الرسل والرسالات

سليمان الأشقر، عمر

الباب الأول الرسل والأنبياء

الباب الأول الرسل والأنبياء التعريف بالنبي والرسول والفرق بينهما المطلب الأول تعريف النبي (¬1) النبي - في لغة العرب - مشتق من النبأ وهو الخبر، قال تعالى: (عمَّ يتساءلون - عن النبأ العظيم) [النبأ: 1-2] . وإنّما سمّي النبيُّ نبيّاً لأنه مُخْبرٌ مُخْبَر، فهو مُخْبَر، أي: أنَّ الله أخبره، وأوحى إليه (قالت من أنبأك هذا قال نَبَّأَنِيَ العليم الخبير) [التحريم: 3] ، وهو مُخْبرٌ عن الله تعالى أمره ووحيه (نَبِّئْ عبادي أنّي أنا الغفور الرَّحيم) [الحجر: 49] (وَنَبِّئْهُمْ عن ضيف إبراهيم) [الحجر: 51] . وقيل: النبوة مشتقة من النَّبْوَة، وهي ما ارتفع من الأرض، وتطلق العرب لفظ النبيّ على علم من أعلام الأرض التي يهتدى بها، والمناسبة بين لفظ النبي والمعنى اللغوي، أنَّ النبيَّ ذو رفعة وقدر عظيم في الدنيا والآخرة، فالأنبياء هم أشرف الخلق، وهم الأعلام التي يهتدي بها الناس فتصلح دنياهم وأخراهم. المطلب الثاني تعريف الرسول (¬2) الإرسال في اللغة التوجيه، فإذا بعثت شخصاً في مهمة فهو رسولك، قال تعالى حاكياً قول ملكة سبأ: (وإني مرسلة إليهم بهديَّةٍ فناظرة بم يرجع المرسلون) [النمل: 35] ، وقد يريدون بالرسول ذلك الشخص الذي يتابع ¬

(¬1) راجع في هذه المسألة: لسان العرب: 3/561، 573، بصائر ذوي التمييز: 5/14، لوامع الأنوار البهية: 1/49، 2/265. (¬2) راجع في هذه المسألة: لسان العرب: (2/1166-1167) ، المصباح المنير: ص266.

أخبار الذي بعثه، أخذاً من قول العرب: " جاءت الإبلُ رَسَلاً " أي: متتابعة. وعلى ذلك فالرُّسل إنّما سمّوا بذلك لأنَّهم وُجّهوا من قبل الله تعالى: (ثُمَّ أرسلنا رسلنا تتراً) [المؤمنون: 44] ، وهم مبعوثون برسالة معينة مُكلَّفون بحملها وتبليغها ومتابعتها. المطلب الثالث الفرق بين الرسول والنبيّ لا يصحُّ قول من ذهب إلى أنه لا فرق بين الرسول والنبيّ، ويدلُّ على بطلان هذا القول ما ورد في عدة الأنبياء والرسل، فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، وعدَّة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً (¬1) ، ويدلّ على الفرق أيضاً ما ورد في كتاب الله من عطف النبيِّ على الرسول (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي إلاَّ إذا تمنَّى ألقى الشَّيطان في أُمنيَّته) [الحج: 52] ، ووصف بعض رسله بالنبوة والرسالة مما يدُل على أن الرسالة أمر زائد على النبوة، كقوله في حقِّ موسى عليه السلام: (واذكر في الكتاب موسى إنَّه كان مخلصاً وكان رسولاً نبيَّاً) [مريم: 51] . والشائع عند العلماء أنَّ النبي أعم من الرسول، فالرسول هو من أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه، والنبيُّ من أوحي إليه ولم يؤمر بالبلاغ، وعلى ذلك فكلُّ رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً (¬2) . وهذا الذي ذكروه هنا بعيد لأمور: الأول: أن الله نصَّ على أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي ... ) [الحج: 52] ، فإذا كان الفارق بينهما هو الأمر بالبلاغ فالإرسال يقتضي من النبيّ البلاغ. الثاني: أنَّ ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى، والله لا ينزل وحيه ليكتم ويدفن في صدر واحد من الناس، ثمَّ يموت هذا العلم بموته. ¬

(¬1) حديث صحيح رواه أحمد في مسنده حديث رقم: (21546، 21552) طبعة الرسالة. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية: (167) ، لوامع الأنوار البهية: (1/49) ، وانظر كلام الشيخ ناصر الدين الألباني على أسانيده في سلسلة الصحيحة: 2668.

الثالث: قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه ابن عباس: " عرضت عليَّ الأمم، فجعل يمرُّ النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد " (¬1) . فدلّ هذا على أنَّ الأنبياء مأمورون بالبلاغ، وأنَّهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم. والتعريف المختار أنَّ " الرسولَ مَنْ أُوحي إليه بشرع جديد، والنبيَّ هو المبعوث لتقرير شرع من قبله " (¬2) . وقد " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ ". كما ثبت في الحديث (¬3) ، وأنبياء بني إسرائيل كلّهم مبعوثون بشريعة موسى: التوراة وكانوا مأمورين بإبلاغ قومهم وحي الله إليهم (ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لَّهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألاَّ تقاتلوا ... ) [البقرة: 246] فالنبي كما يظهر من الآية يُوحَى إليه شيء يوجب على قومه أمراً، وهذا لا يكون إلا مع وجوب التبليغ. واعتبر في هذا بحال داود وسليمان وزكريا ويحي فهؤلاء جميعاً أنبياء، وقد كانوا يقومون بسياسة بني إسرائيل، والحكم بينهم وإبلاغهم الحق، والله أعلم بالصواب. أهمية الإيمان بالرّسل المطلب الأول الإيمان بالأنبياء والرسل من أصول الإيمان الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، قال تعالى: (قل آمنَّا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وَالنَّبِيُّونَ من رَّبهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له ¬

(¬1) رواه البخاري: 5752، ومسلم: 220، واللفظ للبخاري. (¬2) تفسير الآلوسي: (7/157) . (¬3) رواه البخاري عن أبي هريرة: 3455.

مسلمون) [آل عمران: 84] . ومن لم يؤمن بالرسل ضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً) [النساء: 136] . المطلب الثاني الصلة بين الإيمان بالله والإيمان بالرسل والرسالات الذين يزعمون أنَّهم مؤمنون بالله ولكنّهم يكفرون بالرسل والكتب هؤلاء لا يقدرون الله حقَّ قدره، (وما قدروا الله حقَّ قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيءٍ) [الأنعام: 91] . فالذين يقدرون الله حقَّ قدره، ويعلمون صفاته التي اتصف بها من العلم والحكمة والرحمة لا بدَّ أن يوقنوا بأنَّه أرسل الرسل وأنزل الكتب، لأن هذا مقتضى صفاته، فهو لم يخلق الخلق عبثاً، (أيحسب الإنسان أن يترك سُدًى) [القيامة: 36] . ومن كفر بالرسل وهو يزعم أنَّه يؤمن بالله فهو عند الله كافر لا ينفعه إيمانه، قال تعالى: (إنَّ الَّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلاً - أولئك هم الكافرون حقّاً) [النساء: 150-151] . فقد نصَّت الآية على كفر من زعم الإيمان بالله وكفر بالرسل (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) ، يقول القرطبي في هذه الآية: " نصّ سبحانه على أنَّ التفريق بين الله ورسله كفر، وإنَّما كان كفراً لأنَّ الله فرض على الناس أن يعبدوه بما شرعه على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردّوا عليهم شرائعهم، ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أُمروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية، وكذلك التفريق بين الله ورسله " (¬1) . سس زيادة المطلب الثالث وجوب الإيمان بجميع الرسل الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل، قال تعالى: (كذَّبت قوم نوحٍ المرسلين) [الشعراء: 105] ، وقال: (كذَّبت عاد المرسلين) [الشعراء: 123] ، وقال: (كذَّبت ثمود المرسلين) [الشعراء: 141] ، وقال: (كذَّبت قوم لوطٍ المرسلين) [الشعراء: 160] ، ومن المعروف أنَّ كلَّ أمةٍ كذَّبت رسولها، إلا أن التكذيب برسول واحد يعدّ تكذيباً بالرسل كلِّهم، ذلك أنَّ الرسل حملة رسالة واحدة، ودعاة دين واحد، ومرسلهم واحد، فهم وحدة، يبشر المتقدم منهم بالمتأخر، ويصدق المتأخر المتقدم. ومن هنا كان الإيمان ببعض الرسل والكفر ببعض كفراً بهم جميعاً، وقد وسم الله من هذا حاله بالكفر (إنَّ الَّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلاً - أولئك هم الكافرون حقّاً) [النساء: 150-151] ، وقد أمرنا الله بعدم التفريق بين الرسل والإيمان بهم جميعاً (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي النبيُّون من رَّبهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون) [البقرة: 136] ، ومن سار على هذا النهج فقد اهتدى (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) [البقرة: 137] ، والذي يخالفه فقد ضلَّ وغوى (وَّإن تولَّوا فإنَّما هم في شقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وهو السَّميع العليم) [البقرة: 137] . وقد مدح الله رسول هذه الأمة والمؤمنين الذين تابعوه لإيمانهم بالرسل كلهم، ولعدم تفريقهم بينهم، قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من رَّبه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رُّسله) [البقرة: 285] . ووعد الله الذين لم يفرقوا بين الرسل بالمثوبة والأجر الكريم (والَّذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحدٍ منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رَّحيماً) [النساء: 152] . وقد ذم الله أهل الكتاب لإيمانهم ببعض الرسل وكفرهم ببعض (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وَرَاءهُ وهو الحقُّ مصدقاً لما معهم) [البقرة: 91] . فاليهود لا يؤمنون بعيسى ولا بمحمد، والنصارى لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. عدد الأنبياء والطريق إلى معرفتهم المطلب الأول ¬

(¬1) تفسير القرطبي: (6/5) .

الأنبياء والرسل جمّ غفير اقتضت حكمة الله - تعالى - في الأمم قبل هذه الأمّة أن يرسل في كلّ منها نذيراً، ولم يرسل رسولاً للبشرية كلّها إلاّ محمداً صلى الله عليه وسلم، واقتضى عدله ألاّ يعذب أحداً من الخلق إلاّ بعد أن تقوم عليه الحجة: (وما كنَّا معذبين حتَّى نبعث رسولاً) [الإسراء: 15] . من هنا كثر الأنبياء والرسل في تاريخ البشرية كثرة هائلة، قال تعالى: (وإن من أمَّةٍ إلاَّ خلا فيها نذيرٌ) [فاطر: 24] . وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدّة الأنبياء والمرسلين، فعن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: " ثلاثمائة وبضعة عشر جمّاً غفيراً " وقال مرة: " خمسة عشر "، وفي رواية أبي أمامة، قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرُّسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غفيراً " (¬1) . من الأنبياء والرسل من لم يقصصهم الله علينا: وهذا العدد الكبير للأنبياء والرسل يدلنا على أنَّ الذين نعرف أسماءهم من الرسل والأنبياء قليل، وأنَّ هناك أعداداً كثيرة لا نعرفها، وقد صرّح القرآن بذلك في أكثر من موضع، قال تعالى: (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك) [النساء: 164] ، وقال: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم مَّن قصصنا عليك ومنهم من لَّم نقصص عليك) [غافر: 78] . فالذين أخبرنا الله بأسمائهم في كتابه أو أخبرنا بهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أنّ نكذّبَ بهم، ومع ذلك فنؤمن أنَّ لله رسلاً وأنبياء لا نعلمهم. ¬

(¬1) عزاه التبريزي في مشكاة المصابيح: (3/122) إلى أحمد في مسنده، وقد حكم الألباني عليه بالصحة، وقد أطال الشيخ الألباني الكلام في تخريجه من كتب السنة، وبيان أسانيده في كتب السنن وأقوال العلماء فيه في (سلسلة الصحيحة: ورقمها فيها (2668) وقال مجملاً القول فيه: " وجملة القول: إن عدد الرسل المذكورين في حديث الترجمة صحيح لذاته، وأن عدد الأنبياء المذكورين في أحد طرقه، وفي حديث أبي ذر من ثلاث طرق، فهو صحيح لغيره " وانظر الحديث في مسند أحمد برقم: (21546، 21552، 22288) طبعة مؤسسة الرسالة، فقد حكم الشيخ شعيب الأرنؤوط على طرقه وأسانيده بالضعف.

المطلب الثاني الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن ذكر الله في كتابه خمسة وعشرين نبياً ورسولاً، فذكر في مواضع متفرقة آدم وهوداً وصالحاً وشعيباً وإسماعيل وإدريس وذا الكفل ومحمداً عليهم السلام. قال تعالى: (إنَّ الله اصطفى آدم ... ) [آل عمران: 33] ، وقال: (وإلى عادٍ أخاهم هوداً) [هود: 50] ، (وإلى ثمود أخاهم صالحاً) [هود: 61] ، (وإلى مدين أخاهم شعيباً) [هود: 84] ، (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلٌّ من الصَّابرين) [الأنبياء: 85] (مُّحمَّدٌ رَّسول الله ... ) [الفتح: 29] . وذكر ثمانية عشر منهم في موضع واحد في سورة الأنعام (وتلك حجَّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ مَّن نشاء إنَّ ربَّك حكيم عليمٌ - ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاًّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذُريَّته داود وسليمان وأيُّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين - وزكريَّا ويحى وعيسى وإلياس كلٌّ من الصَّالحين - وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاًّ فضَّلنا على العالمين) [الأنعام: 83-86] . أربعة من العرب: من هؤلاء الخمسة والعشرين أربعة من العرب، فقد جاء في حديث أبي ذر في ذكر الأنبياء والمرسلين: " منهم أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر" (¬1) . ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل: العرب العاربة، وأمّا العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل (¬2) ، وهود وصالح كانا من العرب العاربة. الأسباط: ¬

(¬1) رواه ابن حبان في صحيحه: 2/76 (361) ، وقال الشيخ شعيب: إسناده ضعيف جداً " صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان " طبعة مؤسسة الرسالة، البداية والنهاية: (1/120) . (¬2) البداية والنهاية: (1/119-120) .

الأنبياء الذين سبق ذكرهم مذكورون في القرآن بأسمائهم، وهنا بعض الأنبياء أشار القرآن إلى نبوتهم، ولكننا لا نعرف أسماءهم، وهم الأسباط، والأسباط هم أولاد يعقوب، وقد كانوا اثني عشر رجلاً عرّفنا القرآن باسم واحد منهم وهو يوسف، والباقي وعددهم أحد عشر رجلاً لم يعرفنا الله بأسمائهم، ولكنه أخبرنا بأنّه أوحى إليهم، قال تعالى: (قولوا آمنَّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) [البقرة: 136] . وقال: (أم تقولون إنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى..) [البقرة: 140] .

المطلب الثالث أنبياء عرفناهم من السنّة هناك أنبياء عرفناهم من السنة، ولم ينصّ القرآن على أسمائهم، وهم: 1- شيث: يقول ابن كثير: " وكان نبيّاً بنصّ الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر مرفوعاً أنّه أنزل عليه خمسون صحيفة " (¬1) . 2- يوشع بن نون: روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " غزا نبيٌّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولمّا يبنِ، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها، قال: فغزا، فأدنى للقرية حين صلاةِ العصر، أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهمَّ احبسها عليَّ شيئاً، فحسبت عليه حتى فتح الله عليه " (¬2) . والدليل على أنَّ هذا النبيّ هو يوشع قوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الشمس لم تحبس إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس " (¬3) . المطلب الرابع صالحون مشكوكٌ في نبوتهم 1- ذو القرنين: ذكر الله خبر ذي القرنين في آخر سورة الكهف، ومما أخبر الله به عنه أنه خاطبه (قلنا يا ذا القرنين إمَّا أن تعذب وإمَّا أن تتَّخذ فيهم حسناً) [الكهف: 86] . ¬

(¬1) البداية والنهاية: (1/99) . (¬2) رواه البخاري: 3124، ومسلم: 1747، واللفظ لمسلم. (¬3) قال ابن كثير في البداية والنهاية: (1/323) انفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط البخاري. وهو في " مسند أحمد" 14/65 (8315) طبعة مؤسسة الرسالة.

فهل كان هذا الخطاب بواسطة نبيّ كان معه، أو كان هو نبيّاً؟ جزم الفخر الرازي بنبوته (¬1) ، وقال ابن حجر: " وهذا مرويٌّ عن عبد الله بن عمرو، وعليه ظاهر القرآن " (¬2) ومن الذين نفوا نبوته عليُّ بن أبي طالب (¬3) . 2- تبع: ورد ذكر تبع في القرآن الكريم، قال تعالى: (أهم خير أم قوم تُبَّعٍ والَّذين من قبلهم أهلكناهم إنَّهم كانوا مجرمين) [الدخان: 37] ، وقال: (كذَّبت قبلهم قوم نوحٍ وأصحاب الرَّس وثمود - وعادٌ وفرعون وإخوان لوطٍ - وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّعٍ كلٌّ كذَّب الرُّسل فحقَّ وعيد) [ق: 12-14] ، فهل كان نبيّاً مرسلاً إلى قومه فكذبوه فأهلكهم الله؟ الله أعلم بذلك. الأفضل التوقف في أمر ذي القرنين وتُبّع: والأفضل أن يتوقف في إثبات النبوة لهذين، لأنه صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أدري أتُبّع نبيّاً أم لا، وما أدري ذا القرين نبياً أم لا " (¬4) . فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري، فنحن أحرى بأن لا ندري. 3- الخضر: الخضر هو العبد الصالح الذي رحل إليه موسى ليطلب منه علماً، وقد حدثنا الله عن خبرهما في سورة الكهف. وسياق القصة يدلّ على نبوته من وجوه (¬5) : أحدها: قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا ¬

(¬1) فتح الباري: (6/382) . (¬2) المصدر السابق. (¬3) هذا الأثر أخرجه الحاكم عن علي، وقال: سنده صحيح، انظر فتح الباري: (6/382) . (¬4) رواه الحاكم والبيهقي: (انظر صحيح الجامع الصغير: (5/121) . (¬5) ذكر هذه الوجوه ابن كثير في البداية والنهاية: (1/326) .

وعلَّمناه من لَّدُنَّا علماً) [الكهف: 65] ، والأظهر أنّ هذه الرحمة هي رحمة النبوة، وهذا العلم هو ما يوحى إليه به من قبل الله. الثاني: قول موسى له: (هل أتَّبعك على أن تعلمن ممَّا عُلمت رُشداً - قال إنَّك لن تستطيع معي صبراً - وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً - قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصى لك أمراً - قال فإن اتَّبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتَّى أُحدث لك منه ذكراً) [الكهف: 66-70] فلو كان غير نبيّ لم يكون معصوماً، ولم يكن لموسى - وهو نبيٌّ عظيم، ورسول كريم، واجب العصمة - كبيرُ رغبةٍ، ولا عظيم طلبة في علم وَليَّ غير واجب العصمة، ولما عزم على الذهاب إليه، والتفتيش عنه، ولو أنَّه يمضي حقباً من الزمان، قيل: ثمانين سنة، ثمَّ لما اجتمع به، تواضع له، وعظّمه، واتبعه في صورة مستفيد منه، دلّ على أنه نبيٌّ مثله، يوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خصّ من العلوم اللدنيَّة والأسرار النبويَّة بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم، نبيّ بني إسرائيل الكريم. الثالث: أنّ الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام، وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام، وهذا دليل مستقلٌّ على نبوتَّه، وبرهان ظاهر على عصمته (¬1) ، لأنَّ الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده، لأنَّ خاطره ليس بواجب العصمة، إذ يجوز الخطأ عليه بالاتفاق، ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم علماً منه بأنّه إذا بلغ يكفر، ويحمل أبويه على الكفر لشّدة محبتهما له، فيتابعانه عليه، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته دلّ ذلك على نبوته وأنّه مؤيد من الله بعصمته. ¬

(¬1) ضلَّ أقوام من هذه الأمة إذ ينتكهون الحرمات، ويرتكبون المنهيات، فإذا أنكر عليهم منكر، قالوا: حقيقة الأمر الخافية غير المظهرة البائنة، ويحتجون على ذلك بقصة الخضر، وإفساده للسفينة، وقتله للغلام، وهذا ضلال كبير، يفتح باب الشر ولا يستطاع إغلاقه بعد ذلك، والقول بنبوة الخضر يغلق هذا الباب، ثمَّ ليس لأحد من هذه الأمة أن يخالف الشريعة الإسلامية، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرّمه الله، فمن رام خلاف الشريعة عوقب معاقبة المخالف، وإن زعم ما زعم. ومما ينبغي التنبيه إليه أن موسى صاحب شريعة لم يكن له أن يخالفها، ولذلك أنكر على الخضر قتله الغلام، لأنّه محرم في شريعته، ومن هنا اختار فراقه، والعودة إلى قومه.

الرابع: أنّه لمَّا فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لموسى، ووضح له عن حقيقة أمره وجلاَّه، قال بعد ذلك كلّه: (رحمةً من رَّبك وما فعلته عن أمري) [الكهف: 82] ، يعني ما فعلته من تلقاء نفسي، بل أمرت به، وأوحي إليّ فيه (¬1) . ¬

(¬1) ذهب جمع كثير من العلماء إلى أن الخضر حي لم يمت، وقد وردت في ذلك أخبار كثيرة، وقد فتح القول بحياته باباً للخرافة والدجل، فأخذ كثير من الناس يزعم أنّهم قابلوا الخضر، وأنّه وصّاهم بوصايا، وأمرهم بأوامر، ويروون في ذلك حكايات غريبة، وأخباراً يأباها العقل السليم. وقد ذهب إلى تضعيف هذه الأخبار جمع من كبار المحدثين منهم البخاري، وابن دحية، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، وأقوى ما يردُّ به على هؤلاء القائلين بحياته أنه لم يصح في ذلك حديث، وأنو لو كان حياً لكان فرض عليه أن يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتابعه وينصره، فقد أخذ الله العهد على الأنبياء من قبل بالإيمان بمحمد ونصرته إذا أدركه زمانه (وإذ أخذ الله ميثاق النَّبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثُمَّ جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشَّاهدين) [آل عمران: 81] ، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعه. وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس، وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما، فقال أحمد: من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا الشيطان. (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/337) . وسُئل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد" (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/337) ..وقد أطال جماعة من محققي العلماء في إيراد الأدلة المبطلة لهذه الخرافة، منهم ابن كثير في البداية والنهاية (1/326) والشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (4/184) ، وقد ألف ابن حجر العسقلاني رسالة في ذلك سمّاها: الزهر النضر في نبأ الخضر، وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية: 2/195.

المطلب الخامس لا نثبت النبوة لأحد إلاّ بدليل يذكر علماء التفسير والسير أسماء كثير من الأنبياء نقلاً عن بني إسرائيل، أو اعتماداً على أقوال لم تثبت صحتها، فإن خالفت هذه النقول شيئاً مما ثبت عندنا من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم رفضناها، كقول الذين قالوا: " إنَّ الرسل ثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى، وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين بعد عيسى " (¬1) . نردّ هذّا كله، لأنَّه ثبت في الحديث الصحيح أنّه ليس بين عيسى ابن مريم وبين رسولنا صلوات الله وسلامه عليهما نبيٌّ (¬2) .، فالرسل المذكورون في آية سورة يس إما رسل بعثوا قبل عيسى، وهذا هو الراجح، أو هم - كما يقول بعض المفسرين - مبعوثون من قبل عيسى وهذا بعيد، لأ، الله أخبر أنّه مرسلهم، والرسول عند الإطلاق ينصرف إلى الاصطلاح المعروف، وما ورد من أنَّ خالد بن سنان نبي عربي ضيعه قومه فهو حديث لا يصحُّ، وهو مخالف لحديث صحيح أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أنَّ عدد الأنبياء الذين من العرب أربعة (¬3) . أما ما ورد عن بني إسرائيل من أخبار بتسمية بعض الأنبياء مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة، فلا نكذَّبه، ولا نصدّق به، لأنَّ خبرهم يحتمل الصدق والكذب. ¬

(¬1) فتح الباري: (6/489) . (¬2) حديث صحيح رواه البخاري: (3442) ومسلم: (2365) ونصه: " ليس بيني وبينه نبي ". (¬3) رواه ابن حبان في صحيحه: 2/76 (361) .

حَاجة البشريّة إلى الرّسُل والرّسَالات

تمهيد: حَاجة البشريّة إلى الرّسُل والرّسَالات تمهيد إذا كان الناس في القديم يجادلون الرسل، ويرفضون علومهم، ويعرضون عنهم فإن البشر اليوم في القرن العشرين - حيث بلغت البشرية ذروة التقدم المادي، فغاصت في أعماق البحار، وانطلقت بعيداً في أجواز الفضاء، وفجرت الذرة، وكشفت كثيراً من القوى الكونية الكامنة في هذا الوجود - أشدُّ جدالاً للرسل، وأكثر رفضاً لعلومهم، وأعظم إعراضاً عنهم، وحال البشر اليوم من الرسل وتعاليمهم كحال الحمر المستنفرة حين ترى الأسد فتفرّ لا تلوي على شيء، قال تعالى: (فما لهم عن التَّذكرة معرضين - كأنَّهم حمرٌ مُّستنفرةٌ - فرَّت من قسورة) [المدثر: 49-51] . والبشر - اليوم - يأبون أكثر من قبل التسليم للرسل وتعاليمهم اغتراراً بعلومهم، واستكباراً عن متابعة رجال عاشوا في عصور متقدمة على عصورهم (ذلك بأنَّه كانت تَّأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولَّوا واستغنى الله والله غنيٌّ حميدٌ) [التغابن: 6] . واليوم ينفخ شياطين الإنس في عقول البشر يدعونهم إلى التمرد على الله وعلى شريعة الله، ورفض تعاليم الرسل، بحجة أنَّ في شريعة الله حجراً على عقولهم، وتوقيفاً لركب الحياة، وتجميداً للحضارة والرقي ّ، وقد أقامت الدول اليوم نظمها وقوانينها وتشريعاتها على رفض تعاليم الرسل، بل إنَّ بعض الدول تضع الإلحاد مبدأ دستورياً، وهو الذي يسمى بالعلمانية، وكثير من الدول التي

تتحكم في رقاب المسلمين تسير على هذا النهج، وقد ترضى عوامّ الناس بأن تضع مادة في دستورها تقول: دين الدولة الإسلام، ثمَّ تهدم هذه المادة بالموادّ السابقة واللاحقة، والتشريعات التي تحكم العباد. فهل صحيح أنَّ البشرية بلغت - اليوم - مبلغاً يجعلها تستغني عن الرسل وتعاليم الرسل؟ وهل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيداً عن منهج الرسل؟ يكفي في الإجابة أن ننظر في حال تلك الدول التي نسميها متقدمة متحضرة كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين - لنعلم مدى الشقاء الذي يغشاهم، نحن لا ننكر أنَّهم بلغوا في التقدّم المادي شأواً بعيداً، ولكنّهم في الجانب الآخر الذي جاء الرسل وجاءت تعاليمهم لإصلاحه انحدروا انحداراً بعيداً. لا ينكر أحد أنَّ الهموم والأوجاع النفسية والعقد النفسية - اليوم - سمة العالم المتحضر، الإنسان في العالم المتحضر اليوم فقد إنسانيته، خسر نفسه، ولذلك فإن الشباب هناك يتمردون، يتمردون على القيم والأخلاق والأوضاع والقوانين، أخذوا يرفضون حياتهم التي يعيشونها، وأخذوا يتبعون كل ناعق من الشرق أو الغرب يلوِّح لهم بفلسفة أو دروشة أو سفسطة يظنون فيه هناءهم، لقد تحوّل عالم الغرب إلى عالم تنخر الجريمة عظامه، وتقوده الانحرافات والضياع، لقد زلزلت الفضائح أركان الدول الكبرى، والخافي أعظم وأكثر من البادي، إن الذين يسمّون - اليوم - بالعالم المتحضر يخربون بيوتهم بأيديهم، حضارتهم تقتلهم، حضارتهم تفرز سموماً تسري فيهم فتقتل الأفراد، وتفرق المجتمعات، الذين نسميهم اليوم بالعالم المتحضر كالطائر الجبّار الذي يريد أن يحلق في أجواز الفضاء بجناح واحد. إننا بحاجة إلى الرسل وتعاليمهم لصلاح قلوبنا، وإنارة نفوسنا، وهداية عقولنا ... ونحن بحاجة إلى الرسل كي نعرف وجهتنا في الحياة، وعلاقتنا بالحياة وخالق الحياة. نحن بحاجة إلى الرسل كيلا ننحرف أو نزيغ فنقع في المسنقع الآسن.

ابن القيم يبين مدى الحاجة إلى الرسل: يقول ابن القيم مبيناً حاجة العباد إلى الرسل وتعاليمهم: " ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلاّ على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلاّ من جهتهم، ولا يُنال رضا الله ألبتة إلاّ على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلاّ هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح، الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأيّ ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير. وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحسُّ بهذا إلاّ قلبٌّ حيٌّ. ما لجرح بميت إيلام (¬1) وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه، وأحبَّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقلٍّ، ومستكثر، ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو فضل عظيم " (¬2) . ابن تيمية يبين الحاجة إلى الرسل والرسالات: وممن جلى هذه المسألة وبينها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ¬

(¬1) عجز بيت للمتنبي وصدره: من يهن يسهل الهوان عليه وهو في ديوانه: 4/277 من قصيدة يمدح بها أبا الحسن علي بن أحمد المري الخراساني. (¬2) زاد المعاد: (1/15) .

قال: " الرسالة ضرورية للعباد، لا بدَّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأيُّ صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النَّاس كمن مَّثله في الظُّلمات ليس بخارجٍ منها) [الأنعام: 122] ، فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وأمّا الكافر فميت القلب في الظلمات ". وبين رحمه الله تعالى: " أن الله سمّى رسالته روحاً، والروح إذا عدم فقدت الحياة، قال الله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نَّهدي به من نَّشاء من عبادنا) [الشورى: 52] ، فذكر هنا الأصلين، وهما: الروح، والنور، فالروح الحياة، والنور النور " وبين رحمه الله تعالى: " أن الله يضرب الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونوراً لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض، وبالنَّار التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: (أنزل من السَّماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السَّيل زبداً رَّابياً وممَّا يوقدون عليه في النَّار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحقَّ والباطل فأمَّا الزَّبد فيذهب جفاءً وأمَّا ما ينفع النَّاس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) [الرعد: 17] . يقول شيخ الإسلام رحمه الله معقباً على الآية: " فشبه العلم بالماء المنزل من السماء لأن به حياة القلوب، كما أنَّ بالماء حياة الأبدان، وشبّه القلوب بالأودية، لأنّها محلّ العلم، كما أنَّ الأودية محل الماء، فقلب يسع علماً كثيراً، وواد يسع ماءً كثيراً، وقلب يسع علماً قليلاً، وواد يسع ماءً قليلاً، وأخبر تعالى أنَّه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء، وأنّه يذهب جفاءً، أي: يرمى به، ويخفى، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر،

وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاءً، ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس، وقال: (وممَّا يوقدون عليه في النَّار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحقَّ والباطل) [الرعد: 17] . فهذا المثل الآخر وهو الناري، فالأول للحياة، والثاني للضياء. وبين رحمه الله أن لهذين المثالين نظيراً " وهما المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى: (مثلهم كمثل الَّذي استوقد ناراً فلمَّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون - صمُّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون - أو كصيبٍ من السَّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين) [البقرة: 17-19] . وبعد أن بيَّن الشيخ رحمه الله وصف المؤمن، بين وصف الكافر، فقال: " وأمّا الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حيّ، وإن كانت حياته حياة بهيمية، فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها الإيمان، وبها حصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، فإنّ الله - سبحانه - جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعاً بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه ". ثم بيّن رحمه الله هذه الأصول التي أشار إليها هنا فقال: " فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصّها الله على عباده والأمثال التي ضربها لهم. والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه. والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنّة والنار والثواب والعقاب ". ثم بيّن أنَّ " على هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلاّ من جهة الرسل، فإنَّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث

الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض، وتنزيل الدواء عليه " (¬1) . مقارنة بين حاجة العباد إلى علم الرسل وعلم الطب: عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم ((مفتاح دار السعادة)) مقارنة بيّن فيها أنّ حاجة الناس إلى الشريعة أعظم من حاجتهم إلى علم الطب مع شدّة حاجة الناس إليه لصلاح أبدانهم، فحاجتهم إلى الرسالة أعظم من حاجتهم إلى غيرها من العلوم، قال: " حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية، فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أنَّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأمَّا أهل البدو كلهم، وأهل الكفور كلّهم، وعامة بني آدم - لا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحُّ أبدانا، وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بالطبيب، ولعّل أعمارهم متقاربة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم، واجتناب ما يضرهم، وجعل لكلّ قوم عادة وعرفاً في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إنَّ كثيراً من أصول الطب إنما أخذت من عوائد الناس، وعرفهم وتجاربهم. وأمّا الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضا الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية، فمبناها على الوحي المحض، والحاجة إلى التنفس فضلاً عن الطعام والشراب، لأنّ غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن، وتعطل الروح عنه، وأما ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك الأبد، وشتان بني هذا وهلاك البدن بالموت، فليس النّاس قطّ إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ¬

(¬1) النصوص السابقة من هذا الحديث منقولة من مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/93-96.

ذلك ألبتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلاّ بالعبور على هذا الجسم " (¬1) . هل يمكن أن يستغني العقل عن الوحي: يزعم الناس في عالم اليوم أنّه يمكنهم الاستغناء عن الرسل والرسالات بالعقول التي وهبهم الله إياها، ولذلك نراهم يسنُّون القوانين، ويحلُّون ويحرمون، ويخططون ويوجهون، ومستندهم في ذلك كلّه أن عقولهم تستحسن ذلك أو تقبحه، وترضى به أو ترفضه، وهؤلاء لهم سلف قالوا مثل مقالتهم هذه " فالبراهمة - وهم طائفة من المجوس - زعموا أن إرسال الرسل عبث، لا يليق بالحكيم، لإغناء العقل عن الرسل، لأنّ ما جاءت به الرسل إن كان موافقاً للعقل حسناً عنده فهو يفعله، وإن لم يأت به، وإن كان مخالفاً قبيحاً - فإن احتاج إليه فعله وإلاّ تركه " (¬2) . ولا يجوز في مجال الحجاج والنزاع أن يبادر المسلم إلى إنكار قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح، " فإنّ الله قد فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح، وركب في عقولهم إدراك ذلك، والتمييز بين النوعين، كما فطرهم على الفرق بين النافع والضار والملائم لهم والمنافر، وركب في حواسهم إدراك ذلك، والتمييز بين أنواعه. والفطرة الأولى: (وهي فطرته العباد على الفرق بين الحسن والقبيح) هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات، وأما الفطرة الثانية (وهي فطرته للعباد على الفرق بين النافع والضار..) فمشتركة بين أصناف الحيوان " (¬3) والذي ينبغي أن ينازع فيه أمور: الأول: أنّ هناك أموراً هي مصلحة الإنسان لا يستطيع الإنسان إدراكها ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة: (2/2) . (¬2) لوامع الأنوار البهية: (2/256) . (¬3) مفتاح دار السعادة: 2/116.

بمجرد عقله، لأنها غير داخلة في مجال العقل ودائرته، " فمن أين للعقل معرفة الله - تعالى - بأسمائه وصفاته..؟ ومن أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده؟ ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعدّ لأوليائه، وما أعدّ لأعدائه، ومقادير الثواب والعقاب، وكيفيتهما، ودرجاتهما؟ ومن أين له معرفة الغيب الذي لم يُظهِر اللهُ عليه أحداً من خلقه إلاّ من ارتضاه من رسله إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل، وبلغته عن الله، وليس في العقل طريق إلى معرفته " (¬1) . الثاني: أن الذي يدرك العقل حسنه أو قبحه يدركه على سبيل الإجمال، ولا يستطيع أن يدرك تفاصيل ما جاء به الشرع، وإن أدركت التفاصيل فهو إدراك لبعض الجزئيات وليس إدراكاً كلياً شاملاً: " فالعقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلاً أو ظلماً فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كلّ فعل وعقد " (¬2) . الثالث: أن العقول قد تحار في الفعل الواحد، فقد يكون الفعل مشتملاً على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أو مصلحته، فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع بيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك، وتأتي الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من حيث هو مفسدة في حقّه، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة، والمفسدة الراجحة " (¬3) . وفي هذا يقول ابن تيمية: " الأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة: 2/117. (¬2) مفتاح دار السعادة: 2/117. (¬3) مفتاح دار السعادة: 2/117.

يجيئوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول " (¬1) . الرابع: ما يتوصل إليه العقل وإن كان صحيحاً، فإنه ليس إلا فرضيات، قد تجرفها الآراء المتناقضة، والمذاهب الملحدة. ولو استطاعت البقاء فإنها - في غيبة الوحي - ستكون تخمينات شتى، يلتبس فيها الحق بالباطل. بطلان قول البراهمة: والبراهمة الذين يزعمون أنّ العقل يغني عن الوحي لا نحتاج إلى إيراد الحجج لإبطال قولهم، وكل ما نفعله أن نوجه الأنظار إلى ما قادتهم إليه عقولهم التي زعموا أنهم يستغنون بها عن الوحي، هذا زعيم من زعمائهم في القرن العشرين يقول مفاخراً (¬2) : " عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً، لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع ". ولقد قاده عقله إلى تفضيل أمّه البقرة على أمّه التي ولدته: " وأمي البقرة تفضل أمّي الحقيقية من عدة وجوه، فالأمّ الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين، وتتطلب منّا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكنّ أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً، ولا تطلب منّا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي.. " ومضى عابد البقر يقارن بين أمّه البقرة وأمّه الحقيقية مورداً الحجج والبراهين على أفضلية أمّه البقرة على أمّه الحقيقية إلى أن قال: " إنّ ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعدّ نفسي واحداً من هؤلاء الملايين ". وقد قرأت منذ مدة في مجلة العربي التي تصدر في الكويت عن معبد فخم مكسو بالرخام الأبيض ترسل إليه الهدايا والألطاف - من شتى أنحاء الهند، بقي ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 2/312. (¬2) هو زعيم الهند غاندي، انظر أقواله في كتاب مقارنة الأديان: 4/32 (نظرات في النبوة ص 27) .

