الرسالة الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب المتنبي وساقط شعره

ابن المظفر الحاتمي

نص الكتاب

نص الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق المبين الحمد لله وصلى الله على محمد النبي المصطفى وآله الطاهرين وسلم تسليماً.

قال أبو علي محمد بن الحسين الحاتمي الكاتب اللغوي: إن معاني الآداب وإن كانت عاطلة الأطلال، مستحيلة الحال، دائرة العرصات، عافية المعالم والآيات المغاني، محادثة بألسنة الحدثان، فإنها اليوم بالرئيس لأبي الفرج محمد بن العباس حالية الجياد، صادقة الرواد، موسومة ربوعها بوسمي العهاد. تهتز نضره ونعيما، ويتم رياها تضوعاً ونسيماً. فلا زالت معاقد الفضل به منظومة، وإغفاله بمجده موسومة، ومجاهله بمحاسنه معلومة، ما نشرت أنابيب القنا نثرة، واستضحكت لانتخاب الحيا زهرة، وتحيرت في مقلة عبره. أجد الرئيس شديد العلاقة بمفاوضي إياه ما كانت المشاجرة وقعت فيه بيني وبين أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي، في المجلس الذي أثرت فيه آثاره، وسافرت في أطرار البلاد أخباره، مستهتراً بتكرير فصول منه تتعلق بحفظي منه، منازعاً جمع شتيته مشيراً إلى اليوم الذي شجرت تلك المنازعة فيه إشارة معني به معين على الشهر والسنة والوقت من الزمان، وإلى ما أثمرت لي تلك المنازعة من بعد الصيت وشراد الذكر وقدم السبق واللحاق به، في حال الغرارة ولين الغصن، بالغاية التي لا يجري في مضمارها إلا المذكي من أهل الفضل. هذا إلى إناقة المكان، وازلاق السلطان، وتناصر الأنصار والأعوان. وانتشار ما كان مطويا في تلك الأيام من فضلي، ومغموراً بقوارع الحساد وسن الصبا من محاسني. وأرادني، أدام الله قدرته، على إنشاء رسالة تشمل على إنشاء رسالة تشمل على أشتاته، وتنظم منشور فصوله وأبياته. وأجدني لا أرتاح إلى ذلك ارتياحي - كان - قديماً له، ولا أهش إلى الحديث عنه هشاشة كانت إليه. لأمور أخصها ترفعي الآن، مع إبراق غصني وإثماره وتبسم نواره واستطارة أنواره، عن ذكره. ولتصوني عن قوارص غلمة لا أحلام لهم تنحط في شعبه وتنخرط في سلكه. ثم لأني أطلت عنان القول مع الرجل إطالة ربما اتهم الحاكي لها والمخبر عنها، وإن كانت الحال اشرد خبراً وأخلد أثراً من أن ينسخ صباحها أو يطفأ مصباحها. وقد حضر المجلس أعيان من الناس تقع الإشارة إلى إخطارهم، والاستنامة إلى أخبارهم، من بين قاضٍ يقطع بقوله، وشيخ من شيوخ الدب يقضى بشهادته، وحدث من أبناء الكتابة يمور ماء الحياء في أسارير وجهه وكانت للوزير أبي محمد الحسن بن محمد الحسن بن محمد المهلبي، رحمه الله، هناك طليعة من طلائعه، وربيئة من ربايا مراعاته، وعين من عيونه مذكاة. فإنه كان - نصر الله وجهه - لما تثاقل أبو الطيب عن خدمته، وأساء التوصل إلى استنزاله عن عرفه، ولم يوفق لاستمطار كفه وكانت واكفة البنان، منهلة باللجين والعقيان، سامني هتك حريمه، وتمزيق أديمه. ووكلني بتتبع عواره، وتصفح أشعاره وإحواجه إلى مفارقة العراق واضطراره كراهية لمقامه بعد تناهيه - كان - في إدنائه وإكرامه. وحسبي علم الرئيس بحقيقة الحال وصدق المقال وتبريز الفعال ونهوضي في حدثان الشبيبة بما قصرت عن جملته همم الرجال. وكانت أتيته رأد الضحى، وحين التقت الشمس قناها على الأرض، فجمعت في داره بين صلاتي الظهر والعصر. وانصرفت عنه وقد نفضت الشمس صبغها، وطفلت على الظلام بطفلها. وكنت استدركت في الحال ما تمكنت من استدراكه من تلك المشاجرة وتلافيت ما أسعد المقدار بالتوفيق بجمعه منها. وكان من مظاهرة الجماعة الحاضرة على نظمه وضمه، ومراعاة ما صدر عني وعنه، والتنبيه على ما استسر عن ذكري منه، ما أنهض خاطري وإن كان خطارا، واقتدح زناد فكري وإن كان يستطير نارا. فقيدته برسالة وسمت جبهة الأدب، وذهبت بها أفواه الرواة في كل مذهب. وإذ كان الرئيس مؤثراً سمتها باسمه، وعرضها على تصفحه ونقده، فأنا أصيل جناح هذه المقدمة بها، وأهذب ما أرى تهذيبه من لفظها، وأبرأ إليه من العهدة في امتداد نفسي فيها، فإن يدي ولساني يجريان في حلبة البيان، جري بنات الغصين غداة الرهان. وأرجو أن يسعدها التوفيق بجميل رأيه، وأن تقع الموقع الذي توخيته بها من امتثال مرسومه. وسأتلو ذلك بمنازعات نازعتها أبا الطيب تتعلق بشعره في عدة مجالس وإياه من بعد هذا المجلس، وبمواقع طالعتها من اجتلاباته وسرقاته وسقطات أسقطها في شعره، لم تجر فيها مراجعة ولا منازعة، وليكون ذلك أمتع لقاريه وأجمع لشمل ما توخيته فيه. وأنسج بعضاً ببعض من غير أن أميز آخراً عن أول، وماضياً عن مستقبل، وأشفع القول بما يزيد الحق وضوحاً، من شاهد

يتعلق به أو بيت يناسب بيتاً، أو بيت جرى صدره فأتمت عجزه، أو عجزه فألحقت به صدره، أو معنى ضممت إليه شكله. وإن الحديث ذو لقاح والمثل السائر:) الحديث ذو شجون (. فقولهم) ذو لقاح (من الناقة اللقوح وهي التي بها حمل، واللقاح الحمل، والمعنى حديث ينضم إلى حديث كما انضم الولد إلى الأم لما صار في بطنها. ويقال:) حي اللقاح (إذا كانوا أعزة لا ينضمون إلى أحد ولا يدينون لملك ولا يقدر عليهم. كالناقة إذا حملت لا يقدر الفحل على أن يقربها. وأما قولهم) ذو شجون (فمن شجون الوادي وطرقه وانعراجاته. فإن الإنسان يكون في حديث ثم يخرج منه إلى غبره ثم يعود إلى حديثه الأول، شبه بالذي يمشي في وادي فيعرض له الطريق فيأخذ فيه يؤديه ذلك إلى الطريق الأعظم. فلا يستطيل الرئيس مسالك الكلام وإن أطلتها، فقد أجررت القلم مقود الخاطر، وأنصفت كل الإنصاف في تهذيب ما حكيته عن رجل، وحذفت فضول الألفاظ، وكسوت احتجاجاته عبارات لعله لو اعتمدها لقصرت مادته في البيان عنها. وأنا اسم هذه الرسالة) بالموضحة (تشبيهاً بالموضحة من الشجاع، وهي التي تبين عن وضح العظم كما قال طرفة: وتصدُ عنك مخيلة الرجل ... العريض موضحة عن العظْم بحسام سيفك أو لسانك ... الكلم الأصيل كأرْغب الكلْم وهذا مأخوذ من قول امرئ القيس: وجرْح اللُسان كجرح اليدْ وقال حسان: لساني وسفي صارمان كلاهما ... ويبلغُ ما لا يبلغٌ السيف مذودي وقال جرير: لساني وسيفي صارمان كلاهما ... وللسيفُ أشوى وقعهً من لسانيا ومن الله تعالى أستمد المعونة والتوفيق. لما ورد أحمد بن الحسن المتنبي، ويلقبه أحداث الشام والسواحل) المطمع (لقوله: ) يُطمِّعُ الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تَقَعُ (

مدينة السلام، منصرفاً عن مصر ومتعرضاً للوزير أبي محمد المهلبيَ للتخييم عليه والمقام لديه: التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعر العراقيين خده، وارهف للخصام حده، ونأى بجانبه استكباراً وثنى عطفه جبريةً وازواراً، فكان لا يلاقي أحداً إلا أعراض عنه تيهاً، وزخرف القول عليه تمويهاً يخيل عجباً إليه، أن الأدب مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يرد نمير غيره، وروض لم ير نواره سواه، فهو يجني جناه، ويقطف قطوفه دون تعاطاه، وكل مجرِ في الخلاء يسر، ولكل نبأ مستقر. فغبر جارياً على هذه الوتيرة مديدةً أجررته رسن البغي فيها يظل يمرح في ثنييه، حتى تخيل أنه السابق الذي لا يجاري في مضمار، ولا يساوى عذاره بعذار وإنه رب الكلام ومفتض عذارى الألفاظ، ومالك رق الفصاحة نثراً ونظماً، وقريع دهره الذي لا يقاع فضلاً وعلماً، وثقلت وطأته على كثير ممن وسم نفسه بميسم الأدب، وأنبط من مائه مشرب، فطأطأ بعض رأسه، وخفض بعض جناحه، وطامن على التسليم له طرف، وساء معزً الدولة وقد صورت حاله أن يرد حضرته وهي دار الخلافة ومستقر العز وبيضه الملك، رجل صدر عن حضرة سيف الدولة وكان عدواً مبايناً، فلا يلقى أحداً بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية، والمهمة التي لو همت بالدهر لما تصرفت بالأحرار صروفه ولا دارت عليهم دوائره. وتخيل أبو محمد المهلبي، رجماً بالغيب، أن أحداً لا يستطيع مساجلته، ولا يرى نفسه كفواً له، ولا يضطلع بإعناته فضلاً عن التعلق بشيء من معانيه. وللرؤساء مذاهب تعظيم من يعظمونه وتفخيم من يفخمونه وتكرمة من يراعونه ويكومونه. وربما حالت بهم الحال وأوشكوا عن هذه الخليفة الانتقال، وتلك صورة الوزير أبي محمد في عوده عن رأيه هذا فيه. ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب عن الهجين الجذع من أبناء الأدب فضلاً عن العتيق القارح إلا الشعر. فلعمري إن أفنانه كانت فيه رطبة وجانيه عذبة.

نهدت له متتبعاً عواره، ومقلماً أظفاره، ومذيعاً أسراره، وناشراً مطاويه، ومنتقداً من نظمه ما تسمح به، ومنتحيا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها، فأجري أنا وهو في مضمار يعرف به السابق من المسبوق، واللاحق من المقصر عن اللحوق. وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدرار، وزند في كل فضيلة وار، وطبع يناسب صفو العقار، إذا وشيت بالحباب، ووشت بها الأكواب. هذا وغدير الصبا صاف، ورداؤه ضاف، وديباجة العيش غضة، وأرواحه طلة، وغمائمه منهلة، وللشبيبة شرة، وللإقبال من الدهر غرة، والخيل يوم الرهان بجدود أربابها، لا بعروقها ونصابها. ولكل امرئ حظ من مواتاة زمانه، يقضى في ظله أرب، ويدرك مطلب، ويتوسع مراد ومذهب. حتى إذا عدت عن اجتماعنا عوادِ من الأيام، قصدت مستقره، وتحتي بغلة سفواء تنظر عن عيني بازٍ مسجل، وتتشوف بمثل قادمتي نسر. وتتقيك من هاديها بشطر خلفها، يعلوها مركب رائع كأنه كوكب وقاد، من تحته غمامة يقتادها زمام الجنوب، وبين يدي عدة من الغلمان الروقة، مماليك وأحرار، يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه. ولم أورد هذا متبجحاً به ولا متكثراً بذكره بل ذكرته لأن أبا الطيب شاهد جميعه في الحال فلم ترعه روعته، ولا استعطفه زبرجه، ولا زاده ما شاهد من تلك الجملة الجميلة التي ملأت طرفه وقلبه إلا عجباً بنفسه، وسحباً لرداء تيهه، وإعراضاً عني بوجهه. وقد كان أقام هناك عند أغيلمة لم ترضهم العلماء، وعركتهم رحا النظر، ولا أنضو أفكاراً في مدارسة الأدب، ولا فرقوا بين حلو الكلام ومره، وسهله ووعره. نما غاية أحدهم مطالعة شعر أبي تمام، وتعاطي الكلام على نبذ من معانيه، وعلى ما يعلقه الرواة مما تجوز فيه. ومن للرئيس بمن يضطلع بهذا، وإن كان التشاغل بغيره من مراعاة أشعار الفحول الذين تكلموا عفواً بطباعهم، وجروا على عاداتهم، ولم يتعاطوه تكلفاً، ولا استكرهوه تعسفاً، والبحث عن أعراضهم التي رموا إليها، أولى فألفيت هناك فتية تأخذ شياً، فحين أوذن بضوري، واستؤذن عليه لدخولي، نهض عن مجلسه مسرعاً، ووارى شخصه عني مستخفياً، وأعجلته نازلاً عن البغلة، وهو يراني لانتهائي بها إلى حيث أخذها طرفه، ودخلت فأعظمت الجماعة قدري، وأجلستني في مجلسه، وإذا تحته أخلاق عبادة قد ألحت عليها الحوادث فهي رسوم دائرة وأسلاك متناثرة، فكان من سوء أدبه عند اللقاء ما أطويه عنان القول فيه. فلم يكن إلا ريث ما جلست حتى خرج إلي، فنهضت فوفيته حق السلام غير مشاحٍ له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه عن الموضع ألا ينهض إلي، والغرض كان في لقائه غير ذلك. فعركت ما جرى بجنبي، وطويت عليه كشحي، وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر. وفي الممشى إليك علي عار ... ولكن الهوََى منَعَ القرَار فتمثل بقول الآخر: يشقَى أناس ويشقىَ آخرون بهم ... ويسعدُ الله أقواماً بأقوْامِ وليس رزْق الفتى من فضل حيلتهِ ... لكنْ جدودٍ وأرزاق وأقسام كالصيد يحرمه الراَمي المجيد وقد ... يرمي فيحرزهُ من ليسَ بالرُامي وإذا به لا بس سبعة أقبية كل قباء منها لون، وكنا في وغرة القيظ وجمرة الصيف، وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه، خليق بقول مضرس بن ربعي: ويومٍ كأن الشمس فيه مقيمة ... على البيِد لم تعرْف سوى البيدِ مذهباً وبقول الآخر: ويوْم كأنُ الملْح ينتشًر وسْطه ... ترىَ وحشهَُ يركَبنَ فيه النوًاصيا

فجلست مستوفزاً وجلس متحفراً، وأعرض عني لاهياً وأعرضت عنه ساهياً. أرنُب نفسي في قصده، وأسخف رأيها في تكلف ملاقاته. فغبر هنيهة ثانياً عطفه لا يعيرني طرفه، وأقبل على تلك الزًعنفة التي بين يديه، وكل يومئ إليه ويوحي بطرفه، ويشير إلى مكاني بيده، يوقظه من سنة جهله، ويأبى إلا ازوراراً ونفاراً، وعتواً واستكباراً. ثم رأى أن يثني جانبه إلي، ويقبل بعض الإقبال علي فأقسمت بالوفاء فإنه من محاسن القسم إنه لم يزد أن قال: أي شيْءٍ خبرك؟ فقلت: بخبرٍ أنا، لولا ما جنيته على نفسي من قصدك، ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك، وجشمته رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة، ولا أدبته بصيرة. ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى قرارة الوادي وقلت: ابن لي مم تيهك، وعجبك وكبرياؤك، وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك، والرمي بمهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك، ولا تطول إليه ذراعك؟ هل هاهنا نسب انتسب إلى المجد به، أو شرف علقت بأذياله، أو سلطان تسلطت بعزه، أو علم تقع الإشارة إليك به؟ إنك لو قدرت نفسك بقدرها، أو وزنتها بميزانها، ولم يذهب بك التيه مذهبا، لما عدوت أن تكون شاعراً متكسباً. فامتقع لونه، وعصب ريقه، وجعل يلين في الاعتذار، ويرغب في الصفح والاغتفار، ويكرر الأيمان أنه لم يشبتني، ولا اعتمد التقصير بي فقلت: يا هذا إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، لكنك مددت الكبر ستراً على نقصك، وضربته رواقاً حائلاً دون مباحثتك. فعاود الاعتذار، فقلت: لا عذري لك مع الإصرار. وأخذت الجماعة في الرغبة إلى في مياسرته وقبول عذره، واستعمال الأناة التي يستعملها الحزمة عند الحفيظة. وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه وذم خليقته، وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفةً ينتهز معها الفرصة في قضاء حقي. فأقول: ألم يستأذن عليك باسمي ونسبي؟ أما في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك ألم تر شارتي؟ أما شممت نشر عطري؟ ألم أتميز في نفسك عن غيري؟ وهو في أثناء ما أخاطبه به وقد ملأت سمعه تأنيباً وتفنيداً يقول: خفض عليك، اكفف من غربك، أردد من سورتك، أستأن فإن الأناة من شيم مثلك. فأصبحت حينئذٍ جانبي له، ولانت عريكتي في يده، واستحييت من أجاوز الغاية التي انتهت إليها في معاقبته، وذلك بعد أن رضته رياضته رياضة القضيب من الإبل، والفلو المفتلى عن أمه من الخيل، وأقبل علي معظماً، ووسع في تقريظي مفخماً وأقسم أنه ينازع أنه منذ ورد العراق ملاقاتي، ويعد نفسه بالاجتماع معي، ويشوقها التعلق بأسباب مودتي. فحين استوفى هذا المعنى، استأذن عليه في من فتيان الطالبيين الكوفيين فأذن له، وإذا حدث مرهف الأعطاف تميل به نشوة الصبا، ويبسم ماؤه في أسارير وجهه، فتكلم فأعرب عن نفسه، وإذا لفظ رخيم ن ولسان حلو، وأخلاق فكهة، وجواب حاضر، في أناة الكهول، ووقار المشايخ. فأعجبني ما شهدته من شمائله، وملكني ما تبينته من فضله. فجاراه أبياتاً كان منها قول عدي بن زيد. كدمى العاجِ في المحاريبِ أو ... كالبيض في الروضْ زهرةُ مستنيرُ فقال أبو الطيب: شبه النساء بصور العاج، والمحاريب صدور المجالس، وذكر البيض في الروض لحسنه وأملاسه. فأقبل الطالبي علي فقال: ما تقول؟ المعنى ما ذكره. قال: فما قوله) زهرة مستنير (؟ فقال: ليكون أحسن له. فلم يقنعه ذلك، فقلت له: شبه ألوان الثياب التي عليهن بألوان نور الرياض، وزهره حمرته وصفرته، فأعجبه ذلك فسأله عن قوله في هذه الكلمة: ثم بعد الفلاحِ والمْلكِ والإمةِ وارتْهُم هناكً القُبور ثمَ أضحواْ كأنهمْ ورقٌ جفُ فألوتْ بهِ الصُباَ والدبوًُر

فقال أبو الطيب: البقاء والإمة: النعمة فقال: كيف جمع بين الصبا والدبور وإحداهما لينه والأخرى شديدة فقال: ليصبح الوزن والقافية. فأقبل الطالبي علي فقلت: غنما اختار الصبا مع الدبور فجاء بألين ريح مع أشد ريح، لأن الناس يموت بعضهم بالشدة وبعضهم بالسهولة، ومنهم من تخترمه المنية هكذا، ومنهم من تخترمه هكذا، على حال تأتي وتأخذ. فقال أبو الطيب: ما سمعنا بهذا. فقلت: ولا بغيره. ثم قلت: من الإنصاف أن لا تتعدى شعرك إلى غيره، لأن في تصفح محاسبه واستثمار أفنانه ما ألهى عن غيره. وهاهنا أشياء تعتلج في صدري منه، أحببت مراجعتك القول فيها: فقال: وما هي: أخبرني عن قولك: ) خفَ الله واستْر ذا الجمال ببرقعٍ ... فإن لُحتَ حاضتْ في الخدودِ العواتقُ ( أهكذا ينسب بالمحبين؟ فقال: أما هكذا في كتابكم؟ فكفر، لعنه الله فقلت: أين؟ فقال تعالى:) فلما رأينه أكبرنه (أي حضن شهوةً له واستحساناً لصورته، فقلت: لم يقل هذا أحد من محصلي أهل العلم، ولا شهد به ثقةوإنما روي بيت شاذ لم ينسب إلى أحد: نأتي النًساءَ على أطهارهنٌ ولا ... نأتي النُساء إذا أكبْرنً إكباراَ قال: فما معنى أكبرنه؟ فقلت: أعظمنه، ولا يجوز أن يكون: حضنه، لأن تقدير الكلام يوجب ذلك، إن كان الإكبار الحيض. قلت والدليل على أن معناه أعظمنه قولهن:) ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم (. قال فاغتفر هذا القول لقولي في هذه القصيدة: ) وليلٍ دجَوجيِ كأنا جلتْ لنا ... محيالَ فيه فاهًدينا السمالقُ ( ) فما زالً لولا نوُروجهكً جنحهُ ... ولا جابهاً الرُكبانُ لولاْ الأيانق ( ) شدواْ بابن إسحاقَ الحسينِ فصافحتْ ... ذَفاريهاَ كيرانهاُ والنمارقُ ( ) فتى ًكالسحابِ الجونْ يخشى ويُرتجى ... يرجىُ الحيَا منه وتخشىَ الصواعقُ ( ) إذا الهند وانياتِ بالهامٍ والطُل ... فهنِ مداريها وهنَ المخانقُ ( ) كأنكَ في الإعطاء لمالِ مبغضُ ... وفي كلٌ حربٍْ للمنيًةٍ عاشقُ ( ) فما ترْزُقُ الأقدار مًن أنتً حارٍمُ ... ولا تحرم الأمن أنت رازقُ ( ) لك الخير غيرك الغنى ... وغيري بغيرِ اللاذقية لاحقُ ( ) هي الغرضُ الأقصى ورؤيتكُ المنى ... منزلكُ الدنيُا وأنت الخلائق ( فقلت له: أما قولك) وليلِ دجوجيٍ كأناُ جلستْ لنا (فمن قول محمد بن مناذر: لماُ رأيناْ صارً لناً ... الململْ نهاراً بذكْر هاروناَ إذا نحن أدلجنْا وأنْت أمامنا ... كفىً بالمطاياَ ضوءُ وجهكَ هادياَ أليسَ يزيدُ العيسَ خفةَ أذرعٍ ... وإنْ كنُ حسرْى أن تكون أمامياَ فأخذ هذا مروان الأكبر فقال للمهدي: إلى المصطفى المهديً خاضتْ ركابناُ ... دجى الليلِ يخبطنَ السريحَ المخدما يكون لها نورُ الإمام محمدٍ ... دليلاً به تسري إذا الليلُ أظْلماَ فأخذ هذا المعنى إدريس بن أبي حفصة فقال: لما أتتك وقد كانتْ منازعةً ... دانى الرضاَ بينَ أيديها بأقيادي لها أمامك نورُ تستضيء بهِ ... ومنَ رجائكَ في أعقابها حادي فقال أشجع: إذا غابَ الفجرُ خضنْا بوجههِ ... دجىُ الليَل حتى يسَتبينَ لنا الفجرُ ونقل المعنى العباس بن الأحنف فقال: لوْ لم يكنْ قمرُ إذا أنا زٌرْتكمْ ... يهدي إلى سننَ الطُريق الواضحِ لتوَقدُ الشوْقُ المنُير بذكركمْ ... حتى تضُيء الأرضْ بينَ جوانحي فقال القصافي وأحسن: ذكْرتُكُم يوْماً فنوَر ذكركمْ ... دجىٌ الليلُ حتى انجابَ عني دياجرهْ فو الله ما أدري أضوْءَ مسجَر ... لذكراكُم أمْ يسجرُ الليل ساجرهْ فقال بعض الشاميين المطبوعين، وعليه اعتمدت: وليلٍ وصلناْ بينَ قطريهْ بالسرىَ ... وقد جد شوْقُ مطمع في وصالكِ أربتْ عليناَ من دجاه َ حناَدسُ ... أعدْن الطَريقَ الوَعَر نهجَ المسالكِ فنادَيْت يا أسماءُ باسمكِ فانجلتْ ... وأسفرَ منها كلٌ أسودَ حالكِ بنا أنت من هادٍ نجوْنا بذكْرهِ ... وقد نَشبتْ فينا أكفُ المهالكِ منحتٌكِ إخلاصي وأصفيتٌك الهوىَ ... وإن كنتِ لماُ تخطريني ببالكِ وأما قولك) غدا الهندانيات (فمن قول أبي الهول الحميري:

حُسامُ غذاه الُروحُ حتى كأنهَ ... من الله في قبَضِ النفَوسِ رسَولٌ وأما قولك: ) كأنك في الإعطاء للمالِ مبغضُ ... وفي كل َ حرْبِ للمنيةً عاشقُ ( فمن قول البحتري: تَسَرعَ حتى قالَ منَ شهَد الَغي ... لقاءٌ أعادٍ أمْ لقاءُ حبائبِ وأما قولك) فتىَ كالسحاب الجون يخشى ويرتجى (، فمن قول بشار: يرْجوُ ويخشىَ حالتيَكَ الوَرىَ ... كأنكَ الجنةُ والَنارُ وقولك:) ومنزلك الدنيا (فمن قول علي بن جبلة: ذَريني أجول الأرضَ في طلبِ الغنى ... فما الكَرخُ الدنياْ ولا الناس قاسمٌ وقولك:) وأنت الخلائق (فمن قول أبي نؤاس: وليْسَ لله بمسَتنكَرٍ ... أن يجمعَ العالمَ في واحد وأبو نؤاس أخذه من قول جرير: إذا غضبتْ عليك بنو تَميمٍ ... حَسبتً النُاس كلًهمُ غضاَبا فنقله أبو نؤاس من القبيل إلى رجل. فلا معنى لك في هذه القافية إلا مقتفى، ولا إحسان أشرت إليه إلاَ مستشرق محتذى. وعلى ذلك فأنت فيما استرقته كما قال بعض المحدثين: وفتى يقَول الشُعرَ إلا أنه ... فيما عَلمِنُا يسَرِق المسَروقَا فقال في بعض صياغته: فأين أنت من قوله في الكلمة الأخرى: ) تذكُرت ما بَينَ العُذيبِ وبارِقِ ... مَجَر عوَالينا ومَجرَى السوًابقِ ( ) وصحُبةَ قومٍ يذَبحُونَ قَنيصهم ... بفضلاتِ ما قد كسروا في المفارقِ ( ) ولَيلاً توسدنا الثوِيةَ تَحته ... كأن ثَرًاها عَنبر في المَرافقِ ( فقلت: أخذ البيت الخير من قول أبي عيينة: بغَرس كأمثالِ الجوَاري وتُربةٍ ... كأنُ ثراها ماءُ ورَدٍ على مسِكِ أو من قول عبد الصمد بن المعذل: يَمُحٌ نداها فيه عفراءَ جعَدَةً ... كأن ثَراها ماءُ ورَدٍ وعَنبرِ وقد أخذه منهما ابن المعتز فقال: فكأنما سطعَتَ مجامرٌ عَنبَرٍ ... أو فٌت فأرُ المسكِ فوقَ ثرَاك وكأنما حصَباءٌ أرضِك جوَهَرٌ ... وكأنُ ماءَ الوَردِ قَطرٌ نَداك ثم قلت له: أين من تغزلك ما يناسب هذا؟ فأنفرد اثنان من الحاضرين لتعليق ما ينجم من جواب أبي الطيب عما أورده، واثنان لتعلق ما أذكره وأعدده. فلما اتسع نطاق الكلام، وماج بحره وترامت أواذيه، وغمرهم منه بما لم يستقلوا برسمه في كتاب، اقتصروا على تعليقه وحياً، وعلى الكلمات في أوائل الأبيات، ولمعٍ نبذوها نبذاً من الاحتجاجات في دفاترهم. وتنبهت عزائمهم من التلطف في جمع ذلك لما أحتسب تنسبها له، ولم يجر شيء إلا وعملي محيط به. وقلت: أخبرني عن قولك: ) فإن كان بعض الناٌسِ سيفاً لدولةٍ ... ففي الناسِ بوقاتٌ لها وطُبول ( أهذا من صريح المدح أم هجينه؟ فقال: بل من هجينه. فقلت: ما الذي اضطرك إليه: إنها عثرة من عثرات الخاطر ينهض منها قولي: ) وإن الذي سميُ عليناً لمنصف ... وإن الذي سمَاه سيفاً لظمالمهْ ( ) وما كلَ سيفٍ الهامَ حدهُ ... وتَقَطعَ لزْيات الزًمانِ مكارمهْ ( وقولي في هذا المعنى: ) تحيَرَ في سيْفٍ أصْله ... وطابعٌه الرحمنَ والمجدُ صاقل ( وفي هذا أقول مشيراً إلى هذا المعنى، وذاكراً حال رسولٍ كان ورد إليه من متملك الروم: ) وأنى اهتَدى هذا الرَسول بأرْضهِ ... وما سكنَتْ مذ سرتْ فيها القساطل ( ) ومن أي كان يسقْي جياده ... ولم تصفُ من مزْج الدُماء المناهل ( فقلت: أخذت قولك:) والمجد صاقل (من قول أبي تمام: متدَفقاً صَقلوا به أعراضهم ... إن السماحةَ صقيلُ الأحسابِ وأخذتَ قولك:) ولم تصفُ من مزْجِ الدماء المناهلُ (من قول أبي سعد المخزومي: لا يشَربٌ الماء إلا من قَليبِ دمِ ... ولا يبيتُ له جارُ على وجلَِ وأبو سعد أخذه من بشار: فتىً لا يَبيت على دمنْهٍ ... ولا يشَربَ الماء إلا بدمْ فقال: وقولي: ) أماَ للخلافةَ من مشْفقٍ ... على سيفِ دوْلتها القاصلِ ( ) يقُد طلاُها بلا ضاربٍ ... ويسرْي إليهمْ بلا حاملِ ( وقولي في هذا المعنى: ) عاتقِ الملك الملْك الأغَر نجاده ... وفي يدِ جبار السماواتِ قائمهْ ( فقلت: أخذت هذا من قول أبي تمام: لقد خابَ منَ سويداءَ قلبهِ ... لحدَ سنانٍ في يدَ الله عاملهْ

قال: وقولي أيضاً في هذا المعنى: ) أتحسبُ بيضُ الهندِ أصلها ... وأنكَ منهاْ ساء ما تتَوَهمُ ( ) إذا سمعتْ باسمْ الأميرِ حسبتهاَ ... من التيهِ في أغمادها تتبِسِم ( فقلت: الثاني من قول أبي نقلاً من جهة إلى جهة: تتيه الشمسُ والقمرُ المنيرُ ... إذا قلنُا كأنهماُ الأميرُ وقلت: فأخبرني عن قولك في مرثية أم سيف الدولة: ) ولا من في جناَزتها تجارُ ... يكون وداعهمْ نَفَض النعال ( أهكذا يؤبنُ مثلها، وقد كانت بلقيس عصرها قدراً عظيماً وملكاً جسماً، وحديثاً وقديماً فقال: ألستُ في هذه الكلمة: ) مشىَ الأمراءُ حوليهْا حفاةً ... كأن المرْو من زف الرئال ( ) وأبرزَتَ الخدودُ مخبَتاتٍ ... يضَعنَ النفًس أمكنهَ الغوالي ( ) أَتَتْهُنَّ المصيبةُ غافلاتٍ ... فَدَمْعُ الحُزْنِ في دمع الدّلالِ ( وأنشد أبياتاً من محاسن هذه القصيدة: البيت الأول من هذه الأبيات من قول الصنوبري: نؤومُ الضحىَ أذهبُ القنافذِ عندهُ إذا ما عراه النومُ أهبُ الثَعالب أو من قول ابن الرومي: لوْ أنها استلقتْ على شوْك الحسكْ ... تحتَ الزَباةِ وجدته ْكالفَنَكْ والبيت الأخير من هذه الأبيات ينظر إلى قول العباس بن الأحنف نظراً خفياً. وهو من معانيه التي اخترعها: ) بكتْ غيرَ آسيةٍ بالبكاءِ ... ترى الدمع في مقلُتيَهاَ غريبا ( وعلى ذلك فمن الواجب ألا تدفع عن إحسان انتظمه شعرك، ولا عن معنى نكد طوح به في البلاد فكرك. ولكنك في البيت من القصيدة والأبيات إحساناً لا يجهله نقاد الكلام وأرباب البيان، إنجازاً في عبارته، وإبداعاً في نظمه، وصواباً في معناه، وسلامة في لفظه. ثم تشفع ذلك بالأبيات السخيفة لفظاً ومعنى، وبالأبيات التي تغير على معانيها وبعض ألفاظها إغارة الذئاب المعط على سرح النقد، فتاتي القصيدة بالشعر على غير مشاكهة. ومن أفحش المعايب ألا تقع اللفظة مصاحبة أختها، ولا مزاوجة ما جاورها. وقد قال مروان بن سعيد بن عباد بن حبيب ابن المهلب بن أبي صفرة، مخاطباَ عبد الله بن محمد أبي عيينة: ما بالُ شِعِرك ملُتاثاً ومختلفا ... بيتاً ثَنِيا وبيتاً ساقطاً خرَفاَ وقال عمر بن لجأ لابن عم له: أنا أشعر منك. قال: وكيف؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه ألا ترى إلى قول الشاعر: وشعْر ٍكبعْرِ الكْبشِ فرُق بينهُ ... لسُان دعيٍ في القرَيضِ دَخيلِ يقول: هو مختلف المعاني متباين المباني جارٍ على غير مناسبة ولا مشاكلة ولا مقاربة، لأن بعر الكبش يقع متبدداً متفرقاً متبايناً. وقد قال الكميت: وقد رأيناْ بها حوُراً منعًمةً ... بيضاً تكاملَ فيها الدَّل والشًنبُ فعاب هذا عليه نصيب وقال: هلا قلت كما قال ذو الرمة: لمياءُ في شفٌتَيْها حوةُ لعسٌ ... وفي اللثاتِ وفي أنيْابها شَنبُ وهذا لعمري عيب فاحش لأن الكلام لم يجر على نظم، ولا ورد على اقتران وممازحة، ولا اتسق على اقتران. ومما يحتاج إليه القول أن ينظم على نسق المماثلة وأن يوضع على رسم المشاكلة. ومما ذهبت فيه هذا المذهب قولك: ) ما أبعدَ العيبَ والنٌقصانَ من شيميَ ... أنا الثَرياَ وذانِ الشُيبُ والهرمُ ( وهذا أيضاً كلام جار على غير مناسبة؛ لأن الثريا ليست من جنس الشيب والهرم ولا هما من جنسها. وكان وجه الكلام أن قول: أن الثريا سفوراً وعلواً وذان السهى خفاءً وخبواً. أو أن تقول: أنا الشباب وذان الشيب الهرم. وربما أوردت البيت مشتملاً مستودعاً من المعنى المستحيل على ما يهيجن القصيدة بأسرها، ولو كان من لباب اللفظ ونصاب الفصاحة، كقولك في القصيدة التي أولها: ) سِربُ محَسِنٌهٌ حُرِمت ذَوَاتِها ( وكأن هذا البيت من كلام الشبلي أو سمنون الصوفي. ثم تغزلت فقلت: ) إني على شَغفَي بما في خُمرِها ... لأعِف عَما في سَرَاويلاتِها ( وشتان هذا من قول الأول: لا والذي تسجُدُ الجباهُ لهُ ... ما لي بما تحتَ ذيلهاِ خَبرُ فقال أبو الطيب: إن ذاك، وعلى هذا فليس الذي قلته بأفحش من قوله امرئ القيس: فمثْلِكِ حبلىُ قد طَرقتُ ومرْضعِ ... فأنْهيتهاُ عن ذي تمَائمَ محوْلِ

