقوش الْعَقْلِيَّة فالضد من ذَلِك لِأَن الْأَنْفس إِذا كَانَت خَالِيَة من جَمِيع الْعُلُوم والإدراكات فَإِنَّهُ يصعب عَلَيْهَا التَّعَلُّم فَإِذا تعلمت شَيْئا صَار حُصُول تِلْكَ الْعُلُوم معينا على سهولة غَيرهَا فالنقوش الجسمانية متغيرة متنافية والنقوش الْعَقْلِيَّة متعاونة متعاضدة الرَّابِع عشر أَن النَّفس لَو كَانَت جسما لَكَانَ بَين إِرَادَة العَبْد تَحْرِيك رجله وَبَين تحريكها زمَان على قدر حَرَكَة الْجِسْم وَثقله فَإِن النَّفس هِيَ المحركة لمجسد والممهد لحركته فَلَو كَانَ المحرك للرجل جسما فإمَّا أَن يكون حَاصِلا فِي هَذِه الْأَعْضَاء أَو جائيا إِلَيْهَا فَإِن كَانَ جائيا إِلَيْهَا احْتَاجَ إِلَى مُدَّة وَلَا بُد وَإِن كَانَ حَاصِلا فِيهَا فَنحْن إِذا قَطعنَا تِلْكَ العضلة الَّتِي تكون بهَا الْحَرَكَة لم يبْق مِنْهَا فِي الْعُضْو المتحرك شَيْء فَلَو كَانَ ذَلِك المتحرك حَاصِلا فِيهِ لبقي مِنْهُ شَيْء فِي ذَلِك الْعُضْو الْخَامِس عشر لَو كَانَت النَّفس جسما لكَانَتْ منقسمة ولصح عَلَيْهَا أَن يعلم بَعْضهَا كَمَا يعلم كلهَا فَيكون الْإِنْسَان عَالما بعض نَفسه جَاهِلا بِالْبَعْضِ الآخر وَذَلِكَ محَال السَّادِس عشر لَو كَانَت النَّفس لوَجَبَ أَن يثقل الْبدن بِدُخُولِهَا فِيهِ لِأَن شَأْن

الْجِسْم الفارغ إِذا ملأَهُ غَيره أَن يثقل بِهِ كالزق الفارغ وَالْأَمر بِالْعَكْسِ فأخف مَا يكون الْبدن إِذا كَانَت فِيهِ النَّفس وأثقل مَا يكون إِذا فارقته السَّابِع عشر لَو كَانَت النَّفس جسما لكَانَتْ على صِفَات سَائِر الْأَجْسَام الَّتِي لَا يَخْلُو شَيْء مِنْهَا من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والنعومة والخشونة والسواد وَالْبَيَاض وَغير ذَلِك من صِفَات الْأَجْسَام وكيفياتها وَمَعْلُوم أَن الكيفيات النفسانية إِنَّمَا هِيَ الْفَضَائِل والرذائل لَا تِلْكَ الكيفيات الجسمانية فَالنَّفْس لَيست جسما الثَّامِن عشر أَنَّهَا لَو كَانَت جسما لوَجَبَ أَن يَقع تَحت جَمِيع الْحَواس أَو تَحت حاسة مِنْهَا أَو حاستين أَو أَكثر فَإنَّا نرى الْأَجْسَام كَذَلِك مِنْهَا مَا يدْرك بِجَمِيعِ الْحَواس وَمِنْهَا مَا يدْرك بأكثرها وَمِنْهَا مَا يدْرك بحاستين مِنْهَا أَو وَاحِدَة وَالنَّفس بريئة من ذَلِك كُله وَهَذِه الْحجَّة الَّتِي احْتج بهَا جهم على طَائِفَة من الْمَلَاحِدَة حِين أَنْكَرُوا الْخَالِق سُبْحَانَهُ وَقَالُوا لَو كَانَ مَوْجُودا لوَجَبَ أَن يدْرك بحاسة من الْحَواس فعارضهم بِالنَّفسِ وأنى تتمّ الْمُعَارضَة إِذا كَانَت جسما وَإِلَّا لَو كَانَت جسما لجَاز إِدْرَاكهَا بِبَعْض الْحَواس التَّاسِع عشر لَو كَانَت جسما لكَانَتْ ذَات طول وَعرض وعمق وسطح وشكل وَهَذِه الْمَقَادِير والأبعاد لَا تقوم إِلَّا بمادة وَمحل فَإِن كَانَت مادتها ومحلها نفسا لزم اجْتِمَاع نفسين وَإِن كَانَ غير نفس كَانَت النَّفس مركبة من بدن وَصُورَة وَهِي فِي جَسَد مركب من بدن وَصُورَة فَيكون الْإِنْسَان إنسانين الْعشْرُونَ إِن من خَاصَّة الْجِسْم أَن يقبل التجزي والجزء الصَّغِير مِنْهُ لَيْسَ كالكبير وَلَو قبلت التجزي فَكل جُزْء مِنْهَا إِن كَانَ نفسا لزم أَن يكون للْإنْسَان نفوس كَثِيرَة لَا نفس وَاحِدَة وَإِن لم يكن نفسا لم يكن الْمَجْمُوع نفسا كَمَا أَن جُزْء المَاء إِن لم يكن مَاء لم يكن مَجْمُوعَة مَاء الْحَادِي وَالْعشْرُونَ أَن الْجِسْم مُحْتَاج فِي قوامه وَحفظه وبقائه إِلَى النَّفس وَلِهَذَا يضمحل ويتلاشى لما تُفَارِقهُ فَلَو كَانَت جسما لكَانَتْ محتاجة إِلَى نفس أُخْرَى وهلم جرا ويتسلسل الْأَمر وَهَذَا الْمحَال إِنَّمَا لزم من كَون النَّفس جسما الثَّانِي وَالْعشْرُونَ لَو كَانَت جسما لَكَانَ اتصالها بالجسم إِن كَانَ على سَبِيل المداخلة لزم تدَاخل الْأَجْسَام وَإِن كَانَ على سَبِيل الملاصقة والمجاورة كَانَ الْإِنْسَان الْوَاحِد جسمين متلاصقين أَحدهمَا يرى وَالْآخر لَا يرى فَهَذَا كل مَا موهت بِهِ هَذِه الطَّائِفَة المبطلة من منخنقة وموقوذة ومتردية وَنحن نجيهم عَن ذَلِك كُله فصلا بفصل بحول الله وقوته ومعونته

فصل فأما قولهم أن العقلاء متفقون على قولهم الروح والجسم والنفس

فصل فَأَما قَوْلهم أَن الْعُقَلَاء متفقون على قَوْلهم الرّوح والجسم وَالنَّفس والجسم وَهَذَا يدل على تغايرهما فَالْجَوَاب أَن يُقَال أَن مُسَمّى الْجِسْم فِي اصْطِلَاح المتفلسفة والمتكلمين أَعم من مُسَمَّاهُ فِي لُغَة الْعَرَب وَعرف أهل الْعرف فَإِن الفلاسفة يطلقون الْجِسْم على قَابل الأبعاد الثَّلَاثَة خَفِيفا كَانَ أَو ثقيلا مرئيا كَانَ أَو غير مرئي فيسمون الْهَوَاء جسما وَالنَّار جسما وَالْمَاء جسما وَكَذَلِكَ الدُّخان والبخار والكوكب وَلَا يعرف فِي لُغَة الْعَرَب تَسْمِيَة شَيْء من ذَلِك جسما التة فَهَذِهِ لغتهم وأشعارهم وَهَذِه النقول عَنْهُم فِي كتب اللُّغَة قَالَ الْجَوْهَرِي قَالَ أَبُو زيد الْجِسْم الْجَسَد وَكَذَلِكَ الجسمان والجثمان قَالَ الْأَصْمَعِي الْجِسْم والجسمان الْجَسَد والجثمان الشَّخْص وَقد جسم الشَّيْء أَي عظم فَهُوَ عَظِيم جسيم وجسام بِالضَّمِّ وَنحن إِذا سمينا النَّفس جسما فَإِنَّمَا هُوَ باصطلاحهم وَعرف خطابهم وَإِلَّا فَلَيْسَتْ جسما بِاعْتِبَار وضع اللُّغَة ومقصودنا بِكَوْنِهَا جسما إِثْبَات الصِّفَات وَالْأَفْعَال وَالْأَحْكَام الَّتِي دلّ عَلَيْهَا الشَّرْع وَالْعقل والحس من الْحَرَكَة والانتقال والصعود وبنزول ومباشرة النَّعيم وَالْعَذَاب واللذة والألم وَكَونهَا تحبس وَترسل وتقبض وَتدْخل وَتخرج فَلذَلِك أطلقنا عَلَيْهَا اسْم الْجِسْم تَحْقِيقا لهَذِهِ الْمعَانِي وَإِن لم يُطلق عَلَيْهَا أهل اللُّغَة اسْم الْجِسْم فَالْكَلَام مَعَ هَذِه الْفرْقَة المبطلة فِي الْمَعْنى لَا فِي اللَّفْظ فَقَوْل أهل التخاطب الرّوح والجسم هُوَ بِهَذَا الْمَعْنى فصل وَأما الشُّبْهَة الثَّانِيَة فَهِيَ أقوى شبههم الَّتِي بهَا يصلونَ وَعَلَيْهَا يعولون وَهِي مبلية على أَربع مُقَدمَات إِحْدَاهَا أَن فِي الْوُجُود مَا لَا يقبل الْقِسْمَة بِوَجْه من الْوُجُوه الثَّانِيَة أَنه يُمكن الْعلم بِهِ الثَّالِثَة أَن الْعلم بِهِ غير منقسم الرَّابِعَة أَنه يجب أَن يكون مَحل للْعلم بِهِ كَذَلِك إِذْ لَو كَانَ جسما لَكَانَ منقسما وَقد نازعهم فِي ذَلِك جُمْهُور الْعُقَلَاء وَقَالُوا لم تُقِيمُوا دَلِيلا على أَن فِي الْوُجُود مَا لَا يقبل الْقِسْمَة الْحِسْبَة وَلَا الوهمية وَإِنَّمَا بِأَيْدِيكُمْ دُعَاء لَا حَقِيقَة لَهَا وَإِنَّمَا أثبتموه من وَاجِب الْوُجُود وَهُوَ بِنَاء على أصلكم الْبَاطِل عِنْد جَمِيع الْعُقَلَاء من أهل الْملَل وَغَيرهم من انكار مَاهِيَّة الرب

تَعَالَى وَصِفَاته وَأَنه وجود مُجَرّد لَا صفة لَهُ وَلَا مَاهِيَّة وَهَذَا قَول باينتم بِهِ الْعُقُول وَجَمِيع الْكتب الْمنزلَة من السَّمَاء وَإِجْمَاع الرُّسُل ونفيتم بِهِ علم الله وَقدرته ومشيئته وسَمعه وبصره وعلوه على خلقه ونفيتم بِهِ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام وسميتموه توحيدا وَهُوَ أصل كل تَعْطِيل قَالُوا والنقطة الَّتِي استدللتم بهَا هِيَ من أظهر مَا يبطل دليلكم فَإِنَّهَا غير منقسمة وَهِي حَالَة فِي الْجِسْم المنقسم فقد حل فِي المنقسم مَا لَيْسَ بمنقسم ثمَّ إِن مثبتي الْجَوْهَر الْفَرد وهم جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين ينازعونكم فِي هَذَا الأَصْل وَيَقُولُونَ الْجَوْهَر حَال فِي الْجِسْم بل هُوَ مركب مِنْهُ فقد حل فِي المنقسم مَا لَيْسَ بمنقسم وَلَا يُمكن تتميم دليلكم إِلَّا بِنَفْي الْجَوْهَر الْفَرد فَإِن قُلْتُمْ النقطة عبارَة عَن نِهَايَة الْخط وفنائه وَعَدَمه فَهِيَ أَمر عدمي بَطل استدلالكم بهَا وَإِن كَانَت أمرا وجوديا فقد حلت فِي المنقسم فَبَطل الدَّلِيل على التَّقْدِيرَيْنِ قَالُوا أَيْضا فَلم لَا يكون الْعلم حَالا فِي مَحَله لَا على وَجه النَّوْع والسريان فَإِن حُلُول كل شَيْء فِي مَحَله يحسبه فحلول الْحَيَوَان فِي الدَّار نوع وحلول الْعرض فِي الْجِسْم نوع وحلول الْخط فِي الْكتاب نوع وحلول الدّهن فِي السمسم نوع وحلول الْجِسْم فِي الْعرض نوع وحلول الرّوح فِي الْبدن نوع وحلول الْعُلُوم والمعارف فِي النَّفس نوع قَالُوا وَأَيْضًا فالوحدة حَاصِلَة فَإِن كَانَت جوهرا فقد ثَبت الْجَوْهَر الْفَرد بَطل دليلكم فَإِنَّهُ لَا يتم إِلَّا بنفيه وَإِن كَانَ عرضا وَجب أَن يكون لَهَا مَحل فمحلها إِن كَانَ منقسما فقد جَازَ قيام غير المنقسم بالمنقسم فَهُوَ الْجَوْهَر وَبَطل الدَّلِيل فَإِن قُلْتُمْ الواحده أَمر عدمي لَا وجود لَهُ فِي الْخَارِج فَكَذَلِك أثبتم بِهِ وجود مَالا يَنْقَسِم كلهَا أُمُور عدمية لَا وجود لَهَا فِي الْخَارِج فَإِن وَاجِب الْوُجُود الَّذِي أثبتموه أَمر عدمي بل مُسْتَحِيل الْوُجُود قَالُوا وَأَيْضًا فالإضافات عارضة لَا أَقسَام مثل الْفَوْقِيَّة والتحتية والمالكية والمملوكية فَلَو انقسم الْحَال بانقسام مَحَله لزم انقسام هَذِه الإضافات فَكَانَ يكون لحقيقة الْفَوْقِيَّة والتحتية ربع وَثمن وَهَذَا لَا يقبله الْعقل قَالُوا وَأَن الْقُوَّة الوهمية والفكرية جسمانية عِنْد زعيمكم ابْن سيناء فَيلْزم أَن يحصل لَهَا أَجزَاء وأبعاض وَذَلِكَ محَال لِأَنَّهَا لَو انقمست لَكَانَ كل وَاحِد من أبعاضها إِن كَانَ مثلهَا كَانَ الْجُزْء مُسَاوِيا للْكُلّ وَإِن لم يكن مثلهَا لم تكن تِلْكَ الْأَجْزَاء كَذَلِك وَأَيْضًا فَإِن الْوَهم لَا معنى لَهُ إِلَّا كَون هَذَا صديقا وَهَذَا عدوا وَذَلِكَ لَا يقبل الْقِسْمَة قَالُوا وَأَن الْوُجُود أَمر زَائِد على الماهيات عنْدكُمْ فَلَو لزم انقسام الْحَال لانقسام مَحَله

لزم انقسام ذَلِك الْوُجُود بانقسام مَحَله وَهَذَا الْوَجْه لَا يلْزم من جعل وجود الشَّيْء غير ماهيته قَالُوا وَأَيْضًا فطبائع الْأَعْدَاد ماهيات مُخْتَلفَة فالمفهوم من كَون الْعشْرَة عشرَة مَفْهُوم وَاحِد وماهية وَاحِدَة فَتلك الْمَاهِيّة أما أَن تكون عارضة لكل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد وَهُوَ محَال وَأما أَن تَنْقَسِم بانقسام تِلْكَ الْآحَاد وَهُوَ محَال لِأَن الْمَفْهُوم من كَون الْعشْرَة عشرَة لَا يقبل الْقِسْمَة نعم الْعشْرَة تقبل الْقِسْمَة لَا عشريتها قَالُوا فقد قدم مَالا يَنْقَسِم بالمقسم قَالُوا وَأَيْضًا فالكيفيات المختصات بالكميات كالاستدارة والنقوش وَنَحْوهمَا عِنْد الفلاسفة أَعْرَاض مَوْجُودَة فِي شبه الاستدارة إِن كَانَ عرضا فَأَما أَن يكون بِتَمَامِهِ قَائِما وَإِمَّا أَن يكون بِكُل وَاحِد من الْأَجْزَاء وَهُوَ محَال وَأما أَن يَنْقَسِم ذَلِك الْعرض بانقسام الْأَجْزَاء وَيقوم بِكُل جُزْء من أَجزَاء الْخط جُزْء من أَجزَاء ذَلِك الْعرض وَهُوَ محَال لِأَن جزأه إِن كَانَ استدارة لزم أَن يكون جُزْء الدائرة دَائِرَة وَإِن لم يكن استدارة فَعِنْدَ اجْتِمَاع الْأَجْزَاء إِن لم يحدث أَمر زَائِد وَجب أَن لَا تحصل الاستدارة وَإِن حدث أَمر زَائِد وَجب أَن لَا تحصل الاستدارة وَإِن حدث أَمر زَائِد فَإِن كَانَ منقسما عَاد التَّقْسِيم وَإِن لم يَنْقَسِم كَانَ الْحَال غير منقسم وَمحله منقسما قلت وَهَذَا لَا يلْزمهُم فَإِن لَهُم أَن يَقُولُوا يَنْقَسِم بانقسام مَحَله تبعا لَهُ كَسَائِر الْأَعْرَاض الْقَائِمَة بمحالها من الْبيَاض والسواد وَأما مَالا يَنْقَسِم كالطول فَشرط حُصُوله اجْتِمَاع الْأَجْزَاء وَالْمُعَلّق على الشَّرْط مُنْتَفٍ بانتفائه قَالُوا وَإِن هَذِه الْأَجْسَام مُمكنَة بذواتها وَذَلِكَ صفة لَهَا خَارِجَة عَن ماهيتها فَإِن لم تَنْقَسِم بانقسام محلهَا بَطل الدَّلِيل وَإِن انقسمت عَاد الْمَحْذُور الْمَذْكُور من مُسَاوَاة الْجُزْء للْكُلّ والتسلسل قلت وَهَذِه أَيْضا لَا يلْزمهُم لِأَن الْإِمْكَان لَيْسَ أَمر يدل على قبُول الْمُمكن للوجود والعدم وَذَلِكَ الْقبُول من لَوَازِم ذَاته لَيْسَ صفة عارضة لم وَلَكِن الذِّهْن يجرد هَذَا الْقبُول عَن الْقَابِل فَيكون عروضه للماهية بتجريد الذِّهْن وَأما قَضِيَّة مُشَاركَة الْجُزْء للْكُلّ فَلَا امْتنَاع فِي ذَلِك كَسَائِر الماهيات البسيطة فَإِن جزأها مسَاوٍ لكلها فِي الْحَد والحقيقة كَالْمَاءِ وَالتُّرَاب والهواء وَإِنَّمَا الْمُمْتَنع أَن يُسَاوِي الْجُزْء للْكُلّ فِي الْكمّ لَا فِي نفس الْحَقِيقَة والمعول فِي إبِْطَال هَذِه الشُّبْهَة على أَن الْعلم لَيْسَ بِصُورَة حَالَة فِي النَّفس وَإِنَّمَا هُوَ نِسْبَة وَإِضَافَة بَين الْعلم والمعلوم كَمَا نقُول فِي الْأَبْصَار أَنه لَيْسَ بانطباع صُورَة مُسَاوِيَة للمبصر فِي الْقُوَّة الباصرة وَإِنَّمَا هُوَ نِسْبَة وَإِضَافَة بَين الْقُوَّة الباصرة والمبصر وَعَامة شبههم الَّتِي أوردوها

فصل قولكم في الوجه الثالث أن الصور العقلية الكلية مجردة وتجردها

فِي هَذَا الْفَصْل مَبْنِيَّة على انطباع صُورَة الْمَعْلُوم فِي الْقُوَّة العالمة ثمَّ بنوا على ذَلِك أَن انقسام مَالا يَنْقَسِم فِي المنقسم محَال وَقَوْلهمْ مَحل الْعُلُوم الْكُلية لَو كَانَ جسما أَو جسمانيا لانقسمت تِلْكَ الْعُلُوم لِأَن الْحَال فِي المنقسم منقسم لم يذكرُوا جِسْمه هَذِه الْمُقدمَة دَلِيلا وَلَا شُبْهَة وَإِنَّمَا بِأَيْدِيهِم مُجَرّد الدَّعْوَى وَلَيْسَت بديهية حَتَّى تَسْتَغْنِي عَن الدَّلِيل وَهِي مَبْنِيَّة على الْعلم بالشَّيْء عَن حُصُول صُورَة مُسَاوِيَة لماهية الْمَعْلُوم فِي نفس الْعَالم وَهَذَا من أبطل الْبَاطِل للوجوه الَّتِي نذكرها هُنَاكَ وَأَيْضًا فَلَو سلمنَا لكم ذَلِك كَانَ من أظهر الْأَدِلَّة على بطلَان قَوْلكُم فَإِن هَذِه الصُّورَة إِذا كَانَت حَالَة فِي جَوْهَر النَّفس الناطقة فَهِيَ صُورَة جزئية حَالَة فِي نفس جزئية تقارنها سَائِر الْأَعْرَاض الْحَالة فِي تِلْكَ النَّفس الْجُزْئِيَّة فَإِذا اعْتبرنَا تِلْكَ الصُّورَة مَعَ جملَة هَذِه اللواحق لم تكن صُورَة مُجَرّدَة بل مقرونة بلواحق وعوارض وَذَلِكَ يمْنَع كليتها فَإِن قُلْتُمْ المُرَاد بِكَوْنِهَا كُلية إِنَّا إِذا حذفنا عَنْهَا تِلْكَ اللواحق واعتبرناها من حَيْثُ هى هِيَ كَانَت كُلية قُلْنَا لكم فَإِذا جَازَ هَذَا فَلم لَا يجوز أَن يُقَال هَذِه الصُّورَة حَالَة فِي مَادَّة جسمانية مَخْصُوصَة بِمِقْدَار معِين وَبِكُل معِين إِلَّا أَنا حذفنا عَنْهَا ذَلِك واعتبرناها من حَيْثُ هِيَ هِيَ كَانَت بِمَنْزِلَة تِلْكَ الصُّورَة الَّتِي فعلنَا بهَا ذَلِك فالمعين فِي مُقَابلَة الْمعِين الْمُطلق الْمَأْخُوذ من حَيْثُ هُوَ هُوَ فِي مُقَابلَة مَحَله الْمُطلق وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُول الَّذِي شهِدت بِهِ الْعُقُول الصَّحِيحَة وَالْمِيزَان الصَّحِيح فَظهر أَن هَذِه الشُّبْهَة من أفسد الشّبَه وأبطلها وَإِنَّمَا أَتَى الْقَوْم من الكليات فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي خربَتْ دُورهمْ وأفسدت نظرهم ومناظرهم فَإِنَّهُم جردوا أمورا كُلية لَا وجود لَهَا فِي الْخَارِج ثمَّ حكمُوا عَلَيْهَا بِأَحْكَام الموجودات وجعلوها ميزانا وأصلا للموجودات فَإِذا جردوا صور المعلومات وجعلوها كُلية جردنا نَحن محلهَا وجعلناه كليا وَإِن أخذُوا جزئية مُعينَة فمحلها كَذَلِك فالكلى فِي مُقَابلَة الكلى والجزئي فِي مُقَابلَة الجزئي على أَنا نقُول لَيْسَ فِي الذِّهْن كلى وَإِنَّمَا فِي الذِّهْن صُورَة مُعينَة مشخصة منطبعة على سَائِر أفرادها فَإِن سميت كُلية بِهَذَا الِاعْتِبَار فَلَا مشاحة فِي الْأَلْفَاظ وَهِي كُلية وجزئية باعتبارين فصل قَوْلكُم فِي الْوَجْه الثَّالِث أَن الصُّور الْعَقْلِيَّة الْكُلية مُجَرّدَة وتجردها إِنَّمَا هُوَ بِسَبَب الْآخِذ لَهَا وَهُوَ الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة جَوَابه أَن يُقَال مَا الَّذِي تُرِيدُونَ بِهَذِهِ الصُّورَة الْعَقْلِيَّة الْكُلية أتريدون بِهِ أَن الْمَعْلُوم حصل فِي ذَات الْعَالم أَو أَن الْعلم بِهِ حصل فِي ذَات الْعَالم فَالْأول ظَاهر إِلَّا حَالَة

فصل قولكم في الرابع أن العقلية تقوى على أفعاله غير متناهية ولا شيء

وَالثَّانِي حق إِلَّا أَنه يفيدكم شَيْئا لِأَن الْأَمر الْكُلِّي الْمُشْتَرك بَين الْأَشْخَاص الإنسانية هُوَ الإنسانية لَا الْعلم بهَا والإنسانية لَا وجود لَهَا فِي الْخَارِج كُلية والوجود فِي الْخراج للمعينات فَقَط وَالْعلم تَابع للمعلوم فَكَمَا أَن الْمَعْلُوم معِين فالعلم بِهِ معِين لكنه صُورَة منطبقة على أَفْرَاد كَثِيرَة فَلَيْسَ فِي الذِّهْن وَلَا فِي الْخَارِج صُورَة غير منقسمة الْبَتَّةَ وَكم قد غلط فِي هَذَا الْموضع طوائف من الْعُقَلَاء لَا يحصيهم إِلَّا الله تَعَالَى فالصورة الْكُلية الَّتِي يثبتونها ويزعمون أَنَّهَا حَالَة فِي النَّفس فَهِيَ صُورَة شخصية مَوْصُوفَة بعوارض شخصية فَهَب أَن هَذِه الصُّورَة الْعَقْلِيَّة حَالَة فِي جَوْهَر لَيْسَ بجسم وَلَا جسماني فَإِنَّهَا غير مُجَرّدَة عَن الْعَوَارِض فَإِن قُلْتُمْ مرادنا بِكَوْنِهَا مُجَرّدَة النّظر إِلَيْهَا من حَيْثُ هِيَ هِيَ مَعَ قطع النّظر عَن تِلْكَ الْعَوَارِض قيل لكم فَلم لَا يجوز أَن تكون الصُّورَة الْحَالة فِي الْمحل الجسماني منقسمة وَإِنَّمَا تكون مُجَرّدَة إِذا نَظرنَا إِلَيْهَا من حَيْثُ هِيَ هِيَ بِقطع النّظر عَن عوارضها فصل قَوْلكُم فِي الرَّابِع أَن الْعَقْلِيَّة تقوى على أَفعاله غير متناهية وَلَا شَيْء من القوى الجسمانية كَذَلِك فَجَوَابه أَنا لَا نسلم أَنَّهَا تقوى على أَفعَال غير متناهية وقولكم أَنَّهَا تقوى على إدراكات لَا تتناهي هِيَ والإدراكات أَفعَال مقدمتان كاذبتان فَإِن إدراكاتها وَلَو بلغت مَا بلغت فَهِيَ متناهية فَلَو كَانَ لَهَا بِكُل نفس ألف ألف إِدْرَاك لتناهت إدراكاتها فَهِيَ قطعا تَنْتَهِي فِي الإدراكات والمعارف إِلَى حد لَا يُمكنهَا أَن تزيد عَلَيْهِ شَيْئا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَفَوق كل ذِي علم عليم} إِلَى أَن يَنْتَهِي الْعلم إِلَى من هُوَ بِكُل شَيْء عليم فَهُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَحده وَذَلِكَ من خَصَائِصه الَّتِي لَا يُشَارِكهُ فِيهَا سواهُ فَإِن قُلْتُمْ لَو انتهي إِدْرَاكهَا إِلَى حد لَا يُمكنهَا الْمَزِيد عَلَيْهِ لزم انقلاب الشَّيْء من الْإِمْكَان الذاتي قُلْنَا فَهَذَا بِعَيْنِه لَو صَحَّ دلّ على أَن الْقُوَّة الجسمانية تقوى على أَفعَال غير متناهية وَذَلِكَ يُوجب سُقُوط الشُّبْهَة وبطلانها وَأَيْضًا فَإِن قُوَّة التخيل والتفكر والتذكر تقوى على استحضار المخيلات والمذكرات إِلَى غير نِهَايَة مَعَ أَنَّهَا عنْدكُمْ قُوَّة جسمانية فَإِن قُلْتُمْ لَا نسلم أَنَّهَا تقوى على مَالا يتناهي قيل لكم هَكَذَا يَقُول خصومكم فِي الْقُوَّة الْعَاقِلَة سَوَاء وَأما كذب الْمُقدمَة الثَّانِيَة فَإِن الْإِدْرَاك لَيْسَ بِفعل فَلَا يلْزم من تناهي فعلهَا تناهي إِدْرَاكهَا وَقد صرحتم بِأَن الْجَوْهَر الْعقلِيّ قَابل لصورة الْمَعْلُوم لَا أَنَّهَا فَاعل لَهَا وَالشَّيْء الْوَاحِد لَا يكون

فصل قولكم في الخامس لو كانت القوة العاقلة حالة في آلة جسمانية لوجب

فَاعِلا وقابلا عنْدكُمْ وَقد صرحتم بِأَن الْأَجْسَام يمْتَنع عَلَيْهَا أَفعَال لَا نِهَايَة لَهَا وَلَا يمْتَنع عَلَيْهَا مجهولات وانفعالات لَا نتناهي وَقد أورد ابْن سيناء على هَذِه الشُّبْهَة سؤالا فَقَالَ أَلَيْسَ النَّفس الفلكية الْمُبَاشرَة لتحريك الْفلك قُوَّة جسمانية مَعَ أَن الحركات الفلكية غير متناهية وَأجَاب عَنهُ بِأَنَّهَا وَإِن كَانَت قُوَّة جسمانية إِلَّا أَنَّهَا تستمد الْكَمَال من الْعقل المفارق فَلهَذَا السَّبَب قدرت على أَفعَال غير متناهية فَنَقُول فَإِذا كَانَ الْأَمر عنْدك كَذَلِك فَلم لَا يجوز أَن يُقَال النَّفس الناطقة تستمد الْكَمَال وَالْقُوَّة من فاطرها ومنشئها الَّذِي لَهُ الْقُوَّة جَمِيعًا فَلَا جرم تقوى مَعَ كَونهَا جسمانية على مَالا يتناها فَإِذا قلت بذلك وَافَقت الرُّسُل وَالْعقل وَدخلت مَعَ زمرة الْمُسلمين وَفَارَقت الْعصبَة المبطلين فصل قَوْلكُم فِي الْخَامِس لَو كَانَت الْقُوَّة الْعَاقِلَة حَالَة فِي آلَة جسمانية لوَجَبَ أَن تكون دائمة الْإِدْرَاك لتِلْك الْآلَة أَو ممتنعة الْإِدْرَاك لَهَا فَهُوَ مبْنى على أصلكم الْفَاسِد أَن الْإِدْرَاك عبارَة عَن حُصُول صُورَة مُسَاوِيَة للمدرك فِي القرة المدركة ثمَّ لَو سلمنَا لكم ذَلِك الأَصْل لم يفدكم شَيْئا فَإِن حُصُول تِلْكَ الصُّورَة يكون شرطا لحُصُول الْإِدْرَاك فَأَما أَن يَقُول أَو يُقَال أَن الْإِدْرَاك عين حُصُول تِلْكَ الصُّورَة فَهَذَا لَا يَقُوله عَاقل فَلم لَا يجوز أَن يُقَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة حَالَة فِي جسم مَخْصُوص ثمَّ أَن الْقُوَّة الناطقة قد تحصل لَهَا حَالَة إضافية تسمى بالشعور والإدراك فَحِينَئِذٍ تصير الْقُوَّة الْعَاقِلَة مدركة لتِلْك الْآلَة وَقد لَا تُوجد تِلْكَ الْحَالة الإضافية فَتَصِير غافلة عَنْهَا وَإِذا كَانَ هَذَا مُمكنا سَقَطت تِلْكَ الشُّبْهَة رَأْسا ثمَّ نقُول أَتَدعُونَ أَنا إِذا عقلنا شَيْئا فَإِن الصُّورَة الْحَاضِرَة فِي الْعقل مُسَاوِيَة لذَلِك الْمَعْقُول من جَمِيع الْوُجُوه والاعتبارات أَو لَا يجب حُصُول هَذِه الْمُسَاوَاة من جَمِيع الْوُجُوه لم يلْزم من حُدُوث صُورَة أُخْرَى فِي الْقلب أَو الدِّمَاغ اجْتِمَاع المثلين وَأَيْضًا فالقوة الْعَاقِلَة حَالَة فِي جَوْهَر الْقلب أَو الدِّمَاغ وَالصُّورَة الْحَادِثَة حَالَة فِي الْقُوَّة الْعَاقِلَة فإحدى الصُّورَتَيْنِ مَحل للقوة الْعَاقِلَة وَأَيْضًا فَنحْن إِذا رَأينَا الْمسَافَة الطَّوِيلَة والبعد الممتد فَهَل يتَوَقَّف هَذَا الإبصار على ارتسام صُورَة المرئي فِي عين الرَّائِي أَو لَا يتَوَقَّف فَإِن توقف لزم اجْتِمَاع المثلين لِأَن الْقُوَّة الباصرة عنْدكُمْ جسمانية فَهِيَ فِي مَحل لَهُ حجم وَمِقْدَار فَإِذا حصل

فصل قولكم في السادس ان كل أحد يدرك نفسه والإدراك عبارة عن حصول

فِيهِ حجم المرئي ومقداره لزم اجْتِمَاع المثلين وَإِذا جَازَ هُنَاكَ فَلم لَا يجوز مثله فِي مسئتنا وَإِن كَانَ إِدْرَاك الشَّيْء لَا يتَوَقَّف على حُصُول صُورَة المرئي فِي الرَّائِي بَطل قَوْلكُم أَن إِدْرَاك الْقلب والدماغ يتَوَقَّف على حُصُول صُورَة الْقلب والدماغ فِي الْقُوَّة الْعَاقِلَة وَأَيْضًا فقولكم لَو كَانَت الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة حَالَة فِي جسم لوَجَبَ أَن تكون دائمة الْإِدْرَاك لذَلِك الْجِسْم لَكِن إدراكنا لقلبنا ودماغنا غير دَائِم فَهَذَا إِنَّمَا يلْزم من يَقُول أَنَّهَا حَالَة فِي الْقلب أَو الدِّمَاغ وَأما من يَقُول أَنَّهَا حَالَة فِي جسم مَخْصُوص وَهُوَ النَّفس وَهِي مشابكة للبدن فَهَذَا الْإِلْزَام غير وَارِد عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَقُول النَّفس جسم مَخْصُوص وَالْإِنْسَان أبدا عَالم بِأَنَّهُ جسم مَخْصُوص وَلَا يَزُول ذَلِك عَن عقله إِلَّا إِذا عرضت لَهُ الْغَفْلَة فَسَقَطت الشُّبْهَة الَّتِي عولتم عَلَيْهَا على كل تَقْدِير فصل قَوْلكُم فِي السَّادِس ان كل أحد يدْرك نَفسه والإدراك عبارَة عَن حُصُول مَاهِيَّة الْمَعْلُوم عِنْد الْعَالم وَهَذَا إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَت النَّفس غنية عَن الْمحل إِلَى آخِره جَوَابه أَن ذَلِك مبْنى على الأَصْل الْمُتَقَدّم وَهُوَ أَن الْعلم عبارَة عَن حُصُول صُورَة مُسَاوِيَة للمعلوم فِي نفس الْعَالم وَهَذَا بَاطِل من وُجُوه كَثِيرَة مَذْكُورَة فِي مَسْأَلَة الْعلم حَتَّى لَو سلم ذَلِك فالصورة الْمَذْكُورَة شرطا فِي حُصُول الْعلم لَا أَنَّهَا نفس الْعلم وَأَيْضًا فَهَذِهِ الشُّبْهَة مَعَ ركاكة ألفاظها وَفَسَاد مقدماتها منقوضة فَإنَّا إِذا أَخذنَا حجرا أَو خَشَبَة قُلْنَا هَذَا جَوْهَر قَائِم بِنَفسِهِ فذاته حَاضِرَة عِنْد ذَاته فَيجب فِي هَذِه الجمادات أَن تكون عَالِمَة بذواتها وَأَيْضًا فَجَمِيع الْحَيَوَانَات مدركة لذواتها فَلَو كَانَ كَون الشَّيْء مدْركا لذاته تَقْتَضِي كَون ذَاته جوهرا مُجَردا لزم كَون نفوس الْحَيَوَانَات بأسرها جَوَاهِر مُجَرّدَة وَأَنْتُم لَا تَقولُونَ بذلك فصل قَوْلكُم فِي السَّابِع الْوَاحِد منا يتخيل بحرا من زئبق وجبلا من ياقوت إِلَى آخِره وَهُوَ شُبْهَة أَبى البركات الْبَغْدَادِيّ فشبهة داحضة جدا فَإِنَّهَا مَبْنِيَّة على أَن تِلْكَ المتخيلات أُمُور مَوْجُودَة وَأَنَّهَا منطبعه فِي النَّفس فِي مَحَله وَمَعْلُوم قطعا أَن هَذِه المخيلات لَا حَقِيقَة لَهَا فِي ذَاتهَا وَغنما الذِّهْن يفرضها تَقْديرا وَلَيْسَت منطبعة فِي النَّفس فَإِن الْعُلُوم الخارجية لَا تنطبع صورها فِي النَّفس فَكيف بالخيالات المعدومة فَهَذِهِ مندحضة وَلَا يمْنَع من وُقُوع

