الرسالة الشافية

الجرجاني، عبد القاهر

(3) الرسالة الشافية لأبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (... - 471هـ) [عن نسخة حسين جلبي المصورة بمعهد مخطوطات الجامعة العربية]

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ عبد القاهر بن عبد الرحمن رضي الله عنه: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ حمدَ الشاكرينَ، وصلَواتُه على النبي محمد وآله أجمعين. 1 - اعلم أن لكل نوع من المعنى نوعًا من اللفظ هو به أخص وأولى، وضروبًا من العبارة هو بتأديته أقوم، وهو فيه أجلى، ومأخذًا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب، وبالقبول أخلق، وكان السمع له أوعى، والنفس إليه أميل. وإذا كان الشيء متعلقًا بغيره، ومقيسًا على ما سواه، كان من خير ما يستعان به على تقريبه من الأفهام، وتقريره في النفوس، أن يوضع له مثال يكشف عن جهة ويؤنس به، ويكون زمامًا عليه يمسكه على المتفهم له والطالب علمه. 2 - وهذه جمل من القول في بيان عجز العرب حين تحدوا إلى معارضة القرآن، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه فائتٌ للقوى البشرية، ومتجاوزٌ للذي يتَّسع له ذرع المخلوقين وفيما يتصل بذلك مما له اختصاص بعلم أحوال الشعراء والبلغاء ومراتبهم، وبعلم الأدب جملة قد تحريت فيه االإيضاح والتبيين، وحذوت الكلام حذوًا هو بعرف علماء العربية أشبه، وفي طريقهم أذهب، وإلى الأفهام جملة أقرب. وأسأل الله التوفيق للصواب والعون عليه، والإرشاد إلى كل ما يزلف لديه، إنه على ما يشاء قدير. 3 - معلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاضل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضًا، وأن علم ذلك علم يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه العرب، ومن عداهم نبع لهم، وقاصر

فيه عنهم، وأنه لا يجوز أن يدعي للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل فيه الوحي، وكان فيه التحدي، أنهم زادوا على أولئك الأولين، أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطبها لما لم يكملوا له. كيف؟ ونحن نراهم يحملون عنهم أنفسهم، ويبرأون من دعوى المداناة معهم، فضلًا عن الزيادة عليهم. هذا خالد بن صفوان يقول: "كيف نجاريهم وإنما نحكيهم؟ أم كيف نسابقهم، وإنما نجرى على ما سبق إليينا من أعرافهم؟ ". ونرى الجاحظ يدعي للعرب الفضل على الأمم كلها في الخطابة والبلاغة، ويناظر في ذلك الشعوبية، ويجهلهم ويسفه أحلامهم في إنكارهم ذلك، ويقضي عليهم بالشفوة وبالتهالك في العصبية، ويبطل ويطنب، ثم يقول: "ونحن أبقاك الله إذا ادعينا للعرب الفضل على الأمم كلها في أصناف البلاغة، من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا على أن ذلك لهم شاهد صادق، من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك، إلا في اليسير والشيء القليل". انتهى كلامه. والأمرُ في ذلك أظْهَرُ مِنْ أن يَخْفى، أو أن ينكره إلا جاهل أو معاند. 4 - وإذا ثبت أنهم الأصل والقدوة، فإن علمهم العلم. فبنا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تلى عليهم القرآن وتحدوا إليه، وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله، ومن التقريع بالعجز عنه، وبت الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه. وإذا نظرنا وجدناها تفصح بأنهم لم يشكوا في عجزهم عن معارضته والإتيان بمثله،

ولم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلًا على وجه من الوجوه. 5 - أما "الأحوال" فدلت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف، وطبائعهم التي لا تتبدل، أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة وهم يجدون سبيلًا إلى دفعها، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم. كيف؟ وإن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أن بأقصى الإقليم الذي هو فيه من يبأى بنفسه، ويدل بشعر يقوله، أو خطبة يقوم بها، أو رسالة يعملها، فيدخله من الأنفة والحمية ما يدعوه إلى معارضته، وإلى أن يظهر ما عنده من الفضل، ويبذل ما لديه من المنة، حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه، وأن يعرض كلامه عليه، بعض العلل وبنوع من التمحل. هذا، وهو لم ير ذلك الإنسان قط، ولم يكن منه إليه ما يهز ويحرك ويهيج على تلك المعارضة، ويدعو إلى ذلك التعرض. وإن كان المدعي ذلك بمرأى منه ومسمع، كان ذلك أدعى له إلى مباراته، وإلى إظهار ما عنده، وإلى أن يعرف الناس أنه لا يقصر عنه، أو أنه منه أفضل. فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مماتنته، ويحركه لمقاولته، فذلك الذي يسهر ليله ويسلبه القرار، حتى يستفرغ مجهوده في جوابه، ويبلغ أقصى الحد في مناقضته. وقد عرفت قصة جرير والفرزدق، وكل شاعرين جمعهما عصر، ثم عرض بينهما ما يهيج على المقاولة، ويدعو إلى المفاخرة والمنافرة، كيف جعل كل واحد منهما في مغالبة الآخر، وكيف جعل ذلك همه ووكده، وقصر عليه دهره؟ هذا، وليس به، ولا يخشى، إلا أن يقضي لصاحبه بأنه أشعر منه، وأن خاطره أحد، وقوافيه أشرد، لا ينازعه ملكًا، ولا يفتات عليه بغلبته له حقًا، ولا يلزمه به إتاوة، ولا يضرب عليه ضريبة؟

6 - وإذا كان هذا واجبًا بين نفسين لا يروم أحدهما من مباهاة صاحبه إلا ما يجري على الألسن من ذكره بالفضل فقط، فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب، وفي مثل قريش ذوى الأنفس الأبية والهمم العلية، والأنفة والحمية من يدعي النبوة، ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق كافة، وأنه بشير بالجنة ونذير بالنار، وأنه قد نسخ به كل شريعة تقدمته، ودين دان به الناس شرقًا وغربًا، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، إلى سائر ما صدع به صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: "وحجتي أن الله تعالى قد أنزل على كتابًا عربيًا مبينًا، تعرفون ألفاظه، وتفهومون معانيه، إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله، ولا بعشر سور منه، ولا بسورة واحدة، ولو جهدتم جهدكم، واجتمع معكم الجن والإنس" ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضه، ويبينوا سرفه في دعواه، مع إمكان ذلك، ومع أنهم لم يسمعوا إلا ما عندهم مثله أو قريب منه؟ هذا، وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته، ومن الذي ادعاه، حدًا تركوا معه أحلامهم الراجحة، وخرجوا له عن طاعة عقولهم الفاضلة، حتى واجهوه بكل قبيح، ولقوه بكل أذى ومكروه، ووقفوا له بكل طريق، وكادوه وكل من تبعه بضروب المكايدة، وأرادوهم بأنواع الشر. وهو سمع قط بذي عقل ومسكة استطاع أن يخرس خصمًا له قد اشتط في دعواه بكلمة يجيبه بها، فترك ذلك إلى أمور يسفه فيها، وينسب معها إلى ضيق الذرع والعجز، وإلى أنه مغلوب قد أعوزته الحيلة، وعسر عليه المخلص؟ أم هل عرف في مجرى العادات، وفي دعواعي النفوس ومبنى الطبائع، أن يدع الرجل ذو اللب حجته على خصمه، فلا يذكرها، ولا يفصح بها، ولا يجلى عن وجهها، ولا يريه الغلط فيما قال، والكذب فيما أدعى، لا، ولا يدعي أن ذلك عنده، وأنه مستطيع له، بل يجعل

أول جوابه له ومعارضته إياه، التسرع إليه والسفه عليه، واٌدام على قطع رحمه، وعلى الإفراط في أذاه؟ أم هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قوم لهم رياسة، ولهم دين ونحلة، فيولب عليهم الناس، ويدبر في إخراجهم من ديارهم وأموالهم، وفي قتل صناديدهم وكبارهم، وسبى ذرايهم وأولادهم، وعمدته التي يجد بها السبيل إلى تالف من يتألفه، ودعاء من يدعوه، دعوى له، إذا هي أبطلت بطل أمره كله، وانتقض عليه تدبيره ثم لا يعرض له في تلك الدعوى، ولا يشتغل بإبطالها، مع إمكان ذلك، ومع أنه ليس بمتعذر ولا ممتنع؟ وهل مثل هذا إلا مثل رجل عرض له خصم من حيث لم يحتسبه، فادعى عليه دعوى إن هي سمعت كان منها على خطر في ماله ونفسه، فأحضر بينة على دعواه تلك، وعند هذا المدعي عليه ما يبطل تلك البينة أو يعارضها، وما يحول على الجملة بينه وبين تنفيذ دعواه، فيدع إظهار ذلك والاحتجاج به، ويضرب عنه جملة، ويدعه وما يريد من إحكام أمره وإتمامه، ثم يصير الحال بينهما إلى المحاربة، وإلى الإخطار بالمهج والنفوس، فيطاوله الحرب، ويقتل فيها أولاده وأعزته، وتنهج عشيرته، وتعنم أمواله، ولا يقع له في أثناء تلك الحال أن يرجع إلى القاضي الذي قضى لخصمه بديًا، ولا إلى القوم الذين سمعوا منه وتصوروه بصورة المحق فيقول: "لقد كانت عندي حين أدعي ما أدعي بينه على فساد دعوه وعلى كذب شهوده، قد تركتها تهاونًا بأمره، أو أنسيتها، أو منع مانع دون عرضها، وها هي هذه قد جئتكم بها، فانظروا فيها لتعلموا أنكم قد غررتم؟ ". ومعلوم بالضرورة أن هذا الرجل لو كان من المجانين، لما صح أن يفعل ذلك، فكيف بقوم هم أرجح أهل زمانهم عقولًا، وأكملهم معرفة،