إذا ما بكى من خلفها انصرفتْ لهُ ... بشقٍ وتحتي شقُها لمْ يحولُ فقلت: أن امرأ القيس كان مفركاً والحبلى الرغبة في الرجال. فيقول: إذا أليتها فأنا إلى غيرها أحب. وقد أخذت هذا البيت من أسلم بيت وأكرمه لفظاً: لا والذيٌ تسُجدُ الجباهٌ لهُ ... ما لي بما تحتَ ثوْبهاِ خبَرُ ولا بفيها ولا هممْتٌ بهاِ ... ما كان إلا الحديثٌ والنظر وقولك الآخر في هذا النحو أسمي وأكرم وهو: ) يردَ يداً عن ثوْبها وهو قادرُ ... ويعصي الهوَى في طيفهاَ وهوَ راقُد ( فقال: ألم أقل في الكلمة الثانية: ) أقْبلتهأُ غرُرَ الجيادِ كأنما ... أيدي بني في جَبهاَتها ( وفيها أقول: ) ومقانبٍ بمقانبٍ غادرْتهاُ ... أقواتَ وحَشيٍ من أقواتها ( فقلت: أما البيت الأول فمن أبي نؤاس يصف كلاب الصيد: غُرَّ الوجوُهِ ومحَجلاَتها ... كأن أيدْينا على لباتها والبيت الثاني من قوله في هذه الأرجوزة: بأكلُبِ تمرحُ في قدَاتهاَ ... تعدُ عينَ الوحشِ من أقواتهاِ وأبو مؤاس أخذه من قول أبي النجم: تَعدُ عاناتِ اللوَى من مالها وربنا أتيت بالبيت الجوف والمعتل، قال: وما المعتل والأجوف؟ فقلت: حكى يونس بن حبيب أن الأجوف الفاسد الحشو، والمعتل ما اعتل طرفاه. وحدود الشعر أربعة: وهي الفظ والمعنى والوزن والتقفية. ويجب أن يكون ألفاظه عذبة مصطحبة ومعانيه واستعاراته واقعة وتشبيهاته سليمة. وأن يكون سهل العروض رشيق الوزن متخير القافية، رائع الابتداء وربما أخليت وأخلفت وأعذرت وهلهلت، وما أراك تتطلع على موجب هذه الألفاظ. قال: وأي موجب لها! وإنما توردها تسمحاً وشغفاً بالإطالة وتسحباً بالدعاوى الباطلة. فقلت لا تطل عناج القول في ما يخرج عن مذاهب أهل الفضل فتسمع من القول ما يضيق ذرع صبرك عنه. فقد قال امرؤ القيس: إذا المرءُ لم يحزُنْ عليْهِ لسانهُ ... ليسَ على شيء سواهُ بخَزّانِ بل يقال للشاعر إذا أتى بأبيات مشتملة على معان مبتكرة وألفاظ متخيرة، ثم أورد في أثنائها بيتاً خالياً من هذا الوصف: قد أخلى ويقال له إذا أتى بمعنى لم يستوفه: قد أعذر. وإذا خالف بين قافية الضرب وقافية المصراع في افتتاح القصيدة: قد أخلف كما قال ذو الرمة: ألا يا اسلمي يا دارَ ميَ على البلىَ ... ولا زالَ منهلاً بجرْعائك القطْرُ فكأنه لما قال) على البلى (وعد ينظم قصيدة على روي وكأنه لما قال) القطر (أخلف ذلك الوعد إذ جعلها رائية. ثم قلت: ومن غزلك الذي باينت فيه مذاهب المطبوعين والمرهفين قولك: ) ربحْلةٍ أستمرٍ مقَبلهاُ ... سبحْلةٍ أبيضٍ مجرَدها ( فالربحلة: العظيمة الجيدة الخلق، والسبحلة: الطويلة العظيمة، ورجل سبحل ربحل. لذلك تستهجن هاتان اللفظتان في ألفاظ المحدثين، لأنهما من ألفاظ العرب الجافية. وقد أخذتهما نسخاً من قول بعض العرب في ترقيص بنية له: سبحْلةُ ربحْلهْ ... تنميَ نَباتَ النخلةْ قلت: وأخبرني عن قولك واصفاً فرساً: ) قد زادَ في السُاقِ على النَقانقِ ... وزادَ في الأذن على الحَرانق ( ) وزاد في الحذْر على العقاعق ( قال: وما في ذلك؟ قلت: إقدامك على نظم هذا الكلام الساقط واجتراؤك على قرع السماع بمثله غير مستحيٍ ولا مراقب. فما تريد بقولك) زاد (أزاد في قوة الساق أو في طوله، وفي خلق أذن الخرنق أو في لطف سمعها؟ ما أسخف هذا لفظاً وأقله من البيان حظاً، وإنما ذهبت في قولك: ) قد زاد َفي الساقِ على النقانقِ ( إلى قول أبي دواد: لهُ ساقا ظليمٍ خا ... ضبٍ فوجئ بالرعُبْ وفي قولك: ) وزاد في الحذرِْ على العقاعقِ ( قول بعض العرب: منُيتُ بزَمرًدةٍ كالعصاَ ... ألصَ وأخبثَ من كنُدشِ وقولهم:) هو أحذر من كندش (، وهو العقيق. وقد سمعت قول امرئ القيس لهُ أبْطلاَ ظبيٍ وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرْحانٍ وتقربُ تتفُلِ

فليلهك عن وسواس فكرك هذه الألفاظ التي ذهبت بك في التيه، وانظر إلى جمعه بين هذه الألفاظ المتباينة والأجزاء المتحاجزة. فإنه شبه في هذا البيت أربعة أشياء، إذ كان مخرج هذا اللفظ في التشبيه حتى يكون المعنى المقصود واقعاً من البيان، على أن له أيطلين كأيطلي الظبي وساقين كساق النعامة وإرخاء كإرخاء السرحان وتقريباً كتقريب التنقل. فضلت في أبياتك هذه عن مدرجة الإحسان وأطفأت بهذه الألفاظ القلقة مصباح البيان. قال: ففيها أقول: ) يرٌيكَ خُرْقاً وهوَ عَينٌ الحاذِقْ ( فاحفظني ذلك القول منه وقلت: أراك تعتدنا نَعم! فقال: حاشى لله. فقلت: أما هذا مسلوخ سلخ الإهاب من الرجز يصف ناقة: خرْقاء إلا أنها صناعُ أو من قول حميد بن ثور: فقال وسنْانً ولماُ يرْقدُ ... إلى صناعِ الرجَل خرقْاء اليَدِ وهذان البيتان من أوجز ما قالته العرب. وما يجري معهما في الاختصار وحسن الإيجاز وقرب المأخذ قول الآخر يصف سهماً: غادرَ داءً ومضىَ صحيحاَ ومثله قول الآخر يصف وحشاً وسهماً: حتى نجاَ من جوْفهِ وما نجاَ وقد قال أبو نواس: صنعْ اللطيفةِ واستلابَ الأخرقِ فكأنه من قول حميد بن ثور: بَنتَْ بيتهُ الخرْقاءُ وهي لطيفةُ ... لهُ بمراقٍ بينَ عُودَين سلماَ وفي هذه يقول في صفة الفرس: ) بذَ المذاكيَ وهوَ في العقائق ( وإنما أخذه من قول الراجز: قد سبقَ الأقرَح وهوَ رابضُ ... فكيفَ لا يسبقَ إذ يراكضُ يريد أن أمه قد سبقت وهو في بطنها. ثم قلت: وقد تبردت في هذه الأرجوزة على عادتك بان قلت: ) أقام فيها الثْلجُ كالمراِفقِ ... يعقد فوقَ السنَ ريقَ الباصقِ ( وأشهد الله أن هذا من غث الكلام وسقط الشعر. فقال بعض صاغيته: أيقال لكلام مثله غث؟: أجل أليس هو القائل: ) ألعبْدُ لا تفضُلُ أخلاقهُ ... عنْ فرجهِ المننُ أو ضرْسه ( ومن براداته قوله: ) وإنماٌ تحتاْلُ في حلُه ... كأنكَ الملاحُ في قلَسهِ ( ونحو هذا قوله: ) لسريِ لباسهُ خشُن القُطْ ... نِ ومرْويُ مرو لبسُ القرود ( وقوله: ) وكنتُ من الناسِ في محْفلٍ ... فها أنا في محفلٍ من قُرودِ ( ) فلا تسَمعنَ من الكاذبينَ ... ولا تَعبأنَ بمحْل اليَهودِ ( ومن قبيح التشبيه قولك تصف كتيبة: ) وملمْومةٍ سيفَيةٍْ ربعَيةٍ ... يصيحُ الحصىَ فيهاَ صياحَ اللقَلقِ ( وقد أخذته من قول ابن المعتز: وبلدةٍ صائحةِ الصُخورِ وأحسن من هذا قول النامي في كلمة امتدح بها سيف الدولة أولها: قفوا وعليهِ الدَمعُ فهوَ كثيبَ فقال فيها: تتُعتعُ ألفاظَ الحَصىَ بسنَابكٍ ... إذا كلمَتُهْ عجُمهنُ تُحبُ فقال: أما تشبه أصوات الحصى من تحت حوافر الخيل أصوات اللقالق؟ فقلت: هبه أشبهه فهل هو من محاسن التشبيه؟ ألا ترى أنهم هجنوا قول لبيد: . . . وترْكاً كالبَصلْ وهو تشبيه واقع، وذمواُ قول الآخر: والخيل من خلَل الغُبارِ مغُيرةُ ... كالتمرِ يُنثرُ من وراء الجرَمِ والجيد قول الشعر: يقول: خرجت متساوية كتساوي أصابع المصطلي عند اصطلائه. ومن جافي لفظه قوله: ) أين التوْرابُ قبلَ فطامهِ ... ويأكلُهُ قبلَ البلوغِ إلى الأكْلِ ( فلفظة التورْاب على سلامة مصدرها جافية جداً. وقد اعتمد في هذا البيت على أرق بيت في معناه وأشجاه لفظاً، وهو قول محمد بن يزيد الأموي السلمي: فَطمَتكَ المنونَ قبلَ الفِطامِ ... واحتواكَ النقصانُ قبل التَمامِ ومن سفاف الكلام وسقطه ومستعجمه قوله: ) صَغرْتَ كلً مكبُرٍ وعلْوت عن ... لكأنهُ وبلَغتَ سنّ غلاُمِ ( فهذا من النسخ الغلق القلق، وهو مع قلقه مأخوذ من أعذب لفظ واسلمه. قال بعض الشعراء المتقدمين في الدولة الأموية: بَلغْتَ لعشَرِ مضتْ من سنيكَ ... ما يبلغُ السَيدُ الأشيَبُ فهمُك فيها جِسامُ الأمورِ ... وهمُ لداتكَ أنْ يلَعبوا وأحسن من قوله:) صغرَتْ كُل مكبرَ (قول الأول: لهُ هممُ لا منتهىُ لكبارهاِ ... وهمتهُ الصغرُى أجلُ من الدهرِْ ومن براداته قوله:

) كَريمُ نَفضتٌَ النٌاسَ لماُ بلغتهُ ... كأنهمُ ما جفَ من زادِ قادمِ ( فتباً لهذا التشبيه، وضلة لهذا التمثيل، ويا رحمتا للممدوح به والمواجه بإفساده. وقوله أيضاً: ) يقْضمَ الجمرَ والحديدَ الأعادي ... دونهُ، قضمَ سكُرَ الأهوازِ ( وفي هذه الكلمة يقول واصفاً سيفاً: ) حَمَلتْهُ حَمائلُ الدهُرِ حتى ... هيَ محُتاجةٌ إلى خرازِ ( على أنه قد أخذه من قول البحري يصف سيفاً: حَملَتْ حمَائلهُ القديمةُ بقلةً ... من عهدِ عادٍ غضَةً لم تذْبلِ ولعمري لقد فات فحول الشعراء في وصفه هذا السيف، وجرى وإياهم في حابه الإحسان فقصروا عن غاية سبقه، وألهانا قول المتنبي هذا في وصفه سيفه: ) هيَ مٌحتاجةُ إلى خَرازِ ( عن قول طرفة في وصفه سلفه: أخي ثقَةٍ لا ينثني عنَ ضريبةٍ ... إذا قيلَ مَهلاً قال حاجزهُ قَدي حسامُ إذا ما قمتَ منُتصراً بهِ ... كفى العوْدَ منه البدْءْ ليس بمعضدِ وعن قول النابغة: تقدُ السٌلوقيَ المَضاعَف نَسخةُ ... وتوقدُ بالصفاحِ نارِ الحُباحبِ قوله:) إذا قيل مهلاً (معناه إذا قال مهلاً، قال الحاجز الذي بيني وبين المضروب قد أتى على ما أراد من القطع. وقول أبي النجم: يُذْري بإرعاسِ يمينِ المُؤتليَ ... خُضُمةَ الساعٌدِ هدَالمُختليَ قلت: وهو القائل: ) منْ لي بفهَمِ أهيلَ عصرٍ يدُعي ... أنْ يَحسبَ الهنديُ فيهم باقلُ ( فلو أن باقلاً قائل هذا الشعرلكان منعياً عليه في مدة، وما أكثر إعجابه بالتصغير، ولا يتفق له فيه تصغير مستعذب، ولعله احب أن يماثل قول القطامي: قدُ يدْيمهَ التُجريبِ والحْلم إنني ... لأرىَ غفَلاتِ العيشِ قبل التجاربِ أو قول النجاشي: قُبيَلةُ لا يغْدرونُ بذمةٍ ... ولا يظَلمونَ الناُسَ حَبةَ خرْدلِ وأتانا من تصغيره ما خرج عن هذا الباب، فضل فيه عن طريق الصواب وهو القائل: ) قَبيلُ أنتْ أنتَ وأنتَ منهُم ... وجدُكَ بشْرُ المَلكُ الهُامُ ( فهذا، وإن كان غشاً كما يرى الرئيس، فإنه دال على لكنه قائله. وكيف لا ينسب إلى البرد وهو يأتي بهذا ونظائره! ومن الكلام الهجين والمعنى المهين قوله: ولعمري إنُ هذا من نتائج خاطره واختراعات فكره وبنات صدره. وكذلك قوله أيضاً: ) ففَي كل يوْمٍ ذا الدُمستقُ مقُدمٌ ... قفاُه على الإقدامِ للوجهِْ لائمُ ( وهذا من الطباق الغث، وكفى بقول عبد الصمد بن المعذل: بدَ حسنَ الوُجوهِ حُسنُ قفَاكا ومما يشترك في هذا المعنى قول الآخر: قفاَهُ وجهُ ثم وجهُ الذي ... قفاءُ وجْهُ يشبهُ النُفْساَ ومما نعي على الرمة قوله: ومَيةُ أحسنُ الثقَلينِ جيداً ... وسالفةً وأحسنهمُ قذالا ومما لا ترى في برده ولا ريب في لكنه قائله: ) فحُذاَ ماء رجلْهِ وانضحَا في ... المدْنِ تأمنْ بواثق الزُلزالِ ( ومن اللكنة وركاكة اللفظ والافتقار الشديد قوله: ) العاِرضُ الهَتنُ ابن العرض الهتنِ ... ابن العرضِ الهتنِ ابن العارض الهتنِ ( وأحب أبا الطيب ناجي نجوم الدجى ليلةً كلها حتى حياه بوجهه صبحها حين انتظم له هذا البيت، وسوف يأتي فيما بعد: ومن أهجن الأقسام وأوهى معاقد الكلام قوله: ) إنْ كانَ مثُلك كانَ أو هو كائنُ ... فبرئْت حينئذ من الإسْلامُِ ( وإنما احتذى في قول بعض القضاة في أيام المأمون: برئْتُ من الإسلامِ إن كان ذا الذي ... حكاهُ لك الواشونَ عنيُ كما قالُوا ولكنُهُمْ لما رأوْكُْ غَرِيةُ ... بوَصْلي تواصْوا بالنُميمةِ واحتالوٌا وكأنهَ لم يسمع قسم النابغة في قوله مخاطباً النعمان: ما إن نَديتُ بشيء أنت َ تكرهَهُ ... إذاً فلا رفَعتْ سوْطي إلى يدَي إذنْ فعاقَبَني ربيُ مُعاقبةً ... قَرتْ بها عينُ منَ يأتيكَ بالحسَدِ وينظر إلى هذا المعنى قوله في الكلمة الأخرى: فَلوْ كفَي اليمينُ نَبتْك خوْفا ... لأفردْتُ اليَمينَ من الشمالِ إلى قول عمرو بن قميئة: فما قُلتُ ما نطقواَ باطلاً ... ولا كنتُ أكرهُهُ أنْ يقُالا فإنْ كان َ حقاً كما خَبرُوا ... فلا وصَلَتْ لي يمينُ شِمالا

ومن هاهنا أخذ النابغة قوله: إذنْ فلا رفَعَتْ سوْاطي إلى يديَ وهبه لم يرد هذا، أما روى قول أبي سعد المخزومي: لا والذي خَلقَ الصهُباءَ من ذهَبٍ ... والماءَ من فضةٍ لا سادَ منَْ بخلاَ ولا روى قول علي بن محمد العلوي البصري: يلَقىْ الرماحَ بنحرهِ وبصَدرهِ ... ويقيُمُ هامتَهُ مقُامَ المغفَر ويقولُ للطُرفِ اصطبرْ لشبا القنَا ... فهدَمت رُكنَ المجدِ إن لم تُغفرِ وإذا تأمل شخصَ ضيفٍ طارقاً ... مُتسَربلاً سرْبالَ ليلٍ أغبرِ أوْمأ إلى الكوْماء هذا طاِرقٌ ... نحَرتْنَي الأعداء إن لم تنُحْري غث الكلام ومستكرهه قوله: ) فتىَ ألفُ جزْءٍ رأيهُ في زمانهِ ... أقل ُ جُزيءٍ بعضهُ الرأيُ أجمعُ ( وقوله: ) فكلُكمُ أتى مأتيَ أبيهِ ... وكلَ فِعالِ كُلكمُ عُجابُ ( فهذا لفظ مضطرب ونظم متهافت وقوله: ) يا منَ نلوذُ من الزمانِ بظلهِ ... أبداً ونطردُ باسمهِ إبليساَ ( ) خيرُ على القُصوُرِ وشرهاَ َ ... يأوي الخرابَ ويسكنُ النُاوُوسا ( وفي هذه الكلمة يقول يقول خير الطيور على القصور فمن الطيور التي تألف القصور المبينة اللقالق والهام، وليست بخير الطيور. ومن سفساف الكلام قوله: ) حتى يقولَ الناُسُ ماذا عاقلاً ... ويقول بيتُ المالِ ماذا مسُلماَ ( وإنما آذاه قول عبيد بن أيوب العنبري أحد اللصوص: ما كانَ يعُطي مثلهاَ في مثْلهِ ... إلا كَريمُ الخيمِ أوْ مَجنونُ وإلى هذا ذهب أبو نواس في قوله الذي تاه خاطره عن طريق الصواب فيه: جاد بالأموالِ حتىٌ قيلَ ما هذا صحيحُ فقال أبو تمام: ما زالَ يهذيَ بالمكارمِ والندىَ ... حتى ظننََا أنهُ محمومُ فقال البحتري وأحسن في عبارته: إذا معشُر صانوا السماحَ تعسرتْ ... به همةٌ مجْنوُنةُ في ابتذالِهِ وكل هؤلاء أرادوا قول الأول: في حبُ منَ يرْجىُ فَواصلهُ ... فاستمطرواُ من قرُيشٍ كل منُخدعِ تَخالُ فيهِ إذا خادعته بلها ... عن مالهِ وهوَ رابي الدُين والورَعِ فوقع إلى التيه، وتَد هدىَ أبو الطيب في آثارهم على أم رأسه. وقد ألمُ بهذا المعنى أبو تمام فتخطىُ العيب فيه: ولَهَتهُ العلىُ فليسَ يَعُدُ ... البؤسَ بؤساً ول النٌعيمَ نعيَماَ وقوله: ) كأني دحوْتُ الأرْضَ من خبرتيَ بها ... وكان بني الإسكندرُ السدُ من عزمي ( وهذا لفظ مستهجن، وتشبيه غير مستحسن. وإنما أراد به قول أبي تمام على أنه لا خير فيه أيضاً: فطَحطحتُ سداً سدُ يأجوجَ دونهُ ... منَ الهمَ لم يفرغْ على زبْرهِ قطرُ ومما لا طائل فيه قولك: ) دانٍ بعيد مجيبٍ مبغضٍ بهجٍ ... أعزَ حُلوٍْ ممرٍُ لينٍُ شرسِ ( ) ندٍ أبيٍ غرٍوافٍ أخي ثقةٍ ... جعدٍ سريٍ نهٍ ندبٍ رضىً ندُسَ ( أخذ قوله:) حلُوْ ممرُ (من قول الشنفري بل من قول الهذلي: حُلوْ ومرُ كعطْفِ القدحِ مرتهُ ... في كل إنيٍ قضاهٌ الليلُ ينتعلُ ومما لا طائل فيه أيضاً قولك: ) العارض الهَتنُ ابن الهتنِ ... ابن العارضِ الهتن ابن العارض الهتنِ ( ونحو هذا قولك أيضاً: ) أطعَنُها بالقناةِ أضربُها ... بالسٌيفِ جحجاحُها مُوَودها ( ) أفْرسهاُ فارِساً وأطْولهاُ ... باعاً ومغوراُها وسيُدها ( ) شمسُ ضحاها هلالُ ليلتها ... دُرٌ تقاصيرها زَبرْجدها ( وهو مع ذلك مركب تركيباً على قول أبي بكر دريد في قصيدة أولها: ما شُغُلي بالطولِ أندُبهاُ حجْزُ فتَى يعْربٍ ومِدرْههاُ ... وسيُفها المنُتضى ومحرَبهاُ صندْيدُها حصْنهاُ خبعْثنُها ... أطْعنهاُ بالقنَا وأضْربهاُ لهُمٌومهاُ قرمهاُ مقدَمهاُ ... ضيغمهاٌ نجمهاُ عصبصَها وجرى في نحو هذا عدة أبيات. ولم نسمع بأحد شبه الرجل بالزبرجد قبله، وهذا من معانيه الأبكار وألفاظه الأحرار. ومن هجين الكلام قوله أيضا: ) وليسَ كبحرِ الماء يشتَفُ قعَرهَ ... إلى حيث يفَنى الماءُ حوتُ وضفدعُ ( ومن الغثاثة التي لا ريب فيها قوله: ) غثاَتهُ عيْشي أنْ تغثُ كرامتي ... وليسَ بغَثٍ أنْ تغثً المآكلُ (

وأهجن من هذا لفظاً وأقل من البيان حظاً قوله: أديبُ رستْ للعلمِ في ارضْ صدرهِ ... جبالُ، جبالُ الأرضْ في جنبها قفٌ ) جوادُ سمتْ في الخيرِ والشرُ كفهُ ... سمُواً فَود الدُهر أن اسمه كفُ ( ) فليس بدونٍ يرْتجَى الغيثُ دونه ... ولا ينتهي الجودُ الذي خلفْهَ خلفُ ( وقوله: ) واغتفارُ لوْ غَيرَ السخُط منهُ ... جعُلتْ هامهُمُ نَعالَ النعالِ ( وقوله في وصف الغيث: ) لسَاحيهِ على الأجداثِ حَفْشىُ ... كأيدْي الخيلِ أبصرتِ المَخالي ( وإنما اغتره قول زهير: . . . يحْفشىُ الأكْم وايلُه لم يذكر البيت. فأما أن يستقي مستسقٍ للقبور غيثاً يحفش تربها وينبث ثراها، فلم يقله أحد. وإنما يستقى لديار الأحبة ولقبور الأغرة لتكلأ تلك الأرض، وتعشب تلك البلاد فتنتجع. فيتذكر أهلوها ويترحم على من واراه الترب فيها. وينتج كل من نأي عنها ثم يحترسون في السقيا من أن تدرس مغانيها وآثارها كما قال طرفة: فسقى دياركَ غَيرَ مفسدهاِ ... صَوْبُ الربيعِ وديمةُ تهْمي وقال الآخر: سَقىَ اللهُ سُقيا رحمةٍ أهل بلدةٍ احترس بقوله:) سُقيا رَحْمةٍ (احتراسا لطيفاً. فأما أن يستقي غيثاً لها يعفي الأثر وقعه كوقع أيدي الخيل تضرب الأرض، حتى يهدمها ويحفرها فلا. وقوله: ) وأظنُهُ حَسبَ الأسنَةَ حُلوةً ... أو ظَنهاَ البرْنيٌ والآزادا ( وقد نعي على كثير قوله وهو دون هذا: وهمْ أحلى إذا ما ذُقْتَ يَوْماً ... على الأحناك من رطبِ ابن طابِ وغير عليه فجل:) من عسَل اللعاب (وكلاهما لا خير فيه. ثم قال: ) فغدَا أسيراً قد بَللتْ ثيابهُ ... بدمٍ وبلَ ببوْله الأفخاذَا ( وكذلك قوله:) الازاذا (وهذه قافية قلقة مجتذبة مجتلبة معلولة غير مقبولة. وسبيل الشاعر أن يعنى بتهذيب القافية فإنها مركز البيت حمداً كان ذلك الشعر أو ذماً، وتشبيباً كان أو نسبياً، ووصفاً كان أو تشبيهاً. وأن يتأمل الغرض الذي يرميه فكره، فينتظر في أي الأوزان يكون أحسن استمراراً، ومع أي القوافي يكون أشد اطراداً، فيكسوه أشرف معارضه، ويبرزه في أسلم عباراته، ويعتمد إقرار المعاني مقارها، وإيقاعها مواقعها. وقد حكى عن الحطيئة أنه قال: نقحوا القوافي فإنها حوافر الشعر. فشتان ما بين قولك) الأفخاذا (وقول الحطيئة: همُ القومُ الذينَ إذا ألمتْ ... منَ الأيامِ مظُلمةُ أضاءوا فلقوله) أضاءوا (موقع لطيف؛ وذلك أنها لفظة لا يستطاع تبديلها بغيرها، ولا تغييرها بما يسد مسدها. وكذلك قول النابغة: كالأقْحوان غداةَ غِبَ سمائهِ ... جَفُتْ أعساليهِ وأسفُلهُ ندىَ فلقوله:) وأسْفلُهُ ندىَ (موقع عجيب في هذا الموضع؛ وذلك أن الأنوار. فكره أن يشبّه الثغر به في هذا الحال، فيكون الثغر كالمتركب بعضه على بعض، فشبهه بالأقحوان إذا أصابته الشمس؛ فقال:) جَفتّ أعاليه (أراد انبسطت وذهب تجعيدها ثم قال:) وأسُلفه نَدى (فاحترس أن يكون ذَوَى وجفّ. وقولك: قد) بَلَلت ثيابهَ. . . وبلّ ببوله الأفخاذا (ينظر إلى قول الأول: آليْتُ لا أدفنُ قَتْلاكُمُ ... فدَخنَوا المْرء وسْربالهُ يقول: إنه إذا طعنه أحدث في سرجه، كنى عن ذلك بهذه الكناية البليغة البديعة، وعبر بهذه العبارة الجزلة. ومن القول في المباني المسفرة قول امرئ القيس: فإنكَ لم يفْخرْ عليَك كفاخرٍ ... ضعيفٍ ولم يغلْبك مثلُ مغلُب وقول زهير: وأعلمُ ما في اليوْمِ والأمسِ قبلَهُ ... ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عمىَ ومن ألفاظه القلقة ومعانيه الغلقة قوله: ) لم تحْكِ نائلَك السحابُ وإنما ... حُمتْ بهِ فصبيبهُا الرحضاءُ ( وإنما نظر إلى قول أبي نؤاس: إن السَحابَ لتَستحيي إذا نظرتْ ... إلى نداكَ فقاستهْ بما فيها حتى تهم ّ بإقْلاعٍ فيَمنعهاُ ... خوفُ العقوبةِ عن عصيانِ باريها ومما هذه سبيله قوله: ) يكادُ من صحةِ العزيمةِ أنْ ... يفعلَ ما لا يكادُ ينفعلُ ( ومن خروجه المتكلفُ المتعسفُ الذي باين مذاهب المحدثين قوله: ) أحبكِ أوْ يقولوا جرّ نمْلُ ... ثبيراً وابن إبراهيمَ رِعاً (

ريع من الروع. فما ابعد هذا الكلام من الإحسان، وأشد مباينته للبيان وأدله على ضيق عطن قائله، وعلى فساد تخيله وما أحسبه سمع قول منصور النمري: أجدَك هل تدرينَ أنْ رُبّ ليلةٍ ... كأنً دُجاها من قُرُونكِ يُنشَرُ صَبَرٌتُ لها حتى تَجَلٌتٌ بغُرةٍ ... كغُرةِ يحيى حينَ يذٌكرُ جَعفرُ ولا طالع قول محمد بن وهيب: ما زالَ يلٌثمنٌي مرَاشفَهُ ... ويعِلني الإبريقُ والقَدَحٌ حتى استَردَ الليلُ خلعتهْ ... وبدا خلالَ سوَادهِ وضَحُ وبدا الصباحُ كأنّ طلعَتهِ ... وجهُ الخليفةِ حينَ يمتدحُ ولا قول البحتري يصف داراً: ولو أننّي أعطيتُ فيهنّ المنىُ ... لسَقيتُهنُ بكفّ إبراهيما وقد أخذت هذا فقلت: ) سقىَ مثواكِ غادٍ في الغوادي ... نظيرُ نوالَ كفكِ في النَوالِ ( ولا قوله: وقاسَينَ ليلاً دونَ قاسانَ لم تكدْ ... أواخرُهُ من بعدِ قُطريهَ تلحقٌ بحيثُ العطايا موُمضاتٌ سوافرٌ ... إلى كل عافٍ والمواعيدٌ فُرّقٌ ولا قوله: شقائِقٌ يحملنَ الندَى فكأنهُ ... دموُعُ التصابي في خدودِ الخَرائدِ كأن يدَ الفتحِ بنِ خاقانَ أقبلتْ ... تليها بتلكَ البارقاتِ الرّواعدِِ بلى قد قرأت هذا، فإنك أخذت المعنى فيه فقلت: ) ردّي الوِصالَ سقى طولَك عارضُ ... لو كانَ وصْلكِ مثلهَ ما أقْشعاَ ( ) زَجلاً يريكِ الجوّ ناراً والملاَ ... كالبحرِ والتلعاتِ روضاً ممرعاَ ( ) كبَنان عَبدِ الواحد الذي ... أروى وآمنَ منَ يشاءُ وأجزَعاَ ( ومن أحسن الخروج قول أبي تمام: إساءةَ الحادثاتِ استنبطي نَفقاَ ... فقد أظلكِ إحسانُ ابن حَسانِ وقوله: فَعَلَتْ مقُلتاهُ بالصبّ ما تفْعلُ ... جدوْىَ بدَيْكَ بالآمالِ وقوله: لا تنكري عطَلَ الكريمِ من الغنيِ ... فالسُيلٌ حَربُ للمكانِ العالي وتنظَري خنَببَ الرَكابِ ينٌصهاّ ... محييُ القريضِ إلى مميتِ المالِ بَسَطَ الرجاءَ لنا برغَمِ نوائبٍ ... كَثرتْ بهنّ مَصارع الآمالِ أغلى عذاريَ الشَعرِ أنْ مُهوُرها ... عندَ الَكريمِ إذا رَخُصْنَ غَوالي ومن مستغلق كرمه وجافي تشبيبه قوله: ) إذا عذَلوا فيها أجَبتُ بأنهُ ... حُبيبتاَ قلبيَ فؤادا هيا جمْلُ ( ومن الغلق المستغلق قوله: ) أرْضُ بها شرَفُ سواِها مثلهاُ ... لو كانَ مثلكَ في سواها يوُجدُ ( يقول: إن لهذه الأرض التي شرفاً بحلولك إياها، ولو ألقي مثلك في أرض أخرى غيرها لكانت مثل هذه. قوله: ) مَنْ في الأنامِ من الكرامِ ولا تقلُْ ... من فيك شأنُ سوى شجاعٍ يقصدُ ( يريد: لا تقل من فيك يا شأم بل من في الأنام أجمعين من يقصد. ومن المستغلق فيها قوله: ) أتى يكون أبا البرِيةِْ آدمُ ... وأبوكَ والثَقلانِ أنتَ مَحمدُ ( تقدير الكلام: كيف يكون آدم أبا البرية وأبوك محمد وأنت الثقلان. وربما يريد أنت الأنس والجن، وآدم واحد من الإنس، وأبوك محمد، فكيف يكون آدم أبا البرية؟ وقد فصل بين المبتدأ الذي هو) أبوك (وبين الخبر الذي هو) محمد (بالجملة التي هي قوله) والثقلان أنت (، وهذا تعسف شديد، ومذهب عن الفصاحة بعيد. ومن المستعجم المبهم قوله: ) وكمْ وكم حاجةٍ سمحتَ بها ... أقربُ مني إليَ موْعدها ( وهذا من مستهجن الكلام، ومستكره التركيب. وإنما ذهب إلى مصر عمر موعده، وقرب وعده في إنجازه، فأساء العبارة عن هذا المعنى كل الإساءة. ومن هذا الجنس قوله: ) وأبعدَ بٌعدناَ بعُدَ الّتدّاني ... وقرَب قرْبناَ قربَ البعادِ ( يقول: أبعد ما كان بيننا من البعد فجعله كبعد التداني الذي كان بيننا، وقرب قربنا فجعله مثل قرب البعاد كان بيننا، ذهب إلى أن قربه إليه كان بحسب ما كان بينه وبينه من البعد. ومن أسوأ العبارة قوله يصف فرساً: ) سَبوحُ لها منها عليهاَ شَواهدُ ( وقوله: ) اخترتُ دَهماءَ تَين يا مطرُ ... ومنْ له في الفواضلِ الخبرُ (