أن تعلم أنّ الآلهة التي تقدم لها القرابين وترسل لها النذور في ذلك المعبد الفخم إنّما هي الفئران. هذه بعض الترهات التي هدتهم إليها عقولهم التي زعموا أنّ فيها غنية عن الوحي الإلهي. مجالات العقل: إن الذين يريدون أن يستغنوا عن الوحي بالعقل يظلمون العقل ظلماً كبيراً، ويبددون طاقة العقل في غير مجالها، " إن للعقل اختصاصه وميدانه وطاقته، فإذا اشتغل خارج اختصاصه جانبه الصواب، وحالفه الشطط والتخبط، وإذا أجري في غير ميدانه كبا وتعثر، وإذا كلف فوق طاقته كان نصيبه العجز والكلال. إن العالم المادي المحسوس أو عالم الطبيعة هو ميدان العقل الفسيح الذي يصول فيه ويجول، فيستخرج مكنوناته، ويربط بين أسبابه وعلله، ومقدماته ونتائجه، فيكشف ويخترع، ويتبحّر في العلوم النافعة في مختلف ميادين الحياة، وتسير عجلة التقدم البشري إلى أمام. أما إذا كلف النظر خارج اختصاصه أعني ما وراء الطبيعة فإنه يرجع بعد طول البحث والعناء بما لا يروي غليلاً ولا يشفي عليلاً، بل يرجع بسخافات وشطحات " (¬1) . موقع العقل من الوحي: يزعم كثير من الناس أن الوحي يلغي العقل ويطمس نوره، ويورثه البلادة والخمول، وهذا زعم كاذب، ليس له من الصحة نصيب، فالوحي الإلهي وجّه العقول إلى النظر في الكون والتدبر فيه، وحث الإنسان على استعمار هذه الأرض، واستثمارها، وفي مجال العلوم المنزلة من الله وظيفة العقل أن ينظر فيها، ¬

(¬1) نظرات في النبوة: ص17.

ليستوثق من صحة نسبتها إلى الله تعالى، فإن تبين له صحة ذلك فعليه أن يستوعب وحي الله إليه، ويستخدم العقل الذي وهبه الله إياه في فهم وتدبر الوحي، ثم يجتهد في التطبيق والتنفيذ. والوحي مع العقل كنور الشمس أو الضوء مع العين، فإذا حجب الوحي عن العقل لم ينتفع الإنسان بعقله، كما أنّ المبصر لا ينتفع بعينه إذا عاش في ظلمة، فإذا أشرقت الشمس، وانتشر ضوؤها انتفع بناظريه، وكذلك أصحاب العقول إذا أشرق الوحي على عقولهم وقلوبهم أبصرت واهتدت (فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصُّدور) [الحج: 46] .

وظائف الرّسّل ومهمّاتهم لقد بين لنا القرآن الكريم والسنة النبوية مهمّة الرسل ووظائفهم، وسنحاول أن نبين ذلك فيما يأتي. البلاغ المبين الرسل سفراء الله إلى عباده، وحملة وحيه، ومهمتهم الأولى هي إبلاغ هذه الأمانة التي تحملوها إلى عباد الله: (يا أيَّها الرَّسول بلغ ما أنزل إليك من رَّبك وإن لَّم تفعل فما بلَّغت رسالته) [المائدة: 67] ، والبلاغ يحتاج إلى الشجاعة وعدم خشية الناس، وهو يبلغهم ما يخالف معتقداتهم، ويأمرهم بما يستنكرونه، وينهاهم عمّا ألفوه، (الَّذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاَّ الله) [الأحزاب: 39] . والبلاغ يكون بتلاوة النصوص التي أوحاها الله من غير نقصان ولا زيادة (اتل ما أوحي إليك من الكتاب) [العنكبوت: 45] ، (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا) [البقرة: 151] ، فإذا كان الموحى به ليس نصاً يتلى، فيكون البلاغ ببيان الأوامر والنواهي والمعاني والعلوم التي أوحاها الله من غير تبديل ولا تغيير.

ومن البلاغ أن يوضح الرسول الوحي الذي أنزله الله لعباده، لأنّه أقدر من غيره على التعرف على معانيه ومراميه، وأعرف من غيره بمراد الله من وحيه، وفي ذلك يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للنَّاس ما نزل إليهم ولعلَّهم يتفكَّرون) [النحل: 44] . والبيان من الرسول للوحي الإلهي قد يكون بالقول، فقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أموراً كثيرة استشكلها أصحابه، كما بين المراد من الظلم في قوله تعالى: (الَّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مُّهتدون) [الأنعام: 82] ، فقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن المراد به الشرك، لا ظلم النفس بالذنوب. وكما بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآيات المجملة في الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك بقوله. وكما يكون البيان بالقول يكون بالفعل، فقد كانت أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة والصدقة والحج وغير ذلك بياناً لكثير من النصوص القرآنية. وعندما يتولى الناس، ويعرضون عن دعوة الرسل، فإن الرسل لا يملكون غير البلاغ (وَّإن تولَّوا فإنَّما عليك البلاغ) [آل عمران: 20] .

الدّعوة إلى الله لا تقف مهمّة الرسل عند حدّ بيان الحقِّ وإبلاغه، بل عليهم دعوة الناس إلى الأخذ بدعوتهم، والاستجابة لها، وتحقيقها في أنفسهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، وهم في ذلك ينطلقون من منطلق واحد، فهم يقولون للناس: أنتم عباد الله، والله ربكم وإلهكم، والله أرسلنا لنعرفكم كيف تعبدونه، ولأننا رسل الله مبعوثون من عنده، فيجب عليكم أن تطيعونا وتتبعونا، (ولقد بعثنا في كل أمَّةٍ رَّسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطَّاغوت) [النحل: 36] . (وما أرسلنا من قبلك من رَّسولٍ إلاَّ نوحي إليه أنَّه لا إله إلاَّ أنا فاعبدون) [الأنبياء: 25] . وكل رسول قال لقومه: (فاتَّقوا الله وأطيعون) [الشعراء: 108، 126، 144، 150، 163، 179] . وقد بذل الرسل في سبيل دعوة الناس إلى الله جهوداً عظيمة، وحسبك في هذا أن تقرأ سورة نوح لترى الجهد الذي بذله على مدار تسعمائة وخمسين عاماً، فقد دعاهم ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، واستعمل أساليب الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وحاول أن يفتح عقولهم، وأن يوجهها إلى ما في الكون من آيات، ولكنهم أعرضوا، (قال نوحٌ رَّب إنَّهم عصوني واتَّبعوا من لَّم يزده ماله وولده إلاَّ خساراً) [نوح: 21] . مثال يوضح دور الرسل: وقد ضربت الملائكة للرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً يوضح دوره، ويبين وظيفته، فعن جابر بن عبد الله قال: " جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمةٌ والقلبَ يقظانُ،

فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً، قال: فاضربوا له مثلاً. فقال بعضهم: إنه نائمٌ، وقال بعضهم: إن العينَ نائمةٌ والقلب يقظان، فقالوا: مَثَلُهُ كمثل رجل بنى داراً وجَعَلَ فيها مأدُبة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعيَ دخلَ الدارَ وأكلَ من المأدبة، ومن لم يجبِ الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائمٌ، وقال بعضهم: إن العينَ نائمةٌ والقلبَ يقظانُ، فقالوا: فالدارُ الجنة والداعي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فمن أطاعَ محمداً صلى الله عليه وسلم فقد أطاعَ الله، ومن عصى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمدٌ فرق بين الناس " (¬1) . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 7281.

التبشير والإنذار ودعوة الرسل إلى الله تقترن دائماً بالتبشير والإنذار، ولأنَّ ارتباط الدعوة إلى الله بالتبشير والإنذار وثيق جداً فقد قصر القرآن مهمة الرسل عليهما في بعض آياته (وما نرسل المرسلين إلاَّ مبشرين ومنذرين) [الكهف: 56] ، وقد ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنفسه مثلاً في هذا، فقال: " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعينيَّ، وإني أنا النذير العُريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذَّبته طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني، فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب بما جئت به من الحق " (¬1) . وتبشير الرسل وإنذارهم دنيوي وأخروي، فهم في الدنيا يبشرون الطائعين بالحياة الطيبة، (من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينَّهُ حياةً طيبةً) [النحل: 97] . (فمن اتَّبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى) [طه: 123] ، ويعدونهم بالعزّ والتمكين والأمن (وعد الله الَّذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الَّذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الَّذي ارتضى لهم وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) [النور: 55] . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 7283، وصحيح مسلم: 2283.

ويخوِّفون العصاة بالشقاء الدنيوي (ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً) [طه: 124] ويحذرونهم العذاب والهلاك الدنيوي (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود) [فصلت: 13] ، وفي الآخرة يبشرون الطائعين بالجنة ونعيمها (ومن يطع الله ورسوله يدخله جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) [النساء: 13] . ويخوفون المجرمين والعصاة عذاب الله في الآخرة، (ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مُّهينٌ) [النساء: 14] . ومن يطالع دعوات الرسل يجد أنّ دعوتهم قد اصطبغت بالتبشير والإنذار، ويبدو أنّ التبشير والإنذار على النحو الذي جاءت به الرسل هو مفتاح النفس الإنسانية، فالنفس الإنسانية مطبوعة على طلب الخير لذاتها، ودفع الشر عنها، فإذا بصّر الرسل النفوس بالخير العظيم الذي يحصِّلونه من وراء الإيمان والأعمال الصالحة فإن النفوس تشتاق إلى تحصيل ذلك الخير، وعندما تُبيَّن لها الأضرار العظيمة التي تصيب الإنسان من وراء الكفر والضلال فإنّ النفوس تهرب من هذه الأعمال، ونعيم الله المبشر به نعيم يستعذبه القلب، وتلذُّه النفس، ويهيم به الخيال، اسمع إلى قوله تعالى يصف نعيم المؤمنين في جنات النعيم: (على سررٍ مَّوضونةٍ - مُّتَّكئين عليها متقابلين - يطوف عليهم ولدانٌ مُّخلدون - بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من مَّعينٍ - لا يصدَّعون عنها ولا ينزفون - وفاكهةٍ ممَّا يتخيَّرون - ولحم طيرٍ ممَّا يشتهون - وحور عينٌ - كأمثال اللؤلؤ المكنون - جزاء بما كانوا يعملون - لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً - إلاَّ قيلاً سلاماً سلاماً - وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين - في سدرٍ مَّخضودٍ - وطلحٍ منضودٍ - وظلٍ مَّمدودٍ - وماءٍ مَّسكوبٍ - وفاكهةٍ كثيرةٍ - لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ - وفرشٍ مَّرفوعةٍ - إنَّا أنشأناهن إنشاءً - فجعلناهنَّ أبكاراً - عرباً أتراباً - لأصحاب اليمين) [الواقعة: 15-38] . وانظر إلى عذاب الكفرة في دار الشقاء (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال - في سمومٍ وحميمٍ - وظلٍ من يحمومٍ - لا باردٍ ولا كريمٍ - إنَّهم كانوا

قبل ذلك مترفين) [الواقعة: 41-45] (ثمَّ إنَّكم أيُّها الضَّالُّون المكذبون - لآكلون من شجرٍ من زقُّومٍ - فمالؤون منها البطون - فشاربون عليه من الحميم - فشاربون شرب الهيم - هذا نزلهم يوم الدين) [الواقعة: 51-56] . وحسبك أن تطالع كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري وتقرأ منه على إخوانك ومن تدعوهم إلى الله، ثم انظر أثر هذا في نفسك وفي نفوس السامعين. إن بعض الذين لم يفقهوا دعوة الإسلام يعيبون على دعاة الإسلام أخذهم بالإنذار والتبشير، ويقولون: فلان واعظ، ويعيبون عليهم عدم فلسفتهم للأمور التي يدعون إليها، ويطالبون الدعاة بالكف عن طريقة الوعظ وتخويف النّاس وترغيبهم، وهؤلاء بحاجة إلى أن يراجعوا أنفسهم، وينظروا في موقفهم هذا، في ضوء نصوص القرآن وأحاديث الرسول التي تبين أسلوب الدعوة، وتوضيح مهمة الرسل الكرام.

إصلاح النفوس وتزكيتها الله رحيم بعباده، ومن رحمته أن يحي نفوسهم بوحيه، وينيرها بنوره، (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نَّهدي به من نَّشاء من عبادنا) [الشورى: 52] . والله يخرج الناس بهذا الوحي الإلهي من الظلمات إلى النور، ظلمات الكفر والشرك والجهل إلى نور الإسلام والحق: (الله وليُّ الَّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النُّور) [البقرة: 257] ، وقد أرسل اللهُ رسله بهديه ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النُّور) [إبراهيم: 5] ، وبدون هذا النور تعمى القلوب (فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الَّتي في الصُّدور) [الحج: 46] ، وعماها ضلالها عن الحق، وتركها لما ينفعها وإقبالها على ما يضرها (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرُّهم) [الفرقان: 55] . وإخراج الرسل الناس من الظلمات إلى النور لا يتحقق إلاّ بتعليمهم تعاليم ربهم وتزكية نفوسهم بتعريفهم بربهم وأسمائه وصفاته، وتعريفهم بملائكته وكتبه ورسله، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، ودلالتهم على السبيل التي توصلهم إلى محبته، وتعريفهم بعبادته (هو الَّذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مُّبينٍ) [الجمعة: 2] (رَّبنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك) [البقرة: 129] .

تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة كان الناس في أول الخلق على الفطرة السليمة، يعبدون الله وحده، ولا يشركون به أحداً، فلمّا تفرقوا واختلفوا أرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى جادة الصواب، وينتشلوهم من الضلال، (كان النَّاس أمَّةً واحدةً فبعث الله النَّبِيِّينَ مبشرين ومنذرين) [البقرة: 213] . أي: كان الناس أمّة واحدة على التوحيد والإيمان وعبادة الله فاختلفوا فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين. وقد كان كلُّ رسول يدعو قومه إلى الصراط المستقيم، ويبينه لهم ويهديهم إليه، وهذا أمر متفق عليه بين الرسل جميعاً، ثم كُلُّ رسول يقوِّم الانحراف الحادث في عصره ومصره، فالانحراف عن الصراط المستقيم لا يحصره ضابط وهو يتمثل في أشكال مختلفة، وكلُّ رسول يُعنى بتقويم الانحراف الموجود في عصره، فنوح أنكر على قومه عبادة الأصنام، وكذلك إبراهيم، وهود أنكر على قومه الاستعلاء في الأرض والتجبّر فيها، وصالح أنكر عليهم الإفساد في الأرض واتباع المفسدين، ولوط حارب جريمة اللواط التي استشرت في قومه، وشعيب قاوم في قومه جريمة التطفيف في الميكال والميزان، وهكذا، فكل هذه الجرائم وغيرها التي ارتكبتها الأمم خروج عن الصراط المستقيم وانحراف عنه، والرّسل يبينون هذا الصراط ويحاربون الخروج عليه بأيّ شكل من الأشكال كان.

إقامة الحجّة لا أحد أحبّ إليه العذر من الله تعالى، فالله جلّ وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب كي لا يبقى للناس حجّة في يوم القيامة، (رُّسلاً مُّبشرين ومنذرين لئلاَّ يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسل) [النساء: 165] ، ولو لم يرسل الله إلى الناس لجاؤوا يوم القيامة يخاصمون الله - جل وعلا - ويقولون: كيف تعذبنا وتدخلنا النار، وأنت لم ترسل إلينا من يبلغنا مرادك منّا، كما قال تعالى: (ولو أنَّا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبَّع آياتك من قبل أن نَّذلَّ ونخزى) [طه: 134] ، أي: لو أهلكهم الله بعذاب جزاء كفرهم قبل أن يرسل إليهم رسولاً لقالوا: هلا أرسلت إلينا رسولا كي نعرف مرادك، ونتبع آياتك، ونسير على النهج الذي تريد؟ وفي يوم القيامة عندما يجمع الله الأولين والآخرين يأتي الله لكل أمة برسولها ليشهد عليها بأنّه بلغها رسالة ربه، وأقام عليها الحجّة (فكيف إذا جئنا من كل أمَّة بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً - يومئذٍ يودُّ الَّذين كفروا وعصوا الرَّسول لو تُسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً) [النساء: 41-42] . وقال في آية أخرى: (ويوم نبعث في كل أمَّةٍ شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء) [النحل: 89] . ولذلك فإن الذين يرفضون اتبّاع الرسل، ويعرضون عن هديهم - لا يملكون إلاّ الاعتراف بظلمهم إذا وقع بهم العذاب في الدنيا (وكم قصمنا من

قريةٍ كانت ظالمةً وأنشأنا بعدها قوماً آخرين - فلمَّا أحسُّوا بأسنا إذا هم منها يركضون - لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلَّكم تسألون - قالوا يا ويلنا إنَّا كنَّا ظالمين - فما زالت تلك دعواهم حتَّى جعلناهم حصيداً خامدين) [الأنبياء: 11-15] . وفي يوم القيامة عندما يساقون إلى المصير الرهيب، وقبل أن يلقوا في الجحيم يسألون عن ذنبهم فيعترفون (تكاد تميَّز من الغيظ كلَّما ألقى فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذيرٌ - قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذَّبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيءٍ إن أنتم إلاَّ في ضلالٍ كبيرٍ - وقالوا لو كنَّا نسمع أو نعقل ما كنَّا في أصحاب السَّعير - فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السَّعير) [الملك: 8-11] . وعندما يضجّون في النَّار بعد أن يُحيط بهم العذاب من كل جانب، وينادون ويصرخون تقول لهم خزنة النار: (أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلاَّ في ضلالٍ) [غافر: 50] .

سياسة الأمة الذين يستجيبون للرسل يُكونّون جماعة وأمة، وهؤلاء يحتاجون إلى من يسوسهم ويقودهم ويدبر أمورهم، والرُّسل يقومون بهذه المهمة في حال حياتهم، فهم يحكمون بين الناس بحكم الله (فاحكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 48] . ونادى ربُّ العزة داود قائلاً: (يا داوود إنَّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين النَّاس بالحق) [ص: 26] ، وأنبياء بني إسرائيل كانوا يسوسون أمتهم بالتوراة، وفي الحديث " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ " (¬1) وقال الله عن التوراة: (يحكم بها النَّبيُّون الَّذين أسلموا للَّذين هادوا) [المائدة: 44] . فالرسل وأتباعهم من بعدهم يحكمون بين الناس، ويقودون الأمة في السلم والحرب، ويلون شؤون القضاء، ويقومون على رعاية مصالح الناس، وهم في كلّ ذلك عاملون بطاعة الله، وطاعتهم في ذلك كلّه طاعة لله (مَّن يطع الرَّسول فقد أطاع الله) [النساء: 80] . ولن يصل العبد إلى نيل رضوان الله ومحبته إلا بهذه الطاعة (قل إن كنتم ¬

(¬1) صحيح البخاري: 3455، وصحيح مسلم: 1842.

تحبُّون الله فاتَّبعوني يحببكم الله) [آل عمران: 31] . ولذا فإنّ شعار المسلم الذي يعلنه دائماً هو السمع والطاعة (إنَّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) [النور: 51] .

الوحي

المبحث الأول النبّوة منحة إلهيّة (¬1) النبوة منحة إلهية، لا تنال بمجرد التشهي والرغبة، ولا تنال بالمجاهدة والمعاناة، وقد كذّب الفلاسفة الذين زعموا أن النبوة تنال بمجرد الكسب بالجدّ والاجتهاد، وتكلّف أنواع العبادات، واقتحام أشقّ الطاعات، والدأب في تهذيب النفوس، وتنقية الخواطر، وتطهير الأخلاق، ورياضة النفس والبدن (¬2) . وقد بيّن الله في أكثر من آية أنّ النبوة نعمة ربانية إلهية، قال تعالى: (أولئك الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبيين من ذريَّة آدم وممَّن حملنا مع نوحٍ ومن ذريَّة إبراهيم وإسرائيل وممَّن هدينا واجتبينا) [مريم: 58] ، وحكى الله قول يعقوب لابنه يوسف: (وكذلك يجتبيك ربُّك) [يوسف: 6] ، وقال الله لموسى: (إني اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي) [الأعراف: 144] . وقد طمع أمية بن أبي الصَّلت في أن يكون نبي هذه الأمة، وقال الكثير من الشعر متوجهاً به إلى الله، وداعياً إليه، ولكنه لم يحصل على مراده، وصدق الله إذ يقول: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الأنعام: 124] . وعندما اقترح المشركون أن يختار الله لأمر النبوة ¬

(¬1) ذهبت المعتزلة إلى أن إرسال الرسل وإنزال الكتب واجب على الله تعالى، والحقُّ أن ذالك تفضل من الله تعالى على عباده، ورحمة بهم، والقول بالوجوب يتجه إذا قلنا: أوجبه هو تعالى على نفسه (انظر لوامع الأنوار البهية: 2/256، 258) . (¬2) لوامع الأنوار البهية: (2/267) .

والرسالة أحد الرجلين العظيمين في مكة والطائف عروة بن مسعود الثقفي أو الوليد بن المغيرة، أنكر الله ذلك القول، وبين أنّ هذا مستنكر، فهو الإله العظيم الذي قسم بينهم أرزاقهم في الدنيا، أفيجوز لهم أن يتدخلوا في تحديد المستحقِّ لرحمة النبوة والرسالة؟ (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيمٍ - أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم مَّعيشتهم في الحياة الدُّنيا..) [الزخرف: 31-32] وسنبين في هذا الفصل الطريق الذي يصبح به الذين اختارهم الله أنبياء.

المبحث الثاني طريق إعلام الله أنبياءه ورسله تعريف الوحي: سمي الله الطريق الذي يعلم الله به أنبياءَه ورسله وحياً، قال تعالى: (إنَّ أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنَّبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبوراً) [النساء: 163] . والوحي في اللغة: الإعلام الخفّي السريع مهما اختلفت أسبابه (¬1) ، فقد يكون بالإلهام كوحي الله إلى الحواريين: (وإذ أوحيت إلى الْحَوَارِيِّينَ أن آمنوا بي وبرسولي) [المائدة: 111] وكوحي الله لأم موسى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) [القصص: 7] ، ويأتي بمعنى الإيماء والإشارة، فقد سمّى القرآن إشارة زكريا إلى قومه وحياً (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرةً وعشيّاً) [مريم: 11] . وأكثر ما وردت كلمة ((وحي)) في القرآن الكريم بمعنى إخبار وإعلام الله من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، بطريقة سرّية خفيّة، غير معتادة للبشر. ¬

(¬1) راجع فتح الباري: 1/9، المصباح المنير: 651، 652.

مقامات وحي الله إلى رسله: للوحي الذي يعلم الله به رسله وأنبياءَه مقامات، قال الله تعالى مبيِّناً هذه المقامات: (وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلاَّ وحيّاً أومن وراء حجابٍ أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنَّه عليٌّ حكيم ٌ) [الشورى: 51] . فالمقامات ثلاثة: الأولى: الإلقاء في روع النبي الموحى إليه، بحيث لا يمتري النبي في أنّ هذا الذي ألقي في قلبه من الله تعالى، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " إنّ روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب " (¬1) . وذهب ابن الجوزي إلى أن المراد بالوحي في قوله: (إلاًّ وحياً) الوحي في المنام (¬2) . رؤية الأنبياء: وهذا الذي فسّر به ابن الجوزي المقام الأول داخل في الوحي بلا شّك، فإنّ رؤيا الأنبياء حقٌ، ولذلك فإنَّ خليل الرحمن إبراهيم بادر إلى ذبح ولده عندما رأى في المنام أنّه يذبحه، وعدّ هذه الرؤيا أمراً إلهياً، قال تعالى في إبراهيم وابنه إسماعيل: (فلمَّا بلغ معه السَّعي قال يا بنيَّ إني أرى في المنام أني ¬

(¬1) حديث صحيح بشواهده أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) 10/26، 27، من حديث أبي أمامة، وأورده البغوي في ((شرح السنة)) 14/303-304 (4111-4113) من عدة طرق عن ابن مسعود مرفوعاً، وانظر ((المستدرك)) 2/5 (2136) ، و ((كشف الخفاء)) 1/286 (707) ط. مؤسسة الرسالة. (¬2) زاد المسير: (7/297) .

أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصَّابرين - فلمَّا أسلما وتلَّهُ للجبين - وناديناه أن يا إبراهيم - قد صدَّقت الرؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين) [الصافات: 102- 105] . وفي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في المنام، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " (¬1) . المقام الثاني: تكليم الله لرسله من وراء حجاب: وذلك كما كلَّم الله تعالى موسى عليه السلام، وذكر الله ذلك في أكثر من موضع في كتابه: (ولمَّا جاء موسى لميقاتنا وكلَّمه ربُّه) [الأعراف: 143] ، (فلمَّا أتاها نودي يا موسى - إنّي أنا ربُّك فاخلع نعليك إنَّك بالواد المقدَّس طوى - وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى - إنَّني أنا الله لا إله إلاَّ أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) [طه: 11-14] ، وممن كلّمه الله آدم عليه السلام (قال يا آدم أَنبِئْهُم بأسمائهم فلمَّا أَنبَأَهُمْ بأسمائهم..) [البقرة: 33] ، وكلّم الله عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم عندما عرج به إلى السماء. المقام الثالث: الوحي إلى الرسول بواسطة الملك: وهذا هو الذي يفقه من قوله تعالى: (أو يرسل رسولاً فَيُوحِيَ بإذنه ما يشاء) [الشورى: 51] وهذا الرسول هو جبريل، وقد يكون غيره وذلك في أحوال قليلة (¬2) . ¬

(¬1) صحيح البخاري، وصحيح مسلم: (160) ، واللفظ للبخاري. (¬2) راجع في هذا كتاب أ. د. عمر الأشقر: عالم الملائكة ص: 40.

صفة مجيء الملك إلى الرسول: بالتأمل في النصوص في هذا الموضوع نجد أنّ للملك ثلاثة أحوال (¬1) : الأول: أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلقه الله عليها، ولم يحدث هذا لرسولنا صلى الله عليه وسلم إلا مرتين. الثاني: أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس، فيذهب عنه وقد وعى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال. الثالث: أن يتمثل له الملك رجلاً فيكلّمه ويخاطبه ويعي عنه قوله، وهذه أخف الأحوال على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حدث هذا من جبريل في اللقاء الأول عندما فجأه في غار حراء. بشائر الوحي: كان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل معاينته للملك، يرى ضوءاً، ويسمع صوتاً، ولكنه لا يرى الملك الذي يحدث الضوء، ولا يرى مخاطبه والهاتف به، روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: " مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة، ¬

(¬1) راجع: المصدر السابق.

يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئاً، وثمان سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشراً " (¬1) . قال النووي: " يسمع الصوت ويرى الضوء " قال القاضي: " أي: صوت الهاتف من الملائكة، ويرى الضوء، أي: نور الملائكة، ونور آيات الله، حتى رأى الملك بعينيه، وشافهه بوحي الله " (¬2) . أثر الملك في الرسول: من المزاعم التي يدعيها المكذبون بالرسل أن ما كان يصيب الرسول صلى الله عليه وسلم إنّما هو نوع من الصرع، أو اتصال من الشياطين به، وكذبوا في دعواهم، فالأمران مختلفان، فالذي يصيبه الصرع يصفرُّ لونه، ويخفُّ وزنه، ويفقد اتزانه، وكذلك الذي يصيبه الشيطان، وقد يتكلم الشيطان على لسانه، ويخاطب الحاضرين، وعندما يفيق من غيبوبته لا يدري ولا يذكر شيئاً ممّا خاطب به الشيطان الحاضرين على لسانه، أمّا الرسول صلى الله عليه وسلم فإن اتصال الملك به نماء في جسده، وإشراق في وجهه، ثمّ إن الجالسين لا يسمعون كلاماً، إنما يسمعون دوياً كدويّ النحل عند وجهه (¬3) ، ويقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وقد وعى كلّ ما أخبر به الملك، فيكون هو الذي يخبر أصحابه بما أوحي إليه. فقد أخبرتنا عائشة - رضي الله عنها وعن أبيها - أنها رأت الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً (¬4) . وفي رواية عنها: " إن كان لينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغداة الباردة، ثم تفيض جبهته عرقاً " (¬5) . وأخبرتنا أنّ ناقته عندما كان يوحى إليه وهو فوقها يضرب حزامها وتكاد ¬

(¬1) انظر النووي على مسلم: (15/104) . وهذا الذي ذكره ابن عباس خلاف المحفوظ في مقدار المدة التي كان يوحى إليه فيها بمكة، فالمحفوظ أنه أوحي إليه في سنّ الأربعين وهاجر وعمره ثلاث وخمسون سنة، فتكون المدة ثلاث عشرة سنة. (¬2) النووي على مسلم: (15/104) . (¬3) رواه أحمد في ((المسند)) 1/350 (223) ، والترمذي (3173) ، والنسائي في ((السنن الكبرى)) 2/169-170 (1443) من حديث عمر بن الخطاب. (¬4) صحيح البخاري. (¬5) صحيح مسلم: 2333.

تبرك به من ثقله فوقها (¬1) ويذكر أحد الصحابة أنّ فخذه كانت تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل إليه، فكادت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم حين الإنزال إليه ترض فخذ الصحابي (¬2) . وهذا يعلى بن أمّية يحدثنا عن مشاهدة تنزُّل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان يتمنى قبل ذلك أن يراه في تلك الحال، قال: " فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمّر الوجه، وهو يغطُّ، ثمّ سُرِّي عنه " (¬3) . ¬

(¬1) أشار إلى هذا البيهقي في الدلائل عن عائشة (انظر فتح الباري: 1/21) . (¬2) أخرجه أحمد في ((المسند)) 35/480 (21601) ، والبخاري (2832) من حديث زيد بن ثابت. (¬3) حديث يعلى في البخاري رقم: 1536، ومسلم: 1180.

صفات الرّسُل المبحث الأول البشرية جاءت حكمة العليم الخبير أن يكون الرسل الذين يرسلهم إلى البشر من البشر أنفسهم (قل إنَّما أنا بشرٌ مثلكم) [الكهف: 110] . وسنجلي هذا الموضوع في أربعة مطالب. المطلب الأول أهلية البشر لتحمّل الرسالة الذين يستعظمون ويستبعدون اختيار الله بعض البشر لتحمّل الرسالة لا يقدرون الإنسان قدره، فالإنسان مؤهل لتحمّل الأمانة العظمى، أمانة الله التي أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها، (إنَّا عرضنا الأمانة على السَّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنَّه كان ظلوماً جهولاً) [الأحزاب: 72] . والذين استعظموا اختيار الله البشر رسلاً نظروا إلى المظهر الخارجي للإنسان، نظروا إليه على أنه جسد يأكل ويشرب وينام، ويمشي في الأرض لتلبية حاجاته (وقالوا مال هذا الرَّسول يأكل الطَّعام ويمشي في الأسواق) [الفرقان: 7] ، ولم ينظروا إلى جوهر الإنسان، وهو تلك الروح التي هي نفخة من روح الله (فإذا سوَّيته ونفخت فيه من رُّوحي فقعوا له ساجدين) [الحجر: 29] . وبهذه الروح تميز الإنسان، وصار إنساناً، واستخلف في الأرض، وقد أودعه الله الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته، فلا عجب أن يختار الله واحداً من هذا الجنس، صاحب استعداد للتلقي، فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلّما غام عليهم الطريق، وما

يقدم به إليهم العون كلّما كانوا بحاجة إلى العون (¬1) (قالت لهم رسلهم إن نَّحن إلاَّ بشرٌ مثلكم ولكنَّ الله يمنُّ على من يشاء من عباده) [إبراهيم: 11] . ثمَّ إنّ الرسل يُعدّون إعداداً خاصّاً لتحمُّل النبوة والرسالة، ويصنعون صنعاً فريداً (واصطنعتك لنفسي) [طه: 41] ، واعتبر هذا بحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كيف رعاه الله وحاطه بعنايته على الرغم من يتمه وفقره (ألم يجدك يتيماً فآوى - ووجدك ضالاً فهدى - ووجدك عائلاً فأغنى) [الضحى: 6-8] ، وقد زكّاه وطهّره، وأذهب عنه رجس الشيطان، وأخرج منه حظّ الشيطان منذ كان صغيراً، فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشقّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثمّ غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه (¬2) ، يعني ظئره، فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللّون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره " (¬3) . وحدث قريب من هذا عندما جاءه جبريل يهيئه للرحلة الكبرى للعروج به إلى السماوات العلى، ففي حديث الإسراء: ((فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم، ففرج صدري، ثمّ غسله من ماء زمزم، ثمّ جاء بطست من مذهب ممتلئ حكمة وإيماناً، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه " متفق عليه (¬4) . المطلب الثاني لِمَ لَمْ يكن الرسل ملائكة؟ لقد كثر اعتراض أعداء الرسل على بعثة الرسل من البشر، وكان هذا الأمر من أعظم ما صدّ الناس عن الإيمان، (وما منع النَّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ¬

(¬1) في ضلال القرآن: 19/2552. (¬2) أمه من الرضاع، وهي حليمة السعدية. (¬3) صحيح مسلم: 162. (¬4) صحيح البخاري: 349، وصحيح مسلم: 263، واللفظ لمسلم.

إلاَّ أن قالوا أبعث الله بشراً رَّسولاً) [الإسراء: 94] وعدّوا اتباع الرسل بسبب كونهم بشراً فيما جاؤوا به من عقائد وشرائع أمراً قبيحاًً، وعدُّوه خسراناً مبيناً (ولئِن أطعتم بشراً مثلكم إنَّكم إذاً لخاسرون) [المؤمنون: 34] ، (فقالوا أبشراً منَّا واحداً نَّتَّبعه إنَّا إذاً لفي ضلالٍ وسعرٍ) [القمر: 24] ، وقد اقترح أعداء الرسل أن يكون الرسل الذين يبعثون إليهم من الملائكة يعاينونهم ويشاهدونهم، أو على الأقل يبعث مع الرسول البشري رسولاً من الملائكة، (وقال الَّذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربَّنا) [الفرقان: 21] ، (وقالوا مال هذا الرَّسول يأكل الطَّعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملكٌ فيكون معه نذيراً) [الفرقان: 7] . وعندما نتأمل النصوص القرآنية يمكننا أن نرّد على هذه الشبهة من وجوه: الأول: أن الله اختارهم بشراً لا ملائكة لأنّه أعظم في الابتلاء والاختبار، ففي الحديث القدسي الذي يرويه مسلم في صحيحه: ((إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)) (¬1) . الثاني: أن في هذا إكراماً لمن سبقت لهم منه الحسنى، فإن اختيار الله لبعض عباده ليكونوا رسلاً تكريم وتفضيل لهم، (أولئك الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبيين من ذريَّة آدم وممَّن حملنا مع نوحٍ ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممَّن هدينا واجتبينا..) [مريم: 58] . الثالث: أنّ البشر أقدر على القيادة والتوجيه، وهم الذين يصلحون قدوة وأسوة، يقول سيد قطب رحمه الله في هذا: " وإنها لحكمة تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر، واحد من البشر يحسّ بإحساسهم، ويتذوق مواجدهم، ويعاني تجاربهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم..، ومن ثمّ يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو في ¬

(¬1) صحيح مسلم: 2865.

قوتهم واستعلائهم، ويسير بهم خطوة خطوة، وهو يفهم بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم، لأنّه في النهاية واحد منهم، يرتاد بهم الطريق إلى الله، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق. وهم من جانبهم يجدون فيه القدرة الممكنة، لأنّه بشر مثلهم، يتسامى بهم رويداً رويداً، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أنّ الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم، فيكون بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم، ينقلونها سطراً سطراً، ويحققونها معنى معنى، وهم يرونها بينهم، فتهفوا نفوسهم إلى تقليدها، لأنها ممثلة في إنسان " (¬1) . الرابع: صعوبة رؤية الملائكة، فالكفار عندما يقترحون رؤية الملائكة، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك. فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع كونه أفضل الخلق، وهو على جانب عظيم من القوة الجسمية والنفسية عندما رأى جبريل على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني من اتصال الوحي به شدّة، ولذلك قال في الردّ عليهم: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين) [الفرقان: 22] ، ذلك أنّ الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب، فلو قُدِّر أنهم رأوا الملائكة لكان ذلك اليوم يوم هلاكهم. فكان إرسال الرسل من البشر ضرورياً كي يتمكنوا من مخاطبتهم والفقه عنهم، والفهم منهم، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة لما أمكنهم ذلك. (وما منع النَّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاَّ أن قالوا أبعث الله بشراً رَّسولاً - قل لَّو كان في الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئِنين لنزَّلنا عليهم من السَّماء ملكاً رَّسولاً) [ ¬

(¬1) في ظلال القرآن: 19/2553.