وأجزلهم رأيًا، وأثقبهم بصيرة؟ فهذه دلالة "الأحوال". 7 - وأما "الأقوال" فكثيرة: منها حديث ابن المغيرة، روى أنه جاء حتى أتى قريشًا فقال: إن الناس يجتمعون غدًا بالموسم، وقد فشا أمر هذا الرجل في الناس، فهم سائلوكم عنه فماذا تردون عليهم؟ فقالوا: مجمون يخنق. فقال: يأتونه فيكلمونه فيجدونه صحيحًا فصيحًا عاقلًا، فيكذبونكم! قالوا نقول: هو شاعر. قال: هم العرب، وقد رووا الشعر، وفيهم الشعراء، وقوله ليس يشبه الشعر، فيكذبونكم! قالوا نقول: هو كاهن. قال: إنهم لقوا الكهان، فإذا سمعوا قوله لم يجدوه يشبه الكهنة، فيكذبونكم! ثم انصرف إلى منزلة فقالوا: صبأ الوليد يعنون: أسلم، ولئن صبأ لا يبقى أحد إلا صبأ. فقال لهم ابن أخيه أبو جهل بن هشام بن المغيرة: أنا أكفيكموه. قال: فأتاه مخزونًا فقال: ما لك يا ابن أخ؟ قال: هذه قريش تجمع لك صدقة يتصدقون بها عليك، تستعين بها على كبرك وحاجتك. قال: أولست أكثر قريش مالًا؟! قال: بلى، ولكنهم يزعمون أنك صبأت لتصيب من فضل طعام محمد وأصحابه. قال: والله ما يشبعون من الطعام، فكيف يكون لهم فضول؟! ثم أتى قريشًا فقال: أتزعمون أني صبأت؟ ولعمري ما صبأت، إنكم قلتم: محمد مجنون، وقد ولد بين أظهركم لم يغب عنكم ليلة ولا يومًا فهل رأيتموه يخنق قط؟ وقلتم: شاعر؟ وأنتم شعراء، فهل أحد منكم يقول ما يقول؟ وقلتم: كاهن، فهل حدثكم محمد في شيء يكون في غد إلا أن يقول إن شاء الله! قالوا: فكيف تقول يا أبا المغيرة؟ قال: أقول هو ساحر: فقالوا: وأي شيء السحر؟ قال: شيء يكون ببابل، من حذقه فرق بين الرجل وامرأته، والرجل وأخيه، إنا لله، أفما تعلمون أن محمدًا فرق بين

فلان وفلانة زوجته، وبين فلان وابنه، وبين فلان وأخيه، وبين فلان ومواليه، فلا ينفعهم ولا يلتفت إليهم ولا يأتيهم؟ قالوا: بلى. فاجتمع رأيهم على أن يقولوا إنه ساحر، وأن يردوا الناس عنه بهذا القول. وانصرف، فمر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منطلقًا إلى رحله، وهم جلوس في المسجد، فقالوا: هل لك يا أبا المغيرة إلى خير؟ فرجع إليهم فقال: ما ذلك الخير؟ فقال: التوحيد. قال: ما يقول صاحبكم إلا سحرًا. وما هو إلا قول البشر يرويه عن غيره. وعبس في وجوهم وبسر، ثم أدبر إلى أهله مكذبًا، واستكبر عن حديثهم الذي قالوا له وعن الإيمان، فأنزل الله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 18، 19]، الآية. 8 - ومنه ما رواه محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدًا حليمًا قال يومًا: ألا أقوم إلى محمد فأكلمه فأعرض عليه أمور لعله أن يقبل منها بعضها، فتعطيه أيها شياء؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، وروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكثرون قالوا: بلى يا أبا الوليد! فقام إليه، وهو صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده، فقال: يا ابن أخي! إنك منا حيث علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت بين جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت آلهتهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك أن تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "قل". قال: إن كنت إنما تريد المال بما جئت به من هذا القول، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد

شرفًا سودناك حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيًا لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه، أو لعل هذا الشعر شعر جاش به صدرك، فإنك لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا نقدر عليه. حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوقد فرغت"؟ قال: نعم. قال: "فاسمع مني"، قال: قل. قال: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} " [فصلت: 1 - 4]، ثم مضى فيها يقرؤها، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال له: "قد سمعت ما سمعت فأنت وذاك"! فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت بمثله قط، وما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، خلو بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن نصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهره على العرب به، فملكه ملككم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك بلسانه! قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم. 9 - ومنه ما جاء في حديث أبي ذر في سبب إسلامه: روي أنه قال: قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة إلى مكة، فانطلق فراث، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلًا [يقول] إن الله تعالى أرسله.

فقلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، ساحر، كاهن. قال أبو ذر: وكان أنيس أحد الشعراء، قال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد، ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. 10 - ومن ذلك ما روي أن الوليد [بن عقبة] أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ. فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، فقال: أعد فأعاد، فقال: "والله إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطُلاوةً، وإنَّ أسفله لمعرق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر". 11 - واعلم أنه لا يجوز أن يقال في هذا وشبهه إنه لا يكون دليلًا حتى يكون من قول المشركين بعضهم لبعض، حين خلوا بأنفسهم فتفاوضوا وتحاوروا وأفضى بعضهم بذات نفسه إلى بعض وإن كان منه من كلام المؤمنين، أو ممن قاله ثم آمن، فإنه لا يصح الاحتجاج به في حكم الجدل، من حيث يصير كأنك تحتج على الخصم برأي تراه أنت، وبقول أنت تقوله، وذلك أنه إنما يمتنع أن يدل إذا صدر القول مصدر الدعوى والشيء يدفعه الخصم وينكره، فأما ما كان مخرجه مخرج التنبيه على أمر يعرفه ذوو الخبرة، وأطلقه قائله إطلاق الواثق بأنه معلوم للجمع، وأنه ليس من بصير يعرف مقادير الفضل والنقص إلا وهو يحوج إلى تسليمه والاعتراف به شاء أم أبي فهو دليل بكل حال، ومن قول كل قائل، وحجة من غير مثنوية، ومن غير أن ينظر إلى قائله أموافق أم مخالف، ذاك لأن الدلالة ليست من نفس القول وذاك الصفة، بل في مصدرهما، وفي أن أخرجها مخرج

الإخبار عن أمر هو كالشيء البادي للعون، لا يعمل أحد بصره إلا رآه. 12 - وإذا رأينا "الأحوال" و "الأقوال" منهم قد شهدت، كالذي بان، باستسلامهم للعجز وعلمهم بالعظيم من الفضل والبائن من المزية، الذي إذا قيس إلى ما يستطيعونه ويقدرون عليه في ضروب النظم وأنواع التصرف، فإنه الفوت الذي لا ينال، وارتقى إلى حيث لا تطمع إلهي الآمال، فقد وجب القطع بأنه معجز. ذلك لأنه ليس إلا أحد الأمرين: فإما أن يكونوا قد علموا المزية التي ذكرنا أنهم علموها على الصحة وإما أن يكونوا قد توهموها في نظم القرآن، وليست هي فيه لغلط دخل عليهم. ودعوى الثاني من الأمرين سخف، فإن ذلك لو ظن بالواحد منهم لبعد، ذلك لأنه لا يتصور أن يتوهم العاقل في نظم كلام، جل مناه ومنى أصحابه أن يستطيع معارضته، وأن يقدر على إسكات خصمه المباهي به، أنه قد بلغ في المزية هذا المبلغ العظيم غلطًا وسهوًا، فكيف بأن يشمل هذا الغلط كلهم، ويدخل على كافتهم؟ وأي عقل يرضى من صاحبه بأن يتوهم عليهم مثل هذا من الغلط، وهم من إذا ذاق الكلام عرف قائله من قبل أن يذكر، ويسمع أحدهم البيت قد استرفده الشاعر فأدخله في أثناء شعر له، فيعرف موضعه وبنيه عليه، كما قال الفرزدق لذي الرمة أهذا شعرك؟ هذا شعر لاكه أشد لحيين منك إلى ضروب من دقيق المعرفة يقل هذا في جنبها؟ وإذا لم يصح الغلط عليهم، ولم يجز أن يدعي أنه كان معهم في زمانهم من كان بالأمر أعلم، وبالذي وقع التحدي إليه أقوم، فما زالت الشبهة في كونه معجزًا له. 13 - وإن قالوا: فإن ههنا أمرًا آخر، وهو ما علمنا من تقديمهم شعراء

الجاهلية على أنفسهم، وإقرارهم لهم بالفضل، وإجماعهم في امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى أنهم أشعر العرب. وإذا كان ذلك كذلك، فمن أين لنا أن نعلم أنهم لم يكونوا بحيث لو تحدوا إلى معارضة القرآن لقاموا بها واستطاعوها؟ قيل لهم: هذا الفصل على ما فيه لا يقدح في موضع الحجة، وذلك أنهم كانوا، كما لا يخفى، يروون أشعار الجاهليين وخطبهم، ويعرفون مقاديرهم في الفصاحة معرفة من لا تشكيل جهات الفضل عليه، فلو كانوا يرون فيما رووا وحفظوا مزية على القرآن، أو رأوه قريبًا منه، أو بحيث يجوز أن يعارض بمثله، أو يقع لهم إذا قاسموا وازنوا أن هذا الذي تحدوا إلى معارضته لو تحدى إليه من قبلهم لاستطاعوا أن يأتوا بمثله، لكانوا يدعون ذلك ويذكرون، ولو ذكروه لذكر عنهم. ومحال إذا رجعنا إلى أنفسنا واستشففنا حال الناس فيما جبلوا عليه أن يكونوا قد عرفوا لما تحدوا إليه وفرعوا بالعجز عنه شبهًا ونظمًا، ثم يتلى عليهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، فلا يزيدون في جوابه على الصمت، ولا يقولون: "لقد روينا لمن تقدم ما علمت وعلمنا أنه لا يقصر [عما] أتيت به، فمن أين استجزت أن تدعي هذه الدعوى"؟ فإذا كان من المعلوم ضرورة أنهم لم يقولوا ذلك، ولا رأوا أن يقولوا، ولو على سبيل الدفع والتلبيس والتشعب بالباطل، بل كانوا بين أمرين: إما أن يخبروا عن أنفسهم بالعجز والقصور، وذلك حين يخلو بعضهم ببعض، وكان الحال حال تصادق وإما أن