يريد: اخترت الدهماء من هاتين الفرسين يا رجلاً يجري في جوده مجرى المطر وهذا كلام يشهد تكلفه واستكراهه ببعده عن مدرجة البيان. ومن كلامه الهجين قوله في هجاء ابن كيغلغ: ) وإذا أشارَ محدثاً فكأنهُ ... قرْدٌ يقهقهُ أو عجوزٌ تلطمُ ( فقال أبو الطيب: أما طالعت في هذه القصيدة قولي: ) يحمي ابن كيَغلغَ الطريقَ وعرْسهُ ... ما بينَ رِجلهاَ الطرّيقُ الأعظمُ ( فقلت: هذا من قول الفرزدق: وتركتَ عرْسكَ يا جريرُ كأنهاّ ... للناسِ بارِكةً طريقٌ معملُ فقال جرير يرد فيها عليه: وعجانٌ جِعثنَ كالطرّيقِ المُعملِ وفي هذه القصيدة يقول: ) يرنو إليكَ معَ العفافِ وعندهُ ... أنّ المجوسَ تصيبُ فيما تحكمُ ( وهذا من قول أبي تمام: بأبي منْ إذا رآها أبوها ... أقبلتْ قال ليت أناّ مجوسُ فقال: ما علي حرج في البيت يشذ عن مدرجة الإحسان، واللفظ يند عن شرك البيان. قلت فأخبرني عن قولك: ) بليتُ بلى الأطلال إنْ لم أقفْ بها ... وقُف شحيحٍ ضاعَ في الترْبِ خاتمُهْ ( كيف قلته أشحيح أم شجيج؟ فقال: أنا قلته بحاء لا غير، هذا معنى اخترعته: إنما اجتذبته من قول هميان بن قحافة: فُهنّ حَيرى كَمُضلاتِ الخَدمْ فبين اللفظتين بون بعيد وقد أوحشت في قولك: ) بَليتُ بلىِ الأطلالِ إنْ أقفْ بها ( وأسأت في العبارة عناّ أخذته فأتممت البيت به. فانظر إلى قول أبي نؤاس في منى بيت هميان، ما أعجبه وأحسن مذهبه وأفصحه وأوضحه حين يقول: لقد طالَ في رسْمَ الدّيارِ بكائي ... وقد طالَ ترْدادي بها وعنائي كأني مُريغُ في الديارِ طَريدةً ... أراها أمامي مرةً وورائي قلت: وقد كررت معنى قولك:) بليتُ بلي الأطلال (فقلت، إلا أنهُ لم يأت موجزاً إيجازك فيما تقدم: ) ما زالَ كلُ هزيمِ الوَدق ينُحلها ... والسقمُ ينحلني حتى حكتْ جسدي ( وقد عمدت في هذا البيت إلى أحسن بيت وأشرفه عبارة، فأعدته في عبارته في عبارة مجتذبة، وألفاظ غير مستعذبة. قال محمد بن وهيب: طَللاِنِ طالَ علَهما الأبدُ ... دَثرا فلا علْمُ ولا قصَدُ لبساَ البِلى فكأنّما وجدَا ... بعْدَ الأحبةِ مثلَ ما أجدُ فلو لم يكن في هذين البيتين من محاسن اللفظ إلا قوله:) لبسا البلى (فإنها استعارة واقعة حلوة. ولو شاء قائل إنها في هذا الموضع أحسن موقعاً منها معها في قول الجعدي: لَبستُ أناساً فأفنَيتُهْم ... وأفَنيتُ بعدَ أناسٍ أناساَ أو من قول الآخر: ما الضّجيعُ ثناها إليَهِْ ... تدَاعَتْ عليَهِ فكانتْ لباساَ على أن بعض العرب قد قال وأوفى على كل مقال: ألمْ تَرَ أنّ الريْحَ بينَ مُوَيسلٍ ... وجاَوا إذا هبتْ عليك تطيبُ وأحسن الآخر كل الإحسان بقوله: لمنْ طللُ وقَفتُ بهِ طريقاَ ... أسائلُ ربعُه الخلقَ السّحيقاَ لسَمىَ لا تَغَيرَ ربعُ سلمىَ ... وألبَسَتَ الرَواعدَ والبرُوقاَ وقول محمد بن وهيب: لبساَ البلَ فكأنّما وَجداَ مأخوذ من قول معلى الطائي: لَبسنَ البلىِ حتى كأن رسومهاَ ... طَعمنَ الهوىَ أو ذُقنَ هجرَ الحبائبِ ومن هذا أخذ البحتري قوله: بينَ الشقّيقةِ فاللّوىَ فالأجَرعَِ ... دمنُ حبُسنْ على الرّياحِ الأربْعِ فكأنّما ضَمنتْ مغانيَها الذي ... ضمنتهُ أحشاءُ المحبّ المُوجعِ وكإساءتك في أخذ هذين البيتين في قولك: ) وكمْ للهوىَ من فتىً مدْنفٍ ... وكم للنوّى من قتيلٍ شهيدِ (َ فإنّك سرقت عجز هذا البيت افحش سرقٍ من جميل، ومن محاسن قوله: لكُلّ حديثٍ بينهنّ بشَاشةُ ... وكلٌ قتيلٍ عندهنّ شهيدُ وما كنت أرى ذا رويةٍ يستجيز أن يهتك حرمه هذا البيت، ويأتي إلى هذه الألفاظ الرطبة العذبة فيحيلها إلى ذلك اللفظ السفساف والنظم المتهالك ومن تبديله الحسنة بالسيئة قوله ) تهَلَل قبلَ تسليمي عليْهِ ... وألقى مالهُ قبلَ الوِسادِ ( ولولا تسمحه في تناول هذه المعاني التي تقدم أربابها فيها، وسبق إلى اختراعها، لخل لسانه كما يخل لسان الفصيل الملهج: وما يصنع بقوله: ) تَهَلل قَبلَ تسليمي علَيهِ ( مع قول زهير:

تراهُ إذا ما جئتهُ متَهَللاً ... كأنك تعُطيهِ الذي أنتَ سائلهْ وقد أخذ قوله: كأنّكَ تُعطيهِ الذي أنتَ سائلُهْ شاعر فقال في الّسري بن عبد الله: كأنّ الذي يأتي السَريَ بحاجةٍ ... أناخ عليهِ بالذي جاء يطلبُ وأخذه الكميت فقال: كأنما جئتُهُ أبشرهُ ... ولم أجيءُ راغباً ومُجتلباَ ومع قول بعض العرب: إذا ما أتاهُ السّائلونَ توقَدَتْ ... عَليهُ مصابيحُ الطّلاقةِ والبِشْرِ لهُ في ذوي الحاجات نُعمى كأنّها ... مَواقعُ ماء المُزنْ في البلدِ القفْرِ ومما سرقه فلم يزد على أن كرر لفظه في غير وزن البيت المسروق منه قوله: ) فإن الجُرْحَ ينفرُ بعَد حينٍ ... إذا كانَ البناءُ على فسادَ ( فإنّك أخذته لفظاً ومعنىَ من قول البحتري: إذا ما الجْرحَ رُمّ على فسادٍ ... تَبينَ فيهِ تفرَيطُ الطّيبِ ومن هذا النوع قولك: ) فمَضَتْ وقد صبَغَ الحَياءُ بياضهاَ ... لَوْني كما صَبَغَ الٌلجينَ العَسجدُ ( فما تصنع بهذا مع قول ذي الرمة: حَوْراءُ في برَجٍ صَفراءُ في نعَجٍ ... كأنّها فضةُ قد مَسهاَ ذهبُ ومن هذه الجذوة اقتبس بشار قوله: قد لَحّ بي في لعبِ ... ذو راحةٍ من تَعبِ جسْمٌ من الفّضةِ قد ... تشَرْبتْ بالذهَبِ ومن هاهنا نقل أبو الشيص قوله في صفة الخمر: كأنما أقداحهاُ فضِةٌ ... قد بطّنتْ بالذهبِ الأحمرِ ومن تقصيرك في الأخذ قولك: ) لا بقوْمي شٌرْفتُ بل شُرفوا بي ... وبنفسي فَخَرْتُ لا بجدودي ( فإنك أخذته من قول الأول: نَفس عصامٍ سَوّدتْ عصاما ... وعلَمتهُ الكرَ والإقداماَ وجعلَتهُ مَلكاً هُماما وما تصنع بقولك وقول غيرك في هذا المعنى مع قول عامر بن الطفيل: فما سَوّدّتني عامرُ عنَ وراثَةٍ ... أبىَ اللهّ أنْ أسموُ بأمٍ ولا أبِ ولكننيّ أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرْمي منَ وماها بمقْنبِ ومن تقصيرك فيما سرقته قولك: ) بانوا بخُرْعوبةٍ لها كَفلٌ ... يكادُ ند القيامِ يقعدها ( فإنك أخذته بقول المحدثين: تَمشي فيقُعدها روَادِفهاُ ... فكأنما تمشي إلى خَلْفِ فهذا هو الإعذار. ألا ترى أنك لم تستوف المعنى لأنك إنما أخذت الشطر الأول الشطر الأول من هذا البيت وغادرت قوله: فكأنمْا تمشي إلى خَلفِ ومن التقصير الشديد قولك: ) أمنَ ازدياركَ في الدَجى الرّقباءُ ... إذ حيثُ كنتِ من الظلامَ ضياءُ ( وهذا من التكلف الشديد، البعيد من اللفظ السديد. ثم قلت: ) قلقُ الملَيحة وهيَ مسكُ هتكهاُ ... ومَسيُرها بليلِ وهيَ ذٌكاءٌ ففي قولك) هتْكها (هتك لحريم ودها. وقد سرقت البيت الأول من قول الشاعر: تَبَسمتْ فانجلى الظلامَ ولمْ ... تَخفْ وقد كان قبل أخفاها ومن قول الآخر: قَمرَ نمَ عَليهِ حُسنهُ ... كيفَ يخْفي الليلُ بدراً طالعاَ وأخذت البيت الثاني من قول بشار: أملي لا تأتِ في قمرٍ ... لحَديثٍ واثقِ الدرُعاَ وتَوقّ الطَيب ليلَكَ ذا ... إنهُ واشٍ إذا سَطعَا وقد أخذ بشار البيت الأول من قول عمر بن أبي ربيعة: قالتْ صَدقتَ ولكنْ في قمرٍ ... ألا تَبصّرتَ حتى تأتي الدرعُ ثم قلت له وأخرى من قولك: ) طَلبَ الإمارةَ في الثغورِ ونشؤهُ ... ما بينَ كَرْخايا إلى كلْواذاَ ( من أين لك هذه اللغة في) كلواذا (؟ ما أحسبك أخذتها إلا عن الملاحين. قال: وكيف؟ قلت: وإنك أخطأت فيها خطأ تعثرت فيه ضالاً عن وجه الصواب. قال: ولم؟ قلت: لأن الصواب كلْواذ بكسر الكاف وإسكان وإسقاط الياء. قال: وما الكلواذ؟ قلت: تابوت التوراة بها سميت المدينة. قال: وما الدليل على هذا؟ قلت الراجز: كأن أصوات الغبيطِ الشاذي ... زَبْرُ مهاريقٍ على كلْوادِ والكلواذ: تابوت توراة موسى. وحكي في بعض الروايات أنّه كان مدفوناً بهذا الموضع، فمن أجله سميت كلوذا. وأطرق لا يحير جواباً ثم قال: لم يسبق إلي علم هذا، وقولك مقبول والفائدة غير مكفورة. قلت: وأخطأت في قولك:

) وَصَلتْ إليكَ يدُ سواءُ عندهاَ ... البازيُ الأشهب والغراب البقعُ ( فإنك شدّدت الياء في) البازي (لا وجه له، ووصلت ألف القطع في الأشهب. ولا أعلم أحداً من الفصحاء شددّ الياء في البازي إلاّ البحتري، وعليه اعتمدت، وعلى لفظ بيته ركنت في قوله: وبياضُ البازيَ أحسنُ لوْناً ... إنْ تأملتَ منْ سوادِ الغُرابِ وقد ردّ هذا على البحتري وخطئ في تشديده الياء. والمسموع في ذلك لغتان: إحداهما بازُ وبزاة كما تقول قاضٍ وقضاة ورامٍ ورماة. قال امرؤ القيس: على بازٍ في السماء محلقُ واللغة الثانية) باز (بالهمز) وأبؤز (، كما تقول كلْب وأكلبُ ويجمع على بئزان جاء ذلك في الشعر الفصيح فقال: لم أقل هكذا وإنما قلت البازي الأشهب بسكون. فقلت: قد قطعت ألف الوصل في البازي الأشهب ووصلت ألف قطع فجمعت بين ضرورتين في بيت واحد. فقال: قد جاء مثل ذلك في اشعر. إنما جاء شاذاً وليس بسائغ لمحدث. فقال: قد قال الطرماح: ألا أيها اللّيل الطويلُ ألا آصبحِ فوصل. فقلت ك الطرماح قروي والرواية الصحيحة: ألا أيها اللّيل الذي طالَ أصبحِْ ... ببسَمٍ وما الإصباحُ فيك بأرْوَحِ قلت: وأخطأت أيضاً في قولك: ) وأنْكَ بالأمسِ كنتَ محتلماً ... شيخَ معدٍ وأنتَ أمْردها ( فإنك أجريت المضمر في قولك) أنْك (مجراه مع الظاهر، وفيه قبح شديد. وإنما يحسن) أنْك (بمعنى أنكّ مع الظاهر، كقول الشاعر: ويوماً تُوافينا بوجْهٍ مقُسمٍ ... كأنْ ظبيةٍ تعطو إلى وارقِ السلَمْ وقول الآخر: وصدرٍ مشرقِ النحرِ ... كأنْ ثدْييهِ حُقانِ فقال: قد قال الآخر: فلْ أنكْ في يومِ الرخاء سألتني ... فراقكِ لم أنجلْ وأنت صديقُ فقلت له: هذا جائز على الضرورة، ووجه جوازه ضعيف جداً. وليس يحمل القياس الشذوذ والضرورات. وعلى أنك نظرت إلى قول أبي تمام: وأنكَ إذا ألبستهُ العزّ منعماً ... وسرْبلْتهُ تلك الجلالةَ مفضلاِ ثم قلت: وأخطأت أيضاً في قولك: ) هزَمتْ مكارِمُه المكارِم كلَها ... حتى كأن المكُرمات قبائلُ ( ) وقتلنَ دفراً والدهيمَ فما ترىَ ... أمُ الدّهيم وأمُ دفرٍ هابلُ ( قال: وما وجه الخطأ؟ قلت ما أردت بقولك) وقتلنَ دفراً والدّهيم (؟ فقال: هما من أسماء الداهية، وقد تسمى الدنيا دفرْاً. فقلت: هذا خطأ في الدّفر لم يقله أحد، ولا رواه، راوٍ، ولا ادّعاه على العرب مدعٍ. فأماّ الدفر فالنّن؛ والخبر عن عمر، رحمة الله عليه و) ادفراه (والعرب تكني الدنيا أم دفرٍ من أجل المزابل التي فيها ويقال: دفرته دفراً إذا دفعت في صدره. وقالوا للأمة يا دفار لنتنها. ويقال: دفراً دفراً لما يجيْ به فلان، إذا قبحت الأمر أو نتنته. وقال صاحب كتاب العين: الدَفر وقوع الدود في الطعام واللحم، والدنيا دفرة أي منتنته. ونحو هذا ذكر ابن دريد في الجمهرة. هذا قول أهل العلم ومستودع كتب اللغة ولا يعلم أحد أنه ادعى أن الداهية تسمى دفراً، ولا أن الدنيا تسمى دفراً. وأما الدهيم فمن أسماء الداهية؛ والأصل في ذلك أن ناقة كانت لبعض الملوك تسمىّ الدهيم، فقتل قوماً وبعث برؤوسهم عليها في غرارة، فلماّ جاءت قالوا: عليها بيض نعام. فقال الرسول: انظروا عما يفرخ البيض. فلما نظر إلى رؤوس أولاده قال: وعنَد الدُهمِ لوْ أحلَ عقالهاُ ... فتصعدَ لم تعدمْ من الجنّ حاديا يريد أن الجنّ تعين على فعل المكروه. ثم كثر تشاؤمهم بهذا الاسم حتى جعلوا الداهية دهيماً. فقال: إذا كانت الدنيا تكنى أم دفْرٍ، سميت أيضاً بدفر من أجل أن كناهم لهذه الأشياء. فقلت: الأمر على خلاف ما تخيلته، ولو كان الأمر كذلك لسميت الدنيا شملة، لأنهم قد كنوها أم شملة. أنشدنا محمد بن الحسن بن مقسم، قال: أنشدنا أحمد بن يحيى، ابن الأعرابي: من أمّ شَملةَ ترَميْنا بوائقُهاُ ... غرّارةٍ رئيَتْ منها التّهاويلُ ولكانت الخمر تسمى خلاً، من أجل أنهم كنوها أم الخل كما قال الشاعر: رَمَيتَُ بأمَ الخلّ حبهَ قلبهِ ... فلمْ يستفق منها ثلاث لياَلي

ولم يدع ذلك أحد من العلماء ممن يستضاء بنوره، ويورد نمير مائه. ولكانت هذه الدنيا تسمى حبيناً، لتكنيتهم إياها بأم حبين. ولكانت الحمى تسمى ملدماً إياها ملدم. فقولك:) أم الدهيم وأم دفر هابل (لا انتظام لمعناه ومحصول المعنى في بيتك أن أم النتن وأم الداهية ثاكل. وهذا من المعاني الممقوتة التي تصم ناطقها، وتهين قدره، وتسم بميسم النقص شعره، لأنه قد جمع فساد المعنى والطاء في اللغة. وفي هذه القصيدة تقول: ) لوْ طابَ مْولدُ كل حيٍ مثلهُ ... وَلدَ النّساءُ وما لهنّ قَوابلُ ( ما أراك أردت إلا أنهن يتسعن حتى لا تحس المرأة عند مخاضها بخروج الجنين عنها. وإلاّ فما وجه سقوط حاجتها إلى القابلة عند ولادتها، أما سمعت قول الأول: حَملتْ بهِ أم ُتباركُه ... فكأنها بالحَملِ لم تدرِ حملتْ بهِ غَرّاءُ مذُكرةٌ ... زَهراءُ بنتُ عقائلٍ زهْرِ فأتيت بما لا يأتي به ذو مرة سوية، ولا قريحة ذكية. وما أحسن ما قال الكروس بن زيد الطائي: لئنْ فَرحتْ ب مَعقلُ عند شدُتي ... لقد فرحتْ بي عند أيدي القَوابلِ أهَلّ به لمّ استهلّ بصوْتهِ ... حسانُ الوُجوه ليَنات الأناملِ فلماّ تردّى بالحمائل وانتحىَ ... يصولُ بأطرافِ الرّماحِ الذّوابلِ تَبَيَنتِ الأعداد أنّ سناَنهُ ... يطيلُ حَينُ حنينَ الأمهات الثواكلِ فأحنقه هذا القول وغير من لونه، واستروح إلى قول حدث مأفون العقل كان بحضرته: سبحان الله ما أعجب أول هذه القصيدة: ) لك يا منازَلُ في القلوبِ منازِلُ ... أقفرْتِ وهنُ منْكِ أواهلُ ( فلم يستكمل البيت حتى قلت له: أعجب منه، أيقظ الله رقدتك، ما استرق هذا منه وهو قول أبي تمام: وَقَفْتُ وأحشائي منَزِلُ للأسىَ ... بهِ وهوَ قَفزٌ قد تعَفتْ منَازلهْ وأبو تمام احتذى في هذا القول ذئب الخزاعي: ألا منْ لطَرفٍ لا يزالُ مسهَداَ ... ويا منْ لقلبٍ لا يزالُ مصيداَ رَماهُ الهوىَ حتى إذا شَكّ قلبهٌ ... تَرَددَ في أحشائِهِ وتَبدداَ بنى ليَ قلبي منزِلً في فُؤادهِ ... وأعطتك من إنسانها العينُ معقدَاَ وإلى هذا أشار قيس بن معاذ بقوله: سَرتْ في سوادِ القلبِ حتى إذا انتهىَ ... بها السير وارتادتْ حمِى القلبِ حلتِ فللْعَينِ تهمْالُ إذا القلبٌ ملّها ... والقلبِ وسواسُ إذا العينُ ملّتِ ووالله ما في القلبِ شيء من الهوىَ ... لأخرى سواها أكثرتْ أمْ أقلتِ وهذا أبو عثمان الناجم يقول على تأخر زمانه: إذا ساءني منهُ شُحوطُ ديَارهِ ... وضاقتْ عليّ في هواهُ مذَاهبي عطفتُ على شخصٍ له غيرِ نازحٍ ... مَنازِلهُ بينَ الحَشا والترائبِ قلت: وأخطأت في قولك: ) مَلكُ زَهَتْ بمكانهِ أيامهُ ... حتى افتَخرْنَ به على الأيام ( وكان من الصواب أن تقول: زهيتْ بمكانه. أتراك مع فضلك وتوسعك في أدبك لم تطالع كتاب) الفصيح (وما تضمنه من قوله:) وقد زهيتَ علينا يا رجل، وأنت مزهو، وكذلك يقال: زهي الرجل وزهيت المرأة كما يقال نخى الرجل ونخيت المرأة من النخوة، فهما منخوان. وقالت عائشة، رضي الله عنها: الحلي مستعار للعرائس وفلانة تزهى أن تلبسه. ولا يقال زها إلا في النبت إذا اصفر وظهر زهوه أي صفرته. ونهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم آله، عن بيع التمر حتى يزهو. وبعض أصحابنا يقول حتى يزهي من أزهى. وذكر أن) يزهو (خطأ والزهو البسر إذا لون. يقال: أزهى البسر، والإزهاء، زعموا، في البسر أن يصفر ويحمر. والأصمعي يقول حتى يزهى البسر، بفتح الهاء، ويأبى ما سواه البسر الأصفر، والزهو الكذب وأنشد: عند ابن عمرانَ زهوُ غُير ذي رُطبٍ ... وعندهُ رطبٌ في النخلُ ممنوعُ يقول عند كذب لا بسر. وقال الآخر: ولا تقَولَن زَهُر ما تٌحدًثٍناُ ... لم يتركُ الشًيبٌ لُي زهراً ولا العورُا والزهو أيضاً: المنظر الحسن؛ والزهو الفخر، قال الشاعر: متى ما أشأ غيرً زهوٍ الملوكٍ ... أجعلُك رَهْطاً على حيُضِ

والزهو أيضاً أن تشرب الإبل ثم تمد في طلب المرعى ولا ترعى حول الماء. يقال: زهت الإبل تزهواً. والريح تزهي النبات إذا هزته. والسراب يزهي الرفقة كأنما يرفعها، والأمواج تزهي السفينة. قلت: وأخطأت أيضاً في قولك: ) وضاقتِ الأْرْضُ حتى صارَ هارِبهمُ ... إذا رَأى غيرَ شيء ظَنُه رجٌلا ( أفتعرف مرئياً يتناوله النظر لا يقع عليه أسم شيء. وأحسبك نظرت فيه إلى قول جرير: ما زِلْتَ تَحسَب كُلُ شيء بعَدهًم ... خَيْلاً تكرَ عليكمُُ ورِجالا فأحلت المعني عن جهته، وعبرت منه بغير عبارته. وقول جرير من التخيل المليح. وزعم الأخطل أنه أخذه من قول الله تعالى:) يحسبون كل صيحة عليهم (، وخليق أم يكون أخذه من قول العوام بن شوذب الشيباني: ولوْ أنهًا عُصفورَةٌ لحسَبتَها ... مُسَوًمَةً تدًعو عُبيًداً وأزْنَماَ ومن التخيل المليح قول الآخر في تخيل السكران: وما زِلت أسقي الرًاح حتى حسَبتُني ... أميراً على منً شِيتُ أنْ أتأمرَا وحتى حسبتٌ اللًيلَ والصبُح مقٌْبلاً ... حصانَينٍ مختالًينٍ جَوْناً وأشْقَرَاَ ومما يستحسن في هذا المعني قول ثابت قطنة: تنَشيتُ حتى خلتُ أنَ مطَيُتي ... لها سَبْعٌ آذانِ نَبَتنْ لها بعَدي وحتى حسًبتٌ البرٌ بحراً وخلتٌني ... أنوطٌ النجُومَ الزُهر في طرفَي بُرْدي وأشدني أبي قال: أنشدني أبو عمر بن سعد القطربلي الكاتب قال: أنشدني ثعلب لطحيم الأسدي، وينسب هذا إلى ابن الأعرابي: ومستطيلِ على الصًهباء باكرها ... في فتية باصطباحِ حذاُقِ فكُلَ خَلْقٍ رآهُ ظَنهٌ قدًحاً ... وكلُ شخصٍ رآهُ خالهَ السُاقي حتى حساها فلم يلثْ وما برِحتْ ... أن غادرَتهْ صرَيعاً ما له راقي ثم قلت: وأخطأت في قولك مخاطباً كافوراً الإخشيدي: ) يفَضَحٌ الشمَس كلًما ذرًتِ الشُمسْ ... بشَمْسٍ مُنيَرةٍ سَوْداء ( فكيف توصف الشمس وصبغا البياض والضياء بالسواد؟ وما وجه استعارة المس للأسود إن كنت ذهبت في ذلك إلى الاستعارة فقال إنما ذهبت إلى قول النابغة: فإنك شمس والملوكُ كواكبَ ... إذا طَلَعتْ لم يبَد منهن كوْكَبٌ فقلت له: إنما ذهبت في هذا إلى أنه في مجده وسؤدده وبإضافة الملوك إليه كالشمس التي تستر النجوم عند ظلوعها. وأنت لم ترد إلا أن هذا الممدوح في أوضافه يفضح الشمس طالعة، وهو مع ذلك شمس سوداء، والشمس لا تكون سوداء إلا في حال كسوفها. ولم تذهب في هذا إلا إلى سواد جلدته، وقد أنبته في ظاهر الكلام بقولك) سوداء (تأنيباً، عاد) معه (المدح هجاء، ولا فرق عندي بين قولك هذا في مدحه، وقولك في الكلمة الأخرى في ذمه. ) إن امرأ مَرْأة حُبلي تُدَبُرهُ ... لمسُتَضامُ سخَينُ العينِ مفَئودَ ( قلت: وأخطأت في قوله مفتتحاً قصيدة امتدحت هذا الرجل بها؛ فإنك قلت: ) كفى بك داءً أن ترَى الموْتَ شافيا ... وحسَْبُ المنَايا أن يَكنً أمانيا ( فإنك افتتحت مدحه بما تفتتح به المرائي واحتسبته كان طعمة المنايا عن قليل من مواجهته بها. ومن سبيل الشاعر أن يتحرى لقصيدته أحسن الابتداء كما يتحرى لها أحسن الانتهاء عند بلوغ حاجته، وأن يجعل افتتاح كلامه أحسن ما يستطيعه لفظاً ومعنى. وأن يبتدئ قصيدته بما شاكل المعنى الذي قصد له. فإن أبا نؤاس لو كان معاتباً بقوله: أربَعَْ البِلى إنَ الخُشوعَ لبَادي ... عَلَيكَ وإنًي لم أجنُك ودِادي أو مستبطئاً، لم يستهجن ابتدؤه هذا، ولم البرمكي منه عند إنشاده إياه هذا الشاعر، فإنه يتطير منه، فلما انتهى إلى قوله: سَلامُ على الدنَيا إذا ما فُقدتم ... بني برَْمَكٍ منِ رائحينَ وغادي استحكمت طيرته، فلم تتصرم أيام حتى أوقع الرشيد بالبرامكة. وكذلك البحري لو كان هاجياً بقوله: لك الوَيْلُ من لَيل تطَاولَ آخرُهْ ... ووَشْكِ ذَوي حَي تُزَم أباعِرٌهْ

لكان محسناً؛ لأن كل صنف من صنوف القول يقضي نوعاً من أنواع الابتداء وضرباً من ضروب الاستفتاح لا يصلح لغيره. وقد قال أبو سعيد لما أنشده: " لك الويل من ليل " بل لك الويل والحرب. فينبغي للمادح المستميح أن يفتتح شعره بما يكون دالاً على غرضه ومشيراً إلى مراده. وألا يشوبه بما يتطير منه ويستجفي في كلامه: كنغي الشباب، وتفرق الأحباب، وذم الزمان، وتقطع الأقران، وذكر الموحش من الأطلال والرسوم العافية البوالي. فقد قيل إن الأسود بن المنذر لما أنشده الأعشى: ما بسُكاء الكبيَرِ بالأطْلالِ ... وسؤالي فمال يَرُدُ سُؤالي ذم هذا الافتتاح وكرهه. وبلغنا عن خلفاء بني مروان أنه استنشد ذا الرمة شيئاً فأنشده: ما بال عينك منها الماء ينسكب فرد فيه وأسكته. وأنشد الجعدي بعض الملوك قصيدته التي يقول فيها: لَبسِْت أناساً فأفْنَيُهُمْ ... وأفنَيتُ بعدَ أناسٍ أناساَ فقال: ذاك لفرط شؤمك. واستنشد أبو دلف بن عيسى راشد بن إسحاق الكتاب بعض ما رثى به متاعه فأنشده: ألا ذهب الأير الذي كنت تعرف فغضت أبو دلف وقال: بل أمك كانت تعرفه. ولما أنشد الأخطل عبد الملك: خف القطين فراحوا منك أو بكروا فقال: بل منك، تطيراً بذلك. وهذه كانت حال جرير معه لما أنشد أتصحو بل فؤادك غير صاحي فإنه رد فيه وقال بل فؤادك. ثم قلت: وأخطأت في قولك: ) أليسَ عَجيباً أنُ وَصفَكَ معُجِزٌ ... وأنً ظٌنوني في معَاليكَ تَظلَعُ ( فاستعرت الظلم لظنونك، وهي استعارة قبيحة، وتعجبت في غير متعجب منه، لأن من أعجز وصفه لم يستنكر قصور الظنون وتحرها في معاليه. وإنما نقلته من قيل أبي تمام فأفسدته: رَقت منُاه طَوْدَ عزَ لوِ ارْتَقَتْ ... بهِ الرُيحُ فتراً لانشنَتْ وهي ظالعُ وقد قال مخلد يصف برية: سماوية تستَنزِل الرًيحُ جودهَا ... وتظلَم فيها الرًيح في واضحِ السُبلِ فقال: إنما جريت على عادة العرب في الاستعمار. فقلت: أجل إلا أنها استعمار مستهجنة قلقة حلت في غير محلها، ووقعت في غير موقعها. والاستعارة إذا لم يكن موقعها في البيان فوق موقع الحقيقة، لم تكن استعارة لطيفة. وحقيقة الاستعمار أنها نقل كلمة من شيء قد جعلت له، إلى شيء لم تجعل له. وهي على ثلاثة أضرب أفتعرفها؟ فقال: ما لي لهذا؟ قلت: فأنا أذكرها ضرورة، لأبين أنك بمعزل عن الإحسان في قولك: ) فإن ظنوني في معاليك تظلع ( فأولها: الاستعمار المستحسنة وهي التي موقعها في البيان فوق موقع الحقيقة كقول الله تعالى) إنا لما طغا الماء (فحقيقة طغا علا. فلما قال تعالى طغا جعله علواً مفرطاً، فصار لهذه الاستعمار حظ في البيان لم يكن للحقيقة. ومن الاستعمار المستحسنة قول الأعشى: ولقد سلَبَتُ الكاعب ... الحسناءَ حسُنَ شَبَابهاِ يريد تمتعت بها إلى أن أفنيت شبابها. وقال أوس بن حجر: ترَى الأرْض منًا بالفضاء مريضةً ... مُعضلًةَ منًا بجَيشٍ عرَمرْمِ فاستعارته للأرض المرض مبالغة في وصف كثرة عددهم ووقع حوافر خيلهم. فكأن الأرض حملت منهم ثقلاً لا تنهض به، فكسبها ذلك مرضاً. وحقيقة المرض النقصان، فكأن استطاعة الأرض عجزت، وقواها قصرت وتناقصت عن الاستقلال بما حملوها إياه وقال الشاعر: ولَيلَةٍ مَرِضَتْ من كلُ ناحية ... فما يضُيء بها شمس ولا قمرُ يريد بقوله " مرضت " نقص ضوءها. ومن الاستعمار اللطيفة قول الآخر: وَرَدنَ لتَغويرٍ وقد وَقَدَ الحصَى ... وذابَ لعُابُ الشمس فوق الجماجمِ فاستعار للحصى وقدة، إخباراً عن توقد الهاجرة. واستعار للشمس اللعاب إخباراً عن شدة الحر، ومن هاهنا أخذت قولك: ) وللشمس فوق اليعملات لعاب ( وقول الآخر: رَأيتُ فَضيلةَ القَرشي لما ... رَأيت الخيل تسُرجُ بالرًماحِ فاستعار للرماح " تسرج "، أي مشعلة، إخباراً عن افتراشها وتلاحكها، وشدة الطعن واستحراره، فكأنها ملتهبة لاصطكاكها وتلاحكها كما قال امرؤ القيس: إذا ركبِوا الخيَلَ واستَلأمٌوا ... تحَرقَتِ واليوْمُ قَرُ النوع الثاني: وهو الاستمارة المستهجنة؛ وإنما سميت مستهجنة لأنهم استعاروا لما يعقل أسماء وألفاظ ما لا يعقل كقول الحطيئة:

فما بَرِحَ الوِلدانُ حتى رَأيتْهُ ... على البَكرِ بساقٍ وحافرِ وهذا الشاعر إنما وصف رجلاً أضيف وأكرم فقال: ما برح الإماء والولدان يكر منه حتى رأيته قد ركب راحلته وانصرف شاكراً عنهم. فالمعنى في نهاية الحسن، إلا أنه قال في آخر البيت " يمريه بساق وحافر " فقبح لما استعار للرجل موضع قدمه حافراً. ومن هذا قول الخطيئة أيضاً: قرَوَاْ جارَك العَيمْان لما جفَوْتْه ... وقلًص عَن بَردْ الشًرابِ مشافِرهْ فجعل له مشفراً في موضع الشفة، ومنه قول الآخر: سأمنعَها أوْ سوْف أجعلَ أمرَها ... إلى ملِكٍ أظلافُه لم تشَقُقِ فجعل للملك ظلفاً موضع الظفر، ولم يقنعه حتى قال: " لم تشقق " والنوع الثالث: من الاستعارة أحسن من الثاني لأنهم استعاروا لما لا يعقل اسماً لما يعقل كقول حميد بن ثور الهلالي: عجبتُ لها أنّى يكون غناؤهاَ ... فصَيحاً ولم تفَغَرْ بمنَطقها فَمَا هذا الشاعر وصف حمامة وأراد أن يقول لم تفغر منقاراً فقال " لم تفغر فماً "، فحسن. ولو قال الإنسان لم يغفر منقاراً لقبح وساء في اللفظ. على أن الأصمعي قد ذكر أن الفلم يستعمل في جميع الحيوان. وقال الراجز يصف فرساً: وهاطلِ الجَرْي أتيِ مقَدمهْ ... ما لثَمَتْ كَيفُ الصُعيدِ قدمهْ فجعل له مكان حافره قدماً، فكان أحسن من قول الآخر في موضع قدم الرجل حافره. قلت: والاستعارة التي استعرتها منافية هذه الأقسام الثلاثة، من أجل أنه ليس للظن فعل حقيقي استعرت الظلع موضعه. وإنما يقال ظن عازب، وظن كاذب، وظن المعي، وظن مصيب. وهذه كلها استعارات واقعة. ولم يسمع من شاعر فصيح ولا عربي صريح: ظن ظالع. واستعارة الظلع للريح وإن كانت بعيدة أولى وأقرب، ومن أجل أنه يقال: ريح حسرى، وريح مريضة يراد كلالها ونقصان هبوبها، فجاز أن يوضع مكان الكلال الظلع، لأنه من جنس قصور الهبوب. وكذلك الظلع في الريح موضوع غير موضعه، وإنما يقال في هذا المعنى ريح حسرى؛ وحسرى ليست على الحقيقة إنما تورد استعارة. وموقع تحسر في البيان أحسن من موقع تظلع. فأبدلت استعارة واقعة لطيفة من قولهم: ظن عازب، وظن كاذب، وظن المعي ومصيب، باستعارة خافية بعيدة من قولك:) في معاليك تظلع (. وحال القدم والحافر والفم والمنقار فائدة الحال، لأنها أسماء مستعارة وضعت مواضع أسماء حقيقية ومن الاستعارة البعيدة قولك: ) أسَدُ الأسدِ الهزِبَرِ خضِابًهُ ... مَوْت، فريصَ الموْت منه يُرْعَدُ ( فجعلت للموت فريصاً وهي جمع فريصة، والوجه أن تجمع فريصة على فرائص، والفريصة لحمة تحت الكتف يقال إنها مقتل، وهي استعارة بعيدة جداً. فضل عن الجواب، واستبهم عليه إقليد هذا الباب، وسمع ما لم تجر سعادته باستماع مثله، لأن الوادي الذي يسلكه في شعر مباين له. وإذا تكلف هذا المضمار، وتعاطى الصنعة في شعره، ولم يحسن إحسانه فيها جرى في على شاكلته الأولى. ألا ترى إلى قوله: ) وقَيبَ كُماً قَبُلَ الُرْب قَبلَهُ ... وكُلُ كَميِ واقِفُ متُضائِلُ ( فجانس بقبل وقله وبكم وكمي فلم يصف لفظه، ولا ما لأه على الإحسان طبعه، وانقطعت دون الإصابة مادته. ثم قلت له: وأخطأت في قولك: ) لأْمَةُ فاضَةُ أضَاُة دِلاصُ ... أحكمَتْ نسَجهَا يدَا داودِ ( من أجل أنه لا يقال درع فاضة، إنما يقال: مفاضة، وجمعها مفاض. ويقال الدرع أيضاً فضفاضة وفضافضة إذا كانت واسعة. وقال أمرؤ القيس، وبعض أصحابنا يرويها لأبي داود: وأدْدْتُ للحرْبِ فضَفاضَةً ... تضَاءلُ في الطي كالمبِردَِ فإن كنت اشتققت فاضة من قول امرئ القيس: تفضُ على المَرْء أرْدانهُا ... كفَيضِ الأتي على الجٌدْ جدٌِ فالوجه أن يقال فائضة لا فاضة. ولم تأت هذه الكلمة في شعر عربي صريح، ولا في كلام مولد فصيح. ولا سمعنا بفاضة إلا من بيتك هذا، ومن بيت أبي الشيص: ومنُازِلِ للقِرْنِ يَحسَبُ فاضَةً ... علَقِِ النجيِعُ بثَوْبِها الفضفاضِ وأبو الشيض مستعمل من هذه اللفظة ما لا أصل له، وليس يجوز في اللغة. وإنما اعتمد التجنيس فأسقط هذا الإسقاط. ثم قلت: وأخطأت أيضاً في قولك: ) فإنْ نلتُ ما أملًتُ منكَ فرٌبُماَ ... شرِبْتُ بماءٍ يعجِزٌ الطُيرَ وِردهُ (