فصل قولكم في الثامن لو كانت القوة العقلية جسدانية لضعفت في زمن

التَّمْيِيز بَين الإعدام المضافة فَإِن الْعقل يُمَيّز بَين عدم السّمع وَعدم الْبَصَر وَعدم الشم وَغير ذَلِك وَلَا يلْزم من هَذَا التَّمْيِيز كَون هَذِه الإعدام مَوْجُودَة بل يُمَيّز بَين أَنْوَاع المستحيلات الَّتِي لَا يُمكن وجودهَا الْبَتَّةَ ثمَّ نقُول إِذا عقل حُلُول الأشكال والمقادير فِيمَا كَانَ مُجَردا عَن الحجمية والمقدار من كل الْوُجُوه أَفلا يعقل حُلُول الْعلم بالشكل الْعَظِيم والمقدار الْعَظِيم فِي الْجِسْم الصَّغِير وَأَيْضًا فَإِذا كَانَ عدم الانطباق من جَمِيع الْوُجُوه لَا يمْنَع من حُلُول الصُّورَة والشكل فِي الْجَوْهَر الْمُجَرّد فَعدم انطباق الْعَظِيم على الصَّغِير أولى أَن لَا يمْنَع من حُلُول الصُّورَة الْعَظِيمَة فِي الْمحل الصَّغِير وَأَيْضًا فَإِن سلفكم من الْأَوَائِل أَقَامُوا الدَّلِيل على أَن انطباع الصُّورَة الْحَالة فِي الْجَوْهَر الْمُجَرّد محَال وَذكروا لَهُ وُجُوهًا فصل قَوْلكُم فِي الثَّامِن لَو كَانَت الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة جسدانية لضعفت فِي زمن الشيخوخة وَلَيْسَ كَذَلِك جَوَابه من وُجُوه الْوَجْه الأول لم يجوز أَن يُقَال الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ من صِحَة الْبدن فِي كَمَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة مِقْدَار معِين وَأما كَمَال حَال الْبدن فِي الصِّحَّة فَإِنَّهُ غير مُعْتَبر فِي كَمَال حَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة وَإِذا احْتمل ذَلِك لم يبعد أَن يُقَال ذَلِك الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ بَاقٍ إِلَى آخر الشيخوخة فبقى الْعقل إِلَى آخرهَا الْوَجْه الثَّانِي أَن الشَّيْخ لَعَلَّه إِنَّمَا يُمكنهُ أَن يسْتَمر فِي الإدراكات الْعَقْلِيَّة على الصِّحَّة أَن عقله يبْقى بِبَعْض الْأَعْضَاء الَّتِي يتَأَخَّر الْفساد والاستحالة إِلَيْهَا فَإِذا انتهي إِلَيْهَا الْفساد والاستحالة فسد عقله وإدراكه الْوَجْه الثَّالِث أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون بعض الأمزجة أوفق لبَعض القوى فَلَعَلَّ مزاج الشَّيْخ أوفق للقوة الْعَقْلِيَّة فَلهَذَا السَّبَب تقوى فِيهِ الْقُوَّة الْعَاقِلَة الْوَجْه الرَّابِع أَن المزاج إِذا كَانَ فِي غَايَة الْقُوَّة والشدة كَانَت سَائِر القوى قَوِيَّة فَتكون الْقُوَّة الشهوانية والغضبية قَوِيَّة جدا وَقُوَّة هَذِه القوى تمنع الْعقل من الاستكمال فَإِذا حصلت الْقُوَّة الشيخوخة وَحصل الضعْف حصل بِسَبَب الضعْف ضعف فِي هَذِه القوى الْمَانِعَة لِلْعَقْلِ من الاستكمال وَحصل فِي الْعقل أَيْضا ضعف وَلَكِن بعد مَا حصل فِي الْعقل من الضعْف حصل ذَلِك فِي أضداده فينجبر النُّقْصَان من أحد الْجَانِبَيْنِ بِالنُّقْصَانِ من الْجَانِب الآخر فَيَقَع الِاعْتِدَال الْوَجْه الْخَامِس أَن الشَّيْخ حفظ الْعُلُوم والتجارب الْكَثِيرَة ومارس الْأُمُور ودربها

فصل قولكم في التاسع أن القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم وما

وَكَثُرت تجاربه وَهَذِه الْأَحْوَال تعينه على وُجُوه الْفِكر وَقُوَّة النّظر فَقَامَ النُّقْصَان الْحَاصِل بِسَبَب ضعف الْبدن والقوى الْوَجْه السَّادِس أَن كَثْرَة الْأَفْعَال بِسَبَب حُصُول الملكات الراسخة فَصَارَت الزِّيَادَة الْحَاصِلَة بِهَذَا الطَّرِيق جَابِرا للنقصان الْحَاصِل بِسَبَب اختلال الْبدن الْوَجْه السَّابِع أَنه قد ثَبت فِي الصَّحِيح عَنهُ أَنه قَالَ يهرم ابْن آدم وتشب فِيهِ خصلتان الْحِرْص وَطول الأمل وَالْوَاقِع شَاهد لهَذَا الحَدِيث مَعَ أَن الْحِرْص والأمل من القوى الجسمانية وَالصِّفَات الخيالية ثمَّ أَن ضعف الْبدن لم يُوجب ضعف هَاتين الصفتين فَعلم أَنه لَا يلْزم من اختلال الْبدن وَضَعفه ضعف الصِّفَات الْبَدَنِيَّة الْوَجْه الثَّامِن أَنا نرى كثيرا من الشُّيُوخ يصيرون إِلَى الخزف وَضعف الْعقل بل هَذَا هُوَ الْأَغْلَب وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر لكيلا يعْمل بعد علم شَيْئا فالشيخ فِي أرذل عمره يصير كالطفل أَو أَسْوَأ حَالا مِنْهُ وَأما من لم يحصل لَهُ ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يرد إِلَى أرذل الْعُمر الْوَجْه التَّاسِع أَنه لَا تلازم بَين قُوَّة الْبدن وَقُوَّة النَّفس وَلَا بَين ضعفه وضعفها فقد يكون الرجل قوي الْبدن ضَعِيف النَّفس جَبَانًا خوارا وَقد يكون ضَعِيف الْبدن قوي النَّفس فَيكون شجاعا مقداما على ضعف بدنه الْوَجْه الْعَاشِر أَنه لَو سلم لكم مَا ذكرْتُمْ لم يدل على كَون النَّفس جوهرا مُجَردا لَا داخلي الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا هِيَ فِي الْبدن وَلَا خَارِجَة عَنهُ لِأَنَّهَا إِذا كَانَت جسما صافيا مشرقا سماويا مُخَالفا للأجسام الأرضية لم تقبل الانحلال والذبول والتبدل كَمَا تقبله الْأَجْسَام المتحللة الأرضية فَلَا يلْزم من حُصُول الانحلال والذبول فِي هَذَا الْبدن حصولهما فِي جَوْهَر النَّفس فصل قَوْلكُم فِي التَّاسِع أَن الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة غنية فِي أفعالها عَن الْجِسْم وَمَا كَانَ غَنِيا عَن الْجِسْم فِي أَفعاله كَانَ غَنِيا عَنهُ فِي ذَاته إِلَى آخِره جَوَابه أَن يُقَال لَا يلْزم من ثُبُوت حكم فِي قُوَّة جسمانية ثُبُوت مثل ذَلِك الحكم فِي جَمِيع القوى الجسمانية وَلَيْسَ مَعكُمْ غير الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَة وَالْقِيَاس الْفَاسِد

فصل قولكم في العاشر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة الأفعال ولا تقوى

وَأَيْضًا فالصور والأعراض محتاجة إِلَى محلهَا وَلَيْسَ احتياجها إِلَى تِلْكَ الْمحَال إِلَّا لمُجَرّد ذواتها وَلَا يلْزم من استقلالها بِهَذَا الحكم استغناؤها فِي ذواتها عَن تِلْكَ الْمحَال فَلَا يلْزم من كَون الشَّيْء مُسْتقِلّا باقتضاء حكم من الْأَحْكَام أَن يكون مستغنيا فِي ذَاته عَن الْمحَال وَالله أعلم فصل قَوْلكُم فِي الْعَاشِر أَن الْقُوَّة الجسمانية تكل بِكَثْرَة الْأَفْعَال وَلَا تقوى على القوى بعد الضعْف إِلَى آخِره جَوَابه أَن الْقُوَّة الخيالية جسمانية ثمَّ إِنَّهَا تقوى على تخيل الْأَشْيَاء الْعَظِيمَة مَعَ تخيلها الْأَشْيَاء الحقيرة فَإِنَّهَا يُمكنهَا أَن تتخيل الشعلة الصَّغِيرَة حَال مَا تخيل الشَّمْس وَالْقَمَر وَأَيْضًا فَإِن الإبصار القوية الْقَاهِرَة تمنع إبصار الْأَشْيَاء الضعيفة فَكَذَلِك نقُول الْعُقُول الْعَظِيمَة الْعَالِيَة تمنع تعقل المعقولات الضعيفة فَإِن الْمُسْتَغْرق فِي معرفَة جلال رب الأَرْض وَالسَّمَوَات وأسمائه وَصِفَاته يمْتَنع عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَال الْفِكر فِي ثُبُوت الْجَوْهَر الْفَرد وَحَقِيقَته فصل قَوْلكُم فِي الْحَادِي عشر إِنَّا إِذا حكمنَا بِأَن السوَاد مضاد للبياض وَجب أَن يحصل فِي الذِّهْن مَاهِيَّة السوَاد وَالْبَيَاض مَعًا والبداهة حاكمة بِأَن اجْتِمَاعهمَا فِي الْجِسْم محَال جَوَابه أَن هَذَا مبْنى على أَن من أدْرك شَيْئا فقد حصل فِي ذَات الْمدْرك صُورَة مُسَاوِيَة للمدرك وَهَذَا بَاطِل واستدلالكم على صِحَّته بانطباع الصُّورَة فِي الْمرْآة بَاطِل فَإِن الْمرْآة لم ينطبع فِيهَا شَيْء الْبَتَّةَ كَمَا يَقُوله جُمْهُور الْعُقَلَاء من الفلاسفة والمتكلمين وَغَيرهم وَالْقَوْل بالانطباع بَاطِل من وُجُوه كَثِيرَة ثمَّ نقُول إِذا كُنْتُم قد قُلْتُمْ ان المتطبع فِي النَّفس عِنْد إِدْرَاك السوَاد وَالْبَيَاض رسومهما ومثالهما لَا حقيقتهما فَلم لَا يجوز حُصُول رسوم هَذِه الْأَشْيَاء فِي الْمَادَّة الجسمانية فصل قَوْلكُم فِي الثَّانِي عشر أَنه لَو كَانَ مَحل الإدراكات جسما وكل جسم منقسم لم يمْنَع أَن يقوم بِبَعْض أَجزَاء الْجِسْم علم بالشَّيْء وبالجزء الآخر مِنْهُ جهل بِهِ فَيكون الْإِنْسَان عَالما بالشَّيْء جَاهِلا بِهِ فِي وَقت وَاحِد جَوَابه أَن هَذِه الشُّبْهَة منتقضة على أصولكم فَإِن الشَّهْوَة وَالْغَضَب والتخيل من الْأَحْوَال الجسمانية عنْدكُمْ ومحلها منقسم فلزمكم أَن تجوزوا قيام الشَّهْوَة وَالْغَضَب بِأحد الجزأين وضدهما بالجزء الآخر فَيكون مشتهيا للشَّيْء نافرا عَنهُ غَضْبَان عَلَيْهِ غير غَضْبَان فِي وَقت وَاحِد

فصل قولكم في الثالث عشر أن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نقوش

فصل قَوْلكُم فِي الثَّالِث عشر أَن الْمَادَّة الجسمانية إِذا حصلت فِيهَا نقوش مَخْصُوصَة امْتنع فِيهَا حُصُول مثلهَا والنفوس البشرية بضد ذَلِك إِلَى آخِره جَوَابه أَن غَايَة هَذَا أَن يكون قِيَاسا ممتازا بِغَيْر جَامع وَذَلِكَ لَا يُفِيد الظَّن فضلا عَن الْيَقِين فَإِن النقوش الْعَقْلِيَّة هِيَ الْعُلُوم والإدراكات والنقوش الجسمانية هِيَ الأشكال والصور وَلَا ريب أَن الْعُلُوم مُخَالفَة بحقائقها للصور والأشكال وَلَا يلْزم من ثُبُوت حكم فِي نوع من أَنْوَاع الماهيات ثُبُوته فِيمَا يُخَالف ذَلِك النَّوْع فصل قَوْلكُم فِي الرَّابِع عشر لَو كَانَت النَّفس جسما لَكَانَ بَين تَحْرِيك المحرك رجله وَبَين إِرَادَته للحركة زمَان إِلَى آخِره جَوَابه أَن النَّفس مَعَ الْجَسَد لَا تَخْلُو من ثَلَاثَة أَحْوَال إِمَّا أَن تكون لابسة لجميعه من خَارج كَالثَّوْبِ أَو تكون فِي مَوضِع وَاحِد كالقلب والدماغ أَو تكون سَارِيَة فِي جَمِيع أَجزَاء الْجَسَد وعَلى كل تَقْدِير من هَذِه التقادير فتحريكها لما تُرِيدُ تحريكه يكون مَعَ إرادتها لذَلِك بِلَا زمَان كإدراك الْبَصَر لما يلاقيه وَإِدْرَاك السّمع والشم والذوق وَإِذا قطع الْعُضْو لم يَنْقَطِع مَا كَانَ من جسم النَّفس متجللا لذَلِك الْعُضْو سَوَاء كَانَت لابسة لَهُ من دَاخل أَو من خَارج بل تفارق الْعُضْو الذى بَطل حسه فِي الْوَقْت وتتقلص عَنهُ بِلَا زمَان وَيكون مفارقتها لذَلِك الْعُضْو كمفارقة الْهَوَاء للإناء إِذا ملىء مَاء وَأما إِن كَانَت النَّفس سَاكِنة فِي مَوضِع وَاحِد من الْبدن لم يلْزم ان تبين مَعَ الْعُضْو الْمَقْطُوع وَأما إِن كَانَت لابسة للبدن من خَارج لم يلْزم أَن يكون بَين إرادتها لتحريكه وَنَفس التحريك زمَان بل يكون فعلهَا حِينَئِذٍ فِي تَحْرِيك الْأَعْضَاء كَفعل المغناطيس فِي الْحَدِيد وَإِن لم يلاصقه ثمَّ نقُول هَذَا الهذيان الَّذِي شغلتم بِهِ الزَّمَان وَارِد عَلَيْكُم بِعَيْنِه فَإِنَّهَا عنْدكُمْ غير مُتَّصِلَة بِالْبدنِ وَلَا مُنْفَصِلَة عَنهُ وَلَا دَاخِلَة فِيهِ وَلَا خَارِجَة عَنهُ فيلزمكم مثل ذَلِك فصل قَوْلكُم فِي الْخَامِس عشر لَو كَانَت جسما لكَانَتْ منقسمة ولصح عَلَيْهَا أَن تعلم بَعْضهَا وتجهل بَعْضهَا فَيكون الْإِنْسَان عَالما بِبَعْض نَفسه جَاهِلا بِالْبَعْضِ الآخر

فصل قولكم في السادس عشر لو كانت النفس جسما لوجب ثقل البدن بدخولها

جَوَابه أَن هَذِه الشُّبْهَة مركبة من مقدمتين تلازميه واستثنائية وَالْمَنْع وَاقع فِي كلا المقدمتين أَو إِحْدَاهمَا فَلَا نسلم أَنَّهَا لَو كَانَت جسما لصَحَّ أَن تعلم بَعْضهَا وتجهل بَعْضهَا فَإِن لنَفس بسيطة غير مركبة من هَذِه العناصر وَلَا من الْأَجْزَاء الْمُخْتَلفَة فَمَتَى شَعرت بذاتها شَعرت بجهلها فَهَذَا منع الْمُقدمَة التلازمية وَأما الاستثنائية فَلَا نسلم أَنَّهَا لَا يَصح أَن تعلم بَعْضهَا حَال غفلتها عَن الْبَعْض الآخر وَلم تَذكرُوا على بطلَان ذَلِك شُبْهَة فضلا عَن دَلِيل وَمن الْمَعْلُوم أَن الْإِنْسَان قد يشْعر بِنَفسِهِ من بعض الْوُجُوه دون كلهَا ويتفاوت النَّاس فِي ذَلِك فَمنهمْ من يكون شعوره بِنَفسِهِ أتم من غَيره بدرجات كَثِيرَة وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} فَهَؤُلَاءِ نسوا نُفُوسهم لَا من جَمِيع الْوُجُوه بل من الْوَجْه الَّذِي بِهِ مصالحها وكمالها وسعادتها وَإِن لم ينسوها من الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ شهوتها وحظها وإرادتها فأنساهم مصَالح نُفُوسهم أَن يفعلوها ويطلبوها وعيوبها ونقائصها أَن يزيلوها ويجتنبوها وكمالها الَّذِي خلقت لَهُ أَن يعرفوه ويطلبوه فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هَذِه الْوُجُوه وَإِن كَانُوا عَالمين بهَا من وُجُوه أخر فصل قَوْلكُم فِي السَّادِس عشر لَو كَانَت النَّفس جسما لوَجَبَ ثقل الْبدن بِدُخُولِهَا فِيهِ لِأَن من شَأْن الْجِسْم إِذا زِدْت عَلَيْهِ جسما آخر أَن يثقل بِهِ فَهَذِهِ شُبْهَة فِي غَايَة الثقلة والمحتج بهَا أثقل وَلَيْسَ كل جسم زيد عَلَيْهِ جسم آخر ثقله فَهَذِهِ الْخَشَبَة تكون ثَقيلَة فَإِذا زيد عَلَيْهَا جسم النَّار خفت جدا وَهَذَا الظّرْف يكون ثقيلا فَإِذا دخله جسم الْهَوَاء خف وَهَذَا إِنَّمَا يكون فِي الْأَجْسَام الثقال الَّتِي تطلب المركز وَالْوسط بطبعها وَهِي تتحرك بالطبع إِلَيْهِ وَأما الْأَجْسَام الَّتِي تتحرك بطبعها إِلَى الْعُلُوّ فَلَا يعرض لَهَا ذَلِك بل الْأَمر فِيهَا بالضد من تِلْكَ الْأَجْسَام الثقال بل إِذا أضيفت إِلَى جسم ثقيل أكسبته الخفة وَقد أَخذ هَذَا الْمَعْنى بَعضهم فَقَالَ ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حَتَّى إِذا ملئت بِصَرْف الراح خفت فَكَادَتْ أَن تطير بِمَا حوت ... وَكَذَا الجسوم تخف بالأرواح فصل قَوْلكُم فِي السَّابِع عشر لَو كَانَت النَّفس جسما لكَانَتْ على صِفَات سَائِر الْأَجْسَام الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْهَا من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والنعومة والخشونة

فصل قولكم في الثامن عشر لو كانت النفس جسما لوجب أن تقع تحت

إِلَى آخِره شُبْهَة فَاسِدَة وَحجَّة داحضة فَإِنَّهُ لَا يجب اشْتِرَاك الْأَجْسَام فِي جَمِيع الكيفيات وَالصِّفَات وَقد فاوت الله سُبْحَانَهُ بَين صفاتها وكيفياتها وطبائعها مِنْهَا مَا يرى بالبصر ويلمس بِالْيَدِ وَمِنْهَا مَا لَا يرى وَلَا يلمس وَمنا مَاله لون وَمِنْهَا مَالا لون لَهُ وَمِنْهَا مَالا يقل الْحَرَارَة والبرودة وَمِنْهَا مَا يقبله على أَن للنَّفس من الكيفيات المختصة بهَا مَالا يشاركها فِيهَا الْبدن وَلها خفَّة وَثقل وحرارة وبرودة ويبس ولين يحسبها وَأَنت تَجِد الْإِنْسَان فِي غَايَة الثقالة وبدنه نحيل جدا وتجده فِي غَايَة الخفة وبدنه ثقيل وتجد نَفسهَا لينَة وَادعَة ونفسا يابسة قاسية وَمن لَهُ حس سليم يشم رَائِحَة بعض النُّفُوس كالجيفة المنتنة ورائحة بَعْضهَا أطيب من ريح الْمسك وَقد كَانَ رَسُول الله إِذا مر فِي طَرِيق بَقِي أثر رَائِحَته فِي الطَّرِيق وَيعرف أَنه مر بهَا وَتلك رَائِحَة نَفسه وَقَلبه وَكَانَت رَائِحَة عرقه من أطيب شَيْء وَذَلِكَ تَابع لطيب نَفسه وبدنه وَأخْبر وَهُوَ أصدق الْبشر أَن الرّوح عِنْد الْمُفَارقَة يُوجد لَهَا كأطيب نفحة مسك وجدت على وَجه الأَرْض أَو كأنتن ريح جيفة وجدت على وَجه الأَرْض وَلَوْلَا الزُّكَام الْغَالِب لشم الْحَاضِرُونَ ذَلِك على أَن كثيرا من النَّاس يجد ذَلِك وَقد أخبر بِهِ غير وَاحِد وَيَكْفِي فِيهِ خبر الصَّادِق المصدوق وَكَذَلِكَ أخبر بِأَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ مشرقة وأرواح الْكفَّار سود وَبِالْجُمْلَةِ فكيفيات النُّفُوس أظهر من أَن ينكرها إِلَّا من هُوَ من أَجْهَل النَّاس بهَا فصل قَوْلكُم فِي الثَّامِن عشر لَو كَانَت النَّفس جسما لوَجَبَ أَن تقع تَحت جَمِيع الْحَواس أَو تَحت حاسة مِنْهَا إِلَى آخِره فَجَوَابه منع اللُّزُوم فَإِنَّكُم لم تَذكرُوا عَلَيْهِ شُبْهَة فضلا عَن دَلِيل وَمنع انْتِفَاء اللَّازِم فَإِن الرّوح تدْرك بالحواس فتلمس وَترى وتشم لَهَا الرَّائِحَة الطّيبَة والخبيثة كَمَا تقدم فِي النُّفُوس المستفيضة وَلَكِن لَا نشاهد نَحن ذَلِك وَهَذَا الدَّلِيل لَا يُمكن مِمَّن يصدق الرُّسُل أَن يحْتَج بِهِ فَإِن الْملك جسم وَلَا يَقع تَحت حاسة من حواسنا وَكَذَلِكَ الْجِنّ وَالشَّيَاطِين أجسام لطاف لَا تقع تَحت حاسة من حواسنا والأجسام مُتَفَاوِتَة فِي ذَلِك تَفَاوتا كثيرا فَمِنْهَا مَا يدْرك أَكثر الْحَواس وَمِنْهَا مَالا يدْرك بأكثرها وَمنا مَا يدْرك بحاسة وَاحِدَة وَمِنْهَا مَالا ندركه نَحن فِي الْغَالِب وَإِن أدْرك فِي بعض الْأَحْوَال لكَونه لم يخلق لنا إِدْرَاكه أَو لمَانع يمْنَع من إِدْرَاكه أَو للطفه عَن إِدْرَاك حواسنا فَمَا عدم اللَّوْن من الْأَجْسَام لم يدْرك بالبصر كالهواء وَالنَّار فِي عنصرها وَمَا عدم الرَّائِحَة لم يدْرك بالشم كالنار والحصا والزجاج وَمَا عدم المجسة لم يدْرك باللمس كالهواء السَّاكِن

وَأَيْضًا فالروح هِيَ المدركة لمدارك هَذِه الْحَواس بِوَاسِطَة آلاتها فَالنَّفْس هِيَ الحاسة المدركة وَإِن لم تكن محسوسة فالأجسام والأعراض محسوسة وَالنَّفس محسة بهَا وَهِي الْقَابِلَة لأعراضها المتعاقبة عَلَيْهَا من الْفَضَائِل والرذائل كقبول الأجرام لأعراضها المتعاقبة عَلَيْهَا وَهِي المتحركة بأختيارها المحركة للبدن قسرا وقهرا وَهِي مُؤثرَة فِي الْبدن متأثرة بِهِ تألم وتلذ وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وتنعم وتبأس وتحب وَتكره وتذكر وتنسى وتصعد وتنزل وتعرف وتنكر وآثارها من أدل الدَّلَائِل على وجودهَا كَمَا أَن آثَار الْخَالِق سُبْحَانَهُ دَالَّة على وجوده وعَلى كَمَاله فَإِن دلَالَة الْأَثر على مؤثره ضَرُورِيَّة وتأثيرات النُّفُوس بَعْضهَا فِي بعض أَمر لَا يُنكره ذُو حس سليم وَلَا عقل مُسْتَقِيم وَلَا سِيمَا عِنْد تجردها نوع تجرد عَن العلائق والعوائق الْبَدَنِيَّة فَإِن قواها تتضاعف وتتزايد بِحَسب ذَلِك وَلَا سِيمَا عِنْد مُخَالفَة هَواهَا وَحملهَا على الْأَخْلَاق الْعَالِيَة من الْعِفَّة والشجاعة وَالْعدْل والسخاء وتجنبها سفساف الْأَخْلَاق ورذائلها وسافلها فَإِن تأثيرها فِي الْعَالم يُقَوي جدا تَأْثِيرا يعجز عَنهُ الْبدن وأعراضه أَن تنظر إِلَى حجر عَظِيم فتشقه أَو حَيَوَان كَبِير فتتلفه أَو إِلَى نعْمَة فتزيلها وَهَذَا أَمر قد شاهدته الْأُمَم على اخْتِلَاف أجناسها وأديانها وَهُوَ الَّذِي سمى إِصَابَة الْعين فيضيفون الْأَثر إِلَى الْعين وَلَيْسَ لَهَا فِي الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا هُوَ النَّفس المتكيفة بكيفية ردية سميَّة وَقد تكون بِوَاسِطَة نظر الْعين وَقد لَا نَكُون بل يُوصف لَهُ الشَّيْء من بعيد فتتكيف عَلَيْهِ نَفسه بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّة فتفسده وَأَنت ترى تَأْثِير النَّفس فِي الْأَجْسَام صفرَة وَحُمرَة وارتعاشا بِمُجَرَّد مقابلتها لَهَا وقوتها وَهَذِه وأضعافها آثَار خَارِجَة عَن تَأْثِير الْبدن وأعراضه فَإِن الْبدن لَا يُؤثر إِلَّا فِيمَا لاقاه وماسه تَأْثِيرا مَخْصُوصًا وَلم تزل الْأُمَم تشهد تَأْثِير الهمم الفعالة فِي الْعَالم وتستعين بهَا وتحذر أَثَرهَا وَقد أَمر رَسُول الله أَن يغسل العائن مغابنه ومواضع القذر مِنْهُ ثمَّ يصب ذَلِك المَاء على الْمعِين فَإِنَّهُ يزِيل عَنهُ تَأْثِير نَفسه فِيهِ وَذَلِكَ بِسَبَب أَمر طبعي اقتضته حِكْمَة الله سُبْحَانَهُ فَإِن النَّفس الأمارة لَهَا بِهَذِهِ الْمَوَاضِع تعلق وَألف والأرواح الخبيثة الخارجية تساعدها وتألف هَذِه الْمَوَاضِع غَالِبا للمناسبة بَينهَا وَبَينهَا فَإِذا غسلت بِالْمَاءِ طفئت تِلْكَ النارية مِنْهَا كَمَا يطفأ الْحَدِيد المحمى بِالْمَاءِ فَإِذا صب ذَلِك المَاء على الْمُصَاب طفأ عَنهُ تِلْكَ النارية الَّتِي وصلت إِلَيْهِ من البعائن وَقد وصف الْأَطِبَّاء المَاء الَّذِي يطفأ فِيهِ الْحَدِيد لآلام وأوجاع مَعْرُوفَة وَقد جرب النَّاس من تَأْثِير الْأَرْوَاح بَعْضهَا فِي بعض عِنْد تجردها فِي الْمَنَام عجائب تفوت الْحصْر وَقد نبهنا على بَعْضهَا فِيمَا مضى فعالم الْأَرْوَاح عَالم آخر أعظم من عَالم الْأَبدَان وَأَحْكَامه وآثاره

فصل قولكم في التاسع عشر لو كانت النفس جسما لكانت ذات طول وعرض

أعجب من آثَار الْأَبدَان بل كل مَا فِي الْعَالم من الْآثَار الإنسانية فَإِنَّمَا هِيَ من تَأْثِير النُّفُوس بِوَاسِطَة الْبدن فالنفوس والأبدان يتعاونان على التَّأْثِير تعاون المشتركين فِي الْفِعْل وتنفره النَّفس بآثار لَا يشاركها فِيهَا الْبدن وَلَا يكون للبدن تَأْثِير لَا تشاركه فِيهِ النَّفس فصل قَوْلكُم فِي التَّاسِع عشر لَو كَانَت النَّفس جسما لكَانَتْ ذَات طول وَعرض وعمق وشكل وسطح وَهَذِه الْمَقَادِير لَا تقوم إِلَّا بمادة إِلَى آخِره جَوَابه أَنا نقُول قَوْلكُم هَذِه الْمَقَادِير لَا تقوم إِلَّا بمادة قُلْنَا وَكَانَ مَاذَا وَالنَّفس لَهَا مَادَّة خلقت مِنْهَا وَجعلت على شكل معِين وَصُورَة مُعينَة قَوْلكُم مادتها إِن كَانَت نفسا لزم اجْتِمَاع نفسين وَإِن كَانَت غير نفس كَانَت مركبة من بدن وَصُورَة قُلْنَا مادتها لَيست نفسا كَمَا أَن مَادَّة الْإِنْسَان لَيست إنْسَانا ومادة الْجِنّ لَيست جنا ومادة الْحَيَوَان لَيست حَيَوَانا قَوْلكُم يلْزم كَون النَّفس مركبة من بدن وَصُورَة مُقَدّمَة كَاذِبَة وَإِنَّمَا يلْزم كَون النَّفس مخلوقة من مَادَّة وَلها صُورَة مُعينَة وَهَكَذَا نقُول سَوَاء وَلم تَذكرُوا على بطلَان هَذِه شُبْهَة فضلا عَن حجَّة ظنية أَو قَطْعِيَّة فصل قَوْلكُم فِي الْوَجْه الْعشْرين أَن خَاصَّة الْجِسْم أَن يقبل التجزيء وَأَن الْجُزْء الصَّغِير مِنْهُ لَيْسَ كالكبير فَلَو قبلت التجزيء فَكل جُزْء مِنْهَا إِن كَانَ نفسا لزم أَن يكون للْإنْسَان نفوس كَثِيرَة وَإِن لم يكن نفسا لم يكن الْمَجْمُوع نفسا جَوَابه إِن أردتم أَن كل جسم يقبل التجزيء فِي الْخَارِج فكذب ظَاهر فَإِن الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب لَا تقبل ذَلِك وَلَا يلْزم أَن كل جسم يَصح عَلَيْهِ التجزيء والتبعيض فِي الْخَارِج أما على قَول نفاة الْجَوْهَر الْفَرد فَظَاهر وَأما على قَول متبنيه فَإِنَّهُ عِنْدهم جَوْهَر متحيز لَا يَصح عَلَيْهِ قبُول الانقسام سلمنَا أَنَّهَا تقبل الانقسام فَأَي شَيْء يلْزم من ذَلِك قَوْلكُم إِن كَانَ كل جُزْء من تِلْكَ الْأَجْزَاء نفسا لزم اجْتِمَاع نفوس كَثِيرَة فِي الْإِنْسَان قُلْنَا إِنَّمَا يلْزم ذَلِك لَو انقسمت النَّفس بِالْفِعْلِ إِلَى نفوس كَثِيرَة وَهَذَا محَال قَوْلكُم وَإِن لم يكن كل جُزْء نفسا لم يكن الْمَجْمُوع نفسا مُقَدّمَة كَاذِبَة منتقضة فكم مَاهِيَّة ثَبت لَهَا حكم عِنْد اجْتِمَاع أَجْزَائِهَا فَإِن ذَلِك الحكم كماهية الْبَيْت وَالْإِنْسَان وَالْعشرَة وَغَيرهَا

فصل قولكم في الوجه الحادي والعشرين أن الجسم يحتاج في قوامه وبقائه

فصل قَوْلكُم فِي الْوَجْه الْحَادِي وَالْعِشْرين أَن الْجِسْم يحْتَاج فِي قوامه وبقائه وَحفظه إِلَى نفس أُخْرَى وَيلْزم التسلسل جَوَابه أَنه يلْزم من افتقار الْبدن إِلَى نفس تحفظه افتقار النَّفس إِلَى نفس تحفظها وَهل ذَلِك إِلَّا بِمُجَرَّد دَعْوَة كَاذِبَة مستندة إِلَى قِيَاس قد تبين بُطْلَانه فَإِن كل جسما لَا يصير إِلَى نفس تحفظه كأجسام الْمَعَادِن وجسم الْهَوَاء وَالْمَاء وَالنَّار وَالتُّرَاب وأجسام سَائِر الجمادات فَإِن قُلْتُمْ إِن هَذِه لَيست أَحيَاء ناطقة بِخِلَاف النَّفس فَإِنَّهَا حَيَّة ناطقة قُلْنَا فَحِينَئِذٍ يبْقى الدَّلِيل هَكَذَا أَي كل جسم حَيّ نَاطِق يحْتَاج فِي حفظه وقيامه إِلَى نفس نقوم بِهِ وَهَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة وَهِي كَاذِبَة فَإِن الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة أَحيَاء ناطقون وَلَيْسوا مفتقرين فِي قيامهم إِلَى أَرْوَاح أخر تقوم بهم فَإِن قُلْتُمْ وكلامنا مَعكُمْ فِي الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة فَإِنَّهُم لَيْسُوا بأجسام متحيزة قُلْنَا الْكَلَام مَعَ من يُؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَأما من كفر بذلك فَالْكَلَام مَعَه فِي النَّفس ضائع وَقد كفر بفاطر النَّفس ومبدعها وَمَلَائِكَته وَمَا جَاءَت بِهِ رسله وَكَانَ تَارِكًا مَا دلّ عَلَيْهِ العيان مَعَ دَلِيل الْإِيمَان فَإِن الْآثَار المشهودة فِي الْعَالم من تأثيرات الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ بِإِذن رَبهم لَا يُمكن إنكارها وَهِي مَوْجُودَة بِنَفسِهَا وَلَا تقدر عَلَيْهَا القوى البشرية فصل قَوْلكُم فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين لَو كَانَت جسما لَكَانَ اتصالها بِالْبدنِ إِن كَانَ على سَبِيل المداخلة لزم تدَاخل الْأَجْسَام وَإِن كَانَ على سَبِيل الملاصقة والمجاورة كَانَ للْإنْسَان الْوَاحِد جسمان متلاصقان أَحدهمَا يرى وَالْآخر لَا يرى جَوَابه من وُجُوه أَحدهَا أَن تتداخل الْأَجْسَام الْمحَال أَن يتداخل جسمان كثيفان أَحدهمَا فِي الآخر بِحَيْثُ يكون حيزهما وَاحِدًا وَأما أَن يدْخل جسم لطيف فِي كثيف يسرى فِيهِ فَهَذَا لَيْسَ بمحال الثَّانِي أَن هَذَا بَاطِل بصور كَثِيرَة مِنْهَا دُخُول المَاء فِي الْعود والسحاب وَدخُول النَّار فِي الْحَدِيد وَدخُول الْغذَاء فِي جَمِيع أَجزَاء الْبدن وَدخُول الْجِنّ فِي المصروع فالروح للطافتها لَا يمْتَنع عَلَيْهَا مشابكة الْبدن وَالدُّخُول فِي جَمِيع أَجْزَائِهِ