يتعلقوا بما لا يتعلق به إلا من أعوزته الحيلة، ومن فل بالحجة، من نسبته إلى السحر تارة، وإلى أنه مأخوذ من فلان وفلان أخرى، يسمون أقوامًا مجهولين لا يعرفون بعلم، ولا يظن بهم أن عندهم علمًا ليس عند غيرهم ثبت أنهم قد كانوا علموا أن صورة أولئك الأوائل صورتهم، وأن التقدير فيهم أنهم لو كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تحدوا إلى معارضته، في مثل حال هؤلاء الكائنين في زمانه حالهم. وإذا كان هذا هكذا، فقد انتفى الشك، وحصل اليقين الذي تسكن معه النفس، ويطمئن عنده القلب، أنه معجز ناقض للعادة، وأنه في معنى قلب العصا حية، وإحياء الموتى، في ظهور الحجة به على الخلق كافة، وبان أن قد سعد المؤمنون وتحسر المبطلون. والحمد لله رب العالمين على أن هدانا لدينه، وأنار قلوبنا ببرهانه ودليله، وإباه جل وعز نسأل التثبيت على ما هدى له، وإتمام النعمة بإدامة ما خوله، بفضله ومنه. فصل: 14 - واعلم أن ههنا بابًا من التلبيس أنت تجده يدور في أنس قوم من الأشقياء، وتراهم يومئون إليه، ويهمسون به، ويستهوون الغر الغبي بذكره، وهو قولهم: "قد جرت العادة بأن يبقى في الزمان من يفوت أهله حتى يسلموا له، وحتى لا يطمع أحد في مداناته، وحتى ليقع الإجماع منهم أنه الفرد

الذي لا ينازع. ثم يذكرون أمرأ القيس والشعراء الذين قدموا على من كان معهم من أعصارهم، ومما ذكروا الجاحظ وكل مذكور بأنه كان أفضل من كان في عصره، ولهم في هذا الباب خبط وتخليط لا إلى غاية. وهي نفثة نفثها الشيطان فيهم، وإنما أتوا من سوء تدبرهم لما يسمعون، وتسرعهم إلى الاعتراض قبل تمام العلم بالدليل. وذلك أن الشرط في المزية الناقضة للعادة، أن يبلغ الأمر فيها إلى حيث المداناة، وحتى لا تحدث نفس صاحبها بأن يتصدى، ولا يجول في خلد أن الإتيان بمثله يمكن، وحتى يكون يأسهم منه وإحساسهم بالعجز عنه في بعضه، مثل ذلك في كله. 15 - وليت شعري، من هذا الذي سلم لهم أنه كان في وقت من الأوقات من بلغ أمره في المزية وفي العلو على أهل زمانه هذا المبلغ، وانتهى إلى هذا الحد؟ إن قيل: "امرؤ القيس"، فقد كان في وقته من يباريه ويماتنه، بل لا يتحاشى من أن يدعي الفضل عليه. فقد عرفنا حديث "علقمة الفحل"، وأنه لما قال امرؤ القيس، وقد تناشدا: "أينا أشعر؟ "، قال: "أنا"، غير مترث ولا مبال، حتى قال امرؤ القيس: "فقل وانعت فرسك وناقتك، وأقول وأنعت فرسي وناقتي" فقال علقمة: "إني فاعل، والحكم بيني وبينك المرأة من ورائك"، يعني أم جندب امرأة آمرئ القيس، فقال امرؤ القيس: خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب وقال علقمة: ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقًا كل هذا التجنب

وتحاكما إلى المرأة، ففضلت علقمة. 16 - وجرى بين امرئ القيس والحارث اليشكرى في تتميمه أنصاف الأبيات التي أولها: أحار أريك برقًا هب وهنًا ... كنار مجوس تستعر استعارًا ما هو مشهور، حتى قالوا امرؤ القيس: لا أماتنك بعد هذا. 17 - ثم وجدنا الخبار تدل على خلاف لم يزم بين الناس فيه وفي غيره، أي أشعر؟ وعلى أي لم يستقر الأمر في تقديمه قرارًا برفع الشك. رووا أن أمير المؤمنين عليًا، رضوان الله عليه، كان يفطر الناس في شهر رمضان، فإذا فرغ من العشاء تكلم فأقل، وأوجز فأبلغ. قال: فاختصم الناس ليلة في أشعر الناس، حتى ارتفعت أصواتهم، فقال رضوان الله عليه لأبي الأسود الدؤلي: قل يا أبا الأسود. وكان يتعصب لأبي دؤاد، فقال: أشعرهم الذي يقول: ولقد اعتدى يدافع ركنى ... أحوذى ذو ميعة إضريج مخلط مزيل مكر مفر ... منفح مطرح سبوح خروج سَلهبٌ شَرْجبٌ كأنَّ رِماحاً ... حَمَلتْهُ، وَفِي السَّراةِ دموج فأقبل أمير المؤمنين -رضوان الله عليه- على الناس فقال: كل شعرائكم محسن، ولو جمعهم، زمان واحد وغاية ومذب واحد في القول، لعلمنا

أيهم أسبق إلى ذلك، وكلهم قد أصاب الذي أراد وأحسن فيه، وإن يكن أحدهم أفضل، فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة: امرؤ القيس بن حجر، كان أصحهم بادرة، وأجودهم نادرة. 18 - وعن ابن عباس أنه سأل الخطيئة: من أشعر الناس؟ قال: أمن الماضين أم من الباقين؟ فقال: إذن من الماضين، فهو الذي يقول: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم وما الذي يقول: ولست بمستبق أخًا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب بدون ذلك، ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولًا يعني نفسه والله يا آبن عباس لولا الجشع والطمع لكنت أشعر الماضيين، فأما الباقون فلا أشك أني أشعرهم. 19 - وقالوا: كان الأوائل لا يفضلون على زهير أحدًا في الشعر ويقولون: "قد ظلمه حقه من جعله كالنابغة". قالوا: "وعامة أهل الحجاز على ذلك". وعن ابن عباس أنه قال: سامرت عمر بن الخطاب -رضوان الله عليه- ذات ليلة فقال: أنشدني لشاعر الشعراء. فقلت: ومن شاعر الشعراء؟ قال: زهير. قلت: يا أمير المؤمنين، ولم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه لا يتتبع وحشى الكلام في شعره، ولا يعاظل بين القول. 20 - وروى عن أبي عبيدة أنه قال: أشعر الناس ثلاثة: امرؤ القيس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني، ثم اختلفوا فيهم: فزورت

اليمانية تقديمًا لصاحبهم أخبارًا رفعوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى عن يحيى بن سليمان الكاتب أنه قال: بعثني المنصور إلى حماد الرواية أسأله عن أشعر الناس، فأتيته وقلت: إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس. فقال: ذاك الأعشى صناجها. 21 - فقد علمنا أن امرأ القيس كان أشعرهم عندهم، وأن تفضيلهم غيره عليه إنما كان على سبيل المبالغة، وعلى جهة الاستحسان للشيء يتمثل به في الوقت ويقع في النفس، وما أشبه ذلك م نالأسباب التي يعطي بها الشاعر أكثر مما يستحق. أليس فيه أنه مما لا يبعد في القياس، وأنه مما يتسع له الاحتمال، وأنه ليس بالقول الذي يعاب، والحكم الذي يزرى بصاحبه، وأنه فضله عليهم لم يكون بالفضل الذي يمنع أن يكونوا أكفاء له ونظراء، يسوغ للواحد منهم، ويسوغ هو لنفسه، دعوه مساواته والتصدي لمباراته؟ هذا، وفي حاجة المنصور إلى أن يسأل عن أشعر الشعراء، وقد مضى الدهر بعد الدهر، دليل [على] أن لم يكن الذي روى من تفضيله قولًا مجمعًا عليه من أصله وفي أول ما قيل، وأنه كان كالرأي يراه قوم وينكره آخرون، وأن الصورة كانت كالصورة مع جرير والفرزدق، وأبي تمام والبحتري. ذاك لأنه لو كان القول بأنه أشعر الناس قولًا صدر مصدر الإجماع في أوله، وحكمًا أطبق عليه الكافة حين حكم به، حتى لم يوجد مخالف، ثم استمر كذلك إلى زمان المنصور، لكان يكون محالًا أن يخفى عليه حتى يحتاج فيه إلى سؤال حماد وكان يكون كذلك بعيدًا من حماد أن يبعث إليه مثل المنصور، في هيبته وسلطانه ودقة نظره وشدة مؤاخذته، يسأله فيجازف له في الجواب، ويقول قولًا لم يقله أحد، ثم يطلقه إطلاق الشيء الموثوق بصحته، المتقدم في شهرته، فتدبر ذلك.

22 - ويزيد الأمر بيانًا أن رأيناهم حين طبقوا الشعراء جعلوا امرأ القيس وزهيرًا والنابغة والأعشى في طبقة، فأعلموا بذلك أنهم أكفاء ونظراء، وأن فضلًا أن كان لواحد منهم، فليس بالذي يوئس الباقين من مداناته، ومن أن يستطيعوا التعق به والجرى في ميدانه، ويمنعهم أن يدعوا لأنفسهم أو يدعي لهم أنهم ساووه في كثير مما قالوه أو دنوا منه، وأنهم جروا إلى غياته أو كادوا. وإذا كان هذه صورة الأمر، كان من العمى التعلق به، ومن الخسار الوقوع في الشبهة بسببه. 23 - وطريقة أخرى في ذلك، وتقرير له على ترتيب آخر، وهو أن الفضل يجب والتقديم، إما لمعنى غريب يسبق إليه الشاعر فيستخرجه، أو استعارة بعيدة يفطن لها، أو لطريقة في النظم يخترعها. ومعلوم أن المعول في دليل الإعجاز على النظم، ومعلوم كذلك أن ليس الدليل في المجيء ينظم لم يوجد من قبل فقط، بل في ذلك مضمومًا إلى أن يبين ذلك "النظم" من سائر ما عرف ويعرف من ضروب "النظم"، وما يعرف أهل العصر من أنفسهم أنهم يستطيعونه، البينونة التي لا يعرض معها شك لواحد منهم أنه لا يستطيعه، ولا يهتدي لكنه أمره، حتى يكونوا في استشعار اليأس من أن يقدروا على مثله، وما يجري مجرى المثل له، على صورة واحدة، وحتى كان قلوبهم في ذلك أفرغت في قالب واحد. وإذا كان الأمر كذلك لم يصح لهم تعلق بشأن امرئ القيس حتى يدعوا أنه سبق إلى نظم بان من كل نظم عرف لمن قبله ولمن كان معه في زمانه، البينونة التي ذكرنا أمرها. وهم إذا فعلوا ذلك، ورطوا أنفسهم في أعظم ما يكون من الجهالةن من حيث أن يفضي بهم إلى أن أن يدعوا على من كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الشعراء والبلغاء