قال: وما وجه الخطاء؟ قلت إنك جعلته يخيلاً لا يوصل إلى شيء من جهته. وشبهت نفسك في وصولك إلى ما وصلت إليه منه بشربك من ماء يعجز الطير ورده، لبعد مشربه وترامي مطلبه. وأخطأت في قولك مضللاً: ) فلُينَ كل وردنيةٍ ... ومصَبوحَةٍ لَبَنَ الشُائلِ ( والشائل: هي التي شال لبنها من النوق. ارتفع. وجمع الشائل: شول، وهي القليلة اللبن من النوق وقد شولت: إذا قل لبنها. فكيف خصصتها بلبن الشائل مع قلته وارتفاعه. وكان الأولى أن تجعلها غزيرة لا بكيئة، كما قال مطير بن الأشيم وكان وصافاً للخيل: قَصَرْتُ لها أرْبعاً جلِةً ... وأكتبت حافرَها أن يَرٌوداَ وقلتُ لقَيمعِا رَوها ... صَوِيحاً ولا تَسْأ منْ أنْ تَزيدا فلم يرضه أن يقصر عليها واحدة حتى ذكر أربعاً لصنعها. وأنت لما اقتصرت بها على واحدة جعلتها شلائلاً. فقال: إنما أردت تؤثر باللبن مع قلته وارتفاعه على العيال لعتقها وكرمها. فقلت: وأنت إذا أردت ذلك وذهبت إليه تخبر عن اللزبة والشدة وانقطاع الألبان، وهذا مقصر بالفرس مع إيثارها وناقض من صنعها ومخل بقوتها، وأحمد منه مطير وأدل على حسن الصنع. ويقال ناقة شائلة وشائل أيضاً وجمعها شول وشائلة للتي شالت يذنبها، ليعلم أنها لا قح وجمعها شول قال أبو النجم: كأن في أذنابهِنُ الشُولِ ... من عبَسِ الصُيفِ قرونَ الأيلِ ثم قلت: وأخطأت في الكلمة التي أولها: ) كد عواك كل يدعي صحة العقل ( بأن قلت: ) تُمِرِ الأنابيتُ الخَواطرُ بَينَنَا ... وتذَكُرُ إقبالَ الأمير فتحلَوْ لي ( فإنك أتيت ببيت مردف في قصيدة غير مردفة، وهذا شاذ. فقال: هذا وإن كان شاذا كما ذكرت، فإنه عذب على اللسان غير قلق في الإشادة، وقد جاء مثله للعرب: وبالطوْفِ نالا خيرَ ما نالهَ الفتى ... وما المرْءُ إلاَ بالتقلُبِ والطُوْفِ ثم قال: فرِاقٌ حبَيبِ وانتهاء عنِ الهوَى ... فلا تعَذَليني قد بَدا لكِ ما أخفْي فقلت: لعمري إن قوماً لا علم لهم يرون هذا شاذاً، ولا يرون الواو المفتوح ما قبلها ولا الياء شاذاً ردفاً، يزعمون أنهما ليسا بحر في مد، لأن الصوت لا تمتد بهما كامتداده بالياء والواو المكسور والمضموم ما قبلهما. وذلك غلط من قائله إذ فتح ما قبلهما عن جنسهما إذا كانت مخرجهما في الحالين من مكان واحد من الفم، فصورتهما في اللفظ واحدة وإنما الفتحة تنقلهما قليلاً، فلا يمتد الصوت بها كل الامتداد، ولكنه يمتد امتداداً يسحقان به أن يسميا حرفي مد. فإذا جاء للعرب بيت فيه ردف مع ما لا ردف فيه معاً واعتد شاذاً، كما لهم الإقواء والإكفاء والإيطاء، فليس لمحدث أن يرتكب مثل ذلك، ولا يسمح في قوافيه بشيء من المعائب، وإن كانت موجودة في أشعارهم على طريق الشواذ. ألا ترى إلى قول ابن بيض يخاطب خالداً القسري وكان حبسه: شاحِبُ باطِنٌ كصَدرِ يمَانٍ ... صارِمِ الوَقع لُف في غيرِ جفَنِ ومتى تَم عادَ عصَباً حُساماً ... وجَلا شَفرتَيِه حد المِسَن لم يكُنْ جناِيَةٍ لحقَني ... عن يسَاري ولا جنَتها يميني بلْ جنَاها أخْ وخِل كَريمُ ... وعلى أهلها بَراقِش تَجسْني أفيجوز لمحدث أن يأتي بمثل هذا ويحتج به أو بمثله؟ كلا. فقال: قد أكثرت القول فيما لا أعتد بشيء منه، وإنما أجري على طبعي، وأقول ما يسوغه لساني. ومما يتعلق به عليه في التقفية قوله: ) أنا بالوٌشاةِ إذا ذكرَتٌكَ أشبَهٌ ... تأتي النُدىَ ويذاعُ عنَكَ فتَكْرهُ ( ) وإذا رأيتُك دونَ عِرضٍْ عارِضاً ... أيقَنْتُ أن الله يبَغي نصَره ( ما حرف الروي في هذين البيتين؟ قال: الهاء. فقلت له: فإن جعلت الهاء حرف الروي لم يجز ذلك. لأن هاء الضمير لا يكون روياً، إلا إذا سكن ما قبلها كقول طرفة: ألا يا أيها الظبي الذي يبُرِقُ شَنْفاهٌ ولولا الملًكٌَ القاعدِ ... قد ألشَمَني فاهُ

فإن جعلت الراء حرف الروي والهاء صلة، وهو الوجه، فما تصنع بقولك:) إذا ذكَرْتكَ أشْبهُ (اللهم إلا أن تذهب إلى أن تذهب أنه لم يصرع. فأقبل علي وقال: أنصفْ فإن النصفة من شيمك، وأنعم النظر إنعام مثلك ممن تقدمت في العلم قدمه، الإشارة إلى موضعه ولا تسلط الهوى على الرأي من الذي تناسبت مبادهيه، وتشابهت أعجاز شعره وهوادبه؟ ومن ذا الذي برئ من معاب؟ وساء من يتبع ناظماً كان أو ناثراً من الشعر كان أو آخراً وما أنا ببدع منهم. وإذا أنصفت من نفسك، وألقيت رداء الحمية عن كاهلك، ألقيت نفسك في جميع ما عددته من سقطاتي، ونعيته من أبياتي، محجوجاً. لأن من أحسن في الكثير، اغتفرت إساءته في القليل اليسير. هذا امرؤ القيس وهو إمام الشعراء، والفائق لهم أكمام المعاني، وربّ القصب والسبق إلى كل لفظ مهذب، ومعنى مخترع، وتشبيه مخترع مبتكر، قد أحسن في مواضع، وتوسط في مواضع. وأساء في حال، كما أحسن في حال. أليس هو القائل في كلمته البائية: ألم تَرَ أنّي كلُما جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طيباً وإن لم تطَيّبِ فقس هذا بقوله في وصف هذه المرأة: عَقيلةُ أترابٍ لها لا ذَميمةُ ... ولا ذاتُ خلقٍ إن تأملتَ جأنَبَ وهو القائل فيها يصف فرساً: إذا ما ركبنا قالَ ولْدانُ أهلناَ ... تعَالوْا إلى أن يأتيَ الصيدُ نحطبِ وهذا نهاية الوصف في الثقة يسبق الفرس وإدراكه ما يطلبه. فقس هذا بقوله في وصف هذا الفرس فللزّجرِ ألهوُبُ وللساقِ درِةُ ... وللسَوطِ منهُ وَقعُ أخرجَ مُهذبِ وهو الذي يقول في اللامية يصف عقاباً: تصَيدُ خزّانَ الأنيْعمِ بالضّحى ... وقد حَجَرتْ منها ثعاَلبُ أورالِ ثم قال في أثره: كأنّ قُلوبَ الطّير رَطْباً ويابساً ... لدى وكرِها العُنّابُ والحشفُ البالي فما أبعد ما بين البيتين، وأشد تنافي ما بين الكلامين، وهو الذي يقول: منِ ذكْرِ ليلىَ وأينَ ليلىَ ... وخيرُ ما رُمتَ ما ينالُ وهذا من أحسن كلام وأسهله وأجزله، وأشرده مثلاً، وأعذبه نهلاً. وقال في الأخرى في نحوه: أمنِ ذكرِ ليلى إذ نأتْك تنوصُ ... فتقصرُ عنها خُطوةً وتبوصُ تَبوصُ وكم من دونِها من مفَازةٍ ... ومن ارضْ جدبٍ دونها ولصوصُ فتأمّل تفاوت ما بين الكلامين، وبعد منزلتها في البلاغة. فقلت له: فما في هذا من لعب؟ فقال: لعمري إنه لا عيب فيه، ولكنه ليس كالأول ولا مقارباً له. فقلت له: على ذاك فلم يحل كما أحلت ولم يخطئ كما أخطأت. فقال: كذاك، وهذا النابغة الذبياني، وقد اعتده قوم أشعر من امرئ القيس، واعتده آخرون تالياً له، وإلى هذا ذهب يقول في كلمته العينية التي سارت مسير الشمس: فإنك كالليلِ الذي هوَ مدْركي ... وإن خلتُ أن المنتأى عك واسع فهذا عين من عيون الشعر الناظرة، وغرة من غروه الشادخة. ثم قال في أثره فسقط دونه سقوطاً تشهد به: خطاطيفُ حُجنُ في حبالٍ متينةً ... تمدُّ بها أيدٍ إليك نوَازعُ فقلت: وما في هذا البيت؟ إنما ذهب في هذا إلى أنه في قدرته عليه كالذي في يده خطاطيف معوجة يجذب بها ما شاء جذبه من قليب وغيره. ومن هاهنا أخذ الأول قوله يصف فرساً: صَبحتْهُ قَبل أن تلغىَ عصافُره ... مسُتخفياً صاحبي وغيرهُ الخافي لا يُوئل الَوحشَ منه أن يلاوذهُ ... كأنهُ معلقُ منها بخطافِ فقال: ومما سبق إليه النابغة واتبعه الناس فيه قوله: على أنّ حجْليها وإن قلُتَ أوسعاَ ... صموتانِ من ملئٍ وقِلهِ منِطقِ ثم قال وأساء وأبعد: إذا ارتعَشَتْ خافَ الجَبانُ رِعاثهاَ ... ومنَ يَتعَلقْ حيثُ علقَ يفرقِ لأن هذا دليل على إفراط طول العنق. فقلت له، وأي دليل في لبيت على إفراطه وخروجه عن حدّ الاعتدال المستحسن في مثله. وإنما ذهب إلى أنها عيطاء جيداء، فقد جمعت إلى جيد العنق طول القامة فبعد مهوى قرطها من أجل تمام خلقها وطول عنقها. وارتعثت بقرط فيخاف الجبان من أهلها ومن يلي أمرها من والد ووالدة وحاضنة ضياع رعاثها. فحذف، إذ كان فيما بقي من الكلام دلالة على ما حذف منه. فاستحسنت الجماعة ذلك. ثم قال: هذا زهير ومكانه من الحذق وتصفية الشعر وتهذيب اللفظ المكان المتعالم يقول:

على مكُثريهمِْ حقُ مَنْ يَعتربهمُ ... وعندَ المقُليّنَ السّماحةُ والبدْلُ سعىَ بَعدهم قوْمُ لكيْ يُدرِكوهمُ ... فلم يَفعلوا ولم يلاُموا ولم يألُوا فماَ كانَ منْ خيرٍ أتوهُ فإنماّ ... توَارثَهُ آباءُ آبائهمْ قبْلُ وهلْ ينْبتُ الخطََي إلاّ وشيُجهُ ... وتُغرَسُ إلاّ في منابتِها النّخْلُ قال: وهذا من سرّ الكلام وجوهره ثم قال في هذه الكلمة: فأقسَمتُ جَهداً بالمحصبِ من مِنيَ ... وما سُحفَتْ فيه المقاديمُ والقَمْلُ وهذا من أوضع وأرذل لفظ. فقلت: ما فيه مما يستجفى إلاّ قوله) القمل (، وما سوى معنى ذلك فإنما جرى فيه على عادة العرب في أقسامها وزهير القائل: سواءُ علهِ أيَ حين أتيتْهُ ... أساعَةَ نَحسنٍ تتُقى أمْ بأسْعدُِ فلوْ كانَ حمدُ يخلدُ المْرْءَ لم يمتْ ... ولكنّ حمَدَ المْرءِ ليس بمخلدِ فقال: وهذا لفظ شريف انتظم مثلين شرودين سارا شرفاً وغرباً ثم قال فيها: تقيُ نَقيُ لم يكثرْ غَنيمةً ... بنَكْةِ ذي قربىَ ولا بحقلَّدِ قال: وكان هذا اللفظ مع جفائه وقلقه لم يجتمع وما تقدم من ذلك اللفظ الجزل في صدر واحد فقلت: إنما جرى الرجل في قوله) بحقلد (، وهو الضيق السيئ الخلق، على لغته ولسانه. من أجل أنها لفظ غريبة وجب أن تنعى عليه إلى مساويه. والمعنى في هذا البيت لطيف؛ وذاك أنه أراد أنه لا يظلم قريباً ولا وحيداً ولا ينتهك حقه من غنيمة يشهدها معه استضعافاً له وتسلطاً عليه واستيلاء على نصيبه تكثراً منه لمنعمه وتوفيراً لمرباعه. فنفى عنه ما يسف إليه غيره فقال: ومن أبياته السائرة التي لم يسبق إليها ولم ينازع فيها: فإن الحَقّ مقَطعَةُ ثلاثُ ... يَمينُ أوْ نفارُ أوْ جلاءُ يريد أن الحقوق إنما تصح بواحدة من هذه الثلاث، إما يمين أو محاكمة أو حجة، قال: وفيها يقول: تلُجْلجُ مضُغةً فيها أنيضُ ... أصَلتْ فهي تحتَ الكشحَ داءُ تلجلج: تحركها ولا تزدرها وأنيص: لم ينضج. وأصلت: أروحت. وفرقان ما بين هذا وبين ما تقدم غير خافٍ على من تعلق بالعلم وانتسب إلى أهله. فقلت: لا أعرف متعلقاً على البيت أكثر من استعماله ألفاظاً من اللغة غير وحشية ولا مهجورة. والمعنى على ذلك مستحيل ولا هجين فنا وجها لتعلق عليه مما لا متعلق فيه؟ فقال: وهذا الأعشى، أنسبهم وأهجاهم وأمدحهم، وهو القائل: كلا أبويكمُ كانَ فَرْعاً دعامةً ... ولكنهمّ زادوا وأصبحت ناقصاَ تبيتونَ في المشيَ ملاءً بطونكُمْ ... وجاراتكُمْ غرَثىْ يبَتنَ خمائِصاَ وهذا من أهجى بيت قيل في غير فحش. وهو القائل: فتىَ لوْ يناُدي الشمّس ألقتْ قناعهاَ ... أو القَمَرَ السّاري لألقَى المقالِداَ فقال بعض من مضر: ما معنى) ينادي (؟ فقلت: يجلس معها في نادٍ واحد، وهو المجلس. قال: فما معنى) قناعها (؟ فقلت: أراد ضوءها فقال: فما قوله) لألقى المقالدا (؟ فقلت: يريد سلم الحسن إليه وفوضه، كما يقال: ألقيت مقاليدي إلى فلاف، أي فوضت أمري إليه. فقال أبو الطيب كأن الكلم وقوله لم يجتمع في خاطرة واحدة ولا قذفت بهما فكرة، فإنه قال مادحاً علقمة: وهل تنكرُ الشّمسُ شمسُ النهّر ... والقمرُ الباهرُ الأبَرصُ ولو كانت لفظة الأبرص في كتاب الله تعالى لكدرت شرب بلاغته ولما أراده الله تعالى ذكره، كنى عنه بأحسن كتابة من قوله جل اسمه) بيَضْاء مِنْ غَيرِْ سوء (وقال أيضاً: فرَمَيْتُ غَفْلةَ قَبلهِ عن شاتهِ ... فأصبَتْ حبةَ قلبهاِ وطحالهاَ فقلت: إنه إنما خص الطحال لأنه مقتل. فقال: هب ذاك كذاك، أما لفظة الطحال بعيدة عن ألفاظ المحبين؟ ثم قال: فهؤلاء المبرزون في حلبات الشعر، السابقون إلى حلو القول مره، والذين وقع الإجماع على تقدمهم في ضروبه وفتحهم ما استغلق من أبوابه، ليس منهم إلاّ من قد طن على شعره، ومن أخل بالإحسان مع تناصر إحسانه. والكلام كله لا يجري على سنن واحد، ولا يأتي متناصفاً ولا متكافئاً، ولا بد من سقطة يهفو بها خاطر، وعثرة يزل بها لسان. ومن هذا الذي تناسب كلامه، أو سلم من التتبع شعره؟ وما أنا ببدع منهم، وإذا أنصفت من نفسك ألفيتها محجوجة.

فقلت له: أما ما تخيلت أنك تتبعته على هؤلاء الأربعة الذين هم فرسان الشعر وأمراء الكلام، فقد ظلت الشبه في جمعيه، وأوضحت أنهم على مدرجه الصواب فيه. واحتججت في كل بيت بما لو أرعيته سمعك وصرفت إليه تأملك لعدلت عن بيات الطريق وترهات القول وزخارف الظنون، وعلمت أنه لا مماثلة بين الذي أوردته محتجاً به وبين ما تعلقت به عليك. لكنك تجري شأو الجموح عجباً بنفسك، ورمياً بهمتك إلى حيث لا مرقى لها. وتضعها بحيث لا تستحق وضعها به وتزنها بالميزان العائل تفخيما لها. وقلت: وقد أخطأت أيضاً في قولك: ) ابْعدْ بعدت بياضاً لا بياض لهُ ... لأنتَ أسَودُ في عينيَ منَ الظُلمِ ( وهو على ما فيه مأخوذ من قول أبي تمام: لهُ منَظرُ في العينِ أبيضُ ناصعُ ... ولكنهّ في القلبِ أسودُ أسفحُ فعمدت إلى هذه الألفاظ السليمة الكريمة، فأوردتها في عبارة فاسدة غير مستقيمة وقولك) لأنْتَ أسْودُ (خطأ وإن كانوا قد أنشدوا: فقلت: هذا بيت مولد محدث ليس بحجة. ولكنهم قد انشدوا: جارِيةُ في رَمضانَ الماضي ... أبيضَ من أخت بني إباضِ تقطع الحديث بالإيمانِ وذكروا قول طرفة: أمّا الملُوكُ فأن اليومْ أوْسَخهمْ ... عرضاً وأبيضهمْ سرْبال طباخِ وهذه شذوذ لا يرخص لمحدث فيها. وقد تأول. وقد تأول قوم لا علم لهم بجوهر الكلام، في بيت المتنبي تأولاً بعيداً وقيل: أراد لأنت يا أسود في عيني من الظلم. وهذا تأول بعيد. وكيف تقول يا أسود وهو أبيض؟ وكان وجه الكلام إذا أراد هذا، أن يقول: وأنت مع بياضك أسود كأنك من سواد الظلم. ولو ذهب إلى ذلك وأفصح عنه بعبارة مقبولة يقع بها الإفهام ويزول معها اللبس لكان الغرض صحيحاً. لكنه أبهمه وأسره. وقلت له: ومما أخطأت أيضاً في نعته ولفقته من موضعين قولك: ) ضَيفُ ألمّ برأسي غيرَ محتشمِ ... السيفُ أحسنُ فعلاً منه باللَممِ ( فأما التلفيق فقولك) ضيْقُ ألمَ برأسي (وهذا من قول دعبل. على أنك قد غادرت بعض المعنى ولم تستوفه لأنه قال: أحبُ الشَيبَ لماّ قيلَ ضيفُ فسماه ضيفاً. ثم ذكر محته إياه ثم أتبع ذاك بذكر العلة في محبته فقال: كحبيّ للضيوفِ الناّزلينا ودعبل أخذه من قول الأول: ألقىَ عصاهُ وأرْخى من عمامتهِ ... وقال ضيفُ فقلتُ الشيبُ قال أجلْ وفي قوله) وأرخى من عمامته (معنى لطيف، وهو أنه أراد أنه في أمر سلم لا حرب كما قال الآخر: أناُ ابن جلاَ وطلاّعُ الثناياَ ... متى أضع العمامةَ تعرفوني فذكر ذلك لنه لم يضع العمامة في سلم. وقيل بل أراد بقوله) متى أضع العمامة (أي متى أغضب. وأخذت قولك: ) والسيْفُ أحسنُ فعلاً منهُ باللسممِ ( من قول البحتري: فليَتَ بياضَ السّيف يومْ لفيتيَ ... مكانُ بياض الشّيبِ كان بمفرقي وأما الخطأ فقولك:) غير محتشم (تريد غير منقبض. وهذا خلاف ما عليه محصلو أهل العلم؛ إذ كانت الحشمة في كلام العرب الغضب. وسمي حشم الرجل حشماً، لأنهم يغضبون له: فقال: ألم يقل الشاعر: أخاف تكرارَ قوْلي) كلْ (فأحشُمه ... والصْمتُ ينُزلُه منّي على بخَل فقلت: هذا بيت مولد محدث ليس بحجة. ولكنهم قد أنشدوا: لعَمُرك إنَ قرْضَ أبي خبيبٍ ... بطيء النضجِ محشومُ الأكيل فقيل: معناه مغضب الأكيل لأنه لا يرضيه؛ وقيل: مقبوض الأكيل عن أكله والأول المعتمد. والحشمة مما وضعته العامة غير موضعه. ومما أسقطت أيضاً فيه وأسأت في أخذه: ) الأدبُ المُهذبُ الأصْيدُ الضّرب ... الذكيُ الجعدُ الرئيسُ الهُمام ( فإنّك نسخاً من قول البحتري: سالمتنيَ الأيامُ لماّ تحرمْتُ ... بظلّ الرئيسِ ذي الإنعامِ بالأديبِ المهُذب الفاضلِ القمرْ ... الأبيَ الندْبِ الوفيَ الهمامِ وما ظننتُ أحداً تجرأ على هذا اجتراءك عليه، فإن أحداث المتأدبين ممن يتعاطى نظم الشعر يترفع عن مثله. ولست أجد أيضاً للجعد مذهباً في المدح، إذ كان الجعد القصير. قال: يا ربّ جعَدٍ منهمُ لوْ تدْري، ... يضربُ ضْربَ السبطَِ المقاديمُ بيضُ جعادُ كأن أعينهمُْ ... يكحلهاُ في الملاحمِ السَدفُ

يريد الجعاد القصار. وذكر الباهلي أنه وصفهم بالجبن، لأن الجبان تسود عينه عند الكرب. ويقال: فلان جعد الراحة، إذا كان بخيلاً وأنشد: سبْطُ البنانِ بما في رحلْ صاحبهِ ... جعدُ البنانِ بما في رحلهَ قططُ ويقال: فلان جعد الراحة إذا كان بخيلاً، وجعد الخلق إذا كان ضيق الخلق، وجعد اليد إذا كان قصير الأصابع. والذئب يكنى أبا جعدة، من أجل تقبضه. وشعر جعد من هذا، وأنشد:) سبط البنان. . . (وذكر البيت. ومما أخذته فبترت معناه وأفسدته قولك: ) مُبرْقعي خيلهمْ بالبيضِ متخذي ... هامِ الكماةِ على أرماحهم عذبَاَ ( من أجل أن الهام لا تشبه بالعذب في حال على القنا، إلاّ إذا كانت ذات لمم وضفائر، وإلاّ فهي مشبهة بالتيجان. ألا ترى قول أبي تمام، ومنه استرقت المعنى فأحلته: من كلّ ذي لمةّ غطّتْ ضفائرهُ ... صدرَ القناة فقد كادتْ تُرىَ علماَ فاللمة بالعذبة واقعة التشبيه، والهامة مشبهة بالتاج حتى يصح التمثيل. وقد قال مسلم بن الوليد في تشبيهها بالنيجان: يكسْو السًيوفَ نفُوس اَلنُاكثينَ بهِ ... ويجَعلَ الهام تيجانَ القَنا الذُبُلِ ومسلم أخذه من قول الأول: كأنّ رؤوسَ القوْمَ فوْقَ رِماحنا ... إذا أشرعتْ تيِجانُ كسرَى وقيصَرا وما كلّ هامة بذات لمة، وإن لم يكن ذات لمة أو ضفيرة فلا حظ لها في التشبيه بالعلم. قلت: وأخطأت أيضاً في قولك مع ضعف لفظك وسخف عبارتك: ) ذي المَعالي فليعَلُونْ منَ تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا ( ) شَرفُ ينطحُ النّجومَ بروْقيهِ ... وعزُ يقُلقلُ الأجباْلا ( فإنّك أغرت في البيت الأول على بكر بن النطاح في قوله: يَتَلقىّ النّدى بوجهٍ ... وصدورَ القناَ بوجه وقاحِ هكذا هكذا تكُون المعاَلي ... طُرقُ المَجد غيرُ طرقِ المزاحِ فقولك) فلا لا (ركيكة جداً، وأنت تعجب بتكرير هذه اللفظة قال: وكيف؟ قلت: ألست القائل: ) جوابُ مسُائليِ ألهُ نظيرُِ ... ولا لك في سؤالك لا ألا لا ( وأخذت البيت الثاني من قول أبي تمام فأفسدته: همّةُ تنطحُ النّجومَ وجدَُ ... آلفُ للحضيضِ فهوِ حضيضُ قال: وبأي شيء أفسدته؟ قلت: لأنك جعلت لشرف الرجل قرنين. قال: وما يدريك؟ قلت تقل ينطح النجوم بروقية، والروقان القرنان؟ قال: أجل إنها استعارة. لعمري إنها وإن كانت استعارة، ولكنها استعارة خبيثة جارية في المعاظلة التي نفاها عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه، عن زهير، وذكر اجتنابه إياها، فقال: كان لا يعاظل بين الكلمتين، أي يداخل الكلمة، إذا لم تكن إحداهما من جنس الأخرى، ولا كانت مناسبة لها ولا مشتقة منها. ويقال: تعاظلت الجرادتان، إذا ركبت إحداهما الأخرى وتداخلت فيها. ومن مليح أبيات المعاني: أخذَوا قسيَهمُ بأيْمنهمْ ... يتعَاَظلونَ تعاَظُلَ النَملِْ يقول: نقد النبل وفنيت السهام وأخذوا القيسيَ بأيمنهم يتضاربون بها ويتجالدون، وداخل بعضهم بعضاً كتراكب النمل وتداخلها، لأن الرمي إنما يكون باليسار. والمعاظلة المذمومة أحسن الاستعارة كما قال أوسُ ابن حجر: وذاتُ هدِمٍ عارٍ نواشرُها ... تصمتُ بالماء توْلباً جدَعاَ فجعل للمرأة تولباً، والتوب ولد الحمار كما جعلت أنت للشرف قرنين. وهذا من أبعد الاستعارات وأشدها مباينة لمذاهب حذاق الشعراء. وقد تقدم القول في أنواع الاستعارة وإن أرعيت لما أقوله سمع منصف، علمت أن مواجهة ملك من الملوك كسيف الدولة، مع عظم شأنه ونباهة سلطانه واشتماله بشمائل الكرم دون كثير من ملوك زمانه، بمثل ما واجهته به من تلك الاستعارة، من معاظم الأمور التي لا يقدم عليها من راضته الحنكة وثقفت كلامه الروية. وكل استعارة لطيفة، وتوجب بلاغة بيان بالحقيقة غير نائبة منابها، لأن الحقيقة لو قامت مقامها لكانت أولى بها من الاستعارة. ألا ترى إلى قول امرئ القيس وقد أغتدي والطيرُ في وُكناتهِا ... بمنجَردٍ قيَدِ الأوابد هيكلِ

وهذا النوع من الاستعارة يسمى الإرداف؛ وهو أن يريد الشاعر الدلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الذي يدل على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له. فإذا دل التابع دل على المتبوع ومثل ذلك) قيد الوابد (وذلك أنه أراد وصف الفرس بالسرعة وانه جواد إذا أرسلته على الصيد كالقيد لها وكانت كالمقيدة له؛ وذلك أن وشك سبقه ومعية إحضاره، يتبعها أن تكون الأوابد كالمقيدة له. وحقيقة) قيد الوابد (، مانع الأوابد وحابسها.) قيد الوابد (، أبلغ وأحسن وقيل المنين للأسير، وقيل في وصف الفرس قيد الرهان، وقيل: النواظر قيد الخواطر وقيد العيون، وكل ذلك تركيب على لفظ الفرس. ومن الاستعارات قول الأعشى: فإنّ عتاقَ سوْفَ تزَوركمْ ... ثَناءَ على أعجازهنّ معَلقّ به تنُفضُ الأحلاسُ في كلّ منزلٍ ... وتعقدُ أطرافُ الحبالِ وتطُلقُ وقال تأبط شراً: فخالطَ سهلَ الأرْضِ لم تكدحَ الصَفا ... بهِ كَدحةً والمْوتُ خَزْيانُ ينظرُ ومن بديع الاستعارة قول الهذلي: ولوْ أنّني استوْدعتهُ الشمسَ لارْتقتْ ... إليهْ المنًايا عينُها ورَسولهاُ وقولُ ابن هرمة، وأحسنُ ابن هرمة كل الإحسان: فقلتُ إما تَرينيْ قد تخَوّنني ... دهْر أشَتُ بهذا الناسِ مقلوبُ قد روّحَ الشيبَ في رأسي غريبتهُ ... فما لهُ عن شواةِ الرأس تغريبُ فقد أجرُ فُؤادي فضْلَ مقودِهِ ... وتتقىّ عبَرتي البيضُ الّرعابيب وقالُ ابن الرقاع: وهنْانةُ تسَتعرّ القْومَ أعينُهمْ ... حتى ترُدّ إلى ذي النيقةِ النَظرا فقال أبو الطيب: هذا كله إغراق وغلو وبعد عن الحقيقة. وأراك علقاً بهذا المذهب من الشعر، دون ما سلمت ألفاظه، وصحت عند التأمل معانيه فإذا ورد عليك شيء من جنسه، وإن كان بهرجاً قدمته وألغيت غيره. فقلت له: هذا قول من لا يفرق بين الاستعارة والحقيقة ولا بين الغلو والمبالغة. فقال: وهل بين الغلو والمبالغة فرق؟ فقلت: كل الفرق قال عنترة يصف فرسه: فازْورَ منِ وقْعِ القَنا بلبانهِ ... وشكا إليَ بعبرةَ وتحمُحمِ فجعل اشتكاء الفرس إليه، إذ كان من لحيوان الذي ينطق بحمحمته وعبرته دون النطق والعبارة. فلم يخرجه عما هو له، ثم كشف المعنى في البيت الأخير فقال: لو كان يدري ما المحاُورةُ اشتكىَ ... ولكانَ لوْ علمَ الَكلامَ مكَلميَ وقد أخذ هذا المعنى بشارّ بن برد وأحسن بقوله: ولّما تَولىّ الحرُ واعتصرَ الثَرىَ ... لظىَ القيَظِ من نجمٍ توَقّدَ لاهُبهْ وطارتْ عصَافيرُ الشقّائقِ واكتسَىَ ... منَ الآلِ أمثالَ المجرَةِ قاصبُهْ غدَتْ عانَةُ تَشكو بأبصارِها الصدَى ... إلى الجأبِ إلاّ أنّها لا تخاطبُوْ فهذا المبالغة في الوصف من غير عدول عن الحقيقة. ونحوه قولُ ابن هرمة واصفاً كلباً يكادُ إذا ما أبصرَ الضَيفَ مقبلاً ... يُكلمهُ من حبّهِ وهوَ أعجمُ فقرن بهذه المبالغة) يكاد (. فأخرجه عن الغلو الذي يبتعد عن الحقيقة. وانظر إلى قول المثقب العبدي في هذا المعنى حاكياً عن ناقته ما يبعد كل البعد عن الحقيقة: تَقولُ إذا درأتُ لها وضينيَ ... أهذا دينهُ أبداً وديني أكلَ الدّهر حلُ وارتْحالُ ... أما يبقي علي ولا يقيني فهذا هو الغلو البعيد ن الحقيقة. وإنما ذهب إلى أن الناقة لو تكلمت لأعربت عن شكواها بمثل هذا القول. وبعض أصحابنا يجري هذا ونظائره في باب المجاز.