المسألة العشرون وهي هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران

الثَّالِث أَن حيّز النَّفس الْبدن وحيزه مَكَانَهُ الْمُنْفَصِل عَنهُ وَهَذَا لَيْسَ بتداخل مُمْتَنع فَإِذا فارقته صَار لَهَا حيّز آخر غير حيزه وَحِينَئِذٍ فَلَا يتداخلان بل يصير لكل مِنْهُمَا حيّز يَخُصُّهُ وَبِالْجُمْلَةِ فدخول الرّوح فِي الْبدن الطف من دُخُول المَاء فِي الثرى والدهن فِي الْبدن فَهَذِهِ الشُّبْهَة الْفَاسِدَة لَا يُعَارض بهَا مَا دلّ عَلَيْهَا نُصُوص الْوَحْي والأدلة الْعَقْلِيَّة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ وَهِي هَل النَّفس وَالروح شَيْء وَاحِد أَو شَيْئَانِ متغايران فأختلف النَّاس فِي ذَلِك فَمن قَائِل أَن مسماهما وَاحِد وهم الْجُمْهُور وَمن قَائِل أَنَّهُمَا متغايران وَنحن نكشف سر الْمَسْأَلَة بحول الله وقوته فَنَقُول النَّفس تطلق على أُمُور أَحدهَا الرّوح قَالَ الْجَوْهَرِي النَّفس الرّوح يُقَال خرجت نَفسه قَالَ أَبُو خرَاش نجما سالما وَالنَّفس مِنْهُ بشدقه ... وَلم ينج إِلَّا جفن سيف ومئزر أَي بجفن سيف ومئزر وَالنَّفس وَالدَّم قَالَ سَأَلت نَفسه وَفِي الحَدِيث مَالا نفس لَهُ سَائِلَة لَا ينجس المَاء إِذا مَاتَ فِيهِ وَالنَّفس الْجَسَد قَالَ الشَّاعِر نبئت أَن بني تَمِيم أدخلُوا ... أَبْنَاءَهُم تامور نفس الْمُنْذر والتامور الدَّم وَالنَّفس الْعين يُقَال أَصَابَت فلَانا أَي عين قلت لَيْسَ كَمَا قَالَ بل النَّفس هَا هُنَا الرّوح وَنسبَة الْإِضَافَة إِلَى الْعين توسع لِأَنَّهَا تكون بِوَاسِطَة النّظر الْمُصِيب وَالَّذِي أَصَابَهُ إِنَّمَا هُوَ نفس العائن كَمَا تقدم قلت وَالنَّفس فِي الْقُرْآن تطلق على الذَّات بحملتها كَقَوْلِه تَعَالَى {فَسَلمُوا على أَنفسكُم} وَقَوله تَعَالَى {يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا} وَقَوله تَعَالَى {كل نفس بِمَا كسبت رهينة} وَتطلق على الرّوح وَحدهَا كَقَوْلِه تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة} وَقَوله تَعَالَى أخرجُوا أَنفسكُم وَقَوله تَعَالَى {وَنهى النَّفس عَن الْهوى} وَقَوله تَعَالَى {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} وَأما الرّوح فَلَا تطلق على الْبدن لَا بإنفراده وَلَا مَعَ النَّفس وَتطلق الرّوح على الْقُرْآن الَّذِي أوحاه الله تَعَالَى إِلَى رَسُوله قَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} وعَلى الْوَحْي الَّذِي يوحيه إِلَى أنبيائه وَرُسُله قَالَ تَعَالَى {يلقِي الرّوح من أمره على من}

فصل وقالت فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف الروح غير النفس

يَشَاء من عباده لينذر يَوْم التلاق وَقَالَ تَعَالَى {ينزل الْمَلَائِكَة بِالروحِ من أمره على من يَشَاء من عباده أَن أنذروا أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاتقون} وسمى ذَلِك روحا لما يحصل بِهِ من الْحَيَاة النافعة فَإِن الْحَيَاة بِدُونِهِ لَا تَنْفَع صَاحبهَا الْبَتَّةَ بل حَيَاة الْحَيَوَان البهيم خير مِنْهَا وَأسلم عَاقِبَة وَسميت الرّوح روحا لِأَن بهَا حَيَاة الْبدن وَكَذَلِكَ سميت الرّيح لما يحصل بهَا من الْحَيَاة وَهِي من ذَوَات الْوَاو وَلِهَذَا تجمع على أَرْوَاح قَالَ الشَّاعِر إِذا ذهبت الْأَرْوَاح من نَحْو أَرْضكُم ... وجدت لمسرها على كَبِدِي بردا وَمِنْهَا الرّوح وَالريحَان والاستراحة فسميت النَّفس روحا لحُصُول الْحَيَاة بهَا وَسميت نفسا إِمَّا من الشَّيْء النفيس لنفاستها وشرفها وَإِمَّا من تنفس الشَّيْء إِذا خرج فلكثرة خُرُوجهَا ودخولها فِي الْبدن سميت نفسا وَمِنْه النَّفس بِالتَّحْرِيكِ فَإِن العَبْد كلما نَام خرجت مِنْهُ فَإِذا اسْتَيْقَظَ رجعت إِلَيْهِ فَإِذا مَاتَ خرجت خُرُوجًا كليا فَإِذا دفن عَادَتْ إِلَيْهِ فَإِذا سُئِلَ خرجت فَإِذا بعث رجعت إِلَيْهِ فَالْفرق بَين النَّفس وَالروح فرق بِالصِّفَاتِ لَا فرق بِالذَّاتِ وَإِنَّمَا سمي الدَّم نفسا لِأَن خُرُوجه الَّذِي يكون مَعَه الْمَوْت يلازم خُرُوج النَّفس وَإِن الْحَيَاة لَا تتمّ إِلَّا بِهِ كَمَا لَا تتمّ إِلَّا بِالنَّفسِ فَلهَذَا قَالَ تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وَلَيْسَت على غير الظباة تسيل وَيُقَال فاضت نَفسه وَخرجت نَفسه وَفَارَقت نَفسه كَمَا يُقَال خرجت روحه وَفَارَقت وَلَكِن الْفَيْض الاندفاع وهلة وَاحِدَة وَمِنْه الْإِفَاضَة وَهِي الاندفاع بِكَثْرَة وَسُرْعَة لَكِن أَفَاضَ إِذا دفع بإختياره وإرادته إِذا انْدفع قسرا وقهرا فَالله سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يفيضها عِنْد الْمَوْت فتفيض هِيَ فصل وَقَالَت فرقة أُخْرَى من أهل الحَدِيث وَالْفِقْه والتصوف الرّوح غير النَّفس قَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان للْإنْسَان حَيَاة وروح وَنَفس فَإِذا نَام خرجت نَفسه الَّتِي يعقل بهَا الْأَشْيَاء وَلم تفارق الْجَسَد بل تخرج كحبل ممتد لَهُ شُعَاع فَيرى الرُّؤْيَا بِالنَّفسِ الَّتِي خرجت مِنْهُ وَتبقى الْحَيَاة وَالروح فِي الْجَسَد فِيهِ يتقلب ويتنفس فَإِذا حرك رجعت إِلَيْهِ أسْرع من طرفَة عين فَإِذا أَرَادَ الله عز وَجل أَن يميته فِي الْمَنَام أمسك تِلْكَ النَّفس الَّتِي خرجت وَقَالَ أَيْضا إِذا نَام خرجت نَفسه فَصَعدت إِلَى فَوق فَإِذا رَأَتْ الرُّؤْيَا رجعت فَأخْبرت الرّوح ويخبر الرّوح فَيُصْبِح يعلم أَنه قد رأى كَيْت وَكَيْت

قَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه ثمَّ اخْتلفُوا فِي معرفَة الرّوح وَالنَّفس فَقَالَ بَعضهم النَّفس طينية نارية وَالروح نورية روحانية وَقَالَ بَعضهم الرّوح لاهوتية وَالنَّفس ناسوتية وَأَن الْخلق بهَا ابتلى وَقَالَت طَائِفَة وهم أهل الْأَثر أَن الرّوح غير النَّفس وَالنَّفس غير الرّوح وقوام النَّفس بِالروحِ وَالنَّفس صُورَة العَبْد والهوى والشهوة وَالْبَلَاء معجون فِيهَا وَلَا عَدو أعدى لِابْنِ آدم من نَفسه فَالنَّفْس لَا تُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا وَلَا تحب إِلَّا إِيَّاهَا وَالروح تَدْعُو إِلَى الْآخِرَة وتؤثرها وَجعل الْهوى تبعا للنَّفس والشيطان تبع النَّفس والهوى وَالْملك مَعَ الْعقل وَالروح وَالله تَعَالَى يمدهما بالهامة وتوفيقه وَقَالَ بَعضهم الْأَرْوَاح من أَمر الله أخْفى حَقِيقَتهَا وَعلمهَا على الْخلق وَقَالَ بَعضهم الْأَرْوَاح نور من نور الله وحياة من حَيَاة الله ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْأَرْوَاح هَل تَمُوت بِمَوْت الْأَبدَان والأنفس أَو لَا تَمُوت فَقَالَت طَائِفَة الْأَرْوَاح لَا تَمُوت وَلَا تبلى وَقَالَت الْجَمَاعَة الْأَرْوَاح على صور الْخلق لَهَا أيد وأرجل وأعين وَسمع وبصر ولسان وَقَالَت طَائِفَة لِلْمُؤمنِ ثَلَاثَة أَرْوَاح وللمنافق وَالْكَافِر روح وَاحِدَة وَقَالَ بَعضهم للأنبياء وَالصديقين خمس أَرْوَاح وَقَالَ بَعضهم الْأَرْوَاح روحانية خلقت من الملكوت فَإِذا صفت رجعت إِلَى الملكوت قلت أما الرّوح الَّتِي تتوفى وتقبض فَهِيَ روح وَاحِدَة وَهِي النَّفس وَأما مَا يُؤَيّد الله بِهِ أولياءه من الرّوح فَهِيَ روح أُخْرَى غير هَذِه الرّوح كَمَا قَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ} وَكَذَلِكَ الرّوح الَّذِي أيد بهَا روحه الْمسْح ابْن مَرْيَم كَمَا قَالَ تَعَالَى إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك إِذْ أيدك بِروح الْقُدس وَكَذَلِكَ الرّوح الَّتِي يلقيها على من يَشَاء من عباده هِيَ غير الرّوح الَّتِي فِي الْبدن وَأما القوى الَّتِي فِي الْبدن فَإِنَّهَا تسمى أَيْضا أرواحا فَيُقَال الرّوح الباصر وَالروح السَّامع وَالروح الشَّام فَهَذِهِ الْأَرْوَاح قوى مودعة فِي الْبدن تَمُوت بِمَوْت الْأَبدَان وَهِي غير الرّوح الَّتِي لَا تَمُوت بِمَوْت الْبدن وَلَا تبلى كَمَا يبْلى وَيُطلق الرّوح على أخص من هَذَا كُله وَهُوَ قُوَّة

المسألة الحادية والعشرون وهي هل النفس واحدة أم ثلاث فقد وقع في

الْمعرفَة بِاللَّه والإنابة إِلَيْهِ ومحبته وانبعاث الهمة إِلَى طلبه وإرادته وَنسبَة هَذِه الرّوح إِلَى الرّوح كنسبة الرّوح إِلَى الْبدن فَإِذا فقدتها الرّوح كَانَت بِمَنْزِلَة الْبدن إِذا فقد روحه وَهِي الرّوح الَّتِي يُؤَيّد بهَا أهل ولَايَته وطاعته وَلِهَذَا يَقُول النَّاس فلَان فِيهِ روح وَفُلَان مَا فِيهِ روح وَهُوَ بو وَهُوَ قَصَبَة فارغة وَنَحْو ذَلِك فللعلم روح وللإحسان روح وللإخلاص روح وللمحبة والإنابة روح وللتوكل والصدق روح وَالنَّاس متفاوتون فِي هَذِه الْأَرْوَاح أعظم تفَاوت فَمنهمْ من تغلب عَلَيْهِ هَذِه الْأَرْوَاح فَيصير روحانيا وَمِنْهُم من يفقدها أَو أَكْثَرهَا فَيصير أرضيا بهيميا وَالله الْمُسْتَعَان الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة وَالْعشْرُونَ وَهِي هَل النَّفس وَاحِدَة أم ثَلَاث فقد وَقع فِي كَلَام كثير من النَّاس أَن لِابْنِ آدم ثَلَاث انفس نفس مطمئنة وَنَفس لوامة وَنَفس أَمارَة وَأَن مِنْهُم من تغلب عَلَيْهِ هَذِه وَمِنْهُم من تغلب عَلَيْهِ الْأُخْرَى ويحتجون على ذَلِك بقوله تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} وَالتَّحْقِيق أَنَّهَا نفس وَاحِدَة وَلَكِن لَهَا صِفَات فتسمى بإعتبار كل صفة بأسم فتسمى مطمئنة بإعتبار طمأنينتها إِلَى رَبهَا بعبوديته ومحبته والإنابة إِلَيْهِ والتوكل عَلَيْهِ وَالرِّضَا بِهِ والسكون إِلَيْهِ فَإِن سمة محبته وخوفه ورجائه مِنْهَا قطع النّظر عَن محبَّة غَيره وخوفه ورجائه فيستغني بمحبته عَن حب مَا سواهُ وبذكره عَن ذكر مَا سواهُ وبالشوق إِلَيْهِ وَإِلَى لِقَائِه عَن الشوق إِلَى مَا سواهُ فالطمأنينة إِلَى الله سُبْحَانَهُ حَقِيقَة ترد مِنْهُ سُبْحَانَهُ على قلب عَبده تجمعه عَلَيْهِ وَترد قلبه الشارد إِلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ جَالس بَين يَدَيْهِ يسمع بِهِ ويبصر بِهِ ويتحرك بِهِ ويبطش بِهِ فتسرى تِلْكَ الطُّمَأْنِينَة فِي نَفسه وَقَلبه ومفاصله وَقواهُ الظَّاهِرَة والباطنة تجذب روحه إِلَى الله ويلين جلده وَقَلبه ومفاصله إِلَى خدمته والتقرب إِلَيْهِ وَلَا يُمكن حُصُول الطُّمَأْنِينَة الْحَقِيقِيَّة إِلَّا بِاللَّه ونذكره وَهُوَ كَلَامه الَّذِي أنزلهُ على رَسُوله كَمَا قَالَ تَعَالَى {الَّذين آمنُوا وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله أَلا بِذكر الله تطمئِن الْقُلُوب} فَإِن طمأنينة الْقلب سكونه واستقراره بِزَوَال القلق والانزعاج وَالِاضْطِرَاب عَنهُ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى بِشَيْء سوى الله تَعَالَى وَذكره الْبَتَّةَ وَأما مَا عداهُ فالطمأنينة إِلَيْهِ غرور والثقة بِهِ عجز قضى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَضَاء لَا مرد لَهُ أَن من اطْمَأَن إِلَى شَيْء سواهُ أَتَاهُ القلق

فصل والطمأنينة إلى أسماء الرب تعالى وصفاته نوعان طمأنينة إلى

والانزعاج وَالِاضْطِرَاب من جِهَته كَائِنا من كَانَ بل لَو اطْمَأَن العَبْد إِلَى علمه وحاله وَعَمله سبله وزايله وَقد جعل سُبْحَانَهُ نفوس المطمئنين إِلَى سواهُ أغراضها بسهام الْبلَاء ليعلم عباده وأولياؤه أَن الْمُتَعَلّق بِغَيْرِهِ مَقْطُوع والمطمئن إِلَى سواهُ عَن مَصَالِحه ومقاصده مصدود وممنوع وَحَقِيقَة الطُّمَأْنِينَة الَّتِي تصير بهَا النَّفس مطمئنة أَن تطمئِن فِي بَاب معرفَة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته ونعوت كَمَا لَهُ إِلَى خَبره الَّذِي أخبر بِهِ عَن نَفسه وأخبرت بِهِ عَنهُ رسله فتتلقاه بِالْقبُولِ وَالتَّسْلِيم والإذعان وانشراح الصَّدْر لَهُ وَفَرح الْقلب بِهِ فَإِنَّهُ معرف من معرفات الرب سُبْحَانَهُ إِلَى عَبده على لِسَان رَسُوله فَلَا يزل الْقلب فِي أعظم القلق وَالِاضْطِرَاب فِي هَذَا الْبَاب حَتَّى يخالط الْإِيمَان بأسماء الرب تَعَالَى وَصِفَاته وتوحيده وعلوه على عَرْشه وتكلمه بِالْوَحْي بشاشة قلبه فَينزل ذَلِك عَلَيْهِ نزُول المَاء الزلَال على الْقلب الملتهب بالعطش فيطمئن إِلَيْهِ ويسكن إِلَيْهِ ويفرح بِهِ ويلين لَهُ قلبه ومفاصله حَتَّى كَأَنَّهُ شَاهد الْأَمر كَمَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل بل يصير ذَلِك لِقَلْبِهِ بِمَنْزِلَة رُؤْيَة الشَّمْس فِي الظهيرة لعَينه فَلَو خَالفه فِي ذَلِك من بَين شَرق الأَرْض وغربها لم يلْتَفت إِلَى خلافهم وَقَالَ إِذا استوحش من الغربة قد كَانَ الصّديق الْأَكْبَر مطمئنا بِالْإِيمَان وَحده وَجَمِيع أهل الأَرْض يُخَالِفهُ وَمَا نقص ذَلِك من طمأنينة شَيْئا فَهَذَا أول دَرَجَات الطُّمَأْنِينَة ثمَّ لَا يزَال يقوى كلما سمع بِآيَة متضمنة لصفة من صِفَات ربه وَهَذَا أَمر لَا نِهَايَة لَهُ فَهَذِهِ الطُّمَأْنِينَة أصل أصُول الْإِيمَان الَّتِي قَامَ عَلَيْهِ بِنَاؤُه ثمَّ يطمئن إِلَى خَبره عَمَّا بعد الْمَوْت من أُمُور البرزخ وَمَا بعْدهَا من أَحْوَال الْقِيَامَة حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهد ذَلِك كُله عيَانًا وَهَذَا حَقِيقَة الْيَقِين الَّذِي وصف بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهل الْإِيمَان حَيْثُ قَالَ {وبالآخرة هم يوقنون} فَلَا يحصل الْإِيمَان بِالآخِرَة حَتَّى يطمئن الْقلب إِلَى مَا أخبر الله سُبْحَانَهُ بِهِ عَنْهَا طمأنينته إِلَى الْأُمُور الَّتِي لَا يشك فِيهَا وَلَا يرتاب فَهَذَا هُوَ الْمُؤمن حَقًا بِالْيَوْمِ الآخر كَمَا فِي حَدِيث حَارِثَة أَصبَحت مُؤمنا فَقَالَ رَسُول الله إِن لكل حق حَقِيقَة فَمَا حَقِيقَة إيمانك قَالَ عزفت نَفسِي عَن الدُّنْيَا وَأَهْلهَا وَكَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا وَإِلَى أهل الْجنَّة يتزاورون فِيهَا وَأهل النَّار يُعَذبُونَ فِيهَا فَقَالَ عبد نور الله قلبه فصل والطمأنينة إِلَى أَسمَاء الرب تَعَالَى وَصِفَاته نَوْعَانِ طمأنينة إِلَى الْإِيمَان بهَا وإثباتها واعتقادها وطمأنينة إِلَى مَا تَقْتَضِيه وتوجبه من آثَار الْعُبُودِيَّة مِثَاله الطُّمَأْنِينَة إِلَى الْقدر وإثباته وَالْإِيمَان بِهِ يَقْتَضِي الطُّمَأْنِينَة إِلَى مَوَاضِع الأقدار الَّتِي لم يُؤمر العَبْد بدفعها وَلَا قدرَة لَهُ على دَفعهَا فَيسلم

فصل وها هنا سر لطيف يجب التنبيه عليه والتنبه له والتوفيق له بيد

لَهَا ويرضى بهَا وَلَا يسْخط وَلَا يشكو وَلَا يضطرب إيمَانه فَلَا يأسى على مَا فَاتَهُ وَلَا يفرح بِمَا أَتَاهُ لِأَن الْمُصِيبَة فِيهِ مقدرَة قبل أَن تصل إِلَيْهِ وَقبل أَن يخلق كَمَا قَالَ تَعَالَى مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها إِن ذَلِك على الله يسير لكيلا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم قَالَ تَعَالَى {مَا أصَاب من مُصِيبَة إِلَّا بِإِذن الله وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} قَالَ غير وَاحِد من السّلف هُوَ العَبْد تصيبه الْمُصِيبَة فَيعلم أَنَّهَا من عِنْد الله فيرضى وَيسلم فَهَذِهِ طمأنينة إِلَى أَحْكَام الصِّفَات وموجباتها وآثارها فِي الْعَالم وهى قدر زَائِد على الطُّمَأْنِينَة بِمُجَرَّد الْعلم بهَا واعتقادها وَكَذَلِكَ سَائِر الصِّفَات وآثارها ومتعلقاتها كالسمع وَالْبَصَر وَالرِّضَا وَالْغَضَب والمحبة فَهَذِهِ طمأنينة الْإِيمَان وَأما طمأنينة الْإِحْسَان فَهِيَ الطُّمَأْنِينَة إِلَى أمره امتثالا وإخلاصا وَنصحا فَلَا يقدم على أمره إِرَادَة وَلَا هوى وَلَا تقليدا فَلَا يساكن شُبْهَة تعَارض خَبره وَلَا شَهْوَة تعَارض أمره بل إِذا مرت بِهِ أنزلهَا منزلَة الوساوس الَّتِي لِأَن يخر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض أحب إِلَيْهِ من أَن يجدهَا فَهَذَا كَمَا النَّبِي صَرِيح الْإِيمَان وعلامة هَذِه الطُّمَأْنِينَة أَن يطمئن من قلق الْمعْصِيَة وانزعاجها إِلَى سُكُون التَّوْبَة وحلاوتها وفرحتها ويسهل عَلَيْهِ ذَلِك بِأَن يعلم أَن اللَّذَّة والحلاوة والفرحة فِي الظفر بِالتَّوْبَةِ وَهَذَا أَمر لَا يعرفهُ إِلَّا من ذاق الْأَمريْنِ وباشر قلبه آثارهما فللتوبة طمأنينة تقَابل مَا فِي الْمعْصِيَة من الانزعاج والقلق وَلَو فتش العَاصِي عَن قلبه لوجده حشْوَة المخاوف والانزعاج والقلق وَالِاضْطِرَاب وَإِنَّمَا يوارى عَنهُ شُهُود ذَلِك سكر الْغَفْلَة والشهوة فَإِن لكل شَهْوَة سكرا يزِيد على سكر الْخمر وَكَذَلِكَ الْغَضَب لَهُ سكر أعظم من سكر الشَّرَاب وَلِهَذَا ترى العاشق والغضبان يفعل مَالا يَفْعَله شَارِب الْخمر وَكَذَلِكَ يطمئن من قلق الْغَفْلَة والإعراض إِلَى سُكُون الإقبال على الله وحلاوة ذكره وَتعلق الرّوح بحبه ومعرفته فَلَا طمأنينة للروح بِدُونِ هَذَا أبدا وَلَو أنصفت نَفسهَا لرأتها إِذا فقدت ذَلِك فِي غَايَة الانزعاج والقلق وَالِاضْطِرَاب وَلَكِن يواريها السكر فَإِذا كشف الغطاء تبين لَهُ حَقِيقَة مَا كَانَ فِيهِ فصل وَهَا هُنَا سر لطيف يجب التَّنْبِيه عَلَيْهِ والتنبه لَهُ والتوفيق لَهُ بيد من أزمة التَّوْفِيق بِيَدِهِ وَهُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ جعل لكل عُضْو من أَعْضَاء الْإِنْسَان كمالا إِن لم يحصل لَهُ فَهُوَ فِي قلق واضطراب وانزعاج بِسَبَب فقد كَمَاله الَّذِي جعل لَهُ مِثَالا كَمَال الْعين بالأبصار وَكَمَال الْأذن بِالسَّمْعِ وَكَمَال اللِّسَان بالنطق فَإِذا عدمت هَذِه الْأَعْضَاء القوى الَّتِي بهَا كمالها حصل الْأَلَم وَالنَّقْص بِحَسب فَوَات ذَلِك وَجعل كَمَال الْقلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه فِي مَعْرفَته سُبْحَانَهُ وإرادته ومحبته والإنابة

فصل فإذا اطمأنت من الشك إلى اليقين ومن الجهل إلى العلم ومن الغفلة

إِلَيْهِ والإقبال عَلَيْهِ والشوق إِلَيْهِ والأنس بِهِ فَإِذا عدم الْقلب ذَلِك كَانَ أَشد عذَابا واضطرابا من الْعين الَّتِي فقدت النُّور والباصر من اللِّسَان الَّذِي فقد قُوَّة الْكَلَام والذوق وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الطُّمَأْنِينَة بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَو نَالَ من الدُّنْيَا وأسبابها وَمن الْعُلُوم مَا نَالَ إِلَّا بَان يكون الله وَحده هُوَ محبوبه وإلهه ومعبوده وَغَايَة مَطْلُوبه وَإِن يكون هُوَ وَحده مستعانه على تَحْصِيل ذَلِك فحقيقة الْأَمر أَنه لَا طمأنينه لَهُ بِدُونِ التحقق بإياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين وأقوال الْمُفَسّرين فِي الطُّمَأْنِينَة ترجع إِلَى ذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا المطمئنة المصدقة وَقَالَ قَتَادَة هُوَ الْمُؤمن اطمأنت نَفسه إِلَى مَا وعد الله وَقَالَ الْحسن المصدقة بِمَا قَالَ الله تَعَالَى وَقَالَ مُجَاهِد هِيَ النَّفس الَّتِي أيقنت بِأَن الله رَبهَا الْمسلمَة لأمر فِيمَا هُوَ فَاعل بهَا وروى مَنْصُور عَنهُ قَالَ النَّفس الَّتِي أيقنت أَن الله رَبهَا وَضربت جاشا لأَمره وطاعته وَقَالَ ابْن أبي نجيح عَنهُ النَّفس المطمئنة المختة إِلَى الله وَقَالَ أَيْضا هِيَ الَّتِي أيقنت بلقاء الله فَكَلَام السّلف فِي المطمئنة يَدُور على هذَيْن الْأَصْلَيْنِ طمأنينة الْعلم وَالْإِيمَان وطمأنينة الْإِرَادَة وَالْعَمَل فصل فَإِذا اطمأنت من الشَّك إِلَى الْيَقِين وَمن الْجَهْل إِلَى الْعلم وَمن الْغَفْلَة إِلَى الذّكر وَمن الْخِيَانَة إِلَى التَّوْبَة وَمن الرثاء إِلَى الْإِخْلَاص وَمن الْكَذِب إِلَى الصدْق وَمن الْعَجز إِلَى الْكيس وَمن صولة الْعجب إِلَى ذلة الاخبات وَمن التيه إِلَى التَّوَاضُع وَمن الفتور إِلَى الْعَمَل فقد بإشرت روح الطُّمَأْنِينَة وأصل ذَلِك كُله ومنشؤه من الْيَقَظَة فَهِيَ أول مَفَاتِيح الْخَيْر فَإِن الغافل عَن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بِمَنْزِلَة النَّائِم بل أَسْوَأ حَالا مِنْهُ فَإِن الْعَاقِل يعلم وعد الله ووعيده وَمَا تتقاضاه أوَامِر الرب تَعَالَى ونواهيه وَأَحْكَامه من الْحُقُوق لَكِن يَحْجُبهُ عَن حَقِيقَة الْإِدْرَاك ويقعده عَن الِاسْتِدْرَاك سنة الْقلب وَهِي غفلته الَّتِي رقد فِيهَا فطال رقوده وركد وأخلد إِلَى نوازع الشَّهَوَات فإشتد إخلاده وركوده وانغمس فِي غمار الشَّهَوَات واستولت عَلَيْهِ الْعَادَات ومخالطة أهل البطالات وَرَضي بالتشبه بِأَهْل إِضَاعَة الْأَوْقَات فَهُوَ فِي رقاده مَعَ النائمين وَفِي سكرته مَعَ المخمورين فَمَتَى انْكَشَفَ عَن قلبه سنة هَذِه الْغَفْلَة بزجرة من زواجر الْحق فِي قلبه اسْتَجَابَ فِيهَا لواعظ الله فِي قلب عَبده الْمُؤمن أَو همة عَلَيْهِ أثارها معول الْفِكر فِي الْمحل الْقَابِل فَضرب بمعول فكره وَكبر تَكْبِيرَة أَضَاءَت لَهُ مِنْهَا قُصُور الْجنَّة فَقَالَ أَلا يَا نفس وَيحك ساعديني ... يسْعَى مِنْك فِي ظلم اللَّيَالِي لَعَلَّك فِي الْقِيَامَة أَن تفوزي ... بِطيب الْعَيْش فِي تِلْكَ العلالي

فأثارت تِلْكَ الفكرة نورا رأى فِي ضوئه مَا خلق لَهُ وَمَا سيلقاه بَين يَدَيْهِ من حِين الْمَوْت إِلَى دُخُول دَار الْقَرار وَرَأى سرعَة انْقِضَاء الدُّنْيَا وَعدم وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها وفعلها بهم أَنْوَاع المثلات فَنَهَضَ فِي ذَلِك الضَّوْء على سَاق عزمه قَائِلا {يَا حسرتى على مَا فرطت فِي جنب الله} فإستقبل بَقِيَّة عمره الَّتِي لَا قيمَة لَهَا مستدركا بهَا مَا فَاتَ محييا بهَا مَا أمات مُسْتَقْبلا بهَا مَا نقدم لَهُ من العثرات منتهزا فرْصَة إِلَّا مَكَان الَّتِي إِن فَأَتَت فأته جَمِيع الْخيرَات ثمَّ يلحظ فِي نور تِلْكَ الْيَقَظَة وفور نعْمَة ربه عَلَيْهِ من حِين اسْتَقر فِي الرَّحِم إِلَى وقته وَهُوَ يتقلب فِيهَا ظَاهرا وَبَاطنا لَيْلًا وَنَهَارًا ويقظة ومناما سرا وَعَلَانِيَة فَلَو اجْتهد فِي إحصاء أَنْوَاعهَا لما قدر وَيَكْفِي أَن أدناها نعْمَة النَّفس وَللَّه عَلَيْهِ فِي كل يَوْم أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف نعْمَة فَمَا ظَنك بغَيْرهَا ثمَّ يرى فِي ضوء ذَلِك النُّور أَنه آيس من حصرها وإحصائها عَاجز عَن أَدَاء حَقّهَا وَإِن الْمُنعم بهَا إِن طَالبه بحقوقها استوعب جَمِيع أَعماله حق نعْمَة وَاحِدَة مِنْهَا فيتيقن حِينَئِذٍ أَنه لَا مطمع لَهُ فِي النجَاة إِلَّا بِعَفْو الله وَرَحمته وفضله ثمَّ يرى فِي ضوء تِلْكَ الْيَقَظَة أَنه لَو عمل أَعمال الثقلَيْن من الْبر لاحتقرها بِالنِّسْبَةِ إِلَى جنب عَظمَة الرب تَعَالَى وَمَا يسْتَحقّهُ بحلال وَجهه وَعظم سُلْطَانه وَهَذَا لَو كَانَت أَعماله مِنْهُ فَكيف وَهِي مُجَرّد فضل الله ومنته وإحسانه حَيْثُ يسرها لَهُ وأعانه وهيأه لَهَا وشاءها مِنْهُ وَكَونهَا وَلَو لم يفعل ذَلِك لم يكن لَهُ سَبِيل إِلَيْهَا فَحِينَئِذٍ لَا يرى أَعماله مِنْهُ وَإِن الله سُبْحَانَهُ لن يقبل عملا يرَاهُ صَاحبه من نَفسه حَتَّى يرى عين توفيق الله لَهُ وفضله عَلَيْهِ ومنته وَأَنه من الله لَا من نَفسه وَأَنه لَيْسَ لَهُ من نَفسه إِلَّا الشَّرّ وأسبابه وَمَا بِهِ من نعْمَة فَمن الله وَحده صَدَقَة تصدق بهَا عَلَيْهِ وفضلا مِنْهُ سَاقه إِلَيْهِ من غير أَن يسْتَحقّهُ بِسَبَب ويستأهله بوسيلة فَيرى ربه ووليه ومعبوده أَهلا لكل خير وَيرى نَفسه أَهلا لكل شَرّ وَهَذَا أساس جَمِيع الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَالظَّاهِرَة والباطنة وَهُوَ الَّذِي يرفعها ويجعلها فِي ديوَان أَصْحَاب الْيَمين ثمَّ يَبْرق لَهُ فِي نور الْيَقَظَة بارقة أُخْرَى يرى فِي ضوئها عُيُوب نَفسه وآفات عمله وَمَا تقدم لَهُ من الْجِنَايَات والإساءات وهتك الحرمات والتقاعد عَن كثير من الْحُقُوق والواجبات فَإِذا انْضَمَّ ذَلِك إِلَى شُهُود نعم الله عَلَيْهِ وأياديه لَدَيْهِ رأى أَن حق الْمُنعم عَلَيْهِ فِي نعمه وأوامره لم يبْق لَهُ حَسَنَة وَاحِدَة يرفع بهَا رَأسه فيطمئن قلبه وانكسرت نَفسه وخشعت جوارحه وَسَار إِلَى الله ناكس الرَّأْس بَين مُشَاهدَة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب نَفسه وآفات عمله قَائِلا أَبُوء لَك بنعمتك على وأبوء لَك بذنبي فَأغْفِر لى فَإِنَّهُ لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَلَا يرى لنَفسِهِ حَسَنَة وَلَا يَرَاهَا أَهلا لخير فَيُوجب لَهُ أَمريْن عظيمين

فصل ثم يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه يقظته من سنة غفلته