قاطبة الجهل بمقادير البلاغة، والنقصان في علمها، ولأنفسهم الزيادة عليهم، وأن يكونوا قد استدركوا في نظم امرئ القيس مزية لم تعلمها قريش والعرب قاطبة، ذلك لما مضى آنفًا من أن محالًا أن يكون معهم وبين أيديهم نظم يعرفون من حاله أنه مساو في الشرف نظم القرآن، ثم لا يذكرونه ولا يحتجون به على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يخبرهم أن الذي أتى به خارج عن طوق البشر ويتجاوز قواهم. هذا، ومن يسلم بأن امرأ القيس زاد في البلاغة وشرف النظم على نظم من كان قبله، ما إذا اعتبر كان في مزية قدر القرآن على نظم من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أين لهم هذه الدعوى؟ ألشيء علموه هم في شعره، بان لهم عند قياسه إلى شعر من كان قبله كأبي دواد والأفوه الأودي وغيرهما؟ أم لخبر أتاهم؟ فليرونا مكانه، وليس لهم إلى ذلك سبيل، بل قد أتى الخبر بما يجهلهم في هذه الدعوى ويكذبهم، وهو الذي تقدم من قول أبي الأسود وتفضيله أبا دواد بحضرة أمير المؤمنين على رضوان الله عليه، ويعد أن قال له: "قل يا أبا الأسود"، أفيكون أن يكونوا قد عرفوا لامرئ القيس المزية التي ذكروها، وكان فضله على من تقدمه الفضل الذي قالوه، ثم يقول أمير المؤمنين لأبي الأسود: "قل"، بحضرة العرب، وبعقب أن تشاجروا في أشعر الناس، فيؤخره ويقدم أبا دؤاد، ثم لا يسمع نكيرًا، كالذي يجب فيمن قال الشيء الظاهر بطلانه، وذهب مذهبًا لا مساغ له! وليست تذكر أمثال هذه الزيادة، ويتكلف الجواب عنها، أنها تأخذ موضعًا من قلب ذي لب، ولكن الاحتياط بذكر ما يتوهم أن يستروح إليه الغوى، ويغالط به الجاهل. وإذا كانت الشبهة في أصل الدين، كانت كالداء الذي يخشى منه

على الروح، ويخاف منه على النفس، فلا يستقل قليله، ولا يتهاون باليسير منه، ولا يتوهم مكان حركة له إلا استقصى النظر فيه، وأعيد الكي على نواحيه، وكالحيوان ذي السم يعاد الحجر على رأسه، ما دام يرى به حس وإن قل. والله ولي العصمة، والمسئول أن يجعل كل ما نعيد ونبدئ فيه لوجهه، بفضله ومنه. 24 - فاعلم أنهم إذا ذكروا في تعلقهم بلتوابع، ومحاولتهم أن يمنعوا من الاستدلال، مع تسليم عجز العرب عن معارضة القرآن من تراخي زمانه عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم، كالجاحظ وأشباهه، كانوا في ذلك أجهل، وكان النقض عليهم أسهل. وذلك أن الشرط في نقض العادة أن يعم الأزمان كلها، وأن يظهر على مدعي النبوة ما لم يستطيعه مملوك قط. وأما تقدم واحد من أهل العصر سائرهم، ففي معنى تقد واحد من أهل مصر من الأمصار غيره ممن يضمه وإياه ذلك المصر، لا فضل في ذلك بين الأمصار والأعصار إذا حققت النظر، إذ ليس بأكثر من أن واحدًا زاد على جماعة معدودين في نوع من الأنواع، فكان أعلمهم أو أكتبهم أو أشعرهم، أو أحذقهم في صنعة، وأبهرهم في عمل من الأعمال. وليس ذلك من الإعجاز في شيء، إنما المعجز ما علم أنه فوق قوى البشر وقدرهم، إن كان من جنس ما يقع التفاضل فيه من جهة القدر، أو فوق علومهم، إن كان من قبيل ما يتفاضل الناس فيه بالعلم والفهم. وإذا كنا نعلم أن استمداد الجاحظ وأشباه الجاحظ من كلام العرب والبلغاء الذين تقدموا في الأزمنة، وانهم فجروا لهم ينابيع القول فاستقوا، ومثلوا لهم مثلًا في البلاغة افحتذروا،

إذن لم يبلغوا شأو ما بلغ، ولم يدر لهم من ضروع القول ما در، ولو أن طباعًا لم تشرب من مائهم، ولم تغذ بجناهم، ولم يكن حالهم في الاكتساب منهم، والاستمداد من ثمار قرائحهم، وتشمم الذي قاح من روائحهم، حال النحل التي تغتذى بأريح الأنوار وطيب الأزهار، وتملأ أجوافها من تلك اللطائف، ثم تمجها أربًا وتقذفها ماديًا، إذن لكان الجاحظ وغير الجاحظ في عداد عامة زمانهم الذين لم يروا، ولم يحفظوا، ولم يتتبعوا كلام الأولين، من لدن ظهر الشعر وكان الخطابة إلى وقتهم الذي هم فيه، ولم يعرفوا إلا ما يتكلم به آباؤهم وإخوانهم ومساكنوهم في الدار والمحلة، أو كانوا لا يزيدون عليهم إن زادوا بمقدار معلوم. فمن أعظم الجهل وأشد الغباوة، أن يجعل تقدم أحدهم لأهل زمانه من باب نقض العادة، وأن يعد معد المعجز. 25 - فمثل هذه الطبقة إذن مع الصدر الأول، وقياس هؤلاء الخلف مع أولئك السلف، ما جرى بين ابن ميادة وعقال، قال ابن ميادة: فَجَرْنا ينابيعَ الكَلامِ وبَحْرَهُ ... فأصْبَحَ فيهِ ذو الروايةِ يَسْبَحُ وما الشعرُ إِلاّ شعرُ قيسٍ وخندف ... وقول سواهم كلفة وتملح فقال عقال بجيبه: ألا أبلغ الرَّمَّاحَ نقْضَ مقالةٍ ... بها خَطِلَ الرَّمَّاحُ أو كان يَمْزَحُ لقد خَرَّقَ الحيُّ اليمانون قَبْلَهم ... بُحورَ الكلام تستقي وهي طفح وقد عَلَّموا مَنْ بَعْدَهُمْ فتعلَّموا ... وهمْ أَعْرَبوا هذا الكلام وأوضحوا

فللسابقين الفضل لا تنكرونه ... وليس لملخوق عليهم تبجح 26 - وفي الذي قدمت في أول الجزء مفتتح هذه الرسالة من قول خالد ابن صفوان: "كيف تجاريهم، وإنما نحكيهم" وما أتبعته من قول الجاحظ في شأن العرب، وفي أن الاقتداء بهم والأخذ منهم والتسليم لهم، وأنهم لا يستطيع أشعر الناس وأرفعهم في البيان أن يضاهيهم، ويقول مثلا لذي قالوه في جودة السبك والنحت، وكثرة الماء والرونق، إلا في اليسير غنى للعاقل وكفاية، اللهم إلا أن يتجاهل متجاهل فيدعي في الجاحظ وأمثاله فضلًا لم يدعوه لأنفسهم، أو يزعم أنهم ضاموا أنفسهم تعصبًا للعرب، فتشاهدوا لها بأكثر مما عرفوا، وتواصفوها بمزية [ومما] لم يعلموا، فيفتح بذلك بابًا من الركاكة والسخف لا يجاب عن مثله، ولا يشتغل بالإصغاء إليه، فضلًا عن الكلام عليه. 27 - واعلم أنه إن خيل إلى قوم من جهال الملحدة، أنه كان في المتأخرين من البلغاء كالجاحظ وأشباه الجاحظ، من استطاع معارضة القرآن فترك خوفًا، أو أنهم فعلوا ذلك ثم أخفوه، لم يتصور تخيلهم ذلك حتى يقتحموا هذه الجهالة التي ذكرتها، أعني أن يزعموا أنهم كانوا عند أنفسهم أفصح وأبلغ من بلغاء قريش وخطابئهم، وأن خطيبهم كان أخطب من قس وسحبان، وشاعرهم أشعر من امرئ القيس ومن كل شاعر كان في العرب، إلا أنهم صانعوا الناس، فمنعوا أنفسهم الفضيلة ونحوها العرب. وذاك أن محالًا أن يعتقدوا فيهم، أعنى في العرب، ما اعتدقه الناس، وفي أنفسهم ما أفصحوا به من القصور عن مداناتهم، وشدة الانحطاط عنهم، ثم أن يستطيعوا ما لم يستطعه العرب، ويكملوا ما لم يكملوا له.