وكانت الجماعة الحاضرة تستخدم أقلامها في تعليق أوائل الأبيات التي جرت المنازعة فيها، وتراعي مواقع احتجاجاتي واحتجاته، وتثبته رمزاً ووحياً وكان جمعيه نصب عيني، وله كالمرآة من حفظي. فحين نهضت عن المجلس، ولم أنض إلا بعد راجعت جميلاً في خطابه، وأطنبت في تقريظه، وفي تعفية أثر عقوبتهن وفي إلانة جانبي له. واتبعني القوم راغبين إلي في نظم ما جرى وضم شيته، والرجوع إلى ما ثبت في تعليقهم من جملته، واستمداد قريحتي في ذكره، وإنشاء رسالة أنبه في أثنائها عن أمره. وكان النهار قد تصرم شبابه، وشابت هرماً ساعاته، وكربت الشمس للمغيب وضرعت للأفول. وامتد عنان المشاجرة، واستفحل الأمر عن المذكرة، فلم تتسع القدرة في الحال لنظم الرسالة. واستصحبت ما ثبت في صحفهم، وعدت إلى داري فاتخذت الليل مطية ثلاث ليال لا أطعم فيهن الكرى، إلى أن تغور أخرى النجوم، وتتولى أسراب الظلام ويبتسم الصبح، إلى أن انتظمت الرسالة. وقدت ثلاثاً أقعدتها أسهرهن نافياً عن عيني الكرى إلى أن يمزق الفجر سربال الدجى، ويبسم ثغره في ثغرة الضحى. ونمي الخبر واشتهرت الحال، ونودي بها في كل ناد. ورسم الوزير أبو محمد والرئيس أبو الفرج محمد بن العباس - وإياه خاطبت هذه الرسالة وأمره المسموع في نظمها امتثلت - وهما كوكبا المملكة وناظرا الدولة، شرحها فشرحتها، وأنهيا الصورة إلى معز الدولة فأنعمت في مسرته، ووكد الوصاة بمراعاتي والتكرمة الشديدة لي ثم رأى الوزير أبو محمد الجمع بيننا في مجلس، وأن تكون مراجعته الكلام ومناقلته إياه بحضرته. وأنا مورد ذلك مجلساً مجلسا على هيئته. فإن أبا محمد المهلبي رسم لإثباته كاتبين من خواص كتابه، ووكد القول عليها في الاحتراس من أن تشذ واحدة منه؛ فحصلا ذلك تحصيلاً شديداً. وكان ممن شاهد الحال، وأبدى صفحته في الظاهرة والتنبيه عن مواقع إحساني في تلك المفاوضة والمنازلة: هبة الله بن المنجم، وهو من الأدب بحيث لا يخرج مشهده، وعلي بن محمد الشاعر المعروف بابن البقال، وله مكانه من الفضل. وأنا أذكر إن شاء الله ما شجر بيننا، وأشفعه بما تعلقت به عمله من سرق وإحاله، ومن لفظ هجين ومعنى فاسد، وأومئ إلى مواضع أحسن فيها من شعره، وأنبه على معان يكاد يكون مخترعاً لها، وعلى معانِ أخذها فأحسن العبارة عنها والزيادة فيهاً، متصرفاً الحق في جميع ما أفضي به، لتكون هذه الرسالة جامعةً مستوعبةً قناع اللبس في أمره، وخاتمة الدعاوى والتحامل عليه بحول الله وقوته. استحضر أبو الطيب وجماعة من أهل العلم. وحضرت مجلس الوزير أبي محمد المهلبي ورسمت مناقشته. فأبدى تنكراً وتنمراً وإباء وامتناعاً، فألنت له جانبي، ثمتَ أعجلته القول وسألته عن قوله: ) أُحَادُ أمْ سُداَسُ في أُحادِ ... ليْلتناُ المنُوط بالتّنادِ ( وقلت: ما أردت؟ فقال: أرادت أليلة واحدة أم ست ليالٍ في ليلة، استطالة لها واستبعاداً لمداها. فقلت: أجل وأراك نظرت فيه إلى قول الأول: لقد طال هذا الليلُ حتى كأنه ... بلَيلَينِ موْصوليَنِ ما يتزحزَحُ وإلى قول الآخر: وليلٍ أبيَ أن يُسفرَ الصّبح والدُجى ... ترَدّدَ منه بيَنَ عجَزٍ وأولِ كانَ بَهيَم اللّيلِ أعمىْ مقيدُ ... تحيَرَ في تيهٍ من الأرْضِ مجَهلِ كأنّ الظّلامَ حِنَ أرْخى سدُوله ... بنَجْدٍ على ليلٍ بلبلٍ موُصلًِ وقد قال عدي بن الرقاع في هذا المعنى: وكأنّ ليَلي حينَ تغَربُ شمسهُ ... بسوَادِ آخرَ مثِلهِ موْصولُ وإلى هذا المذهب الفرزدق بقوله: ولَيَلةِ يوْمٍ مُرْجحنٍّ ظلامهاُ ... سواء عليناَ طوُلهاُ وهموُمهُا كأنّ بها الأيامَ والليْلَ وصلاً ... وظلماءَ مسُوداً علينا بهَيمها وأحسن بشار كل الإحسان: خلَيليّ ما بالُ الدّجىَ لا تَزَحزح ... وما بال ضوْءِ الصّبحِ لا يتوَضّحُ أضلّ النّهارُ المسُتنيرُ سبيله ... أمِ الدّهرِ ليلُ كلهُ ليسَ يبرَحُ

قلت: فهؤلاء كلهم جرى على مدرجة واحدة في استطالة الليل، مغالياً كان فيها أو مقتصداً، غير أنه لم يقرن إلى صدر بيته ما يناقص عجزه وينافيه، ويباينه كل المباينة ولا يقتضيه، كفعلك. فإنك وصلت بينك بعجز أفسده، وبعد كل البعد عنه؛ وذلك أنك قلت أليلة واحدة أم ست ليال في ليلة. ثم صغرت على مذاهب العرب في تصغير المعظم في قولهم:) دويهية (و) عذُيقها المرجبّ، وجذيلها المحكك (وكما قال الأول: فُوَيقَ جُبيلٍ شامخِ الرأسِ لم يكنْ ... ليبَلغُه حتى يكلّ ويعْملاَ وكما قال الآخر: يا ميُ سقاَكِ البرُيقُ الومضىُ ... والدّيمُ الغاديةُ الفضُافضُ فقال: إلى هذا ذهبت. فقلت: ثم قلت:) المنوطة بالتنادي (، فأحلت. قال: كيف ذلك؟ قلت: كيف تناط بالتناد ما تخيله ليلة واحدة أو ستاً في واحدة؟ وإنما نظرت في قولك) المنوطة بالتنادي (إلى قول الشاعر: قلتُ لضَيْفي حيَن نَبًهُته ... في لَيلَةٍ ماطِرَهْ ما لي أرى اللًيْلَ آخِرٍ ... كأنهُ قد نِيطَ بالآخرِهْ فهذا جعل في استطالته منوطاً بالآخرة، فلم يقرن ذلك بما أفسده وشوه معناه، ولا أحاله إحالتك بيتك حتى استفهمت استفهام شاك في أنها ليلة واحدة أو ست في ليلة. ثم ناقضت بإخبارك أنها منوطة بالتنادي، فشتان ما استفهامك هذا وقول الآخر على تأخر زمانه: لَسْتُ أدري أطال ليَليَ أمْ لا ... كيفَ يدري بذاكَ منَ يتَقَلى لوْ تَفرَُغتُ لاستطالةِ ليَلْي ... ولرَعيِ النَجومِ كنتُ مخُلى وكأنك لم تسمح قول سويد بن أبي كاهل: وإذا قُلتُ لَيلي قَدْ مضَىَ ... عَطَفَ الأوُلُ منهُ فرَجَعْ واحتذي هذا المعنى خالد بن يزيد فقال: تَباعَدَ الصًبحُ حتى ما أؤمُلهُ ... وازدادَ هَمُ فما يُرْجى ترَحله والليًلُ وَقْفُ علَينا ما يُفارِقُنا ... كأنُما كلُ وَقتٍ منهُ أولُهُ وهذا أحسن من قول الآخر وإن تقدم زمانه: ليسَ لليْلِ آخرُ ... يشَفَي منهُ عاشقُ آخِرُ اللًيْلِ أولُ ... لا يُرىَ فيهِ شارِقُ لأنه جعل آخره أولاً، وخالد جعل كل وقت من أوقاته أولاً. ونحو هذين البيتين قول الحسن بن زياد الرصافي: يا لَيَلةً طالَتْ على عاشِقٍ ... منُتظَرٍ في الصبحِ ميِعَادا كادتْ تكونُ الحَبْل في طولهِا ... إذا مضَىَ أولُها عاَدَا وهذا نهاية في معناه وفيه زيادة بقوله " منتظر في الصبح ميعادا " وعلى أن قوله: رَقَدْتَ ولم ترْثِ للساهرِ ... ولَيلُ المُحبُ بِلا آخرِ بديع جداً، متقدم كثيراً عما قيل في طول الليل، وكأن هذا من قول اليقطيني: أقولُ لهُ لماً رَسَتْ داجيِاتهُُ ... عدِمتُكَ من ليَلٍ أماَلك آخرِ فنمي إلي بعد ذلك أنه غير البيت أو غيره بعض شيعته فجعله) المنوطة بالتنادي (وقال معناه تنادى القوم بالرحيل وهذا قول واهٍ جداً، ومعنى لا طائل فيه. وقلت في قصيدتك هذه: ) كأنّ بَناتِ نعْشىٍ في دُجاها ... خرَائدُ سافراتُ في حداد ( ولا تعلق للخرائد من النساء دون غيرهن بهذا التشبيه؛ إذ كانت الخريدة الحيية والخرد الحياء. وليست النجوم في الدجى أشبه مناسبة للخرائد في السواد، منها لمن حياء من النساء. وإنما قلت) خرائد (، ليلتبس الموضع ويخفى الأخذ، لأنُ ابن المعتز قال: كأنّ نجُوم الأفقِِ في فَحمةِ الدّجى ... وجوهُ عذارى في ملاحفَ سودِ فقال: ما وجه اختصاص العذارى دون العون؟ قلت: لأن العذراء تتميز عن العون بكثرة ماء الوجه وغضارته ورقة ديباجته؛ ولذلك قالوا) درة بكر (، لم تثقب، و) روضة بكر (، لم تزرع، و) خمر بكر (، لم تبز. ولذلك سموا الخمر) عذراء (، إذا لم تفتض بمزاح أو لم تبزل من دن، كما قال الأخطل: عذْراءُ لم يجَتلَ الخطابُ بهَجتهاَ ... ولا اجتلاَها عباديُ بدينارِ وقالُ ابن المعتز: وَرَنا إليّ الفرْقدانِ كأنماّ ... زرَقْاء تنظرُ من نقابٍ أسودِ قال أيضاً: وارىَ الثرَياّ في السماءّ كأنماّ ... قدَم تبدّتْفي ثيابِ حدادِ فأحسن التصرف في هذا المعنى والتوكيد له، وأسأت في أخذه. وفي هذه القافية تقول: ) جزىَ اللهُ المَسيرَ إليهِ خَيراً ... وإنْ تَرَك المطَايا كالمزَادِ (

وإنما ذهب إلى أن السير أنضى جرومها وتخون نيها. وذهبت إلى تشبيهها بالمزاد المشنشنة فلم تستطع استيفاء التشبيه، وقصرت بك المادة، فاقتصرت على ذكر المزاد، وليس كل مزادة بالية ولا مشنشنة وإنما نظرت إلى قول الراجز: كأنما والشرَْكَ كالشَنانِ ... تميسُ في حُلةٍ أرْجوانِ والشنان القرب اليابسة، وهذا تشبيه صحيح، وبيتك الذي استرقته منه فاسد سقيم. ولو أوردت الصفة لدلت على الموصوف. فأما أن تورد الاسم الذي تعتوره الصفات المتغايرة، فإنه لا يدل بذكر مجرداً على ما ذهبت إليه من صفته. ألا ترى إلى قول أبي النجم يصف إبلاً: تمْشي من الرًدًةِ مشْي الحفلِ ... مَشْيَ الرّوايا بالمزادِ المثُقلِ فلم يقتصر على ذكر المزاد حتى وصف بصفة حاله أخرجت التشبيه عن هجنة الافتراق. ثم قلت: وفي هذه الكلمات تقول: ) تَهَلُل قَبل تسَليمي علَيْهِ ... وألقَى قَبلَ الوِساَدِ ( وأحسب الأول قفا أثرك في هذا المعنى فقال: مِراراً ما دنَوْتُ إلَيهِ إلاَ ... تبسًم ضاحكِاً وثَنى الوِساَداَ ومن أبكار معانيك فيها قولك: ) فظَنوني مَدَحُتُهُمُ قدَيماً ... وأنتَ بما مَدحتُهُمُ مُرادي ( وكأن أبا نؤاس سمع هذا فقال: وإنْ جرَتِ الألفاظُ بمدِحَةٍ ... لغَيرِكَ إنساناً الذي نَعني على أن كثيراً بن عبد الرحمن قد قال: متى ما أقلْ في آخر الدهرِ مِدْحَةً ... فما هي إلاُ لابنِ لَيلي المُكَرُمِ ثم قلت: وفي هذه الكلمة تقول، فتطول وتفخر وتصول وتوهم أن المعنى غير مقول: ) كأنَ الهَامَ في الهَيْجا عُيُون ... وقد طُبِعتْ سُيوفُك من رقُادِ ( ) وقد ضُعتَ الأنسُةَ من هُمومٍ ... فما يَخطُرْن إلاُ في فُوادِ ( فسبحان من ذلك أعناق الكلام لك، ووطأ كواهله وجمع شتيته، وقاد لك المعاني بازمتها، حتى اخترعت منها ما قصرت عنه خواطر من تقدمك من فرسان الشعر وأمراء النظم والنثر. وهذان البيتان هما من قول بعض الشاميين: تَخَيل الَهامَ أحداقاً صوَارمهُ ... ما بيَنَ أجفانِها صيغتْ منَ الوَسنِ تعَلو عَواملَ قد سًددن من وجل ... يسَلكْنَ بالطّعن منهُ مسلك الفطنِ فقال بعض من حضر، وأحسبه أبا علي الحسين بن محمد الأنباري، وكان ضلعه معه هذان البيتان مفتعلان مصنوعان لا يعرف قائلهما. قلت: فاصنع أنت مثلهما ودعهما، قد أخذ البيت الأول من بيتيه من قول منصور النمري: ذكرُ بروْنَقَهِ الّدماءُ كأنّما ... يعلوُ الرّجال بأرْجونٍ فاقعِ وكأنّما خَدَرُْ الحُسامِ بهامهِ ... خدَرُ المنيةِ أوْ نعُاسُ الهاجعِ وأماّ قوله:) وقد صُغْت الأسنةّ (إلى آخره، فمن قول البحتري يصف ذئباً وهو من أحسن ما قيل: وأطْلسَ ملء العَينِ يقَسمُ زَوْرَه ... وأضلاعَهُ من جانبيهِ شوى نهدُ طَواهُ الطوًىَ حتى استَمرّ مريرُهُ ... فما فيهِ إلاّ العظْمُ والروّح والجلْدُ سماَ لي وبي من شدّةِ الجُوعِ ما به ... ببيداء لم تحُسسْ بها عيشَةُ رَغْدُ فأوْجَرْتهُ خرَقْاءَ تَحسبُ ريشَها ... على كوكبٍ ينقصّ والليلُ مسودُ وأتبعتهاُ أخرىَ فأضلْتُ نصلهاَ ... بحيثُ يكونُ اللبُ والرّعبُ والحقدُ والبحتري أخذ هذا من قول أبي تمام: من كلّ أزْرَقَ نظارٍ بلاِ نظرٍ ... إلى المقاتلِ ما في عوُدِهِ أوَدُ كأنه كانَ ترْبَ الحُبً مذْ زَمنٍ ... فليسَ يعُجزهُ قلبُ ولا كَبدُ أخذه من قول عمرو بن معدي كرب: والضّاربينَ بكُلّ أبيضَ صارِمٍ ... والطاعنينَ مجاَمعَ الأضغانِ فقال أبو الطيب: من أبو تمام والبحتري؟ ما أعلم أني سمعت بذكرهما إلا من هذه الحاضرة. فقلت: أبو تمام والبحتري اللذان اختلبت ألفاظهما، واستلحقت معانيهما، ووقعت دونهما وقوع السهم المقصر عن رميته. ثم قلت: وأخطأت في قولك: ) غضبتْ لهُ لما رأيتُ صفِاتهِ ... بلا واصفٍ والشعرُ تهذي طماَطمه ( ومن أجل أن الهذيان كلام المهتر والعليل، ومن به طيف جنة. والهاذي والهذاءة من الأوصاف المذموتة كما قال الأول: هذرْيان هذر هذاءة ... موشكُ السًقطةِ ذو لبٍ نثْرِ

والطَمطةَ كلام العجمي الذي لا يفهم، يقال: أعجمي طمْطم وطُمطْماني، إذا كان كلانه غير مفهم، قال عنترة: تأوي لهُ قُلص النّعانِ كما أوتْ ... حزقُ يمانيةُ لأعْجمَ طمِطِم فجعلت شعرك واعتلاجه في صدرك ودبيبه على لسانك وما منحته قريحته منك بمنزله كلام الهاذي والأعجمي الطمطم الذي لا يفهم كلامه. ولا خير في ما هذه سبيله ووجه الكلام أن كنت تقول: والشعر يمور تياره، ويغطمط لجه، ويجيش بحره، وتتغاير قوافيه في مدحه، هذا الكلام كما قال أبو تمام: تَغايرَ الشعْر فيه إذ سهرتُ لهُ ... حتى ظنْنتُ قوافيهِ ستَقتتْلُ لكن القافية اضطرتك إلى ما هجن الكلام وأفسد معناه وأحاله عن الصحة. فأقبل علي وقال: أنصف، فإن المنصف من يميز، وأنعم النظر إنعام من تقدمت في العلم قدمه، ووقعت الإشارة إلى فضله. ولا تسلط الهوى على الرأي. فقلت: قل: فقال: إنما أجري على سبيل الشعراء المبرزين في الإحسان واختراع المعاني، فإذا استبهمت مسالك الإبداع، جريت على وتيرة من تقدمني في اقتفار الأثر والملاحظة والنظر. وما أبرئ خاطري، وإن كان الصواب يتصرف به على سبيله، من زلة تجوز بي وعثرة اعتمدها. فقلت له: أفمن اختراعاتك قولك في صفة نعلك: ) لا ناقَتي تحمَلُ الرّديف ولا ... بالْسوطِ يومَْ الرًهانِ أجهدُها ( ) شراكُها كورهاُ ومشْفَرُها ... زِمامهُا والشُوُعُ مقِوَدها ( فقال: أليس هذا مخترعاً؟ فقلت: أجل وهو مخترع لأبي نؤاس في قوله: إليكَ أبا العَبُاسِ مَن مشَى ... علَيها، امتَطَينا الحَضرَمُي المُلسَناَ قَلائصَِ لم تَحملِْ حنَيناً طَلاً ... ولم تدَْرِ ما قَرْعُ الفَنيقِ ولا الهنِا وقولك:) ناقي (من قول أبي نؤاس " قلائص " وقد زدت المعنى وأشبعته في البيت الثاني وتركت من قول أبي نؤاس: قَلائِصُ لم تَحملْ حَنيناً على طَلاً ... ولم تَدرِ ما قَرْعُ الفَنيقِ ولا الهِناَ وزدت أنك لا تجهدها بالسوط، وأن شراكها كورها، وزمامها مشفوها، والشوع مقودها. ومن معانيك المخترعة قولك: ) ماضي الجَنانِ يُريهِ الحزْمُ غدٍ ... بقَلْبهِ ما تَرى عَيناهُ بعدَ غدِ ( وهذا من قول دريد بن الصمة معنى ولفظاً: يرَى عاقباتِ الرُأيِ والأمرُ مقُبِلُ ... كأنُ لهُ في اليوْمِ عَيناً على غَدِ وقد قال الآخر: يصَيِر بأعقابِ الأمورِ كأنُما ... تخاطبهُُ من كل أمرٍ عَواقِبهْ وقد كرر المتنبي هذا المعنى في موضع آخر ولم يحسن العبارة عنه فقال: ) مستَنبِط من عِلِمهِ ما في غَدٍ ... وكأنُ ما سيكون فيهِ دوُناُ ( وأول هذا المعنى قول أوي بن حجر: الألمَعيُ الذي يَظُنُ بكَ الظُن ... كأنْ قد رأى وقد سمعاَ وفي الكلمة يقول المتنبي: ) لمُا قَفلْتَ منَ السُواحل نحونَا ... قفَلَتْ إلَها وَحشةُ من عندِنا ( وإنما أخذه من قول البحتري: رَحَلَ الأميرُ محَمدُ فترَحلتْ ... عَنُا عَصارةُ هذه النعُماءِ ومما يناسب هذا اختراعاتك قولك: ) متى ما ازدَدْتُ من بَعْدِ التَناهي ... فقد وقعَ انتقِاصي ازْدياِدِ ( وهذا منقول من قول محمود: أسَرعَ في نقَصِ امرئٍ تَمامُهُ ... تُدْبرِ في إقْبالهِ أيامُه وقد أحسنُ ابن الرومي العبارة عن هذا المعنى فقال: تُخالسهُ الأوقاتُ وهيَ نَماؤُه ... وتغَتاُلُه الأقواتُ وهيَ لهُ طَعْمُ إذا ما رَأيتَ الشيء يُبليهِ عُمرُهُ ... ويفَسدِ أن يَبقى ففي دائِه عقْمُ وهذا المعنى ينظر نظراً إلى قول حميد بن ثور الهلالي: أرى بصَري قد رابنيَ بعدَ صحةٍ ... وحسبكَ داءً تصح وتسلماَ وحميد فيه نظر إلى قول النمر: يوَدُ الفتى طُولَ السّلامة جاهداً ... فكَيفَ ترىَ طولَ السّلامة يفعلُ فلو شئت لاقتصرت عن التعرض لما هذه سبيله، لا سيما وأنت غرض لكلَ عرض، نهزة لكل متفرص. وما تصنع بقولك: ) فرَأيتُ قرْنَ الشّمس في قمرِ الدّجى ... متُأوُداً غُصْنُ بهِ يَتأوَدُ ( مع قول مسلم: هَيفاءُ في فَرعهاِ ليْلُ على قمرٍ ... على قضيبٍ على حقفِ النّقا الدَهسِ كأنّ قلبي وشاحاها إذا خَطرَتْ ... وقلبْها قلبُهاُ في الصمتِ والخرَسِ

تجري محَبتهُا في قلبِ عاشقهاِ ... مجْرىَ السّلامةِ في أعضاء منتكسِ وقلت: ومما استرقته وأفسدته قولك: ) ها فانظرُي أو فظمّيُ بي ترَىْ حُرقاً ... من لم ذقْ طرفاً منها فقدْ وألا ( علّ الأميرَ يَرىَ ذليّ فيشَفعَ لي ... إلى التي تركتنيَ في الهوىَ مثَلاَ ( وذلك أنك عرضت الممدوح للقيادة، برجائك إياه أن يكون شافعاً لك إلى من تحبه. وهذا من أقبح خروج وأسخف معنى تعاطاه شاعر في مخاطبة ممدوح. وإنما احتذيت فيه قول أبي نؤاس: فلو شاء رَبّي لابتلاَهمْ بما به ابْتلاَناَ ... فكانواُ لا علَيْنا ولاَ لناَ سأشكُو إلى الفضلْ بن يحيىَ بن خالدٍ ... هواكِ لعلّ الفضلَ يجمعُ بينناَ وإنما ذهب أبو نؤاس في توجيه هذا إلى استعطاء الممدوح وإرفاده، أو تزوجها إن كانت حرة ودلَ على ذلك قوله في البيت الخير: أميرُ رأيتُ المالَ في نغَمَاتهِ ... ذليلاً مهَينَ النفسّ بالضًيمِ مذُعنا إذا ضنَّ ربُ المالِ ثوّبَ جُودةُ ... بحي على مالِ الأميرِ وأذّناَ ويزيد هذا بياناً قوله في هذه الكلمة، ذاكراً رجلاً أشار إليه بالدينْ عينةً وابتياع هذه الجارية: يرىَ الفضلَ قد آلى على نهْبِ مالهِ ... ويسألنيُ المأفُونُ أن أتعَيَناَ فيا فضْلَ دارِاك صبْوتي بغُبارها ... فلا خَيرَ في حبيّ إذا زَنىَ وهذا برهان واضح. فقال أبو الطيب: فاحتذيتُ معنى ومعنيين وثلاثة لأبي نؤاس، وهو إمام المحدثين، فكان ماذا؟ فقلت ومن إنحائك عليه وتقصيرك نه قوله: إن الملُوكَ رأوْا أباَكَ بأعْينٍ ... كحلَتْ لهم بمرَاودِ الإعظامِ فقلتَ: ) تعرفُ في عينهِ حقاَئقهُ ... كأنهَُ بالدّكاءِ مكُتَحلُ ( ومن هذا قول أبي نؤاس: قَد فَهِمَ الإيحاء والصفيِراَ ... والكضفً أن تُومئ أوْ تشيرا فنقلته فقلت: ) وأدُبها طُولُ الطُرادِ فَطَرْفُه ... يُشيُر إليها مِن بعيدٍ فتَفهضمُ ( وقال أبو نؤاس: إلى فَتىً أُمُ ماشلهِ أبَداً ... تَسعى بجيبٍ في الناس مشَقوقِ فقلت وأحسنت: ) مَلْكُ إذا امتَلأتْ يَوْماً خزَائِنهُُ ... أذاقَها طعَم ثَكْل الأم للوَلَدِ ( وقال أبو نؤاس: وإذا المَطي بنا بلَغَن مَحَمدُاً ... فظُهورُهن على الرُجالِ حرَامُ فقلتَ، ولم تراقب سلباً للمعنى واللفظ: ) وتعَذر الأحرارِ صيرَ ظهرهَا ... إلاُ إليَكَ عليُ فرَْجَ حَرامِ ( قال وأول من فظن لهذا المعنى الفرزدق بقوله: أقولُ لناقَتي إذْ بلَغُتَني ... لقد أصبحتِ عندي باليمَينِ حرَُمتِ على الأزِمة والوَلايا ... وأعْلاقِ الرُحالَةِ والوَضيِنِ وقال أبو نؤاس: يبكىَ فيَذري الدّمعَ من عينْه ... ويلْطمُ الَورْدَ بعُنابِ فأخذته فقلت: ) ترىَ إليكَ بعينِ الظبْي مجهشةً ... وتمسَحُ الطلُ فوْقَ الوْردِ بالعَنمِ ( وأول من نظر لهذا المعنى المرقش فقال: النّشرُ مسكُ والوُجوهُ دَنا ... نيرُ وأطرافُ الأكُفّ عنّمْ فقال عمر بن أبي ربيعة وأحسن: مقْبلاتُ من أسفلِ الجزْعِ بالرّيطِ ... اليماَني يرْفعَنَ ذيْلَ الرّبابِ بأكفٍ كأنها قطعُ الثلجِ ... تطاريفهاُ من العنابِ وقال بعض المحدثين: من كَفّ جاريةٍ كأن ّ بناَنهاَ ... من فضةٍ قد طرَُفتْ عناباَ وكأن يمنْاها إذا نقفتْ بها ... ألقتْ على يدها الشَمال حساباَ وقال أبو تمام: قالوا الرّحيل فأنَشبتْ أظفارَها ... في خدّها وقدِ اعتلقْنَ خضاباَ فاخضر تحتَ بنانهاِ فكأنماّ ... غرَستْ بأرْضِ بنفسجٍ عُناّباَ وأحسن المعلى الطائي كلّ الإحسان بقوله: أهدَتْ سلاماً إلى قلبي مُخالسةً ... عينَ الرقيبِ برخْص المتنِ كالعنمِ كأنما شافهَتْني في إشارتهاَ ... إليّ، عُناّيةُ أوْفتْ على قلمِ وقال الشاعر من جبل السماق: قالوا الرَحيلُ ضُحى غدٍ أوْ بعدهَ ... فلطمْنَ بالعنّابِ والأقلامِ فقال البحتري وغيره العبارة: حَسَرتْ عن بناَنها فأرَتْناَ ... ذَهباً من خضابها في لجُينَ فقال الناشئ المتكلم، وأحسن كل الإنسان:

متَعانقانِ يكُاتمانِ هواهماُ ... قد نامَ بينهما العتابُ فطاباَ يتناَقَلانِ اللحظَ من جفَنيهماَ ... فكأنماّ يَتدَارسانِ كتاباَ وإذا سهتْ عينُ الرقيبِ تخالستْ ... كفاّهما خلسَ السّلامِ سلاباَ بأناملٍ منهُ تلوحُ مدَاهناً ... وأناملٍ منها كسينَ خضَباَ فكأنما تجني لهُ من كَفهِ ... عنباً وتُجنيهِ لهُ عناّباَ وحاذَرَتْ أعينَ الواشينَ فانصَرفَتْ ... تَعَضُ من عيَنها العُنابَ بالبرَدِ وقال أبو نؤاس: وقالوا قد أجدْت فقلتُ إني ... وجدْتُ القولَ أمكَنني فجاداَ فقلت أنت: ) وما أنا وحدي قلتُ ذا الشُعر كُلُه ... ولكنُ شعِري فيهِ من نفَسِهِ شعرُ ( وقال أبو نؤاس: ترَىَ ضَوْءها ظاهرِ الكأس ظاهراً ... عَلَيكَ ولَو غَطيتهَا بغِطاء فأخذته أخذاً طريفاً ونقلته إلى المدح فقلت: ) إذا بداَ حَجَبَتْ عَيْنَكَ هَيبَته ... وليَس يحجُبهُ شيء إذا احتَجباَ وقال أبو نؤاس: فبُحْ باسمِ تهوَى وَدعني من الكُنى ... فلا خيَرَ في اللذات من دونِها سترُ فقلت: ) الحبَُ ما مَنَعَ الكلام الألنُسا ... وألدَ شكوَى عاشقٍ ما أعْلناَ ( وقال أبو نؤاس: فإنَي لطَرْفِ العيَنِ بالعينِ زاجرُ ... فقد كِدتُ لا يخفي علي ضَميِرُ فقلت: ) وأبصرَ من زَرْقاءٍ جَوُ لأنُسي ... إذا نظرَتْ عَينايَ شاءَ هما علمي ( وقال أبو نؤاس: إذا ضَنُ رَبُ المالِ ثَوُبَ جوُدُهُ ... يحَيُ على مالِ الأميرِ وَأذُناَ فقلت: ) ونادَى الندى بالنائمِينَ عن الندى ... فأسْمعَهُمْ فقد هلَك البخلُ ( وقال أبو نؤاس: فلم يبق لي لحما ولم يبق لي دما فقلت أنت: ) وخيَالُ جسِمْ لم يُخَلُ له الهَوَى ... لحماً فينْحلَهُ السقامُ وَلا دمَا ( ثم قلت له: أيقنعك هذا من أي نؤاس وفيه أم أزيدك؟ فقال: زد إن شئت وانقص، أما في أبي نؤاسك هذا الذي تنعى سرقي منه أسوة لغيره، وهو القائل: وتدَخُلُ عَينُها في كل قَلْب ... مَداخلِ لا تغَلغلُها المدام وإنما أخذه من قول ذي الرمة: وعيَنْانِ قالَ اللهُ كونا فكانتَا ... فَعولانِ في الألبابِ ما تفعلُ الخمرُ وهو الذي يقول: وخَيَمْةِ ناطورٍ برأسٍ منُيفةً ... تهُمُ يدا منَ رامهاَ بزَليلِ كأنّا لدَيها بيَنَ عطفَيْ نعَامةٍ ... جفاَ زَوْرُها عن منزِلٍ ومقَيلِ وإنما احتذى قول جرير: ظلَلْنا بمسْتنً الأراكِ كأنّما ... لدى فرَسٍ مستَقبلِ الّريحِ صائمِ أغرَ من البُلقِْ الجِياد يشُفّهُ ... أذى البقّ إلاّ ما احتمى بالقوائم فقلت له: إنّما أراد جرير أن خفوق الريح بالحاشية يشبه فرساً يرمح برجله إذا قرصه البق، وذكر خباء مصنوعاً من أثواب ألوان مختلفة من الثياب، ولذلك شبهه بالفرس الأبلق. وليس بيت أبي نؤاس منْ هذا ومشاكلاً له. فقال:: وقال الأعشى: بأشجَعَ أخّاذٍ على الدهرِ حكمهُ ... فمنْ أيّ ما يأتي بهِ الدهرُ أفرقُ فأخذ هذا أبو نؤاس: دارَتْ على فتيةٍ ذلّ الزّمانُ لهمْ ... فما يصيبهمُ إلاّ بما شاءوا فقلت له: لئن كان أخذه من الأعشى فلقد أحسن فيه. وإذا وقع الإنصاف علمت أن بيت أبي نؤاس أكرم لفظاً، وأعذب عبارة، وأكشف معنى، وفيه زيادة بقوله:) ذلّ الزمان لهم (. فقال: وقد قال الأعشى: وتَحْسبُ أنهمُ موْتى إذا ما ... تَمشّتْ فيهمُ الرّوحُ العقارُ فأخذه أبو نؤاس فقال: إذا لم يجُرهنّ القُطبُ متْنا ... وفي دوْراتهنّ لناَ نشُورُ فقال: وفي بيت أبي نؤاس زيادة وهو قوله: وفي دَوْراتهنّ لناَ نشُوُرُ وهذا بقول الأخطل أولى وهو: أقمنَ بها نُسقىَ سلافةَ قهوةٍ ... تموتُ لها أوصالنا ثم تنشُرُ فقال: وهو القائل: سائل القادمَين من حكَمان ... كيفَ خلفتهم أبا عثمانِ فيقولونَ لي جنِانُ كما سرّك ... في حالهاِ فَسلْ عن جِنانِ وهذا مأخوذ من قول الأول: وسائلةٍ عن رَكْبَ كلًهمْ ... ليَسمعَ حسّانُ بنُ زيدِ سؤالهاَ ثم قال: وكذلك قوله:

ذكّرني الورْدُ ريح إنسانِ ... أذكرُهُ عندَ كلّ ريحانِ إنْ فاحَ لم أملكِ البكا فإذا ... ما لاح كادَ النّديمُ ينعاني وهذا مأخوذ من قولك مالك بن أسماء: أنّ لي عندَ نفْحةَ بستْانٍ ... منَ الوَرْدِ أوْ من الياسميناَ نظرَة والتفاتةً أترجىّ ... أن تكوني حلَلتْ فيما يلَيناَ ثم قال: أزيدك أم حسبك؟ فقال أبو محمد، رحمه الله: بل حسبك، ففي بعض ما تفاوضتماه غنىّ عن غيره. ومكانك يا أبا الطيب غير مجهول. ونهض عن مجلسه ونهض أبو الطيب منصرفاً، وتلوّمنا بدار الوزير، فاستدعى الشراب واستدعينا، ومنع من حضور سماع. وأقبل يتصفح ما جرى ويكرر طرفه فيه، ويراجعني منه. وكان من مراعاته في الحال إياّي، وتكرمته لي، وصلته ما لم تزل عادته الكريمة جارية به. وقد عرف الرئيس حال أبي علي الحسين بن محمد الأنباري في خلافته المهلبي على الوزارة، ومصاهرته إياه على ابنته، ولطف منزلته منه ما لا حاجة بي إلى الإفاضة في ذكره، لأنه أشرد خبراً، وأبقي معلماً وأثراً. وكان المهلبي مع ذلك يريه بغير مرآته تفخيماً لقدره، وتعظيماً لأمره، وتقديراً أن هناك أدباً وفضلاً يتميز بهما عن غيره من نظرائه، ولم يك يبحث نحْلتهَ، وإنما هي أبيات يحاضر بها، وألفاظ يموه بها ويحفظها مجتناة من الصحف، وملتقطةً من ظواهر الكتب. وكنت لا أسيغه ريقه رداً لكثير يورده، وتنكباً عن الوجه الذي يطلبه ويتعمده فأحفظه ذلك، وأثر في نفسه تأثيراً لم تزل شماله تنطق به. فلم وقع الاجتماع مع أبي الطيب بعد منصرفه، اختار أبياتاً من شعره تفردّ بنعانيها وسبق إلى اختراعها، وواطأه على الممالأة علي، ووعده بتحديد الاجتماع معي وتفريعي بتلك الأبيات، واضطراري إلى التسليم لها، والإقرار لسبقه إليها، وعداً حصله ليوم عينه. واقترح على أبي محمد استدعاء أبي الطيب فاستدعاه. وكنت ملازم حضرة أبي محمد في مجالس حفلته وخلوته، ومتخصصاً كل التخصص به. وروسل أبو سعيد السيرافي، وعلي بن عيس الرماني، وأبو الفتح وأبو الحسن الأنصاري المتكلم، وغيرهم من أعلام أهل العلم، والذين تقع الإشارة إليهم في الأدب. فحضرت جماعة كان فيهم علي بن هرون مقبلاً على أبي الطيب فقال: ألست القائل: ) أعْددتُ للغادرينَ أسيافَا ... تجدَعُ منهم طليُ وآنافا ( من هؤلاء) الغادرين (الذين أعددت لهم هذه السياف؟ وما معنى قولك: ) تجدع منهم طلى وآنافا ( الطلى لها السيوف، والآناف تجتدع بالمواسي. وجعل يكرر هذا القول وأبو الطيب معرض عنه. فأقبل المهلبي على أبي سعيد فقال: ما تقول في ذلك، أجائز سائغ فصيح من كلام العرب قد أنشد أصحابنا في مثله أبياتاً؟ فأقبلَ على علي بن عيس الروماني فقال: الأمر على ما قاله، والتقدير: يجدع منهم آنافاً ويقطع طلى. فأقبل علي فقلت مثل قول الأول: تَراهُ كأنّ اللهَ يجدَعُ أنفْهُ ... وعيَنيه أنْ مولاهُ ثابَ لهُ وفرْ أراد يجدع أنفه ويفقأ عينيه ومثله: أراد علفتها تبناً وسقيتها ماء بارداً، ونحوه قول طرفة: وتَبسمُ عَن ألمْىَ كأنّ منَوراً ... تخَلَ حرَ الرّملْ دعصُ له ندى وَوَجْهٍ كأنّ الشمسَ ألقتْ قناعها ... عليهِ نفيً اللْون لم يتَخَدّرِ أراد: تكشف عن وجه. إلا أن أبا الطيب الجدع للطلى ثم اتبعها الآناف. ولو قدم الآناف ثم أتبعها الطلى، لكان محمولاً على مثل ما ذكرناه. فأقبل المهلبي على أبي الطيب كالملتمس كلامه، فقال أبو الطيب ولم يزد على هذا شاهداً: هذا كقول الآخر: شرّابُ ألبانٍ وسمنٍ وأقطْ فقلت: هذا كما ذكرناه آنفاً، شراب ألبان وأكال سمن وأقط؛ والاعتراض قائم بعينه، إلا أن تحمل الجدع للطلى على الاستعارة لها. فقال أبو سعيد: حملْ الكلام على التقديم والتأجير شائع كما قال الله تعالى:) يا مَرْيَمُ اقْنُتي لرَبكِ واسْجدي وارْكَعي معَ الرّاكعين (يريد، والله أعلم اركعي واسجدي فبدأ بالسجود على التقديم والتأجير. ثم أقبل علي بن هارون عليه فقال: أخبرني أمسلم أنت حين تقول: ) وأفضل آياتِ التَهاميً أنهُ ... أبوكَ وإحدى ما له من مناقبِ ( وحين تقول: ) وكلُ ما قد خلقَ الله ... لمهُ وما لم يَخْلقِ ( ) مُحتقرُ في همتيّ ... كشَعرةِ مفرَقي ( وحين تقول:

) يَترشَفْنَ من فميَ رشَفاتٍ ... هنُّ فيهِ أحلى منَ التوْحيدِ ( ثم أسر إلي وقال: أخبرني والله مخبر أن عمور لثاته فاسدة وأن نكهته مريحة فأضحكني. ولم يذكر أبو الطيب من هذا جواباً، فأحببتُ تسكين جأشه فقلت: ما أحسن ما قال المجنون: وإني إذا صلّيتُ وَجهتُ نحوْها ... بوجهي وإن المصُلى ورائياَ ثم تدارك هذا فقال: وما بي إشراكُ ولكنّ حُبهاً ... كعَظمِ الشَجا أعيا الطبيب المداويا أصليّ فماَ أدري إذا ما ذكَرْتهُ ... أثنْتين صليّتُ الضحىّ أم ثمانيِاَ فقال أبو الطيب: في هذا المعنى لطيف. فقلت: إنه كان لا يحصل ما يصلي شغلاً بحبها، فكان يعد الركعات فإذا عدّ اثنتين انبسطت إصبعاه فتخليهما ثمانية فاستظرف المهلبي هذا الجواب واستحسنه الحاضرون وتبسم أبو الطيب إلي واستدعى أبو علي الأنباري مدرجاً من صاحب دواته فقال: تكلموا على هذه المعاني، وتأملوا إحسان هذا الرجل فيها وسبقه إليها. وأقبل علي والمدرج في يده فقال: أنت المشار إليه في الحفظ، فاذكر ما عندك، ولنذكر الجماعة ما سنح لها، أو فلنسلم غاية السبق إلى أبي الطيب فقلت: أقول على شريطة ألا يعترض كلامي غيري، فإن ازدحام الكلام مضلة للفهم. أو فليقل غيري على شريطة تسليمي إليه عنفوان القول وأعقابه. فاستروحت الجماعة إلي، وابتدأ أبو علي الأنباري فقال ما ندك في قوله: ) وَخَصرُ تَثُبتُ الأبصارُ فيهِ ... كأنّ عليهَ من حَدقٍ نطاقاَ ( وأقبلت الجماعة تستحسن. فاقبل علي فقال: قل. فقلت: حسن. فقال: أما هو بكر؟ قلت: لا! كيف يكون بكراً وبشار بن يقول: ومكَللاتٍ بالعيون ... طرقتنا وخرجن همسا فأصبن من طرف الحديث ... لذاذة ورجعن ملسا حور يرقن إذا حلي ... ن عطلن خشين نفساً فقوله: " مكلللات بالعيون " هو البيت، وذلك المعنى. يول: إذا برزن صرف الناظرون أعينهم إليهم لحسنهن، فكأنهن كللن بالعيون. " ورجعن ملساً "، أي لم يأتين ريبة. وقوله: " إذا حلين "، أي لبسن الحلي، لا يلبسنه لحسنهن، وإنما يلبسنه عوذاً، لأنهن مستغنيات عن الزينة بجمالهن. وكذلك قوله: وإذا عَطِلُنَ خَشَيِنَ نفَساً يقول: خشين العين، فهن يدفعن العين بالحلي؛ فسرق هذا المعنىُ ابن الرومي: وتَلبسُ الحلي مجعولاً لها عوذاً ... لا زِينَةً بل بها عن ذاكَ غُنيانُ وقد قال أبو جعفر. . . المصري في المعنى الأول يذكر عيوناً ألحت بالنظر إلى شخص: مُسمُرات علَيهِ لَيسَ تنقَلعُ فقالُ ابن الأنباري فما تقول في قوله: ) أقامَتُ في الرقاُب لَهُ أيادٍ ... هي الأطواق والناُسُ الحَمامُ ( أما هذا مخترع؟ فقلت: كلا، بل هو من قولُ ابن الرومي: إذا امتدُحوا لم يُنحلوا فضلَ غيرِهم ... وهل تنُحل الأطواق وُرْقُ الحمائم وابن الرومي احتذى فيه قول محمد بن حازم الباهلي: أبى لي أن أطيل الشعر قَدي ... إلى المعَنى وعلمِي بالصوابِ فأبُعَثُهنُ أربُعةً وستاً ... بألفاظ مُشَقفَةٍ عذِابِ وهُنُ إذا وسَمتُ بهنُ قَوماً ... كأطواقِ الحمائمِ في الرقابِ وهنُ وإن أقَمتُ مُسافِراتُ ... تهَاداها الرواةُ معَ الركابِ وابن حازم احتذى فيه قول الفرزدق: فمَن يكُ خائِفاً لأذاةِ شعِري ... فقد أمِنَ الهِجاءَ بنو حرَامِ همُ قادوا سفَيههَمُ وخافُوا ... قَلائِد مثل أطواقِ الحَمامِ والأصل في هذا قول حسان بن ثابت، ولاحاه رجل فقال: اغرب وإلاّ طوقتك طوق الحمامة: فقال أبو محمد فما تقول في قوله: ) كَفى بجسمي نُحُولاً أنّني رجلٌ ... لولاْ مُخاطبتيّ إياكَ لم تَرني ( أمخترع هو؟ فقلت: كلا، هذا من بيتين أنشدناهما محمد يحيى: لماّ بلَيتُ منَ الهوَى ... خفت العيون من أن تراني لولا كلامي ما اهتدتْ عينُ الجليسِ إلى مكاني وهذا المعنى ينظر إلى أبي نؤاس: شعرُ حيٍّ أتاكَ من لفظِ ميْتٍ ... صَار بينَ الحياةِ والموتِْ وقفاَ قد بَرتهُ حوادثُ الدّهر حتى ... كادَ عن أعيُنِ الحوادث يخفَى لوْ تأملْتني لتثبتَ وجْهي لم ... تبنْ من كتابِ وجهيَ حَرْفاَ ولرَدّدْتَ طرْفَ عينك َفي جسْمٍ ... بَراهُ الصّدود حتى تعَفىّ

فقال المهلبي: ما احسب أنهّ قيل في النحول أحسن من هذا، فقلت: بلى، المجنون: فلوْ أنّ ما أبقيتِ منيُّ معَلَقُ ... بعودِ ثمامٍ ما تأوّدَ عُودُها وما أساء كثير في قوله: حمَلْت عَليها ما لوَ أنّ حَمامةً ... تحملهُ طارَتْ به في القفاقِفِ قُطُوعاً وأنساعاً وأعظمُ ناحلٍ ... أضربهِ طولُ الهوىَ والمخارِفِ وقلت: وتقدم الناس قول عمر بن أبي ربيعة: قليلُ على ظَهرِ المطيّةِ ظلهُ ... سوىَ ما نفى عنهُ الًرداءُ الُمحبر ويستحسن قولُ ابن الدُمينة: عظامُ بَراها الشوْقُ حتى كأنها ... محَاجنُ نَبعٍ ليسَ فيهنّ منزعُ فلا هنّ بالموتىَ ولا ينبعثنَ بي ... ولا طائر مماّ عليهنّ يشبَعُ وقال بشار: بينَ ثيابي جَسدٌ ناحلٌ ... لوْ هبّتِ الّريحُ بهِ طاحاَ وقال أيضاً: إن في ثوْبي جسماً ناحلاً ... لوْ توكّأتِ عليهِ لانهَدمْ فأعجب هذا أبا محمد إعجاباً شديداً، فقال: ما كنت أحسب أن أحداً سبق أبا الطيب إلى معنى بينه المتقدم، ولا زاد على إحسانه في وصف نحوله. ما تصنع بيته وهو مسوق على أنبأت الوزير به، وكل واحد من هؤلاء في هذا معنى لم يشركه فيه غيره. فقال الأنباري: فإن كان سبق إلى المعاني فيما ذكرناه، فل يسبق إلى قوله: ) وزائرِي كأن بها حياءً ... فليسَ تزُورُ إلا في المنَامِ ( ) بذلتُ لها المَطارِفَ والحشَايا ... فَعافَتها وباتَتُ في عِظامي ( ) إذا ما فارقَتُني غسلتني ... كأنا عاكفِان على حَرامِ فقلت له: حالهُ في هذا أسوأ منها فيما تقدم، فإنه أعتمد على قولُ ابن القعقاع: وزائرةٍ بلا عدِة أتتني ... فَحَلتُ بين جسمي والفُؤاد سِنَانُ للمنَايا إن تَراءت ... فنفسي والمنايا في طرِادِ كأن جوَارِحي إذ فارقَتَني ... عُيون تَستَمد من الغَوادي وقلت: وقد أحلت في قولك: ) إذ ما فارَقتني غَسلتني ... كأنا عاكفِانِ على حرَامِ ( والحلال أولى بالغسل وأخص من الحرام، فكيف خصصت الحرام بوصف يشركه فيه غيره، وله به اختصاص فوق اختصاصه. فقال أبو الطيب: أتيت بأحدهما فدل على الآخر وإن لم أذكره. وفي القرآن:) سَرَابيِل تقَيكمُ الحَرَ (وهي تقي البرد، وقد قال الشاعر: فَلا تعدي موَاعِدَ كاذِباتٍ ... نهَب بها رِياحُ الصيفِ دوني يريد ورياح الشتاء. فلما صدع بالحجة صدع الصباح رداء الظلام، وتخوفت أن يوهم الوزير أبا محمد أنه لا علم لي بما ذكره، قلت: أجل لكن قولك يبعد بعض البعد عن هذا، وإن كنت تحذو حذوه. من أجل أن الحلال أشد اختصاصاً بالغسل من الحرام، وليست السرابيل بأخص في وقاية الحر منها في وقاية البرد، ولا رياح الشتاء بأخص في هبوبها دون المواعد من رياح الصيف. وعلى أن بعض أصحابنا ذكر أنه خص رياح الصيف، لأنها أشد تعفية. فأعجب المهلبي هذا الاعتراض. قلت ومثل الآية قول الآخر: وما أدري إذ يَممت وجهاً ... أريدُ الخَيَر أيهمُا يلَيني فقال: " أيهما " إنما ذكر وأحداً، لأنه دل على الثاني، ثم تلا ذلك بأن قال: أألخَيرُ الذي أنا أبتَغيهِ ... أمِ الشرُ الذي هو يبَتغني وقد تكلم أصحاب المعاني في قول أوس بن حجر: وغَيرَها عَن وصلنِا الشيب إنهُ ... شَفيعُ إلى البيضِ الحسانِ مجربُ فقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: الهاء في " إنه " عائدة على الشباب، وجاز ذلك وإن لم يذكره، لأن الشيب دال، هذا قولُ ابن الأعرابي، وقال الأصمعي: يريد أنه كبر فأنست به. فقال أبو الطيب: لله درك فإن أحسن القول ما نطق به لسانك. فقال الأنباري: قد قال: ) أرىَ ذلك القرْبَ صارَ ازوراراَ ... وصارَ طويلُ السّلامِ اختصاراَ ( ) ترَكْتنَيَ اليوْمَ في حَيرةٍ ... أموتُ مراراً وأحْبا مراراَ ( ) فلوْ النّاسُ من دَهرِهمْ ... لكانوا الظلامّ وكُنت النهاراَ ( وقال: ) أسِيرُ إلى إقْطاعِهِ في ثيِابِهِ ... على طرِفْهِ من دارِه بحِسامه ( وقال: ) إلامَ طَماعِيةُ العاذِلِ ... ولا رَأيَ في الحُسب للعاقلِ ( ) يُرادُ مِنَ القلَبِ نسيانُكمْ ... وتأبَني الطُباعُ على الناُقِلِ ( فأنشد أبياتاً كان منها:

) فإن كانَ يركُمُ ما مضَىَ ... فعَوْداً إلى حمصِ في القابِلِ ( ) فإن الحسامَ الصقيل الذي ... قُتلسْتم بهِ في يَدِ القاتلِ ( فقال أبو الطيب: أما إحساني في هذه الأبيات عن إساءة، إن كانت، في غيرها؟ فقلت: ما أعرف لك إحساناً، ولا أعترف لك باختراع إذا كانت هذه الأبيات التي تتخيل أنك السباق إلى معانيها ورب الإحسان فيها مسترقة ملصقة، فيما تقدم من نظمها وابتكره أصحابها من معانيها، شاغل عن تكرير لها، وتبديل لألفاظها، وقد قيل: ولكنْ بكَتْ قبَلي فهَُيج لي البكُاَ ... بُكاها فقلُت الفضْل للمُتقَدُمِ أما قولك: ) أرى ذلك القرب صار ازوراراَ ( فمن قول بعض المحدثين: أقبَلَتْ ثمُ أعرَضَتْ لذَنْبٍ ... بأبي مَنْ دُنُوُها عادَ بعُدْاَ وأما قولك: ) أموات مراراً وأحيا مرارا ( فمن قول العباس بن الأحنف: لعَمري لقد جَعَلَ القاَدِ حُونَ ... بيني وبينكِ يُورونَ ناراَ ونفْسيِ مُعلقَةٌ بالرُجاء ... تمَوت مرِاراً وتحَيا مِراراَ وقولك: ) لكانوا الظلام وكنت النهاراَ ( فمن قول الآخر: بيضاء في وجنتها احمرار يعَيبهُا جاراتُها القِصَارُ ... هُن الليالي وهيَ النهارُ وقولك: ) أسير إلى إقطاعه في ثيابه ( البيت. . . من قول أحمد بن أبي طاهر: لوْ كنْتُ مِن أوْلادِ يحِيَى لما ... زادَ ولوْ كانَ أبُوهُ أبي مِن مالِهِ مالي ومِن جاهِهِ ... جاهي ومِن مَركَبِهِ مركَبي وأحمد بن أبي طاهر أخذه من شاعر قديم: فلَحمي وما قد سِيطَ باللُحم من دمي ... وجاهي وقَدْري من ثَراكَ ومالي ولوْ لم يقُمْ بالشُكرِ لفَظي لخَبَُرَتْ ... يَميني بما أولْيَتني وشمِالي ونَم بهِ جِلدْي وعَظْمي ومفَصِلي ... وعَبدي وبرذْوني ونضَرَةُ حالي وقد أخذت أيضاً قوله " ونم به جلدي " فقلت: ) أقَرُ جلِدْي بهاَ عَلي فَماَ ... أقْدرُ حتى المَماتِ أجحَدُها ( والأصل في ذلك المعنى قول النابغة الذبياني: فإنُ تلادي إنْ نَظَرْتُ وشِكُيُ ... ومهُري وما انضَمُتْ عليهِ الأنامِلُ حبِاؤكَ والعيِيُ الهجانُ كأنها ... هِجانُ المهَا تَرْدي عليها الرحائلُِ وقولك: ) إذا لم يعوذ مجده بعيوب ( من قول كشاجم: شخَصَ الأنامَ إلى جَمالك فاستَعِذْ ... من شُرَ أعيُنِهِمْ بعَيْبٍ واحِدِ وقولك: ) بشق قلوب لا بشق جيوب ( مقو قول أعرابي: ومن دونِ ما ألقاهُ من ألَمِ الهَوَى ... تُشَق قلُوبُ بَلْ تشُقُ جُيوبُ ولمُا نظرنا بِالرُقِيبِ ولحَحْظِهِ ... والحظي على لَحْظِ الرُقيبِ رقَيبُ وقولك: ) ولا رأي في الحب للعاقل ( من قول الأول: وما من فتى في الناس يُحَمدُ أمرُهُ ... فيوجَدَ إلا وهْوَ في الحُب أحمَقُ وقولك: ) وتأبى الطباع على الناقل ( من قول الأول: وكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا وقال الآخر: إن التخلق يأتي دونه الخلق وقولك: ) فإنُ الحُساَمَ الصقيل الذي ... قُتلِتُمْ بهِ يَدِ القاتِلِ ( من قول عمرو بن الأهتم: فإن الرُدَيْنيُ الأصَمَ كعُوبُهُ ... إذا عُدْتَ في ظلُمِ الصديقِ يَعودُ فبهره ما أوردته وقيد نطقه. وأعجب المهلي ذلك كل الإعجاب، فقال الأنباري: لله أبي الطيب في قوله: ) كذا قضَتِ الأيامُ ما ببنَ أهلهِا ... مصَائب قوْمٍ عند قوْمٍ فوائدُ ( فقلت بل لله در أبي العتاهية في قوله: مَوْتُ بعَضِ الناسِ في الأرْ ... ضِ على بَعْضٍ فُتُوحْ إلا أن أبا الطبي أكرم لفظاً، وأول من نطق بهذا المعنى عمرو بن حلزة، أخو الحارث، في كلمته التي أولها: لم يكُنْ إلا الذي كانَ يكُونُ ... وخطوبُ الناس في الدهرِ فنونُ ثم قال ي اثر هذا: ربما قَرتْ عيونُ بشَجى ... مُرْمضٍ قد سخَنتْ منهُ عيونُ فهذا قوله: ) مصائب قوم عند قوم فوائد ( فقال الأنباري: ومن قوم فوائد ) ومن نكدَِ الدُنيا على الحُر أن يرَىَ ... عَدُواً لهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُ ( فقلت: العجيب قول النظام البائس:

ومن نكَد الدُنيا على الحرَ أن يرىَ ... عَدُواً فيهَوىَ أن فيهوَى أن يقُالَ خلَيلُ وإلى هذا المنى ذهبُ ابن المبارك بقوله: مَن دَليلي إلى طريقِ رَشادي ... مضنْ مُعيني مَنْ طالبُ لي طَريقاَ لم تزَلْ بي نَوائبُ الدهرِ حتى ... ترَكَتْني لِمَنْ أعادي صَديقاَ على أن القاسم بن يحيى المريمي وخليق بأن تكون عليه عولت فقد قال في قصيدة أولها إنْ كانَ رَأيك في أمورِكَ ثاقبِاً ... فاصْبرْ وَلا تكُ للقضاءِ مُغالبِاَ فقال فيها: نفَسي فِداؤكَ ضائراً أوْ نافعاً ... أو زاهِداً في عَبدهِ أوْ راغِباَ لأصبت ما كَبتَ العدو وكان لي ... فرَحاً وكانَ على العدوَ مصائباَ وقد قالُ ابن الرومي: عَدُوُكَ من صدَيقك مُستفادُ ... فلا تَستكثرنّ منَ الصحابِ فإنّ الدّاء أكثرَ ما تراهُ ... يكونُ منَ العظامِ أو الشرابِ وقد أخذتَ البيت الأخير من هذين بأسره فقلت: ) يَقُول ليَ الطّبيبُ أكلتَ شَيئاً ... وداؤكَ في شرابِكَ والطعامِ ( وينظر إلى هذا المعنى قول أبي نؤاس وكان أوله: إذا أمتَحَنَ الدّنيا لبيبُ تَكشفتْ ... لهُ عنَ عَدوٍ في ثيابِ صَديقِ وأبو نؤاس احتذى في هذا القول جرير: دَعَوْنَ الهوىَ حتى ارتْمينَ قلُوبناَ ... بأسْهُم أعداءٍ وهنّ صديقُ فقال الأنباري: أتعرف لأحد هذا المعنى: ) بَنُو كَعبٍ وما أثّرتَ فيهمْ ... يَدُ لم يدْمها إلاّ السَوارُ ( فقلت له: ليس كلّ معنى استرقه يحضرني، ولكنني أعرف له في هذه الكلمة: ) مَضوْا متَسابقي الأعضاء فيهِ ... لأرْؤسهمْ بأرْجلهمْ عثارُ ( ) إذا سَلَكَ السّماوةَ غير هادٍ ... فقَتْلاهُمْ لعينيَه منَارُ ( فأما قوله: ) لأرْؤسهمْ بأرجلهمْ عثارُ ( فمن قولُ ابن المعتز: صَيّروا هاماتهِمْ ... في التّرابِ أرْجُلاُ وأما قوله: ) فَقَتْلاهمُ لَعيَنيهِ منَارُ ( فمن قول ذي الرمة: ودَويّةٍ قَفْر يحارُ بهاَ القَطاَ ... أدلاَء رُكْباها بناتُ النّجائبِ يُحابي بها الجلَدْ الذي هوَ حازِمُ ... بضرْبةِ كفّيهِ الملاَ راكبِ قطَعتُ بشُعْبٍ كالنضًالِ فاصبحوا ... مع الأهلِ جذَلي في متونِ السّباسب ثم قلت: هذه القطعة من أبيات المعاني. وأقلبت على أي الطيب فقلت: هل يحضرك فيها وقول؟ فاعرض من جواي وتشوف المهلبي إليه، فقلت: أراد بقوله " يحاربها القطا " لسعتها واشتباها، وخصص القطا أهدى الطير، قوله: أدلاء ركباها بنات النحائب هو قول أبي الطيب: ) فقتلاهم لعينيه منار ( فبنات النجائب أولادها تساقطها في الطريق من جهد السير، يستدلون بها. وقوله: " يحايي " من الحياة أي يستحيي بها، وقوله بضربة كفيه الملا " يريد أنه يتيمم بالتراب ويستسقي الماء ليستقيه صاحبة ولا يتوضأ به والنصال: نصال السهام، شبه الركب بها في ضمورهم وشحوبهم، وقوله: " فأصبحوا مع الأهل " يريد أنهم عرسوا فناموا فحملوا بأهلهم في نومهم. فقال أبو سعيد السيرافي: هذا كقول الآخر: قد ألقَحتُ فِتياُننَا الرحائلا ... ما تركوا منهُنُ حنِواً حائِلا يريد أنهم احتملوا على الرحال. فقال علي بن عيسى الرماني هذا كقول دعبل: فلَمُ أرَ مَطروقاً يحلُ بضَيفه ... ولا طارِقاً يعُطي المُنى ويشيبُ فاستحسن ذلك المهلبي، فقلت: ومله قول الراعي: كفَاني عِرِفَانُ الكَرَى وكفَيتهُ ... كُلوءَ النجومِ والنعُاسُ مُعانقُه فَباتَ يرُيهِ عرِسَهُ وبَناتِهِ ... وبتُ أري النجُمَ أينَ مَخافقُهُ وقلت: مثل قول ذي الرمة: أدلاء رُكباها بَناتُ النجائِبِ قول الآخر: بيِهماء يسَتافُ الترابَ دلَيلها ... وليَسَ بها إلا اليمانيُ مُخلِفُ تَجاوزتُها وحَدي ولم أرهَبَ الردى ... دَليلي نَجمُ أو حُوارُ مُختلفُ يقول: أجهضت الإبل م شدة السير فيها، فألقت أجنتها، فصارت كالمنار لساكنها يستدل ويهتدي بها. فاقبل المهلبي على أبي سعيد وأبي الحسن الرماني يستفهمها ويستزيد منهما فقالا: أمر على ما قال، وهكذا ذكر الأصمعي، فأعجبه ذلك. ثم قلت: وأعرف من تلك القصيدة قول أبي الطيب:

) فكُنتَ السيفَ قائِمهُ إليها ... وفي الأعداء حدَكَ والغرارُ ( وهذا من قول الأول: نقُاسمِهُمُ أسيافَنا قِسمَةٍ ... فينا غَواشيها وفيهم صُدورُها فقال علي بن عيسى هذا كما قال الآخر، أنشدناه محمد بم الحسنُ ابن دريد: يُنازعُني رِدائي عَبدُ عَمرو ... رُويدَكَ يا أخا سَعدِ بن بكرِ ليَ الشطرُ الذي ملَكتُ يَميني ... فدونَكَ فاعتَجِرُ منهُ بشَطرِ قلت وأعرف فيها: ) كأن شُعاعَ عَينِ الشمسِ فيهِ ... ففَي أبصارِنا عنهُ انكِسارُ ( وهذا قول الآخر: إذا أبصَرتنَي أعرضَتَ عني ... كأن الشمسَ مِن قبِلَي تدورُ وأعرف منها قوله: ) فخَلفَهُمُ بردُ البيِضِ عنهم ... وهامُهُمُ لهُ معَهَم معُارُ ( وهذا كأنه من كلام الصوفية. فقال الأنباري أتعرف لأحد مثل قوله: ) أمُلتُ ليَليةَ ساروا كَشفَ معِصمها ... ليلبثَ الحَيُ دونَ السيرِ حَيرانَا ( فقلت: نعم قول محمود الوراق ومنه أخذ المعنى: قلتُ ارفعي السُجفَ نستمتع بمجلسنِا ... فالشمس ما غيبتُ من وجهكِ الكلِلَ فقال الأنباري: أين هذا من ذاك؟ فقلت: هو هو إن أنعمت النظر فقال أبو الطيب وفي هذه الكلمة أقول: ) أما الثيابُ فتَعرَى ومن محاسِنِها ... إذ نضَاها ويكسَى الحُسنَ عرُيانا ( فأعجلته بأن قالت: هذا الذي التزمته في قوله: زَينُ الثُيابِ وإن أثوابُها استُلبِت ... على الحَشِيةِ منها زانهَا السُلَبُ فقال وفيها أقول: ) كأنُهُمُ يَرِدونَ المَوُتَ من ظَمأ ... أو ينشَقُونَ من الخَطيُ رَيُحانَا ( فقلت سرقته من البحتري: يَتَزاحمونَ على القِتالِ لدى الوَغى ... كتَزاحُمِ الذُود العِطاشِ لمَورِدِ قال: وفيها أقول: ) لا أستزَيدُ على ما فيك من كَرَمٍ ... أنا الفتى نِمتُ إن نَبهُتُ يَقظانَا ( فقلت هذا مسروق من قول أبي تمام: نعِمةُ الله فيكَ لا أسأل اللهَ ... سواها نعُمى سوىَ أن تدَومَا ولو أني فعلتُ كُنتُ كَمَنُ ... يَسألُهُ وهوَ قائمٌ أن يَقُومَا وقد قال جرير: إني وحُبكِ لو أردتِ زِيادةً ... في الحب عندي ما وَجدتِ مزيدَا فقال أبو الطيب وفيها أقول: ) عَلَيكَ منكَ إذا أخلَيتَ مُرتقِبُ ... لم تأتِ في السر ما لم تأتِ إعلانَا فقلت هذا مسروق من قول الآخر: لمَن لا أرىَ أعرضُتُ عن كل من أرَ ... وصِرتُ على قَلبي رَقيباً لقاتِلِهُ وقد قال العباس: أغُضُ إذا نظرتُ إلى سواكُمُ ... كأن لكم على قلبي رَقيِباً فأحفظه ذاك، ورسم المهلبي الأناة به، وأومأ إلي. فقال أبو العلاء صاعد بن ثابت، وكان في الحال يخلف المهلبي: أنا أستحسن قول أبي الطيب في سيف الدولة: ) يَمشي الكرِامُ على آثارِ غيرِهمِ ... وأنتَ تَخلُقُ ما تأتي وتَبتدَعُ ( ) مَن كان فوق محَل الشمسِ موضعُه ... فليَسَ يرفعُه شيء ولا يضَعُ ( فقال المهلبي: هذا بكر لم يقله أحد. ثم أقبل على الجماعة وقال: هل تعرفون هذا لأحد؟ فقال أبو الحسن الأنصاري، وكان متعلقاً بأذيال الأدب: يرجع إلى تواب الذي يخرج السرق، يريدني فقال: ما عندك فقلت: الأول مسروق من قول الصنوبري: وما كفَاكَ بأن ألفيِتَ مُتبِعاً ... في الجُود حتى لقت ألفيتَ مبُتدعا وما الثاني فمسروق من قول بني دلامة، وبعض أصحابنا يرويه لماني: لو كان يقَعُدُ فوقَ من كرَمٍ ... قومُ لقيِلَ اقعُدوا يا آلَ عَباسِ ثم ارتَقُوا في شُعاعِ الشمس كلكمُ ... إلى السماء فانتم سادةُ الناسِ وأول من نطق بهذا المعنى زهير في قوله: لو كان يقَعدُ فوقَ الشمس من كرِمٍ ... قومُ بأولهِم أو مَجِدهم قَعَدُوا

فلما غشي أبا الطيب موج هذا الكلام قال: رويداً، أما ما نعيته علي من السرق فما يدريك أني اعتمدته، وكلام العرب آخذ بعضه برقاب بعض، وآخذ من بعض، والمعاني تعتلج في الصدور، وتخطر للتقدم تارة وللمتأخرة أخرى، والألفاظ مشتركة مباحة. وهذا هو عمرو ابن العلاء سئل عن الشاعرين يتفقان في اللفظ والمعنى مع تباين ما ينهما، وتقاذف المسافة بين بلادهما، فقال: تلك عقول رجال توافت على ألسنتها. وبعد، فمن هذا الذي تعرى من الأتباع، وتفرد بالاختراع والابتداع لا أعلم شاعراً جاهلياً ولا إسلامياً إلا قد احتذى واقتفى، واجتذب واجتلب، هذا امرؤ القيس يقول: جُؤجُؤُ حَشرُ كأن لشجامَهُ ... يُعالَى به في رأسِ جذِعٍ مُشذبِ وإنما اعتمد غيه على أبي داود: وهادٍ تَقَدُمَ لا عَيُبَ فِيهِ ... كالجذِعِ شُذبَ عَنهُ الكَرَبُ وقال أيضاً: كأنُ مَكاكيُ الجوِاء غدُيةً ... صُبِحنَ رَحيقاً مِن سُلافٍ مفلفل وإنما اعتمد فيه على أبي داود الإيادي: تَخَالُ مَكاكيِهُ بالضحى ... خلاِلَ الدقارِي شَرباً ثماَلا وقال امرؤ القيس يصف فرساً: كأن غُلامي إذا عَلا حالَ متَنِهِ ... على ظَهرِ بازٍ في السماء مُحلقِ وهو من قول أبي داود: إذا شاء راكبُهُ ضَمهُ ... كما ضَم بازٍ إليَهِ الجَناحَا وقال امرؤ القيس: مِكرٍ مِفَر مقُبِلٍ مدُبِرٍ معاً ... كجلُمودِ صَخرٍ حطه السيلُ من علِ وإنما اعتمد فيه على أبي داود في قوله: منِفح مِطرحُ مِعَنُ مِفَنُ مِخلَطُ مِزيَلُ جموحُ خَروجُ وقال امرؤ القيس واصفاً برقاً: ويهدَا تاراتٍ سَناَهُ وتارةً ... ينَوُء كما ناءَ الكسيرُ المهَيضُ اعتمد فيه على أبي داود أيضاً في قوله: وانداح يَنهضَ نَهضَ الكَسيرِ ... جأجَأهُ الماءُ حتى أسالا وقد أخذه عدي بن زيد منهما فقال: وحبيّ بعدَ الهُدُو تُهاَديهِ ... رياحُ كَما يزَجىً الكَسيرُ فهذا أمير الشعراء؛ ومن بعده النابعة، وقد قدّمه عليه قوم، فقال وتَخالهاُ في البيتِ إذْ فاجأتها ... قد كانَ محجوباً سراجُ المَوقد وإنما اعتمد فيه على قول امرئ القيس: تضُيء الظّلامَ بالعشاء كأنهاّ ... منَارَةُ مسمىَ راهب متَبتلِ وقال زهير: يَطعنهمْ ما ارتموْاْ حتى إذا اطعنوا ... ضاربَ حتى إذا ما ضاربوا اعتَنقاَ وإنما اعتمد فيه على قول مهلهل: أنْبضواُ معَجسَ القسيّ وأبرَقْنا ... كما توُعدُ الفُحولُ الفحُولا وقال الأعشى يصف الطيف: يَلوينَي ديْني الغَداة وأقتضيِ ... ودينْي إذا وقَذَ النّعاسُ الرقدّاَ وإنما أخذه من قول عمرو بن قميئة: نأتْكَ أمامةُ إلاّ سؤالا ... وإلاّ خَيالاً يوُافي خياَلا يواُفي معَ اللّيلِ ميعادُها ... ويأبىَ معَ الصبّح إلاّ زَوالا فقلت له: من هاهنا أخذ قيس بن الخطيم: أنىّ سَربتَِ غَيَر سَروُبِ ... وتُقَربُ الأحلامُ غيرَ قَريبِ ما تمَنعَي يقَظيَ فقدْ تؤُتينهُ ... في النوْمِ غيرَ مصردٍ محسوبِ فأخذ هذا البحتري فقال: بنفسيَ من تنأى ويدنو ادّكارها ... ويبذُلُ عنها طيفهاُ وتماُنعُ قال: وأخذ الأعشى قوله: تَبيتوُنَ في المشتى ملاءً بطونكمْ ... وجاراتكمْ غرْثىَ يبتنَ خمائصاَ من قول الأشعر: لا يصلُحُ الجارانِ أنْ يتجاوَرَا ... هذا أخوُ شبعٍ وذا طاوي المعاِ وهذا عبيد بن الأبرص أخذ قوله: والناسُ يلحْونَ الغَوِيَ إذا همُ ... خطبواَ الصّوابَ ولا يلاُم المرْشدُ من قول المرقش الكبر: فمنْ يلقَ خيراً يحمدِ الناّس أمرهُ ... ومنَ يغْولاِ يعدْمْ على الغيّ لائِما وقال الأخطل: أما السُراةُ فمِن ديباجةٍ لهَقٍ ... وبالقوائمِ مثلُ الوَشمِْ بالقارِ وإنما أخذه من قول المسيبّ بن علس في قوله: كأنّ على الظّهرِ ديباجةً ... وسُدُ القَوائمِ يحسبنَ قارَا وهذا جرير أخذ قوله: وإني لعفُ الفقرِ مشتَركُ الغنى ... سريعُ إذا أرْضَ داري، احتمالياَ من المنخبل السعدي في قوله: إني لترَزْؤني النَوائبُ في الغنى ... وأعفُ عندَ مشَحةً الإقْتارِ