أَحدهَا استكثار مَا من الله عَلَيْهِ وَالثَّانِي اسْتِقْلَال مَا مِنْهُ من الطَّاعَة كائنة مَا كَانَت ثمَّ تبرق لَهُ بارقة أُخْرَى يرى فِي ضوئها عزة وقته وخطره وشرفه وَأَنه رَأس مَال سعادته فيبخل بِهِ أَن يضيعه فَمَا يقربهُ إِلَى ربه فَإِن فِي إضاعته الخسران وَالْحَسْرَة والندامة وَفِي حفظه وعمارته الرِّبْح والسعادة فيشح بأنفاسه أَن يضيعها فِيمَا لَا يَنْفَعهُ يَوْم معاده فصل ثمَّ يلحظ فِي ضوء تِلْكَ البارقة مَا تَقْتَضِيه يقظته من سنة غفلته من التَّوْبَة والمحاسبة والمراقبة والغيرة لرَبه أَن يُؤثر عَلَيْهِ غَيره وعَلى حَظه من رِضَاهُ وقربه وكرامته بِبيعِهِ بِثمن بخس فِي دَار سريعة الزَّوَال وعَلى نَفسه أَن يملك رقها لمعشوق أَو فكر فِي مُنْتَهى حسنه وَرَأى آخِره بِعَين بصيره لأنف لَهَا من محبته فَهَذَا كُله من آثَار الْيَقَظَة وموجباتها وَهِي أول منَازِل النَّفس المطمئنة الَّتِي نَشأ مِنْهَا سفرها إِلَى الله وَالدَّار الْآخِرَة فصل وَأما النَّفس اللوامة وَهِي الَّتِي أقسم بهَا سُبْحَانَهُ فِي قَوْله {وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة} فَاخْتلف فِيهَا فَقَالَت طَائِفَة هِيَ الَّتِي لَا تثبت على حَال وَاحِدَة اخذوا اللَّفْظَة من التَّلَوُّم وَهُوَ التَّرَدُّد فَهِيَ كَثِيرَة التقلب والتلون وَهِي من أعظم آيَات الله فَإِنَّهَا مَخْلُوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة فضلا عَن الْيَوْم والشهر وَالْعَام والعمر ألوانا متلونة فَتذكر وتغفل وَتقبل وَتعرض وتلطف وَتكشف وتنيب وتجفو وتحب وَتبْغض وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وتطع وتنقى وتفجر إِلَى أَضْعَاف أَضْعَاف ذَلِك من حالاتها وتلونها فَهِيَ تتلون كل وَقت ألوانا كَثِيرَة فَهَذَا قَول وَقَالَت طَائِفَة اللَّفْظَة مَأْخُوذَة من اللوم ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَت فرقة هِيَ نفس الْمُؤمن وَهَذَا من صفاتها الْمُجَرَّدَة قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ أَن الْمُؤمن لَا ترَاهُ إِلَّا يلوم نَفسه دَائِما يَقُول مَا أردْت بِهَذَا لم فعلت هَذَا كَانَ غير هَذَا أولى أَو نَحْو هَذَا من الْكَلَام وَقَالَ غَيره هِيَ نفس الْمُؤمن توقعه فِي الذَّنب ثمَّ تلومه عَلَيْهِ فَهَذَا اللوم من الْإِيمَان بِخِلَاف الشقي فَإِنَّهُ لَا يلوم نَفسه على ذَنْب بل يلومها وتلومه على فَوَاته وَقَالَت طَائِفَة بل هَذَا اللوم للنوعين فَإِن كل أحد يلوم نَفسه برا كَانَ أَو فَاجِرًا فالسعيد يلومها على ارْتِكَاب مَعْصِيّة الله وَترك طَاعَته والشقي لَا يلومها إِلَّا على فَوَات حظها وهواها

فصل وأما النفس الأمارة فهي المذمومة فإنها التي تأمر بكل سوء وهذا من

وَقَالَت فرقة أُخْرَى هَذَا اللوم يَوْم الْقِيَامَة فَإِن كل أحد يلوم نَفسه إِن كَانَ مسيئا على إساءته وَإِن كَانَ محسنا على تَقْصِيره وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا حق وَلَا تنَافِي بَينهَا فَإِن النَّفس مَوْصُوفَة بِهَذَا كُله وبإعتباره سميت لوامة وَلَكِن اللوامة نَوْعَانِ لوامة ملومة وَهِي النَّفس الجاهلة الظالمة الَّتِي يلومها الله وَمَلَائِكَته ولوامة غير ملومة وَهِي الَّتِي لَا تزَال تلوم صَاحبهَا على تَقْصِيره فِي طَاعَة الله مَعَ بذله جهده فَهَذِهِ غير ملومة وأشرف النُّفُوس من لامت نَفسهَا فِي طَاعَة الله واحتملت ملام اللائمين فِي مرضاته فَلَا تأخذها فِيهِ لومة لائم فَهَذِهِ قد تخلصت من لوم الله وَأما من رضيت بأعمالها وَلم تلم نَفسهَا وَلم تحْتَمل فِي الله ملام اللوام فَهِيَ الَّتِي يلومها الله عز وَجل فصل وَأما النَّفس الأمارة فَهِيَ المذمومة فَإِنَّهَا الَّتِي تَأمر بِكُل سوء وَهَذَا من طبيعتها إِلَّا مَا وفقها الله وثبتها وأعانها فَمَا تخلص أحد من شَرّ نَفسه إِلَّا بِتَوْفِيق الله لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى حاكيا عَن امْرَأَة الْعَزِيز وَمَا أبرىء نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء إِلَّا مَا رحم رَبِّي إِن رَبِّي غَفُور رَحِيم وَقَالَ تَعَالَى وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَقَالَ تَعَالَى لأكرم خلقه عَلَيْهِ وأحبهم إِلَيْهِ {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا} وَكَانَ النَّبِي يعلمهُمْ خطْبَة الْحَاجة الْحَمد لله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلله فَلَا هادي لَهُ فالشر كامن فِي لنَفس وَهُوَ يُوجب سيئات الْأَعْمَال فَإِن خلى الله بَين العَبْد وَبَين نَفسه هلك بَين شَرها وَمَا تَقْتَضِيه من سيئات الْأَعْمَال وَإِن وَفقه وأعانه نجاه من ذَلِك كُله فنسأل الله الْعَظِيم أَن يعيذنا من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا وَقد امتحن الله سُبْحَانَهُ الْإِنْسَان بِهَاتَيْنِ النفسين الأمارة واللوامة كَمَا أكْرمه بالمطمئنة فَهِيَ نفس وَاحِدَة تكون أَمارَة ثمَّ لوامة مطمئنة وَهِي غَايَة كمالها وصلاحها وأيد المطمئنة بِجُنُود عديدة فَجعل الْملك قرينها وصاحبها الَّذِي يَليهَا ويسددها ويقذف فِيهَا الْحق ويرغبها فِيهِ ويريها حسن صورته ويزجرها عَن الْبَاطِل ويزهدها فِيهِ ويريها قبح صورته وأمدها بِمَا علمهَا من الْقُرْآن والأذكار وأعمال الْبر وَجعل وُفُود الْخيرَات ومداد التَّوْفِيق تنتابها وَتصل إِلَيْهَا من كل نَاحيَة وَكلما تلقتها بِالْقبُولِ وَالشُّكْر وَالْحَمْد لله ورؤية أوليته فِي ذَلِك كُله ازْدَادَ مددها فتقوى على محاربة الْإِمَارَة فَمن جندها وَهُوَ سُلْطَان عساكرها وملكها الْإِيمَان وَالْيَقِين

فالجيوش الإسلامية كلهَا تَحت لوائه ناظرة إِلَيْهِ إِن ثَبت ثبتَتْ وَإِن انهزم ولت على أدبارها ثمَّ أُمَرَاء هَذَا الْجَيْش ومقدمو عساكره شعب الْإِيمَان الْمُتَعَلّقَة بالجوارح على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَالْجهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر ونصيحة الْخلق وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم بأنواع الْإِحْسَان وشعبه الْبَاطِنَة الْمُتَعَلّقَة بِالْقَلْبِ كالإخلاص والتوكل والإنابة وَالتَّوْبَة والمراقبة وَالصَّبْر والحلم والتواضع والمسكنة وامتلاء الْقلب من محبَّة الله وَرَسُوله وتعظيم أوَامِر الله وحقوقه والغيرة لله وَفِي الله والشجاعة والعفة والصدق والشفقة وَالرَّحْمَة وملاك ذَلِك كُله الْإِخْلَاص والصدق فَلَا يتعب الصَّادِق المخلص فقد أقيم على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فيسار بِهِ وَهُوَ رَاقِد وَلَا يتعب من حرم الصدْق وَالْإِخْلَاص فقد قطعت عَلَيْهِ الطَّرِيق واستهوته الشَّيَاطِين فِي الأَرْض حيران فَإِن شَاءَ فليعمل وَإِن شَاءَ فليترك فَلَا يزِيدهُ عمله من الله إِلَّا بعدا وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا كَانَ لله وَبِاللَّهِ فَهُوَ من جند النَّفس المطمئنة وَأما النَّفس الأمارة فَجعل الشَّيْطَان قرينها وصاحبها الَّذِي يَليهَا فَهُوَ يعدها ويمنيها ويقذف فِيهَا الْبَاطِل ويأمرها بالسوء ويزينه لَهَا ويطيل فِي الأمل ويريها الْبَاطِل فِي صُورَة تقلبها وتستحسنها ويمدها بأنواع الْإِمْدَاد الْبَاطِل من الْأَمَانِي الكاذبة والشهوات الْمهْلكَة ويستعين عَلَيْهَا بهواها وإرادتها فَمِنْهُ يدْخل عَلَيْهَا كل مَكْرُوه فَمَا اسْتَعَانَ على النُّفُوس بِشَيْء هُوَ أبلغ من هَواهَا وإرادتها إِلَيْهِ وَقد علم ذَلِك إخوانه من شياطين الْإِنْس فَلَا يستعينون على الصُّور الممنوعة مِنْهُم بِشَيْء أبلغ من هواهم وإرادتهم فَإِذا أعيتهم صُورَة طلبُوا بجهدهم مَا تحبه وتهواه ثمَّ طلبُوا بجهدهم تَحْصِيله فاصطادوا تِلْكَ الصُّورَة فَإِذا فتحت لَهُم النَّفس بَاب الْهوى دخلُوا مِنْهُ فجلسوا خلال الديار فعاثوا وأفسدوا وفتكوا وَسبوا وفعلوا مَا يَفْعَله الْعَدو بِبِلَاد عدوه إِذا نحكم فِيهَا فهدموا معالم الْإِيمَان وَالْقُرْآن وَالذكر وَالصَّلَاة وخربوا الْمَسَاجِد وعمروا البيع وَالْكَنَائِس والحانات والمواخير وقصدوا إِلَى الْملك فأسروا وسلبوه ملكه ونقلوه من عبَادَة الرَّحْمَن إِلَى عبَادَة البغايا والأوثان وَمن عز الطَّاعَة إِلَى ذل الْمعْصِيَة وَمن السماع الرحماني إِلَى السماع الشيطاني وَمن الاستعداد للقاء رب الْعَالمين إِلَى الاستعداد للقاء إخْوَان الشَّيَاطِين فَبينا هُوَ يُرَاعى حُقُوق الله وَمَا أمره بِهِ إِذْ صَار يرْعَى الْخَنَازِير وَبينا هُوَ منتصب لخدمة الْعَزِيز الرَّحِيم إِذْ صَار منتصبا لخدمة كل شَيْطَان رجيم وَالْمَقْصُود أَن الْملك قرين النَّفس المطمئنة والشيطان قرين الأمارة وَقد روى أَبُو الْأَحْوَص عَن عَطاء بن السَّائِب عَن مرّة عَن عبد الله قَالَ قَالَ رَسُول الله

فصل فالنفس المطمئنة والملك وجنده من الإيمان يقتضيان من النفس

أَن للشَّيْطَان لمة بأبن آدم وللملك لمة فَأَما الشَّيْطَان فيعاد بِالشَّرِّ وَتَكْذيب بِالْحَقِّ وَأما لمة الْملك فايعاد بِالْخَيرِ وتصديق بِالْحَقِّ فَمن وجد ذَلِك فَليعلم انه من الله وليحمد الله وَمن وجد الآخر فليتعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ثمَّ قَرَأَ الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر ويأمركم الْفَحْشَاء وَقد رَوَاهُ عَمْرو عَن عَطاء بن السَّائِب وَزَاد فِيهِ عَمْرو قَالَ سمعنَا فِي هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ يُقَال إِذا أحس أحدكُم من لمة الْملك شَيْئا فليحمد الله وليسأله من فَضله وَإِذا أحس من لمة الشَّيْطَان شَيْئا فليستغفر الله وليتعوذ من الشَّيْطَان فصل فَالنَّفْس المطمئنة وَالْملك وجنده من الْإِيمَان يقتضيان من النَّفس المطمئنة التَّوْحِيد وَالْإِحْسَان وَالْبر وَالتَّقوى وَالصَّبْر والتوكل وَالتَّوْبَة والإنابة والإقبال على الله وَقصر الأمل والاستعداد للْمَوْت وَمَا بعده والشيطان وجنده من الْكفْر يقتضيان من النَّفس الأمارة ضد ذَلِك وَقد سلط الله سُبْحَانَهُ الشَّيْطَان على كل مَا لَيْسَ لَهُ وَلم يرد بِهِ وَجهه وَلَا هُوَ طَاعَة لَهُ وَجعل ذَلِك إقطاعه فَهُوَ يَسْتَنِيب النَّفس الأمارة على هَذَا الْعَمَل والإقطاع ويتقاضى أَن تَأْخُذ الْأَعْمَال من النَّفس المطمئنة فتجعلها قُوَّة لَهَا فَهِيَ أحرص شَيْء على تَخْلِيص الْأَعْمَال كلهَا وَأَن تصير من حظوظها فأصعب شَيْء على النَّفس المطمئنة تَخْلِيص الْأَعْمَال من الشَّيْطَان وَمن الأمارة لله فَلَو وصل مِنْهَا عمل وَاحِد كَمَا يَنْبَغِي لنجابه العَبْد وَلَكِن أَبَت الأمارة والشيطان ان يدعا لَهَا عملا وَاحِدًا يصل إِلَى الله كَمَا قَالَ بعض العارفين بِاللَّه وبنفسه وَالله لَو اعْلَم أَن لي عملا وَاحِدًا وصل إِلَى الله لَكُنْت أفرح بِالْمَوْتِ من الْغَائِب يقدم على أَهله وَقَالَ عبد الله بن عمر لَو أعلم أَن الله تقبل مني سَجْدَة وَاحِدَة لم يكن غَائِب أحب إِلَى من الْمَوْت {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} فصل وَقد انتصبت الأمارة فِي مُقَابلَة المطمئنة فَكلما جَاءَت بِهِ تِلْكَ من خير ضاهتها هَذِه وَجَاءَت من الشَّرّ بِمَا يُقَابله حَتَّى تفسده عَلَيْهَا فَإِذا جَاءَت بِالْإِيمَان والتوحيد جَاءَت هَذِه بِمَا يقْدَح فِي الْإِيمَان من الشَّك والنفاق وَمَا يقْدَح فِي التَّوْحِيد من الشّرك ومحبة غير الله وخوفه ورجائه وَلَا ترْضى حَتَّى تقدم محبَّة غَيره وخوفه ورجائه على محبته سُبْحَانَهُ وخوفه ورجائه فَيكون مَاله عِنْدهَا هُوَ الْمُؤخر وَمَا لِلْخلقِ هُوَ الْمُقدم وَهَذَا حَال أَكثر هَذَا الْخلق وَإِذا جَاءَت تِلْكَ بتجريد الْمُتَابَعَة للرسول جَاءَت هَذِه بتحكيم آراء الرِّجَال وأقوالهم على الْوَحْي وَأَتَتْ من الشّبَه المضلة بِمَا يمْنَعهَا من كَمَال الْمُتَابَعَة وتحكيم السّنة وَعدم الِالْتِفَات إِلَى آراء الرِّجَال

فصل وتربة صورة الإخلاص في صورة ينفر منها وهي الخروج عن حكم العقل

فتقوم الْحَرْب بَين هَاتين النفسين والمنصور من نَصره الله وَإِذا جَاءَت تِلْكَ بالإخلاص والصدق والتوكل والإنابة والمراقبة جَاءَت هَذِه بإضدادها وأخرجتها فِي عدَّة قوالب وتقسم بِاللَّه مَا مرادها إِلَّا الْإِحْسَان والتوفيق وَالله يعلم أَنَّهَا كَاذِبَة وَمَا مرادها إِلَّا مُجَرّد حظها وَاتِّبَاع هَواهَا والتفلت من سجن الْمُتَابَعَة والتحكيم الْمَحْض للسّنة إِلَى قَضَاء إرادتها وشهوتها وحظوظها ولعمرو الله مَا تخلصت إِلَّا من فضاء الْمُتَابَعَة وَالتَّسْلِيم إِلَى سجن الْهوى والإرادة وضيقة وظلمته ووحشته فَهِيَ مسجونة فِي هَذَا الْعَالم وَفِي البرزخ فِي أضيق مِنْهُ وَيَوْم الميعاد الثَّانِي فِي أضيق مِنْهُمَا وَمن أعجب أمرهَا أَنَّهَا تسحر الْعقل وَالْقلب فتأتي إِلَى أشرف الْأَشْيَاء وأفضلها وأجلها فتخرجه فِي صُورَة مذمومة وَأكْثر الْخلق صبيان الْعُقُول أَطْفَال الأحلام لم يصلوا إِلَى حد الْفِطَام الأول عَن العوائد والمألوفات فضلا عَن الْبلُوغ الَّذِي يُمَيّز بِهِ الْعَاقِل الْبَالِغ بَين خير الخيرين فَيُؤْثِرُهُ وَشر الشرين فيجتنبه فتريه صُورَة تَجْرِيد التَّوْحِيد الَّتِي هِيَ أبهى من صُورَة الشَّمْس وَالْقَمَر فِي صُورَة التنقيص المذموم وهضم العظماء مَنَازِلهمْ وحطهم مِنْهَا إِلَى مرتبَة الْعُبُودِيَّة الْمَحْضَة والمسكنة والذل والفقر الْمَحْض الَّذِي لَا ملكة لَهُم مَعَه وَلَا إِرَادَة وَلَا شَفَاعَة إِلَّا من بعد إِذن الله فتريهم النَّفس السحارة هَذَا الْقدر غَايَة تنقيصهم وهضمهم ونزول أقدارهم وَعدم تمييزهم عَن الْمَسَاكِين الْفُقَرَاء فتنفر نُفُوسهم من تَجْرِيد التَّوْحِيد أَشد النفار وَيَقُولُونَ {أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب} وتربهم تَجْرِيد الْمُتَابَعَة للرسول وَمَا جَاءَ بِهِ وتقديمه على آراء الرِّجَال فِي صُورَة تنقيص الْعلمَاء وَالرَّغْبَة عَن أَقْوَالهم وَمَا فهموه عَن الله وَرَسُوله وَإِن هَذَا إساءة أدب عَلَيْهِم وَتقدم بَين أَيْديهم وَهُوَ مفض إِلَى إساءة الظَّن بهم وانهم قد فاتهم الصَّوَاب وَكَيف لنا قُوَّة أَن نرد عَلَيْهِم ونفوز ونحظى بِالصَّوَابِ دونهم فتنفر من ذَلِك أَشد النفار وَتجْعَل كَلَامهم هُوَ الْمُحكم الْوَاجِب الِاتِّبَاع وَكَلَام الرَّسُول هُوَ الْمُتَشَابه الَّذِي يعرض على أَقْوَالهم فَمَا وافقها قبلناه وَمَا خالفها رددناه أَو أولناه أَو فوضناه وتقسم النَّفس السحارة بِاللَّه إِن أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا أُولَئِكَ الَّذين يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم فصل وتربة صُورَة الْإِخْلَاص فِي صُورَة ينفر مِنْهَا وَهِي الْخُرُوج عَن حكم الْعقل المعيشي والمداراة والمداهنة الَّتِي بهَا اندراج حَال صَاحبهَا ومشيه بَين النَّاس فَمَتَى أخْلص أَعماله وَلم يعْمل لأحد شَيْئا تجنبوهم وتجنبوه وأبغضهم وأبغضوه وعاداهم وعادوه وَسَار على جادة فينفر من ذَلِك أَشد النفار وغايته أَن يخلص فِي الْقدر الْيَسِير من أَعماله الَّتِي لَا تتَعَلَّق بهم وَسَائِر أَعماله لغير الله

فصل وتربة صورة للصدق مع الله وجهاد من خرج عن دينه وأمره في

فصل وتربة صُورَة للصدق مَعَ الله وَجِهَاد من خرج عَن دينه وَأمره فِي قالب الانتصاب لعداوة الْخلق وأذاهم وحربهم وَأَنه يعرض نَفسه من الْبلَاء لما لَا يُطيق وَأَنه يصير غَرضا لسهام الطاعنين وأمثال ذَلِك من الشّبَه الَّتِي تقيمها النَّفس السحارة والخيالات الَّتِي تخيلها وترية حَقِيقَة الْجِهَاد فِي صُورَة تقتل فِيهَا النَّفس وَتنْكح الْمَرْأَة وَيصير الْأَوْلَاد يتامى وَيقسم المَال وتربة حَقِيقَة الزَّكَاة وَالصَّدَََقَة فِي صُورَة مُفَارقَة المَال ونقصه وخلو الْيَد مِنْهُ واحتياجه إِلَى النَّاس ومساواته للْفَقِير وَعوده لمنزلته وتربه حَقِيقَة إِثْبَات صِفَات الْكَمَال لله فِي صُورَة التَّشْبِيه والتمثيل فينفر من التَّصْدِيق بهَا وينفر غَيره وتريه حَقِيقَة التعطيل والإلحاد فِيهَا فِي صُورَة التَّنْزِيه والتعظيم وأعجب من ذَلِك أَنَّهَا تضاهى مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله من الصِّفَات والأخلاق وَالْأَفْعَال بِمَا يغضه مِنْهَا وتلبس على العَبْد أحد الْأَمريْنِ بِالْآخرِ وَلَا يخلص من هَذَا إِلَّا أَرْبَاب البصائر فَإِن الْأَفْعَال تصدر عَن الإرادات وَتظهر على الْأَركان من النفسين الأمارة والمطمئنة فيتباين الفعلان فِي الْبطلَان ويشتبهان فِي الظَّاهِر وَلذَلِك أَمْثِلَة كَثِيرَة مِنْهَا المداراة والمداهنة فَالْأول من المطمئنة وَالثَّانِي من الأمارة وخشوع الْإِيمَان وخشوع النِّفَاق وَشرف النَّفس والتيه وَالْحمية والجفاء والتواضع والمهانة وَالْقُوَّة فِي أَمر الله والعلو فِي الأَرْض وَالْحمية لله وَالْغَضَب لَهُ وَالْحمية للنَّفس وَالْغَضَب لَهَا والجود والسرف والمهابة وَالْكبر والصيانة والنكير والشجاعة والجرأة والحزم والجبن والاقتصاد وَالشح والاحتراز وَسُوء الظَّن والفراسة وَالظَّن والنصيحة والغيبة والهدية والرشوة وَالصَّبْر وَالْقَسْوَة وَالْعَفو والذل وسلامة الْقلب والبله والغفلة والثقة والغرة والرجاء وَالتَّمَنِّي والتحدث بنعم الله وَالْفَخْر بهَا وَفَرح الْقلب وَفَرح النَّفس ورقة الْقلب والجزع والموجدة والحقد والمنافسة والحسد وَحب الرياسة وَحب الْإِمَامَة والدعوة إِلَى الله وَالْحب لله وَالْحب مَعَ الله والتوكل وَالْعجز وَالِاحْتِيَاط الوسوسة وإلهام الْملك وإلهام الشَّيْطَان والأناة والتسويف والاقتصاد وَالتَّقْصِير وَالِاجْتِهَاد والغلو والنصيحة والتأنيب والمبادرة والعجلة والإخبار بِالْحَال عِنْد الْحَاجة والشكوى فالشيء الْوَاحِد تكون صورته وَاحِدَة وَهُوَ منقسم إِلَى مَحْمُود ومذموم كالفرح والحزن والأسف وَالْغَضَب والغيرة وَالْخُيَلَاء والطمع والتجمل والخشوع والحسد وَالْغِبْطَة والجرأة

والتحسر والحرص والتنافس وَإِظْهَار النِّعْمَة وَالْحلف والمسكنة والصمت والزهد والورع والتخلي وَالْعُزْلَة والأنفة وَالْحمية والغيبة وَفِي الحَدِيث أَن من الْغيرَة مَا يُحِبهَا الله وَمِنْهَا مَا يكرههُ فالغيرة فالتي يُحِبهَا الله الْغيرَة فِي ربية والتى يكرهها الْغيرَة فِي غير ربية وَإِن من الْخُيَلَاء مَا يُحِبهُ الله وَمِنْهَا مَا يكرههُ فالتى يحب الْخُيَلَاء فِي الْحَرْب وَفِي الصَّحِيح أَيْضا لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رجل آتَاهُ الله مَالا وسلطة على هَلَكته فِي الْحق وَرجل آتَاهُ الله الْحِكْمَة فَهُوَ يقْضِي بهَا وَيعلمهَا وَفِي الصَّحِيح أَيْضا أَن الله رَفِيق يحب الرِّفْق وَيُعْطِي على الرِّفْق مَالا يعْطى على العنف وَفِيه أَيْضا من أعْطى حَظه من الرِّفْق فقد أعْطى حَظه من الْخَيْر فالرفق شَيْء والتواني والكسل شَيْء فَإِن التواني يتثاقل عَن مصْلحَته بعد إمكانها فيتقاعد عَنْهَا والرفيق يتلطف فِي تَحْصِيلهَا بِحَسب الْإِمْكَان مَعَ المطاوعة وَكَذَلِكَ المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذمّ وَالْفرق بَينهمَا أَن المدارى يتلطف بِصَاحِبِهِ حَتَّى يسْتَخْرج مِنْهُ الْحق أَو يردهُ عَن الْبَاطِل والمداهن يتلطف بِهِ ليقره على باطله ويتركه على هَوَاهُ فالمداراة لأهل الْإِيمَان والمداهنة لأهل النِّفَاق وَقد ضرب لذَلِك مثل مُطَابق وَهُوَ حَال رجل بِهِ قرحَة قد آلمته فَجَاءَهُ الطَّبِيب المداوي الرفيق فتعرف حَالهَا ثمَّ أَخذ فِي تليينها حَتَّى إِذا نَضِجَتْ أَخذ فِي بطها بِرِفْق وسهولة حَتَّى أخرج مَا فِيهَا ثمَّ وضع على مَكَانهَا من الدَّوَاء والمرهم مَا يمْنَع فَسَاده وَيقطع مادته ثمَّ تَابع عَلَيْهَا بالمراهم الَّتِي تنْبت اللَّحْم ثمَّ يذر عَلَيْهَا بعد نَبَات اللَّحْم مَا ينشف رطوبتها ثمَّ يشد عَلَيْهَا الرِّبَاط وَلم يزل يُتَابع ذَلِك حَتَّى صلحت والمداهن قَالَ لصَاحِبهَا لَا بَأْس عَلَيْك مِنْهَا وَهَذِه لَا شَيْء فاسترها عَن الْعُيُوب بِخرقَة ثمَّ اله عَنْهَا فَلَا تزَال مدَّتهَا تقوى وتستحكم حَتَّى عظم فَسَادهَا وَهَذَا الْمثل أَيْضا مُطَابق كل الْمُطَابقَة لحَال النَّفس الأمارة مَعَ المطمئنة فَتَأَمّله فَإِذا كَانَت هَذِه حَال قرحَة بِقدر الحمصة فَكيف بسقم هاج من نفس أَمارَة بالسوء هِيَ مَعْدن الشَّهَوَات ومأوى كل فسق وَقد قارنها شَيْطَان فِي غَايَة الْمَكْر وَالْخداع يعدها ويمنيها ويسحرها بِجَمِيعِ أَنْوَاع السحر حَتَّى يخيل إِلَيْهَا النافع ضارا والضار نَافِعًا وَالْحسن قبيحا والقبيح جميلا وَهَذَا لعَمْرو الله من أعظم أَنْوَاع السحر وَلِهَذَا يَقُول سُبْحَانَهُ فَأنى تسحرون وَالَّذِي نسبوا إِلَيْهِ الرُّسُل من كَونهم مسحورين هُوَ الَّذِي أَصَابَهُم بِعَيْنِه وهم أَهله لَا رسل الله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ كَمَا أَنهم نسبوهم إِلَى الضلال وَالْفساد فِي الأَرْض وَالْجُنُون والسفه وَمَا استعاذت الْأَنْبِيَاء وَالرسل وأمراء الْأُمَم بالاستعاذة من شَرّ النَّفس الأمارة وصاحبها وقرينها الشَّيْطَان إِلَّا لِأَنَّهُمَا أصل كل شَرّ وقاعدته ومنبعه وهما متساعدان عَلَيْهِ متعاونان رضيعي لبان ثدى أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لَا ننفرق

فصل والفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق أن خشوع الإيمان هو خشوع

قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم} وَقَالَ {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه إِنَّه سميع عليم} وَقَالَ {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون} وَقَالَ تَعَالَى {قل أعوذ بِرَبّ الفلق من شَرّ مَا خلق وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد} فَهَذَا استعاذة من شَرّ النَّفس وَقَالَ {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس ملك النَّاس إِلَه النَّاس من شَرّ الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس من الْجنَّة وَالنَّاس} فَهَذَا استعاذة من قرينها وصاحبها وَبئسَ القرين والصاحب فَأمر الله سُبْحَانَهُ نبيه وَأَتْبَاعه بالاستعاذة بربوبيته التَّامَّة الْكَامِلَة من هذَيْن الخلقين الْعَظِيم شَأْنهمَا فِي الشَّرّ وَالْفساد وَالْقلب بَين هذَيْن العدوين لَا يزَال شرهما يطرقه وينتابه وَأول مَا يدب فِيهِ السقم من النَّفس الأمارة من الشَّهْوَة وَمَا يتبعهَا من الْحبّ والحرص والطلب وَالْغَضَب ويتبعه من الْكبر والحسد وَالظُّلم والتسلط فَيعلم الطَّبِيب الغاش الخائن بمرضه فيعوده ويصف لَهُ أَنْوَاع السمُوم والمؤذيات ويخيل إِلَيْهِ بسحره أَن شفاءه فِيهَا ويتفق ضعف الْقلب بِالْمرضِ وَقُوَّة النَّفس الأمارة والشيطان وتتابع إمدادهما وَأَنه نقد حَاضر وَلَذَّة عاجلة والداعي إِلَيْهِ يَدْعُو من كل نَاحيَة والهوى ينفذ والشهوة تهون والتأسي بِالْأَكْثَرِ والتشبه بهم وَالرِّضَا بِأَن يُصِيبهُ مَا أَصَابَهُم فَكيف يستجيب مَعَ هَذِه القواطع وأضعافها لداعي الْإِيمَان ومنادي الْجنَّة إِلَّا من أمده الله بإمداد التَّوْفِيق وأيده برحمته وتولي حفظه وحمايته وَفتح بَصِيرَة قلبه فَرَأى سرعَة انْقِطَاع الدُّنْيَا وزوالها وَتَقَلُّبهَا بِأَهْلِهَا وفعلها بهم وَأَنَّهَا فِي الْحَيَاة الدائمة كغمس إِصْبَع فِي الْبَحْر بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فصل وَالْفرق بَين خشوع الْإِيمَان وخشوع النِّفَاق أَن خشوع الْإِيمَان هُوَ خشوع الْقلب لله بالتعظيم والإجلال وَالْوَقار والمهابة وَالْحيَاء فينكسر الْقلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل وَالْحب وَالْحيَاء وشهود نعم الله وجناياته هُوَ فيخشع الْقلب لَا محَالة فيتبعه خشوع الْجَوَارِح وَأما خشوع النِّفَاق فيبدو على الْجَوَارِح تصنعا وتكلفا وَالْقلب غير خاشع وَكَانَ بعض الصَّحَابَة يَقُول أعوذ بِاللَّه من خشوع النِّفَاق قيل لَهُ وَمَا خشوع النِّفَاق قَالَ أَن يرى الْجَسَد خَاشِعًا وَالْقلب غير خاشع فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شَهْوَته وَسكن دخانها عَن صَدره فإنجلى الصَّدْر وأشرق فِيهِ نور العظمة فَمَاتَتْ شهوات النَّفس للخوف وَالْوَقار الَّذِي حشي بِهِ وخمدت الْجَوَارِح وتوقر الْقلب وَاطْمَأَنَّ إِلَى الله وَذكره بِالسَّكِينَةِ الَّتِي نزلت عَلَيْهِ من ربه فَصَارَ مخبتا لَهُ والمخبت المطمئن فَإِن الخبت من الأَرْض مَا اطْمَأَن فإستنقع فِيهِ المَاء فَكَذَلِك الْقلب المخبت قد خشع وَاطْمَأَنَّ كالبقعة المطمئنة من الأَرْض الَّتِي يجْرِي إِلَيْهَا المَاء فيستقر فِيهَا وعلامته

فصل وأما شرف النفس فهو صيانتها عن الدنايا والرذائل والمطامع التي

أَن يسْجد بَين يَدي ربه إجلالا وذلا وانكسارا بَين يَدَيْهِ سَجْدَة لَا يرفع رَأسه عَنْهَا حَتَّى يلقاه وَأما الْقلب المتكبر فَإِنَّهُ قد اهتز بتكبره وَربا فَهُوَ كبقعة رابية من الأَرْض لَا يسْتَقرّ عَلَيْهَا المَاء فَهَذَا خشوع الْإِيمَان وَأما التماوت وخشوع النِّفَاق فَهُوَ حَال عِنْد تكلّف إسكان الْجَوَارِح تصنعا ومراءاة وَنَفسه فِي الْبَاطِن شَابة طرية ذَات شهوات وإرادات فَهُوَ يخشع فِي الظَّاهِر وحية الْوَادي وَأسد الغابة رابض بَين جَنْبَيْهِ ينْتَظر الفريسة فصل وَأما شرف النَّفس فَهُوَ صيانتها عَن الدنايا والرذائل والمطامع الَّتِي تقطع أَعْنَاق الرِّجَال فيربأ بِنَفسِهِ عَن أَن يلقيها فِي ذَلِك بِخِلَاف التيه فَإِنَّهُ خلق متولد بَين أَمريْن إعجابه بِنَفسِهِ وازدرائه بِغَيْرِهِ فيتولد من بَين هذَيْن التيه وَالْأول يتَوَلَّد من بَين خلقين كريمين إعزاز النَّفس وإكرامها وتعظيم مَالِكهَا وسيدها أَن يكون عَبده دنيا وضيعا خسيسا فيتولد من بَين هذَيْن الخلقين شرف النَّفس وصيانتها وأصل هَذَا كُله استعداد وتهيؤها وإمداد وَليهَا ومولاها لَهَا فَإِذا فقد الاستعداد والإمداد فقد الْخَيْر كُله فصل وَكَذَلِكَ الْفرق بَين الحمية والجفاء فالحمية فطام النَّفس عَن رضَاع اللوم من ثدي هُوَ مصب الْخَبَائِث والرذائل والدنايا وَلَو غزر لبنه وتهالك النَّاس عَلَيْهِ فَإِن لَهُم فطاما تَنْقَطِع مَعَه الأكباد حسرات فَلَا بُد من الْفِطَام فَإِن شِئْت عجل وَأَنت مَحْمُود مشكور وَإِن شِئْت أخر وَأَنت غير مأجور بِخِلَاف الْجفَاء فَإِنَّهُ غلظة فِي النَّفس وقساوة فِي الْقلب وكثافة فِي الطَّبْع يتَوَلَّد عَنْهَا خلق يُسمى الْجفَاء فصل وَالْفرق بَين التَّوَاضُع والمهانة أَن التَّوَاضُع يتَوَلَّد من بَين الْعلم بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَمَعْرِفَة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته ونعوت جَلَاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله وَمن مَعْرفَته بِنَفسِهِ وتفاصيلها وعيوب عَملهَا وآفاتها فيتولد من بَين ذَلِك كُله خلق هُوَ التَّوَاضُع وَهُوَ انكسار الْقلب لله وخفض جنَاح الذل وَالرَّحْمَة بعباده فَلَا يرى لَهُ على أحد فضلا وَلَا يرى لَهُ عِنْد أحد حَقًا بل يرى الْفضل للنَّاس عَلَيْهِ والحقوق لَهُم قبله وَهَذَا خلق إِنَّمَا يُعْطِيهِ الله عز وَجل من يُحِبهُ ويكرمه ويقربه