الإسراء: 94-95] فلو كان سكان الأرض ملائكة لأرسل الله إليهم رسولاً من جنسهم، أما وأن الذين يسكنون الأرض بشر فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) [آل عمران: 164] . وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهولة فيقتضي هذا - لو شاء الله أن يرسل ملكاً رسولاً إلى البشر - أن يجعله رجلاً (ولو جعلناه ملكاً لَّجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم مَّا يلبسون) [الأنعام: 9] فالله يخبر أنه " لو بعث رسولاً ملكياً، لكان على هيئة رجل، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس الأمر عليهم " (¬1) . والتباس الأمر عليهم بسبب كونه في صورة رجل، فلا يستطيعون أن يتحققوا من كونه ملكاً، وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة من إرسال الرسل من الملائكة على هذا النحو، بل إرسالهم من الملائكة على هذا النحو لا يحقق الغرض المطلوب، لكون الرسول الملك لا يستطيع أن يحس بإحساس البشر وعواطفهم وانفعالاتهم وإن تشكل بأشكالهم. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: 3/9.

المطلب الثالث مقتضى بشرية الأنبياء والرسل مقتضى كون الرسل بشراً أن يتصفوا بالصفات التي لا تنفك البشرية عنها، وهي: أولاً: يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون ويولد لهم: الرسل والأنبياء يحتاجون لما يحتاج إليه البشر من الطعام والشراب، ويحدِثونَ كما يحدث البشر، لأنّ ذلك من لوازم الطعام والشراب، (وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً نُّوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون - وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطَّعام وما كانوا خالدين) [الأنبياء: 7-8] . ومن ذلك أنهم ولدوا كما ولد البشر، لهم آباء وأمهات، وأعمام وعمات، وأخوال وخالات، يتزوجون ويولد لهم، (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذريَّةً) [الرعد: 38] . ويصيبهم ما يصيب البشر من أعراض، فهم ينامون ويقومون، ويصحون ويمرضون، ويأتي عليهم ما يأتي على البشر وهو الموت، فقد جاء في ذكر إبراهيم خليل الرحمن لربه: (والَّذي هو يطعمني ويسقين - وإذا مرضت فهو يشفين - والَّذي يميتني ثمَّ يحيين) [الشعراء: 79-81] . وقال الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (إنَّك ميتٌ وإنَّهم مَّيتون) [الزمر: 30] ، وقال مبيناً أنّ هذه سنته في الرسل كلهم: (وما محمَّدٌ إلاَّ رسولٌ قد خلت من قبله الرُّسل أفإن مَّات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) [آل عمران: 144] وقد جاء في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: " كان بشراً من البشر: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه " (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده: 43/263 (26194) ، والبخاري في الأدب المفرد: (541) من حديث عائشة رضي الله عنها، وإسناد أحمد صحيح على شرط مسلم (انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم (671) .

وقد صح أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأمّ سُلَيم: " يا أم سُلَيم، أما تعلمين أني شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيّما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها طَهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة " (¬1) . ثانياً: تعرض الأنبياء للبلاء: ومن مقتضى بشرية الرسل أنّهم يتعرضون للابتلاء كما يتعرض البشر، فقد يسجنون كما سجن يوسف (قال رب السجن أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونني إليه) [يوسف: 33] ، وذكر الله أنه (فلبث في السجن بضع سنين) [يوسف: 42] ، وقد يصيبهم قومهم بالأذى وقد يدمونهم، كما أصابوا الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد فأدموه، وكسروا رباعيته، وقد يخرجونهم من ديارهم كما هاجر إبراهيم من العراق إلى الشام، وكما هاجر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وقد يقتلونهم (أفكلَّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذَّبتم وفريقاً تقتلون) [البقرة: 87] وقد يصابون بالأمراض، كما ابتلى الله نبيّه أيوب فصبر، وقد صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " أن نبيّ الله أيوب لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه.. " (¬2) . وكان من ابتلائه أن ذهب أهله وماله، وكان ذا مال وولد كثير، (وأيُّوب إذ نادى ربَّهُ أني مسني الضرُّ وأنت أرحم الرَّاحمين - فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرٍ وآتيناه أهله ومثلهم مَّعهم رحمةً من عندنا وذكرى للعابدين) [الأنبياء: 83-84] . والأنبياء لا يصابون بالبلاء فحسب، بل هم أشدُّ الناس بلاءً، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد ¬

(¬1) صحيح مسلم: 2603. (¬2) رواه أبو يعلى في مسنده، وأبو نعيم في الحلية، والضياء في المختارة، وابن حبان في صحيحه (انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث رقم 17) .

حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة " (¬1) . ودخل أبو سعيد الخدري على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضع يده على الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد حرّه بين يديه فوق اللحاف، فقال: يا رسول الله، ما أشدها عليك! ‍‍قال: " إنا كذلك، يُضّعَّف علينا البلاء، ويُضَعَّف لنا الأجر "، قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: " الأنبياء، ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة التي يُحَوِّيها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء " (¬2) . (¬3) . ثالثاً: اشتغال الأنبياء بأعمال البشر: ومن مقتضى بشريتهم أنهم قد يقومون بالأعمال والأشغال التي يمارسها البشر، فمن ذلك اشتغال الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجارة، قبل البعثة، ومن ذلك رعي الأنبياء للغنم، فقد روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: ((كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكَبَاث (¬4) ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بالأسود منه، فإنّه أطيبه "، قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: " وهل من نبي إلا وقد رعاها " رواه البخاري في صحيحه (¬5) . ومن الأنبياء الذين نصّ القرآن على أنهم رعوا الغنم نبيّ الله موسى عليه السلام، فقد عمل في ذلك عدةّ سنوات، فقد قال له العبد الصالح: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حججٍ فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشقَّ عليك ستجدني إن شاء الله من الصَّالحين - قال ذلك بيني وبينك أيَّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ ¬

(¬1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد، وابن ماجة وغيرهم (سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم: 143) . (¬2) أخرجه ابن ماجة، وابن سعد والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الشيخ ناصر: وهو كما قالا (انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم: 144) . (¬3) إذا كان هذا حال الأنبياء فينبغي للصالحين أن يعتبروا بذلك، ولا يظنون بالله غير الحق إذا أصابهم البلاء، وعلى الذين يرمون الصالحين بالتهم الباطلة لأنهم أصيبوا بالبلاء أن يقصروا عن غيهم. (¬4) الكباث: ثمر الأراك، ويقال ذلك للنضيج منه. (¬5) صحيح البخاري: 3406. ومسلم: 2050.

والله على ما نقول وكيلٌ) [القصص: 27-28] قال ابن حجر: والذي قاله الأئمة أن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتعتاد قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها إلى سياسة الأمم (¬1) . ومن الأنبياء الذي عملوا بأعمال البشر داود عليه السلام، فقد كان حدّاداً يصنع الدروع، قال تعالى: (وعلَّمناه صنعة لبوسٍ لَّكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) [الأنبياء: 80] ، كان حداداً، وفي نفس الوقت كان ملكاً، وكان يأكل مما تصنعه يداه. ونبي الله زكريا كان يعمل نجاراً، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان زكريا يعمل نجاراً " (¬2) . رابعاً: ليس فيهم شيء من خصائص الألوهية والملائكية: ومقتضى كونهم بشراً أنهم ليسوا بآلهة، وليس فيهم من صفات الألوهية شيء، ولذلك فإنّ الرسل يتبرَّؤون من الحول والطول ويعتصمون بالله الواحد الأحد، ولا يَدَّعون شيئاً من صفات الله تعالى، قال تعالى مبيناً براءة عيسى مما نسب إليه: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنَّاس اتَّخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنَّك أنت علَّام الغيوب - ما قلت لهم إلاَّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربَّكم وكنت عليهم شهيداً مَّا دمت فيهم فلما توفَّيتني كنت أنت الرَّقيب عليهم وأنت على كل شيءٍ شهيد) [المائدة: 116-117] . هذه مقالة عيسى في الموقف الجامع في يوم الحشر الأكبر، وهي مقولة صدق تنفي تلك الأكاذيب والترهات التي وصف بها النصارى عبد الله ورسوله عيسى فطائفة قالت: الله هو المسيح ابن مريم حلّ في بطن مريم (لقد كفر الَّذين قالوا إنَّ الله هو المسيح ابن مريم) [المائدة: 72] ، وأخرى قالت: هو ثالث ¬

(¬1) فتح الباري: (6/439) . (¬2) صحيح مسلم: 2379.

ثلاثة (لَّقد كفر الَّذين قالوا إنَّ الله ثالث ثلاثةٍ) [المائدة: 73] وطائفة ثالثة قالوا: هو ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً: (وقالوا اتَّخذ الرَّحمن ولداً - لَّقد جئتم شيئاً إدّاً) [مريم: 88-89] . لقد غلا النصارى في عيسى غلواً عظيماً، وهم بمقالتهم الغالية هذه يسبُّون الله أعظم سبّ وأقبحه، فهم يزعمون: " أنّ ربَّ العالمين نزل عن كرسي عظمته، فالتحم ببطن أنثى، وأقام هناك مدةً من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء، تحت ملتقى الأعكان، ثمّ خرج صبياً رضيعاً يشبُّ شيئاً فشيئاً، ويبكي، ويأكل، ويشرب، ويبول، ويتقلب مع الصبيان، ثمّ أودع المكتب بين صبيان اليهود، يتعلم ما ينبغي للإنسان، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثمّ جعل اليهود يطردونه من مكان إلى مكان، ثمّ قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذلّ والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثمّ ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله والأيمان، ثمّ أركبوه ذلك المركب الذي تقشعرُّ منه القلوب مع الأبدان، ثمّ شدّت بالحبال يده مع الرجلان، ثمّ خالطهما تلك المسامير، التي تكسر العظام، وتمزق اللحمان، وهو يستغيث، ويقول: ارحموني، فلا يرحمه منهم إنسان، هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي، الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، ثمّ مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوّان، ثمّ قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان " (¬1) . فأيّ سبّ أعظم من هذا السبّ الذي نسبوه إلى الباري جل وعلا! وأي ضلال أعظم من هذا الضلال!. المطلب الرابع الكمال البشري لا شكّ أن البشر يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً كبيراً في الخَلْق والخُلُق، والمواهب، فمن البشر القبيح والجميل وبين ذلك، ومنهم الأعمى والأعور ¬

(¬1) هداية الحيارى (انظر الجامع الفريد: ص479) .

والمبصر بعينه، والمبصرون يتفاوتون في جمال عيونهم وفي قوة أبصارهم، ومنهم الأصم والسميع وبين ذلك، ومنهم ساقط المروءة، ومنهم ذو المروءة والهمة العالية. ولا شكّ أن الأنبياء والرسل يمثلون الكمال الإنساني في أرقى صوره، ذلك أنّ الله اختارهم واصطفاهم لنفسه، فلا بدّ أن يختار أطهر البشر قلوباً، وأزكاهم أخلاقاً، وأجودهم قريحة، (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الأنعام: 124] . والكمال البشري يتحقق فيما يأتي: 1- الكمال في الخلقة الظاهرة: لقد حذرنا الله تعلى من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى، (يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً) [الأحزاب: 69] . وقد بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إيذاء بني إسرائيل لموسى كان باتهامهم إياه بعيب خلقي في جسده، ففي صحيح البخاري (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ موسى كان رجلاً حيياً ستَّيراً لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلاّ من عيب بجلده (¬2) : إما برص، وإمّا أُدْرة (¬3) ، وإمّا آفة، وإنّ الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثمّ اغتسل، فلمّا فرغ، أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنّ الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل فرأوه عرياناً، أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ بثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إنّ بالحجر لندباً من أثر ضربه، ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فذلك قوله: (يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً) [الأحزاب: 69] . ¬

(¬1) رواه البخاري: 3404، ومسلم: 339. (¬2) هذا يوحى بأن اغتسال بني إسرائيل عراة كان جائزاً في شريعتهم. (¬3) الأدرة بضم الهمزة وسكون الدال: انتفاخ الخصية.

قال ابن حجر العسقلاني معقباً على الحديث: " وفيه أن الأنبياء في خَلقهم وخُلُقهم، على غاية الكمال، وأن من نسب نبيّاً إلى نقص في خلقته فقد آذاه، ويخشى على فاعله الكفر " (¬1) . الصور الظاهرة مختلفة: ليس معنى كون الرسل أكمل الناس أجساماً أنهم على صفة واحدة صورة واحدة، فالكمال الذي يدهش ويعجب متنوع وذلك من بديع صنع الواحد الأحد وكمال قدرته. وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأنبياء والرسل، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ليلة أسري بي رأيت موسى، وإذا هو رجل ضَرْبٌ من الرجال، كأنه من رجال شَنوءة)) (¬2) . وقال في عيسى: " ورأيت عيسى، فإذا هو رجل ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس " (¬3) . وقال فيه أيضاً: " ليس بيني وبينه نبيٌّ، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع، إلى الحمرة والبياض، ينزل بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل " (¬4) . وقد وصف لنا الصحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قولهم: " كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، ليس بجعد قَطِطٍ، ولا سَبْطٍ رَجِلٍ " (¬5) ، وقالوا فيه: " كان أحسن الناس.. ربعة، إلى الطول ما هو، بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العينين، أهدب الأشفار، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس له أخمص، إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة " (¬6) . وكان الرسول أشبه الناس بنبي الله إبراهيم كما أخبرنا عليه السلام بذلك (¬7) . 2- الكمال في الأخلاق: لقد بلغ الأنبياء في هذا مبلغاً عظيماً، وقد استحقوا أن يثني عليهم ربّ الكائنات فقد أثنى الله على خليله إبراهيم عليه السلام فقال: (إنَّ إبراهيم لحليم ¬

(¬1) فتح الباري: 6/438. (¬2) أخرجه أحمد في ((المسند)) : 16/484 (10830) ، والبخاري: (3394) ، ومسلم بنحوه: (172) (178) ، وشنوءة حي من اليمن. وضَرْبٌ من الرجال: هو الخفيف اللحم الممشوق المستدق. (¬3) البخاري: 3394، والديماس: الحمام. (¬4) رواه أبو داود وأحمد (انظر صحيح الجامع: 5/90) وقوله (ممصرتين) الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة. راجع لسان العرب: (3/493) مادة مصر. (¬5) رواه البخاري: 3547، 3548، ومسلم: 2347. (¬6) رواه البيهقي، انظر صحيح الجامع: (4-199) . (¬7) صحيح البخاري: 3394.

أوَّاه مُّنيبٌ) [هود: 75] . وقالت ابنة العبد الصالح تصف موسى: (يا أبت استأجره إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين) [القصص: 26] . وأثنى الله على إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد، (واذكر في الكتاب إسماعيل إنَّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نَّبيَّاً) [مريم: 54] . وأثنى الله - جلّ جلاله، وتقدست أسماؤه - على خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثناءً عطراً، فقال: (وإنَّك لعلى خلقٍ عظيمٍ) [القلم: 4] . فقد وصف الله - سبحانه - خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنّه عظيم، وأكّد ذلك بثلاثة مؤكدات: أكّد ذلك بالإقسام عليه بنون والقلم وما يسطرون، وتصديره بإنّ، وادخال اللام على الخبر. ومن خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم الذي نوَّه الله به ما جبله عليه من الرحمة والرأفة (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رَّحيمٌ) [التوبة: 128] . وقد كان لهذه الأخلاق أثر كبير في هداية الناس وتربيتهم، هذا صفوان ابن أميّة يقول: " والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض خلق الله إليّ، فما زال يعطيني حتى إنّه من أحبِّ الناس إليّ " (¬1) . وفي صحيح مسلم عن أنس أنّ رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم، أسلموا، فوالله إن محمداً ليعطي عطاءً، ما يخاف الفقر " (¬2) . ولو لم يتصف الرسل بهذا الكمال الذي حباهم الله به لما انقاد الناس إليهم، ذلك أن الناس لا ينقادون عن رضاً وطواعية لمن كثرت نقائصه، وقلت فضائله. ¬

(¬1) صحيح مسلم: 2313. (¬2) صحيح مسلم: 2312.

3- خير الناس نسباً: الرسل ذوو أنساب كريمة، فجميع الرسل بعد نوح من ذريته، وجميع الرسل بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريَّتهما النُّبوَّة والكتاب..) [الحديد: 26] . ولذلك فإنّ الله - سبحانه - يصطفي لرسالته من كان خيار قومه في النسب، وفي الحديث الذي يرويه البخاري، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت منه " (¬1) . وفي مسند أحمد وسنن الترمذي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إنّ الله - تعالى - خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثمّ جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثمّ جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً)) (¬2) . وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)) (¬3) . 4- أحرار بعيدون عن الرق: ومن صفات الكمال أنّ الأنبياء لا يكونون أرقاء. يقول السفاريني في هذا: " الرق وصف نقص لا يليق بمقام النبوة، والني يكون داعياً للناس آناء الليل وأطراف النهار، والرقيق لا يتيسر له ذلك، وأيضاً الرقّيَّة وصف نقص يأنف الناس ويستنكفون من اتباع من اتصف بها، وأن يكون إماماً لهم وقدوة، وهي أثر الكفر، والأنبياء منزهون عن ذلك " (¬4) (¬5) . ¬

(¬1) رواه البخاري: 3557. (¬2) رواه أحمد والترمذي: (صحيح الجامع: 2/22) . وقد حسنه الترمذي: 3607. (¬3) صحيح مسلم: 2276. (¬4) لوامع الأنوار البهية: ص2/265. (¬5) قد يعترض على هذا بأن رسول الله يوسف باعه الذين استنقذوه من البئر وبذلك أصبح عبداً، والإجابة على ذلك أن العبودية هنا كانت نوعاً من الابتلاء، وإلاّ فهو حر وقع عليه الظلم، ولم تستمر هذه العبودية طويلاً، وأبدله الله بها ملكاً.

5- التفرد في المواهب والقدرات: الأنبياء أُعطوا العقول الراجحة، والذكاء الفذ، واللسان المبين، والبديهة الحاضرة، وغير ذلك من المواهب والقدرات التي لا بدّ منها لتحمل الرسالة ثم إبلاغها ومتابعة الذين تقبلوها بالتوجيه والتربية. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ما يُلقى إليه ولا ينسى منه كلمة (سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى) [الأعلى: 6] . وقد كانوا يعرضون دين الله للمعارضين ويفحمونهم في معرض الحجاج، وفي هذا المجال أسكت إبراهيم خصمه (فبهت الَّذي كفر والله لا يهدي القوم الظَّالمين) [البقرة: 258] ، وقال الله معقباً على محاججة إبراهيم لقومه: (وتلك حجَّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ مَّن نَّشاء) [الأنعام: 83] . وموسى كان يجيب فرعون على البديهة حتى انقطع، فانتقل إلى التهديد بالقوة (قال فرعون وما ربُّ العالمين - قال ربُّ السَّماوات والأرض وما بينهما إن كنتم مُّوقنين - قال لمن حوله ألا تستمعون - قال ربُّكم وربُّ آبائكم الأوَّلين - قال إنَّ رسولكم الَّذي أرسل إليكم لمجنون - قال ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون - قال لئن اتَّخذت إلهاً غيري لأجعلنَّك من المسجونين) [الشعراء: 23-29] . 6- الكمال في تحقيق العبودية: بيّنا الكمال الذي حبا الله به رسله في صورهم الظاهرة، وأخلاقهم الباطنة، والمواهب والسجايا التي أعطاهم إياها في ذوات أنفسهم، وهناك نوع آخر من الكمال وفق الله رسله وأنبياءه لتحصيله، وهو تحقيق العبودية لله في أنفسهم. فكلّما كان الإنسان أكثر تحقيقاً للعبودية لله تعالى، كلَّما كان أكثر رقيّاً في سلّم الكمال الإنساني، وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية لله كلما هبط وانحدر. والرسل حازوا السبق في هذا الميدان، فقد كانت حياتهم انطلاقة جادة في

تحقيق هذه العبودية، وهذا خاتم الرسل وسيد المرسلين يثني عليه ربّه في أشرف المقامات بالعبودية، فيصفه بها في مقام الوحي (فأوحى إلى عبده ما أوحى) [النجم: 10] ، وفي مقام إنزال الكتاب (تبارك الَّذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) [الفرقان: 1] ، وفي مقام الدعوة (وأنَّه لمَّا قام عبد الله يدعوه) [الجن: 19] ، وفي مقام الإسراء (سبحان الَّذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الَّذي باركنا حوله..) [الإسراء: 1] وبهذه العبودية التامة استحق صلوات الله وسلامه عليه التقديم على الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك فإن المسيح عليه السلام يقول للناس إذا طلبوا منه الشفاعة بعد طلبها من الرسل من قبله: " ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " (¬1) . وإليك صورة من صور هذه العبودية ترويها لنا أمّنا عائشة - رضي الله عنها - قالت رضي الله عنها وعن أبيها: " قلت: يا رسول الله، كُلْ - جعلني الله فداك - متكئاً، فإنّه أهون عليك، فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض، وقال: بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد " رواه البغوي في شرح السنة، وابن سعد، والإمام أحمد في الزهد (¬2) . 7- الذكورة: ومن الكمال الذي حباهم به أنه اختار جميع الرسل الذين أرسلهم من الرجال، ولم يبعث الله رسولاً من النساء يدلُّ على ذلك صيغة الحصر التي وردت في قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نُّوحي إليهم) [الأنبياء: 7] . الحكمة من كون الرسل رجالاً: كان الرسل من الرجال دون النساء لحكم يقتضيها المقام فمن ذلك: ¬

(¬1) صحيح البخاري: 6565. (¬2) انظر صحيح جامع الصغير: (1/122) .

1- أنّ الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة، ومخاطبة الرجال والنساء، ومقابلة الناس في السرّ والعلانية، والتنقل في فجاج الأرض، ومواجهة المكذبين ومحاججتهم ومخاصمتهم، وإعداد الجيوش وقيادتها، والاصطلاء بنارها، وكل هذا يناسب الرجال دون النساء. 2- الرسالة تقتضي قوامة الرسول على من يتابعه، فهو في أتباعه الآمر الناهي، وهو فيهم الحاكم والقاضي، ولو كانت الموكلة بذلك امرأة لَمْ يتم ذلك لها على الوجه الأكمل، ولا ستنكف أقوام من الاتباع والطاعة. 3- الذكورة أكمل كما بينا آنفاً، ولذلك جعل الله القوامة للرجال على النساء (الرجال قوَّامون على النساء) [النساء: 34] وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنّ النساء ناقصات عقل ودين. 4- المرأة يطرأ عليها ما يعطلها عن كثير من الوظائف والمهمات، كالحيض والحمل والولادة والنفاس، وتصاحب ذلك اضطرابات نفسية وآلام وأوجاع، عدا ما يتطلبه الوليد من عناية، وكل ذلك مانع من القيام بأعباء الرسالة وتكاليفها.

(1) نبوّة النساء ذهب بعض العلماء (1) إلى أنّ الله أنعم على بعض النساء بالنبوة، فمن هؤلاء أبو الحسن الأشعري والقرطبي وابن حزم (2) . والذين يقولون بنبوة النساء متفقون على نبوة مريم، ومنهم من ينسب النبوة إلى غيرها، ويعدّون من النساء النبيات: حواء وسارة وأمّ موسى وهاجر وآسية. وهؤلاء عندما اعترض عليهم بالآية التي تحصر الرسالة في الرجال دون النساء، قالوا: نحن لا نخالف في ذلك، فالرسالة للرجال، أمّا النبوة فلا يشملها النصُّ القرآني، وليس في نبوة النساء تلك المحذورات التي عددتموها فيما لو كان من النساء رسول، لأنَّ النبوة قد تكون قاصرة على صاحبها، يعمل بها، ولا يحتاج إلى أن يبلغها إلى الآخرين. أدلتهم: وحجّة هؤلاء أن القرآن أخبر بأن الله تعالى أوحى إلى بعض النساء، فمن ذلك أنه أوحى إلى أمّ موسى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادُّوه إليك وجاعلوه من المرسلين) [القصص: 7] ، وأرسل جبريل إلى مريم فخاطبها (فأرسلنا إليها روحنا

فتمثَّل لها بشراً سويّاً - قالت إني أعوذ بالرَّحمن منك إن كنت تقيّاً - قال إنَّما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً..) [مريم: 17-19] وخاطبتها الملائكة قائلة: (يا مريم إنَّ الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين - يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الرَّاكعين..) [آل عمران: 42-43] . فأبو الحسن الأشعري يرى أنّ كلَّ من جاءه الملك عن الله - تعالى - بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام فهو نبي (3) ، وقد تحقق في أمّ موسى ومريم شيء من هذا، وفي غيرهما أيضاً، فقد تحقق في حواء وسارة وهاجر وآسية بنصّ القرآن. واستدلوا أيضاً باصطفاء الله لمريم على العالمين (واصطفاك على نساء العالمين) [آل عمران: 42] وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون)) (4) . قالوا: الذي يبلغ مرتبة الكمال هم الأنبياء. الردّ عليهم: وهذا الذي ذكروه لا ينهض لإثبات نبوة النساء، والرد عليهم من وجوه: الأول: أنّا لا نسلم لهم أن النبيَّ غير مأمور بالتبليغ والتوجيه ومخالطة الناس، والذي اخترناه أن لا فرق بين النبيّ والرسول في هذا، وأنَّ الفرق واقع في كون النبي مرسل بتشريع رسول سابق. وإذا كان الأمر كذلك فالمحذورات التي قيلت في إرسال رسول من النساء قائمة في بعث نبي من النساء، وهي محذورات كثيرة تجعل المرأة لا تستطيع القيام بحقّ النبوة. الثاني: قد يكون وحي الله إلى هؤلاء النسوة أم موسى وآسية.. إنّما وقع مناماً، فقد علمنا أنّ من الوحي ما يكون مناماً، وهذا يقع لغير الأنبياء.

الثالث: لا نسلم لهم قولهم: إن كل من خاطبته الملائكة فهو نبي، ففي الحديث أن الله أرسل ملكاً لرجل يزور أخاً له في الله في قرية أخرى، فسأله عن سبب زيارته له، فلمّا أخبره أنه يحبّه في الله، أعلمه أنَّ الله قد بعثه إليه ليخبره أنه يحبّه، وقصة الأقرع والأبرص والأعمى معروفة، وقد جاء جبريل يعلم الصحابة أمر دينهم بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يشاهدونه ويسمعونه (5) . الرابع: أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - توقف في نبوة ذي القرنين مع إخبار القرآن بأنّ الله أوحى إليه (قلنا يا ذا القرنين إمَّا أن تعذب وإمَّا أن تتَّخذ فيهم حسناً) [الكهف: 86] . الخامس: لا حجّة لهم في النصوص الدالة على اصطفاء الله لمريم، فالله قد صرح بأنّه اصطفى غير الأنبياء: (ثمَّ أورثنا الكتاب الَّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مُّقتصدٌ ومنهم سابق بالخيرات) [فاطر: 32] ، واصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ومن آلهما من ليس بنبيّ جزماً (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) [آل عمران: 33] . السادس: لا يلزم من لفظ الكمال الوارد في الحديث الذي احتجوا به النبوة، لأنّه يطلق لتمام الشيء، وتناهيه في بابه، فالمراد بلوغ النساء الكاملات النهاية في جميع الفضائل التي للنساء، وعلى ذلك فالكمال هنا غير كمال الأنبياء. السابع: ورد في بعض الأحاديث النصّ على أن خديجة من الكاملات (6) وهذا يبين أن الكمال هنا ليس كمال النبوة. الثامن: ورد في بعض الأحاديث أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلاّ ما كان من مريم ابنة عمران (7) ، وهذا يبطل القول بنبوة من عدا مريم كأم موسى وآسية،

لأنّ فاطمة ليست بنبيّة جزماً وقد نصَّ الحديث على أنها أفضل من غيرها، فلو كانت أم موسى وآسية نبيتان لكانتا أفضل من فاطمة. التاسع: وصف مريم بأنها صديقة في مقام الثناء عليها والإخبار بفضلها، قال تعالى: (مَّا المسيح ابن مريم إلاَّ رسولٌ قد خلت من قبله الرُّسل وأمُّه صديقةٌ كانا يأكلان الطَّعام) [المائدة: 75] فلو كان هناك وصفاً أعلى من ذلك لوصفها به، ولم يأت في نصّ قرآني ولا في حديث نبويّ صحيح إخبار بنبوة واحدة من النساء. وقد نقل القاضي عياض عن جمهور الفقهاء أنّ مريم ليست بنبيّة، وذكر النووي في الأذكار عن إمام الحرمين أنّه نقل الإجماع على أنّ مريم ليست نبيّة (8) ، ونسبه في ((شرح المهذب)) لجماعة، وجاء عن الحسن البصري: ليس في النساء نبيّة ولا في الجنّ (9) .

ولا تنام قلوبهم " رواه البخاري في صحيحه (¬1) ، وهذا وإن كان من قول أنس إلا أن مثله لا يقال من قبل الرأي كما يقول ابن حجر (¬2) ، وقد ورد هذا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صحّ عنه أنّه قال: " إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا "، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: " إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي " (¬3) . 4- تخيير الأنبياء عند الموت: مما تفرد به الأنبياء أنّهم يخيَّرون بين الدنيا والآخرة، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من نبي يمرض إلاّ خيّر بين الدنيا والآخرة "، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحّة شديدة، فسمعته يقول: (مع الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبيين والصديقين والشُّهداء والصَّالحين) [النساء: 69] فعلمت أنه خيَّر (¬4) . وقد سبق أن أوردنا حديث تخيير ملك الموت لموسى وضرب موسى لملك الموت وقلع عينه (¬5) . 5- لا يقبر نبي إلا حيث يموت: ممّا خص به الأنبياء بعد موتهم أمور تتعلق بهم في القبر، منها: الأول: أنّه لا يقبر نبيٌّ إلاّ في الموضع الذي مات فيه، ففي الحديث: " لم يقبرني نبيٌّ إلا حيث يموت " (¬6) ولهذا فإنّ الصحابة - رضوان الله عليهم - دفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة حيث قبض. ¬

(¬1) صحيح البخاري: 3570. (¬2) فتح الباري: 6/579. (¬3) رواه ابن سعد وابن حبان: (انظر صحيح الجامع الصغير: 3/55) . (¬4) رواه البخاري: 4586. (¬5) انظر كتاب أ. د. عمر الأشقر: عالم الملائكة من هذه السلسلة. (¬6) رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح: (انظر صحيح الجامع الصغير: 5/46) .

6- لا تأكل الأرض أجسادهم: ومن إكرام الله لأنبيائه ورسله أنّ الأرض لا تأكل أجسادهم، فمهما طال الزمان وتقادم العهد تبقى أجسادهم محفوظة من البلى، ففي الحديث " إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " (¬1) . ويذكر أهل التاريخ قصة فيها عجب وغرابة، روى ابن كثير في البداية والنهاية (¬2) عن يونس بن بكير قال: لما فتحنا تستر [مدينة في فارس] وجدنا في مال بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أوّل رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما اقرأ القرآن هذا. فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيركم وأموركم ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلّها، لنعميه على الناس فلا ينبشونه (¬3) . قلت: فما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. قلت: من كنتم تظنون بالرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. قلت: مذ كم وجدتموه؟ قال: قد مات منذ ثلاثمائة سنة. ¬

(¬1) رواه أبو داود: (1531) وعزاه ابن حجر أيضاً إلى النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره (انظر فتح الباري: 6/488) . (¬2) البداية والنهاية: (2/40) . (¬3) وهذا يدل على فقه المسلمين في ذلك الوقت، فإنّ إكرام الميت دفنه، سواء أكان نبياً أم غير نبي، وحفرهم القبور الكثيرة لتعمية أمره على الناس حتى لا ينبشوا قبره، وفي ذلك إيذاء لهذا النبي الكريم، وقد يتخذون قبره عيداً، ويقيمون عليه مسجداً، ويقصدونه بالدعاء والتبرك كما يفعل كثير من الذين ضلوا عن سواء الصراط في كثير من ديار الإسلام.

قلت: ما تغير منه شيء؟ قال: لا إلاّ شعرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا يبليها الأرض، ولا تأكلها السباع. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية. ويبدو أن هذا من أنبياء بني إسرائيل، وقد ظنَّ الصحابة أنّه دانيال، لأنّ دانيال أخذه ملك الفرس، فأقام عنده مسجوناً، ويبدو أنَّ تقدير الذين وجدوه لم يكن صواباً، فإنّ دانيال كان قبل الإسلام بثمانمائة سنة، فإن كان تقديرهم صواباً فليس بنبي؛ لأنّه لا نبي بين عيسى ورسولنا محمد عليهما الصلاة والسلام، فيكون عبداً صالحاً ليس بنبي، وكونه نبياً أرجح، لأنّ الذين تحفظ أجسادهم هم الأنبياء دون غيرهم، ويرجح هذا أيضاً ذلك الكتاب الذي وجد عند رأسه، لا شكّ أنه كتاب نبيّ، فالأمور الغيبيّة التي تضمنها لا تكون إلا وحياً سماوياً، وترجيحنا لكونه من بني إسرائيل لأمرين: الأول: ظن الصحابة أنّه دانيال، ويكونون قد علموا ذلك من قرائن لم تذكر. والثاني: الكتاب الذي وجد عند رأسه، ويبدو أنه كان مكتوباً بالعبرانية، لأنّ الذي ترجمه هو أبيّ بن كعب، وقد كان قبل إسلامه يهودياً. 7- أحياء في قبورهم: صحَّ عن النبيَّ أنّ " الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون " (¬1) ، وروي أيضاً أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " مررت على موسى ليلة أسري به عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره " (¬2) . وروى مسلم عن أبي هريرة في قصة الإسراء: " وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي..، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي، وإذا إبراهيم قائم يصلي " (¬3) . ¬

(¬1) رواه الجماعة عن أنس (انظر صحيح الجامع 2/414) . (¬2) صحيح مسلم: 2375. (¬3) صحيح مسلم: 172.

عِصمَة الرّسُل هل الرسل معصومون عن الخطأ والمعصية، وهل هي عصمة عامّة شاملة؟ هذا ما سنحاول بيانه في هذا الفصل. المبحث الأول العِصمة في التحمّل وفي التبليغ اتفقت الأمة على أنَّ الرسل معصومون في تحمّل الرسالة (¬1) ، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلاّ شيئاً قد نُسخ، وقد تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقرئه فلا ينسى شيئاً مما أوحاه إليه، إلا شيئاً أراد الله أن ينسيه إياه: (سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى - إلاَّ ما شاء الله) [الأعلى: 6-7] ، وتكفل له بأن يجمعه في صدره: (لا تحرك به لسانك لتعجل به - إنَّ علينا جمعه وَقُرْآنَهُ - فإذا قَرَأْنَاهُ فاتَّبع قُرْآنَهُ) [القيامة: 16-18] . وهم معصومون في التبليغ، فالرسل لا يكتمون شيئاً ممّا أوحاه الله إليهم، ذلك أن الكتمان خيانة، والرسل يستحيل أن يكونوا كذلك، قال تعالى: (يا أيُّها الرَّسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لَّم تفعل فما بلَّغت رسالته) [المائدة: 67] ولو حدث شيء من الكتمان أو التغيير لما أوحاه الله، فإن عقاب الله يحلّ بذلك الكاتم المغيّر (ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل - لأخذنا منه باليمين - ثمَّ لقطعنا منه الوتين) [الحاقة: 44-46] . ¬

(¬1) نقل الإجماع على العصمة في هذا أكثر من واحد انظر: مجموع الفتاوى 10/291، ولوامع الأنوار البهية: (2/304) .

ومن العصمة ألاّ ينسوا شيئاً مما أوحاه الله إليهم، وبذلك لا يضيع شيء من الوحي، وعدم النسيان في التبليغ داخل في قوله تعالى: (سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى) [الأعلى: 6] وما يدل على عصمته في التبليغ قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى - إن هو إلاَّ وحي يوحى) [النجم: 3-4] .

عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من القتل: عصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من القتل حتى يبلغ رسالة ربه، قال تعالى: (يا أيُّها الرَّسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لَّم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس) [المائدة: 67] ، قال سفيان الثوري فيما نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية: " بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظك، وناصرك ومؤيدك على أعدائك، ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك " (¬1) . وقد أورد ابن كثير في تفسيره هذه الآية الأحاديث التي تفيد أنّ الصحابة كانوا يحرسون الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية، فلما نزلت ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس (¬2) . وقد جعل اليهود في شاة مصلية أهدتها يهودية لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمّاً لتقتله، فلما سألهم عما حملهم على ذلك قالوا: " أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت صادقاً لم يضرك " رواه البخاري (¬3) . ولما سأل المرأة قالت: " أردت قتلك " فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك " رواه البخاري ومسلم وأبو داود (¬4) . فقد عصم الله رسوله أن يقتله السم، وأكل معه بعض أصحابه فماتوا كما أفادته بعض الأحاديث التي روت الواقعة. عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الشيطان: وعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان، وقد أعان الله رسوله على قرينه الشيطان فأسلم، فلا يأمره إلا بخير، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك؟ قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير " (¬5) وفي حديث عائشة أنه سمى القرين شيطاناً (¬6) . المبحث الثاني عدم العصمة من الأعراض البشريّة كالخوف والنسيان الأعراض البشرية كالخوف والغضب والنسيان تقع من الرسل والأنبياء، وهي لا تنافي عصمتهم والأمثلة على ذلك في الكتاب والسنة كثيرة، فمن ذلك: 1- خوف إبراهيم عليه السلام من ضيوفه: أوجس إبراهيم عليه السلام في نفسه خيفة عندما رأى أيدي ضيوفه لا تمتد إلى الطعام الذي قدمه لهم، ولم يكن يعلم أنّهم ملائكة تشكلوا في صور البشر (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) [هود: 70] . 2- عدم صبر موسى عليه السلام على تصرفات العبد الصالح: وموسى وعد الخضر بأن يصبر في صحبته له، فلا يسأله عن أمر يفعله العبد الصالح حتى يحدث له منه ذكراً، ولكنه لم يتمالك نفسه، إذ رأى تصرفات غريبة، فكان في كل مرّة يسأل أو يعترض أو يوجه (¬7) ، وفي كل مرّة يذكّره العبد الصالح ويقول له: (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا) [الكهف: 75] . وعندما كشف له عن سر أفعاله قال له: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) [الكهف: 82] . 3- تصرفات موسى عليه السلام عندما رأى قومه يعبدون العجل: وغضب موسى غضباً شديداً، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح وفي نسختها هدى - عندما عاد إلى قومه بعد أن تمّ ميقات ربه، فوجدهم يعبدون العجل، (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: 3/1205. (¬2) المصدر السابق: 3/1206. (¬3) جامع الأصول: 11/326. ورقمه فيه: 1886. (¬4) جامع الأصول: 11/327، ورقمه فيه: 327. (¬5) صحيح مسلم: (2814) . (¬6) صحيح مسلم: (2815) . (¬7) كانت المرة الأولى من موسى نسياناً، أمّا الثانية والثالثة فكان متعمداً.

مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 150] وفي الحديث: " ليس الخبر كالمعاينة، إنَّ الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلمّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت " (¬1) . 4- نسيان آدم وجحوده: ومن ذلك نسيان آدم عليه السلام وجحوده، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كلٍّ منهم وبيصاً من نور، ثمّ عرضهم على آدم، فقال: أي ربِّ مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي ربّ من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك، يقال له داود، فقال: ربِّ كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي ربِّ زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم، جاءه ملك الموت، فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة، قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته " (¬2) . 5- نبي يحرق قرية النمل: ومن ذلك ما وقع من نبي من الأنبياء غضب إذ قرصته نملة، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فعاتبه الله على ذلك، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثمّ أمر ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلاّ نملة واحدة " (¬3) . ¬

(¬1) رواه أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط، بإسناد صحيح: (انظر صحيح الجامع الصغير: 5/87) . (¬2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط مسلم: (البداية والنهاية 1/87) . (¬3) صحيح البخاري: 3319. وصحيح مسلم: 2241.

6- نسيان نبينا صلى الله عليه وسلم وصلاته الظهر ركعتين: ومن ذلك نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم في غير البلاغ، وفي غير أمور التشريع، فمن ذلك ما رواه ابن سيرين عن أبي هريرة قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إحدى صلاتي العشيّ (¬1) ، فصلى ركعتين، ثمّ سلّم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنّه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبّك بين أصابعه، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه. وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدم فصلّى ما ترك، ثمّ سلّم، ثمّ كبّر، وسجد مثل سجود أو أطول، ثمّ رفع رأسه وكبّر، وسجد مثل سجوده أو أطول، ثمّ رفع رأسه وكبّر، فربما سألوه، ثمّ سلّم، فيقول: أنبئت أنّ عمران بن حصين، قال: ثمّ سلّم " متفق عليه، وليس لمسلم فيه وضع اليد على اليد ولا التشبيك. وفي رواية، قال: " بينما أنا أصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر سلّم من ركعتين، فقام رجل من بني سليم، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ " وساق الحديث، رواه أحمد ومسلم. وهذا يدل على أنّ القصة كانت بحضرته وبعد إسلامه. وفي رواية متفق عليها لما قال: " لم أنس ولم تقصر، قال: بلى، قد نسيت " وهذا يدل على أن ذا اليدين تكّلم بعدما علم عدم النسخ كلاماً ليس بجواب سؤال (¬2) . وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بطروء النسيان عليه كعادة البشر، ففي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ولكنّي إنّما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت ¬

(¬1) قال الأزهري: العشى عند العرب ما بين زوال الشمس وغروبها، فيكون المراد بهما الظهر أو العصر، (نيل الأوطار: 3/115) ، وقد حصل الجزم بأنها الظهر في إحدى الروايات. (¬2) نص الحديث برواياته كما نقلها من منتقي الأخبار للمجد ابن تيمية انظر شرحه نيل الأوطار: 3/114.

فذكروني " (¬1) قال هذا بعد نسيانه في إحدى الصلوات. أمّا الحديث الذي يروى بلفظ: " إني لا أنسى، ولكن أُنسَّى لأسنّ " فلا يجوز أن يعارض به الحديث السابق، لأنّ هذا الحديث - كما يقول ابن حجر - لا أصل له، فإنّه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد (¬2) . المبحث الثالث مدى العصمة في إصابة الحق في القضاء الأنبياء والرسل يجتهدون في حكم ما يعرض عليهم من وقائع، ويحكمون وفق ما يبدو لهم، فهم لا يعلمون الغيب، وقد يخطئون في إصابة الحق، فمن ذلك عدم إصابة نبي الله داود في الحكم، وتوفيق الله لابنه سليمان في تلك المسألة. فعن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنّما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنّما ذهب بابنك، فتحاكمنا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى " (¬3) . وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضية وجلاّها، فقد روت أمُّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: " إنّما أنا بشر، وإنّه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضى له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها " (¬4) . ¬

(¬1) رواه الجماعة إلاّ الترمذي (نيل الأوطار: 3/125) . (¬2) نيل الأوطار: 3/117. (¬3) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى: (ووهبنا لداوود سليمان) [ص: 30] حديث رقم: 2428. (¬4) رواه البخاري، كتاب المظالم، باب إثم من خاصم في الباطل ورقمه: 2458، ورواه مسلم: 1713.

الذين ينفون عن الرسل والأنبياء هذه الأعراض مخالفون للنصوص: ذهبت الشيعة الإمامية الاثنا عشرية (¬1) إلى أن العصمة تقتضي ألا يقع من الأنبياء سهو ولا نسيان ولا خطأ، ولا خوف ولا غير ذلك من الأعراض البشرية، وقد سقنا لك النصوص من الكتاب والسنة الدالة على خلاف ذلك، وهي نصوص لا تقبل تحويلاً ولا تأويلاً، فعليك بالكتاب والسنة ففيهما الهداية. ¬

(¬1) انظر عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر: ص79.

العصمة من الشرك والمعاصي والذّنوب المطلب الأول العصمة من الكبائر الأمة الإسلامية مجمعة على عصمة الأنبياء والرسل من الكبائر من الذنوب وقبائح العيوب، كالزنى والسرقة والمخادعة، وصناعة الأصنام وعبادتها، والسحر، ونحو ذلك، وقد برأ كتاب الله وسنة رسوله أنبياء الله ورسله مما افتراه عليهم اليهود والنصارى في المحرف من كتبهم، وإليك بعض ما نسبوه إليهم: أولاً: ما نسب اليهود إلى الأنبياء والمرسلين من القبائح: 1- زعموا أن نبيّ الله هارون صنع عجلاً، وعبده مع بني إسرائيل، [إصحاح (32) عدد (1) من سفر الخروج] . وقد بيّن ضلالهم هذا القرآن عندما حدثنا أنّ الذي صنع لهم عجلاً جسداً له خوار هو السامري، وأن هارون قد أنكر عليهم إنكاراً شديداً. 2- أن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قدّم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها. [إصحاح (12) عدد (14) من سفر التكوين] . وقد كذبوا على خليل الرحمن، وقد قص علينا الرسول صلى الله عليه وسلم قصة إبراهيم هذه عند دخوله لمصر، وفيها أن ملك مصر كان طاغية، وكان إذا وجد امرأة جميلة ذات زوج قتل زوجها وحازها لنفسه، فلما سئل إبراهيم عنها قال هي أخته، يعني أخته في الإسلام، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله حفظ سارة عندما ذهبت إلى الطاغية، فلم يمسها بأذى. 3- ومن ذلك أن لوطاً عليه السلام شرب خمراً حتى سكر، ثمّ قام على ابنتيه فزنى بهما الواحدة بعد الأخرى.. [سفر التكوين، إصحاح (19) عدد

(30) ] ومعاذ الله أن يفعل لوط ذلك، وهو الذي دعا إلى الفضيلة طيلة عمره، وحارب الرذيلة، ولكنّه الحقد اليهودي يمتد إلى الكملة من البشر، فلعنة الله على الظالمين. 4- وأن يعقوب عليه السلام سرق مواشٍ من حميّه، وخرج بأهله خلسة دون أن يُعلمه.. [سفر التكوين، إصحاح (31) عدد (17) ] . 5- وأن روابين زنى بزوجة أبيه يعقوب، وأن يعقوب عليه السلام، علم بهذا الفعل القبيح وسكت.. [سفر التكوين، إصحاح (35) عدد (32) ] . 6- وأن داود عليه السلام زنى بزوجة رجل من قواد جيشه، ثم دبر حيلة لقتل الرجل، فقتل، وبعدئذ أخذ داود الزوجة وضمها إلى نسائه، فولدت له سليمان. [سفر صموئيل الثاني إصحاح (11) عدد (1) ] . 7- وأن سليمان ارتد في آخر عمره، وعبد الأصنام، وبنى لها المعابد.. [سفر الملوك الأول، إصحاح (11) عدد (5) ] . هذه بعض المخازي والقبائح والكبائر التي نسبتها هذه الأمة المغضوب عليها إلى أنبياء الله الأطهار، وحاشاهم مما وصفوهم به، ولكنها النفوس المريضة تنسب إلى خيرة الله من خلقه القبائح، ليسهل عليهم تدبير ذنوبهم ومعايبهم عندما ينكر عليهم منكر، ويعترض عليهم معترض. ثانياً: ما نسبه النصارى من القبائح إلى الأنبياء: والنصارى ليسوا بأفضل من اليهود في هذا، فقد نسبوا إلى الأنبياء والرسل القبائح، وذلك بتصديقهم بالتوراة المحرفة المغيرة الموجودة اليوم والتي فيها ما ذكرنا، بالإضافة إلى ما في الإنجيل المحرف ومما فيه: 1- ورد في إنجيل (متى) أن عيسى من نسل سليمان بن داود، وأن جدهم فارض الذي هو من نسل الزنى من يهوذا بن يعقوب.. [إصحاح متى الأول، عدد (10) ] .

2- وفي إنجيل [يوحنا إصحاح (2) عدد (4) ] أن يسوع أهان أمَّه في وسط جمع من الناس، فأين هذا مما وصفه به القرآن (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) [مريم: 32] . 3- وأن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سراق ولصوص.. [إنجيل يوحنا، إصحاح (10) عدد (8) ] . هذا غيض من فيض مما تطفح به تلك الأناجيل المحرفة من وصف الأنبياء والرسل بما هم بريئون منه (1) ، إن الأنبياء والرسل أزكى الناس وأطهرهم وأفضلهم، ووالله إن هؤلاء لضالون فيما وصفوا به أنبياء الله الأبرار الأطهار. ولذا فإن الأمة الإسلامية هي المدافعة عن الأنبياء والرسل، المشيدة بمآثرهم، فهي وراثة الأنبياء، المقيمة لدينهم، بخلاف ما عليه اليهود والنصارى تجاه أنبيائهم.

المطلب الثاني العصمة من الصغائر ذهب أكثر علماء الإسلام إلى أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر، وقال ابن تيمية: " القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أنّ هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلاّ ما يوافق هذا القول.." (2) . الأدلة: وقد استدل جماهير العلماء على دعواهم بأدلة: 1- معصية آدم بأكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها، (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى - فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى - إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى - فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى - فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه: 116-121] . والآية في غاية الوضوح والدلالة على المراد، فقد صرحت بعصيان آدم ربه.

2- ونوح دعا ربه في ابنه الكافر (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود: 45] ، فلامه ربه على مقالته هذه، وأعلمه أنّه ليس من أهله، وأن هذا منه عمل غير صالح (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود: 46] فاستغفر ربّه من ذنبه وتاب وأناب (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) [هود: 47] . والآية صريحة في كون ما وقع منه كان ذنباً يحتاج إلى مغفرة (وإلاَّ تغفر لي وترحمني..) . 3- وموسى أراد نصرة الذي من شيعته، فوكز خصمه فقضى عليه (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص: 15-16] ، فقد اعترف موسى بظلمه لنفسه، وطلب من الله أن يغفر له، وأخبر الله بأنه غفر له. 4- وداود عليه السلام تسّرع في الحكم قبل سماع قول الخصم الثاني، فأسرع إلى التوبة فغفر الله له ذنبه (فاستغفر ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب - فغفرنا له ذلك) [ص: 24-25] . 5- ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عاتبه ربه في أمور (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التحريم: 1] نزلت بسبب تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم العسل على نفسه، أو تحريم مارية القبطية. وعاتبه ربه بسبب عبوسه في وجه الأعمى ابن أم مكتوم، وانشغاله عنه بطواغيت الكفر يدعوهم إلى الله، والإقبال على الأعمى الراغب فيما عند الله هو الذي كان ينبغي أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم: (عَبَسَ وَتَوَلَّى - أَن جَاءهُ الْأَعْمَى - وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى..) [عبس: 1-4] . وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر الفدية فأنزل الله تعالى: (لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 68] .

هذه أمثلة اكتفينا بذكرها عن غيرها، وإلاّ فقد ورد في القرآن مغاضبة يونس لقومه، وخروجه من قومه من غير إذن من ربه، وما صنعه أولاد يعقوب بأخيهم يوسف في إلقائه في غيابة الجبِّ، ثم أوحى الله إليهم وجعلهم أنبياء. القائلون بعصمة الأنبياء من الصغائر: يستعظم بعض الباحثين أن ينسب إلى الأنبياء صغائر الذنوب (3) التي أخبرت نصوص الكتاب والسنة بوقوعها منهم، ويذهب هؤلاء إلى تهويل الأمر، ويزعمون أنّ القول بوقوع مثل هذا منهم فيه طعن بالرسل والأنبياء، ثم يتحملون في تأويل النصوص، وهو تأويل يصل إلى درجة تحريف آيات الكتاب كما يقول ابن تيمية (4) ، وكان الأحرى بهم تفهم الأمر على حقيقته، وتقديس نصوص الكتاب والسنة، واستمداد العقيدة في هذا الأمر وفي كل أمر من القرآن وأحاديث الرسول، وبذلك نحكمها في كل أمر، وهذا هو الذي أمرنا به، أمّا هذا التأويل، والتحريف بعد تصريح الكتاب بوقوع مثل ذلك منهم فإنّه تحكيم للهوى، ونعوذ بالله من ذلك. وقد انتشرت هذه التأويلات عند الكتاب المحدثين، وهي تأويلات فاسدة من جنس تأويلات الباطنية والجهمية، كما يقول ابن تيمية (5) . شبهتان (6) : الذين منعوا من وقوع الصغائر من الأنبياء أوردوا شبهتين: الأولى: أن الله أمر باتباع الرسل والتأسي بهم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] ، وهذا شأن كل رسول، والأمر باتباع الرسول

يستلزم أن تكون اعتقاداته وأفعاله وأقواله جميعها طاعات لا محالة، لأنه لو جاز أن يقع من الرسول معصية لله تعالى لحصل تناقض في واقع الحال، إذ يقتضي أن يجتمع في هذه المعصية التي وقعت من الرسول الأمر باتباعها وفعلها من حيث كوننا مأمورين بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، والنهي عن موافقتها من حيث كونها معصية منهي عنها، وهذا تناقض، فلا يمكن أن يأمر الله عبداً بشيء في حال أنه ينهاه عنه. وقولهم هذا يكون صحيحاً، لو بقيت معصية الرسول خافية غير ظاهرة، بحيث تختلط علينا الطاعة بالمعصية، أمّا وأنّ الله ينبه رسله وأنبياؤه إلى ما وقع منهم من مخالفات ويوفقهم إلى التوبة منها، من غير تأخير فإنّ ما أوردوه لا يصلح دليلاً بل يكون التأسي بهم في هذا منصباً على الإسراع في التوبة عند وقوع المعصية، وعدم التسويف في هذا، تأسياً بالرسل والأنبياء الكرام في مبادرتهم بالتوبة من غير تأخير. الثانية: أنّ هؤلاء توهموا أن الذنوب تنافي الكمال، وأنها تكون نقصاً وإن تاب التائب منها، وهذا غير صحيح، فإنّ التوبة تغفر الحوبة، ولا تنافي الكمال، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم، بل إنّ العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته من معصيته خيراً منه قبل وقوع المعصية، وذلك لما يكون في قلبه من الندم والخوف والخشية من الله تعالى، ولما يجهد به نفسه من الاستغفار والدعاء، ولما يقوم به من صالح الأعمال، يرجو بذلك أن تمحو الصالحات السيئات، وقد قال بعض السلف: " كان داود عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة "، وقال آخر: " لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ". وقد ثبت في الصحاح " أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلته ناقته بأرض فلاة، وعليها طعامه وشرابه، فنام نومة فقام فوجد راحلته فوق رأسه فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح " (7) . وفي الكتاب الكريم: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)

[البقرة: 222] وقال تعالى مبيناً مثوبة التائبين: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ... ) [الفرقان: 70] . وفي يوم القيامة " يدني الله المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم " (8) . ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار منه، يدلنا على هذا أن القرآن لم يذكر ذنوب الأنبياء إلا مقرونة بالتوبة والاستغفار، فأدم وزوجه عصيا فبادرا إلى التوبة قائلين: (ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23] وما كادت ضربة موسى تسقط القبطي قتيلاً حتى سارع طالباً الغفران والرحمة قائلاً: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص: 16] . وداود ما كاد يشعر بخطيئته حتى خرّ راكعاً مستغفراً (فاستغفر ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب) [ص: 24] . فالأنبياء لا يقرون على الذنب، ولا يؤخرون التوبة، فالله عصمهم من ذلك، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها. وبذلك انهارت هاتان الشبهتان، ولم يثبتا في مجال الحجاج والنقاش، وحسبنا بالأدلة الواضحة البينة التي تهدي للتي هي أقوم. السبب في عصمة الأنبياء مما عصموا منه وعدم عصمتهم مما لم يعصموا منه:

الرسل والأنبياء بشر من البشر، عصمهم الله في تحمل الرسالة وتبليغها، فلا ينسون شيئاً، ولا ينقصون شيئاً، وبذلك يصل الوحي الذي أنزله الله إلى الذين أرسلوا إليهم كاملاً وافياً، كما أراده الله جلّ وعلا، وهذه العصمة لا تلازمهم في كلّ أمورهم فقد تقع منهم المخالفة الصغيرة، بحكم كونهم بشراً، ولكنّ رحمة الله تتداركهم، فينبههم الله إلى خطئهم، ويوفقهم للتوبة والأوبة إليه. يقول الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر: " إنّ الوحي لا يلازم الأنبياء في كلّ عمل يصدر عنهم، وفي كلِّ قول يبدر منهم، فهم عرضة للخطأ، يمتازون عن سائر البشر بأنّ الله لا يقرّهم على الخطأ بعد صدوره، ويعاتبهم عليه أحياناً " (9) . تكريم الأنبياء وتوقيرهم: هذه الصغائر التي تقع من الأنبياء لا يجوز أن تتخذ سبيلاً للطعن فيهم، والإزراء عليهم، فهي أمور صغيرة ومعدودة غفرها الله لهم، وتجاوز عنها، وطهرهم منها، وعلى المسلم أن يأخذ العبرة والعظة لنفسه من هذه، فإذا كان الرسل الكرام الذين اختارهم الله واصطفاهم عاتبهم الله ولامهم على أمور كهذه، فإنّه يجب أن نكون على حذر وتخوف من ذنوبنا وآثامنا، وعلينا أن نتأسى بالرسل والأنبياء في المسارعة إلى التوبة والأوبة إلى الله، وكثرة التوجه إليه واستغفاره.

عصمة أئمة الشيعة الاثني عشرية: يزعم الشيعة أن أئمتهم الاثني عشر معصومون عن الخطأ، والعصمة التي ينسبونها لهم هي العصمة التي ينسبونها للأنبياء، يقول أحد مُقدَّمي الشيعة المعاصرين مبيناً مفهوم عصمة الأئمة عندهم: " الأئمة لا نتصور فيهم السهو أو الغفلة، ونعتقد فيهم الإحاطة بكلّ ما فيه مصلحة للمسلمين " (¬1) وينقل إبراهيم الموسوي الزنجاني عن الصدوق قوله: " اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة أنهم معصومون مطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنباً لا صغيراً ولا كبيراً، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون " (¬2) . وهو يكفِّر الذين لا يقولون بعصمة الأئمة، يقول بعد كلامه السابق مباشرة: " ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهَّلهم، ومن جهلهم فهو كافر " (¬3) ، ثمّ قال: " واعتقادنا فيهم أنهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم وأواخرها لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان " (¬4) . وقال المجلسي: " أصحابنا الإمامية أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة من الذنوب الصغيرة والكبيرة عمداً وخطأً ونسياناً، قبل النبوة والإمامة وبعدهما، بل من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد ابن بابويه وشيخه ابن الوليد، فإنهما جوزا الإسهاء من الله تعالى لا السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام " (¬5) ، وعصمة الأئمة عندهم مسألة اعتقادية رئيسة، ولذا فإنهم يكفرون مخالفيهم فيها، ويترتب عليها أمور كثيرة منها: أنّ الكلام المنسوب إلى الأئمة يعتبرونه دليلاً شرعياً كالقرآن والسنة، ولذا فإن التشريع لم ينته عندهم بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو مستمر إلى حين غيبة إمامهم الثاني عشر، بل يرون أنّه يمكن أن يتلقوا رسائل من الإمام ¬

(¬1) الحكومة الإسلامية للخميني: ص91. (¬2) عقائد الإمامية الاثني عشرية: ص157. (¬3) المصدر السابق. (¬4) المصدر السابق. (¬5) بحار الأنوار للمولى محمد باقر المجلسي: (25/350-351) (انظر الإمامة للسالوس: ص21) .

الغائب بواسطة نوابّه. ومن ذلك أنهم أحقّ بالخلافة من غيرهم، فهم أحقّ من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة. السر في دعوى العصمة (¬1) : الأنبياء والرسل معصومون بالوحي، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3-4] . فما سر عصمة الأئمة؟ يقول علماء الشيعة الإمامية: إنّ الله جعل في الأئمة أرواحاً يسددهم بها، فقد عنون الكليني في كتابه أصول الكافي لهذا الموضوع بقوله: " باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة " (1/271-272) و " باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة " (1/273-274) ، وفي هذا الباب ستة أخبار منها عن أبي عبد الله قال في الروح الذي في هذه الآية (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) [الشورى: 52] خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله - عز وجل - أعظم من جبريل وميكائيل، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، ويسدده، وهو مع الأئمة من بعد. وفي الباب الأسبق ذكر عن الإمام الصادق أن روح القدس خاصة بالأنبياء، فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار مع الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، والإمام يرى به (¬2) ، وفسر في الحاشية الرؤية بقوله: يعني ما غاب عنه في أقطار الأرض، وما في عنان السماء، وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى. وفي كتاب بحار الأنوار للمولى محمد باقر المجلسي (25/47-99) " باب الأرواح التي فيهم " " أي في الأئمة " وأنهم مؤيدون بروح القدس وقال ابن بابوية القمي في " رسالة للصدوق في الاعتقادات " (ص108-109) .. " اعتقادنا ¬

(¬1) النقول المثبتة هما بمصادرها أخذناها من كتاب الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة د. علي أحمد السالوس: (ص20) . (¬2) انظر عقائد الإمامية الاثني عشرية لإبراهيم الموسوي الزنجاني: ص161.

في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله، متفقة المعاني، غير مختلفة، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه " وهذا لقمي صاحب كتاب " فقيه من لا يحضره الفقيه " أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية يقول: " ويرى علماء الشيعة أنّ النبي إذا لم يوص فإنّه ناقص النبوة والرسالة، وأنه قد ضيع أمته " (¬1) . ومما يدلُّ على بطلان مدعاهم في الأئمة أنّ المعصوم يجب اتباعه من غير دليل، ومخالفة غير المعصوم جائزة، بل تكون واجبة إذا علمنا أنّه خالف النصَ، وقد أمرنا الله بطاعته وطاعة رسوله، وغير رسوله يطاع إن أمر بطاعة رسوله، فإن تنازعنا رددنا الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59] فلو كان الأئمة معصومين لكان أوجب الرد إلى الله وإلى الرسول والأئمة، فدلّ عدم إيجاب الرد عليهم حال التنازع على عدم عصمتهم. وقد كان عليّ وابناه وغيرهم يخالف بعضهم بعضاً في العلم والفتيا، كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضاً، ولو كانوا معصومين لكان مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة، ولقد كان الحسن في أمر القتال يخالف أباه، ويكره كثيراً مما يفعله، ويرجع علي في آخر الأمر إلى رأيه، وتبين له في آخر الأمر أنّه لو فعل غير الذي فعله لكان الصواب، وله فتاوى رجع ببعضها عن بعض، والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان، إلا أن يكون أحدهما ناسخاً للآخر. وقد وصى الحسن أخاه الحسين بأن لا يطيع أهل العراق، ولا يطلب هذا الأمر، ولو كان معصوماً لما جاز للحسين مخالفته (¬2) . ¬

(¬1) المصدر السابق: ص171. (¬2) راجع مجموع فتاوى: 35/120، 126.

دلائل النّبّوة تمهيد: الأنبياء الذين ابتعثهم الله إلى عباده يقولون للناس: نحن مرسلون من عند الله، وعليكم أن تصدقونا فيما نخبركم به، كما يجب عليكم أن تطيعونا بفعل ما نأمركم به، وترك ما ننهاكم عنه، وقد أخبر الله في سورة الشعراء أن نوحاً خاطب قومه قائلاً: (أَلَا تَتَّقُونَ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء: 106-108] . وبهذا القول نفسه خاطب رسل الله: هود، وصالح، ولوط، وشعيب، أقوامهم، بل هي مقالة ودعوة كل رسول لقومه. فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ أن يقيم الله الدلائل والحجج والبراهين المبينة صدق الرسل في دعواهم أنهم رسل الله كي تقوم الحجة على الناس، ولا يبقى لأحد عذر في عدم تصديقهم وطاعتهم (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) [الحديد: 25] أي: بالدلائل والآيات البينات التي تدلُّ على صدقهم. تنوع الدلائل: أفراد الأدلة الدالة على صدق كل رسول كثيرة متنوعة، وقد عدّ الذين ألّفوا في دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أدلة صدقه، فنافت على الألف عند بعضهم، ويمكننا أن نقسم هذه الأدلة إلى أقسام، يضمُّ كل قسم منها مجموعة متشابهة، وقد أرجعنا أفراد الأدلة إلى خمسة أمور: الأول: الآيات والمعجزات التي يجريها الله تصديقاً لرسله.

الثاني: بشارة الأنبياء السابقين بالأنبياء اللاحقين. الثالث: النظر في أحوال الأنبياء. الرابع: النظر في دعوة الرسل. الخامس: نصر الله وتأييده لهم. وسنتناول كلَّ واحد من هذه الخمسة بشيء من الإيضاح والتفصيل في خمسة مباحث.

المبحث الأول الآيات والمعجزات المطلب الأول تعريف الآية والمعجزة الآية - في لغة العرب - العلامة الدالة على الشيء، والمراد بها هنا: ما يجريه الله على أيدي رسله وأنبيائه من أمور خارقة للسنن الكونية المعتادة التي لا قدرة للبشر على الإتيان بمثلها، كتحويل العصا إلى أفعى تتحرك وتسعى، فتكون هذه الآية الخارقة للسنة الكونية المعتادة دليلاً غير قابل للنقض والإبطال، يدلُّ على صدقهم فيما جاؤوا به. وقد تتابع العلماء على تسمية هذه الآيات بالمعجزات، والمعجزة - في اللغة - اسم فاعل مأخوذ من العجز الذي هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبير (¬1) . ويعرّف الفخر الرازي المعجزة في العرف: بأنّها أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة (¬2) . ويعرفها ابن حمدان الحنبلي بأنَّها ما خرق العادة من قول أو فعل إذا وافق دعوى الرسالة وقارنها وطابقها على جهة التحدي ابتداءً بحيث لا يقدر أحدٌ على مثلها، ولا على ما يقاربها (¬3) . ¬

(¬1) بصائر ذوي التمييز: 1/65. (¬2) لوامع الأنوار البهية: 2/289-290. (¬3) المصدر السابق.

وعلى ذلك فإنّ الأمور التالية لا تعدّ من باب المعجزات: 1- الخوارق التي تعطى للأنبياء وليس مقصوداً بها التحدي، كنبع الماء من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكثيره الطعام القليل، وتسبيح الحصا في كفّه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وما أشبه ذلك. 2- الخوارق التي أعطاها الله لغير الأنبياء ويسميها المتأخرون كرامات. والذين فرقوا هذا التفريق هم العلماء المتأخرون، أمّا المعجزة في اللغة وفي عرف العلماء المتقدمين كالإمام أحمد فإنّها تشمل ذلك كله (¬1) . وقد أطلقنا عليها اسم (الآية) كما جاء بذلك القرآن الكريم، وهو اسم شامل لكل ما أعطاه الله لأنبيائه للدلالة على صدقهم سواءً أقصد به التحدي أم لم يقصد. ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 11/311، ولوامع الأنوار البهية: 2/290.

المطلب الثاني أنواع الآيات (الجزء الأول) إذا استقرأنا الآيات والمعجزات التي أعطاها الله لرسله وأنبيائه نجدها تندرج تحت ثلاثة أمور: العلم، والقدرة، والغنى (¬1) . فالإخبار بالمغيبات الماضية والآتية، كإخبار عيسى قومه بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم، وإخبار رسولنا صلى الله عليه وسلم بأخبار الأمم السابقة، وإخباره بالفتن وأشراط الساعة التي ستأتي في المستقبل - كل ذلك من باب العلم. وتحويل العصا أفعى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وشقّ القمر وما أشبه هذا - من باب القدرة. وعصمة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الناس، وحمايته له ممن أراد به سوءاً، ومواصلته للصيام مع عدم تأثير ذلك على حيويته ونشاطه من باب الغنى. وهذه الأمور الثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، التي ترجع إليها المعجزات لا ينبغي أن تكون على وجه الكمال إلاّ لله تعالى، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من دعوى هذه الأمور (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) [الأنعام: 50] . ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 11/312-313.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يبرأ من دعوى علم الغيب، وملك خزائن الأرض، ومن كونه مَلَكاً مستغنياً عن الطعام والشراب والمال. والرسل ينالون من هذه الثلاثة المخالفة للعادة المطردة، أو لعادة أغلب الناس بقدر ما يعطيهم الله تعالى، فيعلمون من الله ما علمهم إيّاه، ويقدرون على ما أقدرهم عليه، ويستغنون بما أغناهم به.

أمثلة من آيات الرُّسُلِ: أولاً: آية نبي الله صالح: دعا صالح قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) [النمل: 45] ، فكذبوه وطلبوا منه آية تدل على صدقه (قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ - مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء: 153-154] . يقول ابن كثير: " ذكر المفسرون أنّ ثمود اجتمعوا يوماً في ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح، فدعاهم إلى الله، وذكرهم، وحذّرهم، ووعظهم، وأمرهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة - وأشاروا إلى صخرة هناك - ناقة، من صفتها كيت وكيت، وذكروا أوصافاً سموها، ونعتوها، وتعنتوا فيها، وأن تكون عشراء طويلة، من صفتها كذا وكذا. فقال لهم نبيهم صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئت به، وتصدقوني بما أرسلت به؟ قالوا: نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثمّ قام إلى مصلاه فصلّى لله - عز وجل - ما قدّر له، ثم دعا ربّه - عزّ وجل - أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوا، أو على الصفة التي نعتوا. فلما عاينوها كذلك رأوا أمراً عظيماً، ومنظراً هائلاً، وقدرة باهرة، ودليلاً قاطعاً، وبرهاناً ساطعاً، فآمن كثير منهم، واستمرَّ أكثرهم على كفرهم (¬1) ، وقد ذكر الله استجابته ¬

(¬1) البداية والنهاية: 1/134.

لطلبهم الآية (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الشعراء: 155] ، (قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ) [الأعراف: 73] ، وقد أخبر الله أنها كانت آية واضحة بينة لا خفاء فيها، ولذا سماها مبصرة (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء: 59] .

ثانياً: معجزة إبراهيم عليه السلام: حطّم إبراهيم آلهة قومه التي كانوا يعبدونها، فأشعلوا له النار، ورموه فيها، فأمر الله - جل وعلا - النار ألا تصيبه بأذى وأن تكون عليه برداً وسلاماً (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ - قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ - وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء: 68-70] . ومن الآيات التي أجراها على يد إبراهيم إحياء الموتى، وقد قصّ الله علينا خبر ذلك: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا) [البقرة: 260] . فأمره بذبح هذه الطيور، ثم تقطيعها، وتفريقها على عدة جبال، ثم دعاها فلبت النداء، واجتمعت الأجزاء المتفرقة، والتحمت كما كانت من قبل، ودبت فيها الحياة، وطارت محلقة في الفضاء، فسبحان الله ما أعظم شأنه، وأجلَّ قدرته.

ثالثاً: آيات نبي الله موسى عليه السلام: أعطى الله موسى تسع آيات بينات (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) [الإسراء: 101] . 1- وأعظم هذه الآيات وأكبرها العصا التي كانت تتحول إلى حيّة عظيمة عندما يلقيها على الأرض (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى - قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى - فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى - قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) [طه: 17-21] . وكان من شأن هذه العصا أن ابتلعت عشرات من الحبال والعصي التي جاء بها فرعون ليغالبوا موسى، (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى - قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى - فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى - قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى - وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [طه: 65-69] . وعندما عاين السحرة ما فعلته حيَّة موسى، علموا أنَّ هذا ليس من صنع البشر، إنما هو من صنع الله خالق البشر، فلم يتمالكوا أن خروا أمام الجموع ساجدين لله ربِّ العالمين (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) [طه: 70] .

2- ومن الآيات التي أرسل بها موسى ما ذكره الله في قوله: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى) [طه: 22] ، كان يدخل يده في جيبه (درع قميصه) ، ثم ينزعها، فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء، أي: من غير برص، ولا بهق. وذكر الله سبع آيات في سورة الأعراف، فقد ذكر الله أنه أصابهم: 3- بالسنين، وهي ما أصابهم من الجدب والقحط، بسبب قلة مياه النيل، وانحباس المطر عن أرض مصر. 4- نقص الثمرات ذلك أن الأرض تمنع خيرها، وما يخرج يصاب بالآفات والجوائح. 5- الطوفان الذي يتلف المزارع ويهدم المدن والقرى. 6- الجراد الذي لا يدع خضراء ولا يابسة. 7- القمّل، وهي حشرة تؤذي الناس في أجسادهم. 8- الضفادع التي نغصت عليهم عيشتهم لكثرتها. 9- الدم الذي يصيب طعامهم وشرابهم. (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ - فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ) [الأعراف: 130-133] . آيات أخرى: هذه الآيات التسع التي أرسل بها موسى إلى فرعون، وإلاّ فالآيات التي أجراها الله على يد موسى أكثر من ذلك، فمن ذلك ضرب موسى البحر بعصاه وانفلاقه، ومن هذا ضربه الحجر فينفلق عن اثنتي عشرة عيناً، وإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل في صحراء سيناء، وغير ذلك من الآيات.

رابعاً: معجزات نبي الله عيسى عليه السلام: من معجزاته التي أخبرنا الله بها أنّه كان يصنع من الطين ما يشبه الطيور ثمَّ ينفخ فيها فتصبح طيوراً بإذن الله وقدرته، ويمسح الأكمه فيبرأ بإذن الله، ويمسح الأبرص فيذهب الله عنه برصه، ويمرُّ على الموتى فيناديهم فيحييهم الله تعالى، وقد حكى القرآن لنا هذا في قوله تعالى مخاطباً عيسى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي) [المائدة: 110] . ومن آياته تلك المائدة التي أنزلها الله من السماء عندما طلب الحواريون من عيسى إنزالها، وكانت على الحال التي طلبها عيسى عيداً لأولهم وآخرهم (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ - قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ - قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ - قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) [المائدة: 112-115] .

أنواع الآيات (الجزء الثاني) خامساً: آيات خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه: أجرى الله على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معجزات باهرات، وآيات مبصرات، إذا نظر فيها مريد الحقّ، دلتّه على أنها شهادة صادقة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد عدّها بعض العلماء فنافت على ألف معجزة، وقد ألفت فيها مؤلفات، وتناولها علماء التوحيد والتفسير والحديث والتاريخ بالشرح والبيان. 1- الآية العظمى: وأعظم الآيات التي أعطيها رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل أعظم آيات الرسل كلّهم القرآن الكريم، والكتاب المبين، وهو آية تخاطب النفوس والعقول، آية باقية دائمة إلى يوم الدين، لا يطرأ عليها التغيير ولا التبديل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 41-42] . وقد تحدى الله بهذا الكتاب فصحاء العرب، وقد كانت الفصاحة والبلاغة وجودة القول هي بضاعة العرب التي نبغت بها، وقد عادى العرب دعوة الإسلام ورسول الإسلام، وكان مقتل هذه الدعوى أن يعارض فصحاؤهم هذا الكتاب، ويأتوا بشيء من مثله، ولكنهم عجزوا عن ذلك (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة: 23-24] .