فصل: في فن آخر من السؤال

ومن هذا الذي يشك في بطلان دعوى من بلغ بالمصلى غاية وقد انقطع السابق، وزعم في الناقص الحذق أنه استقل بشيء عى به المشهود له بالحذق والتقدم؟ هذا ما لا يدور في خلد، ولا تنعقد له صورة في وهم، فاعرف ذلك. وليس موضع فساد الجملة في هاذ، بل في إسقاط الواو من "وقد انقطع"، وسياق ما يأتي يدل على صواب ما أثبت. و "المصلى" من الخيل هو الذي يجيئ بعد الفرس "السابق" عند السباق في الحلبة. فصل: في فن آخر من السؤال 28 - وهو أن يقولوا: إنا قد علمنا من عادات الناس وطبائعهم أن الواحد منهم تواتيه العبارة، ويطيعه اللفظ في صنف من المعاني، ثم يمتنع عليه مثل تلك العبارة وذلك اللفظ في صنف آخر. فقد يكون الرجل، كما لا يخفى، في المديح أشعر منه في المرائي، وفي الغزل واللهو والصيد أنفذ منه في الحكم الآداب، ونراه يستطيع في الأوصاف والتشبيهات ما لا يستطيع مثله في سائر المعاني، وترى الكاتب وهو في الإخوانيات أبلغ منه في السلطانيات، وبالعكس. هذا أمر معروف ظاهر لا يشتبه. وإذا كان كذلك، فعلل العجز الذي ظهر فيهم عن معارضته القرآن، لم يظهر لأنهم لا يستطيعون مثل ذلك النظم، ولكن لأنهم لا يستطيعونه في مثل معاني القرآن. واعلم أن هذا السؤال إذا وقع الجواب عنه وقع عن جملته، وكان الحسم في الداء كله. وذاك أن يقولوا: إنه لا تصح المطالبة إلا بما يتصوره وجوده، وما يدخل في حيز الممكن، وإنا لنعلم من حال المعاني أن الشاعر يسبق في الكثير

منها إلى عبارة يعلم ضرورة أنها لا يجيء في ذلك المعنى إلا ما هو دونها ومنحط عنها، حتى يقضي له بأنه قد غلب عليه واستبد به، كما قضى الجاحظ لبشار في قوله: كأنَّ مُثارَ النقعِ فَوقَ رؤوسِنا ... وأسيافنَا لَيْلٌ تهاوى كواكبه فإنه أنشد هذا البيت نظائره ثم قال: وهذا المعنى قد غلب عليه بشار، كما غلب عنترة على قوله: وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردًا كفعل الشارب المترنم هزجًا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم قال: فلو أن آمرأ القيس عرض لمذهب عنترة في هذا لافتضح". وليس ذاك لأن بشارًا وعنترة قد أوتيا في علم النظم جملة ما لم يوت غيرهما، ولكن لأنه إذا كان في مكان خبئ فعثر عليه إنسان وأخذهِ، لم يبق لغيره مرام في ذلك المكان، وإذا لم يكن في الصدقة إلا جوهرة واحدة، فعمد إليها عامد فشقها عنها، استحال أن يستام هو او غيره إخراج جوهرة أخرى من تلك الصدفة. وما هذا سبيله في الشعر كثي لا يخفى على من مارس هذا الشأن. فمن البين في ذلك قول القطامي: فهنَّ يَنْبُذنَ من قولٍ يُصبْنَ بهِ ... مَواقعَ الماء من ذي الغلة الصادي وقول آبن حازم: كفاك بالشيب ذنبًا عند غانيه ... وبالشباب شفيعًا أيها الرجل

وقول عبد الرحمن بن حسان: لم تفتها شمس النهار بشيء ... غير أن الشباب ليس يدوم وقول البحتري: عريقون في الإضال يوتنف الندى ... لناشئهم من حيث يوتنف العمر لا ينظر في هذا وأشباهه عارف إلا علم أنه لا يوجد في المعنى الذي يرى مثله، وأن الأمر قد بلغ غايته، وأن لم يبق للطالب مطلب. 29 - وكذلك السبيل في المنثور من الكلام، فإنك تجد فيه متى شئت فصولًا تعلم أن لن يستطاع في معانيها مثلهان فمما لا يخفى أنه كذلك قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضيوان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: "قيمة كل امرئ ما يحسنه"، وقول الحسن رحمه الله عليه: "ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت". ولن تعدم ذلك إذا تأملت كلام البلغاء ونظرت في الرسائل. ومن أخص شيء بأن يطلب ذلك فيه، الكتب المبتدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة، فإنا نجد أربابها قد سبقوا في فصول منها إلى ضرب من اللفظ والنظم، أعيا من بعدهم أن يطلبوا مثله، أو يجيئوا بشبيه له، فجعلوا لا يزيدون على أن يحفظوا تلك الفصول على وجوهها، ويودوا ألفاظهم فيها على نظامها وكما هي. وذلك ما كان مثل قول سيبويه في اول الكتاب: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع". لا نعلم أحدًا أتى في معنى هذا الكلام بما يوازنه أو يدانيه، أو يقع قريبًا منه، ولا يقع في الوهم

أيضًا أن ذلك يستطاع، أفلا ترى أنه إنما جاء في معناه قولهم" والفعل ينقسم بأقسام الزمان، ماض وحاضر ومستقبل"، وليس يخفى ضعف هذا في جنبه وقصوره عنه. ومثله قوله: "كأنهم يقدمون الذي باينه أهم لهم، وهم بشأنه أغنى، وإن كانا جميعًا يهمانهم ويغنيانهم". 30 - وإذا كان الأمر كذلك، لم يمتنع أن يكون سبيل لفظ القرآن ونظمه هذا السبيل، وأن يكون عجزهم عن أن يأتوا بمثله في طريق العجز عما ذكرنا ومثلنا، فهذا جملة ما يجئ لهم في هذا الضرب من التعلق قد استوفيته. وإذ قد عرفته، فاسمع الجواب عنه، فإنه يسقطه عنك دفعة، ويحسمه عنك حسمًا. 31 - واعلم أنهم في هذا كرام قد أضل الهدف، وبان قد زال عن القاعدة، وذاك أنه سؤال لا يتجه حتى يقدر أن التحدي كان إلى أن يعبروا عن معاني القرآن أنفسها وبأعيانها بلفظ يشبه لفظه، ونظم يوازي نظمه. وهذا تقدير باطل، فإن التحدي كان إلى أن يجيئوا في اي معنى شاءوا من المعاني بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه. بدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]، أي مثله في النظم، وليكن المعنى مفترى كما قلتم، فلا إلى المعنى دعيتم، ولكن إىل النظم، وإذا كان كذلك، كان بينًا أنه بناء على غير أساس، ورمى من غير مرمى، لأنه قياس ما امتنعت فيه المعارضة من جهة وفي شيء مخصوص، على ما امتنعت معارضته من الجهات كلها وفي الأشياء أجمعها. فلو كان إذ سبق الخليل وسيبويه في معاني النحو إلى ما سبقا إليه من اللفظ والنظم، لم يسبق الجاحظ في معانيه التي وضع كتبه لها إلى ما يوازي ذلك ويضاهيه، أو كان بشار إذا سبق في معناه إلى ما سبق إليه، لم يوجد مثل نظمه فيه لشاعر في شيء من

المعاني لكان لهم في ذلك متعلق. فأما وليس من نظم يقال: "إنه لم يسبق إليه" في معنى، إلا ويوجد أمثاله أو خير منه في معان آخر، فمن أشد المحال وأبينه الاعتراض به. واعلم أنا لو سلمان لهم الذي ظنوه على بطلانه من أن التحدي كان إلى أن يعبر عن أنفس معاني القرآن بما يشبه لفظه ونظمه، لم نعدم الحجاج معهم، وأن يكون لنا عليهم كلام في الذي تعلقوا به، ودفع لهم عنه. إلا أن العلماء آثروا أن يكون الجواب من الوجه الذي ذكرت، إذ وفق ما نص عليه في التنزيل، وكان فيه سد الباب وحسم الشبه جملة. ومن ضعف الرأي أن تسلك طريقًا يغمض، وقد وجدت السنن اللاجب، وأن تطاول المريض في علاجك، ومعك الدواء الذي يشفي من كثب، وأن ترخى من خناق الخصم، وفي قدرتك ألا يملك نفسًا، ولا يستطيع نطقًا. 32 - ثم إن أردت أن تكلمهم على تسليم ذلك، فالطريق فيه أن يقال لهم على أول كلامهم حيث قالوا: "إنا رأينا الرجل يكون في نوع أشعر، وعلى جودة اللفظ والنظم أقدر منه في غيره" إنه ينبغي أن تعلموا أول شيء أنكم حرفتم كلام الناس في هذا عن موضعه، فإنا إذا تأملنا الحال في تقديمهم الشاعر في فن من الفنون، وجدناهم قد فعلوا ذلك على معنى أنه قد خرج في معاني ذلك الفن ما لم يخرجه غيره، واتسع لما [لم] يتسع له من سواه. فإذا قالوا: "هو أنسب الناس"، فالمعنى أنه قد فطن في معاني الغزل [وما] يدل على شدة الوجد وفرط الحب والهيمان لما لم يفطن له غيره. وكذلك إذا قالوا: "أمدح، أو أهجى"، فالمعنى أنه قد اهتدى في معاني الزين والشين وفي التحسين والتهجين إلى ما لم يهتد إليه نظراؤه، ولو كانوا في

اللفظ والنظم يذهبون، لكان محالًا أن يقولوا: "هو أنسب"، لأن ذلك في صفة اللفظ والنظم محال. ومن هذا الذي يشك أن لم يكن قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح أمدح بيت عند من قال ذلك، من أجل لفظه ونظمه، وأن ذلك كان من أجل معناه؟ هذا ما لا معنى لزيادة القول فيه. 33 - فإن قالوا: هم، وإن كانوا قد أرادوا المعنى في قولهم: "هذا أمدح، وذاك أهجى، وهذا أنسب، وذاك أوصف"، فإنه لن تتسع المعاني حتى تتسع الألفاظ، ولن تقع مواقعها المؤثرة حتى يحسن النظم. وإذا كان كذلك فموضعنا منه بحاله. ثم ليس بمنكر ولا مجهول ولا مجهول أن يكون لفظ الشاعر ونظمه إذا تعاطي المدح، أحسن وأفضل منهما إذا هو هجا أو نسب. قيل: إنا ندع النزاع في هذا ونسلمه لكم، فأخبرونا عن معاني القرآن، أهي صنف واحد أم أصناف؟ فإن قلتم: "صنف واحد"، تجاهلتم، فقد علمنا الحجج والبراهين، والحكم والآداب، والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والوصف والتشبيه والأمثال، وذكر الأمم والقرون واقتصاص أحوالهم، والنبأ عما جرى بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام، وما لا يصحى ولا يعد. وإن قلتم: "هي أصناف"، كما لا بد منه. قيل لكم: فقد كان ينبغي لشعراء العرب وبلغئها أن يعمد كل منهم إلى الصنف الذي تنفذ قريحته فيه فيعارضه، وأن يجلعوا الأمر في ذلك قسمة بينهم. وفي هذا كفاية لمن عقل.