فصل وكذلك القوة في أمر الله هي من تعظيمه وتعظيم أوامره وحقوقه حتى

وَأما المهانة فَهِيَ الدناءة والخسة وبذل النَّفس وابتذالها فِي نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السّفل فِي نيل شهواتهم وتواضع الْمَفْعُول بِهِ للْفَاعِل وتواضع طَالب كل حَظّ لمن يَرْجُو نيل حَظه مِنْهُ فَهَذَا كُله ضعة لَا تواضع وَالله سُبْحَانَهُ يحب التَّوَاضُع وَيبغض الضعة والمهانة وَفِي الصَّحِيح عَنهُ وَأوحى إِلَى أَن تواضعوا حَتَّى لَا يفخر أحد على أحد وَلَا يَبْغِي أحد على أحد والتواضع الْمَحْمُود على نَوْعَيْنِ النَّوْع الأول تواضع العَبْد عِنْد أَمر الله امتثالا وَعند نَهْيه اجتنابا فَإِن النَّفس لطلب الرَّاحَة تتلكأ فِي أمره فيبدو مِنْهَا نوع إباء وشراد هربا من الْعُبُودِيَّة وَتثبت عِنْد نَهْيه طلبا للظفر بِمَا منع مِنْهُ فَإِذا وضع العَبْد نَفسه لأمر الله وَنَهْيه فقد تواضع للعبودية وَالنَّوْع الثَّانِي تواضعه لِعَظَمَة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه فَكلما شمخت نَفسه ذكر عَظمَة الرب تَعَالَى وتفرده بذلك وغضبه الشَّديد على من نازعه ذَلِك فتواضعت إِلَيْهِ نَفسه وانكسر لِعَظَمَة الله قلبه وَاطْمَأَنَّ لهيبته وأخبت لسلطانه فَهَذَا غَايَة التَّوَاضُع وَهُوَ يسْتَلْزم الأول من غير عكس والمتواضع حَقِيقَة من رزق الْأَمريْنِ وَالله الْمُسْتَعَان فصل وَكَذَلِكَ الْقُوَّة فِي أَمر الله هِيَ من تَعْظِيمه وتعظيم أوامره وحقوقه حَتَّى يقيمها الله والعلو فِي الأَرْض هُوَ من تَعْظِيم نَفسه وَطلب تفردها بالرياسة ونفاذ الْكَلِمَة سَوَاء عز أَمر الله أَو هان بل إِذا عَارضه أَمر الله وحقوقه ومرضاته فِي طلب علوه لم يلْتَفت إِلَى ذَلِك وأهدره وأماته فِي تَحْصِيل علوه وَكَذَلِكَ الحمية لله وَالْحمية للنَّفس فَالْأولى يثيرها تَعْظِيم الْأَمر والآمر وَالثَّانيَِة يثيرها تَعْظِيم النَّفس وَالْغَضَب لفَوَات حظوظها فالحمية لله أَن يحمى قلبه لَهُ من تَعْظِيم حُقُوقه وَهِي حَال عبد قد أشرق على قلبه نور سُلْطَان الله فَامْتَلَأَ قلبه بذلك النُّور فَإِذا غضب فَإِنَّمَا يغْضب من أجل نور ذَلِك السُّلْطَان الَّذِي ألْقى على قلبه وَكَانَ رَسُول الله إِذا غضب احْمَرَّتْ وجنتاه وبدا بَين عَيْنَيْهِ عرق يدره الْغَضَب وَلم يقم لغضبه شَيْء حَتَّى ينْتَقم لله وروى زيد بن أسلم عَن أَبِيه أَن مُوسَى بن عمرَان كَانَ إِذا غضب اشتعلت قلنسوته نَارا وَهَذَا بِخِلَاف الحمية للنَّفس فَإِنَّهَا حرارة تهيج من نَفسه لفَوَات حظها أَو طلبه فَإِن الْفِتْنَة فِي النَّفس والفتنة هِيَ الْحَرِيق وَالنَّفس متلظية بِنَار الشَّهْوَة وَالْغَضَب فَإِنَّمَا هما حرارتان تظهران على الْأَركان حرارة من قبل النَّفس المطمئنة أثارها تَعْظِيم حق الله وحرارة من قبل النَّفس الأمارة أثارها استشعار فَوت الْحَظ

فصل والفرق بين الجود والسرف أن الجواد حكيم يضع العطاء مواضعه

فصل وَالْفرق بَين الْجُود والسرف أَن الْجواد حَكِيم يضع الْعَطاء موَاضعه والمسرف مبذر وَقد يُصَادف عطاؤه مَوْضِعه وَكَثِيرًا لَا يصادفه وإيضاح ذَلِك أَن الله سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ جعل فِي المَال حقوقا وَهِي نَوْعَانِ حُقُوق موظفة وَحُقُوق ثَانِيَة فالحقوق الموظفة كَالزَّكَاةِ والنفقات الْوَاجِبَة على من تلْزمهُ نَفَقَته وَالثَّانيَِة كحق الضَّيْف ومكافأة المهدى وَمَا وقى بِهِ عرضه وَنَحْو ذَلِك فالجواد يتوخى بِمَالِه أَدَاء هَذِه الْحُقُوق على وَجه الْكَمَال طيبَة بذلك نَفسه راضية مؤملة للخلف فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب فِي العقبى فَهُوَ يخرج ذَلِك بسماحة قلب وسخاوة نفس وانشراح صدر بِخِلَاف المبذر فَإِنَّهُ يبسط يَده فِي مَاله بِحكم هَوَاهُ وشهوته جزَافا لَا على تَقْدِير وَلَا مُرَاعَاة مصلحَة وَإِن اتّفقت لَهُ فَالْأول بِمَنْزِلَة من بذر حَبَّة فِي الأَرْض تنْبت وتوخى ببذره مَوَاضِع الْمغل والإنبات فَهَذَا لَا يعد مبذرا وَلَا سَفِيها وَالثَّانِي بِمَنْزِلَة من بذر حَبَّة فِي سباخ وعزاز من الأَرْض وَإِن اتّفق بذره فِي مَحل النَّبَات بذر بذرا متراكما بعضه على بعض فَلذَلِك الْمَكَان الْبذر فِيهِ ضائع معطل وَهَذَا الْمَكَان بذر بذرا متراكما بعضه على بعض فَلذَلِك يحْتَاج أَن يقْلع بعض زرعه ليصلح الْبَاقِي وَلِئَلَّا تضعف الأَرْض عَن تَرْبِيَته وَالله سُبْحَانَهُ هُوَ الْجواد على الْإِطْلَاق بل كل جود فِي الْعَالم الْعلوِي والسفلي بِالنِّسْبَةِ إِلَى جوده أقل من قَطْرَة فِي بحار الدُّنْيَا وَهِي من جوده وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا ينزل بِقدر مَا يَشَاء وجوده لَا يُنَاقض حكمته وَيَضَع عطاءه موَاضعه وَإِن خَفِي على أَكثر النَّاس أَن تِلْكَ موَاضعه فَالله يعلم حَيْثُ يضع فَضله وَأي الْمحَال أولى بِهِ فصل وَالْفرق بَين المهابة وَالْكبر أَن المهابة أثر من آثَار امتلاء الْقلب يعظمه الله ومحبته وإجلاله فَإِذا امْتَلَأَ الْقلب بذلك حل فِيهِ النُّور وَنزلت عَلَيْهِ السكينَة وألبس رِدَاء الهيبة فأكتسى وَجهه الْحَلَاوَة والمهابة فَأخذ بِمَجَامِع الْقُلُوب محبَّة ومهابة فحنت إِلَيْهِ الأفئدة وقرت بِهِ الْعُيُون وأنست بِهِ الْقُلُوب فَكَلَامه نور ومدخله نور ومخرجه نور وَعَمله نور وَإِن سكت علاهُ الْوَقار وَإِن تكلم أَخذ بالقلوب والأسماع وَأما الْكبر فأثر من آثَار الْعجب وَالْبَغي من قلب قد امْتَلَأَ بِالْجَهْلِ وَالظُّلم ترحلت مِنْهُ الْعُبُودِيَّة وَنزل عَلَيْهِ المقت فنظره إِلَى النَّاس شزر ومشيه بَينهم تبختر ومعاملته لَهُم مُعَاملَة الاستئثار لَا الإيثار وَلَا الْإِنْصَاف ذَاهِب بِنَفسِهِ تيها لَا يبْدَأ من لقِيه بِالسَّلَامِ وَإِن رد عَلَيْهِ

فصل والفرق بين الصيانة والتكبر أن الصائن لنفسه بمنزلة رجل قد لبس

رأى أَنه قد بَالغ فِي الإنعام عَلَيْهِ لَا ينْطَلق لَهُم وَجهه وَلَا يسعهم خلقه وَلَا يرى لأحد عَلَيْهِ حَقًا وَيرى حُقُوقه على النَّاس وَلَا يرى فَضلهمْ عَلَيْهِ وَيرى فَضله لَا يزْدَاد من الله إِلَّا بعدا وَمن النَّاس إِلَّا صغَارًا أَو بغضا فصل وَالْفرق بَين الصيانة والتكبر أَن الصائن لنَفسِهِ بِمَنْزِلَة رجل قد لبس ثوبا جَدِيدا نفى الْبيَاض ذَا ثمن فَهُوَ يدْخل بِهِ على الْمُلُوك فَمن دونهم فَهُوَ يصونه عَن الْوَسخ وَالْغُبَار والطبوع وأنواع الْآثَار إبْقَاء على بياضه ونقائه فتراه صَاحب تعزز وهروب من الْمَوَاضِع الَّتِي يخْشَى مِنْهَا عَلَيْهِ التلوث فَلَا يسمح بأثر وَلَا طبع وَلَا لوث يَعْلُو ثَوْبه وَإِن أَصَابَهُ شَيْء من ذَلِك على غرَّة بَادر إِلَى قلعة وإزالته ومحو أَثَره وَهَكَذَا الصائن لِقَلْبِهِ وَدينه ترَاهُ يجْتَنب طبوع الذُّنُوب وآثارها فَإِن لَهَا فِي الْقلب طبوعا وآثارا أعظم من الطبوع الْفَاحِشَة فِي الثَّوْب النقي للبياض وَلَكِن على الْعُيُون غشاوة أَن تدْرك تِلْكَ الطبوع فتراه يهرب من مظان التلوث ويحترس من الْخلق ويتباعد من تخالطهم مَخَافَة أَن يحصل لِقَلْبِهِ مَا يحصل للثوب الَّذِي يخالط الدباغين والذباحين والطباخين وَنَحْوهم يخلاف صَاحب الْعُلُوّ فَإِنَّهُ وَإِن شابه هَذَا فِي تحرزه وتجنبه فَهُوَ يقْصد أَنِّي علو رقابهم ويجعلهم تَحت قدمه فَهَذَا لون وَذَاكَ لون فصل وَالْفرق بَين الشجَاعَة والجرأة أَن الشجَاعَة من الْقلب وَهِي ثباته واستقراره عِنْد المخاوف وَهُوَ خلق يتَوَلَّد من الصَّبْر وَحسن الظَّن فَإِنَّهُ مَتى ظن الظفر وساعده الصَّبْر ثَبت كَمَا أَن الْجُبْن يتَوَلَّد من سوء الظَّن وَعدم الصَّبْر فَلَا يظنّ الظفر وَلَا يساعده الصَّبْر وأصل الْجُبْن من سوء الظَّن ووسوسة النَّفس بالسوء وَهُوَ ينشأ من الرئة فَإِذا سَاءَ الظَّن ووسوست النَّفس بالسوء انتفخت الرئة فزاحمت الْقلب فِي مَكَانَهُ وضيقت عَلَيْهِ حَتَّى أزعجته عَن مستقره فَأَصَابَهُ الزلازل وَالِاضْطِرَاب لإزعاج الرئة لَهُ وتضييقها عَلَيْهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمد وَغَيره عَن النَّبِي شَرّ مَا فِي الْمَرْء جبن خَالع وشح هَالِع فَسمى الْجُبْن خالعا لِأَنَّهُ يخلع الْقلب عَن مَكَانَهُ لانتفاخ السحر وَهُوَ الرئة كَمَا قلا أَبُو جهل لعتبة بن ربيعَة يَوْم بدر انتفخ سحرك فَإِذا زَالَ الْقلب عَن مَكَانَهُ ضَاعَ تَدْبِير الْعقل فَظهر الْفساد على الْجَوَارِح فَوضعت الْأُمُور على غير موَاضعهَا فالشجاعة حرارة الْقلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته فَإِذا رَأَتْهُ الْأَعْضَاء كَذَلِك أعانته فَإِنَّهَا خدم لَهُ وجنود كَمَا أَنه إِذا ولى ولت سَائِر جُنُوده

فصل وأما الفرق بين الحزم والجبن فالحازم هو الذي قد جمع عليه همه

وَأما الجرأة فَهِيَ إقدام سَببه قلَّة المبالاة وَعدم النّظر فِي الْعَاقِبَة بل تقدم النَّفس فِي غير مَوضِع الْإِقْدَام معرضة عَن مُلَاحظَة الْعَارِض فإمَّا عَلَيْهَا وَإِمَّا لَهَا فصل وَأما الْفرق بَين الحزم والجبن فالحازم هُوَ الَّذِي قد جمع عَلَيْهِ همه وإرادته وعقله وَوزن الْأُمُور بَعْضهَا بِبَعْض فأعد لكل مِنْهَا قرنة وَلَفْظَة الحزم تدل على الْقُوَّة وَالْإِجْمَاع وَمِنْه حزمة الْحَطب فحازم الرَّأْي هُوَ الَّذِي اجْتمعت لَهُ شئون رَأْيه وَعرف مِنْهَا خير الخيرين وَشر الشرين فأحجم فِي مَوضِع الإحجام رَأيا وعقلا لَا جبنا وَلَا ضعفا الْعَاجِز الرَّأْي مضياع لفرصته ... حَتَّى إِذا فَاتَ أَمر عَاتب القدرا فصل وَأما الْفرق بَين الاقتصاد وَالشح أَن الاقتصاد خلق مَحْمُود يتَوَلَّد من خلقين عدل وَحِكْمَة فبالعدل يعتدل فِي الْمَنْع والبذل وبالحكمة يضع كل وَاحِد مِنْهُمَا مَوْضِعه الَّذِي يَلِيق بِهِ فيتولد من بَينهمَا الاقتصاد وَهُوَ وسط بَين طرفين مذمومين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك وَلَا تبسطها كل الْبسط فتقعد ملوما محسورا} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا وَلم يقترُوا وَكَانَ بَين ذَلِك قواما} وَقَالَ تَعَالَى كلوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا وَأما الشُّح فَهُوَ خلق ذميم يتَوَلَّد من سوء الظَّن وَضعف النَّفس ويمده وعد الشَّيْطَان حَتَّى يصير هلعا والهلع شدَّة الْحِرْص على الشَّيْء والشره بِهِ فتولد عَنهُ الْمَنْع لبذله والجزع لفقده كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا} فصل وَالْفرق بَين الِاحْتِرَاز وَسُوء الظَّن أَن المحترز بِمَنْزِلَة رجل قد خرج بِمَالِه ومركوبه مُسَافِرًا فَهُوَ يحْتَرز بِجهْدِهِ من كل قَاطع للطريق وكل مَكَان يتَوَقَّع مِنْهُ الشَّرّ وَكَذَلِكَ يكون مَعَ التأهب والاستعداد وَأخذ الْأَسْبَاب الَّتِي بهَا ينجو من الْمَكْرُوه فالمحترز كالمتسلح المتطوع الَّذِي قد تأهب للقاء عدوه وَأعد لَهُ عدته فهمه فِي تهيئة أَسبَاب النجَاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عَن سوء الظَّن بِهِ وَكلما سَاءَ بِهِ الظَّن أَخذ فِي أَنْوَاع الْعدة وَالتَّأَهُّب

فصل والفرق بين الفراسة والظن أن الظن يخطىء ويصيب وهو يكون مع ظلمة

وَأما سوء الظَّن فَهُوَ امتلاء قلبه بالظنون السَّيئَة بِالنَّاسِ حَتَّى يطفح على لِسَانه وجوارحه فهم مَعَه أبدا فِي الْهَمْز واللمز والطعن وَالْعَيْب والبغض ببغضهم ويبغضونه ويلعنهم ويلعنونه ويحذرهم ويحذرون مِنْهُ فَالْأول يخالطهم ويحترز مِنْهُم وَالثَّانِي يتجنبهم ويلحقه أذاهم الأول دَاخل فيهم بِالنَّصِيحَةِ وَالْإِحْسَان مَعَ الِاحْتِرَاز وَالثَّانِي خَارج مِنْهُم مَعَ الْغِشّ والدغل والبغض فصل وَالْفرق بَين الفراسة وَالظَّن أَن الظَّن يخطىء ويصيب وَهُوَ يكون مَعَ ظلمَة الْقلب ونوره وطهارته ونجاسته وَلِهَذَا أَمر تَعَالَى باجتناب كثير مِنْهُ وَأخْبر أَن بعضه إِثْم وَأما الفراسة فَأثْنى على أَهلهَا ومدحهم فِي قَوْله تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيره أَي للمتفرسين وَقَالَ تَعَالَى {يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف تعرفهم بِسِيمَاهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى وَلَو نشَاء لأريناهم فَلَعَرَفْتهمْ بِسِيمَاهُمْ ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل فالفراسة الصادقة لقلب قد تطهر وتصفى وتنزه من الأدناس وَقرب من الله فَهُوَ ينظر بِنور الله الَّذِي جعله فِي قلبه وَفِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره من حَدِيث أبي سعيد قَالَ قَالَ رَسُول الله اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله وَهَذِه الفراسة نشأت لَهُ من قربه من الله فَإِن الْقلب إِذا قرب من الله انْقَطَعت عَنهُ معارضات السوء الْمَانِعَة من معرفَة الْحق وإدراكه وَكَانَ تلقيه من مشكاة قريبَة من الله بِحَسب قربه مِنْهُ وأضاء لَهُ النُّور بِقدر قربه فَرَأى فِي ذَلِك النُّور مَا لم يره الْبعيد والمحجوب كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي فِيمَا يرْوى عَن ربه عز وَجل أَنه قَالَ مَا تقرب إِلَى عَبدِي بِمثل مَا افترضت عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَى بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ وبصره الَّذِي يبصر بِهِ وَيَده الَّتِي يبطش بهَا وَرجله الَّتِي يمشي بهَا فِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي يبطش وَبِي يمشي فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن تقرب عَبده مِنْهُ يفِيدهُ محبته لَهُ فَإِذا أحبه قرب من سَمعه وبصره وَيَده وَرجله فَسمع بِهِ وَأبْصر بِهِ وبطش بِهِ وَمَشى بِهِ فَصَارَ قلبه كالمرآة الصافية تبدو فِيهَا صور الْحَقَائِق على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلَا تكَاد تخطىء لَهُ فراسة فَإِن العَبْد إِذا أبْصر بِاللَّه أبْصر الْأَمر على مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِذا سمع بِاللَّه سَمعه على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا من علم الْغَيْب بل علام الغيوب قذف الْحق فِي قلب قريب مُسْتَبْشِرٍ بنوره غير مَشْغُول بنقوش الأباطيل والخيالات والوساوس الَّتِي تَمنعهُ من حُصُول صورا الْحَقَائِق فِيهِ وَإِذا غلب على الْقلب النُّور فاض على الْأَركان وبادر من الْقلب إِلَى الْعين فكشف بِعَين بَصَره بِحَسب ذَلِك النُّور وَقد كَانَ رَسُول الله يرى أَصْحَابه فِي الصَّلَاة وهم خَلفه كَمَا يراهم أَمَامه وَرَأى بَيت الْمُقَدّس عيَانًا وَهُوَ

بِمَكَّة وَرَأى قُصُور الشَّام وأبواب صنعاء وَمَدَائِن كسْرَى وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ يحْفر الخَنْدَق وَرَأى أمراءه بمؤتة وَقد أصيبوا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ وَرَأى النَّجَاشِيّ بِالْحَبَشَةِ لما مَاتَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَخرج إِلَى المصل فصلى عَلَيْهِ وَرَأى عمر سَارِيَة بنهاوند من أَرض فَارس هُوَ وعساكر الْمُسلمين وهم يُقَاتلُون عدوهم فناداه يَا سَارِيَة الْجَبَل وَدخل عَلَيْهِ نفر من مذْحج فيهم الأشتر النَّخعِيّ فَصَعدَ فِيهِ الْبَصَر وَصَوَّبَهُ وَقَالَ أَيهمْ هَذَا قَالُوا مَالك بن الْحَارِث فَقَالَ مَاله قَاتله الله إِنِّي لأرى للْمُسلمين مِنْهُ يَوْمًا عصيبا وَدخل عَمْرو بن عبيد على الْحسن فَقَالَ هَذَا سيد الفتيان إِن لم يحدث وَقيل أَن الشَّافِعِي وَمُحَمّد بن الْحسن جلسا فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فَدخل رجل فَقَالَ مُحَمَّد أتفرس أَنه نجار فَقَالَ الشَّافِعِي أتفرس أَنه حداد فَسَأَلَاهُ فَقَالَ كنت حدادا وَأَنا الْيَوْم أنجر وَدخل أَبُو الْحسن البوشنجي وَالْحسن الْحداد على أبي الْقَاسِم المناوى يعودانه فاشتريا فِي طريقهما بِنصْف دِرْهَم تفاحا نَسِيئَة فَلَمَّا دخلا عَلَيْهِ قَالَ مَا هَذِه الظلمَة فَخَرَجَا وَقَالا مَا علمنَا لَعَلَّ هَذَا من قبل مِمَّن التفاح فأعطيا الثّمن ثمَّ عادا إِلَيْهِ وَوَقع بَصَره عَلَيْهِمَا فَقَالَ يُمكن الْإِنْسَان أَن يخرج من الظلمَة بِهَذِهِ السرعة أخبراني عَن شأنكما فَأَخْبَرَاهُ بالقصة فَقَالَ نعم كَانَ كل وَاحِد مِنْكُمَا يعْتَمد على صَاحبه فِي إِعْطَاء الثّمن وَالرجل مستح مِنْكُمَا فِي التقاضي وَكَانَ بَين زَكَرِيَّا النخشي وَبَين امْرَأَة سَبَب قبل تَوْبَته فَكَانَ يَوْمًا وَاقِفًا على رَأس أبي عُثْمَان الخيري فتفكر فِي شَأْنهَا فَرفع أَبُو عُثْمَان إِلَيْهِ رَأسه وَقَالَ أَلا تَسْتَحي وَكَانَ شاه الْكرْمَانِي جيد الفراسة لَا نخطىء فراسته وَكَانَ يَقُول من غض بَصَره عَن الْمَحَارِم وَأمْسك نَفسه عَن الشَّهَوَات وَعمر بَاطِنه بدوام المراقبة وظاهرة بإتباع السّنة وتعود أكل الْحَلَال لم تخطىء فراسته وَكَانَ شَاب يصحب الْجُنَيْد يتَكَلَّم على الخواطر فَذكر للجنيد فَقَالَ إيش هَذَا الَّذِي ذكر لي عَنْك فَقَالَ لَهُ اعْتقد شَيْئا فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْد اعتقدت فَقَالَ الشَّاب اعتقدت كَذَا وَكَذَا فَقَالَ الْجُنَيْد لَا فَقَالَ فأعتقد ثَانِيًا قَالَ اعتقدت فَقَالَ الشَّاب اعتقدت كَذَا وَكَذَا فَقَالَ الْجُنَيْد لَا قَالَ فَاعْتقد ثَالِثا قَالَ اعتقدت قَالَ الشَّاب هُوَ كَذَا وَكَذَا قَالَ لَا فَقَالَ الشَّاب هَذَا عجب وَأَنت صَدُوق وَأَنا أعرف قلبِي فَقَالَ الْجُنَيْد صدقت فِي الأولى وَالثَّانيَِة وَالثَّالِثَة لَكِن أردْت أَن أمتحنك هَل يتَغَيَّر قَلْبك وَقَالَ أَبُو سعيد الخراز دخلت الْمَسْجِد الْحَرَام فَدخل فَقير عَلَيْهِ خرقتان يسْأَل شَيْئا فَقلت فِي نَفسِي مثل هَذَا كل على النَّاس فَنظر إِلَى وَقَالَ اعلموا أَن الله يعلم مَا فِي أَنفسكُم فَاحْذَرُوهُ قَالَ فأستغفرت فِي سري فناداني وَقَالَ {وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده} وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْخَواص كنت فِي الْجَامِع فَأقبل شَاب طيب الرَّائِحَة حسن الْوَجْه حسن

فصل والفرق بين النصيحة والغيبة أن النصيحة يكون القصد فيها تحذير

الْحُرْمَة فَقلت لِأَصْحَابِنَا يَقع لي أَنه يَهُودِيّ فكلهم كره ذَلِك فَخرجت وَخرج الشَّاب ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِم فَقَالَ إيش قَالَ الشَّيْخ فأحتشموه فألح عَلَيْهِم فَقَالُوا قَالَ إِنَّك يَهُودِيّ فجَاء فأكب على يَدي فَأسلم فَقلت مَا السَّبَب فَقَالَ نجد فِي كتَابنَا أَن الصّديق لَا تخطىء فراسته فَقلت امتحن الْمُسلمين فتأملتهم فَقلت إِن كَانَ فيهم صديق فَفِي هَذِه الطَّائِفَة فَلبِست عَلَيْكُم فَلَمَّا اطلع هَذَا الشَّيْخ على وتفرسني علمت أَنه صديق وَهَذَا عُثْمَان بن عَفَّان دخل عَلَيْهِ رجل من الصَّحَابَة وَقد رأى امْرَأَة فِي الطَّرِيق فَتَأمل محاسنها فَقَالَ لَهُ عُثْمَان يدْخل على أحدكُم واثر الزِّنَا ظَاهر على عَيْنَيْهِ فَقلت أوحى بعد رَسُول الله فَقَالَ لَا وَلَكِن تبصرة وبرهان وفراسة صَادِقَة فَهَذَا شَأْن الفراسة وَهِي نور يقذفه الله فِي الْقلب فيخطر لَهُ الشَّيْء فَيكون كَمَا خطر لَهُ وَينفذ إِلَى الْعين فَيرى مَالا يرَاهُ غَيرهَا فصل وَالْفرق بَين النَّصِيحَة والغيبة أَن النَّصِيحَة يكون الْقَصْد فِيهَا تحذير الْمُسلم من مُبْتَدع أَو فتان أَو غاش أَو مُفسد فَتذكر مَا فِيهِ إِذا استشارك فِي صحبته ومعاملته والتعلق بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِي لفاطمة بنت قيس وَقد استشارته فِي نِكَاح مُعَاوِيَة وَأبي جهم فَقَالَ أما مُعَاوِيَة فصعلوك وَأما أَبُو جهم فَلَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه وَقَالَ بعض أَصْحَابه لمن سَافر مَعَه إِذا هَبَطت عَن بِلَاد قومه فأحذروه فَإِذا وَقعت الْغَيْبَة على وَجه النَّصِيحَة لله وَرَسُوله وعباده الْمُسلمين فَهِيَ قربَة إِلَى الله من جملَة الْحَسَنَات وَإِذا وَقعت على وَجه ذمّ أَخِيك وتمزيق عرضه والتفكه بِلَحْمِهِ والغض مِنْهُ لتَضَع مَنْزِلَته من قُلُوب النَّاس فَهِيَ الدَّاء العضال ونار الْحَسَنَات الَّتِي تأكلها كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطب فصل وَالْفرق بَين الْهَدِيَّة والرشوة وَإِن اشتبها فِي الصُّورَة الْقَصْد فَإِن الراشي قَصده بالرشوة التَّوَصُّل إِلَى إبِْطَال حق أَو تَحْقِيق بَاطِل فَهَذَا الراشي الملعون على لِسَان رَسُول الله فَإِن رشا لدفع الظُّلم عَن نَفسه اخْتصَّ المرتشي وَحده باللعنة وَأما المهدى فقصده استجلاب الْمَوَدَّة والمعرفة وَالْإِحْسَان فَإِن قصد الْمُكَافَأَة فَهُوَ معاوض وَإِن قصد الرِّبْح فَهُوَ مستكثر

فصل والفرق بين الصبر والقسوة أن الصبر خلق كسبى يتخلق به العبد وهو

فصل وَالْفرق بَين الصَّبْر وَالْقَسْوَة أَن الصَّبْر خلق كسبى يتخلق بِهِ العَبْد وَهُوَ حبس النَّفس عَن الْجزع والهلع والتشكي فَيحْبس النَّفس عَن التسخط وَاللِّسَان عَن الشكوى والجوراح عَمَّا لَا يَنْبَغِي فعله وَهُوَ ثبات الْقلب على الْأَحْكَام الْقَدَرِيَّة والشرعية وَأما الْقَسْوَة فيبس فِي الْقلب يمنعهُ من الانفعال وغلظة تَمنعهُ من التَّأْثِير بالنوازل فَلَا يتأثر لغلظته وقساوته لَا لِصَبْرِهِ واحتماله وَتَحْقِيق هَذَا أَن الْقُلُوب ثَلَاثَة قلب قَاس غليظ بِمَنْزِلَة الْيَد الْيَابِسَة وقلب مَائِع رَقِيق جدا فَالْأول لَا ينفعل بِمَنْزِلَة للحجر وَالثَّانِي بِمَنْزِلَة المَاء وَكِلَاهُمَا نَاقص وَأَصَح الْقُلُوب الْقلب الرَّقِيق الصافي الصلب فَهُوَ يرى الْحق من الْبَاطِل بصفائه وبقلبه ويؤثره برقته ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته وَفِي الْأَثر الْقُلُوب آنِية الله فِي أرضه فأحبها إِلَيْهِ أرقها وأصلبها وأصفاها وَهَذَا الْقلب الزجاجي فَإِن الزجاجة جمعت الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة وابغض الْقُلُوب إِلَى الله الْقلب القاسي قَالَ تَعَالَى {فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله} وَقَالَ تَعَالَى {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة} وَقَالَ تَعَالَى {ليجعل مَا يلقِي الشَّيْطَان فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم مرض والقاسية قُلُوبهم} فَذكر القلبين المنحرفين عَن الِاعْتِدَال هَذَا بمرضه وَهَذَا بقسوته وَجعل إِلْقَاء الشَّيْطَان فتْنَة لأَصْحَاب هذَيْن القلبين وَرَحْمَة لأَصْحَاب الْقلب الثَّالِث وَهُوَ الْقلب الصافي الَّذِي ميز بَين إِلْقَاء الشَّيْطَان وإلقاء الْملك بصفائه وَقبل الْحق بإخباته ورقته وَحَارب النُّفُوس المبطلة بصلابته وقوته فَقَالَ تَعَالَى عقيب ذَلِك وليعلم الَّذين أُوتُوا الْعلم أَنه الْحق من رَبك فيؤمنوا بِهِ فتخبت لَهُ قُلُوبهم وَإِن الله لهادي الَّذين آمنُوا إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم فصل وَالْفرق بَين الْعَفو والذل أَن الْعَفو إِسْقَاط حَقك جودا وكرما وإحسانا مَعَ قدرتك على الانتقام فتؤثر التّرْك رَغْبَة فِي الْإِحْسَان وَمَكَارِم الْأَخْلَاق بِخِلَاف الذل فَإِن صَاحبه يتْرك

الانتقام عَجزا وخوفا ومهانة نفس فَهَذَا مَذْمُوم غير مَحْمُود وَلَعَلَّ المنتقم بِالْحَقِّ أحسن حَالا مِنْهُ قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} فمدحهم بقوتهم على الِانْتِصَار لنفوسهم وتقاضيهم مِنْهَا ذَلِك حَتَّى إِذا قدرُوا على من بغى عَلَيْهِم وتمكنوا من اسْتِيفَاء مَالهم عَلَيْهِ ندبهم إِلَى الْخلق الشريف من الْعَفو والصفح فَقَالَ {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله إِنَّه لَا يحب الظَّالِمين} فَذكر المقامات الثَّلَاثَة الْعدْل وأباحه وَالْفضل وَندب إِلَيْهِ وَالظُّلم وَحرمه فَإِن قيل فَكيف مدحهم على الِانْتِصَار وَالْعَفو وهما متنافيان قيل لم يمدحهم على الِاسْتِيفَاء والانتقام وَإِنَّمَا مدحهم على الِانْتِصَار وَهُوَ الْقُدْرَة وَالْقُوَّة على اسْتِيفَاء حَقهم فَلَمَّا قدرُوا ندبهم إِلَى الْعَفو قَالَ بعض السّلف فِي هَذِه الْآيَة كَانُوا يكْرهُونَ أَن يستذلوا فَإِذا قدرُوا عفوا فمدحهم على عَفْو بعد قدرَة لَا على عَفْو ذل وَعجز ومهانة وَهَذَا هُوَ الْكَمَال الَّذِي مدح سُبْحَانَهُ بِهِ نَفسه فِي قَوْله وَكَانَ الله عفوا قَدِيرًا {وَالله غَفُور رَحِيم} وَفِي أثر مَعْرُوف حَملَة الْعَرْش أَرْبَعَة إثنان يَقُولَانِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك لَك الْحَمد على حلمك بعد علمك وَاثْنَانِ يَقُولَانِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك لَك الْحَمد على عفوك بعد قدرتك وَلِهَذَا قَالَ الْمَسِيح صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي أَن غفرت لَهُم غفرت عَن عزة وَهِي كَمَال الْقُدْرَة وَحِكْمَة وَهِي كَمَال الْعلم فغفرت بعد أَن علمت مَا عمِلُوا وأحاطت بهم قدرتك إِذْ الْمَخْلُوق قد يغْفر بعجزه عَن الانتقام وجهله بِحَقِيقَة مَا صدر من الْمُسِيء وَالْعَفو من الْمَخْلُوق ظَاهره ضيم وذل وباطنه عز ومهانة وانتقام ظَاهره عز وباطنه ذل فَمَا زَاد الله بِعَفْو إِلَّا عزا لَا انتقم أحد لنَفسِهِ إِلَّا ذل وَلَو لم يكن إِلَّا بِفَوَات عز الْعَفو وَلِهَذَا مَا انتقم رَسُول الله لنَفسِهِ قطّ وَتَأمل قَوْله سُبْحَانَهُ وهم ينتصرون كَيفَ يفهم مِنْهُ أَن فيهم من الْقُوَّة مَا يكونُونَ هم بهَا المنتصرين لأَنْفُسِهِمْ لَا أَن غَيرهم هُوَ الَّذِي ينصرهم وَلما كَانَ الِانْتِصَار لَا تقف النُّفُوس فِيهِ على حد الْعدْل غَالِبا بل لَا بُد من الْمُجَاوزَة شرع فِيهِ سُبْحَانَهُ الْمُمَاثلَة والمساواة وَحرم الزِّيَادَة وَندب إِلَى الْعَفو وَالْمَقْصُود أَن الْعَفو من أَخْلَاق النَّفس المطمئنة والذل من أَخْلَاق الْإِمَارَة ونكتة الْمَسْأَلَة أَن الانتقام شَيْء والانتصار شَيْء فالانتصار أَن ينتصر لحق الله وَمن أَجله وَلَا يقوى على ذَلِك إِلَّا من تخلص من ذل حَظه ورق هَوَاهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ ينَال حظا من الْعِزّ الَّذِي قسم الله الْمُؤمنِينَ فَإِذا بغى عَلَيْهِ انتصر من الْبَاغِي من أجل عز الله الَّذِي أعزه بِهِ غيرَة على ذَلِك الْعِزّ