نمط فريد من المعجزات: شاء الله تعالى أن تكون معجزة محمد صلى الله عليه وسلم نمطاً مخالفاً لمعجزات الرسل، وكان الله قادراً على أن ينزل معجزة حِِسيّة تذهل من يراها: (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [الشعراء: 4] . فلو شاء الله تعالى لأنزل من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالاً، ولا انصرافاً عن الإيمان، ويصور خضوعهم لهذه الآية في صورة حسية: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [الشعراء: 4] ملوية محنية، حتى لكأنَّ هذه هيئة لهم لا تفارقهم، فهم عليها مقيمون. ولكنه - سبحانه - شاء أن يجعل معجزة هذه الرسالة الأخيرة آية غير قاهرة، لقد جعل آيتها القرآن، منهاج حياة كاملة، معجزاً في كلِّ ناحية: معجزاً في بنائه التعبيري، وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه، كما هي الحال في أعمال البشر، إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات، بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدلّ على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال. معجزاً في بنائه الداخلي، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة، كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل، وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهج الشامل الضخم مع جزئية أخرى، ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية، إذ تقصر عن تلبيتها..، وكلها مشدودة إلى محور واحد، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة، ولا بد أن يكون هناك علم مطلق، غير مقيد بقيود الزمان والمكان، هو الذي أحاط به هذه الإحاطة، ونظمه هذا التنظيم. معجزاً في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح

مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها، وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين، وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة. لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة - ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم - ذلك أنّ هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة إلى الأمم كلّها، وللأجيال كلها، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان وأهل مكان، فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب، لكل أمة ولكل جيل، والخوارق القاهرة لا تلوي إلاّ أعناق من يشاهدونها، ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعاً يشهد..، فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً كتاب مفتوح ومنهج مرسوم، يستمدُّ منه أهل هذا الزمان ما يقوِّم حياتهم - لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم - ويلبي حاجاتهم كاملة، ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل، وسيجد فيه من بعدنا كثيراً مما لم نجده نحن، ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته، ويبقى رصيده لا ينفد، بل يتجدد (¬1) . ¬

(¬1) راجع في ضلال القرآن: 19-2584 بتصرف يسير.

2- الإسراء والمعراج: من الآيات البينات والمعجزات الخارقات إسراء الله بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حيث جمع الله له الأنبياء فصلّى بهم إماماً (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا..) [الإسراء: 1] ، ومن هناك عرج به إلى السماوات العُلى، وهناك رأى من آيات ربّه الكبرى، رأى جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، وصعد به إلى سدرة المنتهى، وجاوز السبع الطباق وكلّمه الرحمن وقربه (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى - عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى - إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى - مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى - لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) [النجم: 12-18] . وقد استعظمت قريش دعوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت القوافل تمضي الأسابيع في الذهاب إلى بيت المقدس والعودة منها، فكيف يتسنى لرجل أن يمضي ويعود في جزء من ليلة! ذلك أمر عجيب، وهو حقاً عجيب، ولكن العجب يتلاشى إذا علمنا أنَّ الذي أسرى به هو الله تعالى، والله على كلّ شيء قدير. وقد أرانا الله في هذه الأيام الوسائل التي تنقل الناس فوق ظهر هذه الأرض من مكان إلى مكان بسرعة هائلة، كان يعدها الناس قديماً ضرباً من الخيال.

3- انشقاق القمر: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر، فقد سأل أهلُ مكة الرسولَ صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما، وقد كان القمر عند انشقاقه بدراً. وقد سجّل الله ذكر هذه الآية في كتابه، قال (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ - وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) [القمر: 1-2] . وينقل ابن كثير إجماع المسلمين على وقوع هذه الآية، كما يذكر أنَّه قد وردت الأحاديث بذكر انشقاق القمر متواترة من طرق متعددة تفيد القطع (¬1) . وقد شاهد هذه المعجزة الناس في أنحاء الجزيرة العربية، فإنَّ أهل مكة لم يصدقوا، وقالوا: سحرنا محمد، ثمَّ استدركوا قائلين: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإنَّ محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلَّهم، وفي اليوم التالي سألوا من وفد إليهم، من خارج مكة، فأخبروا أنَّهم قد رأوه. وقد شاهد الناس انشقاقه في خارج الجزيرة العربية، يقول ابن كثير: " شوهد انشقاقه في كثير من بقاع الأرض، ويقال: إنّه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبني بناء في تلك الليلة، وأرخ بليلة انشقاق القمر " (¬2) . ¬

(¬1) البداية والنهاية: 3/118. (¬2) البداية والنهاية: 3/120.

قد يقال: " إن انشقاق القمر ليس شيئاً مستحيلاً، فالعلم قد شاهد انشقاق مذنب بروكس " شقين سنة 1889م، وكذلك انقسام مذنب ((بيلا)) إلى جزءين سنة 1846م، كما ذكر الفلكي ((سبنسر جونز)) في فصل المذنبات والشهب من كتاب ((عوالم بلا نهاية)) . وفي الإجابة يقال: " الفرق بين انشقاق القمر وانشقاق هذين المذنبين أنهما لم يلتئما بعد الانشقاق، والقمر التأم، وهو الفرق المنتظر بين الظاهرة الفلكية في الفطرة، والمعجزة الفلكية على يد رسول، لأنَّ المعجزة مؤقتة تزول بزوال وقتها وتحقق الغرض منها، ولو استمرت لكانت ظاهرة طبيعية صرفة، ولخرجت عن دائرة المعجزات ".

4- تكثيره الطعام صلوات الله وسلامه عليه: وقد وقع هذا منه صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، فمن ذلك ما رواه أنس، قال: قال أبو طلحة لأمَّ سُلَيم، لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثمَّ أخرجت خماراً لها، فلفت الخبز ببعضه، ثمّ دسته تحت يدي، ولاثتني (¬1) ببعضه، ثمَّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرسلك أبو طلحة؟ " فقلت: نعم، قال: " بطعام؟ " قلت: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه: " قوموا " فانطلق، وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته، فقال أبو طلحة، يا أمَّ سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلمي يا أم سليم، ما عندك؟ " فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففت، وعصرت أم سليمة عكة، فأدَمَتهُ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثمَّ قال: " ائذن لعشرة "، فأذن لهم، فأكلوا، حتى شبعوا، ¬

(¬1) لاثتني، أي: لفت علي بعض الخمار عمامة.

ثم خرجوا، ثمَّ قال: " ائذن لعشرة " فأذن لهم، فأكلوا، حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثمَّ قال: " ائذن لعشرة " فأذن لهم، فأكلوا، حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: " ائذن لعشرة " فأكل القوم كلهم، وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً " (¬1) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " لما حُفِر الخندقُ رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خَمَصاً شديداً، فانكفَيتُ إلى امرأتي فقلتُ: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول اللهِ صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً. فأخرجتْ إليَّ جِراباً فيه صاعٌ من شعير، ولنا بُهيمةٌ داجن فذبحتها، وطحنت الشعير، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم ولَّيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معهُ. فجئتُهُ فساررتهُ فقلت: يا رسول الله ذبحنا ُبهيمة لنا وطحنّا صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يا أهل الخندق، إن جابراً قد صنع سُوراً، فحيَّ هلا بكم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا تُنزلُنَّ برمتكم، ولا تخبزُنَّ عجينكم حتى أجيء. فجئتُ وجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقدُمُ الناس، حتى جئتُ امرأتي فقالت: بكَ وبك. فقلت: قد فعلتُ الذي قلتِ. فأخرجَتْ له عجيناً، فبصقَ فيه وبارك، ثم عمدَ إلى بُرمَتِنا فبصق وبارك. ثم قال: ادعُ خابزةً فلتخبز معي. واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها، وهم ألف، فأقسم باللهِ لقد أكلوا حتى تركوهُ وانحرفوا، وإن بُرْمَتَنا لتغِطُّ كما هي: وإن عجيننا ليُخبَز كما هو " (¬2) . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 3578. وصحيح مسلم: 2040. (¬2) صحيح البخاري: 4102. وصحيح مسلم: 2039.

5- تكثيره الماء ونبعه من بين أصابعه الشريفة: وقد وقع من هذا شيء كثير من الرسول صلى الله عليه وسلم، نذكر طرفاً منه، فمن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله، قال: عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة (ظرف للماء) فتوضأ منها، ثمَّ أقبل الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لكم "؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به، ونشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا، وتوضأنا، قيل لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة " (¬1) . ومن ذلك تكثيره ماء بئر الحديبية في يوم الحديبية، فقد روى البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: " كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها، حتى لم نترك فيها قطرة، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير البئر، (طرفها) ، فدعا بماء فمضمض، ومجّ في البئر، فمكثنا غير بعيد، ثم استقينا حتى رَوِينا، ورَوَت أو صَدَرت ركائبنا " (¬2) . وعن عبد الله بن مسعود قال: كنّا نعدُّ الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً، كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ الماء، فقال: " اطلبوا فضلة من ماء " فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: " حيَّ على الطَّهور المبارك، والبركة من الله " فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل " (¬3) . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 4152. (¬2) صحيح البخاري: 3577. (¬3) صحيح البخاري: 3579.

6- كف الأعداء عنه: ومن ذلك استجابة الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم عندما كان مهاجراً، وأدركه سراقة ابن مالك، فارتطمت بسراقة فرسه إلى بطنها في أرض صلبة، فقال سراقة: إني أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعوا لي، فالله لكما أن أردّ عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحداً إلاّ قال: كفيتم، ما هاهنا، فلا يلقى أحداً إلاّ ردّه. متفق عليه (¬1) . وفي معركة حنين انهزم المسلمون وثبت الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلّة من المؤمنين أولئك الذين بايعوا تحت الشجرة، فلّما حمى الوطيس، أخذ صلوات الله وسلامه عليه حصيات، فرمى بهنَّ وجوه الكفار، ثم قال: " انهزموا وربِّ محمد " يقول العباس راوي الحديث: فوالله ما هو إلاّ أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدّهم كليلاً، وأمرهم مدبراً (¬2) . وفي رواية سلمة بن الأكوع، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فولّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثمَّ قبض قبضة من تراب الأرض، ثمَّ استقبل به وجوههم، فقال: " شاهت الوجوه "، فما خلق الله منهم إنساناً إلاّ ملأ الله عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين " (¬3) . ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (3-166) . (¬2) صحيح مسلم: 1775. (¬3) صحيح مسلم: 1777 بشيء من الاختصار.

ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أن أبا جهل حلف باللات والعزى أنه لو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد حيث مجامع قريش أن يطأ على رقبته، أو ليعفرن وجهه في التراب، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً، أراد أن يفعل ما أقسم عليه، فلما اقترب منه " ما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي يديه، فقيل له: مالك؟ فقال: إنَّ بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً " (¬1) . ¬

(¬1) صحيح مسلم: 2797.

أنواع الآيات (الجزء الثالث) يتبع آيات خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه: 7- إجابة دعوته: أ- اهتداء أم أبي هريرة بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة قال: كنت أدعو أميَّ إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال: " اللهمَّ اهد أم أبي هريرة " فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما جئت، فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف [مردود] فسمعَتْ أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضة [تحريك] الماء، قال: فاغتسلَتْ، ولبسَتْ درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله فأتيته، وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال خيراً " (¬1) . ¬

(¬1) صحيح مسلم: 4491.

ب- أصبح بدعوته فارساً: عن جرير بن عبد الله، قال: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تُريحني من ذي الخلَصةِ؟ فقلت: بلى. فانطلقتُ في خمسين ومائة فارسٍ من أحمسَ، وكانوا أصحابَ خيل وكنتُ لا أثبُتُ على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال: " اللهم ثبته، واجعلهُ هادياً مهدياً. قال: فما وقعتُ عن فرس بعدُ. قال: وكان ذو الخلَصة بيتاً باليمن لخَثْعَم وبجيلة فيه نُصُبٌ تُعبَد، يقال له: الكعبة. قال: فأتاها فحرَّقها بالنار وكسرها " (¬1) . ج- إغاثة الله الناس بدعائه: وعن أنس بن مالك قال: أصابت الناس سنةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ في يوم الجمعة، قام أعرابيٌ فقالَ: يا رسول الله هَلَكَ المالُ، وجاعَ العيالُ، فادعُ الله لنا. فرفعَ يديه، وما نرى في السماء قَزَعةً، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثارَ السحابُ أمثالَ الجبالِ، ثم لم ينزلْ عن منبره حتى رأيتُ المطرَ يتحادرُ على لحيته، فمُطِرنا يومنا ذلك، ومن الغدِ، والذي يليه حتى الجمعةِ الأخرى، وقام ذلك الأعرابي - أو قال غيره - فقال: يا رسول الله تهدَّمَ البناء وغرقَ المالُ، فادعُ الله لنا. فرفعَ يديه فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا " فما يُشيرُ بيده إلى ناحيةٍ من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينةُ مثلَ الجوبة، وسال الوادي قناةُ شهراً، ولم يجئ أحدٌ من ناحيةٍ إلا حدّث بالجود (¬2) . وفي رواية قال: " اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام، والجبال، والآجام، والظراب، والأودية ومنابت الشجر " قال: فأقلعَتْ وخرجنا نمشي في الشمس (¬3) . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 4356، 4357. وصحيح مسلم: 2476 وذو الخلصة كما في الحديث بيت للأصنام، كان في اليمن، وأحمس كما يقول ابن حجر: على وزن أحمر، وهم رهط جرير ينسبون إلى أحمس بن الغوث بن أنمار، فتح الباري: (8/91) طبعة الرسالة. الأردن. (¬2) صحيح البخاري: 933، ومسلم: 897، واللفظ للبخاري. (¬3) صحيح البخاري: 1013.

أصابت الدعوة يد مستكبر: وعن سلمة بن الأكوع أنَّ رجلاً أكل عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: " كُل بيمينك " قال: لا أستطيع. قال: " لا استطعت " ما مَنَعَه إلا الكبرُ. قال: فما رفعها إلى فيه (¬1) . د- بركة دعوة الرسول الله صلى الله عليه وسلم تصيب بعير جابر: وعن جابر قال: غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاحق بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضحٍ لنا قد أعيا، فلا يكادُ يسيرُ فقال لي: " ما لبعيرك؟ " قال: قلت: عيي، قال: فتخلف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإبلِ قدّامها يسيرُ. فقال لي: " كيف ترى بعيرك؟ " قلت: بخير، قد أصابته بركتُك. قال: " أَفتبيعُنيه؟ " قال: فاستحييت، ولم يكن لنا ناضحٌ غيره، قال: فقلت: نعم، قال: " فبعنيه " فبعته إياه على أن لي فقار ظهره إلى المدينة،.. قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، غدوت عليه بالبعير، فأعطاني ثمنه وردَّه عليَّ " (¬2) . ¬

(¬1) رواه مسلم: 2021. (¬2) صحيح البخاري: 2967.

8- إبراء المرضى: أ- إبراؤه من كسرت رجله: عن البراء بن عازب قال: بعثَ النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً إلى أبي رافعٍ (¬1) ، فدخل عليه عبد الله بن عتيك ليلاً وهو نائم فقتله (¬2) ، فقال عبد الله بن عتيكٍ: فوضعتُ السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتحُ الأبواب باباً فباباً، حتى انتهيتُ إلى درجة له فوضعت رجلي، وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامةٍ فانطلقت إلى أصحابي، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: ابسط رجلك فبسطت رجلي، فمسحها فكأنها لم أشتكِها قطُّ (¬3) . ب- إبراؤه عين علي بن أبي طالب: وعن سهل بن سعدٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: " لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتحُ الله على يديه، يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله " فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناسُ غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها فقال: " أين عليُّ بنُ أبي طالب؟ " فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: " فأرسلوا إليه "، فأُتي به، فبصق رسول الله في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الراية، فقال عليٌّ: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: " انفُذْ على رسلك (¬4) حتى ¬

(¬1) اليهودي وكان أعدى أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نبذ عهده وتعرض له بالهجاء. (¬2) رواه البخاري: 4038. (¬3) صحيح البخاري مختصراً: 4039. (¬4) أي: امضِ على رفقك ولينك.

تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجبُ عليهم من حقِّ الله فيه، فوالله لأن يهدي اللهُ بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لكَ حمرُ النعم " (¬1) . ج- ساق سلمة بن الأكوع: وعن يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت أثر ضربةٍ في ساق سلمة فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربةٌ أصابتني يوم خيبر، فقال الناسُ: أصيب سلمة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة (¬2) . د- إخراجه الجن من المصروع: وعن يعلى بن مرة الثقفي قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا بماءٍ، فأتتهُ امرأةٌ بابن لها به جنةٌ، فأخذَ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخرِهِ ثم قال: " اخرج فإني محمد رسول الله " ثم سرنا، فلما رجعنا مررنا بذلك الماء، فسألها عن الصبي، فقالت: والذي بَعَثَك بالحقِّ ما رأينا منه ريباً بعدك (¬3) . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 4210. وصحيح مسلم: 2406. (¬2) رواه البخاري: 4206. (¬3) رواه في شرح السنة، ورواه الإمام أحمد في مسنده: (4/172) بسند صحيح كما في المشكاة (3/188) ، بتحقيق شيخنا محمد ناصر الدين الألباني.

9- إخباره بالأمور الغيبية: فمن ذلك إخباره عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإخباره عن الملائكة وصفاتهم، وإخباره عن عالم الجن، وعن الجنة والنار، ومن ذلك إخباره عن الحوادث التي وقعت، كما أخبر عن آدم ونوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرسل، وما جرى بينهم وبين أقوامهم، وهو حديث فيه تفصيل وبيان، ومثل هذا لا يتأتى من رجل أمي لم يكن كاتباً ولا قارئاً، ولم يخالط الذين درسوا تاريخ الأمم وعرفوا أخبارها، ثم هو يأتي بأخبار لم يبلغها علم الأمم، وأخبار يكتمها علماء أهل الكتاب، ويصحح لهم كثيراً مما عندهم، وكل ذلك دليل على أنه إنما جاء بهذه العلوم من العليم الخبير، (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ) [هود: 49] . وقد أشار القرآن إلى هذا الدليل في عدة مواضع، فمن ذلك قوله في سياق قصة مريم: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران: 44] . وفي سياق قصة موسى، قال: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص: 46] . وقد كان يخبر الأخبار المغيبة التي وقعت في حينها، فقد أخبر باستشهاد قادة المسلمين الثلاثة في معركة مؤتة، وباستلام خالد بن الوليد الراية من بعدهم

في اليوم الذي وقع فيه الحدث، رواه البخاري (¬1) . وعندما توفي النجاشي أخبر بوفاته في اليوم نفسه الذي توفي فيه، وكذلك عندما توفي كسرى. جزيرة العرب كانت جنات وأنهاراً وحضارة عاد إرم ذات العماد: أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه " أن أرض العرب ستعود جنات وأنهاراً " (¬2) وهذا يفيد أن جزيرة العرب كانت في الماضي جناناً وارفة الظلال، تجري من تحتها الأنهار، وهذا يدل على وجود حضارات قامت في تلك الجنان، وعلى شطآن تلك الأنهار، وقد أخبرنا القرآن عن حضارة قوم عاد، وهي مدينة ((إرم)) التي لم يخلق مثلها في البلاد. وقوم عاد أصحاب مدينة ((إرم)) ليس لهم ذكر في كتب أهل الكتاب لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في غيرهما، وقد شكك كثير من علماء التاريخ بوجود عاد كما شككوا بوجود حاضرتهم ((إرم)) . واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن أرض العرب كانت جنات وأنهاراً، وصدق ما أخبر به القرآن عن عاد وحاضرتها ((إرم)) ففي رحلة من رحلات الفضاء. زود مكوك الفضاء بجهاز رادار له قدرة اختراق التربة إلى عشرة أمتار، وحين مر المكوك بصحراء الربع الخالي، صور مجرى لنهرين جافين يندفع أحدهما من الغرب إلى الشرق والآخر من الجنوب إلى الشمال، فانبهر الأمريكيون لهذا الاكتشاف الذي لا يوجد عند علمائهم علم به. وفي رحلة ثانية زودوا المكوك بجهاز رادار له قدرة اختراق أكبر، فصور مجرى النهرين وأنهما يصبان في بحيرة قطرها يزيد على أربعين كيلومتراً في جنوب شرق الربع الخالي، وصور المكوك بين مصبي النهرين وعلى ضفاف البحيرة عمراناً لا تعرف البشرية نظيراً له في ضخامته، فجمعوا علماء التاريخ وعلماء الآثار وعلماء الأديان، وقالوا ماذا يمكن أن يكون هذا العمران؟ فأجمعوا على أنه قصور إرم التي وصفها القرآن الكريم بقول الحق تبارك وتعالى: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر: 7-8] . وقالوا في تقريرهم: إن البشرية لم تعرف في تاريخها الطويل عمراناً في ضخامة هذا العمران. واكتشفوا حينما بدأوا في إزالة الرمال عن هذه المدينة قلعة ثمانية الأضلاع على أسوار المدينة، مقامة على أعمدة ضخمة عديدة يصفها ربنا - تبارك وتعالى - بقوله عز من قائل: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر: 7-8] . وذكر التقرير أن هذه الحضارة التي لم يكن يدانيها في زمانها حضارة أخرى قد طمرتها عاصفة رملية غير عادية، وقد أطال القرآن القول في عاد وحاضرتهم ((إرم)) وتكذيبهم لرسولهم هود، وكيف حل بهم العذاب، إذ أرسل الله عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات، استمرت تضرب ديارهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً، وقد أبقى الله مساكنهم قائمة ليأتي الباحثون عن الخافي في باطن الأرض، فتظهر آلاتهم ما حدّث به القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، على النحو الذي أخبر به، يقول الحق تبارك وتعالى: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ - مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات: 41-42] . ويقول عز من قائل: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ) [فصلت: 15-16] . ويقول: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ - فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ - وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون) [الأحقاف: 21-26] . ويقول: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ - تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ - فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر: 18-22] . ويقول: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ - سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ - فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقة: 6-8] . ويقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ - إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر: 6-8] (¬3) . ومن ذلك إخباره بالغيوب الآتية، وبعض هذه الأخبار كان يقع ويتحقق في الحال أو بعد فترة وجيزة. فمن ذلك أنه أخبر بالمواضع التي سيصرع فيها صناديد الكفر قبل وقوع معركة بدر، عن أنس رضي الله عنه، قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا مصرع فلان " ويضع يده هاهنا هاهنا، قال: فما ماط [أي ما بعد، وما تجاوز] أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم (¬4) . ومن هذه الغيوب التي أخبر بها ما وقع بعد وفاته، فمن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " (¬5) . وقد وقع الأمر كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه. وقد أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار مما سيقع في مقبل الزمان، قال حذيفة بن اليمان، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، فما ترك شيئاً يكون من قيامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّثه، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه " رواه البخاري ومسلم وأبو داود (¬6) . ومن ذلك ما أخبر به من الفتن وأشراط الساعة وغير ذلك، وقد تكفلت بذكرها كتب الحديث. ¬

(¬1) صحيح البخاري: 4262. (¬2) صحيح مسلم: (157) (60) بعد الحديث رقم (1012) (59) . (¬3) راجع: الإعجاز العلمي في القرآن للدكتور زغلول النجار: 1/66-68. نشر مكتبة الشروق الدولية. القاهرة. الثالثة. 1423 هـ - 2002م. (¬4) مشكاة المصابيح: (3/167) وانظر صحيح مسلم: 1779. (¬5) صحيح البخاري: 3120. وصحيح مسلم: 2918 واللفظ للبخاري. (¬6) جامع الأصول: (12/63) .

10- حنين الجذع: في صحيح البخاري وغيره " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح عليه " وفي رواية عند البخاري أيضاً: " فلما وضع المنبر: سمعنا للجذع مثل صوت العشار، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه " (¬1) . ¬

(¬1) جامع الأصول: (12/68) .

11- انقياد الشجر وتسليمه وكلامه: عن جابر قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفيح [واسعاً] ، فذهب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فلم ير شيئاً يستَتِرُ به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: " انقادي عليَّ بإذن الله " فانقادت معه كالبعير المخشوش (¬1) ، الذي يصانع قائدَه، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصنٍ من أغصانها، فقال: " انقادي عليَّ بإذن الله " فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف [الوسط] مما بينهما قال: " التئما علي بإذن الله " فالتأمتا، فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتةٌ، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، وإذا بالشجرتين قد افترقتا فقامت كل واحدةٍ منهما على ساقٍ " (¬2) . وعن يعلى بن مُرة الثقفي قال: سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا منزلاً، فنام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت شجرةٌ تشقُّ الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرتُ له ¬

(¬1) هو الذي في أنفه الخشاش، وهو عويدة تجعل في أنف البعير ليكون أسرع انقياداً. (¬2) رواه مسلم: 3012.

فقال: هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُذن لها (¬1) . وعن أنس قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزينٌ، قد تخضب بالدم من فعل أهل مكة، فقال: يا رسول الله، هل تحبُّ أن نريك آية؟ قال: نعم. فنظر إلى شجرةٍ من ورائه فقال: ادعُ بها. فدعا بها فجاءت فقامت بين يديه، فقال: مرها فلترجع فأمرها فرجعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسبي حسبي " (¬2) . وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بمَ أعرفُ أنك نبيٌّ؟ قال: " إن دعوت هذا العذقَ (¬3) من هذه النخلة يشهدُ أني رسول الله " فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزلُ من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: " ارجع " فعاد، فأسلم الأعرابي (¬4) . وعن معن بن عبد الرحمن قال سمعت أبي قال: سألتُ مسروقاً: من آذن (¬5) النبي صلى الله عليه وسلم بالجنِّ ليلة استمعوا القرآن قال: حدثني أبوك - يعني عبد الله بن مسعود - أنه قال: آذنت بهم شجرةٌ (¬6) . وعن ابن عمر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي، فلما دنا قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: تشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأنَ محمداً عبدهُ ورسوله؟ قال: ومَن يشهدُ على ما تقولُ؟ قال: هذه السَّلَمة (¬7) ، فدعاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو بشاطئ الوادي، فأقبلت تخدُّ (¬8) الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فشهدت ثلاثاً أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها (¬9) . ¬

(¬1) رواه في شرح السنة، ورواه أيضاً أحمد وسنده ضعيف، لكن له شاهد من حديث جابر رواه الدارمي (1/10) ، فالقصة صحيحة كما قال شيخنا الألباني في التعليق على المشكاة: (3/188) . (¬2) رواه الدارمي، وإسناده صحيح كما في المشكاة: (3/188) . (¬3) العنقود. (¬4) رواه الترمذي وصححه. (¬5) أي: اعلم. (¬6) متفق عليه. البخاري (3859) ، ومسلم (450) . (¬7) شجرة من أشجار البادية. (¬8) تشق. (¬9) رواه الدارمي، وإسناده صحيح كما قال شيخنا محمد ناصر الدين الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح (3/189) .

12- تسليم الحجر: عن جابر بن سَمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أعرفُ حجراً بمكةَ كان يسلمُ عليَّ قبل أن أبعثَ إني لأعرفُهُ الآن (¬1) . 13- شكوى البعير: عن يعلى بن مرة الثقفي قال: " بينما نحنُ نسيرُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مررنا ببعيرٍ يُسنَى (¬2) عليه، فلما رآه البعيرُ جرجَرَ (¬3) ، فوضع جرانه (¬4) ، فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين صاحبُ هذا البعير؟ فجاءه فقال: " بِعْنِيهِ " فقال: بل نهبُهُ لكَ يا رسول الله، وإنه لأهلِ بيتٍ ما لهم معيشةٌ غيرُهُ. قال: أما إذ ذكرتَ هذا من أمره، فإنه شكا كثرةَ العمل، وقلةَ العلفِ، فأحسنوا إليه " (¬5) . وعن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسرَّ إليَّ حديثاً لا أُحدثُ به أحداً من الناس، وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجتِهِ (¬6) هدفٌ أو حائشُ (¬7) نخلٍ. فدخلَ حائطاً لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته (¬8) إلى سنامه ¬

(¬1) رواه مسلم والترمذي. (¬2) أي: يستقي عليه. (¬3) صاح وردد صوته في حلقه. (¬4) مقدم عنقه وقيل: باطن عنقه. (¬5) رواه في شرح السنة، ورواه أحمد وسنده ضعيف لكن له شاهد من حديث جابر رواه الدارمي: (1/10) فالقصة صحيحة كما قال شيخنا الألباني في المشكاة: (3/188) . (¬6) كجدار وشجرة. (¬7) أشجار مجتمعة. (¬8) السراة: الظهر.

وذفراه (¬1) . فسَكَنَ فقال: مَن ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاءه فتىً من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تُجعيه وتُدئبُهُ " (¬2) . 14- خاتم النبوة: من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة بين كتفيه، ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: " رأيت خاتماً في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام ". وفي رواية عنه أيضاً: " ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه، مل زر الحجلة ". وروى مسلم أيضاً عن عبد الله بن سرجس قال: " ثم درت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، عند ناغض كتفه اليسرى، جُمعاً عليه خيلان، كأمثال الثآليل " (¬3) . ¬

(¬1) عظم خلف الأذن. (¬2) أي: تتعبه، والحديث رواه أبو داود والحاكم وأحمد وابن عساكر واللفظ له وإسناده صحيح على شرط مسلم فقد أخرجه بهذا الإسناد دون قصة الجمل (وراجع الأحاديث الصحيحة لشيخنا الألباني: 1/28) . (¬3) صحيح مسلم: 2345، 2346. وحديث السائب رواه البخاري: 190، 3541. وناغض الكتف: طرف العظم العريض، الذي في أعلى طرفه، والخيلان: جمع خال، وهو الشامة.

المطلب الثالث الخوارق من غير الأنبياء كرامات الأولياء: من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات (¬1) الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات (¬2) . وقد أنكر طوائف من المسلمين كرامات الأولياء، ومن هؤلاء المعتزلة وحجتهم في دعواهم أنَّ خرق العادة لو صحَّ من غير الأنبياء لالتبس النبي بالولي، ولم تكن المعجزة دليلاً على صدق الأنبياء (¬3) . وقولهم هذا مردود، لأن من كرامات الأولياء ما حدّث به القرآن وصحَّ ذكره في الأحاديث الصحيحة، وتواتر النقل به، والناس يشاهدون شيئاً منه في كل عصر ومصر. والشبهة التي جاؤوا بها إنما تصحُّ إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدَّعي النبوة، وهذا لا يقع، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً بل كان متنبئاً كذاباً (¬4) ، وقد أنكر الإمام أحمد على الذين نفوا كرامات الأنبياء، ولم يصدفوا بها، وضلَّلَهم (¬5) . ¬

(¬1) يعرف علماء التوحيد الكرامة بأنها أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، ولا هو مقدمة لها، يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم لمتابعة نبي مكلف بشريعته، مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح، علم بها ذلك العبد أم لم يعلم (لوامع الأنوار البهية: 2/393) . (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 3/156. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية: ص563. (¬4) المصدر السابق. (¬5) لوامع الأنوار البهية: 2/393.

حكمة إعطاء الكرامة للولي: يعطي الله بعض عباده أموراً خارقة للعادة إكراماً لهم لصلاحهم وقوة إيمانهم، وقد يكون ذلك سداً لحاجتهم، كالحاجة للطعام والشراب والأمن، وقد يعطيهم ذلك لنصرة دينه، ورفعة كلمته، إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل (¬1) . فمن ذلك ما حدثنا به القرآن الكريم من شأن مريم، فقد كان يوجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 37] . ومن ذلك ما جرى لأصحاب الكهف حيث ضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً، وحفظ الله أجسادهم تلك الدهور المتطاولة على النحو الذي حدثنا عنه في سورة الكهف. ومن ذلك ما وقع لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك: أمثلة من كرامات الأنبياء: 1- نور في العصا: فمن هؤلاء أسيد بن حُضير، وعباد بن بشر تحدثا عند النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما، حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة مظلمة، ثم خرجا من عند رسول الله ينقلبان، وبيد كل واحد منهما عصيّة، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله (¬2) . ¬

(¬1) كثير من أهل الكلام لا يثبتون خوارق العادة إلا للأنبياء، ولا يثبتونها لأحد غيرهم (شرح الطحاوية ص 158) . (¬2) مشكاة المصابيح: (3/197) ، وأخرجه أحمد في ((المسند)) : 19/396 (12404) ، وأخرجه بنحوه البخاري: (465) و (3639) و (3805) .

2- الطعام المبارك: وهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يأتي معه بثلاثة أضياف من أهل الصفة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين أن يضيّفوا هؤلاء، وتركهم أبو بكر في منزله كي يضيفهم أهله، وذهب هو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في ساعة متأخرة، فقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، فغضب، وقال: والله لا أطعمه أبداً، فحلفت المرأة أن لا تطعمه، وحلف الأضياف أن لا يطعموه، قال أبو بكر: هذا من الشيطان، فدعا بالطعام، فأكل وأكلوا، فجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ربت أسفلها أكثر منها، فقال لامرأته: يا أخت بن فراس! ما هذا؟ قالت: وقرة عيني إنها الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكلوا، وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنَّه أكل منها. متفق عليه (¬1) . فقد كان هذا إكراماً من الله لأبي بكر لفضله، ولأنَّه لم يشتط في غضبه إذ حلف أن لا يأكل من الطعام، وراغم الشيطان، فأكرمه الله بذلك. 3- سفينة والأسد: وهذا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ جيش المسلمين بأرض الروم أو أسر، فانطلق هارباً يلتمس الجيش، فإذا هو بالأسد، فقال: يا أبا الحارث (كنية للأسد) أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت. فأقبل الأسد له بصبصة (أي: تحريك بالذنب) حتى قام إلى جنبه، كلّما سمع صوتاً أهوى إليه، ثمَّ أقبل يمشي إلى جنبه حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد (¬2) . ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (3/198) . (¬2) قال التبريزي في مشكاة المصابيح: رواه في شرح السنة، وقال المحقق: ورواه الحاكم بنحوه، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وهو كما قالا (مشكاة المصابيح: 3/199) .

صرخة في المدينة تدوي في الشام: وهذا عمر بن الخطاب يبعث جيشاً، ويؤمر عليهم رجلاً يدعى سارية، وبينما عمر يخطب، فجعل يصيح يا ساري الجبل، فقدم رسول من الجيش، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح يصيح: يا ساري الجبل، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم الله تعالى (¬1) . ¬

(¬1) قال التبريزي: رواه البيهقي في دلائل النبوة وقال محقق المشكاة: ورواه ابن عساكر بإسناد حسن نحوه.

4- جملة من كرامات الأولياء: وقد ذكر ابن تيمية جملة من هذه الكرامات غير ما تقدم نسوق إليك بعضها (¬1) : فمن ذلك أن خبيب بن عدي كان أسيراً عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى، وكان يؤتى بعنب يأكله، وليس بمكة عنبة. وأم أيمن خرجت مهاجرة، وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر، وكانت صائمة سمعت حسّأً على رأسها فرفعته، فإذا دلو معلق، فشربت منه، حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها. والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله تعالى أبرَّ قسمه، وكان الحرب إذا اشتدَّ على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء، أقسم على ربّك، فيقول: يا ربّ، أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم، فيعزم العدو، فلما كان يوم القادسية، قال: أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيداً. وخالد بن الوليد حاصر حصناً منيعاً، فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السمّ، فشربه فلم يضره. ولما عذبت ((الزبيرة)) على الإسلام في الله، فأبت إلاّ الإسلام، وذهب ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 11/276-281.

بصرها، قال المشركون: أصاب بصرها اللات والعزى، قالت: كلا والله، فردّ الله عليها بصرها. وتغيب الحسن البصري عن الحجاج، فدخلوا عليه ست مرات، فدعا الله - عز وجل - فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتاً. ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفاناً لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبراً محفوراً فيه لحد في صخرة، فدفنوه فيه، بعد أن كفنوه في تلك الأثواب.

الاستقامة أعظم كرامة: ليست الكرامة دليلاً على تفضيل هذا المعطى على غيره، فقد يعطي الله الكرامة ضعيف الإيمان لتقوية إيمانه، ومحتاجاً لسدّ حاجته، ويكون الذي لم يعط مثل ذلك أكمل إيماناً وأعظم ولاية، وهو لذلك مستغن عن مثل ما أعطي غيره، ولذلك كانت الأمور الخارقة في التابعين أكثر منها في الصحابة، وعلى هذا فلا ينبغي أن يشغل المرء نفسه بالتطلع إلى الكرامة، ولا ينبغي له أن يحزن إذا لم يعطها، وقد صدق أبو علي الجوزجاني وبرّ حين قال: " كن طالباً للاستقامة "، لا طالباً للكرامة، فإنَّ نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربّك يطلب منك الاستقامة، قال بعض من فهم قوله: وهذا أصل عظيم كبير في الباب، وسرّ غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب " (¬1) . ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (11/320) .

الخوارق والأحوال الشيطانية (¬1) : ضلَّ كثير من الناس عندما ظنوا أن كلَّ من جرت على يديه خوارق العادات فهو من أولياء الله الصالحين، فبعض الناس يطيرون في الهواء، ويمشون على الماء، ونحو ذلك، وهم من أفجر خلق الله، بل قد يدَّعون النبوة، مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان، وادعى النبوة، وقد أظهر أموراً خارقة للعادة، فقد كانوا يضعون القيود في رجليه فيخرجها، ويضرب بالسلاح فلا يؤثر فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يُري الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء، ويقول: هي الملائكة، وهذا وأمثاله من فعل الشياطين، ولذلك إذا حضر بعض الصالحين هذه الأحوال الشيطانية وذكر الله وقرأ آية الكرسي أو شيئاً من القرآن بطلت أحوالهم هذه، فهذا الحارث الدمشقي الكذاب لما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه طاعن بالرمح، فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك: إنّك لم تسمّ الله، فسمّي الله، فطعنه فقتله (¬2) . والمسيح الدجال تجري على يديه أمور خارقة للعادة تذهل من يراها وهو مع ذلك يدعى الألوهية. فالخوارق ليست دليلاً على أن صاحبها ولي لله تعالى، فالكرامة سببها الإيمان والتقوى والاستقامة على طاعة الله تعالى، فإذا كانت الخارقة بسبب الكفر والشرك والطغيان والظلم والفسق فهي من الأحوال الشيطانية، لا من الكرامات الرحمانية. ¬

(¬1) ارجع في هذا المبحث إلى كتاب أ. د. عمر الأشقر: عالم الجن والشياطين. (¬2) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (11/284-285) .