ولجرير في هجاء الفرزدق: تَسيلُ علَيهمُ شعُبُ المخازي ... وهمْ كانوا لسوأتها قَرارَ وللفرزدق في هجاء جرير: أنتمُ قَرارةُ كلّ معَدنِ سوْأةٍ ... ولكلّ سائلةٍ تسيلُ قَرارُ وقد أخذاه جميعاً من أعشى باهلة في هجاء الرقاد بن عمرو الجعدي: بنوُ حصْنٍ قرَارةُ كلّ لؤمٍ ... كذاكَ لكلّ سائلةٍ قرارُ وأخذ الفرزدق قوله: جرْدَ القيادِ وفي الطرَادِ كأنهاّ ... عقبانُ يوْمِ تغَيمٍ وطلالِ وأخذ قوله: وذاتِ حليلٍ أنكحَتْها رِماحُنا ... حَلالاً لمنْ يبَني بها لم تطَلقِ من سُليك بن السلكة في قوله: وكَمْ أيمٍ قد أنكَحَتهْا رِماحُنا ... وأخرى على عمّ وخالٍ تلهفُ ثم قال: وهذا نبذ يسير من شيء كثير لا يأتي عليه الجمع والاستقصاء، فضلاً عما تساعد به القريحة ويميله الحفظ للمذاكرة. فاشرأب الوزير إلى كلامه، وأصغت الجماعة إلى قوله: وأظهرت استحساناً لا يستحقه ما أتى به. فقلت له: أما قولك إن المعنى يعتلج في الصدر فيخطر للمتقدم تارة وللمتأخر أخرى، وإن الألفاظ مشتركة، فليس الأمر كما تخيلته، ولا الكلام كلهّ مشترك، ولا أن الأول ليس بأولى به من الآخر. ولو كان كذلك لسقطت فضيلة السابق، ولبطلت مهلة المتقدم ولما قدمت شعراء الجاهلية على شعراء الإسلام، وقدم الصدر الأول من الإسلاميين على الصدر الأول من المحدثين ... وإنما حكم لهم بالفضل، وسلم إليهم خصله من أجل ما ابتدعوه من المعاني، وسبقوا إليه من الاستعارات، وابتكروه من التشبيهات الواقعة والأمثال الشاردة، وذللوه من طرق الشعر الحزنة ولما تغايروا بالسرق والاجتلاب والنقل والاجتذاب. ألا ترى إلى قول قرادُ ابن حنش المري هاجياً بني عوف: إذا ما انتَدوا أقعَوا بيوتهِم ... جُلوس إماء الحي حولُ المَجازر وإن نَطقُوا قالوا بما قِيلَ قَبلَهُم ... وإنَ وَرَدوا حلو خلاِلَ الصوادِرِ وعير جرير الفرزدق باجتلابه فقال: ستعَلمُ مَن يكون أبُوه قَيناً ... ومنَ عُرفَت قَصائدُهُ اجتلابا ولما قال كعبُ: فمَن للقوافي شانها من يَحُوكُها ... إذا ما مضَىَ كعبُ وفوزَ جرولُ أعترضه مزرد بن ضرار، وأخو الشماخ، فقال: مررَت على كعب فخِلت أوبدِي ... أوابد تعَلوا فوقَ كعبٍ وجرول فهَل خُضتَ بحراً قصر الناسُ دونه ... من الشعر أم هل قلتًَ ما لم تقُولِ وقال ابن هرمة يذكر قوماً استرقوا شعره، واستعاروا معانيه: أغذو تلاداً من الأشارِ أصلحها ... صلاحَ ذي الحزم للحاجات والرتلِ احذو قصائدَ للراوينَ باقيةً ... كأنها بينهمَ موشيةُ الحُللِ أما نسيباً وإما مدَحَ ذي فَخَرٍ ... يبقى وإما ادخاراً من ذوي خطَلِ حتى إذا امتلأت أسماعهم عجبَاً ... واستوقفت في قلوب القوم كالعسلِ أهووا إليها لغوصٍ في مسارحها ... لم يقرعوا أمهات الشول للحبلِ فاستطلعوا عقلاً لا يعقلون بها ... وأوضعوا قعَد المجموع في الهملش وما أشاركهم في طرقِ فحلِهم ... ولا بسهَلٍ أراعيهم ولا جَبلِ ما إن أزال أرى وسَمي فأعرفه ... في ذود آخر موسوماً على قبلِ وما وسَمتُ قلاِصاً وهيَ راتعَةُ ... حتى أتتُ رَغَم الاقيادِ والعُقَلِ وما قولك: من هذا الذي من التباع والاحتذاء، وسلوك الطريق التي تقدم إليها غيره من الشعراء؛ فلعمري إن الأمر على ما ذكرته، إلا أنه لا يحمد من الكلام ما كان غاباً، ولا المعاني ما كان مكرراً مردداً. فلا يتسمح الشاعر بأن يكون جمهور شعره عند التصفح مسترقاً ملصقاً، ومجموعاً ملفقاً، ولا أن يكثر الاعتماد في شعره، ويتناصر السرق في كلامه. ومن السبيل المحتذي أن يأخذ المعنى دون اللفظ، ثم أن يطويه أن كان مكشوفاً، ويكشفه إن كان مستوراً، ويحسن العبارة عنه، ويختار الوزن العذب له، حتى يكون بالأسماع عبقاً وبالقلوب علقاً. ألا ترى إلى قول الأعشى: وذَرْنا وقَوْماً إنْ همُ عَمدَوا لنا ... أبا ثابتٍ واقعُدْ فإنُكَ طاعمُ فأخذه الحطيئة، فأحسن العبارة عنه، واستوفى المعنى فيه، فصار أحق به من المخترع له بقوله:

دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لبُغيَتها ... واقُدْ فإنُكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي وكما قال امرؤ القيس: ولا مِثلَ يَوْمٍِ في قُذارَنَ ظلِتْهُ ... كأني وأصحابي على قَرْنِ أعْفَراَ فأخذه المرار وكشفه وقال: كأنُ قلُوبَ أدلائِهاَ ... مُعَلُقَةُ بقُرُونِ الظُباء وكما قال المرقش في شبلين: ما مَرُ يوْمُ إلاُ وعندهما ... لحُم رِجالٍ أوْ يُولغانِ دما فنظر امرؤ القيس نظراً فقال: كأنُ قُلوبَ الطُيرِ رَطباً ويابساً ... لدى وكَرِها العُنابُ والحَشَفُ البالي وذلك أن امرأ القيس ذهب إلى أن العقاب مرزوقة وأن الصيد عندها، إلى هذا ذهب المرقش في وصف اللبوة إلى أنها مرزوقة وإلى أن الفرائس عندها كثيرة. وأنت إذا تأملت الأبيات التي احتجت بها وجدت كثيراً من المأخوذ فيها مبرزاً على المأخوذ منه، متقدماً في ميدان البيان، محكوماً فيه للآخذ بالإحسان، أو مساويا له كل المساواة. فمن المساواة قول امرئ القيس: فلو أنها نَفسُ تَموت سويةٍ ... ولكنها نَفسُ تَساقَطُ أنفساً فأخذه عبد بن الطيب، فكشفه ... وأرهفه وساوى فيه من تقدمه فقال: فما كان قَيسُ هَلكُهُ هُلكَ واحد ... ولكنِهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَدَمَا ونظير هذا قول نابغة الذبياني: سقَطَ النُصِيفُ ولم تُرِد إسقاطَه ... فتناَولَتُهُ واتقَتنا باليَدِ فأخذ المعنى أبو حية النميري فأحسن كل الإحسان لزيادة لطيفة زادها في قوله: فألقتُ قِناعاً دونهُ الشُمسُ واتقتُ ... بأحسَنِ مِوصُولَيِن: كفٍ ومعِصَمِ فوجبت له المساواة بهذه الزيادة، ولم يعط الفضل على النابغة لتقدم النابغة في الاختراع لهذا المعنى. والزيادة قوله: " دونه الشمس " يريد مثل الشمس، وبقوله: " بأحسن موصولين ". فأما أن يجتلب الشاعر المعنى ويقصر عن استيفائه تقصيرك، ويسيء العبارة عنه إساءتك، ويقع أبداً دون الأول، فغير محمل له، ولا متسمح فيه، ولا محكوم بالإحسان في شيء منه. ألا ترى إلى قول طرفة: لعَمرُ إن الموتَ ما أخطأ الفَتى ... لَكَالطوَلِ المرخى وثنِياه في اليدِ فأخذه الراعي فقصر كل التقصير فيه بقوله: وأعلَمُ أن الموتَ يا أم عامرٍ ... قَرِينُ محيطُ حبَله من وَرائِيَا فانظر إلى تفاوت ما بين الكلامين مع سبق المتقدم إلى المعنى. وقال طرفة فإن كنتُ ماكولاً فكُنُ أنتَ آكلي ... فبعضُ منَايا القومِ أشرفُ من بعض فأخذه عبد الله بين الحجاج الثعلبي فقال: فأن كُنتُ مأكولاً فكُنُ أنتَ آكلي ... وإن كنتُ مَذبوحاً فكن أنتَ تذبحُ فأساء كل الإساءة، وأبدلنا من ذلك المثل السائر واللفظ الفصيح بما برهن عن كلال حده وشح زنده وقال المرار يذكر الظليم: ذو بُردةٍ خُلتُعلى جؤُشوُشهِ ... سوداءَ جافيَةٍ منَ الغَزلِ وشقَيقَةٍ بَيضاء غيرِ طَويلةٍ ... عَن رُكبتَيهِ قَليلَةِ الفَضلِ قوله: " جافية من الغزل " لانتقاش ريشه. وشبه سواد أعاليه وصدره ببردة سوداء قد خلت عليه. وشبه بياض أسافله إلى ركبتيه بشقيقةٍ بيضاء، هو ما شق باثنين، لأن إذا بل ركبتيه انقطع فأخذ هذا الطرماح فاختصر لفظه وأحسن العبارة عنه بقوله: مجتابُ شَمُلَة بِرُجدٍ لسَراتِه ... وَزَراً وأسلَمَ ما سواه البُرجُدُ يقول: ظهره مخطط. وقال النابغة يصف ثوراً وحشياً وهو من معانيه التي ما سبق إليها مِن وَحشِ وجَرَةَ مَوشِيُ أكارِعُهُ ... طاوي المصَيرِ كسيَفِ الصيقلِ الفَرِدِ فأخذه الطرماح وزاد أحسن زيادة، وصار من أجلها أحق بالمعنى بقوله: يَبدو وتُضمِرُهُ البِلادُ كأنه ... سَيفُ على شرَفٍ يسُلُ ويغُمَدُ فشبهه في حالي ظهوره وخفائه بالسيف في حالي سله وإغماده، وقد قال بعض العرب: تاهَتُ عَلُي بأنُ تَمتُ مَحاسِنُها ... خَوُدُ تكلمُ في أعطافها الفِتَنُ هَمُتُ بإتياننِا حتى إذا نَظَرَتُ ... إلى المرِاةِ نهاها وَجههُا الحسنُ فأشار أبو نؤاس إلى هذا المعنى إشارة خفية وزاد زيادة لطيفة فقال: تَطَلعُ في المِرَاةِ فقالَ إيها ... أنا الشمسُ الني لا شكُ فيها

أنا واللهِ أصُلُحُ للمعَاصي ... إذا أهلُ الذنُوبِ تقَارفوُها فانظر إلى لطفه في الأخذ، وحسن تأتيه للاتباع والاحتذاء. ثم قلت ولم أجدهم يحمدون إكثار الشاعر من الأتباع، وإكثاره من الأخذ والرق، فإن ذلك منه يدلب على ضيق المجم، على الفقر والاختلال، وعلى قصور الخاطر وبلادة الفكر وجبن القريحة. فأعجب المهلبي بما أوردته، ووكد وصاة من كان نصبه من كتابه لإثبات ما جرى وضبطه وتحصيله واستيفائه. وقال: إنما نأتيكم الفينة بعد الفينة، فإذا أتيناكم فأحسنوا القرى. ونهض مغضباً، فأمر المهلبي برده فرد مكرها، ول يطل الجلوس ونهض. فلما انصرف أقبل علي المهلبي وقال: أريد أن تفاوضه الكلام في شعر أبي تمام والبحتري، وتلبو ما عنده فيهما. ومضى أسبوع ولم يستدعه ولم يحضر مبتدئاً، ثم حضر واعتذر من تأخره، وقد كان أبو علي الأنباري جر له حبال الطمع، ووعده عن المهبلي بما كان بعيداً من الوصول إليه، لسوء رأي المهلبي فيه. فأومأ إلي أن جاره ما وسمت لك مجاراته. فسألته إنشاد كلمته التي أولها: ) وَاحَرُ قَلباهُ ممِنُ قَلبُهُ شَبِمُ ... ومَن بحالي وجسِمي عندَهُ سَقَمُ ( فتلكأ يسيراً، ثم ابتدأ فأنشدها إلى أن انتهى إلى قوله: ) وَالحَيلُ والليلُ والبَيداء تعَرِفُني ... والحربُ والضربُ والقِرطُاسُ وُالقلمُ ( فاستحسنت الجماعة هذا البيت استحساناً أفرطت فيه. فلت: إنما أخذه من إماميه. فقال: ومن إماماي اللذان استلحقت شعرهما، وهتكت حريمهما، وأنحيت عليهما، وتناكرت معرفتهما؟ قلت: أبو تمام والبحتري، فأما البحتري فقال: يا خَليلي بالسواجيرِ من أدُ ... بن معَنٍ وبحُترُِ بنِ عَتُودِ اطُلبُاً ثالِثاً سوايِ فإنيُ ... رابعُ العِيسِ والدجى والبِيدِ وأما أبو تمام فقال، وعليه اعتمد البحتري: العيِسُ والهَمُ والليلُ التُمامُ معَاً ... ثَلاثَةُ أبَداً يُقُرنُ في قَرَنِ وأبو تمام احتذى فيه قول الشنفرى: ولَي دونَكم أهلونَ سيدُِ عملُسُ ... وأرقَطُ زُهلوُلُ وعَرَفاءُ جَيألُ ثَلاثةُ أصحابٍ فُؤادُ مُشَيُعُ ... وأبيضَ إصُليتُ وصفَراءُ عَيطلُ وإلى هذين البيتين نظر ذو الرمة في قوله: ولَيُلٍ كجِلبابِ العَرُوسِ أدرَعتُهُ ... بأربعةٍ والشخصُ في العينِ واحِدُ أصمُ عِلافيُ وأبيضُ صارمُ ... وأعيسُ مَهُرِيُ وأروَعُ ماجدُ فقال بعض لحاضرين، وأحسبه الأنباري: ما يشبه الليل من جلباب العروي؛ فأمسكتُ. فقال المهلبي: ما تقول؟ فقلت له: لا يشبه الليل من جلباب العروس شيئاً إلا طوله وسبوغه. فقال المهلبي فما يريد بقوله: بأرُبَعةٍ والشخصُ في العَينِ واحِدُ فقلت: إنه يريد أنه نظر إلى هذه الجملة مجتمعة في ظلمة الليل، فتخيلها شخصاً واحداً. فقرع سمعه من كلامي ما أيقظ حميته وهز للشغب عزيمته وحرك سورته فتمثل بقول الشاعر: وقد تذُكَرُ الأشياءُ بالشيء بعدَها ... ويرجِعُ للوُدُ العَدُوُ المبُايِنُ وقال: أما أبو تمامكم هذا الذي يقول: تجَرُعُ أسى قد أقفَر الجَرَعُ الفَردُ ... ودَعُ حِسيَ عينٍ يحَتلِبُ ماءه الوَجدُ فأحال أقبح إحالة، واستعار أبع استعارة، بتصييره للعين حسيا، والأحساء توصف بقلة الماء، ومن شأن الدموع أن توصف بالغزارة من ذوي الوجد والصبابة، فكان الجماعة أصاخت إلى هذا القول. فقلت: ليس الأمر على ما تختليه، من أجل أن الحسي الرمل الذي يكون تحته حجر صلب يرد الماء، فشرب الرمل الماء إلى أن ينتهي إلى ذلك الحجر، فإذا احتاجوا إلى الماء احتفروا وأخرجوا شيئاً بعد شيء. هذا قول صاحب " العين " وجماعة من أهل العلم. فاستعار أبو تمام للعين حسياً، من أجل أن الدموع تخرج شيئاً بعد شيء، وهذه استعارة حقيقة لا استعارة مبالغة. فأمسك هنيهة ثم قال: أبو تمام القائل في هذه القافية: رَقيقُ حوَاشي الحِلمِ لو أن حِلمَهُ ... بكفَيكَ ما مارَيُتَ في أنهُ بُرُدُ فهل امتدح أحد فبله أحداً برقة الحلم، ووصفه بالركانة والثخانة أولى، ألا ترى إلى قول عدي بن الرقاع: أبَت لكُمُ مَواطنُ طَيباتُ ... وأحلامُ لكُمُ تزِنُ الجبالا

قال: ثم أنه شبه الحلم في رقته بالبرد، ورقة البرد دال على هلهلة نسجه وليس ذلك من أوصافه ولا ممادحه. قال وفي هذه القصيدة يقول: فلا تحَسبَا هِنداً لها الغدرُ وحَدَها ... سجَيِةُ نَفُسٍ كُلُ غانيةٍ هندُ وإنما أخذه من قول الأضبط بن قريع السعدي، وكان سيدهم، فرأى منهم حسداً، فرحل عنه ونزل في آخرين، فرآهم على مثل حالهم فقال: " أينما أذهب ألق سعداً "، أي الناس مثل قومي في حسدهم ساداتهم. فقلت له: لا دليل على فضل أبي تمام أوضح من أخذه هذا الكلام ونظمه إياه في تلك العبارة السهلة الجزالة البعيدة القرية. فقال: وأبو تمام القائل: أقولُ لقُرحانٍ من البينِ لم يضُِف ... رَسيسَ الهضوَى بينَ الحَشا والتُرائبِ ما قرحان البين، أخرس الله لسانه؟ فقلت له: يريد رجلاً لم يقطعه أحبابه ولم يبن عنه ألافه ولا اعتاده هوى ولا تعبد صبره وجد. والأصل في هذه الكلمة أن القرحان الذي لم يجدر وقال جرير: وكُنتُ مِن زَفَراتِ الُحب قُرحانَا وفي هذه الكلمة يقول أبو تمام: ورَكُبُ يُساقُونَ الرُكابَ زُجاجَةً ... منِ السُيرِ لم يقَصِد لها كَفُ قاطبِ فقد أكلوا منها الغَوارِبَ بالسُرى ... فصارَت لها أشباحُهُمُ كالغَوارِبِ فقال أبو الطيب: أما البيت الأول فمن قول أبي نؤاس إلى أن تتأمل البيت الثاني: قَوُمُ تَساَقوا على الكوارِ بَينهُمُ ... كأسَ السُرى فانتشَى المسَقِيُ والساقي كأنُ أرؤسَهُمُ والسُكرُ يَخفضِهُا ... على المنَاكبِ لم تُغُمَدُ بأعناقِ وأبو نؤاس أخذه من قول أبي دهبل: أقولُ والرّكْبُ قد مالتْ عَمائمهمْ ... وقد سقىَ القْوم كأسَ النعسةِ السهرُ فقلت: وفي هذه القصيدة يقول أبو تمام: يرَ أقبَحَ الأشْياءِ أوْبةَ آملٍ ... كَسَتْهُ يدُ المأمولِ حُلةَ خائبِ وأحسنُ من نورٍ يفتّحهُ النّدىَ ... بياضُ العَطايا في سَوادِ المطالبِ فقال: أما البيت الأول فمأخوذ غارة من قول الأخطل: رَأينَ بياضاً في سودٍ كأنّهُ ... بياضُ العَطايا في المطالبِ فقلت له: هذا البيت من اختلافات أحمد بن أبي طاهر تحاملاً على أبي تمام. وإلاّ فمن هذا الذي رواة الشعر، وفي أي قصيدة هو، وفي أي نسخة من نسخ ديوان الأخطل يوجد؟ فقال: وما الذي بعث أحمد بن أبي طاهر على هذا، وأي سبب أوجبه منه؟ فقلت أليس هو القائل: البْحتريّ إذا فَتَشْتَ نسَبتهُ ... في بحُترٍ في بني ثُعلَِ كلاهُما يتَظنىّ عندَ نسَبْتهِ ... وقَلبهُ منِ تظَنّيهِ على وَجلِ ثم قلت: وفي هذه القصيدة يقول أبو تمام: وقد عَلمِ الأفْشينُ وَهوَ الذي بهِ ... يصانُ رداءُ المُلكِ من كل جاذبِ بأنكَ لما اسْحنكَك الأمرُ واكتسىَ ... أهابي تسسفى في وُجوهُ النوائبِ وقلت: هذا المعوز المعجز المطمع الممتنع، القريب البعيد، اسهل الوعر، وأنشدته منها: فلوْ كانَ يفنى الشعرُ أفنتهُ ما قرَتْ ... حياضكَ منهُ في العصورِ الذّواهبِ ولكنهُ صوبُ العُقولِ إذا انجَلتْ ... سحائبُ منْهُ أعقبتْ بسحائبِ فقال أبو الطيب: أما البيت الثاني فمن قول أوس بن حجر: أقولُ بما صَبّتْ علَيهمْ غَمامتي ... وجهديَ في حَبلِ العشَيرةِ أحطبِ فقلت: والله لئن كان أخذ كما تزعم، لقد طوى الأخذ، وزاد على المخترع بالمعنى زيارة لطيفة بقوله:) ولكنهّ فيْضُ العقولِ (فقال أبو الطيب: كيف يكون أبو تمام محسناً في الأخذ وهو القائل: يقودُ نَواصيهاِ جذيلُ مشارِقٍ ... إذا آبهُ هَمُ عُذَيْقُ مغَاربِ وقد أخذه من اجزل لفظ وأفضحه لبعض المتقدمين: وركْبٍ بأبصارِ الكَواكبِ أبصروا ... ضلاَلَ المهاَرى فاهتدوْا بالكواكبِ يكونونَ إشراقَ المشارِقِ مَرةً ... وأخرى إذا غابوُا غُرُوبَ المغارِبِ ثم قال: وهو الذي يقول: لعَمْري لقد حَرّرْتُ يْومَ لقيُتهُ ... لوَ أنّ القَضاء وَحدهُ لم يُبردِ فقلت له: وهو المبتدئ هذه القصيدة بقوله: غدَتْ تَستجيرُ الدّمعَ خَوْفَ نوىَ غدِ ... وصارِ قَتاداً عندهاَ كلُ مَرْقدِ وأنقَدها منْ غَمرتِ المَوْتِ أنهُ ... صُدودُ فراقٍ لا فراقُ تعَمدِ

فأجرىَ لها الإشفاقُ دمعاً موَرداً ... من الدّمِ يجري فوْقَ خدّ موَرَدِ هي البدرُ يدْنيها توَدّدُ وجْهها ... إلى كلّ من لاقتْ وإن لم توَدَدِ وفيها يقول: ولكنّني لم أحوِ وفرْاً مجمعاً ... وفُزتُ بهِ إلاّ بشملٍ مبّدد ويم تعُطني الأيامُ نوْماً مسكناً ... ألذُ بهِ إلاّ بنوْمٍ مشرًدِ وطولُ مقُام المرْء في الحيّ مخلقُ ... لديباجتَيْهَ فاغتَرِبْ تتَجَددِ فإنّي رأيتُ الشمسَ زيدتْ محبةً ... إلى أن ليستْ عليهم بسْرمدِ فقال أبو الطيب: أما قوله) فاغتربْ تتجددِ (فمن قول لقيطُ ابن زرارة: ومَنْ أدْمَنَ المشْواةَ في الحيّ أخلقا وقال: قوله) فإني رأيتُ الشمسَ (من قول كثيرَ: ولَوْ لم تغبْ شمسُ النهارِ لملّتِ وقلت له: ومن لك بمن يلفظ بمثل هذا ويستطيعه، أو يأخذ معنى فيكسوه معرضاً أنيقا، ويسبكه يعذب مشربه، ويستبهم على القرائح مراده. وقلت: وفيها يقول: وقَد كانتِ الأرْماحُ أبصرْنَ قلبهُ ... فأرْمَدهاَ سترُ القضاء الممًددِ وإني لأرْجو أنْ تقلد جيدهُ ... قلادَةَ مصْقولِ الذُبابِ مُهندِ منُظمةً بالموتِْ يحظَى بحَليها ... مقُلدها في الناسِ دونَ المقلدِ فقال أبو الطيب: وهو القائل: فضَربْتَ الشَتاءَ في أخذَ عيه ... ضَرْبةً غادَرَتْهُ عَوداً رَكُوباَ فقلت له: وهو القائل مبتدئاً هذه الكلمة: من سَجايا الطُولِ ألاّ تجُيباَ ... فصَوابُ من مقلةٍ أنْ تصوباَ وهذا من أحسن ابتداء، وفي تشبيبها يقول: أكثرَ الأرضِ زائراً ومزُوراً ... وصَعوداً من الهَوىَ وصَبوباَ وكَعاباً كأنمّا ألبْستهاْ ... غَفَلاتُ الشّبابِ برْداً قشيباَ بينَ البَينُ فقْدَها قلّما تعْرفُ ... فقداً للشمسِ حتى تَغيباً وفي مديحها يقول: سَبقَ الدّهرَ بالتلادِ ولم ينْتظر ... النّائباتِ حتى تنوباَ وإذا ما الخطوبُ أعفتْهُ كانتْ ... راحَتاهُ حَوادثاً وخُطُوباَ فقال أليس هو القائل: مُستسْلمُ لله سائسُ أمةٍ ... لذوي تجَهضُمها لهُ استسلامُ لو أنه قذف كبده كان أولى من قوله:) تضجَهْمها (فقلت له: الرواية في هذا البيت) لذَوي تكبّرها (والتجهضم أخذك الشيء ببَغي، ولذلك سمىّ الأسد جهضماً، وهذه القصيدة يقول: أتحَدّرَتْ عَبَرَاتُ عَينكَ أن دعتْ ... ورْقاءُ حينَ تصَعصعَ الإظلاْمُ لا تنْشجنّ لها فإن بكاءها ... ضَحكُ وإنّ بكاءكَ استغرامُ هنّ الحَمامُ فإنْ كَسْرتَ عيافةً ... منْ حائهِنّ فإنهنّ حمامُ وهذا بكل شيء قاله محدث. وفيها يقول: بالشدْقَمياتِ العتاقِ كأنّما ... أشباحهاُ بَينَ الإكام إكامُ أوْريْتَ زَنْدَ عَزائمٍ تحتَ الدُجى ... أسرجنَ فكركَ والبلادُ ظلامُ فنَهَضْتَ تَسحبُ ذَيلَ جيشِ ساقه ... حُسنُ اليقَينِ وقادهُ الإقْدامُ مشْعنجرٍ لجبٍ تَرىَ سلافّهُ ... ولهمْ بمنخرقِ الفضاء زِحامُ ملأ المَلا عُصباً وكادَ بأنْ يرَى ... لا خَلْفَ فيهِ ولا لهُ قُدامُ بسواهمٍ لحقُ الأياطلِ شُزًبِ ... تَعْليقها الإسراجُ والألجامُ مُسْترسلينَ إلى الحتوفِ كأنّما ... بَينَ الحُتوفِ وبينهمْ أرحامُ آسادُ غيلٍ مخدرِات ما لها ... إلاّ الصوّارم والقناَ آجامُ والضْربُ يعقدُ قَرمْ كتيبةٍ ... شَرِسَ الضريبةِ والحتوفُ قيامُ فقصمْتَ عرُوْةَ جمْعهم فيهِ وقد ... جَعلتْ تفصًمُ عن عراها الهامُ ثم قال فيها: متُوَطئو عقبيكَ في طلبِ العلى ... والمَدِ ثمّتَ تستوي الأقدام فأخذ البحتري هذا فقال: حزْتَ المدى سبقاً وصلىّ ثانياً ... ثمّ استوتْ من بعده الأقدامُ ومن هاهنا أخذت يا أبا الطيب قولك: ) رأيْتُ عليّاً وابنهُ قوْمهِ ... وهمْ خيرُ قومٍ واستوىَ الحرُ والعبدُ ( وقلت في موضع آخر: ) يشْتبهُالمَخدومُ والخدَمُ ( فقال أبو الطيب: قد أخطأ في قوله) كاد بانْ يرى (لأن المسموع من كلام العرب:) كاد يفعل (. فقلت: قد جاء لبعض الشعراء في وصف طريق: قدَ منْ طولِ البلىَ أنْ يمصحا

وإذا جعلت) كاد (بمعنى) أراد (حسن دخول) أن (كما قال: كَادتْ وكدتْ وتلْك خَيرُ إرادةٍ ... لوْ عادَ منْ وصلْ الحبيبةِ ما مضى فقال: قد أخذا قوله: تعَليقهاُ الإسراجُ والإلجامُ من قول الأول: تُرادُ على دمنْ الحياض فإن تعَفْ ... فإن المندىّ رِحلةُ فرَكُوبُ فقلت له: هذا وإن كان آخذاً على ما ذكرت، احسن من المأخوذ منه وأكشف للمعنى. قال: فأن الأعشى قد قال: وفلاةٍ كأنها ظهرْ ترسٍ ... ليسَ إلاّ الرّجيعَ فيها علاقُ فقلت له: وهذا أيضاً غير مكشوف كل الكشف، والسراج والإلجام أفصح وأوضح. فقال: أبو تمام الذي يقول: ولىّ ولم يَظلمْ وهل ظلمَ امرؤُ ... حثّ النجاءَ وخلْفهُ التنينُ أرأيت إنساناً شبه بتنين؟ وإنما أراد قول كثير: يقُلًبُ عَيْنيْ حَيةٍ بمحاَرةٍ أو قول الأخطل: ضَفادعُ في ظلَماء ليلٍ تجَاوَبَتْ ... فَدلُ عَليَها صوَتُها حَيُةَ البَحرِ وهذا مذهب في المدح لم تزل ملوك بني أمية تتعلق به على شعرائها، وتنعاه في مداحها. فقلت له: يُتَسمح له بذلك لقوله: جادَتُ عَليها من جَماجمِ أهلِها ... دِيمُ أمارتها طُلًى وشُؤونُ بَحرُ من الهَيجاءِ يهفُو ما لهُ ... إلا الجماجم والضُلوعَ سفَيِنُ مَلِكُ تضِيء المَكرماتُ إذا بدا ... لمُلكِ منُهُ غُرةُ وجَبِينُ لانتُ مهَزتُهُ فَعزُ وإنما ... يشَتَد مَنُ متَنُ الرمحِ حينَ يلَينُ فتركُتَ أرشَق وهَيَ يُدعى باسمها ... صم الصفا فتَلينُ منهُ عَيُونُ لاقاكَ بابَكُ وهوَ يزُأرُ فأثنى ... وزَئيِرُهُ قد عادً وهوَ أنيشنُ ورَجا بلادَ الرومِ فاستَعصَى بهش ... أجلُ أصمُ عنِ النُجاء حَرُونُ فقال: هو الذي يقول كانُوا رِداء زَمانِهِمُ فتَصدَعوا ... فكأنما لَبِسَ الزمانُ الصُوفَا فقلت هو الذي يقول في هذه القصيدة: يا منَزِلاً أعطى الحوادِثَ حُكمهَا ... لا مَطْلَ في عدةٍ ولا تسْويفاَ أرْسىَ بناديكَ الندى وتَنفسَتْ ... نَفساً بعَقوتكَ الرّياحُ ضعَيفاَ شُعفَ الغَمامُ بعرْصَتيكَ وربّما ... رَوّتْ رُباكَ الهائمَ المشعُوفاَ وفيها يقول: أيامَ لا تسطوُ بأهلْكَ نكبةُ ... إلا تَراجعَ مصَرُوفاَ وإذا رَمتَكَ الحادثاتُ بلحظةٍ ... رَدّتْ ظُباتكْ طرْفهاَ مطرُوفاَ وفيها يقول: إن غاضَ ماءُ المزْنِ فضْتَ ... كبدُ الزّمانِ علي كُنتَ رؤَوفا فقال أبو الطيب: وهو الذي يقول: تسعونَ ألفاً كآسادِ الشرىَ نضجَتْ ... جلوُدُهم قَبل نضْجِ التّينِ والعنبِ فقلت له: لهذا البيت نبأ أوجب قوله، ولو استقريته لما استجزت الطعن على قائله. ولو شاء قائل أن يقول: إنه لم تفتح قصيدة بأوجز ولا أخصر من قوله: السّفُ أصدْقُ أنباءً منَ الكتُبِ ... في حَدهِ الحدُّ بَينَ الجدِّ واللعبِ لما عنف. فقال أليس هذا من قول الأول: فلا تُكْثروا فيهِ الضجاجَ فإنهُ ... محاَ السيفُ ما قال ابن دارةُ أجمعاَ فقلت: الأمر على ما ذكرته، وقد احتذيتَ هذا المعنى من أبي تمام فقلت: ) وهل تغُني الرّسائلُ في عدُوٍ ... إذا ما لم يكُن ظبيّ رقافاَ ( وقلت: في هذه القصيدة يقول أبو تمام: بكْرٌ فَما افتَرعتها كفُ حادثةٍ ... ولا ترَقتْ إليهاَ همةُ النوَبِ رَمىَ بكَ اللهُ بُرْجيْها فهدّمَها ... ولوْ رَمىَ بكَ غُيرُ الله لم يُصب فقال: أما هذا في كتابكم؟ فكفر لعنه الله) وَماَ رَميْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رَمىَ (قلتُ: وفيها يقول: فَتحٌ تَفَتحُ أبوابُ السّماء لهُ ... وتَبرزُ الأرضْ في أثوابها القُشبِ لم يَغزُ يوْماً ولم ينهدْ إلى بلدٍ ... إلاّ تقَدّمهُ جيشُ من الرُعُبِ لمّا رأى الحُبَ رأيَ العينِ تُوفلسٌ ... والحرْبُ مشُتقةُ المعنى من الحرَبِ فقال أليس هذا من قول النابغة الجعدي: ونَستْلبُ الدُهْمَ كانَ ربهُا ... ضَنيناً بها والحرْبُ فيها الحَائبُ قلت: وفيها يقول: بَصُرْتَ بالرّاحةِ الكُبَرى فلم تَرهاَ ... تُنالُ إلاّ على جِسرٍ من التَّعبِ