فصل والفرق بين سلامة القلب والبله والتغفل أن سلامة القلب تكون من

أَن يستضام ويقهر وحمية للْعَبد الْمَنْسُوب إِلَى الْعَزِيز الحميد أَن يستذل فَهُوَ يُقَال للباغي عَلَيْهِ أَنا مَمْلُوك من لَا يذل مَمْلُوكه وَلَا يحب أَن يذله أحد وَإِذا كَانَت نَفسه الأمارة قَائِمَة على أُصُولهَا لم تحب بعد طلبه إِلَّا الانتقام والانتصار لحظها وظفرها بالباغي تشفيا فِيهِ وإذلالا لَهُ وَأما النَّفس الَّتِي خرجت من ذل حظها ورق هَواهَا إِلَى عز توحيدها وإنابتها إِلَى رَبهَا فَإِذا نالها الْبَغي قَامَت بالانتصار حمية ونصرة للعز الَّذِي أعزها الله بِهِ ونالته مِنْهُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة حمية لِرَبِّهَا ومولاها وَقد ضرب لذَلِك مثلا بعبدين من عبيد الْغلَّة حراثين ضرب أَحدهمَا صَاحبه فنفا الْمَضْرُوب عَن الضَّارِب نصحا مِنْهُ لسَيِّده وشفقة على الضَّارِب أَنِّي عاقبه السَّيِّد فَلم يجشم سَيّده خلقه عُقُوبَته وإفساده بِالضَّرْبِ فَشكر الْعَافِي على عَفوه وَوَقع مِنْهُ بموقع وَعبد آخر قد أَقَامَهُ بَين يَدَيْهِ وجمله وَألبسهُ ثيابًا يقف بهَا بَين يَدَيْهِ فَعمد بعض سواس الدَّوَابّ وأضرابهم ولطخ تِلْكَ الثِّيَاب بالعذرة أَو مزقها فَلَو عَفا عَمَّن فعل بِهِ ذَلِك لم يُوَافق عَفوه رأى سَيّده وَلَا محبته وَكَانَ الِانْتِصَار أحب إِلَيْهِ وَوَافَقَ لمرضاته كَأَنَّهُ يَقُول إِنَّمَا فعل هَذَا بك جرْأَة عَليّ واستخفافا بسلطاني فَإِذا أمكنه من عُقُوبَته فأذله وقهره وَلم يبْق إِلَّا أَن يبطش بِهِ فذل وانكسر قلبه فَإِن سَيّده يحب مِنْهُ أَن لَا يُعَاقِبهُ لَحْظَة وَأَن يَأْخُذ مِنْهُ حق السَّيِّد فَيكون انتصاره حِينَئِذٍ لمحض حق سَيّده لَا لنَفسِهِ كَمَا روى عَن عَليّ رَضِي الله أَنه مر بِرَجُل فاستغاث بِهِ وَقَالَ هَذَا مَنَعَنِي حَقي وَلم يُعْطِنِي إِيَّاه فَقَالَ أعْطه حَقه فَلَمَّا جاوزهما لج الظَّالِم وَلَطم صَاحب الْحق فاستغاث بعلي فَرجع وَقَالَ أَتَاك الْغَوْث فَقَالَ لَهُ استقدمته فَقَالَ قد عَفَوْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَضَربهُ على تسع دور وَقَالَ قد عَفا عَنْك من لطمته وَهَذَا حق السُّلْطَان فعاقبه على لما اجترأ على سُلْطَان الله وَلم يَدعه وَيُشبه هَذَا قصَّة الرجل الَّذِي جَاءَ إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ احملني فوَاللَّه لَا أَنا أَفرس مِنْك وَمن ابْنك وَعِنْده الْمُغيرَة بن شُعْبَة فحسر عَن ذراعه وصك بهَا أنف الرجل فَسَالَ الدَّم فجَاء قومه إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالُوا أقدنا من الْمُغيرَة فَقَالَ أَنا أقيدكم من وزعة الله لَا أقيدكم مِنْهُ فَرَأى أَبُو بكر أَن ذَلِك انتصار من المغير وحمية الله وللعز الَّذِي أعز بِهِ خَليفَة رَسُول الله ليتَمَكَّن بذلك الْعِزّ من حسن خِلَافَته وَإِقَامَة دينه فَترك قوده لاجترائه على عز الله وسلطانه الَّذِي أعز بِهِ رَسُوله وَدينه وخليفته فَهَذَا لون وَالضَّرْب حمية للنَّفس الأمارة لون فصل وَالْفرق بَين سَلامَة الْقلب والبله والتغفل أَن سَلامَة الْقلب تكون من عدم إِرَادَة الْبشر

فصل والفرق بين الثقة والغرة أن الثقة سكون يستند إلى أدلة وإمارات

بعد مَعْرفَته فَيسلم قلبه من إِرَادَته وقصده لَا من مَعْرفَته وَالْعلم بِهِ وَهَذَا بِخِلَاف البله والغفلة فَإِنَّهَا جهل وَقلة معرفَة وَهَذَا لَا يحمد إِذْ هُوَ نقص وَإِنَّمَا يحمد النَّاس من هُوَ كَذَلِك لسلامتهم مِنْهُ والكمال أَن يكون الْقلب عَارِفًا بتفاصيل الشَّرّ سليما من إِرَادَته قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لست بخب وَلَا يخدعني الخب وَكَانَ عمر أَعقل من أَن يخدع وَأَوْرَع من أَن يخدع وَقَالَ تَعَالَى {يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم} فَهَذَا هُوَ السَّلِيم من الْآفَات الَّتِي تعتري الْقُلُوب الْمَرِيضَة من مرض الشُّبْهَة الَّتِي توجب اتِّبَاع الظَّن وَمرض الشَّهْوَة الَّتِي توجب اتِّبَاع مَا تهوى الْأَنْفس فالقلب السَّلِيم الَّذِي سلم من هَذَا وَهَذَا فصل وَالْفرق بَين الثِّقَة والغرة أَن الثِّقَة سُكُون يسْتَند إِلَى أَدِلَّة وإمارات يسكن الْقلب إِلَيْهَا فَكلما قويت تِلْكَ الإمارات قويت الثِّقَة واستحكمت وَلَا سِيمَا على كَثْرَة التجارب وَصدق الفراسة واللفظة كَأَنَّهَا وَالله اعْلَم من الوثاق وَهُوَ الرِّبَاط فالقلب قد ارْتبط بِمن وثق بِهِ يوكلا عَلَيْهِ وَحسن ظن بِهِ فَصَارَ فِي وثاق محبته ومعاملته والاستناد إِلَيْهِ والاعتماد عَلَيْهِ فَهُوَ فِي وثَاقه بِقَلْبِه وروحه وبدنه فَإِذا صَار الْقلب إِلَى الله وَانْقطع إِلَيْهِ تقيد بحبه وَصَارَ فِي وثاق الْعُبُودِيَّة فَلم يبْق لَهُ مفزع فِي النوائب وَلَا ملْجأ غَيره وَيصير عدته وشدته وذخيرته فِي نوائبه وملجأه فِي نوازله ومستعانه فِي حَوَائِجه وضروراته وَأما الْغرَّة فَهِيَ حَال المغتر الَّذِي غرته نَفسه وشيطانه وهواه وأمله الخائب الْكَاذِب بربه حَتَّى اتبع نَفسه هَواهَا وَتمنى على الله الْأَمَانِي والغرور ثقتك بِمن لَا يوثق بِهِ وسكونك إِلَى من لَا يسكن إِلَيْهِ ورجاؤك النَّفْع من الْمحل الَّذِي لَا يَأْتِي بِخَبَر كَحال المغتر بِالسَّرَابِ قَالَ تَعَالَى وَالَّذِي كفرُوا أَعْمَالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عَهده فوفاه حسابه وَالله سريع الْحساب وَقَالَ تَعَالَى فِي وصف المغترين {قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} وَهَؤُلَاء إِذا انْكَشَفَ الغطاء وَثبتت حقائق الْأُمُور علمُوا انهم لم يَكُونُوا على شَيْء وبدا لَهُم من الله مَا لم يَكُونَا يحتسبون وَفِي اثر مَعْرُوف إِذا رَأَيْت الله سُبْحَانَهُ يزيدك من نعْمَة وَأَنت مُقيم عل مَعْصِيَته فأحذره فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاج يستدرجك بِهِ وَشَاهد هَذَا فِي الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أبوب كل شَيْء حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَة فهم مبلسون وَهَذَا من أعظم الْغرَّة أَن ترَاهُ يُتَابع عَلَيْك نعمه وَأَنت مُقيم على مَا يكره فالشيطان وكل الْغرُور وطبع النَّفس الأمارة الاغترار فَإِذا اجْتمع الرَّأْي وَالْبَغي والرأي

فصل والفرق بين الرجاء والتمني أن الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ

الْمُحْتَاج والشيطان الْغرُور وَالنَّفس المغترة لم يَقع هُنَاكَ خلاف فالشياطين غروا المغترين بِاللَّه وأطمعوهم مَعَ إقامتهم على مَا يسْخط الله ويغضبه فِي عَفوه وتجاوزه وحدوثهم بِالتَّوْبَةِ لتسكن قُلُوبهم ثمَّ دافعوهم بالتسويف حَتَّى هجم الْأَجَل فَأخذُوا على أَسْوَأ أَحْوَالهم وَقَالَ تَعَالَى {وغرتكم الْأَمَانِي حَتَّى جَاءَ أَمر الله وغركم بِاللَّه الْغرُور} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} واعظم النَّاس غرُورًا بربه من إِذا مَسّه الله برحمة مِنْهُ وَفضل قَالَ هَذَا لي أَي أَنا أَهله وجدير بِهِ ومستحق لَهُ ثمَّ قَالَ {وَمَا أَظن السَّاعَة قَائِمَة} فَظن أَنه أهل لما أولاه من النعم مَعَ كفره بِاللَّه ثمَّ زَاد فِي غروره فَقَالَ {وَلَئِن رجعت إِلَى رَبِّي إِن لي عِنْده للحسنى} يَعْنِي الْجنَّة والكرامة وَهَكَذَا تكون الْغرَّة بِاللَّه فالمغتر بالشيطان مغتر بوعوده وأمانيه وَقد ساعد اغتراره بدنياه وَنَفسه فَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يتردى فِي آبار الْهَلَاك فصل وَالْفرق بَين الرَّجَاء وَالتَّمَنِّي أَن الرَّجَاء يكون مَعَ بذل الْجهد واستفراغ الطَّاقَة فِي الْإِتْيَان بِأَسْبَاب الظفر والفوز وَالتَّمَنِّي حَدِيث النَّفس بِحُصُول ذَلِك مَعَ تَعْطِيل الْأَسْبَاب الموصلة إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله} فطوى سُبْحَانَهُ بِسَاط الرَّجَاء إِلَّا عَن هَؤُلَاءِ وَقَالَ المغترون إِن الَّذين ضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه وَاتبعُوا مَا أسخطه وتجنبوا مَا يرضيه أُولَئِكَ يرجون رَحمته وَلَيْسَ هَذَا ببدع من غرور النَّفس والشيطان لَهُم فالرجاء لعبد قد امْتَلَأَ قلبه من الْإِيمَان بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَمثل بَين عَيْنَيْهِ مَا وعده الله تَعَالَى من كرامته وجنته امْتَدَّ الْقلب مائلا إِلَى ذَلِك شوقا إِلَيْهِ وحرصا عَلَيْهِ فَهُوَ شَبيه بالماد عُنُقه إِلَى مَطْلُوب قد صَار نصب عَيْنَيْهِ وعلامة الرَّجَاء الصَّحِيح أَن الراجي يخَاف فَوت الْجنَّة وَذَهَاب حَظه مِنْهَا بترك مَا يخَاف أَن يحول بَينه وَبَين دُخُولهَا فَمثله مثل رجل خطب امْرَأَة كَرِيمَة فِي منصب شرف إِلَى أَهلهَا فَلَمَّا آن وَقت العقد واجتماع الْأَشْرَاف والأكابر وإتيان الرجل إِلَى الْحُضُور علم عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم ليتأهب الْحُضُور فتراه الْمَرْأَة وأكابر النَّاس فاخذ فِي التأهب والتزيين والتجميل فَأخذ من فضول شعره وتنظيف وتطيب وَلبس أجمل ثِيَابه وأتى إِلَى تِلْكَ الدَّار متقيا فِي طَرِيقه كل وسخ ودنس واثر يُصِيبهُ اشد تقوى حَتَّى الْغُبَار وَالدُّخَان وَمَا هُوَ دون ذَلِك فَلَمَّا وصل إِلَى الْبَاب رحب بِهِ رَبهَا وَمكن لَهُ فِي صدر الدَّار على الْفرش والوسائد ورمقته الْعُيُون وَقصد بالكرامة من كل نَاحيَة فَلَو أَنه ذهب بعد أَخذ

هَذِه الزِّينَة فَجَلَسَ فِي الْمَزَابِل وتمرغ عَلَيْهَا وتمعك بهَا وتلطخ فِي بدنه وثيابه بِمَا عَلَيْهَا من عذرة وقذر وَدخل ذَلِك فِي شعره وبشره وثيابه فجَاء على ذَلِك الْحَال إِلَى تِلْكَ الدَّار وَقصد دُخُولهَا للوعد الَّذِي سبق لَهُ لقام إِلَيْهِ البواب بِالضَّرْبِ والطرد والصياح عَلَيْهِ والإبعاد لَهُ من بَابهَا وطريقها فَرجع متحيزا خاسئا فَالْأول حَال الراجي وَهَذَا حَال المتمني وَإِن شِئْت مثلت حَال الرجلَيْن بِملك هُوَ من أغير النَّاس وأعظمهم أَمَانَة وَأَحْسَنهمْ مُعَاملَة لَا يضيع لَدَيْهِ حق أحد وَهُوَ يُعَامل النَّاس من وَرَاء ستر لَا يرَاهُ أحد وبضائعه وأمواله وتجارته وعبيده وإماؤه ظَاهر بارز فِي دَاره للعاملين فَدخل عَلَيْهِ رجلَانِ فَكَانَ أَحدهَا يعامله بِالصّدقِ وَالْأَمَانَة والنصيحة لم يجرب عَلَيْهِ غشا وَلَا خِيَانَة وَلَا مكرا فَبَاعَهُ بضائعه كلهَا وَاعْتمد مَعَ مماليكه وجواريه مَا يجب أَن يعْتَمد مَعَهم فَكَانَ إِذا دخل إِلَيْهِ ببضاعة تخير لَهُ احسن البضائع وأحبها إِلَيْهِ وَإِن صنعها بِيَدِهِ بذل جهده فِي تحسينها وتنميقها وَجعل مَا خَفِي مِنْهَا أحسن مِمَّا ظهر ويستلم الْمُؤْنَة مِمَّن أمره أَن يستلمها مِنْهُ وامتثل مَا أمره بِهِ السفير بَينه وَبَينه فِي مِقْدَار مَا يعمله صفته وهيئته وشكله ورقته وَسَائِر شئونه وَكَانَ الآخر إِذا دخل دخل بأخس بضَاعَة يجدهَا لم يخلصها من الْغِشّ وَلَا نصح فِيهَا وَلَا اعْتمد فِي أمرهَا مَا قَالَه المترجم عَن الْملك والسفير بَينه وَبَين الصناع والنجار بل كَانَ يعملها على مَا يهواه وَمَعَ ذَلِك فَكَانَ يخون الْملك دَاره إِذْ هُوَ غَائِب عَن عينه فَلَا يلوح لَهُ طمع إِلَّا خانة وَلَا حُرْمَة للْملك إِلَّا مد بَصَره إِلَيْهَا وحرص على إفسادها وَلَا شَيْء يسْخط الْملك إِلَّا ارْتَكَبهُ إِذا قدر عَلَيْهِ فمضيا على ذَلِك مُدَّة ثمَّ قيل إِن الْملك يبرز لمعامليه حَتَّى يحاسبهم ويعطيهم حُقُوقهم فَوقف الرّجلَانِ بَين يَدَيْهِ فعامل كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا يسْتَحقّهُ فَتَأمل هذَيْن المثلين فَإِن الْوَاقِع مُطَابق لَهما فالراجي على الْحَقِيقَة لما صَارَت الْجنَّة نصب عينه ورجاءه وأمله امْتَدَّ إِلَيْهَا قلبه وسعى لَهَا سعيها فَإِن الرَّجَاء هُوَ امتداد الْقلب وميله وحقق رَجَاءَهُ كَمَال التأهب وَخَوف الْفَوْت وَالْأَخْذ بالحذر وَأَصله من التنحي وَرَجا الْبِئْر ناحيته وإرجاء السَّمَاء نَوَاحِيهَا وامتداد الْقلب إِلَى المحبوب مُنْقَطِعًا عَمَّا يقطعهُ عَنهُ هُوَ تَنَح عَن النَّفس الأمارة وأسبابها وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَهَذَا الامتداد والميل وَالْخَوْف من شَأْن النَّفس المطمئنة فَإِن الْقلب إِذا انفتحت بصيرته فَرَأى الْآخِرَة وَمَا أعد الله فِيهَا لأهل طَاعَته وَأهل مَعْصِيَته خَافَ وخف مرتحلا إِلَى الله وَالدَّار الْآخِرَة وَكَانَ قبل ذَلِك مطمئنا إِلَى النَّفس وَالنَّفس إِلَى الشَّهَوَات وَالدُّنْيَا فَلَمَّا انْكَشَفَ عَنهُ غطاء النَّفس خف وارتحل عَن جوارها طَالبا جوَار الْعَزِيز الرَّحِيم فِي جنَّات النَّعيم وَمن هُنَا صَار كل خَائِف راجيا وكل راج خَائفًا فَأطلق اسْم أَحدهمَا على الآخر فَإِن الراجي قلبه قريب الصّفة من قلب الْخَائِف هَذَا الراجي قد نجى قلبه عَن مجاورة النَّفس والشيطان مرتحلا إِلَى الله قد رفع لَهُ من الْجنَّة علم فشمر إِلَيْهِ وَله مَادًّا إِلَيْهِ قلبه كُله وَهَذَا الْخَائِف فار مِنْهُ

فصل والفرق بين التحدث بنعم الله والفخر بها أن المتحدث بالنعمة مخبر

جوارهما ملتجئ إِلَى الله من حَبسه فِي سجنهما فِي الدُّنْيَا فَيحْبس مَعهَا بعد الْمَوْت وَيَوْم الْقِيَامَة فَإِن الْمَرْء مَعَ قرينه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَلَمَّا سمع الْوَعيد ارتحل من مجاورة جَار السوء فِي الدَّاريْنِ فَأعْطى اسْم الْخَائِف وَلما سمع الْوَعْد امْتَدَّ واستطار شوقا وفرحا بالظفر بِهِ فَأعْطى اسْم الراجي وحالاه متلازمان لَا يَنْفَكّ عَنْهُمَا فَكل راج خَائِف من فَوَات مَا يرجوه كَمَا أَن كل خَائِف راج أَمنه مِمَّا يخَاف فَلذَلِك تداول الاسمان عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {مَا لكم لَا ترجون لله وقارا} قَالُوا فِي تَفْسِيرهَا لَا تخافون لله عَظمَة وَقد تقدم أَن سُبْحَانَهُ طوى الرَّجَاء إِلَّا عَن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا وَقد فسر النَّبِي الْإِيمَان بِأَنَّهُ ذُو شعب وأعمال ظَاهِرَة وباطنة وَفسّر الْهِجْرَة بِأَنَّهَا هجر مَا نهى الله عَنهُ وَالْجهَاد بِأَنَّهُ جِهَاد النَّفس فِي ذَات الله فَقَالَ الْمُهَاجِرين من هجر مَا نهى الله عَنهُ والمجاهد من جَاهد نَفسه فِي ذَات الله وَالْمَقْصُود بِأَن الله سُبْحَانَهُ جعل أهل الرَّجَاء من آمن وَهَاجَر وجاهد وَأخرج من سواهُم من هَذِه الْأُمَم وَأما الْأَمَانِي فَإِنَّهَا رُءُوس أَمْوَال المفاليس أخرجوها فِي قالب الرَّجَاء وَتلك أمانيهم وَهِي تصدر من قلب تزاحمت عَلَيْهِ وساوس النَّفس فاظلم من دخانها فَهُوَ يسْتَعْمل قلبه فِي شهواتها وَكلما فعل ذَلِك منته حسن الْعَاقِبَة والنجاة وإحالته على الْعَفو وَالْمَغْفِرَة وَالْفضل وَأَن الْكَرِيم لَا يَسْتَوْفِي حَقه وَلَا تضره الذُّنُوب وَلَا تنقصه الْمَغْفِرَة ويسمي ذَلِك رَجَاء وَإِنَّمَا هُوَ وسواس وأماني بَاطِلَة تقذف بهَا النَّفس إِلَى الْقلب الْجَاهِل فيستريح إِلَيْهَا قَالَ تَعَالَى {لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب من يعْمل سوءا يجز بِهِ وَلَا يجد لَهُ من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا} فَإِذا ترك العَبْد ولَايَة الْحق ونصرته ترك الله ولَايَته ونصرته وَلم يجد لَهُ من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا وَإِذا ترك ولَايَته ونصرته تولته نَفسه والشيطان فصارا وليين لَهُ ووكل نَفسه فَصَارَ انتصاره لَهَا بَدَلا من نصْرَة الله وَرَسُوله فاستبدل بِولَايَة الله ولَايَة نَفسه وشيطانه وبنصرته نصْرَة نَفسه هَوَاهُ فَلم يدع للرجاء موضعا فَإِذا قَالَت لَك النَّفس أَنا فِي مقَام الرَّجَاء فطالبها بالبرهان وَقل هَذِه أُمْنِية فهاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين فالكيس يعْمل أَعمال الْبر على الطمع والرجاء والأحمق الْعَاجِز يعطل أَعمال الْبر ويتكل على الْأَمَانِي الَّتِي يسميها رَجَاء وَالله الْمُوفق فصل وَالْفرق بَين التحدث بنعم الله وَالْفَخْر بهَا أَن المتحدث بِالنعْمَةِ مخبر عَن صِفَات وَلها ومحض جوده وإحسانه فَهُوَ مثن عَلَيْهِ بإظهارها والتحدث بهَا شاكرا لَهُ ناشرا لجَمِيع مَا أولاه مَقْصُود بذلك إِظْهَار صِفَات الله ومدحه وَالثنَاء وَبعث النَّفس على الطّلب مِنْهُ دون غَيره وعَلى محبته ورجائه فَيكون رَاغِبًا إِلَى الله بِإِظْهَار نعمه ونشرها والتحدث بهَا

فصل والفرق بين فرح القلب وفرح النفس ظاهر فإن الفرح بالله ومعرفته

وَأما الْفَخر بِالنعَم فَهُوَ أَن يستطيل بهَا على النَّاس وَيُرِيهمْ أَنه أعز مِنْهُم وأكبر فيركب أَعْنَاقهم ويستعبد قُلُوبهم ويستميلها إِلَيْهِ بالتعظيم والخدمة قَالَ النُّعْمَان بن بشير إِن للشَّيْطَان مصالي وفخوخا وَإِن من مصاليه وفخوخه الْبَطْش بنعم الله وَالْكبر على عباد الله وَالْفَخْر بعطية الله فِي غير ذَات الله فصل وَالْفرق بَين فَرح الْقلب وَفَرح النَّفس ظَاهر فَإِن الْفَرح بِاللَّه ومعرفته ومحبته وَكَلَامه من الْقلب قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يفرحون بِمَا أنزل إِلَيْك} فَإِذا كَانَ أهل الْكتاب يفرحون بِالْوَحْي فأولياء الله وَأَتْبَاع رَسُوله أَحَق بالفرح بِهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون} وَقَالَ تَعَالَى قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ فضل الله الْقُرْآن وَرَحمته أَن جعلكُمْ من أَهله وَقَالَ هِلَال بن يسَاف فضل الله وَرَحمته الْإِسْلَام الَّذِي هدَاكُمْ إِلَيْهِ وَالْقُرْآن الَّذِي علمكُم هُوَ خير من الذَّهَب وَالْفِضَّة الَّذِي تجمعون وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَقَتَادَة وَجُمْهُور الْمُفَسّرين فضل الله الْإِسْلَام وَرَحمته الْقُرْآن فَهَذَا فَرح الْقلب وَهُوَ من الْإِيمَان ويثاب عَلَيْهِ العَبْد فَإِن فرحه بِهِ يدل على رِضَاهُ بِهِ بل هُوَ فَوق الرِّضَا فالفرح بذلك على قدر محبته فَإِن الْفَرح إِنَّمَا يكون بالظفر بالمحبوب وعَلى قدر محبته يفرح بحصوله لَهُ فالفرح بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وَرَسُوله وسنته وَكَلَامه مَحْض الْإِيمَان وصفوته ولبه وَله عبودية عَجِيبَة وَأثر الْقلب لَا يعبر عَنهُ فابتهاج الْقلب وسروره وفرحه بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وَكَلَامه وَرَسُوله ولقائه أفضل مَا يعطاه بل هُوَ جلّ عطاياه والفرح فِي الْآخِرَة بِاللَّه ولقائه بِحَسب الْفَرح بِهِ ومحبته فِي الدُّنْيَا فالفرح بالوصول إِلَى المحبوب يكون على حسب قُوَّة الْمحبَّة وضعفها فَهَذَا شَأْن فَرح الْقلب وَله فَرح آخر وَهُوَ فرحه بِمَا من الله بِهِ عَلَيْهِ علمه من مُعَامَلَته وَالْإِخْلَاص لَهُ والتوكل عَلَيْهِ والثقة بِهِ وخوفه ورجائه بِهِ وَكلما تمكن فِي ذَلِك قوى فرحه وابتهاجه وَله فرحة أُخْرَى عَظِيمَة الوقع عَجِيبَة الشَّأْن وَهِي الفرحة الَّتِي تحصل لَهُ بِالتَّوْبَةِ فَإِن لَهَا فرحة عَجِيبَة لَا نِسْبَة لفرحة الْمعْصِيَة إِلَيْهَا الْبَتَّةَ فَلَو علم الْمعاصِي إِن لَذَّة التَّوْبَة وفرحتها يزِيد على لَذَّة الْمعْصِيَة وفرحتها أضعافا مضاعفة لبادر إِلَيْهَا أعظم من مبادرته إِلَى لَذَّة الْمعْصِيَة

فصل وها هنا فرحة أعظم من هذا كله وهي فرحته عند مفارقته الدنيا

وسر هَذَا الْفَرح إِنَّمَا يُعلمهُ من علم سر فَرح الرب تَعَالَى بتوبة عَبده أَشد فَرح يقدر وَلَقَد ضرب لَهُ رَسُول مثلا لَيْسَ فِي أَنْوَاع الْفَرح فِي الدُّنْيَا أعظم مِنْهُ وَهُوَ فَرح رجل قد خرج براحته الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه فِي سفر ففقدها فِي أَرض دوية مهلكة فاجتهد فِي طلبَهَا فَلم يجدهَا فيئس مِنْهُ فَجَلَسَ ينْتَظر الْمَوْت حَتَّى إِذا طلع الْبَدْر رَأْي فِي ضوئه رَاحِلَته وَقد تعلق زمامها بشجر فَقَالَ من شدَّة فرحه اللَّهُمَّ أَنْت عَبدِي وَأَنا رَبك أَخطَأ من شدَّة الْفَرح فَالله أفرح بتوبة عَبده من هَذَا براحلته فَلَا يُنكر أَن يحصل للتائب نصيب وافر من الْفَرح بِالتَّوْبَةِ وَلَكِن هَاهُنَا أَمر يجب التَّنْبِيه عَلَيْهِ وَهُوَ أَن لَا يصل إِلَى ذَلِك إِلَّا بعد ترحات ومضض ومحن لَا تثبت لَهَا الْجبَال فَإِن صَبر لَهَا ظفر بلذة الْفَرح وَإِن ضعف عَن حملهَا وَلم يصبر لَهَا لم يظفر بِشَيْء وَآخر أمره فَوَات مَا آثره من فرحة الْمعْصِيَة ولذتها فيفوته الْأَمْرَانِ وَيحصل على ضد اللَّذَّة من الْأَلَم الْمركب من وجود المؤذي وفوت المحبوب فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير فصل وَهَا هُنَا فرحة أعظم من هَذَا كُله وَهِي فرحته عِنْد مُفَارقَته الدُّنْيَا إِلَى الله إِذا أرسل إِلَيْهِ الْمَلَائِكَة فبشروه بلقائه وَقَالَ لَهُ ملك الْمَوْت أَخْرِجِي أيتها الرّوح الطّيبَة كَانَت فِي الْجَسَد الطّيب ابشري بِروح وَرَيْحَان وَرب غير غَضْبَان اخْرُجِي راضية مرضيا عَنْك يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي فَلَو لم يكن بَين يَدي التائب إِلَّا هَذِه الفرحة وَحدهَا لَكَانَ الْعقل يَأْمر بآيثارها فَكيف وَمن بعْدهَا أَنْوَاع من الْفَرح مِنْهَا الْمَلَائِكَة الَّذين بَين السَّمَاء وَالْأَرْض على روحه وَمِنْه فتح أبوب السَّمَاء لَهَا وَصَلَاة مَلَائِكَة السَّمَاء عَلَيْهَا وتشييع مقربيها لَهَا إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فتفتح وَيُصلي عَلَيْهَا أَهلهَا وشيعها مقربوها هَكَذَا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَكيف يقدر فرحها استؤذن لَهَا على رَبهَا ووليها وحبيبها فوقفت بَين يَدَيْهِ وَأذن لَهَا بِالسُّجُود فسجدت ثمَّ سمعته سُبْحَانَهُ يَقُول اكتبوا كِتَابه فِي غلبين ثمَّ يذهب بِهِ فَيرى الْجنَّة ومقعده فِيهَا وَمَا أعد الله لَهُ ويلقي أَصْحَابه وَأَهله فيستبشرون بِهِ ويفرحون بِهِ ويفرح بهم فَرح الْغَائِب يقدم على أَهله فيجدهم على أحسن حَال وَيقدم عَلَيْهِم بِخَير مَا قدم بِهِ مُسَافر هَذَا كُله قبل الْفرج الْأَكْبَر يَوْم حشر الأجساد بجلوسه فِي ظلّ الْعَرْش وشربه من الْحَوْض وَأَخذه كِتَابه بِيَمِينِهِ وَثقل مِيزَانه وَبَيَاض وَجهه وإعطائه النُّور التَّام وَالنَّاس فِي الظلمَة وقطعه جسر جَهَنَّم بِلَا تعويق وانتهائه إِلَى بَاب الْجنَّة وَقد أزلفت لَهُ فِي لموقف وتلقي خزنتها لَهُ بالترحيب وَالسَّلَام والبشارة وقدومه على مَنَازِله وقصوره وأزواجه وسراريه

فصل والفرق بين رقة القلب والجزع أن الجزع ضعف في النفس وخوف في

وَبعد ذَلِك فَرح آخر لَا يقدر قدره وَلَا يعبر عَنهُ تتلاشى هَذِه الأفراح كلهَا عِنْده وَإِنَّمَا يكون هَذَا لأهل السّنة المصدقين بِرُؤْيَة وَجه رَبهم تبَارك وَتَعَالَى من فَوْقهم وَسَلَامه عَلَيْهِم وتكليمه إيَّاهُم ومحاضرته لَهُم وَلَيْسَت هَذِه الفرحات إِلَّا ... لذى الترحات فِي دَار الرزايا فشمر مَا اسْتَطَعْت السَّاق واجهد ... لَعَلَّك أَن تفوز بِذِي العطايا وصم عَن لَذَّة حشيت بلَاء ... الذَّات خلصن من البلايا ودع أُمْنِية إِن لم تنلها ... تعذب أَو تنَلْ كَانَت منايا وَلَا تستبط وَعدا من رَسُول ... أَتَى بِالْحَقِّ من رب البرايا فَهَذَا الْوَعْد أدنى من نعيم ... مضى بالْأَمْس لَو وفقت رايا فصل وَالْفرق بَين رقة الْقلب والجزع أَن الْجزع ضعف فِي النَّفس وَخَوف فِي الْقلب يمده شدَّة الطمع والحرص ويتولد من ضعف الْإِيمَان بِالْقدرِ وَإِلَّا فَمَتَى علم أَن الْمُقدر كَائِن وَلَا بُد كَانَ الْجزع عناء مَحْضا ومصيبة ثَانِيَة قَالَ تَعَالَى مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها إِن ذَلِك على الله يسير لكيلا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم فَمَتَى آمن العَبْد بِالْقدرِ وَعلم أَن الْمُصِيبَة مقدرَة فِي الْحَاضِر وَالْغَائِب لم يجزع وَلم يفرح وَلَا يُنَافِي هَذَا رقة الْقلب فَإِنَّهَا ناشئة من صفة الرَّحْمَة الَّتِي هِيَ كَمَال وَالله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يرحم من عباده الرُّحَمَاء وَقد كَانَ رَسُول الله أرق النَّاس قلبا وأبعدهم من الْجزع فرقة الْقلب رأفة وَرَحْمَة وجزعه مرض وَضعف فالجزع حَال قلب مَرِيض بالدنيا قد غشيه دُخان النَّفس الأمارة فَأخذ بأنفاسه وضيق عَلَيْهِ مسالك الْآخِرَة وَصَارَ فِي سجن الْهوى وَالنَّفس وَهُوَ سجن ضيق الأرجاء مظلم المسلك فانحصار الْقلب وضيقه يجزع من أدنى مَا يُصِيبهُ وَلَا يحْتَملهُ فَإِذا أشرق فِيهِ نور الْإِيمَان وَالْيَقِين بالوعد وامتلأ من محبَّة الله وإجلاله رق وَصَارَت فِيهِ الرأفة وَالرَّحْمَة فتراه رحِيما رَفِيق الْقلب بِكُل ذِي قربى وَمُسلم يرحم النملة فِي حجرها وَالطير فِي وَكره فضلا عَن بني جنسه فَهَذَا أقرب الْقُلُوب من الله قَالَ أنس كَانَ رَسُول الله أرْحم النَّاس بالعيال وَالله سُبْحَانَهُ إِذا أَرَادَ أَن يرحم عبدا أسكن فِي قلبه الرأفة وَالرَّحْمَة وَإِذا أَرَادَ أَن يعذبه نزع من قلبه الرَّحْمَة والرأفة وأبدله بهما الغلظة وَالْقَسْوَة وَفِي الحَدِيث الثَّابِت لَا تنْزع الرَّحْمَة إِلَّا من شقي وَفِيه من لَا يرحم لَا يرحم وَفِيه ارحموا من فِي الأَرْض