بشارات الأمم السّابقة قال تعالى: (أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: 197] فالآية تبين أنَّ من الآيات البينات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق ما جاء به - علم بني إسرائيل بذلك، وهو علم مسجل محفوظ مكتوب في كتبهم التي يتداولونها، كما قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء: 196] . المطلب الأول القرآن يتحدث عن بشارات الأنبياء السابقين بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم القرآن المنزل إلينا من ربنا العليم الخبير يحدثنا أن ذكر محمد وأمته موجود في الكتب السماوية السابقة، وأنَّ الأنبياء السابقين بشروا به، وقد فهم جمع من المفسرين من قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران: 81]- أنّ الله أخذ العهد والميثاق على كلّ نبي لئن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ليؤمنن به ويترك شرعه لشرعه، وعلى ذلك فإن ذكره موجود عند كل الأنبياء السابقين.

1- دعوة إبراهيم: عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإنَّ آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري، دعوةُ إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، أنه خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام " رواه في شرح السنة (¬1) . وقد أخبرنا الله أنَّ خليل الرحمن إبراهيم وابنه إسماعيل كان يبنيان البيت الحرام ويدعوان، ومن دعائهما ما قصه علينا في سورة البقرة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ - رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة: 127-129] . وقد استجاب الله دعاء خليله إبراهيم وابنه نبيّ الله إسماعيل، وكان محمد صلى الله عليه وسلم هو تأويل تلك الاستجابة. ولا تزال التوراة الموجودة اليوم - على الرغم مما أصابها من تحريف - تحمل شيئاً من هذه البشارة، فنجد فيها أنَّ الله استجاب دعاء إبراهيم في إسماعيل، فقد ورد في التوراة في سفر التكوين في الإصحاح السابع عشر فقرة (20) : " وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثره ¬

(¬1) مشكاة المصابيح للتبريزي: 3/127 وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: حديث صحيح وانظره في صحيح موارد الظمآن للشيخ ناصر الدين الألباني: 1756، 2093، وانظره في سلسلة الصحيحة: 1546، 1925.

كثيراً جداً، اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمّة عظيمة كبيرة ". وهذا النصُّ ورد في التوراة السامرية بألفاظ قريبة جداً مما أثبتناه هنا، والترجمة الحرفية للتوراة العبرانية لهذا النص: " وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأكثره ((بمأد مأد)) (¬1) . وقد ذكر ابن القيم أنَّ بعض نسخ التوراة القديمة أوردت النص كما أثبتناه هنا. ودلالة هذه البشارة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه: الأول: أنَّ الأمة العظيمة عند الله لا بدَّ أن تكون مسلمة، ولم توجد هذه الأمّة من نسل إسماعيل إلاّ بعد بعثة الرسول وانتشار المسلمين في المشارق والمغارب. الثاني: النصّ العبراني ((مأد مأد)) صريح في اسم الرسول صلى الله عليه وسلم فالمترجمون ترجموه ((جداً جداً أو كثيراً كثيراً)) والصواب هو: محمد، لأنها تلفظ بالعبراني ((مؤد مؤد)) واللفظ العبراني قريب من العربي. الثالث: قوله: اثني عشر رئيساً يلد، هذا موافق لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيلي أمر هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش. ¬

(¬1) نبوة محمد من الشك إلى اليقين: ص250، محمد نبي الإسلام: ص3.

2- بشارة موسى: لقد جاء بني إسرائيل الخبرُ اليقين الأميّ، على يد نبي الله موسى منذ أمد بعيد، جاءهم الخبر اليقين ببعثه، وبصفاته، ونهج رسالته، وبخصائص ملته، فهو النبي الأمي، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحلُّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، يضع عن من يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم، فيرفعها عنهم النبيُّ الأمي حين يؤمنون به، وأتباع هذا النبي يتقون ربهم، ويخرجون زكاة أموالهم ويؤمنون بآيات الله.. وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي، ويعظمونه ويوقرونه وينصرونه ويؤيدونه ويتبعون النور الذي أنزل معه ((أولئك هم المفلحون)) . قال تعالى: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 156-157] . بقية هذه البشارة في التوراة: وقد بقي من هذه البشارة بقية في التوراة، ففي سفر التثنية، الإصحاح (18)

فقرة 18-19 قال الله لموسى: " أقيم لهم [أي لبني إسرائيل] نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع كلامي الذي يتكلّم به باسمي أنا أطالبه ". ودلالة هذه البشارة على رسولنا صلى الله عليه وسلم بيَّنه، ذلك أنّه من بني إسماعيل وهم إخوة بني إسرائيل، فجدُّهم هو إسحاق، وإسماعيل وإسحاق أخوان، ثم هو أوسط العرب نسباً، وقوله: مثلك، أي: صاحب شريعة مثل موسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الله كلامه في فمه حيث كان أميّاً لا يقرأ من الصحف، ولكنَّ الله يوحي إليه كلامه، فيحفظه ويرتله، وهو الرسول المرسل إلى الناس كافة، وبنو إسرائيل مطالبون باتباعه وترك شريعتهم لشريعته، ومن لم يفعل فإنَّ الله معذبه ((ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه)) . ومما يعرفنا أنَّ هذه البشارة هي بقية البشارة العظيمة التي أوحى الله بها إلى موسى، وأخبرنا بها القرآن الكريم، أن هذه البشارة وردت في موقف معين، فعندما اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات الله أخذتهم الرجفة، وذلك بسبب طلبهم رؤية الله جلَّ وعلا، فدعا موسى ربَّه وتوسل إليه، فبعثهم الله من بعد موتهم، قال الله بعد توسل موسى ودعائه (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ..) الآيات. وإذا رجعت إلى التوراة في سفر الخروج تجد أنَّ هذه البشارة إنما أوحى الله بها إلى موسى بعد ذهابه لميقات الله، وتتحدث التوراة عن شيء قريب من الرجفة ((وكل الشعب سمع الأصوات وصوت البوق، ونظروا الشهب والجبل دخاناً ونظر كل القوم وتشردوا ووقفوا من بعد..)) سفر الخروج، الإصحاح (20) فقرة: 18. ((وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق، وصوت البوق والجبل يدخن، ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد..)) .

3- بشارة عيسى: وأخبرنا الله - سبحانه - أن عيسى بشر برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) [الصف: 6] . وأحمد من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّ لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب " (¬1) . مثلان في التوراة والإنجيل: ضرب الله في التوراة والإنجيل مثلين لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 29] . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 4896، وصحيح مسلم: 2354.

المطلب الثاني بشائر التوراة وأسفار الأنبياء التوراة التي بين أيدي الناس اليوم محرَّفة مغيرة يدلك على ذلك هذا الاختلاف الذي تجده في أمور كثيرة بين نسخها وطبعاتها، فهناك ثلاث نسخ للتوراة: العبرانية، واليونانية، والسامرية، وكلُّ قوم يدَّعون أن نسختهم هي الصحيحة، وهناك فروق واضحة بين طبعات التوراة وترجماتها. وقد أدى هذا التحريف إلى ذهاب كثير من البشارات أو طمس معالمها، ومع ذلك فقد بقي من هذه البشارات شيء كثير، ولا تخفى هذه البشارات على من يتأملها، ويعرضها على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم متجرداً من الهوى. 1- ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في التوراة: لقد صرح بعض هذه البشارات باسم محمد صلى الله عليه وسلم وقد اطلع بعض علماء المسلمين على هذه النصوص، ولكنَّ التحريف المستمر لهذا الكتاب أتى على هذه النصوص، فمن ذلك ما ورد في سفر أشعيا (¬1) : " إني جعلت أمرك محمداً، يا محمد يا قدوس الربّ، اسمك موجود من الأبد " (¬2) . وقوله إن اسم محمد موجود من الأبد موافق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إني مكتوب عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " (¬3) . وفي التوراة العبرانية في الإصحاح الثالث من سفر حبقوق: " وامتلأت ¬

(¬1) الجواب الصحيح: 3/326. (¬2) محمد نبي الإسلام: ص18. (¬3) صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: 1756، 2093 وهو مخرج في سلسلة الصحيحة للشيخ ناصر: 1546، 1925.

الأرض من تحميد أحمد، ملك بيمينه رقاب الأمم ". وفي النسخة المطبوعة في لندن قديماً سنة 1848، والأخرى المطبوعة في بيروت سنة 1884، والنسخ القديمة تجد في سفر حبقوق النص في غاية الصراحة والوضوح: " لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، امتلأت الأرض من حمده،.. زجرك في الأنهار، واحتدام صوتك في البحار، يا محمد ادن، لقد رأتك الجبال فارتاعت ". 2- ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر يتعلق به: وفي بعض الأحيان يذكر مكان مبعثه، ففي سفر التثنية الإصحاح الثالث والثلاثون، فقرة: (2) : " جاء الربّ من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران " وسيناء هي الموضع الذي كلّم الله فيه موسى، وساعير الموضع الذي أوحى الله فيه لعيسى، وفاران هي جبال مكة، حيث أوحى الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكون جبال فاران هي مكة، دلت عليه نصوص من التوراة. وقد جمع الله هذه الأماكن المقدسة في قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ - وَطُورِ سِينِينَ - وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين: 1-3] . وذكرت التوراة مكان الوحي إليه، ففي سفر أشعيا الإصحاح (21) فقرة: (13) " وحي من جهة بلاد العرب في الوعر ". وقد كان بدء الوحي في بلاد العرب في الوعر في غار حراء. وفي هذا الموضع من التوراة فقرة: (14) حديث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى الجهة التي هاجر إليها " هاتوا ماءً لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزة، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب " وتيماء من أعمال المدينة المنورة، وإذا نظرت في النص ظهر لك بوضوح أنه يتحدث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتكملة النص السابق فقرة: (16) يقول: " فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة

الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية قسى أبطال بني قيدار تقلّ، لأنَّ الربّ إله إسرائيل قد تكلم ". وهذا النص يتحدث عن معركة بدر، فإنّه بعد سنة كسنة الأجير من الهجرة كانت وقعة بدر، وفنى مجد قيدار، وقيدار من أولاد إسماعيل، وأبناؤه أهل مكة، وقد قلت قسى أبناء قيدار بعد غزوة بدر. 3- إشارة التوراة إلى معلم من معالم مهاجر الرسول: وأشارت بعض نصوص التوراة إلى مكان هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سفر أشعيا الإصحاح (42) فقرة: (11) " لترفع البريّة ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا الربَّ مجداً.. ". وقيدار أحد أبناء إسماعيل كما جاء في سفر التكوين إصحاح (25) عدد (13) . وسالع جبل سلع في المدينة المنورة. والترنم والهتاف ذلك الأذان الذي كان ولا يزال يشقُّ أجواز الفضاء كلّ يوم خمس مرات، وذلك التكبير والتحميد في الأعياد وفي أطراف النهار وآناء الليل كانت تهتف به الأفواه الطاهرة من أهل المدينة الطيبة الرابضة بجانب سلع. 4- إشارة التوراة إلى أمور جرت على يديه صلى الله عليه وسلم: وقد تذكر النصوص انتشار دعوته وبعض ما يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سفر حبقوق الإصحاح الثالث فقرة: (3-6) : " الله جاء من تيمان، والقدوس من جبال فاران، سلاه جلاله غطى السماوات والأرض، امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع، وهناك استنارت قدرته، قدامه ذهب الوبا، وعند رجليه خرجت الحمّى، وقف وقاس الأرض، نظر، فرجفت الأمم، ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القدم ". ففي هذه البشارة إخبار بالنصر العظيم الذي حازه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه،

وإخبار بانتشار دعوته في شتى بقاع الأرض، وبأن الجبال الدهرية وهي الدول القويّة ذات المجد القديم ستدك، وآكام القدم وهي الدول الأقل ستخسف، وقد تحقق ذلك كله، وأشارت هذه البشارة إلى أمرين يدركهما من كان عليماً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره، وهما: لمعان كالنور له من يده، وذهاب الوبا من قدامه، وخروج الحمّى من عند رجليه. 5- اللمعان والنور الذي شعَّ من يده: يقول النص: " وكان لمعان كالنور، له من يده، وشعاع، وهناك استنارت قدرته " ثم يقول: " وقف وقاس الأرض نظر، فرجفت الأمم.. " والذي يبدو لي أنَّ هذا النص يتحدث عن حادثة بعينها، وهي ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، عندما أعجزت صخرة الصحابة أثناء حفر الخندق، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فضربها ضربة عظيمة أسقطت ثلثها، وخرج منها نور فكبر الرسول صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه، ثمَّ الثانية فالثالثة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى بالنور الأول قصور الشام، وبالنور الثاني قصور فارس، وبالنور الثالث أبواب صنعاء. وروى النسائي وأحمد بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعقول فقال: " باسم الله "، فضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة "، ثمَّ ضرب الثانية فقطع الثالث الآخر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثمَّ ضرب الثالثة، وقال: باسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: " الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة " (¬1) . وفي رواية الطبراني: " فضرب الصخرة وبرق منها برقة فكبّر، وكبّر، ¬

(¬1) فتح الباري: 7/397.

المسلمون "، وفيه " إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم.. " (¬1) . تأمل النص الذي أوردناه مرة أخرى " لمعان كالنور له من يده، وشعاع، وهناك استنارت قدرته.. وقف وقاس الأرض نظر.. ". وتأمل في الأحاديث التي أوردناها أليست هذه الواقعة تأويل لتلك البشارة؟ 6- ذهاب الوبا وخروج الحمى: تقول هذه البشارة: " قدامه ذهب الوبا، وعند رجليه خرجت الحمّى "، وهذه - والله - بشارة صريحة لا تحتمل تأويلاً، فالمدينة قبل مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت معروفة بالحمّى، وفي الحديث عن ابن عباس أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما قدموا مكة للعمرة - وهي العمرة المعروفة بعمرة القضاء - قال المشركون: " إنّه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمّى يثرب " رواه البخاري (¬2) . وقد أصابت هذه الحمّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول قدومهم المدينة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه كي يذهب الحمّى. عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وعُك أبو بكر وبلال. قالت: فدخلت عليهما (¬3) ، فقلت: يا أبت كيف تَجِدُك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كلُّ امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ××× والموتُ أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى يرفع رأسه ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة ××× بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ وهل أرِدَنْ يوماً مياهَ مَجَنَّةٍ ××× وهل يَبدُوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) انظر فتح الباري: 3/469. (¬3) دخولها على بلال كان قبل نزول آية الحجاب.

قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " اللَّهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ، وصَحِّحْها، وبارك لنا في صاعها ومدِّها، وانقل حمّاها، فاجعلها في الجحفة " رواه البخاري (¬1) وزاد البخاري في آخر كتاب الحج: " ثم يقول بلال: اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء " (¬2) . إذن كانت يثرب موبُوْءَة بالحمى، لا يكاد يدخلها أحد إلاّ أصابته. وقد استجاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فنقل عنها الحمى، وصحَّحَها، ومنع عن المدينة الطاعون، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني جبريل عليه السلام بالحمّى والطاعون، فأمسكت الحمّى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام " (¬3) . وإمساكه الحمّى بالمدينة لعله في بداية الأمر، ثمَّ أمر بإرسالها إلى الجحفة، أو أن المراد بإمساكها بالمدينة المنطقة التي فيها المدينة، ذلك أن الجحفة تقع قرب المدينة، وعلى كلّ فالبشارة واضحة وقعت كما أخبرت التوراة. ¬

(¬1) انظر فتح الباري: 7/262 (3926) . (¬2) فتح الباري: 7/263، وانظر البخاري (1889) . (¬3) مسند الإمام أحمد: (5/81) .

7- بشارات جامعة: وفي بعض الأحيان تكون البشارات جامعة تذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ووحي الله إليه، وأخبار أمته، وما ينزل إليه عليهم من نصره، وإمدادهم بالملائكة، وشيئاً مما يعطيه الله لرسوله كالعروج به إلى السماء ونحو ذلك، فمن ذلك ما ورد في بشائر دانيال. قال دانيال (¬1) يهدد اليهود، ويصف لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم: " إن الله يظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبياً، ومنزل عليهم كتاباً، ومملكهم رقابكم، يقهرونكم ويذلونكم بالحق، ويخرج رجال قيدار في جماعات الشعوب، معهم الملائكة على خيل بيض، فيحيطون بكم، وتكون عاقبتكم النار، نعوذ بالله من النار ". وأبناء قيدار بن إسماعيل، قد انتشروا في الأرض، واستولوا على الشام والجزيرة ومصر والعراق، وقد تواترت الآثار أن الملائكة كانت تنزل على الخيل البيض كما نزلت يوم بدر والأحزاب، وقال دانيال مصرحاً باسم محمد صلى الله عليه وسلم: " ستنزع في قسيّك إغراقاً، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ". وقال دانيال أيضاً: " سألت الله وتضرعت إليه أن يبيّن لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم، ويردّ إليهم ملكهم، ويبعث فيهم الأنبياء، أو يجعل ذلك في غيرهم؟ فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه، فقال: ¬

(¬1) انظر الجواب الصحيح: (3/331، 4/3) .

السلام عليكم يا دانيال، إن الله يقول: إنّ بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي، وعبدوا من دوني آلهة أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل، ومن بعد الصدق إلى الكذب. فصلَّت عليهم بخت نصّر، فقتل رجالهم، وسبى ذراريهم، وهدم مساجدهم، وحرق كتبهم، وكذلك فعل من بعده بهم، وأنا غير راض عنهم، ولا مقيلهم عثرات، فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول، وأختم ذلك عليهم باللعن والسخط، فلا يزالون ملعونين، عليهم الذلة والمسكنة، حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملاكي وبشرها، وأوحي إلى ذلك النبي، وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البرَّ شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إلي، وأرقيه من سماء إلى سماء، حتى يعلو، فأدنيه، وأسلِّم عليه، وأوحي إليه، ثمَّ أردّه إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظاً لما استودع، صادقاً فيما أخبر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رأى من آياتي، فيكذبونه، ويؤذونه ". يقول ابن تيمية: " ثمَّ سرد دانيال قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أمته بالنفخة، وانقضاء الدنيا ". ثم قال: " وهذه البشارة الآن عند اليهود والنصارى يقرؤونها، ويقولون: لم يظهر صاحبها بعد ".

المطلب الثالث بشارات من الإنجيل وفي إنجيل متى الإصحاح (11) عدد (14) " وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي، من له أذنان للسمع فليسمع ". وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس بينه وبين عيسى نبي، فيكون إيلياء الذي بشر به عيسى هو محمداً صلى الله عليه وسلم. وإيليا بحساب الجمل الذي أغرمت به اليهود يساوي محمداً. وفي إنجيل يوحنا إصحاح (14) عدد (15) " إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد، وفي اللغات الأجنبية ((فيعطيكم باركليتوس)) ليمكث معكم إلى الأبد " والمعنى الحرفي لكلمة ((باركليتوس)) اليونانية هو أحمد، وهو من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1) . وفي إصحاح يوحنا (15) عدد (26) " ومتى جاء المعزى الذي أرسله أنا إليكم من الآب روح الحقّ الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي " "ويشهد لي" لأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم شهد للمسيح بالنبوة والرسالة، وروح الحقّ كناية عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والمعاني الواردة في هذه الترجمة الحديث ليست دقيقة، لأن أصلها باليونانية، وهي اللغة التي ترجمت منها هذه الأناجيل - مكتوبة ((بيركليتوس)) وفي التراجم العربية المطبوعة سنة 1821، سنة 1831، سنة 1844، في لندن تجدها ((فارقليط)) وهي أقرب إلى العبارة اليونانية المشار إليها (¬2) ، أمّا ترجمتها ¬

(¬1) محمد نبي الإسلام: ص36. (¬2) المصدر السابق: ص38.

في الطبعات الحديثة إلى المعزى فهو من التحريف الذي ذم الله أهل الكتاب به (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) [النساء: 46] . ويلاحظ أن هناك جملة ساقطة قبل الجملة الواردة في عدد (26) من هذا الإصحاح سقطت من الطبعات الحديثة، لكنها واردة صراحة في الطبعات القديمة للإنجيل، ونص هذه الجملة: " فلو قد جاء المنحمنا الذي يرسله الله إليكم " ومعنى المنحمنا الحرفي باللغة السريانية محمد (¬1) (¬2) . ¬

(¬1) المصدر السابق: ص39. (¬2) وقد استقصى شيخ الإسلام، فأورد تلك الروايات التي بشر بها عيسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبين وجه الاستدلال بها، انظر الجواب الصحيح: (4/6) .

بشارات أخرى من الإنجيل (¬1) : 1- من إنجيل (مَتّى) : جاء في (إنجيل متى) في الإصحاح الحادي والعشرين: " 42 قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هوذا قد صار رأس الزاوية، من قِبَل الرب كان هذا هو عجيب في أعيننا. 43 لذلك أقول لكم إنَّ ملكوت الله يُنزع منكم، ويعطى لأمة تعمل أثماره. 44 ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه ". وهذا الحجر إنما هو سيدنا محمد، جاء في (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا ختم النبيين ". قال ابن القيم (¬2) : " وتأمل قوله [المسيح] في البشارة الأخرى: ألم تر إلى الحجر الذي أخره البناؤون صار رأساً للزاوية، كيف تجده مطابقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأتمها إلا موضع لبنة ¬

(¬1) نبوة محمد من الشك إلى اليقين: ص297. (¬2) هداية الحيارى: 381-382.

منها، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها، ويقولون: هلاّ وضعت تلك اللبنة فكنت أنا تلك اللبنة. وتأمل قول المسيح في هذه البشارة: إن ذلك عجيب في أعيننا. وتأمل قوله فيها: " إن ملكوت الله سيؤخذ منكم، ويدفع إلى آخر " كيف تجده مطابقاً لقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105] ، وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ) [النور: 55] . ونحو هذا النص ما جاء في (إنجيل متى) في الإصحاح الثامن: " 11 وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان ". وهذه بشارة تشير إلى ظهور أمة الإسلام التي تأتي من المشارق والمغارب، وتكون مرضية عند الله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. جاء في (الفارق) : " أيها المسيحي إذا أنصفت تحكم بأن هؤلاء الذين سيأتون من مشارق الأرض ومغاربها هم الأمة المحمدية، لأنكم مخاطبون حاضرون إذ ذاك، والمسيح سلام الله عليه يخبر عن قوم سيأتون في مستقبل الزمن، وقد أخرجكم بقوله: " وأما بنو الملكوت " (¬1) . ونحو ذلك ما جاء في (إنجيل يوحنا) في الإصحاح الرابع: " 20-24 قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني، أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون لله ". وهذا النص يشير إلى ظهور الدين الجديد، وإنّه سيتحول مركزه عن أورشليم ¬

(¬1) الفارق: 54.

ويشير إلى تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المعظمة، قبلة أصحاب الدين الجديد، ويصدقه قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 144] . فقد كان المسلمون أول الأمر يتجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، ثم نزلت الآية بوجوب توجههم إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة.

2- من إنجيل لوقا (¬1) : ذكر صاحب كتاب (الإنجيل والصليب) أنه جاء في (إنجيل لوقا) 2: 14 " الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد ". ولكن المترجمين ترجموها في الإنجيل هكذا: " الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة ". ومؤلف الكتاب يرى أن الترجمة الصحيحة ما ذكره هو. يقول المؤلف أنّ ثمة كلمتين وردتا في اللغة الأصلية لم يدرك أحد ما تحتويان عليه من المعاني تماماً، فلم تترجم هاتان الكلمتان كما يجب في الترجمة القديمة من السريانية. هاتان الكلمتان هما: أيريني - التي يترجمونها: السلامة. و: أيودكيا - التي يترجمونها: حسن الرضا. فالأولى من الكلمتين اللتين هما موضوع بحثنا الآن هي (أيريني) ، فقد ترجمت بكلمات (سلامة) (مسالمة) (سلام) . والمؤلف يرى أن ترجمتها الصحيحة (إسلام) فيقول في ص: 40: " ومن ¬

(¬1) نبوة محمد من الشك إلى اليقين: ص300.

المعلوم أن لفظ (إسلام) يفيد معاني واسعة جداً، ويشتمل على ما تشتمل عليه ألفاظ (السلم، السلام) (الصلح، المسالمة) (الأمن، الراحة) .. وتتضمن معنى زائداً وتأويلاً آخر أكثر وأعم وأشمل وأقوى مادة ومعنى، ولكن قول الملائكة: " على الأرض سلام " لا يصح أن يكون بمعنى الصلح العام والمسالمة، لأنّ جميع الكائنات وعلى الأخص الحيَّة منها، ولا سيما النوع البشري الموجود على كرة الأرض دارنا الصغيرة هي بمقتضى السنن الطبيعة والنواميس الاجتماعية خاضعة للوقائع والفجائع الوخيمة كالاختلافات والمحاربات والمنازعات..، فمن المحال أن يعيش الناس على وجه الأرض بالصلح والمسالمة ". ثم يستشهد بقول المسيح: " ما جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً " (متى 10: 34) . ويستشهد بقول آخر للمسيح: " جئت لألقي ناراً على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟ أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً على الأرض؟ كلا أقول لكم بل انقساماً " (لوقا: 12: 49-53) . وعلى هذا فالترجمة لا تنطبق ورسالة المسيح وأقواله والصواب " وعلى الأرض إسلام ". (انظر البحث من ص38-44) . كما يرى أن (أيادوكيا) بمعنى (أحمد) لا (المسرة أو حسن الرضا) كما يترجمها القسس، وذلك لأنه لا يقال في اليونانية لحسن الرضا (أيودوكيا) بل يقال: (ثليما) . ويقول: إن كلمة (دوكوته) ، هي بمعنى (الحمد، الاشتهاء، الشوق، الرغبة، بيان الفكر) . وها هي ذي الصفات المشتقة من هذا الفعل (دوكسا) وهي (حمد، محمود، ممدوح، نفيس، مشتهى، مرغوب، مجيد) . واستشهد بأمثلة كثيرة من اليونانية لذلك. وقال: إنهم يترجمون (محمديتو) في (أشعيا 64: 11) بـ (اندوكساهيمون) ، ويترجمون الصفات

منها (محمد، أحمد، أمجد، ممدوح، محتشم، ذو الشوكة) بـ (ايندكسوس) . واستدل بهذا التحقيق النفيس أن الترجمة الحقيقية الصحيحة لما ذكره لوقا هي (أحمد، محمد) لا (المسرة) ، فتكون الترجمة الصحيحة لعبارة الإنجيل: " الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد " (¬1) . ¬

(¬1) انظر كتاب (الإنجيل والصليب) للأب عبد الأحد داود: 34-35.

3- بشارات إنجيل برنابا: هذا الإنجيل مليء بالبشارات الصريحة بالرسول المصطفى المختار، ومما ورد فيه (ص161) : " قال الله اصبر يا محمد.. " وفي (ص162) " إن اسمه المبارك محمد.. " (ص162) : " يا الله أرسل لنا رسولك، يا محمد تعال سريعاً لخلاص العالم ". رأي في إنجيل برنابا: لا شكّ أن هذا الإنجيل من الأناجيل التي كانت معروفة قديماً، وقد ورد ذكره في كتب القرن الثاني والثالث للميلاد، ثمّ لم يرد له ذكر بعد ذلك، إلى أن عثر على نسخة منه في أوائل القرن الثامن عشر الهجري، ولا تزال هذه النسخة في مكتبة بلاط (فيّنا) . وعندما نشر هذا الكتاب أحدث ضجّة - كبرى في ذلك الوقت - في أوربا في نوادي العلم والدين، وقد طبعت ترجمة هذا الكتاب مرتين باللغة العربية، الطبعة الثانية نشرتها دار القلم بالكويت. وقد اطلعت على هذا الكتاب، وأمعنت النظر فيه، فتبين لي فيه رأي لم أجد أحداً قد تنبه إليه، تبين لي أن هذا الكتاب وإن كان له أصل فقد لعبت فيه يد مسلم، فأدخلت فيه ما ليس منه، والذي جعلني أذهب هذا المذهب ليست تلك التعليقات العربية التي وجدت على هامش النسخة الأصلية الموجودة في

(فينّا) ، وإنّما تلك المبالغات التي وصف بها الإنجيل الرسول صلى الله عليه وسلم، نحن نصدّق أن يبشر الإنجيل بالرسول صلى الله عليه وسلم ولكننا نستبعد كل البعد أن يكون قد شاع بين أهل الكتاب تلك الخرافات التي شاعت بين المسلمين بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم، فنجد في هذا الإنجيل أنّ الله أعطى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كل شيء، وخلق من أجله كل شيء، وجعله قبل كل شيء، انظر ص (91، 93، 110) ، وفي ص (111) يقول حاكياً كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: " يا رب اذكر أنك لما خلقتني قلت: إنّك أردت أن تخلق العالم والجنة والملائكة - والناس حبّاً فيّ ليمجدوك بي أنا عبدك ". وفي ص (161) ، اصبر يا محمد، لأجلك أريد أن أخلق الجنّة والعالم وجمّاً غفيراً من الخلائق التي أهبها لك.. ". وفي ص (266) ، " هذا هو الذي لأجله خلق الله كل شيء ". وفي ص (152) يقول: " ولذلك لما خلق الله قبل كل شيء رسوله ". هذه الأقوال بدون شكّ غير صحيحة، وهي تناقض الحقّ الذي بين أيدينا، فالله خلق البشر والملائكة والجنَّ لعبادته (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] . وأول المخلوقات القلم كما في الحديث " أول ما خلق الله القلم " وهذه الأقوال التي فيها غلو شاعت بين المسلمين، وصاغوها أحاديث نسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة حديث " لولاك لما خلقت الأفلاك " (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة حديث رقم 282) وحديث " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " (حديث رقم 302، 303) وحديث: " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث " (كتاب الفوائد المجموعة للشوكاني ص326) . وحديث: " لقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك علي ومنزلتك عندي، ولولاك يا محمد ما خلقت الدنيا " (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث

الضعيفة والموضوعة: ص325) . وفي هذا المصدر ص337 حديث يقول: " خلقني الله من نوره وخلق أبا بكر من نوري ". وإذا أنت قارنت بين ما نقلته عن إنجيل برنابا وهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة أدركت أن الذي أدخل هذه الأوصاف كان من هذا النوع الذي عشعشت أمثال هذه الأحاديث المكذوبة في ذهنه. وهناك أمور منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم زوراً، لأنها تخالف الحقَّ الذي في أيدينا، فمن ذلك ما ورد (ص209) من " أن الجحيم ترتعد لحضور الرسول عليه السلام، فيمكث بلا مكابدة عقاب مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمشاهدة الجحيم". فهذا مخالف لصريح القرآن (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف: 75] . ومن ذلك نقل هذا الكتاب عن عيسى قوله في (ص92) " لست أهلاً أن أحل رباطات جرموق أو سيور حذاء رسول الله " ويقول قريباً من هذا في ص (96) وص (160) ، ومثل هذا بعيد أن يصدر عن رسول من أولي العزم من الرسل. ومع ذلك فقد وصف الكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور فيها تحقير له، ففي ص (108) يصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّه سيكون كالمخبول، وفي ص (105) يقول: " إن الله سيجرد رسوله محمد في يوم القيامة من الذاكرة ".

المطلب الرابع بشارات من الأسفار العالمية الأخرى (¬1) ألّف: (مولانا عبد الحق قديارتي) كتاباً باللغة الإنجليزية وسماه: ((محمد في الأسفار العالمية)) واستفاد في مقارناته ومناقضاته بمعرفته للفارسية والهندية والعبرية والعربية وبعض اللغات الأوربية، ولم يقنع فيه بكتب التوراة والإنجيل بل عمم البحث في كتب فارس والهند وبابل القديمة، وكانت له في بعض أقواله توفيقات تضارع أقوى ما ورد من نظائرها في شواهد المتدينين كافة.. يقول الأستاذ عبد الحق: إن اسم الرسول العربي (أحمد) مكتوبة بلفظه العربي في السامافيدا Samavida من كتب البراهمة، وقد ورد في الفقرة السادسة، والفقرة الثامنة من الجزء الثاني، ونصها إن " أحمد تلقى الشريعة من ربه " وهي مملوءة بالحكمة، وقد قبست منه النور، كما يقبس من الشمس ... ". وفي مواضع كثيرة من كتب البراهمة يرى المؤلف أن النبي محمداً مذكور بوصفه الذي يعني الحمد الكثير والسعة البعيدة، ومن أسمائه الوصفية اسم سشرافا Sushrava الذي ورد في كتاب أثار فافيدا Atharpha Vida، وكذلك صنع بكتب زرادشت التي اشتهرت باسم الكتب المجوسية، فاستخرج من كتاب زند افستا Zend Avesta نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين ((سوشيانت Soeshyant)) ، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة أبو لهب ِِAngra Mainyu، ويدعو إلى إله واحد، لم يكن له ¬

(¬1) نبوة محمد من الشك إلى اليقين: ص204.

كفواً أحد ((هيج جيز باونمار)) ، وليس له أول ولا آخر، ولا ضريع ولا قريع، ولا صاحب ولا أب، ولا أم ولا صاحبة ولا ولد ولا ابن ولا مسكن ولا جسد ولا شكل ولا لون ولا رائحة ((جز آخاز وانباز ودشمن ومانند ويار وبدر ومادر وزن وفرزند وحاي سوي وتن آسا وتناني ورنك وبوي است)) . وهذه هي جملة الصفات التي يوصف بها الله سبحانه في الإسلام: أحد صمد ليس كمثله شيء، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً. ويشفع ذلك بمقتبسات كثيرة من كتب الزرادشتية تنبئ عن دعوة الحق التي يجيء بها النبي الموعود، وفيها إشارة إلى البادية العربية، ويترجم نبذة منها إلى اللغة الإنجليزية معناها بغير تصرف " إن أمة زردشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، وبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام، ويومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة للعالمين، وسادة لفارس ومديان وطوس وبلخ، وهي الأماكن المقدسة للزرادشتيين ومن جاورهم، وإن نبيهم ليكونن فصيحاً يتحدث بالمعجزات (¬1) . ¬

(¬1) ص47 من كتاب Mohammed in World Scriptures نقلاً من كتاب (مطلع النور) للأستاذ عباس محمد العقاد: 14-17.

المطلب الخامس شيوع هذه البشارات قبل البعثة لقد كانت هذه البشارات منتشرة قبل البعثة النبوية، فلم يكن أهل الكتاب يكتمونها في ذلك الوقت، بل كانوا يذيعونها، ويزعمون أنهم سيتابعون صاحبها عندما يبعث، وقد حفظ لنا المسلمون بعض هذه البشارات، ونقل لنا الأنصار من أهل المدينة أحاديث اليهود قبل البعثة عن هذه البشارات، وقد تعرف بعض أهل الكتاب على الرسول صلى الله عليه وسلم في صغره، وانتفع بعض أهل الكتاب بهذه البشارات وآمنوا. 1- صفة رسولنا صلى الله عليه وسلم في التوراة: روى البخاري في صحيحه عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة، قال: أجل، " والله إنّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الأحزاب: 45] ، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق [السخب: الصياح] ، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولا يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح أعينا عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غلفاً " (¬1) . ¬

(¬1) رواه البخاري: 2125. الأميون: العرب. والسخب: الصياح والجلبة. والفظ: القاسي القلب.

وروى الدارمي عن عطاء عن ابن سلام ونحوه (¬1) وعن كعب - وهو من علماء اليهود الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم - قال: " نجد مكتوباً في التوراة محمد رسول الله عبدي المختار، لا فظٌّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام، وأمته الحمّادون، يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كلّ منزلة، ويكبرونه على كل شرف، رعاة للشمس، يصلُّون الصلاة إذا جاء وقتها، يتأزرون على أنصافهم، ويتوضؤون على أطرافهم، مناديهم ينادي في جوّ السماء، صفهم في القتال، وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دويٌّ كدوي النحل " قال التبريزي: هذا لفظ المصابيح، ورواه الدارمي مع تغيير (¬2) يسير. أين هذه البشارة في التوراة: وهذه البشارة ليست موجودة في التوراة المنتشرة اليوم بين اليهود والنصارى، فإن كان المراد بالتوراة التوراة المعينة فتكون هذه البشارة مما أخفته اليهود، وقد تكون مخفية عندهم مما لا يطلع عليه إلاّ أحبارهم (¬3) ، إلاّ أنه قد تطلق التوراة ولا يراد بها توراة موسى، بل يراد بها الكتب المنزلة من عند الله، وقد يطلق على ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: 3/125. (¬2) مشكاة المصابيح: 3/129. (¬3) الذي يظهر لنا أنه كان حتى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نسخ غير محرفة من التوراة والإنجيل بدلالة قوله تعالى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ) [المائدة: 47] وقوله: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ) [المائدة: 43] ، وقوله: (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) [المائدة: 68] . فقد كانت هناك نسخ كثيرة محرفة وبعض النسخ لم يصبها التحريف، ولكن اليهود كانوا يخفونها، ولعلّ بعضاً من هذه النسخ لا تزال إلى يومنا يخفيها بعض علماء اليهود والنصارى، ويذكر صاحب كتاب ((محمد نبي الإسلام)) ص (46) نقلاً عن مجلة ((الأيكونومست)) البريطانية أن أول عمل يؤديه المرشح لوظيفة في (الكوريا) أي الإدارية المركزية للكنيسة الكاثولوكية هو أن يقسم اليمين المقدسة على كتمان كل شيء يصل إلى علمه أو يقع تحت بصره، من معلومات خصوصاً عن ثروة الكنيسة ومواردها إلى جانب ما يملكه الفاتيكان من تحف وثروة فنية تعتبر من أثمن الثروات في العالم. ولا شك أن عبارة ثروة فنية تشمل مكتبة الفاتيكان الضخمة بما تحويه من كتب في الديانة المسيحية لو تركت للبحث العلمي الحر لألقت أضواءً لامعة على حقبة مجهولة من تاريخ المسيحية في قرونها الأولى المظلمة.