وأما قولهم: "إنه قد يكون أن يسبق الشاعر في المعنى إلى ضرب من اللفظ والنظم، يعلم أنه لا يجيء في ذلك المعنى أبدًا إلى ما هو منحط عنه" فإنه ينبغي أن يقال لهم: قد سلمنا أن الأمر كما قلتم وعلمتم، أفعلمتم شاعرًا او غير اشعر عمد إلى ما لا يحصى كثرة من المعاني، فتأتى له في جيمعها لفظ أو نظم أعيا الناس أن يستطيعوا مثله، أو يجدوه لمن تقدمهم؟ أم ذلك شيء يتفق للشاعر، من كل مئة بيت يقولها، في بيت؟ ولعل [غير] الشاعر على قياس ذلك. وإذا كان لابد من الاعتراف بالثاني من الأمرين، وهو أن لا يكون إلا نادرًا وفي القليل، فقد ثبت إعجاز القرآن بنفس ما راموا به دفعه، من حيث كان النظم الذي لا يقدر على مثله قد جاء منه فيما لا يصحى كثرة من المعاني. 35 - وهكذا القول في الفصول التي ذكروا أنه لم يوجد أمثالها في معانيها، لأنها لا تستمر ولا تكثر، ولكنك تجدها كالفصوص الثمينة والوسائط النفيسة وأفراد الجواهر، تعد كثيرًا حتى ترى واحدًا. فهذا وشبهة من القول في دفعهم مع تسليم ما ظنوه من أن التحدي كان إلى أن يعبر عن معاني القرآن أنفسها ممكن غير متعذر، إلا أن الأولى أن يلزم الجدد الظاهر، وأن لا يجابوا إلى ما قالوه من أن التحدي كان إلى أن يؤدي في أنفس معانيه بنظم ولفظ يشابهه ويساويه، ويجزم لهم القول بأنهم تحذوا إلى أن يجيئوا في أي معنى أرادوا مطلقًا غير مقيد، وموسعًا عليهم غير مضيق، بما يشبه نظم القرآن أو يقرب من ذلك. 36 - ومما يحيل أن يكون التحدي قد كان إلى ما ذكروه ومع الشرط الذي توهموه، أن العرب قد كانت تعرف "المعارضة" ما هي وما شرطها، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عدل بهم في تحديه لهم إلى ما لا يطالب بمثله،

لكان ينبغي أن يقولوا: "إنك قد ظلمتنا، وشرطت في معارضة الذي جئت به ما لا يشترط، أو ما ليس بواجب أن يشترك، وهو أن يكون النظم الذي تعارض به في انفس معاني هذا الذي تحديت إلى معارضته، فدع عنا هذا الشرط، ثم اطلب فإنا نريك حينئذ مما قاله الأولون وقلناه وما نقوله في المستأنف، ما يوازي نظم ما جئت به في الشرف والفضل ويضاهيه، ولا يقصر عنه". وفي هذه كفاية لمن كانت له أذن نعي، وقلب يعقل. قد ثم الذي أردت في جواب سؤالهم، وبان بطلانه بيانًا لا يبقى معه إن شاء الله شك لناظر، وإذا هو نصح نفيه وأذكى حسه، ونظر نظر من يريد الدين، ويرجو مما عبد الله، ويريد فيما يقول ويعمل وجه تقدس اسمه، وإليه تعالى ترغيب في أن يجعلنا ممن هذه صفته في كل ما ننتحيه وننظر فيه، بفضله ومنه ورحمته، إنه على ما يشاء قدير. الحمد لله حق حمده، والصلاة على رسوله محمد وآله من بعده.

فصل: في الذي يلزم القائلين بالصرفة

بسم الله الرحمن الرحيم فصل: في الذي يلزم القائلين بالصرفة: 37 - اعلم أن الذي يقع في الظن من حديث القول بالصرفة، أن يكون الذي ابتدأ القول بها ابتدأه على توهم أن التحدي كان إلى أن يعبر عن أنفس معاني القرآن بمثل لفظه ونظمه، دون أن يكون قد أطلق لهم وخيوا في المعاني كلها. ذاك لأن في القول بها على غير هذا الوجه أمورًا شنيعة، يبعد أن يرتكبها العاقل ويدخل فيها. وذاك أنه يلزم عليه أن تكون العرب قد تارجعت حالها في البلاغة والبيان، وفي جودة النظم وشرف اللفظ وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون وأن تكون أشعارهم التي قالوها، والخطب التي قاموا بها، وكل كلام احتفلوا فيه، من بعد أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحدوا إلى معارضه القرآن قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد، وأن يكون قد ضاق عليهم في الجملة مجال قد كان يتسع لهم، ونضبت عنهم نمواد قد كانت تعزر. وخذلتهم قوى قد كانوا يصولون بها، وأن تكون أشعار شعار النبي صلى الله عليه وسلم التي قالوها في مدحه عليه السلام وفي الرد على المشركين ناقصة متقاصرة عن شعرهم في الجاهلية، وأن يشك في الذي روي في شأن حسان من نحو قوله عليه السلام: "قل وروح القدس معك"، لأنه لا يكون معانًا مؤيدًا من عند الله، وهو يعدم مما كان يجده قبل كثيرًا، ويتقاصر أنف حاله عن السالف منها تاقصرًا شديدًا.

38 - فإن قالوا: إنه نقصان حدث في فصاحتهم من غير أن يشعروا به. قيل لهم: فإن كان الأمر كذلك، فلم تقم عليهم حجة، لأنه لا فرق بين أن لا يكونوا قد عدموا شيئا من الفصاحة التي كانوا يعرفونها لأنفسهم قبل التحدي بالقرآن والدعاء إلى معارضته، وبين أن يكونوا قد عدموا ذاك، ثم لم يعلموا أنهم قد عدموه. ذاك لأن الآية بزعمهم إنما كانت في المنع من نظم ولفظ قد كان لهم ممكنًا قبل أن تحدوا، ولا يكون منع حتى يرام الممنوع، ولا يتصور أن يروم الإنسان الشيء ولا يعلمه، ويقصد في قوله له وفعل إلى أن يجيء به على وصف وهو لا يعرف ذلك الوصف ولا يتصوره بحال من الأحوال. وإذا جعلناهم لا يعلمون أن كلامهم الذي يتكلمون به اليوم قاصر عن الذي تكلموا به أمس، وأن قد امتنع عليهم في النظم شيء كان يواتيهم، وسلبوا منه معنى قد كان لهم حاصلًا استحال أن يعلموا أن لنظم القرآن فضلًا على كلامهم الذي يسمع منهم، وعلى النظم الواهن الباقي لهم، ذاك لأن عذر القائل بالصرفة، أن كلامهم قبل أن تحدوا قد كان مثل نظم القرآن، وموازيًا له، وفي مبلغه من الفصاحة. 39 - وإذا كان كذلك، لم يتصور أن يعلموا أن للقرآن مزية على كلامهم، وعندهم أن كلامهم باق على ما كان عليه في القديم لم ينقص ولم يدخله خلل. وإذا لم يتصور أن يعلموا أن للقرآن مزية على ما يقولونه ويقدرون عليه في الوقت، لم يتصور أن يحاولوا تلك المزية، وإذا لم يحاولوها لم يحسوا بالمنع منها والعجز عن نيلها، وإذا لم يحسوا بالعجز والمنع لم تقم عليهم حجة به. فالذي يعقل إذن مع هذه الحال، أن يعتقدوا أنهم قد عارضوا القرآن وتكلموا بما يوازيه ويجري مجرى المثل له، من حيث أنه إذا كان عندهم أن كلامهم باق على ما كان عليه في الأصل وقبل نزول القرآن، وكان كلامهم إذا ذاك في حد المثل والمساوى للقرآن، فواجب مع هذا الاعتقاد أن يعتقدوا أن في جملة

ما يقولونه في الوقت ويقدرون عليه، ما يشبه القرآن ويوازيه. 40 - واعلم أنه يلزمهم أن يفضوا في النبي صلى الله عليه وسلم بما قضوا في العرب، من دخول النقص على فصاحتهم، وتراجع الحال بهم في البيان، وأن تكون النبوة قد أوجبت أن يمنع شطرًا من بيانه، وكثيرا مما عرف له قبلها من شرف اللفظ وحسن النظم. وذلك لأنهم ذا لم يقولوا ذلك، حصل منه أنيكون عليه السلام قد تلا عليهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، في حال هو يستطيع يها أن يجيء بمثل القرآن ويقدر عليه، ويتكلم ببعض ما يوازيه في شرف اللفظ وعلو النظم. اللهم إلا أن يقتحموا جهالة أخرى، فيزعموا أنه عليه السلام قد كان من الأصل دونهم في الفصاحة، وأن الفضل والمزية التي بها كان كلامهم قبل نزول القرآن في مثل لظفه ونظمه، قد كان لبلغاء العرب دون النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا قالوا ذلك، كانوا قد خرجوا من قبيح القول إلى مثله، فلم يشك أحد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منقوصًا في الفصاحة، بل الذي أتت به الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصحَ العرب. 41 - ومما يلزمهم على أصل المقالة أنه كان ينبغي لهم لو أن العرب كانت منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها أن يعرفوا ذلك من أنفسهم، كما قدمت، ولو عرفوا لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك، ولكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به، ولكنك قد سحرتنا، واحتلت في شيء حال بيننا وبينه"، فقد نسبوه إلى السحر في كثير من الأمور، كما لا يخفى، وكان أقل ما يجب في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم، ويشكوه