فصل والفرق بين الموجدة والحقد أن الوجد الإحساس بالمؤلم والعلم به

يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء وَفِيه أهل الْجنَّة ثَلَاثَة ذُو سُلْطَان مقسط متصدق وَرجل رَحِيم رَقِيق الْقلب بِكُل ذِي قربى وَمُسلم عفيف متعفف ذُو عِيَال وَالصديق رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا فضل الْأمة بِمَا كَانَ فِي قلبه من الرَّحْمَة الْعَامَّة زِيَادَة على الصديقية وَلِهَذَا أظهر أَثَرهَا فِي جَمِيع مقدماته حَتَّى فِي الْأُسَارَى يَوْم بدر وَاسْتقر الْأَمر على مَا أَشَارَ بِهِ وَضرب لَهُ مثلا بِعِيسَى وَإِبْرَاهِيم والرب تَعَالَى هُوَ الرءوف الرَّحِيم وَأقرب الْخلق إِلَيْهِ وأعظمهم رأفة وَرَحْمَة كَمَا أَن أبعدهم مِنْهُ من اتّصف بضد صِفَاته وَهَذَا بَاب لَا يلجه إِلَّا الْأَفْرَاد فِي الْعَالم فصل وَالْفرق بَين الموجدة والحقد أَن الوجد الإحساس بالمؤلم وَالْعلم بِهِ وتحرك النَّفس فِي رَفعه فَهُوَ كَمَال وَأما الحقد فَهُوَ إِضْمَار الشَّرّ وتوقعه كل وَقت فِيمَن وجدت عَلَيْهِ فَلَا يزايل الْقلب أَثَره وَفرق آخر وَهُوَ أَن الموجدة لما ينالك مِنْهُ والحقد لما يَنَالهُ مِنْك فالموجدة وجد مَا نالك من أَذَاهُ والحقد توقع وجود مَا يَنَالهُ من الْمُقَابلَة فالموجدة سريعة الزَّوَال والحقد بطيء الزَّوَال والحقد يَجِيء مَعَ ضيق الْقلب واستيلاء ظلمَة النَّفس ودخانها عَلَيْهِ بِخِلَاف الموجدة فَإِنَّهَا تكون مَعَ قوته وصلابته وَقُوَّة نوره وإحساسه فصل وَالْفرق بَين المنافسة والحسد أَن المنافسة الْمُبَادرَة إِلَى الْكَمَال الَّذِي تشاهد من غَيْرك فتنافسه فِيهِ حَتَّى تلْحقهُ أَو تجاوزه فَهِيَ من شرف النَّفس وعلو الهمة وَكبر الْقدر قَالَ تَعَالَى وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ وَأَصلهَا من الشَّيْء النفيس الَّذِي تتَعَلَّق بِهِ النُّفُوس طلبا ورغبة فينافس فِيهِ كل من النفسين الْأُخْرَى وَرُبمَا فرحت إِذا شاركتها فِيهِ كَمَا كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله يتنافسون فِي الْخَيْر ويفرح بَعضهم بِبَعْض باشتراكهم فِيهِ بل يحض بَعضهم بَعْضًا عَلَيْهِ مَعَ تنافسهم فِيهِ وَهِي نوع من الْمُسَابقَة وَقد قَالَ تَعَالَى فاستبقوا الْخيرَات وَقَالَ تَعَالَى سابقوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا كعرض السَّمَاء وَكَانَ عمر بن الْخطاب يسابق أَبَا بكر رَضِي الله عَنْهُمَا فَلم يظفر بسبقه أبدا فَلَمَّا علم أَنه قد استولى على الْإِمَامَة قَالَ وَالله لَا أسابقك إِلَى شَيْء أبدا وَقَالَ وَالله مَا سبقته إِلَى خير إِلَّا وجدته قد سبقني إِلَيْهِ والمتنافسان كعبدين بَين يَدي سيدهما يتباريان ويتنافسان فِي مرضاته ويتسابقان إِلَى محابه فسيدهما يُعجبهُ ذَلِك مِنْهُمَا ويحثهما عَلَيْهِ وكل مِنْهُمَا يحب الآخر ويحرضه على مرضاة سَيّده

فصل والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله هو الفرق بين

والحسد خلق نفس ذميمة وضيعه سَاقِطَة لَيْسَ فِيهَا حرص على الْخَيْر فلعجزها ومهانتها تحسد من يكْسب الْخَيْر والمحامد ويفوز بهَا دونهَا وتتمنى أَن لوفاته كسبها حَتَّى يساويها فِي الْعَدَم كَمَا قَالَ تَعَالَى ودوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا فتكونون سَوَاء وَقَالَ تَعَالَى ود كثير من أهل الْكتاب لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا حسدا من عِنْد أنفسهم من بعد مَا تبين لَهُم الْحق فالحسود عَدو النِّعْمَة متمن زَوَالهَا عَن الْمَحْسُود كَمَا زَالَت عَنهُ هُوَ والمنافس مسابق النِّعْمَة متمن تَمامهَا عَلَيْهِ وعَلى من ينافسه فَهُوَ ينافس غَيره أَن يَعْلُو عَلَيْهِ وَيُحب لحاقه بِهِ أَو مجاوزته لَهُ فِي الْفضل والحسود يحب انحطاط غَيره حَتَّى يُسَاوِيه فِي النُّقْصَان وَأكْثر النُّفُوس الفاضلة الْخيرَة تنْتَفع بالمنافسة فَمن جعل نصب عَيْنَيْهِ شخصا من أهل الْفضل والسبق فنافسه انْتفع بِهِ كثيرا فَإِنَّهُ يتشبه بِهِ وَيطْلب اللحاق بِهِ والتقدم عَلَيْهِ وَهَذَا لَا نذمه وَقد يُطلق اسْم الْحَسَد على المنافسة المحمودة كَمَا فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رجل آتَاهُ الله الْقُرْآن فَهُوَ يقوم بِهِ أناء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَرجل آتَاهُ الله مَالا فَسَلَّطَهُ على هَلَكته فِي الْحق فَهَذَا حسد مُنَافَسَة وغبطة يدل على علو همة صَاحبه وَكبر نَفسه وطلبها للتشبه بِأَهْل الْفضل فصل وَالْفرق بَين حب الرياسة وَحب الْإِمَارَة للدعوة إِلَى الله هُوَ الْفرق بَين تَعْظِيم أَمر الله والنصح لَهُ وتعظيم النَّفس وَالسَّعْي فِي حظها فَإِن الناصح لله الْمُعظم لَهُ الْمُحب لَهُ يحب أَن يطاع ربه فَلَا يعْصى وَأَن تكون كَلمته هِيَ الْعليا وَأَن يكون الدّين كُله لله وَأَن يكون الْعباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه فقد نَاصح الله فِي عبوديته وناصح خلقه فِي الدعْوَة إِلَى الله فَهُوَ يحب الْإِمَامَة فِي الدّين بل يسْأَل ربه أَن يَجعله لِلْمُتقين أما مَا يَقْتَدِي بِهِ المتقون كَمَا اقْتدى هُوَ بالمتقين فَإِذا أحب هَذَا العَبْد الدَّاعِي إِلَى الله أَن يكون فِي أَعينهم جَلِيلًا وَفِي قُلُوبهم مهيبا وإليهم حبيبا وَأَن يكون فيهم مُطَاعًا لكَي يأتموا بِهِ ويقتفوا أثر الرَّسُول على يَده لم يضرّهُ ذَلِك بل يحمد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ دَاع إِلَى الله يحب أَن يطاع ويعبد ويوحد فَهُوَ يحب مَا يكون عونا على ذَلِك موصلا إِلَيْهِ وَلِهَذَا ذكر سُبْحَانَهُ عباده الَّذين اختصهم لنَفسِهِ وَأثْنى عَلَيْهِم فِي تَنْزِيله وَأحسن جزاءهم يَوْم لِقَائِه فَذكرهمْ بِأَحْسَن أَعْمَالهم وأوصافهم ثمَّ قَالَ وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا فَسَأَلُوهُ أَن يقر أَعينهم بِطَاعَة أَزوَاجهم وذرياتهم لَهُ سُبْحَانَهُ وَأَن يسر قُلُوبهم بِاتِّبَاع الْمُتَّقِينَ لَهُم على طَاعَته وعبوديته فَإِن الإِمَام والمؤتم متعاونان على الطَّاعَة فَإِنَّمَا سَأَلُوهُ وَمَا يعانون بِهِ الْمُتَّقِينَ على مرضاته وطاعته وَهُوَ دعوتهم إِلَى الله بِالْإِمَامَةِ فِي الدّين الَّتِي أساسها الصَّبْر وَالْيَقِين كَمَا قَالَ تَعَالَى وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا

فصل والفرق بين الحب في الله والحب مع الله وهذا من أهم الفروق

بِآيَاتِنَا يوقنون وسؤالهم أَن يجعلهم أَئِمَّة لِلْمُتقين هُوَ سُؤال أَن يهْدِيهم ويوفقهم ويمن عَلَيْهِم بالعلوم النافعة والأعمال الصَّالِحَة ظَاهرا وَبَاطنا الَّتِي لَا تتمّ الْإِمَامَة إِلَى بهَا وَتَأمل كَيفَ نسبهم فِي هَذِه الْآيَات إِلَى اسْمه الرَّحْمَن جلا جَلَاله ليعلم خلقه أَن هَذَا إِنَّمَا نالوه بِفضل رَحمته ومحض جوده ومنته وَتَأمل كَيفَ جعل جزاءهم فِي هَذِه السُّورَة الغرف وَهِي الْمنَازل الْعَالِيَة فِي الْجنَّة لما كَانَت الْإِمَامَة فِي الدّين من الرتب الْعَالِيَة بل من أَعلَى مرتبَة يعطاها العَبْد فِي الدّين كَانَ جَزَاؤُهُ عَلَيْهَا الغرفة الْعَالِيَة فِي الْجنَّة وَهَذَا بِخِلَاف طلب الرياسة فَإِن طلابها يسعون فِي تَحْصِيلهَا لينالوا بهَا أغراضهم من الْعُلُوّ فِي الأَرْض وَتعبد الْقُلُوب لَهُم وميلها إِلَيْهِم ومساعدتهم لَهُم على جَمِيع أغراضهم مَعَ كَونهم عالين عَلَيْهِم قاهرين لَهُم فترتب على هَذَا الْمطلب من الْمَفَاسِد مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله من الْبَغي والحسد والطغيان والحقد وَالظُّلم والفتنة وَالْحمية للنَّفس دون حق الله وتعظيم من حقره الله واحتقار من أكْرمه الله وَلَا تتمّ الرياسة الدُّنْيَوِيَّة إِلَّا بذلك وَلَا تنَال إِلَّا بِهِ وبأضعافه من الْمَفَاسِد والرؤساء فِي عمى عَن هَذَا فَإِذا كشف الغطاء تبين لَهُم فَسَاد مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَا سِيمَا إِذا حشروا فِي صور الذَّر يطؤهم أهل الْموقف بأرجلهم إهانة لَهُم وتحقيرا وتصغيرا كَمَا صغروا أَمر الله وحقروا عباده فصل وَالْفرق بَين الْحبّ فِي الله وَالْحب مَعَ الله وَهَذَا من أهم الفروق وكل أحد مُحْتَاج بل مُضْطَر إِلَى الْفرق بَين هَذَا وَهَذَا فالحب فِي الله هُوَ من كَمَال الْإِيمَان وَالْحب مَعَ الله هُوَ عين الشّرك وَالْفرق بَينهمَا أَن الْمُحب فِي الْحبّ تَابع لمحبة الله فَإِذا تمكنت محبته من قلب العَبْد أوجبت تِلْكَ الْمحبَّة ان يحب مَا يُحِبهُ الله فَإِذا أحب مَا أحبه ربه ووليه كَانَ ذَلِك الْحبّ لَهُ وَفِيه كَمَا يحب رسله وأنبياءه وَمَلَائِكَته وأوليائه لكَونه تَعَالَى يُحِبهُمْ وَيبغض من يبغضهم لكَونه تَعَالَى ببغضهم وعلامة هَذَا الْحبّ والبغض فِي الله أَنه لَا يَنْقَلِب بغضه لبغيض الله حبا لإحسانه إِلَيْهِ وخدمته لَهُ وَقَضَاء حَوَائِجه وَلَا يَنْقَلِب حبه لحبيب الله بغضا إِذا وصل إِلَيْهِ من جِهَته من يكرههُ ويؤلمه إِمَّا خطأ وَإِمَّا عمدا مُطيعًا لله فِيهِ أَو متأولا أَو مُجْتَهدا أَو بَاغِيا نازعا تَائِبًا وَالدّين كُله يَدُور على أَربع قَوَاعِد حب وبغض وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا فعل وَترك فَمن كَانَ حبه وبغضه وَفعله وَتَركه لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان بِحَيْثُ إِذا أحب أحب لله وَإِذا أبْغض أبْغض لله وَإِذا فعل فعل لله وَإِذا ترك ترك لله وَمَا نقص من أصنافه هَذِه الْأَرْبَعَة نقص من إيمَانه وَدينه بِحَسبِهِ وَهَذَا بِخِلَاف الْحبّ مَعَ الله فَهُوَ نَوْعَانِ يقْدَح فِي أصل التَّوْحِيد وَهُوَ شرك وَنَوع يقْدَح فِي كَمَال الْإِخْلَاص ومحبة الله وَلَا يخرج من الْإِسْلَام

فصل والفرق بين التوكل والعجز أن التوكل عمل القلب وعبوديته اعتمادا

فَالْأول كمحبة الْمُشْركين لأوثانهم وأندادهم قَالَ تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَهَؤُلَاء الْمُشْركُونَ يحبونَ أوثانهم وأصنامهم وآلهتهم مَعَ الله كَمَا يحبونَ الله فَهَذِهِ محبَّة تأله وموالاة يتبعهَا الْخَوْف والرجاء وَالْعِبَادَة وَالدُّعَاء وَهَذِه الْمحبَّة هِيَ مَحْض الشّرك الَّذِي لَا يغفره الله وَلَا يتم الْإِيمَان إِلَّا بمعاداة هَذِه الأنداد وَشدَّة بغضها وبغض أَهلهَا ومعاداتهم ومحاربتهم وَبِذَلِك أرسل الله جَمِيع رسله وَأنزل جَمِيع كتبه وَخلق النَّار لأهل هَذِه الْمحبَّة الشركية وَخلق الْجنَّة لمن حَارب أَهلهَا وعاداهم فِيهِ وَفِي مرضاته فَكل من عبد شَيْئا من لدن عَرْشه إِلَى قَرَار أرضه فقد اتخذ من دون الله إِلَهًا ووليا وأشرك بِهِ كَائِنا ذَلِك المعبود مَا كَانَ وَلَا بُد أَن يتبرأ مِنْهُ أحْوج مَا كَانَ إِلَيْهِ وَالنَّوْع الثَّانِي محبَّة مَا زينه الله للنفوس من النِّسَاء والبنين وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْل المسومة والأنعام والحرث فيحبها محبَّة شَهْوَة كمحبة الجائع للطعام والظمآن للْمَاء فَهَذِهِ الْمحبَّة ثَلَاثَة أَنْوَاع فَإِن أحبها لله توصلا بهَا إِلَيْهِ واستعانة على مرضاته وطاعته أثيب عَلَيْهَا وَكَانَت من قسم الْحبّ لله توصلا بهَا إِلَيْهِ ويلتذ بالتمتع بهَا وَهَذَا حَاله أكمل الْخلق الَّذِي حبب إِلَيْهِ من الدُّنْيَا النِّسَاء وَالطّيب وَكَانَت محبته لَهما عونا لَهُ على محبَّة الله وتبليغ رسَالَته وَالْقِيَام بأَمْره وَإِن أحبها لموافقة طبعه وهواه وإرادته وَلم يؤثرها على مَا يُحِبهُ الله ويرضاه بل نالها بِحكم الْميل الطبيعي كَانَت من قسم الْمُبَاحَات وَلم يُعَاقب على ذَلِك وَلَكِن ينقص من كَمَال محبته لله والمحبة فِيهِ وَإِن كَانَت هِيَ مَقْصُودَة وَمرَاده وسعيه فِي تَحْصِيلهَا وَالظفر بهَا وقدمها على مَا يُحِبهُ الله ويرضاه مِنْهُ كَانَ ظَالِما لنَفسِهِ مُتبعا لهواه فَالْأولى محبَّة السَّابِقين وَالثَّانيَِة محبَّة الْمُقْتَصِدِينَ وَالثَّالِثَة محبَّة الظَّالِمين فَتَأمل هَذَا الْموضع وَمَا فِيهِ من الْجمع وَالْفرق فَإِنَّهُ معترك النَّفس الأمارة والمطمئنة وَالْمهْدِي من هداه الله فصل وَالْفرق بَين التَّوَكُّل وَالْعجز أَن التَّوَكُّل عمل الْقلب وعبوديته اعْتِمَادًا على الله وثقة بِهِ والتجاء إِلَيْهِ وتفويضا إِلَيْهِ ورضا بِمَا يَقْضِيه لَهُ لعلمه بكفايته سُبْحَانَهُ وَحسن اخْتِيَاره لعَبْدِهِ إِذا فوض إِلَيْهِ مَعَ قِيَامه بالأسباب الْمَأْمُور بهَا واجتهاده فِي تَحْصِيلهَا فقد كَانَ رَسُول الله

أعظم المتوكلين وَكَانَ يلبس لامته وَدِرْعه بل ظَاهر يَوْم أحد بَين درعين واختفى فِي الْغَار ثَلَاثًا فَكَانَ متوكلا فِي السَّبَب لَا على السَّبَب وَأما الْعَجز فَهُوَ تَعْطِيل الْأَمريْنِ أَو أَحدهمَا فإمَّا أَن يعطل السَّبَب عَجزا مِنْهُ وَيَزْعُم أَن ذَلِك توكل ولعمر الله إِنَّه لعجز وتفريط وَإِمَّا أَن يقوم بِالسَّبَبِ نَاظرا إِلَيْهِ مُعْتَمدًا عَلَيْهِ غافلا عَن الْمُسَبّب معرضًا عَنهُ وَإِن خطر بِبَالِهِ لم يثبت مَعَه ذَلِك الخاطر وَلم يعلق قلبه بِهِ تعلقا تَاما بِحَيْثُ يكون قلبه مَعَ الله وبدنه مَعَ السَّبَب فَهَذَا توكله عجز وعجزه توكل وَهَذَا مَوضِع انقسم فِيهِ النَّاس طرفين ووسطا فأحد الطَّرفَيْنِ عطل الْأَسْبَاب مُحَافظَة على التَّوَكُّل وَالثَّانِي عطل التَّوَكُّل مُحَافظَة على السَّبَب وَالْوسط علم أَن حَقِيقَة التَّوَكُّل لَا يتم إِلَّا بِالْقيامِ بِالسَّبَبِ فتوكل على الله فِي نفس السَّبَب وَأما من عطل السَّبَب وَزعم أَنه متوكل فَهُوَ مغرور مخدوع متمن كمن عطل النِّكَاح والتسري وتوكل فِي حُصُول الْوَلَد وعطل الْحَرْث وَالْبذْر وتوكل فِي حُصُول الزَّرْع وعطل الْأكل وَالشرب وتوكل فِي حُصُول الشِّبَع والري فالتوكل نَظِير الرَّجَاء وَالْعجز نَظِير التَّمَنِّي فحقيقة التَّوَكُّل أَن يتَّخذ العَبْد ربه وَكيلا لَهُ قد فوض إِلَيْهِ كَمَا يُفَوض الْمُوكل إِلَى وَكيله للْعَالم بكفايته نهضته ونصحه وأمانته وخبرته وَحسن اخْتِيَاره والرب سُبْحَانَهُ قد أَمر عَبده بالاحتيال وتوكل لَهُ أَن يسْتَخْرج لَهُ من حيلته مَا يصلحه فَأمره أَن يحرث ويبذر وَيسْعَى وَيطْلب رزقه فِي ضَمَان ذَلِك كَمَا قدره سُبْحَانَهُ وَدبره واقتضته حكمته وَأمره أَن لَا يعلق قلبه بِغَيْرِهِ بل يَجْعَل رَجَاءَهُ لَهُ وخوفه مِنْهُ وثقته بِهِ وتوكله عَلَيْهِ واخبره أَنه سُبْحَانَهُ الملي بِالْوكَالَةِ الوفي بِالْكَفَالَةِ فالعاجز من رمي هَذَا كُله وَرَاء ظَهره وَقعد كسلان طَالبا للراحة مؤثرا للدعة يَقُول الرزق يطْلب صَاحبه كَمَا يَطْلُبهُ أَجله وسيأتيني مَا قدر لي على ضعْفي وَلنْ أنال مَا لم يقدر لي مَعَ قوتي وَلَو أَنى هربت من رِزْقِي كَمَا أهرب من الْمَوْت للحقني فَيُقَال لَهُ نعم هَذَا كُله حق وَقد علمت أَن الرزق مُقَدّر فَمَا يدْريك كَيفَ قدر لَك بسعيك أم بسعي غَيْرك وَإِذا كَانَ بسعيك فَبِأَي سَبَب وَمن أَي وَجه وَإِذا خَفِي عَلَيْك هَذَا كُله فَمن أَيْن علمت انه يقدر لَك إِتْيَانه عفوا بِلَا سعي وَلَا كد فكم من شَيْء سعيت فِيهِ فَقدر لغيرك وَكم من شَيْء سعى فِيهِ غَيْرك فَقدر لَك رزقا فَإِذا رَأَيْت هَذَا عيَانًا فَكيف علمت أَن رزقك كُله بسعي غَيْرك وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي أوردته عَلَيْك النَّفس يجب عَلَيْك طرده فِي جَمِيع الْأَسْبَاب مَعَ مسبباتها حَتَّى فِي أَسبَاب دُخُول الْجنَّة والنجاة من النَّار فَهَل تعطلها اعْتِمَادًا على التَّوَكُّل أم تقوم بهَا مَعَ التَّوَكُّل بل لن تَخْلُو الأَرْض من متوكل صَبر نَفسه لله وملأ قلبه من الثِّقَة بِهِ ورجائه وَحسن الظَّن بِهِ فَضَاقَ قلبه مَعَ ذَلِك عَن مُبَاشرَة بعض الْأَسْبَاب فسكن قلبه إِلَى الله وَاطْمَأَنَّ

فصل والفرق بين الاحتياط والوسوسة ان الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في

إِلَيْهِ ووثق بِهِ وَكَانَ هَذَا من أقوى أَسبَاب حُصُول رزقه فَلم يعطل السَّبَب وَإِنَّمَا رغب عَن سَبَب إِلَى سَبَب أقوى مِنْهُ فَكَانَ توكله أوثق الْأَسْبَاب عِنْده فَكَانَ اشْتِغَال قلبه بِاللَّه وسكونه إِلَيْهِ وتضرعه إِلَيْهِ أحب إِلَيْهِ من اشْتِغَاله بِسَبَب يمنعهُ من ذَلِك أَو من كَمَاله فَلم يَتَّسِع قلبه للأمرين فَأَعْرض أَحدهمَا إِلَى الآخر وَلَا ريب ان هَذَا أكمل حَالا مِمَّن امْتَلَأَ قلبه بِالسَّبَبِ واشتغل بِهِ عَن ربه وأكمل مِنْهُمَا من جمع الْأَمريْنِ وَهِي حَال الرُّسُل وَالصَّحَابَة فقد كَانَ زَكَرِيَّا نجارا وَقد أَمر الله نوحًا أَن يصنع السَّفِينَة وَلم يكن فِي الصَّحَابَة من يعطل السَّبَب اعْتِمَادًا على التَّوَكُّل بل كَانُوا أقوم النَّاس بالأمرين أَلا ترى أَنهم بذلوا جهدهمْ فِي محاربة أَعدَاء الدّين بِأَيْدِيهِم وألسنتهم وَقَامُوا فِي ذَلِك بِحَقِيقَة التَّوَكُّل وعمروا أَمْوَالهم وأصلحوها وَأَعدُّوا لأهليهم كفايتهم من الْقُوت بِسَيِّد المتوكلين صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وَآله فصل وَالْفرق بَين الِاحْتِيَاط والوسوسة ان الِاحْتِيَاط الِاسْتِقْصَاء وَالْمُبَالغَة فِي اتِّبَاع السّنة وَمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله وَأَصْحَابه من غير غلو ومجاوزة وَلَا تَقْصِير وَلَا تَفْرِيط فَهَذَا هُوَ الِاحْتِيَاط الَّذِي يرضاه الله وَرَسُوله وَأما الوسوسة فَهِيَ ابتداع مَا لم تأت بِهِ السّنة وَلم يَفْعَله رَسُول الله وَلَا أحد من الصَّحَابَة زاعما أَنه يصل بذلك إِلَى تَحْصِيل الْمَشْرُوع وَضَبطه كمن يحْتَاط بِزَعْمِهِ وَيغسل أعضاءه فِي الْوضُوء فَوق الثَّلَاثَة فيسرف فِي صب المَاء فِي وضوئِهِ وغسله وَصرح بالتلفظ بنية الصَّلَاة مرَارًا أَو مرّة وَاحِدَة وَيغسل ثِيَابه مِمَّا لَا يتَيَقَّن نَجَاسَته احْتِيَاطًا ويرغب عَن الصَّلَاة فِي نَعله احْتِيَاطًا إِلَى أَضْعَاف أَضْعَاف هَذَا مِمَّا اتَّخذهُ الموسوسون دينا وَزَعَمُوا أَنه احْتِيَاط وَقد كَانَ الِاحْتِيَاط بِاتِّبَاع هدى رَسُول الله وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أولى بهم فَإِنَّهُ الِاحْتِيَاط الَّذِي من خرج عَنهُ فقد فَارق الِاحْتِيَاط وَعدل عَن سَوَاء الصِّرَاط وَالِاحْتِيَاط كل الِاحْتِيَاط الْخُرُوج عَن خلاف السّنة وَلَو خَالَفت أَكثر أهل الأَرْض بل كلهم فصل وَالْفرق بَين إلهام الْملك وإلقاء الشَّيْطَان من وُجُوه مِنْهَا أَن مَا كَانَ لله مُوَافقا لمرضاته وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُوله فَهُوَ من الْملك وَمَا كَانَ لغيره غير مُوَافق لمرضاته فَهُوَ من إِلْقَاء الشَّيْطَان وَمِنْهَا أَن مَا أثمر إقبالا على الله وإنابة إِلَيْهِ وذكرا لَهُ وهمة صاعدة إِلَيْهِ فَهُوَ من إِلْقَاء الْملك وَمَا أثمر ضد ذَلِك فَهُوَ من إِلْقَاء الشَّيْطَان وَمِنْهَا أَن مَا أورث أنسا ونورا فِي الْقلب وانشراحا فِي الصَّدْر فَهُوَ من الْملك وَمَا أورث ضد ذَلِك فَهُوَ من الشَّيْطَان وَمِنْهَا أَن مَا أورث

فصل والفرق بين الاقتصاد والتقصير أن الاقتصاد هو التوسط بين طرفي

سكينَة وطمأنينة فَهُوَ من الْملك وَمَا أورث قلقا وإنزعاجا واضطرابا فَهُوَ من الشَّيْطَان فالإلهام الملكي يكثر فِي الْقُلُوب الطاهرة النقية الَّتِي قد استنارت بِنور الله فللملك بهَا اتِّصَال وَبَينه وَبَينهَا مُنَاسبَة فَإِنَّهُ طيب طَاهِر لَا يجاور إِلَّا قلبا يُنَاسِبه فَتكون لمة الْملك بِهَذَا الْقلب أَكثر من لمة الشَّيْطَان وَأما الْقلب المظلم الَّذِي قد اسود بِدُخَان الشَّهَوَات والشبهات فإلقاء الشَّيْطَان ولمة بِهِ أَكثر من لمة الْملك فصل وَالْفرق بَين الاقتصاد وَالتَّقْصِير أَن الاقتصاد هُوَ التَّوَسُّط بَين طرفِي الإفراط والتفريط وَله طرفان هما ضدان لَهُ تَقْصِير ومجاوزة فالمقتصد قد أَخذ بالوسط وَعدل عَن الطَّرفَيْنِ قَالَ تَعَالَى وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا وَلم يقترُوا وَكَانَ بَين ذَلِك قواما وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك وَلَا تبسطها كل الْبسط وَقَالَ تَعَالَى وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا وَالدّين كُله بَين هذَيْن الطَّرفَيْنِ بل الْإِسْلَام قصد بَين الْملَل وَالسّنة قصد بَين الْبدع وَدين الله بَين الغالي فِيهِ والجافي عَنهُ وَكَذَلِكَ الِاجْتِهَاد هُوَ بذل الْجهد فِي مُوَافقَة الْأَمر والغلو مجاوزته وتعديه وَمَا أَمر الله بِأَمْر إِلَّا وللشيطان فِيهِ نزغتان فَأَما إِلَى غلو ومجاوزة وغما إِلَى تَفْرِيط وتقصير وهما آفتان لَا يخلص مِنْهُمَا فِي الِاعْتِقَاد وَالْقَصْد وَالْعَمَل إِلَّا من مَشى خلق رَسُول الله وَترك أَقْوَال النَّاس وآراءهم لما جَاءَ بِهِ لَا من ترك مَا جَاءَ بِهِ لأقوالهم وآرائهم وَهَذَا أَن المرضان الخطران قد استوليا على أَكثر بني آدم وَلِهَذَا حذر السّلف مِنْهُمَا أَشد التحذير وخوفوا من بلَى بِأَحَدِهِمَا بِالْهَلَاكِ وَقد يَجْتَمِعَانِ فِي الشَّخْص الْوَاحِد كَمَا هُوَ الْحَال أَكثر الْخلق يكون مقصرا مفرطا فِي بعض دينه غَالِبا متجاوزا فِي بعضه وَالْمهْدِي من هداه الله فصل وَالْفرق بَين النَّصِيحَة والتأنيب أَن النَّصِيحَة إِحْسَان إِلَى من تنصحه بِصُورَة الرَّحْمَة لَهُ والشفقة عَلَيْهِ والغيرة لَهُ وَعَلِيهِ فَهُوَ إِحْسَان مَحْض يصدر عَن رَحْمَة ورقة وَمُرَاد الناصح بهَا وَجه الله وَرضَاهُ وَالْإِحْسَان إِلَى خلقه فيتلطف فِي بذلها غَايَة التلطف وَيحْتَمل أَذَى المنصوح ولائمته ويعامله مُعَاملَة الطَّبِيب الْعَالم المشفق الْمَرِيض المشبع مَرضا وَهُوَ يحْتَمل سوء خلقه وشراسته ونفرته ويتلطف فِي وُصُول الدَّوَاء إِلَيْهِ بِكُل مُمكن فَهَذَا شَأْن الناصح وَأما المؤنب فَهُوَ رجل قَصده التَّعْبِير والإهانة وذم من أنبه وَشَتمه فِي صُورَة النصح فَهُوَ يَقُول لَهُ يَا فَاعل كَذَا وَكَذَا يَا مُسْتَحقّا الذَّم والإهانة فِي صُورَة نَاصح مُشفق وعلامة هَذَا أَنه

فصل والفرق بين بالمبادرة والعجلة أن المبادرة انتهاز الفرصة في وقتها

لَو رأى من يُحِبهُ وَيحسن إِلَيْهِ على مثل عمل هَذَا أَو شَرّ مِنْهُ لم يعرض لَهُ وَلم يقل لَهُ شَيْئا وَيطْلب لَهُ وُجُوه المعاذير فَإِن غلب قَالَ وَإِنِّي ضمنت لَهُ الْعِصْمَة وَالْإِنْسَان عرضه للخطأ ومحاسنه أَكثر من مساويه وَالله غَفُور رَحِيم وَنَحْو ذَلِك فيا عجبا كَيفَ كَانَ هَذَا الْمَنّ يُحِبهُ دون من يبغضه وَكَيف كَانَ ذَلِك مِنْك التأنيب فِي صُورَة النصح وحظ هَذَا مِنْك رَجَاء الْعَفو وَالْمَغْفِرَة وَطلب وُجُوه المعاذير وَمن الفروق بَين الناصح والمؤنب أَن الناصح لَا يعاديك إِذا لم تقبل نصيحته وَقَالَ قد وَقع أجْرى على الله قبلت أَو لم تقبل وَيَدْعُو لَك بِظهْر الْغَيْب وَلَا يذكر عيوبك وَلَا يبينها فِي النَّاس والمؤنب بعد ذَلِك فصل وَالْفرق بَين بالمبادرة والعجلة أَن الْمُبَادرَة انتهاز الفرصة فِي وَقتهَا وَلَا يَتْرُكهَا حَتَّى إِذا فَاتَت طلبَهَا فَهُوَ لَا يطْلب الْأُمُور فِي أدبارها وَلَا قبل وَقتهَا بل إِذا حضر وَقتهَا بَادر إِلَيْهَا ووثب عَلَيْهَا وثوب الْأسد على فريسته فَهُوَ بِمَنْزِلَة من يُبَادر إِلَى أَخذ الثَّمَرَة وَقت كَمَال نضلها وإدراكها والعجلة طلب أَخذ الشَّيْء قبل وقته فَهُوَ لشدَّة حرصه عَلَيْهِ بِمَنْزِلَة من يَأْخُذ الثَّمَرَة قبل أَوَان إِدْرَاكهَا كلهَا فالمبادرة وسط بَين خلقين مذمومين أَحدهمَا التَّفْرِيط والإضاعة وَالثَّانِي الاستعجال قبل الْوَقْت وَلِهَذَا كَانَت العجلة من الشَّيْطَان فَإِنَّهَا خفَّة وطيش وحدة فِي العَبْد تَمنعهُ من التثبت وَالْوَقار والحلم وتوجب لَهُ وضع الْأَشْيَاء فِي غير موَاضعهَا وتجلب عَلَيْهِ أنواعا من الشرور وتمنعه أنواعا من الْخَيْر وَهِي قرين الندامة فَقل من استعجل إِلَّا نَدم كَمَا أَن الكسل قرين الْفَوْت والإضاعة فصل وَالْفرق بَين الْأَخْبَار بِالْحَال وَبَين الشكوى وَإِن اشتبهت صورتهما ان الْأَخْبَار بِالْحَال يقْصد الْمخبر بِهِ قصدا صَحِيحا من علم سَبَب إدانته أَو الِاعْتِذَار لِأَخِيهِ من أَمر طلبه مِنْهُ أَو يحذرهُ من الْوُقُوع فِي مثل مَا وَقع فِيهِ فَيكون ناصحا بإخباره لَهُ أَو حمله على الصَّبْر بالتأسي بِهِ كَمَا يذكر عَن الْأَحْنَف أَنه شكا إِلَيْهِ رجل شكوى فَقَالَ يَا ابْن أخي لقد ذهب ضوء عَيْني من كَذَا وَكَذَا سنة فَمَا أعلمت بِهِ أحدا فَفِي ضمن هَذَا الْأَخْبَار من حمل الشاكي على التأسي وَالصَّبْر مَا يُثَاب عَلَيْهِ الْمخبر وَصورته صُورَة الشكوى وَلَكِن الْقَصْد ميز بَينهمَا وَلَعَلَّ من هَذَا قَول النَّبِي لما قَالَت عَائِشَة وارأساه فَقَالَ بل أَنا وارأساه أَي الوجع الْقوي بِي