الكتب المنزلة اسم القرآن، كما في الحديث الصحيح " خفّف على داود القرآن، فكان ما بين أن يسرج دابته على أن يركبها يقرأ القرآن " والمراد به قرآنه وهو الزبور. وجاء في بعض البشارات عن هذه الأمة " أناجيلهم في صدورهم " فسمى القرآن إنجيلاً، وعلى ذلك فهذه البشارة موجودة عندهم في نبوة أشعيا، فقد جاء فيها: " عبدي الذي سرّت به نفسي، أنزل عليه وحيي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، والآذان الصمّ، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطيه أحداً، يحمد الله حمداً جديداً، يأتي من أقصى الأرض، وتفرح البريّة وسكانها، يهللون على كلِّ شرف، ويكبرونه على كل رابية، لا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى مشقح، ولا يذلّ الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوّي الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا ينطفي، أثر سلطانه على كتفيه " (¬1) . ¬

(¬1) الجواب الصحيح لابن تيمية: (3/281) .

2- خبر ابن الهيبان: ومما حفظته لنا كتب السنة عن علماء اليهود قبل الإسلام أن رجلاً من اليهود كان يدعى ابن الهيبان قدم المدينة ونزل في يهود بني قريظة قبل الإسلام بسنين، قال راوي القصة: ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا بين مخرجكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر، أو مدّين من شعير، قال: فنخرجها ثمَّ يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا، فيستسقي لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقي، وقد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً. قال: ثَمَّ حضرته الوفاة عندنا، فلمّا عرف أنّه ميت قال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: الله أعلم. قال: فإني إنّما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجرة، فكنت أرجو أن يبعثه الله، وقد أظلّكم زمانه، فلا تسبقّن إليه يا معشر يهود، فإنّه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري، فيمن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه، وفد انتفع بوصية ابن الهيبان مجموعة من شباب يهود بني قريظة، وهم ثعلبة بن سعيه، وأسيد بن سعيه، وأسد بن عبيد، فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم - لما حاصر بني قريظة - قال هؤلاء الفتية وكانوا شباباً أحداثاً: يا بني قريظة،

والله إنّه للنبي الذي عهد إليكم ابن الهيبان، قالوا: ليس به، قالوا: بلى، إنّه لهو صفته، فنزلوا، فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم ورحالهم (¬1) . 3- خبر يوشع: وروى أبو نعيم في دلائل النبوة بإسناده عن محمد بن سلمة، قال: لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد، يقال له: يوشع، فسمعته يقول - وإني لغلام في إزار - قد أظلَّكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثمّ أشار بيده إلى بيت الله، فمن أدركه فليصدّقه، فبعث رسول الله فأسلمنا وهو بين أظهرنا، ولم يسلم حسداً وبغياً (¬2) . 4- خبر عبد الله بن سلام: وقد كان عبد الله بن سلام سيد اليهود وأعلمهم وابن سيدهم وأعلمهم، قال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كنا نتوكف له، (نتوكف: ننتظر) فكنت بقباء مسراً صامتاً عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلمّا قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبّرت، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، قال: قلت له: أي عمّة، والله هو أخو موسى بن عمران، وعلى دينه بعث بما بعث به. قال: فقالت: يا ابن أخي أهو الذي كنّا نخبر أنّه يبعث مع الساعة؟ قال: قلت: نعم، قالت: فذاك إذاً (¬3) . وقد ذكر البخاري قصة مجيء عبد الله بن سلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإسلامه وطلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل إلى اليهود ويسألهم عنه بل أن يعلموا بإسلامه، ¬

(¬1) البداية والنهاية: 1/310. (¬2) البداية والنهاية: 2/309. (¬3) ابن إسحاق في السيرة (البداية: 3/211) .

فلما جاؤوا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: " يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنّكم لتعلمون أنّي رسول الله حقاً، وأنّي جئتكم بحقٍّ، فأسلموا " قالوا: ما نعلمه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، [قالها ثلاث مرات] قال: " فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: " أفرأيتم إن أسلم، قالوا: حاش لله ما كان ليسلم [سألهم ذلك ثلاثاً، ويرددون عليه بالجواب نفسه] ، قال: " يا ابن سلام، اخرج عليهم "، فخرج، فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو، إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله، وأنّه جاء بحق. فقالوا: كذبت. فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . 5- شهادة غلام يهودي: وروى أنس بن مالك أنَّ غلاماً يهودياً كان يخدم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة صفتي ومخرجي؟ قال: لا. قال الفتى: بلى والله يا رسول الله، إنّا لنجد في التوراة نعتك ومخرجك، وإنّي أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك رسول الله " رواه البيهقي بإسناد صحيح (¬2) . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 3911. (¬2) الجواب الصحيح: (3/287) .

6- فراسة راهب: وقد تعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الرهبان وهو صغير، عندما كان في تجارة مع عمّه أبي طالب إلى الشام، روى أبو موسى قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلمّا أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلّوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، قال: فهم يحلّون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلاّ خرّ ساجداً، ولا يسجدان إلاّ لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثمَّ رجع فصنع لهم طعاماً، فلمّا أتاهم به، وكان هو في رعية الإبل، فقال: أرسلوا إليه، فأقبل عليه غمامة تظلّه، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلمّا جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه (¬1) . ¬

(¬1) الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. (انظر مشكاة المصابيح: 3/187) وقال الشيخ ناصر في تعليقه على الحديث في المشكاة: رجاله ثقات. والحديث صحيح كما بينته في مقال نشرته في (مجلة التمدن الإسلامي) .

7- معرفة علماء اليهود بموعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم: عندما اقترب موعد خروج المصطفى صلى الله عليه وسلم علم أهل الكتاب بذلك بأمارات كانت عندهم، فقد روى أبو زرعة بإسناد صحيح عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم التقى بزيد بن عمرو بن نفيل قبل البعثة، وكان مما أخبر به زيد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رحل في طلب الدين الحق دين التوحيد فقال له حبر في الشام: إنك لتسأل عن دين ما نعلم عليه أحداً يعبد الله به إلاّ شيخ بالجزيرة. قال فخرجت: فقدمت عليه، فأخبرته بالذي خرجت له، فقال: إن كلّ من رأيت في ضلالة، ممنّ أنت؟ قلت: أنا من أهل بيت الله، ومن أهل الشوك والقرظ. فقال: إنه قد خرج في بلدك نبيّ، أو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه، فرجعت فلم أحسّ شيئاً بعد (¬1) . كان زيد يحدّث بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ولم يكن يعلم أنَّ الذي يحدثه هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ظهر نجمه، ومات زيد قبل البعثة بسنوات. وقد سبق ذكر خبر ابن الهيبان، الذي خرج من الشام إلى المدينة، فقد قال لليهود عندما حضرته الوفاة: " إنّما أخرجني توقع خروج نبيّ قد أظلّ زمانه، هذه البلاد مهاجره ". وفي صحيح البخاري: كان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل سُقُفاً على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حزّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختانِ قد ظهر " وقال هرقل في آخر كلامه: " هذا ملك هذه الأمة قد ظهر " (¬2) يعني العرب. ¬

(¬1) الجواب الصحيح: 3/285. (¬2) صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي حديث رقم: 7. والأسقف مرتبة دينية عند النصارى. والحزاء: يقال للناظر في النجوم، لأنه يقدر الأمور بظنه.

النظر في أحوال الأنبياء إذا شئت أن تسبر غور إنسان، وتتعرف على صدقه وأمانته، فإنّك تنظر في قسمات وجهه، وتحصي عليه أفعاله وأقواله، وتراقب حركاته وسكناته، والذين يستغلق عليك أن تصل في شأنهم إلى اليقين هم أولئك الذين لا تقابلهم إلا مقابلة سريعة، أو أولئك الذين يخفون أنفسهم، ويتكلفون في أقوالهم وأفعالهم فلا يظهرون على طبيعتهم. والأنبياء والرسل كانوا يخالطون أقوامهم، ويجالسونهم ويعاشرونهم، ويعاملونهم في أمور شتى، وبذلك يتسنى للناس أن يدرسوهم عن كثب، ويتعرفوا إليهم عن قرب، ولقد كانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته بالأمين، وذلك لصدقه وأمانته، وعندما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في مطلع الدعوة: " لو أخبرتكم أنّ وراء هذا الوادي خيلاً تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً " (¬1) . وقد أرشد القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال (قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [يونس: 16] . يقول لهم: لقد مكثت فيكم زمناً ليس باليسير قبل أن أخبركم بأنني نبي، فكيف كانت سيرتي فيكم؟ وكيف كان صدقي إيّاكم؟ أفأترك الكذب على الناس، وأكذب على ربّ الناس، (أفلا تعقلون) ؟ ألا تعملون عقولكم لتتهديكم إلى الحق؟! . ¬

(¬1) رواه البخاري: (4770) ، ومسلم: (208) (355) من حديث ابن عباس. وانظر ((جامع الأصول)) : 2/286-288 (739) .

إن المعدن الجيد يدلّ على نفسه بنفسه، والفاكهة الصالحة يدلُّ على صلاحها لونها وشكلها ورائحتها وطعمها، والمصباح الرائع ضوؤه يهدي إليه (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء) [النور: 35] . بعض الناس لم يحتج إلى برهان ودليل ليستدل بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنّ شخصه وحياته وسيرته هي أعظم دليل، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق، فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دعاه لم يتردد. ونظر عبد الله بن سلام في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة واحدة، ولكنَّها كانت كافية لتدلّه على أنّ هذا وجه صادق ليس بكاذب، قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، وخرج عبد الله ابن سلام عالم اليهود مع الخارجين ينظر في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " فلما رأيت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذّاب " (¬1) . وخديجة التي عرفت الرسول زوجاً وخالطته عن قرب قبل أن تعرفه نبياً رسولاً، لم تتردد في أنّ الله لن يخزيه أبداً، ولن يصيبه ضير، ذلك أنّ سنة الله في أمثال الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكرّموا ويشّرفوا، ولذلك قالت له عندما جاءها قائلاً: " لقد خشيت على نفسي " وذلك بعد أن فجأه الوحي في غار حراء قالت: " كلاّ والله لا يخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق " (¬2) . هرقل وأبو سفيان: وقد أعمل هرقل ملك الروم عقله وفكره وعلمه بأحوال الرسل وصفاتهم، فاهتدى إلى أنّ محمداً مرسل من ربّه، ولكنه لم يؤمن ضنّاً بملكه. أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض في عصره يدعوهم إلى الإسلام، وكان هرقل ملك الروم من هؤلاء الذين أرسل إليهم، فلما جاءه كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) رواه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وقال: حديث صحيح وابن ماجة في سننه (البداية والنهاية: 3/ 210) . (¬2) صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي، حديث رقم (3) .

طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، وسألهم عن أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأل أبا سفيان، وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الأخبار. وإليك الحوار الذي جرى بينهما يحكيه أبو سفيان. " كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه مِن مَلِك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتدّ أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكنّي كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منّا وننال منه. قال: فماذا يأمركم؟

قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق، والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنّه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من مَلكِ قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنّه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءَهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمَّ. وسألتك أيرتد أحد سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقّاً فسيملك موضع قَدَمَيَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظنُّ أنّه منكم، فلو أني أعلم أنّي أَخْلُصُ إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه " (¬1) . ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي حديث رقم: 7.

زهدهم في المتاع الدنيوي: ومما يدلُّ على صدق الرسل من خلال التأمل في سيرتهم، أنَّ الرسل أزهد النّاس في متاع الدنيا وعرضها الزائل، وبهرجها الكاذب، لا يطالبون الناس الذين يدعونهم أجراً ولا مالاً، فهم يبذلون لهم الخير لا ينتظرون منهم جزاءً ولا شكوراً، هذا أوّل الرسل يقول لقومه: (وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ) [هود: 29] . وهذا آخر الرسل يأمره الله بمثل ذلك: (قل ما أسألكم عليه من أجرٍ إلاَّ من شاء أن يتَّخذ إلى ربه سبيلاً) [الفرقان: 57] . وقص الله علينا في سورة الشعراء طرفاً من قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وكلّ منهم يقول لقومه: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180] .

دعوة الرّسُل النظر في دعوة الرسل مجال خصب يدلنا على مدى صدقهم، فقد جاءت الرسل بمنهج متكامل لإصلاح الإنسان، ولإصلاح المجتمع الإنساني، ودين كهذا يقول الذين جاؤوا به إنّه منزل من عند الله لا بدّ أن يكون في غاية الكمال، خالياً من النقائص والعيوب، لا يتعارض مع فطرة الإنسان، وسنن الكون، وقد وجهنا القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال، فقال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) [النساء: 82] . فكونه وحدة متكاملة يصدق بعضه بعضاً، لا تناقض فيه ولا اختلاف - دليل واضح على صدق الذي جاء به. والنظر في المقاصد التي تدعو إليها الرسل، والفضائل والقيم التي يُنادون بها كلُّ ذلك من أعظم الأدلة على صدقهم، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9] . ولقد ألَّف العلماء مؤلفات في بيان كمال هذا الدين وشموله وبيان حكمة التشريع، وبيان القواعد والأسس التي تجعل هذا الدين بناء محكماً، يردد الناس النظر فيه فلا يجدون فيه عيباً ولا نقصاً. وقد ميز الله البشر بالعقل، وأودع عقولهم إدراك قبح القبيح، وإدراك حسن الحسن، إلاّ أنّ رحمته جلّ وعلا اقتضت ألاّ يعذب خلقه على تركهم الحسن وفعلهم القبيح ما لم يُقِم عليهم الحجةَ بإرسال الرسل.

وقد سئل أعرابيُّ: بم عرفت أنّ محمداً رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به (¬1) . وهذا الذي استدل به الأعرابي في غاية الجودة، فإن الرسل جاءت من عند الله بعلوم وشرائع يعلم العاقل المنصف عند التأمل فيها أنّه لا يمكن أن تكون آراء البشر ولا أفكارهم. دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: والناظر في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يكون مكابراً أعظم المكابرة إن لم يعتبر ولم يؤمن، فنبينا عليه السلام جاء بهذا القرآن الذي عجزت الإنس والجنُّ عن الإتيان بمثله، وقد حوى من الأخبار الماضية والآتية، والعلوم المختلفة ما يخضع له المنصف، ويجعله يسبح بحمد الله طويلاً. هذا الكتاب وتلك العلوم تصل إلينا على يد رجل أميّ، لم يمسك بالقلم يوماً، ولم يكن يقرأ ما سطره العلماء والكتاب من قبل (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت: 48] . ليس أمراً عادياً أن يتحول رجل أميّ بين عشية وضحاها إلى معلم بشرية، يبذل العلم للناس، ويقوّم علوم السابقين، ويبين ما فيها من تحريف وتغير. لقد كان هذا الدليل يجول في نفوس أهل مكة، فهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيهم بما أتاهم به، ويعلمون أُميته، ولذلك لم يكن منهم إلا التمحل وجحود الحقّ بعد معرفته (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33] لقد وصلت بهم السفاهة إلى الزعم بأن الذي يأتي محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا العلم حداد رومي كان بمكة، وإنه لفرية مضحكة (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل: 103] . ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة: 2/6-7.

تأييد الله لرسُله ونصرته لهم ومما يدلنا على صدق الأنبياء والمرسلين نصرة الله لهم وحفظه إياهم، فإنّه يستحيل على الله تعالى أن يتقول عليه متقول، فيدعي أنّه مرسل من عند الله وهو كاذب في دعواه، ثمّ بعد ذلك يؤيده الله وينصره، ويرسل الملائكة لتثبيته وحمايته، لو فعل هذا ملك من ملوك الأرض، فادعى مدع أنّه مرسل من قبله كذباً وزوراً، وعلم بذلك الملك المفترى عليه، فإنّه سيلاحقه، وإذا ظفر به فسيوقع به أشدَّ العذاب، فكيف يليق بخالق الكون العليم الحكيم أن يرى ويسمع رجلاً يكذب عليه، ويزعم أنّه رسوله، ويحلل باسمه ويحرم، ويشرع الشرائع، ويضرب الرقاب، ويزعم أنه يفعل ذلك بأمر الله وبرضاه ومشيئته، ثم يؤيده الله وينصره، ولا يوقع به عقابه وعذابه؟ هذا لا يكون أبداً، وإن وقع مثل هذا من كاذب مارق وظهر أمره، وقويت شوكته يوماً، فلن يطول ذلك، ولا بدَّ أن يكشف الله أمره، ويهتك ستره، ويسلط عليه من يقهره، ويجعله عبرة لغيره، كما فعل الله بمسيلمة وسجاح والأسود العنسي من قبل (¬1) . وقد أشار الله تعالى لهذا النوع من الاستدلال فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) [النحل: 116] فحكم عليهم بعدم الفلاح، وقال: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ - لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ - ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ¬

(¬1) راجع شرح العقيدة الطحاوية: ص 165-167 وقد استدل بشيء قريب من هذا ابن القيم في كتابه هداية الحيارى انظر الجامع: (ص562) .

الْوَتِينَ) [الحاقة: 44-46] والمعنى أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو تقوَّل على الله ما لم يقله الله لأهلكه الله. وهذا الدليل ذو تأثير كبير على نفوس الناس، فإن العرب لمّا رأت انتصار الإسلام صدقت وآمنت ودخلت في دين الله أفواجاً (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) [النصر: 1-2] . شبهة: وما يذكره بعض المكذبين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من أنّ النصر تمّ لفرعون ونمرود وجنكيزخان وغيرهم من الملوك الكفرة في القديم والحديث، جوابه ظاهر، فإن هؤلاء لم يدع أحد منهم النبوة، وأن الله أمره أن يدعو إلى عبادته وطاعته، ومن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار بخلاف من ادعى أن الله أرسله، ثمّ يؤيده الله وينصره، وينصر أتباعه ويجعل العاقبة لهم فإنّه لا يكون إلاّ رسولاً صادقاً، فلو كان كاذباً فلا بدّ أن ينتقم الله منه، ويقطع دابره، واعتبر في هذا بحال مسيلمة والأسود العنسي وسجاح، واعتبر هذا بحال المسيح الدجال، فإنّه يفتري على الله الكذب ويدعي الألوهية، فيكشف الله ستره، ويظهر أمره لمن كان عنده بصيرة، فهو رجل أعور، مكتوب بين عينيه كافر، وإنّما يلتبس أمره على من لم يرزق نور الإيمان.

فضل الأنبياء وتفاضلهم المبحث الأول فضل الأنبياء على غيرهم المطلب الأول الأدلة على هذا التفضيل خلق الله الخلق وفاضل بينهم: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ) [القصص: 68] وقد اختار من أرضه مكة، فجعلها مقرّ بيته العتيق الذي من دخله كان آمناً، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليه، وأوجب على الناس الحج إليه من استطاع إليه سبيلاً، وحرّم صيد الحرم وقطع شجره، وجعل الأعمال الصالحة فيه مضاعفة، وجعل إرادة الظلم فيه مستحقة العذاب الأليم، (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25] واختار من الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الأيام يوم عرفة، ومن أيام الأسبوع يوم الجمعة، وفاضل الله بين الملائكة فاختار منهم الملائكة الذين يحملون رسالته إلى رسله وأنبيائه، واصطفى الله من بني آدم الأنبياء، فالأنبياء أفضل البشر، وأفضل الأنبياء الرسل، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج: 75] . وقد أجمعت الأمة على تفضيل الأنبياء (¬1) على غيرهم من الصديقين والشهداء والصالحين. ويدلَّ على تفضيلهم قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 11/321.

وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ - وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 83-86] . وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه: " ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر " (¬1) . ويؤخذ من الحديث أن الأنبياء والمرسلين أفضل الخلق، وأنّ أفضل رجل بعدهم أبو بكر الصديق. وقريب من هذا الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلاّ النبيين والمرسلين " (¬2) . وقد رتب الله عباده السعداء الذين أنعم عليهم أربع مراتب، قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69] . فأول هذه المراتب وأعلاها الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء، ثم الصالحون. لا مجال للمصادفة: قد يظنّ ظانٌ أن للمصادفة هنا محلاً، وأن من الأنبياء من أصابته النبوة وهو لا يستحقها، معاذ الله، ولكنّ الله العليم الحكيم الخبير نظر في معادن العباد وقلوبهم، واختار منهم واصطفى الأفضل الأكمل، وصدق الله إذ يقول: (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124] . إنّ حكمة الله وعلمه قاضيان بأن لا تمنح النبوة والرسالة إلاّ للمستعد لها والقادر على حملها (¬3) ، وإذا تأملت في سيرة أنبياء الله ورسله رأيتهم أبرّ الناس ¬

(¬1) أخرجه بنحوه عبد بن حميد في ((مسنده)) ورقمه: (212) من حديث أبي الدرداء، وأخرجه أيضاً عبد الله بن أحمد في كتاب ((فضائل الصحابة)) ورقمه: (508) . ولفظه في ((مسند عبد بن حميد)) : عن أبي الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد أفضل، وأخير، من أبي بكر، إلا أن يكون نبيٌّ ". (¬2) أخرجه الترمذي: (3664) من حديث أنس بن مالك، و (3665) من حديث علي بن أبي طالب، وكلاهما صحيح. (¬3) المهتدون بهدى الكتاب والسنة يرون أنّ الرسل أفضل الخلق وأكملهم، وقد اختارهم العليم الخبير كي يكونوا سفراءه إلى خلقه، وينبغي أن نفرق بين ما جبلهم الله عليه من الفضائل والمزايا وبين ما أوحاه إليهم، فالذي أوحي إليهم به لم يكن لهم به علم، وليس لذكائهم وفظنتهم من شيء فيه، ولذلك قال الله لرسوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإيمانُ) [الشورى: 52] وهذا يرد على ذلك الصنف من الذين يزعمون أنهم يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصفونه بالعبقرية، ثم ينسبون كل شيء إلى عبقريته، حتى العلوم التي جاء بها، وهذه خدعة ماكرة، يريدون من ورائها إنكار الوحي، ونسبة هذه العلوم الإلهية الربانية إلى العبقرية المحمدية، ونحن في الرد عليهم لا نشتط فننكر مزايا الرسول وفضله، ولكننا نبطل باطلهم، ونثبت الجانب الحق فيه، وهو أن محمداً ليس عبقرياً فقط، بل هو مع ذلك رسول رب العالمين.

قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحضرهم بديهة، وأشدّهم تحملاً، وأرقهم طباعاً،.. فلا عجب أن يختارهم الله ليكونوا أمناء وحيه، والعاملين على إقامة دينه، فهم القمم السامقة التي تعجز النفوس عن أن تبلغ مداها.

المطلب الثاني دعوى تفضيل الأئمة على الأنبياء وقد خالفت في هذه المسألة التي أجمعت عليها الأمة طوائف من الذين ينتسبون إلى الإسلام، فمن هؤلاء الشيعة الإمامية الاثني عشرية، يقول عالم من علمائهم البارزين المعاصرين (¬1) في هذا الموضوع: " إن من ضرورات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبيٌّ مرسل " (¬2) وقال أيضاً: " ورد عنهم (أي الأئمة) : إنّ لنا مع الله حالات، لا يسعها ملك مقرب، ولا نبيٌّ مرسل، ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء " (¬3) (¬4) . ¬

(¬1) هو الخميني الذي فجّر الثورة في إيران. (¬2) انظر كتاب الحكومة الإسلامية للخميني: ص52. (¬3) المرجع السابق. (¬4) غلا الخميني في الأئمة غلواً عظيماً فقد رفعهم فوق مرتبة البشر، وعدهم في مرتبة الآلهة، يقول في كتاب الحكومة الإسلامية ص 52: " إن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات الكون" ولا أفهم من هذه الخلافة التكوينية التي تخضع لها جميع ذرات الكون إلا تلك التي حدثنا الله بها عن نفسه (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 52] . ويقول في الكتاب السابق أيضاً: " والأئمة كانوا قبل هذا العالم أنواراً، فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله " تأمل كيف وصفهم بأنهم كانوا موجودين قبل خلق العالم، وكان وجودهم نوراً، وكانوا محدقين بالعرش، وكل ذلك من الغلو الشديد المخالف لصريح الكتاب والسنة. وبعد إعداد هذا البحث وقبل دفعه إلى المطبعة طالعتنا وكالات الأنباء والصحف بكلام للخميني لا يقل خطورة عن الكلام الذي أثبتناه من كتابه، قال بمناسبة ميلاد المهدي الغائب الذي تزعم الشيعة اختفاءه منذ أكثر من ألف عام ويزعمون بقاءه حياً وأنه سيعود مرة أخرى ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً. وفي كلامه هذا يزعم أن الأنبياء والرسل جميعاً وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم لم ينجحوا في إصلاح البشرية وتنفيذ العدالة، وأن الذي سينجح في ذلك هو المهدي المنتظر، وأنه الشخص الوحيد في العالم الذي سيحقق ذلك. يقول في كلامه الذي نشرته بنصه صحيفة الرأي العام الكويتية بتاريخ (30/6/1980) " الأنبياء جميعاً جاؤوا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم كله، لكنهم لم ينجحوا، وحتى إن النبي محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية وتنفيذ العدالة لم ينجح في ذلك في عهده.. وإن الشخص الذي سينجح في ذلك ويرسى قواعد العدالة في جميع أنحاء العالم ويقوم بالانحرافات هو المهدي المنتظر ". لا والله ما ذلك بحق وليس بصدق، فإن أحداً لم ينجح محمد صلى الله عليه وسلم في تحقيق العدالة، ولن يأتي أحد بعده يحقق ما حققه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. ويؤكد الخميني كلامه السابق فيقول: " لا يوجد في العالم أحد سوى المهدي من أجل تنفيذ العدالة بمعناها الحقيقي.. " ويقول: " إن الإمام المهدي عليه السلام سيعمل على نشر العدالة في جميع أنحاء العالم وسينجح فيما فشل في تحقيقه الأنبياء والأولياء بسب العراقيل التي كانت في طريقهم.. " ومن هنا يرى الخميني أن عيد المهدي هو أكبر أعياد المسلمين " إن عيد المهدي هو أكبر عيد للبشرية بأجمعها " وهذا يعني أنه أعظم من عيد الفطر والأضحى، وقد فضله على عيد مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم من جهة: " إن هذا العيد الذي هو عيد كبير بالنسب للمسلمين يعتبر أكبر من عيد ميلاد النبي عليه السلام من جهة واحدة، ويقول: " إن عيده هو عيد جميع أبناء البشرية، لأنه سيهدي جميع أبناء البشر ". وختم كلامه مفضلاً إياه على غيره: " إني لا أتمكن من تسميته بالزعيم لأنه أكبر وأعظم وأرفع من ذلك، ولا أتمكن من تسميته بالرجل الأول لأنه لا يوجد أحد بعده، وليس له ثان ولذلك لا أتمكن من التعبير عنه بأي كلام سوى المهدي المنتظر الموعود " إننا لا نستغرب هذا الكلام بعد ما قرأناه في كتاب الحكومة الإسلامية. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال الألوسي رحمه الله في ((مختصر التحفة ص 100)) مبيناً قول الشيعة في هذه المسألة: " أجمع الإمامية على أن الإمام أفضل من غير أولي العزم من الرسل والأنبياء، وليس بأفضل من خاتم النبيين عليه وعليهم السلام، وأما غيره من سائر أولي العزم فقد توقف فيه بعضم كابن المطهر الحلي وغيره، ويعتقد بعضهم أنه مساوٍ لهم، وهذا مخالف لما ورد عن الأئمة، فقد روى الكليني عن هشام الأحوال عن زيد بن علي أن الأنبياء أفضل من الأئمة، وأن من قال غير ذلك فهو ضال، وروى ابن بابويه عن الصادق ما ينص على أن الأنبياء أحبّ إلى الله من عليٍّ ". وقد رد الألوسي - رحمه الله - قولهم بنصوص الكتاب وبالمعقول وبتضعيف النصوص التي اعتمدوا عليها لضعف رجالها، ولكونها معارضة للنصوص الأخرى الموجودة في كتبهم، وهي ردود شافية لمن أراد معرفة الحقّ واتباعه فارجع إليه. وقد ترددت هذه الأقوال المفضلة للأئمة على الأنبياء في كتب الشيعة كثيراً، فقد ذكر علي موسى البهبهاني في كتابه مصباح الهداية في إثبات الولاية (¬1) (ص61 ¬

(¬1) هذه النقول أخذناها بمصادرها من كتاب الإمامة للدكتور علي أحمد السالوس: ص19.

-62) أن الأمامة مرتبة فوق النبوة. ولذلك فقد حكموا بكفر من أنكر إمامة أئمتهم أو إمامة واحد منهم، قال ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق: " اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده أنّه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقرّ بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنّه بمنزلة من أقرّ بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد " ((رسالته في الاعتقاد ص 103)) . وقال المفيد: " اتفقت الإمامية على أنّ من أنكر إمامة أحد من الأئمة، وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار " بحار الأنوار للمجلسي ((23/390)) والمجلسي ذكر قول المفيد لتأييد رأيه. ويرى بعضهم أنّ إنكار الإمامة شر من إنكار النبوة، يقول الحلي الملقب عند الجعفرية بالعلامة: " الإمامة لطف عام، والنبوة لطف خاص، لإمكان خلو الزمان من نبي حي بخلاف الإمام، وإنكار اللطف العام شرٌّ من إنكار اللطف الخاص " ((كتاب الألفين في إمامة أمير المؤمنين للحسن بن يوسف المطهر الحلي 1/3)) وعقب أحد علمائهم على هذا بأنّه " نعم ما قال " وأضاف: " وإلى هذا أشار الصدوق بقوله عن منكر الإمامة هو شرّ الثلاثة، فعنه أنه قال: الناصبي شرّ من اليهودي، قيل: وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ فقال: إن اليهودي منع لطف النبوة وهو خاص، والناصبي منع لطف الإمامة وهو عام " ((انظر حاشية ص 43 من كتاب النفع يوم الحشر لجمال الدين المقداد بن عبد الله السيوري)) .

المطلب الثالث الزعم بأن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء (¬1) وزعم بعض المتصوفة أنّ الولاية أفضل من النبوة، وزعم هؤلاء أنّ خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، ومن هؤلاء الذين زعموا هذا الزعم الباطل الحكيم الترمذي، وابن عربي القائل بوحدة الوجود، وهؤلاء كذبوا فيما ذهبوا إليه، فلم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنّ هناك خاتماً للأولياء، ولم يرد أنّه أفضل من غيره من الأولياء فضلاً عن أن يكون خيرهم، ولم يتكلم في هذه المسألة أحد من الذين لهم باع في العلم ممن يقتدى ويتأسى بهم. وأصل غلطهم أنّهم نظروا فوجدوا أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وأفضل الرسل، فقالوا: هو أفضلهم لأنّه آخرهم، وهذا فاسد فالتأخر والتقدم ليس عليه مدار التفضيل، ولذلك كان إبراهيم متقدماً وهو أفضل من موسى، وإبراهيم وموسى متقدمان، وهما أفضل من عيسى، وصحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن أفضل هذه الأمة صحابته الذين كانوا معه، ولو أنّ المسلم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه، وثبت عنه أنه قال: " خير الناس قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم " (¬2) . وفي العلوم قد ينبغ المتقدم نبوغاً لا يدرك شأوه المتأخر، واعتبر في هذا بسيبويه في علم النحو، وقد يكون هذا في العلوم المترقية التي يكمل المتأخر فيها ¬

(¬1) راجع في هذه المسألة: لوامع الأنوار البهية: 2/300، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 2/222، 11/221، 363. (¬2) أخرجه البخاري: (2652) من حديث عبد الله بن مسعود. وانظر ((مسند أحمد)) : 6/76/ (3549) والتعليق عليه.

المتقدم صحيحاً، أمّا في النبوة والرسالة فالأمر مختلف، إذ النبوة وعلومها هبة إلهية، ومنحة ربانية، لا تنال بالكسب والمجاهدة، وقد فتحت هذه المقالة باب شرّ، فأصبح كلّ من ظنَّ في نفسه خيراً، وكلّ من أراد بهذه الأمّة شراً يزعم أنّه خاتم الأولياء، وأنّه يأخذ علومه عن الله من غير واسطة، وهذا ضلال كبير، فليس لأحد من هذه الأمة أن يزعم أنه أفضل من أحد من الأنبياء، وليس لأحد يزعم الصلاح أن يتعبد الله بطريقة تخالف طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم.

تفاضُل الأنبياء والرّسُل أخبرنا الحقُّ - تبارك وتعالى - أنّه فضّل بعض النبيين على بعض، كما قال جلّ وعلا: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [الإسراء: 55] . وقد أجمعت الأمّة على أنّ الرسل أفضل من الأنبياء، والرسل بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم كما قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة: 253] . المطلب الأول أولو العزم من الرسل أفضل الرسل وأفضل الرسل والأنبياء خمسة: محمد صلى الله عليه وسلم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 35] ، وقد ذكرهم الله في كتابه في أكثر من موضع، (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13] . وفي قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب: 7] .

بم يتفاضلون الأنبياء والرسل؟ (¬1) : الذي يتأمل في الآيتين اللتين أخبرتا بتفاضل الأنبياء والرسل يجد أن الله فضّل مَن فضّل منهم بإعطائه خيراً لم يعطه غيره، أو برفع درجته فوق درجة غيره، أو باجتهاده في عبادة الله والدعوة إليه، وقيامه بالأمر الذي وكل إليه. فداود عليه السلام فضله الله بإعطائه الزبور، (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [الإسراء: 55] ، وأعطى الله موسى التوراة (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة: 53] والكتاب هو التوراة (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) [المائدة: 44] وأعطى عيسى الإنجيل (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) [المائدة: 46] . وقد اختص الله آدم بأنّه " أبو البشر، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له ". وفضل نوحاً بأنّه " أوّل الرسل إلى أهل الأرض، وسمّاه الله عبداً شكوراً ". وفضل إبراهيم باتخاذه خليلاً (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء: 125] وجعله للناس إماماً (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [البقرة: 124] . وفضل الله موسى برسالاته وبكلامه، (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي ¬

(¬1) الأنبياء والرسل يتفاوتون في الفضل كما بينا هنا بتفضيل الله لهم، وبما أعطاهم إياه من خير، وبعض الناس ينسبون إلى الأنبياء والرسل أموراً يظنون أنهم يعظمونهم بها فيخرجون عن دائرة الصدق والعدل، فمن ذلك دعاء كثير من المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم قائلين: " يا أول خلق الله، يا نور عرشه الله "، وهذا القول جمع أنواعاً من الضلال، منها دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونداءه، وهذا لا ينبغي إلا لله فهو المدعو دون سواه. ومنها الإدعاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خلق من نور، وأنه أول خلق الله، وهذا لا برهان عليه إلا أحاديث باطلة لم يصح إسنادها، فأول ما خلق الله القلم الذي كتب مقادير كل شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم مخلوق مما خلق منه البشر، وكونه مخلوقاً مما خلق منه البشر وأنه في آخر الخلق لا يضيره، فالمخلوقات لا تتفاضل باعتبار ما خلقت منه فقط، فقد يخلق المؤمن من كافر، والكافر من مؤمن، كابن نوح منه، وإبراهيم من آزر، وأدم خلقه الله من طين، فلما سوّاه، ونفخ فيه من روحه - أسجد له ملائكته وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء، وبخلقه إياه بيده.

وَبِكَلاَمِي) [الأعراف: 144] واصطنعه لنفسه (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه: 41] . وفضل عيسى بأنّه رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكان يكلّم الناس في المهد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) [النساء: 171] . ويتفاضل الأنبياء من جهة أخرى، فالنبي قد يكون نبياً لا غير، وقد يكون نبياً ملكاً، وقد يكون عبداً رسولاً، " فالنبي الذي كُذِّب، ولم يتبع، ولم يطع، هذا نبيٌّ، وليس بملك، أمّا الذي صدق، واتبع، وأطيع، فإن كان لا يأمر إلاّ بما أمره الله به فهو عبد نبي ليس بملك، وإن كان يأمر بما يريده مباحاً له فهو نبي ملك، كما قال الله لسليمان: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص: 39] . فالنبي الملك هنا قسيم العبد الرسول، كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: " اختر إمّا عبداً رسولاً، وإمّا نبياً ملكاً " (¬1) وحال العبد الرسول أكمل من حال النبي الملك، كما هو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنّه كان عبداً رسولاً، مؤيداً مطاعاً متبوعاً، وبذلك يكون له مثل أجر من اتبعه، وينتفع به الخلق، ويرحموا به، ويرحم بهم، ولم يختر أن يكون ملكاً، لئلا ينقص، لما في ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال، عن نصيبه في الآخرة. فالعبد الرسول أفضل عند الله من النبي الملك، ولهذا كان أمر نوح وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم أفضل عند الله من داود وسليمان ويوسف " (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه بنحوه في ((المسند)) : 12/76-77 (7160) من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وانظر تمام تخريجه في ((المسند)) . (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 35/34.