وقد أخذت هذا البيت على رسمك فقلت: ) وإذا كانَت النفُوسُ كباراً ... تعبْ في مُرادها الأجسام ( فقال: وأبو القائل مبتدئاً: ما لكَثيبِ الحِمى إلى عقِدِةْ فقلت: أجل هذه القصيدة التي أخذت منها: كالخُوطِ في القَدِّ والغَزالة في الب ... هْجةِ وابن الغزالِ في غَيدَةْ ثم تدارك هذا فقال: وما حَكاهُ ولا نَعيمَ لهُ ... في جِيده بل حكاةُ في جَيدةْ فقلت آخذاً للبيت الأول: ) بَدَتْ قمَراً ومالتْ غُصْنَ بانٍ ... وفاحتْ عنبراً ورنَتْ غَوالا ( فما أنكرت من هذا الابتداء ونعيته عليه؟ ألا نعيت قوله: أصَمَ بكَ النّاعي وإنْ كانَ أسمعاَ ولم يقلَ في ابتداء مرْثيةٍ بعد قول أوس بن حجر أسير ولا أخصر من هذا. فإن العلماء بالشعر قاطبة تشير إلى قول أوس: أيتها النفّسُ أجملي جَزَعاَ وقول أبي تمام، إن لم تنكر، أوفى منه. فقال هو مأخوذ من الأول: نَعىَ لي أبا المقدامِ فاسودّ منظري ... من الأرْض واستكَّتْ عليّ المسامع فقلت: هو منه، ولكن شتان ما هما قرباً ولطفاً واختصاراً. ولو لم تكن إلا فضيلة الإيجار لحكمت بالإحسان وأعطيته السبق. وقوله: سعدَتْ غُرْبةٌ النّوى بسعادِ وقوله: أرامةَ كُنتِ مألف كل ريمِ فقال هذا من قول زهير: وقوله في ابتداء أخرى: لهانَ عَليناَ أنْ نقولَ ونَفْعلا وابتداء أخرى: أجلْ أيها الربْعُ الذي آهلُهْ ... لقد أدركتْ فيك النّوى ما تُحاولهُ وقوله: ما عَهدناْ كذا نحيبَ المَشوقِ وقوله: أيّها البرقُ بتْ بأعلى البراقِ ... واغْدُ فيها بوابلٍ غيداقِ وتَعلَمْ بأنهُ ما لأنْوا ... ئكَ ما لم تروَها من خلاقِ دمنَ طالماَ التقتْ أدمعُ المزْن ... عَليها وأدمعُ العشّاقِ فهذا من أحسن ابتداء وكذلك قوله: خذُي عَبَراتِ عَينكِ عن زماعي ... وصُوني ما أذلتْ منَ القناعِ أآلفَةَ النّحيبِ كمِ افتراقٍ ... أظل فكانَ داعيةَ اجتماعِ وليسْت فَرْحَةٌ الأوباتِ إلاّ ... لموْقُوفٍ على تَرحِ الوداعِ ثم قلت: وهو الذي يقول في الدالية التي هتفت في ابتدائها يصف لواء: نعْم لواءٌ الخميسِ أبْتَ بهِ ... يوْمَ خميسٍ عالي الضّحى أفدِهِ خلتْ عقاباً بيضاءَ في حجراًت ... الملْكِ طارتْ به وفي سدَدهْ ومرّ تهْفوُ ذؤابتاةُ على ... أسمرَ متنٍ بوْم الوغى جَسدِهْ تَخْفقُ أثْناؤه على مَلكٍ ... يرىَ طرادَ الأبطالِ من طَردَهْ فقال أبو الطيب: عذّ عن هذا، أما أبو التمام القائل: والمجدُ لا يرْضى بأنْ يرْضىَ بأنْ ... يرْضىَ الذي يَرْجوكَ إلاّ بالرضاَ هذا والله الهذيان الذي يشغل بطون المهارق ويطفئ نار القرائح. قال: وأراه سمع بيت مسلم فاحبّ أن يركب الكلام ويعاظله تركيب مسلم ومعاظلته في قوله: سلتْ وسلتْ ثمَ سلّ سليلُها ... فغداَ سليلُ سليلها مسلولا فأضحكني هذا التخيل منه وقلت: إن مسلماً وإن كّرر اللفظ، فلبيته معنى لطيف أنا أورده، وقد أورده الباهلي في تاب) المعاني (، فزعم أنه يريد هذه الحمرة سلت من الكرم باقتطافه، ثم سلت من العنب باعتصاره، ثم سلّ العصير من الدن ببزله، وقوله: فغداَ سَليلُ سَليلها مسَلولا يريد بول شاربها. وقد قال بعد هذا البيت: لطفَ المزاجُ لها فَزَيّنَ كأسهاَ ... بقلادَةٍ جُعلتْ لهاَ إكْليلا يريد أن المزاج رفعها فجعل القلادة وهي في العين إكليلاً. وقد نازعه أبو نؤاس هذا المعنى وأحسن العبارة عنه بقوله: تدَورُ علينا الرّاحُ في عَسْجديةٍ ... حَبَتهْا بأنواعِ التصّوير فارسُ قَرارتَها كسرىَ وفي جنَباتها ... مهاً تدّريهِ بالقسيّ الفّوارِس فللخَمرِ ما زرّتْ عليهِ جُيوبهاُ ... وللماء ما دارتْ عليهِ القلانسُ وأما قول أبي تمام:) والمسجدُ لا يرْضىَ بأنْ يرْضىَ (ينقصه مثلك وأنت القائل: ) فقَلقَلتَ بالهمُ الذي قَلقَل الحشاَ ... قلاَقلَ عَينٍ كُلهن قلاقلُ ( والقائل: ) ومن جاهلٍ بي وهوَ يجهلُ جَهله ... ويَجهلُ علمْي أنهُ بيَ جاهلُ ( وأنت القائل:

) وُقُوفَينَ في وقَفْين شكٍر ونائلٍ ... فنائلهٌ وقْفُ وشكرُهمُ وَقفُ ( وأنت القائل أيضاً: ) ولا واحداً في ذا الَوَرَى بل جماعةً ... ولا البعض من كلّ ولكنكّ الضَّعْفُ ( ) ولا الضعْفْ حتى يبلغَ الضّعفَ ضعفهُ ... ولا ضعفَ ضعفِ الضعفِ بلِ مثلهَ ألفُ ( ) أقاضيناَ هذا الذي أنتْ أهلهُ ... غلطتُ ولا الثلثان هذا ولا النصفُ ( وأقبلت عليه فقلت: أتراك تغتفر أبي تمام في أثناء هذيانك هذا أم لا تغتفره؟ وفي الضادية يقول أبو تمام: عندي منَ الأيامِ ما لوْ أنّه ... بازاء شاربِ مرْقدٍ ما غمضاَ لا تطُلبنَّ الرّزْق بعدَ شمِاسِهِ ... فترومَه سَبُعاً إذا ما غَيُضا يا أحمد بنَ أبي دُوادٍ دَعوةً ... ذَلتُ بشكُرِكِ لي وكانت ريضَا لما انتضَيَتُكَ للخطوبِ كُفيتها ... والسٌيفُ لا يكفيكَ حتى ينُتضَى كن كيفَ شئتَ فيك خلائِقاً ... أضحَى إليهَِن الرجاءُ مفُوضَا فقال: أليس أبو تمام القائل يصف خمراً إذا هيَ دبت في الفتى خالَ جسِمهُ ... لما دَب فيهِ قَريةً من قُرى النملِ فقلت له: أما المعنى الفصيح، فما وجد الطعن عليهن وقد قال الأخطل: تدبَ دبيباً في العِظامِ كأنه ... دبيبُ نمالٍ في نقاً يَتَهَيلُ وقد قال الأول: تدَبِ دَبيباً في العِظامِ كأنهُ ... دبيبُ بناتِ النٌمل وهيَ سوَارِي وقال حسان بن ثابت، وعدل إلى تشبيه آخر: تدَبُّ في الجِسمِ دَبيباً كَما ... دب دبي وسَطَ رقَاقٍ هَيَام ولدبيبها سميت " دَبابةَ "، وقال ذو الرمة يصف غزالاً قد أنحى في نومه: كأنهُ في الحيّ تَرمي الصعيدَ به ... دبابةٌ في عِظام الرأسِ خُرطومُ قال أما أنا فيبعد عن وهمي ويند عن سمعي " قرية النمل "، وما سوى ذلك فله وجه. فقلت له: عد هذه التراهات، فمن أوضح البرهان على أنك قد تصفحت الشعر هذا الرجل، وتأدبت بمعانيه، وقفوت مذهبه، واقتريت طرقه فيه، وتتبع هذه المواضع عليه وتعيينك عليها، وإشارتك إليها وقدحك فيها. وه يسم أبا تمام بمسيم النقيصة تتبعك وتتبع أمثالك عبيه ما تتبعونه وهو القائل: ما أن رأى الأقوامُ شَمساً قَبلها ... أفَلَت فَلم تثعقبِهُمُ بظَلام لَو يقَدِرونَ مَشوا على وجَناتِهمٌ ... وجِبِاههِم فضلاً عنِ الأقدامِ وهو القائل: علا الشيبُ مختطاً بفَودي خُطة ... سبيلُ الرودى فيها إلى الموتِ مهَيعُ هُو الزورُ يُجفى والمعاشرُ يُجتوى ... وذو الإلف يُقلى والجَديد يُرقعُ لَه مَنظرٌ في العَينِ أبيضٌ ناصِعٌ ... ولكنه في القَلبِ أسودٌ اسفَعُ وهو القائل: فإن تَرمِ عن عُمرٍ تَمادَى به المدى ... فَخانَكَ حتى لم تجَد فيهِ منَزعا فقال: أما هذا مأخوذ من قول البعيث: وأنا لنُعطي المشَرفيةَ حقَها ... فَتقَطعُ في أيماننِا وتُقَطعُ ومن قوله أيضاً: أوْفى بهِ الدّهرُ من أحداثهِ شرفاً ... والسيفُ يمضي مراراً ثمّ ينقصدُ وأبو تمام القائل: لآل وَهبٍ أكُفٌ كُلمّا أجتديتْ ... فَعَلْنَ في المَحلِ ما لا تفعلُ الديَمُ قَوْمُ تَراهمْ غيارَى دونَ مجْدهمِ ... حتى كأن المَالي دونهمْ حَرَمُ وهو القائل: يقَولُ في قوُمَسٍ صَحبي وقد أخذتْ ... منّا السرى وخطى المهريةِ القُودِ أمطْلعَ الشّمس تبغي أنْ تؤمّ بناِ ... فقلتُ كَلاّ ولكنْ مطلعَ الجودِ ومن البيت الثاني أخذت قولك: ) وجرَينَ جرْىَ في أفلاكها ... فقطَعنَ مَغربهاَ وحزْنَ المطلعا ( وهو الذي يقول: راحتْ وفُودُ الأرضِ من قَبرهِ ... فارغَةَ الأيدي ملاءَ القُوبْ قد عَلمتْ ما رزئتْ إنما ... يعرفُ فقدَ الشمسِ عند الغُروبْ وهو الذي يقول: ولم أرَ العُلى ما لم يرَ الشعرُ بينهماَ ... لكا لأرْضِ غُفلاً ليسَ فيها معالمُ يرَى حكمةً ما فيه وهوَ فُكاهةُ ... ويقضى بما يقضي بهِ وهوَ ظالمُ ولولاْ خلالُ سنهاّ الشًعرُ ما درَى ... بغاةُ النًدى من أين تؤتى المكارمُ وهو الذي يقول: مُجَردٌ سَيفَ رأيٍ من عزَيمته ... للدّهرِ صيقلُهُ الإطراقُ والفكَرُ

عَضْباً إذا هزّهُ في وَجه نائبةٍ ... جاءتْ إليهِ صروفُ الدّهرْ تعتذرُ ومن البيت الأول أخذت: ) تَحضيرَ في سيفٍ ربيعةُ أصلهُ ... وطابعةُ الرّحمنُ والمدُ صاقلُ ( وهو القائل أيضاً: فلا تَحسبِ الأعداءُ عَزْلكَ مغنَماً ... فإنّ إلى الإصدار ما غايةُ الورْدِ وما كُنتَ إلاّ السيفَ جردَ للوغى ... فأحْمدَ فيهِ ثنّ ردّ إلى العمدِ وهو القائل أيضاً: يا أيها الملكَ النّائي برؤيتهِ ... وجودُه لمُرجيّ جودِهِ كَثبُ ليس الحجابُ بمقصٍ عنكَ لي أملاً ... إنْ السّماء تُرجىّ حينَ تُحتجبُ وهو القائل أيضاً: لقد زدْتَ أو ضاحي امتداداً ولم أكنْ ... بهيماً ولا أرْضِ مجْهلا ولكنْ أيادٍ صادفتني جسامُها ... أغرَّ فأوْفَتْ بي أغرَّ محجلا فقال هو مأخوذ من قول أبي محلم: أمسْلمُ فاسْلمَ يا ابن كل خليفةٍ ... ويا سائسَ الدنّيا ويا جبل الأرْضِ شكَرْتكَ إن الشكرَ منّي سجيةُ ... وما كلُ منْ أوليتهُ نعمةً يقضي حييْتَ لي ذكري وما كنتُ خاملاً ... ولكنً بعض الذّكر أنبهُ من بعضِ فقلت وهو القائل: وركْبٍ كأطرْافِ الأسنةِ عرَسوا ... على مثْلها والليلُ تطو غياهبهْ لأمرْ علَيهمْ أنْ تتمّ صدورهُ ... وليس عليهمْ أنْ تتمّ عَواقبهْ إليكَ جزَعْنا مغربَ الشمسِ كلماّ ... قطعنا مَلاً صلتْ عليكَ سباسبهْ إلى سالبٍ الجبارِ بيضةَ ملْكهِ ... وآملهُ غادٍ عَليهَ فسالبهْ إلى ملَلكٍ لم يلقْ كَلكَل بأسهِ ... على مَلكٍ إلاّ وذللَ جانبهْ ففيَ كُلّ نجدٍ في البلاد وغائرٍ ... موَاهبُ ليستْ منهُ وهْي موَاهبهْ فَنوَلَ حتى لم يجدْ منَ ينيلهُ ... وحاربَ حتى لم يجدْ من يحاربهْ فيا أيها السّاري آسرِ غَيرَ مُراقبٍ ... جَنانَ ظلامٍ أوْ ردىً أنتَ هائبهْ فقدْ بثّ عبدُ الله خوفَ انتقامهِِ ... على اللّيل حتى ما تدَبُ عقاربهْ فقال أما قوله:) وركبٍْ كأطرافِ الأسنةّ (فمن قول كثير: أطافتْ بشعْثٍ كالأسنةّ هجدٍ ... بخاشعةِ الأضواءِ غُبرٍ صحونهُا وأما قوله: لأمر عَليهْم أنْ تتمَ صدوره فمن قول الأول: غلامُ وغى تَقَحمها فأبلْى ... فخانَ بلاءهُ الزّمنُ الخؤونُ وكانَ على الفتى الإقدام فيها ... ولَيسَ عَليهَ ما جنَتِ المنُونُ وأما قوله:) صلتْ عليكَ سباسبهُ (فمن قول بشار: إذا ما أعرْنا سيداً من قبيلةٍ ... ذرَى منبرٍ صلّى علينا وسّلما وبشار أخذه من جرير: منابرُ مْلكٍ كُلها مضرية ... يصلّي علينا من أعرناه منبرا فقلت له: لئن كان تمام ناظراً إلى هذه المواضع فلقد تناول أخلاق أعبية فأعادها يرف وشيها، كما ترف خدود الرياض غب الحيا. وهذا كان مذهبه في جميع ما يلاحظه ويشير إليه من المعاني. ألا تر إلى قول الأول: سيُوفٌ لعَمري يا صدَيّ بن مالكٍ ... حدادُ ولكن أين بالسيفِ ضاربُ فاحتذى هذا أبو تمام: وقد يَكهمُ السَيفُ المُسّمى منيةً ... وقد يرَجعُ المَرء المظفرُ خائباَ فهذا البيت مخترع له: ثم قال محتذياً للبيت المتقدم ومفسراً لبيته هذا: فآفةُ ذا ألاّ يصُادفَ مضرباً ... وآفةٌ ذا ألاّ يُصادفَ ضارباَ وقال الفرزدق، وذكر امرأة له ماتت بجمعٍ، وهي التي تموت وولدها في جوفها: وجفنِ سلاحٍ قد رزئتُ فلم أنحْ ... عَليهِ ولم أبعثْ عليهِ البوَاكياَ وفي ضمنْهِ من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو آن اللّيالي أخطأتْهُ لياَلياَ فقال أبو تمام في اثنين صغيرين كانا لعبد الله بن طاهر، فماتا في يوم واحد، وأشار إلى بيتي الفرزدق إشارة عجيبةً، وزاد زيادات لطيفة من قصيدة: نَجمانِ شاء الله ألاّ يطلعاَ ... إلاّ ارتْداد الطرفْ حتى يأفلا إن الفجيعة بالرّياضِ نوَاضراً ... لأجلٌ منها بالرياضِ ذوابلاِ لوْ ينْسبانِ لكانَ هذا غارباً ... للكرمات ِ وكانَ هذا كاهلا لَهفي على تلكَ الشواهدِ منهما ... لوْ أمهلتْ حتى تكون شمائلا إنّ الهلالَ إذا رأيتَ نمارهُ ... أيقنْتَ أن سيكون بدْراً كاملا

فهذا ما احتذاه وولده وسبطه وزاد فيه.، وأحسن العبارة عنه. من الباب قول الآخر: رَأيتُ المالَ يَكسبِهُ رِجالُ ... مآفين إذا اختبُروا فُسُولُ فلا ذو المالِ يكَسبُهُ بعقلٍ ... ولا بالمالِ تكُتَسَبُ العُقولُ كَما تكُسَى سباغُ الأرضِ رِياً ... وتُصرفُ عن َ كَرائِمهِا السيولُ فأخذ هذا المعنى أبو تمام وأختصره في بيت واحد فقال، وأحسن كل الإحسان: لا تنُكِري عَطَلَ الكريمِ من الغنِى ... فالسيلُ حَربُ للمكانِ العالي وقال عمر ين أبي ربيعة: وإذا جِئتهُا لأشكوُ إليها ... بَعضَ ما شَفني وما قد عراني ضَل عَنها لشدةِ الوَجدِ عقلي ... وتَعايا بذاتِ نفَسي لِساني ونسيتُ الذي جمعَتُ من القَو ... لِ لدَيَها وغابَ عني بَيَاني فقال أبو حفص الشطرنجي سالكاً هذا المذهب: بُني الحُب على الجَورِ فلَو ... أنصَفَ العاشِقُ فيهِ لَسَمُجْ ليس يسُتحسن في وصفِ الهوىَ ... عاشقُِ يُحسنُ تأليف الحُجَجْ وقال أبو تمام موجزاً هذا المعنى: لِمٌ تُنكرِينَ وقد هويتُ تبلدُي ... وبَراعَةُ المشُتاقِ أن يَتَبَلدَا فتأمل ما بين الكلامين تجد تفاوت بعيداً. وسمع أبو تمام قول ابن الزبير عند قتل أخيه مصعب: " إنما التسلية والسلوة لحزماء الرجال، والهلع والجزع لربات الحجال " فنظم هذا فأحسن كل الإحسان في نسخه وتأليفه بقوله: خُلِقنا رِجالاً للتجلُد والأسَى ... وتلِك الغَواني للُبكا والمآتِمِ وسمع قول القائل " المحاب مقرونة بالمكاره " فقال، وبرز تبريز السابق المتمطر إذا تطلمه الفرسان في حلبة تعثرت الجياد في طلبه بها: سَعَى فاستنَزَل الأمَلَ اقتِساراً ... ولوَلا السعُي لك تكُنِ المسَعى وأنظر إلى قول أبان اللاحقي: ولنْ تعرِفَ النفٌسُ النعيمَ وعزِهُ ... إذا جَهِلت حالَ المذَلةِ والضر فأخذ هذا المعنى أبو تمام وأحسن صوغه وسبكه فقال: والحادِثاتُ وإن اصابَكَ بُؤسُها ... فهو الذي أنباكَ كَيفَ نعَيمهُا فحاول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أخذ هذا المعنى، فقصر عنه بقوله: لا ينُسيِنكَ حالُ نشلتَ رِفٌعَتَها ... ما في عواقبِهِا واذكر تصرفَها أن الفتى يجهَلُ النعما إذا اتصلت ... حتى يلُذعَ بالبلِى فيعَرِفَها ومن إحسان أبي تمام في الأخذ قوله: إذا ما أغارُوا فاحٌتووا مالَ معَشَرٍ ... أغارَتٌ عَلَيهم فاحتوَتهُ الصنائعُ وهذه العبارة تطرب وتعجب، وتختدع وتخلب. وإنما احتذى في بيته هذا قول عروة بن الورد في بيتين: كَريمُ رأى الإقتارَ عاراً فلم يزَل ... يَجُوبُ بلادَ اللهِ حتى تَموِلا فلما استَفادَ المالَ عادَ ببَذّلِهِ ... لمَن جاءهُ يبَغي ندَاهُ مُؤملا فتأمل اختصار أبي تمام لهذا المعنى وحسن عبارته عنه. فتعاطى ابن الرومي أخذه فلم يستطع استيفاءه إلا في أربعة أبيات، يقتضي بعضها بعضاً وهي: وما في الأرض أجوَد من شجاعٍ ... وإن أعطى القليلَ من النوالِ وذلكَ أنٌه يعُطيك ممِا ... تُفيء عليَهِ أطرافُ العَوالي وحسبُكَ جودُ مَن أعطاكَ مالاً ... حواهُ بالطٌرادِ وبالنٌزالِ شرَى دَمَهُ ليحَويَهُ فلَما ... حواهُ هوَى به حمدُ الرجالِ وأخبرني الصولي قال: سمعت أبا مالك يقول: من استطاع أن يأخذ المعنى فيصنع به صنع أبي تمام، وإلا فلا يتعرض له. قال: فقلت مثل هذا؟ فقال: مثل قول أبي نؤاس: بشرهُمُ قَبلَ النوال اللاحِقِ ... كالبرَقِ يبدو قبلَ جودٍ دافِقِ والغَيثُ يخَفَى وقعُهُ للرامِقِ ... ما لم يجَدِهُ بدَليلِ البارِقِ فنظر أبو تمام إلى هذا فقال: يَستَنزِلُ الأمَلَ البَعيدَ ببِشرِهِ ... بُشرَى المخُيلةِ بالربيعِ المغُدقِ وكذَا السحائبُ قلما تدعو إلى ... معَرُوفِها الروادَ ما لم تَبرُقِ ثم اختصر المعنى في بيت واحد فقال: إنما البِشرُ روَضَةُ فإذا ... أعقَبَ بذَلاً فَروضَةٌ وغدَيرُ فاحتذى هذا المعنى البحتري فقال وأتى به في عدة مواضع قصر فيها إلى أن قال: متُهلَلٌ طَلقٌ إذا وعَد الغِنى ... بالبِشرِ أتبَعَ بِشرهُ بالنائِلِ

كالُزن إن ضَحِكَتٌ لوامع برقِهِ ... أجلَت بهِ عن ديمةٍ أو وابِلِ فقال أبو الطيب: نكتب عن هذا، فهل تجد لبي تمامكم هذا أو بحتريكم معنى اخترعاه؟ فقلت: هل تستوفي اختراعاتهما مذاكرة، أو يأتي على جزء واحد منها البحث والمناقشة؟ فقال: هلم معنى واحداً ولك الحصل. فقلت له: من اختراعات أبي تمام التي وقع إجماع الرواة عليها قوله تأبى على التصريدِ إلا نائلاً ... إلا يكُن مَحضاً قَراحاً يُمذَقِ عَمداً كما استكرَهتَ عائرَ نَفحةٍ ... من فارِةِ المِسكِ التي لم تُفتَقِ فقال هذا من قول الأعرابي: ولما تَنازعنا سِقاطَ حدَيثهِا ... غِشاشاً فَلانَ الوُد منها فأطمَعَا بحدِثانِ هِجرانٍ وساعَةِ غَفَلةٍ ... من الحي يخَشى أعيُناً أن تَطلعَا فرَشٌت بِقيلٍ كادَ يشَفي من الهوَى ... تكادُ له أكبادنُا أن تَقُطعا كما استَكرَهَ الصادي وقَائعَ مُزنَةٍ ... رُكاماً توَلى مُزنُها حينَ نَقعَا فقلت له: ما أبعد ما بين المعنيين، وما أجدك تجتلب ذاك إلا من أجل قول هذا " كما استكره " وقول أبي تمام " عمداً كما استكرهت ". والألفاظ مباحة، إلا استعارة لطيفة أو تجنيساً أو طباقاً، فإن هذه تختص بأربابها. وإذا أتى بها آخر بعد أول قضي عليه بالسرق، على أنه في المجاز أن يتورد آخر وأول في بعض ذلك. فقال المهلبي: يا أبا الطيب ظلمت أبا تمام في هذه الدعوى عليه ظلماً لا شبهة فيه. وأقبل علي وقال: تمم كلامك. قلت ومن مخترعه قوله: وإذا أرادَ اللهُ نَشرَ فَضيلَةٍ ... طُوِيتْ أتاحَ لها لسانَ حَسودِ لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَزَتٌ ... ما كانَ يعُرَفُ طِيبُ نَشرِ العودِ فقال أبو الطيب: أما البيت الأول فمبتذل المعنى. فقال المهلبي: مثل ماذا؟ فقال قول زهير: مُحَسدونَ على ما كانَ من كَرَمٍ ... لا يَنزعُ الله عَنهُم ما له حُسِدوا وقال الآخر ولَيسَ يفترِقُ النعماءُ والحَسَدُ وقول الآخر مُحَسدُون وشَرُ الناسِ منزلةً ... مَن لم يبَت ذاتَ يومٍ وهو محسودُ فقال المهلبي: هذا أيضاً تحامل، ما يتناسب المعيان، وإن كانا معاً في الحسد، ألا ترى أن قوله: وإذا أراد الله نَشرَ فَضيلةٍ ... طُوِيِت أتاحَ لها لسانَ حَسود ليس من قول زهير: محسدون، لا ينزع الله عنهم ما حسدوا له، ولا من قول الآخر: شر الناس من لم يكن محسوداً، وقول الآخر: ولَيسَ يفَترِقُ النعماءُ والحَسدُ وأن كان كل ذلك في معنى واحد وطريقة واحدة؟ فقلت له: هذا باب من الأتساع في المعنى مما يشبه المأخوذ وليس بمأخوذ، وهذه منزلة لا يتوقلها إلا شثن القدمين. فقال أبو الطيب: فقد أخذ قوله: " لولا اشتعال النار " من قول بشار: كحَاوي المِسكِ دَل علَيهِ نَفخُ فقال علي بن عيسى النحوي: إن كان فعل ذاك فقد الله أحسن كل الإحسان. فقال المهلبي مقبلاً علي: هات ما حضرك من اختراعاته، فقلت: ومن اختراعاته قوله: وضَل بكَ المُرتادُ من حيثُ يَهتدَي ... وضَرت بكَ الأيامُ من حيثُ تَنفَعُ ومن بدائعه: يَسُركَ أن تَلقاهُ في صَدرِ مَجلِسٍ ... وفي نحرِ أعداءٍ وفي قلبِ مَوكبِ لهُ خُلُقُ لو كانَ في الماء لم يَغِض ... وفي الغَيثِ ما شام امرُؤ بَرقَ خُلبِ وقوله: خَليليْ مِن بَعدِ الأسَى وَالجوَى قفِا ... ولا تقَفِا فَيضَ الدموعِ السواجم لَئنِ كانَ سيفُ الموتِ أسوَدَ صادئاً ... لقَد فُلَّ عنَهُ حَدُ أبيضَ صارِمِ أصابَ امرأ كانَت كرائِمُ مالِهِ ... علَيهِ إذا ما سيِلَ غَيرَ كَرائِمِ وما نَكْبةُ فاتَت بهِ بعَظيمَةٍ ... ولكنها مِن أمهاتِ العَظائِمِ ومن اختراعاته قوله يصف الرماح: مشقفاتٍ سلَبنَ الرومَ زُرقَتَها ... والعُربَ سُمرتها والعاشِق القَضفا وقوله والسيفُ ما لم يُلف فيه صَيقلُ ... من نَفسِهِ لم يَنتفِع بصقِالِ فقال: هذا من قول امرئ القيس: يُدعى صَقيلاً وهو لَيسَ لهُ ... عَهدُ بتَمويهٍ ولا صَقيل وقوله: والحادِثاتُ وإن أصابَكَ بُؤسُها ... فهو الذي أنباكَ كيفَ نَعيمهُا وقوله:

وما السيفُ إلا زُبرةُ لو تركتهُ ... على الحِلقَة الأولى لما كانَ يقَطعُ وقوله: أحلى الرجالِ من النساءِ موَاقِعاً ... منَ كانَ أشبهَهُم بهن خدُودا فقال هذا من قول الأعشى: وأرى الغواني لا يوُاصِلنَ امرأ ... فقَدَ الشبابَ وقد يصًلِنَ الأمرَدَا فقال أبو سعيد النحوي: بيت أبي تمام أن أنصفته أشعر، وأن كان بيت الأعشى أسير. ومن اختراعاته قوله: طال إنكاري البياض وإن عم ... رت شيئاً أنكرت لون السواد وقوله: ما آبَ مَن آبَ لم يظفْر بحاجَتهِ ... ولم يغبْ طالبُ للنجح لم يخبِ وقوله: قالوا أتبكي على رسمٍْ فقلتُ لهمْ ... مَن فاتهُ العَينُ هدىّ شوقَه الأثرُ وقوله: ومَنْ لم يُسَلًمْ للنْوائبِ أصبحتْ ... خَلائقهُ طُراً عليهِ نَوائباَ وقوله: دمن طالماَ التقتْ أدمعُ المُزْنِ ... عَليها وأدمُعُ العُشاقِ ومن بدائعه قوله في صفات الإبل: المُرْضياتكَ ما أرغمْتَ آنفها ... والهادياتُكَ وهيَ الشُردُ الضللُ إذا تظلمتُ من أرْضِ فصلتُ بهاَ ... كانتْ هيَ العزّ إلاّ أنها ذللُ وقوله: متى يأتكَ المقدارُ لا تُلفَ هالكاً ... ولكنْ زمانُ غالَ مثلكَ هالكُ فقال المهلبي: في بعض هذا كفاية، فهل يحضرك من اختراعات البحتري شيْ؟ فقلت، قوله: إذا خَطرتْ تأرجَ جانباها ... كما خطرتْ على الروْض القبول ويحسُنُ دلهاُ والموتْ فيهِ ... وقد يستحْسَنُ السيفُ الصّقيلُ فقال أبو الطيب: البيت الأول من قول أبي نؤاس يصف خمراً: كأناّ لَديهَا بينَ أكْنافِ رَوْضةِ ... إذا ما سلبناها من الليلِ طيبهاَ فقال أبو سعيد السيرافي: ما أبعد هذا المعنى. فقال: قل ما أقربه وأشد شبهه. فقال: هو بقول الشنفري الأزدي أشبه: فبتنْا كأن البيتَ حُجًرَ حوْلناَ ... بريحانةٍ ريحتْ عشاءً وطلّتِ وبقول الآخر: أنّ لي عندَ كلّ نفَحةِ بْستانٍ ... منَ الوَرْدِ أوْ منَ الياسميناَ نظرةً والتفاتةً أتضرَىّ ... أنْ تكوني حلْلت فيما يليناَ ونحوه قول سلم الخاسر: كأنّها روْضةُ منَوّرَةٌ ... تَنَسمتْ في أواخرِ السِّحرِ وسلم أخذه من بشار: كأنّها رَوْضةٌ منَوَّرةٌ ... تجمعُ طيباً ومنظراً حَسنَا بانَتْ بقلبي صفراءَ رداعةً ... صَبّتْ عليناَ من حبّها فتَناَ وأحسن حبيب بن عيسى الكاتب في قوله: تذكُرني رياكِ ريحُ مَريضةُ ... جرتْ بنسيم الروْض في غلسَ الفجرِ ثم قال: وكذا قوله: وقَدْ يستَحْسنُ السيفُ الصقيلُ فمن قول أبي الشيص: وكالّسيفِ إنْ لا ينْتهُ لانَ متنهُ ... وحَداهُ إنْ خاشنتهُ خشنَانِ فقلت: ما أبعد هذا الوادي من تلك الثنية، فإن يكن فهو نظر وملاحظة ولكن انظر إلى ألفاظ البحتري الرطبة العذبة، وإلى مذهبه فيما يحتذيه ويشير إليه. فإنه كان لا يستدعي من الكلام نافراً، ولا يستعطف معرضاً، ولا ينشد ضالاً، ولا يؤنس وحشياً. وكانت ألفاظه فوق معانيه، وأعجازه غير منفكة عن هواديه. ولكن أبا الشيص أخذ قوله من قول الآخر: هوَ الّسيفُ إن ينته لان حدهُ ... وبين غراريْهِ المنَايا اللّوائحُ ثم قلت: ومن اختراعات البحتري أيضاً قوله: ولمّا التَقينا والنقا موْعدُ لَنا ... تَعَجبَ رائي الدُرّ حسناً ولا قطهْ فمنْ لؤلؤٍ تُبديهِ عندَ ابتسامها ... ومنْ لؤلؤٍ عندَ الحديثِ تساقطُه فقال أبو الطيب: أما هذا مأخوذ من قول الآخر: هيَ الدّرّ منَثوراً إذا ما تكلمتْ ... وكالدرّ منظوماً إذا لم تكلم فقال المهلبي: ومن لك بمن يحسن إحسان البحتري في أخذه هذا، إن كان أخذه منه، وهل هو في ذلك إلاّ كمن اجتنى مر ثمرة، أو أخذ بعرة فأعادها جوهرة. قلت: ومن اختراعات البحتري قوله يصف الطيف: أجدَّكَ ما يَنفكّ يَسري لزَيْنبا ... خَيالُ إذا آبَ الظّلامُ تأوّباَ سرَى من أعالي الشاّم يجلُبهُ الكرىَ ... هبوبَ نَسيمِ الّريح تجلبهُ الصًبا ومن مخترعه قوله: ) متَعَودٌ لُيسَ الدّروعِ تَخالُها ... في البرْدِ خزّاً والهَواجرِ رذا ( وقوله:

شقَائقُ يحْملنَ النّدى فكأنهُ ... دُموعُ التصابي في خدُودِ الخرائدِ وقوله يصف: كأنما غُدْرانهُ في الوَهْدِ ... يَلعْبَن منْ حَبابها بالنَّرْدِ فبهر أبا الطيب ما أوردته، واحتسبت عارضته، وعقل لسانه عن الجواب، وكاد لولا أن هيبة الوزير أبي محمد ملأت قلبه. وقد كان من قبل يلاوذ المناظر لياذ الغريم من التتبع. فحين انتهى في القول إلى هذا الموضع، نهض مغضباً، وكان آخر العهد به في تلك الدار. وخرج ماراً على وجهه، شارداً الظليم، ولم يقم إلاّ ريثما تأهب للسفر، فارتحل عن العراق متوجهاً إلى الكوفة. وقد استخف أحداث المتأدبين طمعاً فيه، حتى مزق أديمه، وفري فري الإرهاب عرضه. وأولع بهجائه سفيه من سفهاء البغداديين، صغير من أصاغر علمائهم يعرف بابن الحجاج، لا حظ له في الفضل ولا قدم في الأدب، وحسبه أن اضطره مع دناءة قيمته وسخف همته إلى الهرب، وترامي المطلب، وقلق الركاب في كل مذهب. وقد كنت اقتده بعنان الصغار قود الجنيب، فلم يستطيع مقاماً بمدينة السلام، فخرج عنها إلى الكوفة، ومنها إلى فارس، منتجعاً عضد الدولة، وملماً بابن العميد، ومؤملاً الإقامة في ذراهما، والاستظلال بظلمها أو بظل أحدهما. فأحسن في بعض ما مدحهما وأساء في بعض، وحصرت مادته وانقطع دون الغاية نفسه، فإنه كان استنفذ في سيف الدولة إحسانه، واستغرق في مدحه باعه، فاضطر إلى الارتحال والعود إلى العراق، فاخترم دون ذلك، وكان آخر العهد به. وأنا أشفع هذه الرسالة بما تتبعه من عوراه، ووقفت عليه من سرقته، ومن سقط لفظه وسخيف معانيه، وأذكر أيضاً من محاسن شعره، ومن عيون مدائحه - فإن المدح كان طعمته وشوارد أبياته - ما أجري في جميعه مع الحق الذي لا يسع تعديه، منصفاً ومنتصفاً منه، لا ألته حقه، ولا أنحله ما ليس له. وأفراد بذلك كتاباً وأستقصيه، وأنتهي إلى الغاية التي تبلغها القدرة فيه، بحول الله وقوته وفضله ورأفته. نجزت الرسالة ولله الحمد، والمنة ولله وحده، وصلواته على سيدنا محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ووافق الفراغ من نسخه على يد أفقر عباد الله وأحوجهم إلى عفوه وغفرانه محمد بن عبد الملك بن عساكر الشافعي البعلبكي، غفر الله له، يوم الجمعة تاسع شوال سنة سبع عشرة وسبعمائة حامداً ومصلياً.

§1/1