أَنا دُونك فتأسى بِي فَلَا تَشْتَكِي ويلوح لي فِيهِ معنى آخر وَهُوَ أَنَّهَا كَانَت حَبِيبَة رَسُول الله بل كَانَت أحب النِّسَاء إِلَيْهِ على الْإِطْلَاق فَلَمَّا اشتكت إِلَيْهِ رَأسهَا أخْبرهَا أَن بمحبها من الْأَلَم مثل الَّذِي بهَا وَهَذَا غَايَة الْمُوَافقَة من الْمُحب ومحبوبه يتألم بتألمه وَيسر بسروره حَتَّى إِذا آلمه عُضْو من أَعْضَائِهِ آلم الْمُحب ذَلِك الْعُضْو بِعَيْنِه وَهَذَا من صدق الْمحبَّة وصفاء الْمَوَدَّة فَالْمَعْنى الأول يفهم أَنَّك لَا تَشْتَكِي واصبري فَبِي من الموجع مثل مَا بك فتأسى بِي فِي الصَّبْر وَعدم الشكوى وَالْمعْنَى الثَّانِي يفهم إعلامها بِصدق محبته لَهَا أَي انظري قُوَّة محبتي لَك كَيفَ واسيتك فِي ألمك ووجع رَأسك فَلم تَكُونِي متوجعة وَأَنا سليم من الوجع بل يؤلمني مَا يؤلمك كَمَا يسرني مَا يَسُرك كَمَا قيل وَإِن أولى البرايا ان تواسيه ... عِنْد السرُور الَّذِي واساك فِي الْحزن وَأما الشكوى فالأخبار العاري عِنْد الْقَصْد الصَّحِيح بل يكون مصدره السخط وشكاية المبتلي إِلَى غَيره فَإِن شكا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكن ذَلِك شكوى بل استعطاف وتملق واسترحام لَهُ كَقَوْل أَيُّوب رَبِّي أَنِّي مسني الضّر وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ وَقَول يَعْقُوب إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله وَقَول مُوسَى اللَّهُمَّ لَك الْحَمد وَإِلَيْك المشتكي وَأَنت الْمُسْتَعَان وَبِك المستعاث وَعَلَيْك التكلان وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك وَقَول سيد ولد آدم اللَّهُمَّ إِلَيْك أَشْكُو ضعف قوتي وَقلة حيلتي وهواني على النَّاس أَنْت رب الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنت رَبِّي إِلَى من تَكِلنِي إِلَى بعيد يتجهمني أَو إِلَى عَدو ملكته أَمْرِي إِن لم يكن بك غضب على فَلَا أُبَالِي غير أَن عافيتك أوسع لي أعوذ بِنور وَجهك الَّذِي أشرقت لَهُ الظُّلُمَات وَصلح عَلَيْهِ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَن يحل على غضبك أَو ينزل بِي سخطك لَك الْعُتْبِي حَتَّى ترْضى وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك فالشكوى إِلَى الله سُبْحَانَهُ لَا تنَافِي الصَّبْر بِوَجْه فَإِن الله تَعَالَى قَالَ عَن أَيُّوب إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب مَعَ إخْبَاره عَنهُ بالشكوى إِلَيْهِ فِي قَوْله مسني الضّر وَأخْبر عَن نبيه يَعْقُوب أَنه وعد من نَفسه بِالصبرِ الْجَمِيل وَالنَّبِيّ إِذا قَالَ وَفِي مَعَ قَوْله إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله وَلم يَجْعَل ذَلِك نقصا لِصَبْرِهِ وَلَا يلْتَفت إِلَى غير هَذَا من ترهات الْقَوْم كَمَا قَالَ بَعضهم لما قَالَ مسني الضّر قَالَ تَعَالَى إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا وَلم يقل صبورا حَيْثُ قَالَ مسني الضّر وَقَالَ بَعضهم لم يقل ارْحَمْنِي وَإِنَّمَا قَالَ أَنْت أرْحم الرَّاحِمِينَ فَلم يزدْ على الْأَخْبَار بِحَالهِ وَوصف ربه وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا شكا مس الضّر حِين ضعف لِسَانه عَن الذّكر فَشَكا مس ضرّ ضعف الذّكر لَا ضرّ الْمَرَض والألم وَقَالَ بَعضهم استخرج مِنْهُ هَذَا القَوْل ليَكُون قدوة للضعفاء من هَذِه الْأمة وَكَأن هَذَا الْقَائِل رأى أَن الشكوى إِلَى الله تنَافِي الصَّبْر وَغلط أقبح الْغَلَط فالمنافي للصبر شكواه لَا الشكوى إِلَيْهِ فَالله يَبْتَلِي عَبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إِلَيْهِ وَلَا يحب التجلد عَلَيْهِ

فصل وهذا باب من الفروق مطول ولعل إن ساعد القدر أن نفرد فيه

وَأحب مَا إِلَيْهِ انكسار قلب عَبده بَين يَدَيْهِ وتذلله لَهُ وَإِظْهَار ضعفه وفاقته وعجزه وَقلة صبره فاحذر كل الحذر من إِظْهَار التجلد عَلَيْهِ وَعَلَيْك بالتضرع والتمسكن وإبداء الْعَجز والفاقة والذل والضعف فرحمته اقْربْ إِلَى هَذَا الْقلب من الْيَد للفم فصل وَهَذَا بَاب من الفروق مطول وَلَعَلَّ إِن ساعد الْقدر أَن نفرد فِيهِ كتابا كَبِيرا وَإِنَّمَا نبهنا بِمَا ذكرنَا على أُصُوله واللبيب يَكْتَفِي بِبَعْض ذَلِك وَالدّين كُله فرق وَكتاب الله فرقان وَمُحَمّد فرق بَين النَّاس وَمن اتَّقى الله جعل لَهُ فرقانا يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا وسمى يَوْم بدر يَوْم الْفرْقَان لِأَنَّهُ فرق بَين أَوْلِيَاء الله وأعدائه فالهدى كُله فرقان والضلال أَصله الْجمع كَمَا جمع الْمُشْركُونَ بَين عبَادَة الله وَعبادَة الْأَوْثَان ومحبته ومحبة الْأَوْثَان وَبَين مَا يُحِبهُ ويرضاه وَبَين مَا قدره وقضاه فَجعلُوا الْأَمر وَاحِد وَاسْتَدَلُّوا بِقَضَائِهِ وَقدره على محبته وَرضَاهُ وجمعوا بَين الرِّبَا وَالْبيع فَقَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا وجمعوا بَين المذكي وَالْميتَة وَقَالُوا كَيفَ نَأْكُل مَا قتلنَا وَلَا نَأْكُل مَا قتل الله وَجمع المنسلخون عَن الشَّرَائِع بَين الْحَلَال وَالْحرَام فَقَالُوا هَذِه الْمَرْأَة خلقهَا الله وَهَذِه خلقهَا وَهَذَا الْحَيَوَان خلقه وَهَذَا خلقه فَكيف يحل هَذَا وَيحرم هَذَا وجمعوا بَين أَوْلِيَاء الرَّحْمَن وأولياء الشَّيْطَان وَجَاءَت طَائِفَة الاتحادية فطموا الْوَادي على الْقرى وجمعوا الْكل فِي ذَات وَاحِدَة وَقَالُوا هِيَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَقَالَ صَاحب فصوصهم وَوَاضِع نصوصهم وَاعْلَم أَن الْأَمر قُرْآنًا لَا فرقانا مَا الْأَمر إِلَّا نسق وَاحِد ... مَا فِيهِ من مدح وَلَا ذمّ وَإِنَّمَا الْعَادة قد خصصت ... والطبع والشراع بالحكم وَالْمَقْصُود أَن أَرْبَاب البصائر هم أَصْحَاب الْفرْقَان فأعظم النَّاس فرقانا بَين المشتبهات أعظم النَّاس بَصِيرَة والتشابه يَقع فِي الْأَقْوَال والأعمال وَالْأَحْوَال وَالْأَمْوَال وَالرِّجَال وَإِنَّمَا أَتَى أَكثر أهل الْعلم من المتشابهات فِي ذَلِك كُله وَلَا يحصل الْفرْقَان إِلَّا بِنور يقذفه الله فِي قلب من يَشَاء من عباده يرى فِي ضوئه حقائق الْأُمُور ويميز بَين حَقّهَا وباطلها وصحيحها وسقيمها وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور وَلَا تستطل هَذَا الْفَصْل فَلَعَلَّهُ من أَنْفَع فُصُول الْكتاب وَالْحَاجة إِلَيْهِ شَدِيدَة فَإِن رزقك الله فِيهِ بَصِيرَة خرجت مِنْهُ إِلَى فرقان أعظم مِنْهُ وَهُوَ الْفرق بَين تَوْحِيد الْمُرْسلين وتوحيد المعطلين وَالْفرق بَين تَنْزِيه الرُّسُل وتنزيه أهل التعطيل وَالْفرق بَين إِثْبَات الصِّفَات والعلو والتكلم والتكليم حَقِيقَة وَبَين التَّشْبِيه والتمثيل وَالْفرق بَين تَجْرِيد

فصل ونحن نختم الكتاب بإشارة لطيفة إلى الفروق بين هذه الأمور إذ كل

التَّوْحِيد العملي الإرادي وَبَين هضم أَرْبَاب الْمَرَاتِب مَرَاتِبهمْ الَّتِي أنزلهم الله إِيَّاهَا وَالْفرق بَين تَجْرِيد مُتَابعَة الْمَعْصُوم وَبَين إهدار أَقْوَال الْعلمَاء وإلغائها وَعدم الِالْتِفَات إِلَيْهَا وَالْفرق بَين تَقْلِيد الْعَالم وَبَين الاستضاءة بِنور علمه والاستعانة بفهمه وَالْفرق بَين أَوْلِيَاء الرَّحْمَن وأولياء الشَّيْطَان وَالْفرق بَين الْحَال الإيماني الرحماني وَالْحَال الشيطاني الكفرى وَالْحَال النفساني وَالْفرق بَين الحكم الْمنزل الْوَاجِب الِاتِّبَاع على كل وَاحِد وَالْحكم المؤول الَّذِي نهايته أَن يكون جَائِز الإتباع عِنْد الضَّرُورَة وَلَا دَرك على مخالفه فصل وَنحن نختم الْكتاب بِإِشَارَة لَطِيفَة إِلَى الفروق بَين هَذِه الْأُمُور إِذْ كل فرق مِنْهَا يَسْتَدْعِي بَسطه كتابا كَبِيرا فَالْفرق بَين تَوْحِيد الْمُرْسلين وتوحيد المعطلين أَن تَوْحِيد الرُّسُل إِثْبَات صِفَات الْكَمَال لله على وَجه التَّفْصِيل وعبادته وَحده لَا شريك لَهُ فَلَا يَجْعَل لَهُ ندا فِي قصد وَلَا حب وَلَا خوف وَلَا رَجَاء وَلَا لفظ وَلَا حلف وَلَا نذر بل يرفع العَبْد الانداد لَهُ من قلبه وقصده وَلسَانه وعبادته كَمَا أَنَّهَا مَعْدُومَة فِي نفس الْأَمر لَا وجود لَهَا الْبَتَّةَ فَلَا يَجْعَل لَهَا وجودا فِي قلبه وَلسَانه وَأما تَوْحِيد المعطلين فنفى حقائق أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وتعطليها وَمن أمكنة مِنْهُم تعطليها من لِسَانه عطلها فَلَا يذكرهَا وَلَا يذكر آيَة تتضمنها وَلَا حَدِيثا يُصَرح بِشَيْء مِنْهَا وَمن لم يُمكنهُ تَعْطِيل ذكرهَا سَطَا عَلَيْهَا بالتحريف وَنفى حَقِيقَتهَا وَجعلهَا اسْما فَارغًا لَا معنى لَهُ أَو مَعْنَاهُ من جنس الألغاز والأحاجي على أَن من طرد تعطيله مِنْهُم على أَنه يلْزمه فِي مَا حرف إِلَيْهِ النَّص من الْمَعْنى نَظِير مَا فر مِنْهُ سَوَاء فَإِن لزم تَمْثِيل أَو تَشْبِيه أَو حُدُوث فِي الْحَقِيقَة لزم فِي الْمَعْنى الَّذِي حمل عَلَيْهِ النَّص وَإِن لَا يلْزم فِي هَذَا فَهُوَ أولى أَن لَا يلْزم فِي الْحَقِيقَة فَلَمَّا علم هَذَا لم يُمكنهُ إِلَّا تَعْطِيل الْجَمِيع فَهَذَا طرد لأصل التعطيل وَالْفرق اقْربْ مِنْهُ وَلكنه مُنَاقض يتحكم بِالْبَاطِلِ حَيْثُ أثبت لله بعض مَا أثْبته لنَفسِهِ وَنفى عَنهُ الْبَعْض الآخر وَاللَّازِم الْبَاطِل فيهمَا وَاحِد وَاللَّازِم الْحق لَا يفرق بَينهمَا وَالْمَقْصُود أَنهم سموا هَذَا التعطيل توحيدا وَإِنَّمَا هُوَ إلحاد فِي أَسمَاء الرب تَعَالَى وَصِفَاته وتعطيل لحقائقها فصل وَالْفرق بَين تَنْزِيه الرُّسُل وتنزيه المعطلة أَن الرُّسُل نزهوه سُبْحَانَهُ عَن النقائض والعيوب الَّتِي نزه نَفسه عَنْهَا وَهِي المنافية لكماله وَكَمَال ربوبيته وعظمته كالسنة وَالنَّوْم والغفلة وَالْمَوْت

فصل الفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل يما

واللغوب وَالظُّلم وإرادته والتسمي بِهِ وَالشَّرِيك والصاحبة والظهير وَالْولد وَالشَّفِيع بِدُونِ إِذْنه وَأَن يتْرك عباده سدى هملا وَأَن يكون خلقهمْ عَبَثا وَأَن يكون خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا لَا لثواب وَلَا عِقَاب وَلَا أَمر وَلَا نهى وَأَن يسوى بَين أوليائه وأعدائه وَبَين الْأَبْرَار والفجار وَبَين الْكفَّار وَالْمُؤمنِينَ وَأَن يكون فِي ملكه مَالا يَشَاء أَن يحْتَاج إِلَى غَيره بِوَجْه من الْوُجُوه وَأَن يكون لغيره مَعَه من الْأَمر شَيْء وَأَن يعرض لَهُ غَفلَة أَو سَهْو أَو نِسْيَان وَأَن يخلف وعده أَو تبدل كَلِمَاته أَو يُضَاف إِلَيْهِ الشَّرّ اسْما أَو وَصفا أَو فعلا بل أسماءه كلهَا حسنى وَصِفَاته كلهَا كَمَال وأفعاله كلهَا خير وَحِكْمَة ومصلحة فَهَذَا تَنْزِيه الرُّسُل لرَبهم وَأما المعطلون فنزهوه عَمَّا وصف بِهِ نَفسه من الْكَمَال فنزهوه عَن أَن يتَكَلَّم أَو يكلم أحدا ونزهوه عَن استوائه على عَرْشه وَأَن ترفع إِلَيْهِ الْأَيْدِي وَأَن يصعد إِلَيْهِ الْكَلم الطّيب وَأَن ينزل من عِنْده شَيْء أَو تعرج إِلَيْهِ الْمَلَائِكَة وَالروح وَأَن يكون فَوق عباده وَفَوق جَمِيع مخلوقاته عَالِيا عَلَيْهَا ونزهوه أَن يقبض السَّمَوَات بِيَدِهِ وَالْأَرْض بِالْيَدِ الْأُخْرَى وان يمسك السَّمَوَات على إِصْبَع وَالْأَرْض على إِصْبَع وَالْجِبَال على إِصْبَع وَالشَّجر على إِصْبَع ونزهوه أَن يكون لَهُ وَجه وَأَن يرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَبْصَارِهِمْ فِي الْجنَّة وَأَن يكلمهم وَيسلم عَلَيْهِم ويتجلى لَهُم ضَاحِكا وَأَن ينزل كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول من يستغفرني فَأغْفِر لَهُ من يسألني فَأعْطِيه فَلَا نزُول عِنْدهم وَلَا قَول ونزهوه أَن يفعل شَيْئا لشَيْء بل أَفعاله لَا لحكمة وَلَا لغَرَض مَقْصُود ونزهوه أَن يكون تَامّ الْمَشِيئَة نَافِذ الْإِرَادَة بل يَشَاء الشَّيْء ويشاء عباده خِلَافه فَيكون مَا شَاءَ العَبْد دون مَا شَاءَ الرب وَلَا يَشَاء الشىء فَيكون مَالا يَشَاء ويشاء مَالا يكون وَسموا هَذَا عدلا كَمَا سموا ذَلِك النزيه توحيدا ونزهوه عَن أَن يحب أَو يحب ونزهوه عَن الرأفة وَالرَّحْمَة وَالْغَضَب وَالرِّضَا ونزهة آخَرُونَ عَن السّمع وَالْبَصَر وَآخَرُونَ عَن الْعلم ونزهه آخَرُونَ عَن الْوُجُود فَقَالُوا الَّذِي فر إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ المنزهون من التَّشْبِيه والتمثيل يلْزمنَا فِي الْوُجُود يلْزمنَا فِي الْوُجُود فَيجب علينا أَن ننزهه عَنهُ فَهَذَا تَنْزِيه الْمُلْحِدِينَ وَالْأول تَنْزِيه الْمُرْسلين فصل الْفرق بَين إِثْبَات حقائق الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وَبَين التَّشْبِيه والتمثيل يما قَالَه الإِمَام أَحْمد وَمن وَافقه من أَئِمَّة الْهدى أَن التَّشْبِيه والتمثيل أَن تَقول يَد كيدي أَو سمع كسمعي أَو بصر كبصري وَنَحْو ذَلِك وَأما إِذا قلت سمع وبصر وَيَد وَوجه واستواء لَا يماثل شَيْئا من صِفَات المخلوقين بل بَين الصّفة وَالصّفة من الْفرق كَمَا بَين الْمَوْصُوف والموصوف فَأَي تَمْثِيل هَهُنَا وَأي تَشْبِيه لَوْلَا تلبيس الْمُلْحِدِينَ فمدار الْحق الَّذِي اتّفقت عَلَيْهِ الرُّسُل على أَن يُوصف الله بِمَا وصف

فصل والفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب أن تجريد

بِهِ نَفسه وَبِمَا وَصفه بِهِ رَسُوله من غير تَحْرِيف وَلَا تَعْطِيل وَمن غير تَشْبِيه وَلَا تَمْثِيل إِثْبَات الصِّفَات وَنفى مشابهه الْمَخْلُوقَات فَمن شبه الله بخلقه فقد كفر وَمن جحد حقائق مَا وصف الله بِهِ نَفسه فقد كفر وَمن أثبت لَهُ حقائق الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وَنفى عَنهُ مشابهة الْمَخْلُوقَات فقد هدى إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم فصل وَالْفرق بَين تَجْرِيد التَّوْحِيد وَبَين هضم أَرْبَاب الْمَرَاتِب أَن تَجْرِيد التَّوْحِيد أَن لَا يعْطى الْمَخْلُوق شَيْئا من حق الْخَالِق وخصائصه فَلَا يعبد وَلَا يصلى لَهُ وَلَا يسْجد وَلَا يحلف باسمه وَلَا ينذر لَهُ وَلَا يتوكل عَلَيْهِ وَلَا يؤله وَلَا يقسم بِهِ على الله وَلَا يعبد ليتقرب إِلَى الله زلفى وَلَا يُسَاوِي بِرَبّ الْعَالمين فِي قَول الْقَائِل مَا شَاءَ الله وشئت وَهَذَا مِنْك وَمن الله وَأَنا بِاللَّه وَبِك وَأَنا متوكل على الله وَعَلَيْك وَالله لي فِي السَّمَاء وَأَنت فِي الأَرْض وَهَذَا من صدقاتك وصدقات الله وَأَنا تائب إِلَى الله وَإِلَيْك وَأَنا فِي حسب الله وحسبك فَيسْجد للمخلوق كَمَا يسْجد الْمُشْركُونَ لشيوخهم يحلق رَأسه لَهُ وَيحلف باسمه وينذر لَهُ وَيسْجد لقبره بعد مَوته ويستغيث بِهِ فِي حَوَائِجه ومهماته ويرضيه بسخط الله وَلَا يسخطه فِي رضَا الله ويتقرب إِلَيْهِ أعظم مِمَّا يتَقرَّب إِلَى الله وَيُحِبهُ ويخافه ويرجوه أَكثر مِمَّا يحب الله ويخافه ويرجوه أَو يُسَاوِيه فَإِذا هضم الْمَخْلُوق خَصَائِص الربوبية وأنزله منزلَة العَبْد الْمَحْض الَّذِي لَا يملك لنَفسِهِ فضلا عَن غَيره ضرا وَلَا نفعا وَلَا موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا لم يكن هَذَا تنقصا لَهُ وَلَا حطا من مرتبته وَلَو رغم الْمُشْركُونَ وَقد صَحَّ عَن سيد ولد آدم صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ أَنه قَالَ لَو تطروني كَمَا أطرت النَّصَارَى ابْن مَرْيَم فَإِنَّمَا أَنا عبد فَقولُوا عبد الله وَرَسُوله وَقَالَ أَيهَا النَّاس مَا أحب أَن ترفعوني فَوق منزلتي وَقَالَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيدا وَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تجْعَل قَبْرِي وثنا يعبد وَقَالَ لَا تَقولُوا مَا شَاءَ الله وَشاء وَقَالَ لَهُ رجل مَا شَاءَ الله وشئت فَقَالَ أجعلتني لله ندا وَقَالَ لَهُ رجل قد أذْنب اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوب إِلَيْك وَلَا أَتُوب إِلَى مُحَمَّد فَقَالَ عرف الْحق لأَهله وَقد قَالَ الله لَهُ لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء وَقَالَ قل إِن الْأَمر كُله لله وَقَالَ قل لَا أملك لنَفْسي ضرا وَلَا نفعا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَقَالَ قل إِنِّي لَا املك لنَفْسي ضرا وَلَا رشدا قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد وَلنْ أجد من دونه ملتحدا أَي لن أجد من دونه من ألتجىء إِلَيْهِ وَاعْتمد عَلَيْهِ وَقَالَ لَا بنته فَاطِمَة وَعَمه الْعَبَّاس وَعَمَّته صَفِيَّة لَا أملك لكم من الله شَيْئا وَفِي لفظ فِي الصَّحِيح لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا فَعظم ذَلِك على الْمُشْركين بشيوخهم وآلهتهم وأبوا ذَلِك كُله وَادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هَذَا كُله وَزَعَمُوا أَن من سلبهم ذَلِك فقد هضمهم مَرَاتِبهمْ وتنقصهم وَقد هضموا جَانب الإلهية

فصل والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها

غَايَة الهضم وتنقصوه فَلهم نصيب وافر من قَوْله تَعَالَى وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وَإِذا ذكر الَّذين من دونه إِذا هم يستبشرون فصل وَالْفرق بَين تَجْرِيد مُتَابعَة الْمَعْصُوم وإهدار أَقْوَال الْعلمَاء وإلغائها أَن تَجْرِيد الْمُتَابَعَة أَن لَا تقدم على مَا جَاءَ بِهِ قَول أحد وَلَا رَأْيه كَائِنا من كَانَ بل تنظر فِي صِحَة الحَدِيث أَولا فَإِذا صَحَّ لَك نظرت فِي مَعْنَاهُ ثَانِيًا فَإِذا تبين لَك لم تعدل عَنهُ وَلَو خالفك من بَين الْمشرق الْمغرب ومعاذ الله أَن تتفق الْأمة على مُخَالفَة مَا جَاءَ بِهِ نبيها بل لَا بُد أَن يكون فِي الْأمة من قَالَ بِهِ وَلَو لم تعلمه فَلَا تجْعَل جهلك بالقائل بِهِ حجَّة على الله وَرَسُوله بل أذهب إِلَى النَّص وَلَا تضعف وَاعْلَم أَنه قد قَالَ بِهِ قَائِل قطعا وَلَكِن لم يصل إِلَيْك هَذَا مَعَ حفظ مَرَاتِب الْعلمَاء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم فِي حفظ الدّين وَضَبطه فهم دائرون بَين الْأجر والأجرين وَالْمَغْفِرَة وَلَكِن لَا يُوجب هَذَا إهدار النُّصُوص وَتَقْدِيم قَول الْوَاحِد مِنْهُم عَلَيْهَا بِشُبْهَة انه اعْلَم بهَا مِنْك فَإِن كَانَ كَذَلِك فَمن ذهب إِلَى النَّص أعلم بِهِ مِنْك فَهَلا وافقته إِن كنت صَادِقا فَمن عرض أَقْوَال الْعلمَاء على النُّصُوص ووزنها بهَا وَخَالف مِنْهَا مَا خَالف النَّص لم يهدر أَقْوَالهم وَلم يهضم جانبهم بل اقْتدى بهم فَإِنَّهُم كلهم أمروا بذلك فمتبعهم حَقًا من امتثل مَا أوصوا بِهِ لَا من خالفهم فخلافهم فِي القَوْل الَّذِي جَاءَ النَّص بِخِلَافِهِ أسهل من مخالفتهم فِي الْقَاعِدَة الْكُلية الَّتِي أمروا ودعوا إِلَيْهَا من تَقْدِيم النَّص على أَقْوَالهم وَمن هُنَا يتَبَيَّن الْفرق بَين تَقْلِيد الْعَالم فِي كل مَا قَالَ وَبَين الِاسْتِعَانَة بفهمه والاستضاءة بِنور علمه فَالْأول يَأْخُذ قَوْله من غير نظر فِيهِ وَلَا طلب لدليله من الْكتاب وَالسّنة بل يَجْعَل ذَلِك كالحبل الَّذِي يلقيه فِي عُنُقه يقلده بِهِ وَلذَلِك سمى تقليدا بِخِلَاف مَا اسْتَعَانَ بفهمه واستضاء بِنور علمه فِي الْوُصُول إِلَى الرَّسُول صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يجعلهم بِمَنْزِلَة الدَّلِيل إِلَى الدَّلِيل الأول فَإِذا وصل إِلَيْهِ اسْتغنى بدلالته عَن الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِهِ فَمن اسْتدلَّ بِالنَّجْمِ على الْقبْلَة فَإِنَّهُ إِذا شَاهدهَا لم يبْق لاستدلاله بِالنَّجْمِ معنى قَالَ الشَّافِعِي اجْمَعْ النَّاس على أَن من استبانت لَهُ سنة رَسُول الله لم يكن لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد فصل وَالْفرق بَين أَوْلِيَاء الرَّحْمَن وأولياء الشَّيْطَان أَن أَوْلِيَاء الرَّحْمَن لَا خوف عَلَيْهِم ولاهم يَحْزَنُونَ {هم} الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ وهم المذكورون فِي أول سُورَة الْبَقَرَة إِلَى قَوْله هم المفلحون وَفِي وَسطهَا فِي قَوْله وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر إِلَى قَوْله

أُولَئِكَ الَّذين صدقُوا وَأُولَئِكَ هم المتقون وَفِي أول الْأَنْفَال إِلَى قَوْله لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم ومغفرة ورزق كريم وَفِي أول سُورَة الْمُؤمنِينَ إِلَى قَوْله هم فِيهَا خَالدُونَ وَفِي آخر سُورَة الْفرْقَان وَفِي قَوْله إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات إِلَى آخر الْآيَة وَفِي قَوْله أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ وَفِي قَوْله وَمن يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون وَفِي قَوْله إِلَّا الْمُصَلِّين الَّذين هم على صلَاتهم دائمون إِلَى قَوْله فِي جنَّات مكرمون وَفِي قَوْله التائبون العابدون الحامدون إِلَى آخر الْآيَة فأولياء الرَّحْمَن هم المخلصون لرَبهم المحكمون لرَسُوله فِي الْحرم والحل الَّذين يخالفون غَيره لسنته وَلَا يخالفون سنته لغَيْرهَا فَلَا يبتدعون وَلَا يدعونَ إِلَى بِدعَة وَلَا يتحيزون إِلَى فِئَة غير الله وَرَسُوله وَأَصْحَابه وَلَا يتخذون دينهم لهوا وَلَعِبًا وَلَا يستحبون سَماع الشَّيْطَان على سَماع الْقُرْآن وَلَا يؤثرون صُحْبَة الأفتان على مرضاة الرَّحْمَن وَلَا المعازف والمثاني على السَّبع المثاني بَرِئْنَا إِلَى الله من معشر ... بهم مرض مورد للضنا وَكم قلت يَا قوم انتم على ... شفا جرف من سَماع الْغِنَا فَلَمَّا استهانوا بتنبيهنا ... تركنَا غويا وَمَا قد جنا وَهل يستجيب لداعي الْهدى ... غوى اصار الْغِنَا ديدنا فعشنا على مِلَّة الْمُصْطَفى ... وماتوا على تأتنا تنتنا وَلَا يشْتَبه أَوْلِيَاء الرَّحْمَن بأولياء الشَّيْطَان إِلَّا على فَاقِد البصيرة وَالْإِيمَان وأنى يكون المعرضون عَن كِتَابه وَهدى وَرَسُوله وسنته المخالفون لَهُ إِلَى غَيره أولياءه وَقد ضربوا لمُخَالفَته جاشا وَعدلُوا عَن هدى نبيه وطريقته وَمَا كَانُوا أولياءه إِن أولياؤه إِلَّا المتقون وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ فأولياء الرَّحْمَن المتلبسون بِمَا يُحِبهُ وليهم الداعون إِلَيْهِ المحاربون لمن خرج عَنهُ وأولياء الشَّيْطَان المتلبسون بِمَا يُحِبهُ وليهم قولا وَعَملا يدعونَ إِلَيْهِ ويحاربون من نَهَاهُم عَنهُ فَإِذا رَأَيْت الرجل يحب السماع الشيطاني ومؤذن الشَّيْطَان وإخوان الشَّيَاطِين وَيَدْعُو إِلَى مَا يبحه الشَّيْطَان من الشّرك والبدع والفجور علمت أَنه من أولياءه فَإِن اشْتبهَ عَلَيْك فاكشفه فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن فِي صلَاته ومحبته للسّنة وَأَهْلهَا ونفرته عَنْهُم ودعوته إِلَى الله وَرُسُله وَتَجْرِيد التَّوْحِيد والمتابعة وتحكيم السّنة فزنه بذلك لَا تزنه يُحَال وَلَا كشف وَلَا خارق وَلَو مَشى على المَاء وطار فِي الْهَوَاء

فصل وبهذا يعلم الفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني فإن الحال

فصل وَبِهَذَا يعلم الْفرق بَين الْحَال الإيماني وَالْحَال الشيطاني فَإِن الْحَال الإيماني ثَمَرَة الْمُتَابَعَة للرسول وَالْإِخْلَاص فِي الْعَمَل وَتَجْرِيد التَّوْحِيد ونتيجته مَنْفَعَة الْمُسلمين فِي دينهم ودنياهم وَهُوَ إِنَّمَا يَصح بالاستقامة على السّنة وَالْوُقُوف مَعَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْحَال الشيطاني نسبته أما شرك أَو فجور وَهُوَ ينشأ من قرب الشَّيَاطِين والاتصال بهم ومشابهتهم وَهَذَا الْحَال يكون لعباد الْأَصْنَام والصلبان والنيران والشيطان فَإِن صَاحبه لما عبد الشَّيْطَان خلع عَلَيْهِ حَالا يصطاد بِهِ ضعفاء الْعُقُول وَالْإِيمَان وَلَا إِلَه إِلَّا الله كم هلك بهؤلاء من الْخلق ليردوهم وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ فَكل حَال خرج صَاحبه عَن حكم الْكتاب وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول فَهُوَ شيطاني كَائِنا مَا كَانَ وَقد سَمِعت بأحوال السَّحَرَة وَعباد النَّار وَعباد الصَّلِيب وَكثير مِمَّن ينتسب إِلَى الْإِسْلَام ظَاهرا وَهُوَ بَرِيء مِنْهُ فِي الْبَاطِن لَهُ نصيب من هَذَا الْحَال بِحَسب موالاته للشَّيْطَان ومعاداته للرحمن وَقد يكون الرجل صَادِقا وَلَكِن يكون ملبوسا عَلَيْهِ بجهله فَيكون حَاله شيطانيا مَعَ زهد وَعبادَة وإخلاص لَكِن لبس عَلَيْهِ الْأَمر لقلَّة علمه بِأُمُور الشَّيَاطِين وَالْمَلَائِكَة وجهله بحقائق الْإِيمَان وَقد حكى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء من لَيْسَ مِنْهُم بل هُوَ متشبه صَاحب مخاييل ومخاريق وَوَقع النَّاس فِي الْبلَاء بِسَبَب عدم التَّمْيِيز بَين هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء فَحَسبُوا كل سَوْدَاء تَمْرَة وكل بَيْضَاء شحمة وَالْفرْقَان اعز مَا فِي هَذَا الْعَالم وَهُوَ نور يقذفه الله فِي الْقلب يفرق بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل ويزن بِهِ حقائق الْأُمُور خَيرهَا وشرها وصالحها وفاسدها فَمن عدم الْفرْقَان وَقع وَلَا بُد فِي إشراك الشَّيْطَان فَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان فصل وَالْفرق بَين الحكم الْمنزل الْوَاجِب الِاتِّبَاع وَالْحكم المؤول الَّذِي غَايَته ان يكون جَائِز الِاتِّبَاع أَن الحكم الْمنزل هُوَ الَّذِي أنزلهُ الله على رَسُوله وَحكم بِهِ بَين عباده وَهُوَ حكمه الَّذِي لَا حكم لَهُ سواهُ وَأما الحكم المؤول فَهُوَ أَقْوَال الْمُجْتَهدين الْمُخْتَلفَة الَّتِي لَا يجب اتباعها وَلَا يكفر وَلَا يفسق من خالفها فَإِن أَصْحَابهَا لم يَقُولُوا هَذَا حكم الله وَرَسُوله بل قَالُوا اجتهدنا برأينا فَمن شَاءَ قبله وَمن شَاءَ لم يقبله وَلم يلزموا بِهِ الْأمة بل قَالَ أَبُو حنيفَة هَذَا رَأْي فَمن جَاءَنِي بِخَير مِنْهُ قبلناه وَلَو كَانَ هُوَ عين حكم الله لما سَاغَ لأبى يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهمَا مُخَالفَته فِيهِ وَكَذَلِكَ مَالك استشاره الرشيد أَن يحمل النَّاس على مَا فِي الْمُوَطَّأ فَمَنعه من ذَلِك وَقَالَ قد تفرق أَصْحَاب رَسُول الله

فِي الْبِلَاد وَصَارَ عِنْد كل قوم علم غير مَا عِنْد الآخرين وَهَذَا الشَّافِعِي ينْهَى أَصْحَابه عَن تَقْلِيده ويوصيهم بترك قَوْله إِذا جَاءَ الحَدِيث بِخِلَافِهِ وَهَذَا الإِمَام أَحْمد يُنكر على من كتب فَتَاوَاهُ ودونها وَيَقُول لَا تقلدني وَلَا تقلد فلَانا وَلَا فلَانا وَخذ من حَيْثُ أخذُوا وَلَو علمُوا رَضِي الله عَنْهُم أَن أَقْوَالهم يجب اتباعها لحرموا على أَصْحَابهم مخالفتهم وَلما سَاغَ لأصحابهم أَن يفتوا بخلافهم فِي شَيْء وَلما كَانَ أحدهم يَقُول القَوْل ثمَّ يُفْتِي بِخِلَافِهِ فيروي عَنهُ فِي الْمَسْأَلَة الْقَوْلَانِ وَالثَّلَاثَة وَأكْثر من ذَلِك فَالرَّأْي وَالِاجْتِهَاد أحس أَحْوَاله أَن يسوغ اتِّبَاعه وَالْحكم الْمنزل لَا يحل لمُسلم أَن يُخَالِفهُ وَلَا يخرج عَنهُ وَأما الحكم الْمُبدل وَهُوَ الحكم بِغَيْر مَا أنزل الله فَلَا يحل تنفيذه وَلَا الْعَمَل بِهِ وَلَا يسوغ اتِّبَاعه وَصَاحبه بَين الْكفْر والفسوق وَالظُّلم وَالْمَقْصُود التَّنْبِيه على بعض أَحْوَال النَّفس المطمئنة واللوامة والأمارة وَمَا تشترك فِيهِ النُّفُوس الثَّلَاثَة وَمَا يتَمَيَّز بِهِ بَعْضهَا من بعض وأفعال كل وَاحِدَة مِنْهَا واختلافها ومقاصدها ونياتها وَفِي ذَلِك تَنْبِيه على مَا وَرَاءه وَهِي نفس وَاحِدَة تكون أَمارَة تَارَة ولوامة أُخْرَى ومطمئنة أُخْرَى وَأكْثر النَّاس الْغَالِب عَلَيْهِم الأمارة وَأما المطمئنة فَهِيَ اقل النُّفُوس البشرية عددا وَأَعْظَمهَا عِنْد الله قدرا وَهِي الَّتِي يُقَال لَهَا ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَسْئُول المرجو الْإِجَابَة الْإِجَابَة أَن يَجْعَل نفوسنا مطمئنة إِلَيْهِ عاكفة بهمتها عَلَيْهِ راهبة مِنْهُ راغبة فِيمَا لَدَيْهِ وان يعيذنا من شرور أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا وَأَن لَا يجعلنا مِمَّن أغفل قلبه عَن ذكره وَاتبع هَوَاهُ وَكَانَ أمره فرطا وَلَا يجعلنا من الأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا أَنه سميع الدُّعَاء وَأهل الرَّجَاء وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل تمّ الْكتاب

§1/1