البعض إلى البعض، ويقولوا: "ما لنا قد نقصنا في قرائحنا، وقد حث كلول في أذهاننا" ففي أن لم يرو ولم يذكر أنه كان منهم قول في هذا المعنى، لا ما قل ولا ما كثر، دليل [على] أنه قول فاسد، ورأى ليس من آراء ذوى التحصيل. 42 - هذا، وفي سياق آية التحدي ما يدل على فساد هذا القول، وذلك أنه لا يقال عن الشيء منعه الإنسان بعد القدرة عليه، وبعد أن كان يكثر مثله منه: "إني قد جئتكم بما لا تقدرون على مثله ولو احتشدتم له، ودعونهم الإنسان والجن إلى نصرتكم فيه"، وإنما يقال: "إني أعطيت أن أحول بينكم وبين كلام كنتم تستطيعون وأمنعكم إياه، وأن أقحمكم عن القول البليغ، وأعدمكم اللفظ الشريف"، ومما شاكل هذا. ونظيره أن يقال للأشداء وذوي الأيد: "إن الآية أن تعجزوا عن رفع ما كان يسهل عليكم رفعه، وما كان لا يتكاءدكم ولا يثقل عليكم". ثم إنه ليس في العرف ولا في المعقول أن يقال: "لو تعاضدتم واجتمعتم جميعكم لم تقدروا عليه"، ي شيء قد كان الواحد منهم يقدر على مثله، ويسهل عليه ويستقل به، ثم يمنعون منه وإنما يقال ذلك حيث يراد أن يقال: "إنكم لم تستطيعوا مثله قط، ولا تستطيعونه البتة وعلى وجه من الوجوه، حتى إنكم لو استضفتم إلى قواكم وقدركم التي لكم قوى وقدرًا، وقد استمددتم من غيركم، لم تستطيعوه أيضًا" من حيث إنه لا معنى للمعاضدة والمظافرة والمعاونة، إلا أن تضم قدرتك إلى قدرة صاحبك حتى يحصل باجتماع قدرتكما ما لم يكن يحصل. فقد بان إذن أن لا مساغ لحمل الآية على ما ذهبوا إليه، وأن لا محتمل فيها لذلك على وجه من الوجوه، وظهر به وسائر ما تقدم أن القول بالصرفة، ولا سيما على هذا الوجه، قول في غاية البعد والتهافت، وانه

من جنس ما لا يعذر العاقل في اعتقاده. ولم أقل: "ولا سيما على هذا الوجه"، وانا أعني أن للقول بها على الوجه الأول مساغًا في الصحة، ولكني أردت أن فساده كأنه أظهر، والشناعة عليه أكثر، وإلا فما هما، إن أردت البلاطن، إلا سواء. 43 - فإن قلت: فكيف الكلام عليهم، إذا ذهبوا في "الصرفة" إلى الوجه الآخر، فزعموا أن التحدي كان أن يأتوا في أنفس معاني القرآن بمثل نظمه ولفظه؟ وما الذي دل على فساده؟ فإن على فساد ذلك أدلة منها قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [هود: 13]، وذاك أنا نعلم أن المعنى: فأتوا بعشر سور تفترونها أنتم وإذا كان المعنى على ذلك، فبنا أن ننظر في الافتراء إذا وصف المعنى، وإذا لم يرجع إلا إلى المعنى وجب أن يكون المراد: إن كنتم تزعمون أني قد وضعت القرآن وافتريته، وجئت به من عند نفسي، ثم زعمت أنه وحي من الله، فعضوا أنتم أيضًا عشر سور وافتروا معانيها كما زعمتم أني افتريت معاني القرآن. فإذا كان المراد كذلك، كان تقديرهم أن التحدي كان أن يعمدوا إلى أنفس معاين القرآن فيعبروا عنها بلفظ ونظم يشبه نظمه ولفظه، خروجًا عن نص التنزيل وتحريفًا له. وذاك أن حق اللفظ إذا كان المعنى ما قالوه أن يقال: "إن زعمتم أني افتريته، فأتوا أنتم في معاني هذا المفتري بمثل ما ترون من اللفظ والنظم". يبين ذلك أنه لو قال رجل شعرًا فأحسن في لظفه ونظمه وأبلغ، وكان له خصم يعانده، فعلم الخصم أنه لا يجد عليه مغمزًا في النظم واللفظ، فترك ذلك جانبًا وتشاغل عنه، وجعل يقول: "إني رأيتك سرقت معاني شعرك وانتحلتها وأخذتها من هذا وذاك، فقال له الرجل في جواب هذا الكلام: "إن كنت قد

سرقت معاني شعري، فقل أنت شعرًا مثله مسروق المعاني" لم يعقل منه إلا أنه يقول: "فقل أنت شعرًا في معانٍ أخر تسرقها كما سرقت معاني بزعمك" ولم يحتمل أن يريد: "أعمد إلى معاني فقل فيها شعرًا مثل شعري", وإنما يعقل ذلك إذا هو قال: "إن كنت قد سرقت معاني شعري، فقل أنت في هذه المعاني المسروقة مثل الذي قلت، وأنظم فيه الكلام مثل نظمي لكلامي، وخبره تحبيري". 44 - هذه جملة لا تخفي على من عرف مخارج الكلام، وعلم حق المعنى من اللفظ، وما يحتمل مما لا يحتمل. ومنها ما تقدم، من أنه لا يقال في الشيء قد كان يكثر مثله من الإنسان ثم منع منه: "ايت بمثله، وأجهد جهدك، واستعن عليه، فإنك لا تستطيع ولو أعانك الجن والإنس"، وإنما يقال ذلك في البديع المتبدأ، أو الذي لم يسبق إليه، ولم يوجد مثله قط. وهذا المعنى وإن كان يلزمهم في الوجهين، فإنه لهم في هذا الوجه الذي نحن فيه ألزم، وذاك أن قولك للرجل يقدر على مثل الشيء اليوم في كثير من الأحوال والأمور، ويعوقه عنه عائق في حال واحدة وأمر واحد: "لو اجتمع الإنسن والجن فأعانوك لم تقدر على مثله" أبعد وأقبح من قولك ذلك. وقد كان يقدر عليه في سالف الأزمان، ثم منعه جملة، وجعل لايستطيعه البتة. ومنها الأخبار التي جاءت عن العرب في تعظيم شأن القرآن وفي وصفه بما وصفوه به من نحو: "إن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة، وإن أسفله لمعذق، وإن أعلاه لمثمر"، وذاك أن محالًا أن يعظموه، وأن يبهتوا عند سماعه، ويستكينوا له، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون ما يوازيه، ويعلمون أنه لم

يتعذر عليهم لأنهم لا يستطيعون مثله، ولكن وجدوا في أنفسهم شبه الآفة والعارض يعرض للإنسان فيمنعه بعض ما كان سهلًا عليه بل الواجب في مثل هذه الحال أن يقولوا: "إن كنا لا يتهيأ لنا أن تقول في معاني ما جئت به ما يشبه، إنا لتأتيك في غيره من المعاني ما شئت وكيف شئت، بما لا يقصر عنه ولا يكون دونه". 45 - وجملة الأمر أن علم النبوة عندئذ والبرهان، إنما كان [يكون] في الصرف والمنع عن الإتيان بمثل نظم القرآن لا في نفس النظم. وإذا كان كذلك، فينبغي إذا تعجب المتعجب وأكبر المكبر، أن يقصد بتعجبه وإكباره إلى المنع الذي فيه الآية والبرهان، لا إلى الممنوع منه. وهذا واضح لا يشكل. 46 - فإن قالوا: إنه ليكون أن يستحسن الشاعر الشعر يقوله غيره ويكبر شأنه، ويرى فيه فضلًا ومزية على ما قاله هو من قبل، ثم هو لا ييأس من أن يقدر على مثله إذا هو جهد نفسه وتعمل له. فنحن نجعل لفظ القرآن ونظمه على هذا السبيل، وتقول: إنهم سمعوا منه ما بهرهم وعم في نفوسهم، وأنهم [كانوا على حال أنسوا من أنفسهم بأنهم يأتون بمثله إذا هم اجتهدوا، فحيل بينهم وبين ذلك الاجتهاد، وأخذوا عن طريقه، ومنعوا فضل المنة التي طمعوا معها في أن يجروا إلى تلك الغاية ويبلغوا ذاك الذي أرادوا وإذا كنا نعلم أن الشعر المفلق ربما اعتاص القول عليه حتى عييا بقافية، وحتى تنسد عليه المذاهب، وأن الخطيب المصقع يرتج عليه حتى لا يجد مقالًا، وحتى لا يفيض بكلمة، لم يكن الذي قلناه وقدرناه بعيدًا أن يكون، وأن يسعة الجواز ويحتمله الإمكان. قيل لهم: أنتم الآن كأنكم

أردتم أن تحسنوا امركم، وأن تغطوا على بعض العوار، وأن تتملسوا من الذي تلزمون، وليس لكم في ذلك كبير جدوى إذا حقق الأمر، وإنما هو خداع وضرب من التزيق. وأول ما يدل على بطلان ما قلتم، وأن الذي عرفنا من حال الناس فيما سبيله ما ذكرتم، الضجر والشكوى، وأن يقولوا: "ما بالنا؟ ومن أين دهينا؟ وكيف الصورة؟ إنا وإن كنا نسمع قولًا له فضل ومزية على ما قلناه، فإنه ليس بالذي ينبغي أن نعجز عنه هكذا حتى لا نستطيع في معارضته ما نرضى، فلا ندري أسحرنا أماذا كان؟ " ففي أن لم يرو عنهم شيء من هذا الجنس على وجه من الوجوه، دليل أن لا أصل لما توهموه، وأنه تلفيق باطل. ثم إنه ليس في العادة أن يدعن الرجل لخصمه، ويستكين له، ويلقى بيده، ويسكت على تقريعه له بالعجز وترديده لاقول في ذلك، وقدر ما ظهر من المزية قدر قد يطمع الإنسان في مثله، ويرى أنه يناله إذا هو اجتهد وتعمد بل العادة في مثل هذا أن يدفع العجز عن نفسه، وأن يجحد الذي عرف لصاحبه من المزية ويتشدد، كما فعل حسان، فيدعي في مساواته، وأنه إن كان جرى إلى غاية رأي لنفسه بها تقدما إنه ليجري إلى مثلها، وأن يقول: "لا تغل ولا تفرط ولا تشتط في دعواك، فلئن كنت قد نلت بعض السبق، إنك لم تبعد المدى بعد من لا يداني ولا يشك غباره، فرويدًا، وأكفف من غلوائك". 47 - واعلم أنهم يتمحلهم هذا قد وقعوا في امر يوهي قاعدتهم، ويقدح في أصل مقالتهم، فقد نظروا لأنفسهم من وجه وتركوا النظر لها من آخر. وذاك أن من حق المنع إذا جعل آية وبرهانًا، ولا سيما للنبوة، أن يكون في اظهر الأمور، وأكثرها وجودًا، وأسهلها على الناس، وأخلقها بأن تبين لكل راء وسامع أنه قد كان منع، لا أن يكون المنع من خفي لا يعرف إلا بالنظر، وإلا بعد