المطلب الثاني فضل الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم عندما يبعث الله الأولين والآخرين في يوم الدين يكون رسولنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه سيّد ولد آدم، بيد لواء الحمد، والأنبياء والمرسلون في ذلك اليوم تحت لوائه، فعن أُبيٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيٍ يومئذٍ آدم فمن سواه إلاّ تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر " رواه الترمذي (¬1) ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: " أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع " (¬2) . وعندما يشتدُّ الكرب بالناس في ذلك اليوم يستشفع الناس بالرسل العظام ليشفعوا إلى الله ليقضي بين عباده فيتدافعها الرسل، كلُّ واحد يقول: اذهبوا إلى غيري، حتى إذا أتوا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال: " اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ". هذا فضله في ذلك اليوم العظيم، وما ذلك إلاّ لما حباه الله من عظيم الصفات، وكريم الأخلاق، والمجاهدة في الله، والقيام بأمره، وقد فضله الله في نفسه ودعوته وأمته بفضائل، فمن ذلك أنّه اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه وأبو عوانة " إنّ الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً " (¬3) ، وآتاه القرآن العظيم الذي لم يُعط أحدٌ ¬

(¬1) رواه الترمذي: 3148. وقال فيه: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) ابن ماجه (4308) ، وهو في صحيح سنن ابن ماجه. (¬3) صحيح مسلم: 532.

من الأنبياء والرسل مثلَه: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر: 87] . وخصّه الله دون غيره بستٍّ لم يعطها أحد من الأنبياء قبله، ففي الحديث: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وختم بي النبيون " رواه مسلم والترمذي (¬1) . يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّ الله فضله على غيره بست، أوتي جوامع الكلم، وذلك بأن يجمع في القول الوجيز المعاني الكثيرة. ونصر بالرعب، وذلك بما يلقيه الله في قلوب أعدائه من الخوف من رسوله وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. وأحلّت له الغنائم، وكانت غنائم من قبلنا من الرسل وأتباعهم تجمع ثمّ تنزل نار من السماء تحرقها. وجعلت له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركت رجلاً من هذه الأمة الصلاة فبإمكانه أن يتوضأ فإن لم يجد يتيمم، ثمّ يصلي في مسجد مقام، أو في منزل أو في الصحراء. وأرسل إلى النّاس كافة عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم وأحمرهم (¬2) ، من كان في وقت بعثته ومن يأتي من بعده حتى تقوم الساعة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف: 158] . ¬

(¬1) صحيح مسلم: 523، والترمذي: 1553. (¬2) يزعم (نهرو) في كتابه لمحات من تاريخ العالم أن محمداً مرسل إلى العرب خاصة، وهذا الزعم قال به طوائف من النصارى في القديم والحديث، وقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه الجواب الصحيح، في الرد على شبهات رجل نصراني، وإحدى تلك الشبهات التي أطال شيخ الإسلام في الرد عليها زعم ذلك النصراني أن محمداً مرسل إلى العرب دون سائر الأمم، ويكفي في الرد على هذه الفرية أن نبين لهؤلاء تناقضهم، فإن إقرارهم بكونه نبياً مرسلاً يقتضي تصديقه فيما أخبر، وقد أخبر ببعثه إلى الناس كافة، فإذا آمنوا بأنه نبي مرسل، ثم كذبوه، وقالوا: أنت مرسل إلى العرب وحدهم، فقد تناقضوا تناقضاً بيناً، ووضح أن مرادهم تبرير كفرهم به.

وأرسله إلى الجنّ كما أرسله إلى الإنس، وقد رجع وفد الجنّ بعد استماع القرآن، والإيمان بما نزل من الحق. داعين قومهم إلى الإيمان: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الأحقاف: 31-32] . والفضيلة السادسة أنّه خاتم الأنبياء فلا نبيّ بعده (وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40] . وإذا كان رسولنا خاتم الأنبياء فهو خاتم المرسلين من باب أولى، ذلك أنّ كل رسولنا خاتم الأنبياء فهو خاتم المرسلين من باب أولى، ذلك أنّ كل رسول فهو نبي لا شك في ذلك، فإذا كانت النبوة بعد نبينا ممنوعة مقطوعة، فالرسالة ممنوعة أيضاً، لأن الرسول لا بدَّ أن يكون نبيّاً. ومعنى كونه خاتم الأنبياء والمرسلين أنّه لا يبعث رسول من بعده يغير شرعه (¬1) ويبطل شيئاً من دينه، أمّا نزول عيسى آخر الزمان فهو حقٌّ وصدق - كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم - ولكنه لا ينزل ليحكم بشريعة التوراة والإنجيل، بل يحكم بالقرآن، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويؤذن بالصلاة. ¬

(¬1) ظهر بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من أدعياء النبوة، كمسيلمة والأسود العنسي وسجاح، ولا يزال يظهر بين الفينة والفينة من أمثال هؤلاء، وقد ظهر في القرن الماضي علي محمد الشيرازي (ولد سنة 1819م) ولقب بالباب، وأتباعه يدعون البابية، وادعى النبوة حيناً والألوهية حيناً، وسار على نهجه تلميذه الذي لقب (ببهاء الدين) وأتباعه يدعون البهائية، ومن هؤلاء الأدعياء ميرزا غلام أحمد القادياني، وله أتباع منتشرون في الهند وألمانيا وإنكلترا وأمريكا، ولهم فيها مساجد يضلون بها المسلمين، وكانوا يسمون بالقاديانية، وهم يسمون اليوم - أنفسهم بالأحمدية إمعاناً في تضليل عباد الله -. وآخر هؤلاء الأدعياء رجل ظهر في السودان يدعى أنه نبي وقد تكفل الله بفضح كل من ادعى هذه الدعوى وهتك ستره. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) [يونس: 69] .

المطلب الثالث النصوص التي تنهى عن التفضيل بين الأنبياء وردت أحاديث تنهى المسلمين عن تفضيل بعض النبيين على بعض، فمن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " لا تخيروا بين الأنبياء " (¬1) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفضلوا بين أنبياء الله " (¬2) . أي: لا تقولوا: فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان، يقال: خيَّر فلان بين فلان وفلان، وفضل بينهما، إذا قال ذلك. فهذه الأحاديث لا تعارض النصوص القرآنية التي تدلُّ على أنّ الله فضّل بعض الأنبياء على بعض، وبعض المرسلين على بعض، وينبغي أن يحمل النهي الذي ورد في الأحاديث على النهي عن التفضيل إذا كان على وجه الحميّة والعصبية والانتقاص، أو كان هذا التفضيل يؤدي إلى خصومة أو فتنة (¬3) ، يدلنا على هذا سبب الحديث، ففي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " استبَّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده، فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي عن ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون، يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون ¬

(¬1) متفق عليه مشكاة المصابيح: (3/114) ، وهو عند البخاري: 2412، 6916، ومسلم: 2374 (163) . (¬2) أخرجه البخاري: 3414. وصحيح مسلم: 2373. (¬3) راجع شرح الطحاوية: ص170.

أوَّل من يفيق، فإذا بموسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صَعِقَ فأفاق قبلي، أو كان مِمَّن استثنى الله " (¬1) . وفي رواية عند البخاري: " لا تخيروا بين الأنبياء " (¬2) . قال ابن حجر في هذه المسألة: " قال العلماء في نهيه عن التفضيل بين الأنبياء: إنَّما نهى عن ذلك من يقول برأيه، لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل بحيث لا يترك للمفضول فضيلة " (¬3) . ونقل عن بعض أهل العلم أنه قال: " الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنّما هي في مجادلة أهل الكتاب وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة، لأنّ المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الازدراء بالآخر فيفضي إلى الكفر، فأمّا إذا كان التخيير مستنداً إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان فلا يدخل في النهي " (¬4) . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 2411، ومسلم: 2373. (¬2) صحيح البخاري: 2412. (¬3) فتح الباري: 6/446، ولمزيد من البحث راجع تفسير ابن كثير، وتفسير القرطبي عند تفسيرهما الآية: 253 من سورة البقرة. (¬4) المصدر السابق، ولمزيد من البحث راجع تفسير ابن كثير، وتفسير القرطبي عند تفسيرهما الآية: 253 من سورة البقرة.

الباب الثاني الرسالات السماوية

الباب الثاني الرسالات السماوية الإيمان بالرسالات: الإيمان بالرّسالات وجوب الإيمان بالرّسالات كلهَا من أصول الإيمان التصديق الجازم بالرسالات التي أنزلها الله إلى عباده بواسطة رسله وأنبيائه، والتصديق بأنهم بلَّغوها للناس، قال تعالى لموسى عليه السلام: (يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي) [الأعراف: 144] . وقد أثنى الله على رسله الذين يبلغون رسالاته ولا تأخذهم في الله لومة لائم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) [الأحزاب: 39] . وقد كان هلاك الأمم بسبب التكذيب برسالات الله، انظر إلى موقف صالح بعد حلّ الهلاك بقومه: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 79] وموقف شعيب بعد هلاك قومه (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) [الأعراف: 93] . والذي أوحاه الله لرسله قد يكون نزل من السماء مكتوباً كالتوراة التي أنزلت على موسى، قال تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا) [الأعراف: 145] .

وقد يكون كتاباً ولكنه أنزل إلى الرسول بالتلاوة والمشافهة كالقرآن (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء: 106] . والمنزل من السماء قد يجمعه كتاب كصحف إبراهيم والكتب المنزلة على موسى وداود وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، وقد يكون وحياً يلقى إلى الرسول أو النبي، وليس بكتاب، وذلك كالوحي المنزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط والموحى به إلى نبينا من غير القرآن. ويجب الإيمان بالوحي المنزل كله (قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 136] . وقال الله لرسوله: (وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى: 15] وقال للمؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ) [النساء: 136] . فما أعلمنا الله به تفصيلاً كالكتب التي ذكرها، وهي صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى والقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكتكليم الله لموسى، وإيحاء الله إلى صالح وهود وشعيب، ووحي الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير القرآن، وقد تضمنته كتب السنة - نؤمن به تفصيلاً كما أخبر الله تعالى، ونؤمن بأن هناك كتباً ووحياً غير ذلك لم يعلمنا الله سبحانه بها. كيف يكون الإيمان بالرّسالات المطلب الأول كيف يكون الإيمان بالرسالات السابقة ونحن نؤمن بما جاء في الكتب السماوية السابقة، وأن الانقياد لها، والحكم بها كان واجباً على الأمم التي نزلت إليها الكتب، ونؤمن بأن الكتب السماوية يصدق بعضها بعضاً، ولا يكذّب بعضها بعضاً، فالإنجيل مصدق للتوراة، قال الله في الإنجيل: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) [المائدة: 46] . ومن أنكر شيئاً مما أنزله الله فهو كافر (وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا) [النساء: 136] وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: 40] . ونصدق بنسخ الشريعة اللاحقة للشريعة السابقة كلياً أو جزئياً، فقد أحل الله لآدم تزويج بناته من بنيه ثم نسخ هذا، ومما كان مباحاً ليعقوب أن يجمع الرجل بين أختين في الزواج وفعله يعقوب، ثمَّ نسخ، والإنجيل أحلّ بعض ما حرّم في التوراة (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50] . والقرآن نسخ الكثير مما في التوراة والإنجيل (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157] . المطلب الثاني كيف يكون الإيمان بالرسالة الخاتمة الإيمان بالكتب السماوية السابقة تصديق جازم بها، ومجرد التصديق لا يكفي في القرآن، فلا بدّ مع التصديق من الأخذ به والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه (المص - كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 1-3] . فالقرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يصلنا بالله بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً أصحابه: " أبشروا، فإنّ هذا القرآن بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنّكم لن تهلكوا، ولن تضلّوا بعده أبداً" رواه الطبراني في الكبير (¬1) . ¬

(¬1) حديث صحيح، صحيح الجامع: (1/66) .

فالقرآن هو العصمة من الضلال والهلاك لمن تمسك به، وقد أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من حثّ الأمّة على التمسك بهذا الكتاب، ففي إحدى خطبه قال: " أما بعد، ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ظلّ، فخذوا بكتاب الله تعالى، واستمسكوا به، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " (¬1) . والفتن التي تمرُّ بالمسلم وتعصف بالأمة لا سبيل للخلاص منها إلا بالأخذ بهذا الكتاب، وما أجمل هذا الوصف لكتاب الله! " كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم " (¬2) . ¬

(¬1) صحيح مسلم: 2408. (¬2) هذا حديث رواه الترمذي وغيره قال الشيخ ناصر فيه (شرح الطحاوية ص 68) : هذا حديث جميل المعنى. ولكن إسناده ضعيف، فيه الحارث الأعور، وهو لين، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب، ولعل أصله موقوف على علي فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

مقارنة بين الرّسَالات ستكون المقارنة بين الرسالات السماوية من جوانب عدة، وهذا المبحث مبحث طويل يصلح أن يكون رسالة علمية، وسنأتي فيه على جملة تجمع أطرافه بحول الله، ولكنها لا تستقصى كل جوانبه. المبحث الأول مَصدرهَا والغَاية مِنها الكتب السماوية مصدرها واحد (الم - اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ - مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) [آل عمران: 1-4] والكتب السماوية كلها أنزلت لغاية واحدة وهدف واحد، أنزلت لتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض. تقودهم بما فيها من تعاليم وتوجيهات وهداية، أنزلت لتكون روحاً ونوراً تحيي نفوسهم وتنيرها، وتكشف ظلماتها وظلمات الحياة. وقد بيّن القرآن الكريم في موضع واحد الهدف الذي أنزل الله من أجله التوراة والإنجيل والقرآن، وهي أعظم الكتب المنزلة من عند الله، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ - وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا

عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ - وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ - أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 44-50] . يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمة (¬1) : " لقد جاء كلّ دين من عند الله ليكون منهج حياة، منهج حياة واقعية، جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية، وتنظيمها، وتوجيهها، وصيانتها، ولم يجئ دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير، ولا ليكون مجرد شعائر تعبدية تؤدى في الهيكل والمحراب. فهذه وتلك - على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتها في تربية الضمير البشري - لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها، ما لم يقم على أساسها منهج ونظام وشريعة تطبق عملياً في حياة الناس، ويؤخذ بها بحكم القانون والسلطان، ويؤاخذ الناس على مخالفتها، ويؤخذون بالعقوبات. والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد يملك السلطان على الضمائر والسرائر، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك، ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا، كما يجزيهم وفق حسابه في الحياة الآخرة. فأما حين تتوزع السلطة، وتتعدد مصادر التلقي.. حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطات لغيره في الأنظمة والشرائع..، وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا..، حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين، وبين اتجاهين مختلفين، وبين منهجين ¬

(¬1) انظر الجزء السادس من ظلال القرآن: ص895.

مختلفين..، وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22] (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71] . (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية: 18] . من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة، وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها، فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة، إلى جانب العقيدة التي تنشئ التصور الصحيح للحياة، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله..، وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله، حيثما جاء دين من عند الله، لأنّ الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة. وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى، التي ربما جاءت لقرية من القرى، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل، في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة..، وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى.. اليهودية، والنصرانية، والإسلام.. ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى) : فالتوراة - كما أنزلها الله - كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل، وإنارة طريقهم إلى الله، وطريقهم في الحياة..، وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد. وتحمل شعائر تعبدية شتى، وتحمل كذلك شريعة: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) . أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونوراً للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب، ولكن كذلك لتكون هدى ونوراً بما فيها من شريعة تحكم

الحياة الواقعية وفق منهج الله، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج. ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله فليس لهم في أنفسهم شيء إنما هي كلها لله، وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية - وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل - يحكمون بها للذين هادوا - فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه - كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار، وهم قضاتهم وعلماؤهم، وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم.. ". وبدون الرسالة السماوية سيبقى البشر مختلفون تائهون لا يتفقون على سبيل، (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) [البقرة: 213] .

الرّسَالة العَامّة والرّسَالة الخاصّة الرسالات السماوية السابقة أنزلت لأقوام بأعيانهم، والرسالة الخاتمة التي أنزلت على خاتم الأنبياء والرسل رسالة عامة للبشرية كلها بل عامة للإنس والجن، وهذا يقتضي أن تمتاز هذه الرسالة عن غيرها من الرسالات بما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وقد جعلها الله كذلك، وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3] . وقد بيّن سيد قطب - رحمه الله - هذا المعنى وجلاه في تفسيره لهذه الآية، قال: " إن المؤمن يقف أمام إكمال هذا الدين، يستعرض موكب الإيمان، وموكب الرسالات، وموكب الرسل، منذ فجر البشرية، ومنذ أوّل رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة، رسالة النبي الأمّي إلى البشر أجمعين. فماذا يرى؟ يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل موكب الهدى والنور، ويرى معالم الطريق على طول الطريق، ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل إلى قومه، ويرى كلّ رسالة، قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءَت لمرحلة من الزمان..، رسالة خاصة، لمجموعة خاصة، في بيئة خاصة..، ومن ثمّ كانت تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه، متكيفة بهذه الظروف، كلّها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكلٍّ منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف. حتى إذا أراد الله أن يختم رسالته إلى البشر أرسل إلى الناس كافة رسولاً خاتم

النبيين برسالة ((للإنسان)) لا لمجموعة من الأناس في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة..، رسالة تخاطب ((الإنسان)) من وراء الظروف والبيئات والأزمنة، لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل، ولا تتحور، ولا ينالها التغيير (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الروم: 30] ، وفصّل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة ((الإنسان)) من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان..، وكذلك كانت الشريعة بمبادئها الكلية، وبأحكامها التفصيلية، محتوية كل ما تحتاج إليه حياة ((الإنسان)) منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان، من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد، حول هذا المحور وداخل هذا الإطار " (¬1) . وهذا المعنى - وهو كمال الرسالة وشمولها - أشار إليه القرآن في غير موضع كقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89] وقال جلّ وعلا: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [الأنعام: 38] . لقد جمعت الشريعة الخاتمة محاسن الرسالات السابقة، وفاقتها كمالاً وجلالاً، يقول الحسن البصري رضي الله عنه: " أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان (القرآن) ثمّ أودع علوم الثلاثة الفرقان " (¬2) . ¬

(¬1) في ظلال القرآن: 6/482. (¬2) الإكليل للسيوطي: (أضواء البيان: 3/336) .

حِفظ الرّسَالات لما كانت الرسالات السابقة مرهونة بوقت وزمان فإنها لا تخلد ولا تبقى، ولم يتكفل الله بحفظها، وقد وكل حفظها إلى علماء تلك الأمة التي أنزلت عليها، فالتوراة وكل حفظها إلى الربانيين والأحبار، (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) [المائدة: 44] . ولم يطق الربانيون والأحبار حفظ كتابهم، وخان بعضهم الأمانة فغيروا وبدلوا وحرفوا، وحسبك أن تطالع التوراة لترى ما حلّ فيها من تغيير وتبديل، لا في الفروع، بل في الأصول، فقد نسبوا إلى الله ما يقشعر الجلد لسماعه، ونسبوا إلى الرسل ما يترفع الرعاع عن نسبته إليهم (¬1) . أمّا هذه الرسالة الخاتمة فقد تكفل هو بحفظها، ولم يكل حفظها إلى البشر، ¬

(¬1) بينا شيئاً من افتراءات اليهود على الله في (العقيدة في الله) ، وبينا شيئاً من افتراءاتهم على الرسل في (الرسل والأنبياء) وسأورد هنا مثالاً واحداً من تحريف اليهود، وهذا التحريف جعل التوراة متناقضة، النص الأصلي في التوراة هو (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه واذبحه) ، هذا الابن هو إسماعيل، ولكن اليهود كبر عليهم أن يذهب إسماعيل وأبناؤه وهم العرب بهذا الفضل، فأقحموا في النص كلمة (إسحاق) لينسبوا الفضل لأنفسهم، فأصبح النص في التوراة - المحرفة - التي بين أيديهم اليوم (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذبحه) سفر التكوين، الإصحاح الثاني، فقرة (2) . ولكن هذا الذي حرف النص هنا لم ينتبه إلى التناقض الذي أوجده مع نصوص أخرى في التوراة، فقد ورد في التوراة أن إسماعيل ولد لإبراهيم وعمر إبراهيم ست وثمانون سنة، انظر الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين، وعلى ذلك يكون إسماعيل هو ولده وحيده، أما إسحاق فتقول التوراة إنه ولد (وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق) الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين فقرة (5) . أرأيت كيف فضح الله مكرهم وكيدهم وأظهر تحريفهم وتبديلهم، وقد ذكرت شيئاً من هذا التحريف في أدلة صدق الرسل (البشارات) .

قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] . وانظر اليوم في هذا العالم شرقه وغربه لترى العدد الهائل الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب (¬1) ، بحيث لو شاء ملحد أو يهودي أو صليبي تغيير حرف منه فإنّ صبياً صغيراً، أو ربة بيت، أو عجوزاً لا يبصر طريقه - يستطيعون الردّ عليه وبيان خطئه، وافترائه، ناهيك عن العلماء الذين حفظه وفقهوا معانيه، وتشبعوا بعلومه.. وانظر إلى تاريخ هذا الكتاب وكم نال من عناية ورعاية في تدوينه وتفسيره وإعرابه وقصصه وأخباره وأحكامه. ما كان ذلك ليكون لولا ذلك الحفظ الإلهي الرباني، وسيبقى هذا الكتاب إلى أن يأذن الله بزوال هذا الكون ودماره. ¬

(¬1) كان من الأسباب هذا الحفظ تيسير الله لتلاوة القرآن وحفظه (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر: 22] .

مَواضِع الاتفاق والاختلاف في الرّسَالات السّماويّة المطلب الأول مواضع الاتفاق 1- الدين الواحد: الرسالات التي جاء بها الأنبياء جميعاً منزلة من عند الله العليم الحكيم الخبير، ولذلك فإنها تمثل صراطاً واحداً يسلكه السابق واللاحق، ومن خلال استعراضنا لدعوة الرسل التي أشار إليها القرآن نجد أنّ الدِّين الذي دعت إليه الرسل جميعاً واحد هو الإسلام، (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ) [آل عمران: 19] ، والإسلام في لغة القرآن ليس اسماً لدين خاص، وإنما هو اسم للدّين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء، فنوح يقول لقومه: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس: 72] ، والإسلام هو الدين الذي أمر الله به أبا الأنبياء إبراهيم (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: 131] ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب أبناءه قائلاً: (فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [البقرة: 132] وأبناء يعقوب يجيبون أباهم: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 133] وموسى يقول لقومه: (يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) [يونس: 84] والحواريون يقولون لعيسى: (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 52] وحين سمع فريق من أهل الكتاب القرآن (قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) [القصص: 53] . فالإسلام شعار عام كان يدور على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية.

كيف يتحقق الإسلام: الإسلام هو الطاعة والانقياد والاستسلام لله تعالى، بفعل ما يأمر به، وترك ما ينهى عنه، ولذلك فإنّ الإسلام في عهد نوح يكون باتباع ما جاء به نوح، والإسلام في عهد موسى يكون باتباع شريعة موسى، والإسلام في عهد عيسى يكون باتباع الإنجيل، والإسلام في عهد محمد صلى الله عليه وسلم يكون بالتزام ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. لبُّ دعوات الرسل: ولبُّ دعوات الرسل وجوهر الرسالات السماوية هو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ ما يُعبد من دونه، وقد عرض القرآن هذه القضية وأكدها في مواضع متعددة، مرة يذكر دعوة الرسل فنوح يقول لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59] ، وإبراهيم قال لقومه: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 16] وهود قال لقومه: (اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 65] وصالح قال لقومه: (اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 73] . ومرة ينص على أنّه أرسل الرسل جميعاً بهذه المهمة الواحدة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25] . ومرة يسرد سيرة الأنبياء وأتباعهم ينظمهم في سلك واحد، ويجعل منهم أمة واحدة لها إله واحد (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92] ، ومرة يجعل الاستجابة لله وتحقيق العبودية له هي الدين والملة، ويجعل مَن رفضَها يحكم على نفسه بالسفه والضلال، (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة: 130] ، وملة إبراهيم عليه السلام حددها بقوله: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 79] . ومرة يبين أنها وصية الرسل والأنبياء لمن بعدهم (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ

يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا..) [البقرة: 133] (¬1) . ومرة ينص على وحدة الدين الذي شرعه للرسل العظام: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13] . الرسالات السابقة تبين الأسباب الموجبة لعبادة الله: ولم تكتف الرسالات السابقة بالدعوة إلى عبادة الله وحده، بل بينت الأسباب التي تجعل هذه الدعوى هي الحق الذي لا محيص عنه، وذلك بذكر خصائص الألوهية، وبالحديث عن نعم الله تعالى التي أنعم بها على عباده، وبتوجيه الأنظار والعقول للنظر في ملكوت السماوات والأرض، فنوح يقول لقومه: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا - وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا - أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا - وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا - وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا- لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) [نوح: 13-20] وهذا المعنى يتردد في صحف إبراهيم وموسى، وقد ورد فيهما كما أخبرنا القرآن (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا - وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى - مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى - وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى - وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى - وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى - وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى - وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى) [النجم: 42-52] . ¬

(¬1) ثبت في السنة أن نوحاً أوصى ولده بمثل ذلك، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن نبي الله نوحاً - صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة، قال لابنه: إني قاص عليك الوصية: آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين، آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهنّ لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة (مغلقة) ، قصمتهن (كسرتهن) لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق، وأنهاك عن الشرك والكبر " رواه البخاري في الأدب المفرد: ص548، وأحمد 2/169، 170، 225، والبيهقي في الأسماء: (79 هندية) (انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث رقم: 134) .

2- المبادئ الخالدة: مسائل العقيدة: وليست الدعوة إلى عبادة الله وحده هي القضية الوحيدة التي اتفقت فيها الرسالات، فأماكن الاتفاق كثيرة، فمن ذلك أمور الاعتقاد التي تشكل تصوراً واحداً وأساساً واحداً لدى جميع الرسل وأتباعهم، فأول الرسل نوح ذكَّر قومه بالبعث والنشور فمما قاله لقومه: (وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) [نوح: 17-18] . وأعلمهم بالملائكة والجنّ، ولذلك قال الكفار من قومه: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) [المؤمنون: 24-25] . والإيمان باليوم الآخر واضح في دعوة إبراهيم (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 126] ، وفي دعوة موسى أشدُّ وضوحاً، ولذلك نرى السحرة عندما يخرون سجدّاً يقولون لفرعون: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى - وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى) [طه: 73-76] . وجاء في صحف إبراهيم وموسى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16-17] وكل الرسل والأنبياء أنذروا أممهم

المسيح الدجال، ففي الحديث الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال، فقال: " إني أنذركموه، وما من نبي إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور " (¬1) . 3- القواعد العامة: والكتب السماوية تقرر القواعد العامة التي لا بدّ أن تعيها البشرية في مختلف العصور كقاعدة الثواب والعقاب، وهي أنّ الإنسان يحاسب بعمله، فيعاقب بذنوبه وأوزاره، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، ويثاب بسعيه، وليس له سعى غيره (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى - أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى - وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى - ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى) [النجم: 36-41] . ومن ذلك أن الفلاح الحقيقي يتحقق بتزكية النفس بمنهج الله والعبودية له، وإيثار الآجل على العاجل: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى - بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى - صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [الأعلى: 14-19] . ومن ذلك أنّ الذي يستحق وراثة الأرض هم الصالحون (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105] . وقد سأل أبو ذر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم عن محتويات صحف إبراهيم وصحف موسى ففي الحديث الذي يرويه ابن حبان والحاكم عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلّها: أيها المسلط (أي: الحاكم النافذ السلطان) المبتلى (المختبر) المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ¬

(¬1) صحيح البخاري: 3057.

ولكني بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها وإن كانت من كافر. وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً (مرتحلاً) إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو لمعاش، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله، قل كلامه إلاّ فيما يعنيه. قلت: يا رسول الله: فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبراً (عظات) كلّها: عجبت لمن أيقن بالموت ثمّ هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار، ثمّ هو يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر، ثمّ هو ينصب، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها، ثمّ اطمأن إليها، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل ". والقرآن يخبرنا أنّ الرسل جميعاً حملوا ميزان العدل والقسط (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطٌِ) [الحديد: 25] وأنهم أمروا بأن يكسبوا رزقهم بالحلال (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: 51] وكثير من العبادات التي نقوم بها كانت معروفة عند الرسل السابقين وأتباعهم (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ) [الأنبياء: 73] . وإسماعيل عليه السلام (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ..) [مريم: 55] وقال الله لموسى عليه السلام: (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه: 14] ، وقال عيسى: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم: 31] . والصوم مفروض على من قبلنا كما هو مفروض علينا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183] . والحج فرضه إبراهيم عليه السلام، فقد أمره الله بعد بناء الكعبة فنادى

بالحج، (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ... ) [الحج: 29] (¬1) ، وقد كان لكل أمة مناسكها وعبادتها (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَام) [الحج: 3] (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ) [الحج: 67] . ومما اتفقت فيه الرسالات أنها بينت المنكر والباطل ودعت إلى محاربته وإزالته، سواءً أكان عبادة أوثان، أو استعلاء في الأرض، أو انحرافاً عن الفطرة كفعل قوم لوط، أو عدواناً على البشر وأحوالهم بقطع الطريق والتطفيف بالميزان. ¬

(¬1) كان من هدى الأنبياء بعد ذلك الحج إلى البيت العتيق فقد حج البيت موسى ويونس، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فمررنا بواد، فقال: " أيُّ واد هذا؟ " فقالوا: وادي الأزرق. قال: " كأني أنظر إلى موسى " فذكر من لونه وشعره شيئاً، " واضعاً أصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله بالتلبية، ماراً بهذا الوادي ". قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية (الثنية: الطريق بين الجبلين) . فقال: " أي ثنية هذه؟ " فقالوا: هرش أو لفت - فقال: " كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف، خطام ناقته خلبة (الخطاب الزمام، والخلبة: ليفة نخل) ماراً بهذا الوادي ملبياً ". (انظر مشكاة المصابيح 3/116) .

المطلب الثاني اختلاف الشرائع إذا كان الدين الذي جاءت به الرسل واحداً وهو الإسلام فإن شرائع الأنبياء مختلفة، فشريعة عيسى تخالف شريعة موسى في بعض الأمور، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تخالف شريعة موسى وعيسى في أمور، قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48] والشرعة هي الشريعة وهي السنة، والمنهاج: الطريق والسبيل. وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافاً كلياً، فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية، وقد سبق ذكر النصوص التي تتحدث عن تشريع الله للأمم السابقة الصلاة والزكاة والحج، وأخذ الطعام من حلّه وغير ذلك، والاختلاف بينها إنّما يكون في بعض التفاصيل. فأعداد الصلوات وشروطها وأركانها ومقادير الزكاة ومواضع النسك ونحو ذلك قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يحلّ الله أمراً في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة. ونضرب لهذا ثلاثة أمثلة: الأول: الصوم: فقد كان الصائم يفطر بغروب الشمس، ويباح له الطعام والشراب والنكاح إلى طلوع الفجر ما لم ينم، فإن نام قبل الفجر حرم عليه ذلك كله إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فخفَّف الله عن هذه الأمة وأحله من الغروب إلى الفجر سواءً أنام أم لم ينم. قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ

أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ..) [البقرة: 187] . الثاني: ستر العورة حال الاغتسال لم يكن واجباً عند بني إسرائيل ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده " (¬1) . الثالث: " الأمور المحرمة، فمما أحلّه الله لآدم تزويج بناته من بنيه، ثمّ حرّم الله هذا بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرّم الله مثل هذا في التوراة على بني إسرائيل، وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغاً، وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين، ثمّ حرم عليهم في التوراة، وحرّم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبان الإبل " (¬2) . والسبب في ذلك كما ثبت في الحديث " إن إسرائيل (يعقوب) مرض مرضاً شديداً، وطال سقمه، فنذر لله لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها " (¬3) ، وهذا الذي حرمه إسرائيل حرّمه الله على بني إسرائيل وحُرّم في التوراة (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) [آل عمران: 93] . ومما حرّمه الله على اليهود ما قصه علينا في سورة الأنعام (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ) [الأنعام: 146] . فقد حرّم الله عليهم كلّ ذي ظفر وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق ¬

(¬1) صحيح البخاري: 278. وصحيح مسلم: 339. (¬2) تفسير ابن كثير: 2/73. (¬3) رواه أحمد في مسنده: (تفسير ابن كثير: 2/71) .

الأصابع كالإبل والنعام والوز والبط، وحرّم عليهم شحوم البقر والغنم إلاّ الشحم الذي على ظهور البقر والغنم، أو ما حملت الحوايا وهو ما تحوَّى في البطن وهي المباعر والمرابض، أو ما اختلط بعظم. وهذا التحريم لم يكن سببه خبث المحرّم إنما سببه التزام من أبيهم يعقوب في بعض المحرمات، فألزم أبناءه من بعده بمثل ذلك، وبعض المحرمات سببه ظلم بني إسرائيل (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ) [الأنعام: 146] وقال: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا) [النساء: 160] . ثمّ جاء عيسى فأحلّ لبني إسرائيل بعض ما حرّم عليهم (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50] ، وجاءت الشريعة الخاتمة لتكون القاعدة إحلال الطيبات وتحريم الخبائث. الأنبياء إخوة لعلاّت: وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لاتفاق الرسل في الدين الواحد واختلافهم في الشرائع، فقال: " الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتّى، ودينهم واحد " (¬1) . قال ابن حجر: " الأنبياء أولاد علاّت، وفي رواية عبد الرحمن المذكورة " أي في صحيح البخاري ": " والأنبياء إخوة لعلات " والعلات بفتح المهملة: الضرائر، وأولاد العلات الإخوة من الأب، وأمهاتهم شتى، ومعنى الحديث: أنّ أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع " (¬2) . ¬

(¬1) رواه البخاري: 3443، ومسلم: 2365. واللفظ للبخاري. (¬2) فتح الباري: 6/489.

الطّول والقصر ووقت النزول القرآن الكريم أطول الكتب السماوية وأشملها ففي الحديث: " أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضّلت بالمفصّل " رواه الطبراني في الكبير (¬1) . والكتب السماوية المعروفة لنا كلّها أنزلت في شهر رمضان، فقد جاء في الحديث: " أنزلت صحف إبراهيم أولّ ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين - من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " رواه الطبراني (¬2) . ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: (1/350) وقال الألباني فيه: إسناده صحيح. (¬2) صحيح الجامع الصغير: 2/28 وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: إسناده حسن.

موقف الرّسالة الخاتمة من الرّسالات السّابقة بين الله هذا في جزء من آية في كتابه، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيهِ) [المائدة: 48] . وكون القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب تحقق من وجوه: الأول: أن الكتب السماوية المتقدمة تضمنت ذكر هذا القرآن ومدحه، والإخبار بأنّ الله سينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله على الصفة التي أخبرت بها الكتب السابقة تصديقاً لتلك الكتب، مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً) [الإسراء: 107-108] أي إن كان ما وعدنا الله في كتبه المتقدمة وعلى ألسنة رسله من إنزال القرآن وبعثة محمد لمفعولاً، أي: لكائناً لا محالة ولا بدّ " (¬1) . الثاني: أن القرآن جاء بأمور صدق فيها الكتب السماوية السابقة، بموافقته لها (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) [المدثر: 31] واستيقان الذين أتوا الكتاب إنما يكون بسبب علمهم بهذا من كتبهم. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: 2/586 بشيء من التصرف.

الثالث: أن القرآن أخبر بإنزال الكتب السماوية، وأنّها من عند الله، وأمر بالإيمان بها كما سبق بيانه. والمهيمن في لغة العرب تطلق ويراد بها القائم على الشيء (¬1) ، وهو اسم من أسماء الله تعالى، ذلك أنّ الله تعالى قائم على شؤون خلقه، تصريفاً وتدبيراً ورعاية. والقرآن قائم على الكتب السماوية التي أنزلت من قبل يأمر بالإيمان بها، ويبين ما فيها من حق، وينفي التحريف والتغيير الذي طرأ عليها، وهو حاكم على تلك الكتب لأنّه الرسالة الإلهية الأخيرة التي يجب المصير إليها، والرجوع إليها، والتحاكم إليها، وكل ما خالفها مما جاء في الرسالات السابقة فهو إمّا محّرف مغيَّر، وإمّا منسوخ. يقول ابن كثيرة - رحمه الله - تعالى - بعد أن ذكر أقوال السلف في معنى كلمة مهيمن: " وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإنّ اسم المهيمن يتضمن هذا كلّه، فهو أمين وشاهد وحاكم على كلّ كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها (¬2) . وهذا يقتضي أن يجعل هذا الكتاب هو المرجع الأول والأخير في التعرف على الدين الذي يريده الله تعالى، ولا يجوز أن نحاكم القرآن إلى الكتب السماوية السابقة كما يفعل الضالون من اليهود والنصارى (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 41-42] . عدم حاجة الشريعة الخاتمة إلى غيرها: الشريعة الإلهية الخاتمة لا تحتاج إلى شريعة سابقة عليها، ولا إلى شريعة ¬

(¬1) لسان العرب: (3/833) مادة (همن) . (¬2) تفسير ابن كثير: 2/587.

لاحقة لها، بخلاف شريعة المسيح فقد أحال المسيح أتباعه في أكثر الشريعة على التوراة، وشريعة الإنجيل مكلمة لشريعة التوراة، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى كتب النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور، وكان الأمم من قبلنا محتاجين إلى محدَّثين، بخلاف أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الله أغناهم به، فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا محدّث (¬1) . ¬

(¬1) راجع في هذا البحث مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمة: 11/224.

§1/1