الفكر، ومن شيء لم يوجد قط ولم يعهد، وإنما يظن ظنًال أنه يجوز أن يكون، وأن له مدخلًا ي الإمكان إذا آجتهد المجتهد، وهل سمع قط أن نبيًا أتى قومه فقال: "حجتي عليكم، والآية في أني نبي إليكم، أن تمنعوا من أمر لم يكن منكم قط، وليس يظهر في بادئ الرأي وظاهر الأمر أنكم تستطيعونه، ولكنه موهوم جوازه منكم، إذا أنتم كددتم أنفسكم، وجمعتم ما لكم، واستفرغتم مجهودكم، وعاودتم الاجتهاد فيه مرة بعد أخرى"؟ أم ذلك ما لا يقوله عاقل، ولا يقدم عليه إلا مجازف لا يدري ما يقول؟ وإذا كان كذلك، وكان الذي قالوه من أن المنع كان من نظم لم يوجد منهم قط، إلا أنهم أحسوا في أنفسهم انهم يستطيعونه إذا هم اجتهدوا واستفرغوا الوسع، بهذه المنزلة، وداخلًا في هذه القضية فقد بان أنهم بذلك قد أوهوا قاعدتهم، وقدحوا في أصل المقالة، من حيث جعلوا الآية والبرهان وعلم الرسالة والأمر المعجز للخلق، في المنع من شيء لم يوجد قط، ولم يعلم أنه كان في حال من الأحوال، وليس بأكثر من أن ظن ظنًا أنه مما يحتمله الجواز ويدخل في الإمكان، إذا أدمن الطلب، وكثر فيه التعب، واستنزفت قوى الاجتهاد، وأرسلت له الأفكار في كل طريق، وحشدت إليه الخواطر في كل جهة. وكفى بهذا ضعف راي وقلة تحصيل. فصل: 48 - وهذا فصل أختم به: ينبغي أن يقال: ما هذا الذي أخذتم به أنفسكم؟ وما هذا التأويل منكم في عجز العرب عن معارضة القرآن؟ وما دعاكم إليه؟

وما أردتم منه؟ أأن يكون لكم قول يحكي، وتكونوا أمة على حدة، أم قد أتاكم في هذا الباب علم لم يأت الناس؟ فإن قالوا: أتانا فيه علم. قيل: أفمن نظر ذلك العلم أم خبر؟ فإن قالوا: من نظر. قيل لهم: فكأنكم تعنون أنكم نظرتم في نظم القرآن ونظم كلام العرب ووازنتم فوجدتموه لا يزيد إلا بالقدر الذي لو خلوا والاجتهاد وإعمال الفكر، ولم تفرق عنهم خواطرهم عند القصد إليه، والمصد له لأتوا بمثله؟ فإن قالوا: كذلك نقول. قيل لهم: فأنتم تدعون الآن أن نظركم في الصاحة نظر لا يغيب عنه شيء من أمرها، وأنكم قد أحطتم علمًا بأسرارها، وأصبحتم ولكم فيها فهم وعلم لم يكن للناس قبلكم. وإن قالوا: عرفنا ذلك بخبر. قيل: فهاتوا عرفونا ذلك، وأني لهم تعريف مالم يكن، وتثبيت ما لم يوجد! ولو كان الناس إذا عن لهم القول نظروا في موداه، وتبينوا عاقبته، وتذكروا وصية الحكماء حين نهوا عن الورود حتى يعرف الصدر، وحذروا أن تجيء أعجاز الأمور بغير ما أوهمت الصدور إذا لكفوا البلاء، ولعدم هذا وأشباهه من فاسد الآراء، ولكن يأتي الذي في طباع الإنسان من التسرع، ثم من حسن الظن بنفسه، والشغف بأن يكون متبوعًا في رأيه، إلا أن يخدعه وينسبه أنه موصى بذلك، ومدعو إليه، ومحذر من سوء المغبة إذا هو تركه وقصر فيه. وهي الآفة لا يسلم منها ومن جنايتها إلا من عصم الله. وإليه عز اسمه الرغبة في أن يوفق للتي هي أهدى، ويعصم من كل ما يوتع الدين، ويثلم اليقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

بسم الله الرحمن الرحيم 49 - قول من قال: "إنه يجوز أن يقدر الواحد من الناس من بعد انقضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومضى وقت التحدي، على أن يأتي بما يشبه القرآن ويكون مثله، لأن ذلك لا يخرج عن أن يكون قد كان معجزًا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وحين تحدى العرب إليه" قول لا يصح إلا لمن لا يجعل القرآن معجزًا في نفسه، ويذهب فيه إلى "الصرفة". فأما الذي عليه العلماء من أنه معجز في نفسه، وأنه في نظمه وتأليفه على وصف لا يهتدي الخلق إلى الإتيان بكلام هو في نظمه وتأليفه على ذلك الوصف، فلا يصح البتة ذاك لا فرق بين أن يكون الفعل معجزًا في جنسه كإحياء الموتى، وبين أن يكون معجزًا لوقوعه على وصف، وإذا كان كذلك، فكما أنه محال أنه يكون ههنا إحياء ميت لا من فعل الله، كذلك محال أن يكون ههنا نظم مثل نظم القرآن لا من فعله تعالى. فهذا هو. ثم إنه قول إذ نقر عنه انكشف عن أمر منكر، وهو إخراج أن يكون وحيًا من الله، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقاه عن جبريل عليه السلام والذهاب إلى أنت يكون قد كان على سبيل الإلهام، وكالشيء يلقى في نفس الإنسان ويهدى له من طريق الخاطر والهاجس الذي يهجس في القلب. وذلك مما يستعاذ بالله منه، فإنه تطرق للإحاد، والله ولي العصمة والتوفيق.

فصل

بسم الله الرحمن الرحيم فصل: 50 - اعلم أن البلاء والداء العياء، أن ليس علم الفصاحة وتمييز بعض الكلام من بعض بالذي تستطيع أن تفهمه من شئت ومتى شئت، وأن لست تملك من أمرِكَ شيئاً حتى تظفرَ بمَنْ له طبعٌ إذا قدحْتَه وَرَى، وقلبٌ إذا أرْيتَهُ رأى فأمَّا وصاحبُك مَنْ لا يرى ما تريه، ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت معه كالنافخ في الحم من غير نار، وكالملتمس الشم من أخشم, وكما لا تُقيم الشعرَ في نفسِ مَن لا ذوق له، كذلك لا يفهم هذا الباب مَنْ لم يؤْتَ الآلة التي بها يَفْهم إلاَّ أنه إنما يكونُ البلاءُ إذا ظنَّ العادم لها أنه قد أويتها، وأنه ممَّنْ يكملُ للحكْم ويصحُّ منه القضاءُ، فجعل يخبط ويخلط، ويقول القول لو علم غبه لاستحي منه. وأما الذي يحس بالنقص في نفسه، ويعلم أنه قد عدم علماً قد أُوتيَهُ مِنْ سِواه، فأنتَ منه في راحة، وهو رجلٌ عاقلٌ قد حماهُ عقلُه أنْ يعدُوَ طورَهُ، وأن يتكلَّف ما ليس بأهل له. وإِذا كانَتِ العلومُ التي لها أصولُ معروفةٌ، وقوانينُ مضبوطةٌ، قد اشتركَ الناسُ في العِلْم بها، واتفقوا على أن البناء عليها والرد إليها، إذا أخطأ فيها المخطئ ثم أعجب برأيه لم تستطيع رَدُّه عن هواه، وصَرْفُه عن الرأي الذي رأى، إلاَّ بَعْدَ الجهْدِ، وإلاَّ بعد أن يكونَ حَصيفاً عاقِلاً ثَبْتاً، إذا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وإِذا قيلَ: "إنَّ عليكَ بقيةً مِنَ النَّظَرِ"، وقفَ وأصْغى، وخَشِيَ أن يكونَ قد غُرَّ، فاحتاطَ

باستماعِ ما يُقال له، وأنِفَ من أن يلجَّ من غير بيِّنة، ويستطيلَ بغير حُجَّة. وكان من هذا وصفه بعز ويقِلُّ: فكيف بأنْ تَرُدَّ الناسَ عن رأيهم في أمر الفصاحة، وأصلك الذي تردهم إليه، وتعول في محاجَّتهم عليه، استشهادُ القرائحِ، وسَبْرُ النفوسِ وفلْيُها وما يعرِضُ فيها من الأريحية عندما تسمع وهم لا يَضعُون أنفُسَهم موضِعَ منَ يرى الرأي ويفي ويَقْضي، إلاَّ وعندَهم أنهم ممَّن صفتْ قريحَتُه، وصحَّ ذوقُه، وتمَّتْ أداتُه. فإِذا قلتَ لهم: "إنكم أتيتم من أنفسكم، ومن أنكم لا تفطنون"، ردوا مثله عليك، وعابوك، ووقعوا فيك، وقالوا: "لا، بل قرائِحُنا أصحُّ، ونظرُنا أصْدَقُ، وحسنا أذكى، وإنما الآفة فيكم، فإنكم جئتم فخيلتم إلى أنفسكم أُموراً لا حاصِل لها، وأوهَمَكُم الهوى والميلُ أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلًا عن الآخر، من غير ان يكون له ذلك الفضل"، فتبقى في أيدهم حسيرًا لا تملك غير التعجب. فليس الكلام إذن بمعن عنك، ولا القولُ بنافعٍ، ولا الحُجَّةُ مسموعةً، حتى تجد من فيه عون لك، ومن إذا أبي عليكَ أبى ذَاك طبعُه فردَّه إليكَ، وفتَحَ سمعه لك، ورفع الحجاب بينه وبينك، وأخذَ به إلى حيثُ أنتَ، وصرَفَ ناظِرَه إلى الجهة التي إليها أوْمأتَ، فاستبدَلَ بالنِّفار أنسًا، وأراك من بعد الإباء قبولًا، وبالله التوفيق.

§1/1